المقدّمة
تقديـــــــــــم
سماحة السيّد هاشم صفي الدين:
الحمــدلله ربّ العالميـــــن والصــلاة والســـــلام علــــى ســـيّد الخلق أبـــــي القاسـم محمّد وعلى آل بيته الطاهرين.
جاء في الحديـث عن أميــــر المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "صديقُك من صدَقكَ لا من صدّقَك".
لا تستقيم الحياة الإنسانية دون صداقة، وهي بحسب الواقع المعاش مصاديق متفاوتة، فمنها وليد الصحبة، ومنها نتاج التقاء الأمزجة والطباع، ومنها ما يصنعها الانتماء المشترك فكريًا أو عقائديًا أو أي داع آخر، فأســباب تحققهــــا كثيـــــــرة جدًا، تبعًا للاختلاف في الثقافات والمصالح والأهداف وإلى ما هنالك، إلا أن الأرقى منها ما كان معتمدًا على اجتماع والتقاء في الرؤية الواحدة للحياة والفهم الموحد للأفكار والمفاهيم والقيم وصولاً إلى تلاقي القلوب والأرواح وحتى الأولويات في المنهج والسلوك؛ ومع هذا، فإنّها تبقى عرضة للاهتزاز والانتكاس ما لم تتأصل وتتجذر بالعلاقة والأنس والمحبة، وما لم تتجوهر بالصدق المتبادل بالكلمة والموقف والمشاعر حتى
9
1
المقدّمة
يغدو الصديقان في مســـتوى الأمــــن والطمأنينة المتبادلَين، وهما مرتكزان على سنوات وتجارب اختلطت فيها الأحوال من قوة وضعف، أو بسط وانقباض، أو شدّة ورخاء، أو أيّ من المتقابلات التي تتعاقب وتتبدل ولا تغيّر في شأن ومستوى هذه العلاقة أبدًا، بل قد تزيدها رسوخًا؛ لأنها تكشف مع كل جديد غورًا مضافًا من الإخلاص والمحبّة والتفاهم، وتبني مع كل تجربة مدماكًا جديدًا من الثقة والاحترام والتقدير.
قد تبدو هذه المقاربة نادرة أو صعبة التحقق في طبيعة البشر التي تميل نحو التأثر والانفعال والمحدودية، فلا تجد وعاء ثابتًا يستوعبها لتبقى العلاقة مطردة في المتانة والايجابية والتطوّر... نعم، فإنّ هذه الندرة المدعاة تحصل حين تقتصر العلاقة بين صديقين على شؤون التعامل الظاهري والمصالح المؤقتة، وأمّا إذا كانت مبنيّة على فهم عميق وإدراك واسع وتجارب غنيّة بالصدق والإخلاص فإنّها ليست قابلة للتحقق فحسب، بل هي قادرة على تحقيق إنجازات عظيمة ومميّزة.
من خلال هذه الرؤية نشأت العلاقة الوطيدة والمعرفة العميقة والصداقة المتينة مع الأخ الحبيب والعالم الفاضل سماحة الشيخ مصطفى قصير (رضوان الله عليه) وغدت نموذجًا أفتخر به وأعتزّ مع طول المدّة وتقلّب الأيّام والقضايا، مع ما فيها من نقاط توافق والتقاء، وهي الأكثر، وما فيها من اختلاف في الرأي، وهي الأقل. هذه الصداقة أنتجت تعاونًا وتكاملاً في حمل هموم مصيرية مشتركة، وفي العمل معا في مراحل متعددة؛ بدءًا من الحوزة العلمية في قم
10
2
المقدّمة
المقدّسة، حيث هموم الدراسة والتحصيل وحمل المسؤوليات العامة، وصولاً إلى ساحات الجهاد والتبليغ والثقافة والتربية وبناء العمل المؤسساتي الناجح؛ مما جعل هذه العلاقة قادرة على تجاوز الكثير من العقبات التي ما كان بالإمكان التغلب عليها لولا هذه الثقة والصداقة وهما في الأساس خلاصة الأخوّة الصادقة والصريحة.
إنّ هذه التجربة تخوّلني أن أقول بكل ثقة إنّ الصفات الإيمانية والعلميّة التي تميز بها سماحة الشيخ مصطفى (رضوان الله عليه) كانت تفيض بالصدق والجرأة والإخلاص وكانت تشتدّ بالهمة والدقة والنظم والمثابرة، وكانت تتجلى بالنجاح والإنجازات والتقدم والرقي، وكانت تتحلى بالصفاء والتواضع ونكران الذات ولعل هذه المعرفة جعلت صدمة المرض المفاجئ الذي أصابه ثقيلة الوطأة وكئيبة الأثر وبليغة العبرة عليّ؛ إذ أحسست حينها أن فجوة تكاد تصيب نفسي التي اعتادت على هذه العلاقة المتممة لكيان الفكر والمشاعر الذي ينتمي إليه كلانا، وأما أيام العلاج القاسية، فقد كنت أواكبها بالأمل والدعاء وكان هو يطويها بالألم والمعاناة والصبر حتى ملاقاة المقدّر والمحتوم فحمله إلى التحليق والراحة، وحملنا إلى الأسى والتسليم والرضا بفقدٍ لا مفرّ منه وخسارةٍ لا محيص عنها.
كلّما حفزت ذاكرتي التي اختزنت سنوات طويلة من المعرفة به كنت أزداد يقينًا أن هذه الصداقة هي من النعم والتوفيقات الإلهيّة، فهو قبل أيّ عنوان إنسان عرف ربّه فأخلص له، وأثمر الإيمان في قلبه صفاءً ووضوحًا يهتدي به وأنتج عقله سبيلا استقام عليه لآخرته ودنياه، وحقق إنجازات في الفكر والتربية هي صدقات
11
3
المقدّمة
جارية تجري له مجرى الأيام، فإنه -بحقّ- مزج علمه بالعمل، وحكمته بالشجاعة، ورأيه بالمشاورة، وعزمه بالأناة، فاختلطت فيه أنوار المعرفة بضياء القلب، واقترنت عنده الهمّة والنشاط بالعمل والعبادة، ولم يكن يرضى من الصالحات بالقليل، ولا يستكين عند حدود الغايات بالراحة والخمول، ولم يترك إمامة الفجر في المسجد اعتمادًا على صلاة أو تهجّد في الليل، ولم يغادر التعلم كما الكتابة والتصنيف والتعليم بحجة العمل المضني وكفايته، ولم يقف عن التقدم في مواكبة العصر ومستلزماته بذريعة أداء المطلوب. فلذا، كان دائم الفكر والحركة بين إدارة المؤسسة والمدارس والجلسات، وحضور الورش والمؤتمرات، وأسفار العمل والحج إلى بيت الله دون أن تعتب عليه الواجبات الاجتماعية ومقتضيات صلة الرحم وزيارة الاخوان وتفقد الخلان. وبهذا أضحى جامعُا لمناقب وخصال تنبئ عن جوهر مخزون في طياته سرٌّ مكنون، لا تفصحه الأيام والسنون، ولا ترديه او تعدمه المنون.
في ذاكرتي الكثير من الوقائع البالغة في معانيها، ولعلّ أهمها حين عملنا معا وكان هو يتحمل مسؤولية إدارة المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم - مدارس المهدي (عجل الله فرجه)، حيث حفظ بإتقان أمانة من سبقه في تأسيس هذه المؤسسة، وعمل بتفانٍ مع إخوانه لتوسعة عمل المؤسسة ونشر رسالتها وقد غذّاها من روحه وأنفق عليها من علمه وعمره وجهده، وضخّ فيها أنفاسًا وطرائق هامّة لتثبيت أركان ثقافة أصيلة ومناهج تربوية متطورة، وخطّط لاستمرارها مقتدرة، مستفيدًا من كل جديد لتقويتها في جانبي التعليم والتربية، حتى إذا
12
4
المقدّمة
بلغ مرامه بعد سبعةَ عشرَ عامًا من الجهد المضني والمتواصل وبعد أن اطمأن على مسارها بادر إلى الطلب في تحويل مهام إدارتها إلى آخرين معلنا استعداده للعمل على تقديم خلاصة تجربته وأكثر من خلال تأسيس مركز الأبحاث التربوية المتخصص الذي يخدم المؤسسة وغيرها. وما زلت أذكر حين قدّم الأسباب الداعية لذلك لم يحتج إلى مزيد بيان لاقناعي بالأمر، لأنه يعتمد -كالعادة- على منطق متماسك ومتين، فقبلت بما وصل إليه عقله وإدراكه وتجربته، ولم أكن أدري حينها أن روحه أيضًا قد وصلت إلى ما هو أهم، حيث حطت رحلها على مدرج الإقلاع نحو بارئها وجرت الامور بشكل منسق وكأن ما حصل كان في إطار وتخطيط مسبقين لأوقاتٍ محددةٍ سلفًا حتى أدركت بعدها أنه ليس كل إنسان يوفق لأن يتطابق مقتضى عقله والمصلحة مع مقتضى قلبه وإحساسه الباطني وهذا الذي نسميه بالتقدير الإلهي الذي قد لا نطلع عليه إلا متأخرين وأحيانا وليس دائمًا، وأدركت أن ما جرى كان قد كتب ولم نكن جميعا سوى أدوات سخرها الله تعالى، وهذا هو نتاج الأثر الطيب للعمل المقرون بالإخلاص. وهذه هي الخاتمة الطيبة لعالم عرف مطلوبه، واهتدى إلى خالقه، واستقام في درب الكدح إليه، ونسج خيوط علاقاته الإنسانية بيقين وإحكام تجسّدا في كل ما فعله وقدمه، فانه لم يكن يؤمن بعلم لا يُحِكم أصوله، ولا بدور لا يُتقن فنونه ولا بعمل لا يُحسن ختمه، ولا بجهد لا يوصله إلى هدفه، فوزع علائق روحه بين أهله وإخوته وأصدقائه والعاملين معه على منوال محكم، دون أن يُنقص من أحدها شيئًا، وشدّ كلّ روابطه نحو المبدأ الذي كان إليه المنتهى، ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ (الآية ٨ من سورة العلق).
13
5
المقدّمة
وفي الختام، أتقدّم بالشكر الجزيل من الأخ العزيز والكاتب الأديب السيد عبد القدّوس الأمين (حفظه المولى) على الجهد الرائع الذي بذل فيه أنفاسه وصدقه وأدبه، فأخرج كتاب "إمام الفجر" الذي أراده توثيقًا لحياة وتجربة وشخصية فقيدنا الغالي سماحة الشيخ مصطفى قصير (رضوان الله عليه) وقد اطلعت عليه وقرأته بشغف في ليلتين متتاليتين على الرغم من كثرة المشاغل، لكني وجدته معبّرًا بوضوحه وغنيًا بدلالاته، وعبره وكشف لي شخصيًا الكثير من عظمة هذه الشخصية التي اعتمدت على سرها أكثر من علانيتها، وأُقر أنّي استفدت منه كثيرًا. لذا، أوصي الجميع بقراءته فإنه مفيد جدًا لطلبة العلوم الدينية ولأهل العلم عمومًا كما أنه مليء بالفوائد الجمة لكل عامل ومجاهد في سبيل الله، ولكل من يعمل ويتحمل المسؤولية في الشؤون التبليغية والثقافية وتحديدًا منها التربوية، فجزى الله الكاتب ومن أعان على إنجاز هذا الكتاب خير الجزاء، وأعاننا الله جميعًا على شرور أنفسنا عسانا ننتفع من المواعظ التي لا نستغني عنها ومن العبر التي تساعدنا على تحديد مواطئ الأقدام كي لا نزل ولا نضل، والحجج قائمة والآيات باهرة في مسيرة الجهاد والمقاومة والشهداء.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الآية ٦٩ من سورة العنكبوت).
هاشم صفي الدين
الضاحية الجنوبية في 20 رجب 1439 هجرية الموافق 6 نيسان 2018 م
14
6
المقدّمة
تمهيـد
الحـاج عبـد الله قصير:
عندما تفتحت عيناي على الحياة... كانت عيناك الحانيتان ترافقني بخطواتي... وفي خطواتي الأولى في دروب الدراسة، كانت يدك الراعية تمسك بيدي الصغيرة وتقودني إلى درج المدرسة، لأنضم إلى الصف الأول في "منتدى النشر الأهلية" في النجف... واستمرت رعايتك لي وأنا على مقاعد الدراسة... ثم تعلمت منك أن أتقن التجليد الفني للكتب في "قيصرية علي آغا" في سوق الكتب... حتى حبّي للخط العربي كان صدى عشقك لهذا الخط العربي الجميل وفنونه...
أخـــــي... ســــندي... ما ألطفها من كلمة وأعذب وقعـــها وصــــداها في القلب! تعلمت منك الكثير في حياتي... فأنت المعلم الذي لا يملّه تلميذه. وعندما كبرنا، اختزلتَ السنوات الخمس (فارق العمر بيننا)، وعاملتني كأخ وصديق نبوح لبعضنا بالأسرار ونتعاون في حل الألغاز والتحديات داخل العائلة وخارجها، في معترك الحياة وساحاتها المختلفة.
15
7
المقدّمة
تَحمّل المسؤولية... الهمّة العالية... الإخلاص في العمل.. التفاني في خدمة الآخرين... وابتسامتك الدائمة في ملقى الأحبة والإخوان، كلها كانت عناوين مدرستك، تَعلمتُ منها وحاولت المحافظة عليها لتصاحبني في حياتي.
أنت اليوم في عليائك مع الصدّيقين والشهداء.. ما زلت طيفًا في حياة إخوتك وأبنائك وعائلتك.. حاضر بقوة في رحلة حياتهم وترحالهم.. المرشد والموجه.. القائد والربان لسفينة العمر التي تبحر في أمواج الحياة العاتية بثقة وطمأنينة.
عندما فكرنا في تخليد ذكراك.. وتدوين رحلة عمرك (التي فاجأنا انقطاعها)... جاءت كلمات تأبين سماحة الأمين العام لك.. واعتبارك القدوة والمثل لنا جميعًا في مسيرة العطاء والشهادة.. جاءت هذه الكلمات لتبلور الفكرة وتخرج هذا المنتج الذي يضج بأنفاسك ويحمل بين دفّتيه سيرة حياتك الحافلة بالإيمان والعمل، بالعطاء الصامت والدؤوب الذي لا يهدأ ولا يستكين ولا يتوقف... ولن يتوقف؛ لأنه سيكون النبع الذي يغرف منه القراء نماذج سلوك واستقامة وعصامية ومُثُل عليا في الحياة.
لا يفوتني أن أشكر الأديب السيّد عبد القدّوس الأمين، الذي بذل جهودًا جبارةً لجمع شهادات من عاشوا معك من عائلتك الصغيرة، ومن عرفوك وعملوا معك من عائلتك الكبيرة المترامية في المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، ومركز الأبحاث والدراسات التربوية، والحوزة العلمية في قم المقدسة، ومن الساحة اللبنانية والاغتراب، ليصوغها عقدًا منتظمًا في صدق ووفاء وبراعة أسلوب
16
8
المقدّمة
على وقع سيرتك الذاتية ورحلة العمر، القصيرة في سنينها، والغنية في مضامينها.
كما أشكر مسؤول وحدة الأنشطة الإعلامية على مواكبته لهذا الجهد ورعايته لإتمامه.. والشكر موصول إلى كل الذين ساهموا في هذا الجهد الذي أثمر هذا الكتاب.
عبدالله قصير
حارة حريك في 28 آذار 2018 م
17
9
المقدّمة
مسح بكلتا يديه دموعًا انحدرت على خديه، ثم اتّكأ على الصخرة خلفه، ونظر إلى الأفق البعيد، تلك النظرة التي تقول إن صاحبها يغوص في عمق ماضيه، تنفس عميقًا وقال كمن يحدّث نفسه: أنا مدين له بحياتي.. إمام الفجر منقذي... كنت في قبر أظنه مسكني... ظلمات بعضها فوق بعض، ما كنت أرى يدي... إمام الفجر أخذ بيدي، أخرجني مما كنت فيه، ويا لجمال ما رأيت بعد خروجي... أين كنتَ يا سيدي، أو أين كنتُ أنا؟! وا آسفي يا إمام الفجر، وا آسفي على عمر كان قبلك... لكم أنا مدين لك!
قلت له متأثرًا: لستَ وحدك يا صديقي.. فلإمام الفجر في ذمّة الناس الكثير.
التفت إليّ وقال بدهشة: أتعرفه معرفة جيّدة؟!
قلت مع شعور بالفخر ممزوج بالأسى: حقَّ المعرفة، فهو قريبي.
استدار إليّ بجسده، وأمسك بذراعي، وقال برجاء وفرح: ستحدّثني عنه... كل شيء عنه... أليس كذلك؟... بالتفصيل... حين يعشق المرء إنسانًا يسعى لمعرفته بالتفصيل، هل ستفعل؟... ستحدّثني عن حياته ومنذ البداية... لا.. لا.. منذ ما قبل البداية... أبويه والبيئة و...
19
10
الفصل الأول: ما قبل البداية
الزمان: العقد الثالث من القرن العشرين.
المكان: "دير قانون النهر"، قرية من قرى جبل عامل في الجنوب اللبناني. توزَّعت منازلها القليلة على مساحة خضراء واسعة، فوق هضاب متلاصقة، تطلُّ على بحر صور بثوبها الأخضر ومنازلها المترعة بالهدوء، وسكانها البسطاء يمسكون بخيوط الفجر، وينتشرون مع الطيور في بساتينها.
لكل منزل وعائلة أرض أو بستان، في أطراف القرية، أو قرب مساكنها، فالعمل في الأرض هو الأصل، هو ديدن أناسها الطّيبين.
حتى الشيخ حبيب -جدّ الشيخ مصطفى لأبيه- لم يترك الأرض، بالرغــــم مـــن كونــــــه درس العلــــــوم الدينيّـــــــة وأصبــــح شـــــيخًا يرتدي الطربوش ويعتمد عليه الناس في شؤونهم الدينية والدنيوية، كان يرافق عائلته في أغلب الصباحات إلى بستانه في طرف الضيعة، كبقية العوائل يعملون معًا صغارًا وكبارًا.
يعمل الشيخ مع عائلته في الأرض، ومن بينهم ابنه أحمد، الذي كان يحب صحبته في أكثر الأوقات، ويفضّل رفقة أبيه على اللعب، وعلى ما يهواه الصغار من اللهو وملازمة الأم.
23
11
الفصل الأول: ما قبل البداية
يقضون بواكير نهارهم في تلك الأرض، يزرعونها ويجنون ثمارها من التين والرمان وعناقيد العنب. وما زاد عن حاجتهم يكدّسونه بشكل منظّم في صناديق من خشب، لينقله الشيخ حبيب على ظهر دابّة إلى صور، ويبيعه في سوق خاصة بالإنتاج الزراعي، سوق يقصدها التجّار من أماكن بعيدة، تسمّى "الحسبة". وفي الغالب كان إنتاج الأرض عند الشيخ حبيب يفيض عن حاجة العائلة، فالأرض كريمة والرزق وفير، وعند الشيخ حبيب أكثر من دابة ينقل عليها الإنتاج في ذروة المواسم.
يذهب برزقه إلى صور، بينما يتابع سائر أفراد العائلة المكوث في الأرض إمّا لاستكمال ما كان من عمل فيها، أو لإتمام مهام أخرى، في جمع الحطب أو استثمار الماء القريب في الغسل، وإعداد الطعام حتى عودة الشيخ.
وأحمد الصغير معهم، يشارك هنا وهناك، تعصف في جوانحه رياح حبيسة، يطل عصفها الهادر من عينيه، لا يهدأ ولا يستكين، ومع الصغار يساعد الكبار في جمع المحصول ليضعه الوالد على ظهر الدابة ويذهب به إلى صور. المساعدة في جمع المحصول وقطف الثمار أمر مسموح به للصغار، أما الذهاب إلى صور فهذا حلم ينتظر الصغار على قارعة الدرب الطويل، ليكبروا ويصبح أمرًا قابلاً للتحقق، لكن أحمد الصغير أكثر جرأة من سواه، يطلب من أبيه مرارًا وتكرارًا أن يأخذه معه، فيرفض الأب بحزم وكأن الأمر محال، لكن أحمد لم ييأس ولم يكفَّ عن الطلب والرجاء، يرفق الرجاء بوعد يكرره بكل الأمل المرتجى، المتدفق من عينيه، سيكون ساكنًا
24
12
الفصل الأول: ما قبل البداية
صامتًا، وأكثر تعقلاً من أي وقت مضى، حتى رضخ الأب ووافق مشترطاً أن تكون هذه المغامرة لمرة واحدة فقط.
كان ذلك اليوم فريدًا بالنسبة إليه، يومًا استثنائيًا لطفل ما غادر قريته قط، وبقي ذلك اليوم عالقًا في ذاكرته، يتحدث عنه بعد عشرات السنين كأنه حدث بالأمس. وضعه والده أمامه على ظهر الدابة، وسار به في درب متعرّج طويل، ثم ما لبث أن نزل بهما الطريق باتجاه الساحل، ومن بين أذنيّ الدابة راقب العالم وهو ينفتح أمامه واسعًا مهيبًا، كان مبهورًا يردّد في داخله: كم هو كبير هذا العالم! مذهولاً بالعالم الذي تكشّف دفعة واحدة، بعد أن كانت القرية قبل تلك الرحلة هي كل الدنيا. العيون الصغيرة مفتوحة بكل دهشتها على تلك المساحات الشاسعة، والمباني المتقاربة مرتفعة في ضخامة وهيبة، والناس! ما أكثر الناس؟! لم يكن يتوقع وجود هذا الكم الهائل من البشر، ينظر بعين دهشته إلى ازدحامهم وحركتهم الدؤوبة، ثم البحر، هذا البحر بلا نهاية، يغرق ما تبقى من الدنيا، برائحته وهدير أمواجه!!
لم يكن أحمد الصغير حينئذٍ قد تجاوز السنوات الخمس، لكن ما حدث في ذلك اليوم أشار إلى شيء مختلف، كأنه زرع بذرة في وجدانه، ظلت تنمو على مساحة عمره، أو أشعلت في ذهنه رغبة استكشاف هذا العالم والخوض فيه، لتعلن عن ثورة مستدامة ورغبة في التغيير ممتدة الجذور قديمة العهد، بابٌ كبيرٌ فتح لطموح وأسئلة لا نهاية لها، امتزجت مع السنين بالجرأة واقتحام الصعاب، حتى تميَّز بين أترابه بهذا الخروج عن المألوف والمتعارف.
25
13
الفصل الأول: ما قبل البداية
كبر وكبرت معه تلك المزايا معتمدة على شخصية اتسمت جسدًا وروحًا بالصلابة والقوّة، وفي سنيّ المراهقة الأولى ظهر هذا واتّضح وضوحًا شديدًا لتشكّل جرأته وشجاعته فارقًا بائنًا في خروجه عن المألوف، وعدم رضوخه إلى ما هو سائد من مظاهر وأفكار اعتادها الناس، لم يكن ليرضخ لها بلا اعتراض وطرح أسئلة، أو إحداث ثورة، ومحاولات مجبولة بإصرار عنيد إن لم يقتنع بصوابيّة ما يحدث، لا يهاب شيئاً بثورته تلك، والناس يتجنبون التغيير عادةً وإن اقتنعوا بصحّته، ولا سيّما في ذلك الزمان، لما يسوقه هذا التغيّر من مشاكل وصعاب، ربما بسبب من فقر أو استضعاف، يسعون إلى تبسيط الأمور ما استطاعوا، هروبًا مما يرونه مشكلة، والقبول بالواقع على علّته، بينما هو في ثورته الدائمة تلك لا يهاب أحدًا، ولا يخاف مما سيجلبه اعتراضه وتصدّيه من مشاكل.
حين أصبح شابًّا، تعزّز هذا فيه، بل صنع منه شخصيّة قويّة، مُهابة الجانب، يلجأ إليه الفقراء والمستضعفون لردّ الظلم عنهم، في زمن كانت السلطة فيه للقوّة، وفي كل قرية يوجد من يتسلّط على الناس بقوته أو بنفوذه الماديّ أو السياسيّ، ويفرض سلطته على الناس بلا رادع، ويطلق الناس عليهم اسم "القبضايات"، بدعم من سلطة الإقطاع الذي كان يسود تلك المناطق، ليعزّزوا بهم نفوذهم، ويرهبون بهم العامة من الفقراء، لكن ابن الشيخ حبيب تفلّت من قيد الخوف هذا، إذا ما اشتكى إليه مظلوم أعاد إليه حقه بالقوة. وبالنظر إلى شجاعته وذكائه وقوّته الجسديّة تجنّب "القبضايات" الاصطدام به.
26
14
الفصل الأول: ما قبل البداية
لم يكن يقبل الانتماء إلى أيّ من طرفي الإقطاع: آل الخليل، وآل الأسعد، حيث كانا يشكّلان السلطة الإقطاعية الأقوى، وكان هؤلاء "القبضايات" هم يد الإقطاع الضاربة، حتى فرضوا أمرًا واقعًا. لكن ابن الشيخ كسر هذه القاعدة، وتفرّد بعدم الرضوخ لهذا الواقع، في زمن كان الرضوخ لهم أمرًا مألوفًا، ربما بسبب الفقر وقلّة الحيلة، وضعف الإمكانات أمام الإقطاع المتحكّم في كل شيء، لكنه بطريقة ما استطاع أن يفرض نفسه كشخص قويّ لا يهاب أحدًا.
وتميّز بأمر آخر، فريدٍ كذلك، فقد كانت الأميّة سائدة في تلك الفترة، والقادرون على القراءة والكتابة قلّة قليلة في القرية، بل هم نادرون يعدون على أصابع اليد، أقبل على تعلّم القراءة والكتابة بشغف، على يد والده الشيخ وتعلّم أيضًا أصول الدين، ومنه تربّى على الإيمان ومساعدة المستضعفين.
تفرّد مرتين: مرة في الإصرار على التعلّم واتساع المدارك في الثقافة والدين، ومرة في مواجهة "القبضايات" والإقطاع؛ مما عزّز ثقته بنفسه، ليزداد مع الوقت قوّة وصلابة.
لم تجد هذه الشخصيّة التي رفضت الإقطاع وممارساته مكانًا تنتمي إليه سوى السلك العسكري، فانتسب إلى الجيش اللبناني في مطلع شبابه. لقد وجد في الحياة العسكرية وصلابتها ما يتناسب وقوة شخصيته، فانتسب إليها بلا تردّد، حاملاً معه روحه التي لا تهاب شيئاً، وتمرّده في عدم الرضوخ لما هو غير مقنع، وإن كان مسلّمًا به، وملتزمًا عناده وثورته على كل ما يراه باطلاً، والتصدّي له مهما كانت النتائج، دون خوف أو مهادنة أو مراعاة للظروف.
27
15
الفصل الأول: ما قبل البداية
يقول ابنه الحاج عبد الله قصير: "تعرّض والـــــــدي للمســـــــــاءلة والعقــــــاب، لأنه أطلــــق النــــار على جنــــود الاحتــــــلال حين تجــــــــاوزوا الحدود، وطاردهم منفردًا، فدبّ شجار حينها بين أبي وبين الضابط المسؤول. رفض أبي بحدّة مقولة ذلك الضابط، إنّ إطلاق النار على جنود الإحتلال يحتاج إلى أوامر وموافقة من الجهات العليا، معتبرًا أن الصبر عليهم بانتظار الأوامر هو عمل مهين لا تحتمله الكرامة، وقال لذلك الضابط إنّهم لو عادوا فسيقتلهم دون أن ينتظر الأوامر من أحد. ولم يفصل من الجيش حينها، لأنه كان من الرجال المميزين بالقوّة والشجاعة، تم نقله بعد الحادث بوقت قصير إلى أماكن أخرى بعيدة عن الحدود خوفًا من تكرار ما حدث".
في تلك الفترة، تعلّق قلبه بابنة عمّه التي تفتح صباها كما تتفتح الزهور، والتي كانت تصغره بعشرة أعوام. لم يطل به التفكير، فهي ابنة عمّه، ويعرف عنها وعن محيطها كل ما يحتاج إلى معرفته، فتقدّم من عمّه طالبًا يدها بلا تردد.
تقول الحاجة أم مصطفى: "كنت مدلّلة والدي الذي كان يحيطني بالكثير من الحنان والعناية الفائقة، ويحاول بكل جهده أن يعوّض عليّ حنان أمي التي فقدتها وأنا في الرابعة من عمري، فكان لي أمًّا وأبًا في آن واحد.
لم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة حين كنت أستمع لأبي، وهو يحدّثني عن ابن عمي الذي طلبني للزواج، وعن صعوبة حياته التي لن تناسبني. لم أكن أفقه من أمر الزواج شيئاً، لكنّني أعلم مدى محبّة أبي لي".
28
16
الفصل الأول: ما قبل البداية
لقد فوجئ الشاب أحمد برفض العمّ له، ولم يستطع صرف النظر عن ابنة عمّه. تمسّك بخياره بما له من عناد وإصرار، مارس كل الضغوط الممكنة، تحرّك باتجاه كل من يستطيع التأثير على عمّه من أقارب وأصدقاء لإقناعه بتغيير موقفه دون جدوى. لقد جوبهت كل تلك الضغوط بالرفض المتكرّر، حبّ العمّ لابنته اليتيمة جعل الأمر محسومًا، فهو لا يريد لابنته تلك الحياة، فالحياة العسكريّة المحفوفة بالمخاطر، والتي تستدعي احتمال أن تعيش ابنته أرملة لباقي العمر، دفعه خوفه هذا إلى إغلاق باب القبول إغلاقًا تامًا لم تُجدِ معه كل تلك المحاولات النّشطة.
يقول قريب لهم سعى لديه لحلّ تلك المشكلة: "كنا نقول له: إنّ الأعمار بيد الله يا حاج، لكن ردّه كان واضحًا ومقنعًا، لم يكن التهديد بالموت هو كل المشكلة، هو لا يريد لابنته أن تعيش القلق المستمر؛ لأنّ الحياة العسكريّة تستلزم الغياب المتكرّر وعدم الاستقرار".
وتقول الحاجة أم مصطفى: "كان يخشى عليّ أبي من حياة متعبة غير مستقرّة لو تزوجت من عسكريّ، لكن ما كان يخشاه حدث في الحياة بلا عسكر، فسبحان الله مقدّر الأمور".
لم يكن ليتخلّى عن الزواج بابنة عمّه، كما أنّ الحياة العسكريّة هي أقرب لطبعه، وفيها وجد متنفسًا لصلابةٍ في شخصيّته، وكان عليه أن يختار. عمّه وضعه أمام هذا المفترق: إمّا أن يتخلّى عن درب العسكر، أو يتخلّى عن فكرة الزواج من ابنة عمه! لم يتوقف طويلاً أمام الاختيار، فقد دفعته رغبة الزواج من ابنة عمه إلى الانعطاف، وكأنه يرى قدرًا مرسومًا وواضحًا، ورغبة مقرونة بمعرفة. معرفة في
29
17
الفصل الأول: ما قبل البداية
كل الخيارات البديلة المتوفرة، ومعرفة بابنة عمّه تكفيه للاقتناع أنّها أصلح الفتيات لأن تكون زوجته، وهو يرى بوضوح ضرورة الإقدام على الزواج، ولمّا كانت الحياة العسكريّة هي العائق استقال من الجيش.
30
18
الفصل الأول: ما قبل البداية
تزوّج ابنة عمّه، وبدأت رحلة أخرى، جديدة عليه، ومختلفة كل الاختلاف عمّا عهده. لم يعد وحده، ولم يكن يملك منزلاً، وعليه أن يجد عملاً بدخل مقبول يوفّر أسباب معيشة لائقة. هو الذي اعتاد أن يحقق ما يريد على وجه الكمال، مقبل على إنشاء عائلة في حياة جديدة، يريد بحزمه وعناده أن يبعد عنها الفقر وصعوبة العيش ما استطاع، فالحاجة بالنسبة إليه كابوس لا يريد أن يراه ماثلاً أمامه، وبكلّ عزيمة أقبل على تنفيذ ما رآه مناسبًا بالمال القليل المتبقي معه، أضاف إليه دَينًا يفي حاجته، فاستأجر منزلاً ودكانًا يبيع فيه ما تحتاج إلبه القرية ومنازلها.
اســـــــــــــــتقرت به الأمــــــــــــــور، وأنجبت زوجته ابنه البكــــــــــــــر "غـــــازي". لـــــــم يعلم أحد لماذا أسماه غازي رغم اعتراض المقربين، فالاسم غريب نسبيًّا على ما هو مأنوسٌ ومألوف. ربما هو استدعاء لذكرى، أو تعزيز للتفرد والاستثناء! أحبه كثيرًا، كان سعيدًا بهذه العلاقة الجديدة، وهذا الارتباط المغاير المختلف عاطفيًا عن كل ارتباط سابق، يحلم عنه، ويحلم به، يخطّط ويقرّر لما ســــــيكون عليه هذا الصغير. أراد له الاستثناء والتفوق الذي أراده لنفسه وسعى إليه، وأن يحقّق ما لم يســـتطع هو تحقيقه، أراد له ولكل مـــن ســــيأتي بعده، حيـــاة اســــتثنائية، وقدرات مميــــزة، يرتفـــع بهم ومعهم عــن المألوف والمتعارف الذي لم يكن يهواه، مســــــــتمدّاً طاقة جديــــــــــدة من هذا الصغير وممن سيأتي بعده، أراد بهم ومعهم الخروج من دائرة استنكر عيوبها، ومقت تقصيرها في السعي إلى المثالي والكمال الممكن.
31
19
الفصل الأول: ما قبل البداية
تعلّق قلبه بهذا الصغير كما لم يتعلّق بأحد، كتلة اللحم الصغيرة هذه تشعره بمدى ضعفها وحاجتها إليه. وكان الصغير جميل الشكل جذّابًا، يهواه كل من يراه.
تقول الحاجة أم مصطفى: "كان يحمله ويطيل النظر إليه، ويحاول البقاء قربه ما استطاع. لقد كان غازي جميلاً تهواه القلوب، وكان يقول عنه أبوه: سيصبح رجلاً مميزًا يقوم بما لم يستطع أحد القيام به.. لكن هذا لم يحدث".
تتابع أم مصطفى والأسى في صوتها واضحًا رغم غور الذكرى وزمنها البعيد: "كان له من العمر ستة أشهر حين تركته مع أبيه في الدكان وذهبت لأجلب الحليب.. سقط غازي عن المكتب في اللحظة التي انشغل فيها أبوه مع أحد الزبائن، حمله أبوه سريعًا إلى أقرب طبيب، طمأنه الطبيب بعد الفحص، وقال إن الولد لا يشكو من شيء، ويحتاج إلى بعض الوقت ليتعافى جسده من أثر الصدمة، لكن الطفل ظل يبكي، وأنا أتألّم لألمه، لم يهدأ رغم مرور أيّام عدّة على سقوطه، قلّ أكله، وضعف جسده، وسرعان ما أصبح هزيلاً رخوًا خلال أيامٍ قليلة؛ مما حمل والده لاستشارة طبيب آخر، وبعد الفحص والمعاينة، أجاب بما أجاب به الطبيب السابق، وأعطاه دواءً جديدًا، وطلب أن نعتني به ونصبر، حتى يتخطّى الطفل أثر الصدمة... لكن الطفل مات بعد ذلك بأيام".
لقد ترك هذا الحادث أثرًا بليغًا في وجدان الأبوين. فهو الولد البكر، والعشق الأول لأعظم عاطفة بشرية على وجه الأرض. حتى الأب رغم صلابته واعتياده على رؤية الموت وامتصاص الألم، وقف
32
20
الفصل الأول: ما قبل البداية
أمام هذا الموت المختلف، يداري حزنًا قاسيًا وقهرًا لم يعهده، والأم الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة، وقفت ذاهلة أمام ما حدث.
مع إيمانهما الموروث ورضاهما بقضاء الله وقدره، ساعدهما على تجاوز تلك المحنة حمل جديد يخفق بالحياة مرة أخرى، شعرت به الأم وتوجّهت إليه بكُلّها. لكن مشكلة لم يكن بالإمكان تجاوزها، كانت موجودة قبل موت غازي، تفاقمت بعده وتضاعفت مفاعيلها، وهي الرزق الذي بات شحيحًا من غلّة الدكان، وشبح الفقر الذي يكمن خلف الحاجة، ذلك الكابوس الذي لا يرغب ابن الشيخ حبيب في أن يراه، بدأ يطلّ بقساوته ويحرّك في وجدانه خوفًا يتيمًا من معركة هي الوحيدة التي لا يريد خوضها ويتجنّبها بكلّ جارحة فيه، فاندفع إلى البحث عن مصدر آخر للرزق.
لم يكن له هوى بالزراعة، وأعمال التجارة لم تكن لتجدي دون رأس مال كبير غير متوفّر. لجأ للبحث عن مهنة يعتاش منها برزق كريم. وحين سمع من أحدهم عن صناعة الخبز، سارع بلا تردد للعمل فيها، حتى بات في وقت قصير كخبّاز ذي خبرة طويلة، وسرعان ما اقترح أحدهم عليه إدارة مخبز في بلدة "بعبدات"، وهي بلدة في جبل لبنان، وكل سكانها من الطائفة المسيحيّة. وافق على العمل فورًا رغم العوائق، لكونها بعيدة عن قريته مع وجود صعوبة في عدم توفّر وسائل النقل بشكل دائم. حسم أمره وقرّر الانتقال. استأجر منزلاً قريبًا من مكان العمل، ثم اصطحب زوجته إلى هناك. وبهمة عالية، وكفاءة مشهودة، استقر به المقام، ممدوح السمعة، صادقًا وخدومًا.
33
21
الفصل الأول: ما قبل البداية
يقول جار له في بعبدات: "حين جاورنا كنّا حذرين منه في البداية، كما يكون المرء حذرًا من أيّ غريب ذي لهجة مختلفة، ومن دين آخر، وزوجة محجبة، لكننا بعد وقت قصير ألفناه، بل أكثر من ذلك، كنا سعداء بوجوده هو وزوجته التي اتّسمت بخلق كريم، وأدب لم تشاهد نساؤنا مثله، حتى أصبحت لزوجتي وأهلي مثلاً أعلى في حسن الخلق والجيرة المثالية. لم نسمع منهما صوتًا، ولم يصدر عنهما أيّ خطأ وإن كان غير مقصود".
والزوجة التي لا تشتكي، وإن كانت تلتزم منزلها في أغلب الأحيان، إلا أنها تجيد إكرام الضيف، كما تجيد الصمت والصبر، والجار قبل الدار كما تعلّمت منذ الصغر، وكلا الزوجين حبّبا الناس بالإيمان عبر السلوك، دون رياءٍ أو تصنّع، إنما فيض من تربية جرت مجرى الدم في العروق.
يقول ابن عمّ له: "التقيت في بيروت برجل عن طريق الصدفة، وما إن علم من أيّ البلاد أنا، حتى سألني بحماس إن كنت أعرفه، وحين علم أن ابن الشيخ حبيب قريبي، بالغ في التأهيل بي، ثم صار يسألني عن أخباره بلهفة، كما يسأل الأخ عن أخيه الغائب، قال عنه إنّه "آدمي ابن أوادم"، وإنه لم يرَ مستأجرًا مثله لا قبله ولا بعده، رغم تعدّد المستأجرين لمنزله وتنوّعهم، وأنه كان شديد الحرص على جيرانه وعلى المحيطين به، يأخذ إذني إن أراد أن يقوم بأي تغيير في المنزل مهما بدا هذا التغيير بسيطاً، لم يتأخّر يومًا عن دفع الإيجار، كان يطرق بابي في صباح اليوم الأول من كل شهر، قبل ذهابه إلى العمل، ولم يتخلّف مرة حتى ليوم واحد، أنا الذي
34
22
الفصل الأول: ما قبل البداية
اعتدت قبله وبعده على مماطلة المستأجرين بحجّة الظروف، عالمًا أن ظروفه لم تكن مثاليّة".
يقول ابنه الحاج عبد الله قصير: "كنت مع أبي في أحد الأفران، رأيت ما أثار استغرابي، كيف تعامل أصحاب الفرن مع أبي، هذا الاحترام الشديد، وكأنه هو صاحب الفرن، كنت أتساءل في سرّي هل نملك فرنًا دون أن أدري؟ علمت من أبي حين سألته عنهم، أنه تعامل معهم لفترة، أثناء تعلّمه هذه المهنة".
لم تكن الأمور مريحة تمامًا بالنسبة إلى الزوجين، فالبعد كان يشكل فارقًا مؤثّرًا، فهما يعيشان في غربة، بعيدين عن أهلهما مسافة طويلة، لكنهما رضيا بما تيسر لهما من أمور الحياة وبما تعلّماه من الصبر والشكر.
أنجبت زوجته ابنة أسماها نور الهدى. خفّفت الابنة من الشعور بالوحشة، وملأت مساحة كبيرة من فراغ ذلك السكن، وامتصّت بحضورها الحلو ما بقي من ألم على موت غازي.
ومع الوقـــــــت ازداد التعـــــــب، كان الأب يعمل إلى وقت متأخــــــــــر، لكـــــــــــن صعوبة العيش مع مدخول قليل كانت تزداد مع الوقت. لقد ترك قريته من أجل تحسين مصادر رزقه، ولما لم تستطع هذه الهجرة منحه ما يريد، كان لابدّ له من حسم أمره، فسرعان ما قرر العودة إلى حضن قريته، ليستأجر فيها دكانًا ومنزلاً صغيرًا من غرفة واحدة وأرض دار، ســـــــــاعيًا لتطوير العمل في الدكان لتحســـــين الرزق.
35
23
الفصل الأول: ما قبل البداية
لم يكفّ عن القراءة كلّما سنح له وقته، فهي تتوافق مع روحه المتوقّدة، ومع حب الاستطلاع المتأصّل فيه، والذي يتحوّل مع الوقت إلى حب للمعرفة بكل أشكالها. والقراءة هي مركبه السهل المتوفّر، لتحقيق رغبته القديمة المتجدّدة في الخروج إلى العالم الواسع، يسافر فيها، يقطع بحار أفكار شتى، وموانئ يزدحم فيها المجهول، يستفزّه الوقوف أمام أبواب المجهول المغلقة، كما يستفزّه الوقت المهدور، وفي الدكان الكثير من الوقت، دكان في قرية صغيرة لن يعرف الازدحام أبدًا، ولا سبيل لتطوير العمل، فكانت القراءة مخرجًا مثاليًا، فكثرت قراءاته في تلك الفترة وتنوّعت، ولا سيّما في الثقافة الدينية، وهو ابن الشيخ، لكن هم الرزق والخوف من الفقر ظلّا يلحّان عليه.
خطر في ذهنه خاطر وشجعه عليه عدد من معارفه، أن يعمل بالتعليم أيضًا، وفي الدكان متّسع في الوقت ومتّسع في المكان، وهناك عدد من الصغار والفتيان، برغبة منهم ومن أهلهم سألوا عن ذلك وطلبوه منه، وكعادته حسم الأمر سريعًا وبلا تردد، واستقبل الطلاب في زاوية من دكانه، وتدفق عطاءً بحزم الأستاذ وجدّيّته.
محيطه يثق بمستوى ثقافته ومعرفته، ولكونه ابن الشيخ حبيب، وله معرفة واطّلاع بأمور الدين، ومع تواجده في مقر ثابت هو الدكان، اجتمعت هذه العوامل وجعلته مقصدًا للناس، تلجأ إليه فيما يُشكِل عليها من أمور الشرع، ومع الوقت أصبحت الصورة أكثر وضوحًا، وسار به المركب إلى أماكن أبعد، ثقة الناس بعلمه ومعرفته ازدادت وتطوّرت، وشعوره بالمسؤولية تجاه ذلك
36
24
الفصل الأول: ما قبل البداية
دفعه إلى معرفة المزيد، ولا سيما في الفقه وعلوم الدين، فسعى سعيه الحثيث لأخذ هذه العلوم من عدد من علماء تلك المنطقة، ثم استقرّ به الأمر بأخذ العلوم من فقه وأصول ونحو من سماحة السيد عبد الحسين شرف الدين في صور.
يقول أخوه الأصغر الشيخ إبراهيم قصير: "لقد أعجب السيّد شرف الدين بأخي أيّما إعجاب، وجعله من خواص تلاميذه، كان يمتدحه لإصراره وجديّته على المثابرة ومتابعة تلك الدروس باهتمام لافت، وكان أخي في المقابل شديد الإعجاب بالسيّد شرف الدين ويعتبره شخصيّة لا نظير لها. والسيّد شرف الدين هو الذي نصح أخي بمتابعة تحصيله العلميّ في النجف الأشرف".
كان هذا الاقتراح بالنسبة إلى ابن الشيخ حبيب مشروعًا يقترب به من تحقيق طموحه وأحلامه في حوزات النجف وجوِّها العلمي، فتدفّق حماسه. حسم أمره، وحزم متاعه وشدّ الرحال إلى النجف، تاركًا طفلته وزوجته الحامل برعاية الأهل، للاستزادة من العلوم الدينيّــــــة، وللاطّلاع على إمكانيّـــــة تحقيق ذاك الطموح علــــــى أرض الواقع.
تأثّر كثيرًا بجـــــوّ النجف العلمــــي، وإمكانيـــة التحصيل العاليـــــة هناك، والتي لا يمكن مقارنتها بإمكانات التحصيل في لبنان. كان سعيدًا جدًا بتلك الأجواء، كان هناك أمر واحد يجرح كمال ذلك المشهد الجميل، إنه شظف العيش، هذا الذي يخافه ابن الشيخ حبيب ولا يريده.
عند وصوله إلى النجف سكن في مدرسة مخصّصة لغير المتزوجين من طلاب العلوم الدينية، وكان مدخول الطلاب غير المتزوجين
37
25
الفصل الأول: ما قبل البداية
قليلاً جدًا، حتى يصبح معه الاكتفاء صعبًا. أغلب الطلاب يعتمدون على إيرادات تصلهم من ذويهم في الخارج، عبر الزوار القادمين إلى النجف، ولم يكن هو ولا الساكنون معه من هؤلاء، وكانت تصل بهم الأمور إلى حدّ الجوع في الأيام الأخيرة من الشهر، وينفد حتى الخبز الذي يشترونه عبر بطاقات تصلهم من المراجع، لكل طالب عدد من البطاقات كل شهر، وهي عبارة عن أوراق صغيرة من الكرتون مختومة بختم الحوزة تسمى "المهر" تعطى للخباز؛ وليعطيهم بدلاً منها خبزًا. حتى هذه البطاقات كانت تنفد قبل نهاية الشهر رغم الاقتصاد والتقنين.
يقول ولده عبد الله: "حدَّثني والدي عن تلك الفترة وقال لي: كنّا نجمع فتات الخبز وما يبس من أطرافه خلال النصف الأول من الشهر، ونحتفظ بها للنصف الثاني من الشهر، نمسح عنها الغبار والعفن ونأكلها شاكرين وجودها".
لم تحرمه تلك الظروف سعادته بجوّ النجف العلميّ، وشكّلت له حافزًا قويًا للاستمرار، وعزّزت انتماءه إلى هذه البيئة كاد أن يفقد وجوده خارجها، وباتت كالأمر المحتوم الذي لا نقاش فيه. وبقناعة تامة قرّر الانعطاف بهذا الاتجاه، ليصبح الشيخ أحمد حبيب قصير "العاملي" كما كان يحب أن ينتسب.
في هذا الزمان نفسه، وباختلاف المكان، أنجبت زوجته طفلهما الثالث، وكأن هذا الطفل لم يكن يريد الخروج إلى الدنيا قبل حصول هذا الانعطاف، لا يريد الخروج قبل أن يكون ابن شيخ.
كان لحضور هذا المولود وقعٌ خاص، وأثرٌ مؤنسٌ دون تحديد
38
26
الفصل الأول: ما قبل البداية
سبب معيّن. كانت القلوب تهواه، وتأنس بالنظر إليه، ربما هو بياض وجهه المستدير، وعيناه المستطلعتان بهدوء، أو هو شيء آخر غير معلوم. والشبه الواضح بينه وبين الطفل الأول غازي ترك أثرًا، فكأنّ غازي اقتطع زمنًا ثم عاد، عاد في زمن آخر، اختلفت فيه الميول والنزعات. الأم كانت سعيدة بهذا الشبه، كنعمة فقدت ثم عادت، لكن في الوقت نفسه ترك لديها هاجسًا من خوف فقدانه مرة أخرى.
تقول الحاجة أم مصطفى: "كان وجهه صافيًا، كأنه اغتسل بالنور، لكم كنت أحب النظر إليه. إن هو بكى خفق قلبي بشدّة، ربما لأنه كان قليلاً ما يبكي. أحببت هذا الصغير بقوّة، وتعلّق قلبي بوجهه الناعم. إن هو غفا، وشعرت أن نومه طال تملّكني الخوف عليه، فأقترب بأذني من صدره، أو أضع خدي قريبًا من وجهه لأشعر بأنفاسه وأطمئنّ".
كما حال الأم كذلك الأب العائد من العراق، يداري خفقان قلبه القويّ وهو يحمل هذا المولود الجديد، العائد من القديم بظروف جديدة، يطيل النظر إلى وجهه، يضمّه يتلو الأذان والإقامة في أذنيه، ويتوقّع منه الكثير، مستبشرًا به، يعده ويعد نفسه بالانقلاب الكبير نحو الأفضل، وعد كالقرار بالعبور إلى ضفة أخرى. توقّف عند تسميته في الوقت الذي أسماه "محمدًا" استحبابًا لمدة اسبوع، كان يبحث له خلالها عن اسم.
تقول الأم: "وضعت يدي على قلبي خوفًا من أن يطلق عليه اسم غازي، أنا التي لا أستطيع مناقشته إذا أقرّ أمرًا، وليس من طبعي النقاش والجدل".
39
27
الفصل الأول: ما قبل البداية
لم يواجه الأب تردّدًا مثل هذا من قبل، كان هناك الكثير من الأسماء في ذهنه، لم يستطع أحدها الوصول به إلى الحسم، تردّدٌ ما كان يحبه الأب وليس من طبعه، وكأن الصغير أراد أن تكون له مكانة مختلفة، وحيث إنه كان قد عاد يتابع دروسه عند أستاذه القديم، دعاه تردده إلى اللجوء إليه...
تحت عنوان "اختيار الاسم" كتب الشيخ مصطفى في أوراقه: "حدثني الوالد أن تسميتي تمت باقتراح المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين. وكانت أيام ولادة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: سمّه بأحد أسماء الرسول، واختار من بينها مصطفى، وهكذا كان".
لا شك في أن لكل إنسان ميزةً خاصةً أودعها الله فيه، بصمة من أسرار فطرته التي فطره الله عليها. تحدّث المقربون عن شيء لافت في هذا الصغير وجاذبية تجعله قريبًا من القلب كما قالوا، ربما هي بشاشة في الوجه ورقّة، وجه كأنه اغتسل بالضوء، أو ربما هي تلك الحركة في الملامح والأطراف التي كانت تشي بوجود ذكاء فطريّ.
تقول والدته: "كنت كلما مررت على دار جيراننا شعرت بحركة جسده وهو يتطاول، ليرى الدجاجات التي كانت تسرح في أرض دارهم، ويظل يلتفت إليها حتى تغيب عن ناظره. دفعني تصرفه ذاك إلى شراء دجاجة، تسرح في أرض الدار، وتأكل ما تيسر لها من بقايا الطعام، يفرح بها مصطفى دون أن تشكّل عبئاً، خصّصت لها زاوية في الغرفة التي هي كل بيتنا كي تبيت فيها ليلاً، وفي النهار تسرح في أرض الدار، ليراها مصطفى عن قرب. كان يمشي خلفها زاحفًا، لم يكن بعد قادرًا على الوقوف، يفرح كثيرًا ويزداد فرحًا وعجبًا حين
40
28
الفصل الأول: ما قبل البداية
يجد بيضًا لها. كان يراقبها لفترة طويلة، كيف تركض، وكيف تأكل، بطريقة غير عاديّة، لم يكن الصغار يفعلون ذلك، كان كمن يريد دراستها، يريد معرفة كلّ التفاصيل.
لم يقتصر اهتمامه على الدجاجة فحسب، كثيرة هي الأشياء التي كانت تلفته، أكثر مما تلفت سواه، كنت أرى ذلك في عينيه، وفي ملامح وجهه وحركات جسده الصغير. لا أدري إن كنت أبالغ، لكن الفرق بالنســـــــــبة إليّ كان واضحًا بينـــه وبيــــن من هم في مثل ســـــــــنّه، قـــــــد تشعر بذلك أكثر الأمهات، لكني لم أشكّ لحظــــــــــــة في أنه طفل مميز. كنت شديدة التعلّق به. ربما موت غازي الذي كان يشبهه ضاعف هذا التعلّق، كان الخوف من فقدانه يجعلنــــــي أتابعه بلهفة".
أصبحت دراسة العلوم الدينية تشكّل هاجسًا للشيخ أحمد، وتشغل حيّزًا جدّيًا من اهتمامه في البحث عن أفضل الممكن، فتوجّه لمتابعة دراسة العلوم الدينية بكثافة وجديّة غير قابلة للتردّد أو الإبطاء، وهو في اندفاعه القوي نحو المزيد من التحصيل كانت عينه ترنو إلى النجف الاشرف، تلك المدينة المقدّسة، مدينة الحوزات الدينية، وكبار الأساتذة والعلماء ومراجع الدين، مدينة علم عرفها عن قرب وتجربة، مدينة يتنفّس فيها الناس علمًا إن أرادوا ومعرفة. تاق إليها وهو ينظر إلى مستوى التحصيل العلميّ فيها. وبدعم من أستاذه لم يتأخّر في حزم أمره على الهجرة إليها، والإقامة فيها مع عائلته. ولم يكن عمر مصطفى أكثر من سبعة أشهر حين استعدّ والده للسفر.
41
29
الفصل الأول: ما قبل البداية
22 أيلول 1953 هذا التاريخ كان يشير إلى تلك المرحلة وليس لسواها مما هو مكتوب في السجلات الرسميّة. ولتوثيق تاريخ الولادة نقرأ في أوراقه هذه الأسطر:
"كانت الولادة في السابع من ربيع الأوّل عام 1372 هجرية، الموافق لـ 24 تشرين الثاني 1952 ميلادية... لم يكن تسجيل الولادات والتدقيق في التواريخ مورد اهتمام. لذا لم يتمّ إدراج ولادتي في النفوس إلا عندما أرادت العائلة السفر إلى العراق، فكانت الولادة في الهوية 22 أيلول 1953، وهو تاريخ التهيؤ للسفر وإعداد الوثائق".
لم يكن تاريخ ولادة الشيخ مصطفى عاديًا، بل كان محطّة كبرى في تاريخ تلك العائلة. فخلال فترة وجيزة أتمّ الشيخ أحمد مستلزمات السفر، من أوراق رسميّة وما إلى ذلك، وأعدّ العدة وبات جاهزًا للانتقال إلى النجف الأشرف، تحدوه أحلام كبيرة، وقلب يخفق بطموح قديم.
كان هناك حافلة واحدة تنطلق من "بنت جبيل" فجرَ كل يوم، تمرُّ بالقرى في طريقها إلى بيروت، وعلى من يريد السفر أن يقف باكرًا على قارعة الطريق ينتظر مرور تلك الحافلة، وغالبًا ما يكون معه الكثير من الأمتعة، وأكثر تلك الأمتعة هي فواكه من القرية، ومؤونة من إنتاجها يفتقدها سكان بيروت ويحنون إليها، والسفر قليل في تلك الأيام، يقف المودّعون يلوّحون لركابها داعين لهم بالسلامة، في رحلة يتكدّس فيها المتاع والبشر وكأنها رحلة إلى آخر الدنيا، فكيف برحلة تعبر بيروت إلى الشام ومنها إلى العراق.
تقول والدة الشيخ مصطفى: "لم تكن تلك رحلتي الأولى خارج
42
30
الفصل الأول: ما قبل البداية
القرية، لكنني كنت خائفة وقلقة، فهي بالنسبة إليّ رحلة إلى المجهول، إلى مكان بعيد، وزمن طويل غير معلوم، كان خوفي وقلقي مصحوبين بمشقّة هذا السفر الطويل بطفلين: نور الهدى التي لم تتجاوز الثلاث سنوات، ومصطفى الذي لم يكمل عامه الأول بعد".
لم تكن الحافلات مريحة، والسفر عناء ومشقّة للخالين من أيّ تبعات، فكيف بطفلين محجوزين في مساحة ضيّقة محكومين باهتزاز وتمايل دائمين. كانت رحلة شاقّة ما اعتادتها الأم ولا الصغار، مرض خلالها الرضيع مصطفى.
تقول الشقيقة الكبرى نور الهدى: "تحتفظ الذاكرة بالأحداث الجليلة، أو تلك التي تشكّل منعطفًا واضحًا، حدثًا مميزًا. وتلك الرحلة كانت كذلك، بالرغم من عمري الصغير حينها إلا أنني أذكر بعض المشاهد التي ما زالت عالقة في ذهني بتفاصيلها الدقيقة، بالغبار والضجيج والاهتزاز، ورائحة المتاع والليمون. لقد كانت رحلة شاقة. وأكثر شيء أذكره هو جزع أمي وخوفها على مصطفى، ما زلت أذكر ذلك الخوف في وجهها، تمتماتها بالدعاء ودموعها، حدثتني هي بعد ذلك بسنوات عن ذلك الخوف الذي كان يحتل مشاعرها، لقد كان تعلّقها بمصطفى شديدًا، لم تكن تتركه دقيقةً واحدةً، كما قالت لي، على الرغم من محاولة بعض النساء مساعدتها. بكى كثيرًا في تلك الرحلة، وكانت ترفض بشدة أن يحمله أحد سواها. تقول عن ذلك إنها قد سمعت من مكان ما أن الموت لا يأخذ طفلاً من حضن أمه، تظنّ أن بقاءه في حضنها ضمانة لاستمرار حياته، تخاف أن يأخذه الموت كما أخذ غازي".
43
31
الفصل الأول: ما قبل البداية
استمرّت الرحلة الشاقّة مع مرض مصطفى حتى وصلت العائلة إلى العراق، وقبل النجف الأشرف توجّهت لزيارة الأماكن المقدّسة في الكاظميّة وسامراء.
تقول الحاجة أم مصطفى: "كان نومه لشدّة مرضه في تلك الرحلة متقطعًا، ينام دقائق ثم يستيقظ باكيًا، وفي الصحن الشريف في سامراء غفا مصطفى، بدا ذابلاً منهكًا، فرشت له أنعم قماش عندي ووضعته على الأرض، وأنا بالقرب منه قلقة متعبة، أنظر إلى قبة العسكريّين(عليهما السلام) أرجو لطفلي أن ينام قليلاً، وأتوسّل بصاحب الزمان وجده وأبويه، وما إن عدت ببصري إليه حتى وجدت امرأة تقف عنده، وهي تنظر إليه بإعجاب وحب، أخافني ذلك بشدّة، وجعلني ألتصق به خوف أن تسرقه مني. كانت تبتسم له وتتمتم بصمت، ثم قالت كلامًا لم أفهم أغلبه، ربما بسبب خوفي أو هي اللغة المختلفة، فهمت منها أنها كانت تمدحه وتطمئنني أنه بخير، وطلبت مني الاعتناء به، ثم رحلت. وضعت يدي عليه وأنا أشعر ببعض الراحة، نام مصطفى لأول مرة منذ رحيلنا نومًا طويلاً. حين وصلنا إلى النجف كان قد بدأ يأكل وينام بشكل أفضل، لا أدري إن كان ذلك بسبب دعائي، أو ببركة المكان، أو تلك المرأة.. لكنه سرعان ما تعافى بعد ذلك".
اقتربوا من الكوفة، ساروا بجانب الفرات، أشجار النخيل تتدافع، تتطاول مزهوة بسماء صافية كبلور أزرق، عبروا الجسر وماء الفرات من تحتهم بني اللون، لقد استعار لون الطين من ضفافه. وعلى تلك الضفاف تنتشر النواعير، وهي ترفع الماء إلى السواقي التي
44
32
الفصل الأول: ما قبل البداية
تمتدُّ كالشرايين، وتتفرّع أوردة تنتشر في بساتين الكوفة، كوفة أمير المؤمنين ومركز خلافته ترتدي ثوبًا زاهيًا، مترعًا بالأخضر، وموشحًا بألوان شتى.
تقول شقيقته الكبرى نور الهدى: "مشاهد الكوفة وبساتين النخيل، كانت مشاهد مؤنسة بعد تلك الرحلة الشاقّة. وحين أصبحت الكوفة خلفنا تمتم أبي بكلمات سمعت منها اسم النجف، بكت أمي وهي تنظر إلى حيث أشار أبي، تطاولت بجسدي كي أرى ما الذي يبكيها، فشاهدت المقام للمرة الأولى".
قبّة يلتمع ذهبها تحت أشعة الشمس، ومآذنها أذرع تمتدّ باتجاه سماء مفتوحة صافية، كأن صفاءها خلق لسماع نداء ذاك البناء الشامخ. كان حتمًا على أم مصطفى أن تتدفّق مشاعرها برؤية ذلك المشهد وهي التي تغذّت على حب الإمام منذ بدء وجودها.
تقول أم مصطفى: "أن نسكن بجوار أمير المؤمنين، أن نكون من جيرانه أو على مقربة منه، تلك نعمة كبرى بالنسبة إلي. تأثّرت كثيرًا وأنا أدخل للمرة الأولى مدينة أمير المؤمنين (عليه السلام)".
45
33
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
في وسط الصحراء، استيقظت مدينة لا تشبه المدن، مدينة تدافعت مساكنها كما يتدافع الصغار إلى حضن أم حنون، مساكن ما كانت لتكون لولا عشق جواره، مكان اختاره الله ليكون مقدّسًا، تشرّف بعد وفاة أمير المؤمنين وبوصية منه، وكما المسجد النبويّ ترك الأمر لدابة مسيّرة بأمر من رب العزة لتتوقف في المكان الذي خصه الله بالتشريف، مكان دفن فيه أنبياء الله آدم ونوح، وهود وصالح. وبعد دفن الإمام وعلى مرّ العصور تزاحم الناس على جواره، فاستيقظت غفوة المكان على مدينة تتنفّس العلم والإيمان من وحي جواره.
تقول أم مصطفــــى: "في النجف كـل شــــيء مختلـــف، كأنك تحيـــــا وسط الإيمان، وكأن أمير المؤمنين حي ينشر سلامه فيها، أو كأننا انتقلنا إلى زمانه".
نزل الشيخ أحمد ضيفًا عند صديقه السيد جواد الأمين، حتى تسنّى له استئجار منزل وتأثيثه في منطقة "الولاية" وقريبًا من مقام أمير المؤمنين. وهناك تفرّغ الشيخ أحمد للدرس، يدرس بشغف وحب بالطريقة نفسها التي اعتمدها طوال حياته، يناقش ويتعلّم، ويستكشف بذلك التميز القديم الذي يجعله فريدًا بشخصيّته التي لا تقبل إلا بالمقنع في كل الأمور، برفضه للمسلّمات رفضًا قاطعًا أينما كانت، وإن اعتبرها الناس بديهيّة، وتصالح عليها الكل.
يقول صديق عاصره في تلك الفترة وما قبلها: "كان الشيخ أحمد أكثرنا إشكالاً، ومنذ الدرس الأول، وفي محضر علماء كبار، كنا نتهيب فيه حتى من أنفاسنا، كان الشيخ أحمد يناقش ويعترض بإشكال فقهي من هنا واستيضاح من هناك".
49
34
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وبطبع متأصّل فيه كان يرفض المداراة رفضًا مطلقًا لا خوف فيه ولا تردّد. ينقل عنه أنه حين كان الأستاذ يشرح مسألة تتعلّق بالرياء، وكيف أن الرياء يفسد العبادة، تعجب الشيخ أحمد كثيرًا من وجود تصرّف كهذا، حين يقيس الأمر على نفسه يراه غريبًا مستهجنًا، إذ كيف يمكن لأحد من البشر أن يسعى لرضا مخلوق عاجز قبل رضا الخالق.
تقول نور الهدى: "سكنّا في منزل الشيخ رضا شمس الدين جنوب المقام في آخر شارع الرسول، وكانت الوالدة تأخذنا أنا ومصطفى سيرًا على الأقدام لزيارته في أغلب الأيام. تعلّم مصطفى السير هناك، كان يقطع مسافات قصيرة ثم تحمله الوالدة".
أولى خطواته كانت إلى إمامه، يتعثّر ويقوم، والأم تراقبه بلهفة، ثم تحمله، وما لبث إلا قليلاً حتى توازنت خطاه. كأن ذلك كان إشارة إلى مسير طويل يحكم حياته الحافلة، ويوجهها بهذا الاتجاه. عامان متواصلان بجوار أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلاً ونهارًا بلا انقطاع، عزّزا ما كان موجودًا بالفطرة ورسّخاه.
يقول الشيخ مصطفى في أوراقه: "عندما رحلت مع والدتي إلى العراق كان لي من العمر عشرة أشهر تقريبًا فنشأت في النجف، ولي ذكريات تعود إلى الأيام الأولى من المشي".
والغريب أنه وبعد هذا بعشرات السنين كان يحدّث خواصّه بشغف وتفصيل عن تلك الخطوات، كأنه يراها، وكيف كان يحاول السير في شارع الرسول الذي يمتدّ من منزلهم إلى حضرة الإمام، يتفلّت من يدي شقيقته نور الهدى، ومن يدي أمه، يسابقهما إلى
50
35
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تفور كماء تحته نار، لكنها تتدفّق باردة من بين صخور لامعة، وتقتحم السواقي راكضة على عجل، كأنها تشارك الأطفال في سباق الفرح، في اللهو تحت أشعة الشمس وسماء الصيف الصافية، والعصافير تشارك من فوق أغصان التين والرمان، ومن بين ورق الدوالي، بغنائها الصاخب.
تحدّث عن الثمار الدانية القطوف، والأغصان الذلول التي تنتظر كفّه الصغيرة، وعن أعشاش العصافير التي كان يحمله عمّه إبراهيم لاستطلاعها، ليرى فيها صغارًا لا تكفّ عن الزقزقة. وتحدّث مطولاً عن جدته أم بتول، عن مواويلها وحكاياتها الشغوف التي تحبس الأنفاس، وعن الخالة بتول، تلك الخالة التي لم يكن لها إخوة صغار، فوجدت في مصطفى ونور الهدى نافذتها على جنّة الأخوّة التي ضلّت عنها، فتفرّغت وبالغت في الاهتمام، ولم تترك حبًا وحنانًا في زاوية إلا وأفرغته في حضن الصغيرين.
وعن دوافع تلك الرحلة وأسبابها، تقول شقيقته الكبرى: "كانت والدتي بحاجة ماسّة إلى الراحة بعد ولادة شقيقتي مريم وموتها، أخذنا والدي إلى لبنان لقضاء الصيف هناك، في بيت جدّي لأمّي".
وكان للشيخ أحمد دافع إضافي لتلك الرحلة، هو تمتين أواصر العلاقة مع أهل بلده والاطّلاع على أحوالهم عن قرب بعد هذا الانقطاع. كما أنه في تلك الفترة كان في مسعى حثيث لاقتحام عالم جديد، يوسّع به من مصادر رزقه، دون أن يعيق عمله كعالم دين، بل أراد به أن يشكّل رافدًا إضافيًا لمداركه العلمية، فاتّجه تفكيره للعمل على الكتاب تأليفًا وتحقيقًا، وبالنظر إلى حاجة طلاب العلوم
52
36
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الدينية، وبحثًا في نواقص مكتبة يحتاج إليها طلاب تلك العلوم. وكان "التبيان" في تفسير القرآن سيد تلك الكتب التي حقّقها، فهو أكبرها، وقد أخذ حيزًا واسعًا من حياة الأب وأولاده لسنوات طوال، كان خلالها حاضرًا وبقوّة في رسم خطوط تلك المرحلة التأسيسيّة.
انقضى الصيف وعاد الشيخ أحمد بعائلته الصغيرة إلى النجف. لتبدأ مرحلة جديدة لطفولة يزدحم فيها الفعل والأثر.
تقول شقيقته نور الهدى عن تلك المرحلة: "ما كنا نلعب كثيرًا، ظروف البيئة لم تكن تسمح، فاللعب في الشارع ممنوع والبيوت صغيرة، حتى اللعب في أرض الدار أو على سطح المنزل كان نادرًا، فالوالد لا يحبّذ اللهو، بل أراد لنا أن نستثمر الوقت في التعلم، لتكون ساعات الظهر في السرداب هي مدرستنا البكر".
والسرداب سمة من سمات النجف، وضرورة حياة، هو غرفة تحت الأرض تتّصف بالبرودة، ملجأ من غارات الصيف اللاهب، ويذكر الشيخ أحمد ضاحكًا أن السيد شرف الدين قال له: إنك لن تكون طالب علوم دينية ما لم تنم في السرداب بعد الظهر وتأكل الرقي (البطيخ) وتشرب الشاي. والشيخ أحمد الذي كان يسعى طوال حياته للارتفاع عن العاديّة، أراد ذلك لأولاده أيضًا، وكما كان يكره الخطأ والضعف، كره ذلك لأولاده.
تقول نور هدى: "كان الوالد حادّ الطبع بشكل عام، كان يسامح على الخطأ الأول، لكنه كان يعاقب على تكراره، وعلى الكذب، فالكذب كان من الكبائر التي لا يتسامح فيها، وعليه كان أكبر العقاب".
53
37
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
أمّا الأم فهي مساحة الظل الوارف، برودة الصيف هي، ودفء الشتاء، صمام الأمان أم مصطفى، وعلى يديها يعتدل ميزان الدنيا، وبها تكمل الدورة نواقصها الحميمة، صغارها هم كل ما لديها في صحراء هذه الغربة، ولمصطفى العناية الخائفة المشبعة بالحنان الفائض. معها وحدها كان مصطفى الصغير حرًا، طليق اللسان والحركة. إن أراد شيئاً طلبه منها، وإن اشتكى فإليها وحدها شكواه.
تقول أم مصطفى: "حين يأتي أبوه من العمل يصبح مصطفى طفلاً آخر. وتضيف ضاحكة: بل يصبح رجلاً وقورًا وهو بعد في سنواته الأولى".
في تلك الفترة كان الشيخ أحمد قد بدأ ما عزم عليه من إضافة في خطّ عمله، وشرع في تحقيق كتاب "التبيان" في تفسير القرآن للشيخ الطوسي، وباشر بطباعته جزءاً بعد جزء، وكان هذا الكتاب حاضرًا في الكثير من الذكريات، وقال فيه الشيخ مصطفى لابن عمه: "لو شئت أن أكتب عن التبيان لكتبت عن نصف طفولتي".
تقول نور الهدى: "كان عمري ست سنوات، ومصطفى في الثالثة تقريبًا حين كان الوالد يرسلنا إلى مطبعة النعمان، الكائنة في ساحة الميدان، لتسليم الملزمة المصحّحة، وتسلّم ملزمة جديدة لتصحيحها من الأخطاء المطبعية".
والملزمة قطعة ورق كبيرة، يتم طيها بطريقة محددة، وبعد قطع أطرافها تصبح ثماني أوراق لستّ عشرة صفحة، لتؤلف الملازم فيما بعد كتابًا كاملاً. تحمل هدى في يدها تلك الملزمة التي تم تصحيحها، وتمسك في اليد الأخرى يد شقيقها الصغير بكثير من الحرص.
54
38
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تقول نور الهدى: "كان ولدًا هادئاً بطبعه، ولكنه كان يحب الاستطلاع، وكنت أخاف من انشغاله بما يراه فيتوه عنّي".
يـــــده الصغيرة ســـــاكنة منسية في يد شقيقته الكبرى، وعينـــــاه مفتوحتان على دهشة، تلتقطان صورًا لذلك البناء الكبير الذي لا يشبه المنازل، وبكرات الورق العملاقة أكبر من فراش نومه، حركة العمال وصخب الماكينات، كأن المكان كوكب آخر غير الأرض، وإن هو توقّف لمزيد من التحديق والدهشة، سحبته يد شقيقته العجول. تتوقّف شقيقته وهي تسلّم الملزمة وتنتظر الأخرى، وعينا مصطفى تواصلان الدهشة بلا توقف أو انتظار.
أمامه على الجدار مساحة من خشب صقيل، مقطّعة إلى صناديق صغيرة بلا أبواب، في كل صندوق مجموعة أحرف من حديد، ويد كبيرة لرجل تجمعها بسرعة عجيبة، تصطفّ إلى مثيلاتها في اليد الأخرى لتصنع كلمة، ثم جملة ففقرة، حتى إذا تمّت صفحة أخذت رقمًا، تلك صفحة كاملة يا مصطفى، ستّ عشرة منها وتكون الملزمة، تجتمع الملازم محاطة بغلاف واسم، ذلك هو الكتاب، وكذلك العمر يا مصطفى، بدقائقه التي تصطفّ ساعات فيَومًا، والأشهر صفحات، والسنين ملازم، ثم يطوى الكتاب، يحمل بعد ذلك باليمين أو بالشمال، هاؤُم اقرَءُوا كتابيَه... العمر كتاب يا مصطفى.
وهنا يكتب القدر كلماته الأولى أن لا انفكاك، بين مصطفى والكتاب حكاية تطول، إن كان في شكل الكتاب وهندامه، أو في مضمونه ومحتواه، ليكون الكتاب في مركز عمره الجاد، كقطب الرحى تدور حوله التفاصيل.
55
39
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
في السرداب درس يومي لنور الهدى ومصطفى في الليالي أو كلّما سنحت فرصة. تقول نور الهدى: "لم يكن مصطفى قد تجاوز الثالثة من العمر حين كان الوالد يعلّمنا في كتاب اسمه: الحرفيّة لتعليم الحروف الأبجدية، ويقصّ علينا قصصاً من القرآن الكريم، تعلّمنا القراءة وأعمارنا صغيرة جدًا".
أصبح للشيخ ثلاثة أطفال، غير مريم التي ماتت في أشهرها الأولى، أنجبت زوجته طفلة أسماها فاطمة. وكان الشيخ أحمد خلال تلك السنوات، يتردّد إلى لبنان في سفرات قصيرة منفردًا لمتابعة الكتب، وللتواصل مع أهل بلدته الذين زاد اعتمادهم عليه مع الوقت. وفي السنة الرابعة أصاب الأم عارض صحّيّ، جعل التنفس يتردّد في صدرها ضيّقًا حرجًا، وماء في الرئتين، لم يسعفها العلاج، وحين ساءت حالتها نصحها الأطباء بالراحة والاستجمام، والجو في لبنان أقدر على شفائها من جو النجف الصحراويّ.
سافر الشيخ بعائلته إلى لبنان، أسكنها في منزل لشقيقته كان شاغرًا، وفي قلب مصطفى مكان شاغر، تركه عامدًا لمثل تلك الرحلة، فعلى جدران ذاكرته صور استبقاها من رحلته السابقة، صور لنبعة الفوّار بأشجارها وعصافيرها، بأنس ناسه من جدة وأقارب، صور ظل يمسح عنها الغبار طوال سكنه في النجف، يستعيدها كلما ضاق به المكان ليتّسع باستعادتها خيالاً، سعيد بخروجها إلى الواقع مرة أخرى، وفي دار شقيقة الوالد متّسع للفرح، لانعتاق طفولة تمتهن الأسئلة وتجيد التحديق، في فناء واسع تسكنه أشجار وارفة الظل، ترتادها عصافير يزداد صخبها أول الصبح، تضج وهي
56
40
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تناديه أن اترك فراشك يا مصطفى، في أرض الدار زهور اغتسلت بندى الفجر من أجلك، وفراشات ترتشف الندى والرحيق.
انظري يــــــا فاطمة، هناك على الوردة الحمـــــــراء فراشة، ويقف مصطفــــــــــى ذاهــــــــــلاً أمــــــــــام تزاحم الألوان على أجنحتهـــــــــــا، وفاطمـــــــــــة تدور خلف جذع شـــــــجرة الحــــــور، يتــــرك مصطفى جناح فراشته ويركض خلف فاطمة، هذه الطفلة المرتبكـــــــة الخطـــــــــوات ماذا يحدث إن وقعت؟ لاهتمـــــام مصطفى بفاطمة دافعــــــــان: دافع من حب، وآخر يدفع به عن درب الأم بعض التعب، يبحث لفاطمــــــة عن ضحكة خلف الحجر، أو يختبئ خلف جذع عتيـــــــق، وتضحك فاطمة التي تصغــــــره بعامين. وكما تقـــــــول الأم: بضحكـــــــة مصطفى الصغير واهتمامه، يزول التعب. انظري.. ويحمل فاطمة، هذا عصفور بين أوراق الشجر، هذا العصفور لا يبرح مكانه، وإن هو غادر يعود سريعًا، هذا يعني أن له عشاً على مقربة، هذا ما كان يقوله العم إبراهيم، يحمل مصطفى فاطمة على ظهره ويجوب بها أرض الدار، أرض الدار واســـــــعة كقلــــب مصطفــــــى، والبيت جميل ومريح.
تقول أم مصطفى: "من حسن الحظّ أن منزل شقيقة الشيخ كان فارغًا، فهو في منطقة عالية، تسمى "ظهر الهوا"، لأن الهواء يسرح فيها، منزل واسع، حدائق وشجر، وهواء طيب ساعدني على الشفاء، شعرت أنا والصغار براحة فيه، عام كامل، والأقارب حولنا لم نشعر بالوحدة، وكان الشيخ يتردد بين فترة وأخرى، يقيم أيامًا وأسابيع معنا، ثم يعود إلى النجف".
