العصا الرابعة

هي عصاي، أُفرّق بها ما اشتبك مِن أغصان شوكيّة حتّى نَسلك...


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-12

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمـة

المقدّمـة

قال: هي عصاي، أُفرّق بها ما اشتبك مِن أغصان شوكيّة حتّى نَسلك، وأستعينُ بها عند المُنزلقات الصخريّة، ولا أتوكّأ عليها إلّا قليلاً.

بعد كلِّ فريضة صبح، أمشي مسافة ساعة ونِصف، أشعر بأنّ كلّ خطوة محطّة نصر، وأنّ حلقات النصر بِعدد الخطوات مِن بيتي إلى هذه المغارة. ستّة أشهر في المغارة الأولى -وأشار بِيَده إلى فجوة أوغل فيها ظلام عميق-، أسَّس كلُّ يومٍ فيها لِميدان لاحق؛ لهذا كان زمنها نخبة أيّام الله.

فضلُ هذا الكهف أنّ الذين أووا إليه زادهم الله هدىً، فاستحقّوا الأرض بعد أربعين سنة، لا يتيهون فيها، تأتمِنهم على مائها وشجرها؛ أربعين سنة بَلغوا فيها أشُدَّهم، فاستحقّوا -حُكماً- عرشه في القلب، توزّعتْ شرايينه بين «لبنان» و«فلسطين» و«سوريا» و«العراق» و«اليمن» وبلاد أخرى -الله يعلمها-.

 

7


1

المقدّمـة

في مستهلّ كلّ كتابِ نصرٍ، لهم بَسملة وبَصمة. تبدّلتِ الساحات ما بين ثلجٍ وقيظٍ، وماءٍ وصحراء، ومدنٍ وقرى، وعُلوٍّ وانخفاض، وداخلٍ وساحل. وما تموّهوا، وما بدّلوا تبديلاً. وجوه آلاف المجاهدين تشرّبتْ بَشرتهم، وصدور آلاف المجاهدين حملتْ قلوبهم.

في «العصا الرابعة» عشرون قصّة بِأقلام لبنانيّة، سوريّة، وإيرانيّة، لم تُنتقَ أحداثها انتقاء؛ لأنّ كلّ حدث في ميادين المقاومة هو صفوة. و«العصا الرابعة» لن تتركك -أيّها القارئ المتأمّل- على كرسيّك في مكتبك، ولا متّكئاً على أريكة تتابع الحدث مِن بُعد؛ سَتُعينك «العصا الرابعة» على التنقُّل بين البساتين والقرى والمدن والغابات، ستتموّه وتستَتر مع كلّ حرف، ستثوي إلى صخور الجبال، ستشعر بِأشواك الأراضي الوعرة، ستتحسّس قدماك حرارةَ الإسفلت المحموم، ستقنص عدوَّك مِن فجوةٍ في جدارِ بناية، ستحمل معولاً وتقاوم، قَلماً وتقاوم، وستنقل قبضة للصواريخ، وترصد أهدافاً في «الجليل الأعلى».

يسرّ مركز المعارف للتأليف والتحقيق بالتعاون مع جمعيّة إحياء التراث المقاوم، أن يضع بين أيديكم هذه الباقة من الروايات والقصص الأدبيّة التي تحكي بطولات مجاهدين

 

8


2

المقدّمـة

وشهداء سطّروا أسمى معاني الشرف والكرامة والعزّة، لتبقى قصصهم خالدة في الوجدان، محفورة في الذاكرة، كما دماؤهم التي روت هذه الأرض، فأثمرَت نصراً إلهيّاً عزيزاً.

 

جمعيّة إحياء التراث المقاوم

 

9


3

نربيش

«نربيش»[1]

الكاتب كريم عاصي

هذه ليلة لا تشبه ما مضى مِن اللّيالي العشرين الفائتة؛ تتحرّك بِكَسل، «وأبو محمّد سلمان» لا يخطو أيّة خطوة إلّا بعد رصدٍ وحَذَر.

قضى ساعةً تقريباً مُنطوياً تحت سفرة الدرج -المكان الأكثر أمناً في منزلٍ على طرف «عيتا الشعب» لِناحية الجنوب، قبالة شمال فلسطين-، إلّا أنّ الإقامة الطويلة في المكان نفسه لا تُعدُّ سلوكاً عسكريّاً صحيحاً؛ لذلك أشار إلى «فارس» بِأن يتبعه إلى المنزل المجاور.

وبينما كان الأخير يتتبّع مسار طائرة التجسُّس لِينتقل على وتيرتها مِن مكانه -حِرصاً منه على ألّا تكتشفهما-، سمع

 

 


[1] مُستوحاة مِن بعض مَرويّات «عيتا» تمّوز 2006م.

 

12


4

نربيش

صوتَ «أبي محمّد سلمان» بما يُشبه الهمس: «اسحب معك ذاك «النربيش» الممدود عند شجرة الصنوبر بمحاذاة سور المنزل».

انتقل «فارس» ونفّذ ما طُلب إليه، إلّا أنّ أمارات التعجّب والاستهجان مِن طَلَبِ «الحاجّ سلمان» وصلَتْ حدّ الاستقباح في مِثل هذا الظرف العصيب، لكنّه عالج «النربيش»، وأعاد مَدّهُ -مِن حيث استتر وتحصّن- إلى أطول ما يمكن أن يبلغه.

عاش لحظات حبلى بِمشاعر غريبة غير معهودة، مِن التوجُّس العائد إلى توقُّف القصف لِأكثر مِن ساعتين.

انتقل «فارس» أثناءها إلى إجراء بعض التعديلات على أماكن تموضُع الشباب، بِحسب ما وصل لِـ «أبي محمّد سلمان» مِن غرفة العمليّات مِن معلوماتٍ جديدة عن العدوّ.

سادَ الصمت المُطبق المكان، وأضفى عليه هيبة غريبة. شرعَتِ الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة في الإغارة بِشكلٍ متواصل وكثيف، وكأنّ أبواب جهنّم قد فُتحتْ على مصاريعها.

 

13

 


5

نربيش

الخطر يُحدِق به، يترصّده، يُريد أن ينال مِن مسامّ جسمه كلّها. لذا، لم يكن يستخدم الجهاز إلّا لِضرورات استثنائيّة لا يستطيع تقديرها غيره.

طائرات التجسُّس المُسيّرة تتفرّس بالجزئيّات والتفاصيل الدقيقة كلّها، متلفّتةً إلى الجهات كلّها، وهو يترقّب قدوم العدوّ؛ ينتظر وصوله لِيُحكم الإطباق وفاقاً لِما أعدّ وخطّط.

أمسك بِرشّاشه كأنّه روحه، التصقَ بالحائط، تمتم -بِصوتٍ ملائكيّ- بِكلمات غير مفهومةٍ نابعة مِن قلبٍ كأنّه ينبض لِأوّل عِشق،

وتفقّدَ -مُضطرّاً- بعض مُعاونيه لِيطمئنّ.

وما هي إلّا دقائق قليلة حتّى لفّ الغبار الكثيف المتصاعد المكان. تجمّع الكثير منه أمام عينيه، فلم يَعُد بِمقدوره أن يفعل شيئاً؛ لقد فَقَد القدرة على تمييز الأشياء مِن حوله، فالغارة خاطفة، والصاروخ مِن العيار الثقيل.

غطّاهُ ركام المنزل المؤلّف مِن طابِقيْن. كاد يختنق، فالهواء انعدم. وأطرافه الثلاثة تحت حجارة المنزل، أمّا يده اليسرى المهشّمة فبقيَتْ طليقة. أخذَتْ تتحسّس طرف «النربيش»، تتحرّق شوقاً إليه، تعيد تفحُّصه مرّاتٍ ومرّات، وتُهَدهِده.

 

14


6

نربيش

وبعد أن عثر عليه بِجانبه، بدأ الدرس الأوّل مِن علوم الحياة: الشهيق والزفير. حينما وضع طرف «النربيش» في

 

 

15


7

نربيش

فمه، أخذ هواءً صافياً عميقاً يحمل عبق الحقول المُحيطة، فيما كان الطرف الآخر مِن «النربيش» خارج المبنى المُدمّر يَهزأ مِن ترسانة العدوّ كلّها.

 

16


8

المِذياع

المِذياع

الكاتب قاسم الساحليّ

المذياع وسيلة التواصل الوحيدة، يَتفقّد عن طريقه أحوالَ العالم، وكان ينتظر فيه شيئاً ما: خبراً ينتشله مِن عزلته التي ضاق خناقها بعد رحلة «هاشم» الأخيرة.

كان صديقاً أنيساً، بَسْمته تُعيد ترتيب العالم وِفاقاً لِمزاج الصمت؛ كيف يكون الصمت بهذه البلاغة والفصاحة في نُطق الحروف وإخراجها مِن مخارجها الصحيحة مِن دون ضجيج أو صفير -هَمساً- كما تلك الأحرف الأربعة القصيرة الناعمة السريعة: ها... شِم؟

الصَحْب ينتظرونه، وهو يتأمّل في المرآة مليّاً؛ يُصفّف شعره بِعناية شديدة، ويتأمّل تناسق الألوان، القميص، البنطال، الحذاء... يمسح الحذاء كثيراً؛ لم يكن مِن النوع الفاخر، لكنّه، في قدمَيْه، يبدو بَرّاقاً بَهِيّاً.

 

17


9

المِذياع

يطول الانتظار خَلف الباب، ويَتهامس الصحب -كما العادة- بِضحكات مكتومة: «شو ما خلصت العروس بعد؟ خلِّصنا بقا يا زَلَمة».

وها هي «بيروت»، له فيها عرس مِن نوعٍ آخر؛ كانت تثير في روحه الريفيّة الكثير مِن الحُبّ الممزوج بالبساطة والعفويّة والطلاقة. هو يُحبّها حُبَّيْن؛ حُبّاً لِأبيه الذي تُذكّره به شوارعها، بِبِزّته العسكريّة ذات اللون الداكن، وحُبّاً له، لِذاك الذي يسكن أعماقه. لقد فتح عينيْ طفولته على الشاطئ والرمل والسمك والملح والزبد وأغاني البحّارين، لكنّه كان مهووساً بالبحر، بالصمت، بالأضواء الخافتة البعيدة، وبقايا ترانيم قديمة.

كان يُحدِّث أصدقاءه عن البحر كأنّه أسطورة مسحورةٌ مرصودةٌ مسكونةٌ بالصمت والأسرار، هل تعرفون اتّساع البحر؟! لا شيء يمكن أن يَحدّه، أن يحتويه، أن يملأ عينيْك وسَمعك، ويشغلك عن الكون كلّه. ومن الغريب أنّه كأس الملح الوحيدة، والملح بحرٌ ودَمع.

يفتح أصدقاؤه أفواههم مَشدوهين أمام هول الأسطورة: «أحَقّاً هو كبير بهذا الحجم؟! ثمّ لِماذا الملح؟ مَن تراه الذي قام بِهذه المهمّة الخطيرة المُجهدة، ولماذا؟ إنْ كان حُلواً، سيشرب العطاشى إن أعوَزتهم الأنهار، فلِماذا الملح؟».

 

18


10

المِذياع

يَظلّ صامتاً، يَتركهم مع الأسئلة الساذجة، ولا يجيب.

في الطريق إلى شاطئ «الأوزاعيّ» يستحضر العاصي. لِماذا قفز إلى ذاكرته الآن كما تقفز سمكة فوق سطح الماء تختبر الهواء؟ تذكّرَ كيف غطسَ لِيُخرج شابّاً سَحَبه الدوّار إلى قعر النهر، وعَلِق بين سيقان القَصَب. تذكّرَ كيف قفز إلى الماء لِيُخرج سمكة «ترويت» كبيرة تمرّدتْ على الصنّارة وسحبَتِ الخيط بعيداً، كيف انزلقت مِن بين يديه وعاندته طويلاً، لكنّه أمسكها مِن خياشيمها أخيراً، ورمى بها إلى الضفّة. تذكّرَ الرحلة اليوميّة إلى النهر الذي صار خُبزه وأُنسه. وتذكّرَ الآن أسماء قفزَتْ إلى شفتَيْه: «دوّار عبد الهادي»، «دوّار الحجر»...

في «الأوزاعيّ» حارة الصيّادين، المراكب الخشبيّة الصغيرة التي تفوح منها روائح السمك والملح والعرق الساخن والشمس. في «الأوزاعيّ» القمصان المهلهلة، القبّعات البسيطة، الأحذية الخفيفة، والشِباك التي تصلح لكلّ شيء؛ لأكياس النايلون، والقناني البلاستيكيّة، والصدَف، والسمك...

 

20


11

المِذياع

ها هو يدخل الفسحة قبالة الشاطئ، يُنادي «مصطفى» ابن شيخ البحر والسمك في «الأوزاعيّ»، ويخرجان معاً على

 

21


12

المِذياع

متن «الشختورة»[1]، بالقبّعات والشِباك والصنّارة -العِدّة التي يتسربلان بها للإبحار قبالة البوارج الحربيّة الإسرائيليّة القريبة مِن الشاطئ-، ويُخفيان بين الشِباك قنّينة الأوكسيجين وثياب الغَطْس؛ إنّه التدرُّب القَلِق، التدرُّب المحفوف بالموت، التدرُّب تحت عيون الذئاب والأضواء الكاشفة.

لكن -على الرغم مِن ذلك- يختلف الغَطس هنا عن ذاك الذي كان يُمارسه في العاصي؛ الانكشاف الحرّ هنا أكبر، الرؤية شديدة النصاعة، والماء يبدو أثقل بِكثير. آهٍ لهذا الماء كم هو محمّل بالملح، بالمناديل، بالبواخر، والأشرعة، والأحلام، والقراصنة، والمغامرين، والهاربين إلى رُؤاهم!

لكنْ للعاصي تَمرّده الأرعن، ماؤه الوثّاب، حِداؤه الأصيل، غابات القصب، ورقصة الدوّار حول نفسه؛ يدور -كما «الدراويش»- لِيصل السطحَ بالقَعر.

هنا، على شاطئ «عدلون»، يبدو الليل في كانون ثقيلاً؛ ستارة كثيفة، يتخلّلها ضباب شتائيّ شبه شفّاف. نزلوا للتوّ بين شجيرات الموز، وتسلّموا عتادهم الحربيّ. لم يُسمَع في تلك

 


[1] القارب الصغير

 

22


13

المِذياع

الساعة مِن ساعات الليل صوت واحد، الكلّ في صمت مُطلق، كأنّما يتبادلون الحديث بِعطر الأرواح المتأهّبة. الموج 

 

 

23


14

المِذياع

والبحر والأفق البعيد وأوراق الشجيرات تظلّلهم، كم تشبه السعفَ أوراقُها الكبيرة! كأنّما خُلقَتْ لهم، أو صُمّمتْ مِن أجلهم في هذا الليل الغريب؛ يَلتحفونها، يستظلّونها، يلبسون سندسها لِميقاتٍ قريب. كم تشبه غابات القصب التي تُسوّر النهر، تأوي إليها العصافير الملوّنة وأسراب البطّ المهاجرة!

البارجة الحربيّة على بُعد كيلومترين تقريباً، ممتدّة، ثقيلة، عالية، تنبعث منها الأضواء المُبهرة، وتتوزّع في الماء. وبين الحين والآخر، جولة الكشّافات الضوئيّة تترصّد أجساماً مَشبوهة.

بَذلوا جهداً كبيراً لِيملؤوا القاربيْن المطّاطيّين بالهواء، ثمّ توزّعوا ثلاثةً ثلاثةً في كلّ قارب، وتفقّدوا أسلحتهم وعتادهم والسترات الواقية للمرّة الأخيرة. شغّل «عبد الرحمن» محرّك القارب الأوّل، فتهادى خفيفاً في البحر الساكن؛ ها هو البحر يستقبلهم. هم والبحر والسماء شيء واحد لا يمكن أن يتّسع له هذا الكون كلّه.

ظلّ الصمت مُدوّياً. أطفَؤوا المحرّك. تهادى المركب وقد اتّسعتْ مِن حوله دائرة الليل الكانونيّ. يُتقن هؤلاء البحّارة موسيقى الصمت، 

 

24


15

المِذياع

نشيد الصمت، صلاة الصمت، صوم الصمت. يتناجون، يتناغون، يتراسلون بالريح والعيون

 

 

25


16

المِذياع

المالحة، ويتقنون في الوقت نفسه طواعية المِجذاف، توازن الموج، تأويل الغرق بالغوص، بالطفو، بالتأمُّل، وقراءة وجه البحر والسماء.

