العَدْلُ المُنْتَظَر

مقالات مهدويّة


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2022-01

النسخة:


الكاتب

مجلة بقية الله

بقية الله مجلة إسلامية جامعة متنوعة المواضيع متوجهة إلى جمهور القراء؛ لذا فهي تعتمد أسلوب اللغة الواضحة، والمفهومة، وبساطة التعبير، مع المحافظة على العمق والدقة؛ بحيث يمكن للجميع قراءة مضمونها مهما كانت مستوياتهم العلمية، حيث يجد كل منهم ما يستحق القراءة ويحقق الاستفادة.


مقدّمة

*مقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على المبعوث رحمةً للعالمين، محمّد وآله الطيبين الطاهرين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين (عجل الله تعالى فرجه).

يمثّل حبّ العدالة وطلبها أحد العناوين الرئيسة لدى البشر كافّة، إذ نجد أنّ جميع أفراد البشريّة بحَضَرهم وبَدوهم، قديمهم وحديثهم، وفي شرق الأرض وغربها، وعلى امتداد المعمورة، ينادون بالعدالة، ويحاربون الظلم، ويسعون بشتّى السبل لإحلال ما يرونه مصداقاً للعدل، ويدعون للاتصاف به، ويمدحون عليه أهله، كما ينفرون من الظلم ويذمّون الظالمين. وفي كلّ ذلك تعبيرٌ واضحٌ عن النزوع الفطريّ لهذه الصفة الكريمة، التي جعلها سبحانه إحدى صفاته المباركة.

وإذا كانت الفطرة منبعَ كثيرٍ من الفضائل والكمالات، باعتبار أنّها صبغة الله، ومَن أحسنُ مِن الله صبغة، فإنّ في داخل هذا الإنسان ما يدعوه إلى تحقيق العدالة والسعي لإيجادها، على جميع المستويات التي ترتبط بحياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة.

 

9

 

 


1

مقدّمة

وكما هو الحال في جميع الصفات التي لها منشأ فطريٌّ أو غريزيٌّ، فلا يمكن لهذه التركيبة التكوينيّة أن تكذب على الإنسان أو تخدعه، لكونها ليست من الاعتبارات التي تقع تحت تصرّف البشر رفعاً ووضعاً، بل هي ترتبط بأصل الخلقة التي تتصف بالثبات، والاستمرار والبقاء ما بقيت البشريّة، فما بقي الإنسان؛ سيبقى يطلب الطعام والشراب والتناسل، وغيرها من الغرائز، وسيبقى يطلب الجمال والكمال والتعلم واكتشاف المجهول، وغيرها من الأمور الفطريّة.

وكما أنّ لبقيّة الغرائز ما يحقّقها في الخارج، لكونها لا تكذب على الإنسان في ميلها وطلبها ودافعيتها، فالإنسان يطلب الماء بدافع العطش فيجد الماء، ويطلب الطعام بدافع الجوع فيجد الطعام، وهكذا... كذلك إنّ ما يحسّ به الإنسان في أعماق وجدانه من حبٍّ للعدالة، والميل نحوها، وطلبها بدافع من حاجته الفردية والاجتماعية لتحقيق سعادته الدنيويّة والأخرويّة، لا بدّ أن يكون لها مصداقٌ خارجيٌّ يلبّيها ويحقّقها بأتمّ معانيها.

وقد وضع البشر قديماً وحديثاً أنظمة عديدة رفعت شعار العدالة، وادّعت تطبيقها، إلا أنّها- مع الأسف- لم تستطع حتى اليوم أن تقدّم للإنسان ما يحلّ له مشاكله الأساسيّة في مختلف الميادين؛ السياسية والأمنيّة، والاقتصادية والمعيشية، والأخلاقيّة والتربويّة، والأسريّة والاجتماعيّة، وغيرها من مجالات تئن منها البشريّة على اختلاف نِحلها وأممها.

 

10

 

 


2

مقدّمة

ومع سيطرة الظالمين ونفوذ المستكبرين، يبقى الأمل الوحيد في خلاص البشر، هو انتظار الموعود الإلهي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، في استجابة حاسمة لهذا النداء الفطري الذي يصبو إليه الناس جميعاً.

خصوصاً، وإنّنا في عصر انتصار الجمهوريّة الإسلاميّة بقيادة الإمام الراحل السيّد روح الله الموسوي الخميني{، ومكمّل مسيرته الإمام السيّد علي الخامنئي }، وبوجود محور المقاومة وقادتها وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حفظه الله، وببركة دماء الشهداء وتضحيات الجرحى وعزم مجاهدينا وصبر أهلنا ومجتمعنا، أصبحنا في عصر الانتصارات الذي سيمهّد الأرض لظهور حفيد رسول الله(صلى الله عليه وآله) الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).

وبما أنّ من وظائف التمهيد تعزيز الثقافة المهدويّة، فقد ارتأينا في مجلّة بقيّة الله أن نضع بين يدي القرّاء الأعزّاء هذه المقالات لنخبة من الأعلام، علّها تساهم في نشر هذه الثقافة الأصيلة، وتكون موضع نظر إمام زماننا (عجل الله تعالى فرجه)، ومن هنا جاء عنوان الكتاب: «العَدْلُ المُنْتَظَر مقالات مهدويّة».

عملنا في هذا الكتاب:

1. الكتاب عبارة عن أربعة مقالات:

الأولى: عبارة عن مجموعة آياتٍ ورد تفسيرها بالإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه)، استخرجناها من «تفسير الأمثل» للشيخ ناصر

 

 

11


3

مقدّمة

مكارم الشيرازي حفظه الله، وقد عنونّاها: «الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة».

الثانية: للشيخ محمّد مهدي الآصفي(رحمه الله)، تحت عنوان: «الانتظار الموجّه».

الثالثة والرابعة: للشيخ الشهيد مرتضى مطهّري(رحمه الله)، وهما مقالتان: إحداهما تحت عنوان: «العدل الشامل»، والأخرى تحت عنوان: «المهدي الموعود(عجل الله تعالى فرجه)».

2. قمنا بجمع بعض ما ذكر من الآيات وتفسيرها من كتاب «تفسيرالأمثل»، مع الاقتصار على موضع الشاهد دون التوسّع في التفسير.

3. نقلنا توثيق النصوص في الهامش لمن يحبّ المراجعة.

4. أجرينا بعض التحرير والتغيير الطفيف على المقالات، مع المحافظة على أصل النص.

ختاماً: نسأله تعالى أن يعجّل فرج مولانا صاحب العصر والزمان(عجل الله تعالى فرجه) وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمستشهدين بين يديه، إنّه سميعٌ مجيبٌ.

مجلّة بقية الله

 

12


4

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

*تمهيد

من الواضح أنّ قضية الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) ترتبط بمصير البشريّة جمعاء، ومثل هذه القضية لا يمكن أن يغفلها القرآن الكريم، فلا بدّ أن يأتي على ذكرها تصريحاً أو تلميحاً. وقد قمنا بجمع بعضٍ من هذه الآيات:

*ليُظهِرَه على الدين كلّه

﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدا﴾[1].

هذا وعدٌ صريحٌ وقاطعٌ من الله سبحانه بغلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان. ولكن ما المراد بالظهور على الدين كلّه؟ أهو الظهور المنطقيّ، أم الظهوروالغلبة العسكريّان؟!

ثمّة اختلاف بين المفسّرين:

يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقيّ والاستدلاليّ فحسب. وهذا الأمر متحقّق؛ لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الاستدلال والقدرة المنطقيّة على جميع الأديان. ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهريّة وغلبة القوّة، وموارد استعمال كلمة «يظهر» ومشتقّاتها -أيضاً- دليل

 


[1] سورة الفتح، الآية 28.

 

15


5

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

على الغلبة الخارجيّة. ولهذا يمكن القول: إنّه مضافاً إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة وواسعة من الشرق والغرب، وهي تحت لوائه اليوم، وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلاميّة، بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليار نسمة، فإنّه سيأتي زمان على الناس، يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) إن شاء الله.

وكما نُقل عن بعض أحاديثّ النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلّا أدخله الله كلمة الإسلام»[1]،[2].

وقال سبحانه أيضاً في سورة التوبة: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٣٢ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[3].

إنّ هذه الآية، وردت في سورة الصفّ[4]، وفي نهاية سورة الفتح أيضاً، باختلافٍ يسير.

والآية تُخبر عن حدثٍ مهمّ كبير، استدعت أهمّيّته هذه أن تتكرّر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعاب الإسلام للعالم بأسره.

 

 


[1]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الجزء 5 ، ص 45. القرطبيّ نقل هذه الرواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) -أيضاً- ذيل الآية 55 من سورة النور ، ج 12، ص 301.

[2]  الأمثل، ج16، ص494.

[3]  سورة التوبة، الآية 32.

[4]  الآية 8: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ   بِأَفۡوَٰهِهِمۡ   مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾.