57
41
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
كــــــان الشــــيخ يتابع شــــــؤون أهل قريتــــه، يطّلــــع علــــــى حاجـــاتهـــــم ويساعدهم ما استطاع في كل زيارة، بنى لهم جامعًا صغيرًا بمساعدة الأغنياء منهم، وبقي المستضعفون منهم على عهدهم به، قويًا صلبًا، ومهابًا، يطرقون بابه كلما اعترضهم عارض، أو ألمّ بهم مصاب. طُرق الباب مرة، ذهب مصطفى الذي لم يبلغ عامه الخامس بعد ليرى من على الباب، تقول أم مصطفى: "وقف مصطفى أمام أبيه عابس الوجه وقال: إن في الباب زعرانًا يطلبونك".
وقف الأب ذاهلاً أمام طفله، ونهرته الأم قائلة: عيب يا مصطفى، لكن الصغير أصرّ على رأيه قائلاً: ولكنهم أشرار يا أمي، قال الأب وسط ذهوله: دعيه وشأنه، إنه على حق.. ولكن كيف عرفهم؟.. يا سبحان الله! تقول أم مصطفى: "هندامهم الأنيق لا يوحي بأنهم أشرار، ولا أشكالهم التي بدت وقورة، قال لي الشيخ: إنّ لابنك قوّة ملاحظة عجيبة. وحدّثني أن الناس اشتكوا إليه منهم، فأرسل في طلبهم. كان الشيخ يهزّ رأسه وهو يردّد: سبحان الله!".
كان صيفًا حلوًا، حافلاً، لكنه عجول، غادر في طائرة من ورق ضاعت في غيوم الخريف، واختفت آثار أقدام الصيف تحت ورق الشجر المتساقط في فناء الدار. لكن قلب مصطفى ترك الباب مفتوحًا على فرحة كبرى، قرار البقاء في القرية هذا العام شرّع الأبواب على مساحات فرح جديدة، وأجمل تلك الأبواب وأوسعها هو الدخول إلى المدرسة، صفوف الروضة لم تكن تحمل جدوى تعليميّة بالنسبة إلى مصطفى، فهو يعرف كل ما يقوله المعلم وأكثر، لكن جو الروضة المشبع باللعب أسعده، ومعها الأناشيد التي
58
42
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
يحفظها مصطفى من أول مرة، ويرددها في أرجاء المنزل، ذلك كله جعل العالم أكثر بهجة واتساعًا، أفرد للمدرسة هناك حيزًا حميمًا من ذاكرته، ظل يذكره بتفاصيله الدقيقة، بكل أناشيده، بحجم الحجارة وألوان الثياب، بالبناء الذي أقام في الذاكرة كمعلَم من معالم فرحها البكر.
في أوراقه كتب التالي: "وقد تعلّمت سنة واحدة في مدرسة القرية دير قانون النهر في الصف التمهيدي عند الأستاذ حسين عز الدين.
هذه المدرسة كانت مكوّنة من غرفتين فقط وبينهما موزّع، كان الأستاذ حسين عز الدين هو الأستاذ الوحيد، بل الشخص الوحيد الذي تقوم عليه المدرسة بكل تفاصيلها. فهو يعلّم قبل الظهر وبعد الظهر، وفي فترة قبل الظهر يجمع صفين في غرفة واحدة، ويتناوب المعلم على الصفين على يمين الغرفة ويسارها. وكذلك في مرحلة بعد الظهر حيث يجمع الصف الثاني والثالث. وهذه المدرسة على صغرها كانت تستوعب تلامذة البلدة وتلامذة يأتون من قرى أخرى كالحلّوسية وغيرها.
انتهى العام الدراسي وسافرنا مجدّدًا إلى العراق حيث كان الوالد هناك ينتظرنا".
59
43
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
محمّلين عادوا إلى النجف، يسلكون الطريق البرّية الطويلة، فلتبطئ السيارة ما شاء لها الإبطاء، ستقطع الصحراء والمدن المتعاقبة وستصل إلى النجف، لقد قضى الصغار عامًا ليس كسائر الأعوام، عادوا محملين بحمل كبير: ثياب تقيهم البرد والحر، وهدايا. ففي لبنان يتوفّر ما هو شحيح في النجف، حتى المؤونة لأشهر طويلة من زيت وزيتون وزعتر، وكل ما هو صعب المنال في النجف أو مفقود، حمولة كثيرة، متنوّعة وغنيّة، ليس على سقف السيارة وصندوقها فحسب، هناك ما هو أكثر منها في الصدر الصغير، مؤونة من ضحكات وفرح عامر، واكتشاف جعل الدنيا أكثر اتّساعًا، وعلى صفحات الذهن علقت صور جديدة، ظلّت حميمة شديدة الوضوح إلى آخر الأزمنة. عام زيّن محطّة الطفولة وأضاف إليها ألوانًا ساحرة.
والمدرسة التي بدأها مصطفى الصغير في لبنان، كانت الخطوة الأولى إلى عالم جديد تابع في النجف دخوله.
في النجف الأشرف، كان قد أسّس الشــــيخ "محمد رضا المظفّر" جمعية منتدى النشر، وأحد أهم إنجازات تلك الجمعيّة، انشاء كليّة الفقه، يدرس فيها الفقه وما ارتبط به من علوم بأسلوب أكاديميّ عصريّ، مرخّص من الجهات المختصّة، وكان قد انتسب إليها الشيخ أحمد بلا تردّد، ليعزّز تحصيله العلميّ بشهادة أكاديميّة.
وكان مبنى الكلية المؤلَّف من عدة طوابق ملاصقًا لسور المقام، وبما أن دوام الكلية كان صباحيًّا وينتهي قبيل صلاة الظهر،
60
44
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
استثمر المكان لإنشاء مدرسة للصفوف الابتدائية بعد صلاة الظهر، وللثانوية بعد صلاة المغرب، وبذلك غطى هذا المبنى حاجة ملحة لطلاب العلوم الدينيّة ولأبنائهم.
يقول الشيخ مصطفى في أوراقه تحت عنوان المدرسة الأولى: "في النجف الأشرف ذهب بي الوالد للتسجيل في مدرسة "منتدى النشر" التابعة لجمعية منتدى النشر التي أسّسها الشيخ محمد رضا المظفر، وكانت قد نشأت علاقة وثيقة بين سماحة الشيخ والوالد (رحمهما الله)".
سار إلى جانب أبيه باتّجاه مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحاول التوسيع من خطواته ما استطاع، حتى إذا وصلا إلى باب القبلة، سارا في محاذاته، أمام المحلات التجاريّة التي اصطفّت متلاصقة لتصنع بنفسها سورًا يحيط بكل المقام، ليس بينها وبين إيوانات الصحن الشريف وغرفه سوى جدار، يسير مصطفى محاولاً مجاراة خطوات الأب الواسعة، تشغل ذهنه عشرات الأسئلة عن المدرسة: كيف هو أستاذها؟ هل يشبه الأستاذ عز الدين؟ والطلاب؟ والبناء؟ و.. وهل سيقبل هناك؟ أم أن هناك ازدحامًا كازدحام هذا السوق؟ تشغله لثوانٍ واجهة المحلات وما يعرض فيها، لكن الأسئلة تعود لجوجة مرة أخرى، ثم يتوقف الوالد أمام بوّابة كبيرة من حديد بين محلين يزحمانها المكان، ثم درجات كثيرة العدد، وبعد جهد يتوقف الأب، يلتقط مصطفى أنفاسه، وينظر إلى ما فوق رأسه، ليرى أباه يتحدّث إلى رجل لا يشبه الأستاذ عز الدين..
كتب الشيخ مصطفى في أوراقه: "في المدرسة استقبلنا المدير، وأصرّ على أني يجب أن أدخل الصف الأول، إلا أن الوالد حدّثه
61
45
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عن معرفتي بالقراءة والكتابة.. فأجرى لي اختبارًا فوريًا كان مفاجئاً للمدير، حيث اكتشف معرفتي بقواعد إملائية لا يتعلمها تلامذة الصف الأول وحتى الثاني، مثل التمييز بين التاء المربوطة والمفتوحة فضلاً عن حسن الخط. وهكذا كان فدخلت المدرسة إلى الصف الثاني مباشرة".
لم يشعر مصطفى بأي ارتباك، كانت الأسئلة ساذجة بالنسبة إليه، وتعمّد مصطفى أن يستبق الأسئلة. قال لأبيه وهو يعود به إلى المنزل: هل يظنّني ولدًا صغيرًا؟!
وبعد ذلك بأيام دخل المدرسة بمفرده، كان البناء واسعًا ومهيبًا، لا يشــــبه أبدًا مدرســــة دير قانــــون، لا بد أن أحدهما ليس مدرســــــة، فالفرق واسع، وكذلك الساحة في الوسط. وحين نظر إلى الأعلى شاهد طوابق أخرى، لم يرها حين جاء مع أبيه، كل طابق محاط بشرفة تلتفّ على كل المحيط، ولكل شرفة سور من حديد يقف بالقرب منه طلاب كبار، وخلفه أبواب لصفوف عديدة. خفق قلبه من الرهبة، ثم ما لبث أن استعاد ثقته بنفسه، أن لا مبرر للخوف يا مصطفى، وما أسرع أن تجد لنفسك متّسعًا في المكان ومتّسعًا في قلوب الأساتذة.
يقول في أوراقه: "كانت المدرسة تعتمد نشاطاً يوميًا قبل دخول التلامذة إلى الصفوف حيث يقرأ أحد التلامذة آيات من القرآن الكريم في أثناء وقوف التلامذة في الطابور، ثم يطلب من أحد التلامذة أن يســــــــتظهر ما يحفظ من قصيــدة شعريّة لتعويدهـــــــم الجرأة والخطابة، وكان التلامذة يمتنعون عن ذلك، فرغبت في
62
46
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
أن أخرج لإلقاء قصيدة أحفظها لصفي الدين الحلي، وهي قصيدة حماسيّة فيها الأبيات التالية:
سلي الرماح العوالي عن معالينــــــا
واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا
بيض صـــنائعنا ســود وقائعنــــــــــــــا
خضــر مرابعنـا حمـــر مواضـينا
حتى آخر الأبيات...
وعندما عدت إلى مكاني أرسل المدير في طلبي، ومنحني جائزة، وشجّعني كثيرًا".
وهكذا مضت الأيام الأولى، يثبّت فيها مصطفى مكانه العزيز واضحًا، دون أن يبذل جهدًا خاصّاً، ترك لحضوره العنان دون سعي عامد منه، فأحبه أساتذته لأكثر من سبب، واكتسب عددًا كبيرًا من الأصدقاء، بأدبه الجمّ وابتسامته وخلقه وذكائه. وعن هذه الأيام كتب في أوراقه بعض المواقف الطريفة، نقتطعها كما هي:
"كانت المدرسة بعد الظهر، وفي الأيام الأولى كان الطقس ما زال حارًّا، وينزل الناس إلى السراديب، تناولنا الغداء في السرداب، وشعرت بالنعاس فغفوت، ولم أستيقظ إلا ووقت المدرسة قد فات. في اليوم التالي، سألني الأستاذ عن سبب غيابي، فقلت له -ببساطة-: نسيت المجيء إلى المدرسة! فضحك كثيرًا لجوابي.
بعد مضي أقل من شهر على العام الدراسي، أرسل المدير في طلبي، وسألني عن رأيي في الذهاب إلى الصف الثالث أو البقاء في
63
47
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الصف الثاني، ففوجئت وتعجبت، وأجبته على الفور بأنني لا شك أريد الذهاب إلى الصف الثالث. وكان نهار الخميس فطلب مني الاستعداد لإجراء امتحان يوم السبت، فوافقت على ذلك، وهكذا كان وأخذت حقيبتي يوم السبت بعد الامتحان وذهبت إلى الصف الثالث، لكن كيف جرى الامتحان؟
الأستاذ الذي اختبرني هو السيد محمد تقي التبريزي الطباطبائي الذي صار له شأن لاحقًا. طلب مني القراءة والإملاء، وسألني أسئلة حسابية عن الجمع والطرح والضرب، ثم قال لي هل يمكن لك إجراء القسمة، فقلت له: إني لم أتعلمها ولكن أجرّب. فأعجب بذلك، وكان الوالد (رحمه الله) هو الذي علّمني الحساب في البيت، ولم أصل معه إلى القسمة. وكان المنهاج في العراق لا يعلم القسمة لتلامذة الصف الثاني، ولذلك تم تجاوز الموضوع وترفعت في الشهر الأول المدرسي".
وعن صلاة الجماعة في المدرسة كتب التالي: "مدرستي في النجف كانت الوحيدة على ما أعلم تقيم صلاة الجماعة للتلامذة، تقيمها في ملعب المدرسة الصغير، يفرش الملعب من قبل "الفرّاش" (حاجب المدرسة) يساعده التلامذة، يؤمّ الصلاة أحد التلامذة بتكليف من الإدارة، أحيانًا يكون معمّمًا ودون سن التكليف -على عادة البيوت العلميّة في النجف بتعميم أبنائهم في سنّ مبكرة- وإذا لم يكن هناك معمّم فأي تلميذ يتقن الصلاة. ويقف أحد التلامذة أمام المصلين يُكبّر (لعدم وجود مكرفون حتى ذلك الوقت). واتّفق أنه تمّ تكليفي مرات عدة بأن أتولّى هذه المهمة، آخرها يوم كنت أقف وأكبّر عند
64
48
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
القيام والجلوس، وكان الأستاذ الشهيد الشيخ عارف البصري (ولم يكن معممًا عندها) هو الأستاذ المراقب للصلاة. في آخر ركعة عندما رفع إمام الجماعة رأسه من السجدة الأخيرة، كبّرت وقلت: بحول الله بدلاً من الحمد لله، ثم استدركت ذلك عندما انتبهت إلى أنّ الإمام يتشهّد. فوجئت بصفعة من الأستاذ المرحوم على رقبتي، وعلى مرأى جميع التلامذة. فشعرت بأن كرامتي خدشت ولم أتحمّل الموقف، فأجهشت بالبكاء، وتركت صلاة الجماعة، ولم أكمل حتى التسليم، وذهبت إلى الصف.
في اليوم التالي، جلست في صفوف المصلّين، ولم أقف للتكبير. فجاء الأستاذ المناوب الآخر، وطلب مني القيام بالأمر فلم أقبل، وكلّف تلميذًا آخرًا فلم يُجِد عمله ولم يوفّق، وفي اليوم التالي، عادوا ليطلبوا مني القيام للتكبير، فكرّرت الاعتذار، فأصرّوا، فقلت: إني أهنت، وأنا غير مجبور لتعريض نفسي ثانية للإهانة، فجاء مدير المدرسة بنفسه ليسترضيني، فقلت له: أنت على رأسي، ولكن أنا تعرّضت لإهانة غير مبرَّرة أمام التلامذة، فيجب على الأستاذ ردّ كرامتي بالاعتذار أمام التلامذة، فجاء (رحمه الله) وأخذ برأسي وقبّلني واعتذر مني أمام التلامذة. وعدت إلى التكبير أمام تعجّب كل التلامذة مما حصل.
هذا الموقف ترك في نفسي أثرًا كبيرًا، بات هذا الأستاذ قدوة لي، وصرت أحبه حبًّا شديدًا، وبعد أن ترك المدرسة وذهب إلى الحوزة، التقيته في السنة التالية فقبّلت يده وأنا لا أعرف أنه سيصبح لاحقًا الشهيد السعيد الشــــيخ عارف البصـــري (رحمه الله)، ورفـــــاقه
65
49
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
من الباقة الأولى من شهداء الحوزة الذين أعدمهم النظام البعثيّ في العراق".
كانت المدرسة الابتدائية بابًا لعالم جديد، دخله مصطفى الصغير بثقة، بحضور واضح يستكشف جديده، عالم مختلف كل الاختلاف، تعدّدت فيه الشخصيّات واختلفت إلى حدّ التناقض، عدد كبير من الوجوه دونما صلة قربى، خيارات مفتوحة بعيدة عن الأهل. خطوات حرّة، وقرارات حاسمة مستقلّة، تؤخذ في ميدان الحركة ارتجالاً، عليه أن يتخذ خياراتها الصحيحة دون إبطاء. ســــار بثقة، قرّر واتخذ، واختار، بهدوء وتصميم أشعره بوجوده، مساحة كبيرة في هذه المدرسة للوجود المستقل، مساحة لا تتوفّر في سواها، فيها المنافسة التي تقارب العداوة، وفيها الصداقــة التي تقارب الأخوّة.
وهناك أيضًا تعلّم أن يكون قائدًا يُستشار، لكونه متفوّقًا يحسن حلّ الصعب، يساعد من هم في عمره لحل المشكلات، وتعلّم هناك أيضًا أن يكون أكبر من عمره، فهو في صفٍّ طلابه أكبر منه في السنّ والجسد، جاراهم بذهنه المنفتح، وبذل جهدًا ما كان ليبذله لو كان مع أترابه. وعن هذا قال لابن عمه:
"لأنني كنت في صف أكبر من عمري، جعلني هذا أبذل جهدًا لم أكن بحاجة إليه لو كنت مع من هم في سنّي، كنت أشعر بتعاطف يشبه الأبوّة للذين هم في سني، أساعدهم وأشرح لهم ما صعب عليهم. لهذا كنت تجدني كالمقسوم إلى قسمين".
66
50
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عقله كان هناك مع من هو أكبر منه، وقلبه هنا مع من هم في مثل سنّه، في عالم جديد وحركة مستمرّة في الصعود، عالم مفتوح على اتّساع، دخله مصطفى من خلال المدرسة. ويبقى المنزل عالم مصطفى الأول والمدرسة الأجدى والأكثر فعلاً وازدحامًا.
كتب في أوراقه: "مدرستي كانت في البيت، حيث كان والدي يعلّمني مع شقيقتي الكبرى القراءة والكتابة وقواعد الإملاء، وهذا نفعني كثيرًا عندما ذهبنا إلى المدرسة في الفترة الأولى، بل حتى نهاية المرحلة الابتدائية".
حين كانت تصل تلك الملازم المطبوعة طباعة أولية، يعكف الشيخ أحمد على تصحيح الأخطاء بمطابقتها على النصّ الأصلي، وما إن بدأ الصغيران بفكّ الأحرف حتى أشركهما في تلك المهمة، يتناوبان على القراءة في الأصل الصحيح، ويتولّى هو تصحيح الأخطاء الواردة في المطبوع، يستمع سعيدًا بما وصل إليه الصغار مبكرين، يشدّد على صحّة النطق في مخارج الحروف، تاركًا لهما خطأً يتيمًا في حرف واحد لم يقبل التصحيح رغم المحاولة، حيث أصرت الراء على الاقتراب من الغين حتى النهاية، ما أسرع أن تخطّى مصطفى حواجز اللغة الثقيلة.
حين كانت نور الهدى هي القارئة، كان مصطفى الصغير يأخذ الكتاب في صحراء النهار إلى معزل، يعالج بعناد ثقيل الكلمات، وما لبث أن قاطع قراءة هدى وقال: أنا سأقرأ، نظر إليه الأب بدهشة واضحة الفرح. سعيد بهذا التحدّي، أعطه الكتاب يا هدى، وقرأ مصطفى قراءة قليلة الخطأ، اتّكأ الأب وهو ينظر إلى صغيره بفخر
67
51
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
واعتزاز. ثم يتابع مع الوقت ضبط قراءة صغيريه، وتكرار الخطأ ممنوع، انتبه إلى حركة الحرف يا مصطفى هذا مرفوع وذاك منصوب، لا تقف على متحرّك يا مصطفى، العرب يقفون على ساكن.
وكتاب التبيان مزدحم بآيات القرآن، ومصطفى يحفظ عددًا من سوره، ويقرأ فيه، تقول هدى: "ختم مصطفى القرآن قبل السابعة من عمره".
في عمر مبكر، وقبل أن يتعلّم قواعد النحو، أصبحت القراءة الصحيحة ملكة تدركها مسامعه، وتصطدم بالخطأ عند سماعه فتستفز، كمن يغصّ بلقمة في طعامه.
ويتابع مصطفى الصغير مع شقيقته تصحيح كتاب التبيان مع الوالد. لم يكن التبيان كتابًا للقراءة والتصحيح فحسب، كان بستانًا لمصطفى، غنيًّا من غنى القرآن، زاخرًا بالعلوم: قصص وتأريخ وأحكام، مواعظ وعبر شتى، ومصطفى كثير الأسئلة والأب يستجيب.
وهناك عالم ثالث، عالم آخر بمثل اتّساع عالم المدرسة، دخله مصطفى باكرًا، عالم واسع مزدحم بالجديد المختلف، عالم لا يشبه عالم المنزل الذي يتّسم بالحميميّة والعاطفة، ولا يشبه عالم المدرسة الذي يتّسم بالتنافس والحضور المستقل، هذا العالم المختلف هو عالم الرجال، عالم البيع والتجارة والعمل.
دوام المدرسة كان بعد الظهر، لكن مصطفى كان يحمل حقيبته في الصباح الباكر، ويذهب مع والده إلى المكتبة، تلك المكتبة التي
68
52
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
افتتحها الشيخ أحمد، ليكمل بها ما بدأه من إضافة يرفد بها خياره العلميّ، من تحقيق كتاب التبيان، إلى تأليف كتاب متن الآجرومية في النحو، فبعد العمل على الكتاب تأليفًا وتحقيقًا وطباعة، وليتكامل هذا الجهد اتجه إلى بيع الكتب، فتح هو وصديقه السيد أحمد شوقي الأمين مكتبة لبيع الكتب تعتمد بشكل أساسي على بيع الكتب الدينية، ولا سيما ما يحتاج إليه طلاب الحوزة في ذلك الوقت، أطلق عليها اسم "مكتبة الأمين".
في البداية كانت مكتبة صغيرة في سوق "العمارة"، ثم انتقلت إلى مكان يقابل الحضرة المقدّسة. هناك على مرتفع من الأرض حيث تربعت "قيصرية علي آغا" وامتدت حتى مسجد الهندي جنوبًا، كسوق خاصّة بالكتاب، كل شيء عن الكتاب، حتى المستعمل منه تجد هناك من يشتريه ومن يبيعه، ولمن يريد ترميم كتاب عزيز أساء إليه الاستعمال المتكرّر، أو أراد حمايته بالتقوية والتمتين، ففي القيصرية محال للتجليد تقوم بهذه المهمة. كل ما يتعلّق بالكتاب تجده في قيصرية علي آغا، ولا تجد فيها سواه، كما لا تجد الكتاب في سواها.
كأنه اتفاق وعقد غير مكتوب تم في ذلك الزمن بين الكتاب والقيصرية بطريقة مجهولة، عبثًا تبحث عن كتاب في النجف في غير هذا المكان، فإنك لو سألت عنه في سواها لنظر الناس إليك باستغراب وقالوا: ألا تعرف القيصريّة؟! وسيعرفون من سؤالك أنك غريب عن الديار.
مكان له هيبته، يفاخر بمحتواه ورواده، تتكدّس كما الكتب
69
53
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
محال صغيرة متلاصقة تصطفّ على الجانبين، تربطها دروب ضيّقة مسقوفة، يجوبها رجال مثقفون، وعمائم سود وبيض، وطرابيش حمر يرتديها رجال هم أقرب لعلماء الدين من سواهم، يتميّز السادة منهم برباط أخضر وللعامة رباط أبيض، يجوبون دروبها الضيّقة أو يقفون أمام محالها التي ترتفع عن الدرب بمقدار نصف القامة، يقف الشاري ليطلب أو يسأل، والبائع وهو في قلب مكتبته المفروشة بالسجاد يناوله الكتاب أو يستمع إليه، وإذا كان صديقًا وأراد الجلوس صعد إليها، نزع حذاءه وجلس مع صاحبها على الأرض المفروشة بالسجاد، وطلب له صاحب المكتبة كوبًا من الشاي، أو شرابًا يشبه الشاي، مصنوع من نقيع الحامض المجفّف.
ومصطفى الصغير يسارع الخطى في الصباح الباكر ليجاري خطوات أبيه الواسعة، حتى إذا وصل إلى مدخل "القيصرية" توقف أمام الدرجات الحجرية، وقبل الدخول تحت قوس القيصرية يلتقط أنفاسه، لا بأس لقد وصلنا، على اليسار هناك مقهى يبيع الشاي والحامض، يعرف مصطفى العاملين فيه، هذا أبو محمد، الرجل الكبير، وعقاله الذي يلتف على رأسه أبيض مرقّط بالأسود، يتجانس كقطعة واحدة مع شعره الذي غزاه الشيب، يعيد طرف عقاله إلى رأسه بين الحين والآخر، فغالبًا ما يعاود السقوط بسبب الحركة، ثم يرفع الإبريق الذي اسودّت قاعدته ليحرّك الجمر تحته. صبّحكم الله بالخير، أهلاً مصطفى، كل العاملين في المقهى يعرفون مصطفى الصغير المؤدّب جدًا وابتسامته الخجولة، يعيد مصطفى احتضان حقيبته، ولا ينسى قبل ارتقاء الدرجات أن ينظر
70
54
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
إلى يمينه، دكان الخطّاط "سبتي" ما زال مقفلاً، يصعد الدرجات راكضًا، لقد سبقه أبوه، خطوات في الدرب المسقوف الذي يتفرّع لدروب قصيرة أخرى، ومن بين صف المكتبات التي فتح بعضها، وأخرى مغلقة تنتظر أصحابها.
السلام عليكم، جارهم يكنس أرض مكتبته، صبّحك الله بالخير، ويصل مصطفى، يضع الحقيبة ويساعد في فتح المكتبة، يرتفع الجرار حتى يصطدم باللوحة الخشبية، تهدأ عيناه عليها لحظات، مكتبة الأمين.. لصاحبها.. هذا الانسياب الساحر للأحرف، امتدادها والالتفاف، يستشعر القلب الصغير جمالها، خطّك جميل يا مصطفى، مديح لطالما سمعه من أساتذته وأصدقاء أبيه، ينظر مجددًا، في زاوية منتقاة تحت اسم المكتبة توقيع الخطاط جواد سبتي.
من يستطيع منع الأحلام أن تجوب في الذهن الصغير حرة كما فراشات "ظهر الهوا"، حين أكبر سأصبح خطّاطاً كجواد سبتي، كلما سنحت له الفرصة توقّف أمام دكان ذلك الخطّاط على مدخل القيصرية، حركة الريشة الملونة بالأصباغ تشبه العمل الخارق، كساحر يصنع على الأرض الخشبيّة الجرداء بستانَ جمالٍ، سبتي ذو الوجه الأحمر والحواجب الشقر، اعتاد رؤية هذا الصغير يقف مسحورًا يتابع بدهشة حركة الريشة، سأصبح خطّاطاً حين أكبر. أنواع الخطوط، الريشة والقصب، والكثير الكثير من التمرين، والمزيد من الوقت، والوقت يا مصطفى، هذا الطائر الذي لا يتوقف، هو داؤك ودواؤك على مر السنين.
71
55
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
ينظّف المكتبة، يساعد في ترتيب الكتب، يعرف أسماء الكتب، ويعرف أسعار أغلبها والكتب الأكثر مبيعًا، وإن تسنّى له الوقت أنجز فروضه، أو راجع دروسه. مصطفى.. اذهب سريعًا إلى مكتبة فلان واجلب نسختين من هذا الكتاب، يركض مصطفى وفي الطريق يكرّر كل ما هو مطلوب حفظه عن ظهر قلب من دروس المدرسة. يتابع الطلبات، ويسعده أن يكون في خدمة أصدقاء والده، وهم يجلسون مطولاً على سجاد المكتبة، شاي يا مصطفى.. أنا أريد حامض.. سكّر قليل، لا ينسى مصطفى: أنت تشربه خفيفًا أليس كذلك؟ ويركض مصطفى باتجاه المقهى.
النهار قصير مملوء حتى ثمالته، مثل كاس الشاي القادمة من المقهى. سرعان ما تنفخ مكبرات الصوت من فوق مآذن الحضرة المقدّسة، وتبدأ بقراءة القرآن قبل الأذان، ذلك موعد مضروب، لم يتخلّف عنه ولا عن سواه يومًا بإرادته.
ينزل مصطفى، ينتعل الحذاء، ويأخذ الحقيبة التي أعدّها كاملة قبل هذا الوقت، ينزل الدرجات ويعبر الشارع، يخترق السوق بجسده الصغير بين الأجساد الكبيرة، يتوقّف أمام درجات المدرسة لحظات كأنما يستعد للخوض في عالمه الثاني المغاير، يُلبس روحه لباسًا مختلفًا، مصطفى آخر، مصطفى في العمل له شأن غير شأن مصطفى طالب المدرسة، يغوص في حضوره الشخصيّ في عالم إثبات الذات، ويبقى هناك تتناوب عليه الحصص، وجديد طلابها والأساتذة، حتى ينكسر ضوء الشمس، وينعكس اصفراره على زجاج نوافذ الصف، تخالطه حمرة تعلن أن النهار قد حلّ به التعب
72
56
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
ويريد الانصراف، وتنعكس ابتسامة مصطفى على ذاك الزجاج مع انسحاب اللون.
الوقت حان للعودة إلى العالم الأول، العالم الأصيل، العالم الحميم، إلى الأم والمنزل، حيث تعود الروح صافية خالصة، تنزع عنها تعب النهار، وضجيج العالمين السابقين، محطة الراحة صدر الأم ومرآها، مشهد الأم تمدّ ذراعها، تسبقها بسمتها التي تشرق في غياب الشمس، مشهد يجعل مصطفى يسارع للدخول، تسبق مشاعره قدميه، ماذا يحدث لو لم يكن هذا العالم الدافئ الحميم موجودًا، أم وإخوة، ودار للأمان، كمن يدخل إلى داخل نفسه. يفتح أبواب القلب على وسعها مصطفى لهذا الدخول، لشقيقته الكبرى، لإخوته الصغار، وللأم أوسع الأبواب. تقول الأم عن تلك السنين: "كنت إذا سألته عن أحواله أجابني بالسؤال عن حالي...". يتسابق الصغار إلى الباب هاتفين: عاد مصطفى.. عاد مصطفى. نعم عاد.. عاد إليكم وعاد إلى نفسه، مصطفى المحبّ الهادئ جدًا كما تقول أمه، وتختصر الأم وهي تتحدث عن طفولته بالجملة التالية: "مصطفى الشديد الاهتمام".
يتنقل مصطفى بين عوالمه الثلاث، أمام باب طفولته يقف، دون الولوج إلى قلبها النابض، لكنه كان يراها، بكل وضوح الطفولة وصفائها كان يراها، بالتفاصيل الدقيقة، بكل قلبه الصغير يتفاعل، يبكي ويضحك، يسأل ويستكشف، ويرى أترابه يعبثون في دروبها، يجوبون ساحاتها المفتوحة للسماء، وقد أداروا ظهورهم لعالم الكبار عامدين، يتحيّنون الفرص لممارسة حقّهم في اللهو
73
57
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
والشــــغب، ومصطفى على الباب يســـــمع ويرى، من عالـــــم الكبــــار يسمع طفولته ويراهـــــا، لم يدخل، من منع مصطفـــى الصغيـــــر من الدخول! من منعه من ممارسة حقه في اللعب واللهو واقتراف الخطأ المشروع؟ لم الوقوف على الباب يا مصطفى، وكل أترابك قد دخلوا؟! أهي الظروف، أم على الباب حراس من عالم الكبار؟ ليس هذا ولا ذاك، فكثير من أترابك حالهم كحالك، لم يمنعهم فقر ولا ضيق، وجدوا متّسعًا، وغافلوا الظرف والحراس، وفي الطفولة دهاء ليس ينقصك، ما ومن؟ ما الذي منعك؟ ومن منعك؟ أو كأن باب الطفولة كان أصغر منك.
كثيرًا ما كان يمرّ على أترابه وهو في طريقه يراهم يلعبون، يركضون خلف كرة يدفعونها بأقدامهم الصغيرة ويتصايحون، أو يقذفون بأناملهم كراتهم الزجاجيّة لتسقط في حفرة أعدوها هدفًا، أو تصدم كرتهم الزجاجية كرة غيرهم فيفوزون بها، أو يضربون خشبة صغيرة بعصاً لتطير في الهواء مسافة، حتى إذا استقرّت يتمّ العد بتلك العصا لاحتساب المسافة. وألعاب أخرى عديدة يعرفها مصطفى تمام المعرفة، ويعرف أنه لو شاء المشاركة لتفوّق فيها جميعًا، يفرح لفرحهم لكنه يتابع طريقه غير آسف، ولا أثر للأسى في ملامحه. كيف تعلّمت يا مصطفى احتساب الأولويّات قبل سنّ العاشرة؟ ولم نجد غير صمتك جوابًا.
في ذلك الوقت، كانت مكتبة الأمين قد أصبحت ملتقى اللبنانيين من طلاب العلوم الدينية، ومركز تواصلهم وبريدهم القادم إليهم من الوطن، على صغرها كانت مساحتهم الواسعة: من سافر ومن
74
58
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عاد؟ وأين يسكن فلان؟ اسأل في مكتبة الأمين، وإن كنت تريد أن تضرب موعدًا سهلاً فقل: أراك في مكتبة الأمين في ساعة كذا، فإن تأخرت قليلاً فلا بأس على ضيفك، سيجد ما يؤنسه، ومن يهتم به، وإن أردت أن ترتاح قليلاً فهناك متسع في المكان وفي القلوب، لتسلّم الأمانات وتسليمها مكتبة الأمين، ومصطفى الصغير ركن أركانها، الأكثر عملاً وخدمة، ومن لا يعرف مصطفى من الطلاب، يقرأ عناوين الرسائل ويعرف الأسماء، وما إن يطل صاحبها وقبل السؤال يضعها في كفّه بصمت وابتسام، أو يقول لطالب آخر: إن فلانًا سأل عنك اليوم. قد يراه في السوق فيركض خلفه ليقول: إن لك أمانة في المكتبة. ومصطفى في أغلب الوقت يقف أمام المكتبة لضيق المكان، يستمع لحوار عصيّ على الفهم يدور بين جلسائها في الفقه والأصول، ثم.. اثنان شاي وواحد حامض يا مصطفى. وحين يطلب الشاري كتابًا غير موجود يعرف مصطفى في أي مكتبة يكون، دقائق ويعود مصطفى، سريعًا يسلّمه كتابه وهو يحاول التقاط أنفاسه، وبعد أن ينتهي الزبائن وأصدقاء الأب من تقليب الكتب وصناعة الفوضى، تعود المكتبة نظيفة وكل شيء إلى مكانه بسرعة وإتقان على يد هذا الساحر الصغير، ثم تصدح مآذن الروضة الشريفة بالقرآن، لقد حان موعد ذهابه وأخيه عبد الله إلى المدرسة.
75
59
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
سرعان ما أصبح عمر شقيقه عبد الله يسمح بدخول المدرسة، يصلح له هندامه، ويتأكّد من لفائف الخبز والماء، حتى إذا استقرّت الحقيبة على الظهر أخذ بيد شقيقه إلى المدرسة، يبطئ الخطى إكرامًا لهذا الصغير الذي يريد أن يكبر، وقلب مصطفى طافح بالودّ والعطف، يمر به في السوق، يفسح له بين الأجساد الكبيرة ليجعل مروره سهلاً، وعبد الله ممسّك بيد مصطفى كالقابض على طير الأمان.
يتحدّث شقيقه عبد الله: "أذكر تمامًا أيامي الأولى في المدرسة، وأكثر ما أذكره هو حرصه عليّ وشعوري بالأمان برفقته، يمسك بيدي وينظر إلى أقدامي، ونحن نصعد الدرجات يطالبني بالتمهل والانتباه، ابتسامته المشجّعة وكلمة "لا تخف"، كان لهما أثر السحر عندي، وأنا أدخل إلى هذا المكان الغريب الجديد، كنت أشعر كم كنت محظوظاً لوجوده إلى جانبي! وفي الأيام التي تلت زاد على ذلك شعور بالفخر والاعتزاز؛ إذ اكتشفت أن لأخي مكانة خاصة عند المعلّمين، وفي الإدارة، وعند العديد من الطلاب، وكثيرًا ما كنت أعرّف عن نفسي بقولي: "أنا أخو مصطفى"، فخورًا بالأثر الذي يتركه التعريف، يكفي أن أذكر أني شقيقه لأحظى بالمكانة اللائقة، وأذكر تمامًا كيف كان بعض الطلاب يستنكرون حصوله على العلامة القصوى في كل الموادّ. عند توزيع نتائج الفصل الأول توقّف بعض الطلاب قرب الباب، وما إن مرّ بالقرب منهم حتى هتفوا بصوت واحد: فزع.. فزع.. يتهمونه باعتماد الواسطة؛ أي أن قريبًا له ذو سلطة منحه تلك العلامات، لم يصدّقوا أن تفوّقه الكامل كان بجهد شخصيّ".
76
60
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الزمن طفولة تصعد درجات السنين، كما يصعد مصطفى الدرجات الحجريّة إلى "قيصريّة علي آغا" كل يوم في باكر الصباح. سنوات الابتدائية تشارف على الانتهاء، وكذلك السنوات العشر الأولى من عمر مصطفى، سنوات تميّزت بالضيق وعدم الاستقرار، لم تكن في العموم على خير ما يرام، أو لم تكن كما أراد لها الأب أن تكون، سنوات تميّزت بالتنقل بين المنازل المستأجرة. كبرت العائلة، موسى وإيمان بعد عبد الله وفاطمة، ثم عبد الرحمن، والحال تزداد ضيقًا رغم محاولات الشيخ أحمد لتحسين الفرص، لا المكتبة ولا العمل على الكتاب طباعةً وتحقيقًا، ولا الجهد الشخصي المبذول كان كافيًا لتخطي تلك الأزمات.
يقول الحاج عبد الله عن تلك الفترة: "كنّا نعاني من شظف العيش بشكل واضح، في المأكل والملبس وفي كثير من الأمور، يصل بنا ضيق العيش أحيانًا إلى حدّ الأزمة. أذكر مرة حين عاد أبي إلى المنزل لم يجد فيه طعامًا، طلبت منه والدتي أن يأتي ببعض الخبز لنأكل، فخرج من المنزل وتعلّقت به، كنت أرى حيرته وهو يبحث عمّن يستدين منه درهمًا؛ ليشتري لنا الخبز، كنا ندخل من شارع إلى شارع، ومن دهليز إلى آخر، عساه يصادف شخصاً يعرفه ليستدين منه ثمن الخبز، حتى وجد أحدهم واستدان منه درهمًا، وعدنا إلى البيت بالخبز الطازج".
في المقابل، إن دراسة الشيخ قد وصلت به إلى مقدار معقول، يؤهّله لممارسة دوره كرجل دين، كل هذا حدا بالشيخ لاتخاذ قرار العودة إلى لبنان في مهمة للتبليغ والإرشاد. وبدعم وبوكالة من المرجع السيد محسن الحكيم، شدّ الرحال، حمل عائلته واتجه إلى لبنان.
77
61
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عام ونصف، تنقل الشيخ بين بيروت والجنوب وأماكن أخرى في لبنان، ومصطفى الذي كان قد أنهى المرحلة الابتدائية في النجف، أضاع عامًا بسبب هذا التنقل، ثم التحق في الصف الأول المتوسط بمدرسة في بيروت.
يقول في أوراقه تحت عنوان مدرستي الثالثة: "جاء بنا الوالد (رحمه الله) إلى لبنان مرة أخرى عام 1964. واضطر إلى تسجيلي في المدرسة في بيروت وهي مدرسة برج حمود الأهلية التابعة لجمعية الشيخ رضا فرحات (رحمه الله). المدرسة مختلطة، وبجانبها مسجد وحسينية صغيرة، سكنت عند بيت خالي في الأيام الأولى، حتى قرّر الوالد تسجيل أخي عبد الله معي في المدرسة نفسها. وقد ساهم المرحوم الشيخ رضا فرحات بحلّ مشكلة السكن، فأعطاني غرفة صغيرة في المجمع فوق المسجد إلى جانب الحسينية. سكنت فيها مع أخي لعام دراسي كامل وحدنا".
مبنيان: الأول للجامع والحسينية، والثاني للمدرسة، شكّلا زاوية قائمة بينهما ساحة واسعة، هي للمدرسة ملعب، وللجامع موقف وباحة، وفوق تلك الزاوية القائمة أقام مصطفى، في غرفته التي أصبحت أنيقة بحضوره على الرغم من فقرها وضيقها، حذاؤه الصغير أمام الباب بالاتجاه الصحيح، وثيابه المدرسيّة وثياب النوم موضوعة بعناية، معلّقة أو مطويّة، في مكانها دومًا وبالترتيب نفسه.
فتى لم يبلغ الحلم بعد، عند احتساب الأشهر لم يكن قد تجاوز الحادية عشر، وحيد في بيئة كل ما فيها جديد ومختلف، بيئة لم يختبــــرها من قبل، بيئة مفتوحة على كل ما بالإمكــــــان، انفتاح
78
62
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
بيروت فــــي ذاك الزمان، وهو وحـــده بلا حســــيب أو رقيب أو مرشد أو معيـــن.
مدرسة متوسطة مختلطة، اختلطت فيها الأعراق والأجناس والأفكار كما الأعمار، طفولة الصف الأول كمصطفى، بالمراهقة الصعبة في الصفوف المتقدّمة، أبواب مشرّعة مفتوحة على مصاريعها، بلا حراس ولا موانع، شديدة الجذب كمغناطيس نجار، تسارع المسامير إليها بكل أنواعها والأشكال، الصدئ والجديد، المشوه والمستقيم، وأنت وحدك يا مصطفى بلا عازل أو حجاب، صحراء من الحريّة تمتدّ إلى الأفق بلا حدود، ودروب تفرّعت وتزيّنت جنباتها، الأبواب مشرّعة بلا حراس، عمّ ستبحث يا مصطفى، وماذا تريد؟
كتب في أوراقه: "هذا العام وبفضل السكن في هذه الغرفة تعوّدت الصلاة في المسجد في كل الأوقات بما فيها صلاة الصبح، وقد زرت المدرسة والمسجد والغرفة منذ سنوات عدة، وكان كل شيء ما زال كما هو ما عدا بعض التحسينات في المسجد. لي في هذه المدرسة ذكريات لا يسع المقام لاستعراضها بالكامل، وليس فيها كثير من العبر. وكيف أن ابن 12 عامًا حافظ على التزاماته مع أنه يقيم بمفرده، بعيدًا عن الأهل في وسط المدينة بكل ما فيها من مغريات ومفاتن، وما يدفع للانخراط في اللهو واللعب الذي بقيت بعيدًا عنه كل البعد".
باب واحد وجـــــد فيه مصطفى أنســــــــه وضالتـــــــه، باب الجامــــــــع ومحرابه، وإذا هو خلا من بعد صلاة الجماعة، خلا إليه مصطفى،
79
63
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
ووجد فيه أنسه، مع القرآن الذي ختمه مرات قبل التاسعة، بين الجامع الكبير وغرفته الصغيرة، بين الصلاة والفروض المدرسية، وبين قراءة القرآن والاعتناء بأخيه، كيف استطعت هذا يا مصطفى والزمن طفولة لا يزال؟ كيف يلتزم طفل طليق بصلاة الفجر جماعة؟
بعد أكثر من عام، لم يجد الشيخ أحمد ما يدفعه للبقاء في لبنان، فقرّر العودة بعائلته إلى النجف الأشرف. خفق قلب مصطفى، هذا الصغير الذي لم يبدِ اعتراضًا، ولم يشتكِ طوال المدة، كان أكثر من سعادة هذا الذي أبداه عند سماعه الخبر، كانت عصافير فرح في صندوق مقفل، فتحه حين أغلق باب غرفته للمرة الأخيرة، أغلق الباب على كل ما عاناه بلا شكوى، وأدار ظهره للغربة المبكرة.
جمع الشيخ أحمد عائلته وعاد بها إلى النجف، بعد أن رزق بمولود جديد أسماه زكريا، عاد إلى حيث كان، استأجر منزلاً من جديد، ووجد محلاً في قيصرية علي آغا مقابل محله القديم، وسرعان ما استعادت مكتبة الأمين مكانها، واستعادت حضورها الناشط من جديد، لكن مصطفى خسر بذلك عامًا دراسيًّا ثانيًا.
قال في أوراقه: "في نهاية العام الدراسي 1964-1965 عاد الوالد بالعائلة إلى النجف الاشرف، ولأن الوالد (رحمه الله) لا يحب إجراء المعاملات الرسمية، فقد فضّل أن أعيد السنة الدراسيّة على إجراء معاملات تصديق الإفادات ومعادلاتها. وهذا ما حصل، فتابعت الدراسة المتوسطة في مدرستي التي أكملت الابتدائية فيها".
وعاد مصطفى إلى مكانه، إلى عهده السابق، إلى المدينة التي تمتلك
80
64
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
سحرها الخاص، سحرها الفريد الذي استمدّته من منشئها، من مبرر وجودها كمدينة، من أمير المؤمنين وبركة من جواره، عاد إليها، يقبّل شوارعها الواسعة بعينيه، مبانيها والدروب الضيّقة المتعرّجة التي تأخذه إلى المكتبة، وتعيده إلى المنزل كل يوم، وأبواب الصحن الشريف، باب المشراق والطوسي، باب الساعة والقبلة، أبواب مشرعة على القلب، إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
باب القبلة هو الباب الأكثر حضورًا في حياة مصطفى، أغلب المساكن التي استأجرها أبوه كانت باتجاه هذا الباب، وباتجاهه أيضًا كانت "قيصريّة علي آغا"، ومكتبة الأمين. هذا المكان الثابت في حاضر طفولة مصطفى وماضيها.
دروب القيصريّة الضيّقة المسقوفة، لم تتبدّل كما تبدّلت المساكن المستأجرة، حتى بعد عودتهم من لبنان، كأن المكان كان بانتظارهم، انفسح وفيًا ليعودوا، وكذا المدرسة، في مبناها نفسه وإن تغيّر التوقيت: كلية الفقه لها الصباح، وللصغار انتصاف النهار، وللكبار العشيّة، مع غروب الشمس. حتى إذا غادرت بقع الضوء المتسرّبة من ثقوب سقف القيصريّة، وبهت الضوء القادم من مداخلها، استعدّ مصطفى ورتّب ما عليه ترتيبه، موعده صوت القرآن المنبعث من مآذن الحضرة المقدّسة، والصلاة في المدرسة بإمامة طالب، كما كانت ظهرًا أصبحت عشيّة. والصفوف كما كانت في الابتدائيّة، الصفوف الثلاثة الأولى في الطابق الأول، والأوسع في الطابق الثاني. عاد مصطفى وابتدأ التعلّم في الطابق الأول المخصّص للصفوف المتوسطة، ليأخذ مكانه على المقاعد
81
65
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وفي القلوب، حتى وإن كبر قليلاً وأصبح في الثانية عشرة من عمره، ظل مكان الصدارة وفيًا في انتظاره. هو مصطفى وحضوره الواضح الذي تحدّث عنه أصدقاؤه وأساتذته. وتحت عنوان: "محطّات لطيفة في هذه المدرسة"، نقرأ في أوراقه:
"مــــــع أســـــتاذ الجغرافيــــا: أجرى الأســــتاذ للصف الأول المتوسط اختبارًا في تحويل الساعة بين الدول حسب خطوط الطول، وفوجئت بالنتيجة فقد خطّأني الأستاذ في سؤالين من أربعة، فنلت نصف العلامة الكلّيّة. راجعت الأسئلة ووجدت أني لم أخطئ، طلبت من زملائي الاطلاع على إجاباتهم التي وافق عليها الأستاذ، فوجدتهم أخطأوا في الطريقة، وعليه قرّرت مراجعة الأستاذ في أول حصّة قادمة وهكذا كان.. عند بدء الدرس طلبت من الأستاذ حلّ الأسئلة على اللوح، لنستفيد في تصحيح أخطائنا (اعتمدت أسلوبًا غير مباشر لعدم إحراجه) رفض الأستاذ وفضّل الشروع في درس جديد، فما كان مني إلا الإصرار تحت طائلة الخروج من الصف إلى الإدارة لبحث الموضوع معها، لأن خطأ ما حصل في تصحيح الامتحان، فوافق الأستاذ وبدأ بحل الأسئلة فلما وصل إلى الخطأ الذي وقع فيه مع التلامذة، استأذنت ولفتُّ نظره إلى الخطأ فوافق على ذلك. وكانت المصيبة عندما تغيّرت نتائج 4 تلامذة هبوطاً، وتغيّرت نتائج ورقتي إلى العلامة الكاملة، هذا الأمر كان له تأثيران متناقضان: الأستاذ أعجب بدقتي واحترمني، التلامذة صبّوا جام غضبهم عليّ؛ لأني أفقدتهم رصيدًا من علاماتهم.
82
66
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
مع أستاذ اللغة العربية العلامة السيد فاضل الميلاني: استَشهد الأستاذ بكلام مصطفى جواد عن الأخطاء الشائعة فقال: قُل عُيَينات، ولا تقل عُوَينات؛ لأن تصغير عين هو عُيين وليس عوين. فرفعت إصبعي وطلبت الإذن بالكلام، وقلت له: إن المقصود من العوينات هو العون على الرؤيا وليس تصغيرًا للعيون؛ فقد أخطأ مصطفى جواد حيث لم يلتفت إلى الأصل الذي أخذ منه! فتعجّب الأستاذ السيد الميلاني وقدّر ملاحظتي تقديرًا فائقًا، وقبل بذلك.
مرة أخرى: اختلفت معه على إملاء كلمة في نهايتها ألف، هل تكتب مقصورة أو ممدودة على أساس جذرها وأصل الألف، فقلت له نرجع إلى القواميس، فأرسل في طلب القاموس من مكتبة الإدارة وعندما فتح على المادة ابتسم وقال: معك حق.
مع الأستاذ الجليل المرحوم الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي: درّسني في المرحلة الثانوية اللغة العربية، وأحببته كثيرًا، وكان يأتي لزيارة مكتبتنا في قيصرية علي آغا، ولنا معه جلسات لطيفة، وقد أدرج اسمي في سيرته الذاتية على موقعه، وكانت العلاقة التي تربطنا تتجاوز الأستاذ مع تلميذه".
يسير في ممراتها وساحة ملعبها، صافيًا كغدير في سهل، هذا اللبنانيّ الهادئ وأدبه الجم، ما احتـــــار الأســــاتذة في حبّـــــــه ولم يتردّدوا، وإن تردّد بعض أقرانه واحتاروا. الزمن طفولة تخطو آخر الخطوات، وهم بالكاد بلغوا الحلم أو أوشكوا. المرحلة المتوسطة هي اسم على مسمى، إذ تتوسط العمر بين الطفولة والرجولة، هذا العمر الحائر المتقلّب، وهم فيه كالعالقين، يخرجون من عالمهم
83
67
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
القديم وهم يتلفّتون إليه، مرتبكين كمن يعبر جسرًا غير ثابت، يعبرون إلى عالم الكبار الذي عانوا منه طويلاً، من سلطته الواعظة ومن قيوده والتزاماته، يدخلون إلى عالم الكبار وفي عيونهم ثورة، يرفعون أصواتهم المجروحة بالخشونة الطارئة التي لم تستقرّ بعد.
عبروا الطفولة بلا عودة، غادرهم صوتها الناعم، وذاك الضعف الطري، يستقبلون القوة المستجدّة بارتباك فقيرٍ أُوتي خيرًا كثيرًا، يحاولون الولوج إلى هذا العالم الجديد بمظهر غريب، كمن يرتدي جلباب أبيه فضفاضًا، راغبين به وإن تعثّروا بأذياله، كأن أحدًا مجهول المقام يقف على بوابات ذلك العالم يطلب منهم سمة دخول، للتعرّف على رجولتهم وانتمائهم للعالم الجديد، ليعلم إن كانوا حقًا قد استبدلوا ضعفهم قوة، ورقّتهم خشونة. هم فيه يدافعون الكبار ليجدوا مساحتهم في ازدحام الرجولة، قوّة وخشونة وتمرّد. الرضوخ للقوانين عودة لضعف الطفولة، والسعي لرضى الكبار هزيمة، والمدرسة ساحة لإثبات هذا الوجود، لإثبات القوة والخشونة والتمرّد، لتكون سمته دخولهم أكثر وضوحًا وإقناعًا... وأنت يا مصطفى، ألست منهم؟! هذا الهدوء والاتزان!! وكأنك قديم في عالم الرجال، كيف وصوتك لم تستقرّ خشونته بعد، ولا أثر لشارب فوق شفتيك؟!
مصطفى في هذا العمر المتوسط كمن كان خارج تلك المعركة، لذا احتار زملاؤه فيه، في أي دائرة يكون: منهم من أحبه لطيب قلبه وحسن خلقه، ومنهم من اعتبره في صف الأعداء؛ لأنه كان ملتزمًا التزامًا كليًا بالتعاليم والضوابط، وبأدقّ تفاصيلها، حريصاً أشدّ
84
68
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الحرص على أن لا يخالفها، لم يستطيعوا اتهامه بضعف الشخصيّة، أو الخوف من العقاب، فهو جريء ولديه من أسباب القوة ما يكفي، لم يكن انطوائيًّا أو جبانًا كالضعفاء، كما أنه كان ودودًا خدومًا ما استطاع. بعضهم كان يحسده على تفوقه في المسابقات الشهريّة، وبعضهم الآخر يستعين به. إن استعصى عليك أمر، فسل مصطفى، في أيّ مادّة شئت سوف لن يتأخّر عن مساعدتك.
يقول صديق له عاصره في تلك الفترة: "كان مقعدي إلى جانب مقعده، ولم يبخل عليّ بأيّ مساعدة طلبتها، يوضح إلي ما التبس عليّ، كنت سعيدًا بكونه إلى جانبي. حتى حدث ما لم أكن أتوقّعه، كان ذلك في امتحان الرياضيات، وهي المادّة الأصعب بالنسبة لي، كان ذهني مغلقًا أمامها، وكأن أستاذها قادم من كوكب المريخِ، يتحدّث لغة غير لغة أهل الأرض. لم تكن لدي مشكلة مع مواد الحفظ، فذاكرتي جيدة، وأنا أبذل ما أستطيع من جهد. أجيد الضرب والقسمة، وتستعصي عليّ المسائل الأخرى، حين انشغل الأستاذ عنّا، اقتربت منه وهمست طالبًا منه جوابًا عن أحد الأسئلة، لم يجبني وظل صامتًا غارقًا في أوراقه، وكأنه لم يسمعني، انتظرت فرصة أخرى، وما إن انشغل الأستاذ مع أحد الطلبة، حتى لكزته وأعدت عليه سؤالي، لكنه أدار وجهه وابتعد، أثار ذلك غضبي وآلمني كثيرًا، لم أكن أريد الرسوب، لي أب يحاسبني على ذلك بشدّة، فأقول في نفسي: ما الذي يخسره لو ساعدني قليلاً؟ كان الأستاذ مشغولاً عنّا بشكل واضح، خرجت وأنا أشعر بكره لهذا المغرور الذي لا يريد لأحد أن يتفوّق سواه.
85
69
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
حين خرجنا للعودة إلى منازلنا، توقّف بالقرب مني وقال لي إنه على استعداد للتعاون معي، وإنه من السهل أن تتغيّر علاقتي مع الرياضيات، ولما لم يجد تجاوبًا مني، قال: سأدلك على المكتبة، أرجو أن تغيّر رأيك، وتأتي بعد الظهر حيث يكون السوق هادئاً قليل الحركة. لم أذهب إلى المكتبة لغضبي منه ولعدم قناعتي بما يقول، وليأسي من القدرة على فهم هذا العلم الغريب. ثم صادف بعد ذلك بوقت قصير أن غاب أحد الأساتذة، وكان علينا البقاء في الصفوف ومراجعة الدروس، فشرح لي فصلاً في الرياضيات كنت أراه صعبًا جدًا، مضى ما يقارب الساعة لم أشعر فيها بالوقت، وإذا بذهني يتفتح، ثم تابعت معه الدرس بعد ذلك في المكتبة.
وبعد دروس قليلة تغيّرت حالي، وأصبح الأستاذ يتحدّث بلغة أهل الأرض، وتعجبت من نفسي، وجدت الأمر أكثر سهولة مما كنت أظن، والفضل كله يعود إليه وحده. إن له طريقة عجيبة في الشرح، ينقل الفكرة بشكل واضح وسهل، يعود إلى المبادئ الأساسية، ويضرب الأمثلة. ما زلـــت بعد كل هــــذه الســــنين أتذكّــــر أسلوبه الهادئ اللطيف، وأصبح بعد ذلك صديقي المفضّل، لم أتعلــــــم منه الرياضيات فحسب، لقد تعلّمت منه الكثير".
يعود مصطفى إلى منزله وقد اقتطعت المدرسة جزءاً من ليله، ليتناول عشاءه ويسأل إخوته عن حاجاتهم، يقضي حاجة لهذا، وأخرى لتلك، يســــاعد في شـــــرح درس أو حفظ مقطوعــــة، يطيّب خاطر شاكٍ، أو يحلّ مشـــــــــكلة. يعاون الأم التي تتـــــراكم عليها أعمال العائلـــــــة الكبيرة العدد، وفي الوقت الذي يشـــــرح لتلك فروضها
86
70
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تعمل يداه على مســـــــاعدة الصغيـــــر على لبس ثياب نومه، هذا هو مصطــــفى، وهذا هو منزله في ليل راحته التي اقتطعت منه المدرسة حصّتها.
86
71
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
في أيام الصيف، يتسنّى لمصطفى عند انتصاف النهار أن يعود إلى المنزل ساعتين أو أقلّ، يسمح بهما النهار الطويل، يتناول طعام الغداء، ويرتــــاح قليلاً في سرداب المنزل... وقــــــت جيّـــــد للراحــــة يـــا مصطفى، ساعة أو نصف ساعة، قيلولة باردة وسط نهار متعب. قال لابن عمه عن راحة السرداب: "كنت أستغلّ وقت السرداب لدروس تحتاج إلى التركيز، الوقت مثالي لها، فالجميع نائم والمكان يعمّه الهدوء".
أما في أيام الشتاء، فالنهار أقصر من أن يُقتطع، يأخذ مصطفى معه "زوادته" إلى المكتبة، ليتناولها على الغداء، تلك المكتبة التي أخذت كبرى المساحات في حياته لعدد من السنين، هي في قلب صفحات عمره المتوسط كما كانت في زمن الطفولة، شديدة الحضور في العمر الطريّ، تتراكم تجاربها بتراكم أيامه، تعزّز حضورها في بناء شخصيّته، كما يعزّز هو حضوره فيها وعند روادها، لم تكن مكانًا للعمل فقط، يقول عنها في أوراقه:
"مكتبة الوالد في سوق الكتب في النجف (قيصرية علي آغا) وهي ملتقى الطلبة اللبنانيين، وعنوان بريدهم، ومحل استراحتهم. أتاحت لي هذه المكتبة التعرّف على كل اللبنانيين الذين يدرسون في الحوزة العلميّة في النجف طيلة سنوات وجودها ووجودي فيها مع الوالد ثم بعد الوالد".
"قيصريّة علي آغا" بدرجاتها الحجريّة، وبدروبها الضيّقة بقيت له، ما تغيّرت بمقدار ما تغيّر هو، احتفظت له بصور جسده الصغير، وصوت أقدامه الطريّة، علّقت على جدرانها ومحالها دهشته وفطنته.
88
72
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
قامته تطول، وخطواته تزداد اتساعًا، ودهشته تتحوّل إلى معرفة، والمكتبة تزداد نشاطاً، ويزداد مصطفى حضورًا، والمكان هو المكان، ومصطفى جزء منه. أصحاب المحال وروّاد هذه "القيصريّة" يعرفونه كجزء منها، صبّحك الله بالخير، شلونك مصطفى، أنا بخدمتك عمي، مصطفى لا يتأخّر عن خدمة أحد. حين يهدأ السوق، خارج أوقات الذروة، يتسنّى لمصطفى، بعض الوقت، يحب الوقوف أمام محلّ الخطاّط جواد سبتي، يتابع ريشته الساحرة، وهي تحوّل القماش والخشب الأخرس إلى كلمات جميلة التشكيل، كم كان سعيدًا حين جلب له أبوه كتاب الخطّ العربيّ لهاشم الخطّاط! وجاء بقصب وحبر، يتمرّن حين يسمح له وقته المزدحم، على بعض الخطوط، أحب الثلث، والرقعة، وهندسة الخطّ الكوفيّ، لم يكن بمقدوره الجلوس لوقت طويل من أجل تلك الهواية المحبّبة إلى نفسه، فهذا ترف ليس في وسعه، ولن تتسع له ساعات يومه، اليوم للعمل والإنتاج ومتابعة المطلوب، وما أكثره، من بين الزحام، يلتقط تلك الدقائق كأوقات مسروقة من تحت أقدام اليوم، لم تكن طويلة، قصيرة مزّقها ازدحام الواجب وسلّم الأولويات.
في "القيصرية" وهي سوق للكتاب، هناك محالّ اختصّت في شكل الكتاب وهيئته الخارجيّة، تُعنى بما عزّ من الكتب، تصلح ما أفسده الدهر فيها، أو ما جرى عليها من كثرة الاستعمال، أو تحميها كعمليّة استباقيّة، تسمّى "التجليد".
حين كان يرسله أبوه إلى جيرانه من أصحاب تلك المحال لوضع كتاب في التجليد، كانت تلفت نظره تلك الصناعة، يرى الكتاب وقد
89
73
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تقطّعت أجزاؤه وتمزّق غلافه، يعود بصيغة جديدة، تجمع ملازمه من جديد، وترتبط ببعضها بخياطة فنيّة دقيقة، عبر خيوط متينة وإبرة طويلة، حتى إذا اكتملت الخياطة تماسك الكتاب بقوّة لم تكن فيه، يُصنع له غلافًا من الكرتون المقوّى، يدهن بلاصق ويوضع فوقه الغلاف أو بديل من الجلد، ولكعب الكتاب عمل أكثر صعوبة ومهارة، وله جلد أكثر سماكة. يطلق على تلك العملية الطويلة بمراحلها المتعدّدة اسم "التجليد الفنّي"، يعود معها الكتاب مهيبًا متينًا، مغلّفًا بجلد لامع.
يقف مصطفى أمام تلك المهارة سعيدًا، ينظر إلى يد الصانع بشغف، وهي تتحرّك في خياطة الكتاب بشكل سريع كآلة عجيبة، والخياطة قبل التجليد عمليّة معقّدة تشبه الحياكة، يتحرّك فيها الخيط المربوط بالإبرة بخطوات متعدّدة بين الوجه والظهر، والداخل والخارج، بحركة مغايرة عبر عدة خطوات في كل مرة، ثم عقد متنوّعة تربط الأجزاء ببعضها... تلك العمليات تحتاج إلى تدريب على يد معلّم لفترة من الزمن يا مصطفى، يتعلّمونها خطوة خطوة، ثم يأتي بعد ذلك التجليد الذي يحتاج إلى الكثير من المهارة والتدريب، تحتاج إلى أشهر من المتابعة مع معلّم، هذا ما يقوم به كل عامل جديد يتدرّب على هذه الصنعة، هل تريد العمل في التجليد يا مصطفى؟ وماذا عن أبيك والمكتبة؟.. يقول في أوراقه:
"في المكتبة تعلّمت مهنة تجليد الكتب فنيًّا، اكتسبت ذلك بالملاحظة عندما كنت أقف عند جيراننا ممن يعملون بهذه الصنعة. فالتقطت كل شاردة وواردة، حتى جاء اليوم الذي كشفت فيه
90
74
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
للوالد عن قدرتي، عندما كان الوالد يتولّى تصحيح كتاب المراجعات للمطبعة، ويأتي بالملازم المطبوعة واحدة بعد أخرى، فاجتمعت من دون غلاف. فقلت للوالد: هل تسمح لي أن اقوم بتجليد هذا الكتاب؟ فاستغرب، لكنه لم يردّ سلبًا، بل ردّ بالإيجاب بدافع الاختبار والاكتشاف، وكانت مفاجأته كبيرة عندما قمت بخياطة ملازم الكتاب بشكل محترف، وتجليده بالكامل دون وجود العدّة المطلوبة. وكافأني على ذلك بشراء معدّات التجليد، وتسليمي مهمّة العمل في التجليد في المكتبة. وهكذا كان، وسريعًا أصبحت الأشهر في السوق، والأكثر إتقانًا للصنعة، والأدقّ والأصدق في المواعيد.
وقد وفّرت هذه الصنعة متطلبات المعيشة للعائلة ولي قبل وبعد الزواج، وحتى أثناء الدراسة لسنوات".
91
75
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
في المتوسط من العمر والمدرسة، أجاد مصطفى هذه الصنعة إجادة من ورثها أبًا عن جد، وأصبح له زبائن لا يريدون العمل مع سواه. يقول أحد المشايخ ممن درسوا في حوزات النجف في تلك الفترة:
"رأيت كتابًا عند صديق لي كان قد جلّده حديثًا، رأيت كم هو الفرق واضحًا في الجمال والمتانة بين تجليد كتابه وما جلدت من كتب! سألته أن يدلّني على هذا الصانع الماهر، فلديّ كتاب عزيز أريد له تجليدًا بمثل هذه المتانة والجمال، فأخذني صديقي إليه، وحين رأيته، وقفت مذهولاً أمام هذا الفتى المؤدّب وابتسامته الخجولة، صدمني عمره، ولم أقتنع. لقد كان ولدًا كما يقال، خفت وتردّدت، لقد كان الكتاب عزيزًا جدًا، قلت لصديقي: هل أنت واثق من أن هذا الفتى هو الذي جلّد لك ذاك الكتاب؟ رغم التأكيد والتشجيع من صديقي بقي الخوف يعتريني من هذه المجازفة، لاحظ الفتى بفطنته خوفي، وقال بكل ثقة وأدب: لن تكون إلا راضيًا مولانا. وهذا ما حدث فعلاً، لقد كنت بعد إنجازه أكثر من راضٍ، والشيء اللطيف الذي أذكره أنني جلبت له بعد ذلك أعدادًا من مجلة العربي، وقد جلّدها تجليدًا رائعًا يتّسم بالذوق والإتقان، وغبت عنه بعد ذلك أكثر من عام في لبنان، وعدت إليه ببعض من الكتب، وأعدادٍ من مجلة العربي، فقال لي: إن كانت هذه الأعداد لك، عليك أن تجلب لي مجلدًا من الذي جلّدته منها سابقًا، لتكون على نسق واحد. ذهلت لأمرين، أذهلني أنه تذكّرني وتذكّر ما جلّدته عنده بالرغم من كثرة الكتب وعدد الزبائن، أنا الذي لم أره كثيرًا
92
76
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وغبت عنه طويلاً، وأذهلني أكثر ذوقه وإخلاصه، وهذه الالتفاتة اللطيفة من فتى أراد لمجموعتي ما لم أفكّر أنا فيه. تابعت بعد ذلك تجليد أعدادها عنده، وهي ما تزال لدي بكامل أناقتها".
وأشار هذا الشيخ وسواه إلى شيء آخر، ميزة أخرى، وهي الفنّ والابتكار الذي كان يميزه رغم صغر سنه، حتى قالوا: إن التجليد عند مصطفى يستحقّ أكثر من سواه أن يطلق عليه اسم "التجليد الفنّي"، قدرة هذا الفتى على استشعار الجمال وصناعته بألوانه وأناقته، ظهر ذلك أيضًا في خطّه الجميل، وفي تصاميم يبتكرها، أو خطوط يصنعها على ورق من كلمات وآيات قرآن وحكم.
تقول شقيقته: "في مدرستي كانوا يصنعون ما يشبه مجلة الحائط، لكل طالبة منا دورها في إنجاز هذه المهمة، وحين جاء دوري لم أخش شيئاً فلدي مصطفى. حملت له موادّ اللّوحة وطلبت منه مساعدتي، فصنع لي أكثر مما هو مطلوب، لقد كانت لوحة فنّيّة فائقة الروعة بخطوطها الجميلة وزخارفها وألوانها والرسوم، وقف الجميع أمامها مذهولاً من معلّمات وطالبات، لقد علّقت في مكان بارز، وبقيت هناك لفترة طويلة، لن أنسى مقدار فخري واعتزازي والجميع يقول لي: أخوك فنان وموهوب حقّاً".
في هذا العمر وما بينه، أي قبل سنّ الخامسة عشرة وما بعدها، تستقرّ ملامح شخصيّة الفتى مصطفى وتتّجه نحو الوضوح، على عكس ما مرّ به أقرانه في هذا العمر المتقلّب ممن قاربه سنًا. كأن مصطفى الفتى قد اختزل تلك الســـــــــنيــــن، أو عبـــــــر فوقها، دون أن تطــــــــاله يد التقلّــــب وفوضــى ثورة الانتماء التي يتميّـــــــز بها هذا العمـــــــر.
93
77
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
هذا العبور والانتقال المبكر، جعلا ملامح شخصيّته واضحة في تميزها. ولتكتمل خطوطها وأبعادها، يتحدّث أهله ومن عاصره في تلك الفترة عما ميّز هذه الشخصيّة، وبقي سمتها الثابتة عبر زمن التقلّب. فمن سمات هذه الشخصيّة، أنه في ذلك العمر، مضافًا إلى تمسّكه بالوقت، واستثماره إلى أقصى الحدود، حتى امتد إلى وقت الراحة، ظهرت واضحة عداوته الشديدة للفوضى، خصمها اللّدود مصطفى، وكان هذا غريبًا؛ إذ بدا هناك تناقض في مكان ما، فاستثمار الوقت قد يؤدّي إلى بعض الفوضى عند احتساب الأولويّات، والترتيب المنظّم بالشكل المثالي الذي يتمسّك به مصطفى، يحتاج إلى وقت هو عزيز عليه.
على سبيل المثال: إن كان يجلس وبين يديه كتاب يقرأه، واستدعاه داع لدقائق قليلة، وضع في الكتاب علامة، وأعاده إلى مكانه في الرّف العلويّ عند الطرف الثاني للغرفة، وهو يعلم أنه سيعود إليه مرة أخرى. يقوم بهذا وإن شارد الذهن، دون تفكير، كأن تلك الحركة أضحت ملكة لديه. يكون في وسط حديث مهم يحتاج إلى الكثير من التركيز والمتابعة، وينقل إليك التفاصيل الدقيقة عن المعلومة المطلوبة، فتراه يقوم من مكانه دون أن ينقطع عن الحديث، ليلتقط شيئاً يمسح عنه الغبار، ثم يحمله ليضعه حيث يجب أن يكون، دون أن يتخلّل حديثه صمت أو انقطاع، وكأن ما قام به معزولٌ عن حواسه.
لا يختلف الناقلون أنه في كل مكان يكون فيه الفتى مصطفى، تكون مظاهر الترتيب والنظافة واضحة بيّنة، بل لافتة كما قيل؛ إذ يستعمل مهارته الشخصيّة وحسّه الفنيّ في تنظيم المكان وترتيبه، ليضفي عليه مسحة من جمال وأناقة.
94
78
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
يقودنا هذا إلى خط آخر من معالم شخصيّته، والذي هو أيضًا بقي ثابتًا فيها، خطّ رديف أو تابع لعداوته للفوضى، وشقيق لها في تناقضه مع استثمار الوقت، هو أناقته الشخصيّة واهتمامه بمظهره، وإن كان في المنزل حتى في ثياب النوم كما تقول أمه. وإذا أراد الخروج، لبس ثيابه المكويّة بعناية، ووقف أمام مرآة لا تعكس الوجه فقط، مرآة طولية تعكس كامل الجسد، من قمة الرأس إلى لمعان الحذاء في قدميه. أزرار مغلقة وثياب بمقاس الجسد، لا ضيق ولا اتساع، لا قصر ولا طول، ألوان متجانسة وجمال في اختيار الملائم، حتى إذا اطمأن ارتدى ابتسامته وخرج.
والذي يجعل الأمر لافتًا، هو أن البيئة على وجه العموم لم تكن تشاركه هذا الاهتمام، ولن نظلم البيئة لو قلنا إنها كانت على النقيض في ذلك الزمن. لم يكن هذا أثر تربية، فمن أين جئت بهذه يا مصطفى، لتصبح الأناقة والترتيب سمة من سماتك؟!
يقـــــــــول شقيقــــــــه الحـــــاج عبــــــــد الله: "كــــــان والــــــــــدي يشــــدّد علــــــــى النظافـــــــة والطهارة كثيرًا، لكنه لم يكن يهتمّ بالشـــــــــكل مطلقًا، لا تعني له المظاهــــــر شــــــيئاً على الإطــــــــــلاق. قد يكون هذا واحدًا من الأسباب التي جعلت شقيقـــــــي الأكبـــــر مصطــــــفى يهتـــــمّ، كـــردّ فعل عمّـــــا يــــــــراه".
مصطفى هذا الفتى الشديد الأدب كان يبالغ في احترام والده، لكنه لم يجد غضاضةً في مدّ يده إلى ياقة دشداشة أبيه التي غارت بسبب الاستعجال في ارتدائها، ليعيدها إلى الرقبة أنيقة، ويغلق أزرارًا نسيها والده، ويبتعد قليلاً ليرى حسن التعديل في الدشداشة، ثم يعود إلى الأكمام ليصلح من طيّاتها، فيهزّ الأب رأسه دون أن يخفي ابتسامته، هذا الفتى اللطيف قريب إلى قلبه.
95
79
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عمامة أبيه ظلت تستفزه، كلما رأى طرفها ناتئاً أو خارجًا عن السياق أدخله ما استطاع في لفائفها، ومصطفى يرى بعض العمائم مطويّة بعناية، جميلة ومنظّمة فوق رؤوس أصحابها، فيأسف كثيرًا لعمامة أبيه. وصناعة العمائم أمر غاية في التعقيد، فهي عبارة عن أمتار عديدة من القماش الرقيق، حين تغسلها والدته وتنشرها تلتفّ على كامل محيط السطح، يرى أباه كيف يطوي ساقه ويلفّ العمامة عليها، في عمل معقّد طويل وصعب، يجعل والده يحرص أشدّ الحرص أن لا تسقط أو ينفرط نظامها، حين ينزعها عن رأسه، يضعها دومًا في مكان آمن، ولا يسمح لأحد بالاقتراب منها.
للوالد -كما لأكثر المعمّمين- عمامتان تتناوبان بين الغسيل والارتداء. في أحد الأيام طلب الوالد عمامته المنشورة على السطح، فلم يجدها، وقبل أن يسأل عنها وجدها في غرفته، ملفوفة بعناية فائقة، وحين اقترب منها وحدّق فيها، وجدها ملفوفة بطريقة منظّمة ودقيقة جدًا، وكأنها صبّت في قالب. حملها بين يديه، فوجدها أمتن بعشرات المرات من تلك التي فوق رأسه، نزع عمامته وهو غارق في دهشته، يفكر بسؤال زوجته عن سرّ هذا الأمر الغريب، رفع العمامة الجديدة ليلبسها بشيء من التردّد والاستغراب، فسمع مصطفى من خلفه يقول إنه متأكد من مقاسها، لقد طابقها على القديمة.
كم استغرقت من الوقت في التدريب لتصنعها بكل هذه الأناقة والإتقان، متى وكيف؟ وأين تعلّمت؟ من علّمك لفّ العمامة؟!.. لا أحد.. قليل من الملاحظة المشبعة بالفطنة، والكثير من الإصرار، ولعلّها سهرة ليلة، كانت كافية لمصطفى! ألا تعرف ابنك يا شيخ؟
96
80
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
هزّ الشيخ رأسه ومضى مبتسمًا، يلامسها بكلتا يديه، خفيفة ثابتة أنيقة. تكرّرت الأسئلة في ذلك اليوم وكثر الاستغراب، ما هذه العمامة الجميلة يا شيخ أحمد؟ بفخر يجيب: إنّه مصطفى، سعيدًا بالدهشة التي يراها على الوجوه.
توقف الوالد عن لفّ عمامته بعد ذلك اليوم، وما عادت تأخذ الكثير من الوقت على ساق مصطفى، لقد كشف أسرارها، واعتمد طريقة خاصة به، وكثيرًا ما كان يأتيه الوالد بعمامة لصديق أو قريب، قربةً إلى الله يا مصطفى.
خطٌّ آخر أخذ مكانه الثابت في شخصيته، واضحٌ بلا تعديل، وإلى آخر العمر أيضًا، هو احترامه للإنسان بكل أحواله بلا استثناء، يظهر جليًا في كل تصرّفاته ومعاملاته، يبدأها بتلك الابتسامة الخجولة المفعمة بأدب جمّ، تخرج مشبعة بهذا الاحترام الذي يكنّه للناس، يوزّعها بشكلها الجميل ذاته، تسبق تحيّته لكل من يراه، هي ذاتها لعامل النظافة ولأصحاب المكاتب وروادها، هي ذاتها للطلاب والأساتذة وماسح الأحذية، تتفتّح في وجهه كالزهور. من أين جئت بابتسامتك يا مصطفى، من أيّ ربيع؟ ربيع ابتسامتك في كلّ الفصول؟ في العسر وفي اليسر يا مصطفى؟ في الراحة والتعب؟ في الضيق وفي الفرج؟ تقول والدته: "أحبّ ابتسامة مصطفى، فهي باقية على حالها منذ الطفولة". تصمت قليلاً وكأنها تستعيد صورتها، ثم تتابع حديثها وتقول بما معناه: ابتسامته في الصباح تنشر الأمل بنهار جميل، وفي المساء هي ممحاة للتعب.
97
81
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
دخل مصطفى الصفوف الثانوية، وهو على دأبه يحثّ الخطى كمن يرى هدفه على مقربة. تابع ما كان فيه دون انقطاع، رغم تكاثر المهام وضيق الوقت، بل أراد لنفسه مهمّة جديدة، أفسح لها مساحة من وقته، وهي دراسة العلوم الدينيّة. هي لم تكن جديدة أو لم تكن مجهولة، هو يعرف عنها، لقد أرادها عن معرفة، فهو ابن شيخ، وسكناه النجف الأشرف مدينة العلوم الدينيّة، في مراجعها وحوزاتها، وبين يديه الكتب الدينيّة في التجليد وفي المكتبة، بين فقه وأصول، وفلسفة ونحو وسيرة، عرف بعض من أولويّاتها على يد والده، لكنه لم يرتضِ الدوران في محيطها، طلب من والده المزيد، لكن والده كثير المشاغل، كثير الغياب، ومصطفى فتى النظام والالتزام، فسعى لوضع ثابت متدفّق وإن بسيط، سيجعله التزوّد كثيفًا واضح الجدوى والوجود، كما يفعل استمرار المطر.