استعدّ «عبد الرحمن»، جَلس على رُكبة ونصف، أخذ نفساً عميقاً طويلاً، ثبّت القاذف على كتفه، رَفع الأمّان، وضع منتصف البارجة في مدى عينِه اليُمنى المفتوحة، تَمْتَم، وأَطْلَق.

قلِقَ الصمت. اشتعل البحر أرجوانيّاً. قذيفة ثانية، ثمّ انهمر الرصاص مِن الرشّاشات المتوسّطة.

يأتي الصوتُ الصباحيّ الآن مشوّشاً مِن المِذياع القديم المتربّع فوق مسند القشّ. يُحرّك القرص قليلاً لِيسمع: «نفّذت المقاومة عمليّتها البحريّة الأولى، واستهدفتْ بارجةً حربيّةً إسرائيليّةً في عرض البحر، قبالة شاطئ عدلون...».

آهٍ للبحر، لِهذا الهوس الذي يخضّ الدماء ويَسكن العروق! آهٍ لكأسِ مِلحِه الذي لا يصحو إلّا على كأسٍ جديد!

على الشاطئ نفسه، وقف أصدقاء «هاشم»: «عبد الرحمن»، «محمود»، «رسيل»، «حسين»، و«حسين». سَمّروا أعينهم في البحر طويلاً، وانتَظروا. سيعودون على متن القارب 

 

26


17

المِذياع

المطّاطيّ نفسه. لا يزال «عبد الرحمن» يُصوّب قاذفه، ولا يزال العَرق 

 

27


18

المِذياع

البارد يتصبّب غزيراً. لا بدّ مِن أنّ عطلاً ما طرأ على المحرّك، وهم يُصلحون العُطْل الآن.

سيعودون. لا، سيعود. لا... مرّت ثلاثة أيّام على ذلك اللّيل الكانونيّ المُضيء. لم يَعُد «هاشم». عادتْ سترة واحدة ممزّقة بالشظايا والرصاص. لم يَعد «هاشم»، لكنّ «دوّار عبد الهادي» ظلّ يدور، وقد تسارع دورانه بِجنون، لم يَعد له صاحب؛ هكذا قال العارفون بالماء. وظلّت المرآة وحيدة في الغرفة الصغيرة تترقّب الغرّة والعينَيْن البحريّتيْن.

وحده القميص المَكويّ بِعناية شديدة ظلّ معلّقاً على شجيرة موز عند الشاطئ الرمليّ في «عدلون»، كان مفتوحاً كشراع، يُلوّح بِكُمّين طويلين أزرقَيْن، مُتحرّقاً لِأن يحتضن عطر الجسد البحريّ البعيد.

«سيأتي مع العاصي يوماً. سيخرج مِن الدوّار -ربّما-، مِن بين شجيرات القصب التي كانت تأوي إليها العصافير الصغيرة وأسراب البطّ المهاجرة في الليل. مَن دَخَل النهر مِن دوّاره مِن باب «الدراويش»، مَن دخل البحر مِن ثقوب القصب، سيُغنّيه الموج لحناً يَجيء مع الريح. مَن مالَحَ العاصي لا بدّ مِن أنْ يعود».

 

28


19

شهاب الدين أوزبك

شهاب الدين أوزبك

الكاتبة إيمان علويّة

بِضع حصوات؛ تلك هي الهديّة التي أحضرها معه لِزوجه وبعضِ رفاقه مِن رحلة السَفر. ولولا أنّه صاحب الجود، لاحتفَظَ بها حِفظ الصائغ لِلماس.

كان الربيع قد تقمّص لبوس كوانين، عندما استعدّ الموكب في أواخر أيّام الرحلة للانطلاق مِن «بيشاور» -أو ما يُطلق عليها «مدينة الزهور» في «باكستان»- والتوجُّه نحو «أفغانستان» لِزيارة المجاهدين في إحدى قواعدهم العسكريّة بِالقرب مِن العاصمة «كابول».

بَدا الغيم الداكن في ميدان السماء كَجَيشَيْن مُحتشدَيْن، بينهما تقطيبة مُفصّدة تُنبِئ باحتدامٍ وتساقطٍ لِمَطرٍ قريب.

 

30


20

شهاب الدين أوزبك

مِن داخل إحدى غرف مبنى الحوزة العلميّة في «بيشاور»، وقفَ السيّد «عابد» أمام الخريطة، وسار بإصبعه في الطريق الذي سيسلكها الموكب: «أمامنا ستّ ساعات للوصول تقريباً. الترتيبات اللّازمة لانطلاقنا كلّها جاهزة، إلّا أنّ بعض العوائق يمكن لها أن تصادفنا أثناء الطريق؛ فعند قرية «دارا آدم خيل» تمتدّ محالّ ومصانع لِتُجّار الأسلحة والمهرّبين على جانبَيْ شارعها الرئيس، مُضافاً إلى تواجُد أجهزة الاستخبارات الأميركيّة في غير منطقة. ومِن الممكن أن يُفاجئنا قتالٌ بين بعضِ الفصائل المتناحرة. إلّا أنّ ذلك لن يشكّل حاجزاً أمام وصولنا «سيّد شهاب الدين»، فأنت مِن آل «أوزبك»، وأنتم على توافقٍ مع الجميع».

لم يكُنْ تقدير السيّد «عابد» لِمسافة الطريق خاطئاً، لكنّ سرعة السائق القصوى قلّصَتِ الوقت. وإنّه، وإن كان لِهذا الأمر حسَناته، إلّا أنّ كاميرا المصوّر ظلّت -نتيجة ذاك- طريحة عُنقه، فالمشاهد بدَتْ تسابقه في المسير؛ لقد ظنّ أنّه سيفلح في التقاط بعض الصور بعدما قطع الموكب ثلاثة أرباع المسافة، واجتاز مَعبر «وِش شامان» الحدوديّ، ودخل الأراضي الأفغانيّة، إلّا أنّه أثِم في ظنّه عندما بدأ يتأرجح يَمنة ويسرة فوق تجاعيد الأرض، ويضرب رأسه في سقف

 

31


21

شهاب الدين أوزبك

السيّارة عندما تقفز فوق بُثور صخريّة كبيرة في طرقات جبليّة مُتعرّجة ضيّقة.

عرّش الخوف في قلبه مِن أن يلقى حَتفه بين جذوع الأشجار الباسقة عندما وجد نفسه على رأس الجبل، في الطريق الموازية لِتاجها، وهو قد كان منذ بعض الوقت بِموازاة جذعها. التفتَ إلى «شهاب الدين» في الخلف لِيُحدّثه، علّه يَنسى ما ألمّ به، فوجده خالعاً نظّارته ذات الحوافّ السميكة، وقد غفا كما لو أنّه في عِرزاله الهادئ.

مع حلول المساء، توقّف الموكب أمام بيت «منصور»، الذي شاء القائد الأفغانيّ «مُحمّد» أن يكون محطّةً للمبيت قبل الانطلاق في الغد، وقال -وهو يصعد دَرجتَيْن صغيرتين-: «منصور أحد المجاهدين الأشاوس، تعرّض لِقصف مِن الطائرات مرّات عدّة، ونجا بِأعجوبة».

استراح الوفد في غرفة الاستقبال الواسعة على فُرشٍ رقيقة، مُزّق بعض أطراف غِطائها الرثّ. يَسكن في إحدى زواياها تنّور الاستقبال لِيُكرم الضيفَ بِرغيفه الساخن، في منزلٍ طينيّ متواضع، شأن أمثاله مِن منازل القرية.

 

33


22

شهاب الدين أوزبك

لم يَطُل المكوث، حتّى بدأت تتوافد أطباق مِن الطعام

 

 

34


23

شهاب الدين أوزبك

الشهيّة بِلونها الأحمر. وما إن امتدّتِ الأيدي إلى الأطباق حتّى لَهجت الألسن، واحمرّت العروق في المُقل، فلم يكُن يَعلم «شهاب الدين» ومرافقوه إلّا أنّ المكوّن الرئيس للمائدة هو التوابل الحارّة.

الله وحده يعلم ما الذي رآه «شهاب الدين» في ابن «منصور»، صاحب العينيْن الزيتيّتيْن والسحنة الترابيّة والنمش المنقوش على وجنتَيْه، وقد انتُزعَتْ منه ملامح الطفولة لِيتحوّل رجلاً بِهيئةِ طِفل، عندما قدّم إليه الطشتَ والإبريق لِيَغسل له يديه على المائدة؛ تلك عادة أخرى مِن عادات القوم. قرّبه وأدناه، بل جعله مِن حواريّيه في تلك السهرة الدافئة بالحديث عن الجهاد ووحدة الصفّ بين المسلمين.

تفتّق الصبح عن وجه سماء أذهبَتْ فيه قتامةُ الغيم نضارتَه، وانطلقتْ عَجلات الموكب.

كان السيّد «شهاب الدين» يتأمّل في الجبال الممتدّة على جانبَيْ الطريق. يصعب على مَن لا يعرف هذا الرجل جيّداً أن يُدرك ما يختزنه خلف صمته وتقاسيم وجهه المائلة إلى الحزن أكثر مِن السُرور والوجد عندما يكون في طريقه إلى المجاهدين؛ كم مِن المرّات عانقهم في مخيّلته قبل أن يَصل إليهم!

 

35


24

شهاب الدين أوزبك

أثناء الطريق، أخرج «عابد» يده مِن النافذة مشيراً إلى أرضٍ خاويةٍ على عروشها، وقال: «كانت قريةً آهلةً بِسكّانها مِن قبل أن يبيدها قصف الطائرات».

أطبق، ثمّ أردف، وقد تراجعت نبرة صوته: «قضى في يوم واحد ثمانيمئة مِن أهلها تقريباً، ودُفنوا في مقابر جماعيّة».

استأذن السيّد «شهاب الدين» بضع دقائق لِيُصلّي مع الوفد، وعاد بِبِضع حصوات قال إنّها مقدّسة؛ لأنّها جُبلَت بدماء الشهداء.

وما إن انطلق الموكب مِن جديد حتّى بدأت حُبيبات المطر تنقش واجهة السيّارة، ثمّ أخذ حجمها يكبر لِتنحدر نزولاً على الزجاج، إلى أن صارتْ تصفعه بِقوّة لِتتفلطح دوائر أوسع، ثمّ -سريعاً- بدأ الهطول غزيراً، وغزَتِ الزجاجَ غشاوةٌ جعلَت صورة الخارج ضبابيّة، على إيقاعِ هزيمِ رعدٍ صاخبٍ مُنبعث مِن حنجرة السماء.

مضى مِن الساعة ثلاثة أرباعها، أفرغ الغيم أثناءها ما في حوصلته، والموكب وصل إلى إحدى طرقات الأودية. فضح المطرُ حقيقةَ الجبال الهشّة، إذ إنّ تربتها عجزَتْ عن 

 

 

36


25

شهاب الدين أوزبك

امتصاص الماء، لِيتحوّل الوادي جرْفاً مِن السيول، فعلِقَتِ السيّارات 

 

37


26

شهاب الدين أوزبك

الثلاث في المكان، وبدأ الماء يَنفذ إلى داخلها، لِيغدو الطريق إلى «كابول» مستحيلاً، فالمسافة لا تزال بعيدة. وأصبح جُلّ هَمّ «عابد» أن يتمكّن الوفد مِن سحْب السيّارات لِيعودوا أدراجهم.

توجّه «مُحمّد» إلى طرف الجبل، حاملاً جهازه، لِيبلّغ المجاهدين بإلغاء الزيارة، فلَحِق به «شهاب الدين» وسأله: «كم تبلغ المسافة إلى أقرب موقع للمجاهدين؟».

- لدينا نقطة مراقبة في أعلى ذلك الجبل، وصعوبة الطقس تَحول دون وصولنا إليها.

- بلِّغهم بِمَجيئنا إليهم.

بين ابتسامة المُتعجّب والطرف المرفوع إلى السماء، تمتمَ «محمّد»: «يبدو أنّ دعاءهم قد استُجيب».

مشى «شهاب الدين»، القائد «محمّد»، المُصوّر، وأحد المرافقين، في بَطن الجبل، بِأقدامٍ تنغرز في الوحل مع كلّ خطوة، فتخرج أكثر ثِقلاً. ساروا، وساروا.

مع مشاقّ الصعود، لَزِمَتهم استراحات عدّة، حتّى إذا ما وصلوا إلى مسافة بانَتْ فيها نقطة 

 

38


27

شهاب الدين أوزبك

المراقبة، قال القائد لـ«شهاب الدين»: «توقّف!».

 

39


28

شهاب الدين أوزبك

عدد مِن المقاومين نزلوا مِن الموقع، يدُسّون أقدامهم في الجبل، فلا تكاد تلامس التراب الموحل مِن رشاقتهم، وكأنّ الأرض ثبتتْ فثبَّتتْ أقدامهم. رموا أرواحهم باتّجاه أفراد الوفد، يجولون بأبصارهم بين الوجوه، وقبل أن ينبسوا بِبِنت شَفَة، عرّف القائد «محمّد» -مشيراً إلى «شهاب الدين»-: السيّد عبّاس الموسويّ، مُمثّل حزب الله في لبنان، جاء يُحدّثكم عن تجربة المقاومة الإسلاميّة في مواجهتها الصهاينةَ[1].


 


[1] السيّد عبّاس الموسويّ (رض) شارك في مؤتمر كشمير في إسلام آباد في باكستان، في 24/03/1990م، وكانت له زيارة على هامش المؤتمر مع المجاهدين إلى مواقعهم.

 

40


29

بَيدر

«بَيدر»

الكاتبة والروائيّة ريمة راعي

بعد أن انتهينا مِن زراعة شتلات الحَبَق، جلستُ و«بيدر» على حافّة قبر أمّي، نستنشق بخّور خشب الصندلِ الذي يحترق في صحن صغير فوق القبر. وكلٌّ منّا غارقٌ في أخيِلة مريرة حول لَحظات أمّي الأخيرة، وهَلعها الأخير.

كان ماثلاً أمامي -في تلك اللّحظة- مشهد حُفرة ضخمة، يتحرّك فيها عناصر الدفاع المدنيّ، بِملابسهم البرتقاليّة الفاقعة التي تتنافى بَهجتها مع مهمّتهم المريرة، المُتمثّلة في إخراج الجُثث مِن الحُفرة التي كانت أوّل مَقبرة جماعيّة تُكتشف في قريتنا. كنتُ و«بيدر» وعدد مِن الناجين مِن أهل القرية نقِفُ عند فوّهة الحُفرة، نضع مناديل ورقيّة على أنوفنا لِنتحاشى الرائحة الكريهة، ونصلّي كي لا يكون أحبّاؤنا مدفونين فيها، مفضِّلين أن يبقى مصيرهم مجهولاً على أن يكونوا ضحايا

 

42


30

بَيدر

المجازر الوحشيّة التي ارتكبها التكفيريّون الذين هجموا على قريتنا، وعلى عشر قرىً مجاورة.

كنّا نأمل أن تكون أمّي قد اختُطِفَتْ مع النساء والأطفال الذين جمعهم التكفيريّون في شاحنة كبيرة، وساقوهم نحو جهة مجهولة؛ كان ذلك الاحتمال أكثر رحمةً مِن أن تكون قد قُتلَتْ على أيديهم.

وفي لحظةٍ صرخ «بيدر» وهو يشير بِيَده إلى جثّة مُختفية المعالم، ترتدي ثوباً أبيضَ عليه ورود خضراء وحمراء: «هذه عباءة أمّي».

حدّقتُ في الثوب، واستعدْتُ صورة أمّي وهي تقِف أمامي بِعباءتها الجديدة التي أحضرتُها لها في عيد الأمّ، تَضحك وهي تُمسّد قماشها بِرِفق على جسدها، وتقول: «كان أبوك -رحمة الله عليه- يُحبّ القماش المزركش بالزهور».