 

16


6

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وعلى الرغم من أنّ بعض المفسرين فسّر الانتصار -في هذه الآية- على أنّه انتصارٌ في منطقة معيّنة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلاً في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو ما بعده من العصور التي مرّت على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّه مع ملاحظة أنّ الآية مطلقة لا قيد فيها ولا شرط، فلا دليلَ على تحديد المعنى، فمفهوم الآية هو انتصار الإسلام كلّيّاً -ومن جميع الجهات- على جميع الأديان، وأنّه سيهيمن على الكرة الأرضيّة عامّة، وسينتصر على جميع العالم.

ولا شكّ في أنّ هذا الأمر لم يتحقَّق في الوقت الحاضر، لكنّنا نعلم أنّ هذا وعدٌ حتميٌّ من قبل الله، وأنّه سيتحقّق تدريجياً؛ فسرعة انتشار الإسلام وتقدّمه في العالم، والاعتراف الرسميّ به من قبل الدول الأوروبيّة المختلفة، ونفوذه السريع في أفريقيا وأمريكا، وإعلان الكثير من العلماء والمفكّرين اعتناقهم الإسلام، ذلك كلُّه يشير إلى أنّ الإسلام أخذ باستيعاب العالم.

إلّا أنّه طبقاً للروايات المختلفة الواردة في المصادر الإسلاميّة، فإنّ هذا الموضوع إنّما يتحقّق عند ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، فيجعل الإسلام عالميّاً.

ينقل العلّامة الشيخ الطبرسيّ في تفسيره «مجمع البيان» -في تفسيره الآيةَ المتقدّمة- عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ، فلا يبقى أحدٌ إلّا أقرّ بمحمّد (صلى الله عليه وآله)»[1].

 

 


[1]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 5، ص 45.

 

17


7

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

كما ورد في التفسير ذاته عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ إلّا أدخله الله كلمة الإسلام»[1].

كما أنّ الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية -في كتابه إكمال الدين- أنّه قال: «والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبقَ كافرٌ بالله العظيم»[2].

وثمّة أحاديث أخرى بهذا المضمون وردت عن أئمّة المسلمين (عليهم السلام)[3].

*دولة الحقّ

﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[4].

فسَّرت بعض الروايات قوله تعالى: ﴿جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ﴾ بقيام دولة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل»[5].

وفي رواية أخرى، جاء أنّه حينما ولد المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) كان مكتوباً على عضُده قوله تعالى: ﴿جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[6].

 

 


[1]  (م.ن.).

[2]  تفسير نور الثقلين، الحويزيّ، ج2، ص 211.

[3]  الأمثل، ج6، ص16.

[4]  سورة الإسراء، الآية 81.

[5]  تفسير نور الثقلين، الحويزيّ، ج3، ص 212 و 213.

[6]  (م.ن.).

 

18


8

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إنّ ثورة المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) ونهضته هي من أوضح المصاديق، حيث تكون نتيجتها الانتصار النهائيّ للحقّ على الباطل في العالم كلّه.

ونقرأ في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه دخل يوم فتح مكّة المسجدَ الحرام، وحطّم أصناماً كانت لقبائل العرب، وضعوها حول فناء الكعبة، وكان (صلى الله عليه وآله) يحطّمها الواحد تلو الآخر بعصاه، وهو يقول: ﴿جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾.

وخلاصة القول: إنّ حقيقة انتصار الحقّ وهزيمة الباطل، هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور، وانتصار الرسول (صلى الله عليه وآله) على الشرك والأصنام، ونهضة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) الموعودة، وانتصاره على الظالمين في العالم، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العامّ.

وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحقّ، ويعطيهم القوّة على مواجهة مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإسلاميّ[1].

 

 


[1]  الأمثل، ج9، ص96.

 

19


9

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

*وراثة الأرض

﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾.

لقد فُسِّرت هذه الآية في بعض الروايات بأصحاب المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، ففي تفسير «مجمع البيان» عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية: «هم أصحاب المهديّ (عليه السلام) في آخر الزمان»[1].

وجاء في «تفسير القمّي» في ذيل هذه الآية: ﴿أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ قال: «القائم (عليه السلام) وأصحابه»[2].

ولا يخفى أنّ معنى هذه الروايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عالٍ وواضح. وبناءً على هذا، في كلّ زمانٍ، وفي أيّ مكانٍ ينهض فيه عباد الله الصالحون في وجه الظلم والفساد، فإنّهم سينتصرون، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وكذلك وردت روايات كثيرة جدّاً (بلغت حدّ التواتر) عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريق السنّة والشيعة، في شأن المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وأنّ رجلاً من أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقوم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. منها الحديث المعروف عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلاميّة: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم، لطوّل

 

 


[1]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 7، ص 120.

[2]  تفسير القمّيّ، ج 2، ص 77.

 

20


10

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلاً (صالحاً) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجَوراً»[1]. وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنة[2].

وإنّ جماعة من كبار علماء الإسلام، من أهل السنة والشيعة قديماً وحديثاً، قد صرحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) بلغت حدّ التواتر، وليس لأيٍّ إنكارها بأيّ وجهٍ، حتّى أنّ كتباً قد أُلّفت في هذا الصدد بصورة خاصّة[3].

*الاستخلاف في الأرض

﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[4].

لقد وعد الله المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالاستخلاف في الأرض، وتمكينهم من نشر دينهم وتمتّعهم بالأمن الكامل، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالاستخلاف؟

 

 


[1]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 7، ص 120.

[2]  لمزيد اطلاع، راجع: (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)) و (نور الأبصار).

[3]  الأمثل، ج10، ص259.

[4]  سورة النور، الآية 55.

 

21


11

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

ثمّة اختلاف بهذا الصدد بين المفسّرين، إذ يرى بعضهم أنّ الوعد بالاستخلاف خاصّ بأصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) الذين استخلفهم الله في الأرض في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله). (ولا يقصد بالأرض جميعها، بل هو مفهوم يُطلق على الجزء والكلّ).

ويرى آخرون أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الذين خلفوا الرسول (صلى الله عليه وآله)، بينما يرى بعضهم أنّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات.

ويرى آخرون أنّه إشارة إلى حكومة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم، ويجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم، ويزول الاضطراب والخوف والحرب، وتتحقّق للبشريّة عبادة الله النقيّة من جميع أنواع الشرك.

ولا ريب أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) مصداق لها؛ إذ يتّفق المسلمون كافّة من شيعة وسنّة على أنّ المهدي (عجل الله تعالى فرجه) يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجَوراً.

ومع هذا كلّه، لا مانع من تعميمها. وينتج عن ذلك: تثبيت أسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كلّ عصر وزمان، وأنّ لهم الغلبة والحكم ذا الأُسس الثابتة.

أما قول بعضهم: إنّ كلمة «الأرض» مطلقة وغير محدّدة، وتشمل الأرض كلّها، وبذلك تنحصر بحكومة المهديّ

 

22


12

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

(أرواحنا له الفداء)، فهو لا ينسجم مع قوله تعالى: ﴿كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾؛ لأنّ خلافة السابقين وحكوماتهم -بالتأكيد- لم تشمل الأرض كلّها.

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا -على أقلّ تقدير- وقوع مثل هذا الحكم في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، (على الرغم من حدوثه في أواخر حياته (صلى الله عليه وآله)). ونقولها ثانية: إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) حصولُ حكمٍ يسوده التوحيد، والأمن الكامل، والعبادة الخالية من أيّ نوعٍ من الشرك، وذلك يكون حين ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وهو من سلالة الأنبياء (عليهم السلام)، وحفيد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو المقصود في الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرسول (صلى الله عليه وآله): «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجَوراً»[1].

ومما يجدر ذكره هنا، قول العلامة الطبرسيّ في تفسير هذه الآية: روي عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حول هذه الآية: «إنّها في المهديّ من آل محمّدٍ»[2].

 

 


[1]  منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، الگلپايگاني، ج 2، ص 43. وقد احتوى هذا الكتاب على مائة وثلاثة وعشرين حديثاً بهذا الصدد، من مصادر إسلاميّة مختلفة، وخاصّةً السنيّة منها. للاستزادة، يراجع هذا الكتاب، ص 247 وما يليها.

[2]  مجمع البيان, في تفسير الآية موضع البحث.

 

23


13

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وفي تفسير «روح المعاني» وتفاسير عديدة لمؤلّفين شيعة عن الإمام السجّاد (عليه السلام) -في تفسير الآية موضع البحث- أنّه قال: «هم -والله- شيعتنا أهل البيت، يُفعل ذلك بهم على يد رجل منّا، وهو مهديّ هذه الأمّة، وهو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم...»[1].

وكما قلنا: لا تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الآية، بل بيان مصداقها التامّ. وممّا يؤسَف له عدم انتباه بعض المفسرين -كالآلوسيّ في «روح المعاني»- إلى هذه المسألة، فرفضوا هذه الأحاديث.

وروى القرطبيّ، المفسّر المشهور من أهل السنّة، عن المقداد بن الأسود عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «ما على ظهر الأرض بيت حَجَرٍ ولا مَدَرٍ إلّا أدخله الله كلمة الإسلام»[2]،[3].