كثّف مساعيه حتى وجد من يعطيه درسًا منتظمًا في الفقه، لكنه الوقت يا مصطفى، من أين ستأتي بالوقت لهذا الجديد؟ نهار مصطفى من الصباح الباكر إلى غياب الشمس في المكتبة وفي مساعدة أبيه، وفي معمل التجليد، لن يتسنّى له في النهار سوى الصلاة وطعام الغداء، وبعد غياب الشمس موعد المدرسة، ولها أكثر من ثلث الليل، وبعدها المنزل والعشاء، وإن بقي منه بقيّة فهو لمراجعة الدروس وحلّ الفروض، فمن أين ستأتي بالوقت يا مصطفى؟ تقول شقيقته: "في كثير من الأحيان حين يأتي مصطفى في الليل أراه حين يتناول العشاء يضع كتابه مفتوحًا إلى جانبه، يلتفت إليه مع كلّ لقمة، يراجع محفوظاته أو يقرأ معلومات فيه..
98
82
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وحين يزدحم العمل في معمل التجليد وحرصاً على صدق مواعيده، يجلب معه ما لم يتمّه منه إلى المنزل.. يقوم بإنجازه بعد العشاء".
لقد وُفّق مصطفى لموعد درس خارج هذا كله، يخرج والليل في آخره، في عتمة الليل يسير في الدروب والأزقّة الخالية الصّامتة.. أترابك نيام يأنسون بنعومة فراشهم يا مصطفى! يتأبّط كتبه، ويكمل المسير إلى جامع الهندي، الخيط الأبيض يطلّ في صفحة السماء رويدًا رويداّ، ومصطفى يخلع حذاءه ويدخل بقدمه اليمنى وعلى شفتيه "بسم الله الرحمن الرحيم"، يصلّي صلاة الفجر وصلاة الصبح، ويتلو آيات من الذكر الحكيم حتى يعلن أستاذه بدء الدرس. يشكر مصطفى ربّه على توفيقه في إيجاد زمان الدرس ومكانه، وقت الفجر لا يزاحم العمل ولا المدرسة، قد يزاحم النعاس والجسد الذي يطلب الراحة، لكن إرادة مصطفى وعزمه كفيلان بدفع تلك المزاحمة.. والمكان مناسب، كمحطّة في الدرب، موقع جامع الهندي بين المنزل والعمل، فهو قريب من مدخل "قيصريّة علي آغا" الجنوبي، وينتهي الدرس مع بداية وقت العمل. بضع خطوات ودقائق من الوقت، ومصطفى أوّل الداخلين إلى القيصريّة، عامل النظافة وحده يكنس درب القيصرية صبّحك الله بالخير عمي.. صبّحك الله بالخير مصطفى.. شلونك يا عمي؟.. الحمد لله.. يحمد مصطفى ربه على توفيقه للدرس وعلى كلّ شيء.
99
83
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
مصطفى وشقيقاه، عبد الله وموسى، يعملان في المكتبة ومعمل التجليد، والوالد كثير الانشغال كثير السفر، يغيب شهرًا ونصف الشهر، يسافر إلى لبنان.. ثمّة سفرة طالت ولم يعد الأب منها بعد، فيحزم مصطفى متاعه ويصطحب شقيقه عبد الله معه.
يقول شقيقه عبد الله: "لم يُمنح والدي تأشيرة دخول حين أراد العودة إلى العراق لأسباب مجهولة، كان في ملفّه عدد من المشاكل، بعضها كان مع رجال الأمن، أو مع أعضاء في الحزب الحاكم. ذهبنا إلى لبنان، كنت صغيرًا، وكانت أضواء المصابيح طوال الوقت مصبوغة بالأزرق، خوفًا من غارات الطيران، تلك المشاهد حدّدت زمن تلك الرحلة؛ الزمن حرب، حرب 67، كنت صغيرًا أتمسّك بشقيقي مصطفى، الذي أثق به ثقةً عمياء كما يقولون. عرفنا مكان إقامة الوالد ووصلنا إليه".
وجد الشقيقان والدهما بخير، وأكثر من ذلك. له منزل كامل غير منزلهما، وزوجة غير أمّهما، وولد من سواها، حمل وولادة، هذا يعني أنّ والدهما تزوّج قبل سفرته الأخيرة، أصبح لمصطفى أخٌ غير شقيق، لم تتّضح مشاعر مصطفى بشكل جليّ أمام هذا التغيير، حمل أخاه، لاعبه وداعبه، فهو أخوه على كلّ حال وهذا واقع، ولطالما تصالح مصطفى مع واقعه وأحسن التعايش معه.
انتهت الزيارة القصيرة، لا بدّ أن تكون قصيرة، فهناك المكتبة والتجليد والمنزل. عليه أن يسارع بالعودة إلى العراق، وقبل العودة هناك أمرٌ لا بدّ منه.
يقول عبد الله: "بعد الزيارة القصيرة للوالد، أخذني مصطفى إلى
100
84
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الجنوب وقال لي: ما دمنا وصلنا إلى لبنان لا بدّ أن نزور الأقارب والأرحام قبل عودتنا، لن نتأخّر كثيرًا. لقد أخذني في زيارات سريعة إلى كلّ أقاربي من أهل أمّي وأهل أبي، وأذكر تمامًا أنّه أخذني إلى المنزل امرأة كبيرةٍ في السّنّ، وهي خالة أبي، كانت سعيدةً بزيارتنا إلى أبعد الحدود".
في طريق العودة كان مصطفى يحاول ترتيب مشاعره حول هذا الجديد. ما قام به أبوه هو حقّ من حقوقه لا ينكره عليه أحد، ويعقوب أخ له من أبيه. سيضمّه مصطفى إلى قائمة حبّه، إلى جانب شقيقه الصغير يحيى الذي يقاربه سنّاً.
طال غياب الوالد، كان يرسل إليهم المال ليغطّي بعض تكاليف الحياة، ويتكفّل مصطفى وأشقّاؤه بالباقي. استمرّت المكتبة واستمرّ العمل في معمل التجليد، واستمرّ مصطفى في مصالحة الواقع والتكيّف معه كائنًا ما كان، يتابع ما هو فيه بالوتيرة نفسها، وإن حمل بعض التعب.
101
85
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
بعد أكثر من عام، سُمح للوالد بالعودة إلى العراق. كما في منعه كذلك في السماح، لم تُعرف بشكل واضح الأسباب، لكنّه عاد وبرفقته عائلته الجديدة، التي أضيفت إلى العائلة الكبيرة أصلاً. ضاق بهم المكان والإمكان، أغلبهم أطفال صغار متقاربون في الأعمار، وللزوجة الجديدة لا بدّ من الإفساح في المكان وفي الحضور. كان الوضع برمّته صادمًا وغريبًا كعواصف تهبّ في أوجها على مكان منتظم، لا تبقي ولا تذر، وفي سكونها يحاول مصطفى إعادة ترتيب فوضى العواصف وترتيب مشاعره مع كلّ هذا الجديد الذي تحكمه قوى غريبة لا عهد له بها.
في الأيّام الأولى لاجتماع العائلتين بدا الأمر ممكنًا، قابلاً للمعالجة والانتظام، لكنّ المشكلات بدأت بالتكرار واستمرّت في التفاقم... لا بأس يا مصطفى، لا بدّ من الوقت لتتّضح الصورة، قليل منه لتنتظم الفوضى، سيجد كلٌّ مكانه ويتحرّك ضمن حدود يعرفها. لكنّ الوقت يمضي كسكّين، بطيئاً جارحًا. تزداد مشاعر مصطفى نزفًا، يزداد الجرح عمقًا، وهو في كلّ هذا فتىً لا حول له ولا قوّة، لا إرادة له فيه وإن حاول. يتكسّر مصطفى كزجاج النوافذ، لمَ يحدث كلّ ذاك؟ وما الذي يحدث لتتّجه الأمور إلى هذا المفترق من الطرق؟
حتى الأب، بالرغم من حسمه وما له من هيبة وسلطة، لم يستطع رسم حدود لهذه المشكلة، اتهم ضيق المكان، فاستأجر منزلاً أوسع، اتّسع المكان، ولكن مشاكل أخرى بقيت تعاند الأب وتتزاحم في صدره، وضاق صدره رغم اتساع المكان، وتفاقمت الظروف ولم يجد في غير أبغض الحلال فرجًا. حسم الأمر بالطلاق، وأرسل إلى
102
86
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
أهل أم مصطفى خبرًا بذلك، فجاء أخوها وعاد بها إلى لبنان. لطالما تكسّرت أشياء حولك يا مصطفى، وكنت بين ترميمها وبناء الجديد تواصل صعودك، كم من الأحلام بدّدها الواقع، وكم التففت على دروب أغلقت مخارجها وواصلت سيرك، كان جدارًا هذا الذي تهاوى، أم هو سقف سقط.
يقول شقيقه عبد الله: "عند طلاق والدتي لم أكن أعي ما حدث لصغر سني، لم يكن استيائي أو تأثّري واضحًا، لكنني تأثّرت كثيرًا ليس بالحدث، إنما تأثّرت بما انعكس على شقيقي الأكبر مصطفى، الذي بدا التأثر والحزن واضحين في ملامحه وسلوكه، صار أكثر صمتًا وأقلّ ابتسامًا، وتغيّر بشكل لافت في مكان آخر. لقد زاد عطفه علي واهتمامه بي، وتضاعف هذا الاهتمام والعطف على سائر إخوتي، أراد بطريقة ما أن يعوّض عنّا غياب الأمّ".
جعل مصطفى لإخوته نصيبًا أكبر من وقته واهتمامه، يتابعهم في النهار ما استطاع، ويتفقدّهم في الليل وهم نيام. يتابع مهامه جاهدًا أن لا يتوسع الخراب. ووالده يرى كل ذلك منه، فيزداد ثقة واعتمادًا عليه.
مصطفى الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره بعد، كان يتابع دروسه في العلوم الدينيّة وأراد لنفسه المزيد، وبدا في رغبته واجتهاده كأيّ طالب حوزة، ورأى فيه والده ما رآه فيه أساتذته من شغف واستيعاب لتلك العلوم. تحدّث معه في هذا الشأن، فوجد التجاوب واضحًا، وسأله أن يلبس العمامة كطلاب الحوزة، فوافق مصطفى. يتحدّث عن حلم من أحلامه نما مع العمر حتى صار
103
87
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
قرارًا يتّخذ، أن يكون رجل دين كما يرى هو رجل الدين في قيمه ومثله العليا، أراد السير في هذا الدرب كما خطّط في صورة شديدة الوضوح.
اشترى الوالد لمصطفى ثيابًا كاملة لرجل دين، لفّ مصطفى عمامته هذه المرة، وكان خافق القلب من هذا الحدث المقبل، عدّه جليلاً ومفصليًّا كما كان يقول، واضعًا نصب عينيه أهدافًا رسمها بدقّة لرجل دين عالم ناشط ورع.
وضع العمامة فوق الملابس المطويّة في كيس كبير، حمله بكلتا يديه كشيء مقدّس ثمين، وسارع مع والده الذي كان قد أخذ موعدًا مع المرجع آية الله السيد محسن الحكيم (قدس سره الشريف)، وهناك جلس مصطفى بين يديه. تحدّث الإمام المرجع، ونقل أحاديث عن الرسول وآله صلوات الله عليهم، وآيات من القرآن الكريم، ودعا بدعاء، ثم حمل العمامة، أخفض مصطفى رأسه والقلب يحبس دقاته، شعر بثقل العمامة، ليس على رأسه فحسب كما كان يقول، بل جوارحه كلّها شعرَت بثقل المهمّة الجسيمة، مهمّة رسم خطوطها قبل هذا اليوم، كمحطة فاصلة من محطات عمره، اتّخذ من أجلها قرارات ومواقف.
دوّن عن هذا الحدث في أوراقه وكتب: "في نهاية المرحلة المتوسطة وبداية المرحلة الثانوية، أبدى الوالد (رحمه الله) رغبته في أن أرتدي الزيّ العلميّ وأضع العمامة، خاصّة أني كنت درست قطر الندى، والمختصر النافع، ومنطق الشيخ المظفر على يديه في البيت، وتابعت ألفية ابن مالك لاحقًا عند أحد الأساتذة في المسجد الهندي.
104
88
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
زرنا معًا المرجع الكبير السيد محسن الحكيم في بيته مساءً بعد صلاة العشاء، ومعي الملابس والعمامة، وقام (رحمه الله) تعالى بوضع العمامة على رأسي، وألبسني العباءة ودعا لي بالتوفيق.
وخرجتُ ليلاً وأنا برفقة الوالد. مررنا على السوق في الطريق إلى البيت، فأراد الوالد أن يشتري حلاوة العمامة من محل الحلويات، فحصل معي نكتة لطيفة، حيث خاطبني صاحب المحل قائلاً: "مولانا"، فالتفتُّ ورائي متخيّلاً أنه يخاطب شخصاً آخر، فلم أجد أحدًا، فتنبّهتُ أنّي أنا المقصود، وأني بتّ بهذا الزيّ ممّن يخاطَبون بذلك.
من الجدير بالذكر أنه لم يكن لديّ من العمر في ذلك الوقت سوى ستة عشر عامًا، وكان شارباي قد بدآ يخطّان، وأما لحيتي فلم تنبت بعد.
طبعًا بقيت مرتديًا هذا الزيّ، وتابعت الدراسة الحوزويّة إلى جانب المدرسة حتى نهاية المرحلة الثانوية ونهاية مرحلة المقدّمات. فدرست ابن عقيل في النحو، وشرائع الإسلام في الفقه، ودرست معالم الدين في الأصول، وأنهيت المرحلة الثانوية الفرع العلميّ بمعدل جيد جدًا، وكنت أحضر الصف بعمامتي، فلم يكن هناك من مانع في مدرستي "منتدى النشر"، وهي مدرسة مسائيّة في المرحلتين المتوسطة والثانوية، ولها طابع الالتزام الديني.
لم أجد مشكلة في المتابعة مع الدراسة الحوزويّة والطابع الديني للمدرسة، وكان غيري كذلك، كالشهيد السيد عزالدين القبانجي، والشهيد السيد جمال الطباطبائي وغيرهما".
105
89
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
حمل هذا الحدث كثيرًا من التغيير، كانعطاف في طريق، أخذه إلى مشهد جديد، مشهد استعدّ له وخبره كمن عاشه، مستعينًا بما رآه من رجال الدين وما أكثرهم حوله، تواجده في وسط تلك البيئة منذ نعومة أظفاره ساعده لتكوين صورة مكتملة بين ظلمتها والنور، بين الخطأ والصواب، كثيرة هي تلك النماذج، شديدة الاختلاف والتنوّع، شاهدها وعاشرها عن قرب، مكّنه ذلك من تكوين صورة واضحة عن نموذج صنعه لنفسه، أضاف إليه الكثير من التفاصيل، حتى بات نموذجًا كاملاً يرضيه. لم يكن قد تجاوز السادسة عشر بعد، لكن معرفته بذلك النموذج الذي أراده لنفسه تعدت سنيّ عمره بكثير.
رجل دين، كان يشدّد على مخارج حروفها حين تحدّث لقريب له تعمّم حديثًا، وهو يقول بانفعال: "أتعرف ما معنى أن تكون رجل دين، رجل يمثّل الدين؟". لقد اتّخذ من أجل ذلك جملةً من القرارات والمواقف، كان أهمّها قرار غريب، لا يتّخذه في العادة رجل دين، قرار كان له في السنوات التي تلت أثرًا بليغًا في مسار حياته وتحكّم بانعطافاتها، لقد قرّر بشكل حازم أن لا يأخذ أجرًا على توجّهه هذا، أن لا يأخذ من بيت المال قرشاً واحدًا، امتنع عن أخذ المال المخصّص لرجال الدين مهما كانت الظروف، قرار غريب مثل هذا يحتاج إلى مبرّر واضح، دوافع وأسباب.. لمَ يا شيخ مصطفى والكل يفعل؟ هو مال يعينك على التفرّغ لطلب العلم ونشره... لم نجد جوابًا سوى صمتك.
هذا القرار الذي اتّخذه الشيخ مصطفى، وبالرغم من أثره بقي مجهول الدوافع، افترض معاصروه والمقربون منه أنه كان ناتجًا عن
106
90
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
تقواه. الذين يعرفون الشيخ مصطفى، يعرفون كم يخاف التعدّي على الحقوق، يبتعد عن أدنى شبهة فيها، أراد لنفسه رزقًا يستحقّه، رزقًا صافيًا نظيفًا خاليًا من أيّ إشكال أو شبهة.
سار على النموذج الذي رسمه لرجل الدين، وضاعف جهده في الدراسة الحوزويّة دون أن يتوقف عن دراسته الأكاديميّة، أو عن العمل في المكتبة ومعمل التجليد، واهتمامه بكل أفراد العائلة ومتطلّباتها، يساعد والده في تحمّل أعباء الأسرة الكبيرة. ولم ينسَ الشيخ مصطفى التواصل مع والدته، ومساعدتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يطمئن عليها، وينقل لها ما يطمئنها عن عائلتها البعيدة، إن عبر البريد، أو عبر المسافرين من النجف وإليها.
في تلك الفترة كانت السلطة في العراق قد بدأت بالتشديد على المتدينين وحركتهم، وأظهرت العداء الواضح للنجف وحوزتها، للحدّ من النشاط الدينيّ الذي اعتبرته يشكّل تهديدًا لوجودها. وكانت شخصيّة والده التي تتّسم بالقوّة والجرأة، وطبعه الحادّ الذي لا يتهاون مع الخطأ قد أدّيا قبل عام إلى تأخير عودته من لبنان، وتضاعفت الإشكالات هذا العام، واستجدّت في نزاعات جديدة، أدّت إلى اعتقاله وزجّه في السجن ظلمًا وعدوانًا لأيام عدّة، حكم عليه بعدها بالإبعاد القصري عن العراق، ولم يسمح له برؤية عائلته، وتم ترحيله من السجن إلى الحدود العراقية السورية مباشرة، فقام الشيخ مصطفى بإدارة تلك الظروف الصعبة وله من العمر سبعة عشر عامًا.
107
91
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
قام بتنظيم الوضع الجديد، ووضعه على سكة الاستقرار، لم يغفل عن شاردة ولا واردة، حتى بدت تلك الفترة كما ينقل أشقاؤه من أفضل فترات حياتهم.
وبطلب من والده، باع الكتب لتســــــديد الديــــون، وتولّى مهمة سفر زوجة أبيه والصغار من إخوته كما أراد والده، وبقي الأبناء الأكبر، ثم زاد من نشاط محل التجليد. أغلق المكتبة، وضم محلها إلى محل التجليد، تاركًا المجال أمام مكتبة أخرى قامت بالقرب منهم، أنشأها شــاب اســــــمه محمد علي الأمين. يعرفه الشيخ مصطفــــــى، ويعرف عائلته لصداقة قديمة تربط العائلتين.
يقول محمد علي الأمين: "كنت في السابعة عشرة من عمري حين قررت بدعم من أحد المشايخ فتح مكتبة في "قيصريّة علي آغا" أسميتها "مكتبة الآداب". كان الحافز لهذا العمل هو أن تكون مكتبتي بديلاً عن مكتبة الأمين التي أغلقت بعد ترحيل صاحبها الشيخ أحمد قصير.
كنت قليل الخبرة في الأعمال التجارية، بل لم أكن أعرف عن سوق الكتب شيئاً، وهناك عرفت الشيخ مصطفى معرفة حقّة، فمعرفتي السابقة به كانت قليلة وسطحية، لكني ومنذ الأيام الأولى وقفت مذهولاً أمام هذه الشخصيّة الفذّة.
كان في مثل سني تقريبًا، ووقف إلى جانبي في افتتاح المكتبة وقفة فريدة، وكأن الأمر يخصّه هو، فسخّر كل إمكاناته وخبرته الطويلة في مكتبة أبيه، ساعدني في كل شاردة وواردة، بصدق وإخلاص.. يشجّعني ويهتمّ بي كأخ شقيق، وقفت مذهولاً أمام هذا العطاء
108
92
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الكبير المخلص دون مقابل، على الرغم من ضيق وقته وانشغاله، صبر عليّ مع ابتسامته الودودة، حتى صار مثلي الأعلى، وأصبح أقرب الناس إليّ، وأحبّهم إلى قلبي. ففي أعمارنا لم أجد أحدًا يشبهه على الإطلاق في كل شيء هو فيه: في فطنته وذكائه، في أخلاقه وإخلاصه، وفي جده ونشاطه، فلم أره يومًا في كل هذا النهار الطويل جالسًا يستريح بلا عمل.
ولما لم يكن البيع عندي في المكتبة كثيفًا، أرادني أن أستثمر وقتي، فعلّمني التجليد، فصرت أقف في محل التجليد عنده أكثر وقتي، أحدثه وأسمع منه مستأنسًا بثقافته الواسعة، وحسن اطلاعه، كأحســـــن رجل ديـــن وأســـتاذ على الرغم من صغر ســـــنّه، أســــتمع إلى أفكاره ونصائحه وأحدثه في كل شيء".
لقد استقرّت الأمور على يد الشيخ مصطفى بوقت قياسي، بعد وقت قصير من رحيل والده. وكما كان يتواصل مع والدته تواصل مع أبيه، يضعه في صورة ما هم عليه. وأدّت تلك المراسلات للدخول إلى موضوع جديد، موضوع افتتحه والده، ولم يكن يخطر للشيخ مصطفى على بال.
وعن هذا كتب في أوراقه: "لا بدّ من الإشارة إلى أن والدي (رحمه الله) هو الذي دفعني إلى الزواج المبكر، رغم أنّه كان بعيدًا عني، حيث كان يذكر لي ذلك في كلّ رسالة، ويفرض عليّ خطبة فلانة وفلانة وفلانة، ولا أخفي أنني في المرة الأولى فوجئت بالأمر فرفضت، مستبعدًا الفكرة من جهة، ومستبعدًا الارتباط بالمقترحة التي أعرفها، وأعرف والدتها التي لم أكن معجبًا بنظرتها إلى رجال الدين؛
109
93
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
ما جعلني أستبعد بسرعة هذا الخيار، مضافًا إلى عدم تقبّل أصل الفكرة.
في المرة الثانية عرض عليّ فتاة أعرفها من الطفولة، وعلى الرغم من الملاحظات التي أحملها كان الموضوع أفضل من السابق؛ ما جعلني أخطو باتجاه التفكير جدّيًا في الموضوع بعد استبعادي له، فاستخرت الله على الخيار الثاني ولم تكن الاستخارة جيّدة فرفضت، وأما الخيار الثالث فلم يكن أفضل من الخيارين السابقين فرفضت مباشرة، وبدأت أنا بالبحث في الموضوع.
تحدّث أمامي "محمد علي الأمين" عن خاطب لأخته يلحّ، وأن أخاه الأكبر يرفض، فالتفتّ إلى الأمر، وأنها خيار جيد، أعرفها في الصغر فقط، ولا أدري كيف أصبحت، فمهما كانت المواصفات الجماليّة والجسديّة فليست مهمّة أمام المنبت الذي أعرفه تمامًا، فأنا على علاقة بالأسرة، وعلى معرفة قديمة بالإخوة، وأتذكّر المرحوم والدها رغم أنه توفي ولي من العمر أقل من ثماني سنوات، فاستخرت الله واستشرت أخواتي وأقدمت على الطلب، وكان التيسير".
تقول زوجته السيدة زهرة الأمين: "أخذني جانبًا أخي الأكبر السيد محمد -وهو بمثابة والدي- وحدثني مطوّلاً عن الشيخ مصطفى، عن تدينه وأخلاقه، عن كفاحه وإرادته، كان واضحًا من حديثه أنه معجب به، وراضٍ عنه، خلافًا لكل من تقدّم لخطبتي سابقًا، ثم سألني إن كنت أقبل به زوجًا لي، فقلت له: أنت أعرف به مني، وأعرف بمصلحتي، ونرجع إلى الاستخارة.
110
94
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
حين عدت إلى أمي وزوجة أبي وأخبرتهما بالموضوع، ضحكت زوجة أبي، وقالت لأمي: ألم أقل لك؟ بدت الدهشة على وجه أمي وهي تردّ: سبحان الله.. سبحان الله. فسألتهما عن هذا الأمر الغريب الذي يستدعي التسبيح! فحدّثتني زوجة أبي (رحمها الله) قائلة: حين قدم الشيخ أحمد والد الشيخ مصطفى إلى لبنان نزل عندنا فترة من الزمن ريثما يتمكن من استئجار منزل وتأثيثه للاستقرار فيه. وكان مصطفى رضيعًا في عامه الأول، وكنت أنت حديثة الولادة. والدتك أحبّت مصطفى كثيرًا، وكانت تخاف أن حليب والدته لا يكفيه وأرادت إرضاعه، فقلت لها بحسب خبرتي هو لا يعاني من الجوع، لا ترضعيه، فيصبح أخوها في الرضاعة، وقلت لها: من يدري عساه يكون من نصيبها! آنسني هذا الحديث كثيرًا، واعتبرته إشارة وتوفيقًا من الله".
كانت الاستخارة جيدة، ورحبت العائلتان، وتمّت الموافقة بلا إشكالات أو عوائق.
كتب الشيخ مصطفى في أوراقه: "عقد قراني المرحوم السيد جمال الخوئي، النجل الأكبر للمرجع الكبير، وذلك في أواخر العام 1970م، ولم يكن لديّ من الإمكانات الماديّة شيء، فكلّ ما كنا بحاجة إليه لإتمام الزواج كان دَينًا اقترضته من جهات عدّة، وسدّدته خلال سنوات لاحقة تدريجيًّا، وانتقلنا إلى بيت الزوجية في 9/1/1971 م.
كنت حينها ما زلت على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، وهذه تجربة فيها عبرة، فزواجي كان موفّقًا على الرغم من كونه مبكرًا،
111
95
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وعلى الرغم من سوء الظروف الماديّة التي رافقت معظم مراحل الحياة الزوجيّة، ولكن الأنموذج الذي أعيشه أعتبره قدوة، وأعتبره من أنجح الزيجات، والحمد لله على التوفيق والهداية والسداد.
من الجدير ذكــــره أن الأمــــــر تـــــمّ دون وجود أحد من الوالدين إلى جانبي، وأعلمت الوالد بانتهاء الترتيبات، وعقد القران، ودعوت الوالدة للمجيء قبل الانتقال إلى بيت الزوجيّة، ولكنها لم تتمكّن إلا بعد ذلك. والآن بعد مضي 42 عامًا أو أكثر على هذا الزواج ما زلت أشعر بالارتياح التام للموضوع بكل ما فيه من تفاصيل، وأشعر بأني كنت وما زلت موفّقًا".
سكن هو وزوجته وأشقاؤه، وتابع دراسته الأكاديميّة والحوزويّة، وضاعف جهده في العمل بالتجليد، بالنظام القديم نفسه، يأخذ دروسًا في الحوزة فجرًا بعد صلاة الصبح، يذهب بعدها إلى العمل، وبعد صلاة الظهر يتناوب مع شقيقيه على استراحة الغداء ساعة من الزمن تقريبًا، يذهب شقيقاه أولاً، وعند عودتهما يحين دوره، يعود بعدها للعمل حتى يحين موعد المدرسة، في ثانوية "منتدى النشر" الليليّة، هو وشقيقاه بعد إغلاق المحل.
برجاء ودعوة منه، جاءت والدته إلى النجف أكثر من مرة، لكنها لم تستطع البقاء طويلاً. تلك الزيارات كانت تنقضي سريعًا بما تحمله من أنس للشيخ مصطفى، وفرح يغمر الجميع، لا سيما الأم التي شعرت أنها استعادت الحياة بتلك الزيارات كما قالت.
استقرّت الأمور بالشيخ مصطفى مقبولة في رضا، على الرغم من الظروف الماديّة التي بقيت تتراوح بين العسر واليسر، وفي هذه الفترة
112
96
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وعلى الرغم من سوء الظروف الماديّة التي رافقت معظم مراحل الحياة الزوجيّة، ولكن الأنموذج الذي أعيشه أعتبره قدوة، وأعتبره من أنجح الزيجات، والحمد لله على التوفيق والهداية والسداد.
من الجدير ذكــــره أن الأمــــــر تـــــمّ دون وجود أحد من الوالدين إلى جانبي، وأعلمت الوالد بانتهاء الترتيبات، وعقد القران، ودعوت الوالدة للمجيء قبل الانتقال إلى بيت الزوجيّة، ولكنها لم تتمكّن إلا بعد ذلك. والآن بعد مضي 42 عامًا أو أكثر على هذا الزواج ما زلت أشعر بالارتياح التام للموضوع بكل ما فيه من تفاصيل، وأشعر بأني كنت وما زلت موفّقًا".
سكن هو وزوجته وأشقاؤه، وتابع دراسته الأكاديميّة والحوزويّة، وضاعف جهده في العمل بالتجليد، بالنظام القديم نفسه، يأخذ دروسًا في الحوزة فجرًا بعد صلاة الصبح، يذهب بعدها إلى العمل، وبعد صلاة الظهر يتناوب مع شقيقيه على استراحة الغداء ساعة من الزمن تقريبًا، يذهب شقيقاه أولاً، وعند عودتهما يحين دوره، يعود بعدها للعمل حتى يحين موعد المدرسة، في ثانوية "منتدى النشر" الليليّة، هو وشقيقاه بعد إغلاق المحل.
برجاء ودعوة منه، جاءت والدته إلى النجف أكثر من مرة، لكنها لم تستطع البقاء طويلاً. تلك الزيارات كانت تنقضي سريعًا بما تحمله من أنس للشيخ مصطفى، وفرح يغمر الجميع، لا سيما الأم التي شعرت أنها استعادت الحياة بتلك الزيارات كما قالت.
استقرّت الأمور بالشيخ مصطفى مقبولة في رضا، على الرغم من الظروف الماديّة التي بقيت تتراوح بين العسر واليسر، وفي هذه الفترة
112
97
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
حدث إشكال مع النظام ومخابراته، لم تعرف أسبابه بالتحديد، سوى أن الشيخ مصطفى ليس ممن يهادن النظام وظلمه. ننقل ما كتبه في أوراقه عن هذا الحدث:
"جاءني رجــــــل من الأمـــــن التابع للســــلطة البعثيّة يطلــــــب مـــــني الحضور إلى مركز الأمن، فسألته رغم معرفتي: من أنت؟ وأين كتاب الاستدعاء؟ فانزعج كثيرًا وتركني، وكان هذا الرجل هو الذي استدعى والدي قبل ذلك بسنتين حيث انتهى الأمر بالاعتقال والإبعاد. وعاد الرجل في اليوم التالي مع كتاب استدعاء، ذهبت ولم يكن معي جواز السفر، فأدخلني على ضابط متعجرف في أحد مكاتب الأمن، وقد رآني في الطريق أحد الأصدقاء فتبعني وعلم بوجودي هناك، وعندما طلبوا جواز السفر قلت لهم: يوجد في الخارج شخص استدعوه لأرسله لإحضار جواز السفر وهكذا كان، فذهب الصديق وأحضر الجواز من البيت ومرّ على شقيق زوجتي فأخبره بالأمر وبدوره أخبر الشيخ مفيد الفقيه فحضرا معًا إلى السراي.
في هذه الفترة تم توقيفي، ومن حسن الصدف أن الشرطي الذي كان مسؤولاً عن توقيفي كان زميلاً لي في المدرسة، فأجلسني في مكتب إداري بانتظار الأوامر. وعند وصول جواز السفر تم إحضاري، فوجدت الإخوة عند الضابط، فشرح لهم أنه يوجد قرار صادر عن مدير عام الأمن العام بإبعادي عن العراق، فطلبوا منه التريث وتأجيل الإبعاد شهرين، حيث كنت في السنة الدراسية الأخيرة من الثانوية ولدي امتحان رسمي. عندما رأيت الضابط المتعجرف يرفض بأسلوب فجّ خاطبتُ الإخوة قائلاً: من كلّفكم أن تتوسطوا
113
98
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
مع هذا، أنا لا أرضى أن نذلّ أنفسنا لهؤلاء. والتفتُّ إليه قائلاً: افعل ما تشاء، أنا حاضر للسفر، ولا يشرفني الإقامة هنا، ولا حاجة إلى مهلة على الإطلاق، وبالفعل فقد تمّ ختم الإبعاد مع تبيان القرار ومحل صدوره، وطلب مني كفيل يضمن سفري خلال أسبوع، وتمّ الأمر وخرجت مرفوع الرأس.
في اليوم نفسه جاءني أحد الإخوة الطلبة الذي كانت تربطني به صداقة وزمالة، فأخبرني بأن لديه قريبًا في القيادة القومية ويستطيع حلّ المشكلة، فقلت له أوّلاً: لا يوجد مشكلة، وثانيًا: أنا لديّ مبدأ وعليه فلا يمكن لي أن أرضى بأي خطوة فيها إذلال ولو كان قريبًا منك، فأنا لا يصدر عني كلمة رجاء ولا كلمة شكر، فإن كنت تستطيع بهذه الشروط فعل شيء فافعل. تحدّث الرجل مع قريبه هاتفيًا، فقال له: غدًا أعطيك الجواب، وفي اليوم الثاني قال: اذهبوا إلى مديريّة أمن النجف، فقد تمّ إرسال برقيّة بإلغاء الإبعاد.
ذهبت إلى هناك، وبمجرد أن رآني مدير الأمن قام من مكانه، واصطحبني إلى غرفة ذلك الضابط المتعجرف، وتحدّث معه بصوت خافت، فوقف الضابط ودعاني للجلوس فجلست، وأخذ يمازحني ويحاول إخراجي عن الجديّة الفائقة التي تعمّدت أن أحافظ عليها. سألني عن علاقتي بذلك القيادي فنفيت وجودها، وقلت له: أنا مستعجل فأنجز ما أمرت به بسرعة، فأرسل جواز السفر إلى الغرفة الثانية، وتمّ إنهاء الموضوع، وهو يحاول التملّق إليّ دون جدوى".
بعد أقلّ من عام على زواجه رزق بابنة، فاقتحمت قلبه مشاعر كانت جديدة في قوّتها وتدفّقها، وإن كان خبِرها من أبوّة سابقة كانت
114
99
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
قد تدفّقت من جوارحه وفاضت. بدأت بأشقّائه، ووصل عطاء تدفّقها إلى كل من وجدت إليه سبيلاً من أناس التقاهم، ومنهم أشقّاء زوجته.
يقول شقيق زوجته: "كان يخشى عليّ في مراهقتي من أصدقاء السوء، يسأل عن أصدقائي دون علمي، يتابعني في سلوكي وسلوكهم كأب يشغله الاهتمام بأبنائه، وإن رأى مني خطأً في مكان من سلوكي سعى إلى تصويبه، وكنت أستجيب له أكثر من أيّ شخص آخر، كان الأقدر في سنيّ مراهقتي على التأثير عليّ، ربما هو عمره القريب نسبيًّا، وأكثر الظنّ كان أسلوبه في التعاطي، ومعرفته بمشاكل هذا العمر وحلولها، قدرته على التفهم دون الوعظ المباشر، حتى بتّ أستعين به وألجأ إليه، واعتبرته منذ ذلك العمر نموذجًا يقتدى به".
وقال شقيقها الثاني: "يسألني دائمًا عمّا كان يهمّني، وإن كنت أريد شيئاً، كان يساعدني في فهم دروسي، أذكر تمامًا تلك الأيام التي كنت أعمل فيها صباحًا قبل المدرسة في مكتبة قريبًا من مكان عمله، حيث أشعر باهتمامه ومحبته".
كأن الأبوة كانت جــــــــــزءاً من إنســــــــــانه، أو وجدت فيه قبل الأوان. نَمَت باكرًا واستمرّت في النموّ، لتشكّل حافزًا لعطاءاته، تبرّر توجّهه التربويّ في مستقبل أيامه، أب كان قبل الأبوّة، وتتوّج هذا الدفق العاطفي مع قدوم ابنته الأولى، وتبلور، شذّبته خفقات القلب بتلك المودّة الخائفة ليتّخذ شكلاً جديدًا.
في هذا العام أيضًا، أصيب العمل بانتكاسات متعدّدة، وبدأت المكتبات تهجر سوق القيصريّة، والعمل في التجليد تراجع شيئاً
115
100
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
فشيئاً، بعد دخول آلات التجليد إلى المطابع. أرسل الشيخ مصطفى شقيقيه مع والدته إلى لبنان، واستطاع محلّ التجليد أن يصمد أطول فترة ممكنة بعد أن أغلقت أغلب محالّ التجليد، ثمّ تأثّرت سوق الكتب بأعمال الهدم والبناء في المنطقة، ثمّ تمّ بيع كامل العقار، وأعطي المستأجرون إنذارًا بالإخلاء.
كان على الشيخ مصطفى أن يتّخذ سبيلاً وخيارًا آخر للرزق، فافتتاح محل للتجليد في مكان آخر كان خياراّ غير مجدٍ، فمصلحة التجليــــــد اليدويّـــة أصبــــــحت أضـــــعف مـــن أن يعتمد عليهـا. وحاول تأجيل خيار السفر والالتحاق بأشقائه حتى استنفاد كلّ الخيارات الممكنة، رغبة منه في متابعة ما كان فيه، من الدراسة الحوزويّة والدراسة الأكاديميّة، ومواصلة العمل حيث أصرّ أن يكون هو رزقه الوحيد، بعيدًا عن الحقوق الشرعيّة.
اتّصل به أحد أصحاب المكتبات الكبرى في بغداد، كان ذلك الرجل يعرفه منذ أيام المكتبة، واتضحت معرفته به أكثر في السنوات الأخيرة، قبل سفر الوالد وبعده، حين تولّى الشيخ مصطفى شراء الكتب للمكتبة، وكان معجبًا بأمانته وصدقه، وحسن أدائه، فاقترح عليه العمل في بغداد. هذا الاقتراح تناسب مع رغبة الشيخ مصطفى في الالتحاق بجامعات بغداد، وله في بغداد معارف وأصدقاء، فقرّر أن يخوض هذه التجربة، فأبقى زوجته مع طفلته في منزل ذويها حتى تستقرّ أمور هذا الخيار الجديد.
أشهر طويلة، صبر فيها الشيخ مصطفى على ما كان يعانيه من صعوبات في بغداد، بين سكنه والمعاش، بين العمل والبعد عن
116
101
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
عائلته التي لم يكن يراها سوى يوم واحد في كل أسبوع، صعوبات في العمل والسكن والمدخول القليل، صبر على أمل التغيّر، واستثمار تلك المعاناة بتقدّم في مكان ما، في العمل أو الدراسة، لكنه طوال تلك الفترة لم يجد ما يرضيه، لا في العمل ولا في الدراسة الأكاديمية.
يقول صديقه محمد سرور: "كنّا معًا لسنوات طويلة، وأنهينا معًا دراستنا الثانوية في ثانوية منتدى النشر، وكان علينا أن نتوجّه إلى بغداد لإكمال دراستنا الجامعيّة، ضمن الخيارات المقبولة في الجامعات الرسمية، وكان عليه أن يوفّق بين الجامعة والعمل، واحتياجات عائلته. كانت خيارات الانتساب واضحة عنده، محصورة بين الإدارة، والاقتصاد والرياضيات، وهي متوفّرة بسهولة؛ إذ كان الإقبال على الطب والهندسة هو الغالب بين الطلاب، لكنه فوجئ بعدم قبوله في الجامعات الرسمية، على الرغم من معدل درجاته العالية، في الوقت الذي قبل فيه من هو أدنى منه بكثير".
قُبِل في الجامعة المستنصريّة، اعترض وسعى سعيه لتغيير تلك النتيجة، فلم يفلح، إذ علم بعد البحث أن ملفّه الأمنيّ الصادر من جهاز المخابرات هو الذي ساهم في عدم قبوله في الجامعات الرسميّة، ولكنّ جامعة المستنصرية بأقساطها المرتفعة تجعله خيارًا مستحيلاً. ومع صعوبة السكن والعمل والمدخول القليل، كان عليه أن يتّخذ قرار الرجوع إلى النجف، وينهي التزامه مع من يعمل معهم في بغداد، حينها تقدّم واحد ممن كان يعمل معهم باقتراح أن يشاركه في افتتاح مكتبة كبرى في النجف، فوافق الشيخ مصطفى.
117
102
المقدّمة
عاد إلى عائلته، وباشر من فوره بإنشاء تلك المكتبة (مكتبة الأندلس)، بذل جهودًا مضنية في تأسيسها، قام بتنظيمها وإنشاء أقسامها في بناء إداري فريد ومميز، وضع فيها كل خبرته وذوقه، حتى أصبحت نموذجًا فريدًا. وبدا له أن الأمور ستسير في الاتجاه الصحيح، وبدأت المكتبة تكتظّ بالزبائن، وتنتشر شهرتها في أرجاء النجف بسرعة قياسيّة، وتعزّز الأمل بانفتاح أفق جديد من الاستقرار والتطوّر مع متابعة الدروس في الحوزة.
كان سعيدًا بهذا الأمل على الرغم من التعب والمجهود الكبير. يخطّط للقادم من الأيام، وما يمكن إنجازه فيها مع هذا الاستقرار، لكن حركة في الأفق كانت تصاحب شروق هذا الأمل.
نقرأ ما كتبه في أوراقه: "عرض عليّ المشاركة في إدارة مكتبة كبيرة -فرع لمكتبة في بغداد- كنّا على علاقة بصاحبها، وبالفعل تم استئجار المحل الواسع (قرب مدرسة البروجردي (قدس سره) حيث كان الإمام الخميني يعطي أبحاثه) وتمّ تجهيز المكتبة وترتيبها، فكانت من أكبر مكتبات النجف وأحدثها، وشهدت إقبالاً كبيرًا؛ نظرًا إلى تنوعها وترتيبها، ولكنّ هذه المكتبة سرعان ما قامت السلطات بإغلاقها ورفض وجودي فيها، ثم فتحت بعد أن تركتها؛ مما يؤكّد أني كنت أنا المستهدف كما صرّحوا للشريك المموّل".
فسحة الأمل تلك بدأت بالتلاشي، وانتشرت في الأفق عتمة، ما لبثت أن أغلقت كل أبواب الفرج، وما عاد هناك سوى خيار طالما حاول الشيخ مصطفى اجتنابه.. فللنجف في القلب الكثير، مدينته التي شهدت طفولته وصباه، أمير المؤمنين، والحوزة، وأحلامه،
118
103
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
وما حقّقه فيها خلال سنوات عمره التي تجاوزت العشرين، مدينة تصعب مغادرتها، مدينة اعتادت أن تسكن قلوب ساكنيها وإن غادروا. أغلقت الأبواب ولم يبقَ إلا المنفذ الصعب.
نقرأ في أوراقه: "بعد إغلاق المكتبة وقرار الإبعاد، وبعد كلام سمعته بصراحة من بعض المعنيّين بالأمن، علمت أنهم لن يدعوني وشأني، وأني لن أتمكّن من البقاء مستقرًّا في النجف، فقرّرت المغادرة. سافرت مع زوجتي وطفلتي الصغيرة التي كانت قد ولدت في هذه الظروف، وعدت إلى لبنان لأبدأ مرحلة جديدة من حياتي".
119
104
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
مرحلة جديدة، وأمام كل جديد لا بدّ من الوقوف مليًّا، وهو الذي يحسب لكل أمر حساب، من عادته أن يخطّط لكلّ جديد مسبقًا، فكيف إذا كان هذا الجديد مختلفًا بوضوح، بين بيروت والنجف مسافة ليست في المكان فحسب، وهو الذي يعرف بيروت ويعرف هذا الاختلاف، وهو الذي يريد لنفسه الاستمرار في ما كان فيه، لن يغيّر في قناعاته، في صورة رسمها لنفسه طوال تلك السنين، رسم خطوطها العريضة ودخل إلى التفاصيل حتى اكتملت.. سيسير إلى هدفه الواضح كمن يتّخذ الشمس دليلاً، هدف واضح وإن كان بعيدًا، دونه مسافات وسعي حثيث وشاق. خيارٌ هو عازم على تنفيذه دون تغيّر أو انتقاص، مستعدٌّ لهذا الجهد وإن طال أمده، لا يريد الوصول إلى نصف الهدف.. رجل دين كما ينبغي لرجل الدين أن يكون، علمًا وسلوكًا وعطاءً، لن يخرج إلى تلك الصورة قبل اكتمال ملامحها، وكما يراها هو، وتلك الإضافة التي كان قد طبع بها شخصيّته، وهو أن لا يتّخذ من الحقوق الشرعيّة رزقًا، أن لا يأخذ قرشاً من بيت مال المسلمين طالما هو قادر على العمل، والوقت في رأيه إن استُغلّ كما يجب سيكفي للعمل ومتابعة بناء شخصيّة رجل الدين التي أراد.
لم تكن وجهة النظر هذه تعتمد على التنظير فقط، لقد اقتنع بإمكان ذلك عمليًّا ومارسها في النجف، هو لا يريد من الزرق إلا الستر والكفاف، وباقي الوقت سيكون لبناء تلك الشخصيّة، رجل دين يكون مثالاً، سفيرًا لدين محمّد عليه وآله صلاة الله وسلامه، سفيرًا لدينٍ يرى نفسه فداءً له. قرار كان قد اتّخذه مسبقًا قبل هذه
123
105
الفصل الثاني: سنوات في جوار الأمير (عليه السلام)
الظروف، لن يتراجع عنه الآن في هذه المرحلة الجديدة، سيتحرّك ضمن الخطين معًا، بين العمل والدراسة، سيتابع ما كان فيه، وسيستغلّ الظروف الجديدة إلى أقصاها.
وعنـــد ارتــداء العمامـــة توقّف، العمامـــــة في العراق هي غيرها في لبنان، في النجف يرتديها طلاب العلوم الدينية منذ البداية، وقبل الوصول إلى مرحلة تؤهلهم ليكونوا رجال دين، هذا ما تصالح عليه العامّة والعلماء في النجف، أمّا العمامة في لبنان فهي لرجال الدين، وعلى من يرتديها أن يكون أهلاً لذلك.
هذا ما يراه الشيخ مصطفى مع قدسيّة تلك التسمية ورهبة الموقف، وهو الذي اعتاد أن يأخذ أموره كلّها باتّجاه المثاليّة، لن يخرج إلى الناس بلوحة ناقصة، لن يتّصف بصفة رجل دين، وهو بعد لا يرى نفسه قريبًا منها، أو في حدّها الأدنى الذي يراه هو، في العلم والمعرفة والقدرة على التبليغ، قدوة وقيادة، لن يرتدي زيًّا يضعه في مقام مقدّس لا يرى نفسه مؤهلاً له بعد.
كتب في أوراقه: "جئت إلى لبنان بالزيّ العادي (بدون عمامة)، وبدأت البحث عن عمل، وفي انتظار ذلك كان لابدّ من ترك العائلة في دير قانون النهر بالقرب من والدتي".
لم يكن يملك من المال حتى قوت يومه، وكان عليه أن يباشر في البحث عن عمل، ثم السعي لاستئجار منزل وتأثيثه، فباشر دون إبطاء. وضع زوجته وابنته عند والدته، ولما لم يكن العمل في القرية متوفّرًا، اتّجه إلى بيروت حيث تتنوّع الفرص، وتزدحم الأقدام، ويتسنّى له الانتساب إلى الجامعة ليكمل دراسته الأكاديمية. ويتابع
124
106
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
بالوسيلة الممكنة دراسته الحوزويّة، واضعًا هذه الأهداف نصب عينيه، على أن تبدأ أولاً بتوفير لقمة العيش الكريمة وإن بحدّها الأدنى. هناك سيبحث عن رزقه، وأعدّ نفسه للعمل بأيّ صيغة متوفّرة.
وليجد له متسعًا في بيروت عليه أن يبحث عما يجيده هو، عن عمل يتقنه... بم تفكّر يا سيدي، ولا شيء سوى الكتاب؟! كأنك ولدت بين دفّتيه، أنيسك ورفيقك، جدران عمرك من كتب، رائحة أصابعك ورق، وذهنك بيت للحروف... أينما توجّهت فسوف ترى نفسك سائرًا إليه.
يقول في أوراقه: "في بيروت عملت في دار الثقافة أشهرًا عدة في تجليد الكتب".
لكم كانت هذه المرحلة تشبه المرحلة الأخيرة في العراق، وكأنها نسخة عنها باختلاف الزمان والمكان، هي مثلها في البعد عن العائلة التي لم يكن يراها سوى يوم في الأسبوع، مثلها في ضيق العيش والتعب الذي لم يؤت ثماره، مثلها في محاولة الانضمام إلى الجامعة.
اختار كليــــة الآداب، لأنه لا يحتــــاج إلى الحضــــور المتواصــــل في الجامعـــة، فوقتـــه لم يكن يســـمح بغيــــر ذلك. واختـــــار منهـــا الأدب الإنكليــــزي من أجل إضافــــة علمية حديثـــــة، وتسلّح بالصبر، واصل مسعاه في معاندة الظروف والبحث عن الأفضل، عانى الكثير، في العمل على وجه الخصوص، فهو في مركز هذا النظام الذي خطّط له، لم يوفّق في دار الثقافة، وعاد إلى دوامة البحث عن عمل جديد.
125
107
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يقول في أوراقه: "اشتركت مع شخص عائد من الاغتراب في فتح مكتبة في الشياح إلى جانب محلات له تبيع الأحذية، ولكن سرعان ما اختلفت معه وتركت هذا العمل".
في تلك الفترة نشأت علاقة وطيدة بينه وبين السيد حسن الأمين المؤرّخ والكاتب المعروف نجل المرجع السيد محسن الأمين (قدس سرّه). فاقترح عليه أن يتسلّم إدارة المطبعة التي أسّسها في "شقراء"، فوافق على هذا الاقتراح، بل كان سعيدًا به.
يتحدّث عن ذلك في أوراقه ويقول: "تلقّفت العرض بأن أعمل في شقراء في المطبعة التي كان يؤسّسها السيد حسن الأمين لأسباب عدة، فهي بلدة زوجتي ولي فيها معارف، ويمكن فيها توفير سكن رخيص، والحياة براتب محدود ستكون مقبولة، وهي بعيدة عن المدينة وصخبها، وطقسها جيد".
في "شقراء"، تلك البلدة التي لم تكن مجهولة له، حدث انقلاب في الصورة، أو انكشاف على حقيقة مستورة خلف ازدحام الحياة وظروف العمل الضاغطة، في هدوء تلك القرية وفسحة الوقت تكشفت، كأن بابًا فتح على مكان معزول كان قد بناه هذا الرجل الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، كان محجوبًا كما تحجب الأرض قمرها عند الخسوف، اتّضحت صورة ما كان يخفيه من ملامح شخصيّته، قرّر أن يفتح الباب لطيور رسائله، رسائل كتبها طوال تلك السنين حرفًا بعد حرف، أراد لمصطفى السجين أن يخرج في فسحة تلك القرية، وقرأ في أجوائها أن الظروف مناسبة، متّسع من الوقت في حياة بسيطة، واستقرار في العمل، وهو الذي
126
108
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
لم يسعَ لغير الكفاف، ربما كان الحافز الأكبر هو ما شاهده من حاجة الناس إليه، إلى ذلك المحجوب طوال تلك الظروف التي لم تكن مناسبة، كانت الحاجة واضحة والظروف مؤاتية.
في القرية التي يغلب عليها طابع الهدوء والبساطة، كانت الساحة خالية أمام الأحزاب العلمانية الناشطة، لم يكن في تلك الساحة من يعمل سواهم، مع هجمتهم الشرسة على الدين، ووصمه بالتخلّف والرجعيّة، والدين مجهول عند الأغلبية، لم يبقَ إلّا القليل من متوارث قديم أضرّ به الإهمال حتى اندثرت ملامحه، ومورس عليه الكثير من التشويه والظلم بعيدًا عن أعين عامة الناس الطيبين، هذا الدين الذي بنيت عليه ذاكرة مصطفى وتغذت عليه جوارحه، يراه أمامه مجهولاً محجوبًا نوره.
في الأيام الأولى، وكما هي عادته في التزام الصلاة في الجامع، وجد الجامع إمّا فارغًا أو به عدد قليل من الرجال المسنين، ونادرًا ما كان يحضر إليه الشباب أمثاله.
كلّ هــــــــذا جعلـــــــــه يتحــــــــرّك على الفـــــــور، مســتقطبًا ما اســـــتطاع من الشباب، وكان لحسن أخلاقه وثقافته الواسعة وحجّته المقنعة الأثر الكبير على شـــــباب اجتمعــــوا حوله، في وجدانهم إيمان فطريّ، وعطش للمعرفــــة. على الرغم من صغـــر ســــنه، وعلى الرغم من كونـــــه لم يرتدِ العمامة إلّا أن لقب الشيخ رافقه منذ البداية، أسلوبه وتقواه ومعرفته جعلت هذا اللّقب يلتصق به دون إرادة منه.
قام بتدريس الفقه ضمن حلقات في "المسائل المنتخبة" بتشجيع من إمام البلدة السيد محمد علي الأمين. ولقد نظّم لتلك الدروس
127
109
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
وقتًا، وأنشأ فيها علاقات دامت فترة طويلة، ظهر واضحًا فيها قدرته على التدريس وإيصال المعلومة.
يقول سماحة السيد محمد علي الأمين: "كنت سعيدًا بقدومه للعمل في "شقراء". في الأيام الأولى كان يتابع معي دراسة علومه الدينيّة في الوقت المتاح، لقد وجدت فيه الشاب المثالي، فهو يمتلك صفات لم أرها في سواه، حتى في من هم أكبر سنًا، في تديّنه واستقامته وثقافته، شاب مخلص صادق إلى أبعد الحدود، كثيرًا ما كنت أستعين به في التدريس، وفي أمور عديدة. في المستجدات من الأمور، وفي المناسبات كانت له مبادرات لافتة، تنمّ عن ذكائه وإخلاصه، في كل ما كنت أراه منه، وبعد التجربة أصبحت لديّ ثقة مطلقة به".
تلك الدروس التي كان يعطيها لم تكن كافية لاستثمار طاقته المتوقّدة، وإمكاناته المعرفيّة، وقدرته على العطاء، فسعى إلى توسيع الدائرة خارج تلك الدروس، والعمل في التبليغ على مساحة أوسع وبأسلوب مختلف، فقام باستثمار ما اعتاده الناس من لقاءات المنازل ليصل إلى شريحة أوسع.
يقول في أوراقه: "في شقراء تعرّفت إلى عدد آخر من الإخوة وعرضت عليهم أن نلتقي بشكل أسبوعيّ في أحد المنازل بالتناوب، ونتناول بعض المسائل الفقهيّة والثقافيّة ومستجدات الأحداث، وبالفعل ترتّب الوضع وحصلت فوائد كبيرة من هذه السهرات".
حين قرّر إطلاق شخصيته التي أرادها لنفسه بعد أن تسنَّت لها الظروف، شرّع أمامها كل ممكن، أراد لها أن تكون كاملة في نشاطها، في التصحيح وفي البناء، تصحيح ما هو قائم، وبناء جديد لم يكن
128
110
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
موجودًا، في استغلال كل فراغ موجود، ومنها المناسبات الدينيّة التي طالها التقصير، ولم تُعطَ حقها في الاستثمار، أو لم تستثمر كما ينبغي، والغريب أنها كانت تستغلّ من غير المتديّنين.
يقول في أوراقه: "وجدت نفسي أمام دور جديد، وهو القيام بمسؤوليّة تنظيم المجالس العاشورائيّة في الحسينيّة بعد غياب من يقوم بالأمر، وسعيت لتوفير قارئ محترف، لكنني لم أُوفّق، فالقرّاء أغلبهم محجوزون لمجالس أخرى، ومن تبقى منهم لا يرغب في التنقّل ليلاً، كما أن وسائل النقل غير متوفّرة، في أغلب الأحيان، فلمعت في ذهني فكرة عرضتها على الزملاء فاستحسنوها، وهي أن أكتب أنا المجالس ويقوم شاب من بيننا بقراءتها.
بدأنا بتجريب الأصوات، ووقع الخيار على شخص تربطني به علاقة قرابة، فقرأ مجالس الليالي العشرة التي كتبتها له مستعينًا بكتــــاب "مثيـــــر الأحــــــزان" وكتـــاب "المجالس الســـــنيّة". وهذا الرجل أعجبته المصلحة فاستمرّ يقرأ العزاء بالأسلوب نفسه الذي بدأ به، وعلى مدى أكثر من عشرين عامًا. وكنت أتحكّم بالكلمات التي تلقى بالمناسبة خوفًا من استغلال المجالس الحسينيّة من قبل اليساريّين وهم كثر، وهذا ما عرّضني للنقد".
أراد إخراج كل ما عنده، كأنه أراد أن تخرج للشمس تلك الصورة التي رسمها بعناية طوال سنوات للرجل الذي يريد أن يكونه وحجبته الظروف. يضيف في أوراقه:
"... وشكى لي شاب، تعرّفت عليه في المسجد، معاملة أخيه الأكبر له على خلفية تديّنه، فهو يرى أن المتديّنين لا يصلحون للحياة
129
111
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
والعمل، فكلّما عجز هذا الشاب عن إنجاز شيء أو أخطأ خطأً في عمل يكلّفه به، كان يقول له مستهزئًا ساخرًا: اذهب وصلِّ. أي أنك لا تنفع لشيء إلّا للصلاة، وما يعنيه ذلك من توهين للصلاة وظلم للمصلّين.
فسألت عنه لأحدّثه عن حقيقة الصلاة، وأن المصلّين هم أكثر الناس احترامًا للحياة، فعلمت بعد السؤال أن تلك العائلة التي كانت تعمل في الزراعة سوف تذهب بجميع أفرادها بمن فيهم صديقي لزراعة أرض لهم زراعة موسميّة يُطلق عليها "صحرا"؛ أي زراعة البطيخ والخيار وما شابه. فذهبتُ إليهم في الصباح الباكر مع أحد الأصدقاء، ودخلنا إلى أرضهم مع بداية العمل، سلّمت وقلت: لقد جئنا لمساعدتكم في الزراعة. ظنوا أنني أمازحهم فأكّدت لهم قولي، وبدأنا العمل معهم بنشاط وهمّة حتى إذا انتصف النهار تغدّينا معهم على الأرض تحت شجرة، ثم تابعنا العمل، وكنت أقرأ في وجوه العائلة علامات التعجب والتقدير، ولا سيّما الأخ الذي يجهل قيمة الصلاة، حتى انقضى النهار وودّعناهم. وحين شكرونا، قلت لهم: نحن من نشكركم على السماح لنا بالمساعدة؛ لأن فيها أجرًا عظيمًا من الله، ولم يطل الوقت، فعرفت أنه قال لأخيه: هذا التديّن وهذا الإيمان يختلف عمّا نعرفه عند الآخرين. ثم سأل هل بالإمكان أن تدعوهم إلى بيتنا في السهرة القادمة؟ وعندما علمت بذلك وافقت، وهيّأت الدّرس والموضوع المناسب".
وهكذا أطلّ جانب آخر من شخصيّته، بل ركن من أركانها، ركن لطالما أسّس له في بدايات العمر، أساسًا عريضًا قويًا، هو الجانب
130
112
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
التربويّ الذي مارسه منذ نعومة أظفاره، وأحاط به إخوته منذ البداية، حتى أصدقاء طفولته والصغار من محيطه، ثم أشقاء زوجته، جانب بناه بأساس متين دون أن يدري، عزّزه بما لديه من حب، من هذا الفيض العاطفيّ المتدفّق فيه، من تلك الأبوّة التي وجد نفسه فيها منذ البداية.
يقول في أوراقه: "والتفتّ إلى ضرورة العمل لاستقطاب الفتيان والاهتمام بهم، فكلّفت أحد أقرباء زوجتي وله من العمر 12 عامًا أن يجمع زملاءه يوم الجمعة عندي في البيت، فجمعهم، وكان من بينهم أولاد المسؤول الشيوعي في قطاع بنت جبيل وشقراء.
وكنت لأسابيع عدّة أجلس معهم أحدّثهم، وأدرّسهم التربية الدينيّة، وفق كتاب الشيخ عبد الهادي الفضلي (رحمه الله).
من الجدير بالذكر أن بعض هؤلاء أصبحوا لاحقًا من طلاب الحوزة وارتدوا العمامة، أحدهم ابن ذلك المسؤول الشيوعي، والآخر هو الذي كان يجمعهم لي وشخص ثالث".
كان العمل السياسي للأحزاب العلمانيّة ناشطًا في تلك الفترة، والســـاحة خاليـــة لهـــم، مـــع إمكانــــات كبيـــــرة وســلطة على الأرض، مدعومين من قوى كبرى ودول، توافقوا جميعًا على محاربة ما تبقى من تدين فطريّ لدى الناس، وهو يرى هذا كله بوضوح المستطلع صاحب الهمّ، يحاول بكلّ إمكاناته المحدودة، كان لا بدّ من البحث عن وسائل لتفعيل هذا الجهد، غلى الرغم من طبعه الحذر في التعاطي مع المجهول، والبعيد الذي لا يحيط به علمًا، لكنّه وجد نفسه داخل هذا العالم الجديد.
131
113
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
نقرأ في أوراقه: "في شقراء أيضًا كانت تجربتي الأولى مع حركة المحروميـن، حيــــث دعــاني الشــيخ محمد جعفـر شمس الديــن للالتحاق بصفوفها والمشاركة في تشكيل مجموعاتها، وعلى الرغم من ثقتي بسماحة الشيخ وعلاقة المودّة والاحترام التي تربطني به، كنت متردّدًا، وبعد أخذ وردّ وبحث مطوّل حول الجدوى والأهداف والضوابط والسياسات.
وكان لي تساؤلات حول بعض الكوادر المحيطة بالإمام الصدر، وعدد من الهواجس، في النتيجة كانت وجهة النظر بأن هذا الإطار قائم، ولا يصحّ أن يترك لغير المتديّنين والواعين، وتبيّن لي أن سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي كنت حتى ذلك التاريخ أعتبره ضمانة، قد أشار على أصحابه في الجمعية بالانتساب إلى الحركة، وبعد أن استخرت الله قرّرت أن أنضم إلى حركة أمل.
وكان أول انتسابي عضوًا في لجنة منطقة مرجعيون، وتعرّفت بسرعة على الشهيد حسن شري الذي احتلّ في قلبي منزلة خاصة جدًا، وتعرّفت على كوادر الحركة في إقليم الجنوب، وشاركت في إعداد البرامج الثقافيّة، والتدريس، والعديد من الأنشطة، حتى انعقاد المؤتمر التأسيسيّ الأول للحركة عام 1976 الذي انعقد على مدى ثلاثة أيام بحضور الإمام الصدر، والدكتور شمران، والصف الأوّل من الكودار، وهناك خضت مع مجموعة من الزملاء نقاشات حادّة حول إيديولوجية الحركة وضمانات بقاء نهجها القويم، وعندما تشكّلت 14 لجنة لاقتراح النظام الداخلي للحركة كنت في لجنة التربية وخضت نقاشات طويلة مع بقية الأعضاء حول
132
114
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
مسائل كنت أعتبرها من المسلّمات التي لا يمكن التنازل عنها. بعد خروج اللجان بالتوصيات تمّ عرضها في الجلسة الختاميّة للمؤتمر بحضور الإمام الصدر".
زهاء ما يقارب العام من العمل السياسيّ الغنيّ الدؤوب، الذي تخلّلته الكثير من الأحداث، ولا سيما أنّ الحرب الأهلية بدأت بكل ما فيها من تقاطع وتشابك، وبما عاناه الناس فيها، فإنّه قضاها كتجربة غنيّة لشخصيّته التي أفسحت لها الظروف بالخروج، كأنّه أراد لها هذا الخروج المبكر بكامل جوانبها كمن يعرضها للتجربة على الأصعدة كلّها، ليرى نتائج هذا الخروج بوضوح، أراد لها خروجًا غير منقوص خلال عامين من التواجد في شقراء، كأن جزءًا منه كان يمارس دور المراقب، فاسحًا في المجال أمام تلك الشخصية المحتجزة أن تخرج بكل تفاصيلها، أن تعمل فعّالة بكل أركانها، ليبني بعد ذلك لتلك الشخصيّة ما شاء له البناء والترميم، لم يدع مكانًا إلا وأشركها فيه، في العلم والفقه، في السلوك وفي العمل، وجعل همّها الأكبر في مساعدة الناس، لا سيما مع تصاعد مشاكل الحرب الأهلية.
نقرأ في أوراقه: "عندما كنت في شقراء حصلت أزمة طحين وارتفع سعره بشــــكل يهدّد العوائـــل الفقيرة بالجــــوع، وقام الإمام الصــــدر بمبادرة حيث أحضــــر كمية كبيـــرة من الطحيــــن من ســــوريا وتمّ تقسيمها حصصًا على القرى بشكل محدود. وكانت حصة شقراء ثلاثة أطنانٍ فقط، دُعيت لتسلّمها من أحد المستودعات في منطقة صور، وعندما ذهبت طلبوا مني الإتيان بشاحنة وعمّال للتحميل،
133
115
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
أتيت بالشاحنة ولكن كيف آتي بالعمّال؟ لم يكن لدينا مال يدفع لهم، فاضطررت أنا وصديق لي كان أستاذًا في مهنيّة جبل عامل،إلى أن نحمل أكياس الطحين على ظهورنا التي أصبحت مطليّة بالطحين.
كانت المشكلة أين نضع الطحين، قد يأتي ممثلو الأحزاب لمصادرتها وتوزيعها حسبما يشاؤون هم، وهذا ما نرفضه، وبعد البحث تبيّن وجود محل فارغ لأحد الإخوة استعرناه منه، ووضعنا الكميّة فيه، وطلبت من المرحوم السيد عبد المجيد الأمين إعداد لائحة بالعوائل الفقيرة التي لا تستطع شراء الطحين بالسعر المرتفع الذي وصل إليه، وتم إبلاغ هؤلاء بضرورة الحضور في وقت محدّد لتسلّم حصّتهم.
وجاء أعضاء اللجنة المشـــتركة للأحزاب، وهدّدوا بوضـــــع اليد فأنذرتهم بقسوة رغم أني لا أملك شيئاً للدفاع، وخشيت حصول فوضى عند التوزيع فطلبت من خارج شقراء شابين مع سلاحهما للحماية، وهكذا كان، وتم التوزيع بهدوء والحمد لله، والمشكلة أن صاحب المحل كان ينتظر أن نخصّصه بحصّة وافرة، وهو بنظري لم يكن من المستحقّين، فحاله جيّدة وبالفعل لم أضعف أمامه، وقلت له: علينا نحن أن نضحّي، وهي الذهنيّة لم تكن آنذاك قد ترسّخت في أذهان الإخوة".
خاض التجربة بكاملها، حتى في حمل السلاح وحراسة البلد في الليالي. وبدا جانب آخر من تلك الشخصيّة واضح الظهور أكثر من سواه، ألا وهو اهتمامه بالجانب التربويّ، فقد بدأ بإفساح المجال له قبل الدخول إلى حركة المحرومين، واستمرّ معها ليكون ضمن
134
116
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
لجنة التربية في حركة المحرومين (أمل). وهموم البلدة كانت همه الأكبر، تلك الأبوة التي كانت تعتمل في داخله منذ الصغر، كأني بها كانت تطفو على سطح عطائه كلّما انسكب بإنسانه، يشكّل الصغار همًّا يتابعه، ولا سيّما أن العديد من القوى تحاول استثمارهم وقودًا لمشاريعها.
تلقّى يومًا خبرًا من صديقه أستاذ المهنيّة في صور، ومفاده أن الأحزاب والقوى الناشطة قرّرت أن تعتمد خطّة لاستقطاب الصغار من خلال إنشاء دورات صيفيّة بحجّة تعليمهم الدروس، ليتمّ في تلك الدورات استقطابهم في العمل الحزبي. خاف على الصغار من تلك الخدعة، ومن تلك المشاريع التي يراد بها استغلالهم واستثمارهم وقودًا لحروبهم، فتوقّدت مشاعر الأبوّة فيه وثارت.
يقول في أوراقه: "عند الســـاعة المحدّدة لم يـــأتِ معــــي أحـــد، فتوكّلت على الله وذهبت وحدي، قلت لنفسي إنّ الله هو المسدّد والموفّق والمعين، سيعينني ويحميني، وهو يعلم أنني لا أريد سوى رضاه، فدخلت عليهم مسلّحًا وقرأت في أعينهم علامات التعجب والاستفهام، من دعاني؟ وما شأني؟
وبدأ الحديث مدير المدرسة الذي كان في ذلك الوقت ينتمي إلى اللّجان الثورية، ويقوم بمشاريع خطيرة، فتحدّث عن مصلحة التلامذة والعام الدراسي الذي ذهب سدى بسبب الأوضاع، ثم مهّد لغيره الذي تناول الحديث عن المشروع، فبادرت إلى الردّ على المدير أوّلاً بأنه آخر من يحقّ له الكلام. فأين كان أثناء العام الدراسيّ، وماذا فعل، ولماذا لم يتحمّل المسؤوليّة في الوقت المناسب؟
135
117
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
ثم خاطبتهم بصراحة متّهمًا إيّاهم بالإعداد لمشروع استقطاب حزبيّ ولا علاقة له بالتعليم، وحذّرتهم من مغبّة ما يفعلون".
كانت مشاعر الأبوّة فيه تدفعه إلى حماية الصغار ومساعدة أولياء أمورهم في فهم ما يحدث، بجهده المخلص الفاعل استطاع إحداث تغيير واضح على هذا الصعيد، وترك أثرًا في هذا المجال وفي سواه، بل في كل سلوكه كما يقول من عاصـــره في تلك الفتــرة. وبقي العمــل وحـــــده مصدر الرزق، يريده حـــلالاً طيّبًــــــــــا، يضـــــع فيه كلّ إمكاناته، بإخلاص قلّ مثيله، حتى بدا غريبًا عن المألوف، مستهجنًا كالمبالغ فيه.
يقول أبو هشام عز الدين: "استدعاني منذ البداية للعمل معه في مطبعة شقراء لخبرتي الطويلة في العمل بصفّ الأحرف، حيث كانت المطابع في وقتها تعتمد على صفّ الحروف، وإنشاء صفحات من تلك الحروف الحديدية.
إدارته للمطبعة والنظام الدقيق الذي اعتمده كانا فريدين، جعل المطبعة في غاية الأناقة والترتيب، فكلّ شيء في مكانه بشكل مذهل، في حساب الحركة وسهولة العمل، وفي تنظيم المعدّات والموادّ، مثل هذا الكلام لن يعطي صورة واضحة، لكني بصدق أقول: إنني رأيت مطابع لها أضعاف المساحة، والحركة فيها أضيق، والازدحام أشدّ. لقد جعل المساحة الضيقة واسعة مريحة. هو أستاذ في استغلال المكان وتنظيمه. مطابع قضى أصحابها عمرًا في هذه المهنة لم تكن بهذا النظام والترتيب المدروسين بإتقان، على الرغم من صغر سنّه، وعلى الرغم من أنه لم يعمل في المطابع، لكنّه استغلّ كل زاوية استغلالاً كاملاً لتبقى المساحة واسعة في وسط الحركة".
137
118
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
حاولت أن أبيّن له مكان الخطأ في تفكيره، وقلت له: طالما رضينا بالدخول إلى العمل فيجب الإخلاص، وإذا كان مقدار الراتب قليلاً فبالإمكان آخر الشهر أن نرفض ونعترض على ذلك، وأن نطلب ما نراه حقًّا، ونناقش ذلك مع صاحب العمل، وهذا لا يبرّر أن نسرقه، ما تفعله هو سرقة، ولا شيء يبرّر السرقة، فرفض حديثي جملة وتفصيلاً، وعبّر لي عن استيائه من الاختلاف بيننا في التفكير".
"رزقًا حلالاً طيّبًا"، كلمة كان يكرّرها كما تقول زوجته، وكأنها في أصل وجدانه كالقانون المقدّس، رزقًا حلالاً طيّبًا من عرق الجبين، يحب الطعام الآتي منه، وإن كان خبزًا يابسًا مع الماء القراح. حلالاً لا شبهة فيه وإن صغرت. حين كان يوزّع المساعدات في الفترة الأخيرة، يعود إلى منزله خالي الوفاض، ينفض عن لباسه غبارها وبياض طحينها. يداري عن الأعين وجع الأكتاف، وتعب الجسد... أليس منزلك خاويًا كتلك المنازل يا سيدي؟ أنت تدري أن منزلك أحوج إلى تلك المعونة من منزل فلان!.. فهو حلال إذًا؟.. قد يكون حلالاً نعم.. لكنني مكتفٍ والحاجة نسبيّة. لا يريد من هذا الحلال الطيّب سوى الكفاف، منزل يأويه وإن مستأجرًا، وحاجات أهله بلا إسراف، سعيدٌ بالرزق الحلال الطيّب الذي يجنيه بعرق الجبين، سعيدٌ بفسحة الوقت التي سمحت له بإخراج ما لديه. لكنّ هذا الرزق شحّ حتى الانقطاع.
اشتدّت وطأة الحرب الأهلية، وإن كان الجنوب بعيدًا نسبيًا عن نارها، إلا أنّ تداعياتها امتدّت إليه شيئًا فشيئًا، تراجع العمل في المطبعة حتى توقّف تمامًا، وفقد مصدر الدخل الوحيد. كان يفكر
138
119
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
في العودة إلى بيروت للبحث عن عمل، هل سيعود إلى تلك الدوامة من جديد؟ إلى رزق بيروت الصعب وغلاء مساكنها؟.. ويترك عائلته عند أمّه مرة أخرى؟.. وكم سيدوم هذا وقد دام سابقًا ما يقارب العام؟ لم تكن تجربة جيدة في وقتها، كيف وقد زيد عليها اهتزاز الأمن، وبيروت نواة الحرب ومركز ثقلها. مشغول الذهن يبحث عن خيار.
تقول زوجته: "بعد أن دفعنا إيجار المنزل، أوشكنا على الإفلاس رغم الاقتصاد الشديد. كنت أتألّم من أجله، وأنا أراه يبحث طوال الوقت عن عمل، ويعود في آخر النهار متعبًا دون جدوى. ما كنت أسأله كي لا أثقل عليه، وهو الذي اعتدتُ منه قلّة الكلام، لكنه حين شاهد القلق في ملامحي قال: لا تخافي.. لقد أمرني ربي بالسعي، وها أنا أسعى بما أستطيع، ولا أريد من دنياي سوى الكفاف، لن يتركنا وليّ نعمتنا نحتاج إلى سواه.. ذلك الاطمئنان في عينيه كنت أعرفه، في الكثير من الأزمات كان يريحني؛ لأنني كنت أرى من بعده الفرج".
اتّصل به في هذه الأثناء من كان يعمل معهم في بغداد للاطمئنان عليه، وعرض عليه العمل هناك فوافق على الفور.
139
120
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
حمل متاعه القليل، وهاجر مع زوجته الحامل وطفلته إلى بغداد، وهناك استأجر منزلا صغيرًا يسمى "مشتمل"، أي تابع لمنزل، وبدأ العمل في مكتبة كبرى في شارع المتنبي، حيث كان يعمل أيام التحاقه بالجامعة.
كان العمل شاقًا، ومقسومًا إلى جزئين: جزء في أول النهار في إدارة المكتبة والبيع، وجزء بعد إقفال المكتبة، يتعلّق في إعداد الطلبيّات التي تطلبها المكتبات الصغيرة، وتجهيزها للتحميل، وتنظيم فواتيرها، وكعادته لا يترك أمرًا للغد وإن تأخّر في العودة إلى منزله. وصاحب المكتبة قد ترك له كل شيء مبتعدًا ناعم البال مطمئنًا، فهو يعرفه بإخلاصه وإتقانه، ويعرف أنه لن يترك شاردة ولا واردة.
تغيّر وضع المكتبة بعد أيام معدودة من تسلّمه إدارتها، أعاد تنظيمها، بين ترتيب مواضيع كتبها وسهولة المتناول، إلى تنظيم حساباتها وملفات العملاء، حتى قال من يعمل معه: "كنا نظنّ ونحن أصحاب خبرة طويلة أننا على معرفة بشؤون المكتبات وتنظيم عملها لنكتشف بعد مجيئه أننا لم نكن نفقه في التنظيم وإدارة المكتبات. يبذل جهودًا لا يمكن مقارنتها بما يتقاضاه من أجر، ثم يعود إلى منزله الصغير منهكًا وراضيًا في آنٍ معًا، شاكرًا يحمد الله على نعمه".
يقول صديقه محمد سرور: "كنت لا أزال طالبًا في كلية الزراعة، وكثيرًا ما كنت أتذكره، فهو شخصية لا يمكن نسيانها، في تطلعاته وأفكاره، في الهموم المشتركة والرغبة الجادة في تغيير ما كنا نراه عقيمًا في مجتمعاتنــا، فتلقيت خبر عودته إلى بغــــــداد كهديــــة من الســــماء، ســـــارعتُ إليه، فوجدتــــه أكبـــــر مما توقّعت، لا في الســـــن
140
121
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
فحسب، زادته سنوات فراقنا علمًا وثقافةً، وقوّةً في الشخصيّة، وتوقّدًا في الذكاء، وتوقًا متجدّدًا للمعرفة والتغيّر. عرّفته على عدد منتخب من أصدقائي المثقفين، أردت لهم ما أردته لنفسي من فائدة وأنس بصداقة رجل مثله".