ضممتُ يومها أخي إلى صدري. راح يبكي كطفلٍ صغير، وأنا أبكي أمّي، وأبكي «بيدر» مَعها، فقد كنت أعلم أنّ الشعور بالذنب يَقتله؛ هو الذي يعدّ نفسه مُذنباً، لأنّه أضاع أمّي.

في ذلك اليوم المشؤوم، صحَوْنا على صوت رجل يصيح: «التكفيريّون قتلوا الجنود الذين يَحمون مدخل القرية، وراحوا

 

43


31

بَيدر

يقتحمون البيوت، ويقتلون أصحابها النائمين في أسرّتهم».

كان صراخ الرجل يمتزج بالتكبيرات وأصوات الرصاص والقذائف، وكان الوقت قبل الفجر بِقليل، والناس الذين صحَوا على أصوات الصراخ والرصاص، راحوا يركضون حُفاة مذهولين نحو الأحراج. انقسم الرجالُ فِرَقاً؛ منهم مَن وقف على الأسطح يُطلق النار على الجَحافل الحاقدة، ومنهم مَن راح يجمع النساء والأطفال، ويركض بهم نحو الأحراج.

كان الهاربون قِلّة مِن المحظوظين مِن أصحاب البيوت البعيدة عن مدخل القرية، الذين تسنّى لهم أن يعرفوا باكراً بِهجوم التكفيريّين على حاجز الجيش، فشكّلوا حشداً بشريّاً راح يركض نحو الأحراج، ولم يكن ممكناً -بأيّ حال مِن الأحوال- أن يلتفت أحد منهم إلى الخلف.

كنتُ أحمل رضيعي الصغير النائم بين ذراعيّ، وأركض محاوِلة ألّا أصدر أيّة شهقة أو آهةِ وَجع بِسببِ الأشواك التي تخترق قدميّ الحافيتَيْن. «بيدر» وأمّي وجيراننا كانوا يركضون وسط الحشود.

 

 

45


32

بَيدر

«بيدر» الذي لم يَعُد جسده النحيل يَحمله، رمى بِنفسه خلف صخرة، تسترها شجيرات شائكة، وظلّ مُختبئاً إلى

 

 

46


33

بَيدر

أن خفَتَ صوت القذائف، حينها قرّر معاودة السير. وما إن نهض مِن بين الشجيرات حتّى سمع صوتاً يصيح: «سلِّم نفسك».

رفع «بيدر» يديه، واستسلم لِمصيره، إذ كان يظنّ أنّه سيرى خلفه داعشيّاً يحمل سيفاً، لكنّه رأى جنديّاً سوريّاً يوجّه نحوه بندقيّته. وبعد أن أدرك كلّ منهما أنّ الآخر ليس عدوّاً، قال له الجنديّ: «لا تخَفْ، أنت بِأمان. أنا جنديّ سوريّ».

كان «بيدر» حينها في الثامنة عشرة مِن عمره، كان شابّاً وسيماً، أبيض البشرة، واسع العينيْن، فخوراً بِشعره الأسود الكثيف الذي يردّه إلى الخلف، ويثبّته بالكريمات الملمّعة. كان يملك صوتاً رخيماً، وكان يغنّي في أعراس القرية، وكان يُسِرّ لي بأنّه لا يريد أن يصبح طبيباً كما تتمنّى أمّي، بل إنّه يحلم في أن يصبح مغنّياً مشهوراً تهتزّ أمامه الرؤوس، ويضع الناس أيديهم على قلوبهم حين يستمعون إليه.

أتأمّله اليوم وهو يرشّ الماء على قبر أمّي؛ لقد مرّت سبع سنواتٍ على ذلك اليوم الرهيب، الرابع مِن آب عام 2013م، وها هو ينتصب أمامي مرتدياً ملابسه العسكريّة الزيتيّة، وثمّة تجاعيد دقيقة حفرتْ نفسها في وجهه الملفوح 

 

47


34

بَيدر

بِأشعّة الشمس. لم يُصبح «بيدر» مُغنّياً يصفّق له الناس، لكنّ البذرة

 

48


35

بَيدر

 التي زرعها أبي وأجدادي في تربة هذه الأرض الطيّبة، قد نبتت ونمتْ وأثمرتْ رجلاً مَنح نفسه كاملاً كُرمى لِبلاده. أبتسم له، وأعلم أنّ أمّي الشهيدة -في سمائِها- تبتسم.

 

 

49


36

العصا الرابعة

العصا الرابعة

الكاتب والروائيّ سديف حمادة

على مدى أربعين سنة يبتسم الله للقصر ثلاث مرّات في اليوم، فيُقيم سيّد القصر صلاته لِدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر.

مِن فجواتٍ ثلاث يبتسم الله للقصر، ومع فجوة الفجر يستيقظ الفتية الآوون إليه على هدهدات أغصان الشجر؛ سُرُرهم التي عليها يتقابلون. وسيّد قصرهم يطوف عليهم بإبريق شايه، يسكبه في قوارير مِن التنك أحسنَ غَسْلَها بعد أن تقاسم سبعة عشر فتىً حبّاتِ الفول المُدمّس، وحمدوا الله على نعمة عشائهم الشهيّ.

بِكلّ تلقائيّة، كانت ذاكرتي تعيد إنتاج سرده، يتماوج فيه الحنين، والمكابرة على الدمع، والرجولة، وأشواك الجبل المتكسّرة تحت نعليْه، وما في نظرات أمّه مِن ماء «نبع الطاسة»،

 

51


37

العصا الرابعة

وما في عينَيْ أبيه مِن خَبَبِ «حصان العبّاس»، وموسيقى طفلةٍ تغنّي عَودةَ أبيها على شبّاك الغرفة المطلّة على بقيّة الزقاق المُنفلتِ مِن سياج الشجر.

بِكلّ تلقائيّة، تداخلت المشاهد، فغِبْتُ عن الطريق إلى أوّل لقاءٍ كان بيننا، وقتها ذكر قصره كثيراً.

غبتُ عن الطريق الذي أسلكه مِن «بيروت» إلى الجنوب، مِن غير أن ألتفتَ إلى أجمل مناظر أحبّها؛ تلك المُنفرجات البحريّة المتمادية على المكان بِغُنجها كلّه. وعوَّضتُ عن سرعة سيّارتي، ذات الدفع الرباعيّ، بِتسارع دقّات القلب، حتّى لقد شعرتُ بأنّني أستقِلّ قلبي إليه، فأضمن الوصول قبل الموعد المحدّد إلى مكانٍ ما مِن جبال الجنوب.

عليّ أن ألتزم حدود السرعة القصوى المسموح بها، فالتجاوُز بالنسبة إلينا حرامٌ مِن قبل أن يكون غرامة.

وصلنا معاً، إنّه هو، بِكلّ ما خطَّه صعود الجبال الوعرة، وليالي الغابات والكهوف في وجهه، مِن خرائط تُشبه كثيراً تلك التي كان يبسطها تحت ناظرَي الشهيد «السيّد عبّاس الموسويّ» أثناء التخطيط لِعمليّة نوعيّة على المواقع الإسرائيليّة: «هنا موقع «سُجُد»، وهنا «بئر كلّاب». هذه

 

52


38

العصا الرابعة

المسافة هي خطّ الأفق، سنتجنّبها ما أمكن حين الانقضاض على الموقعَيْن».

إنّه هو، بِضحكته ووقاره كلّه.

إنّه هو، بِالمدى المفتوح كلّه في وجهه كمساحة هذا الأفق؛ وجهه فيه شجر، ومطر، وأزهار قِندَوْل، وقربة ماء. وفي بعض زوايا وجهه شوكٌ ووجع.

انحدَر بسيّارته في أحد الأودية، وتبعتُه بِسيّارتي -مع صديق أديب- حذو العجَلة بالعجَلة، حتّى إذا ركنَ سيّارته في ظلّ أحد السفوح، فعلتُ مثله. وإذا بي أمام مدخل منزلٍ كأنّه قِطعة مِن المكان.

استقبلَنا بِضحكةٍ، بِرحابةِ بوّابة منزله وما يحيط بها مِن مساحة خضراء، لِيصعد بنا إلى «سطيحةٍ» أعلى البيت، تماهتْ مع طبيعة المكان. وحول طاولة بُنّيّة عتيقة، توسّطَها تمرٌ عراقيّ وزبيبٌ وجوزٌ وإبريق شاي وأكوابه ذات القياس الكبير، جلَسنا.

جهّزَ ما تيسّر مِن عِدّة تُسعفنا في رحلة السير والسلوك صعوداً إلى «مقامِ كهف»: عصَوات ذات عقد في طرفها، تشبه عكاكيز قديمة؛ أربع عصوات نفتح بها ما تشابَك مِن أغصان

 

54


39

العصا الرابعة

شوكيّة، وما أكثرَها في درب هذا الصعود العنيد!

لم أكُن أدري أنّ المكان المقصود يقع خلفَ أودية العشق السبعة، بِكلّ ما فيها مِن حيرة وضياع وهدىً وعتمٍ وضوءٍ وخيبةٍ وأملٍ وصبرٍ وضجَر، بِكلّ ما فيها مِن تناقضاتٍ صارخة؛ أودية تشبه نفْسي تماماً، كلّ درب فيها يلوم درباً مجاوراً، فلا يبدو مِن معالمها سوى اللّوم.

ومقام الكهف هذا لا يحتاج إلى أستاذ في العرفان، ولا إلى طريقة مألوفة أو غير مألوفة.

وآيةُ مَنْ بلَغ هذا المقامَ أن يكون راسخاً في دروب الصبر واللّيل، خبيراً في فكّ رموز لغة الأرض والشجر، وافتراش الزاد على الصخر.

تقدّمَنا بِنفسه، هذا البارع في فنون الاحتيال على أذرع الشوك المتربّصة بالمصعّدين، والصخور، والانحدارات الشديدة.

أربعون سنةً كافيةٌ لِيبلغ فيها أشدّه، وما تاه يوماً واحداً في الأرض؛ إنّ الأرض أرضُه، والبندقيّة مطويّة بِيَمينه.

هي المرّة الوحيدة التي أتنبّه فيها إلى الأشياء كلّها؛ لا تؤاخذني يا ربّ، هي المرّة الوحيدة التي أدّعي أنّني أتنبّه فيها إلى

 

56


40

العصا الرابعة

الأشياء كلّها: كيف ينظر بِعمق، كيف يهدهد الأمكنة، كيف يمسح على خدود جذوع الشجر، كيف ترتاح بسمته على فوّهة البندقيّة، كيف تضعف عينُه إلى درجة دمعة، كيف تُربِّتُ كفّاه كتفَ مكانٍ أطال النظر فيه بِصمت؛ ثمّ قال بِصوتٍ ما استطعتُ أن أخمّن: أَحُزناً كان أم فرحاً: «هنا كان يُصلّي صاحب السجدة الطويلة، الشهيد «عبّاس حمّود»؛ كان يسجد مِن أذان الفجر حتّى الشروق. «عبّاس حمّود» كان عارفاً، كان قائد الاستطلاع لدينا في عمليّتَيْ «سُجُد» و «بِئر كلّاب». على الرغم مِن تسعة عشر ربيعاً، كان عارفاً وقائداً؛ إنّ القيمة لا تنتظر عدد السنين. أخبَرني قبل شهادته بِيومين أنّه لن يعود، ضحكْتُ وتعجّبْتُ. سألته ما أدراه. أجاب بأنّه رأى روحه فوق جسده عقِب صلاة دامعة. وفِعلاً، استشهد «عبّاس» في العمليّة ولم يعُد، حتّى جسده لم يَعُد...».

نهضَ بما لا يشبه كلّ نهوضٍ سبَق، حين كان صديقي يصلّي ركعتين في «مُصَلّى عبّاس حمّود» الراكن إلى صخرة جبليّة كمخبأ، وقد غيّره -بعضَ الشيء- ما استَنبتَ الزمنُ في أرضه الضيّقة مِن نبات شوكيّ. وتابعْنا المسير إلى القصر، وهو يُؤدّب الأشواك اللّئيمة بِعَصاه، لِيُوفّر على عصايَ هذه المهمّة -وهي العصا 

 

58


41

العصا الرابعة

الثانية-، فيما لم يلجأ صديقي كثيراً إلى استخدام عصاه 

 

59


42

العصا الرابعة

-وهي الثالثة-، لِما يتمتّع مِن همّة غَبَطْتُه عليها في سيرنا إلى «مقام قَصر».

بعد جهد، ومحاولات قبْضٍ على الأنفاس السريعة الهاربة، بلغْنا القصر، في مسير ساعتين جبليّتيْن. أنا الذي كنت -منذ اللّقاء الأوّل قبل شهرين- أحلم بِجَولة طويلة فيه، أتخيّل نقوشه الفنّيّة القديمة، وما فيه مِن هياكل، نافورة مياهِ باحتِه، تماثيله، ما نضج مِن ثمار أشجاره المتنوّعة، ما خلّفه المؤرّخون والشعراء والمبدعون والمفكّرون في سجلّه الذهبيّ مِن مدوّنات مخلّدة، أسماء مَن حَكموا، ومَن عبروا... كنتُ توّاقاً إلى الإنصات إلى ألف حكايةٍ وحكاية فيه.

«أين قصرك يا حاجّ؟ مِن أين ندخله؟» سألتُ في مزيج مِن التلهُّف والاستهجان.

- إنّه هنا.

أشار بِضحكة عينيْه إلى بُعْد خطوتيْن؛ فجوة بِقُطر مِتر، قاتمة، ذات محيط صخريّ سلّحه الشجر بِسنان شوكيّة كثيفة، وحنَتْ عليه أشجار نفضيّة بِظِلالها العميقة الخضرة.

 

60


43

العصا الرابعة

دخلنا ثلاثتنا عبر هذه الفجوة زحفاً؛ كان هو أوّلنا، تبعْتُه أنا مُتحسّساً بِعصاي المكان قبل أن ألج مِن الفجوة، وكذلك فعل

 

61


44

العصا الرابعة

صديقي الذي لم تفُتْنا ظرافته طوال المسير.

يا إلهي! لولا هذه الفجوات الثلاث في أعلى الكهف لاستحال المكان إلى ليلٍ دامس؛ كهف عميق في قلب جبلٍ، اللهُ أعلم أين ينتهي. في جدرانه قناديلُ من الصخر، وفي سقفه. أرضه رائحةُ أهل الكهف، وتنقُّلُ ضوء الشمس البطيء وهي تَزاوَرُ عليه طيلة النهار.

تذكّرتُ فوراً لقاءنا الأوّل، حين روى لي «سيّد القصر» حكايته الأولى مع القصر؛ كيف جمع السلاح مع الاجتياح الإسرائيليّ وخبّأه فيه، كلّ ليلة كان يقصد قصره، يتبادلان الضحك: هذا بِشفتيه، وذاك بِما تسلَّل إليه مِن ضوء الشمس، وكيف أوى الفِتية «السبعة عشر» إليه. حدَّثني عن أغصان الشجر التي اتّخذوا منها أسِرّة، عن ستّة أشهر قضوها فيه يخطّطون وينفّذون العمليّات ضدّ المحتلّ الإسرائيليّ، عن المأكل والمشرب. حدَّثني عن الكهف/الوطن، بكلّ ما فيه من حميميّة وحبّ وسخاء واحتضان وسَمَر. وحدَّثني -بِمرارة أيضاً- عن الوطن/الكهف، بكلّ ما كان فيه مِن استسلام وانهزام واستغلال وخيانة ونهب.

 

62


45

العصا الرابعة

حدّثني القائد الجهاديّ الرائع «أبو عليّ فرحات» عن كلّ شيء، إلّا عن «أبي عليّ فرحات». وأقسم علينا -أنا وصديقي

 

63


46

العصا الرابعة

الأديب- ألّا نروي شيئاً إلّا بعد رحيله.

مِن زمنِ «القصر» إلى زمن «القُصَير» مَسيرة بِعَكس لغة التصغير، تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ صعوده اليوميّ مِن الكهف إلى النصر.

أمس، وأنا أحلم بِموعد جديد قريب مع القائد الجهاديّ «أبي عليّ فرحات»، رنّ هاتفي. فتحتُ السمّاعة؛ صوت متهدّج لا يشبه كثيراً صوت صديقي الأديب.

«لماذا تغيّر صوتك يا سيّد؟!».

- صار بإمكاننا -يا صاحبي- أن نكتب قصّة سيّد القصر.