*حكومة المستضعفين العالميّة

﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾[4].

إنّ هذه الآية لا تتحدّث عن فترة خاصّة أو معيّنة، ولا تختصّ ببني إسرائيل فحسب، بل توضِّح قانوناً كلّيّاً لجميع العصور والقرون، ولجميع الأمم والأقوام.

 

 


[1]  روح المعاني، الألوسيّ، ج 18، ص 205.

[2]  الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، ج 12، ص 301.

[3]  الأمثل، ج11، 151- 152.

[4]  سورة القصص، الآية 5.

 

24


14

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

فهي بشارة انتصار الحقّ على الباطل، والإيمان على الكفر، وهي بشارةٌ لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل، وانطواء بساط الظلم والجَور.

إنّ نشوء حكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة، ما هو إلّا نموذج لتحقّق هذه المشيئة الإلهيّة. والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) وأصحابه بعد ظهور الإسلام. حكومة الحفاة العفاة، والمؤمنين المظلومين، الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم، ويرزحون تحت تأثير الضغوط الظالمة لأئمّة الكفر والشرك.

وكانت العاقبة أنّ الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبوابَ قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزل أولئك من أسرة الحكم والقدرة، ومرّغ أنوفهم بالتراب.

والمثل الأشمل هو ظهور حكومة الحقّ والعدالة على جميع وجه البسيطة والكرة الأرضيّة كافّة على يد المهديّ (أرواحنا له الفداء).

فهذه الآية هي من جملة الآيات التي تبشّر -بجلاء- بظهور مثل هذه الحكومة، ونقرأ عن أهل البيت (عليهم السلام) -في تفسير هذه الآية- أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم. فقد ورد في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) قوله: «لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا، وتَلَا عَقِيبَ ذَلِكَ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾»[1].

 

 


[1]  نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 209.

 

25


15

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وفي حديث آخر، نقرأ عنه (عليه السلام) -في تفسير الآية المتقدّمة- قوله: «هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يبعث الله مهديَّهم بعد جهدهم، فيعزّهم ويذلّ عدوّهم»[1].

وعن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قوله: «والذي بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإنّ عدوّنا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه»[2]. ومعنى الحديث أنّنا سننتصر أخيراً، ويُهزم أعداؤنا، وتعود حكومة العدل والحقّ إلينا.

ومن الطبيعيّ أنّ حكومة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) العالميّة في آخر الأمر، لا تمنع وجود حكومات إسلاميّة لها معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضدّ المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه الحكومات الإسلاميّة، فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهيّة سيتحقّقان في شأنها، ولا بدّ من أن يكون النصر حليفها بإذن الله[3].

 

 


[1]  الغيبة، الطوسيّ، ص 212.

[2]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 7، ص 414.

[3]  الأمثل، ج12، ص175.

 

26


16

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

*بقيّة الله خيرٌ لكم

الآية: ﴿بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظ﴾[1].

نقرأ في روايات متعدّدة في تفسير «بقية الله»، أنّ المراد بها وجود المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، أو بعض الأئمّة (عليهم السلام) الآخرين، ومن هذه الروايات ما نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) في كتاب «كمال الدين وتمام النعمة»: «أوّل ما ينطق به القائم (عليه السلام) حين يخرج هذه الآية: ﴿بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ﴾، ثمّ يقول: أنا بقيّة الله، وحجّته، وخليفته عليكم، فلا يُسلِّم عليه مسلِّم إلّا قال: السلام عليك يا بقيّة الله في أرضه»[2].

إنّ آيات القرآن الكريم، على الرغم من نزولها في موارد خاصّة، تحمل مفاهيم جامعة وكلّيّة، بحيث يكون لها مصداق في العصور والقرون التالية، وتنطبق على مجال أوسع أيضاً. صحيح أنّ المخاطَبين في الآية المتقدّمة هم قوم شعيب، والمراد من بقيّة الله هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإلهيّ، إلّا أنّ كلّ موجودٍ نافعٍ باقٍ من قبل الله للبشريّة، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ «بقيّة الله» أيضاً؛ فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم «بقيّة الله»، وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء، فوجودهم في الأمّة يعدّ «بقيّة الله»، وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إلى ذويهم من ميدان

 

 


[1]  سورة هود، الآية 86.

[2]  كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 361.

 

27


17

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

القتال بعد انتصارهم على الأعداء هم «بقيّة الله». ومن هنا، فإنّ المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)، آخر إمامٍ وأعظم قائدٍ ثوريّ بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أجلى مصاديق «بقيّة الله»، وهو الأجدر بهذا اللقب من سواه، خاصّة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)[1].

*المضطرّ الذي يُجاب إذا دعا

﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾[2].

مع أنّ الله سبحانه يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء، إلّا أنّ في الآية أعلاه اهتماماً بالمضطرّ، وذلك لأنّ من شروط استجابة الدعاء أن يُغمض الإنسان عينَيه عن عالم الأسباب كلّيّاً، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدَي رحمة الله، وأن يرى كلّ شيء منه وله، وأنّ حلَّ كلِّ معضلة بيده. وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحقّقان في حال الاضطرار.

صحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسبّبات، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن، إلّا أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبداً، ويرى كلّ شيء من بركات ذاته المقدّسة، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ «مسبّب الأسباب»، فيطلب منه ما يشاء!

أجل، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة، فإنّه يوفّر لنفسه أهمّ شرط لاستجابة الدعاء.

 

 


[1]  الأمثل، ج7، ص36.

[2]  سورة النمل، الآية 62.

 

28


18

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

والطريف أنّه قد ورد في بعض الروايات تفسير هذه الآية بقيام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه). ففي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «والله، لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحِجر، ثمّ يُنشد الله حقّه... قال: والله هو المضطّر في كتاب الله في قوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ﴾...»[1].

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام)، هو -والله- المضطّر، إذا صلّى في المقام ركعتين، ودعا الله عزّ وجلّ، فأجابه، ويكشف السوء، ويجعله خليفة في الأرض»[2].

ولا شكّ في أنّ هذا التفسير -كما رأينا نظائره الكثيرة- لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، بل مفهوم الآية واسع، والمهديّ (عجل الله تعالى فرجه) أحد من مصاديقها الجليّة... إذ الأبواب في زمانه موصدة، والفساد عمَّ البسيطة، والبشرية تسير في طريق مسدود، وحالة الاضطرار ظاهرة في جميع العالم فعندئذٍ يظهر الإمام في أقدس بقعة، فيطلب كشف السوء، فيلبّي الله دعوته، ويجعله بداية «الظهور» المبارك في العالم، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ﴾[3].

 

 


[1]  تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.

[2]  (م.ن.).

[3]  الأمثل، ج12، ص111.

 

29


19

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

*إشراق الأرض بنور ربّها

الآية: ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾:

اختلف المفسرون في معنى إشراق الأرض بنور ربّها، إذ ذكروا تفسيرات عدّة، اخترنا ثلاثة تفسيرات منها، وهي:

1. قالت مجموعة: إنّ المراد من نور الربّ هو الحقّ والعدالة، اللذان ينير بهما ربُّ العالمين الأرض في ذلك اليوم، حيث قال العلامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»: «أي أضاءت الأرض بعدل ربّها يوم القيامة، لأنّ نور الأرض بالعدل»[1].

وبعضهم الآخر عدّ الحديث النبويّ «الظلم ظلمات يوم القيامة» شاهداً على هذا المعنى[2].

فيما قال الزمخشريّ في تفسيره «الكشّاف»: «وأشرقت الأرض بما يُقيمه (الله) فيها من الحقّ والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيّئات»[3].

2. بعضم الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصّة.

3. أمّا المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائيّ (أعلى الله مقامه الشريف) صاحب تفسير «الميزان»، فقد قال: «ولا يبعد

 

 


[1]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 6، ص 321-322.

[2]  روح المعاني، الألوسيّ، ج 24، ص 30.

[3]  الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشريّ، ج 3، ص 410.

 

30


20

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

أن يُراد -والله أعلم- من إشراق الأرض بنور ربّها، هو ما يخصّ يوم القيامة، من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها، وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حقّ أو باطل للناظرين»[1].

وقد استدلّ العلّامة الطباطبائيّ { على هذا الرأي بالآية (22) من سورة (ق): ﴿لَّقَدۡ كُنتَ فِي غَفۡلَة مِّنۡ هَٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡيَوۡمَ حَدِيد﴾[2]. وهذا الإشراق وإن كان عامّاً لكلّ شيء يسعه النور، لكن لمّا كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذٍ من الشأن، خصّها بالبيان.

وبالطبع، فإنّ هذه التفاسير لا تتعارض في ما بينها، ويمكن القول بصحّتها جميعاً، مع أنّ التفسيرَين الأوّل والثالث أنسب من غيرهما.