يقـــــول صــــديقــــه المهنـــدس صبــــاح عبد الحســـــين: "تعرّفت عليه بواسطة المهندس سرور وعبد الرضا الشخص، اجتمعنا إليه مع عدد من الأصدقاء. ما كنا ندري أن هذا الشاب القادم من لبنان سيشكّل لنا مع الوقت حاجة ضروريّة، وقيمة إضافيّة لا غنى عنها. بدأت أولاً بالاطّلاع على عناوين الكتب، ثم الجيد من الإصدارات الحديثة، ثم أصبحنا مع الوقت والتجربة نرضخ لاختياراته طائعين في أيّ موضوع أردنا القراءة فيه، لنكتشف أنه صاحب ثقافة واسعة متنوعة، ثم أصبحنا نطلب منه أن يختار لنا قراءاتنا، صار يعرفنا ويعرف أذواقنا والتوجّهات، يصحّح مسارها بانتقاءاته وأحاديثه حين نلتقي. مؤنسة كانت تلك اللقاءات، كان يفسح لها من وقته الضيّق ما استطاع، كنّا قريبين منه كمجموعة متجانسة وكأننا حزب صغير، تُوحّدنا هموم مجتمعنا وبلادنا، وتطلّعاتنا".
كان وقته محسوبًا بدقّة، يوزّعه على متطلّبات الحياة وشؤونها، دقيقًا في حساب تلك الأوقات كدقّته في حسابات المكتبة والزبائن. في أيام العطل، وحين تقلّ الطلبيّات الخارجيّة من المكتبات ويُفسح أمامه بعض الوقت يستغله للاهتمام بعائلته ولقاء أصدقائه. في كلّ فسحة من هذا الوقت المتبقي والذي من عادة الناس ضمّه إلى وقت الترفيه والراحة، كان يوزّعه لنواقص هنا وهناك، ويجعل له حسابًا
141
122
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
ومكانًا يصرفه فيه حتى قبل أن يحين. يحدّد الأولويّات، والراحة والترفيه في آخر القائمة أو لا مكان لهما.
قبل العطلة الأسبوعيّة، بيوم أو أكثر، يكون قد سجّل حاجة للبيت هنا أو عطل هناك، ليجلب معه وهو عائد من العمل كل ما يحتاج إليه من موادّ للعمل في تلك العطلة أو في فسحة الوقت تلك. كثيرًا ما تراه يجمع أمرين معًا، يستدعي صغيرته لتجلس قربه، وهو يعمل عن إصلاح عطل في المطبخ، يحدّثها ويسألها عن التفاصيل، ويجيب على أسئلتها الكثيرة دون تأفّف أو تهرّب، يلاعبها، وتسمع الأم ضحكاتها من غرفة أخرى.. دعي أباك يعمل.. اتركيها إنها تساعدني.. لكم أنت طويل البال.
تقول زوجته: "كان لديه عدّة صناعيّة متنوّعة يهتمّ بها أشدّ الاهتمام، لا أذكر أنه احتاج إلى عاملٍ أو متخصّصٍ في اختصاص، يصلح أعطال المنزل بنفسه، أو يصنع للمنزل ما يحتاج إليه. كلما سمعت خطواته جاء باكرًا أو قبل يوم العطلة أتصوّر فورًا أنّه قد جلب معه ما يحتاج إليه لإصلاح عطل، أو تجديد عتيق، أو تلبية حاجة استجدّت، فهو لا يطيق العطل والنقص في المنزل مطلقًا، ولا يحب التأجيل إلا مكرهًا فوق إرادته، يسعى إلى إنجازه بلا تأخير، طالما سمح له وقته وإمكاناته المادية، يستطيع بشكل لافت ومثير للاستغراب تلبية كلّ ذلك، يستغرب الناس قولي المتكرر: سيصلحه زوجي أو زوجي صنع هذا.. وهل زوجك يفهم كلّ شيء؟! أجل هو يعرف بمقدار كافٍ كلّ المهن. يقسّم وقته بين كل ذاك، يحدّثنا ويستمع إلينا، يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة تتعلّق بنا".
142
123
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
للقراءة يخصّص وقتًا في سكون الليل، ويلتزم به دائمًا ويزيد عليه من وقت العطل. وفي أوقات الفراغ تلك يفسح في المجال لأصدقائه، يخصّص لهم في الحدّ الأدنى لقاءً في كل أسبوع، محبًّا لتلك اللقاءات، يحترمها وكأنّها مقدّسة، أو يعتبرها ضمن مهامه.
في تلك الفترة؛ أي في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وقبل اشتداد القبضة الأمنيّة لحكم صدام حسين، كان النشاط الفكريّ والثقافيّ في بغداد في أحسن حالاته، والانفتاح على قضايا العصر في الطروحات الفكريّة الجديدة، والمدارس الفنّيّة الزاخرة بالجديد، الغنيّــــــة بالتنــــوّع، مســــاحة واســـعة يســــتغلّها أصحــــاب الاهتمــــام، وأصدقاؤه ممن تميّزوا بهذا النشاط والاهتمام.
يقول صديقه سليم زيني: "كنّا مجموعة مثاليّة، عطشى للقراءة والاطّلاع، تزدحم الأسئلة في رؤوسنا، مشرّعة قلوبنا للمعرفة، حتى ونحن في السيارة متّجهين إلى مقهى أو حديقة، أو إلى منزل أحدنا، كنا نبادر إلى فتح نقاش في موضوع شائك، ويبقى النقاش مفتوحًا متواصلاً بعد جلوسنا في المكان المقصود، يتوسّع متنوّعًا في الفنّ والأدب والثقافة والفلسفة، في أحداث الساعة، في كتاب جديد قرأه أحدنا. غنيّة مزدحمة متنوّعة لقاءاتنا تلك، وكان هو الشخص المميّز بيننا، نشترك في حبنا جميعًا له ولحديثه. كان قليل الكلام، لم أجد من يجيد الإصغاء مثله، له طريقة فريدة وعادة ألفناها منه، وكان يعتمدها دائمًا، وهي أننا إذا دخلنا إلى موضوع يتركنا نتحدّث، حتى إذا فرغنا وقلنا كل ما عندنا تدخّل ذلك التدخل الفريد اللافت المتّصف بالحكمة والعقل الراجح والاطّلاع الواسع، كلامًا واضحًا
143
124
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
دقيقًا قويّ الحجة، يسوق الأمثلة والشواهد، محيطًا بالموضوع إحاطة فريدة كمن أعدّ له سلفًا، لطالما كان يبهرنا بحسن اطلاعه ومداخلاته التي كنا ننتظرها، كثيرًا ما كنّا نقول إذا اختلفنا، أو قصرت معلوماتنا عن البلوغ إلى ما نرجو: لننتظر ونسمع رأي "أبو نجوى"".
يقول شقيق زوجته: "كان شغوفًا بكتاب الله، له ثقافة في تفسيره والاطّلاع على علومه، هو الذي جعلني أنظر لكتاب الله بطريقة مختلفة ليكون حاضرًا في حياتي بشكل واضح، يتحدّث عنه بشغف ومحبة، وقلّما كان يخلو حديثه من آيةٍ يستشهد بها، يبهره الإعجاز والجمال في آياته، يتحدّث عن نعمة كبرى يجب استثمارها، يقول بدهشة واستغراب: كلمات الله بين أيدينا في كل وقت، فكيف نغفل عنها! يشجّع على حفظه وقراءة التفاسير. أذكر مرة حضرتُ جلسة له مع أصدقائه، اقترح فيها اقتراحًا وسعى جاهدًا في استدامته وهو: الالتزام بحفظ آيات من القرآن مع تفسيرها بشكل يوميّ، على أن يكون هناك حدّ أدنى يتمّ الالتزام به مهما كانت الظروف وهو آية واحدة على الأقل لكل يوم، يعتني بتدبرها ومدلولاتها وكل ما يتعلق بها، ويرددها على طول ذلك اليوم، وبعد أسبوع تجمع سبعة كحدّ أدنى عند كل صديق، ليبدأ اللّقاء بالحديث عنها".
يتابع سليم زيني ليؤكّد هذا الاهتمام ويقول: "كنّا نعتبره مصدرًا من مصادر المعرفة فيما يتعلق بالقرآن. أذكر مرة حديثًا مطوّلاً كان عن أسرار القرآن ونعمة وجوده بين أيدينا، ثم أخذنا الحديث إلى الاستخارة والتفاؤل بالقرآن، وكان هو من الذين يعتمدون ذلك،
144
125
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
ودار نقاش أراد في نهايته تثبيت هذه الفكرة، وكان لديه ابنتان، وزوجته حامل في أيامها الأولى، نظر إلى القرآن الذي كنت أحمله بين يدي، وضع يده عليه وتمتم بكلمات ودعاء، وطلب مني أن أفتحه وأقرأ، فقرأت: إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى . لقد أنجبت بعد ذلك زوجته غلامًا، لم يسمّه يحيى، لأنّ له شقيقًا اسمه يحيى".
يزور الأماكــــن المقدّســـة بانتظـــــام، يتواصـــل مع أهلــــه في الخارج بانتظام أيضًا، ومع والدته على وجه الخصوص. وحين اشتدت وطأة الحرب الأهلية في لبنان بات تواصله أكثر تقاربًا، ولا سيما أن والدته بدأت تخاف على أولادها من تلك الحرب وإفرازاتها. حرب بدأت تغيّر مسارها باتجاه العبثية والتفلّت من كلّ القيم. وكثرت الأحزاب والتوجّهات، وكثر عنف الحروب الداخليّة واشتدّت، وتقاتل الذين هم في صف واحد وخندق واحد. فما كان منه إلا أن رتّب أمر استقدامهم واحدًا بعد الآخر مع والدته، سعيدًا بإعادة شمل العائلة بعد طول تشتّت، سعيدًا بسعادة والدته، وهي ترى عائلتها مجتمعة بأمان، برعاية من تعرفه واثقةً بحكمته وتفانيه. أدخل الصغار زكريا ويحيى إلى المدرسة، مع ابنته نجوى. وكان يتابع عبد الرحمن وعبد المنعم في كلّ صغيرة وكبيرة، ليطمئنّ على سلوكهما وراحتهما.
يقول شقيقه الأصغر: "ما كنت أراه قبل ذهابنا إلى بغداد إلا نادرًا، صور قليلة، عن أخ كبير وبعيد، كان في شقراء وكان يزورنا، أذكر مرة أعطاني ليرة، وهو مبلغ ضخم لم أر مثله من قبل، وقال لي: افعل بها ما تريد، قلت بدهشة: كما أريد؟! ابتسم وهزّ رأسه
145
126
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
بالإيجاب، فما كان مني إلّا أن ركضت واشتريت 2 كيلو من الفواكه، وأكلتها كلّها مع أصدقائي وكان يومًا مشهودًا. وأذكر مرة كان الوقت شتاءً، وكنت ألبس ثيابًا لا تقي البرد ونعلاً، فتأثّر كثيرًا وأخذني على الفور لأشتري ثيابًا كاملة، فاخرة وجميلة وحذاءً جديدًا، أذكر تمامًا كم كنت سعيدًا بها لزمن طويل.
ذهبنا إلى العراق بطلبٍ منه، أنا وأمي وزكريا، وكان قد سبقنا إلى بغداد عبد الرحمن وعبد المنعم، وكان موسى وعبد الله هناك، وفي حي العدل ببغداد اكتمل نصاب العائلة لأول مرة.
كنتُ شقيًّا كثير الحركة، لا بدّ أنني سبّبت له الكثير من التعب، لكنّه لم يظهر ذلك. كنت أرغب كثيرًا في أن أستفزّ ابنته الصغيرة، وكأنّ هذا هو شغلي الشاغل، أعرف كيف أجعلها تبكي بكلمتين، لقد أصبحت خبيرًا في إزعاجها. أنا بعد هذا العمر أفكّر لماذا كان يصبر كل هذا الصبر على إزعاجي لابنته، ولا يتدخّل بيني وبينها! لقد أراد بشدّة أن لا أشعر بأن ابنته أعزّ عليه منّي، لكنني بالغت كثيرًا، فما كان منه إلا أن طلب من والدتي أن تحدّثني بهذا الخصوص، واشترط عليها أن لا أعرف بأنّه هو من طلب ذلك، وكان يكفي أمّي أن تقول إنّك بذلك تؤذي مصطفى وزوجته حتى توقّفت تمامًا عن أسلوبي ذاك.
تأثّرت كثيرًا، فأنا لا أريد أن أؤذيه أبدًا، لقد كنت أحبّه حبًّا جمًّا، بل هو أحبّ الناس إليّ على الإطلاق، تلك كانت طريقته في معاملتي، رغم شقاوتي. كان يغضّ الطرف عمّا هو غير مؤذٍ من شغبي، بل كنت أرى سرًّا أنه كان سعيدًا بجرأتي ونشاطي، كان يدعم ما يجده
146
127
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
في تصرّفاتي من روح المبادرة والتحدّي، يراقبني ويكون سعيدًا بما أنجز، لكم كان طويل البال في الإجابة عن أسئلتي الكثيرة! في ذلك الزمن وما بعده، لديه طريقة فذّة في الإقناع. يأخذني في الإجابة إلى ما هو واضح ومقنع، يحلّل ويحيط بالأمر ويضرب الأمثلة، حتى لا يبقى أيّ غموض أو سوء فهم. كان مرجعي في كل شيء ومثلي الأعلى، تأسّس ذلك في فترة سكننا معًا في بغداد واستمرّ إلى ما بعد ذلك طويلاً".
يقول شقيقه الآخر: "لقد عانينا الأمرّين في لبنان، ومع الحرب الأهلية تضاعفت المعاناة، صنوفًا من الخوف وعدم الاستقرار والخطر، والتعب الجسديّ والنفسيّ، وتشتّت العائلة، لا مجال للمقارنة بين تلك الظروف واجتماعنا معه في بغداد، ثلاث سنوات كانت هي الأجمل في عمري، ربما للفارق الكبير بين ما كنّا فيه بعيدًا عنه، وما أصبحنا عليه معه. كنت أعرفه معرفة سطحيّة قبل ذلك، واكتشفت حين انضممنا إليه كم أننا محظوظون بوجودنا معه! تغيّر كل شيء دفعة واحدة حين اجتمعنا في بغداد، اكتشفت أنّ لي أخًا وأبًا لا مثيل له، لم يكن يظهر عواطفه، هو لا يقول لك كم يحبك، وكم يهتمّ بك، لكن كلّ حركة وسكنة تقول ذلك، تقول إنّه يبالغ في الاهتمام ويبالغ في الحب. وأكتشف بسهولة كم هو يريد راحتي ويخاف عليّ، له طريقة مثلاً في التربية لم أكن قد رأيتها في سواه، طريقة تعزّز الشخصيّة، يبدو لك أنك قادر على التصرّف بمفردك، وإن طلبت العون فستجده. يتابع شؤوننا في المدرسة وسواها دون أن نشعر بتدخّله، سألنا إن كنّا نريد أن نذهب معه
147
128
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
إلى العمل بعد المدرسة وفي أيّام العطل. علمت بعد أن مضى وقت طويل، وأصبحت أقدر على فهم الأمور، أنه كان راغبًا في تواجدنا معه لنكون تحت ناظريه في عمرنا الصعب، ولنتعلّم عن أمور الدنيا في زحمة العمل، لكنّه لم يبدِ لنا رغبتـــه تلك، أراد لنا أن نذهب راغبين في ذلك. وكان يعتمــــد هذا الأســـــلوب مع ابنته الصغيرة نجوى كذلك.
أذكر حين ارتدت نجوى الحجاب، وكان قد حدّثها قبل ذلك عن الحجاب وأهمّيته ومعناه، لم تكن تبلغ الثامنة بعد، فاعترضت الإدارة والمدرّسون على ارتدائها الحجاب، طلبوا منها أن لا تأتي إلى المدرسة بالحجاب، وحين عادت إليه تبكي بسبب رفض المعلمين قال لها: إن كنت تريدين الحجاب، فعليك أن تدافعي عنه بنفسك، هذا أمر يخصّك أنتِ وحدك. لا شك في أنّه تابع الأمر مع المدرسة، ولكن دون علم نجوى التي دافعت عن حجابها بقوّة".
ضاق ذلك المنـــزل الصغيــر بالعائلـــة، غرفة له وغرفـــــة لأشقائه ووالدتـــه، فســـعى منذ البدايــــة لاســـتئجار منزل أوســـــع، فوجد في الكاظمية منزلاً أوسع في حي الضباط، لكن ذلك الحي كان حديث البناء والطريق إليه غير معبّدة. كانت سيارات الأجرة ترفض في أغلبها المرور عليه، أو تطلب مبلغًا كبيرًا. كانت هناك وسيلة نقل بدائيّة تجرّها الأحصنة، ولم تكن تتوفّر غالبًا؛ مما يضطره مع أشقائه إلى السير مسافة في تلك الطريق الطويلة الوعرة. من أجل ذلك اشترى سيارة، والسيارات في العراق غالية الثمن في ذلك الوقت، وكان لا بد له أن يشتري سيارة رينو 11، قديمة ومستهلكة، كثيرة الخراب، قرأ
148
129
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
كتبًا عن عمل السيارة، وما لبث أن أصبح يعرف كلّ شيء عن تلك السيارة، عن ميكانيكها والكهرباء، كلّما تعطّلت أصلحها بنفسه، حتى إن أصدقاءه كانوا يسألونه عن أعطال سياراتهم، فيصيب في تشخيص العطل أكثر من أصحاب الاختصاص. تلك السيارة وكأنها كانت نموذجًا عن مشكلات الحياة وطريقة تعامله معها، في مبادرته والتحدّي وفي القدرة على صناعة الحلول.
ضاعف جهده في العمل، وكان لا بدّ من مدخول جديد، طلبه أصدقاؤه ليكون شريكهم في معمل لصنع الدفاتر المدرسيّة، يديره ويعمل فيه بعد دوام المكتبة.
يقول صديقه صباح عبد الحسين: "كنّا طلابًا في الجامعات، أنا وثلاثة من الأصدقاء، ونشأت فكرة أن نفتح مصنعًا لصـناعة الدفاتــــر المدرســــيّة، بشـــكل بســـيط في البدايــــة، نتقاسم تكاليف إنشائه، ثم ندعمه بالمال أوّلاً بأوّل، وبوجوده أصبحت هذه الفكرة ممكنة، فلولا وجوده ما فكّرنا في مثلها، فنحن غير مؤهّلين لمثل هذا المشروع. اقترحنا عليه الفكرة وطلبنا منه أن يديره بعد دوام المكتبة، فوافق على ذلك، كنا سعداء بموافقته. لقد عمل من أجل هذا المعمل بجهد كبير واستثنائي، اعتدنا منه إتمام عمله على أكمل وجه، متميّزًا في أسلوبه وإدارته للعمل، زيادة على إخلاصه وتفانيه المعروفين عنه".
يقول شقيقه: "في المعمل أصبحت أعرفه أكثر بسبب تواجدنا معه لفترة أطول، ولانكشاف جانب آخر من شخصيّته. لقد تعلّمت منه الكثير، كأنها أُسس ومبادئ استدامت بعد ذلك لسنوات، وتطوّرت حتى بعد رحيلنا عن بغداد.
149
130
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
بقيت أعمل معه في بيروت على الطريقة نفسها، كان العمل في ذلك المعمل يعتمد على كمّية الإنتاج، كم دفترًا أكملت، وكم ورقة طويت! لكنه كان يرفض مطلقًا النظر إلى كميّة الإنتاج، علّمني منذ ذلك الوقت أن أنظر إلى الجودة بغض النظر عن كمّية الإنتاج، يقول لي إن السرعة تأتي مع الوقت حين تعتاد، ولكن لا تعتاد على الإنتاج غير المتقن.
في تلك السنوات عرفته حقّ المعرفة، ربما هو ذلك العمر الذي يبحث فيه الفتى عن مثال، جعلني أراقبه وأنتبه إلى كثير من التفاصيل: إخلاصه في العمل وتفانيه، العمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل، ذكاؤه. كنت أقارن بينه وبين سواه، فلم أجد بين أقرانه مثله. أكثر شيء يلفتني فيه هو قدرته على حلّ المشكلات، يبادر إليها مهما كانت، ويقف على رأسها ولا يخرج إلّا بحلّ".
يقول صديقه سليم زيني: "في المعمل كان عمل طيّ الأوراق يتمّ يدويًّا، ويحتاج إلى عدد من العمال، وقد ابتلينا بعمال لا إخلاص لهم، ولم يكن بإمكاننا شراء ماكينة طيّ، بسبب ارتفاع ثمن حتى المستعمل العتيق منها، كان الثمن فوق قدرتنا بكثير، لكنّه ظلّ يبحث حتى وجد ماكينة معطّلة، معروضة للبيع كخردة وحديد، لأن أعطالها كثيرة ولا يوجد لها قطع غيار، لهذا لم يكن ثمنها غاليًا، استغربنا رغبته في شرائها، فأصحاب هذه المهنة والعاملون في الميكانيك لم يرغبوا فيها، كنّا نتساءل ماذا يعرف هذا المهذّب الأنيق عن الماكينات والميكانيك؟ لكنه اشتراها لأن ثمنها زهيد.
150
131
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
بعد مرور أيّام عديدة، نسينا تلك الخردة، كومة الحديد تلك كانت لا تزال في المصنع حين اجتمعنا، وطلب منّا الاقتراب، وببسم الله ارتفع ضجيج الماكينة وهي تسحب الورق وتطويه بانتظام وسرعة. أن تعود هذه الماكينة إلى حياة ناشطة كانت مفاجأة، عمل لم يقم به أصحاب المهنة، كيف يحقّقه رجل لم يكن اختصاصه الميكانيك، لقد صنع لها قطع غيار جديدة صمّمها بنفسه في معامل تصنيع الحديد (المخرطة)، وأعاد تنظيم طاقتها الكهربائيّة".
151
132
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
بدأت أخبار الثورة الإســـــلامية بعد إبعاد قائدها الإمام الخميني (قدس سره) إلى باريس، تتوقّد كشعلة من نور باهر لتقلب الأوراق، تفتح الأبواب على مغاليق ودروب لم تسلك من قبل، وكان لها فـي أوساط الشـــــــباب المتديّن المثقّف بالغ الأثــــــر، ثورة علـــــى الأرض تصاحبها ثورة فـــي النفوس، عشــــــــــق ســـــرّيّ لهـــا وفرح مكبوت. ليس تعاطفًا هذا الذي يشـــغل قلبه وجوارحه، هو فوق ذلك بكثيـــر، إنه انتمــــــــاء متكامــــــل تتّسع تفاصيله مع أخبارهـــــــا كل يـــــــوم، هــــــــو وأصدقــــــاؤه يتابعون أخبارها، ويتحدّثـــــــون عن عشـــــــقهم بشـــــكل سرّيّ، فالنظــام البعثي في العراق كان ضد تلك الثورة منذ انطلاقتهـــا... بحث طويلاً عن زاوية في المنزل حتى وجدها، فيها صفتان ضروريتان: القدرة على التقاط بثّ إذاعـــــات أجنبيّــــة، وأن تكون بعيــــــدة عن العيون والمسامع. سكن فيها قلبه وروحه، يتابع أخبار الثورة بكلّ تفصيل ممكن.
يقول صديقه محمد سرور: "بالنسبة إلينا في ذلك الوقت المشبع بالأحلام، المرتفع بالتطلّعات، وسط واقع متدنٍّ فارغ منها، جاءت تلك الثورة لتملأ فراغًا شاسعًا، ما كان ليملأه سواها، كأنها خرجت من تحت وسائد أحلامنا، انتصاراتها المتتالية السريعة كانت كأعراس لنا، نجتمع لنتحدّث عن شغفنا السرّيّ، ومصطفى أكثرنا ولعًا، ويعرف عن تفاصيل أعراسها بدقّة، كان يضاهينا فرحنا، بل إنّ في قلبه شيئًا آخر مختلفًا هو فوق الفرح، كنت أرى ذلك فيه، ليس فرحًا وحسب هذا الذي كان يعتريه، يشعّ هذا الاطمئنان الذي يسبح في فرح عينيه، كأنّه وجد ضالّته التي أشقاه البحث عنها".
152
133
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يقــــول شقيق زوجتـــــــه: "فرحه بالثورة الإســـــلامية في إيـــران كـــــان مختلفًا، يعرف عنها كمن يعرف تفاصيل منزله، بأسماء رجالها بأشكال تحرّكها، بأفكارها والرؤية المستقبليّة. نظرته إلى قائدها الإمام الخميني كانت مختلفة أيضًا، جميعنا كنا شغوفين بذلك العظيم الفذّ، لكنّه ارتفع بهذا العشق إلى مكان أسمى، سبقنا إلى خطوات أبعد، هو ولاؤه الكامل المطلق الذي لا تشوبه شائبة، يقول إنّه يشمّ رائحة أهل البيت فيه. ذابت وانطفأت كل الهواجس، ما قبل الإمام الخميني ليس كما بعده، ما عاد هناك أسئلة بلا إجابات، ماذا يقول الإمام الخميني في هذا وما يقول في ذاك، يسميه "إمامي" ويقول: لو قال إمامي: سِرْ على سطح البحر حافيًا حتى ألقاك لفعلت دون خوف من الغرق".
يحمل عشقه السرّيّ وذاك الانتماء، ويخطو بأيامه كمن يسير على جمر، فذلك العام حمل الكثير من التعب، اشتدّت فيه قبضة المخابرات العراقيّة، وضيّقت الخناق على المتديّنين، ولا سيما بعد انتصار الثورة، اعتقل عدد كبير من الناشطين، وأعدم العديد منهم، ثم قمعت تحرّكات ومظاهرات قمعًا دمويًّا لم يكن له مثيل في كل العالم، ثم وصل الأمر إلى ذروته حين اعتقل المرجع السيد محمد باقر الصدر وشقيقته، وأعدم بعد ذلك بشكل سرّيّ ومفاجئ، واعتقل الناس على الشبهة حتى أضحى الخوف والرعب يسكن حجارة الجدران في الغرف، ويخشى المرء من الحديث إلى صغاره، خوفًا من أن تسألهم المخابرات السرّيّة، كما حدث ذلك في أماكن عديدة، يكفي أن يقول طفل إنّ أباه يبتسم حين يسمع باسم الإمام الخميني، حتى يختفي هذا الأب من الوجود.
153
134
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
غادر إخوته الكبار إلى لبنان، كان إقناع شقيقه عبد المنعم أكثر صعوبة، فهو يرفض المغادرة، يتعاطف مع المعارضة العراقيّة ويعمل معها بلا حذر، لم يستطع إقناعه بالسلوك الحذر، صغر سنّه وعواطفه الثوريّة جعلا الخطر محدقًا به، حتى وصل الأمر إلى الاعتقال والمطاردة، حينها تمكّن من إقناعه بالسفر والعمل على مساندة الثورة في لبنان.
في تلك الأجواء كان يسعى مصطفى بكل ما أوتي من إمكانات لدعم توجّهاته وانتمائه، على الرغم من الخطر وطبيعته الحذرة، يعمل سرًّا بكل ما أوتي من ذكاء وحكمة، حتى اعتُقل بعض أصدقائه المقرّبين.
يقول شـــقيقه: "كنت أرى نشــاطه غيـــــر العادي فـي تلك الأيــــــام، فيتملّكني حب الاســــتطلاع كعادتـــــي، هو جزء من مشــــــاغباتي، أرى رجالاً غرباء لم أرهم سابقًا، يدخلهم غرفة المكتب يغلق الباب ويحرمني من سماع ما يقولون، يأخذون منه أشياء ويعطونه أشياء، كتب وأوراق، لم يكن لها علاقة بالعمل، ويتكرّر الأمر، فأقول له: من هؤلاء الغرباء، إنهم لا يعجبونني، أقول له: كن حذرًا فهناك الكثير من الرجال السيّئين، فيضحك ويقول لي: هؤلاء أحسن الناس، أحسن مني، هم من أصدقائي القدامى، كن مطمئنّاً، أغادره غاضبًا وأنا أردّد في نفسي: لا أحد أحسن منك. وكان من بينهم رجل عرفته جيّدًا بعد ذلك واسمه عبد الكريم".
جاءه عبد الكريم، مطارَدًا من قبل المخابرات، خبّأه في منزله، وطلــب مـــن أهلـــــه أن لا يُشـــــعروا أحدًا بوجــــوده، ولا يتحدّثــــــوا بأي
154
135
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
تفصيل يوحي بذلك، مرّت أيام عصيبة، ثـــم دُهــــم منـــــزلان في الحيّ من قبل المخابرات، فأخرج صديقه سرًّا، وباسم مستعار أسكنه فـــــــي المعمـــــل كواحـــــدٍ من أولئك العمّــــــــال غير المحليّين الذين يســــــــكنون ويعملــــون في شارع الرشيد، هنــــاك حيــــث جــــــرت بعض الاحتياطـــــــات الأمنيّة من قبل الناشطين والمهاجرين، رغم الإمكانـــــــات البســــــيطة إلا أنهم كانوا يعلمون بالمداهمات قبــــــــــل وقوعها، وهناك من يراقب أيّ تحرّك مريب. مضت أيام أخرى وعبد الكريم يعمل فـــــي المعمل باســــــم مســــــتعار، ومصطفـــــى بعـــــــتتتتتد انتهــــــاء دوام المكتبـــــة يذهـــــــــب للمعمل، يؤمّن لصديقه ما يحتاجه، ويغلق المعمـــــل ويذهـــــــب إلــــــى منـــــزله.
في نهاية إحدى النهارات وقبل يوم العطلة، ارتدى رجال المخابرات لباس عمال النظافة، ثم انتشروا بالأسلحة بشكل مفاجئ في كل المكان. واقتُحِم المعمل وعدد من المعامل ألاخرى، واعتقل عبد الكريم، وصودرت من المعمل أوراق وكتب للشهيد الصدر، كان قد خبّأها مصطفى هناك.
بالرغم من أن عبد الكريم قد برّأه من أيّ علاقة سياسيّة به، وقال إن صاحب المعمل لا يعرف عنه شيئاً، وأن الكتب والأوراق هي له وليست لصاحب المعمل، إلّا أن أصدقاء مصطفى والعاملين معه نصحوه بمغادرة العراق على الفور.
قام بنشر خبرٍ مفاده: أن أباه في مرض شديد، وأنه سيسافر إلى لبنان على وجه السرعة، وسيعود بعد أيام معدودة. وطلب من أهله ومقربيه أن تسير الأمور بشكل معتاد، وأن لا يقوموا بأيّ تصرّف
155
136
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يوحي بغير ذلك، ويشدّدوا على أنّه سيعود بعد أيام، شدّد على ذلك حتّى في أماكن عمله، في المكتبة وسواها، وجعل كثيرًا من الأدلّة توحي بعودته القريبة، كل ذلك كان خوفًا من اعتقال أحد من أهله كرهينة تجبره على العودة. فالمخابرات العراقيّة قد مارست مثل هذا الأسلوب كثيرًا. سافر إلى لبنان بعد أن أوصى أصدقاءه بمساعدة أهله في بيع الأغراض والمغادرة إلى لبنان سرًّا.
تحدّث أهله عن تلك الفترة العصيبة، حيث سألت عنه المخابرات بعد فترة وجيزة من سفره، كما سألوا عنه في أماكن عمله، وبدا واضحًا أن المخابرات تنتظر عودته بلا ضجّة، يحاول الأهل بكل جهدهم أن يمارسوا حياتهم الطبيعية حتى يجهّز الأصدقاء سفرهم دون أن يلفتوا الأنظار.
يقول شقيقه: "كنا نستغرب كيف أنّ أمي وزوجة أخي تطلبان منّا مغادرة المنزل والذهاب للتنزّه أو اللعب، وهما اللّتان كانتا تمنعاننا من ذلك بشدّة في السابق، حيث كان لخروجنا من المنزل لغير حاجة أمر يحتاج إلى الكثير من الإلحاح والتبرير المقنع، ولطالما كان يُرفض طلبنا للخروج من المنزل، كنّا نتساءل ما الذي قلب الأمور، وكيف حصل هذا التغيير المفاجئ؟ لكننا لم نسأل خوفًا من أن تنتبها، وتعودا إلى ما كانتا عليه من المنع".
عصيبة تلك الأيــــــام على النســــاء مع ازديــــاد أسئلة المخابـــــرات، وشوهدت حركة الأمــــــن السرّيّ قريبة من المنـــــزل، ويشتدّ خــــوف النســــاء من اعتقــــال الصغــــار يومًا بعد يوم، يخرجنهم من المنازل ما استطعن، حتى يكاد الأمر يصل إلى الانهيار، فسارع الأصدقاء في
156
137
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
التعجيل من أمر السفر، وأعدّوا له ما يحتاج على جناح السرعة، ولم تنتظم دقات القلوب حتى غادرت العائلة الحدود العراقيّة.
156
138
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
انتظر عائلته في الشام، أمّه وإخوته وأطفاله الثلاثة؛ أيّام طويلة مرّت، أطال القلق على عائلته من ساعات تلك الأيّام، ومع كل القلق الذي كان يعتريه، لم يتوقّف عن الحركة الدؤوبة المعروفة عنه. كأنّي به يحجز القلق في مكان منعزل في ذهنه المتوقّد في كل حال.
استطاع في أيّام القلق أن يستأجر منزلاً في حيّ شعبيّ مكتظّ في ضاحية بيروت الجنوبية، تعجّ دروبه الضيقة بالفقراء والنازحين من القرى، وفي آخر إحدى تلك الدروب وجد شقّة من ثلاث غرف صغيرة في الطابق الرابع بلا مصعد، الإيجار الرخيص شرط تفرضه الإمكانات الضعيفة ومستقبل العمل المجهول.
هو منزل يأويه، ويكفي لعيشه البسيط البعيد عن التكلّف، حتى يفتح الله له فتحًا آخر، صحيح أن أثاثه بسيط رخيص الثمن وأغلبه مستعمل، لكنّه أنيق وعمليّ، له رؤية خاصّة في اختياره، يقول إنّ جمال الأثاث ليس في شكله وحداثته، بل في حسن تلبيته للحاجة التي يغطيها، وبقدر ما هو عمليّ مريح في الحركة والاستعمال. تلك هي مقاييس الجمال في الأثاث كما يرى، وعلى الرغم من اعتماده هذا المعيار كنت تجد منزله أنيقًا جميلاً، تظهر فيه لمسة الفن والذوق الرفيع.
جهد في أيّام قليلة لتوفير كل ذلك، حين حضرت العائلة وجدت كل شيء جاهزًا بشكل مرتّب، أنيق ونظيف، كاملاً لم تغب عنه حتى التفاصيل الدقيقة، في التنظيف والمطبخ والمؤنة، مما تعجز عن الإحاطة به كاملاً حتى النساء كما تقول زوجته، لم تحتج إلى شيء إلا وجدته، وفي المكان الذي يجب أن يكون... غريب أنت يا
158
139
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
سيدي.. كيف استطعت إنجاز كل هذا وأنت مشغول الذهن متوتّر الأعصاب، قلقًا على العائلة. وفوق كل هذا كنت تبحث عن عمل.
وصلت العائلة، سكنت والدته مع أشقائه في بئر العبد في ضاحية بيروت، ليس بعيدًا عن حيّ السلّم، حيث استقرّ هو وعائلته راضيًا، في تلك الشقّة الضيّقة بجدرانها، الرحبة بما تحتويه، تفي بحاجة ساكنيها بلا ترفٍ ولا تكلّف، كما يريد. مرتاح هو، يحمد الله على نعمة لا يرى نفسه مستحقّاً لها، يتوجّه إلى مصدر رزقه في عمل كريم يجد نفسه فيه.. أين تجد نفسك يا سيدي؟! بين طيات الكتاب تختبئ أحلامك والطموحات، وعلى صفحاته ينتظم الوقت ودقّات القلب وأفكارك، وعلى أسطره تبتسم عيناك وإن في تعب.
عاد لصناعة الكتاب، وبيروت سيدة الطباعة، والطباعة في تلك الأيام نحت منحىً حديثًا مختلفًا جديدًا تمامًا، لم يعد الكتاب يطبع بالأحرف المعدنية كما في السابق، بل دخلت الطباعة الإلكترونية، وسيطرت عن طريق الحاسوب في أول دخوله إلى عالم الصناعة، ومن هو متمكّن في هذه المهنة بحاسوبها الإلكتروني كان قد دخل إليها باكرًا، وفي الوقت الذي فتحت أبوابها الجديدة، وقد مرّ وقت طويل، سار أصحاب هذه المهنة في دروبها الجديدة مسافات.. وأنت يا سيدي كنت بعيدًا! فاتك ما فاتك، لقد أصبح الالتحاق بعيد المنال، والتنافس في هذا المجال على أشدّه، أصحاب الخبرة يعجز بعضهم عن وضع قدم في هذا التنافس، الخبرة والمال عكّازتان لا غنى عنهما في وعورة هذا الدرب، وأنت على قدميك وحيدًا.
159
140
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يصعد ويصعد بلا كلل، والإصرار في عينيه، إصرار تعرفه مفاصل العمر فيما خلا من السنين. بكل جرأته والتحدّي، استأجر مكتب للعمل في "الغبيري"، بذكائه والمثابرة اطّلع على هذا الجديد، تعلّم أسراره وخفاياه في كدٍّ وسهر، تكاد ساعات يومه تتلاشى كما تلاشت ساعات راحته، دخل مراقبًا عند أصحاب المهنة، وأدخل شقيقه متعلّمًا.
يقول شقيقه: "تعلّمت الصفّ الإلكتروني بواسطة أحد معارفه، وكان يتابعني بشكل يوميّ، لم يمضِ سوى القليل من الوقت حتى فاق أستاذي الذي أتعلّم عنده؛ كان هذا الأستاذ يقف ذاهلاً أمام ما أتعلّمه من أخي، على سبيل المثال: أراد أخي فيما بعد أن يجعل رقم الصفحة في وسط دائرة، عبر معلومات تعطى للحاسوب، من كنت أتعلّم عنده قال أن لا إمكانية لذلك، لكن أخي عاد في اليوم التالي، ولا أدري إن كان قد قضى الليل كله للوصول إلى تلك المعادلة التي اعتمد فيها على حبه للرياضيّات. كان هناك جهاز واحد في كل بيروت الغربيّة، وهو الحاسوب الأم الذي يخرج ما تنتجه أجهزة الصفّ الموزّعة على المؤسّسات العاملة في الطباعة، لقمنا الحاسوب بتلك المعلومات المتسلسلة التي كتبها، فوقف صاحب الجهاز ينظر مدهوشاً، فهو منذ وقت طويل يرى إنتاج العاملين في هذا المجال، لكنه لم يرَ أرقامًا تتوسط الدوائر".
بدأ العمل، وقدّم له كل ما يستطيع من مثابرة وجهد، لم يكن سوق هذه المصالح قويًا في ضاحية بيروت مع وجود المنافسة، لكنه استطاع أن يجد له موطئ قدم لعيش كريم وإن بجهود شاقّة.
160
141
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يقول موظف عمل لديه: "كانت المواعيد مقدّسة لديه كما جودة العمل، من أجل أن يكون صادقًا كان يبذل الكثير من الجهد، يعتمد أسلوبًا لم يعتمده أحد، الكتاب في هذه المهنة يمرّ بمراحل عديدة، ولكل مرحلة عمّالها المختصّون بها، وصاحب العمل في أحسن الأحوال يعرفها بشكل عام، أمّا هو فيعرف كل تفصيل فيها وعلى أفضل وجه، يفوق أصحاب الاختصاص، ومن أجل الصدق بالمواعيد، كان إذا غاب أحد العاملين في أي مرحلة من تلك المراحل، حلّ محلّه، وقام بالمهمّة الناقصة كأنّها اختصاصه، أو إذا حصل ضغط أو تأخير في أيّ مرحلة، حلّ المشكلة وعمل بيديه حتى يتجاوزها وكأنها لم تكن، ما جعله ذلك يتأخّر في مكتبه، أو يأخذ العمل معه إلى منزله إن أمكنه ذلك".
ما إن استقرّ عمله وانطلق، حتى بحث في زحمة وقته عن مساحة، مساحة لطالما احترم وجودها في ساعات يومه، مساحة هي جزء من مهمة رجل الدين، تبليغًا وعطاءً، أن ينتفع سواه بما لديه وبما يستطيع تقديمه، اقتطع وقتًا ليسترجع بعضًا من أرض أحلامه، انفتح له باب عليها، اجتمع لديه عدد من الطلاب ليدرسهم، ومن بينهم شقيقه عبد الله، الذي درس عنده المنطق في تلك الفترة، كما درّس عددًا من الطلاب دروس الحوزة، وعاد إلى العمل السياسيّ من الباب الذي أحب، باب الثقافة والتربية.
يقول في أوراقه: "بعد عودتي (إلى بيروت) عام 1981 أصرّ عليّ الشهيد الحاج حسن شرّي، والأخ الكريم الحاج عبد الله حمود بمعاودة نشاطي في حركة أمل والتدريس في صفوف الكوادر التابعة
161
142
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
لإقليم بيروت، وهكذا كان، حتى بداية الاجتياج الصهيوني للبنان عام 1982. وفي هذه الفترة القصيرة شاركت في المؤتمر العام لإعادة انتخاب تشكيلات الحركة وتجديد الثقة لمجلس القيادة".
عام مرّ في كدح متواصل ورزق محدود، لا يكاد يكفي العائلة، بعد دفع إيجارات البيت والمكتب ورواتب الموظفين ومستلزمات العمل. يحاول الخروج من ضيق الحال ببذل جهودٍ أخرى، استثمر مهاراته الفنية في الخطّ والتصميم، محاولاً بذلك سدّ النقص الحاصل، فعمل في تصميم الأغلفة والإعلانات وشعارات المؤسّسات وخطّ العناوين إلى جانب عمله الأساسيّ.
وبدا أن مرحلة التأسيس لعيش كريم تأتي بثمارها، وأوشكت على الاستقرار، فإذا بالعدوّ الصهيونيّ يقدم على اجتياح لبنان بشكل مفاجئ، وصل إلى مشارف بيروت ودخلها من جهتها الشرقيّة، لم يتلقَّ إلا مقاومة قليلة من عدد من الشباب الثوري المتحمس، ومن بينهم شقيقه عبد المنعم الذي جرح في مواجهة الاحتلال في خلدة على مشارف بيروت، وتهجّر السكان إلى أماكن شتى، وإلى حيث استقر الوضع، بعضهم توجّه جنوبًا ومنهم عائلته، التي أرسلها إلى الجنوب من دونه وبقي هو في بيروت مع القلة الباقية، ترك منزله، ونام حيث يستطيع الخدمة، شارك ما استطاع في الدفاع والحراسة ومساعدة الناس بالإمكانات البسيطة المتوافرة. لقد طال القصف الحيّ الذي يسكنه، وتضرّرت المنازل.
يقول جاره أبو نجيب بلوط: "كان جارنا لأربع سنوات، لم أرَ جارًا مثله لا قبله ولا بعده، لم أكن أفقه معنى ودلالات وصيّة للزهراء
162
143
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
(عليها السلام)، كيف يكون الجار قبل الدار؟ معه عرفت كيف يكون ذلك، لست أنا وحدي من لمس آثار تلك الوصيّة عليه، كل جيرانه كانوا قبل داره.
في الاجتياح الإسرائيليّ، وبعد موجة قصف عنيفة ذهبت معه بعد أن هدأ القصف لنتفقّد منزلينا ونطّلع على الأضرار، وجدنا أن الأبواب قد خلّعت، وانفتحت. أخذنا ما نحتاج إليه من المنزل، وكانت الأبواب الخارجيّة لا يمكن إقفالها، تحتاج إلى تصليح، وقد يتعرّض المنزل للسرقة. بدأت بتصليح باب منزلي، ورأيته ينزل إلى الطوابق السفليّة، ويبدأ بتصليح أبواب الجيران، عملنا معًا كل واحد منا على باب، تعاونّا حتى تمكّنّا من إغلاقها بعد وقت طويل، إلّا بابًا واحدًا رآني قد تركته، كان الباب ميؤسًا منه، لقد هشّمه القصف، قلت له: هذا الباب غير قابل للتصليح، يجب تغييره بالكامل. سألني إن كنت أستطيع تغييره، فقلت ليس قبل أن تهدأ الأحوال وتفتح المحال صاحبة الاختصاص.
عدت في اليوم التالي لأجلب غرضًا من البيت نسيته، وأنا أصعد الدرجات وقفت غير مصدق أمام الباب الذي تركته مخلوعًا، رأيته محكمًا، متينًا، رُمّم بعناية فائقة دقيقة، لقد جُمعت أجزاؤه المتناثرة حتى الصغيرة منها، وتضاعف دعمها بما توفّر من خشب وموادّ لاصقة، حتى بدا كالأبواب الجديدة، لن أبالغ لو قلت إنّه كان أفضل من باب منزلي الذي اعتنيت به، والذي كانت أضراره أقلّ من هذا بكثير، من أين جاء بهذه الخبرة، وبأيّ بال طويل صنعه بهذه الدقة؟ لم يكن يستطيع تركه خوفًا من أن يسرق منزل جاره لو بقي
164
144
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
مشرّعًا، عمل عليه بكل تلك المهارة والدقّة حتى قبل باب منزله. مثل هذه الحادثة غيرها الكثير، بهذه الطريقة وأمثالها كان يترجم وصيّة الزهراء (عليها السلام)، فعلاً لا كلامًا.
لم أكن حسن التديّن وقتها، وكنت بحاجة إلى مثل هذا الأسلوب الصامت، لأقترب من الدين أكثر، لم أكن أحبّ الوعظ المباشر، عاشرت بعض من يظهرون التديّن، ومنهم معمّم، ما كنت أرى في سلوكهم ما يقرّبني، بل كنت أزداد بعدًا، حتى أنعم الله عليّ به، تغيّرت حالي، وتعلّمت منه الكثير، أجمل النعم كانت جواره، جزاه الله عني وعن زوجتي خير الجزاء".
شهر والوضع لا يعرف الاستقرار، زوجته وأطفاله الثلاثة في الجنوب وهو في بيروت، يزورهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. في إحدى زياراته تلك كانت زوجته في وضع الولادة.
تقول أخت زوجته: "سكنت أختي أم مهند بعد الاجتياح في دير قانون، وكانت في آخر حملها، كنت أزورها وأرى حاجاتها ما استطعت، ثم صرت أذهب إليها بعد إنهاء أعمال منزلي حين اقتربت الولادة، كانت زيارات أبو مهند قليلة بسبب الاحتلال، لكن مجيئه في ذلك اليوم بالتحديد كان رحمة من الله؛ لأن الولادة لم تكن سهلة، جاء بها إلى البازورية، وذهبت معه إلى مستوصف مؤسّسة عامل في البازوية، وهي في حال صعبة، أصابها نزف في المستوصف، لم تستطع الممرضة توليدها، وطلبت نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى، كنت في غاية القلق على أختي وأنا أرى ارتباك الممرضة وخوفها؛ ما زاد خوفي وقلقي. كان الحصول على وسيلة نقل مناسبة
164
145
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
في هذه الظروف يحتاج إلى وقت، وأختي في خطر، كانت هناك سيارة إسعاف تابعة للمستوصف من أجل الحالات الطارئة، لكن سائقها في إجازة.
لا بد أنه كان قلقًا مثلي، لكنني سمعته يتحدّث معهم بهدوء وثقة يطلب منهم السماح له بقيادة الإسعاف ويعرض عليهم ما يريدونه من ضمانات فوافقوا، كنت أنظر إليه وهو يتحرّك ويقود الإسعاف بوعي واتزان، لم أرَ ارتباكًا أو تردّدًا في كلّ حركته وتصرفه، كان مشغولاً بالذكر والدعاء طوال الطريق، ويسأل زوجته عن حالها بين الحين والآخر، يشجّعها ويخفّف عنها، لا ترى في ملامحه غير الاطمئنان والثقة بالله.
عند وصولنا إلى المستشفى أدخلوا أختي إلى غرفة الولادة فورًا وهي تنزف بشدّة، حين اطمأنّ لوجود الأطباء لم ينتظر، سأل عن وجود محطّة للوقود، ملأ خزّان الإسعاف بالوقود وأعادها فورًا، ربما يحتاج إليها أحد الآن كما قال.
ظلّ يشكرني لفترة طويلة، وكأنها ليست أختي، ولست ملزمة بخدمتها، يعتذر ويشكر بأدبه وأخلاقه الجميلة. مثال الرجل المؤمن هو، في كل شأنه كان كذلك، في كل السنوات التي عرفته فيها لم يصدر منه أمر غير مريح مهما كان صغيرًا، ولم ينقطع عن زيارتي مهما بعدت المسافة، ليس بمفرده بل يجلب معه أولاده جميعًا، يزور أقارب زوجته حتى الأبعدين، ويسأل عن أحوالهم، كيف بأقاربه وأرحامه، يقوم بتلك الزيارات كفرض واجب وعبادة".
165
146
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
عن زيّ رجل الدين، لم يتوقّف عن تلك المحاولات لمتابعة الدراسة الدينيّة والأكاديميّة، يحاول البحث عن فسحة في وقته لتأهيل نفسه وإعدادها ليكون رجل الدين الذي يراه، في متابعة دراسته الدينيّة والأكاديميّة.
حاول في بيروت عند عودته الأولى، وكانت له محاولات في شقراء. في السنوات الخمسة التي قضاها في بغداد، لم يتسنَّ له حتى المحاولة، فاقتصر سعيه الجانبي هذا على المطالعة في شتّى المجالات، وهنا حين عاد إلى بيروت مجدّدًا، عادت إليه رغبته ملحاحة لجوجة، لكن تأسيس العمل وصعوبة الرزق، ثم الانهماك في التدريس ومتابعة الشأن العام، كل هذا الانشغال حرمه من إيجاد فرصة وإن صغيرة لمتابعة دراسته الدينيّة، وفي بعده عن العائلة، أتيحت له فرصة لتأهيل نفسه.
فقد منحه تواجده وحيدًا هذه الفرصة الجديدة، فدفع شوقه وصعوبة العيش جانبًا، واستثمر هذا الوقت المتاح الذي فُسح أمامه عنوة، فعاد إلى الدراسة، اقتطع وقتًا مناسبًا، وكما كان في النجف في أول عهده: ساعات درس تبدأ من فجر اليوم بعد صلاة الصبح، حتى الساعة التاسعة أو العاشرة حيث ينشط العمل، يتوجه إليه، وإلى ما تبقى من شؤونه في النشاطات الأخرى، يوسع ما استطاع من دائرة التعب، عساه يصل إلى الكفاف، إلى رزق مريح لا يبغي فيه الترف، ترفه هو أن يسمح له في التوغل مسافات في تحقيق حلمه القديم.
167
147
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
الرزق عصيّ يطالب بالمزيد من الوقت والتعب، هو يحاول تطوير العمل، عساه يصل إلى هذا الكفاف، وذاك الترف للدراسة، فأضاف إلى العمل تصوير الأفلام والصفائح المعدنية (البلاكات) المعتمدة لطباعة الكتب، دون المساس بالوقت المخصّص لباقي شأنه، وأهمّها: الدراسة والتدريس.
الاهتمام بقضايا الناس، والنضال والثورة على الاحتلال والحكم الموالي له. ثورة على الظلم والجور في مكان يستطيع فيه الجهاد، سار بها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، سار بصمت، عمل بصمت، تلك الثورة هي نبض قلبه، هي ناسه وأهله، وفي تلك الثورة قدّم شقيقه عبد المنعم نفسه قربانًا وزفّ عريسًا بدرجة شهيد.
عبد المنعم شقيقه الذي تابعه صغيرًا، كما يتابع الأب فلذة كبده، ويراه يخطو منذ كانت خطواته قصيرة متردّدة، تستقرّ الخطوات وتتّسع بمرور السنين. أوضح تلك السنين رؤيةً ومتابعةً وحبًّا كانت سنيّ بغداد، حين استدعاه للسكن معه.
لم يكن عبد المنعم قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حينها، كان لصيقًا به، مقّربًا قريبًا، يوقظه في الصباح الباكر، ويمسّد وسادته ويغطيه ليلاً، يعرفه في كل خطواته، يراه بالعين وبالقلب، يخاف عليه من سمات ذلك العمر، حين يدخل الصغير باب الرجولة خائفًا يترقب، وحين يخطو فيها خطواته الأولى، لكم تشبه خطوات الطفولة الأولى، في السقوط والتردّد.
من أجل ذلك، كنت تخشى عليه ياسيدي، وعبد المنعم شقيقك الذي يقطر طيبةً وطهرًا، تلك الابتسامة التي تزيّن وجهه، جاء بها
168
148
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
من زمن الطفولة، حملها في ثنايا ملامحه الناعمة، وعبر بها إلى زمن الرجولة. يواجهك بها، فتمنعك حتى من عتابه عند شغبه وأخطائه القليلة، حين تستدعيه لتؤنّبه على خطأ ما، يواجهك بوجهه الذي ظل طفلاً، يرتدي ابتسامته تلك القادرة ليس على تبديد الغضب وامتصاص بقاياه، بل على امتصاص هموم يومك الباقية، فيرق صوتك وأنت تقول: يا أخي.
يراقب خطواته وهي تتسع، لم تأخذه خطواته إلى الدروب التي سلكها المراهقون قبله. لقد اكتشف دربًا، هو أقرب، هو من دلّه على الباب الذي أفضى إليه. ليس عادة من في مثل هذا العمر أن يتحدّث الفتيان عن الله بهذه الطريقة، يتخطى سعيه الحرام والحلال ليسأل عن المكروه والمستحب، يستغرب أترابه ذلك، لكنّه يبتسم ابتسامته تلك، وينظر إلى أفق بعيد، وبه حماس ثوريّ أوقده من شعلة مراهقته.
هموم عبد المنعم من فلسطين إلى إيران الثورة، خطاه تتّسع، كمن يرى مكانه ويسارع إليه، يتحدث عن المحرومين والمقهورين كأنهم أهل بيته، أو أهل مكانه، في بدر عمره شاهد مكانه، وبعد السادسة عشرة اكتشفتَ أنه يعمل مع المعارضة العراقيّة، ربما صغر سنه وبراءة وجهه كانا ساترًا نافعًا، وهو ينقل الأسرار ويدخل الأماكن الصعبة، ثم يغلق المنافذ على أسراره تلك يغطيها بمرح روحه وكأنها لم تكن.
لمَ هو عجول لا يبالي، هذا القلب الفتيّ لا يعرف الخوف وأنت تخاف عليه؟ حذّرته مرارًا: انتبه يا عبد المنعم، انتبه إلى خطواتك،
169
149
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
الوضع خطير والنظام لا يرحم، على الشبهة يقتل. يبتسم لك ويقول: بأمرك. يبالغ في احترامك منذ كان طفلاً، وهو في عينيك ما زال طفلاً. وهذا الذي تراه منه غريب على سنه، لكم هو عجول لا يهاب، حتى وصل بخطواته إلى وعورة الطريق وشوكه، ثم ارتقى والطريق صاعد قاسي على الأقدام الطرية، يصعد والقلب يتوجّس عليه، حتى حدث ما كنت تخشاه.
اعتقل مع من يعمل معهم في المعارضة العراقيّة، اعتقل بالجرم المشهود، دُهم المكان وهم يوضّبون المنشورات والكتب المحظورة لتوزيعها. لكنّه عاد، كيف نجا وهم لا يتركون أقلّ شبهة؟ عاد وبابتسامته نقل له الوقائع، بلهجة المنتصر، قال بكل بساطة: إنه تحدّث في غرفة التحقيق باللهجة اللبنانية، وقال: إنه لا يعلم شيئًا سوى أنه طُلب منه العمل في توضيبها مقابل أجر، وأبدى هناك استغرابه البريء مما يحدث، لم يشكّ فيه المحققون أبدًا، لم يكتم مصطفى ضحكته ولا الفرح بنجاته، ولأنهم لن يتركوه وشأنه، جعله يسافر إلى لبنان على وجه السرعة.
وفي لبنان ما كان يتوقف عبد المنعم عن الارتقاء. وفي الاجتياح الإسرائيلي قاتل جحافل الجيش المتقدّم، حتى عاد إليه جريحًا في مواجهات منطقة "خلدة". كان يسمّيه الأسد.. ذهب الأسد، وعاد الأسد.. هذا الفتى له قلب أسد، وهو طفل في ابتسامته وطهر قلبه. توقّف عن تحذيره والخوف عليه في لبنان، أيقن أنه يرى مكانه، أنقذه الله من الاعتقال سابقًا لينال المزيد من المراتب، اختار له الله مكانًا عاليًا، عريسًا يزفّ إليه.
170
150
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
يستقبل المعزّين بشقيقه وهو يردد: بارك الله لنا ولكم. بيده صمّم وخطّط الإعلانات عن استشهاد شقيقه، ما شوهد إلا مبتسمًا، دمعة أو دمعتان سفكهما في معزل، فما خلا الشوق إلى عبد المنعم، كان مصطفى سعيدًا بوصول شقيقه.. خبّأ شوقه في تلك الزاوية التي اعتاد أن يخبئ فيها الحميم من عواطفه، وأغلق عليها كما أغلق على سواها، وعاد إلى ما كان عليه من السعي في كل شؤونه، وأصعبها كان السعي في هذا الرزق الذي يزداد صعوبة وقلّة.
يا رزق مصطفى ما بالك؟!.. حتام وعلام أنت كذلك، وإلى متى ستبقى على هذا التمرّد والعناد، وماذا تريد منه لتصل به إلى الكفاف؟ هو لا يريد منك سعة ولا بحبوبة عيش، هو لا يريد منك ملكية في أرض أو سكن أو مكتب، ما سألك ذلك ولا سعى إليه؟ لا يريد منك سوى أن لا يكون عالة على أحد، بل معيلاً ما استطاع، لا يريد منك سوى أن تكون منه هو، من جهده وتعبه وعرق جبينه، حلالاً طيّبًا! وأن تفسح له قليلاً، نافذة يتابع منها تطلعاته لرجل أراد أن يكونه، بعض من الوقت يعمل فيه على بناء ذلك الرجل.
كثير من هذا الوقت لم يأخذه منك يا رزقه، أخذه من وقت راحته، في كل مرة كان يعطيك فوق ما تحتاج إليه، في كل ما أسّسه من أعمال، بذل جهدًا مهيبًا فوق المتعارف، تأسيسًا واختيارًا ودراسة جدوى، ثم تعب متواصل وجهد حثيث، مهارة وإتقان، أمانة وصدقًا، إحاطة ودراية، مَن مِن العاملين فعل الذي فعله من أجلك يا رزقه؟! غيره بذل أقلّ من ذلك بكثير، وذهبت به للراحة والغنى.. أعطاك كل ما يستطيع لكنّك أبَيت، أبَيت حتى الوصول به
171
151
الفصل الثالث: سـعي على ضفـاف الحلم
إلى الكفاف!! كأنّ يا رزقه اشترطت عليه أن تأخذ منه كلّ وقته، وأن يتفرّغ لك بالكامل لتعطيه الكفاف!
في منزله وحيدًا، تراه بعد انتصاف الليل بوقت طويل يغفو منهكًا على طاولة المونتاج، تلك التي صنعها بنفسه ليعمل عليها في المنزل ليلاً، أو يغفو على كتاب من دروسه.. كم من الزمن مرّ عليك وأنت كذلك يا سيدي؟ منذ غادرت النجف في المرة الأولى، وأنت تحاول تعديل ميزانك بين العمل والإعداد لرجل الدين الذي تريد، ميزان لم يعرف الاستقرار، إن اعتدل حينًا فبغير ما تريد. صامت أنت، تغفو على طاولة العمل، أو يسقط رأسك مكدودًا فوق صفحات الكتاب.
172
152
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
دُعي إلـــــى إيـــران للمشــــاركة في أحد المؤتمرات، بمناسبة ذكرى انتصار الثورة، وحين عاد منها كان قد تبدّل شيء فيه، بدا ذلك واضحًا في التماعة عينيه، كأن غيومًا تبدّدت في سماء الأفق، فأظهرت ما كان محجوبًا واتّضح ما هو ملتبس، أو أن شمسًا أشرقت على حقيقة كانت خافية طوال ذلك الوقت، فرحٌ ذاك الذي في التماعة عينيه، ينعكس من قرار حاسم اتّخذ دون تردّد، ولكنه أراد الاطمئنان إلى أمر أخير.
تقول زوجته: "لم أكـــن أعلم بســـفره، فهو في بيـــــروت وأنــــا في الجنوب، لم يكن التواصل واللقاء سهلاً. جاءني حيــن عاد، بعد الاطمئنان علينا ومجالسة أطفاله أخذني جانبًا، طلب مني الجلوس وقال: أريد أن أحدثك بأمر، ولكني قبل ذلك أريد منك وعدًا أن لا تجامليني، وأن تقولي ما في نفسك بلا خوف أو خجل، وأنا سأتقبّل رأيك مهما كان، وإن كان خارج رغبتي. قلت له: إن رغبتك رغبتي مهما كانت. تحدّث بعطف، عن ظروفنا السابقة، وعن صبري عليها وعن ظروفنا الاقتصاديّة التي لم تكن سهلة غلى الرغم من محاولاته، فقلت له: أشهد الله أنك ما قصّرت يومًا، فقال: كيف ترين إن مررنا بما هو أصعب؟! وتحدّث عن قراره بالسفر إلى إيران، والعودة إلى لبس العمامة، وعن الحقوق الشرعية، عن سهم الإمام الذي سيضطر إلى الأخذ منه بسبب تفرّغه لطلب العلم، وكيف علينا أن نتعامل مع هذا المال، وإننا سنترك الكثير مما كنا فيه، فمال الحقوق ليس كسواه، هو يتأسّف بشدة على اضطراره هذا، لقد حاول جاهدًا أن يدرس ويعمل كي لا يأخذ من مال الحقوق، بل
175
153
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
عمل على أن يدفعه هو إلى من يحتاج إليه، أما كونه سيضطر إلى الأخذ منه، فعليه أن يكون في أشدّ الحرص على إنفاقه، سألني إن كنت سأعينه على ذلك وأصبر قربة إلى الله، قلت: سأفعل، وإن شاء الله لن تراني شاكية. ثم سألني قائلاً: وإن ساءت الأحوال أحيانًا، واقتصر طعامنا على الخبز اليابس؟ فقلت: وإن كان ذلك. لم أره سعيدًا من قبل كما كان سعيدًا في تلك الأيام، كأنه كان ذاهبًا إلى حيث كان يرغب في أن يذهب منذ أمد بعيد".
توقف عن تسلّم الجديد في عمله اليومي وفي سواه، وعكف على العمل في ما ارتبط به سابقًا، وأخذ يفكّك ارتباطاته في لبنان، لن يترك خلفه إلّا التامّ، وعلى أكمل وجه كما هو دأبه، ويعدّ العدّة لسفر طويل، استغرق ذلك بضعة أشهر، حاول خلالها أن ينظّم أمر تواجده في إيران.
يقول السيد هاشم صفي الدين: "تعرفت عليه عند قدومي من إيران، فهو من بلدي، وهناك صلة قرابة بين والدتينا، كنت قد أتيت إلى لبنان لزيارة أهلي بعد انقطاع، ولإتمام أمور أخرى ومنها زواجي.
في اللقاءات الأولى أنست كثيرًا بشخصيّته، حين كنا نسهر في شهر رمضان المبارك، حيث يجتمع أهل القرية في إفطارات ولقاءات نظّمها شباب القرية في الشهر الفضيل، كنت معمّمًا حينها، وكانت تدور في تلك اللقاءات نقاشات ومواضيع شتّى. كان يشارك في تلك النقاشات، لفتني بأسلوبه وحسن اطلاعه، وما يملكه من معرفة.
لقد توطّدت علاقتي به، ولا سيّما بعد زواجي من ابنة شقيقته، وحين أخبرني بعزمه على التفرّغ لطلب العلم شجّعته على ذلك كثيرًا،
176
154
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
بعد الذي عرفته من سعة اطلاعه ومعرفته، زيادة على كونه ابن شيخ كانت معرفته بالعلوم الدينيّة واضحة، ولا سيّما بعد أن قرأت كتابًا جمعه في تلك الفترة عن الحج ومناسكه، أعجبني الكتاب كثيرًا في دقّته وترتيبه وسهولة الاستفادة منه من قبل العامة من الناس.
أما عن نقاشاته وأحاديثه، وكذلك علاقته المميزة والمؤثرة مع الناس، فأذكر على سبيل المثال: الرائد عواد، تلك الشخصيّة المعروفة في الجيش اللبناني، كان في وقتها رجلاً مهمًا ووطنيًّا شهيرًا في زمن الحرب. رجل مثقف حسن الاطلاع كان يدرس الدكتوراه، رافقني في الحج، وكان طوال الطريق يحدّثني عن الشيخ مصطفى، لا يكفّ عن الثناء عليه ومدحه، معجبًا به إلى حد الشغف، فهو مثله الأعلى، ويعتمد عليه في كل أموره الدينية، أكثر من اعتماده على أي شيخ يعرفه، ويطيعه في شأن دينه بلا تردّد، ولا يقبل إلا منه، وإذا ناقشته في أمر قال حاسمًا: هذا ما قاله الشيخ مصطفى. لم يكن الرائد عواد وحده من يعتمد عليه، مكانته العلميّة تظهر بوضوح وللناس ثقة به قبل أن يرتدي العمامة.
قلت له: أنت شيخ عند الناس قبل أن تتعمّم، فحدّثني عن سعيه لطلب العلم منذ كان في النجف، وأنه ما تخلّى عن تلك الرغبة أبدًا، منذ كان صغيرًا، كان قد خطط لحياته أن يتابع الدراسة الدينيّة والأكاديميّة وأن يعمل في الوقت نفسه لإعالة عائلته، كان يسعى من أجل ذلك طوال تلك السنوات، لكن ظروفه عاندته ولم يوفق، كما قال لي. لقد اتّخذ القرار بالتفرّغ لطلب العلم مهما كانت الظروف، وأنه لن يفكّر في شيء آخر، سيتكل على الله، وسيتحمّل مهما كانت التبعات والأثمان.
177
155
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
شجّعته كثيرًا على التفرّغ لطلب العلم، والذهاب إلى إيران، وقلت له: ستجد هناك ما يرضيك، وسأكون معك في أيّ شيء تحتاج إليه".
تشجيع السيد هاشم زاده حماسًا إلى حماسه، لم يتعهّد جديدًا رغم الطلب، لكن إنهاء أعماله احتاج إلى الكثير من وقته، وقته المضغوط، لن يترك تلك الملفات والمهام التي بدأها قبل القرار، ولن يوكّل بها أحدًا مهما كان يثق به، انكبّ عليها وضاعف جهده، حتى أتمّها على أكمل وجه، حينها سارع وتسارع كدقات قلبه، لم ينتظر ويعمل على ما يتعلّق به: حقوقه عند الناس، المنزل وأثاثه، المؤسّسة التي عمل بجهد مضنٍ في إنشائها وتطويرها، تلك حاجاته وأملاكه هو، لا مشكلة إن لم ينجزها كما يجب، هي ليست كحاجات غيره، حاجاته إن أنجزت ناقصة أو غير عادلة لا ضير.
أوكل شقيق زوجته بحقوقه، ومنح مؤسّسته لشقيقه زكريا بكل ما فيها، وكذلك المنزل المستأجر بما فيه من أثاث منحه لوالدته، تاركًا كل دنياه السابقة غير آسف، ولا ناظرًا خلفه، مبتسمًا لا ترى في عينيه سوى أمله فيما هو مقدم عليه، يتابع بعيون القلب ملامح درب كما يراه موصولاً بالسماء.
178
156
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
حطّ كطائــــــر أتعبه التحليق طويــــــلاً في آفــــاق شــــتّى، أتعبـــــه ما لم يجده... ها أنت تعود سيدي إلى مشهدٍ رسمتَ ملامحه حلمًا ورغبة صافية الوضوح، مذ عرفت ما تريد أن تكون، وباكرًا عرفـــــت، حال بينك وبينه واقع أردت صناعته، شئت بكل جهد المشيئة أن يكون، أردت أن تدخل المشهد وفي يديك ما تستعين به على الدنيا ولم تُعِنك، ها أنت تصل إلى قم المقدّسة خالي اليدين من كل متاع الدنيا، وليس لك هنا سوى منزل والدك الذي سبقك إلى قم منذ أعوام خلت، منزل صغير لن يمنحك إلا زاوية صغيرة، لكن المتّسع هو قلبك والحلم، المتّسع رضا بما قسم الله، المتّسع بهذا الأفق الممتدّ طموحًا ورغبة في القرب من ربك الرحيم، في رجل يكون من الدين وله. سعيدًا أنت يا سيدي! كأنّك تحـــــرّرت الآن لتكون كلك من أجل هذا البناء. تحطّ الرحال في قم المقدّسة ولتكن كل الدنيا خلفك.
يقول أخوه من أبيه: "كان خبر قدومه للسكن معنا في قم خبرًا فريدًا في الفرح الذي صنعه، ولا سيّما لنا نحن إخوته: صغارًا وكبارًا، انتظرنا وصوله كما ننتظر العيد، فترة انتظاره كانت طويلة بالنسبة إلينا وإن قصرت، ملّ الأهل من ســـــؤالنا متى يأتي؟
كانت تتداعى إلى ذهني أوقات لقاءاته السابقة، كانت لقاءات قليلة متباعدة، لكم كان يؤسفني أن سكنه بعيد ولقاءه قليل! أن يسكن معنا كان بالنسبة إليّ حلمًا بعيد المنال، أخي من أبي، كان أقرب إلى قلبي من أيّ أحد، ذكرياتي معه على قلّتها كانت غنية بالحبّ والأخوّة التي كان يبديها، بالاهتمام الذي لم أرَ مثله.
179
157
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
أوّل معرفتي به كانت حين جاء للاطمئنان علينا قادمًا من العراق، كان ذلك في زمن الحرب الأهليّة، وأذكر وقتها كيف أن معمل "البونجيس" القريب قد احترق بقذيفة في الحرب، وتناثرت علب "البونجيس" في كلّ مكان، لكن أبي منعني من الأخذ منه! قال: إنّ هذا حرام، هذا العصير اللذيذ كنت أحبّه كثيرًا، كان مرميًّا على الطريق، وكل أولاد الحيّ يأخذون منه بكميّات وافرة، وكان هو مع أبي حين دخلت عليهما، وقلت: لماذا هو حرام؟ أريد أن آخذ منه، فصرخ أبي في وجهي، هدّدني ونهرني بحدّة، فخرجت باكيًا، وبعد وقت قليل جاء أخي، وربّت على كتفي وقال لي: تعالَ معي، إنّ أباك يريد التحدّث إليك، وهناك تغيّرت لهجة أبي، وراح يحدّثني بهدوء ووضوح، كيف أن لهذا "البونجيس" صاحبًا تعب في صناعته، و...
كان حديثا مقنعًا ومؤثرًا، جعلني أخرج من عندهما راضيًا مقتنعًا زاهدًا بذلك العصير، ذلك الحوار من أبي كان بنصيحة منه، هو من طلب من أبي أن يعيدني ويغيّر لهجته. كان تأثيره على أبي واضحًا، وكنت أعرف محبّة أبي واحترامه له قبل لقائي به. كثيرًا ما كان يردّد أبي جملاً مثل: ليت مصطفى هنا.. ليتكلّم مثله.. ما كان يستعصي على مصطفى شيء.. كثيرًا من تلك الجمل كانت قد سبقته ورسمت خطوطاً من شخصيّته واحترامه والذي تعزّز بعد تلك اللقاءات.
وأذكر في تلك اللقاءات، وحين سكن في بيروت، كان يزورنا ويسأل عن رغباتنا وحاجاتنا، وأكثر شيء أذكره هو مساعدته لنا في الدرس، فله طريقة غريبة وأسلوب خاصّ، يأتي إلينا ونحن ندرس، ويقول: هل أستطيع مشاركتكم؟؟ هل تسمحون لي بأن
180
158
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
أدرس معكم؟ يجلس معنا ويعلّمنا بطريقة تصبح معها الدروس سهلة ممتعة، كان يقول لي حين يراني مللت من الدرس: أنت الأستاذ وأنا التلميذ، يقلب الأدوار ويجعلها لعبة لطيفة، يقول: استمع لي إن كنت قد حفظت درسي أم لا، ويتعمّد أن يخطىء، حتى ألتفت سعيدًا باكتشافي وأصحّح له الأخطاء. مشاعر الحب له تلك كانت ممزوجة بالاحترام والقداسة، جعلت انتظارنا قدومه والسكن معه يشبه انتظار العيد".
وصل إلى منزل أبيه، في واحد من الأحياء الشعبيّة في مدينة قم المقدسة، منزل صغير متواضع، مزدحم قبل قدومه بعائلة أبيه المكوّنة من تسعة أفراد، منزل لا يخلو من الضيوف، أمكن بعد جهد من إفراد غرفتين صغيرتين بُنيتا دون تنسيق على سطح ذلك المنزل، نزل فيهما هو وزوجته وأطفاله الأربعة، بأثاث لا يتعدّى الفراش والأغطية، والزمن صعب، زمن الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإســــلاميّة الحديثــــة العهــــــد، وهو على ابتســـــامته التي ازدادت وضــــوحًا باقتـــــراب الحلــــم، ينظــــر إلـــــى نافـــــذة حلمـــــه، عينه شاخصة لشروق شمس أمل قديم، كل هذا الضيق وتلك الصعوبات هي خلفه. اتّجه إلى الحوزة منذ البدء وبعد الوصول مباشرة، عجولاً كعطِش يسارع إلى نبع ماء. لم يمض وقت حتى انتظم في الدرس والتدريس، وصار في قلب الحوزة كالقدامى فيها.
يقول أخوه: "لا أدري ما هو الفاصل الزمنيّ بين قدومه وانخراطه في الحوزة، لعلّه عند قدومه مباشرة، أول شيء دخل إلى غرفته من الأثاث هو الكتب، لم يكن هناك فاصل زمنيّ، كما لم يكن هناك
181
159
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
فاصل بين قدومه واهتمامه بكل ما في منزلنا من أشخاص وحاجات، باب هنا كان مخلوعًا لا يمكن إغلاقه، وذاك يصدر صوتًا ويحتاج إلى قوّة كي يتحرّك، متى تغيّرت حال الأبواب؟ النور هنا والمياه هناك، و.. منذ زمن لا تعرف مبرّدات المنزل الهواء البارد، كنا قد نسينا منذ متى! كانت تحتاج إلى قطعة غيار اهترأت وأكلها الصدأ، وبقيت المبرّدات اسمًا على غير مسمى، لزمن لا أذكر بدايته، ولكني أتذكر في بداية قدومه كيف جلس أمامها يعمل، وصنع تلك القطعة من صحائف السمن الملقاة على السطح ومواد لاصقة وأشياء أخرى لم أكن أعرفها، وعادت البرودة إلى غرف منزلنا. كان والدي يرى ذلك، ينظر إلى ولده الأكبر مبتسمًا فخورًا، ثم ينظر إلينا تلك النظرة التي تقول: أرأيتم..؟! هذا هو مصطفى الذي حدّثتكم عنه".
لم يطل ذهابه إلى الحوزة حاسر الرأس، دون ذلك الرداء الذي كانت تطلبه جوانحه مثل جوارحه، اشترى رداء رجل الدين، وطواه بعناية مشبعة بالاحترام والحب، بانتظار الموعد المقدّس الذي عيّنه المسؤول في بيت الإمام الخميني، موعد قريب جعلته لهفته أبعد موعد في كل العمر، حتى إذا حان، جلس بين يدي الإمام الخميني (قدّس سره) في صمت يغطي به ضجيجه الداخلي، مصحوبًا بتلك الرهبة المقدّسة، كمركب في بحر عاصف كان قلبه، وهو يحني رأسه مستقبلاً بركات تينك اليدين، وهما تضعان العمامة على رأسه، أغمض عينيه مصطفى، وهو يردّد برهبة عهدًا يقطعه على نفسه أن يكون رجل الدين بمعنى الكلمة، ثم فتحهما وهو يغالب دموعًا يعرف كيف يغلبها، وعواطف يعرف درب سجنها، وبركات التبريك تتسرّب إلى أذنيه.. مبارك يا شيخ مصطفى.. مبارك.
182
160
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
ما كان الشيخ مصطفى ليتأثّر بأيّ من الصعوبات والضيق في باقي نواحي الحياة، دفعها جانبًا كي لا تأخذ من وقته وفكره، وضعها خلفه لتتّسع مساحة الدرس، كي يوسع لرجل الدين مساحة.. ذاك هو الهمّ، وإن ضاق ما عداه في السكن والمدخول، مستعدّاً قبل البدء، جاهزًا ليحيا في ضيقها وصعوبتها، طالما هو سائر في ما أراد.
يخبرنا ابنه ويقول: "لقد عشنا ظروفًا قاسية جدًا، في الملبس والمسكن والمأكل، وأذكر على الرغم من صغر سني كم كان ذلك واضحًا! كنت أذهب إلى المدرسة المجانية مسافة طويلة جدًا سيرًا على الأقدام، أتوقّف مرارًا خلال الطريق لشدّة التعب، وعلى الرغم من سكننا في حيّ فقير، إلا أنني كنت أرى بوضوح كم أن زملائي هم أحسن حالاً مني، في لباسي وحقيبتي وزادي، وكل شيء".
كان الشيخ مصطفى يرى ذلك كلّه، ويضع عواطفه في سجنها، ويحرّض عائلته على الصبر والتقرّب فيه إلى الله، ويسير مندفعًا باتجاه التحصيل العلميّ كمن لا همّ له، كمن هو في رغد العيش، انخرط منذ البداية في الأجواء العلميّة والفكريّة وسواها، في كلّ ما يراه مسؤوليّة رجل الدين، في الحوزة وخارجها، في متابعة حثيثة منذ اليوم الأول.