بكيتُ كثيراً، وتمنّيتُ لو أبكي أكثر حتّى تبيضّ عيناي، لعلّ مسْحةً ممّا تبقّى مِن «جزمة سيّد القصر» التي الْتقطتُ لها صورة عند فجوة الكهف ثمّ أتيتُ بها إلى منزلي لِتكون متحفَ ما تبقّى لي مِن العمر، تُعيد إليّ بَصري.

أقفلتُ الخطّ مع صديقي، واتّصلتُ بابنتي ذات الاثنيْ عشر ربيعاً: «رزان، حبيبتي، لقد رحل سيّد القصر».

 

64


47

العصا الرابعة

أخذَت الصدمةُ «رزان»؛ عرفتُ ذلك مِن صمتها على الهاتف.

بكتْ «رزان» كثيراً، كنت أسمع نشيجها عبر الهاتف؛

 

 

65


48

العصا الرابعة

«رزان» التي أذِن لها «سيّد القصر» أن ترافقَنا إلى مقام الكهف، في رحلة السير والسلوك.

بكتْ طويلاً هذه الصغيرة، ثمّ التقطتْ نفَساً مجْهَداً، وقالت: «لن أفرّط بِهدية «سيّد القصر»، سيكون لي فيها حاجة مع الزمن، سأعلّقها في جدار غرفتي كعلامة نُبوّة؛ لن أفرّط بـ «الـعصا الرابعة».

 

66


49

الحرب لا تمزح

الحرب لا تمزح

الكاتبة رقيّة كريمي

خفتُ، لا أخفي ذلك.

الحرب تعني الحرب، وعندما تكون وسط الحرب، يكون الوضع مُختلفاً تماماً عمّا إذا كنتَ تجلس في بيتك تشرب الشاي، تُتابع الأخبار، وتحبّ أن تدخل الشاشة لِتصفع العدوّ.

أنا خفتُ، على العكس ممّا كنتُ أظنّ. فجأةً، وجدتُ نفسي خلف الرشّاش، وكانت النار تشتعل مِن الأرض ومن السماء. كنتُ أرى كيف أنّ التراب يُقتلَع مِن الأرض ويَنتشر في الهواء؛ كنتُ أرتعد خلف الرشّاش.

رأيتُ قدميّ ترتعدان. سمعتُ صوتاً يهمس في أذني: «ماذا تريد هنا؟ ارجعْ، والدتك في انتظارك، خطيبتك في انتظارك، ارجعْ».

 

68


50

الحرب لا تمزح

رجعتُ، وبأقلّ مِن ثوانٍ، وجدتُ نفسي أعود. بأقلّ مِن ثوانٍ، رأيتُ «حسن»، كان يحفر الأرض بِأصابعه مِن شدّة الألم، والدم ينزف من ملابسه العسكريّة، وكان يحاول أن يُقاوم لِيقوم.

رأيتُ «جواد»، يتلاشى كامل جسده.

رأيتُ «محسن»، والدته كانت مريضة، ولم يكن لها غيره. رأيتُ ثقباً كبيراً وسط حاجبَيه.

رأيت «عليّ»، «كاظم»... كنت أشعر بالدوران.

لم ينسحب أحد... «قاسم» كانت خطيبته في انتظاره، مثلي أنا. رأيتُ الدم يجري مِن أذنه وشفتَيْه، وكان ينظر إليّ بِعينيْه المفتوحتَيْن. حاولتُ أن أغمض عينيّ، فلم أستطِع.

سمعتُ -مرّة أخرى- صوتاً كالهمس: «بكيتَ الإمام الحسين(عليه السلام) لِسنوات، والآن تَهرب مِن وسط المعركة؟».

أجهشتُ بالبكاء. لم يهرب أحدٌ غيري. كانوا يُقاومون كلّهم، وفي كلّ لحظة كان يسقط أحدهم.

كنتُ متردّداً، وكنت أحبّ أن أدخل معقل العدوّ وأقتلهم جميعاً. ولكن، أحياناً، يختلف ما نُحبّه عمّا نستطيع أن نفعله.

 

69


51

الحرب لا تمزح

عدتُ إلى مكاني. حاولتُ أن أقِفَ خلف الرشّاش، كنتُ

 

70


52

الحرب لا تمزح

أرتعد، أصابعي كانت ترتعد، فالحرب ليست مزحة، ولا تستطيع أن تلومني إلّا عندما تكون مكاني.

في تلك اللّحظة وجدتُ حَبلاً، أخذتُه وربطتُ قدمي بالرشّاش، وصرختُ تحت مطرٍ من زخّات الرصاص: «لن أسمح لكِ أن تؤثّري في وَقفتي يوم القيامة. لن أسمح لكِ. لا ترتعدي. سأقِفُ هنا إلى آخر قَطرةٍ مِن دمي. لن أسمح لكِ أن تهربي. أتفهمين؟!».

قتلتُ نفسي هنا، ذبحتُها في لحظة. نسيتُ أنّ خطيبتي في انتظاري، نسيتُ والدي، نسيتُ والدتي حتّى.

انتهَتِ العمليّة. كان الدم ينزف مِن أذنيّ مِن شدّة موجة الانفجار. أغمضتُ عينيّ بِهدوءٍ، والمسعف يسألني: «هل أنت بخير؟ هل تسمع صوتي؟».

وأنا أُردّد هذه الجمل بِهدوء: «الحربُ هي الحرب، وعندما تكون وسط الحرب فالأمر مُختلفٌ تماماً عمّا إذا كنت تجلس في بيتك تشرب الشاي، تتابع الأخبار، وتحبّ أن تدخل الشاشة وتصفع العدوّ. الحرب هي الحرب. لو لم تَقتل نفسك وسط المعركة، ستقتلك قبل أن يقتلك العدوّ».

 

71


53

الحرب لا تمزح

عاد عاشقاً

الكاتب د. محمّد ناصر الدين

في مثل هذه اللّيلة، كان أبي المريض -الذي ساءت أحواله في الحرب- يدسّ علبتَيْ دخّان في جيب قميصه. ترى هل إنّ «كوع النجاصة» عند أوّل «سُجُد» -الذي يعرفه منذ الصغر حين كان ينزل إلى «العازاريّة» ليبيع الكتب- لا يزال في مكانه؟ تلك الأسماء التي يحفظها كلّها وحفّظَنا إيّاها -إخوتي وأنا- عن ظهرِ قلب: «شير الغرابات»، «خلّة زينب»، «عرض الأطلب»، «مرج الحمّى»، «شكارة عبد الله»... يُخرج السيجارة مِن العُلبة، ويسمّيها بِالأسماء الغريبة تلك.

عند الثامنة صباحاً، مشت سيّارتنا مع ذلك الطابور حتّى «الزهراني». كنتُ، كلّما توغّلنا صعوداً، أنظر إليه جالساً بِجَانبي، ومُثبّتاً نَظَره في الأفق. أعرف ما يجول في خاطره: هل «الجبلُ الرفيعُ» هناك في الأعلى، في أوّل «زفتا»، حيث

 

74


54

عاد عاشقاً

يُمكنك أن تُبصر بيوت «سُجُد» البعيدة؟ أوقفني للمرّة الأولى: «انتظِر قليلاً». سَحب مِن السيجارة حتّى ظننتُه قد ابتلع عقبها، سرَّح شعره بِيَديه كما لم يفعل منذ زمن بعيد، ونظر في المرآة. عند مَفرق «سُجد»، كنتُ -عبر مقاعد السيّارة- قادراً على تحسُّس ضربات قلبه. وعند «كوع النجاصة»، أوقفني: «وَلّعيلي سيجارة يا نورا».

نزل العاشقان منِ السيّارة، ومشيا عند لفّة الكوع حتّى اختفيا في الأفق. تحسّسا كلّ زهرة في تلك الطريق، لَمَسا كلّ غيمة، وانحنَت على أقدامهما العصافير. وَصل أبي إلى بيته شابّاً عاشقاً، مُسرّح الشَعر، وسيماً، قبّل بِعينيه الجدران والحديقة، ثمّ مات بعد شهرٍ واحد.

شجرة الإجّاص عند الكوع تُخرج في أيلول مِن بين أغصانها ثمرة وحيدة، تُدحرِجها الريح إلى قبره عند تخوم «الرفيع». تَغسل «نورا» رخامته بِرِفق. أحضّرُ أنا أيضاً سجائري لِحرب قادمة؛ «شير الغرابات»، «خلّة زينب»، «عرض الأطلب»، وأعرف حتماً أنّ «الرفيع» سيكون في مكانه.

 

75


55

خبز ورصاص لا يُدركان

خبز ورصاص لا يُدركان

الكاتب والروائيّ عبد القدّوس الأمين

جميعهم على أهبّة الاستعداد للالتحام المباشر؛ التحام لطالما انتظرناهُ انتظارَ صائمٍ لإفطاره، انتظارَ طفلٍ لِفجر العيد.

أصبح الالتحام وشيكاً بلا شكّ، فبعد رميِ طائرات الاستطلاع قنابلها الدخانيّة بِتلك الغزارة البالغة الإسراف، عَلِمْنا أنّها ستارٌ لِتَقَدُّم المُشاة، عندها وزّعنا الأدوار: كلٌّ في مكانه المحصّن نسبيّاً، المموّه قدر الإمكان، جاهزين مجهّزين بِخليط مِن الفرح والترقُّب والحذَر، وكثيرٍ مِن الغضب المقدّس والأحلام القديمة التي اقتربَتْ لِتدقّ أبواب واقعٍ كالشمس.

الجنّة على بُعد خطوات، ها هي على مرمى حجرٍ مِن القلب، على مرأى العين ومسمع الأُذُن، حيث ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سمعَتْ، ولا خطر على قلبِ بَشر، تدقّ باب أشواقٍ مُشرعةٍ بالوجد.

 

76


56

خبز ورصاص لا يُدركان

إنّه اليوم الثلاثون للحرب. في الأيّام القليلة التي خلَتْ، طاردناهم كما يُطارد الفئران، كنّا ننقضّ عليهم كالقَدر المحتوم، ونَذَرهم آليّاتٍ تحترق مدهوشة، فيما كانوا يتوزّعون بين الموت والجراح والجنون. أمّا نحن فقد شَفَينا بعض الغليل، غير أنّ البئر عميقة مليئة بغضبٍ جمٍّ وقهرٍ قديم.

قبل يومين، وعلى مقربةٍ مِن «بركة دبل»، عطّلنا دبّابتين مِن الجيل الجديد وجرّافة؛ كان لِعويلهم آذانٌ في الجبال صاغية. وفي غمرة انسحابنا إلى مكمَننا، سمعنا أنّ مجموعة ثانية في مكان آخر تشتبك مع مئة عنصرٍ تقريباً، كانوا قد غرقوا في بحر المفاجأة، وبَدَوا -كعادتهم- مُسربلين بالخوف. دمّرَت لهم جرّافةٌ ودبّابةٌ، فيما هم غارقون في النار والدخان والموت الأحمر.

صبّوا جامَ غضبهم على «رشاف»، تلك البلدة التي نزلت إليها السماء -«رشاف» ذات الموقع المميّز في القلب والتاريخ والجغرافيا- لِتفقد هدوءها الفريد دفعة واحدة. وها هي الآن بعد انحسار دخان القنابل، تتنفّسُ مِن صدورنا التي ضاق وسعها بِفارغٍ مِن صبرٍ استهلكْنا رصيده منذ عشرات السنين.

 

77


57

خبز ورصاص لا يُدركان

يجب أن أقنّن في ما تبقّى لي مِن رغيفي، فقد يطول مكوثي هنا؛ «ما ألذّ طَعم هذا الخبز! بِعين الله أنتِ وما تفعلين -سيّدتي-».

بوركَتْ أرضٌ أنجبَتْ أمثالها؛ حين قلنا لها يجب أن تغادري الضيعة، بَكَتْ كمن يُطلب منها تَرْك وليدها، ثمّ قالت -بِرجاءٍ حارٍّ يشوبه إصرار-: «لديّ طحينٌ وحطب».

وأنا أُقسم أنّني ما تذوّقتُ مثل هذا الخبز قطّ. لست وحدي مَن أذهله مذاقه، كلّ مَن تذوّقه فَعَل. قضمةٌ منه تحمل نكهة كلّ ما لذّ وطاب؛ عجيبٌ أمر هذا الخبز! أخي في الجوار، هل لديه ما يكفي منه؟

وأخيراً، بدأنا نسمع صوت رصاص فرديّ كثيف؛ إنّهم هنا، إذاً. أصوات بشريّة: «سلِّم تَسْلَم».

قلتُ في نفسي: «سنسلّم أرواحكم إلى بارئها لِيتكفّل هو بالباقي».

كان كلّ جزءٍ مِن جسدي وروحي جاهزاً متحفّزاً كحبيسٍ في انتظار إطلاقِ سراحه الوشيك. علمْتُ أنّهم تمركزوا على مَقربٍة منّا، واقتحموا ثلاثة منازل كقوّةٍ استطلاعيّة.

 

78


58

خبز ورصاص لا يُدركان

توزّعنا على المنازل الثلاثة، وزحفتُ باتّجاه نصيبي، وحين أصبحتُ على مقربةٍ من مدخله، سمعتُ أصواتهم وقرقعة سلاحهم. بقيت في مكاني مختبئاً يحدوني أمل أن يخرجوا لِأفتك بهم جميعاً؛ فنحن أناسٌ طمّاعون، لا يقتلنا الطمع بل

 

79


59

خبز ورصاص لا يُدركان

به نقتل، غير أنّ الفئران لم تخرج.

دهرٌ، ولم أعد قادراً على الانتظار، اقتربتُ مِن النافذة، دفعتُ رأسي وأعدْتُه بِحركةٍ سريعة، عيناي التقطتا صورة جنديَّين يقِفان في وسط الغرفة. انتصبتُ واقفاً، وعبر النافذة سدّدْتُ جيّداً، وأطلقتُ رصاصتين انعدم الفارق الزمنيّ بينهما، وبأمّ العين وأبيها رأيتهما يسقطان دونما حراك، فيما تعتمل في داخلي مشاعر باهرةٌ مضيئةٌ لا حصر لِمفاعيلها. بدأتُ الالتفاف إلى الجهة الثانية، وهناك، على شرفة المنزل في الجهة المقابلة، جُنديّان يستطلعان المكان. انتصبتُ مباعداً ساقيَّ. عظامي ولحمي وبندقيّتي أصبحت كتلةً واحدة، فتحتُ قلبي ورشّاشي، وأطلقتُ غضبي ناراً ورصاصاً، فاختلطَتْ زغردة الرصاص بِصراخ البارود، ورأيتهما يسقطان؛ خرَّ أحدهما ككيسٍ فارغٍ بالقُرب مِن الجدار، فيما سقط الآخر مِن على الشرفة، واستقبلَتْه الأرض بِصخرها جثّةً هامدةً. في تلك الأثناء، رأيتُ أحد المجاهدين يرمي قنبلةً في البيت الثاني. وتكفّلَ بالثالث مُجاهدان.

كانت قوّة صهيونيّة قد تقدّمت -في ذلك الحين- ناحية مسجد البلدة؛ هناك كان المجاهدون. صلواتٌ تراكمَتْ، وخلف حصون من دعاءٍ مستجاب، أُقيمت صلاةٌ لا مثيل

 

80


60

خبز ورصاص لا يُدركان

لِقَبولها، إذ لم يكن بينها وبين الله حجاب.

طائرات الاستطلاع عادتْ تُحلّق على علوٍّ مُنخفض، تُلاحقنا مِن مكانٍ إلى آخر، تُسقط أمامنا قذائفها حيناً، وخلفنا أحياناً. ونحن نركض خلف الشهادة، نسبقها حيناً، ونتخلّف عنها أحياناً. وبينما هي تُعانق عريساً من المجاهدين، كان يُلاحقها آخر بِشوقٍ لاهث، في مطاردة مزدوجة؛ نحن والشهادة وعدوّنا. وفيما أنا في تلك الحال، تمزّق قلبي أسفاً، لأنّ ذخيرتي نفدَتْ.