ومن دون شكّ، فإنّ هذه الآية تتعلّق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه، وتأكيد لهذا المعنى، أنّه عند ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) تصبح الدنيا نموذجاً حيّاً من مشاهد القيامة؛ إذ يملأ هذا الإمام بالحقّ، ونائب الرسول الأكرم، وخليفة الله، الأرضَ بالعدل إلى الحدّ الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

 

 


[1]  الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائيّ، ج 17، ص 295.

[2]  (م.ن.)، ص 296.

 

31


21

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

ونقل المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا قام قائمنا، أشرقت الأرض بنور ربّها، واستغنى العباد عن ضوء الشمس، وذهبت الظلمة»[1]،[2].

*أهل الكتاب وإيمانهم بالمسيح (عليه السلام)

﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدا﴾[3].

قد يكون المقصود من الآية، أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوّته، والمسيحيّون يتخلّون عن الاعتقاد بربوبيّته. ويحدث هذا -طبقاً للروايات الإسلاميّة- حين ينزل المسيح (عليه السلام) من السماء عند ظهور المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه). وواضح أنّ عيسى المسيح سيُعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام؛ لأنّ الشريعة السماويّة التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناءً على هذا التفسير، فإنّ الضمير في عبارة ﴿قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ﴾ يعود إلى عيسى المسيح (عليه السلام).

وقد نقل عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قوله: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم؟»[4]. وطبيعي أنّ هذا التفسير

 

 


[1]  تفسيرا «الصافي» و«نور الثقلين» في ذيل آيات البحث.

[2]  الأمثل، ج15، ص158.

[3]  سورة النساء، الآية 159.

[4]  مسند أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن البيهقيّ، كما جاء في تفسير الميزان.

 

32


22

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

يشمل اليهود والمسيحيّين الموجودين في زمن ظهور المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، ونزول عيسى المسيح (عليه السلام) من السماء.

وجاء في تفسير عليّ بن إبراهيم نقلاً عن شهر بن حوشب: إنّ الحجّاج ذكر يوماً أنّ ثمّة آيةً في القرآن قد أتعبته كثيراً وهو حائر في معناها، فسأله شهرٌ عن الآية، فقال الحجّاج: إنّها آية ﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ...﴾، وذكر أنّه قتل يهوداً ومسيحيّين، ولم يُشاهد فيهم أثراً لمثل هذا الإيمان، فأجابه شهرٌ بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيراً صحيحاً، فاستغرب الحجّاج، وسأل عن التفسير الصحيح للآية.

فأجاب شهرٌ بأنّ تفسير الآية هو أنّ المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم، فلا يبقى يهوديّ أو غير يهوديّ إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته، وأنّ المسيح سيقيم الصلاة خلف المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).

فلمّا سمع الحجاج هذا الكلام قال ل‍شهر: ويلك! من أين جئت بهذا التفسير؟ فأجابه شهرٌ بأنّه قد سمعه من محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام). وعند ذلك قال الحجّاج: والله جئت بها من عين صافية[1]،[2].

 


[1]  البرهان في تفسير القرآن، البحرانيّ، ج 1، ص 426.

[2]  الأمثل، ج3، ص533.

 

33


23

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

*بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود:

مما يلفت النظر، أنّه في كتاب مزامير داود -والذي هو اليوم جزء من كتاب العهد القديم- يُلاحظ التعبيرنفسه أو ما يشبهه الذي ورد في الآية آنفة الذكر في مواضع عدّة، وهذا يوحي بأنّه على الرغم من التحريفات كلّها التي وقعت في هذه الكتب، فقد بقي هذا القسم مصوناً من تلاعب الأيدي به.

1. فنقرأ في المزمور 37 / الجملة 9: «... لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ».

2. وفي مكان آخر من المزمور نفسه/ الجملة 11: «أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ».

3. وكذلك في المزمورأيضاً نفسه/ الجملة 22، يُلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر: «لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ».

4. وجاء في هذا المزمور أيضاً / الجملة 29: «الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ».

5. وجاء في الجملة 18 من المزمور أعلاه: «الرَّبُّ عَارِفٌ أَيَّامَ الْكَمَلَةِ، وَمِيرَاثُهُمْ إِلَى الأَبَدِ يَكُونُ».

نلاحظ هنا بصورة جيّدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن، ورد نفسه في مزامير داود، إضافةً إلى ورود تعابير أخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جملٍ أخرى.

 

34


24

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين، وتتطابق تماماً مع أحاديث قيام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)[1].

*أصحاب القائم (عجل الله تعالى فرجه): يأتي بهم الله جميعاً

﴿وَلِكُلّ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِير﴾[2].

ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير ﴿أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ﴾، أنّ المقصود بهم أصحاب المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).

من ذلك ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه تلا الفقرة المذكورة من الآية، ثمّ قال: «يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، وهم والله الأمّة المعدودة»، قال: «يجتمعون -والله- في ساعة واحدة، قزعاً[3] كقزع الخريف»[4].

وروي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليهما السلام) أيضاً: «وذلك -والله- لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان»[5].

 

 


[1]  الأمثل، ج10، ص258 - 260.

[2]  سورة البقرة، الآية 148.

[3]  أي يجتمعون كاجتماع قطع السحب الخريفيّة لدى هبوب الريح.

[4]  تفسير نور الثقلين، الحويزيّ، ج1، ص139.

[5]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج1، ص429.

 

35


25

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وهذا التفسير للآية -دون شكّ- يتحدّث عن «بطن» الآية، وقد ذكرت الأحاديث أنّ لكلام الله ظاهراً لعامّة الناس، وباطناً لخاصّتهم.

وبعبارة أخرى: ما تقدّم من الروايات يشير إلى حقيقة، هي أنّ الله القادر على أن يجمع الناس من ذرّات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع أصحاب المهديّ في ساعةٍ بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الأولى للثورة العالميّة الرامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الأرض، وإزالة الظلم والعدوان عن وجهها[1].

*الأمّة المعدودة هم أصحاب المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)

﴿وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّة مَّعۡدُودَة لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾[2].

وصلنا عن أهل البيت (عليهم السلام) روايات عدّة، أنّ الأمّة المعدودة تعني النفر القليل، وفيها إشارة إلى أصحاب المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وأنصاره؛ وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا ما أخّرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إلى ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وأصحابه، فإنّ أولئك الظالمين يقولون: أيّ شيء يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنّا؟

 

 


[1]  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص423-424.

[2]  سورة هود، الآية 8.

 

36


26

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

ولكنّ ظاهر الآية أنّ الأمّة المعدودة هي الزمان المعدود والمعيّن. وقد وردت رواية عن الإمام عليّ (عليه السلام) في تفسير الأمّة المعدودة تشير إلى ذلك، أي الزمان المعيّن، فيمكن أن تكون روايات المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وأصحابه تشير إلى المعنى الثاني من الآية، وهو ما اصطُلح عليه ب‍بطن الآية، وطبيعي أنّه بمثابة البيان عن القانون الكلّيّ في شأن الظالمين، لا أنّه موضوع خاصّ بالمشركين الذين عاصروا النبيّ (صلى الله عليه وآله). ونحن نعلم أنّ آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة، فالمعنى الأول والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصّة أو جماعة معيّنة، والمعنى الآخر يكون عامّاً مجرّداً عن الزمان، وغير مخصوص بفئةٍ معيّنة[1].

*المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وأصحابه: قوّة وركنٌ شديد

﴿قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡن شَدِيد﴾[2].

نقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية المتقدّمة أنّ المقصود بالقوّة هو القائم من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الركن الشديد هم أصحابه الذين عددهم (313) شخصاً[3].

وقد تبدو هذه الرواية عجيبة وغريبة، إذ كيف يمكن الاعتقاد أنّ لوطاً (عليه السلام) كان يتمنّى ظهور مثل هذا الشخص مع أصحابه

 

 


[1]  الأمثل، ج6، ص481.

[2]  سورة هود، الآية 80.

[3]  البرهان في تفسير القرآن، البحرانيّ، ج 2، ص 228.

 

37


27

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

المشار إليهم آنفاً؟ ولكنّ التعرّف على الروايات الواردة في تفسير آيات القرآن يعطينا مثل هذا الدرس، وهو أنّ قانوناً كلّيّاً يتجلّى غالباً في مصداقه البارز، ففي الواقع أنّ لوطاً (عليه السلام) كان يتمنّى أن يجد قوماً ورجالاً لديهم تلك القدرة والقوّة الروحيّة والجسديّة الكافية لإقامة حكومة العدل الإلهيّة، كما هي موجودة في أصحاب المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، الذين سيشكّلون حكومة عالميّة حال ظهوره وقيامه (عجل الله تعالى فرجه)؛ لينهض بهم ويواجه الانحراف والفساد، فيزيله عن بكرة أبيه، ويبير هؤلاء القوم الذين لا حياء لهم[1].

*الانتظار وآثاره البنّاءة

إنّ الاعتقاد بوجود الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ليس ممّا طرأ على التعاليم الإسلاميّة، بل هو من أكثر المباحث القطعية المأخوذة عن مؤسّس دعائم الإسلام (صلى الله عليه وآله)، ويتفق على ذلك عموم الفرق الإسلاميّة، والأحاديث في هذا الشأن متواترة أيضاً.