يقول السيد هاشم صفي الدين: "كنّا مجموعة صغيرة من رجال الدين الشباب، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكاليد الواحدة كنّا في كل شيء، القواسم المشتركة فيما بيننا لم تكن تتوفّر مجتمعة عند سوانا، أنا والشيخ نبيل قاووق، والشيخ مالك وهبي، والشهيد الشيخ محمد الرملاوي، يجمعنا الانتماء إلى الفكر الثوري، فكر
183
161
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
الشهيد الصدر والإمام الخميني، ما كان يُسمّى وقتها خطّ الإمام. النشــــاط العلمــــيّ، واســـتثمار الوقــــت، والشـــعور بالمســـــؤوليّة تجاه الناس، ومســــؤوليّة الحوزة وطلابها، والنهوض بها إلى الأمــــــــام، هذه المجموعة كانت مترابطة ومنسجمة فكريًّا وروحيًا بشكل فريد.
وحين قدم الشيخ مصطفى إلى إيران وجد نفسه ووجدناه فيها، بشكل تلقائيّ دون تخطيط مســــــبق، كالموجـــــود أصلاً، كأن مكانــــه بيننا كان فارغًا بانتظاره، وبعد استشهاد الشيخ الرملاوي بقينا نحن الأربعة، في كل سنوات قم، ما كانت تلك السنوات إلا لتزيدنا قربًا وتماسكًا، اهتماماتنا وتطلّعاتنا وهمومنا الموحّدة كانت تفرض علينا لقاءات شبه يوميّة، معًا كنّا في الكثير من النشاطات، نحضر ونخطّط ونعمل، ندعو علماء ومثقفين، يساهمون معنا بشكل كبير في كل تلك النشاطات، ونتحرّك على كل الأصعدة، وكان حزب الله والمقاومة حديثي العهد وقتها، وكنّا نمثّل رأس ذلك النشاط هناك، مع متابعة حثيثة للنشاط العلميّ في الفقه وسواه من علوم الحوزة.
وفي المجال الفقهي كان الشيخ مصطفى يبذل جهدًا مضاعفًا، يريد به تعويض ما فاته في السنوات السابقة، تلك السنوات التي ترك فيها الدراسة الحوزويّة كانت كالغصّة في روحه، لطالما حدّثني عن ذلك التوقّف بمرارة وأسف، ثم يقول: ليس عليّ أن أندم.. لقد استفدت الكثير من تلك السنوات.. لعلّ ذلك كان خيرًا لي.
من أجل تعويض ما أمكن كان يبذل الكثير من الجهد، على حساب راحته، فتراه جادّاً يبتعد عن الترفيه، وعن المجالس التي يكون فيها الاستثمار قليلاً، ويحسب حساب الدقائق وليس الساعات،
184
162
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
يبحث فيها عمّا هو مجدٍ وفعّال، إذا رأى المجلس يتّجه اتجاهًا آخر أدار دفّته بسؤال علمي أو فقهي، وكنّا معه في كلّ ذاك، نستثمر ما نستطيع من الوقت، ونجتمع على المزيد من الفكر والعلوم ما أمكننا ذلك. حتى في اللقاءات العائليّة.
منذ بداية عهدنا معًا، اتّفقنا نحن الأربعة على أن نقوم ببحث أسبوعيّ، نظّمنا لقاءً أسبوعيًّا يوم الخميس، نناقش فيه بحثًا فكريًّا، في القرآن ونهج البلاغة، وأبحاثًا علمية أخرى، واستمرّ هذا اللقاء لسنوات طويلة، كنّا مصرّين على أن لا يعيق هذا البحث شيء من مشاكل الحوزة أو الهموم الأخرى، بإصرار وعناد حمينا هذا اللقاء وكانت له الأولويّة.
من هنا، أصبحنا نعرف الشيخ مصطفى أكثر. من هنا، عرفت أن الشيخ مصطفى يمتلك الكثير من القدرات العلميّة على مستوى الدقّة والمثابرة، لا يقبل إنهاء البحث إلا على أكمل وجه، لو بقي في البحث أمر معلّق لصعوبته، كان يتابعه حتى يفكّ عقده كلها، تلك كانت ميزة فيه، يأتي في الأسبوع الثاني ويقول: أنا بحثت ووصلت إلى هذه النتيجة وتلك، له ذهن تحقيقيّ متين، كان مؤصلاً علميًا وينحى إلى منحى التحقيق والتدقيق، كما هو دأب السلف الصالح من علمائنا الأبرار، ولكنه في الوقت نفسه كان منفتحًا علميًّا وثقافيًّا وفكريًّا على العناوين التي يتم تداولها في الثقافة المعاصرة.
خلال وجوده في إيران، عرفت فيه الكثير من التفاصيل التي تنمّ عن أمرين هامين: الأوّل هو دقّته والمثابرة بهمّة عالية لا تعرف التعب، والثاني هو الإخلاص الفائق. لا يمكن معرفة هذه الأمور من
185
163
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
خلال معرفة سطحية. هي وليدة تجربة طويلة، تجاوز فيها امتحانات واختبارات صعبة تعرّض لها في نشاطاته الكثيرة في الجانب العلميّ أو في الشأن العام، أو في إدارة شؤون الطلبة في منتدى جبل عامل".
تحدّث السيد صفي الدين عن منتدى جبل عامل، كما تحدّث كل من عاصره في تلك الفترة. الأولويّة عنده منذ الأيام الأولى لقدومه هو التحصيل العلميّ. لكنه كان يحمل في جنباته اهتمامه بالشأن العام، بمشاكل الناس وحاجاتهم، شخص لا يستطيع أن يغضّ الطرف أو يهمل، لا تعرف اللامبالاة طريقها إليه، على الرغم من انشغاله بالدرس والتدريس، لم يترك أمرًا يستطيعه للمساعدة.
وجد نفسه ملجأ لطلاب العلوم، في حاجاتهم ومشاكلهم، لا سيما الطلاب الجدد، الذين وجدوا في أبوّته حضنًا دافئاً في برد غربتهم، ولم يقتصر ذلك على الطلبة اللبنانيّين، بل تعدّاه إلى سواهم من الجاليات الأخرى ولا سيما الأفارقة. وما لبث أن انتشر عطر سجاياه إلى عدد كبير منهم، وشاهد ذلك سماحة السيد جعفر مرتضى، كبير اللبنانيين، والقائم بشؤون حوزتهم، وقد أنشأ منتدى للطلبة اللبنانيين أسماه "منتدى جبل عامل"، وجعل الشيخ مصطفى مديرًا له. قام الشيخ مصطفى بتجهيزه وتنظيمه بشكل مدروس ودقيق على الرغم من قلّة الإمكانات، وجعل منه مكانًا لائقًا منظّمًا.
يقول أخوه: "كان يعمل بنفسه على إعادة تأهيل المبنى، حتى إنه كان يعيد طلاء بعض الأماكن بنفسه، يصلح الأعطال؛ لأن المبلغ المرصود لم يكن كافيًا لما كان يريده، استغربت خوضه في التفاصيل الدقيقة، والمظهر الشكليّ والذي لم أكن أرى له حاجة عملية، كان
186
164
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
يبذل عليه جهدًا ويعالجه بنفسه، وحين سألته قال لي: حين تكون جديدة ونظيفة تؤثّر على نفسية الطلبة دون أن يشعروا".
يقول السيد جعفر مرتضى: "حين جاء الشيخ مصطفى إلى إيران كانت مشاكلنا كثيرة وهموم الطلبة وحاجاتهم لا تنتهي، فوجدته معي دونما تخطيط أو مقدّمات، ومع الوقت صرت أعتمد عليه بشكل كامل، رفع عن كاهلي الكثير من المعاناة، وأحسن إدارة كل أمر تولّاه، ومن أهمّها إدارة المنتدى، الذي تولاّه بشكل كامل، وهو عمل كبير يزدحم بالمشاكل والمهام الصعبة، في ترتيب الدروس وجمع الطلبة، في تأمين الأساتذة، وتنسيق المواعيد، حتى أن الغرف المخصّصة للدرس لم تكن لتفرغ طوال النهار.
رجل عمليّ، هو من أفضل من عرفت من الرجال، منظّم في كل نشاطه، يتصدّى ويبادر بصدقه وإخلاصه، ويعالج المشاكل الكثيرة بحكمة متجاوزًا الصعوبات، يدهشني صبره وتفانيه، ومن هذا القبيل التعامل مع الطلبة المختلفين بأجوائهم إلى حدّ التناقض، مضافًا إلى القسم الداخلي الذي كان يوليه عناية خاصة، لحاجة الطلبة فيه إلى الرعاية. وهناك الكثير من التفاصيل، لم يكن الإشراف عليها وفرض النظام فيها بالأمر السهل.
أصبح منتدى جبل عامل محورًا لكل الطلاب العرب وليس للطلبة اللبنانيين فقط، وصل إلى مراحل غير متوقّعة بفضل إدارته، فقد كان يدخل إلى المنتدى ويدرس فيه عدد ضخم من الطلاب يوميًّا، دروس مستمرة في كل الغرف، وطلاب من كل الفئات، في نظام بلا خلل، ومع هذا كله كان يتابع درسه ويعطي الدروس كمن لا شغل
187
165
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
له غير الدرس والتدريس، لم تسجل عنه أيّ ملاحظة سلبيّة، ولم يشكك أحد في مكانته العلميّة. في المنتدى، علّم الطلاب أساليب التحقيق، وساعدهم بعد ذلك في مشاريع التحقيق التي قاموا بها، وكان أول مرة يقام فيها قسم كهذا في الحوزات، أداره بفعاليّة، حتى أصبح لهذا القسم صدى وآثار وإنتاجات مهمة.
فرض هيبته ووجوده بانضباطه والتزامه، في مكان تعمّه الفوضى، وثبّت ترتيبًا ما كان ليثبت لولاه. متّزنٌ بعيد النظر، مشاكل كثيرة كان يعالجها بصبره وحكمته ورجاحة عقله وتديّنه.
بقي ذلك كله بين يديــــه، منظّمًا فعّالاً طوال وجــــــوده في إيران. صعوبات ما كنّا نشعر بها في وجوده، بوجوده كانت الأمور منضبطة، هناك مشاكل تترك ذيولاً ومخلّفات إن عولجت بطريقة سطحيّة، ومعه لم يكن الأمر كذلك، يعالج الأمر من جذوره، وتنتهي أعماله دون ثغرات، وكان هذا في غاية الأهميّة، لم يكن يترك شيئًا بحاجة إلى ترميم وإصلاح. هو رجل مخلص بكل ما لهذه الكلمة من معنى".
لم يكن السيد جعفر مرتضى هو الوحيد الذي وجد فيه هذه الصفات واعتمد عليه، لقد تشعّبت علاقات الشيخ مصطفى، واتّسعت دائرتها المبنيّة على الثقة، لقد اعتمدت عليه حتى الجهات الرسمية فيما يختصّ بشؤون طلبة الحوزة، وقد سرى هذا الأمر عن غير قصد أو تعمّد مدروس. لقد ساعد الطلبة في الكثير من أمورهم بطبع من الإنسان فيه، ومنها أوراقهم الرسميّة وما يتعلّق بالإقامة والسفر، يسهّلها لهم ما استطاع بحرص ونظام، يسعى لترتيبها وتيسيرها كي لا يشغلهم عن درسهم شاغل.
188
166
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
هذه المتابعة التي ألزم نفسه بها وسّعت من دائرة علاقاته تلك. إخلاصه والتزامه جعلا من الطلبة والجهات الرسميّة يعتمدون عليه ويثقون به، حتى صار المرجع الرسميّ لكلا الطرفين، ووجدوا فيه ملاذهم.
كانت مشاعره تجاه من كان حريصاً على طلب العلم توازي مشاعر الأبوّة عنده، يهتمّ بكل ما يحتاجون إليه من سكن وأساتذة، وحلّ مشاكلهم المتنوعة، ومنها المشاكل الماديّة، يلجأ إليه المعوزون، يؤمّن لهم ما استطاع من أموال الحقوق، يساعدهم في تحصيلها بما اكتسبه من الثقة عند الجميع.
بعض المال كان يمرّ عبره، إن من الجهات الرسمية أو من المراجع أو من المتبرّعين، يدرس الحالات ما استطاع، ويمد يد المساعدة دون طلب في كثير من الأحيان، لكن هذه الأموال لم تكن لتجد طريقها إليه هو، مؤصدة هي دونه، أحكم إغلاقها بدافع من تقوى وعفّة، على الرغم من حاجته إليها بأقلّ من مستوى الكفاف، يعاني مستورًا بصمت، وما إن يأته مبلغٌ من مال الحقوق تسقط في ذهنه حاجة لطالب كانت قد عرضت عليه، فيبسط لها يده على عجل، يسدّ تلك الحاجة ويبتسم مرتاحًا كمن تحرر من عبء.. وأنت يا شيخنا، ماذا عن حاجتك أنت؟ المال بين يديك والحاجة في منزلك، في كلّ جوانب حياتك في مأكل وملبس وسكن، تحيا في ضيق والمال بين يديك؟ يقولون له: إنك أكثر حاجة من فلان الذي تساعده في كل شهر، وفلان يطلب منك وعنده ما ليس عندك، فيقول جملته الشهيرة، قانونه الذي التزم به: "كلّ واحد يعرف تكليفه".
189
167
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
"التكليف" كلمة كثيرًا ما كان يردّدها. "اعرف تكليفك" هو الباب والمفتاح ومتّسع الطريق.. يقول: إن كنت ضائعًا مترددًا خائفًا، انظر إلى تكليفك.. سيتبدد العمى وتنقشع الرؤية.. إن حدّثته عن مشكلة ما، مشكلة في المنزل، في العمل، مشكلة مع فلان، قال لك: اعمل بتكليفك، حاشا لله أن يتركك ربك وأنت تعمل بما كلّفك به.. فقط اعمل بتكليفك وليحدث ما يحدث.. يقول: ما همّني وأنا أعمل بتكليفي؟! ليغضب من يغضب، وليرضَ من يرضى، قف هنيهة على مفترق الطرق وأنت تخشى وتتّقي، فبعضها مغلق وآخر يصل للهاوية، اعرف تكليفك وتقدّم بلا خوف، فسيسلك بك ربك درب الوصول إليه.
190
168
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
يقول الشيخ نبيل قاووق: "جمعتني به معرفة عميقة، وأواصر حبّ وودّ وأخوّة وصداقة، ألتقيه يوميًّا، وأقضي معه أغلب الأوقات، أعرفه عن كثب، أعرف كيف يعيش تمام المعرفة، منذ قدومه إلى قمّ، وإقامته في منزل والده القديم، وهو منزل يقع بين أزقّة ضيّقة، في أكثر أحياء قمّ المقدّسة فقرًا، وكان بإمكانه أن يسكن في منزل أفضل بما له من علاقات ومعارف، لكنه لم يسعَ لذلك، رضي أن يحيا حياة الفقراء والمستضعفين، في تلك المنطقة التي لفّها الفقر، في منزل تتجلّى بساطة العيش في كل مقتنياته، في الوقت الذي كان قادرًا فيه أن يحيا حياة طبيعيّة مريحة، فالمال بين يديه يوزّعه على المحتاجين من الطلبة، كان باستطاعته أن يأخذ منه ما يشاء، بلا حسيب أو رقيب، لكنه لم يفعل، بل إن صادف ووصل إليه مال إضافي خاصّ به، كان يجد دائمًا من هو أحوج إلى هذا المال منه، وحين يريد أن يشتري أغراضًا وحاجات للمنزل يبحث عن الأرخص بإصرار، أقول له: إنّ هذا أقلّ جودة، فيقول: لست مضطرًا إلى شراء الأجود والأغلى ثمنًا طالما هذا يفي بالحاجة.
ومع هذا كله كان مثالاً للجود والكرم، إن علم حاجتك سعى إليها حتى قبل أن تطلب، إذا دعاك إلى طعام قدّم بين يديك أفضل ما عنده، ومن عادته حين يدعوني أن يلح علي أن آكل المزيد، كُلْ هذه.. هذه طيّبة وهذه مفيدة.. (يبتسم الشيخ نبيل وهو يستذكر)، كنت مرة عنده على الغداء، وألحّ عليّ كعادته ثم قال: إن كان الذي يستضيفك يحبّك فسيأنس إن تناولت المزيد، سيعلم بذلك أن طعامه أعجبك، وإن لم يكن يحبّك سينزعج من إقبالك على طعامه، فلا بأس في أن تعاقبه بتناول المزيد.
191
169
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
كنت كثير الالتصاق به خلال سنوات وجوده في قم المقدّسة، ألتقيه كل صباح، نتباحث معًا، ونراجع الدروس. وفي المنتدى وسط النهار كنّا نتناوب على التحضير والنقاش في الدروس المتوجّبة.
شكّلنا معًا إضافة إلى سماحة السيد هاشم صفي الدين، وسماحة الشيخ مالك وهبي، مجموعة متجانسة قلّما نفترق، جمعتنا أفكار وتطلّعات واحدة على مستوى الرؤية، والانتماء إلى نهج الإمام الخميني (قدس سره)، تربطنا هموم واحدة في حراك يوميّ مستمرّ، حينما كان يفد إلينا الإخوة والقادة من لبنان ومنهم سماحة السيد عباس الموسوي، وسماحة السيد حسن نصر الله، لا نعود نفترق أبدًا، في النهار وفي المساء.
زدنا نحــــــن الأربعة على لقاءاتنـــــــا مباحثـــــات أســــبوعيّة، حيث كنّا نلتقي كل ليلة جمعة، نتناول فيها شؤونًا علميّة، ومباحث متنوعة أخــــــرى، بدأت مع القرآن الكريـــــم، وتواصلـــــت مـــع نهج البلاغة، فـي بحـــــث علميّ جادّ. وكان هذا اللقاء الأســبوعيّ لقـــــاءً عائليًا أيضًا، نأتـــــــــي إلى اللقاء مع عائلاتنا، مداورة في منازلنا، نخوض نقاشاً علميًّا هامًّا، ونحو سنتين كان سماحة الســـيد حســـــن نصر الله كلّما جاء إلى إيران يشــــــاركنا هذه اللقاءات ويدخل في تلك النقاشـــــات والبحـوث.
وخصّصنا يوم الأربعاء من كل أسبوع لجلسة أوسع، تضمّ من 30 إلى 40 طالبًا من طلاب العلوم الدينيّة، يحضّر فيها الطلاب مطالب وبحوثًا، وندعو إليها أساتذة وفقهاء كبارًا، ونحيي فيها المناســـــــبات المهمّة، يتواصـــــل فيها الطــــــــلاب بعضـــــهم مع بعض، ويجــــــري فيها اســـــتكشاف الطاقــــــــات، والتشجيع على المتابعة العلميّة، والثقافة
192
170
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
الدينيّة خارج منهاج الحوزة، وللتدرّب على التحضير وإلقاء الخطب.
لقد كانت جلية في هذه اللقاءات شخصيّة سماحة الشيخ مصطفى العلميّة الدقيقة الرصينة في كل المناقشات والبحوث، تظهر دقّته حتى في المناقشات السياسيّة، فهو لا يحكم ولا يتبنى معلومة قبل الاطّلاع الشامل على كل الحيثيات والدقائق المرتبطة بها.
لقد تميّز سماحته بمنهجيّة التفكير حتى احتلّ بشكل لافت وسريع مكانة هامّة في أوساط الطلبة. ولقد كان الطلبة غير اللبنانيين أيضًا يلجؤون إليه، ولا سيّما الأفارقة منهم.
وهكذا أصبح سماحته المحور في كل ما يتعلّق بالطلبة ومشاكلهم وحاجاتهم الماديّة والإداريّة، حتى في معالجة الخلافات بين الطلبة، ويحمل مطالبهم وأمورهم الرسمية، ويتابعها، وقد خصّص لها وقتًا بعد صلاة الظهر، وقد أضحى سماحته الممثّل الرسمي للطلبة اللبنانيين أمام إدارات الحوزات المختلفة، حيث يضع القوانين المناسبة لحاجات الطلاب، ويقبل الطلاب الجدد، ويدرس ملفّاتهم.
كان سماحته يعمل بلا كلل، ولا يقول ما لا يفعل، لم أسمعه شاكيًا على الرغم من كل المشكلات التي كانت تعترضه، وكأن لا مشكلة لديه، ودائمًا تراه في مكان الناصح والمعين والمساعد بفعاليّة.
كان رجلاً قويًا، جريئاً مقدامًا، لا يهاب عملاً ولا يخشى أحدًا، كأن الخوف لا يعرف طريقًا إليه. في أشدّ أيام الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، قصف صدام مدينة قم بالصواريخ ذات الدمار العظيم، فرغت مدينة قم من ساكنيها أو كادت، وتعطّلت
193
171
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
الحوزة وتوقفت الأعمال، لكنه أصرّ على البقاء قائلاً: نحن رجال الدين نشجّع الناس على القتال والصمود والصبر، والتحلّي بالعزيمة وعدم الضعف، إن غادرنا إلى أماكن آمنة نكون قد قدّمنا رسالة خاطئة للناس، نحن أولى أن نمارس ما نقول.
كنت مرة أمشي معه في تلك الشوارع الخالية المهجورة، المعرّضة لصواريخ تهدم حيًا بكامله حين تسقط، كان يسير مطمئنًا، بل حتى باسمًا وضاحكًا، يعبّر عن أنسه وطمأنينته، مستعدًا للقاء الله جاهزًا بلا قلق ولا اضطراب، لم أر في تلك اللّحظات الصعبة -وأنا أبحث في ملامحه عساي أجد- أيّ أثر ولو بسيطاً للخوف، فلا أجد غير الطمأنينة واضحة عليه. كانت جرأته -طيلة السنوات التي صاحبته فيها- تتبدّى في مختلف المواضع التي تستوجب وتستلزم الخوف.
مكانٌ واحدٌ كنت أراه فيه أخوف الناس، إنه الخوف من الله وخشيته، كان تقيًّا إلى حدّ كبير، يحاذر ويحتاط من أيّ شبهة، يفرّ من كل أمر ملتبس فرار الجبان، شديد التديّن، هذا العابد الزاهد على وضوء دائم، كثير الذكر، أما الصلاة في أولّ وقتها فأمر مقدّس لا جدال فيه، مهما كانت الظروف والأحوال.
كنت أرى كم كان يعمل على نفسه، لقد هذّبها، وشذّب منها ما يجب، وعاش التواضع الذي منحه الرفعة. كنت إذا ناديته يا سماحة الشيخ
194
172
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
قال: أرجوك لقب الشيخ يكفي وزيادة. إنّه رجل أخلاق عالية، ينعكس ذلك في كل سلوكه. ولما أرسل الشهيد القائد الحاج عماد مغنية مجموعات الاستشهاديّين إلى قم، لتزويدهم بما يحتاجون إليه على المستوى المعرفيّ والتربويّ، كان سماحة الشيخ مصطفى هو الذي يدرّسهم مادّة الأخلاق، وقد استطاع حقًا أن يساهم في بلورة روحيّة هؤلاء الاستشهاديّين العظام.
مميز سماحة الشيخ مصطفى في علاقته مع القرآن، في مواظبة يومية بلا انقطاع، يغوص في علوم القرآن درسًا وتدريسًا، وكتب في ذلك أبحاثًا، وحاضَرَ طويلاً".
ما تحدّث عنه الشيخ نبيل قاووق عن علاقته بالقرآن، ورد في حديث الكثير من معاصريه، حبّه للقرآن برعم في القلب منذ أوّل الوعي، نما معه ليغدو شجرة وارفة الظلّ، يستظلّ بظلالها كلّما داهمه هجير الحياة، أو ليرتاح من تعب، منزل روحه كتاب الله، وجواب أسئلته، مؤنس وحشته، ودار فرحه، يقول مغمورًا بالفرح: كلمات الله بين أيدينا.. يا لهذه النعمة الكبرى!
يقول ولده: "حين بدأنا نفك الحرف، كنا نرى لديه صندوقًا فيه الكثير من الهدايا، لمن يحفظ سورًا من القرآن، تكبر الهدية كلما زاد عدد الآيات المحفوظة، وكان في الصيف عند تعطيل المدارس يسجّلني في دار لحفظ القرآن الكريم".
وبرعم حبٍّ آخر تفتّح عنده قديمًا، وركن إليه مطمئنًا، وانتمى إليه كعهد وبيعة، إنها ولاية الفقيه التي تفتّحت لها نوافذ القلب، منذ هبّت نسائمها الأولى، حين كان في العراق، ومنذ الأيام الأولى للثورة الإسلاميّة، كمن وجد ضالته، كمن خرج إلى النور مشى إليها، عند بزوغ شمس الإمام وقبل انتصار الثورة، في ذلك الزمن قال لرفاقه في غمرة من فرح: انتهى زمن التردّد والحيرة.. لقد أشرقت شمس الولاية.. انتهى زمن الغموض والضبابيّة.
195
173
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
انتماؤه إلى ولاية الفقيه وذوبانه فيها كان أمرًا مبكرًا لافتًا في قوّته. ذاب فيها كما قال سيّد قلبه الأول الشهيد الصدر: "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام". وما زاده الزمن بعد ذلك إلّا ذوبانًا وشدّة التزام، بكلّ معاني الولاية ومصاديقها. تحدّث عن إخلاصه لها الكثير من معارفه، كان ذلك واضحًا في كل أدائه، كما أنه ساهم في نشر مفاهيمها وحاضر وكتب فيها أبحاثًا.. أظهر ولاءه لها في كل محفل ومناسبة، فعلاً وقولاً.. كجنديّ نذر نفسه..
هو الشخص الجاد ذو الهيبة، لم تجد عواطفه منفذًا تتسرب منه، لم يره أحد باكيًا على غير مصائب آل محمّد، وحدها تلك العواطف المتعلّقة بأهل البيت جيّاشة تستطيع الخروج، مشرّعة أبوابه لخروج تلك العاطفة، وكأنها وحدها تملك مفتاح حزنه، وحدها بلا استثناء بيسرٍ تستطيع. استثناءٌ واحدٌ مرّ في عمره، مرة وحيدة يتيمة شوهد باكيًا لغير مصائب آل محمد، تلك المرة اليتيمة لم تكن عند استشهاد شقيقه الفتى الأقرب إلى قلبه، ولم تكن عند وفاة صهره وحفيدته، تلك المرّة اليتيمة كانت عند وفاة الإمام الخميني، إمامه الذي التقاه مرارًا، وعشقه جهارًا، وانتمى إلى طاعة ولايته بلا تحفّظ، تلك المرّة اليتيمة التي تفلّت فيها حزنه وشوهد باكيًا. في المسير الطويل لتشييع الإمام والصلاة عليه بدا في حزنه رجلاً آخر. يتحدّث الشيخ نبيل قاووق، والشيخ مالك وهبي، اللذان رافقاه في مسيرة الحزن تلك، إنه كان الأكثر تأثّرًا، تحدّثا عن ذلك الحب المفجوع.
يقول الشيخ نبيل: "سهرنا معًا حتى الفجر، وسرنا مسافةً لا تقلّ عن الأربعين كيلو مترًا على الأقدام، حتى تورّمت، مشينا بعد
196
174
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
الغروب حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ثم استلقينا بين الأشجار وعند الفجر بعد الصلاة تابعنا المسير، في كل هذه المسافة لم يبدُ عليه أيّ من إمارات التعب، كان تعبه دمعًا ينحدر على خدّيه طوال الطريق".
كان ذلك استثناءً يتيمًا في شخصيّته الجادّة، منذ السنوات الأولى لتبلورها عرفه من عاصره بهذه الجدّية، شخصيّة مغلقة، على ملامحه ذلك الهدوء مستقرٌّ، ساكنٌ، ثابتٌ كأصل فيها، عواطفه ومشاعر الحبّ لا تظهر عليه، كانت تجد لها مخرجًا آخر، صيغة أخرى مترجمة إلى فعل، فتشعر بحبه عميقًا يترك أثرًا لا يمحى بما يقدّمه لك من مساعدة وخدمة بلا مقابل. لا يريد منك حتى الشكر باللّسان، تشعر بعاطفته تجاهك حين ينقذك ويؤثرك حتى على نفسه، هو لا يجاملك بودٍّ يظهر على لسانه أو في ملامح وجهه، لكنك تراه بوضوح في تعامله معك. مخلصاً وفيًّا خدومًا، وإن كنت غريبًا عنه يذهلك بعطائه وأنت تقارنه بالقريب منك، يشتدّ وضوح شخصيّته هذه في الدوائر الأصغر: طلّابه وأصدقائه المقربين.
يقول صهره سماحة الشيخ علي الأشقر: "سماحة الشيخ مصطفى كان وجهًا لامعًا من وجوه الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة، وكان له حضور واضح عند الطلبة. عندما استقرّ بي المقام في قم، بدأت الدراســـة فــــي الحســـينيّة الحجــــازيّة، والحســـــينيّة النجفيّة، وكـــــان سماحته يَدرس ويُدرّس هناك، وكنت أسمع عنه شهادات مؤثّرة عن مستواه العلميّ. كان أستاذه حينها العلّامة السيّد محمد رجائي يوليه الكثير من الاهتمام، ويُنقل عنه مديح له كواحد من أفضل
197
175
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
طلّابه، كانت تلفته إشكالات الشيخ مصطفى وتعليقاته وأفكاره، وطريقة استيعابه. وكذلك الأمر مع الطلبة، فقد كان مشهودًا له في أوساطهم كمدّرس، يتحدّثون عن تحصيله العلميّ، وعن بيانه وأسلوبه المميّزين في التدريس، ثم ازددت معرفة به في جلسة الأربعاء الأســـبوعيّة، التــــي كانـــت تتضمّن الكثيـــر مــن النقاشـــات العلميّـــــــة والثقافيّة والسياسيّة، وكان حضور الشيخ فيها مميّزًا.
وبعد فترة من الزمن، بدأت أفكّر في الزواج، وكان عليّ أن أذهب إلى لبنان للبحث عن شريكة العمر، وكان قد لفت انتباهي صديق لي يعرف حبّي وإعجابي بالشيخ مصطفى، وأخبرني أن للشيخ مصطفى ابنة في سنّ الزواج، فسعيت إلى ذلك بلا تردّد. كنت أعلم أن له علاقة وطيدة بسماحة الشيخ مالك وهبي، وأنا على علاقة طيّبة به، ونلتقي كثيرًا فهو الذي كان يشرف علينا كمجموعة من الطلبة في المباحثــــات. أخبـــرته بالموضوع وطلبت منه المساعدة، فوعدني خيرًا، وخير البـــرّ عاجله. لم يتأخّر الشــــيخ مالك في سعيــــه وأخبر صديقه الشيخ مصطفى وزكّاني عنده، طلب الشيخ مصطفى مهلة زمنية، وبعد درس الموضوع والاستخارة تمّت الموافقة.
في كل أسئلته عنّي لم يتوقّف عند ما يتوقّف عليه الناس عادة، سأل عن سيرتي، عن خلقي وتديّني، وهمّتي على الدرس والتحصيل، ولم يسأل عن أصلي وفصلي وحالتي المادية، بل كان أكثر من ذلك، لقد طلب من ابنته أن لا تثقّل عليّ، وأن تقتصر في طلباتها على الضروري والعملي؛ لأنّني طالب علم، ليس في الذهب والمهر فحسب، بل حتى في جهاز العروس، وقال لها: إنّني ربما أكون قد استدنت هذا
198
176
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
المبلغ من أجل الزواج، وكان هذا هو الحقيقة. طلب منها أن تكون الزهراء هي قدوتها كزوجة. لقد أحسن سماحته التربية، لمست ذلك واقعًا في سنوات زواجي.
كان أبًا في اهتمامه وتعاطفه وعلى الرغم من صغر سنّه -كان في بداية الثلاثينات من عمره- في معاملته مع الطلبة، كل الطلبة. تلك الأبوّة الفاعلة في كل شيء، في التحصيل والمتابعة، في العناية المعنوية والمادية، في كل ما يستطيع إليه سبيلاً، يسعى إلى تأمين المال لهم، إن في قروض ميسّرة أو هبات، واعتاد الطلبة اللجوء إليه في كل مشاكلهم وحاجاتهم، دون أن ينظر إلى حاجته، رغم أنه كان يعاني الكثير من الضيق الماليّ. كانت تأتي هدايا للطلبة عن طريقه، فلا يأخذ منها شيئاً ولو كان قليلاً. في نكران للذات وإيثار لا مثيل لها، ورأيت ذلك بوضوح حين أصبحت في جوّه العائليّ".
199
177
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
يقول الشيخ حسان سويدان: "عند قدومي إلى قم كان من الطبيعي أن أتوجّه إلى حيث أجد اللبنانيين، ومن الطبيعي أيضًا أن أراه على أول الدرجات، كل القادمين الجدد كانوا كذلك. الشيخ مصطفى ومنتدى جبل عامل كالأب والمنزل، فالشيخ مصطفى هو الاسم الأبرز عند الطلبة، الأبرز من نواحٍ عديدة، من الاحتضان العلميّ والأبويّ، الدروس، الأوراق الرسميّة، وحتى ما هو شخصيّ، إلى حدّ الدخول في التفاصيل والمشاكل العائليّة الشخصيّة، فتجده يهتم بمريض بحاجة إلى رعاية صحيّة، يذهب من قم إلى طهران لحلّ مشكلة لطالب، حادث سيارة أو مشكلة شخصيّة، وفي القسم الداخلي هو كل شيء، حتى فيما يتعلّق في البناء والأثاث، إلى درجة أن تراه يستبدل صنبور المياه بنفسه، ويذهب لشراء ما يحتاج إليه الطلاب، ويبحث عن الأفضل والأرخص في الأسواق.
وفي مشهد ظل عالقًا في ذاكرتي كنموذج لأدائه الأبويّ، كان ذلك في بداية الشتاء والبرد قارص في قم، رأيت الشيخ يحدث أحد الطلبة ثم يأخذه إلى مكتبه، لم يكن هذا الطالب يرتدي معطفًا، لكنه خرج من مكتب الشيخ وهو يرتدي معطفًا جديدًا، متى علم بأنه بحاجة إلى معطف؟ متى رصده ومن أين أتى له بهذا المعطف الجديد؟ ذاك مثال بسيط لأبوّته واهتمامه.
أكثر طلاب العلوم الدينية لم يكونوا ميسورين ماليًا، ما عدا قلّة قليلة منهم، أولئك الذين يعتمدون على أسرهم الميسورة، أما معظمهم فيعيشون وضعًا ماليًا صعبًا، وكان هناك بطاقات (بون) تؤمّنها الدولة يتمكّن الفقراء بواسطتها من شراء المواد الغذائيّة
200
178
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
بسعر أقلّ من سعر السوق وبفارق كبير، وتلك البطاقات كانت تشمل أصنافًا عديدة من الموادّ الغذائيّة، ولم يكن الحصول عليها بالأمر السهل، فهي تمرّ بمراحل إداريّة طويلة، من ثوثيق وتعريف وتواقيع ومعاملات، كان الشيخ يقوم بذلك ويسعى بنفسه لتأمينها، ليضمن وصولها إلى المحتاجين من الطلبة، وليوفر عليهم المزيد من الوقت والجهد من أجل الدرس، وكان يسعى أيضًا لتوفير بعض الأثاث لمنازل المحتاجين، عبر ما هو معروف باسم "الدولتي" أي المدعوم من الدولة، أثاث تقدمه الدولة أحيانًا للمحتاجين بسعر رمزي، فالذي ثمنه على سبيل المثال 500 دولار يكون ثمنه بسعر الدولتي 50 دولارا، ولم يكن الطلبة يعلمون به أو يعرفون مصدره، كان الشيخ يسعى جاهدا لتأمين مثل ذلك الأثاث لمن هم بحاجة إليه.
أذكر مرة، تزوّج عدد من الطلبة، وعلم الشيخ بوجود برادات بسعر "الدولتي" فسعى بنفسه عبر علاقاته، وتمكن من الحصول على عشرة منها وزّعها على المتزوجين الذين لم يتمكّنوا من شراء برادات لمنازلهم، كما سعى بشكل فاعل وحثيث لشراء منازل للطلبة المتزوجين، عبر جمع التبرعات، معتمدًا على الثقة الواسعة التي اكتسبها بإخلاصه وتقواه، من المراجع والمؤسسات الحكومية، ومن التجار والأغنياء، ليس لخدمة الناس عنده حدود أو خطوط حمر، لا يراعي فيها نفسه ووقته وراحته.
كان يتابعني علميًّا، وينصحني بأساتذة يرى أنني سأستفيد منهم، يحب إفادة الآخرين دون تعالٍ وفي تواضع عجيب، وكان حريصًا جدًّا
201
179
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
على إنجاح الاحتفالات، وإحياء المناسبات والشعائر الدينية، في عاشوراء وشهر رمضان وما يتعلق بأهل البيت من وفيّات وولادات، يقوم بنفسه بمباشرة أدقّ التفاصيل في تلك المناسبات، من الدعوة إليها، وإعداد كل ما يلزمها، مرورًا بالتجهيز والمتابعة، إلى التحضير للاستفادة منها في التثقيف والتربية، ومنها السهرات المنظمة التي كان يعتمدها في المنازل واستغلالها في زيادة المعرفة الدينيّة".
ثم يختصر الشيخ حسان سويدان حركة الشيخ مصطفى وفعاليتّه بالقول: "إن المخلصين المثابرين إن وُضعوا في مكان ملؤوه، إذا حُمّلوا حقيبة أحاطوا بكل عناوينها، والشيخ مصطفى كان كذلك، في كل ما كان يتولاّه، يُتمُّ عمله بإخلاص منقطع النظير، لا يترك شاردة ولا واردة إلا وأحاط بها على أكمل وجه، لكن الغريب في الشيخ مصطفى ليس هذا فحسب، فقد كانت حركته أكبر من حقيبته، يمتّد شعاع عطائه إلى أوسع من ذلك بكثير، إلى أوسع مما هو مطلوب منه، يحمل فوق حقيبته أحمالاً لم تطلب منه، يكبر عمله ويتّسع يومًا بعد يوم، هكذا كان في كل ما يتولاه، في الدرس والتدريس، في المنتدى وفي مجمع أهل البيت، ويتّسع الاعتماد عليه، ليس فقط في إتمام ما هو مطلوب منه على أكمل وجه وبأدق التفاصيل، بل يتعدى ذلك إلى كل حاجة وفراغ، تلك كانت ميزته الفريدة".
ومن وجهة نظر أخرى، يحدثنا الشيخ مالك وهبي ويقول: "أنا بشكل عام حذر في علاقاتي، ليس من السهولة أن أثق بأحد، أو أتخذ صاحبًا، ولم أكن أرتاح للشخصيّة الجادّة، عندما التقيته لم
202
180
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
أتوقع أبدًا أن تكون لي علاقة به، لكنني بعد ذلك أحببت كل شيء فيه، عاندت جدّيته هذه، وكنت قادرًا على كسرها بمزاحي، كلما رأيته جادًا مازحته، لم أجد صعوبة في جعله يضحك ويتخلّى عن جدّيته معي، سعيت إلى صداقته حبًا وأنسًا بصفات قلّما تجتمع برجل ذي ذهن مميز، ذكي وصاحب ذاكرة فذّة يحفظ بسهولة، ومن يحفظ بسهولة لن ينسى عادة، فلا ينسى أن يجعل المعلومات تتكدس وافرة في ذهنه ليستحضرها متى شاء، مع قدرته الجيدة على التحليل والاستنتاج جعلت كل هذا مميزًا وظاهرًا في شخصيّته.
قد يسيء الناس فهمه، ويبدو لهم قاسيًا، أو صعبًا، سوء الفهم هذا يأتي جرّاء وقوفه مع الحقّ، ورفضه للخطأ دون مداراة أو مساومة، حين يرى تكليفه الشرعيّ في مكان وإنّ هذا ما يرضي الله، فلا يعود يتزحزح، ويهتمّ لأي أمر آخر، مهما كثرت الضغوط.
متعب في النقاش عادة، تجد صعوبة في إقناعه، لكنه إن اقتنع تبنّى ذلك وتوجّه إليه بكله، يعمل به ويؤسّس عليه، ولكن قبل ذلك يريد أن يتأكّد. من الأسباب التي تجعله صعب المراس أو متشبث بقناعاته هو أنه يدقق في المسألة قبل أن يكوّن رأيًا أو قناعة، يبحث ويتابع، حتى يتأكد منها وتطمئن نفسه، كل أمر ومطلب لا يأخذه من مصدر واحد، بل يراه من كل جوانبه، يحيط بكل ما قيل فيه وعنه، وفي الفقه هو كذلك وفي الأصول. ليس من السهولة تبديل ما يذهب إليه، وإن كان لديك قناعة أخرى، عليك أن تقدّمها له بطريقة واضحة، لا شك فيها ولا ريب. من أجل ذلك لم يكن إقناعه بالأمر السهل.
203
181
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
لقد أخذ مكانًا في الحوزة العلميّة، مكانًا متقدّمًا بعد وصوله بقليل. كان حرًا، رجلاً مشاغبًا فكريًّا، يناقش ويتدخل ويُشكل حتى يصل إلى قناعة علمية، له ذهنيّة عالم، بل كان بالفعل عالمًا فذًّا، لو أنه منذ البداية تفرّغ للعلم فقط، لكان عالمًا كبيرًا ذا أهمية بالغة، أكثر بكثير مما كان عليه، هذا هو رأيي الذي تشكل عن معرفة عميقة به، ذكاء وذاكرة يسيران جنبًا إلى جنب في رجل نشيط ذي همّة عالية، لا يعرف الراحة ويستثمر كامل وقته، لا يترك أمرًا ناقصاً، بدقّته وسرعة بديهته، والتماعة ذهنه، أنا لا أشك أبدًا لولا حاجته للعمل قديمًا وانغماسه حديثًا بالعمل الإداري، لكان كما أراه فقيها مشهودًا له. إن إخلاصه وتفانيه كانا سببًا في ضرورة وجوده في العمل الإداري، لكننا خسرناه كعالم، كفقيه من كبار فقهائنا بكل كفاءته وقدراته الذهنية.
كنا نسهر نحو 5 أو 6 ساعات، نسهر على مطلب واحد، كان فعَّالاً في تلك الجلسات، وكنت أحب أفكاره وطريقته في التحليل وتعبه وعدم تسليمه بالمتعارف.
ولست أنا وحدي المنحاز إليه، فلقد كان موضع ثقة الجميع، الإخوة في الحرس وإدارة الحوزات والجهات الرسميّة، كما الأساتذة والطلاب، كل هذا اكتسبه في وقت قصير.
اهتم بجوانب عديدة منها الخلافات بين المذاهب، كان فيها واسع الاطّلاع، وله أثر كبير، واستبصر على يديه عدد من الناس، اعتمدته الجمهوريّة من أجل ذلك في مجمع أهل البيت في السنوات الأخيرة له في إيران.
204
182
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
من أنجح الناس في تنظيم وقته واستثماره، إن وجد وقتًا قليلاً غير مستثمر بحث عن عمل ليستثمره فيه، أو ملأه باللقاءات والمتابعات.
للحوزة مشارب ومذاهب، والشيخ مصطفى حارس الخلافات تلك ومنظمها، كما عواطفه كذلك فعله، لا يتملّق، ولا يظهر ما في نفسه لأجل فائدة هنا ومكسب هناك.
ليس من النوع الذي يتملّق لا يفعل شيئاً من أجل فلان وعلان، لم يسعَ إلى منصب في كل عمره. إنما المناصب كانت تسعى إليه ويتخلى عنها ما لم يرها تتناسب مع أمرين: رضا الله وقدراته هو، يستطيع أن يكون هنا أو لا يستطيع، فمثلاً أن يكون مسؤولاً ثقافيًا في حزب الله أهم من المؤسسة، إدارة المؤسسة هي أقل بكثير من مستواه برأيي، لكنه رأى أن الجانب التربوي وعدد الطلاب الذين يتخرّجون من مدارس المهدي وأثرهم في المستقبل أهم، الشيخ مصطفى دائمًا يفكّر بشكل استراتيجي بعيد النظر، المستقبل هو وجهة نظره.
لا يسعى لمصلحة شخصية حتى في صداقاته وكل علاقاته، إن سألت عن الشخصيّات العلميّة يقال: الشيخ مصطفى. ليس هذا رأيي أنا فقط، بل كان هذا معروفًا. يتحدث عن زوجته باحترام.. قلّما يتحدث وكلنا كنا نرى هذا الاحترام واضحًا فيه، يقدرها ويقدر صبرها وعطاءها، فضلاً عن حنانه واهتمامه بأولاده.
ترى ذلك في حركة هنا وقول هناك، فهو بشكل عام لا يظهر عواطفه، هو جادّ وعمليّ، ولعلّ هذا له علاقة بنشأته، باكرًا وفي صِغره، وجد نفسه متروكًا لشأنه ومسؤولاً. وكان عليه، على صغر
205
183
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
سنّه، أن يجهّز نفسه بوسائل دفاع أخذته هذه إلى الجدية وإلى كبت العواطف... هذا مجرد تحليل... تحليـــل لما كان هو أوضـــح فيه من الجدية وكبت العواطف والذهاب إلى ما هو عملي وفاعل. لا يظهر جانبه العاطفي، بل كان يترجمه إلى سلوك... لأنه أجدى بالنسبة إليه مــن العواطف الظاهــــرة. وبقي احتــــرامه لوالديه، وتلك المعاملـــــة التي هـــي مثال في الخدمة والتقدير لهما، أكثر مما كنت أراها فــي أي شخص، وكان والده يحتــرمه كثيرًا حتى فـي الجانب العلميّ، لم يحترم الشيخ أحمد أحدًا كما كان يحتـرم ولده الشــــيخ مصطفى ويقدّره".
كان يتخلّى عن أحلامه ورغباته وما كان يفكّر فيه لمستقبله، يتخلّى عنها لوجود حاجة ماسة تدفعه بهذا الاتجاه أو ذاك.. كما كانت حاجة إدارة الطلاب في المنتدى ومجمع أهل البيت والحاجة في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، لم تكن تلك خططه، أراد لنفسه العلم أراد أن يكون رجل دين. أهّل نفسه لذلك، وكان أهلاً لها. تخليه عن رغبته تلك لم يكن سهلاً عليه، وبقي يتابعها من نافذة ما، في الحوزات والدرس والتعليم حتى آخر حياته، كأن هذا الخيط هو الذي يمدّه بالحياة.
يتابع الشيخ مالك قائلاً: "ظلمنا الشيخ مصطفى كما خسرناه حين توجّه هذا التوجّه، ولم يتفرغ لعلومه الدينيّة. لا يريد أن يأخذ الحقوق لأنه ينجح، أو لأنه فقير، يريد أخذها لأنه يعمل كأيّ من العاملين في وظيفته، كما الموظفون عنده ومعه. هذا أخفُّ وطأة وإشكالاً عنده، وأقرب إلى تقواه وخوفه من المال العام.
206
184
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
هذا العطاء الخفي كان طبعه، تلك العواطف التي لا تظهر بالقول أو حركة اليد أو ملامح الوجه حتى لتظنّه قاسيًا لا عواطف عنده، ولكنك تراها واضحة في الممارسات، فهو أكثر الناس تعاطفًا وعطاءً ومحبة. يبحث عن حقوق شرعية يوزّعها على المحتاجين من الطلاب وسواهم، يوزّعها سرًّا إن استطاع، يعرف الحاجات سرًّا، ويقضيها سرًا، له طريقة لا يظهر فيها كما هي عاطفته. وأعماله كانت أيضًا صدقات سرّ.
فالعمل في المنتدى مثلاً كان مريحًا منظّمًا مؤنسًا لكل رواده، لكن لا أحد يعلم أن هذا كله كان بجهد وتعب مضنٍ. جلسات الشاي والنظافة والترتيب والمحافظة على النظام، مكان كبير للدرس والاستراحة واللقاءات، توزيع النشاطات العلميّة وحلّ المشكلات.
كل هذا كان يحتاج إلى أكثر من رجل مخلص وقادر، لا أحد سواه كان يستطيع أن يفعل ذلك دون أن يمنّ على أحد، أو يشكو، ذلك هو الرجل الذي اتهمه من لا يعرفه بأنه جادّ أو جافٌّ وقاسٍ".
الدرس والتدريس، إدارة المنتدى، وتحمل همّ الطلاب في مشاكلهم، وتنظيم أمورهم وحاجاتهم العلميّة والمعيشية، وفوق هذا فهو وصول لا يترك مناسبة ولا مريضًا، في خدمة كل من لهم حاجة، كريم على الغير بكل ما يملك. وكان أعز شيء يملكه هو الكتاب، ليس في متاع الدنيا ما هو أعزّ عليه من مكتبته.
يقول الشيخ مالك وهبي: "كنت استعدّ للسفر إلى لبنان وكان عندي في إيران كتاب، جواهر الكلام طبعة إيرانية ما كنت أبدًا لأستغني عن هذا الكتاب فأردت حمله معي إلى لبنان رغم الصعوبة
207
185
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
كي لا أذهب إلى لبنان وأشتري الطبعة اللبنانية. الفرق بين الطبعتين كالفرق بين الذهب والنحاس، طبعة لبنان فاخرة ولا يمكن مقارنتها بالطبعة الإيرانية، والفرق في ثمنهما بهذا المستوى أيضًا كمن يشتري الذهب أو النحاس، جاء ليقول لي: لماذا تأخذها معك، اترك لي الطبعة الإيرانية، أنا لدي الطبعة اللبنانية خذها هناك -وكأن ما يقدمه لا شيء- خذها، هكذا بكل بساطة".
ويقـــــول الســـيد جعفــر مرتضــــــى: "بعد حرب تموز، علم الشيخ مصطفى أن منزلي قصف واحترقت كامل مكتبتي، جاءني وقد شحن معه عددًا كبيرًا من الصناديق، كلّها كتب قيّمة يعرف حاجتي إليها، هي ثروة في قيمتها الماديّة لو أردت شراءها، وهو الرجل الذي لم يكن ميسور الحال، كما أنني أعلم كم هي قيّمة بالنسبة إليه من الناحية المعنويّة، لكنه قدّمها إليَّ كمن ينقلها من يد إلى يد، سعيدًا بما صنعه لمعرفته بحاجتي الماسَّة إليها".
يقول ولده: "كنا إذا اقتربنا من مكانه ومن غرفة مكتبته تتسم حركتنا بالهدوء، ونخفض أصواتنا تلقائيًّا، فالمكتبة هي أغنى مقتنياته. ما بيننا وبين والدي لم يكن خوفًا نابعًا من قسوة في التعامل، أو من سلطة قمعيّة، بل هي هيبة لم يتعّمدها، ربما صمته وجديّته العمليّة، جعلا عواطفه غير ظاهرة، أو أنها على الأغلب نابعة من حضوره القليل.
كانت تتضح صورة الأبوّة فيه في أيام العطل، ففيها يكون تواجده أطول، وتكون فيها صورته أكثر وضوحًا، في يوم الجمعة يأخذنا لزيارة جدّنا الشيخ وشقيقتنا المتزوجة، وأحيانًا إلى حديقة عامة،
208
186
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
يأخذ هو زاوية فيها ويتركنا نلهو. هذا يومٌ كنا نحبه لأنه متوّجٌ بحضوره، نرى فيه أبوّته، حبه الذي يترجمه في العناية والاهتمام، فيبدو لنا أكثر حنانًا، وكلما طالت العطلة ظهرت شخصيّته العطوف واضحة، كما في السّفرة السنويّة إلى مشهد، تلك الأبوّة الجميلة كانت تسطع جلية في شخصيّة مختلفة في المرات القليلة التي كانت تغيب فيها الوالدة يظهر هذا الجانب العطوف ليحتلَّ كامل المساحة، فنراه يقطر حبًا وحنانًا، وهو يمارس دور الأم مضافًا إلى أبوّته، يوقظنا، ويطعمنا، ويلبسنا ثيابنا، ويهتمّ بأدق التفاصيل، في حنان بالغ، وإحاطة تامّة بأدقّ ما نحتاج إليه".
مشاهد فائقة الجمال من العناية والاهتمام، مجبولة بعواطف فائضة، عواطف لم يكن يجد ضرورة لإخراجها بوجود من يمارسها، مطمئنًا لوجود الأم وفيض حنانها، في غيابها يغطي كامل المساحة الفارغة، فتمتلئ النفوس الصغيرة أبوّة وأمومة، فتتخذ جديّته جانب الاختفاء وهو يظهر شخصيّة الأب العطوف برائحة أم حنون.
تلك الأبوة المجبولة بعواطفه الصادقة، يتحدّث عنها السيّد ياسر الموسويّ قائلاً:
"كنت في السابعة عشرة من العمر، ولم يكن قد مضى على استشهاد والدي سوى عامٍ وبضعة أشهر، وكان سماحة السيّد حسن نصر الله بمثابة وليّ أمري، وهو كل شيء بالنسبة إلينا كعائلة.
في 1993 توجّه سماحته إلى الجمهورية الإسلاميّة واصطحبني معه، وقد تقرّر حينها بقائي في قمّ المقدّسة لتحصيل العلوم الدينيّة. وهناك حدّثني عن سماحة الشيخ مصطفى قصير، امتدحه كثيرًا،
209
187
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
وحدّثني عنه باحترام وتقدير، وقال: إن لديه حيثيّة علميّة مهمة، وهو ملمٌّ بكثير من تفاصيل الحوزة، وإنه مرتاح لأنه سيتركني في رعايته، وطلب مني أن لا ألجأ إلى أحد سواه في كل شأني، لأنّه يثق به ثقة مطلقة.
لم أكن مرتاحًا لهذا الأمر، إذ لم أكن راغبًا في أن يتولّاني أحد غير سماحة السيّد، فكيف برجل غريب لا أعرفه. تجّمعت في ذهني الكثير من الهواجس: كيف سيعاملني؟ وكم سيضيّق عليّ؟ وكيف سيكون أسلوبه؟
وعندما وصلنا إلى قمّ، ذهبنا بعد الظهر إلى منزل سماحة الشيخ مصطفى، وكان هناك عدد من الشخصيات، تناولنا طعام الغداء في منزله الصغير المتواضع، وأنا أراقب سماحته بابتسامته الودودة وتواضعه وخلقه الكريم، خفّف ذلك اللقاء من بعض الهواجس، وبدأ ينحسر خوفي تدريجيًّا. وبعد أن غادر الحضور جميعهم، وجلسنا مع سماحة الشيخ وحدنا، قال له سماحة السيّد: إن السيّد ياسر سيبقى في قمّ وسيكون في عهدتك، وقال لي: إن سماحة الشيخ مصطفى سيكون في مقام والدك. وهنا اعترض سماحة الشيخ وقال بحياء وتواضع: لا أحد يستطيع أن يكون في مقام السيّد عباس.. أرجو أن يقبلني السيد ياسر كأخ أكبر. وشدّد عليّ سماحة السيّد أن لا أراجع أحدًا سوى سماحة الشيخ مصطفى في كل الأمور.
اصطحبني الشيخ مصطفى إلى منتدى جبل عامل، وتجوّلنا هناك في كل أقسامه، ثم توجهنا إلى القسم الداخلي حيث سيكون سكني، وقال لي: أن تسكن هنا لا يعني أن تنسى أنّ لك منزلاً في قمّ، ستأتي
210
188
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
إلى منزلي الذي هو منزلك متى تشاء بلا حرج، في أيّ وقت تريد أن ترتاح، توجّه إلى منزلك بلا تردّد، وسنكون سعداء بحضورك.
ذهبنا بعد ذلك إلى المطار لتوديع سماحة السيّد حسن. وهناك احتضنت سماحة السيّد وبكيت، تأثّر سماحة الشيخ مصطفى بهذا الموقف ودمعت عيناه، ولشدّة أدبه، تركنا قليلاً لمزيد من الخصوصيّة.
وهناك أكّد عليّ سماحة السيّد أن ألتزم بكل ما يطلبه مني الشيخ مصطفى، وأن أعود إليه في كل شؤوني دون سواه. لم يكن في داخلي غير ذلك، ليس كما سبق، ما عاد هناك من أثر لتلك الهواجس، وتبدّد الخوف من الرجل الغريب، إلى الاطمئنان لرجل قريب، بدا كأنّني أعرفه منذ زمن طويل. وفي طريق العودة أخذ يطيّب خاطري بكثير من الودّ والعطف.
تابعني بعد ذلك سماحة الشيخ مصطفى أكثر مما كنت أتوقّع، وبأكثر من أبوّة صادقة، ما كنت لأتوقّع مثل هذا الاهتمام. يطرق باب غرفتي ويقول: هل يسمح لي السيّد ياسر أن أشرب الشاي عنده؟ كثيرًا ما كان يزورني، يمتدحني لما يراه في غرفتي، يأنس بما أقوم به من ترتيب واهتمام، يمتدحني على ذلك وبتشجيع أبويّ لطيف، ويحدّثني حديث الند، يؤنسني زمنًا ثم يستأذن بالانصراف.
سألني إن كنت أريد رفيقًا في غرفتي، فأبديت رغبتي في البقاء وحيدًا، فأخذ يحدثني عن مساوئ الوحدة، وحسنات الرفقة الجيّدة، وقال: ما رأيك إن اخترت لك رفيقًا خفيف الظل، إن اخترت الوحدة لن تشعر بوجوده، وإن اخترت الصحبة سيكون
211
189
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
خير صاحب وخير معين، وفوق ذلك هو على الصعيد العلمي مثابر ومحصل، يعينك على الدرس وتجاوز الصعوبات؟ وهكذا كان، ولم أكن أتخيّل أن يكون الاختيار موفّقًا إلى هذه الدرجة، كان اختياره للشيخ نزيه علامة اختيارًا مثاليًّا، وبقيت شاكرًا له هذا الاختيار في كل صباح ومساء. لقد كان كما قال وأكثر، رفيقًا بكل ما للكلمة من معنى، فيه كل مواصفات الرفيق المؤنس الخفيف الظل والناصح والمساعد، رفقة مثمرة من الناحية العلميّة، لقد أعانني على الدرس والتحصيل، وفي السلوك وتهذيب النفس تعلّمت منه الكثير، وفي العبادة والدراسة، السكنى مع مثله تدفعك دائمًا نحو الأفضل، كان اختيارًا صائبًا من جميع الجوانب. عامان من السكن معه قبل زواجي، كنت فيهما أشكر سماحة الشيخ مصطفى على هذا الخيار، لست أدري لو بقيت وحدي كم سيكون الفارق واسعًا ومهولاً. لقد وفى الشيخ بوعده بأكثر مما كنت أريد وأتوقّع، وصدق حين قال إنني سأغيّر رأيي في تفضيل الوحدة على وجود صديق مساند.
بقي يزورنا سماحة الشيخ باستمرار ويهتمّ بنا معًا، ويدعونا إلى منزله، لاسيما بعد انتقاله إلى منزل مجاور للمنتدى، يأخذنا إلى منزله أو يدعونا للّطعام.
لم يكتفِ سماحته بذلك، بل كان يصطحبني إلى المجالس، إلى صلاة الجمعة، وإلى المناسبات الاجتماعية والدينيّة، وبأسلوبه اللطيف ينبّهني إلى الكثير من التفاصيل في خياراتي وأصدقائي، يجنّبني ما استطاع خيارات خاطئة، يريدني بعيدًا عن الخصومات والجدالات العقيمة والاصطفافات، حريصاً في نصائحه على أن
212
190
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
أكون شخصاً محبوبًا مؤثرًا وفاعلاً مع الجميع، ويسعى كثيرًا ويرتّب ظروفًا تمكّنني من زيادة تحصيلي العلمي، ذلك كله بأسلوب جميل غير مباشر، كأن يحكي لي قصصاً من الواقع القريب، عن مشاكل وأحداث، عن تبعات الخيارات الخاطئة والاستعجال في الأحكام، عن طالب وقع في مشكلة هنا، وآخر تورّط في كذا وكذا وأضاع وقته ودينه، وآخر سقط لأنه لم يحترس.. عن أمثلة واقعيّة، دون أن يذكر الأسماء. من أحاديثه تلك تعلّمت الكثير، وازدادت معرفتي بالمحيط وخفاياه. يوجّهني ويترك لي مساحة واسعة من حريّة القرار.
يحرّضني على الاهتمام والتوجّه لطلب العلم، في اختيار الأساتذة على سبيل المثال: إن أعجبه اختياري سكت عنه، وإن لم يعجبه قال: ما رأيك لو تجرّب الدرس عند فلان، أظنّك سترتاح أكثر.. جرّب الدرس عند فلان في هذه المادة.. وبعد ذلك احكم بنفسك، واختر أيّهما أنسب. وكنت أجد الفارق كبيرًا في الفائدة وأشكره على اختياره ونصيحته.
علّمني أســــاليب في مراجعة الدروس وتنشيط الذاكرة، ومنها نصيحته باعتماد التلخيص، وبكتابة ما علق في الذاكرة بعد الدرس. يسألني ماذا تقرأ؟ قلت: ما أجده هنا وهناك، قال لا تقرأ بهذه الطريقة، نصحني أن أقرأ بمنهجيّة، أن أبدأ بالسيرة مثلاً، من سيرة الرسول إلى سيرة الأئمة، واختار لي كتبًا للشيخ مغنية، أسلوبه سهل ممتع وغني بالفائدة، ينصحني بأسماء مؤلّفين، يقول جرّب هذا.. وأظنك ستنسجم مع هذا.. اختياراته لي كانت مدروسة، عن معرفة بي، سنّي ومستواي الذهني ومعرفة بذوقي ومزاجي، فخياراته
213
191
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
في كل مرة كانت تناسبني. وكان يقول لي: لا بأس أن تقرأ في الأدب، قصّة ورواية وشعر، هي استراحة مؤنسة ومفيدة، وتساعدك في تحسين قدرتك على الكتابة، ويساعدني في الاختيار.
تعلّقت به، وأحببت أن أعيش في دائرته، وقريبًا منه حتى بعد زواجي واستقلالي، أهمّ أصدقائي المقربيّن كانوا من تلك الدائرة، والصديق الذي أحببته كثيرًا كان صهره المرحوم الشيخ مجاهد، ذلك الشاب الرائع في كل شيء، تعلّقت به وبابنته الملائكية "زهراء"، خطفهما الموت في حادث مروري مؤسف كان هو الأقسى عليّ بعد استشهاد والديّ، تأثّرت كثيرًا وكان قلبي وكل جوارحي تشارك سماحة الشيخ، فقد صهره وحفيدته في هذا الحادث الأليم. ورأيت كم كان سماحة الشيخ صابرًا محتسبًا، راضيًا بقضاء الله، فكان ذلك درسًا آخر من دروسه التي تأثرت بها قبل عودته إلى لبنان.
عدد كبير من الطلّاب كان يتحدّث عن اهتمام الشيخ مصطفى ورعايته، وما رأيته أنا من اهتمامه جعلني أتعلّق به، وأشكر الله على وجوده بالقرب مني، لا أحد يستحقّ لقب الأب المربّي كما يستحقّه سماحة الشيخ مصطفى قصير، لم يكن أبدًا مضطرًا إلى بذل كل هذا الجهد، لم يكن مطلوبًا منه أصلاً هذه الدائرة الواسعة من الاهتمام، كان يكفي إطلالة في الأسبوع، أو سؤال عبر الهاتف، وإن احتجت إلى أمر طلبته منه، هذا هو سقف المتوقّع له برعايتي، لكنّه كان أبًا بكل معنى الأبوّة، وليس أبًا عاديًا، أبًا شديد الحرص والاهتمام، هذا الحنان الفائض والأبوّة الصادقة الفاعلة، في تلك السنوات القريبة في الزمن من استشهاد والديّ، كان لهما الأثر البالغ
214
192
الفصل الرابـع: الهجرة إلى سـاحة الحلم
في نفسي، ساهما إلى حدّ بعيد في التخفيف من حالة الفقد والحزن، لقد أرسله الله في الوقت المناسب، ولم أنقطع عنه حتى بعد عودته إلى لبنان، أزوره كلما أتيت إلى لبنان، وبعد عودتي النهائية، استمرّ هذا التواصل، كما استمرّ ويستمرّ عرفاني له بالجميل".
يصمت السيّد ياسر قليلاً ثم يقول بتأثر: "أنا لا أضع الكثير من الصور حيث أكون، أنت لا ترى الآن سوى صورٍ أربعة: أبي، والسيّد القائد، وسماحة السيّد حسن، وسماحة الشيخ مصطفى قصير".
بعد أحد عشر عامًا قضاها في إيران، بدأ الشيخ مصطفى يفكّر في العودة إلى لبنان، وأصبحت ظروفه العائليّة تدفعه لاستعجال العودة، وفي نهاية عام 1995، وبعد أن أصيب منزله بفاجعة توفي فيها صهره الذي أحبّه، نجل الشيخ علي كوراني، وماتت حفيدته الصغيرة، وأصيبت ابنته وحفيدته الثانية إصابات بليغة، استدعت متابعة حثيثة في المستشفيات، وعلاجًا شاقًا وطويلاً.
في تلك الساعات العصيبة، كان مثالاً للهدوء وحسن التصرّف، بدا فيها صلبًا وقادرًا وهو يعالج ذلك الحدث بكثير من الهدوء والحكمة. عالج ابنته وحفيدته العلاج الأولي في إيران، وسرّع قرار الرحيل إلى لبنان.
وفي بيروت لم يكن هذا الاهتمام محصورًا بعلاج الجراح الجسديّة لابنته وحفيدته الصغيرة، بل إن اهتمامه بعلاج جروحهما الروحيّة كان أشد، وبدا على غير عهده، في اهتمام مجبول بعاطفة زائدة، بدا كمن يبالغ إذ يعبر حدود شخصيّته ويتجاوز ملامحها المعتادة، لكنها هي عادته حين يرى نقصاً في مكان ما، يتعهده حتى الامتلاء.
215
193
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
أراد لابنته وحفيدته تعويضًا أخذه على عاتقه مضافًا إلى أبوته المتعاطفة. جمع ذلك في قلبه، تدفق عطفًا وحنانًا، أصبح معهما كأنه ليس هو، أو كأن شرخًا أصاب جدار جديّته الصلبة. ومن ذلك الشرخ يتدفّق العطف المتراكم في قلبه لتصبح ابنته وحفيدته نقطة ضعفه طوال عمره.
216
194
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
العودة إلى بيروت كان لها أحلامها وأفكارها، ومشاريع خَطَّط لها قبل الوصول. كتب تفاصيلها بدقّة، عاد إلى بيروت يحمل حلمه القديم بعطاء رجل الدين، حلم أصبح معزَّزًا بإمكانيات وقدرات واقعيّة، ومستوى عالٍ من الدراية والإحاطة. عاد وفي جوارحه عزيمة تتدفّق حماسًا.
يقول شقيقه الحاج عبد الله: "في كل السنوات التي سبقت كنت أشعر بعدم رضاه كمن لا يقوم بما يريد. زرته في إيران أكثر من مرة، كنت أرى تغيرًا واضحًا في حالته النفسيّة وشعورًا واضحًا بالاطمئنان، وحين عاد من إيران كان استقراره النفسيّ واضحًا، كمن حصل على مبتغاه، حماسه كمن وضع قدميه على درب يعرفه ويعرف إلى أين يفضي.
بعد عودته إلى لبنان، عمل في مجال الثقافة مدة تقارب العام، وكانت له بصمة واضحة في هذا المجال حتى اقترح اسمه ليكون المسؤول الثقافي المركزيّ. وفي نقاش بيني وبين سماحة السيّد صفي الدين، قلت له: إن الشيخ مصطفى له عقل مؤسساتي، وقد لا يجيد العمل الحزبيّ، لأن العقل الحزبيّ هو عقل التسويات وتدوير الزوايا، وهذا لا يناسب الشيخ مصطفى ولا يستطيعه، فهو ليس رجل التسويات والمداراة والحلول الوسطية والسياسة تحتاج إلى تسويات ومرونة. والمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم لها كيانها الخاص والمستقل، وتحتاج إلى إدارة حازمة ومنضبطة، والسيّد صفي الدين يعرف هذا، وكان له الرأي نفسه، فعمل في المؤسسة كمسؤول ثقافي في البداية ولفترة زمنيّة محدودة، ثم تسلّم إدارتها العامة".
العودة إلى بيروت كان لها أحلامها وأفكارها، ومشاريع خَطَّط لها قبل الوصول. كتب تفاصيلها بدقّة، عاد إلى بيروت يحمل حلمه القديم بعطاء رجل الدين، حلم أصبح معزَّزًا بإمكانيات وقدرات واقعيّة، ومستوى عالٍ من الدراية والإحاطة. عاد وفي جوارحه عزيمة تتدفّق حماسًا.
يقول شقيقه الحاج عبد الله: "في كل السنوات التي سبقت كنت أشعر بعدم رضاه كمن لا يقوم بما يريد. زرته في إيران أكثر من مرة، كنت أرى تغيرًا واضحًا في حالته النفسيّة وشعورًا واضحًا بالاطمئنان، وحين عاد من إيران كان استقراره النفسيّ واضحًا، كمن حصل على مبتغاه، حماسه كمن وضع قدميه على درب يعرفه ويعرف إلى أين يفضي.
بعد عودته إلى لبنان، عمل في مجال الثقافة مدة تقارب العام، وكانت له بصمة واضحة في هذا المجال حتى اقترح اسمه ليكون المسؤول الثقافي المركزيّ. وفي نقاش بيني وبين سماحة السيّد صفي الدين، قلت له: إن الشيخ مصطفى له عقل مؤسساتي، وقد لا يجيد العمل الحزبيّ، لأن العقل الحزبيّ هو عقل التسويات وتدوير الزوايا، وهذا لا يناسب الشيخ مصطفى ولا يستطيعه، فهو ليس رجل التسويات والمداراة والحلول الوسطية والسياسة تحتاج إلى تسويات ومرونة. والمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم لها كيانها الخاص والمستقل، وتحتاج إلى إدارة حازمة ومنضبطة، والسيّد صفي الدين يعرف هذا، وكان له الرأي نفسه، فعمل في المؤسسة كمسؤول ثقافي في البداية ولفترة زمنيّة محدودة، ثم تسلّم إدارتها العامة".
218
195
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يقول سماحة السيّد هاشم صفي الدين: "قبل عودة الشيخ مصطفى إلى لبنان، لطالما وجدنا أنا وسماحة السيّد حسن عند قدومه علينا أن نسلّمه الجانب التربويّ، مقتنعين به وبإلمامه بهذا العالم، نعرف تجاربه ومستواه العلمي واهتمامه، ونعرف مدى إخلاصه وجديّته. كان التطلع من الأساس أن يتسلّم الشيخ مصطفى المؤسسة، والمسؤولية الثقافية كانت مرحلة نعلم أنها مؤقتة. كان ذلك واضحًا عندي وعند السيّد، دخل في البداية ليكون عضوًا في مجلس الإدارة ثم رئيسًا لمجلس إدارتها، وعلى أيامه وجدنا أنه من الأفضل أن يكون رئيس مجلس الإدارة هو المدير العام، فأصبح الشيخ مصطفى رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة الإسلاميّة للتربيّة والتعليم ومديرها العام.
كانت علاقته معي مباشرة طوال هذه السنوات. لقد امتاز خلالها بالإدارة الحازمة، والمتابعة الحثيثة المضنية، هو رجل متابع من الدرجة الأولى، لا يترك أمرًا، ولا يهمل، ولا يؤجّل عملاً إلى الغد.
سعى سعيًا حثيثًا ليتطوّر في هذا المجال، لأنه جاء من حوزة، وليس من مدارس أكاديميّة. وكان تحت إدارته عدد من المدارس، تطّورت وتكاثرت في أيامه بشكل كبير جدًا عما كانت في السابق. قبل مدرسة شاهد، ومدرسة الحدث، كان عدد التلاميذ يقارب الأربعة آلاف، وصل العدد في عهده نحو العشرين ألف تلميذ، عدا مدرسة قم المقدسة.
هو من المتفاعلين والفاعلين في آن واحد. سعى ليطور نفسه بكل ما استطاع من جهد، شارك في دورات كثيرة في إيران، في كل عام
220
196
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
دورة على الأقل، وفي برامج إدارية متطوّرة، يقوم بها أهم الأكاديميين في هذا الاختصاص، كي يطّلع على كل جديد في هذا المجال، يشارك في تلك الدورات بفعاليّة، يقولون عنه إنه كان أكثر من فعّال فيها، يتحدّثون عن حضوره المميز ولمسته الخاصة. وكان كلّما أخذ دورة نظّم لها متونًا ليستفيد منها سواه، يرتّبها بشكل منهجيّ، بأسلوب دقيق ومنظّم وسهل المتناول، بتقنيّات حديثة معتمدًا الحاسوب، وفي وقتها كان العمل على الحاسوب مقتصرًا على عدد قليل من الناس، لم يكن العمل عليه منتشرًا كما الآن، كثير من مسؤولي الوحدات ما كان يجيد العمل على الحاسوب مثل الشيخ مصطفى، أما هو فله جهود لافتة في هذا العالم. كان يستثمر كل ما يتعلمه ليطوّر عمله، وفوق هذا يقدمه لمن حوله بشكل منظّم وسهل المتناول ليستثمروه.
يُسجّل له في الموضوع الإداري حضورٌ مهمٌ في العمل والتأثير؛ ما ساهم في نقل عمل المؤسسة إلى مستوى راقٍ. لقد وضع المؤسسة في حضن الإدارة الاستراتيجيّة، فهناك فرق كبير بين المؤسسة التي تعمل بإدارة محليّة ووقتية، وبين المؤسسة التي تعمل بتخطيط استراتيجيّ، هو من أدخل التخطيط الاستراتيجيّ إلى المؤسّسة، براعته في هذا العالم كانت واضحة.
يتابع شؤون التربية متابعة حثيثة، ينسج علاقات جديدة مع مراصد الأبحاث، ومراكز الدراسات والعاملين في المدارس، يعرف كيف يستفيد من تجارب الجميع، جهوده تلك كانت محاطة بحرصه الشديد على البصمة الإسلاميّة، في أصالة تلك النتائج وتأصيلها
221
197
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
بهذا الاتجاه، وأنا أشهد له أنه من الأساسيين في هذا المجال، وأن الفضل الأول يعود إليه في تميز مدارس المهدي (عجل الله تعالى فرجه) دينيًّا، الجو التربويّ الدينيّ في مدارسنا كان واضح المعالم، وباعتراف المطّلعين عليها من أصحاب الاختصاص.
حزب الله يملك رؤية خاصّة، وذخيرة للآخرين، فهناك مقاومة وشهداء، تلك الرؤية الخاصة والذخيرة التربوية، استطاع الشيخ استثمارها. صحيح أن حزب الله حاضنته التربوية فكرًا وثقافة وولاء، وقد انعكست بشكل مباشر على المدارس، وأقول لولا توسّط سماحة الشيخ لم يكن بالإمكان الوصول إلى هذه النتيجة، وهذا المستوى الذي وصلنا إليه، هو ملجأ أمين ومعقل متين لهذه الرؤية، ويعرف كم تحتاج هذه المهمة إلى جهود مضنية وكبيرة جدًا. ورغم هذه الإنجازات كلها لم يكن راضيًا عن النتيجة، كان يعتبر أننا أمام مهام كبيرة جدًا ولا بد من إنجازها للوصول إلى مستوى أعلى، لأن مشكلة التأصيل التربويّ كبيرة جدًا. قرأ وتابع في هذا المجال واستفاد من تجارب الآخرين.
في التجربة التربويّة للجمهورية الإسلاميّة، لم يكن قد استوعبها فقط، بل هو هضمها واستفاد منها، كنا قد اتّفقنا مع وزير التربية في إيران على بروتوكول تعاون، وسماحة الشيخ هو الذي تابع في اتّفاق رسمي ومكتوب، وهو الذي عمّق العلاقة مع المؤسّسات التربوية في إيران. وعرف كيف يستفيد منها، هذا فضلاً عن خلفيته العلمية الحوزويّة، والتي كان لها أثر كبير في العالم التربويّ، زاد عليها إدارته السابقة وتجربته والمخزون العلميّ مع الاطّلاع الواسع على العلوم الحديثة، حتى أصبح لديه رؤية خاصة، كتب فيها وحاضر.
222
198
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
نرى في تلك الرؤية إحاطة كاملة في فهم العمليّة التربويّة من جميع جوانبها، واستثمرها بشكل فعّال في إدارة المؤسّسة ومدارسها الكثيرة المتنوعة، مدارس من الروضات إلى الثانوية، ولكل مرحلة تعليميّة سياستها واستراتيجيتها التخصصيّة.
مصافًا إلى كونه عالمًا صاحب خبرة، كان مرجعنا الأول في الاستشارات التربويّة التخصصيّة، لقد ساعده توجهه وإخلاصه كثيرًا، وكذلك ذكاؤه وجَلَده، فلم تكن إدارة هذه المؤسسة بالأمر السهل، إن تخيّل حجم العقبات في مؤسسة تربوية كهذه أمر صعب، لقد كان على عاتقه جهد كبير ومهمات جليلة، وكلما كبرت المؤسسة وزاد عدد مدارسها، زادت المشاكل والعقبات، لقد أبدى نجاحًا كبيرًا، ولم يستطع أن ينجز كل ما في باله من طموح.
كنت أطمئنُّ إلى دقّته، عندما يقول إنني دققّت وحققّت لا أراجع من بعده، رأيه راجح عندي، كل من كان يشكل على سماحة الشيخ، وكل الذين لا يتفقون معه في بعض الأمور، كانوا يسلمون جميعًا بكونه قدوة في تديّنه والتزامه، في أخلاقه وتهذيبه، وأنهم تعلّموا منه الكثير، وأنا أتحدث عن أناس على مستوى عالٍ في الإدارة التخصّصيّة ممن يعارضونه، لكنهم تعلّموا منه الكثير. بعضهم قال: إنه يرى التديّن قد تجسد في شخص اسمه الشيخ مصطفى، وكذلك في علمه وأخلاقه ودقّة عمله الإداري ومتابعته الحثيثة. كل من عارضه كان يثبت هذه المواصفات، فهم لا ينكرونه على الرغم من خلافهم معه، وهذا ثابت لا نقاش فيه، فهو أولاً المعلّم المربيّ الشديد التديّن، وهو ثانيًا المثابر الذي يعمل بجديّة وإخلاص ودقّة
223
199
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
قلّ نظيرها، وثالثًا علمه وثقافته المتميزة بالفهم والوعي، وأنا أيضًا أشهد له بذلك.