انسحبتُ إلى «مجمّع الشهيد أبو ذرّ» حيث أخي، لَعَلّي أجِد الذخيرة. وحين وصلتُ إلى مقربةٍ منه، اكتحلَتْ عيناي بِرؤيته وهو يقفُ منتصباً كرُمح، وسلاحه يهتزّ بين يديه، يختلط أزيز رصاصه بِصوت يملأ الأرض والسماء: «يا حسين». وبين زخّةٍ وأخرى، إذ يتناهى إلى أسماعنا صراخ الجنود، شَعر بِوجودي، فالتفتَ إليّ مبتسماً. وفيما هو عائدٌ يُكمل قصيدته، وأنا طائرٌ إليه، سقط صاروخٌ من طائرة استطلاع في المسافة المتبقّية بيننا، انتشر غبارها في كلّ مكان حاملاً الحجارة ورائحة البارود.

حرّكتُ جسدي مِن حضن الأرض، رافعاً عنّي الحجارة، وعيناي تسبران غور الضباب. بدأتُ أناديه، جامعاً حُبّي

 

82


61

خبز ورصاص لا يُدركان

وذكريات طفولتنا كلّها. كرّرتُ النداء، وحين لم أسمع جواباً، حملتُ جسدي، متّكئاً على روحي، راكضاً باتّجاهه، متعثّراً بالركام وبِمشاعري الملتاعة التي ازداد تدفّقها مع كلّ خطوة. التقيتُ بِدمائه، ثمّ بجراحه التي كانت لا تزال تنزف في أكثر مِن مكان، وأنا -في إعصار لهفتي- أبحث عن حياةٍ فيه. علمتُ مِن حجم الإصابة أنّها غادرت مُسرعة مشتاقة لِتلحقَ بالركب المبارك.

توقّف الزمان ينظر إلينا بِلحظةٍ جامدةٍ مدهوشة مُتناهية الطول والقِصر، كأنّ الزمان لم يكن يدري: أيَقف أم يسير؟ كأنّه كان في المكان وغادرا معاً لِيتسنّى لي حَفرها في ذهني؛ تلك اللحظة التي اختصرتْ عمراً تقاسمْنا فيه كلّ شيء: خطواتنا الصغيرة الأولى والكبيرة الأخيرة، أحلامنا التي كبرتْ كلّما اتّسعتْ خُطانا، وعِشقنا المشترك لِكربلاء وما صنعَتْ.

جلستُ بالقرب منه دهراً امتدّ دقائق. وضعتُ رأسه في حضني، مسحتُ الغبار عنه، فطالعتني ملامح وجهه هادئةً مُشبعةً بالرضى؛ ملامح مَن وصل بعد جهدٍ إلى مَقرّه، ملامح مَن فاز للتوّ بما يَشتهي. مسحتُ دموعي، فبانَتْ مِن خلفها عزيمةٌ نَمَت باضطرادٍ عجيبٍ حتّى احتوتْني. حضنتُ سلاحه والذخيرة كلّها.

 

84


62

خبز ورصاص لا يُدركان

بدا كلّ شيء بعد ذلك عجيباً باهراً، ما الذي يخرج مِن سلاح أخي؟! كان رصاصاً حارقاً خارقاً، لا الدروع ولا الجدران، ولا حتّى الصخور، كانت قد رأتْ مثل هذا الرصاص مِن قبل، فقد كان يفتك فتكاً ذريعاً وهو يهتزّ بين يديّ.

 

86


63

الجدار والميعاد

الجدار والميعاد

الكاتب عليّ حسين حمادي

جلستُ على حجرٍ في دشمتي، أخرجتُ مِن جيبي رسالةً قديمة مال لون ورقتها إلى الأصفر الباهت. لا أعلم لماذا أخرجتُها بالأمس مِن صندوق مذكّراتي الخاصّ، وأحضرتها معي إلى العمل، ولكنّني لا أزال أتذكّر تلك الرسالة، وتأتي على بالي منذ قرّر جيشنا الإسرائيليّ أن يبني الجدار.

قرأتُ اسم جدّي على المُغلّف: «مناحيم شاليط».

فتحتُ الرسالة:

من وزارة الهجرة في دولة إسرائيل

إلى السيد مناحيم شاليط المحترم

ندعوكم إلى القدوم إلى دولتكم إسرائيل بأسرع وقت. نحن نرحّب بكم هنا في أرض الأجداد. ومِن هنا سوف

 

88


64

الجدار والميعاد

تبدأ دولتنا الكبرى. هنا أرض الميعاد وأرض الأمان. هنا يجب أن تستثمر أنت ويهود العالم كلّهم أموالكم وتحقّقوا أحلامكم. أوروبا لم تكن إلّا بلاداً مؤقّتة. الآن لديكم وطن يجب أن تساعدوا في بنائه. الأرض أمامكم مفتوحة للزراعة ولِبناء البيوت والمصانع، هنا في «أورشليم» وفي «الليطانيّ» وفي «الأردن» وفي «سيناء»، وقريباً جدّاً في كلّ مكان مِن النيل إلى الفرات. لا يوجد حدودٌ أمام جيشنا. لقد سيطرنا على كلّ شيء.

في انتظار قدومكم أيّها اليهوديّ الوفيّ. البيتُ مهيّأ، وكذلك الأرض.

وزارة الهجرة

دولة إسرائيل.

أعدتُ طَوْي الرسالة كما فتحتها. حافظتُ على تعرّجاتها كلّها. لا أزال أذكر اليوم الذي أعطاني إيّاها والدي وأخبرني كيف وصلَت إلى جدّي في «بولونيا»، وكيف سافر هو مع والده عندما كان صغيراً.

«هل ستقف الرسالة هنا؟! أصلاً ليس لي أولاد بعد» فكّرتُ متسائلاً.

 

89


65

الجدار والميعاد

وقفتُ بِخمول، كأنّني شبه مشلول. وضعتُ يديّ على حافّة طاقة صغيرة أرصد منها في الدشمة المحصّنة بالكاميرات والأسلاك الشائكة المكهربة والصخور العملاقة. ألقيتُ نظرةً، وبلعتُ لعابي.

«دولة إسرائيل الكبرى ها؟! هل صدّق جدّي وأبي ذلك الهُراء؟» تمتمتُ متهكّماً.

نظرتُ إلى الأمام، كان الجدار أمامي كأنّه سدّ السجن واليأس. شعرتُ بأنّني مِن قوم يأجوج ومأجوج المفسِدين المحاصرين. ومن سخرية القَدَر أنّنا نحن مَن بنينا الجدار بِأنفسنا لِنحتمي به. حدّثتُ عقلي. بدا لي أنّ الجدار يرتفع كلّ يومٍ أكثر. ولكن لا يزال يظهر بعض ما في الطرف الآخر؛ هناك على التلّة المقابلة، صورة تطالعني كلّ يوم.

رجال حزب الله مصطفّون في عرضٍ عسكريّ. بدتْ أقدامهم اليسرى على الأرض، واليمنى مرفوعة في الهواء تتهيّأ للهبوط، كأنّها حين تهوي ستُزلزل الجدار فينقضّ. وقد كُتب في أعلى الصورة باللّغتَيْن العربيّة والعبريّة: «يا قدس ... إنّنا ... قادمون».

 

91


66

موعد مع الحبيب

موعد مع الحبيب

الكاتبة نبال رعد

كانت مهمّتي مَلء الأكياس بالرمل وصنع السواتر. كنتُ أحصي عدد حبّات الرمل؛ لا تسألوني: كيف؟ لكنّني كنتُ أحصيها. أعرف أنّكم ستقولون: «مَجنون. ومَن يحصي حبّات الرمل؟». سأترك إخباركم عن ذلك إلى آخر قصّتي، فالأهمّ فيها حادثٌ جعل قلبي يضرب كالطبل في ليلٍ ساكن، حتّى خِلْتُ أنّ الكون كلّه قد سمع تلك الخفقات.

كنتُ منشغلاً أُرتّب أكياس الرمل بعضها فوق بعضها الآخر في منطقة «البوكمال»، وكان مِن عادتي أن أضع الأكياس بِشكلٍ هندسيّ وكأنّني أُلبّس بيتي الذي أحلم أن أمتلكه يوماً؛ حجارة طبيعيّة بِنقش يدويّ مميّز، كنتُ أرصفها، وروحي تسرح بين الفينة والأخرى ناحية الحبيب فأسلِّم عليه وأذكر عطشه: السلام عليك يا أبا عبد الله، فأتناسى بِذلك عطشي، إذ

 

93


67

موعد مع الحبيب

إنّ المسافة بين الساتر ومكان الماء البارد تتطلّب ذهاباً يمكن أن يؤخّرني عن عملي؛ فهناك بالقرب مِن الماء، مُزحة مِن أخٍ في نوبة حراسة، وأخرى مِن أخٍ في استراحة، وثالثة مِن قائد... وأنا -بِكلّ صراحة- «ما بِلقى غمزة». لذلك، قرّرتُ أن أتحمّل العطش وأكمل عملي. فإذا بـ «عليّ» يناديني: «يا محتال، شو عامل؟ تفضّل مطلوب بالاسم».

- لا حول ولا قوّة إلّا بالله، خير هلأ؟

سَحَب ما في يدي مِن أشياء، وجرّني كَكبشٍ خَلفه، وأنا أصرخ به ضاحكاً: «لك حِلّ عنّي».

وصلنا إلى مركز التجمّع، فإذا الجميع في حركة، والفرح يملأ وجوههم. ماذا يحصل؟ صار رأسي ضباباً، وقلبي كاد ينفجر؛ أحسستُ أنّ أمراً مُهمّاً يحصل. لملمتُ نفسي، ونفضتُ الغبار والتراب عن ثيابي ووجهي، ونفضتُ شعري مُمرّراً أصابعي خلاله، وبِقلق أكبر مِن قلق هجوم على التكفيريّين، دخلتُ الغرفة.

ومِن دون أن أنظر إلى أحد أو أتصفّح الوجوه، رميتُ السلام على الحاضرين، وجلستُ بالقرب مِن الباب؛ لدينا ضيف يجلس على لَبِنة، والإخوان من حوله، راح يتكلّم عن

 

94


68

موعد مع الحبيب

الجهاد وفضله، وكنتُ كأنّني في غيبوبة لا أعرف سببها. ثمّ قال: «سنُجري الآن قُرعة، والاسم الذي يُسحبُ أوّلاً يكون مِن زوّار الإمام الحسين (عليه السلام)».

تردّد اسم الإمام في رأسي كالصدى، ولكن -بِبساطة- التزمتُ الصمت، ولم أنبس بِبِنت شَفَة، فحظّي أنا أعرفه جيّداً، لو ذهبتُ إلى البحر لَجَفّ ماؤه؛ لذلك رحتُ أتأمّل ملامحه، وجهه يشعّ نوراً وطيبة. كنتُ مطرقاً أفكّر في هيبته، وعندما اقترب منّي، رفعتُ نَظري، فإذا به يقبّل رأسي، ويقول: «أنت رجل السواتر؟».

ضحكتُ -كعادتي- وقلت: «خادمكم».

لكنّه -بِحنوّ الأب- أجاب: «بل أنا خادم كلّ مقاوم منكم».

عاد إلى مكانه، وعدتُ إلى مكاني، عندها فقط بدأتُ أتصفّحُ الوجوه. كان أحد الإخوة قد كتب أسماءنا جميعاً على أوراق صغيرة، ووضعها في علبة مِن الكرتون.

مدّ يدَه إلى العلبة؛ كانت تمتدّ بطيئة، وروحي تنسلّ مِن بدني، وكنت أقنع نفسي بألّا أفكّر كثيراً، ولا أعيش الأوهام. وبينما أنا أصارع مشاعري وأفكاري، قرأ القائد: «الأخ نجيب 

 

96


69

موعد مع الحبيب

صطيفي (جواد)، مَن يكون؟». ونظر في عينيّ مباشرة.

 

 

97


70

موعد مع الحبيب

لِوهلة، لم أستجِب، وكأنّني في حُلم، فوَكزني «هادي» -وكان يجلس بِجانبي-: «هذا أنت! هذا أنت!».

قمتُ كَمَن به خَدَر، وقفتُ إلى جانبه، وأنا أطير فرحاً، وهو يتأمّل وجهي بِضحكته الجميلة، ويقول: «حينما تدخل صحن الإمام الحسين(عليه السلام)، سلِّم عليه، واهمس في القفص: «إنّ قاسم سليماني قلّدني زيارتك»».

 

 

98

 

 


71

دخان الأنبياء

دخان الأنبياء

الكاتب والروائيّ د. صالح إبراهيم

تحرّك «ناجي» بُعيد المساء، تذكّر «ديمة»، ثمّ صَرف ذهنه إلى ما قاله «حاتم»: «ازحفْ بِبطء حتّى تصل إلى «صخرة الجُرْن». ابقَ هناك حتّى يغمر الضباب المكان؛ نحن في موسم الندى. تابِع زحفك حتّى «سنديانة الظهيرة». اقطعِ الشريط بين السنديانة و«الصخرة الزرقاء»، واعبُرْ. هذه المسافة الوحيدة الخالية مِن الألغام؛ أنت تعرف سبب ذلك. تابِعْ زحفك حتّى تبتعد عن برج المراقبة «3»، بعدها تقدّم إلى «تلّة الزعرور». بالقرب مِن الشجرة الأخيرة صوبَ الطريق الجنوبيّة، داخل شجيرات الطيّون، تَجِد جهاز التفجير. خُذْه، وتابعْ إلى «وادي الغَجَر». القافلة تمرّ مِن هناك كلّ يوم بين السابعة والثامنة صباحاً. ابقَ على مسافة مئة متر مِن الطريق في أسفل الوادي. حين تمرّ الآليّة الأولى بِجانب «صخرة الأوقيّة»، فَجِّر، فَجِّر

 

99


72

دخان الأنبياء

الأولى. بعد التفجير مباشرةً ستتحرّك المجموعة الأولى في الجهة المقابلة. لا دور لك معها؛ انسحبْ فورَ تفجيرك الآليّة. حاوِلْ أن تنسحب مِن الطريق المعروفة. قد لا تستطيع الالتزام بهذه التفاصيل كلّها؛ ارتَجِلْ بِحسب التطوّرات».

وصل «ناجي» إلى «صخرة الجرن» بعد زحفٍ استمرّ أكثر مِن ساعة -بِحسب تقديره-، استندَ إليها، أخذ نفَساً عميقاً، أحسّ أنّ فمه جافّ، شرب قليلاً، اجتاحته رغبة في التدخين، لكنّه كان يعرف أنّه على بعد مئة متر فقط مِن «الشريط»، وأنّ إشعال سيجارة يعني اكتشافه. مدّ يَده يتلمّس الصخر خلفه، وتذكّر: «حاتم أعطاها هذا الاسم؛ صخرة الجرن، بعدما حفر فيها جُرناً صغيراً. بعدها، كلّ واحد منّا حفر جرناً، عبّاس وأحمد وأنا...».

سأل نفسه: «كم مِن الوقت مضى؟ عشر سنوات؟».

لم يُجهد نفسه في حساب تلك المدّة، استرجعَ بعض كلمات «حاتم»: «نحن في موسم الندى».

ثمّ فكّر، منتظراً الضباب: «مجموعات المراقبة اقترحَت الدخول مِن هنا هذه المرّة. تغيير الطرقات ضروريّ من وقت لِآخر. يجب ألّا أفكّر بما سأفعله؛ هذا يزيدني توتّراً. الضباب.

 

100


73

دخان الأنبياء

الضباب. يجب أن يأتي الضباب. مِن أين يأتي الضباب؟».

ابتسم لِسخافة السؤال، وأجابَ متسائلاً: «مِن الماء؟ أم الماء منه؟».

التفَتَ حوله غير مرّة، رأى الجوّ صافياً تماماً، والهدوء والعتمة يلفّان المكان، عاد إلى تساؤلاته: «كيف تكوَّن الضباب في البداية؟ هل كان ماءً ثمّ تصاعد مِن الأرض إلى السماء؟ أم كان بخاراً ثمّ نزل إلى الأرض؟».

حاول أن يجيب، لكنْ تسرّبتْ إلى ذهنه كلمات «حاتم» ثانية: «هذه المساحة الوحيدة الخالية مِن الألغام».

تحسّس الحربة المعلّقة في حزامه، وعاد إلى التفكير في الضباب: «لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال. ولكنّ الضباب ينزل مِن السماء إلى الأرض قطرات مِن الندى، ثمّ يعود إلى السماء بخاراً؛ هو يتحرّك بين السماء والأرض».