والآن لنقف على آثار الانتظار في المجتمعات الإسلاميّة، وما هي عليه من أحوال، لنرى هل أنّ الإيمان بظهور الإمام المهدي (عليه السلام) يجعل الانسان غارقاً في الوهم والخيال ومن ثمّ يستسلم لجميع الظروف، أو هو نوع من الدعوة إلى النهوض وبناء الإنسان والمجتمع؟ !

- هل يدعو إلى التحرّك، أم إلى الركود؟

 

 


[1]  الأمثل، ج7، ص19.

 

38


28

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

- هل يبعث في الإنسان روح المسؤوليّة، أم هو مدعاة إلى الفرار منها؟

وأخيراً: أهو مخدِّر، أم موقِظ؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أسمى المفاهيم وأكرم الدساتير متى ما وقعت في أيدي أُناسٍ جهلةٍ أو غير جديرين بها، فمن الممكن أن تمسخ بسوء استفادتهم منها، فتكون النتيجة خلافاً للهدف الأصليّ تماماً، وتتعاكس في المسار، ومثل هذا واقعٌ بكثرة، وسنرى أنّ مسألة انتظار المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) من هذه المسائل أيضاً.

ومن أجل تفادي الأخطاء والاشتباهات في مثل هذه المباحث، ينبغي أن نراجع النصوص الإسلاميّة الأصيلة مباشرةً، وأن نفهم الانتظار من لسان رواياتها المختلفة، حتى نطّلع على الهدف الأصليّ منها.

- وقفة مع روايات الانتظار

سأل أحدُهم الإمام الصادق (عليه السلام): ما تقول في رجلٍ موالٍ للأئمّة (عليهم السلام)، وينتظر ظهور حكومة الحقّ، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟! فأجابه الإمام (عليه السلام): «هو بمنزلة مَن كان مع القائم في فسطاطه»، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: «هو كمَن كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)»[1].

 

 


[1]  المحاسن، البرقيّ، ج 1، ص 173.

 

39


29

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعدّدة بتعابير مختلفة:

-إذ جاء في بعضها: «بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله عزّ وجلّ»[1].

- وفي بعضها: «كمَن جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيفه»[2].

- وفي بعضها: «بمنزلة مَن كان قاعداً تحت لوائه (عجل الله تعالى فرجه)»[3].

- وفي بعضها: «بمنزلة المجاهدين بين يدَي رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالسيف»[4].

- وفي بعضها: «بمنزلةِ مَنِ استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)»[5].

فهذه التشبيهات السبعة في الروايات الستّة المذكورة آنفاً في شأن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، تبيّن هذه الواقعيّة، وهي وجود علاقة وارتباط بين مسألة الانتظار من جانب، وجهاد العدوّ في أشدّ أشكاله من جانبٍ آخر.

كما ورد في روايات متعددة، أنّ انتظار مثل هذه الحكومة الحقّة من أفضل العبادات، كما عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عزّ وجلّ»[6]. وقال (صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: «أفضل العبادة انتظار الفرج»[7].

 

 


[1]  أعلام الدين في صفات المؤمنين، الديلميّ، ص 235.

[2]  مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 9، ص 396.

[3] بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 52، ص 142.

[4]  النجم الثاقب في أحوال الإمام الغائب، الميرزا النوريّ الطبرسيّ، ج 1، ص 513.

[5]  الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 419.

[6]  كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 674.

[7]  (م.ن.)، ص 317.

 

40


30

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وهذان الحديثان يشيران إلى انتظار الفرج، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو بمفهومه الخاصّ؛ أي انتظار ظهور المصلح، ويبيّنان أهمّيّة الانتظار بجلاء أيضاً.

ومثل هذه التعابير تعني أنّ الانتظار معناه الثوريّة المقرونة بالتهيُّؤ للجهاد، فلا بدّ من تصوّر هذا المعنى لفهم المراد من الانتظار، ثمّ نحصل على النتيجة المتوخّاة.

- مفهوم الانتظار

يُطلق الانتظار -عادةً- على مَن يكون في حالة غير مريحة ويسعى لإيجاد وضع أحسن. فالمريض مثلاً ينتظر الشفاء من مرضه، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر، فهما -أي المريض والأب- مشفقان؛ هذا من مرضه، وذاك من غياب ولده، فينتظران الحال الأحسن، ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.

كذلك -مثلاً- حال التاجر الذي يعاني الضائقة الاقتصاديّة وينتظر النشاط الاقتصاديّ. فهاتان الحالتان؛ أي الاحساس بالأزمة، والسعي نحو الأحسن، هما من الانتظار.

بناءً على ذلك، إنّ مسألة انتظار حكومة الحقّ والعدل -حكومة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وظهور المصلح العالميّ- مركّبة في الواقع من عنصرَين: عنصر نفي، وعنصر إثبات؛ عنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظِر، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن.

 

41

 

 


31

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

وإذا قُدّر لهذين العنصرين أن يحلّا في روح الإنسان، فسيكونان مدعاةً إلى نوعين من الأعمال، وهذان النوعان هما:

الأوّل: ترك كلّ شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها.

الثاني: بناء الشخصيّة، والتحرّك الذاتيّ، وتهيئة الاستعدادات الجسميّة والروحيّة والماديّة والمعنويّة لظهور تلك الحكومة العالميّة الإنسانيّة.

ولو أمعنّا النظر، لوجدنا أنّ هذَين النوعَين من الأعمال هما سبب اليقظة والوعي والبناء الذاتيّ. ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل، ندرك بصورة جيّدة معنى الروايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لِمَ عدّت الروايات المنتظرين بحقّ بمنزلة مَن كان مع القائم(عجل الله تعالى فرجه) تحت فسطاطه، أو تحت لوائه، أو كمَن يقاتل في سبيل الله بين يدَيه أو كالمستشهَد بين يدَيه، أو كالمتشحّط بدمه! إلخ...

تُرى، أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحقّ والعدل، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟

إنّ ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين في سبيل الله، ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، كذلك الانتظار وبناء الشخصيّة والاستعداد، ذلك كلّه ليس في درجة واحدة، وإن كان كلٌّ من هذه العناوين من

 

42

 

 


32

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

حيث المقدّمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكلٌّ منهما جهاد، وكلٌّ منهما استعدادٌ وتهيُّؤٌ لبناء الذات، فمَن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنّه مستقرّ في مركز القيادة، وعند آمريّة الحكومة الإسلاميّة! فلا يمكن أن يكون إنساناً غافلاً جاهلاً، فذلك المكان ليس مكاناً لكلّ أحدٍ، وإنّما هو مكان مَن يستحقّه بجدارة!

كذلك الأمر عندما يقاتل المجاهد بين يدي هذا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح، فعليه أن يكون مستعدّاً بشكل كامل روحيّاً وفكريّاً وعسكريّاً.

- الانتظار يعني الاستعداد الكامل

إذا كنتُ ظالماً مجرماً، كيف يتسنّى لي أن أنتظر مَن سيفُه متعطّشٌ لدماء الظالمين؟!

وإذا كنتُ ملوّثاً غيرَ نقيٍّ، كيف أنتظرُ ثورةً يُحرق لهبُها الملوَّثين؟!

والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويّات جنوده، ويُلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت؛ لأنّ كيفيّة الانتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن بانتظاره:

- انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.

- انتظار عودة حبيب عزيز جدّاً.

- انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.

 

43

 

 


33

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

هذه الأنواع من الانتظار كلّها مقرونة بنوع من الاستعداد، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم، وفي الآخر ما ينبغي تحضيره لوضع ما ينبغي قطفه فيه من الأدوات والسلال وهكذا... والآن سنتصوّر كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالميّ كبير، وكيف نكون بانتظار ثورة وتغيير وتحوّل واسع لم يشهد تأريخ الإنسانيّة مثيلاً له؟

الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما، بل هي عامّة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسيّة، ثقافيّة، اقتصاديّة، وأخلاقيّة. فهذه الثورة تستدعي منّا:

- أوّلاً: بناء الشخصيّة الفرديّة

إنّ بناء الشخصيّة -قبل كلّ شيء- بحاجة إلى عناصر معدّة ذات قيم إنسانيّة؛ ليمكن للفرد أن يتحمّل العبء الثقيل الإصلاحيّ للعالم. وهذا الأمر بحاجة إلى الارتقاء الفكريّ والعلميّ والاستعداد الروحيّ؛ لتطبيق ذلك المنهج العظيم. فالتحجّر، وضيق النظر، والحسد، والاختلافات غير الجوهريّة، وكلّ نفاق بشكل عامّ أو تفرقة، كلُّ ذلك لا ينسجم ومكانة المنتظرين الواقعيّين.