كنت على موعد معه في أحد الأيام، ومواعيدي معه كانت في وقت متأخّر وليس في الصباح، ظهرًا وما بعده، علمت خلال الحديث أنه جاء من إيران في هذا اليوم، ووصل عند السابعة صباحًا، وذهب مباشرة إلى المؤسّسة وبقي يعمل، ثم جاء منها إلى لقائي، من يستطيع أن يفعل ذلك سواه، ومن يستطيع لا يفعل ذلك إلا عند الضرورة، أما هو فكانت حاله هكذا دائمًا.
لأنني كنت مسؤوله المباشر، كنت أخجل منه عندما نختلف في أمر. هو من أراحني، يقول لي: لا عليك عندما تأخذ قرارًا سألتزم به. هو صعب في النقاش، ولكن حين نقول له: قرّرنا هذا الأمر، يقول: اكتبه لي، ويلتزم به. تلك ميزته التي تعكس تديّنه واحترامه للقوانين، وبالرغم من علمه وهيبته واحترامه، لا يجد غضاضة في أن يأتي بعد وقت ليقول لي: إن الحق كان معك، في أمر كنّا قد اختلفنا فيه.
بالنسبة إليّ كان إقناعه سهلاً، إن قدمت له الدليل المقنع يقبل، وإن لم يقتنع يلتزم، دون أن يترك ذلك أثرًا عليه، بعض الناس إن لم يقبل بالأمر يقوم به مكرهًا، وقد لا يحتمل إتمامه أو إتقانه، وأحيانًا ينعكس ذلك على المحيطين به، أما هو فلم يكن كذلك مطلقًا، بل كان يدافع عن ذلك القرار. كان يتحمّل نيابة عنا تبعاته، ينفّذه على الرغم من عدم اقتناعه به، يواجه الناس به، ويتحمّل تبعاته، كأنه قراره الشخصيّ لشدّة التزامه بالقوانين وبالنظام، لكننا لم نكن نتخذ قرارات دون أن نناقشه فيها ونطلعه على حيثياتها.
224
200
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
هو شخص موضوعيّ وواقعيّ، لا يحب الأوهام والتخيلات، مع تديّنه وإيمانه بالغيب وبصاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وبأهل البيت (عليهم السلام) ينظر إلى الأمور بواقعيّة ويقبل بالنتائج الواقعيّة".
بعد أن استقرَّ به العمل في المؤسّسة، وعلى الرغم من كون هذا العمل قد أخذ الجانب الأوسع من حياته، إلا أنّه لم يترك جوانب كان لها حيّز ظاهر في السنوات التي سبقت، أبقى لها مساحة في روحه ووجدانه، وظل يتابعها بالرغم من انشغاله الكثيف في الإدارة، ومنها الجانب التبليغي في الخارج الذي كان يمارسه في سنوات إيران، واستمر عليه ما استطاع، سافر إلى بريطانيا وإلى ساحل العاج أكثر من مرة، وإلى بنين ونيجيريا، والبرازيل. في خدمة الجاليات اللبنانية والانفتاح على الجاليات الأخرى، مبلّغًا ومربّيًا، وصاحب همٍّ واهتمام، فعّالاً ومنتجًا ومؤثّرًا.
يقول من كان قريبًا منه في بريطانيا: "عرفت سماحة الشيخ مصطفى في لندن، كنا في ذلك الوقت جالية صغيرة ليس لدينا مركز نجتمع فيه، كنا نجتمع في المنازل بشكل دوري، مساء كل خميس نقرأ دعاء كميل، ونجتمع في مناسبات عديدة، وكان سماحته في تواضعه كواحد منا، وهو من أوائل العلماء الذين زارونا، سعدنا كثيرًا بأفكاره وطريقته في تنظيم أمورنا، وخلال تواجده، اتَّسعت دائرة تجمّعنا، وانفتاحنا على الجاليات الأخرى،حيث استقطب وجوده بشخصيّته الفذّة العديد من المغتربين من الأماكن المحيطة، من الجاليات اللبنانية وجاليات أخرى، كمغناطيس قوي الجذب كان يزداد العدد في كل يوم، أسئلة وأحاديث.
225
201
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
في أيام تواجده يكون هناك سهرة في كل ليلة، في أماكن ومناطق مختلفة، في أي منزل يمكن أن يتسع لأعداد كبيرة، يذهب إلى تلك الأماكن، يقطع مسافات كل يوم، تكون أحيانًا مسافات طويلة بعيدة عن مكان إقامته، وأحيانًا خارج لندن.
وهناك يتوافد الحضور من شتّى الأماكن القريبة حين يعلمون بوجوده، ويتبعه من حضر سابقًا إلى كل مكان يذهب إليه، كمن لا يستطيع الارتواء من عذب المياه، والناس هناك في عطش قديم، وما أعذب ما يقدّمه سماحة الشيخ مصطفى. وكانت لتلك السهرات بصمة فريدة في فائدتها وأنسها النافع، غنيّة في جدواها وثمارها، كان هو المبادر لمثل هذا النشاط، ونحن نخاف من تعبه ونخجل من همّته العالية، لقد استقطب عددًا كبيرًا بشخصيّته، وعلمه وأسلوبه، ليس من الجالية اللبنانية فحسب، بل من الجاليات الأخرى، ولا سيما الجالية العراقيّة والتي هي كبيرة العدد في لندن، والجالية البحرينيّة وسواهما. كنا نضطر إلى اختيار أوسع الأماكن لكثافة الحضور.
يهتمّ كثيرًا بالأطفال، يحدّثهم ويطّلع على حاجاتهم ويستمع إليهم، يقدّم لهم الهدايا بنفسه في يوم العيد، هو أوّل من قام بهذه المهمة، يتبرّع الأهل بالهدايا، ويقوم سماحته بتسليمها للأطفال مع ابتسامته المحبّبة.
نظّمنا حلقات للشبان والمراهقين، بدأنا من سنّ الثالثة عشرة، حلقات للذكور، وحلقات للإناث. كان هو الوحيد القادر على الدخول إلى مشاكلهم الشخصيّة، أو هو الوحيد الذي انفتح
226
202
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
عليه هؤلاء الشبان، بقدرته على فهم هذا العمر وتفّهم تطلّعاته وأفكاره، وكشف لهم عن أمور وإشكالات لم يكونوا يعرفونها، تأثّروا بشخصيّته وأسلوبه، وبقي يتابعهم لسنوات ويتواصل معهم عن بعد، البعض منهم أصبح الآن من الفاعلين، واستمروا في التواصل معه.
يغرق في مشاكلنا وحاجاتنا، في المشاكل العامّة، يقترح حلولاً ومشاريع وأفكارًا، وفي المشاكل الخاصّة، مشاكل عائليّة واجتماعية، في العلاقات والعمل والجيران، والجميع ينفتح عليه بلا تردد.
وفي غير ذلك كان هو من يبادر، حين يرى أو يسمع عن قطيعة بين مغتربين، يهتمّ اهتمامًا بالغًا بإصلاح ذات البين، بعضهم لم يكن يريد إصلاحًا وكلا الطرفين متمسّك بما هو عليه، لا يترك الأمر مهما كان الجهد، وكان موفّقًا على الدوام، له قدرة عجيبة على حلّ المشاكل، أو هي بركة وهبة من الله، ففي أكثر من حالة أصبح المتخاصمون فيها أصدقاء مقرّبين، بعضٌ منهم ربطت بعد ذلك بينهم روابط أسرية، والميزة هنا أنه ما كان يكتفي بحلّ الإشكال بينهم، بل يتابعهم لفترة طويلة، فيصبح هو صديقهم المشترك، يجمعهم ما استطاع، ويتابع علاقتهم حتى يطمئن على استقرارها، إنه حقًا رجل يهتم.
وكذلك كان يفعل في الخلافات العائليّة، فالكثير من الخلافات حلّ ببركة منه، بأسلوبه ومتابعته، بعض تلك المشاكل كان عصيًّا وصعبًا، بقي طويلاً بلا أفق أو أمل بالحلّ، لكنه حلّ على يديه.
واحدة من تلك القضايا المستعصية كانت لمطلقَين مرّ على طلاقهما زمن، وهما يعيشان مشكلة لا تجد حلاًّ تتعلّق في حقوق
227
203
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
الحضانة ورؤية الأولاد، بعد مضي عام ونصف سعت فيها الزوجة إلى العديد من الجهات، والوسطاء ورجال الدين، دون أن تجد حلاًّ، جاءت إلى الشيخ مصطفى واستطاع معالجة المشكلة، وهدأت الأمور ضمن اتفاق منصف أقنع به الزوجين، بعد جهد وعدد من الاتصالات بينهما، في صبره وحكمته وتفهمه للطرفين، وقدرته على الإقناع، حلّت مشكلة قديمة وعصيّة بدت غير قابلة للحلّ، لكنه لم يكتفِ بذلك، ظلّ يتابع ويتواصل مع الزوجين حتى استطاع إعادتهما إلى بيت الزوجيّة ولمّ شمل العائلة بعد فراق طويل، هما إلى الآن على وفاق، وبقيا على تواصل بسماحته، وارتدت الزوجة الحجاب وحسن تديّنها وتديّن بقية أفراد العائلة. كنا نقول: إنّ في سماحته سرًّا وبركة من الله.
يتابع كل هذا وكل ما يتعلّق بالجالية وكأنّها همّه، لا تتوقّف تلك المتابعة حتى وهو بعيد عنّا. عندما يعود إلى لبنان، يستمر تواصله، ويكمل ما بدأه في لندن، عبر الهاتف ومن خلال اتصاله بالقادمين إلى بيروت، ويقدّم لنا المساعدة من موقعه في لبنان، يتّصل من بيروت ويسأل: ماذا فعلتم بالأمر الفلاني؟ لا أحد يقوم بما كان يقوم به، إذًا، لا يكتفي بدور المبلّغ في زيارة قصيرة، بل يحيط بالكثير من همومنا، ويتابع التفاصيل، ويسهّل لنا ما نحتاج إليه.
يزوره القادمون من الجالية في لبنان ويزورهم، وأنا كنت واحدًا منهم، كنت كلما قدمت إلى لبنان يزورني وأزوره، أطلعه على التفاصيل والمستجدَّات، وأستمع إلى توجيهاته واقتراحاته، وأطلب دعمه فيما نحتاج إليه، في الصيف حيث تزداد حركة القادمين من
228
204
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
الجالية إلى لبنان، كنت أذهب معه لزيارتهم، وأرى بنفسي لهفتهم وحبهم وشوقهم إليه، لكم كنّا نتمنىَّ أن يكون معنا دائمًا شخص مثله، في علمه وثقافته، في إخلاصه وصبره، في تواضعه وهمّته العالية".
ويروي لنا صديق تعرف عليه في بلاد الاغتراب، رواية تختزل الكثير من المعاني، فقد جرت العادة في وقتها أن يأخذوا المبلغين بعد إتمام مهمتهم، في رحلة سياحية، يتعرفون فيها على معالم البلد، ومشاهده الجميلة، في استراحة من متاعب مهمة التبليغ المكثفة، كعربون شكر على ما بذلوه، قبل عودتهم إلى الوطن، ولأن الرحلة سياحية محضة جرت العادة أن يُحضروا لرجل الدين ثيابًا مدنية تحرره من القيود وتجعله أكثر راحة، يقول هذا الصديق بكثير من التأثر: سألَنا باستنكار: ولماذا؟! قلنا له لن تكون في هذه الرحلة القصيرة رجل دين، لا حاجة في تلك الاماكن إلى هذا، فقال بحسم: إذًا لا حاجة لي إلى الأماكن، أنا رجل دين ولن أكون غير ذلك. تحدّث عن هذا الزي وعن الانتماء. قال إنه ليس قماشاً وحسب، بل هو انتماء، وعلى من يرتديه أن يكون له بكل دلالاته، أو لا يكون. يتابع هذا الصديق قائلاً: "لقد رافقت سماحته في أكثر من زمان ومكان، وأُشهد الله أنه كان كذلك، في سكونه وحركته، في القول والفعل، كنا نرى عظمة الإسلام وجماله فيه".
يقول سماحة الشيخ عبد المنعم قبيسي: "كنت أعرفه من قمّ المقدّسة، وما له من حضور قويّ هناك، لكن معرفتي به
229
205
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
توطّدت في سفراته إلى أفريقيا، حيث كنت أقيم. هناك كانت معرفتي به واضحة وقويّة، معرفة عن قرب، جعلتني أتعلّق بهذه الشخصيّة وبأدائها الجميل والمميّز.
ذهب إلى هناك كمبلّغ ومرشد للجالية اللبنانية وسواها، في الأمور الدينيّة والتربويّة. أولى تلك السفرات كانت هي الأطول، وكانت غنيّة جدًا بالاستفادة من حضوره، قضى معنا شهر رمضان بكامله، في لقاءات ومحاضرات وسهرات يوميّة، غنيّة بالحوارات والمداخلات في مواضيع شتّى، كان فيها العالم المثقّف الواسع الاطلاع، في حديث سهل وعلم وافر، يعرف هموم الجاليات وحاجاتها.
وكان مثالاً في الخلق الكريم، وفي التواضع وبساطة العيش، والقدرة على التحمّل، تواجده في مكان صعب وبإمكانات ضعيفة، لم يكن بالأمر الهيّن على رجل لم يعتدها، لكنّه في صبره وتواضعه كان كمن اعتاد على العيش في تلك الظروف ونشأ فيها.
سماحة الشيخ مصطفى لم يكن كسواه من الزائرين، كان أقرب للمقيمين وكأنه واحد منهم، أن يذهب المُبلّغ في ظروف صعبة وأماكن غير مهيّأة، ويقدّم كل هذا العطاء الكبير العمليّ والمجدي، في نظام ودقّة، وحرص وإخلاص، دون تململ أو شكوى، تلك هي ميزة لافتة في سماحته.
في أماكن فقيرة في أفريقيا، كان يعمل معنا لتوفير بناء للعبادة واللقاء، لأهداف تربويّة ودينيّة، كان يقول لي: من الجيّد والضروري أن نسعى لوجود مثل هذا البناء، ولكن قبل ذلك، قبل الحجر علينا الاهتمام بالبشر، بالذين سيفدون إلى هذا البناء، هم الأساس فيه.
230
206
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
كنت أعمل بنصائحه، وأستشيره في كل شيء، وقد عرفته معرفة جيّدة، في تلك السفرات، وتعلّقت بشخصيّته، ثم التقيته بعد ذلك خارج أفريقيا، في أكثر من مكان، وأجمل تلك اللقاءات كانت في الحجّ، إذ ظهر هناك جانب آخر من هذه الشخصيّة، شخصيّة العابد الزاهد في كل الدنيا، بل العاشق المأخوذ حبًّا، كأنه فوق الدنيا، كنت كلما دخلت إلى الحرم وجدته فيه، وكأنه لا يغادره أبدًا، بين صلاة، وطواف، وقراءة قرآن ودعاء، خاشعًا دامع العينين، وهناك كان أيضًا خادمًا للحجيج، ومصدرًا فقهيًّا لكل السائلين".
ما تحدّث عنه سماحة الشيخ عبد المنعم قبيسي، هو الجانب الآخر من شخصيّته، الجانب الذي كان فيه الأكثر شغفًا، الجانب الذي أبقاه نافذة لروحه، يتنسّم منها شوقًا إلى عالم ما انفك يقصده بجوارحه حين تقصر بالجسد السبل، تحجّ روحه إليه قبل الجسد، هي الأماكن المقدسة جميعها، وللكعبة هوى حبيس ينتظر بابًا، وفسحة من زمن واستطاعة، وعلى أستارها تعلّقت روحه، منذ رآها أول مرة، كان ردّ فعله من وقتها مختلفًا.
تقول زوجته: "مرّ زمن على زواجنا، سعى فيه للذهاب إلى الحجّ دون الاستطاعة، حتى تمكن من ذلك بعد تسع سنوات، ذهبنا معًا في رحلة برية طويلة، كان لها الأثر العميق على كلينا، ولكنها كانت عليه أكثر عمقًا وتأثيرًا، في لهفته وشوقه، مهتم بكل دقائقه وتفاصيله، في المناسك والمستحبّات، وهو الشيخ العارف بهما، وإن لم يكن معمّمًا في وقتها، كان غارقًا في استثمار كامل وقت تلك الرحلة، يكاد لا ينام، في سعادة وأنس.
231
207
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
كانت رحلة غنيّة، غنيّة بوجوده وأسلوبه وتعاطيه، كان يلهج فيها بالشكر، كأنّه أعطي كل ما كان يريده ويصبو إليه، مشغولاً عن الدنيا بما فيها، وبقي بعد عودتنا لفترة طويلة وهو يتحدّث عنها، وكأنّه ترك روحه هناك".
عند عودته تحدّث مع معارفه ومنهم شقيقه عبد الله عن تلك الرحلة الفريدة المميّزة، يتحدّث عنها كأنّها اكتشاف عظيم، يتحدّث مبهورًا وبشغف، عن أثرها الكبير عليه، يقول بأنه هناك شعور بالمعنى الحقيقي لمتعة العبادة، متعة أن تترك الدنيا وترتدي كفنًا، متعة أن تكون صافيًا خالصاً لله.
بقي في شوق إلى مثل تلك الرحلة في كل عامّ، ترى على ملامحه أسىً كلما حان وقتها. وحين تفرّغ لطلب العلوم الدينيّة تزايد سعيه لها، حتى تمكّن من ذلك، وحاول جاهدًا أن لا ينقطع عنها رغم ظروفه المادية، يذهب نيابة عمّن ماتوا ولم يتمكّنوا، ذهب مرات وهو في إيران، وعبر بعثات رسميّة، وحين عاد إلى لبنان، أراد بكل جوارحه أن لا يفوته عام دون أن يذهب.
يقول الحاج أبو أيمن عز الدين: "هو ابن خالتي، وكانت تقتصر معرفتي به على هذا في البداية، زرته قديمًا في العراق، وتبادلنا الزيارات بعد عودته إلى لبنان، ثم في قمّ المقدّسة، وكذلك بعد عودته من إيران، كان خلال تلك الفترة نعم القريب الذي يولي عناية للتواصل مع الناس، ويعطي أهميّة خاصة للأرحام. في حينها كان يذهب إلى الحج ضمن البعثات الرسميّة، الإيرانيّة أو اللبنانيّة كمشرف ديني، فعرضت عليه في إحدى السنوات السفر إلى الحجّ في حملتي، فوافق.
232
208
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
في تلك الرحلة عرفت الشيخ مصطفى، وعرفت مزاياه الاستثنائيّة، كان مختلفًا عن كل من عرفت ورافقني من العلماء، كان استثنائيًّا في كل شيء، في همّته وصبره، فهو لا يشكو ولا يتأفّف، يصغي إلى الحجّاج ويتابعهم في مناسكهم متفانيًا في صبر وأناة عجيبين، في منتهى الدقّة والشموليّة، حتى إنّه جعلني أقول منذ تلك الرحلة: من أراد حجّاً كاملاً فليذهب مع الشيخ مصطفى.
لشدّة حرصه على إتمام المناسك على أكمل وجه، في متابعته لأداء الحجّاج بكل تفصيل ممكن، أمثلة كثيرة ما كان غيره يعيرها اهتمامًا، أو يشدّد عليها ويتابعها، منها مثلاً أن بعض الحجّاج يرغبون في أن يناب عنهم في بعض المناسك المتعبة لضعف في إمكاناتهم الجسدية، واعتدنا قبول ذلك بلا نقاش أو محاولة، فالنيابة أسهل لكلا الطرفين، في ظروف الازدحام والتعب، ليس من السهل رعاية شخص يحتاج إلى مساعدة كبيرة إن أدّى العمل بنفسه، فيما كان سماحته يشجّعهم على أن يقوموا بالعمل بأنفسهم؛ لما يترك ذلك من أثر روحي في نفس الحاجّ، ويبدي استعدادًا شخصيًّا لمساعدتهم بشتّى الوسائل.
كان يجلس مع من يطلب "الإنابة"، وبعد التشجيع والاستعداد للمساعدة يوافق الحاجّ، نقوم بمساعدته مع الشيخ ويتمّ العمل بنفسه، فيخرج الحاجّ سعيدًا يشكر الشيخ ويدعو له لما تركه العمل في نفسه من أثر جميل.
يحرص على الأداء الجيّد والمتقن، والاستفادة من كل سانحة للخروج بأفضل ما يمكن، ومنها إصراره على الإحرام في الجحفة
233
209
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
رغم الصعوبات، لأن الإحرام في الجحفة له الأثر البليغ على روحيّة المناسك.
يتابع في حرص ودقّة كل شيء، في الإحرام والتظليل والطواف والصلاة و.. و.. في همّة عالية جدًا ونشاط لا يعرف التهاون أو الكسل، كأنه رجل لا يعرف التعب، يتعامل مع الحجّاج جميعهم على حدّ سواء، كأنهم أهله وأرحامه، ولا سيما الضعفاء وكبار السنّ، تراه مع الجميع كواحد منهم، بتواضع لا مثيل له، يعين الجميع ويرفض أن يعان، أو أن يُميّز بأي شيء عن غيره، حتى في ترتيب وتنظيف مكانه، في خلق كريم، وأدب جمّ، وابتسامة لا تغادر الوجه، يجيب عن أسئلتهم بصدر رحب ونفس طويل، يجلس إليهم متى ما تسنّى له ذلك، ويحدّثهم بأفضل ما يكون الحديث، بعلم وافر وأسلوب بسيط شيّق.
يتنافس الحجّاج على الاقتراب منه والجلوس إليه، على اختلاف مشاربهم وأعمارهم ومقاماتهم، كلّهم اتّفقوا على محبّته، حتى أنّني كنت أخاف عليه لكثرة ما كان ينفتح عليه الحجّاج بلا حساب لمقدار جهده وحاجته إلى الراحة. يتواصلون معه بعد الحجّ، يأخذ مني أرقام هواتفهم، يتّصل بهم بعد العودة للاطلاع على أحوالهم لا سيما المرضى وكبار السنّ.
في مواعيد الذهاب لأداء المناسك كان هو من ينتظر الحجّاج، لم يتأخّر في كل المرّات ولا دقيقة واحدة، دائمًا تراه واقفًا ينتظر قبل الموعد بدقائق. في دروس شبه يوميّة، يتناول فيها كل تفاصيل الحجّ ومفاهيمه، وهو العالم صاحب الاطّلاع الفقهيّ الواسع والعميق،
234
210
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يتّصل به العديد من العلماء ومرشدي الحملات إن أشكل عليهم أمر أو جدّ عندهم جديد.
عفيف النفس إلى حدّ بعيد، لم يكن يقبل مني مع كل هذه الجهود مالاً، في السنوات الأولى كنت أحاول مرارًا وبشتّى الوسائل حتى يئست من ذلك. حتى الهدايا التي يأخذها إلى أهله والمقربين، يرفض أن أدفع ثمنها، بل يتعمّد أن لا يوصيني بجلب غرض مع علمه أنّني ذاهب إلى حيث يوجد ما يحتاج إليه، خوفًا من أن أرفض أخذ ثمنه. كنت أجلب تمرًا للمساعدين هديّة منّي، ويصرّ هو على دفع ثمنها على الرغم من إلحاحي، وفوق هذا كله كان يشكرني لما أوفره له من فرص الأجر والثواب، ويقول: إنّ هذا يكفيه منّي وزيادة.
خشوعه وإيمانه وتديّنه، يكاد لا ينام، بين صلاة ودعاء وقراءة القرآن، ومستحبّات يعرفها، يرفع يديه وتدمع عيناه، وفي كل عام طوال تلك السنين كان في لهفته وشوقه كمن يحجّ لأوّل مرّة، ينتظر موسم الحجّ كمن ينتظر لقاء حبيب.
حجّ معي سبعة عشر عامًا متواصلة دون انقطاع، حاولت أثناءها البعض من الحملات الخاصّة صاحبة الصيت والمستوى العالي في الخدمات والتكاليف أن يكون معها سماحة الشيخ مصطفى، وكان جوابه أنه يحبّ الحجّ مع من هم مثله، يقصد بذلك البسطاء والفقراء".
235
211
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
تولىّ الإدارة العامة في المؤسّسة الإسلاميّة مدة سبعة عشر عامًا، كان فيها مثالاً لحسن الأداء، في الحرص والدقّة والإخلاص، مثالاً في الإدارة الفاعلة والعمل الجدّيّ، تحدث عن ذلك كل من عاصره وتعامل معه، لم نجد استثناءً واحدًا يجرح هذه الصورة المثاليّة. في كل ما قيل عنه، هو الذي لا يقوم بعمل إلا بعد الإحاطة بكل تفاصيله، والوصول إلى تصور كامل واضح بعد جمع كل المعطيات الموجودة، ووضع قانون وخطة مناسبة لإنجاح هذا المشروع. هذا القانون وتلك الخطّة، حين تكون كاملة بين يديه، يحملها كأمانة، كشيء ثمين لا يمكن إهماله، أو الاستهتار فيه، ومواجهة كل العقبات والعوائق، مواجهة صلبة كجدار أمام عاصفة.
يحمي المشاريع وقوانينها، بجدار من الالتزام والجديّة، غير قابل للاختراق، وأقوى تلك العواصف التي كانت تواجه جدار التزامه هي الواسطة. أن يتوسط قريب أو صديق أو مسؤول للعبور فوق هذا الجدار والحصول على استثناء فوق القانون. حتى غدا ذلك معروفًا في كل مؤسسات حزب الله وعند الأصدقاء والأقرباء، أن لا تتصلوا بالشيخ مصطفى لتكونوا وسطاء من خارج المعايير.
هو مقتنع تمامًا بأعماله بشكل عام، والمؤسسة التي يديرها فاعلة منتجة، لا يعتمد فيها إلا على الجودة والكفاءة، ضمن معايير علميّة مدروسة، في السلوك، والجديّة والنشاط، وما إلى ذلك من صفات شخصيّة يرى الشيخ مصطفى أنها مطلوبة لإنجاز العمل على أكمل وجه ممكن.
237
212
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
منع الواسطة من اختراق جدار التزامه، وبقدرة عالية من التحمّل والصبر، دافع عن أسلوبه هذا، تعرّض لكثير من الضغوط، مواجهات كثيرة متعددة الجوانب، واجهها بحكمة وصبر وصلابة، وتحمّل من أجلها الكثير، ما كان يعلمه الناس وما لا يعلمونه، لم يستطع أحد إحراجه.
يقول شقيقه عبد الله: "لا مكان عنده للإحراج أو الخجل، يتحاشى حتى رفيعو المقام من الطلب منه لأجل أحد، وكذلك من هم أعلى منه في المسؤوليّة، يقولون في ردّ تلك الطلبات حين يعلمون بأن الأمر متعلقّ به: مع الشيخ مصطفى لا أستطيع. ويقول ردًا على كل تلك الضغوط: لقد وضعنا النظام وتمّت الموافقة عليه إذًا دعوني أعمل كما ينبغي. وتعرّض لضغوط مماثلة من أصدقاء وأقارب ومعارف، لم يتأثّر ولو بدرجة بسيطة، ولم ينحز لأيّ اعتبار سوى مصلحة المؤسسة".
يقول شقيقه: "جاءني قريب لي عاتبًا، يقول: إن زوجته التي قدّمت طلبًا للعمل كمدرّسة في مدارس المهدي وعلى الرغم من حيازتها كل المؤهلات المطلوبة، ونجاحها في امتحان التقييم، لكن الشيخ رفضها فقط لأنها من أقاربه، وحين قابلت أخي سألته إن كان هذا الأمر صحيحًا؟ فقال: إنه قد تقدّم لهذه الوظيفة أكثر من طلب، وبنتيجة التقييم والامتحان وصلت اثنتان إلى الأولوية بعلامات متساوية، إحداهما هي قريبتنا، وكان من الطبيعي أن يحول الأمر إلى التصويت لاختيار الأنسب لشغل هذه الوظيفة، ولم أشترك في التصويت لأنها قريبتي، هذه هي الأصول، وفازت الثانية بفارق الأصوات".
238
213
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
ويتحدّث أحد الأساتذة عن موقف مماثل، ولكنه أبلغ وأشد وضوحًا، لأنه حدث مع زوجة ابن الشيخ، الفارق فقط أن ابنه وزوجته لم يستغربا، فهما يعرفان سلفًا موقف الوالد.
لا بد لأصحاب الأعمال، والرؤساء والمدراء، من اتباع الحزم والصرامة والتشدّد مع العاملين معهم لضمان تطبيق القوانين والأنظمة، ومحاسبتهم على الأخطاء، وعلى التسويف والإهمال، تلك المعاملة الجديّة من شروط النجاح والتطوير، وأفضل هؤلاء المدراء ذاك الذي يعامل الجميع على حد سواء، بلا استثناء، ومصلحة العمل عنده فوق كل اعتبار، بعيدًا عن مصالحه الشخصيّة، بعيدًا عن رغباته وأهوائه، كل هذا اجتمع وتوافر عند الشيخ مصطفى كما لم يتوافر عند أحد، لكنَّ اللافت ليس هذا فقط. لقد زاد عليه أمر نادر.
يقول شقيق زوجته: "كنا نتحدّث بحضور الشيخ مصطفى عن عيوب مجتمعنا والحالة الأخلاقيّة المترديّة، والانحراف والبعد عن الدين و... ثم اتجه الحديث عن ضرورة وجود عدد من الواعظين من أصحاب المستوى العلميّ الجيد، فقال أحدنا: إن المستوى العلمي وحده لا يكفي، إذ يجب على الواعظ أن يكون له أسلوب جذاب في الوعظ، قد يتوفّر وجود أصحاب مستوى علميّ رفيع، لكنهم لا يستطيعون إيصال أفكارهم، وأن إيصال الفكرة يحتاج إلى أسلوب مؤثّر، أيّده الشيخ مصطفى بضرورة أن يمتلك الواعظ أسلوبًا مؤثّرًا في حديثه، وأن يكون حديثًا بسيطاً سهلاً للعامة، لكن الأهم هو وجود أسلوبٍ آخر لا يتعلّق بنوع الكلام والخطابة. ثم روى لنا قصّة هذا مضمونها: إنَّ أحد الواعظين اشتهر بتأثيره الشديد على
239
214
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
الحاضرين، تأثيرًا يقارب الإعجاز، فهو ما تحدّث عن أمر إلا واتّبعه الناس، وفعلوا ما يقول. جاءه يومًا عبد مسنٌّ لأحد الوجهاء وقال له: إنني أحضر مع سيدي مجالسك كلها، وأتأثر كسواي بما تقول، وأنا قد خدمت سيدي طويلاً، ولم يفكّر سيّدي يومًا في عتقي، فهل لك أن تتحدّث عن العتق وثوابه، عسى سيّدي يتأثّر بذلك ويعتقني. فوعده الواعظ بذلك، مضت أشهر طويلة ولم يتحدّث الواعظ بموضوع العتق، ذكّره المسن بوعده، فقال: أنا لم أنسك سأتحدث إن شاء الله ومضت أشهر أخرى، ثم تحدث الواعظ أخيرًا في الموضوع، وفي الليلة نفسها جاء إليه العبد وهو يبكي من فرحه، ويشكره على تلك الموعظة التي ما إن خرج سيّده منها وقبل أي خطوة أخرى أعتقه. ثم وقف العبد قليلاً وسأل الواعظ عن سبب التأخير كل هذه المدة، إذ كان بإمكانه أن يوفر أشهرًا طويلة من العبودية. فقال الواعظ: لو تحدثت حين طلبت مني لما كان لحديثي هذا الأثر المطلوب، لأنني لا أملك عبدًا. سعيت خلال هذه الفترة لزيادة مدخولي في العمل لأحصل على مال يفوق حاجتي، جمعته كي أستطيع بمالي وتعبي أن أشتري عبدًا، وعندما استطعت ذلك أعتقته وتحدثت. ذلك سرّ الواعظ في التأثير العجيب".
يتابع شقيق زوجته قائلاً: "كنت أفهم المعنى الظاهري بوضوح للآية القرآنية: يَا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون... ، وأما أن يكون أمام المرء مثالٌ حيٌّ يجسّده سيجعل الأمر مختلفًا، سيصل الفهم إلى مكان أعمق في الدلالات والنتائج، والشيخ مصطفى هو المثال الحي، حتى في روايته لتلك القصّة، فهو لم يروِها دون أن يعمل بها، لم يتحدّث عن شيء ليس فيه".
240
215
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يقول مدير ثانوية المهدي - شاهد: "كان هنالك جلسات يجتمع فيها أهل دير قانون النهر الساكنون في بيروت، يحرص الشيخ مصطفى على حضور تلك اللقاءات، يتواصل فيها مع أهل قريته، يعرف أخبارهم، ويشارك في موعظة ودروس ودردشات، وهناك تعرفت عليه، وأنست بحديثه، وجمالية حضوره، كل ما كنت أعرفه عنه حينها أنه عالم مميّز من قريتي. اكتفيت بهذا المقدار من المعرفة، لم أسأل ولم أطلّع.
كنت وقتها أعمل في مركز الدراسات، وأعلّم في المدارس كأستاذٍ لمادة العلوم، وقدمت طلبًا لتعييني في مدارس المهدي في بئر حسن، وصل الطلب إليه دون أن أعلم بذلك، وهو لم يقل لي، كتم ذلك ليتمكن من مراقبتي دون حواجز، ليراني على طبيعتي. كيف أتعامل وماذا أقول. واقترب مني أكثر وتحدثنا، دون أن يخبرني بأن ملفي عنده. ثم طلب من شقيقه الذي يعرفني أن يأخذه إلى منزلي في زيارة لا أسباب لها سوى المزيد من المعرفة، ولم يخبرني خلالها عن وصول الطلب إليه، أخذ الكثير من المعلومات التي يريدها بطريقة فذّة، أدار الحديث بذكاء، لم أشعر خلاله بشيء ثم زارني مرة ثانية، ومن بعدها تحدث إليّ بشفافية، وطلب مني أن أكون مديرًا لمدرسة المهدي في الأوزاعي، وأنه أصبح مقتنعًا تمامًا أنني الشخص المناسب لهذا المنصب، ثم قال: إن كل شيء فيك جيد ومناسب، إلا أمرًا واحدًا غير مريح، ولكنني سأتجاوزه، وهو أنك قريبي.
عملت معه مدة تجاوزت الخمسة عشر عامًا. يحار المرء في ذكر صفاته كإداريّ وقائد، من بينها ذلك الامتياز في الحرص والدقّة، فإن أعدَّ أمرًا أعده دقيقًا كاملاً لا نقص فيه ولا فراغ، هذا فيما يعده
241
216
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
ويتولاه هو. وحين يطلب منا ملفًا أو بيانًا أو تقريرًا علينا أن نقدّمه كاملاً ودقيقًا في الشكل والمضمون، يعيده إلينا مع الملاحظات، كي نعيد صياغته، علمتني ملاحظاته كيف أكون دقيقًا منظّمًا، وما عدت أستطيع أن لا أكون كذلك، حتى في الأمور التي لا تتعلَّق به.
أما الإحاطة واتساعها، فهو يعرف عن مدرستنا، البناء والمعلمين وحركة المدرسة أكثر مما نعرف نحن العاملين فيها، وهي مدرسة واحدة من المدارس العديدة التابعة للمؤسسة، إذا رفعت له كتابًا عن معلّم ما، أجده يعرف عنه الكثير من التفاصيل، وفي أي موضوع أو إشكال أقدمه له، يذهلني كم هي الفكرة واضحة عنده، حتى في البناء، وهو الذي لا يتواجد في مدرستي كتواجدي. قلت له في إحدى المرات: إنني أحتاج إلى غرفة مكتبة ومختبر علوم، ولا مكان فارغًا في المدرسة، فقال: إن على سطح المدرسة طلبك، هناك غرفة في الجهة الجنوبية، سكتُّ متعجّبًا، وأنا أتذكر تلك الغرفة المنسيّة في زاوية السطح، أنا مدير المدرسة التي هي وحدها مسؤوليّتي، وتواجدي الدائم فيها، أقارن نفسي به، وهو المدير العام ذو المسؤوليّات المتعدّدة من بينها عدد كبير من المدارس.
لا تأخذه في الله لومة لائم، هو لا يداري ولا يغطي في سعيه الحثيث للإصلاح، لا ترى خللاً في الذي يقوم به، وحين يرى خللاً منا ينبّه ويطلب بحزم عدم تكراره. لقد علّمنا الحرص والدقة والاهتمام، ولأنه هو الحريص والدقيق والمهتم، زرع فينا هذه الصفات وتابعها حتى أصبحت ملكة عندنا لم نعد نستطيع التخلّي عنها حتى بعد أن أصبحنا بعيدين عنه.
242
217
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
في كل فترة تواجدي معه، كنت أرى سعيه الحثيث ليطّور من قدرته ومهارته، يقرأ ويسعى ويتعلّم ويتابع في دورات وبرامج، ويساعدنا ويدفعنا باتّجاه مثل هذا التطّور، وهو مدرب ممتاز لم أر مثيلاً له، في الخطط الاستراتيجيّة، هو من دربنا لنعمل على نقاط الضعف والقوّة، والفرص، والتهديدات، يدرّب بطريقة عمليّة، حتى أنتجنا خططاً خماسيّة لمدرستنا ومدارس المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، في التدريب يرسخ الفكرة، يذهب إلى الجوانب العلميّة والعمليّة.
هو الذي يستغلّ كل إمكاناته، ويزيد عليها ما أمكنه في كل مناسبة، وهو أيضًا دائم البحث عن قيمة إضافيّة في عملنا، وكما يفعل هو قبلنا، لا يريد أن نقتصر على العمل الروتينيّ، هذا البحث عن قيمة مضافة لم يجعله يقتصر على الإدارة، بل ذهب به إلى المعلم وحتى إلى التلامذة، يريدنا أن نبحث دائمًا عما نستطيع القيام به في الحركة الإداريّة وسواها، ويقدّم التشجيع والمساعدة ما أمكنه في هذا الخصوص، حريص على أن نستفيد من كل طاقة لدينا، هذا العدد الكبير من العاملين معه من مدراء وأساتذة وموظفين. ولك أن تتخيّل ثمار البحث الدائم عن قيمة إضافيّة.
في السفر يعرفه المرء عن قرب، وكيف يكون خارج العمل. كنا مجموعة من المدراء مع عائلاتهم، في رحلة اقترحها الشيخ إلى إيران، لتوطيد الأواصر بين العاملين في المؤسّسة، كان فيها مثالاً للتواضع، هذا الشيخ الجليل، مديرنا العام، أصبح في إيران دليلنا السياحيّ، يشرح لنا عن المناطق والمعالم، شرح العارف المتابع. وهناك أُصبت بضربة شمس، وارتفعت حرارتي، وبلغتي الإنكليزية استطعت أن
243
218
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
أشتري الدواء، تفقّدني سماحته حين علم بوضعي، وعاتبني كثيرًا لأنني لم أخبره، اعتنى بي وتابع تذكيري بمواعيد الدواء، يرعاني في مرضي كما يرعى الوالد صغيره. لابد لك أن تتوقف وأنت تقارن بين شخصيّته هذه، وبين الجديّة والحزم في العمل فتتعجّب.
كل من عمل معه واحتكّ به، يقول: علّمنا الشيخ الموضوع الفلانيّ، تعلّمنا منه كذا.. التنظيم، الدقّة، تطوير الذات، الاهتمام و... و...
وعلى سبيل المثال لا الحصر، حرصه على العمل، هو رجل لا يعيقه عائق، ولا يفتَّ من عضده تعب، ولا يلجأ لتبرير الظروف وغيرها، إن وصل إلى بيروت من سفر وبقي على انتهاء الدوام ساعة واحدة توجه من المطار إلى مركز العمل، كثيرًا ما كان يعمل في أيام العطل، ولو لساعات معدودة كي ينجز ما لا يريد تأخيره، ليس هناك من يطالبه، ولديه من الأعذار المشروعة ما يقنع وزيادة، لينال بعض الراحة، تخجل منه وأنت تراه بهذا النشاط، إن طالبك بالاهتمام بالدوام ماذا تقول؟ وأنت تراه حاضرًا في عمله قبل كل العاملين، وهو آخر المغادرين في كل الأحوال.
وأخيرًا أريد أن أقول أمرًا ترك فيّ أثرًا بليغًا، فأنا طوال الأعوام الخمسة عشر التي عملت فيها معه لم يقل لي: يا قريبي، أو يا بن عمي، أو أي شيء يذكّر بقرابتي له، خلال تلك السنوات كنت أريد أن أسمع منه أو أرى ولو إشارة صغيرة إلى هذه القرابة، لكنه لم يفعل.
بعد فترة من تركه العمل في المؤسسة، كنت أنا في إحدى المحاضرات أجلس في الصفوف الخلفيّة ودخل الشيخ مصطفى ليستمع إلى تلك المحاضرة، تأهّل به القيمون وأرادوا اصطحابه إلى
244
219
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
المقاعد الأماميّة الخاصّة، سمعته يقول لهم وهو يتوجّه إليّ: أريد الجلوس مع ابن عمي، تأثّرت كثيرًا بقوله هذا، وعندما جلس قربي قلت له: خمسة عشر عامًا من العمل معك ولم أسمعها منك فقال: لقد رفع حظر العمل يا قريبي".
لتكون الصورة أكثر وضوحًا وواقعيّة، لتكتمل النواقص في الملامح الشخصيّة نستعرض شواهد تنوعت في الشكل والمضمون لشخصيّة الشيخ مصطفى.
يقول مسؤول دائرة الشؤون القانونيّة في المؤسّسة الإسلاميّة: "عندما كنت أعد لشهادة الماجستير في الاجتماع التربويّ في الجامعة اللبنانيّة، ولم يكن الشيخ وقتها مديرًا عامًا للمؤسسة، حين ذهبت لأستشيره في بعض الأمور على مستوى الرسالة التي أعدّها، أدهشني بما يملك من معلومات، وبثقافته المتنوعة الواسعة، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعتبره مرشدًا وأبًا.
حين تولّى سماحته منصب المدير العام للمؤسّسة، كان يلفتني نشاطه وحيويّته، ومثابرته التي لم أجد لها مثيلاً. وباعتبار أنّ الملفات التي أتابعها كانت حساسة، وتحتاج إلى مراجعة المدير العام، أصبحت العلاقة بيني وبينه أوسع من ذي قبل، وقد أدهشني بأسئلته الدقيقة والتفصيليّة عن المسائل التي أراجعه فيها، والتي هي من اختصاصي، وشجعني ذلك على استشارته في كثير من الأمور كما لو كان من أهل الاختصاص. وعلى الرغم من مستواه الرفيع في العلوم الدينية والإدارية والتربوية التي يشهد له الجميع بها، إلا أن معرفته باختصاصي جعلني أدرك كم هي واسعة ثقافته العامة.
245
220
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
لقد كان سماحة الشيخ رجلاً فعّالاً على كل المستويات، وكنا نخجل من همّته العالية والتزامه بالدوام، وتسجيله لدوامه كباقي الموظفين، وتميّز بحضوره المبكر ومغادرته المتأخّرة، ومن إخلاصه وعطائه ومثابرته وهو الرئيس والمدير... إذا كان موعد سفره في العاشرة مثلاً، كان يأتي إلى العمل باكرًا كعادته قبل الدوام، ويعمل إلى أقصى وقت ممكن قبل موعد إقلاع الطائرة، وحين يأتي من السفر ويصل إلى المطار بعد الظهر مثلاً، يتوجّه مباشرة إلى عمله، ويبقى كعادته إلى ما بعد الدوام. في الواقع لم أرَ أحدًا سواه يفعل ذلك، فكيف لك أن تقصّر في عملك وأنت ترى مديرك العام بهذا المستوى من المثابرة!".
يســــــــتغرب العامــــل في الصيـــــانة، في ثانوية المهدي - شـــــاهد، هذا العمل البعيد تمامًا عن العلوم الدينيّة والإداريّة والثقافيّة، تراه مذهولاً أمام معرفة مديره الشيخ بعمل الآلات وصيانتها، ويقول: "كم كان يدهشني بمعرفته الدقيقة بعملي، معرفة رجل عمل في هذه المهنة منذ زمن"، كيف يمكن أن يحيط رجل واحد بكل هذا التنوّع من المعرفة، سؤال لطالما احتار فيه عدد ممن عرف الشيخ مصطفى وتعامل معه.
لكن من عرفه معرفة أعمق أو أطول، قديمًا وحديثًا يعرف أمرًا لافتًا قد يجيب عن هذا السؤال، أو يسلط الضوء على الإجابة، هو اهتمام الشيخ مصطفى بالوقت، إصراره على استثماره إلى أقصى الحدود، لطالما كان يردّد: ليت لدي المزيد من الوقت. يتأسّف بحسرة كلما شاهد هؤلاء الذين يهدرون أوقاتهم عامدين، حين يمر
246
221
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
على المقاهي ويراها تمتلئ برجال يلعبون الزهر أو الداما أو غيرها... يبدو عليه الأسى لهذا الوقت المهدور، هذا الذهب الذي يذهب هباءً كما كان يقول.
يروي قريب له أن الشيخ سمعه وهو يهاتف صديقًا له يشكو الملل، ويقول له: لنقتل الوقت في مقهى قريب، فيقول له الشيخ بحدّة: يا لك من مجرم، وهل لك عمر آخر لتقتل عمرك هذا؟! يستغرب قول الناس بل يصاب بالدهشة حين يسمعهم يقولون: تعالوا لنضيّع بعضًا من الوقت. هم يعلمون، يتعمدون ضياعه، أمر يقوم به سواد الناس، دون أن يرفّ لهم جفن.. لا يستطيع الشيخ مصطفى أن يعتبره أمرًا عاديًا، في رأيه أن الوقت هو أثمن ما يمكن أن يملكه الإنسان، رصيد وملكيّة ثمينة وزّعت على كل الناس. وهي الأثمن من أي ملكيّة أخرى، وباستثمارها يستطيع الإنسان أن يكون ما يريد، وأن يكوّن من خلال استثمارها ملكيّات أخرى.
وهو الذي لا يقول ما لا يفعل، وما حسرته على الوقت المهدور، إلا لأنه يستثمره كاملاً، ويقول: كلّما استثمرت الوقت كلما اتسع واتسعت الفائدة. كان كلما وجد ساعة من وقت استثمرها سعيدًا أحسن استثمار ممكن، يقتطع من وقت الراحة لمزيد من الفائدة، هو يقرأ أو يطلع، يطلع على كل أمر لا يعرفه ما أمكنه ذلك، ويقول: لا شكّ في أن العلم بالشيء خير من الجهل به.
والجزء الآخر من الإجابة هو إتقانه لتلك المعرفة واستيعابها في ممارسة وتطبيق، بذكائه المستمدّ أيضًا من استثماره للوقت. وكذلك ذاكرته الفذّة وحرصه على المتابعة، متابعة كل شيء حوله
247
222
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
أو بالقرب منه، بهذا الوقت الذي لا يهدر أي جزء منه عبر الاهتمام بكل شيء.
يقول مدير مدرسة المهدي - شمسطار: "يملك سماحة الشيخ ذاكرة فذّة، ذاكرة تشي باهتمام بالغ، مدرستي واحدة من المدارس العديدة التابعة للمؤسّسة التي هو مديرها العام، وفي مدرستي أكثر من سبعين موظّفًا، وهو يعرفهم واحدًا واحدًا. يعرفهم أكثر مني وبالتفصيل، كنت أنسى اختصاص أحدهم، فيقول لي: إنه مجاز في كذا، هو يعرف العاملين معي أكثر مني، على الرغم من بُعد مدرستي عنه مسافة طويلة، يستطيع أن يتابع أدقّ التفاصيل فيها.
لا يهمل أمرًا وإن كان صغيرًا، ويتابع بشكل غريب، أتفاجأ حين يرن الهاتف ويسألني: ماذا فعلت بالمسألة الفلانيّة؟ ومسائل لا يخطر ببالي أنه يعرفها، ولا أدري كيف عرف ذلك، وكيف يستطيع أن يتابع حتى التفاصيل الصغيرة عبر عشرات الكيلومترات. يسألني ويتابع بعد يوم أو يومين في حرص شديد على المال العام.
كما لا أنسى وقوفه إلى جانبي في الأزمات. يستحيل عليك أن لا تتأثّر به، أو لا يتغيّر أداؤك. أن لا تصرَّ وتثابر وتسعى لإتمام عملك على أكمل وجه، أن تتعلّم منه ذلك حتى في أمورك الأخرى".
يقول معاون المدير العام لشؤون المعلومات: "يدفعني إلى استثمار وقتي ما استطعت، شجّعني كثيرًا وساعدني كي أكمل تعليمي، وكان يتابعني كي لا أتوقّف، وساعدني بعد ذلك في التحضير لرسالة الدكتوراه.
248
223
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
معلوماته الواسعة، لم تكن تقتصر على مجال واحد، أو مجالات مؤطرة بخصوصيّة ما، اطّلاعه على العلوم الحديثة وكل جديد في التكنولوجيا كان غريبًا ومدهشاً، اطلاع واسع وعميق بالأمور التقنيّة، يعمل بنفسه على الكثير منها، لم يكن اطّلاعًا فحسب، بل عملاً وتجربة. في البرامج الإلكترونية يصنع ويعدل حتى يصل إلى حاجته، وهو الفقيه العالم، ذو الثقافة الواسعة، لم يكن ليعيقه وقته ومسؤوليّاته الكبيرة كمدير عام، إلى جانب ممارسته للتدريس الديني، وإعطاء دروسٍ في مجالات عديدة.
إنه مثال حيّ لرجل لا يهدأ، رجل لا يكلّ ولا يتعب، لم يأخذ إجازة من عمله لمدة ستة عشر عامًا قضاها كمدير عام، إلا للزيارة والحج والتي كانت إجازات قصيرة ما أمكن، ويعمل حتى في أيام العطل.
الفريق العامل معه من الشباب كان يتعب قبله بمسافة. كانت همته وعطاؤه أكبر من قدرته الجسديّة، ولو أمكن لجسده أن يحتمل لدفع به إلى المزيد، يكاد لا يعرف الراحة، كأن جسده في حيرة من أمره، كأن تلك المقولة كتبت من أجله: إذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام.
له أسلوب فريد في إيصال المعلومة، شيّق ومؤثّر، حتى إنه يعتمد التشويق القصصيّ لإيصالها. كنت أحب كثيرًا الدرس الثقافي الذي كان يعطيه لنا بأسلوبه الجذاب، وحديثه العذب، تلك الروحانيّة، وذلك الأثر العظيم الذي يتركه درسه فينا، بصوته الهادئ وروحه المطمئنة، يدفعك إلى أن تىاجع حياتك، وكل أدائك وشؤونك. مع الشيخ مصطفى وكل ما تراه منه يجعلك تأسف لحالك وينتابك
249
224
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
الحماس للتغيير. دروسه وأداؤه، جعلتني أبني شخصيّتي من جديد، وكأني ولدت على يديه، قائدٌ ملهمٌ هو، وأبٌ حاضنٌ لكل العاملين معه. سيبقى الشيخ مصطفى في الذاكرة بكل أدائه الفريد، وبابتسامته اللطيفة، وملابسه الأنيقة الفاتحة اللون".
ويقول معاون مدير ثانويّة المهديّ - بعلبك: "بدعم مادي ومعنوي منه أكملت دراستي وحصلت على الماجستير، وأول شيء فعلته هو أنني أرسلت له رسالة شكر وامتنان. فأرسل لي رسالة يحرّضني فيها على المتابعة، كتب في رأسها قول أمير المؤمنين: "من تساوى يوماه فهو مغبون". وفيها الكثير من التشجيع والتحفيز، كان لها الأثر الكبير عليّ. وظلّ يشجعني، وبفضل تشجيعه سعيت لتحصيل الدكتوراه. لم يكن يريد مني حتى الشكر، عمله كان خالصاً لوجه الله، لقد ترك الأثر البليغ في حياتي".
يحتـــــار المتعاملــــون مـــــع الشـــيخ مصطـــــفى مــــــن ازدحـــــام الصـــــور والمشاهد، عن هذا الرجل المثال كما يقولون، يتخلّل حديثهم عنه صمت وتأثّر يظهر في صوتهم وفي ملامح وجوههم، وهم يحاولون الاختيار والانتقاء من ذاكرة مزدحمة بالغريب والباهر، ومن مشاهد تجسّد التدين والاستقامة والانضباط، عن قدوّة تتجسّد في أفعالها قبل الكلام.
بكثير من التأثّر تقول إحدى الأخوات في الإدارة العامة: "ماذا نقول عن رجل مثل الشيخ مصطفى، هذا المثال الذي يقتدى به، الاستقامة والتديّن والإخلاص! عندما تقول: سماحة الشيخ مصطفى يتبادر إلى ذهني مباشرة شخصيّة المدير العام القدوة،
250
225
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
والتي تتمثّل بكل تصرّفاته، ليكون نموذجًا واضحًا للعاملين معه، بكل التفاصيل، صغيرها وكبيرها، ترى فيه راعيًا شديد الإخلاص، عظيم التفاني لكامل المؤسّسة، وكل عديدها الضخم، هو أبٌ ومعلّمٌ، في حزمه وفي اللين، في علمه وفي المعرفة الواسعة، في الحكمة وفي الأداء المثاليّ، ورجل حريص أشدّ الحرص على مصلحة المؤسّسة، كما مصلحة أفرادها، ناسيًا ومتجاهلاً مصلحته الشخصيّة.
حرصه على المال العام يمتدّ حتى على صغائر الأمور كاستخدام الورق مثلاً، وعن قلم من الحبر مفتوحًا، خوفًا من أن يجفَّ ويتلف، إذا رآه وهو مار في طريقه، عاد إليه ليغلقه ثم يكمل طريقه.
كل الذين أعرفهم، حين يعودون من الحجّ، يلجؤون إلى بعض الراحة، فالحجُّ رحلة شاقَّة. كان يأتي في اليوم التالي لوصوله مبكرًا في نشاط، كمن كان غارقًا في راحة طويلة، وقبل الدوام كعادته، حضوره قبل الدوام ليس بدقائق معدودة، يتجاوز الحضور المبكر النصف ساعة وأكثر أحيانًا، يطلب منا أن نصل للعمل قبل دقائق من الثامنة، بمعنى أن تكون لدينا جهوزية للعمل عند الثامنة، ماذا تقول لمديرك إن رأيته يفعل أكثر مما يطلب منك؟!
دروسه الثقافيّة الأسبوعيّة كانت نهج حياة، غنيّة واسعة، زاخرة بالمعطيات، تلامس تمامًا حاجاتنا والظروف، اهتمامه بتلك الدروس كان واضحًا، لأنه يعلم أنها صدقة جارية لوضوح أثرها علينا، فهو بالرغم من الخلفيّة الثقافيّة الكبيرة والمتنوّعة التي كانت لديه، كان يحضّر لها مسبقًا، وأرى رؤوس نقاط على أوراقه. كما كل شيء يعدُّه مدروسًا ودقيقًا كذلك كانت تلك الدروس البالغة الأثر.
251
226
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
في الفقه والتفسير، في الأخلاق والسلوك، في انتخاب المواضيع التي هي على تماس مع الواقع المعيشي، يقول مثلاً وبروح دعابة: من قال أن الكلام ليس عليه جمرك؟! باهظة ومهولة الضريبة على الكلام. ثم يتحدث عن حسنات الصمت واستحبابه، عن الغيبة وأثرها، عن كلام يأخذ إلى ما لا تحمد عقباه من فتن وإساءة.
عندما يتحدّث إلى الشباب عن نمط العيش، عن الأسلوب المعتمد في الاستهلاك، عن الخلل في ميزان الصرف والإنتاج، عن الاعتدال، عن الاقتصاد المدروس ونظم الأمر، وعن القروض التي نسعى إليها جاهدين يقول: قديمًا كانوا يقولون اصرف ما في الجيب، يأتي ما في الغيب. قد نقبل بذلك ونتناسى الاحتياط للظروف، لكن كيف بنا ونحن نصرف ما في الغيب، الغيب الذي لا نستطيع التحكّم به. تلك الدروس تركت آثارها وبصماتها على شخصيّتي.
خوفه من الله، وهذه التقوى المتأصلة فيه، كان يرتجف عندما يضطر إلى صرف أحد من الموظفين، يحاول مع الشخص ما استطاع، مرارًا وتكرارًا، تراه مهمومًا حين لا تظهر نتائج ولو بسيطة على تحسّن أدائه، وعند اليأس منه، وتضاعف الأثر السلبيّ لبقائه، كان يقف أمام ورقة الاستغناء عن الموظَّف والتأثر بادٍ في ملامحه. أسمعه يردّد: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. وهو الرجل الصلب أرى يده تتوقّف متردّدة وهو يوقِّع على قرار الصرف، ثم يوقّع وفي ملامحه الكثير من الأسف، وعلى النقيض من ذلك، تنقلب الصورة تمامًا، ترى سعادته واستبشاره، حين يتقدم أحدنا، أو يبرع في عمله، يهنئ ويشجّع ويبارك، ثمّ يكافئ".
252
227
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يقول مدير ثانوية المهدي - بعلبك: "كنت معه في جلسة عمل، حين بدأنا بالحديث، أمسكت ورقة، كنت أعبث بهذه الورقة أثناء الحديث، وحين انتهت الجلسة، وقمت من مكاني، رميت الورقة في سلّة المهملات، فقال لي بدهشة واستنكار، لقد أتلفت ورقة دون استثمارها!
واحدة من الأمور المهمّة التي تعلّمتها منه هي محاربته الحازمة للهدر باعتباره مرضًا خطيرًا يجب الشفاء منه، صغيرًا كان أم كبيرًا.
طلبت منه مرة رعاية حفل التخرّج في مدرستي، ومن العادة أن تتولّى شخصيّة مهمّة رعاية الاحتفال، واحتفال التخرّج مهم بالنسبة إليّ فهو تتويج لجهود كبيرة. فقال: إن هناك شخصيّات مشهورة ومهمّة أكثر مني، تستطيع دعوة وزير أو نائب أو شخصيّة سياسيّة مهمّة، لكنني ما كنت أرى شخصاً مهمًّا بقدره، فألححت في الطلب حتى وافق، وطلب مني أن لا تكون هناك مفرقعات في الحفل لأنها من الهدر المذموم.
وفي الاحتفـــال تبــــرّع أحـــد الإخــــوة، ومن مالــــه الشخصـــــيّ ودون مراجعتي، شـــارك بقليـــــل من المفرقعـــــات، فبدا انزعــــاج سماحتــــــــه واضحًا، لكنه أكمل الاحتفال. لم يتكلّم معي، فتأثرت كثيرًا، وقلت له: إنني أشعر بالذنب، فقال: يجب أن تشعر بالذنب. شرحت له ما حدث وقلت إنه تصرّف فرديّ من أحد الإخوة ولم ندفع ثمن هذه المفرقعات، قال: هذا الهدر للأموال هو قيمة غير تربوية وتحدث في مؤسسة تربوية، هدر جرى في احتفال أنت مسؤول عنه. وإنه علينا ونحن نعلّم الأجيال أن نكون قدوة ومثالاً.
253
228
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
مدرسة هو بكل ما في الكلمة من معنى. رافقته في عمل طويل، وصلنا يومًا متأخّرين إلى المنزل، وبقينا نعمل في المنزل إلى ما بعد منتصف الليل، هيّأت له مكانًا للنوم، وقمت إلى النوم بعد أن هدّني التعب، ضبطت المنبّه لوقت صلاة الصبح، أنا الذي تركته مستيقظاً وجدت أنه قد استيقظ قبلي بوقت طويل بلا منبّه، قام لصلاة الليل، ولم ينم بعد ذلك. وفي يوم عمل مشابه، أنهينا أعمالنا في الساعة الحادية عشرة ليلاً، لم يوافق على المبيت في منزلي، وقال إن الوقت ما زال يسمح بالذهاب، ذهب في هذا الوقت المتأخّر، لأنه مرتبط بصلاة الفجر جماعة.
أستاذ هو في الأخلاق، كثيرة هي الأمثلة والشواهد. أذكر في زحمة يوم عمل، تجعلني أبقى لأنهي ما تبقى من عمل واتصالات لمهمة قريبة لا تحتمل التأجيل، ويكون هو موجودًا، كعادته بعد الدوام، يتّصل بي ويقول: أنا لا أريد منك شيئاً، إنما أردت أن أقول: إني قربك إذا ما احتجت إلى أيّ مساعدة.
بعد أن ترك العمل في المؤسّسة وانقطعنا عنه لوقت طويل، حضر إلى بعلبك في مناسبة لأحد الشهداء، وكان حينها مريضًا، ولم يدخل إلى مدينة بعلبك، اتصل بي وقال معتذرًا: إن من الأصول أن أقوم بزيارتك وقد وصلت إلى بعلبك، لقد منعني من ذلك وضعي الصحّيّ، فاغفر لي، سأعوّضها لاحقًا إن شاء الله.
مدرسة فريدة في تنوّعها، لقد تعلّمت منه الكثير الكثير، فقدتمّ تعديل مجمل سلوكي وأدائي بسببه، وبأثر منه، من أقواله حينًا ومن أفعاله أحيانًا، استثمارنا للجانب العلميّ فيه كان مفيدًا إلى حد
254
229
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
بعيد، فمضافًا إلى علوّ شأنه في العلوم الدينيّة، استثمرنا التنوّع الكبير والمميّز في الكثير من العلوم عنده، عطاؤه العلميّ الدقيق جدًا وحده مدرسة. فكيف بنا مع سلوكه وخلقه، إخلاصه وإيمانه هو لا شكّ مدرسة فريدة، ما زلت أستثمرها، وكل رجائي أن أكون تلميذًا بارًّا".
العلم نور، لطالما كان يردّدها، يكره لنفسه أن يكون جاهلاً بأيّ أمر يستطيع معرفته، يكرّر تلك المقولة: "العلم بالشيء خيرٌ من الجهل به". أحب الشيخ مصطفى أن يتعلّم، وبقي يتعلّم حتى آخر عمره، بحث عن كل مكان يتعلّم فيه. كان طالبًا للعلم حتى آخر أيامه. دخل دورات في تواضع جميل، استثمرها وجعل لها متونًا دقيقة شاملة، كعادته في الدقّة والإحاطة ليستفيد منها سواه.
تلك الإحاطة والدقّة تحدّث عنها كل من كان يعرفه، هو لا يحبّ المعرفة السطحيّة كما لا يحبّ العمل غير المتقن وغير المكتمل، يبحث في أي موضوع يتولّاه، إن كان يريد الكتابة، أو يريد إلقاء محاضرة، أو حين يعطي درسًا، في دورات تثقيفيّة أو علميّة أو دينيّة.
يقول المعاون الثقافي سماحة الشيخ أكرم بركات: "سماحة الشيخ مصطفى هو من أكثر الرجال الذين عرفتهم دقّة ومنهجيّة، في الدروس والبحوث والمحاضرات، حتى في الخطب العاديّة في المساجد أو المناسبات. لنا تجربة طويلة وغنيّة مع سماحته، دقّته ومنهجيّته تركا أثرًا فاعلاً، ولا سيما في الدورات التي كانت تنظّمها الوحدة الثقافية، لرفع مستوى الثقافة الدينيّة للمجاهدين، في
255
230
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
أسلوبه ومشاركته الفعّالة فيها، وفي المساهمة الفاعلة في إعداد الكتب التي تدرّس فيها، فكتب متونًا لتلك الدورات، وراجع وصوّب متونًا أخرى، رأيه في تلك المتون كان معتمدًا ونافذًا، وجميعنا يثق بعلمه ودقّته وحرصه، في الدروس التي كان يعطيها بانتظام للدورات العليا، وفي مواد متنوّعة، في العلوم القرآنية، في العقيدة والأخلاق، في الفقه والولاية".
تحدّث عدد ممّن حضر تلك الدروس عن تعامله الأبويّ، عن معاملته وتفهّمه للمستويات المتنوّعة، وقدرته على إيصال الفكرة، في الشرح الممنهج الوافي، في النفس الطويل المجبول بالمحبّة والودّ، تحدّثوا مطوّلاً عن قدرته على جعل المفاهيم المعقّدة، واضحة وسهلة، وكيف يخرجون من عنده كأن غشاوة أو حجبًا أزيلت عن أبصارهم.
يقول شقيقه عبد الله: "لم أجد رجلاً أحرص منه على التفاصيل، هو رجل التفاصيل، وذاك لقب أطلقه عليه عدد كبير من معاصريه. حريص على أن لا يفوته شيء، أن يكون عمله متقنًا لا يخرج عن أصل التوجّه والأهداف قيد أنملة، كل سلوكه النموذجيّ كان بهذا الاتّجاه. في حجم الاهتمام والجديّة، في أيّ إنتاج معرفيّ، يريد أن يقدّم أفضل ما يمكن، يراجعه من كل الجوانب، يحاول أن لا يغفل عن شيء، مهما كان بسيطاً يريد لعمله أن يخرج كاملاً ما أمكنه ذلك.
يقول مدير التفتيش في المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم: "لشدّة دقته، وكثافة معلوماته كان يُستشار في كل أمر تأسيسيّ، يأخذون برأيه أو يطلبون منه المساعدة في الدراسة الاستراتيجيّة لهذه المشاريع. العديد من المؤسّسات والوحدات في حزب الله، عندما
256
231
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يكون لديها مشاريع كانت حريصة على أن يكون معها سماحة الشيخ مصطفى، كمستشار وشريك في الدراسة والتأسيس، لرجاحة عقله ودقّته وبعد نظره.
كنت معه في لجنة مشتركة، في مجلس اسمه مجلس التخطيط، هذا المجلس أنشئ للتخطيط لأمور تأسيسيّة لمستقبل حزب الله على الصعد الاستراتيجيّة، والحسّاسة جدًا، المسؤولون والمتولّون لهذا المجلس واللجان، يحرصون على مشاركة سماحة الشيخ.
قبل وجود سماحة الشيخ كان لدينا عجز في الميزانيّة ندوّره من عام إلى عام، ولكن مع الشيخ مصطفى وإدارته تجاوزنا العجز، ثم تعديناه إلى رصيد جيد، والتطوير كان واضحًا للعيان، يشهد له الجميع بالتطوّر السريع الذي ظهر في عهده، معتمدًا على العلوم والمعارف التي جاهد في تحصيلها".
القرآن، تلك النعمة التي لطالما تحدث عنها في كل مكان. في شغف واهتمام حمله منذ الصغر، منذ القدرة الأولى على فك الحروف، كانت حروف القرآن وكلماته هي أوّل الحروف التي عرفها، أول زرع في أرض خالية بكر، منذ بداية البداية أخرج شطأه واستوى. تحدث عن اهتمامه بالقرآن كل من عرفه قديمًا وحديثًا، تلاوة يوميّة، حفظاً وفهمًا وتفسيرًا، بحوثًا في المفاهيم، اطلاعًا وتدريسًا ومحاضرات، حثًا وتشجيعًا لكل من يعرفه. هو القرآن، كلمات العلي العظيم.
يقول مسؤول دائرة النشاطات العامة: "دروس التفسير واهتمامه بنقل المفاهيم القرآنية، كان لها الأولوية عنده، ومشروع أنوار الوحي
257
232
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
لحفظ القرآن، مشروعه المفضل، اهتمّ به اهتمامًا شديدًا، حلم كبير من أحلامه أن يرى عددًا كبيرًا من حفظة القرآن في مدارس المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، كان جريئاً في الخوض في هذا المشروع الكبير.. وأولاه اهتمامًا فائقًا في المتابعة الدقيقة، والسعي في تطويره وتعزيزه، أراده أن يكبر ويتطوّر رغم الإمكانات التي لم تكن تسمح بهذا التطوّر والتفعيل، فبذل جهودًا شخصيّة من أجل ذلك".
يقــــول الســـيد إبراهيـــم الحســــيني: "تعرفت عليــــه عـــام 2003 فـــي مدرســـة "كفر فيــــــــلا" حيث أعمـــل في الإرشــــــاد الدينـــــــــيّ، كنـــت أرى اهتمامه الشديد والواضح في الجانب الدينيّ بشكل لافت، وهو يحدّثني عن المهام المطلوبة والتطلّعات بهذا الخصوص، هو رجل شديد التديّن والاهتمام، محبًا، يهتم بالثقافة الدينية إلى حد بعيد.
أما الصلاة والقرآن فكان الاهتمام بهما في المدارس هو شغله الشاغل، والتعاميم المتكرّرة الصادرة منه من أجل إقامة صلاة الجماعة وقراءة القرآن في المدارس والحديث إلى الطلاب عنهما، يريد أن تكون سمة من سمات مدارس المهدي، يريد أن يقدّم للإمام المهدي (عجل الله فرجه) جيلاً يهتمّ بالقرآن وصلاة الجماعة كما يقول ويؤكّد.
رأيته في الحجّ في إحدى السنوات، فسارع إلى الاجتماع بي، أخذني إلى غرفته وحدّثني عن مشروع أنوار الوحي لحفظ القرآن، حتى في الحجّ ومتاعبه ومشقاته يبحث عن فرصة لمزيد من العطاء، هذا الإنسان المتدين كان عابدًا زاهدًا، يتقرّب إلى الله في كل شأنه، محبًّا لآل بيت الرسول. في جلسات العمل في المؤسّسة، إذا حان وقت الصلاة، وهو المحب لصلاة الجماعة، يرفع الجلسة ويطلب
258
233
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
مني إقامة الصلاة جماعة، هو المدير والأعلم مني، والأكبر سنًا، كنت أرفض ذلك، لكنه لم يكن ليقبل ولا بأيّ شكل إلا أن أكون أنا الإمام؛ لأن نسبي يعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو لن يتقدّمني من أجل ذلك مهما حاولت. سماحة الشيخ مصطفى هذا الرجل الشديد التديّن، هو مثال في الخلق الحسن، وفي تعاطيه الإنسانيّ مع كل العاملين معه".
لم يكتف بتحصيله العالي للعلوم الدينيّة، والتي يشهد له فيها بالمكانة العالية كبار أساتذة تلك العلوم، وهمته العالية في تحصيلها والتعمق فيها، برع أيضًا في العلوم الإداريّة والتربويّة حتى أصبح كما قال السيّد هاشم صفي الدين: "مرجعنا في العلوم التربوية". وسمعنا الكثير عن علوم أخرى له فيها معرفة وعمل إلى حد الإبداع، سعى وحاول واستطاع إلى حدّ البراعة، مشهود له بهذا الذهن العلميّ والقدرة على التحليل والاستنتاج. لكن نافذة أخرى، يستغرب المتابعون لشخصيّته انفتاحه عليها، أو أن تكون موجودة أصلاً في زحمة كل تلك الاهتمامات.
يقول الشيخ ياسر فلحة: "أدهشني اهتمام الشيخ بالأدب بشكل عام، معرفته بأصوله وتقنيات هذه الفنون، أما في الشعر فلا شك عندي في أنه شاعر، وإن لم أقرأ له شعرًا، يحفظ الكثير من الشعر، متذوّق لجمالياته، يتحدّث بحب ومعرفة عن روعة الصور الفنيّة في بعض القصائد التي لا يستطيع الالتفات إليها إلا شاعر".
يقول مشرف مادّة الفنون: "اهتمامه بالمجال الفنيّ كان لافتًا في شدّته وفي المتابعة، وكنت أستغرب هذا، ولم أكن أتوقعه من
259
234
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
رجل بكل مواصفاته وانشغالاته. أما الذي أثار اهتمامي أن أجده صاحب فنٍّ جميل وذوق رفيع، في الرسم والخطّ والتصميم، في اللون وجمال التركيب، في الإخراج والرؤية الفنية، معرفة لم تكن سطحية أو عابرة. يحب هذه الفنون، يشجع ويساهم في التطوير، ويقول بمحبة: إن الفن هو نافذة الروح على عالم جميل، ووسيلة محببة للتعبير والتواصل ونقل الفكرة.
أن أراه رسامًا وخطاطاً وصاحب فن رفيع ومعرفة كان هذا لافتًا من رجل دين أمامه كل هذه المهام والمتابعات في مجال التربية والعلوم الدينية وغيرها، وأن يكون موفّقًا في هذا أيضًا، وأنا الذي لطالما كنت متتبّعًا لدروسه الثقافيّة لدرجة أنني كتبتها وحفظتها بملفّات موجودة هي عندي إلى الآن.
سماحة الشيخ مصطفى مستمِع جيد، كما هو محاور جيد، وصاحب رأي دقيق وموضوعي. صاحب حجّة وبرهان، ولا يجد إحراجًا في أن يتعلّم منك، بصدر واسع رحب، وبطول بال. هذا الرجل الذي لم أجده إلّا مشغولاً، لم أدخل مكتبه يومًا إلا وهو غارق في أوراقه وملفاته وجهاز الحاسوب، وفوق هذا يصغي لنا بانتباه شديد، بانفتاح المهتم".
تقول مشرفة مادّة اللّغة العربيّة: "في إطار أنشطة اللغة العربيّة الدوريّة، أعددنا في نهاية أحد الأعوام المدرسيّة، عرضًا مسرحيًا، قدمنا فيه مفاهيم النحو بطريقة أردناها أن تكون محبّبة، تمثلت بشخصيّات حيّة متفاعلة على خشبة المسرح، وقد حرص سماحته على حضور العرض كاملاً، حتى أسدل الستار، على الرغم من كثرة
260
235
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
انشغالاته والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وبعد انتهاء العرض قام سماحته وسلّم علينا واحدًا واحدًا، وأخذ يهنئنا ويبارك لنا، كان تشجيعه مؤثّرًا في الجميع. وفي اليوم التالي وجدت على مكتبي كتابًا منه زاخرًا بعبارات الشكر والتشجيع المؤثّرة".
هيبته كشــــــــيخ، عالـــــــــم، أســـتاذ، وهيبتــــه كمدير عـــــام، في حزمــــه ودقّة متابعته، بدا هناك جانب آخر من شخصيّته، يصعب عادة أن يكون موجودًا في شخصية مثل شخصية سماحته، وإن وجد يصعب أن يكون متحرّكًا فاعلاً. اللين والعطف والتواضع، والاهتمام المؤثّر والمتأثّر بالجانب الإنساني، وإن وجدت الجهوزيّة لمثل هذه المشاعر، لكنها بطريقة أو بأخرى تتعارض مع تلك الشخصيّة ذات الهيبة الحازمة، وفي الحرص للحفاظ عليها، إذ لا بد من وضع حاجز وجدار، خوفًا من أن تجرح، أو يتصدّع جدار الهيبة والحزم والفاعليّـــة. وكـــأن هناك تناقـضًا في مكان ما، تُكبت تلك المشــــاعر عادة إن وجدت، تقيّد أو تقنّن في أحسن الأحوال، للحفاظ على الهيئة العامة، ومن أجل فعالية العطـــاء ضمن تلك الهيبة الضامنــــة.
والشيخ مصطفى مع نجاحه الإداري المتفوّق في عطائه، بقي الإنسان بكل مشاعره فاعلاً فيه، لم يغفله ولم يحجبه، بقي متعاطفًا ومهتمًا، خدومًا في السرّ والعلن، لم يقيّد حركة إنسانه، تركه يسير في موازاة هيبته وعطائه الإداري، كشجر مثمر على ضفتي نهر متدفّق، سار بعطائه الإنساني بلا حذر أو خوف على الهيبة والسلطة، وكأنها لا تعنيه.
261
236
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يقول نائب المدير العام ومدير الموارد البشريّة: "سماحة الشيخ مصطفى هو تمامًا الرجل المتواضع في هيبة، ذلك عنوان صادق لشخصيّته، مع الأخطاء والعيوب متميز بالحزم والمتابعة، والجدية الصارمة، هو الشديد الذي لا يهادن ولا يتهاون في سبيل الحقّ.
وفي مكان آخر هو سيّد العطف والمشاركة الإنسانيّة، يتحدّث مع الجميع كبيرًا كان أم صغيرًا، مديرًا أو حاجبًا، طالبًا أو أستاذًا، لا فرق أبدًا عنده، حتى الأطفال الصغار يتحدث معهم بطريقة فريدة وكأنه صديق في عمرهم، يسأل جميع العاملين عن أحوالهم، بل ويستقصي سرًّا عن أوضاعهم إذا ما أحسّ بمشكلة أصابتهم أو همّ ظاهر، كأن الهمّ هذا هو همّه، أو همّ لقريب ورحم، هو لا يسأل بطريقة التدخل في الشؤون، هو حذر أن يبدو كذلك، يتجنّب تمامًا التدخّل في شؤون الآخرين، لكنه إن رأى ذلك بطريقة ما، أو علم به، سعى إلى المساعدة باهتمام شديد، يحاول أن يعرف التفاصيل ليتمكن من المساعدة، وله طريقة في ذلك، يساعدك لتفتح أنت الموضوع، ينتظر لتكون مستعدّاً لذلك. وقد كانت لي أنا شخصيًّا تجربة مماثلة، وحظاً وافرًا من هذا الاهتمام الإنساني الفائق في لطفه، وفي تجربة معه لصديق عايشتها أنا عن قرب وكانت مؤثّرة، كان لذلك الصديق مشكلة امتدّت وتفاقمت، دون أن يعلم بها أحد، وشعر هو بذلك، ربما هو القلق والأسى في ملامحه جعلاه يعلم بوجود مشكلة، اعتمد طريقته تلك، ساعده لينفتح عليه برفق وتعاطف.