تملّكته رهبة غامضة حين وصل إلى هذه الفِكرة. بدا كأنّه -للمرّة الأولى- يفكّر في حركة الضباب تلك، في تحوّلاته بين الماء والبخار بين الأرض والسماء.

 

 

102


74

دخان الأنبياء

فرّتْ إلى ذهنه كلمات «حاتم»: «تابعْ إلى وادي الغجر، القافلة تَمرّ مِن هناك».

 

103


75

دخان الأنبياء

مدّ يده بشكلٍ آليّ إلى ذخائره، على الرغم مِن أنّه تفقّدها غير مرّة قبل تحرُّكه.

لفحتْ وَجهه نسمة باردة مِن جهة الغرب، التفَتَ فلمح غِلالة مِن الضباب تنساب بِهدوء، تنعكس عليها بعض الأضواء المسلّطة من البرج رقم «3». أحسّ بِبعض التوتُّر. انتظَر. انتظَر. ولكنّ النسمات تجمّدت، أو هكذا بَدا له: «جُمود النسيم يعني عدم انتشار الضباب؛ هذا يعني الانسحاب».

وقعتْ هذه الكلمة الأخيرة في ذهنه مدوّية. فكّر في الانسحاب بعد تفجير العُبوّة. عادَتْ إلى ذهنه كلمات «حاتم»: «ارتجِلْ بِحسب التطوّرات».

قال لِنفسه: «الارتجال يعني عدم التفكير بِرويّة».

ولكنّه غيّر رأيه بعد قليل: «الارتجال هو التفكير بسرعة، أو العمل بسرعة».

لفحَتْ خدّه النسمات ثانية، أدار نظره صوب الغرب سريعاً، رأى الضباب يَنتشر، توتَّرت أعصابه، شَدّ على مقبض بُندقيّته، وفَرّ وجه جدّه إلى ذهنه مِن دون مسوّغ: «جدّي يقول: الضباب يساعد على نموّ الكوسى والخيار. ينسى اللّوبياء. 

 

104

 


76

دخان الأنبياء

يتحدّث عن القمح والشعير... يقول: إذا غلبَك الموسم اترُكْه. 

 

105


77

دخان الأنبياء

الندى رحمة. احصدْه في موسم الندى. الندى حنون. الضباب دخان النبيّ».

أصبحت النسمات أكثر بُرودة الآن. الضباب يتقدّم، يقترب. دقّات قلبه تتسارع. قال في سرّه: «بعد قليل سأزحف. مئة متر وأَصِل إلى السنديانة. عندما أقطع الشريط وأدخل ينتهي هذا التوتّر. حين أبدأ العمل أعيشه، أملكه، يملكني؛ لا أخاف».

ويتسرّب إلى ذهنه وجه جدّه ثانية: «جدّي، جدّي، أنا خائف الآن، قليلاً. جدّي لا يذكر الزهور؛ الضباب في مرحلة مِن مراحله ندىً يقترن بالورود. لماذا لا يذكر ذلك؟ جدّي وروده القمح.

وعادت إلى ذهنه كلمات «حاتم»: «حاول أن تنسحب مِن الطريق المعروفة».

التفَتَ نحو الغرب، ونحو الشرق، ثمّ جنوباً وشمالاً. الضباب ينتشر، يتكثّف، يصبح جيشاً مِن سكون مُتحرّك. تعنف دقّات قلبه، يأخذ نفساً عميقاً، يتحسّس عدّته مِن جديد. تقتحمه كلمات «حاتم»: «فجِّر الآليّة الأولى».

ينقلب على صدره، يزحف.

 

106


78

دخان الأنبياء

قال في سرّه -وهو يُحكِم زحفه بِعنايةٍ مخافة إصدار أيّ

 

 

107

 

 


79

دخان الأنبياء

صوت-: «عند السنديانة، تَهون».

وفجأة، انزلق ضوء «البروجكتور»[1] قريباً منه، تَجمّد في مكانه، ملأتْ سَمعه دقّات قلبه وأنفاسه، وتسرّبتْ إلى ذهنه فكرة ارتاح لها: «أنا مغمور بالعتمة والضباب. لا يُمكن لهم أن يَروني».

ثمّ اجتاحته فكرة اهتزّ لها: «وأنا لا أراهم».

انتظَر قليلاً، هَدأ، فتحرّك ثانية.

قدّرَ المسافة بينه وبين السنديانة بِخمسين متراً. أخذ نفَساً عميقاً، ثمّ أسرع في زحفه. لاحت له السنديانة، اقترب منها، وضع يده على جذعها. التفَتَ إلى اليمين وإلى اليسار، وحاول أن يُطلق نظره إلى الأمام قدر المستطاع، فانكشفَتْ له مساحة ضيّقة جدّاً. استرجع كلمات «حاتم»: «هي المساحة الوحيدة الخالية مِن الألغام، وأنت تعرف سبب ذلك».

مدّ يده نحو الحربة يريد انتزاعها لِقَطْع الشريط، لكنّه عَدَل عن ذلك، وغرس أصابعه في التراب إلى اليسار مِن جذع السنديانة. أراد أن يتفحّص الرقعة الضيّقة تلك، بين الجذع والصخرة. كان متأكّداً مِن خلُوّها مِن الألغام، لأنّ الصخرة

 

 


[1] المصباح الكهربائيّ.

 

108


80

دخان الأنبياء

متّصلة بالجذع مِن الأسفل، وهي مغطّاة بِطبقة رقيقة مِن التراب الناعم لا تسمح بِزرع الألغام؛ لذلك مَرّر أصابعه في التراب بِحركاتٍ دائريّة بطيئة ومتوتّرة.

مدّ يده ثانية نحو الحربة، وقبل أن تصل إليها، انتفض -فجأةً- لِصوت حادٍّ صرّ على مَقربة منه. ملَكَ نفسه بَعد ثوانٍ، إذ قَدّر أنّ الصوت ناتج مِن حشرة بين الأسلاك. ولكن، ثانيةً، صوت آخر؛ صوت آدميّ قريب جدّاً، غير مرتفع، لكنّه واضح. ثانيتان مرّتا، ورآهم، ثلاثة جنود، يفصله عنهم الشريط وبِضعة أمتار.

أدار فوّهة رشّاشه نحوهم. إصبعه على الزناد. تجمّدتْ عيناه باتّجاههم. راودَتْه فكرة سريعة: «أستطيع أن أقتلهم، لكن أموت بعد لحظات».

تابَعوا سَيرهم بِمحاذاة الشريط، نحوه، الواحد خلف الآخر. تابَعهم بِعينيْه وبِفوّهة رشّاشه: «أرميهم بالرصاص، أم أرمي قنبلة وأتبعها بالرصاص؟».

اقترب الجنديّ الأوّل منه. ثلاثة أمتار تفصله عنه. ازداد توتّره: «أرميهم؟». مِتران: «أرميهم؟».

 

110


81

دخان الأنبياء

توقّفَتْ أنفاسه. مضوا. عيناه تتبعانهم والفوّهة، ابتعَدوا.

 

 

111


82

دخان الأنبياء

أرخى أجفانه وإصبعه. أحسّ بِبعض المرارة والخيبة، نَدِم لِلحظات: «كنت أستطيع قَتْلَهم».

هدأ قليلاً. تمنّى لو يستطيع أن يشرب. بعد قليل أحسّ بِبعض الراحة. غادره إحساسه بالندم: «هذه ليست مهمّتي».

وقرّر أن ينتظر طويلاً قبل قَطْعه الشريط: «ربّما عادوا».

وضع يده ثانية على جِذع السنديانة. تحسَّس شقوقه: «تجاعيد؛ هذه تجاعيد السنديانة، كبرَتْ. جِذعها مثل وجه جدّتي». وغزاه وجه «ديمة» لِلحظات. أغمض عينيه. صرف ذهنه عنها. استرجع كلمات «حاتم»: «تجد جهاز التفجير، خُذه، وتابعْ إلى وادي الغجر».

أحسّ بِتَعب في زنده؛ اكتشف أنّ يده لا تزال مرفوعة إلى جذع السنديانة. أراحها، وتذكّر: كان في السادسة حين تسلّق هذه السنديانة للمرّة الأولى.

فَرِحَ بِذلك أوّل الأمر، ولكن عندما قرّر النزول، أحسّ بِصعوبته. ضحك «حاتم» حينها. أحسّ هو بالغيظ. قال له «حاتم»: «يجب أن نفكّر بالنزول أيضاً».

 

 

112


83

دخان الأنبياء

تسرّبتْ كلمات «حاتم» إليه ثانية: «ارتجِلْ بِحسب التطوّرات».

 

 

113


84

دخان الأنبياء

وكادت تصعقه المفاجأة الثانية. لم يَرَهُم إلّا وقد اقتربوا منه. عادوا، الجنود الثلاثة أنفسهم. هُم الآن على مقربة منه. لم يستطِع رفع يده صوب الزناد. تجمّدت أنفاسه. مضوا ثانية. ابتَعَدوا. ارتَخَتْ عضلات وجهه. أحسَّ بِخدر في قدميه وفخذيْه، وبِوَجع في صدره. اعتراه هدوء تراجيديّ؛ عرف هذا الهدوء، إنّه إشارته لِلبدء بالعمل الجِدّيّ، وسلاحه للتغلّب على التوتّر والخوف. جَرّب هذا الهدوء كثيراً؛ هو يعرف أنّه إذا اعتراه، أصبح داخل الحَدث تماماً.

سحب الحربة مِن غِمدها. فكّ الغمد مِن الحزام. شبكهما. قطع الشريط. شريطاً آخر. وثالثاً. أزاحها. أدخل يده ورأسه. حاجزٌ آخر. قطعه. عَبَر.

«إلى تلّة الزعرور» وعد نفسه.

كلمات «حاتم» -مرّة أخرى- عادت إليه: «تابِعْ زحفك حتّى تبتعد عن البرج رقم «3»».

لم يَعُد يخشى ذاك البرج: «إنّه الآن إلى يميني. هم لا يراقبون هذه المنطقة. أنا في الداخل، وهم يراقبون الخارج».

زحف نصف ساعةٍ تقريباً. ارتاح قليلاً. بَدا مطمئنّاً، مُصمّماً.

 

 

114


85

دخان الأنبياء

أدارَ وجهَه نحو السماء، كان الظلام كثيفاً، والضباب كثيفاً.

 

 

115


86

دخان الأنبياء

أحسّ -فجأةً- بِعطشه، فشرب بِرويّة. أحسّ بالبرودة. استرجع وجه «حاتم» من دون إرادة: «فجِّر الآليّة الأولى».

غَمرته محبّة عظيمة لِـ «حاتم»: «عندما أعود...» لم يستطِع أن يقرّر الآن ماذا سيفعل لِـ «حاتم» بعد عودته.

قرّر أن يتابع زحفَه إلى «تلّة الزعرور». وصلَ إليها قُبيل الفجر. اتّجه نحو شجيرات الطيّون. مدّ يده، فاستخرج الجهاز. حملَه، وتابع سيره نحو «وادي الغجر».

«وادي الغجر» هو الوادي الذي يلي «تلّة الزعرور» مباشرة. حين وصل إليه، أسند ظهره إلى شجرة زيتون، قدّر أنّها على مسافة مئة متر مِن «صخرة الأوقيّة». أغمضَ عينيه قليلاً وفتحهُما، فاستطاع أن يُميِّز الصخرة.

تلك الصخرة يعرفها مُذ كان في الخامسة. كانت بالنسبة إليه أكبر صخرة في العالم. وكان الامتداد المقعّر مِن أعلاها إلى أسفلها -الزحليقةَ بالنسبة إليه- أحلى شيء في العالم.

تذكّر الآن كيف كان يتسلّقها بِصعوبة، وحين يصل إلى قمّتها يمدّد جسده في الزحليقة، ويتركه ينساب حتّى يصل إلى الأرض، ثمّ يتسلّقها ثانية.

 

116


87

دخان الأنبياء

استعاد، وهو ينظر إلى الصخرة، الحديث الذي جرى بينه

 

 

117

 

 


88

دخان الأنبياء

وبين جدّته في طفولته مراراً؛ سألها أوّلاً: «لماذا اسمها صخرة الأوقيّة؟».

أجابته: «حمَلَها المارد بِخُنصره، ورماها صوبَ أهل القرية، وأحسَّ أنَها خفيفة بِوَزن أوقيّة».

- مَن هو المارد؟

- مارد. لا نعرف مِن أين جاء. هجم على القرية ودمّر بيوتها.

- مَن حَفَر الزحليقة فيها؟

- هذه آثار خنصره.

- وماذا جرى له بعد ذلك؟

- اجتمع أهل الضيعة، وهجموا عليه. هرب.

- هل هذه حكاية يا جدّتي؟ أم حقيقة؟

- هي حكايةٌ، ولكنّها حقيقة.

ابتسم «ناجي» الآن، وكادَ يضحك، وحَدّق في الصخرة تماماً: «سأفجِّرها فوقهم».

استطاع أن يميّز الزحليقة، فَقدّر أنّه على مقربة مِن الفجر: «ساعتان أو ثلاث، وتأتي القافلة».

 

 

118


89

دخان الأنبياء

أحسّ بِتوتُّرٍ خفيف. أغمض عينيه قليلاً، فبدا له أنّه قد سَها. انتفض. رأى نور الفجر يَلفُّ المكان مِن حوله.

صلّى الصبح مسرعاً، وهو جالس في مكانه. انتفض قلبه. تدفّق الدم إلى وجهه ورأسه وأصابعه.

دوّتْ في رأسه كلمات «حاتم» مُجدّداً: «فجِّر الآليّة الأولى».

وغزاه وجه «ديمة»، ارتفعتْ يده من دون إرادة منه إلى مستوى وجهه؛ كان يرفع أصابعه دائماً إلى وجهها.

وقع نور الشمس على وجهه، فأعاده إلى واقعِه. اكتشف أنّ يده معلّقة في الهواء، فأراحها. نظر إلى «صخرة الأوقيّة»: «فجِّر الآليّة الأولى».

تَكوّم على نفسه. وضع يده على الجهاز، وركّز نظره على الطريق قبالة الصخرة. أصبح في وضعه هذا كتلة مِن الترقّب والحذر.

بعد انتظار خاله طويلاً، أخذ نفساً عميقاً، وأراح قدميه. تسرّبَتْ إلى ذهنه فكرةٌ شَحَنَتْه بالأمل والمرارة والإرباك معاً: «لا أصدّق أنّهم احتلّوا هذه الأرض».

 

 

119


90

دخان الأنبياء

رفع نظره إلى التلال البعيدة: «أعرفها، أعرف كلّ حجرٍ فيها،

 

 

121


91

دخان الأنبياء

عنفَتْ دقّات قلبه، تسارعتْ. ظهرت الآليّة الأولى، والثانية خلفها، ثمّ الثالثة. تقدّمَتْ باتّجاه الصخرة: «فجِّر الآليّة الأولى».

 

122


92

دخان الأنبياء

بِضعة أمتار تفصله عن الصخرة. يده على الجهاز، وعيناه على الآليّة، لا يرمش له جفن. توقّفتْ أنفاسه، وصلَت الآليّة الأولى إلى قبالة الصخرة تماماً. ضغط حيث يجب أن يضغط، واهتزّ الوادي، فدَوّى. اختلج صدره. سمع انفجارات متلاحقة في الآليّات المصطدمة بعضها بِبعضها الآخر: «نعم، فجَّرتُها».

سقطتْ فكرته كالسكّين، وامتلأ الوادي بالأزيز. لمح -بعد لحظات مِن التفجير- بعض عناصر المجموعة الأولى: «لا دور لك معها. انسحِبْ».

أدار ظهره لِـ «وادي الغجر»، وانطلق غرباً.

بعد عشر دقائق -بِحسب تقديره- كاد يصطدم بِعدّة آليّات متّجهة نحو الوادي. رمى جسده على الأرض خلف شجرة دِفلى: «ربّما لا تستطيع. ارتجِلْ».

قرّر أن ينسحب شمالاً، مِن حيث أتى.

لا أحد يدري كيف تولّدت تلك الحكايات في الضيعة، بعدما طال غيابه. الشباب يعرفون أنّ «حاتم» -فقط- يمكن له أن يؤكّد أيّ خبر أو ينفيه. و«حاتم» أعطى كلمته واختفى: «لا نعرف عنه شيئاً».