والمسألة المهمّة هنا، أنّ المنتظر الواقعيّ لا يقف موقف المتفرّج إزاء الواقع أعلاه، بل يقف في الصفّ الآخر، صفّ الثائرين المصلحين، إذ الإيمان بالنتائج وما يؤول إليه

 

44


34

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

هذا التحوّل، لا يسمح له أبداً بأن يكون في صفّالمثبّطين المتقاعسين، بل يكون في صفّ المخلصين المصلحين، ويكون عمله خالصاً، وروحه أكثر نقاءً، وأن يكون شهماً عارفاً معرفة كافية بالأمور.

فإذا كنتُ فاسداً معوجّاً، فكيف يمكنني أن أنتظر نظاماً لا مكان فيه للفاسدين؟ أليس مثل هذا الانتظار كافياً لأن أطهّر نفسيّ وفكريّ، وأغسل جسمي وروحي من التلوُّث؟!

والجيش الذي ينتظر جهاداً تحرريّاً يجب أن يكون في حالة من الاستعداد الكامل، وأن يهيّئ السلاح الجدير بالمعركة، وأن يصنع الملاجئ والمواضع العسكريّة اللازمة، وأن يرفع المعنويّات القتاليّة في صفوف أفراده، ويقوّي روحيّاتهم، ويسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة، فإنّ جيشاً ليس فيه مثل هذه الاستعدادات لا يكون جيشاً منتظِراً، وإذا ادعى الانتظار فهو كاذب!

إنّ انتظار المصلح العالميّ، معناه الاستعداد الكامل فكريّاً، وأخلاقيّاً، مادّيّاً ومعنويّاً، أي الاستعداد لإصلاح العالم كلّه. فتصوروا أنّ مثل هذا الاستعداد كم سيكون بنّاءً؟!

إنّ إصلاح المعمورة كلّها، وإنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملاً بسيطاً، ولا هو بالمزاح أو الهزل، بل الاستعداد لمثل هذا الهدف الكبير، ينبغي أن يتناسب معه، وأن يكون بسَعته وعمقه!

 

45

 


35

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

فلا بدّ من وجود رجال كبار، عازمين، ذوي إرادة، أقوياء، لا ينكصون ولا ينهزمون أبداً، ذوي نظرة واسعة، واستعداد تامّ، وتفكير عميق، حتى تتحقّق مثل هذه الثورة الإصلاحيّة العالميّة.

وبناء الشخصيّة لمثل هذا الهدف، يستلزم الارتباط بأشدّ المناهج الأخلاقيّة، والفكريّة والاجتماعيّة أصالةً وعمقاً؛ فهذا هو معنى الانتظار الواقعيّ! تُرى هل يستطيع أن يُنكر أحدٌ فيقول: إنّ مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلاً؟!

- ثانياً: التعاون الاجتماعيّ

إنّ المنتظرين بحقّ، في الوقت الذي ينبغي لهم أن يهتمّوا ببناء شخصيّتهم، عليهم أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إصلاح ذاتهم؛ لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فرديّاً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثوريّة، وأن يكون العمل جماعيّاً عامّاً، وأن تتّسق المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالميّة التي هم بانتظارها.

ففي ساحة معركة واسعة تقاتل فيها مجموعة جنباً إلى جنب، لا يمكن لأحدٍ منهم أن يغفل عن الآخرين، بل عليه أن يشدّ أزرهم، ويسدّ الثغرة، ويُصلح نقطة الضعف إن وجدت، ويرمّم المواضع المتداعية، ويدعم ما ضعف منها؛ لأنّه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج من دون مساهمة جماعيّة نشيطة فعّالة متّسقة متناسقة!

 

 

46


36

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

بناءً على ذلك، فإنّ المنتظرين بحقّ، عليهم أن يصلحوا حال الآخرين مضافاً إلى إصلاح أحوالهم. فهذا هو الأثر الآخر البنّاء، الذي يورثه الانتظار لقيام مصلح عالميّ، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها المنتظرون بحقّ.

ثالثاً: عدم الذوبان في المحيط الفاسد

عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبداً، أثر مهمّ من آثار الانتظار.

وتوضيح ذلك: حين يعمّ الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبيّة الساحقة منه فاسدة، قد يقع الإنسان النقيّ الطاهر في مأزق نفسيّ، أو بتعبير آخر: قد يسلك في طريق مسدود كي ييأس من الإصلاحات التي يتوخّاها.

وربّما يتصوّر المنتظرون أنّه لا مجال للإصلاح، وأنّ السعي والجدّ للحفاظ على النقاء والطهارة وعدم التلوّث، ذلك كلّه لا طائل تحته، أو لا جدوى منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفاسد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذٍ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقلّيّة صالحة بين أكثريّة طالحة، وسيُفتضحون إن أصرّوا على مواصلة طريقهم وينكشفون؛ لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.

والشيء الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل، ويدعوهم إلى المقاومة والتجلّد وعدم الذوبان والانحلال في المحيط

 

47

 

 


37

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائيّ؛ فهم في هذه الحال فحسب لا يسأمون عن الجدّ والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضاً.

وحين نجد -في التعاليم الإسلاميّة- أنّ اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر، قد يتعجّب بعض الجهّال: كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر وإلى هذه الدرجة من الأهمّيّة، حتّى إنّه أشدّ من سائر الذنوب الأخرى؟! والجواب: إنّ حكمته وفلسفته في الحقيقة هو ما أشرنا إليه آنفاً؛ لأنّ العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئاً ينقذه ويخلّصه من عذاب الله، فلا يفكّر في إصلاح الخلل، أو يكفّ عن الذنب على الأقلّ، لأنّه يقول في نفسه: أنا الغريق، فهل أخشى من البلل؟ والنهاية الحتميّة جهنّم، وقد اشتريتُها، فماذا عساي أن أفعل؟ وما إلى ذلك. إلّا أنّه حين تُفتَح له نافذة الأمل، فإنّه سيرجو عفو ربّه، ويتّجه نحو تغيير نفسه وحاله، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه إلى التوقّف عن مواصلة الذنوب، والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح.

ومن هنا، يُعدّ الأمل عاملاً تربويّاً مهمّاً ومؤثّراً في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد، إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد.

 

48


38

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

والنتيجة: إنّ معنى انتظار ظهور المصلح، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر، كان الأمل بالظهور أكبر. والانتظار له هذا الأثر النفسيّ الكبير؛ فيضمن للنفوس القوّة في مواجهة الأمواج والتيّارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد.

إذاً، فهم يسعون أكثر للوصول إلى الهدف المنشود، وتنشدّ همّتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مثيل له.

وممّا ذكرناه آنفاً، نستنتج أنّ الأثر السلبيّ للانتظار إنّما يكون في صورة ما مُسخ مفهومه أو حُرِّف واقعه، كما حرَّفه المخالفون والأعداء، ومسخه الموافقون. غير أنّه لو أُخذ بمفهومه الواقعيّ، لكان عاملاً تربويّاً مهمّاً، وبنّاءً، ومحرّكاً، وباعثاً على الأمل والرجاء. وممّا يؤيّد هذا الكلام، ما ورد عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ...﴾[1] ؛ إذ جاء أنّ المراد من الآية هو «القائم وأصحابه»[2].

كما جاء في حديث آخر أنّ هذه الآية نزلت في المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وقد عبّرت هذه الآية عن الإمام المهديّ وأصحابه ب‍ ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾.

 

 


[1]  سورة النور، الآية 55.

[2]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 51، ص 60.

 

49


39

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

بناءً على ذلك، فإنّ تحقّق هذه الثورة الإصلاحيّة بدون إيمان مستحكم يقضي على أنواع الضعف والتحلُّل كلّها، وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإصلاح العالم، مستبعدٌ جدّاً.

والطالبون لهذا التحقّق عليهم أن يزدادوا إيماناً ومعرفةً، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإصلاح ذاتهم.

وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالميّة وأملها المشرق، لا مَن ركن إلى الظلم والجَور.

وليس المنتظِرون لتلك الحكومة هم الأشخاص الضعاف الهمّة، والجبناء الذين يخافون حتّى مِن ظلّهم، ولا البطّالون الساكتون عن الحقّ، التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيطهم الفاسد. أجل، هذا هو الأثر الإيجابيّ البنّاء لانتظار قيام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في المجتمع الإسلاميّ[1].

 

 


[1]  الأمثل، ج6، ص21 وما بعدها.

 

50


40

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[1]. يتمحور البحث الآتي في علاقة الانتظار بالحركة، وثانياً في علاقتة بالانتظار.

 

*علاقة الانتظار بالحركة

1. التّوجيه النفسيّ لمسألة الانتظار

يحبُّ بعض الناس أن يصوِّروا حالة «الانتظار» على أنّها مسألة نفسيّة نابعة من حالة الحرمان في الطبقات المحرومة في المجتمع والتاريخ، وحالة الهروب من الواقع المثقل بالمتاعب إلى الاستغراق في تصوّر المستقبل، الذي يتمكّن المحرومون فيه من استعادة جميع حقوقهم، واستعادة السيادة والحقوق المغتصبة، وهذا نوع من «أحلام اليقظة»، أو الهروب من الواقع إلى التخيُّل.