يشعرك أولاً أنه بالقرب منك، وبعطف أبويّ، يساعدك لتقول ولو جملة يستشف منها أنك تريد التحدّث عن مشكلتك، يحرّضك
262
237
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
بعدها لتتحدث، ويصغي بانتباه شديد، وحين يرى رغبتك في الحديث، يستطيع بوضوح وصدق تعاطفه أن يرفع عنك الخجل والتردّد، فيسأل عن التفاصيل التي تمكّنه من المساعدة. وهذا ما حدث مع صديقي، لقد تابعه في مشكلته لفترة طويلة، وذهب بعيدًا في مساعدته، بذل جهدًا ووقتًا، معنويًّا وعمليًّا وبحضوره الشخصيّ في حلّها. قام بما لا يقوم به إلا أب حنون أو أخ وفيّ. لقد أجّل موعدًا مهمًا من أجل أن يتمكّن من انجاز أمرٍ حيويّ ساهم في حلّ تلك المشكلة.
وأنا أيضًا لمست ذلك في مساعدته لي في أكثر من مكان، لم أكن أنا وصديقي وحدنا من حظي بمثل هذا الاهتمام، كان مشهورًا عنه ذلك، هو مستودع أسرار الكثيرين، هذا المستوى الرفيع من التعاطف الإنسانيّ، لا أنا ولا سواي، وجدنا مثل هذا التعاطف عند أقرب المقرّبين".
تقول مديرة الحلقة الأولى في ثانوية المهدي - الحدث: "في بداية عملي كمعلمة، في العام 2007 - 2008، تعرّضت لانتكاسة صحّيّة، في نوع من أنواع السرطان، وكنّا في بداية العام الدراسي، لم يكن الأمر سهلاً أو بسيطاً بالنسبة إليّ، كنت بحاجة إلى عمليّة وعلاج لفترة طويلة، لقد منحني شهرًا كاملاً إجازة، وأعطاني راتبي كاملاً، ولم يكتمل علاجي في شهر. فأعطاني إجازة من جديد للشهر الثاني وراتبي أيضًا، مع تشجيع ودعاء. وانقضى الشهر الثاني وامتد العلاج، واحتجت إلى شهر إضافي فطلب مني دوامًا جزئيًا، بعمل لا أبذل فيه جهدًا كبيرًا في رعاية منه، ولم يتخلّ عني.
263
238
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
وبعد أن تعافيت وعدت للعمل، دعمني نفسيًّا ومعنويًّا، دعمًا ترك عندي أثرًا فاعلاً حتى تم شفائي، أشعرني ذلك بالمسؤوليّة، وبالانتماء المخلص إلى العمل".
يقول عامل في ثانوية المهدي - الحدث: "يأتي قبل الاحتفال، يكون بيننا، ونحن نعدّ له، يشجعنا ويتابع كل الأمور، ويشكرنا على جهودنا، هو مع العامل البسيط كما هو مع المدير والمسؤول، التصرف نفسه والمعاملة ذاتها، في سلامه وابتسامته، واحترامه الشديد يشعرك كم أنت عزيز عليه، وكم أنت شخص مهم عنده!
يؤنسني أن لا أفوّت السلام عليه، أسعى للقاء به والسلام عليه ورؤية ابتسامته وترحيبه، يرفع لك يده من بعيد. ثم يتوجّه إليك ويسلّم بيده بتلك الابتسامة المؤدبة المليئة بالتواضع. وفي إحدى المرات كان مارًا على عجل، ألقيت عليه السلام فلم يردّ. استغربت ذلك وقلت لزميلي أبو حسين فنقل إليه ذلك. وإذا بسماحة الشيخ يأتي إليّ ويعتذر لي، ويقول: إنه لم يسمعني، ويطلب المسامحة لأنه كان مشغول الذهن ولم ينتبه".
ويقول عامل الاستعلامات في الإدارة العامة: "كنت موظفًا في الاستعلامات عنده، في أحد الأيام طلبني إلى مكتبه، وسألني عن وضعي، وإن كنت بحاجة إلى أي شيء، وطلب مني أن أشكو همي إليه، كأب وأخ، كنت في ذلك اليوم مهمومًا بسبب مشكلة لدي، لكنني استغربت كيف عرف سماحة الشيخ بذلك، لأكتشف أنه عند مروره بالقرب مني، وهو يتوجه إلى مكتبه قد لاحظ ذلك في وجهي، وسألني إن كان هناك ما يزعجني، وأنه على استعداد
264
239
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
لمساعدتي بما يستطيع. كما كان يهتم بالجميع بلا استثناء في تصرّف أخوّي مؤثّر، عملت معه لفترة طويلة، وفي كل ذلك الوقت كان يستقبلني في مكتبه كما يستقبل الضيوف الكبار".
كما يتحدّث مدير مكتبه عن اهتمامه بالجانب الماليّ والاجتماعيّ للعاملين وحتى للطلاب، وفي المساعدات الماليّة، إن استطاع المساعدة سرًّا سعى إلى ذلك دون معرفة أحد، يسمعون عن تلك المساعدة من الذين حصلوا عليها، وليتجنّب دفع المساعدات الماليّة بشكل مباشر، يرسلها عبر أحد ما في ظرف مقفل كما الرسالة.
معلمة في ثانوية المهدي - الحدث، وهي زوجة عامل في الإدارة العامة تقول: "أنا وزوجي نعمل في المؤسّسة، لم يكن وضعنا المادي مريحًا حين أقدمنا على الزواج، سمح لنا بالاحتفال في مسرح المؤسسة، لتخفيض التكاليف، كما دعمنا ماديًّا ومعنويًّا للزواج. ثم فاجأنا بعد الزواج في زيارة تهنئة إلى منزلنا المتواضع مع هدية قيّمة".
تقول عاملة الخدمات في الإدارة العامة: "في كل فترة عملي لم يطلب مني شيئاً مثل سائر العاملين في المؤسّسة، حتى الشاي والقهوة، أنا من كنت أبادر وأصنع له الشاي أو القهوة، لأنني أعلم أنه لن يطلبها مني لشدّة أدبه. وإن جئته بها يأخذها مني باحترام شديد، يشكرني مرارًا، وكأني أقدم له شيئاً مهمًا.
يسألني عن صحّتي وأحوالي، وساعدني مادّيًا مرات عديدة، وساهم في إرسالي إلى الحجّ. هو رجل كريم جدًا وفي الوقت نفسه لا يقبل أن نرمي شيئاً مفيدًا، من طعام وغيره. في إحدى المرات شاهد
265
240
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
أوراقًا مرميّة، فقال: إن كنت تعرفين من رماها، قولي له عن لساني أن لا يفعل ذلك مرة أخرى".
تقول الناظرة في مدرسة المهدي - الحدث: "يعرف الكثير عن العاملين معه، ويسأل دائمًا عن أحوالهم. استدعاني، وسألني لماذا لا أكمل تعليمي، علم أنني كنت قد أنهيت السنة الأولى في الماجستير وتوقفت عن المتابعة، بعد صعوبات مالية، فقدت حماسي مع الوقت، شجّعني على المتابعة واستثمار الوقت، ودفع لي مبلغًا كي يساعدني لأكمل دراستي. ثم واصل دعمه في تسهيلات مالية، وساعدني في تسهيلات لتنظيم الوقت والدوام، حتى تصبح متابعة الدراسة ممكنة، وظلّ يساعدني ويشجّعُني حتى أتممتها. حين طلبني زوجي الذي كان يعمل عنده، حضر معه لطلبتي، تلك الرعاية الأبويّة كان يشعر بها جميع العاملين معه".
وفي مثل هذا يقول مدير ثانوية المهدي - شاهد: "عندما يزور مدرستنا وعند دخوله كان يسلّم على الجميع، واحدًا واحدًا بأدب واحترام كبيرين، من الحاجب إلى المدير بالأسلوب ذاته، ويتحدّث إليهم، يسأل عن أحوالهم، إن كان لديهم مشكلة من أي نوع، يستمع إليهم بانتباه ويسأل عن التفاصيل ليؤكّد أنه يصغي ومهتم، ثم يسأل عن الطلاب، مشاكلهم، حاجاتهم وأوضاعهم. ولا يكتفي بذلك، بل يسعى للقاء عددٍ متنوّع منهم، ويتحدّث معهم بطريقة لطيفة ويسألهم عن حاجاتهم، أو مشاكلهم واعتراضاتهم واقتراحاتهم. وذلك بعد أن يزور المصلّى ويسأل عن صلاة الجماعة التي أصبحنا نقيمها بفضله.
266
241
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يشاركنا في كل شيء، بتواضع الصديق والشريك، كأنه واحد منّا وليس مديرنا العام. حتى إنه في إحد الاعتصامات التي شاركنا فيها في ساحة رياض الصلح، ذلك الاعتصام الذي كان يضم عددًا كبيرًا من الأحزاب بينها العلماني والمسيحي، نزل معنا إلى هناك وقد اصطحب معه حفيدته وهي تلبس العباءة، وقال: إن عليهم أن يعلموا أن العباءة والعمامة تهتمّ بهذه الشؤون".
لديه حب كبير لخريجي مدارس المهدي. في اللقاءات السنويّة مع المتخرّجين السابقين، يظهر ذلك الحب جليًا في حركته وملامحه، تلك اللقاءات كانت الأحبّ إليه.. تراه كيف يحدّثهم سعيدًا بهم، يسأل عن أحوالهم، وعمّا فعلوا، وماذا درسوا وما هي الاختصاصات التي اختاروها، كأنهم أبناؤه الذين أطلقهم إلى الحياة، يريد سماع أخبارهم.
إنه رئيس مجلس الإدارة، وهو المدير العام، على رأس الهرم في السلسلة الوظيفيّة، من الطبيعي والمعتاد أن يكتفي بعلاقة مع المديرين ومجلسهم، ومنهم وعبرهم يسمع ويرى ويعرف، وعبرهم يوجّه ويطوّر ويصحّح، وهذا ما كان يتبعه الشيخ مصطفى بحرص ودقّة، حتى قيل عنه إنه أشدّ المديرين حرصاً وإحاطة، لكن سماحته لم يكتفِ بذلك، لم يكتفِ بالخطوط العريضة العامة.
امتدَّ نشاطه إلى الخطوط الفرعيّة، إلى العاملين جميعهم، في الإدارة والخدمات والبريد والحراسة، مرورًا بالعدد الكبير من المعلّمين، ولم يكن هذا التواصل بسيطاً، بل كان عميقًا، لدرجة مذهلة، يعرف عنهم أكثر مما يعرفه رؤساؤهم المباشرون، ولم
267
242
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
يكن اتّصالاً عمليًّا فحسب، بل تعداه إلى اتصال شخصيّ عميق ومؤثّر، في حاجات شخصيّة لا علاقة لها بالعمل، في تواضع وعطف أبويّ لم يكن حكرًا على عدد قليل. امتد إلى حيث يستطيع، دون أن يخشى الغرق في تلك التفاصيل، يحمل خلقه وأدبه، تسبقه ابتسامته العطوف، ويبحر نحو العمق. فهو رجل التفاصيل كما يلقبه معاصروه مع أداء مثالي في كل هذا، دقة وإحاطة وتنظيم، حتى يصل به المسير إلى أبعد الخطوط وآخرها، إلى الطلبة والتلاميذ في تواصل مباشر.
تقول معلمة في ثانوية المهدي - شاهد: "كنت في لجنة التأليف التي أسّسها سماحته، ضمن لجان عديدة، وكنت في لجنة اللّغة العربيّة، وكان هو بحكمة ودراية واطّلاع يرفع قيمة العمل. كنت أستغرب سعيه للاطّلاع على كل شيء، يناقشنا في التفاصيل. يرى بوضوح ما لم نكن نراه، على سبيل المثال علّق على صور في الكتاب، بدت فيها سيارة فخمة، ومنزل يدل على مستوى معيشيّ متقدّم، فضّل عليها صور لحالات عاديّة أو متوسّطة، كي لا يتأثّر بها سلبًا فقراء الطلاب.
يهتمّ لمصالح الطلاب، ويشدّد على العناية بالضعفاء دراسيًّا، ويقول إن الإنجاز الحقيقيّ هو رفع مستوى الضعفاء. لا يحب التعطيل لغير الضرورة، وأن تقتصر العطل على المناسبات الملحّة، في محاولات عديدة للوصول إلى أكبر فائدة ممكنة للطلاب.
تعامله معنا كان راقيًا ومؤثّرًا إلى حدّ بعيد، هذا الاحترام لرأينا ومشاعرنا وحاجاتنا. أذكر مرة عندما جاء قرار نقل مديرنا من
268
243
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
مدرسة شاهد، انزعجنا كثيرًا لأننا كنّا مرتاحين في العمل معه، وسمعة مدرستنا الجيدة، كنا في أفضل حال، خفنا أن تتدهور الأمور باستبدال المدير، لم يهمل اعتراضنا، بل أكثر من ذلك، جاء إلى مدرستنا واجتمع بنا، استمع إلينا باهتمام بالغ في كل ما قلناه، وبيّن لنا أهميّة هذا التعديل وأسبابه، ولم يخرج إلا ونحن راضون مقتنعون.
كنت معلمة لابنته الصغيرة، لم أشعر طوال العام أنها ابنة المدير العام ولا هي أشعرتني بذلك، ولا حتى بإشارة صغيرة، على الرغم من متابعته لشؤونها، كان يصر أن أتعامل معه كواحد من الآباء، وأن أتعامل معها كأيّ تلميذة عاديّة. وهي كانت مثالاً لحسن الخلق وجمال التربية الإسلامية".
تقول ابنته الصغرى: "كنت طالبة عاديّة في مدارس أبي مديرها العام، بل كنت أقل من طالبة عادية، ألتزم التزامًا صارمًا بكل القوانين والأنظمة أكثر من أيّ طالبة أخرى، لا يريد أبي أن يشعر الآخرون أنني مميزة عنهم، بل كان الأمر يتعدّى ذلك، إلى درجة أنني كنت أعاني من كوني ابنة المدير العام، لأنني حتى في المشاكل الصغيرة التي يتدخّل فيها الأهل عادة لم أستطع فعل ذلك، كأن أريد أن أنتقل إلى كرسي آخر في صفي لأنني غير مرتاحة فيه، أو لأي مشكلة أخرى، كان الأهل يتدخلون في مثل هذه الحالات، وإن طلبت منه ذلك يقول لي: حلّي مشكلتك بنفسك، أنت ابنتي وكل الطلبة أولادي، فإن لم يكن هناك ضرر على غيرك ستقبل المعلّمة. بعض المعلمات وأغلب الطلبة لا يعرفون أنني ابنة المدير العام. كان يشدّد على الحضور الفاعل والاهتمام بالدروس، ويسعده أن أكون من
269
244
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
المتفوقات. وفي النقل المدرسي، كثير من الطلاب كانت الحافلة تنتظر نزولهم من منازلهم، وعند الوالد هذا خطّ أحمر، يجب أن يراكم السائق في انتظاره، وليس من واجبه انتظاركم لتنزلوا إليه. يقول دائمًا عليكم أن تنضبطوا لينضبط سواكم، في كل شيء يريدنا أن نكون قدوة للغير، يشدّد على ذلك، يقول: إن في هذا خير وراحة لكم، ودعوة للغير".
ويقول ولده: "كان عبئاً علينا كون أببنا المدير العام لمدارس المهدي، لم نكن نستفيد من هذه الميزة، بل كان العكس هو الصحيح، في الوقت الذي يكون للطالب الذي أبوه مدرسًا أو يعمل في المدرسة بعض من الامتيازات تُشعر هذا الطالب بالحصانة، لأنه يستطيع استثمار تلك الميزة، نحن لم نستطع ذلك، بل كان ما يطلب منا يفوق ما يطلب من سوانا من الطلبة العاديّين، العيون علينا كما يقال، أو هكذا كنّا نشعر، خوفًا من أن لا نحسن العمل ونزعج أبانا، أو نسيء إلى سمعته، ونحن نعلم حسب التجربة، أنه لا يقف إلى جانبنا بسهولة، إلا حين يكون الحقّ واضحًا جازمًا لا لبس فيه، والقانون يسود علينا قبل غيرنا، هكذا كنا نفهم الأمر.
مثال على ذلك: كنا نرى مرارًا طالبًا أو أكثر يأتي إلى المدرسة بالثياب العاديّة، دون أن يرتدي المريول (اللباس الموحد الخاص بالمدرسة) حين يقدم الطالب تبريرًا معقولاً يسير الأمر بشكل عاديّ، أنا لم أستطع ولا لمرة واحدة طوال كل السنوات أن أفعل ذلك.
حتى أساتذتنا فهموا هذا الوضع، وهم يعلمون طريقة والدي وأسلوبه، فكانوا يستعملونها كورقة ضغط علينا، لم يكن مثل
270
245
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
هذا الوضع مريحًا لنا، بل كنّا نعدّه مشكلة، لأنك تشعر دائمًا أنك مراقب في المدرسة، وتحذر من أيّ خطأ وإن كان صغيرًا، أو غير متعمّد. حين انتقلت إلى مدرسة شاهد كنت سعيدًا جدًا بهذا الانتقال، لأن مدرسة شاهد لم تكن وقتها ضمن مدارس المهدي (عجل الله تعالى فرجه)".
271
246
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
في منزله على ضيق وقته وقلّة تواجده، كان يتابع كل صغيرة وكبيرة فيه، يلبي حاجاته بلا تأجيل، لم تشكُ زوجته ولا عياله نقصاً في شيء ضروريّ، صحيح أنهم ما عاشوا في سعة من الرزق يومًا، لكنهم في سعة من اهتمامه، صحيح أن تواجده في منزله اتّسم في ساحة الوقت بالقليل، لكنه اتّسم بالكثرة في ساحة العطاء الفاعل، قد يحضر الآباء طويلاً، لكنهم بالعطاء الفاعل لا يحضرون إلا قليلاً، أما هو فعلى الرغم من قلّة حضوره، كان استثماره لهذا الحضور مميزًا، مشبعًا بالعطاء الأبوي كقدوة ومشاعر. ننقل بعضًا من ذاكرة أبنائه، ونقتبس من حديثهم ما يكمل تلك الصورة.
من حديث لولده الأصغر: "جميعنا يشعر بالهيبة لكلّ ما له علاقة بوالدي، تلك الهيبة لمكانه وأغراضه لم يكن مصدرها طلب منه، إنما هو أسلوبه الذي فرضه. كان يهتم بأغراضه، لا يتلفها ولا يرميها مهما كان هذا الغرض، أذكر مبراة كنت أراها عنده، ما كنا نتجرّأ على العبث بأغراضه أو مسّها، وعندما كبرنا قليلاً وأصبحنا أكثر وعيًا سمح لنا باستعمال بعض الأغراض، ومنها تلك المبراة الكبيرة التي تثبَّت على حافة الطاولة، أيام قليلة بعد استعمالنا لها أصابها الخراب. حين علم بذلك أمسكها آسفًا وقال لنا: هذه المبراة بقيت عندي 35 سنة. بقيت كما هي منذ اشتريتها.
عندما كنا في إيران، كان يتواجد معنا في يوم الجمعة، ومرة في كل عام يأخذنا إلى مشهد، وهو أطول تواجد له معنا طوال العام. ومن أجل تلك الرحلة يهيئ لها برنامجًا، كل نشاط كان يعدّ له والدي جدولاً واضحًا ومكتوبًا، حتى المناسبات العباديّة لها برنامجها،
275
247
الفصل الخامس: القطاف والسعي العميق
والزيارات الأسبوعيّة، كل شيء له برنامج مكتوب بالساعات.. كل شيء عند والدي واضح ومدروس.. كثير ما أتذكر تلك المناسبات وحضوره فيها.. كإحياء ليلة القدر، فهو يقوم بهذه المناسبات الدينية ويحييها في المنزل لنكون معًا. ربما لحرصه على أن نحييها نحن، يفضّل إحياءها في المنزل من أجلنا.
عندما يكون موجودًا أشعر بالأمان. هذا الشعور بالأمان كان جليًّا واضحًا مريحًا في وجوده. كسرت يدي يومًا في الصباح الباكر، كان منظرها وهي مكسورة غريبًا ومخيفًا، وكان أبي على وشك الخروج من المنزل، عندما رأيته ارتحت واختفى جزعي. كأن المشكلة حلّت فور رؤيته. شعور الأمان بوجوده كان فائقًا.. نتيجة معرفتي المسبقة أنه يعرف ما يفعل، ثقته كاملة نابعة بالطبع من تجارب عديدة. ربط يدي على مهل إلى صدري، ثم ربطها إلى رقبتي وطلب مني عدم تحريكها.. عندما تنظر إليه هادئاً واثقًا دون أي انفعال، يتسرّب ذلك إليك ليس كتوتر أميّ أو أيّ أحد آخر. كنت مجروحًا في ذقني، نظّف الجرح وعقّمه وضمّده وذهب بي إلى المستشفى. وبدا عطفه ظاهرًا.. أشعر في مثل هذه المواقع بحنانه وعطفه، يقربني منه، يبتسم لي. وأرى اهتمامًا يخفق قلبي لمحبته، وأنسى ما بي. أراه يتابع كل الامور من أجلي بدقّة، أرى اهتمامه والأبوّة، وهو يسأل الأطباء ويتابع كل صغيرة وكبيرة.. وعندما يمرض أيّ أحد أو يحتاجه أيّ أحد، يحوّل سلبيات ومصاعب حياتنا إلى إيجابيات تنعكس بشكل واضح على عطائه.
التغيّب عن المدرسة ممنوع، سنوات كاملة بلا غياب. حتى في حال المرض، إن أمكن أرسلنا مع الأدوية طالما نستطيع السير.. يأخذنا إلى الطبيب ومنه إلى المدرسة.
276
248
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ما كان ليضغط في اختيار الاختصاص ما بين العلميّ والأدبي والرياضّيات والاقتصاد، كان يقترح عليّ الرياضيات ولكنه لم يلزمني به. وفي الجامعة اخترت خلاف التخصّص الذي اقترحه. كان يعرض اقتراحه ووجهة نظره ولم يلزمنا بها قط، كما لم يكن في المدرسة يتابعنا دراسيًّا أو يضع لنا أستاذًا أو يدرسنا. يقول: إن هذا الأمر يجب أن نعتمد فيه على أنفسنا، إنما يريد نتائج جيدة في النهاية.
يهمّه تمامًا أن نستثمر وقتنا وخاصّة في الصيف، كنا نعمل فيه كما نرغب، ونحن في التاسعة من العمر، مضافًا إلى النشاطات الكشفيّة.. ما إن تأتي العطلة الصيفيّة حتى يسألنا: "ماذا تريدون أن تفعلوا؟". أعد لنا برنامجًا لحفظ القرآن.. كنا نشارك في مباريات لحفظه وكنا من المتفوقين. يهتم بقراءتنا للقرآن ويسألنا عنه دائمًا، يحرضنا على التلاوة والحفظ، بأساليب متعددة وحوافز، وكذلك مع الصلاة، ومن قبل أن نبلغ سن التكليف بمسافة، في الحديث عنها وعن الأداء في أول الوقت وأهميّته، وكنا نراه كيف يستعد لها قبل الوقت، وينتظرها انتظار المشتاق، يحدثنا عن حضور القلب، والخشوع في الوقوف بين يدي الله. وأذكر مرة نادانا فردًا فردًا، وطلب منا الاجتماع إليه، وقد بدا على وجهه ملامح الجديّة والانزعاج، شعرنا بأهمية الأمر، وانتظرنا بتوتر ونحن نفكر في الذي شغل الوالد وأزعجه، انتظر حتى اكتمل النصاب، وبدأ حديثه عن الأدب، وأنه شاهد بعضنا أحيانًا يدخل إلى الصلاة في عجل بلا استعداد، يدخل مباشرة، كمن يقتحم بيتًا دُعي إليه ليكون ضيفًا، ألا يستعدّ قليلاً ألا يطرق الباب، لو دعاكم مدير المدرسة ماذا تفعلون؟ إن لم يكن الأذان فعلى الأقل الإقامة قبل الدخول
277
249
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
إلى الصلاة. أشعرنا بأهميّة هذا الأمر بطريقته، وبقي حديثه ذاك واضحًا لا يمكن نسيانه.
في سنّ المراهقة كنت متمرّدًا إلى حدّ ما، كثيرًا ما أخرُج من المنزل، صحيح أني لا أتعدّى الخطوط الحمر كالمبيت خارج المنزل، لكني أتعدّى الخطوط البرتقالية في كثرة الخروج مع أصدقائي، يسألني عنهم، ويطلب أسماءهم، وحتى أسماء آبائهم ونوع عملهم ربما ليستقصي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، في زمن كان خروجي كثيرًا وأصدقائي هم شغلي الشاغل.. كان يطلب مني تصحيح الوضع ولكن باللّهجة البرتقاليّة دون الحمراء. ولكنني لم أستجب لطلبه. جاءني يومًا وطلب لائحة بأسماء أصدقائي. ومن عادة والدي الكتمان لم أعرف لماذا أرادها، طلب لائحة كاملة بأسماء أصدقائي المقربين الذين أخرج معهم. قلت: لماذا؟ لم يقل سوى جملة: أريد أن أعرف... ولكننا ما اعتدنا أن نماطل أو نكذب. كنت أستطيع الرفض، لكنني لن أستطيع الكذب، ولم أجد ضيرًا، هم أصدقائي ولن أخجل بهم، فكتبت أسماء الذين أخرج معهم عادة.. كانت القائمة من 20 اسمًا، كنت كثير العلاقات، قلت في نفسي إنه يريد الاستقصاء عنهم وأشفقت عليه لكثرتهم، أخذ مني القائمة ولم يعلّق.
وفي اليوم الثاني قال لي: إنه يدعوني مع رفاقي إلى رحلة ترفيهية في يوم عطلة إلى مسبح فيه ملاعب ومطعم. في بعلبك في رياق أنت وأصدقاؤك كلهم، نستأجر سيارة، باصاً صغيرًا، والباقي يذهب معي بسيارتي.
وهناك كان لطيفًا جدًا تركنا وقتًا، وجالسنا وقتًا. كان لطيفًا في جلوسه معنا وفي تركنا على راحتنا. فرحنا في ذلك اليوم كثيرًا،
278
250
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
واستمتع أصدقائي بحديثه والجلوس معه. وفي مجالسته لنا خلال فطور الصباح، ثم الغداء والمسبح، أحبه الأصدقاء وأحبوا حديثه. وحتى مواعظه كانت في سياق لطيف مشوق، حتى إنهم حين يأتي ويجلس جانبًا ليتركنا على راحتنا كانوا هم من يذهبون إليه. عند الفطور سمع صديقي يقول همسًا: ناقصها عسل هذه المائدة، فقام أبي وسأل عن عسل وجاء به. وقال: أنت تأمر حتى لو طلبت لبن العصفور.
في وقت صلاة الظهر صلّى بنا جماعة، وتحدّث بعدها بما يشبه المحاضرة لفترة قصيرة لم تصل إلى العشرين دقيقة عن القرآن، وتربية النفس والاهتمام بالدراسة، أنس بها أصدقائي وترك فيهم أثرًا جميلاً. وبعد الظهر وقبل آخر النهار قال: إنه سيذهب إلى بيروت وإننا أحرار في وقتنا، الباص سيعيدنا متى شئنا. بعضهم أراد العودة وذهب معه في سيارته. أما أنا وأغلب أصدقائي فبقينا نسبح ونلعب.
جمعنا من بعضنا مالاً لنشتري الشاي وبعض السكاكر، جمعنا ما أردنا وقمنا لندفع، قال صاحب المتجر: طلب الشيخ أن أضيف إلى حسابه كل ما تطلبونه.. أراد أبي من تلك الرحلة أن يتعرف على أصدقائي عن قرب، ولكن الأثر الجميل لتلك الرحلة بقي عند أصدقائي ماثلاً إلى الآن.
عندما أنهيت المرحلة الثانوية قال لي بعد نجاحي: إنني يجب أن أعمل وأُكمل دراستي... ابتداء من الآن عليك أن تكون منتجًا.. قلت له: ساعدني في إيجاد عمل أو وظيفة وأنت لك الكثير من المعارف. رفض مساعدتي وقال: اعتمد على نفسك.. بحثت كثيرًا حتى تعبت،
279
251
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
فأعدت الطلب منه، قال: أكمل بحثك ستجد، لا بد أن يوصلك سعيك، لا تيأس. وفعلاً وجدت عملا بعد ذلك، سألني إن كنت قادرًا على أن أدفع مصاريف جامعتي من عملي، قلت: إن راتبي هو 200 دولار وهو غير كافٍ.. سألني كم أستطيع أن أدفع منه؟ وقال: ادفع أنت جزءاً وأنا أدفع جزءاً. سعيت جاهدًا أن آخذ منه أقلّ مبلغ ممكن، وأنا أعرف وضعه المادي. قللت من المواد في الجامعة كي تقل الدفعات.. وحين علم بذلك جلس يصارحني، إنه يعتبر التعليم مهمًا جدًا، حتى لو ضغطنا على أنفسنا، اسعَ في العمل واستثمار الوقت، وأنا سأساعدك أكثر، ولكن لا تقلّل المواد.
لكل واحد منا احتفظ لنا بأشياء تخصّه كعلامات الامتحانات، وأوراقٍ لم تعد لها غير القيمة المعنوية كذكرى، كالسجل الطبي.. رأيت ورقة كتبها الشيخ مالك وهبي، ورقة صغيرة يوم ولادتي، بيتان من الشعر يؤرّخ فيهما ولادتي.. طلبتها من أبي.. فقام بنسخها.. كي لا يعطيني الأصلية.. لا يضيع عنده شيءٌ أبدًا.. يحتفظ به بترتيب فائق.. يقول عني أصدقائي في عملي إنني منظّم، لكنني إن قارنت نفسي به أشعر أنني في قمّة الفوضى".
النظام عنده مقدّس، كل الأنظمة، الخاصة منها والعامة، ذلك معلوم بوضوح للكثير من معاصريه، لكنه أشد وضوحًا في الدائرة الأصغر عند عائلته، التزامه بكل القوانين بلا استثناء، الأوراق الرسمية، دفع الضرائب بلا تأخير ولو ليوم واحد، وإن أمكن قبل استحقاقها، لا يتخلّف عن تسجيل السيارة ودفع رسومها السنوية يومًا واحدًا، وهو يعلم أن لا أحد سيسأله عن ذلك، الماء، الكهرباء، حماية الأملاك العامة، وأمور مماثلة عديدة.
280
252
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يقول أحد أبنائه: "كنت في التاسعة أو العاشرة من العمر، في ذلك الصيف الحار، وكانت الكهرباء مقطوعة، جلسنا على الشرفة من أجل بعض من البرودة، كان أبي يقرأ في كتاب، وأنا أقف بالقرب منه، بجانب السور وفي يدي قطعة من السكاكر، وضعتها في فمي، ورميت غلافها الورقي الذي لا يتجاوز نصف الإصبع إلى خارج الشرفة، فقال لي: انظر إلى الورقة، وتأكّد أين ستسقط، فتابعتها بنظري وهي تتأرجح في الهواء وتسقط على الرصيف قرب إحدى السيارات، فسألني: هل رأيت أين سقطت؟.. اذهب إذًا وآتني بها، كان هذا أمرًا مزعجًا بالنسبة إليّ، فالكهرباء مقطوعة، ونحن نسكن على ارتفاع خمسة طوابق، وفي صوته وملامحه كان الحسم واضحًا في رفض التأجيل أو المماطلة، نزلت على السلالم وأحضرتها، ثم بدأت أصعد الدرجات التي لا تنتهي لطولها في ذلك الحرّ الشديد، وما إن وصلت إليه لاهثًا أتصبّب عرقًا، حتى طلب مني رميها في سلّة المهملات.. أنا إلى الآن لا أستطيع وبشكل لا إرادي أن أرمي ورقة مهما كانت صغيرة في غير سلّة المهملات".
وتحدث الأبناء عن رفضه القاطع لأيّ نوع من مظاهر البذخ والترف، رفضًا حاسمًا، بل كان يبتعد عن ذلك مسافات من الاحتياط، في السكن، في الملبس والمأكل، يرفض أن يكون له سائق أو مرافق، ولم يكتفِ برفض اقتناء سيارة فارهة أو لافتة، بل كان يسعى دائمًا لشراء سيارة عادية أو أقلّ من عادية، سيارة يقتنيها عموم الناس، لقد تعطّلت سيارته يومًا، فجاء صديق له ليوصله إلى مكان عمله، وكانت سيارة هذا الصديق فارهة رباعية الدفع، رفض الركوب فيها لفخامتها، وفضل أن يركب سيارة أجرة.
281
253
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يقول أحد أبنائه: "كنت في التاسعة أو العاشرة من العمر، في ذلك الصيف الحار، وكانت الكهرباء مقطوعة، جلسنا على الشرفة من أجل بعض من البرودة، كان أبي يقرأ في كتاب، وأنا أقف بالقرب منه، بجانب السور وفي يدي قطعة من السكاكر، وضعتها في فمي، ورميت غلافها الورقي الذي لا يتجاوز نصف الإصبع إلى خارج الشرفة، فقال لي: انظر إلى الورقة، وتأكّد أين ستسقط، فتابعتها بنظري وهي تتأرجح في الهواء وتسقط على الرصيف قرب إحدى السيارات، فسألني: هل رأيت أين سقطت؟.. اذهب إذًا وآتني بها، كان هذا أمرًا مزعجًا بالنسبة إليّ، فالكهرباء مقطوعة، ونحن نسكن على ارتفاع خمسة طوابق، وفي صوته وملامحه كان الحسم واضحًا في رفض التأجيل أو المماطلة، نزلت على السلالم وأحضرتها، ثم بدأت أصعد الدرجات التي لا تنتهي لطولها في ذلك الحرّ الشديد، وما إن وصلت إليه لاهثًا أتصبّب عرقًا، حتى طلب مني رميها في سلّة المهملات.. أنا إلى الآن لا أستطيع وبشكل لا إرادي أن أرمي ورقة مهما كانت صغيرة في غير سلّة المهملات".
وتحدث الأبناء عن رفضه القاطع لأيّ نوع من مظاهر البذخ والترف، رفضًا حاسمًا، بل كان يبتعد عن ذلك مسافات من الاحتياط، في السكن، في الملبس والمأكل، يرفض أن يكون له سائق أو مرافق، ولم يكتفِ برفض اقتناء سيارة فارهة أو لافتة، بل كان يسعى دائمًا لشراء سيارة عادية أو أقلّ من عادية، سيارة يقتنيها عموم الناس، لقد تعطّلت سيارته يومًا، فجاء صديق له ليوصله إلى مكان عمله، وكانت سيارة هذا الصديق فارهة رباعية الدفع، رفض الركوب فيها لفخامتها، وفضل أن يركب سيارة أجرة.
281
254
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ومن المواقف الحاسمة أيضًا، أنّه كان يمقت الغيبة والنميمة، يرفض أن تُخاض أمامه وإن بكلمة، يشمُّ رائحتها من المقدّمات قبل الدخول إليها، لا يُحرج أبدًا من الوقوف في وجه المتحدّث، كائنًا من يكون، وقبل أن يبدأ، وإن كان المستغاب شخصاً لا يُحبُّه. ويواجه الخطأ في الأفكار والتصرّف دون مداراة أو مهادنة.
حازمًا في مواقف كهذه، حزمًا لا يعرف اللين ولا المداراة ولا تدوير الزوايا.. غريب أمرك يا سيدي.. أو هو ليس بالغريب، بل نحن الذين لم نعتد على مثله، إذ كيف تكون بهذه الصلابة والحزم، وفي مكان آخر تكون أرقّ من النسيم؟!
يقول أحد الأبناء: "في وقت ما من مراهقتي تعمّدت أن لا أراه، أعود إلى المنزل متأخّرًا لأجده نائمًا، وأتأخّر في الصباح ولا أقوم إلا بعد ذهابه إلى عمله. تجنبًا للقائه، تجنبًا للحديث معه عن أمور لا يراها مناسبة أو لأخطاء ارتكبتها، فوجدت رسالة تحت وسادتي يسألني فيها عن أحوالي، فأجبت برسالة أخرى وواصلت تجنبي له.. اتصل بي في اليوم التالي، وطلب أن نلتقي، فأحرجت ووافقت.
ذهبت معه إلى الجنوب، تكلّم، وتركني أتكلّم عمّا يجول في ذهني، لم يعاتبني على أخطائي وهروبي منه، تركني أسترسل في الحديث، وأشعرني بأنه يصغي إليّ بانتباه، وذلك عندما يستوضح الغامض، أو يطلب الإعادة، ما يجعلني أعلم بأنه يصغي تمامًا ويهتم، وأبدى تعاطفه وتفهمه، تحدثنا عن العلاقة مع الله، والصلاة في وقتها والقرآن وأثرهما، حديثًا ما عدت أذكر تفاصيله، لكني أتذكّر تمامًا الأثر البليغ الذي تركه في نفسي. وتحدّث عن نفسه، عن خياراته،
282
255
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
وعن الصعوبات التي تواجهه، حديث الند للند، حديث الصديق لصديقه، لقد أعادني إليه وإلى نفسي بكل راحة العودة وصفائها.
كنا نتوجّه إلى دير قانون، لزيارة الجد وزوجته، وبالطبع لزيارة الجدة والدة أبي، والتي كان يرعاها رعاية تفوق الوصف، لم ينقطع عن زيارتهم إلا بدواعي السفر، لا يمّر أسبوع دون لقائهم، رغم انشغاله، حين سألته عن حال جدي، ولماذا يذهب إليه الآن، حدّثني أن جدي في حاجة إليه في هذا العمر، وأنه كثيرًا ما يتّصل به في وسط الأسبوع عندما يصيبه الملل، فيأتي إليه ويأخذه في جولة إلى أي مكان يريده، ويحدثه ليروّح عنه، ثم يعيده إلى منزله، ويعود بعدها إلى بيروت، يقول: إنه أحيانًا لا يعرف ماذا يريد. طلب منه مرة أن يأخذه إلى بيروت، وما إن شارفا على الوصول حتى طلب منه العودة إلى القرية، يقول هذا ضاحكًا!، كأب يضحك لمشاغبات ولده.
كنا نشعر بحنانه الزائد عند اللّزوم، في المرات النادرة التي كانت تغيب فيها الوالدة وتتركنا في رعايته، وفي إحدى المرات، والتي وما زال أثرها في وجداني حاضرًا كانت في أيام حرب نيسان، حين بقيت معه بمفردي، اهتمامه بأكلي ولبسي ونومي، وسؤاله المتكرر عن حالي، وماذا أُريد، هذا الحنان الفائض كان مزدحمًا في قلبه، لم يكن بحاجة إلى اظهاره في وجود حنان الوالدة واهتمامها، ينصرف عنه إلى اهتمامات أخرى، لأن هناك من يغطي هذه الحاجة بجدارةٍ يثقُ بها، ولأنه لم يكن يمارس هذا الدور كانت مبالغته واضحة، كنت أضحك لكثرة ما يسألني ويكرّر، هل أنت جائع؟ بردان؟ هل تريد شيئاً؟ الوالدة تعرف ذلك دون أن تسأل. في أيام الحرب تلك،
283
256
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
مع أصوات الانفجارات يقربني منه، ويستغل وقته في القراءة، فأنام في حضنه وهو يقرأ. وكذلك كان يفعل في كل المرّات التي لا تكون فيها الوالدة. تلك المشاهد من العطف الرقيق لا يمكن نسيانها، ربما هي لا تُنسى بسبب المبالغة في محاولاته اللّطيفة للقيام بدور الأم على أكمل وجه يستطيعه. تلك العواطف التي كانت تظهر من خلف هيبته وجديّته كانت جميلة جدًا، ومؤثّرة".
ومن حديث ابنته الصغرى نقتبس ما يلي: "تعلّمنا منه أن لا نولي الأمر المادي اهتمامًا، لقد نشأنا على ذلك واعتدنا عليه، قضينا سنوات طويلة بين العُسر واليُسر، لم نكن نشعر بصعوبة الأمر، لأننا كنا نراها في عين والدي وأسلوبه، تعلمنا من خلال أدائه أنّ كل ما نمرّ فيه هو خير لنا، تعلّمنا من اطمئنانه وابتسامته أمام الصعوبات أن نرضى ونطمئن، نراه باسمًا يحمد الله، ونحن نعلم أن البيت بلا مال لأيام عدة، نأكل وإياه من حواضره، نعرف أن في ذلك حكمة يعلّمُها ربُّنا الرحيم الذي يرعانا بعينه التي لا تنام، يردّد مثل هذا الكلام مبتسمًا، فإن ذهبت كل صديقاتي وطلاب صفي في رحلة مدرسية ولم تسمح إمكاناتنا بذلك، يقول لي: لست الوحيدة التي لا تستطيع، إنّ الله يحبُّ الفقراء الصابرين، ألا تريدين أن تكوني مِمّن يحبّهم الله؟
في حالات اليسر يعلّمنا التواضع والابتعاد عن الهدر والإسراف، أن نلبس ونأكل كما أبسط الناس، أن لا نُميّز أنفسنا عنهم، النظافة والترتيب، والأناقة نجدها عنده بأقلّ الإمكانات، نرى احترامه الواضح ومحبّته للفقراء.
284
257
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يعلّمنا احترام الوقت واستثماره في المعرفة منذ كنّا صغارًا، في الصيف مثلاً، حين تغلق المدارس أبوابها ويتّسع الوقت، وقبل حلوله يسألنا ماذا ستفعلون في هذا الصيف؟
أشهر الصيف في السنوات الأولى انتسبنا أنا وابنة شقيقتي إلى دورة صيفية في معاهد دينية، وما تلاها دخلنا دورة لأبناء المجاهدين، تعلمنا فيها الاستعداد للدفاع عن النفس والمواجهة في زمن الحرب.
وفي الصيف التالي، سمعنا بدورة الجنود الثقافيّة الطويلة، قدّمنا طلبًا للانتساب إليها، لكن طلبنا رُفض لأننا دون السِّنّ المطلوب، كنّا في الثالثة عشرة من العمر والسّن المسموح به لهذه الدورة هو الخامسة عشرة، قيل لنا: لو أنّ الفارق عام واحد لكان الأمر أسهل، طلبنا من الوالد أن يتدخّل لدى المعنيين فرفض كعادته التدخل، لكنه أشار علينا أن نعود إليهم، ونقترح عليهم أن يختبروننا في امتحان، ونتيجة الامتحان هي التي تُقرّر، عملنا بنصيحته وطلبنا منهم ذلك فوافقوا على هذا الاقتراح، وبعد الامتحانات تمّ قبولنا على الفور. كنّا أصغر طالبتين في كل الدورة وتخرجنا منها بتفوق.
وفي العطلة الصيفيّة التي تلت، تقدمنا إلى دورة ثقافيّة أرفع، هي دورة الممهدون. أُجّلت الدورة في ذلك الصيف لأن العدد لم يكتمل، كنت في همٍّ وغمٍّ وقتها، جلست حائرة، بماذا سأستثمر وقت هذا الصيف، فاقترح عليّ أن أتطوّع للعمل في برنامج تُقيمه حديثًا مدارس الإمام المهدي، فوافقت فورًا، لم يتدّخل كعادته، فذهبت بمفردي، بعد الامتحان والمقابلة التي جرت بشكل جيّد، قال لي
285
258
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
المدير: إنّ الطلاب صغارٌ ومشاكسون، وتعليمهم يحتاج إلى الكثير من الصبر والتعب، وأنت صغيرة السن، هل أنت متأكدة من أنك تريدين التطوّع؟ قلت، بعنادٍ وإصرار: نعم، خوفًا من خسارة هذه الفرصة والذهاب إلى صيف خالٍ من الفائدة والاستثمار، فلا بُدّ هنا أن أفيد وأستفيد، وهكذا كان.
كانت تجربة فريدة، اعتمدت فيها على المعلومات التي كنت أخذتها من جمعية القرآن الكريم، واتبعت المنهاج المعتمد، في شرح المفردات والتفسير، ومبادئ التجويد. كان أبي يوصلني، وهو يذهب في طريقه إلى العمل، وأعود في الحافلة مع التلاميذ. كنت في حماسٍ شديد، فأبي طوال الوقت يُشجّعني، يذكّرني أنّني بهذا أجمع رصيدًا مهمًا من الثواب الذي سأحتاج إليه في آخرتي. كنت في البداية مساعدة، ولم يمض وقت طويل حتى تسلّمت صفّاً بمفردي. كانت تجربتي التطوّعيّة في برنامج أنوار الوحي رائعة بكل معنى الكلمة، لي وللتلاميذ الذين علّمتهم، فهم حتى الآن يذكرونني بالخير كلما التقيتهم، وقد أصبحوا كبارًا.
منذ بداية وعيي، وأنا أرى بوضوح معاملة والديَّ المختلفة لنا، نحن البنات. كنت أنا وشقيقتي وابنتها، حفيدته التي كانت تحظى برعايةٍ مضاعفة في كمّيّة الحب والدلال، وتفوقنا جميعًا فيه. فقد فتح لهذه اليتيمة قلبه كما لم يفتحه لأحد. سعيدات كنّا، يشعرنا بالثقة العالية بالنفس، ونشعر بالأمان والطمأنينة، ونحن نحظى بتلك العناية الخاصّة من اهتمامه ورعايته، واحترامه لخصوصيتنا، يُميّزنا بشكلٍ واضح، حنانًا ورعايةً، يتمنّى معها إخوتي الذكور لو كانوا بناتًا كما كانوا يقولون.
286
259
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
في خضم هذا الاهتمام كان يدفعنا إلى مستوى أعلى من التّحصيل العلميّ والثقافيّ، يُصرّ على أن أكمل تحصيلي العلميّ، وكنت أرى سعادته بوضوحٍ عند حصولي على درجات التفوّق، تلك السعادة الواضحة، وردّ فعله وفرحه بتفوّقنا تدفعنا لتقديم المزيد.
تلك الخصوصيّة للمرأة في أداء والدي وفِكره، كنت أراها من أوّل وعيي على الدنيا، في تعامله معنا، نحن الأربعة، إذا أضفنا والدتي إلى الصورة تزداد وضوحًا، أرى علاقتهما الجميلة والمؤثّرة منذ سنوات نشأتي الأولى.
لم نسمع عن أيّ خلاف بين أبوينا، ولا حتى خلاف صغير عابر، لم أرَ غير الاحترام والمودّة بينهما. هل كانا يختلفان سرًّا؟ أم كانت المودّة والرحمة تحكم علاقتهما على الدوام؟ وأنا أُرجّح الأمر الثاني، لأن ذلك بدا واضحًا في كل الأوقات، اهتمام والدتي به، ابتسامته وتدليله لها عند خروجه إلى عمله، وعند اللقاء. لا يتغيّر ذلك ولا تشوبه شائبة، يظهر في أدائه عبر أمثلة عديدة، فهو لا يطلب منها شيئاً أبدًا، لا يُظهر اهتمامًا أبدًا بمسألة الطعام، يأكل ما هو موجود دائمًا، لم أسمعه يومًا يقول: اطبخي كذا أو أريد كذا، يقول: الأهون عليك.. الأسهل.. المتوفّر. إن تأخّر الوقت، وتناولنا شيئاً بعد نوم أمي، يقف لينظّف الصحون كي تجدَ أُمّي المطبخ نظيفًا في الصباح.
والدتي لا تطلب منّا العمل في تنظيف المنزل، هي من تقوم وحدها بكل شيء، هو من يطلب أن لا نُتعبها، أن نبادر نحن إلى مساعدتها، خفّفوا عن أُمّكم، رتّبوا غرفكم، ملابسكم. كان يُعينها في المطبخ كلما تواجد في المنزل ورآها متعبة، يعينها في تجهيزنا للذهاب إلى المدرسة.
287
260
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
لم يكن يوم العطلة هو يوم راحته أبدًا، بل هو يومٌ حافل عند والدي، يستشير والدتي في إعداد برنامج لهذا اليوم. هو يوم مخصّص لصلة الأرحام، والمناسبات الاجتماعيّة، ويتخلّله غالبًا إنجاز مهمّة للعمل. لكنّه يوم مميزٌ بالنسبة إليّ، فهو لقاء مع أبي ليوم كامل، في أغلب ساعات النهار أو كلها، كنّا نذهب معه حتى إن كان ذاهبًا لإنجاز مهمّة للعمل، كزيارة المنشآت التابعة للمؤسّسة، والاطلاع على سير العمل. وإن صودف أن مرّ ذلك اليوم بلا مناسبات أو عمل، وتقرّر البقاء في المنزل، يقول لوالدتي: أنا اليوم في خدمتك.. سأعمل عندك، يقوم بأي شيءٍ بحاجة إلى إصلاح أو ترتيب... يساعدها في تنظيف المنزل وترتيبه، وأبي يصلح كل شيء بنفسه: كهرباء، صحيَة، نجارة. وعنده عدّة صناعية يعتني بها، كنت أحبّ أن أراه في ثياب المنزل طوال النهار، حيث يكون فيه لطيفًا، وهو يحدّثنا أو يجيب عن الأسئلة، ويسألنا عن شؤوننا. وفي الوقت نفسه تعمل يداه على إصلاح عطل أو إتمام حاجة. وكلما انتهى من مهمّة سأل أمي: ماذا بعد؟
والدتي تبادله هذا الاهتمام على الدوام، تهتمّ به اهتمامًا جميلاً، وتحضّر المنزل لقدومه. كنا إذا أردنا منه شيئاً أقنعنا الوالدة، لنضمن بنسبة عالية موافقة الوالد. وهي لا تطلب إلا نادرًا، وإن طلبت يجد والدي صعوبة بالغة في ردّ طلبها.
في السنوات القليلة الماضية، تضاعف اهتمامه بوالدتي، كانت علاقتهما تزداد اقترابًا ومودّة، كان يحاول أن لا يفارقها ما استطاع، حتى في رحلات العمل إن أمكن أخذها معه، يبحث عما يؤنسها
288
261
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ويرضيها، هو في قلق دائم على راحتها وصحّتها، ويطالبنا بمزيد من الاهتمام بها. علاقتهما مؤثّرة، جميلة جدًا، ومميَّزة، هما قدوة في العلاقات الزوجيّة.
رأينا من خلال أبي كيف يكون المؤمن أبًا وزوجًا، ليست معرفة نظريّة فحسب، بل ذهب بنا إلى ما هو أعمق وأكثر تأثيرًا، اكتسبنا منه كلا الجانبين: النظريّ والتطبيقيّ، رأينا جمال الإسلام فيه، وتعلّقنا بشخصيّة الرجل المؤمن من خلاله.
حين أصبحت في سنّ الزواج، حدّثني أبي طويلاً عن الاختيار، واستمع إليَّ وعرف قناعاتي، حديثه كان كحديث الأصدقاء، يقدِّم خلاله الموعظة كنصائح واقتراحات، حديث عن اختيار الرجل المؤمن الذي يأخذ بيدي إلى ما هو أقرب لله، رجل يعينني على أمر ديني، وأن لا قيمة للشكل والمال، الجمال في حسن الخلق أبقى وأدوم، والإيمان ثروة لا تقدَّر بمال، السعادة يأتي بها الإيمان وحسن الخلق، يقول: الرجل المؤمن إن أحبّك أكرمك، وإن أبغضك لا يظلمك. وأنا التي رأيت قيمة الرجل المؤمن من خلال أداء والدي، قبل حديثه، أصبحت أرى أهميّة كون الرجل مؤمنًا بوضوح. ترك لي الخيار في كل شيء حتى في المهر، لكنَّني طلبت مهر الزهراء كما فعلت أخواتي.
يهمّه كثيرًا أن نعتمد على أنفسنا، ومن أجل ذلك لا يتدخَّل، بل يعتمد على نصيحة أو على كلام غير مباشر، يريدنا أن لا نتحدّث عن مشاكلنا طالما استطعنا حلَّها، وأن لا نشكو لمجرد الشكوى، يحدّثنا عن أهميّة التعاون، وعن المسامحة، واللّيونة، وجدوى
289
262
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
التضحية. فحاولنا أن نعتمد مسارًا في الحياة الزوجيّة نستثمر فيه تجربتنا مع والدي.
لطالما كان حنان أبي فعلاً وليس قولاً مجرّدًا، وفي ذاكرتي تزدحم صور جميلة من حنانه العمليّ، في السنوات الأخيرة، وبعد ولادة ابنتي مريم، كنت كلما نمت في بيت أهلي أستيقظ ليلاً لأرى والدي يحمل صغيرتي في جوف الليل، يحاول تهدئتها ويساعدها على النوم، يحدّثها حديثًا حلوًا، وهي في أشهرها الأولى، ويقرأ لها سورًا من القرآن حتى تغفو، ويضعها في سريرها بحذر، يحاول في كل هذا أن لا أستيقظ، وكي أكسب مزيدًا من ساعات النوم. وحين علم أنّني سأحاول تأجيل الامتحانات الجامعيَّة بسبب ابنتي، اهتم هو بالأمر، يقوم هو بإيصالي إلى الجامعة ويرجعني منها، ويتناوب هو ووالدتي على مساعدتي في أمر ابنتي طوال فترة الامتحانات".
يقول زوج ابنته: "مميزات هذا الأب الكبير كثيرة وفريدة، قدوتي هو ومثلي الأعلى. لقد أحسن تربية ابنته إلى حدٍّ بعيد. تجربتي الشخصيّة معه، منذ خطوبتي لابنته كانت غريبة ومميزة، أوّل تلك التجارب كانت في سؤاله عني عندما تقدّمت لخطبتها، علمت أنّها كانت محصورة في أمر تديّني، وإن كنت أعمل بجدٍ وإخلاص، وما خلا ذلك لم يكن له أهميّة عنده، لم يسأل عمّا أملك ولم يتطرّق بسؤالٍ عن وضعي المادّي على الإطلاق، حتى في المهر والتجهيز. لقد رفض الحديث عن ذلك بشكلٍ قاطع، يقطع الحديث حين يتّجه بهذا الاتجاه، ليس فقط أنّه لم يطلب ولم يتطرّق لهذا، بل كان يرفض الخوض فيه، يقول بعد الإلحاح من قبلنا، سَل خطيبتك، وهي
290
263
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
على تربيته، كما والدها كانت، وفي المهر أصرّت على مهر الزهراء، وحين أصررنا على زيادة، طلبت حجّاً إلى بيت الله عند الاستطاعة، أنا وأهلي لم نعتد على مثل هذا، لكنّه أصرّ بشكلٍ غريب على الاكتفاء بما قالته ابنته، أغلق الأمر المادّي على هذا بتعمدٍ وإصرار، وحسم الأمر بقوله: إن كنتم تستطيعون أكثر من هذا فإنّ غيركم لا يستطيع، كونوا قدوة وسُنّة حسنة يوفقّكم الله لما يُحب ويرضى.
في أغلب حديثه معي بعد الزواج أنّه كان يريد أن يعتمد عليّ ويطمئنّ أنّني سأساعد ابنته في أمور دينها، وإنشاء أسرة كلّ همّها رضا الله، من خلال هذا الفهم تندرج باقي الأمور، هذا هو عمي الشيخ مصطفى باختصار".
لقد أشاح الشيخ مصطفى ببصره عن كل ما يتعلّق بالمال، ولا سيما في أمر الزواج، تحدّث عن هذا صهره فضيلة الشيخ علي الأشقر أيضًا، وكذلك أصدقاؤه ومن شارك في زواجهم، وعند زواج أبنائه كان يقول بأدب وموضوعيّة: إنه لا يحبّ المهر المرتفع، وإنّه يفضّل المهر القليل، لا بخلاً ولا تصغيرًا، وإنّ من شؤم المرأة غلاء مهرها، وبساطة المهر هو سنّة حسنة يريد أن يشارك فيها، ويقول: إنّه حين يعقد قران الغرباء يتحدّث عن هذه الرغبة، وينصح بها، وإنّه أولى أن يكون هكذا مع أولاده، يفضّل مهر الزهراء بركة وأسوة، وإن أضاف فحجّة إلى بيت الله الحرام عند الاستطاعة.
تقول حفيدته: "أستطيع القول إنني لم أرَ في حياتي فتاة حظيت باهتمام أبيها ورعايته كما حظيت أنا باهتمام ورعاية جدّي، أشبعني حنانًا ورعاية إلى حدّ الارتواء، كنت مدلّلة جدي التي تحظى
291
264
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
بكل شيءٍ يستطيعه، وفوق ما كان يميّز به باقي الأبناء، فكل شيء لهم كان لي مثله، وكان لي أيضًا ما ليس لهم.
كنت أرى هذا الاهتمام في كل شيء، وما إن كبرت قليلاً حتى بدأت أشعر باهتمامه بتكوين شخصيتي، في تعليمي، في تربيتي، ومساعدتي في بناء شخصيّة مستقلّة.
أذكر أنّني في صغري كان يُحدّثني حديث الندّ للندّ، لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة من العمر حين كانت العائلة تجتمع للحديث عن خطوبة خالي مهدي، ويدور نقاش حول بعض الخيارات وتُطرح آراء واقتراحات، التفت إليّ وقال: وأنت يا جدو ما رأيك؟ فخجلت ولم أُجب، لكنّه أصرّ حتى سمع رأيي وقبله. كان يسألني ويستشيرني في الكثير من القضايا، يريد مني أن أكوّن رأيًا في الأثاث، في اللون، في الشكل، وفي ما هو أعمق، وفي المضمون وفي الفكر. في سنوات دراستي الأولى كان يسألني عن رأيي في المناهج المدرسيّة. وفي كل ذلك يستمع إليَ بجديّة واهتمام ويناقشني في طريقة أشعر معها بأهميّتي.
هو مدرسةٌ في الاهتمام بالآخرين، وبصلة الأرحام، ليس الأرحام فقط، بل أرحام الأرحام، كنا نزور معه دائرة واسعة منهم، فلا يكتفي فقط بالزيارة بل يرعى الكبير منهم، على سبيل المثال: اهتمامه بزوجة أبيه. حيث كان لها أكثر من ولدٍ بار، وتضاعف اهتمامه بها بعد وفاة جدي، أذكر جيدًا حين كسرت قدمها، جاء بها إلى منزله، أسكنها معنا فترة طويلة، اجتمع بنا عند مجيئها وقال لنا: إن علينا أن نجد طريقة تشعر معها أننا أبناؤها، إلى درجة لا تكون فيها حذرة أو تخجل من أن تطلب، وكنا نرى كم هو ابن بار وحنون أمامها، وهي
292
265
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
زوجة أبيه. ودود، ووصول ومهتمّ بكل أرحامه. فكيف يكون معنا؟.. عظيمًا في كل شيء، لقد أعطاني أجمل ما في الأب والجد والصديق".
تقول كبرى بناته: "ما أذكره من سنوات طفولتي الأولى، إلى جانب عنايته وحنانه، هو احترامه لطفولتي، عنايته بمشاعري وبما أريد، يسألني عن رأييّ الشخصيّ، ويوسع من مساحة اعتمادي على نفسي، وعندما أستضيف صديقةً لي، يُبدي اهتمامًا بالغًا بها من أجلي. كنت أرى الفارق واضحًا فيما بينه وبين سواه من الآباء، من خلال صديقاتي. إضافة إلى تربيته الدينيّة، والحفظ المبكّر لسورٍ من القرآن، والصلاة والاعتياد على الحجاب الجيّد قبل التكليف.
وأكثر ذكرياتي وضوحًا كانت في إيران، أذكر كيف أنّ حالتنا الماديّة تراجعت عما كنّا عليه في السابق، وضعنا والدنا في صورة ذلك التراجع الواضح في مستوى المعيشة، فهو طالب علوم، وأننا سنؤجر معه، باعتيادنا على حياة تقتصر على اللّازم والضروريّ.
سكنّا في بيتٍ صغير جدًا، في البداية كانت لنا غرفة واحدة، عندما كان يسكن معنا جدّي وعائلته، في جوٍّ مضغوط غاية في الصعوبة، وبعد انتقال جدّي إلى سكنٍ آخر، تحسّن الأمر قليلاً، على الرغم من أنّ المنزل كان أصغر المنازل التي سكنّاها، وكانت بنيته التحتية في غاية السوء، بناؤه وأبوابه وحماماته، وكان المطبخ أكثرها سوءً.
كان والدي راضيًا قانعًا بالمكان رغم ضيقه، فهو يفي بالغرض، ولكنّه لم يكن يرضى بالأعطال، قام بإصلاح كل شيء بالتدريج، يعمل فيه كل يوم بعد عودته إلى المنزل، في وقت راحته أصلح كل شيء بنفسه، دون الاستعانة بعامل، كنت أساعده أنا ووالدتي
293
266
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
قليلاً، أصلح الكهرباء وقساطل المياه وصنابيرها، بل صنع مطبخًا جديدًا أعاد بناءه. هو ماهرٌ في كل هذا وبأقل تكلفة ممكنة، أصلح الأبواب ودهن كامل البيت من جديد، . فأصبح المنزل أفضل بكثير من السابق، بدون كلفة ماديّة، غير الثمن القليل الذي صرفه على الموادّ الأوليّة.
حين قدمنا إلى إيران كنت في المرحلة المتوسطة، ولم يكن هناك سوى المدارس الفارسيّة، ولم يكن هناك خيار آخر، رفضت الانتساب إلى تلك المدارس. ولكن والدي ما كان ليرضى ببقائي دون تعلّم، فأدخلني إلى حوزة لطلب العلوم الدينيّة، والتي بقيت فيها إلى ما بعد زواجي، كان خلالها يساعدني في المواد، ويحثني على المزيد من التحصيل العلمي.
حياتنا مع الوالد كانت حافلة بالدروس والمعرفة، دروس نظريّة ودروس عمليّة، كان مدرسة لنا في كل أدائه، ولا سيما عند زواجي، ولأن زوجي طالب علم حدّثني أبي منذ البداية، عند الخطوبة وقبل الزواج أن لا أُرهق زوجي بطلبات أستطيع العيش دونها، وأن لا أثقل عليه في شراء الملابس أو الذهب، لأن هذا قد يُرتّب عليه ديونًا لا ضرورة لها.
كمدخلٍ للحياة الزوجيّة، حدثّني طويلاً، حديثًا كان غاية في الأهمية لما تركه من أثرٍ في أدائي كزوجة، تخفيض سقف التوقّعات إلى الحدّ الأدنى كان مركز حديثه ذلك، ويدور حوله أمثلة وتفاصيل، وأنّ عليّ أن أعلم مُسبقًا وأضع نفسي في واقع الحد الأدنى من متطلّبات الحياة الضروريّة، ترك الكماليّات إلى ما هو عمليّ
294
267
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
وحاجة، وكيف تكون المرأة عونًا في إدارتها لمصروف المنزل، وأن من الممكن بمدخول بسيط مع إدارة جيدة أن يعيش المرء حياة مقبولة حسنة، بالتواضع ومنع الهدر والإسراف، وكيف أنني أستطيع أن أصنع بنفسي كثيرًا مما أحتاج إليه، قبل اللجوء إلى ما هو جاهز في السوق، مع الذوق وحسن الترتيب يمكنني تجميل البيت وحياتي بأقلّ تكلفة، وأن أجعل كل شيء لائقًا وجميلاً بالاعتماد على نفسي وذوقي، حديثه هذا جعل حياتي أكثر سهولة ويسرًا ورضًا، أنا التي كنت قد رأيت ذلك في منزلنا قبل أن أباشره بنفسي.
ثم رأيت منه بعد ذلك أبوّة مضاعفة في تعامله مع أولادي، في اهتمامه ومتابعته لهم في كل شؤونهم، هو الأحب إليهم والأقرب إلى قلوبهم من كل الناس. هذا الحب والاهتمام كان تأثيره الإيجابي واضحًا في حياتهم ونجاحاتهم".
تقول ابنتها: "حبنا لجدّنا الشيخ لم يكن يماثله حُبّ، أذكر مرة في صغري طلبت منه فاكهة في غير موسمها، تأخّر جدّي كثيرًا في العودة ذلك اليوم، علمت بعدها أنه ذهب إلى أماكن بعيدة، ولم يعد حتى وجد بعضًا من حبات تلك الفاكهة. وفي صغري سألني قبل ذهابه إلى الحجّ عن الهديّة التي أريدها، فطلبت ثوبًا أحمر بمواصفات خاصّة، أحضره لي عند عودته، قال لي خالي الذي ذهب معه: إن كل الهدايا بمجموعها قد أخذ التفتيش عنها وقتًا أقلّ من هذا الثوب، لقد كلّفه هذا الثوب الكثير من الجهد والتعب. هذا مضافًا إلى حديثه اللّطيف والمؤثّر".
295
268
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يقول حفيده: "يتابعني جدّي إلى درجة أنه يطّلع على نتائج إمتحاناتي الفصليّة عبر الإنترنت قبلي، يشجّعني ويمتدحني على الجيّد منها، ويحرّضني على المزيد من الجهد فيما هو أقلّ. أحببت أحاديثه بشغف، وتأثّرت كثيرًا بما كان يقول، ولا سيما في العبادة والسلوك. وأثر آخر لا يمكن نسيانه، عندما كان لدي ما يسمّى "وسواس بالطهارة"، أردت التخلص منه ولم أستطع، على الرغم من حديث أهلي ومحاولاتي، بل تطوّر حتى بات كالعبء الثقيل. وحده جدّي استطاع بأسلوبه وبعنايته اللّطيفة، وخلال جلسات عدة بصبر وتمهّل، أن يأخذني جانبًا، في رحلة طويلة في السيّارة، لقد جعلني أفهم الطهارة، وروح العبادة والطاعة لله، بأسلوب دخل فيه إلى صميم قناعاتي، فوجدت نفسي دون أن أشعر، مطمئنًا متخليًّا عن كل ما كنت فيه من وساوس. وكذلك في مجمل سلوكي كان لجدّي الأثر البليغ".
يقول أكبر أبنائه: "أمور عديدة في أداء والدي تركت أثرًا بالغًا في حياتنا، أسّست لبناء شخصيّتنا، نشأنا عليها وألفناها، ممارسةً وتطبيقًا، وتثبّتت حتى باتت تسري في حياتنا كالدم في العروق، واحدة منها: هي تعاطي والدي مع المال ومتاع الدنيا.
الإسراف، التبذير، الترف، تلك المفردات كانت حاضرة بقوّة في مجمل حياتنا، كأنّ محاربتها هي سلَّم أولوياته، يبتعد عنها أو عن أيّ شبهة فيها كمن يبتعد عن نار تشتعل.
وقبل الوعي، وفي كل ما كنت أسمعه عن حياة أبويّ، أنهما عاشا حياة بسيطة، ينتقلان باستمرار من منزل إلى آخر؛ لأن المنازل
296
269
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
مستأجرة، منازل صغيرة في أكثر الأحياء شعبيّة، وفي شظف عيش يصل إلى الحرمان والعوز في كثير من الأحيان، في صبر وشكر بلا شكوى. على الرغم من أن والدي عمل باكرًا بنشاط وهمّة عالية، وتعب مستمرٍّ بلا توقّفٍ، وبعدما أصبحت أكثر وعيًا رأيت ذلك وعشت فيه، كنت أرى جمال الصبر على ضيق الحال، وتصحب الصبر ابتسامة رضا. كنت أرى ذلك رغم صغر سني، نشأنا على ذلك واعتدنا عليه، فحالات العوز تمرّ مرور الكرام مع ابتسامة أبي ورضاه.
أذكر مرة كنا في لبنان، وقد مرّ وقت طويل في حالٍ من العسر، وأبي شيخ له سمعة ومكانة، لكنه لا يطلب المال إلا من ربِّه الغني ذي الرحمة، كما كان يردد دائمًا، حتى نفد كل ما في البيت من طعام، استبشر وفرح حين وجد مبلغًا صغيرًا جدًا من العملة السورية مهملاً بين أوراقه، أرسلني إلى الصراف وطلب مني أن أدخل وأحوّل المبلغ إلى العملة اللبنانية، لأن المبلغ كان أقلّ من أن يبدّل، ولأنني صغير كان ذلك مقبولاً، وبقي هذا المبلغ من أجل الخبز فقط لعدة أيام حتى جاء الفرج دون شكوى أو طلب.
تلك هي طريقة والدي، وإن جاءه مال أخذ منه حاجته، وسعى بالباقي إلى من به حاجة، مبتعدًا ما استطاع عن الترف، إلى الحدّ الذي تشعر معه بالمبالغة، أو الحرص الشديد. بعض من أثاث المنزل كان قد أشتراه وهو في العراق، جلبه معه إلى لبنان، ثم أخذه معه إلى إيران، استعمله كل هذه السنين ونقله من منزل إلى منزل، رمّمه بنفسه، لكثرة ما أكل عليه الدهر وشرب، حتى ولو كان قادرًا على شراء جديد، يبقيه طالما كان يفي بالغرض.
297
270
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
هو في بساطة من العيش دائمًا وفي كل حال، يحب التواضع في كل شيء، وإن أمكنه غير ذلك، مهما ارتفع شأنه وزاد مدخوله، متواضع في اللباس والأثاث والمنزل والسيارة، وأستطيع أن أقول بثقة، وعن معرفة طويلة بحياته، إن والدي يحبّ بساطة العيش بقدر كرهه للإسراف ومظاهر الترف والأبهة والبذخ، لا بل يحبّ الانتماء إلى بسطاء الناس، يريد أن يكون منهم، معهم وبقربهم، كنت أرى ذلك من شدّة احترامه لهم، وأنسه بهم، فإن الله يحبهم كما كان يقول، يريد أن يكون قريبًا منهم، عساه يحظى ببعض من حب الله لهم. لقد زرع فينا هذا الحب وحرّضنا عليه. كما زرع فينا أمرًا آخر، وحرَّضنا عليه من طريقة تعامله معنا، أمر اكتشفنا أهميّته حين كبرنا، وهو إصراره على أن نعتمد على أنفسنا، إصرارًا دؤوبا متكرّرًا، امتدّ من سنوات الطفولة الأولى، فكان يقول لأمي: دعيه يلبس بنفسه، يأكل، ينظف، يرتّب، يحرّض أمي التي يعرف حنانها أن تدعنا وشأننا، دعيه يعتمد على نفسه. إن سقطنا تركنا نقوم. وحين كبرنا قليلاً، في السوق، وفي المدرسة، وفي قضاء حاجات المنزل: اذهب وحدك. حتى حسبناه قسوة، أو إهمالاً، أو لا مبالاة، لنعلم بعد ذلك أنه كان يراقبنا بطرف خفي، يتدخّل عند اللّزوم والضرورة. وحين كبرنا أكثر كان يعتمد على هذا الذي صنعه فينا، في الصيف نعمل أو نشترك في دورة ما، وهو بعد ذلك في سعيه لصناعة الثقة والاعتماد على النفس يحاول أن لا يتدّخل في توجّهاتنا وخياراتنا الأساسيّة.
عند قدومنا من إيران، وقد كنت فيها أدرس في مدرسة إيرانية، ألحّ عليَ أن أتابع دراستي في مدارس لبنان، وتركني أحاول زمنًا، فلم
298
271
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
أتمكن بسبب الفارق في المناهج ومستوى اللّغة الأجنبيّة. ساعدني في حلّ هذه المشكلة، وأخذني بنفسه للتعلم في مدارس إيرانيّة في سوريا.
انخرطت في العمل الإسلامي باكرًا فلم يعترض، انشغلت تمامًا بالعمل، حتى أصبح حضوري في المنزل نادرًا وقليلاً، لم أكن أنام في المنزل إلا نادرًا، أصبحت خارج المنزل كالمستقلّ.
ربما كان يتابعني في عملي، لكنني لم أشعر بذلك، أو ربما لأنه كان مطمئنًا ومرتاحًا لوضعي، وراضيًا عن اتّجاهي هذا، لكنه بقي يسألني عن دراستي ويحرّضني على متابعتها دون الإرغام، عبر النصيحة والحديث عن أهميتها وضرورتها، يسألني عن ذلك مرارًا.
لم أكن متحمّسًا للعودة إلى الدرس، لكن أحاديثه وذلك التحريض دفعاني إلى إنهاء دراستي والالتحاق بالجامعة، فرأيت ابتسامته وحاولت المتابعة من أجله، مع الاستمرار في العمل، لكن الرغبة في التفرّغ للعمل، وحماس من طيش الشباب، جعلاني أترك الجامعة، فلم يمنعني ولم يقمع رغبتي. تركت الجامعة مدة ثلاث سنوات، لكنّه بقي خلالها يشجّعني، ويحرّضني بحديث هنا وهناك، على أهمية المتابعة، حتى عدت إليها وأتممت دراستي وحصلت على الإجازة.
عند زواجي لم يتدخل في الاختيار، اكتفى بنصائح وإرشادات، وتشجيع، وحين اخترت زوجتي كان معي داعمًا ومؤيدًا، شعرت بأبوّته جلية واضحة.
299
272
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
كنت بحاجة إلى منزل، فكرت في شراء شقّة بالتقسيط المريح، وكان لا بدّ من تأمين ثلث ثمنها نقدًا، وأبي لا يملك من هذا المبلغ شيئاً، فكّرت في أرض تملكها والدتي. وأصرّ هو أن يكون خارج هذا الموضوع تمامًا، هو لا يريد أن يشجّع والدتي على بيع أرضها، ولا أن يمنعها من ذلك.
وبعد أن باعت والدتي الأرض من أجلي، ساعدني في كل شيء، كان معي في الاختيار والشراء خطوة خطوة، من تاجر إلى آخر، إلى معارف وأصدقاء. كان يعلم حاجتي إليه في أمر مهم كهذا، ذوقه وحسن تقييمه للموقع، وإرشاداته، حاجات السكن وتفاصيل لم أكن أعرف عنها شيئًا، تفاصيل ما كنت ألتفت إليها لولاه، أيقنت وقتها أن لا وجود لرجل يحيط بكل هذه التفاصيل سواه، يقدم لي كل تلك الخبرة ويترك لي الخيار بالموافقة أو الرفض، يأخذني من مكان إلى مكان، حتى رضيت بخيار رأيته معقولاً. تلك كانت تجربة جميلة، إذ رأيت والدي بكل أبوّته واهتمامه، بخبرته وذوقه الرفيع، بالجهود المضنية التي بذلها على الرغم من انشغاله وضيق وقته، باحترامه لذوقي وإرادتي.
لقد تعامل مع اخوتي جميعًا بهذا العطاء المستور، في الماضي القريب، وبعد زواجي بفترة، كبر فيها أشقائي الثلاثة، واقتربوا من سنّ الزواج، فاتّجه تفكيره إلى تأمين سكن لهم، صحيح أنّ أشقائي يعتمدون على أنفسهم، فقد أمّنوا وظائف يعتاشون منها، لكن لا بد من شراء شقق لهم مهما كانت صغيرة، أو رخيصة بسبب موقعها، وإن كان بالتقسيط المريح، إلا أنهم كانوا بحاجة إلى دفعة أولى،
300
273
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ولم يكن ذلك متوفّرًا، لا عندهم ولا عند الوالد، توصّل إلى حلٍّ لم يكن منصفًا له أبدًا، وهو أن يبيع شقّته التي يسكن فيها، والتي هي في وسط الضاحية، ويشتري بدلاً منها شقّة صغيرة في أطراف الضاحية، والفارق الكبير في السعر إن لجهة الموقع أو لحجم الشقّة سيوفّر له المبلغ المطلوب لتأمين الدفعة الأولى لثلاث شقق بالقرب منه.
قام بتنفيذ هذا الحلّ على الرغم من اعتراض الجميع، ومنهم إخوتي. استعظمنا هذه التضحية، فالكل يعلم أهميّة تواجد والدي في وسط الضاحية، كما أن حجم الشقة المقترحة صغير عليه، وفي منطقة بعيدة عن حركته، لكنه أصرّ على ذلك، وقال إن تلك الشقّة تفي بالغرض، ونفَّذ ما أراد، سعيدًا بتزويج أبنائه الواحد تلو الآخر، رغم إمكاناته المحدودة.
وأمر ثالث كان فيه قدوة لا مثيل لها، وهو العمل. فمنذ بداية وعيي، وأنا أراه يعمل بجهد وكد، طالما هو مستيقظ كان يعمل، يعمل كمن تكدست عليه الأعمال وان لم يكن كذلك، يبحث عن أي شيء يقوم به، لا يترك عملاً حتى ينهيه على أكمل وجه. ولا أبالغ إن قلت: إنّه حتى عندما ينتهي منه على تلك الصورة، لا يتركه قبل أن يراجعه وينظر إليه نظرة شاملة أخيرة".
301
274
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
معاملته لأبنائه لم تكن وحدها المثال، مثال آخر أيضًا يسترعي الاهتمام في تميّزه، إنّها العلاقة مع زوجات أبنائه. له رؤية خاصة في هذه العلاقة، نظر إليها من زاوية قليلاً ما يراها غيره، أو هي نادرة ومحجوبة، تلك الزاوية التي ينظر منها إلى زوجات أبنائه، زاوية حكمت تعاطيه معهن من خلالها، فهو يرى أن من طبع البنات التعلّق بآبائهنّ، لحاجتهنّ إلى العطف والرعاية والاهتمام، والشعور بالأمان، وهو يخشى عند انتقالهن إلى بيت الزوج أن يشعرن بفراغ في هذا المكان من وجدانهن الرقيق، فراغ مفاجئ يحتجن إلى المزيد من الوقت لتقبّله والاعتياد عليه، فكان في كل تعاطيه مع زوجات أبنائه محكومًا بتلك الزاوية من الرؤية، تراه يعاملهن كما يعامل بناته، كل زوجات أبنائه بلا استثناء تحدّثن عن تلك المعاملة الأبويّة الصافية، كأنّه أراد بذلك أن يتابع تلك الصورة الأبويّة، يتابع ذلك الجزء الحميم من العلاقة الإنسانية، لقد عوضهنّ بأجمل صفات في الأب، بعد أن سحب السلطة من مظلة أبوّته، أبقى على العطف والاهتمام والحماية.
تقول إحدى زوجات أبنائه: "عمّي الشيخ كان قريبي قبل زواجي من ابنه، لكنّ معرفتي به كانت من بعيد، وكان هناك حاجز من هيبة، فهو الشيخ الجليل المعروف، له هيبة وسمعة جليلة، لكنّني لم أتخيّل أبدًا هذه المعاملة الجميلة، لقد انكسر سريعًا هذا الحاجز من الرهبة، بعاطفته العائليّة، وتعامله اللّطيف، واهتمامه بي، ومراعاته لمشاعري، في عطف حقيقيّ ما كنت أتوقّعه، هو أبٌ بكل ما تحمله الأبـــوة من معنى، بل هو أكثـــر من أب، في هـــذا الاحتـــــرام
303
275
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
والتقدير الذي يعاملني به، لقد نأى جانبًا عن سلطة الأب في أوامره ونواهيه".