 

 

123


93

دخان الأنبياء

على الرغم مِن ذلك، انتشرت أثناء غيابه تلك الحكايات

 

 

124

 

 

 


94

دخان الأنبياء

المُتناقضة أحياناً، والمتقاطعة أحياناً أخرى.

تقول الحكاية الأولى: «ناجي اشتبك مع مجموعة كومندوس في وادي الغجر، فأبادها. وانتظَر حتّى أرسل العدوّ المجموعة الداعمة. لمّا وصلَتْ أبادها أيضاً، وانسحبَ جنوباً».

بعض الذين يروون الحكاية يُكملونها بِقولهم: «ناجي وصل إلى أرض «فلسطين»، وانضمّ إلى مجموعة فدائيّة هناك».

وبعضهم الآخر يكملها على نحو مُغاير: «انسحب في البداية جنوباً، لكنّه اصطدم بمجموعات كبيرة من الأعداء، فعدَّل خُطّته، واتّجه غرباً. وصل إلى شاطئ البحر، أودع سلاحه عند بعض الشباب، وتَخفّى على مركب متّجهاً إلى «تركيا»، وسيعود مِن طريق البرّ، مِن «سوريا»».

وتروي حكاية ثانية أخباراً «مؤكّدة» عن بطولاته: «أباد مجموعتيْن كاملتيْن. وبعدما لاحقته مروحيّة، فجَّرها بِحيلة ذكيّة جدّاً؛ ربط مجموعة مِن قنابله بعضها بِبعضها الآخر، وعلّقها في أعلى شجرة حور، وقام بِدورات متتالية يناور، ويرمي باتّجاه الطائرة رصاصاً غزيراً. استدرجها حتّى مرّت بالقرب مِن تلك 

 

125


95

دخان الأنبياء

الشجرة، وصوّب رصاصه نحو القنابل، فتفجّرتْ، وأسقطَت الطائرة».

 

 

126


96

دخان الأنبياء

تَفرح بعض الوجوه بِتلك الحكايات، ويحلم كثيرون به «مُعْتَلياً غمامة» أو «مرتدياً ثوباً أخضر فضفاضاً» أو «آتياً على ظهر دبّابة» أو «هابطاً بِمظلّة في ساحة الضيعة».

ولكنّ «الشباب» الذين يسمعون تلك الحكايات والأحلام معاً يهزّون رؤوسهم ويتبادلون نظرات يفهمونها جيّداً، وينسحبون.

أخيراً، حكاية واحدة ثبتتْ وصحّتْ في ما بعد، رواها «حاتم» على مسمع الشباب، لكنّها انتشرت قبل الأوان. وقعت كالسيف على رؤوس بعضهم، وسمّرتْ بعضهم الآخر إلى حائط الترقّب والانتظار المُرّ؛ حكاية قصيرة جدّاً حكاها على عَجَل، واختفى ثانية: «استشهد، وسنسحب جثّته».

عاد «حاتم» بعد أسبوع. يروي مَن رآه فور عودته أنّه كان منهك القوى، مصاباً بِجروح عدّة في عنقه وصدره ويده، ممزّق الثياب، حزيناً، حزيناً.

ويروي بعضهم أنّه بكى، ولم يخبرهم بما حصل حتّى صباح اليوم التالي.

 

 

127


97

دخان الأنبياء

قال «حاتم»: «كانت جثّة «ناجي» بالقرب مِن «صخرة الجرن»، أصيب في طريق انسحابه. اكتشفوا الجثّة. تقدَّموا

 

128


98

دخان الأنبياء

وفخّخوا المكان. كنّا نراقبهم. بعد يومين، حاولْنا تفكيك الألغام وسَحْب الجثّة. اكتشفونا. أمطرونا بالرصاص والقذائف. استطعْنا في المرّة الثانية تفجير الألغام، ولكن أخفَقْنا في سحْب الجثّة. تقدّموا نحونا تحت غطاء ناريّ كثيف. انسحبت المجموعة انسحاباً عشوائيّاً. حاولتُ الانسحاب، لم أستطِع. حوصرت بِأحزمة ناريّة. تقدَّموا نحو الجثّة، صبّوا فوقها المازوت، وأحرقوها. كنتُ قريباً منها إلى درجة أنّني كنتُ أسمع فرقعتَها وهي تحترق. تصاعد الدخان منها كثيفاً. أخذ الدخان يختلط بالضباب ويتلاشى فيه، وينتشر معه. تركتُ المكان، والدخان يعلو مِن الأرض صوب السماء، والضباب ينزل مِن السماء صوب الأرض».

 

129

 

 


99

حُفَر الحرب

حُفَر الحرب

الكاتب عليّ حسين حمادي

دخلتُ باحة منزلنا بعد غياب شهرٍ كامل، سلّمتُ على والديّ وإخوتي، ثمّ جلستُ أستريح تحت شجرة الصفصاف التي أُحبّ. كانت أمّي تغسل بعض الأواني في البِركة، وأبي يقرأ الصحيفة على كرسيّه الخيزران تحت داليته العزيزة.

راح إخوتي التوأم «حمزة وحنان»، البالغان مِن العمر عشر سنوات، يتنازعان حول شيءٍ ما، تمسكه «حنان» بِكلتا يديها.

«أنا وجدتُه قبلك»، تقول حنان.

- ولكنّني أنا مَن حَفَر الحفرة.

- أنا سأستعملها لِأمرٍ مهمّ؛ سأضعها مسنداً لِدُميتي.

- بل أنا مَن سيصنع منها مسدّساً.

تدخّلتْ أمّي مبتسمةً، وهي تنظر إلى ساحة التنازع: «هل

 

131

 

 


100

حُفَر الحرب

نسيتما أنّكما أضعتُما مدقّة الثوم خاصّتي؟ سوف أصادرها لِأستخدمها في دقّ الثوم».

«ولماذا لا أستعملها مسنداً لِكُتبي مثلاً؟»، تدخّل أبي -فجأةً- مِن حيث لم يحتسبْ أحد. فابتسموا حذِرين محتارين؛ هل يُمازحهم أم يتكلّم بِجِدّ؟

«ما هذا الذي سَحركم جميعاً حتّى تتنافسوا عليه؟»، تدخّلتُ محاولاً أن أفهم ما يجري.

«ماذا؟! لا تقُلْ إنّك تريدها أنت أيضاً!»، قال «حمزة» محتدّاً، فابتسمتُ له.

«انظر يا أخي» -قالت حنان وهي تناولني ذلك الشيء- «لقد وجدناها ونحن نحفر في البستان لِنزرع شجرة».

أصابتني الرعشة والخوف، وأنا أنظر غير مُصدّق.

مددْتُ يدي وأنا أرتجف، أخذتُها بِهدوء، ثمّ -فجأةً- رميتُها بِسرعة مِن فوق السور، وأنا أصرخ: «انبطحوووووووواااااا».

بعد ثوانٍ رفعتُ رأسي، فوجدتني منبطحاً وَحدي، كردّةِ فِعل طبيعيّة تدرّبْتُ عليها في الدورات القتاليّة، بينما كان أبواي وإخوتي 

 

 

132


101

حُفَر الحرب

نهضتُ عندما طال الوقت ولم أسمع صوت انفجار. أجريتُ اتّصالاً بعد أن قمتُ بِبعض الإجراءات الاحترازيّة، فجاء المختصّون مِن المقاومة، وأخذوا قطعة الحديد.

لا يزال أبي مدهوشاً، وأمّي مرتعبة، غير مصدّقَيْن أنّ ما كان يلعب به ولداهما طوال النهار قنبلةٌ قديمة مِن مخلّفات الحرب.

عند عودتي مِن الإجازة التالية، كان في حقيبتي دُمية كالعروس مع كرسيّها الخاصّ، ومسدّس بلاستيكيّ، ومدقّة ثوم خشبيّة، ومسندان مُزخرفَان للكتب.

قدّمتُ لِكلٍّ هديّته، وأنا أبتسم، وأقول: «أرجوكم أن تتركوا الآثار الحربيّة مدفونةً في حُفَرِها».

 

134


102

قميص

قميص

الكاتبة والروائيّة ريمة راعي

في وقت مغيب الشمس، وكما هي عادتها كلّ يوم، كانت «جفرا» تضع كرسيّ الخيزران أمام باب بيتها الريفيّ الذي تمتدّ أمامه فسحة مزروعة بأشجار البرتقال واللّيمون، تُحملق في شيء ما أمامها، ولا تحيد النظر عنه. وما إن لاح خيال مِن بعيد، حتّى نهضتْ عن الكرسيّ، وراحت تُحدّق فيه بِتمعُّن، وكلّما اقتربَ الخيال أكثر، ازداد الترقُّب في عينيها، وحين اتّضحتْ ملامح القادم، أطلقَتْ «جفرا» تنهيدة، وجلسَتْ مُجدّداً.

«مرحباً يا جفرا»، هتف لها ملوّحاً بِيَده.

- أهلاً عمّي «حميد».

- كيف حالك يابنتي؟

 

 

136

 


103

قميص

- بِخير يا عمّي.

تابع الرجل الستّينيّ طريقه، بينما عادت «جفرا» لِتجلس على كرسيّها، وتتابع ترقّبها الأبديّ لِقادم لَم يأتِ بعد. وبعد دقائق، لاح خيال جديد، فوقفتْ «جفرا» مادّة رقبتها كي تتحقّق مِن هويّته، ثمّ عادتْ لِتَجلس وتتنهّد مِن جديد.

أمام طاولة عليها صينيّة فضّيّة ورَكوة وفنجانا قهوة، جَلَس «نادر» ينقل عينيه بين محتويات المكان البسيطة: كرسيّان وطاولة وأريكة، وجدران فارغة إلّا مِن صورة فوتوغرافيّة مؤطّرة، تظهر فيها «جفرا» بِثوب زفاف، وبالقرب منها رجل بِملابس عسكريّة مموّهة. وعلى الرغم مِن أنّ عمر هذه الصورة لا يتجاوز السنتين، إلّا أنّ «جفرا» -الجالسة قبالة أخيها- بَدَتْ أختاً كبرى لِتلك الشابّة السعيدة التي تلمع كَشمس.

همسَ «نادر»: «لماذا تُصرّين على البقاء هنا وحدك؟ تعالي معي إلى اللّاذقيّة، أمّكِ وأبوكِ قلقان عليكِ».

- لا أستطيع أن أترك البيت.

- لماذا؟

 

137


104

قميص

- أخشى أن يعود «نديم» ولا يجدني.

- «جفرا»، بقاؤك وحيدة في هذه القرية ليس صواباً.

 

 

138


105

قميص

- هذا بيت زوجي، ولن أخرج منه إلّا إلى القبر.

- ماذا بعد يا «جفرا»؟

- سأبقى في انتظاره.

- «جفرا»، لقد عُرف مصير الجميع إلّا هو؛ ربّما لن يعود أبداً، توقّفي عن انتظاره.

- لا تقُلْ هذا. «نديم» وعدني أنّه سيعود.

صاحتْ «جفرا» والدموع تسيل مِن عينيها، فأشاح «نادر» عينيه عن دموعها، وعاد إلى الحملقة في الصورة على الجدار.

مرَّرَتْ «جفرا» أصابعها تحت الصنبور لِتتحقّق مِن أنّ المياه باتتْ ساخنة، ثمّ وضعتْ منشفة نظيفة وملابس مطويّة بِعناية على الكرسيّ أمام باب الحمّام، ومشتْ نحو باب الدار، تحقّقتْ مِن أنّ المزلاج مُحكم الإغلاق، ثمّ عادتْ إلى غرفة النوم. تمدّدتْ في سريرها، وأغمضتْ عينيها محاوِلة تجاهل صوت الزيزان وعواء الكلاب اللّيليّ، لكنّها ما لبثتْ أن فتحتْ عينيها، وراحت تتأمّل السقف، كما هو حالها منذ سنة ونصف السنة؛ المدّة التي استغرقها حصار الفرقة السابعة عشرة التي يخدم فيها زوجها. كانت تغصّ كلّما وضعَتْ لقمة طعام في فَمها، وهي 

 

139


106

قميص

تفكّر: ماذا يأكل الآن؟ هل الطعام الذي يُلقى إليهم مِن الطائرات الحربيّة

 

140


107

قميص

يكفيهم جميعاً؟ وهل يصِل إليهم؟ كانت تسمع عن أنّ الكثير مِن تلك الأطعمة يسقط في يدِ داعش التي تحاصر المكان، فيبقى الجنود من دون طعام إلى حين وصول الطائرة الثانية، لكنّ «نديم» -في الاتّصالات النادرة معها- كان يقول لها: «نحن رجال، وطعامنا هو النصر»، ويتظاهر بالغضب، ثمّ يطلب منها عدم سؤاله عن الطعام الدنيويّ مرّة ثانية.

لكنّ صبرها الذي استمدَّتْه مِن رسوخ إيمان زوجها وصلابته، تلاشى حين رنّ هاتفها في منتصف إحدى الليالي المشؤومة، لِيُخبرها أخوها عن معارك عنيفة يشهدها محيط مقرّ الفرقة، بعد أن فَجَّر أحدُ الانتحاريّين نفسه بِعربة، ممهّداً الطريق لِهجوم عنيف مِن التكفيريّين.

كانت الأخبار تأتي متتابعة عن قصص بطوليّة لِجنودٍ استماتوا في الدفاع عن مقرّهم، وكانت «جفرا» تلاحق أخبار مَن وصل منهم إلى نقاط الجيش السوريّ في مطار «الطبقة» و«عين عيسى»، وتُحاول الوصول إلى أرقام هواتف مَن وصل إلى أهله منهم كي تسأل عن «نديم». أخبَرها أحدهم أنّ زوجها ومجموعته كانوا في الخطّ الأماميّ للجبهة، للتغطيّة على رفاقهم أثناء الانسحاب. ومُقاتِل آخر أخبرها أنّه رآه يسحب 

 

141


108

قميص

جثمان أحد رفاقه، لكنّ دخان قذيفة حجبته عنه، ولا يعلم ماذا 

 

142


109

قميص

حدث له. كان كلّ واحد منهم لديه صورة أخيرة لِـ «نديم» وهو يرمي القذائف باتّجاه التكفيريّين، أو يحمي رفيقاً بٍصدره، أو يسحب جثمان آخر، لكنّ أحداً لم يعلم أين هو.

وبمرور أسبوعين، توقّف الجميع عن انتظاره، وتقبّل والداه التعازي به. لكنّ «جفرا» لم ترتدِ السواد، ولم تَقبلِ العزاء مِن أحد. باتَتْ كلّ مساء تجلس أمام باب بيتها، تنتظر عودته.

كانت «جفرا» نائمة حين سمعَتْ طرقات مُلحّة على الباب، فتحَتْ عينيها بِفَزع، وهي تسمع الطرقات تشتدّ وتصبح أكثر قوّة. نهضَتْ مِن السرير، سارت نحو الباب، وهَمستْ: «من؟».

- أنا.

همستْ «جفرا» بِصوتٍ مُرتجف: «مَن أنت؟».

- أنا يا «جفرا».

فتحتْ «جفرا» عينيها على اتّساعهما، أزالت المِزلاج بِأصابع مرتجفة، وفتحَت الباب، لِتحدّق في بذلة عسكريّة مغطّاة بِبُقع الدماء المتخثّرة، ثمّ رفعتْ رأسها إلى وجهٍ مغطّى بالجراح، يبتسم لها.

 

143


110

قميص

همستْ بِصوتٍ مُرتجف: «نديم! هذا أنت؟».

هزّ «نديم» رأسه، فشدّتْه «جفرا» مِن ذراعه إلى داخل البيت،

عانقَتْه وهي تنتحب، وراحت تشمّ رائحته، وتُمرّر أصابعها في شعره، ثمّ تراجعتْ إلى الخلف، وهتفتْ: «لقد عُدتَ».

همسَ «نديم»: «نعم، عُدتُ».

- لستَ حُلماً؟

- لا؛ لستُ حلماً.