*مناقشة التّوجيه المقدّم

أقول: إنّ هذا التوجيه لمسألة الانتظار غير علميّ، بالتأكيد، إذا قدّر لنا أن ننظر في تاريخ المسألة والمساحة الواسعة التي تحتلّها من العقائد الدينيّة المعروفة في تاريخ الإنسان.

 

 


[1]  سورة الأنبياء، الآية 105.

 

53


41

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

1. الانتظار في المدارس الفكريّة (غير الدينيّة)

تتجاوز مسألة الانتظار الدائرة الدينيّة، وتعمّ المذاهب والاتجاهات غير الدينيّة، كالماركسيّة مثلاً، كما يقول برتراند راسل: «الانتظار لا يخصّ الأديان فحسب، بل المدارس والمذاهب -أيضاً- تنتظر ظهور منقذ ينشر العدل، ويحقّق العدالة». والانتظار، «كما يقول راسل»، عند الماركسيّين، هو الانتظار نفسه عند المسيحيّين.

وللانتظار، عند «تولستوي»، المعنى نفسه الموجود عند المسيحيّين، إلّا أنّ هذا الروائيّ الروسيّ يختلف عن المسيحيّين في الزاوية التي يطرح منها المسألة.

2. الانتظار في الأديان السابقة للإسلام

نقرأ، في العهد القديم من الكتاب المقدّس: «لا تقلق لوجود الأشرار والظالمين، فسوف تنقطع سلالة الظالمين. والمنتظرون لعدل الله يرثون الأرض، والذين لعنوا يتفرّقون. والصالحون من الناس هم الذين يرثون الأرض، ويعيشون فيها إلى نهاية العالم»[1].

هذه الحقيقة يقرّرها المزمور 37، من كتاب المزامير، وهي نفسها التي جاءت في القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[2].

 


[1]  الكتاب المقدّس، سفر مزامير داود، مزمور 37.

[2]  سورة الأنبياء، الآية 105.

 

55


42

الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) إطلالة قرآنيّة

الذي كتب في بعض الصحف مثبتاً ذلك بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنهم الشيّخ عبد العزيز بن صالح إمام المسجد النّبويّ وخطيبه».

ثُمَّ يذكر أنّه كتب هذه الرسالة موضّحاً أنّ القول بخروج المهديّ آخر الزمان تدلّ عليه الروايات الصحيحة، وهو ما دأب عليه العلماء من أهل السنّة في القديم والحديث إلّا ما شذّ[1].

ويقول ابن حجر الهيتمي، في (الصواعق المحرقة)، -في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَعِلۡم لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا﴾[2]-: قال مقاتل ومَن تبعه من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في المهديّ.

وستأتي الأحاديث المصرّحة بأنّه من أهل البيت النّبويّ، وحينئذٍ، ففي الآية دلالة على البركة في نسل فاطمة وعليّ رضي الله عنهما، وأنّ الله ليخرج منهما كثيراً طيّباً، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة، ومعادن الرّحمة. وسِرُّ ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أعاذها وذريّتها من الشّيطان الرّجيم، ودعا لعليّ (عليه السلام) بمثل ذلك[3].

ويقول الشّيخ ناصر الدين الألباني من شيوخ الحديث المعاصرين في مجلّة (التمدّن الإسلاميّ): «أمّا مسألة المهديّ، فليعلم أنّ في خروجه أحاديث كثيرة صحيحة؛ قسم

 

 


[1]  مجلّة الجامعة الإسلاميّة، العدد 45.

[2]  سورة الزخرف، الآية 61.

[3]  الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، ج 1، ص240.

 

56


43

الانتظار الموجّه

كبير منها له أسانيد صحيحة، وأنا مُورِد هنا أمثلة منها»، ثُمَّ يذكر طائفة من هذه الأحاديث.

4. أحاديث الانتظار عند الشيعة الإماميّة

أمّا حديث انتظار الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) عند الشيعة الإماميّة فهي كثيرة، متواترة، وردت طائفة منها بطرق صحيحة. وقد جمع بعض العلماء هذه الأحاديث في منهج علميّ قيّم، منهم: الشّيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني في كتابه القيّم «منتخب الأثر»، ومنهم الشيخ عليّ الكوراني في «موسوعة الإمام المهديّ»[1] وغيرهما.

ولسنا الآن بصدد استعراض هذه الروايات عن أيّ من الطريقين.

فليس موضوع دراستنا هذه دراسة الأحاديث الواردة في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ومناقشة هذه الروايات من حيث السّند والدلالة، وإنّما نطلب في هذه الدراسة أمراً آخر نسأله تعالى أن يوفّقنا له، ونترك مسألة الأحاديث الواردة في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) لمجالها المخصّص من كتب الحديث. والمسألة التي نريد أن نتحدّث عنها، هنا، إن شاء الله هي:

 

 


[1]  الهيئة العلميّة في مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)، إشراف الشيخ عليّ الكوراني، نشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة، ط 1، 1411 هـ، قم: مطبعة بهمن.

 

57


44

الانتظار الموجّه

*ما هو الانتظار؟ وما قيمته الحضاريّة؟

الانتظار مفهوم إسلاميّ وقيمة حضاريّة. وعلى هذا المفهوم يترتّب سلوك حضاريّ معيّن، فقد يفهم الناس الانتظار بطريقة سلبيّة يتحوّل بها هذا المفهوم إلى عامل للتخدير والإعاقة عن الحركة.

وقد يفهمه بعض الناس بطريقة إيجابيّة، تجعل منه عاملاً من عوامل التحريك والبعث والإثارة في حياة الناس. إذاً، لابدّ لنا من أن نقدّم تصوّراً دقيقاً لمسألة الانتظار، وهذه هي مهمّتنا الأساسيّة في هذه الدراسة.

والانتظار ثقافة ومفهوم حضاريّ يدخل في تكوين عقليّتنا وأُسلوب تفكيرنا ومنهج حياتنا ورؤيتنا للمستقبل، وبشكل فاعل ومؤثّر، وله تأثير في رسم الخطّ السياسيّ الذي نرسمه لحاضرنا ومستقبلنا.

وللانتظار عمق حضاريّ في حياتنا، لأنّ الغيبة الصغرى انتهت سنة (329 هـ)، وقد مرّ على هذا التاريخ ما يزيد عن ألف وتسعين سنة. وخلال هذا التاريخ، دخلت هذه المسألة في صياغة عقليّتنا السياسيّة والحركيّة بشكل مؤثّر. ولو قمنا -نظريّاً- بعمليّة تجريد لتاريخنا السياسيّ والحركي عن عامل (الانتظار)، لكان لهذا التاريخ الطويل شأن آخر. ومَن يقرأ دعاء الندبة، الذي يدأب عليه المؤمنون أيّام الجمعة، يعرف عمق هذه المسألة ونفوذها في نفوس المؤمنين وعقليّتهم ومنهجهم في التفكير والحركة.

 

58


45

الانتظار الموجّه

*أنحاء الانتظار

يكون انتظار الإنقاذ على نحوين:

- النحو الأوّل من الانتظار

انتظار الإنقاذ في ما ليس بوسع الإنسان أن يقدّمه أو يؤخّره، كما لو كان الغريق ينتظر وصول فريق الإنقاذ إليه من الساحل، ويراهم مقبلين إليه لإنقاذه. فإنّه من المؤكّد أنّ الغريق لا يستطيع أن يقدّم وصول فريق الإنقاذ إليه، إلّا أنّه من المؤكّد -أيضاً- أنّ هذا الانتظار يبعث في الغريق نفسه أملاً قويّاً في النجاة، ويدخل نور الأمل على ظلمات اليأس التي تحيط به من كلّ جانب.

و(الأمل) يمنح الإنسان (المقاومة) بالضرورة، فيواصل الغريق المقاومة حتّى يصل فريق الإنقاذ إليه. وعجيب أمر هذا الإنسان إذا انهار، وإذا قاوم... فإذا انهار لا يتمكّن أحد من أن يثبته، أو يبني ويعيد ما ينهار منه. وقد يكون هذا الذي ينهار كياناً سياسيّاً ضخماً، وليس فرداً أو جماعة، وكلّنا شاهدنا انهيار الاتّحاد السوفياتي، ثاني أعظم كيانين سياسيّين في العالم، إن لم يكن الأوّل المكرّر منهما.

وإذا قاومَ الإنسان، ورزقه الله تلك القدرة على المقاومة والصمود، فلا شيء يُضعف مقاومته وصموده وثباته. ومن العجب أن يتحوّل هذا الإنسان الكائن من لحم ودم وأعصاب إلى كتلة مرصوصة وقويّة يتحمّل من العذاب ما يتفتّت منه

 

59


46

الانتظار الموجّه

صلب الحديد. ولا شكّ في أنّ هذه المقاومة من الله تعالى، ولا شكّ في أنّ (الأمل) من أسباب هذه المقاومة؛ وهاتان معادلتان لا سبيل للتشكيك فيهما.