يسأل عن أحوالهنّ، حاجاتهنّ وما يرغبن فيه، يشجعهنّ على الانفتاح عليه، يزورهنّ في منازلهنّ، يمتدح صناعتهنّ، وما يخترنه من الأثاث والترتيب، وإن رأى عطلاً قام بإصلاحه بنفسه، فيما هو يحدّث الزوجة بكل تلك الألفة والمحبّة التي اعتدنها منه، يطرق الباب ويقول: أشمّ رائحة طعام شهي، هو الذي لا يهتمّ بأمر الطعام، وهذا معروف عنه، يأكل ما هو موجود دون أن يطلب نوعًا محدّدًا، بلا اعتراض يأكل الموجود، وإن كان مطهوًّا في أيام سبقت، لكنّه يمتدح طعامهنّ ليشعرهنّ بالمزيد من الثقة والسعادة.
وتقول أخرى: "كنّا مطمئنين واثقين من أنّه إلى جانبنا نحن زوجات أبنائه، وأنّنا نستطيع أن نشكو إليه وأن نطلب منه، تعامله معنا يشجّعنا على ذلك، نشعر بالأمان في وجوده، كما تشعر الابنة بوجود أبيها، بل هو لنا في هذا أكثر ممّا هو لبناته، فهو لم يفرض علينا أمرًا، ولم يبدِ ملاحظة، حتى في توجيهاته ونصائحه، لم يوجه لنا كلامًا مباشرًا، نحن من كنا نحبّ أن نستشيره ونسمع رأيه، نحبّ الجلوس معه والاستماع إلى أحاديثه، يحدّثنا كثيرًا وفي كل شيء، يتعمّد تسليتنا وتثقيفنا، في حديث ممتع منوّع، كنت أعجب من هذا الاطّلاع الواسع، كنت أقول: إن عمّي يعرف كل شيء، عجيب هو حجم المعلومات المتنوّعة وهي تزدحم في ذهنه، في الصحّة، في الاكتشافات، في الصناعة: ممّ يصنع هذا وذاك، وكيف، وقصص ذات مغزى وحكايات، وعن السلوك والأخلاق، والثقافة الدينيّة،
304
276
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
حديث بعيد تمام البعد عن الملل والحشو والمباشرة. ليتني أستطيع جمع تلك الأحاديث في كتاب، لكان من أكثر الكتب رواجًا وإقبالاً. هذا الأنس في حديثه الغني بالفائدة والتعليم، هو الجزء الأصغر إذا ما قورن بسلوكه وأدائه، ففيهما التأثير مضاعفًا".
اتفقن على صورة واحدة شاهدنها فيه: خلوقًا، بشوشاً، هادئاً خفيض الصوت، لم يسمعنه يختلف مع أحد أو يغضب، وتحدّثن بتأثّر كبير عن الترابط الأسريّ الذي يشدّد عليه قولاً وعملاً في علاقته بأبنائه، وتحدّثن مطولاً عن العلاقة الجميلة القائمة على المودّة والاحترام بينه وبين زوجته، فقالت إحداهن: "تلك وحدها مدرسة في العلاقات الزوجيّة".
تضيف إحداهن قائلة: "لقد منّ الله عليّ وأن أكون بصحبة عمّي وزوجته في زيارة العتبات المقدّسة في العراق، وعدت منها بصوَر لا تُنسى، كان خلالها عمّي فذّاً وفريدًا. ألا يقولون أن في السفر يظهر المرء على حقيقته، في صورته الأصليّة بلا أقنعة؟ وعمّي بلا سفر مثال الصدق والوضوح، مثال في الجمال الإنساني، لم يزده السفر إلا وضوحًا، ولا سيما في علاقته مع زوجته. الفارق في السفر هو الوقت الطويل الذي قضيناه معًا، رأيت عن قرب وبشكل متواصل، جمال تلك العلاقة، واهتمام عمّي بزوجته ورعايته لها بحنان فائض خوفًا عليها من السفر ومتاعبه، يتابعها ويرعاها كأنها ابنته، اهتمامه بطعامها، هل أكلت جيدًا؟.. ينتقي لها.. هي تحب هذا. يخاف عليها من التعب، يسألها أن لا تمشي كثيرًا، يجلب لها كرسيًّا كلما شعر أنّها وقفت طويلاً.. ويطلب منّا الاهتمام بها، في خوف عليها،
305
277
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
على صحّتها، وخوف من أن لا تأكل، وخوف أن لا تكون مرتاحة. كثيرًا ما كان يقول لها: كما تشائين، وهي التي لا تشاء إلا ما يشاء هو. كلما سألته كانت أجوبته غالبًا: الأمر الذي يجعلك مرتاحة.. الأسهل عليك.
واهتمامه بي أنا زوجة ابنه كان أكبر بأضعاف من اهتمامه بابنه، ولمن رافقنا بتلك الزيارة نصيبٌ وافرٌ من هذا الاهتمام والرعاية، ولا سيّما كبار السنّ، والبسطاء من الناس، له قدرة عجيبة في التعاطي معهم، كأنّه واحد منهم، في الحديث البسيط الممتع، كل بحسبه، جعلهم يتنافسون على صحبته".
تحدّثن عن أسلوبه الفريد، إن سألنه أحاط بالموضوع من كل جوانبه، يُصغينَ بلا ملل ويرغبنَ لو يطيل الحديث. تحدّثن عن الأسلوب البسيط، في جعل الأمور المعقّدة سهلة واضحة، تركز في الذهن عبر الأمثلة والقصص.
وما يذكرنه جيدًا أحاديثه المتكررة لهنّ عن تربية الصغار من الســــنوات الأولى على ذكـــــــر الإمـــــــام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، يحرضهنّ على أن يزرعن في الصغار من السنوات الاولى ثقافة الانتظار الإيجابي، أن يذكرنه في كل سانحة، يعززن وجوده في أذهان الصغار من خلال الحديث عنه، عن الإمام الغائب الحاضر، هذا يغضبه، وهذا يرضيه ويؤنسه، أن يعشقه الصغار وينتظروا قدومه بشوق.
وكثيرًا ما كان يصحبهنّ في الزيارات العائليّة وفي أيّام العطل، ولا بدّ في أيّام العطل من أن يفسح في بعض من وقتها للعمل، يكون أغلبها
306
278
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
استطلاعات على منشآت المؤسّسة، أو لقاءات عمليّة، يصحبهنّ إليها ما استطاع، يسأل عن رأيهنّ، يشجّعهنّ على إظهار ما لديهنّ من ذوق ومعرفة، يشكرهنّ على ما يفعلن، ويعتذر إن بدا له أنّه قصّر أو أتعبهنّ.
يقول شقيقه الحاج عبد الله قصير: "حجم اهتمامه بالعلاقات الاجتماعية كان كبيرًا. ومقارنة هذا الاهتمام البالغ مع وقت سماحته الضيقّ، يجعلك تقف متسائلاً كيف يستطيع مشاركة أقربائه وأصدقائه والعاملين معه، والتواصل معهم دون انقطاع في الأفراح والأتراح، وفي المرض والنجاح، مشاركة لا بدَّ منها، وإن عزّ عليه الوقت ولم يُسعفه، فبالاتّصال هاتفيًّا.
حريصٌ على أن يذهب إلى الحج كل عام، وحين يأتي يسأل عمّن ذهب إلى الحج، من الأقرباء والأصدقاء والجيران لزيارته، ويسأل في المؤسّسة عمّن ذهب من العاملين معه، يسجّل الأسماء. ومن لم يتمكن من زيارته يتّصل به عبر الهاتف.
أما صلة الرحم بمعناها الواسع، فهو حريصٌ عليها أشدّ الحرص. عند عودته من إيران قال لي: نحن بحاجة إلى أن نلتقي بشكل متواصل كعائلة، عددنا الكبير يدفع بعضًا منا إلى الانقطاع لزمن، بسبب الأشغال وكبر العائلة وصعوبة زيارتهم جميعًا، كان يريد معاجلة هذا الانقطاع الذي يزداد مع الوقت، فاقترحت عليه أن يحدّد يومًا في الأسبوع، فوافق وتبنّى هذا الاقتراح، وجعله يوم الخميس، وجعل له ما يشبه النظام، في مداورة بين منازل الإخوة والأخوات، لتحقيق أكثر من هدف، الجميع فيه يزور الجميع توفيرًا
307
279
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
للوقت والجهد. وفي هذا الجو العائليّ الحميم وما يضفيه دعاء كميل من روحانيّة، نسمع بعد الدعاء أخبار بعضنا البعض نساعد في حل مشاكلنا، والمساعدة في قضاء بعض الحوائج. وفيها الموعظة لتحسين الأداء، وكان يطلب منا جلب أولادنا ليتعرّفوا على بعضهم كي يكونوا أصدقاء بعد غيابنا. كان يستغلّ تلك اللقاءات للتثقيف. كل أصدقائنا يعلمون سلفًا أننا ليلة الجمعة مشغولون في لقاء عائلي".
يحدّثنا أحد أشقائه عن مشكلة واجهها مع أحد أبنائه، شكّلت همًّا كبيرًا وأسىً دائمًا، مشكلة ظنّها عصيّة مغلقة عن الحلول، وهي أن ابنه في سنيّ مراهقته بدأ يشكّك في كل شيء، حتى في أصل العقائد، ولم يستطع إقناعه، لم يوفّر وسيلة أو أسلوبًا إلا ولجأ إليه، وفي كل النقاشات والحوارات التي استمرّت طويلاً، لم يقتنع ولم ترضه الإجابات في كل حواراتنا، فقال له: اذهب إلى عمّك الشيخ واسأله. وبعد لقائه بعمّه بدأ التغيّر واضحًا، ولم يمض زمن طويل حتى تحوّل التغيّر إلى انقلاب، في قناعاته واعتدال سلوكه، وحدّث أباه الذي أذهله هذا الانقلاب، تحدّث عن تأثّره الكبير بحديث عمّه الشيخ، عن وضوح الصورة، عن أسلوب عمّه وصدره الرحب، وعن التفهّم الذي أبداه، في مواجهة كل تلك الأسئلة، في استيعابه وتفهّم كل هواجسه، وكيف استطاع الانفتاح على عمّه بلا حذر أو خوف، وضمن حديثه الكثير من المودّة والامتنان وقال: "لقد كنت في ظلام دامس، أخذ عمّي بيدي إلى حيث النور والمعرفة".
308
280
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يتحدّث شقيق زوجته الذي عمل معه لسنوات، حديثا مشابهًا لحديث ابنه الأكبر عن العمل، ويضيف قائلاً: "كانت تذهلني قدرته على العمل المزدوج، كثيرًا ما كان يقوم بعملين معًا. في إحدى المرات كان يعمل على ملفٍّ لأحد الزبائن، عملاً دقيقًا فيه حسابات ماليّة، أمامه أوراق الملف، وأصابعه تتحرّك على الآلة الحاسبة، وعيناه تتابعان الملف وبنوده. كنت أريد أن أسأله عن مغزى بعض النصوص التي لم أستطع فهمها، طلب مني قراءة النصّ وهو لايزال منهمكًا في عمله على الآلة الحاسبة. قرأت النص فيما أصابعه تُخرج أرقامًا يدوّنها على ورقة، وأنا أتابع قراءة النصّ، يشرح لي المقصود من تلك العبارات، بوضوح ودقة، دون أن يتوقّف لثانية واحدة. وقفت مذهولاً، فالعملان يحتاجان إلى انتباه دقيق. سألته كيف تستطيع ذلك، فابتسم وقال وهو يتابع عمله: ليس هذا بالعمل الصعب، قم بتدريب نفسك عليه وستكتشف أنّك تستطيع.
كان هذا حين عملت معه في بيروت بعد عودته من العراق. كذلك كان يثير استغرابي شيء قريب من هذا، وهو الجمع بين عملين في دائرة أوسع. كانت في مكتب عمله في ذلك الوقت كتب في الفقه والأصول، وكتب أخرى، تدرّس في الحوزات الدينيّة. هو رجل الأعمال الغارق في العمل، في مؤسّسة تعتني بالطباعة والتصميم، كان يأتي إلى عمله بعد درس يأخذه من أستاذ في تلك العلوم، في ساعة مبكرة من النهار قبل الوصول إليه. أنا الذي أعرفه منذ صغري، كنت أعلم أنّ خياره الأساس كان في دراسة العلوم الدينيّة، منعته عنه أسباب
309
281
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
وقناعات مستجّدة، لكنّه أصرّ على الاحتفاظ بجزء منه، حتى وهو بعيد عنه كل البعد، يفرّغ له ولو ساعة من الوقت، يأخذ فيها درسًا، وبعض من وقت يجمعه من شتات ساعات العمل. كنت أرى ذلك الحب والشغف للعلوم الدينية في وسط زحمة العمل. سألته مرة عن هذا فقال باسمًا: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزل".
العلوم الدينيّة، شغف الشيخ مصطفى وخياره القديم الأول، أين هو منه بعد ستة عشر عامًا على عودته من إيران؟! سؤال يجب التوقّف عنده، هل هذا ما أراده الشيخ مصطفى حين عاد من إيران؟ سؤال لطالما تردّد في أذهان المقرّبين منه، وهو الرجل المغلق، والذي لا يشكو كما يقول أغلب عارفيه، هل اتّجه إلى حيث أراد؟
في البدء كان ما يريده واضحًا وصريحًا، منذ أن لبس العمامة في المرة الأولى. عندما كان في الثامنة عشرة من العمر، أراد أن يتفرّغ لطلب العلوم الدينيّة على وجه الخصوص وظلّ ذلك هاجسًا لم يتخلّ عنه، ورغبة فيه لم تنقطع، حتى قرار الحسم في العودة إلى طلب العلوم الدينية في إيران.
كثير من أساتذته وزملائه، إن لم يكن جميعهم، يعرفون قدراته العلميّة، وأجمعوا على اعتبارها فذة ومميزة، عدد كبير منهم يؤيّد في رأيه رأي الشيخ مالك وهبي في أنّ سماحة الشيخ مصطفى لو اتجه هذا الاتجاه وتفرّغ له، لأصبح واحدًا من أهم العلماء.
بعد هذه المسيرة الزاخرة بالعطاء، هل كان هذا ما أراده، أم انعطف في مسيرته؟ بعض أصدقائه نقل عنه ترداده لمقولة: إن لم
310
282
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يكن ما تريد، فأرد ما يكون. لا شكّ في أنّه برع في هذا الذي كان ولم يُرِده، وحقّق ما لم يستطع تحقيقه سواه. وكثيرًا مما كان يريد لم يستطع تحقيقه كما يريد. بعضها ظلّ طيّ الكتمان، في رجل يجيد الكتمان، وبعضها في رغبات ومحاولات تظهر تبعاتها هنا وهناك. رغم ضيق الوقت والمسؤوليات الجسام، قرأ وكتب وحاضر، في العلوم الدينية. لم يغلق الباب، تركه مفتوحًا وإن قليلاً. مفتوح على حلم قديم، على رغبة ما أراد لها أن تموت، وكأن جزءاً منه يحيا بها، فلم ينقطع عن الحوزة والتدريس فيها.
ينقل عنه الشيخ حسان سويدان قوله إنّه حتى إن كان نهاره شاقًا وطويلاً، حين يأتي إلى منزله ليلاً، لا يستطيع الخلود إلى الراحة قبل أن يدخل إلى مكتبته ويقرأ في الفقه والأصول ولو مطلبًا واحدًا.. عساه يرضي بذلك نهم هذا العالم المتململ فيه.. كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال".
كأن رجلاً آخر أراد، غير رجل الدين الذي ظلّ حيًّا يتململ في داخله، لقد أراد ما كان، دفعه للعمل في الإدارة التربويّة سلّم الأولويّات. رأى ذلك حاجةً وهمًّا، وهو كعادته، يبحث عن النواقص، عن الحاجة إليه، رآه وهو البعيد النظر، أراد المستقبل، فاتّجه إلى الطفولة والناشئة، هذا ما تحدّث عنه بعض المقرّبين إليه، ومنهم سماحة الشيخ مالك وهبي، الذي أكّد أنّ دافع الشيخ في هذه الاتّجاه لم يكن سوى تلبية للحاجة، وقال بأسف: "ليته لم يفعل، نحن خسرنا عالمًا كبيرًا لو تفرّغ للعلوم منذ البداية لكان عالمًا كبيرًا ومفكّرًا فذّاً، لا شك عندي في ذلك. وأقول هذا عن معرفة به وتجربة".
311
283
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يقول شقيقه المقرّب الحاج عبد الله: "لم يكن همّه العمل في الإجراء وتنفيذ السياسات المقرّرة، وبالتالي التوسّع في بناء المدارس، وتجميع الطلاب، ورفع المستوى في الكيف والكم. هذا الجانب الإجرائيّ لم يكن همّه الأول، لكنّه انخرط فيه لحاجة وجدها في هذا المكان. ولطبع فيه حين يتولى أمرًا يحيط به ويتابعه حتى آخر الخطوط حرصاً على نجاحه وتمامه، طبعه في المتابعة الدقيقة، إرادته ورغبته في إتمام ما يتولّاه بلا نقص أو خلل، جعلته يذهب إلى عمق الإجراءات التفصيليّة، معالجًا ما استطاع، في رغبته أن يكون العمل كاملاً متقنًا بعيدًا عن الخلل والنواقص".
حتى هو، وبعد أن أراد ما كان، حاول أن يفتح بابًا فكريًّا يستثمرّ به عقله العلمي، وروحه المثابرة، عبر همّ حمله منذ البداية، وفي السنة الأولى التي عمل فيها مديرًا ثقافيًّا في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، إذ اكتشف موضوع بناء المناهج التي تتوافق مع النظرة الإسلاميّة للتعليم. فالكتب الأجنبيّة المعتمدة للتعليم في اللّغات الأجنبيّة تطبع في أميركا، وبريطانيا، وسواهما من البلاد الأوروبية. ورأى الكم الكبير من تلك الثقافة البعيدة في توجهاتها عن الإسلام، من عادات وقيم ومفاهيم ومناسبات تزخر فيها هذه الكتب، ووجود مثيلها حتى في الكتب العربيّة المطبوعة في لبنان. ثقافة لم تكن موافقة لما يراه في التعليم الإسلاميّ.
سعى لتأصيل تلك المناهج منذ البداية، إلى مناهج تجمع بين المستوى العلمي العالي الذي ينافس المستويات العلمية في المدارس الخاصة، ذات السمعة العلميّة الجيدة، وبين الموروثات الإسلامية
312
284
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
التي تتوافق مع البصمة الفكريّة للمؤسّسة، بصمة الإمام المهدي (عجل الله تعـــــالى فرجــــه)، بصمــة صناعـــــة جنــــود للإمــــام، تُخـــــرّج شــــبابًا وشابّات. ذاك اسم المدارس واتّجاهها. وبعض البرامج تشكو من ثغرات، تتسرب منها ثقافة لا توافق محاولة توفير الأرضيّة الصالحة لمصداقيّة تلك التسمية وأصالة هذا المضمون. تلك المناهج والبرامج كانت معتمدة لعدم وجود البديل.
توجّه منذ البداية لمواجهة هذا التحدّي الفكريّ، وسعى إلى تأصيلها على الرغم من انشغالاته بالأمور الإجرائيّة الأخرى، تحدّث وحاضر وكتب بحوثًا عن هذه الحاجة، زار إيران ليطلع بنفسه على التجربة هناك عن قرب، ثم قرأ كثيرًا، واطلع على تجارب مماثلة عديدة.
وفي داخل المؤسّسة قام بإنشاء لجان تأليف متنوّعة التخصّص في المناهج كافة. وأشرف عليها وتابع معها بحرص، وتمّ تأليف عدد من تلك الكتب والمناهج، وقام بإعداد كادر تعليمي يستطيع تسييل هذه البرامج والمناهج من خلال التعليم، أقام دورات لتدريب المعلمين، شملت كل الكوادر من معلمين وأساتذة وأصحاب اختصاصات علمية، حتى المنسّقين والإداريين، لم تكن تمر سنة إلا وفيها عدة دورات، وفي الصيف مخيّمات مستمرّة لتأهيل القدرات وتطويرها.
تلك نافذة فكر وعلم أرادها الشيخ مصطفى، نافذة وإن صغيرة يراها متنفسه في زحام الإجراءات التنفيذيّة، مع تواصله وعدم انقطاعه عن الحوزة، والدروس الدينيّة والأخلاقيّة، والمحاضرات، والبحوث والقراءات. أراد أن يرضي شخصية العالم الذي يتململ في داخله، واعدًا بالسعي إلى المزيد ما أمكن، دافعًا حياته بهذا الاتّجاه
313
285
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ما استطاع، وبما يتاح له من وقت، وإن اقتطعه من نومه وراحته الضروريّة.
في ضرورة التأصيل، أراد العمل على ما هو أوسع من ذلك، لا أن يعطي حاجة المؤسّسة التربويّة فحسب، بل اتّجه في التفكير بمنهجية للإنتاج المعرفي، يشمل كامل فكرة التأصيل التربويّ لكل العمليّات التربويّة، وإلى ما هو أوسع من التعليم الذي تقوم به، وما التعليم سوى الشقّ العمليّ في التربيّة التنفيذيّة.
أراد أن يتّسع التأصيل التربويّ إلى كل العمليات التربويّة في حزب الله، سواء كانت تعليميّة كالمدارس أو البرامج، أو إعلاميّة كالإذاعة والتلفزيون، أو ترفيهيّة كالسينما والمسرح، وكافة الأعمال الدرامية والأدبية، أو تنظيميّة سلوكيّة كما في الكشاف والهيئات النسائيّة، أو في مستويات تعليميّة عالية كالجامعات والدراسات العليا، وفي الدورات التثقيفيّة، في التأهيل وإعادة التأهيل، والعمل على إصدارات مدروسة دقيقة من الناحية العلميّة والعملية، وفي رعاية مثل تلك الإصدارات والإشراف عليها من قِبل لجان متخصّصة، ووضع استراتيجيّات للسياسات والأسس والقواعد الفكرية لمساعدة وإرشاد كل العاملين في هذا المجال وفق معايير مدروسة، لتشكّل مرجعيّة لكل المناهج التربويّة في كل الساحات والمجالات.
تكامل كل هذا عبر فكرة إنشاء مركز للدراسات والأبحاث التربويّة، نضجت هذه الفكرة وانتظرت في زحام الإجراءات التنفيذية، كما ينتظر الحلم شمس الواقع. انتظرت وسط الزحام الذي أتعب الشيخ مصطفى وزاد تململ العالم فيه.
314
286
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
يقول السيد هاشم صفي الدين: "كان بيني وبينه توارد خواطر، كنت أفكّر، ماذا لو ترك الشيخ مصطفى المؤسّسة لسبب ما، ماذا سنفعل، جاءني بعد حين، وتحدّثنا عن مستقبل المؤسّسة، وقد أبدى رغبته في ترك المؤسّسة، وطرح تصوّرات واضحة، وضعها في مخطّطات أوليّة، كان قد فكّر في ذلك من قبل وخطّط له، من البدائل إلى معالجة المشكلات إلى التطوير، وطرح موضوع مركز الأبحاث والدراسات، كان قد فكّر مليًا في كل شيء، وكعادته، كانت لديه تصوّرات دقيقة منظّمة، كعادته في الإحاطة بكل شيء يقدم عليه.
تحدثنا مع سماحة السيد حسن، فسأل عن البدائل، فقلنا له إن الأمور جاهزة. وكتب الشيخ مصطفى عن مشروع مركز الأبحاث الذي يقترحه، وعن اقتراحاته بالنسبة إلى المؤسّسة، وقدّم ملفّين كاملين، بدقّته المعهودة. ملفّ المؤسّسة ومستقبلها، وملفّ مركز الأبحاث والدراسات".
يقول شقيقه الحاج عبد الله: "تابعت معه مشروع مركز الأبحاث والدراسات منذ البداية، منذ كان فكرة تندفع في ذهنه المتوقد، بدعوة من حاجة يراها تزداد يومًا بعد يوم، لتزيده قناعة بضرورة الاهتمام مشروع كهذا، تتبلور الفكرة مع الوقت باتّساع وشموليّة لشرائح مجتمعيّة واسعة، واقتناعه المتزايد بضرورة التأصيل الإسلامي، وسط هذه الهجمة المتزايدة للثقافات البعيدة عن النهج الإسلاميّ الأصيل، هذا الهمّ الذي ظلَّ يراوده منذ سنين، منذ السنوات الأولى لقدومه إلى لبنان والعمل في الثقافة.
315
287
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
كنت أتابعه في تأسيس مركز الدراسات، حماسه الذي يشي بسعادة ورضى، وبشيء من العجلة المدروسة. بذل جهودًا في التأسيس، ضاعف عمله، بدقّة ومتابعة، بشكل لافت، كمن يتسابق مع الوقت، كأنه كان يشعر أن ليس لديه متّسع من الوقت، وأراد أن يجعل التأسيس واضحًا، قوّي البناء".
كان يعمل في المؤسّسة طوال الوقت، ويعمل على انضاج وتأسيس مركز الأبحاث والدراسات. يقول نائب مدير عام مركز الأبحاث والدراسات التربويّة: "كان شديد الحب للعمل البحثي، ولطالما كانت أمنيته أن يتفرّغ له، أن يقرأ ويكتب، تلك رغبة قديمة، لطالما صرّح عنها، وأبدى رغبته في التخلّص من العمل الإجرائيّ، توجّهه ورغبته تلك كانت قديمة منذ تعرّفت عليه عندما كنت في إيران، حيث كان مهتمًا بالتحولات التربويّة هناك، وبتجربة التأصيل التربويّ فيها، وكان يقول لي: عندما تأتي إلى لبنان أرجو أن نلتقي، وحين أتيت إلى لبنان زرته.
وكان لي معه لقاءات عديدة، محورها التربية وفكرة مركز أبحاث يُعنى بهذا الشأن، فالتفكير في مركز الأبحاث كان من أوليّاته، وفكرة التأصيل التربويّ كانت هاجسه الأكبر منذ الأيّام الأولى حين رأى الحاجة في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، ثم طلب مني أن أعمل معه في المؤسّسة كمعاون للمدير العام في سنة 2012 م، كانت فرصة تاريخية بالنسبة إليّ، وهناك بدأت تتكامل فكرة إنشاء المركز التربوي، وأصبحت واضحة المعالم، في سياساته وأهدافه، في رؤيته ورسالته. مركز واسع المهام، لا يغطي حاجة المؤسّسة فحسب، بل يقدّم استشارات تربويّة، وتأصيل تربوي لمختلف المؤسّسات.
316
288
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
وجود سماحته في هذا العالم كان في غاية الأهميّة، في تطلّعاته التربويّة وأفكاره، في تجربته الطويلة والغنيّة، وكونه أستاذًا في الإدارة الاستراتيجيّة، مضافًا إلى كل هذا ما هو عليه من المستوى الرفيع في العلوم الدينيّة، لقد سمح له كل ذلك بتأسيس مركز ذي رؤية متينة.
كان يعمل على بناء مركز تربوي بكلّ معنى الكلمة، يضمّ متخصّصين في كافة المجالات التربويّة والعلوم الإنسانيّة، لم يكن يفكّر في عمل صغير محدود، حلمه أن يكون هناك مركز يلبي حاجة الجميع في مختلف التخصّصات التربويّة، ومنها إعداد باحثين جدد، وتشكيل فريق يضمّ عشرات المتخصّصين في هذا المجال، أن يؤسّس لهذا كله، وإن لم يصل إليه كاملاً في وقتها، لكنه أراد أن يكون البناء في أساسه قادرًا على ذلك في المستقبل، وقادرًا على أن يحمل كل هذا والانطلاق به على اتّساعه، لم يكن يعمل بما يعتمد على وجوده الشخصيّ، عمل قادر على الاستمرار والنمو بعده، حلم وضعه على سكّة التحقيق، وسار به على أساس واسع متين، هاجس قديم حمله وطوّره حتى وضعه على سكّة الواقع وانطلق به، هو بالنسبة إليه خطوة على طريق الألف ميل، يكمل مسيرتها أشخاص جدد، وجيل جديد.
لقد منّ الله عليّ بالعمل مع سماحته، وكان للعمل معه أثر كبير في حياتي، أستاذ حياة سماحة الشيخ مصطفى قصير. فترة عملي معه كانت فترة ذهبيّة بالنسبة إليّ. أنا لم أكن أعرف العمق في معنى أن يكون الرجل حكيمًا، إلا بعد معرفتي القريبة من سماحته،
317
289
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
أليســـــــت الحكمـــة أن تضــــع الشيء في موضعــــه؟ فهو بكله كذلــــك، في كل حركته وسكونه، في كلامه وصمته، في كل فعل وردّ فعل. بعيد تمام البعد عن الانفعال والتعصّب والتسرّع، يتمهّل في اتّخاذ القرار حتى بعد دراسته من كل الجوانب، يقف وإن قليلاً قبل أن يحسم أيّ أمر. عندما يتقدّم أحدهم بطرح ما، وبعد أن يعرف كل المعطيات والحيثيّات، لا يتسرّع بالموافقة أو الرفض، حتى وإن ظهر له منذ البدء أنّه مرتاح لتلك الدراسة أو ذلك المشروع، لا بد أن يعطي لنفسه وقتًا، لكل موضوع بحسبه. علم وحكمة رأيتهما معًا في سماحة الشيخ مصطفى ضمن وجود قويّ ونادر".
بدا له في هذه الفترة، ومن أجل حاجات وأفكار ومستجدّات أخرى، أن يذهب إلى إيران في سفرة طويلة تمتدُّ إلى ما يقارب الشهر لتلبيها، وكان عليه أن يرتّب الأمر وينظّم شؤون المؤسّسة كي يتواصل العمل فيها على أكمل وجه في فترة غيابه، وقام بتفويض من يراه مناسبًا بما يغطي كل مستلزمات العمل، فرتّب كل ما يلزم لتسير الأمور بشكل كامل من دونه.
كان موعد السفر في يوم الإثنين، وقبل المغادرة بثلاثة أيام، أيّ في يوم الجمعة، كان لديه لقاء مع سماحة السيد هاشم صفي الدين.
يقول ولده: "استدعاني سماحة السيد وسألني: منذ متى لم ترَ أباك؟ فقلت: منذ أربعة أو خمسة أيام. فقال: أنا لست مرتاحًا لوضع والدك.. لقد بدا بوضع غير طبيعي.. وطلب مني التأكد من وضعه الصحيّ، تحدّثت مع أبي وسألته إن كان يشكو من أي عارض صحيّ، فأخبرني أنه لا يشكو من شيء".
318
290
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
في اليوم التالي، ذهب الشيخ مصطفى إلى الجنوب لمتابعة بعض الأعمال، في ذلك النهار صباحًا تلقّى ابنه عددًا من الاتصالات تستفسر عن صحّة والده، لقد لاحظ عدد من الناس الذين التقاهم الشيخ اختلافًا في حركته وملامحه، قام ولده بالاتّصال به وسأله عن حاله، لم يكن صوته يوحي بشيء، وهو يقول إنّه بخير. لكن لهفة الناس عليه ازدادت بعد الظهر وتعدّدت الاتصالات من أناس كان يلتقيهم الشيخ، يسألون عن حاله عندما يغادرهم، يسألون ولده بدافع من هيبته وتلافيًا لإحراجه، فاتصل به ثانية فكان جوابه أنّ الأمور عادية في نهار طويل ومتعب. حتى زوجته شعرت أن قيادته للسيارة لم تكن كعادتها في الدقة والانتباه، لقد انحرفت أكثر من مرة.
يتابع ولده قائلاً: "بعد التواصل مع طبيب صديق، تم الاتفاق على أن نلقاه في المستشفى لإجراء فحوص وصور، واتفقنا على موعد في الصباح".
لم يعترض الشيخ بعد الذي سمعه من الناس ومن زوجته، واتفق مع ولده على اللقاء في مستشفى الرسول (صلى الله عليه وآله) صباحًا، وبمجرد رؤية الدكتور للشيخ، طلب مباشرة صورة للرأس، وأظهرت الصورة ورمًا لم يعرف كنهه، لم يخبر الشيخ بذلك، وأخبره الطبيب أن المشكلة تحتاج إلى علاج كي لا يتفاقم المرض، وأن هناك التهابًا أثّر على العصب، فقال الشيخ بهدوئه المعهود، وهو يلبس ثيابه: لا بأس.. سأقوم بذلك عند عودتي من سفري، وسأتناول في سفري ما تقترحونه من أدوية، وبعد جدال دام نصف ساعة، لم يوافق
319
291
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
الشيخ فيها على تأجيل السفر، لم يقتنع إلا بعد أن قال له الطبيب: وأنا كطبيب ألزمك شرعًا بعدم السفر في الوقت الحالي، فوافق الشيخ على مضض. بعد المشاورات الطبيّة تقرر إجراء عمليّة، وأخبر الشيخ أن هناك كيسًا في الرأس لا بد من إزالته، لأنه كلما كبر زاد من ضغطه على الدماغ.
أجريت العمليّة وأزيل الورم، على أن يتمّ فحص الجزء المستأصل عبر الزرع لمعرفة نوعه. وتبيّن لاحقًا أنّه ورم خبيث، فقرر الأطباء علاجًا بالأشعة للمكان المصاب تحسبًا لامتداده.
يقول ولده: "كنت في حرج شديد، إن لم أبلغه بحقيقة الأمر كيف سيوافق على علاج الأشعة دون تبرير، كنت متهيبًا لكيفية اخباره، ولم يكن هناك من مفرّ، حين أخبرته بحقيقة المرض فوجئت برد فعله، لقد كانت هادئة وطبيعية بشكل غريب".
مضى في العلاج بالأشعة مدة أربعين يومًا بلا انقطاع، يعود من جلسة الأشعة إلى عمله مباشرة.
بدا مرتاحًا لعمل المؤسّسة بعد التفويض والترتيب الذي أعده بداعي السفر، منحه ذلك فرصة التوجه أكثر إلى مركز الأبحاث والدراسات، ليتقرّر بعد ذلك ترك المؤسّسة والتفرّغ لمركز الدراسات بلا إبطاء، أتمّ سريعًا مستلزمات العمل، سار نشيطاً متدفّقًا، ينشر في سلوكه دروسًا متنوّعة كما النهر يترك أثرًا على ضفّتيه.
يقول أمين سر المركز: "كنت أعمل في الجنوب، تلقيت اتصالاً عبر الهاتف، قال: السلام عليكم.. كيف الأحوال.. معك مصطفى
320
292
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
قصير. تملّكتني الدهشة والرهبة. لقد كنت تلميذًا في مدارس المهدي لسنوات طويلة، وكنت ألتقيه في حفلات التخرّج والتكليف وفي مناسبات أخرى، لقد وضع اسمي ضمن عدد من الأسماء لتولّي أمانة السرّ، أو الإدارة الداخليّة لمركز الأبحاث، وكان باستطاعته أن يكلّف شخصاً ليتصل بي ويحدّد لي موعدًا للقاء سماحته، كما تجري الأمور عادة في منصب أقلّ من منصبه، لكنّه اتصل بي شخصيًّا وقال معك مصطفى قصير، ليكون أول حديث مباشر بيني وبينه، وليكون التواضع هو أوّل درس من دروسه المميّزة.
وبالاحترام والأدب الواضح في صوته سألني: هل أستطيع الجلوس معك بشأن العمل في أقرب وقت ممكن؟ قلت: أجل. قال: هل تستطيع اليوم؟.. وهذا درس في عدم التسويف. اتّفقت معه على أن نلتقي بعد صلاة الظهر في اليوم ذاته.
تملّكتني رهبة اللقاء طوال الطريق من الجنوب إلى بيروت، لقاء أحد أعضاء المجلس المركزي، المدير العام، الرجل القدير بتاريخه العريق. وتتشكّل في ذهني صور للمكان الكبير، وكم من الرجال سألتقي قبل الوصول إليه، من مكتب إلى آخر، وكم سأمكث في قاعة الانتظار أمام مكتبه المهيب؟
اشتدّ خفقان قلبي عند وصولي، سألت الاستعلامات فأرشدني إلى مكان الدخول. وهناك رأيت سماحته واقفًا على الباب بكل آداب اللقاء، مسبوقًا بابتسامته الجميلة، التي تحمل مزيجًا من الأدب والحياء، فتح الباب وبقي منتظرًا خطواتي إليه، وكأني رجل من وجهاء القوم، تقدّم وسلّم عليّ وأدخلني إلى مكتبه. تأهّل بي وسألني
321
293
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
عن أحوالي، وجيء بالشاي، أخذه بنفسه، وسألني عن كمية السكّر، وضع السكّر في قدحي وأذابه بالملعقة الصغيرة، ثمّ قدّمه لي بتلك الابتسامة التي تمكث في الوجدان كما تمكث الصور الحميمة.
في جلسة لم تكن طويلة، أحاط بأسئلته وحديثه بكل شيء، بشكل مركّز ومختصر مفيد، ثم قال: خيرًا إن شاء الله.
أيام قليلة وتمّ نقلي للعمل عنده. لم يكن سكني في بيروت قد ترتّب بعد، نمت في مكان العمل على الأريكة، وفي صباح اليوم التالي استيقظت على دخوله، كانت الساعة السابعة والربع، أيّ قبل دوام العمل بثلاثة أرباع الساعة! درس في الحضور المبكر، وتتوالى الدروس مع البداية، عميقة مؤثّرة فاعلة؛ لأنها سلوك يسبق الوعظ والإرشاد المباشرين.
وجاء في اليوم التالي في الوقت ذاته، يحمل كيسًا كبيرًا، وضعه قربي مع ابتسامته الودودة تلك، وقال: هذا لك. احتوى الكيس على وسادة وثوبين لها، وشرشف لأضعه تحتي وغطاء. درس في الأبوّة والعناية بالآخر والوقوف على حاجاته دون أن يطلب. عام ونصف من الأيام القصيرة في أنسها، توالت فها دروس لا حصر لها.
يسألني: لماذا لم تتزوّج إلى الآن.. متى ستتزوج؟.. هل تحتاج إلى المساعدة؟.. يسأل عن أهلي ويتابع أخبارهم، وكأنهم أقرباء، يسأل عن راحتك، تشعر باهتمامه الصادق في كل ما يتعلّق بك. يشجّعك على العطاء والعمل، بسلوكه واهتمامه، بدافع من حبّ، ولم يكن هذا الاهتمام يقتصر عليّ وحدي.
322
294
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
شاب قد جاء حديثًا للعمل معنا في المركز، كان ضعيفًا في القراءة، شبه أميّ، وفي أولى جلسات قراءة القرآن التي كانت تقام بعد صلاة الظهر في مكان العمل، اكتشف سماحة الشيخ ذلك، حين جاء دور هذا الشاب في القراءة ورفض، أصرّ الشيخ عليه وشجّعه، وقال: لا بأس عليك اقرأ على مهل، حرفًا بحرف، ومع كل حرف حركته، وستجد أن الأمر ليس بالصعب، خذ وقتك وإن قرأت قليلاً. بصبر وتشجيع وإصرار، تغيّرت الحال في وقت قياسي، وأصبح هذا الشاب بعد ذلك يجيد قراءة القرآن، بل تعلّق بالتلاوة.
يحضر سماحة الشيخ من الساعة السابعة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر. نستحي نحن الشباب العاملين معه من همّته، نخجل من تعبنا، كيف نتعب وهو الرجل الذي تجاوز الستين، ومع مشاكله الصحيّة قادر على كل هذا العطاء، يعمل طوال النهار، لا يكلّ ولا يملّ، لا يهدر وقتًا مهما كان بسيطاً، وقته الشاغر يملأه بالقراءة والكتابة، يقرأ كل ما له علاقة بالشأن التربوي، مهما كانت تلك العلاقة، يقرأ حتى التجارب الحيّة في هذا الموضوع بكل دقائقها، يقرأ ويدوّن على قصاصات من ورق مستعمل، مستعملاً وجهها الثاني، لا يصرف ورقًا جديدًا للمسودّات، ثم ينقل المسودّات ويعدّلها على الحاسوب بشكلها النهائي، ويؤرشف كل شيء بنفسه، يطبعه على الحاسوب بشكل ممنهج، منظّم بشكل باهر، يصنع ذلك بنفسه حرصاً على الدقّة والشموليّة.
منظم ودقيق إلى حدّ بعيد، ترى ذلك في كل شأنه، حريص كل الحرص على النظام، لا يتجاوز صلاحيات من يعمل معه، إن
323
295
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
أراد من عامل الخدمات أو الاستعلامات أمرًا وإن بسيطاً، يسأل المسؤول عنها، خوفًا من تزاحم الأولويّات، ولأن المسؤول أعرف بجدول العمل فهو أعرف بجدول المهمّات، لا يلزم أحدًا بأمر لا يلزم نفسه به أولاً.
يعمل من الصباح إلى طرف الليل، وإن لم يسعفه وقت المكتب أخذ بعض الأعمال إلى منزله، واقتطع لها جزءاً من راحته، مستثمرًا كل وقت يتاح له، في وقت الفطور الصباحي القصير يفضّل أن نكون جميعًا، لمزيد من الألفة والتلاحم، كعائلة صغيرة، يجلس بيننا كواحد منّا، وفيها نستمع إلى حديثه بشغف، حديث قصير تنساب بين طياته المعرفة والموعظة غير المباشرة. قليل وبسيط طعامه، وفي وسط النهار الطويل كان يكتفي بما يجلبه معه من المنزل، حبات من الجوز والزبيب والتمر، أو حبّات من الفواكه المجفّفة، موجودة على مكتبه، كلما جاع أكل منها ،بضع حبّات يأكلها وهو في خضم العمل. وفي مرّة لم يكن معه طعامه هذا، جاء إلي وقال: لقد أكلت قطعة من منقوشة الزعتر وجدتها في البراد، وطلب مني أن أطلب المسامحة من صاحبها لأجله.
لم أسمع صوته بغير نبرة واحدة منخفضة، رجل لا يطلب ولا يشكو، لم أسمعه يتأفّف يومًا، أثاث مكتبه بسيط ولا يقبل بغير ذلك. لقد جلست يومًا على كرسي مكتبه لأكتشف أن ظهر الكرسي مكسور، لم يقل ولم يطلب، طالما يفي بالغرض. إن تعطّل المكيّف لا يسأل، يستعمل المروحة فهي تفي بالغرض. بسيط في كل حاجاته، هو رجل خفيف المؤونة إلى حدّ بعيد.
324
296
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
لصلاة الجماعة عنده أولويّة، يفضّل الصلاة في المسجد ما أمكنه ذلك، أما موعد صلاة الجمعة في الجامع فهو موعد مقدس عنده، موعد لا يخلفه أبدًا، ينتظره كمن به شوق إلى لقاء حبيب، يلبس ويقف على الباب، لا ينتظر إلا قليلاً، كنت أجهّز نفسي قبل الصلاة، خوفًا من أن يذهب وحيدًا، لأنّني أعلم أنّه لن ينتظرني، يذهب سيرًا على الأقدام مسافة تستغرق أكثر من ربع ساعة، مسافة يعلمها، ودربًا يعرفه، من مكتبه إلى المسجد، مرورًا بمنزله القديم، هناك ينظر بحبّ إلى شرفات منزله الذي سكنه سبعة عشر عامًا، عبقًا من الحنين يخرجه وهو يتحدّث، ويقول: إن أجمل ما في هذا المنزل هو قربه من المسجد".
منذ متى والمسجد منزل روحك يا سماحة الشيخ؟.. أتذكر يا سيّدي مسجد برج حمود.. كنت فتى لم يبلغ الحلم بعد، كان يؤنسك كون غرفتك الصغيرة قريبة منه، تنزل إليه قبل الخيط الأبيض للفجر، وعلى بابه يبتسم قلبك، تنزع حذاءك وتعب الدنيا، وتقدّم قدمك اليمنى كما علّمك أبوك، وبالذكر تدخل، وفي زاوية منه يلفّك سكونه والصمت المطمئن، فتسكن إليه روحك.. كم مضى من العمر يا سيّدي؟.. أحببت غرفتك وقتها لقربها من المسجد، ولقرب مسجد القائم أحببت منزلك.. زمن طويل ولكنه كزمن واحد.. فما أقصر العمر يا سيّدي وإن طال!.. لم يكن إلا بالأمس حين قدمت من إيران وأنت تبحث عن منزل يأويك، بحثت طويلاً وما إن أرشدوك إلى هذا المنزل، وكأنك كنت تعلم يا سيدي أن جامعًا سيقام على مقربة منه، كأنك رأيت مئذنة قريبة، وقفت على ناصية الطريق، ابتسمت وقلت: هذا هو، أنست روحك وتبادلت معها السلام والابتسام.
325
297
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
بني الجامع، وسكنت منزلك هذا زمنًا طويلاً، عامًا بعد عام سيّدي وهذا الدرب يعرفك حجرًا حجرًا، أعمدة النور وأبواب المحال، صوت خطواتك في الليل كانت نبض المكان في قلب السكون، المدينة نائمة تتدثّر بهمّ الدنيا، وأنت بسكينة روحك تهفو إلى مسجدها في الليل.. سنين طويلة وفي كل الليالي. لا بدّ لهذا الدرب أن يعشق عطرك مع دوام عبقه الناعم.. أجل.. محفورة هي صورتك في كل شبر إذ تتكرّر في كل يوم على مدى كل هذه السنين، أراك بكل ألق الوضوح وأنت تمشي بهدوء، عباءتك تتحرّك باتزان خطواتك، وعمامتك ببياضها الناصع تقتحم عتمة الليل، حبّات مسبحتك يحرّكها الوِرد الذي بدأته في منزلك بعد صلاة الليل، لم يقطعه إلا ابتسامتك التي نثرتها كما الوَرد على سجادة زوجتك وكلماتها.. تقبّل الله.. وأمنيتها أن تكون معك في خروجك واستقبال فجر الصلاة. كل الفصول شاهدتك في مثل هذا الوقت تخطو ذات الخطوات.. النسمات التي تبشّر بالفجر مسحت خديك.. ثلجية ومعتدلة وحارة.. المئذنة تقترب للقاء وشيك.. نخلات المسجد سلامًا.. تسمع وشوشات سعفها وأنت تخطو تحتها مقتربًا من درجات المدخل.. صندوق الصدقات على باب المسجد ينتظر صدقة الفجر اليومية التي ما نسيتها ولا لمرة واحدة، تتأكد من وجودها في جيبك قبل الخروج إلى الصلاة، وها هو أبو عصام أشمر، والد الشهيدين بانتظارك.
يقول أبو عصام أشمر: "كان سماحة الشيخ مصطفى مظهرًا من مظاهر المسجد وعلامة، هو سمة من سمات مسجد القائم، كثير التردّد إليه، ولا سيما وقت صلاة المغرب والعشاء، يصلي مأمومًا بكل
326
298
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
تواضعه خلف إمام المسجد. طلبنا منه أن يصلّي بنا صلاة الفجر، وهكذا كان، سنين طويلة وهو يصلّي بنا صلاة الفجر، يحضر ليلاً قبل الأذان في كل يوم، بلا انقطاع، وتحت المطر، لم يتغيب إلا حين يكون في سفر أو في الحجّ، دعاء وتعقيبات، وبعد دعاء العهد يجيب عن أسئلة المصلّين، أسئلة فقهيّة ودينيّة، يأنس المصلّون بعلمه الواسع المتنوع، وبطريقته وأسلوبه، فهو يصغي إلى السؤال بكل جوارحه، تشعر بهذا في ملامحه، وباستفساره عن التفاصيل، ثم يجيب إجابة واضحة شاملة، ترك أثرًا بليغًا عند رواد المسجد، لكم شعرنا بالفقد حين نقل سكنه بعيدًا عن مسجد القائم. لكنّه بقي يتردّد إلى هذا المسجد ويصلّي فيه مأمومًا، ولا سيما صلاة الجمعة".
يقول الشيخ أكرم بركات: "سماحة الشيخ مصطفى من أكثر العلماء حضورًا في المسجد، هو الشيخ المسجدي كما وصفه سماحة السيد حسن نصر الله، كثير الصلاة فيه، يصلّي فيه مأمومًا وليس للاستماع إلى خطبة الجمعة، يرفض أن يكون إمام الجماعة وأن أصلّي خلفه، هذا العالم الجليل، الذي نكنّ له الاحترام الشديد ونعدّه أستاذًا، كنت أخجل أن أؤمّ الصلاة بوجوده، لكنّه لشدّة تواضعه كان يرفض في كل مرة أن يؤمّ الصلاة بوجودي. وتواصل حضوره في مسجد القائم، لم ينقطع على الرغم من انشغالاته، ولا سيما في صلاة الجمعة. وفي مساجد أخرى، له فيها حضور ودروس".
يعمل بجهد لا يقوم به الأصحاء. وكأن أمر المرض لا يعنيه، أو هو لا يعنيه بمقدار ما يعنيه عمله.
327
299
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
تابع الشيخ مصطفى علاجه، والتزم بإرشادات الأطبّاء، مواظبًا على عمله دون انقطاع، عمل وسافر أكثر من مرة، بذل جهد من يريد إنهاء أعماله.
وفي العلاقات الاجتماعيّة زادت وتيرة الزيارات، كمن يريد أن يكون الجميع عنه راضيًا، أناس بعيدون وقريبون. وأناس لم يزرهم منذ زمن. وبدا أشدّ حرصاً ممّا مضى.
وبدأ بكتابة ما يشبه المذكّرات، في أوراق دوّن فيها بعضًا من سيرته، وجمع بحوثه ومقالاته وأرشفها جميعها في حاسوبه، وجعل ملفّها مفتوحًا بطريقة يستطيع الوصول إليها سواه.
واستمرّ بعطاءاته، لأكثر من عام ونصف، عالج فيها كل الأمور العالقة، بهدوء ودقّة، وعلى أكمل وجه.
تجدّد العلاج بالأشعة، وبدأ جسده يضعف. لم يعقه العلاج والوهن، ضعف بصره، وتسرّب الضعف إلى جانبه الأيمن، لكنّ عطاءه لم يتوقَّف ما أمكنه ذلك. يقول السيد صفي الدين: "كنت أرى كم ضعفت قوّته، وكم بدا الإنهاك واضحًا عليه، وكلما طالبته بالراحة يرفض مبتسمًا، ويقول إنّه مرتاح".
الراحة التي لم يكن لها حساب حقيقيّ في كل حياته، أو أنّ للراحة مفهومًا مختلفًا عنده، يستمتع براحة العطاء ومعاندة تعب الجسد.
وبقي يذهب إلى العمل بجسد منهك بالكاد يسير، حتى إنه شارك في مؤتمر في العراق، ذهب إليه متكئاً على عكازته وعلى أحد أبنائه، وكان يذهب يوميًا إلى مركز الدراسات وهو على هذه الحال من
328
300
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
الضعف والتعب، ولفترة طويلة، حتى امتصّ المرض كل قواه، وألزمه المنزل. لكنّه أصرّ على متابعة عمله فيه، في لقاءات ودراسة لبعض الملفّات. ثم توقّفت قدرته على الكتابة، ثم على التركيز، وبقي يحاول الصلاة وقوفًا إلى أطول فترة ممكنة، في احتياط زائد، حتى وصل جسده إلى العجز التامّ، وتشتّت تركيزه، وأصبح يُلقن صلاته تلقينًا.
شهر كامل عزف فيه عن الكلام، ولم يبق على لسانه سوى الذكر، وأغلبه "الحمد لله" وتمتمات من دعاء وتسبيح، واستماع لقراءة القرآن، حتى ضاقت به الأنفاس، وحُمل إلى المستشفى في حالة طارئة، وهناك بقي أيامًا يتناوب أهله على قراءة القرآن قربه، تصله أصواتهم بآخر ما أحب سماعه في الحياة الدنيا. ومع السورة التي هي الأحبّ إلى قلبه، قلب القرآن سورة ياسين، وكأنه كان في انتظارها لتفيض برفقتها روحه المطمئنة.
ورحل الشيخ مصطفى قصير.
رحل بعد أن برع فيما كان ولم يرده، دون أن ينقطع عما أراده ولم يكن.
وبعد وفاته قدم درسًا، وأراد كما هو دأبه في حياته أن ينفّذه هو عمليًّا، أن يكون عليه قبل سواه، كدرس أخير يقدّمه بعد الرحيل. كتب في وصيته عن مدفنه:
"... أنْ أُدفن فـي أيّ مكان من المقبرة دون إشغال مكان يزيد عن مقدار الضـــرورة، وأن يعتمـــد قبــــر من طابقين أدفـــن فـــــي أحــدهمــــا
329
301
الفصل السادس: تفاصيل الأبوة والمسعى الأخير
ووالدتي في الآخر... وإن لم يكن فمع زوجتي العزيزة... توفيرًا للوقف وتحديدًا للاستفادة بمقدار الحاجة دون زيادة، في سنّة حسنة أرجو أن ينالني شيء من أجرها... وإيّاكم أن تزيدوا فوق القبر شيئاً أكثر من القبور البسيطة المتعارفة".
ثم رحــــــــــــــــــــل...
رحل مطمئنًا إلى حيث سعى طوال الوقت...
تقرّب واقترب بكل ما يستطيع...
رحم الله من عمل عملاً فأتقنه.
رحم الله سماحة الشيخ مصطفى قصير.
330
302
مسك الختام
كـلمـــــــــــــــــة
سماحة السيد حسن نصر الله [1]
في ختام سيرته، ننقل بعضًا مما قاله سماحة السيد حسن نصر الله في تأبينه:
"أعوذ بالله مـــن الشـــيطان الرجيـــم، بســـم الله الرحمــــــن الرحيم، والحمد لله رب العالميــــن، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا خاتم النبيين، أبي القاسم محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الأخيار المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
قال الله عز وجل في كتابه المجيد: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِدِّيقينَ وَالشُهداءَ والصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا ﴾.
في هذا اللقاء المبارك، أودُّ في البداية أن أتوجّه بالتعزية وبمشاعر المواساة إلى عائلته الكريمة إلى العائلة العزيزة، آل قصير، عائلة العلماء والشهداء والاستشهاديين والمجاهدين والمقاومين، التي قدّمت وما زالت، وكذلك إلى العائلة العزيزة، آل الأمين، أيضًا عائلة العلماء والشهداء والمقاومين والمجاهدين، والتي قدمت وما
[1] ألقاها في حفل تأبين المرحوم الشيخ مصطفى قصير (قدس سره) بتاريخ 6 حزيران 2014.
333
303
مسك الختام
زالت تقدم، وإلى جميع إخواني وأخواتي في حزب الله، وخصوصا في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، الذين رافقوا سماحة شيخنا العزيز وعملوا معه وعايشوه عن قرب وفقدوه في ساعة الرحيل.
نحن أمام مناسبة كبيرة ومؤلمة بالنسبة إلينا.
إن خسارتنا وألمنا بفقد هذا العالم المجاهد المقاوم العزيز الكبير هو ألم كبير وخسارة كبيرة، والإخوة جميعًا يشاركونني هذا الاحساس، الإخوة العلماء، الإخوة والأخوات، الإخوة القادة والمسؤولون في حزب الله في مختلف المسؤوليات، وكذلك كل الإخوة والأخوات الذين عرفوا سماحة الشيخ عن قرب.
نحن عادةً، في حزب الله، لا نتحدّث عن إخواننا وهم أحياء، الأحياء يتعبون، يسهرون، يجاهدون، يبذلون جهودًا مضنية جدًا، يقومون بإنجازات عظيمة جدًا، ولكن لا ننسب الإنجازات إلى الأشخاص وهم أحياء. الآن، ما سبب ذلك؟ هذا بحث آخر.
هذه السيرة الموجودة في حزب الله، وعندما نتحدث عن الإنجاز وعن الانتصار وعن الجهاد أو عن الجهود أو التضحيات، نتحدث عن الجميع، نعمّم دون أن ندخل إلى فلان وفلان وفلانة..
نعم، من واجبنا ومن حقّهم علينا في الحد الأدنى، إذا كان الجزء الأول فيه نقاش أنه صحيح أم خطأ، له علاقة بالإخلاص، بالصدق، بالنيّة، بالكتمان، مهما كان السبب، لكن بعد أن يرحل هؤلاء الأعزاء وهؤلاء المجاهدون عن هذه الدنيا، وحين لا يعود المديح والكلام والحديث عنهم بفائدة عليهم في الدنيا، وإنما هو شهادة
334
304
مسك الختام
حق وإنصاف تُقدّم بين يدي أرواحهم الزكية، نتحدث عنهم، ننسب إليهم ما يجب أن يُنسب إليهم وأحيانًا لا نقول أيضًا كل الحقيقة، وإنما نخفي بعض أجزائها لمصالح تتعلق بمسيرتنا واستمرار المسيرة.
كل ما قاله الإخوة قبلي بحق سماحة العلامة الشيخ مصطفى قصير، الأخ الحبيب والعزيز، هو طبعًا دون حقه، وما أقوله أنا كذلك، أو ما يمكن أن أقوله، وهو فوق ما قيل وأقول، وهذه هي الحقيقة.
اليوم أنا أريد أن أدخل إلى سماحة الشيخ الفقيد الغالي من زاوية معينة ومحددة بعد رحيله.
أن أقدّم وأن نقدّم سماحة الشيخ مصطفى قصير كأسوة ونموذج وقدوة، نحتاجه نحن، نحن نحتاج إلى أنواع من القدوة ومن الأسوة ومن النموذج.
نحن نحتاج إلى هذا النموذج الذي عايشناه عن قرب، وشهدنا سيرته وحياته وسلوكه، ونشهد له بذلك بعد رحيله وبعد وفاته، ونقدمه نموذجًا لنا، أنا أقدّمه نموذجًا وأسوة لي، وأدعو كل أخ من إخواني أن يتّخذه مثالاً وقدوة.
هنا نحن لا نتحدث عن العناوين، عن الأسماء، عن الصفات. نتحدث عن الشخص المجسّد للعناوين وللصفات والأسماء، قدوة لنا كعالم طلب العلم طويلاً، وحتى آخر لحظات حياته. كان طالب علم، وكان باحثًا عن العلم وكان محقّقًا ودارسًا، وكان أيضًا معلّمًا، يدرس ويعلّم ويحقّق ويكتب وينشر ويحدّث في هذا الجانب، وكان
335
305
مسك الختام
ممن طلب العلم لله، وعلّم لله عز وجل، ننظر إليه أيضًا كعامل مجاهد لم يعتزل حياة الناس، لم يذهب بعيدًا، جاء إلى متن هذه المسيرة منذ البدايات.
في الحوزة العلميّة كان طالبًا وعاملاً، وعندما جاء إلى لبنان كان عالمًا وطالبًا للعلم وعاملاً ومجاهدًا ومقاومًا، وعمل لله. ومن تعلّم لله وعلّم لله وعمل لله نودي في ملكوت السماوات عظيمًا، كما يُنقل عن السيد المسيح (عليه السلام).
نحن أمام العامِل الجاد، العامِل الدؤوب، صاحب الهمّة العالية، الذي لا يعرف الكلل ولا يقعده لا تعب ولا مرض. في الأشهر الأخيرة من مرضه، كنت أنا أذهب إلى بعض اللقاءات الداخليّة وكنت أفاجأ بحضور سماحة الشيخ، عندما كنت أتابع في بعض وسائل الاعلام بعض من المناسبات أو بعض من الاحتفالات، أجد سماحة الشيخ موجودًا، إما حاضرًا إما خطيبًا، حتى اللحظات الأخيرة التي كان جسده يعينه، وكنت أستغرب هذه الهمة العالية.
وهذا ما نحتاج إليه نحن الذين نتعب وتحيط بنا أحيانًا الهموم والمشكلات والتحدّيات.
نحن بحاجة إلى القدوة في العزم والإرادة، في الهمّة العالية، في الجديّة، في الفعاليّة.
الشيخ مصطفى كان هكذا، كل إخواننا يعرفون أن سماحة الشيخ كان هكذا. وأحيانًا أنا كنت أقول له: شيخنا أنت تتعب نفسك، الآن اهتمّ بصحتك، اهتمّ بعافيتك. هو كان يعتبر أن كل
336
306
مسك الختام
لحظة من عمره يجب أن تبذل في طاعة الله، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخدمة دين الله، وخدمة عباد الله سبحانه وتعالى.
الصادق المخلص، وكلنا نعرفه صدقه وإخلاصه، ونحتاج إلى هذا الإخلاص في العمل، نحتاج إلى هذا الإخلاص وإلى هذا الصدق.
الزاهد في الدنيا، المعرض عن زخارفها وزبارجها وعناوينها، العامل فيها لآخرته، عيناه كانتا دائمًا تتطلَّعان إلى ذلك العالم، يمهِّد له، يحضِّر له، الشيخ مصطفى من الإخوة الذين كانوا يعملون بدون توقّعات شخصيّة، بدون طلب امتيازات شخصية.
لم يعتبر في لحظة من اللحظات أن له حقّاً في رقبة حزب الله أو المقاومة أو المسيرة أو الإسلام أو الدين. لم يمارس فعل المنّ أو التفضّل على هذه المسيرة أو على رفاقه أو على إخوانه أو على الذين يعملون معه.
طبعًا، تكفي الإشارة في كل صفة، نحن نحتاج إلى هذا أيضًا. الله سبحانه وتعالى هو الذي يمنّ علينا أن هدانا للإيمان، وأن هدانا للجهاد، وأن جعلنا من أبناء هذه المسيرة المباركة، والله سبحانه وتعالى هو الذي يجب أن نتوجَّه إليه دائما بالشكر على كل توفيق لعمل الإنجاز، ونستغفره ونعتذر إليه من كل تقصير وقصور.
الشـــــيخ مصطفــى هكـــــذا، الإنســـــــــــان الودود، اللطيـــــــف، الحنـــــــــــون، المحب، الخلوق، البشوش.
أيّ جماعة، أيّ مسيرة، أي شعب، وخصوصاً عندما نتحدّث عن جماعة تواجه تحديات وتقدّم تضحيات، وتتحمَّل أعباء في علاقاتها
337
307
مسك الختام
الداخليّة، هي تحتاج إلى هذا الحنان، إلى هذا الحب، إلى هذا الودّ، إلى هذه الأخلاق الطيبة والحميدة، لأن هذه من عناصر القوّة، من عناصر الاستمرار.
سماحة الشيخ الهادئ الذي لا ينفعل إلا نادرًا وبالحقّ، المتَّزن، سماحة الشيخ المعلّم والمربّي، في المدرسة، في المؤسّسة، في المسجد، الشيخ مصطفى قصير إمام الصلاة، إمام صلاة الصبح جماعةً في مساجدنا، الإمام المسجديّ، العالم المسجديّ.
سماحة الشيخ، إذا أردت المتابعة يطول الكلام، لكن حقيقةً كان الإنسان العابد، وأيضًا كان الإنسان صاحب الرأي وصاحب الفكرة، يبدع، يقدّم، يخطّط، يفكّر، يناقش، يحاور، وأيضًا كان الإنسان المطيع في هذه المسيرة، الذي لا يقف عند أيّ اعتبارات مهما كانت هذه الاعتبارات.
في نهاية المطاف، هذه طبعًا من أهمّ ميزات العاملين في هذه المسيرة، هذه الميزة التي حافظت على وحدة هذه المسيرة، على تماسكها، على صلابتها، على ثباتها، على قوّتها، ولذلك أنا سأكتفي بهذه العناوين، لأقول: نحن بحاجة إلى هذه القدوة وهذه الأسوة، وأن نقدّمه لإخواننا وأخواتنا ولأجيالنا أيضًا، كما نقدّم قادتنا الآخرين الذين استشهدوا أو الذين توفوا بما لهم من ميزات، وبما لهم من مواصفات خاصّة وجليلة.
الشـــــــهيد الســـــيّد عبـــاس (رضوان الله عليه)، سيّد شـــــــــهداء المقاومة الإســـــلامية، الشهيد الشـــيخ راغب (رضوان الله عليه)، شيخ شــــــهداء المقاومة، الشهيد القائد الحاج عماد مغنيّة، شهداء قادة كثيرون.
338
308
مسك الختام
هناك شيء آخر أوُّد أيضًا أن ألفت إليه: إن سماحة الشيخ هو منذ البداية اختار العمل في المجال التربويّ والتبليغيّ والتعبويّ، وخصوصا المجال التربويّ. منذ البداية كانت خيارات سماحة الشيخ هي هذه، منذ أن كان في الحوزة العلميّة، في النجف الأشرف، في قمّ المقدّسة. لم يكتفِ بأن يتعلم ويعلّم، كان يربي، يهتم بشؤون الطلاب، تربية الطلاب لصنع الإنسان والكادر.
عندما عاد إلى لبنان أيضًا كانت هذه أولويته، مع أنه طبعًا كانت آفاق العمل مفتوحة في كل المجالات أمام سماحة الشيخ في أي مجال من مجالات العمل، لكن هو الذي اختار هذا المجال، لأنه كانت لديه قناعة، كانت لديه رؤية هي صحيحة بطبيعة الحال، ولذلك ذهب إلى الاهتمام بالمؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، بالمدارس، بالمنهجية، بالثقافة، بالجانب التربوي، بالجانب العلمي، بالكمّ، بالكيف، بالنوع، بالإدارة، بالمواكبة، وقام مع إخوانه وأخواته في المؤسسة ومن واكبه من الإخوة المسؤولين بهذه الإنجازات التي نراها اليوم حاضرة أمامنا. المؤسّسة أيضًا، كما قال الإخوة قبلي، أعطاها شبابه وعمره ووقته وجهده وليله ونهاره، إيمانًا بموقعها وبتأثيرها وبأهميتها في هذه المسيرة الإسلاميّة الجهاديّة المباركة، وكان بالفعل خير مسؤول، وخير مدير، وخير مربٍّ وموجّه وأب ووالد. وفي ظلِّ عنايته ورعايته وجهوده نمت، وكبرت، وتوسعت، وترسخت إلى أن أصبحنا أمام مؤسّسة حقيقيّة بكل ما لكلمة مؤسّسة من معنى، وخصوصاً في المجال التربويّ، وفي المجال الثقافيّ، وكان الأمين على هذه المؤسّسة طوال كل هذه السنين.
339
309
مسك الختام
بالمناسبة هنا أيضًا نذكر الأحياء دون أن نذكر الأسماء، الكثير من هذه المؤسّسات التي تقوم بالعمل يرعاها مؤتمنون وأمناء، ولذلك بعض الناس يفكر أنه مثلاً في حزب الله أو في قيادة حزب الله الإخوة مشغولون. بعض الناس يأتي ويقول لكم: أنتم كجهة، كمجموعة، كيف تلحقون وتعملون سياسة ومقاومة وأمن وعسكر وثقافة وتربية وخدمات وصحة ووزراء ونواب و.. و.. و.. كيف تلحق على هذا كله؟ تلحق على هذا كله لأن على رأس هذه المؤسسات، وهذه الأطر، وهذه الملفات، وهذه الهياكل أمناء ومخلصون وصادقون وكفوؤون، وبالتالي القيادة المركزيّة قد لا تحتاج إلى أن تتدخل. أنا أذكر مثلاً في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم، ربما في السنة مرة، أو كل عامين قد يحتاج الأمر إلى مراجعة أو مناقشة أو قرار، لأن هناك من هو مؤتمن على هذه المؤسّسة أو المؤسّسات الأخرى.
أيضًا في غير الجانب التربويّ، الجانب الدعوي، سماحة الشيخ كان حاملاً لثقافة المقاومة، ولفكر المقاومة، ولخطاب المقاومة، ولروح المقاومة. كان مستعدّاً دائمًا ان يكون جنديًّا مقاتلاً في الصفوف الأماميّة في هذه المقاومة.
لكن وبطبيعة الحال، تحديد المسؤوليّات وتوزيع الأدوار، لا يسمح للكثيرين ممن يحملون هذا الفكر وهذه الثقافة وهذه الروحيّة أن يتقدّموا في الخطوط الأماميّة.
هذا كان مولانا سماحة الشيخ، وطبعًا هو عنوان من عناوين الجانب الحقيقيّ والجوهريّ في مسيرتنا. هناك ما هو فوق السطح، عادة في لبنان ما الذي يطلع فوق السطح؟ السياسة
340
310
مسك الختام
والمواقف السياسيّة والخطاب السياسيّ والأحداث السياسيّة، الأمنيّة والعسكريّة. ما تحت السطح هو كل هذا الجهد والجهاد والجهود العظيمة والمباركة، على المستوى الثقافيّ والعلميّ والفكريّ والحــوزويّ والدراســـاتيّ والمؤسّســـــاتيّ والخدمــــاتيّ والبنيـــــة التحتيّــــة والعلاقات والتواصل مع الناس، وبناء مجتمع مؤمن، وملتزم، وواعٍ، ومثقف، ومضحٍّ، ومخلص.
هذا عادةً لا يظهر على السطح إلا في حالات نادرة واستثنائيّة، وكذلك من يعملون أيضًا في هذا المجال هم غالبًا ما يكونون بعيدين عن الواجهات أو عن الشاشات، يعملون بصمت، ولكن هم الذين في الأعم والأغلب يُثمرون ويُنتجون.
إنّ ثمار وإنجــــــازات سماحة الشيخ مصطفى والإخــــــوة الآخرون أيضًا، هذه الإنجــــازات تتجمّـــــع كمًا ونوعًا لتقــدّم للبنان وللأمّة الإنجازات الكبيرة والانتصارات الكبيرة. اليوم عندما نجد أنفسنا أمام مقاومة مستمرّة منذ عقود، منذ قبل 82 ومن بعد 82 إلى اليوم، عندما نجد اليوم مقاومة ترابط على الحدود، تمتلك مقدرات القوّة لردع العدو، مقاومة أيضًا تحضر في ساحة الصديق في سوريا، لتسقط مشروعًا على مستوى المنطقة، يستهدف المنطقة وقضاياها ومقدّساتها، ما كان لهذه المقاومة أن تتقدَّم وأن تبقى وأن تستمرَّ وأن تتعاظم حضورًا وفعلاً، إلا من خلال هذا الحضور الشعبيّ والثقافيّ والعقائديّ والإيمانيّ والمؤسّساتيّ والعلمائيّ، وهذه الجهود الكبيرة التي تُبذل، لأنها مقاومة تستند إلى قاعدة شعبيّة كبيرة وعريضة وقوّية ومتينة وراسخة. ليست حالة
341
311
مسك الختام
حماسيّة طارئة، وليست حالة انفعال وليست ردَّ فعل مؤقّتًا، وإنما تنتسب وتنتمي إلى جذور راسخة في هذه الأرض، وفي هذا الشعب، وفي هذه الأمة، في تاريخها وفي عقيدتها، وفي ثقافتها، وفي روحها، وفي مبانيها، وفي تطلّعاتها، وسماحة الشيخ مصطفى كان واحدًا من هؤلاء الكبار، الذين ساهموا في صنع وتطوّر هذه المسيرة، وسيبقى فعله وستبقى كلماته وكتبه وآثاره وتضحياته، وسيبقى مساهمًا ما دام الليل والنهار إلى يوم القيامة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمَّده برحمته الواسعة، وأن يحشره مع الأنبياء والأولياء والرسل والصديقين والصالحين والشهداء، وهو العبد الصالح المطيع لله ولرسوله، والمضحّي والمجاهد في سبيل الله، الذي لم ينثنِ، ولم يضعف، ولم يتردَّد حتى في كل أيام الشدة، وأيام الصعوبات، وأيام الفتن التي كانت وما زالت تحتاج إلى أصحاب البصائر.
أعاهد روحه الطاهرة، وأقول له، لأخينا الكبير، والعزيز والحبيب، والقدوة، والأسوة، والنموذج، لسماحة العلامة الشيخ مصطفى قصير: نحن إخوانك يا أخي، سنواصل دربك وطريقك، سنكون الأمناء إن شاء الله على إنجازاتك، على جهودك، على مؤسّستك، على تضحياتك.
سنواصل هذا الطريق، ونحمل نفس الفكر الذي كنت تحمله، نضحي من أجل نفس الأهداف التي عشت من أجلها، وشابت لحيتك من أجلها، ومرض جسدك من أجلها، وتعبت وسهرت من أجلها، حتى يختم الله سبحانه وتعالى لنا بالعاقبة الحسنة كما ختم لك".
342
312
حياته في سطور
• العلّامة المجاهد الشيخ مصطفى أحمد قصير العاملي (قدس سره)، ولد العام 1952 في بلدة دير قانون النهر في جنوب لبنان، والده العلامة الراحل الشيخ أحمد حبيب قصير العاملي (قدس سره)، شقيقه الشهيد المجاهد عبدالمنعم قصير.
• متزوج من كريمة العلامة الراحل السيد جواد الامين (قدس سره)، ولديه 7 أولاد، أربعة ذكور، وثلاث إناث.
• سافر وهو في أشهره الاولى بمعيّة والده والعائلة عام 1953 إلى العراق حيث هاجر الوالد للدراسة الحوزوية في حوزة النجف الاشرف، وقد ترعرع سماحة الشيخ فيها وأقام حتى عام 1973.
• أنهى الثانوية العامة في النجف الاشرف، وبدأ دراسته الحوزوية عن عمر 15 عامًا وأتمّ مرحلة المقدمات، وتعمّم على يد السيد محسن الحكيم (قدس سره)، وتزوج عام 1971.
• بسبب المضايقات الأمنية من أجهزة النظام البعثي البائد اضطر إلى مغادرة النجف إلى لبنان وترك الزيّ الديني.
• انتقل إلى لبنان عام 1973 وتنقل بين بلدته دير قانون النهر والضاحية وبلدة زوجته شقراء حيث عمل فيها في مجال الطباعة لمدة عامين، والتحق خلال تواجده في شقراء بحركة أمل.
• عام 1976 وفي خضم الحرب الأهلية اللبنانية، عاود السفر إلى العراق، ليستقر هذه المرة في بغداد، حيث افتتح مكتبة وعمل في مجال استيراد الكتب وتصديرها.
345
313
حياته في سطور
• عام 1981 انتقل إلى لبنان، واستقر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وافتتح مكتبًا للتصميم والاخراج والخدمات الطباعية، وأعاد الالتحاق بحركة أمل لحين الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
• عام 1984 هاجر إلى الجمهورية الإسلامية، واستقر في مدينة قمّ المقدسة لإكمال دراسته الحوزوية، وتعمّم مجددًا على يد الإمام الخميني (قدس سره) هذه المرة. استقر فيها مدة 11 عامًا، حيث أنهى فيها مرحلة السطوح ودرس البحث الخارج مدة 6 سنوات، ودرّس مدّة 10 سنوات مراحل المقدمات والسطوح، وأدار لمدّة 9 سنوات الحوزة اللبنانية (منتدى جبل عامل الاسلامي)، كما أدار القسم العقائدي في المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) مدة 3 سنوات. وكان له العديد من المؤلفات والتحقيقات والأبحاث طوال مدة وجـــوده في قم المقدسة. وواكب وشارك في بلورة وتنفيذ العديد من الامور الثقافية والتبليغية المتعلقة بتشكيلات حزب الله.
• عاد عام 1995 إلى لبنان، واستقرّ في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث استلم عام 1996 مسؤولية الثقافة والتربية الدينية في المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، ليعين عام 1997 مديرًا عامًا للمؤسسة وبقي في هذه المسؤولية حتى عام 2013، حيث أسس مركز الأبحاث والدراسات التربوية وكان مديره العام إلى حين وفاته.
• عمل طوال فترة تواجده الأخير في لبنان في مجال التبليغ، والتدريس الديني والحوزوي والإداري، وإمامة المسجد (صباحًا
346
314
حياته في سطور
في مسجد القائم (عجل الله تعالى فرجه) في حارة حريك)، وكان له العديد من السفرات لأسباب متصلة بمهام تبليغية أو بعمله في المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.
• انتقل إلى الملكوت الاعلى ظهر يوم الاثنين 26/05/2014 م. الموافق 26 رجب 1435 هـ بعد صراع يقارب العامين مع مرض عضال، واحتضنت جثمانه الطاهر جبانة بلدته دير قانون النهر.
347
315
حياته في سطور
نتاجه العلمي والثقافي:
الكتب المنشورة:
• "التقية عند أهل البيت (عليهم السلام)"، صدر عن المجمع العالمي لاهل البيت، قم المقدسة.
• "كتاب علي والتدوين المبكر للسنة النبوية الشريفة"، الطبعة الأولى صدرت عن المجمع العالمي لاهل البيت، قم المقدسة. الطبعة الثانية صدرت عن دار الثقلين، بيروت.
• "الشـــورى والبيعـــــة ودورهمـــــا في انعقــــاد الامامة الكبرى"، صدر عن المركز الإسلامي للدراسات، بيروت.
• "الأعياد الإسلامية مواسم عبادية"، صدر عن المركز الإسلامي للدراسات، بيروت.
• "الوجيـز في علوم القرآن"، الطبعة الأولى صدرت عن الدار الإسلامية، بيروت. الطبعتان الثانية والثالثة صدرتا عن جمعية المعارف الإسلامية، بيروت.
• "الإمامة في حديث الثقلين"، صدر عن دار الهادي، بيروت.
• "البداء والنسخ حقيقتهما وموقف الشيعة منهما"، صدر عن دار الهادي، بيروت.
• "القضاء والقدر وأفعال الإنسان الاختيارية"، صدر عن دار الهادي، بيروت.
• "الشفاعة، حقيقتها شروطها آثارها"، صدر عن دار الهادي، بيروت.
• "المهدي المنتظر بقية الله الأعظم"، صدر عن دار الهادي، بيروت.
• "ولاية الفقيه في عصر الغيبة"، صدر عن جمعية المعارف الإسلامية، بيروت.
348