أمسكَتْه «جفرا» مِن يده، وسحبَتْه نحو الأريكة، فجلس عليها، بينما ركعتْ هي على الأرض عند قدميه. ثمّ وضعتْ يديها حول وجهه، وراحت تتلمّس الجراح الغائرة التي تغطّي نصف وجهه الأيسر ورقبته، وتلاحِق الدماء المتخثّرة بِأصابعها. فتحت أزرار قميصه، لِتمرّر أصابعها المفجوعة على جرحٍ عميق يخترق صدره. ثمّ سألته: «أين كنت؟».

حكى لها «نديم» أنّه ورفاقه قاتلوا حتّى الذخيرة الأخيرة، ومَن استشهد مِنهم وجد أخاً يسحب جثمانه، ويحمله على ظهره كي لا يقع في أيدي 

 

144


111

قميص

التكفيريّين. وهو -على الرغم مِن الجراح في صدره ووجهه- كان لا يزال يملك القوّة كي يحمل رفيقه الذي أصيب بِقذيفة في صدره فاستُشهد. وسار مسافات طويلة حاملاً إيّاه على ظهره، إلى أن وصل إلى أحد بيوت «الرقّة»، فطرق بابه وطلب المساعدة. صاحب البيت

 

145

 


112

قميص

كان رجلاً رافقه إلى أحد الحقول حيث دفن رفيقه، وما إن أهال التراب على جثمانه، حتّى تهالك، وفَقد الوعي.

«لم أكن أعرف أين أنا، أو كم مرّ عَلَيّ من الوقت بين يدي هذا الرجل الأمين، لكنّني كنتُ أعلم أنّني بين يدي الله».

انحنَتْ «جفرا» على يديه، وراحت تقبّلهما، وهي تهمس: «لقد عدتَ يا بطل!».

وبينما هي تساعده في خَلع قميصه، قالت له: «المياه في الحمّام ساخنة، وملابس نومك على الكرسيّ أمام الحمّام، والعشاء على الطاولة».

أمسكَتْ «جفرا» القميص الذي خَلعه «نديم»، قرّبته مِن أنفها، وراحتْ تستنشق رائحة الدماء والتراب والبارود، وتُمرّر أصابعها بِتمهُّل على بقع الدم الجافّة. ابتسمتْ، وسارت نحو المطبخ، فتحتْ أحد الأدراج، أخرجتْ مطرقة ومسماراً، ومشتْ نحو باب الدار، فَتحته، وراحتْ تطرق المسمار في الباب مِن الخارج، وعلَّقت القميص فيه.

ثمّ نظرَتْ إلى المزلاج، وابتسمَت وهي تتركه طليقاً من دون أن تغلقه.

 

146


113

قميص

الشمس أشرقتْ للتوّ، ونورها راح يغمر الحقول، ويغمر

 

147


114

قميص

منزلاً ريفيّاً صغيراً أمامه فسحة مزروعة بأشجار البرتقال واللّيمون، وعلى بابه الذي نسيَ أصحابه إغلاقه ثمّة قميص، الشمس سطعَتْ عليه، فتلألأتْ بقع دماء؛ هي التميمة التي تحمي أهل هذا البيت.

 

 

148


115

قميص

تقاطُع

الكاتبة رقيّة كريمي

رآني مِن بعيد. كنتُ واقفاً خلف إشارة المرور عند التقاطُع. ابتسَم مسروراً، فرأيتُ بريق الفرح في عينيْه المتعبتَيْن. أخذ عصاه محاولاً المرور مِن بين السيّارات، ووصل إليّ بِصعوبة. نظرتُ إليه. كان يبحث داخل السيّارة. تلاشَت البسمة عن وجهه المُتعب؛ المتعب مِن الحرب، المتعب مِن الفقر. ضربَ بِأصابعه على النافذة، فأنزلتُ الزجاج، ونظرتُ إليه.

«وین السیّد علي؟».

عاد الألم مرّة أخرى إلى روحي، طاف في كياني كلّه، ووصل إلى عمق عظامي.

نظرتُ إليه، وقلتُ والحزن يغمرني: «استشهد».

تجمّد في مكانه لِلحظة، كأنّه لم يكُن يريد أن يُصدّق؛ لم

 

149

 

 


116

قميص

يكن يُحبّ أن يصدّق أنّ ذلك الشابّ الذي كان دائماً ينزل مِن السيّارة هنا، يسأله عن حاله، ويساعده، بينما تمرّ السيّارات كلّها أمامه مِن دون أن ينظر سائقوها إليه حتّى، استشهد الآن.

كَم سنةً مرّتْ وهو يبيع المناديل الورقيّة بهذه العصا وبِقدمه المبتورة عند هذا التقاطُع؟ لا أعلم.

كان السيّد عليّ يشتري دائماً مناديله كلّها. ضحكتُ مرّةً، وقلتُ له: «ماذا تريد أن نَفعل بِهذه المناديل كلّها؟ لقد ملأتَ السيّارة بها». كان يضحك من دون أن يقول أيّ شيء.

نظرتُ إليه، شعرتُ بِجبلٍ مِن الألم في عينيْه عندما وضع يديه المتعبتَين على وجهه المُرهق، وبكى في الشارع؛ كنتُ أنظر إليه بِصمت، دمعتْ عيناي، وقلتُ في نفسي: أنت لا تعرفه كثيراً وتبكي هكذا، كيف عساي أبكي وأنا أعرفه جيّداً؟ أعرف أنّك لستَ الوحيد. هل تعلم أنّ الفقراء في الكثير مِن شوارع «حلب» المزدحمة كانوا يعرفونه؟ عندما كانوا يرونَ سيّارته، يركضون إليه مباشرةً ويُنادونه: «سيّد علي! سيّد علي!».

كان ينزل مِن السيّارة ويكلّمهم جميعاً، وعندما يركبها مِن جديد، كنتُ أضحك، وأقول له: «هل بقيَ شيء في جَيبك؟

 

150


117

قميص

قريباً ستكون فقيراً مثلهم. يَكفي، هل ستبقى هكذا حتّى لا يبقى معك شيء؟»، فيضحك.

لستَ أنت فقط، «أبو سليمان» أيضاً بكى؛ في محطّة البنزين، مَن كان يهتمّ لـِ «أبي سليمان» بِملابسه المتّسخة ورائحة البنزين غير «السيّد عليّ»؟ مَن كان يهتمّ لِـ «أبي عليّ» في المستودعات العسكريّة، بين التراب والغبار، غير «السيّد عليّ»؟ أنت لا تعرفه وتبكي هكذا، كيف أبكي أنا وكنتُ قد رأيتُ صلاة ألف ليلة وليلة؟ عندما كنّا نعود في منتصف اللّيل مِن أصعب المهمّات، لم أكن أستطيع أن أقِفَ على قدميّ، كنتُ أراه يصلّي، بينما أنا لم أكُن أستطيع أن أفتح عينيّ، وأبحث عن أوّل مكانٍ لِأرمي نفسي فيه وأنام، حتّى مِن دون تلك البطّانيّة القديمة.

أنت لا تعرفه وتبكي هكذا! كيف لا أبكي أنا، وقد كنتُ أعرف أنّه في كلّ يوم يقرأ سورة الأنعام في السيّارة، على الطريق، وقت الاستراحة، بعد الصلاة وقبلها؟! شكراً لِأنّ الله مَنّ علينا به لِيكون مِن المجاهدين.

كيف لا أبكي، وقد كنتُ أراه كلّ يومٍ يُصلّي صلاة جعفر الطيّار مرّتين؛ مرّة بعد صلاة اللّيل، وأخرى بعد صلاة الظهر؟!

 

152


118

قميص

هل تعلم ماذا تعني صلاة جعفر الطيّار؟ ربّما صَعُب علينا أن نصلّي هذه الصلاة مرّة واحدة في حياتنا كلّها، فقد نشعر بالدوار، إلّا أنّه كان يصلّيها مرّتين في اليوم، هل تصدّق؟! كانت هذه وصفة أحد العُلماء له عندما كان يبحث عن الشهادة.

كنتُ أنظر إليه مِن نافذة السيّارة، كان الشابّ يبكي بِصمتٍ، وأنا أُشاهد ملابسه القديمة المتّسخة. شعرتُ أنّه يحمل على أكتافه الضعيفة جبلاً مِن الهمّ والتعب؛ تعب أيّام الحرب والدمار، تعب الفقر والإهانة في شوارع «حلب» المزدحمة، مِن أجل رغيف الخبز. وكنتُ أتذكّر ابتسامة «السيّد عليّ الزنجانيّ» وملامحه الجميلة. لِلحظة نَسيتُ أنّني في التقاطُع عند إشارة المرور. أخرجَتني مِن أفكاري أصوات أبواق السيّارات مِن خلفي، حتّى أنّ أحدهم أخرج رأسه مِن السيّارة، وقال: «هل نمتَ وسط الشارع؟».

تركتُه وعصاه ومناديله الورقيّة في الشارع، لكنّني لا أزال أراه بواسطة مرآة السيّارة الصغيرة، جالساً على حافّة الرصيف، وأكتافه تهتزّ مِن شدّة البكاء.

 

 

155


119

قميص

ورأسها يَستند إلى إطار الباب، وانبرَتْ تكتب:

- المصابيح تبقى مشتعلة طول الوقت.

- ينبعث مِن الموقع شيء أشبه بِضوء ينطفئ ويشتعل لِمرّات متتالية؛ شيء مُضيء كأنّه شرارة شُعلة صغيرة جدّاً، مِثل نجمٍ يومض.

- تتقدّم الموكبَ سيّارةٌ بيضاء تسير بِبُطء.

- خرج لِاستقبال الموكب مِن الدشمة الثالثة مجموعة جنود.

- لحظة. لا يبدو استقبالاً؛ هو تبديل بين العناصر. استغرقَتِ العمليّة كلّها خمساً وعشرين دقيقة، بعدها، حلّ السكون مِن جديد.

على مدار الأسبوع ترصد «سلوى» بِصمت؛ العينان تحلّان محلّ الكلمات، وتسجِّلان كلّ شاردة وواردة.

كتبَتْ ما رأتْ، ثمّ وضعَتِ الدفتر في جَيب فستانها المزهّر. لم تكن تنظر إلى هذا الورق كَشيء مادّيّ جامد، بل إنّها تراه كإنسان يَفيض بِالمشاعر.

 

 

156


120

قميص

غاصَتْ في الذاكرة البعيدة، يوم حكى لها «أيمن» كيف تكسّر حُلمه عند قارعة المَعبر؛ عندما كان طفلاً، طلب مِن

 

157


121

قميص

أمّه أن تشتري له لعبة «جرّافة» لِيَجرف الرمال والأحجار حول المنزل. فأعطتْهُ وعاء قديماً لِيتخيّله جرّافة لم تكن تملك ثمناً لها، لكنّه تلقّى منها وعداً بِأن تحصل على تصريح وتصحبه إلى «بيروت» لِزيارة خالته التي ستشتري له ما يريد.

تحمّل سفراً بعيداً إلى «بيروت»، بعد الخضوع لِإجراءات المَعبر؛ رحلة تبدأ مِن السادسة صباحاً حتّى السادسة مساءً، موعد الوصول إلى بيت خالته. نَسيَ التعب كلّه عندما حصل على الجرّافة الحُلم.

في طريق العودة إلى القرية أراد أن يحضنها، لكنّ السائق وضعها مع باقي الأمتعة فوق سقف الحافلة. وصلوا إلى المَعبر، وفيما خضعوا للتفتيش الشخصيّ، رمى أحد العملاء الأمتعة والحقائب بِعُنفٍ على الأرض بُغية تفتيشها، فتكسّرَتِ الجرّافة. انحدرَتْ دموعه فوق خدّيْه، وصار يَركُله بِقدمه، قائلاً بِنَبرة يشوبها الحزن والغضب: «أيّها الوحش! كسرْتَ جرّافتي».

مسحَتْ دموعها، وهي تنتظر انبلاج ضوء النهار، وغفَتْ على تلك الحال.

سمعَتْ طرقاً على الباب، فانسلَّتْ مِن فراشها. رأتْه مِن

 

158


122

قميص

وراء زجاج النافذة التي تُفتح على باحة الدار، وقد لَوى وجهه الأسمر قليلاً ناحية الطريق، وفي لمح البصر انتقلا إلى الشُرفة.

أعطَتْه الدفتر، وجاءتْ بِرغيفٍ ولبن. أكل صامتاً. نظر إليها بِحُنوّ، وقال: «لا طعم لِلخبز بِوُجود المُحتلّ».

عاودَها الخوف ما إن توارى عند مُنعطف الطريق، فابتهلَتْ إلى الله ألّا يُصيبَه مَكروه.

مرّتِ الساعات، ساعةً بعد ساعة، ولا خبر عنه.

عند العصر، سمعَتْ صوت طلقات ناريّة في الخارج. ركضَتْ إلى الشُرفة، فإذا بِجُنديّ بِلباس لَحْديٍّ يقترب مِن ظلّ رجلٍ آخر عرفَتْهُ مِن قامته النحيلة. أصابه في وجهه مباشرةً، وقد سُرَّ الجنديّ بِدقّةِ تصويبه. ظلَّتْ «سلوى» تُراقب بِركة الدم الصغيرة التي كانت تنتشر بِبُطء بين صغار الحَصى في الطريق، في حين انزلقَ سلاح «أيمن» بِبُطءٍ، وهوى على الأرض.

بعد سبعة أيّام، كانت «سلوى» على تلك الشُرفة، قبالة الموقع، يُلاحقها المشهد المُروّع نفسه.

بعد لحظات، مرَّ رتلٌ مِن الآليّات العسكريّة، وهناك، تحت أديم التراب، انفجرتْ عُبوّة ناسفة. 

 

 

160


123

قميص

غطّى الدخان الكثيف المكان. وفي دقائق انجلى عن أشلاء الجنود.

 

اقتربَتْ «سلوى» مِن البوّابة تُراقب جنود العدوّ يهرعون مِن وإلى الموقع، بحثاً عن الشبح الفاعل، فيما كانت هي تبتسم للدم المُنساب بين صغار الحَصى.

 

 

161


124

شرفة سلوى

لوحةٌ زيتيّة

الكاتب عليّ حسين حمادي

أنظرُ إلى الشاشة المُضيئة أمامي في غرفة العمليّات، أتنقّل بِنَظري بين الشاشات: هنا أشاهد مجموعةً تقتحم تحصينات العدوّ، وهناك أشاهد الآليّات تتقدم. هنا الجرّافات ترفع السواتر، وهناك سلاح الإسناد يرمي بالمدفعيّة لِيُطهّر الطريق أمام المهاجمين.

العمليّة تسير كما هو مُخطّط لها، بِأروع صورة. صوت زخّات الرصاص بَدا كأنّه سُلّمٌ موسيقيّ يتبادل المقاومون توزيع أنغامه؛ يعزف الأوّل فَيُجيبه الثاني، وهكذا، في معزوفةٍ عالميّةٍ في مستوى إبداعها.

أنا أراقب بِدِقّة. المهمّة تنجح. العدوّ يتقهقر. الشمس تميل إلى المغيب، وتُسدِل ستاراً أحمر في الأفق.

 

163


125

لوحة زيتيّة

«ع العافية يا حاجّ علاء، ع العافية» أرسلتُ هذه الكلمات على الجهاز، أخاطب القائد الميدانيّ.

- يعافي قلبك يا حاجّ. شو رأيك بالمشهد؟

- لوحة، لوحة يا «علاء». تِسلم زنودكن وقلوبكن.

لم أكُن أبالغ أبداً، فقد كنتُ أشاهد -بالفِعل- لوحةً رائعة ترسمها أيادي فنّانين؛ لوحةً إلهيّةً بِزنود رجاله السُمْر.

اطمأننتُ إلى انتهاء العمليّة بِنَجاح.

وضعتُ جهاز اللّاسلكيّ، وتوجّهتُ إلى الخارج كي أتحضَّر للصلاة.

صوتُ انفجارٍ دَوّى على إحدى الشاشات: «حاجّ، انظر»، قال أحد المعاونين في الغرفة.

نظرتُ بِسرعة.

«إنّه الحاجّ علاء» -تابع المعاون- «هنا كان قبل الانفجار».

أمسكتُ الجهاز بِسرعة وأنا أنظر في الصورة التي تنقلها الكاميرا المعلّقة بِخوذة أحد المُسعفين الذين يركضون نحو «الحاجّ علاء».

 

164


126
العصا الرابعة