المعادلة الأُولى:

إنّ (الانتظار) يبعث على (الأمل)، ويخترق ظلمات اليأس التي تكتنف حياة الإنسان.

المعادلة الثانية:

إنّ (الأمل) يمنح الإنسان (المقاومة).

- النحو الثاني من الانتظار

وهو ما يستطيع الإنسان أن يقرّه ويدّعيه، كالشفاء من المرض، وإنجاز مشروع عمرانيّ أو علميّ أو تجاريّ، والانتصار على العدوّ، والتخلص من الفقر. فإنّ هذا النحو من الانتظار، وأمر تعجيل هذه الأُمور أو تأخيرها وتأجيلها بيد الإنسان نفسه.

فمن الممكن أن يعجّل بالشفاء، ومن الممكن أن يؤخّره أو ينفيه، ومن الممكن أن يعجّل بالمشروع التجاريّ أو العمرانيّ أو العلميّ أو يؤخّره، أو يلغيه رأساً. ومن الممكن أن يعجّل بالنصر والغنى، أو يؤخّرهما، أو ينفيهما رأساً.

وبهذا التقرير، يختلف أمر هذا الانتظار عن النحو الأوّل

 

60


47

الانتظار الموجّه

الذي تحدّثنا عنه، فإنّ بإمكان الإنسان أن يتدخّل في تحقيق ما ينتظره والإسراع به أو تأجيله أو إلغائه.

ولذلك، فإنّ الانتظار من النوع الثاني يمنح الإنسان مضافاً إلى (الأمل) و(المقاومة)، (الحركة). وهذه الأخيرة - أعني (الحركة) - تخصُّ هذا النحو من الانتظار، فإنّ الإنسان إذا عرف أنّ نجاته وخلاصه يتوقّفان على حركته وعمله وجهده، سوف يبذل لخلاصه ونجاته في عمله من الجهد والحركة ما لا مثيل له من قبل.

ففي الانتظار من النحو الأوّل، لم يكن بإمكان الإنسان غير (الأمل) و(المقاومة). أمّا الانتظار الأخير، فهو يمنح الإنسان (الأمل) و(المقاومة) و(الحركة) أيضاً.

1. أمل في النفس يُمكّن الإنسان من اختراق الحاضر ورؤية المستقبل، وشتّان بين مَنْ يرى (الله) و(الكون) و(الإنسان) من خلال معاناة الحاضر فحسب، ومَنْ يرى ذلك كلّه من خلال الماضي والحاضر والمستقبل. ولا شكّ في أنّ هذه الرؤية تختلف عن تلك، ولا شكّ في أنّ العُتمة والظلمة والسلبيّة التي تكتنف الرؤية الأُولى تَسلَم منها الرؤية الثانية.

2. ومقاومة تمكّن الإنسان من مواصلة الصمود، ومقاومة الانهيار والسقوط، حتّى وصول المدد، وما لم يكن للإنسان أمل في وصول المدد، فإنّه لن يقاوم.

 

61


48

الانتظار الموجّه

3. وحركة تمكّن الإنسان من تحقيق الخلاص والنجاة، وتحقيق القوّة والغنى والكفاءة. وهذا الانتظار هو (الانتظار الحركيّ)، وهو أفضل أنواع الانتظار، والانتظار الذي نحن بصدد دراسته من هذا النوع الأخير.

*آلية التغيير

وهذا الانتظار يشبه توقُّع الناس من الله تعالى أن يغيّر أُمورهم من السيّء إلى الحسن، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العجز إلى الكفاءة، ومن الهزيمة إلى النصر. ولا شكّ في أنّه توقُّعٌ صحيح وعقلانيّ، فإنّ الإنسان ركام من الضعف والعجز والفقر والجهل والسوء.

والله تعالى هو المؤمَّل ليغيّر ذلك كلّه، ويحوّله إلى القوّة والكفاءة والغنى والعلم والحسن. وليس من بأس على الإنسان من هذا التوقّع والانتظار من الله تعالى، ولكن بشرط أن يسلك الإنسان، لتحقيق هذا الانتظار، الآليّة المعقولة التي دعا إليها الله تعالى لهذا التغيير، فإنّ هذا التغيير لا شكّ في أنّه من جانب الله تعالى، ولكن ضمن آليّة معيّنة، وما لم يستخدم الإنسان هذه الآليّة، فلا يصحّ له أن يتوقّع، أو ينتظر هذا التغيير من جانب الله تعالى. وهذه الآليّة هي أن يبدأ الإنسان بتغيير ما بنفسه حتّى يُغيّر الله تعالى ما به.

إنّ ما بنا من التخلُّف الاقتصاديّ، والهزيمة العسكريّة،

 

62


49

الانتظار الموجّه

والتخلُّف العلميّ، وسوء الإدارة، ناشئ ممّا في أنفسنا من الإشكاليّة والضعف والكسل واليأس، وفقدان الجرأة والشجاعة والجهل... فإذا غيرّنا (ما بأنفسنا)؛ غيّر الله تعالى ما بنا دون شكّ، وهو سبحانه القادر على ذلك.

كما ليس من شكّ في أنّنا لو لم نغيِّر ما بأنفسنا لا يغيّر الله ما بنا إلّا إِنْ شاء الله، وهاتان حقيقتان تأبيان النقاش والتشكيك. وانتظار التغيير من الله تعالى حقّ ليس فيه شكّ، ولكن على أن يقترن هذا الانتظار بالحركة والفعل من ناحية الإنسان، وهذا هو الانتظار الحركيّ في توضيح ثانٍ.

*الانتظار (حركة) وليس (رصداً)

من الخطأ أن نفهم الانتظار على أنّه رصد سلبيّ للأحداث المتوقّعة، دون أن يكون لنا دور فيه سلباً أو إيجاباً، كما نرصد خسوف القمر وكسوف الشمس، فالتفسير الصحيح للانتظار أنّه (حركة) و(فعل) و(جهاد) و(عمل)، وسوف ندخل إن شاء الله في تفاصيل هذا البحث.

*ما هو السبب في تأخير (الفرج)؟

للإجابة الصحيحة عن هذا السؤال، يتوقّف فهم المعنى الصحيح للانتظار، وهل هو بمعنى (الرصد) أو (الحركة)؟

- الرأي الأوّل

إذا كان السبب في تأخير الفرج بظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه) وثورته

 

63

 

 


50

الانتظار الموجّه

الكونيّة الشاملة هو أن تمتلئ الأرض ظلماً وجَوراً، فلا بدّ من أن يكون الانتظار بمعنى (الرصد)، فلا يجوز لنا أن نوسّع رقعة الظلم والجور في الأرض، ببداهة الإسلام. ولا يصحّ لنا أن نكافح الظلم والجَور؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى إطالة زمن الغيبة، بموجب هذه الرواية. فلا بدّ من أن نرصد، إذاً، تطوّر الظلم والجور في حياتنا السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والقضائيّة، حتّى إذا امتلأت الأرض ظلماً وجَوراً ظهر الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وأعلن الثورة ضدّ الظالمين والفرج عن المظلومين.

- الرأي الثاني

إذا كان السبب في تأخير الفرج هو عدم وجود الأنصار الذين يُعدّون المجتمع لظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه)، والذين يوطّئون الأرض، ويمهّدونها لثورته الشاملة، ويدعمون ثورة الإمام ويساندونها، فإنّ الأمر يختلف. فلا بدّ من العمل والإعداد والتوطئة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لإقامة سلطان الحقّ على وجه الأرض، وليأتي الفرج بظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه). بناءً عليه، لا يكون الانتظار بمعنى (الرصد)، بل بمعنى (الحركة)، و(العمل)، و(الجهاد) لإقامة سلطان الحقّ على وجه الأرض؛ الأمر الذي يقتضي إعداداً يوطّئ الأرض لظهور الإمام وثورته الشاملة.

ويختلف معنى الانتظار سلباً وإيجاباً بين (الرصد) و(الحركة) بناءً على هذا الفهم لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وظهور

 

64

 

 


51

الانتظار الموجّه

الفرج على يدَيه. ونحن نناقش الآن هذه المسألة لنصل إلى الجواب الصحيح.

نقد الرأي الأوّل

لنا مجموعة ملاحظات على الرأي الأوّل، وهي:

1. ليس معنى أن تمتلئ الأرض ظلماً وجَوراً هو أن يجفّ نبع التوحيد والعدل على وجه الأرض، ولا تبقى رقعة يعبد الناس الله تعالى عليها؛ فهذا أمر مستحيل، وعلى خلاف سُنن الله تعالى، إنّما المقصود بهذه الكلمة طغيان سلطان الباطل على الحقّ، في الصراع القائم بين الحقّ والباطل دائماً.

2. ولا يمكن أن يزيد طغيان سلطان الباطل على الحقّ أكثر ممّا هو عليه الآن، فقد طغى الظلم على وجه الأرض شرّ طغيان، وأنّ الذي جرى في بلاد البلقان على مسلمي البوسنة والهرسك بأيدي الصرب أمرٌ يقلُّ نظيره في تاريخ الظلم والإرهاب، ولطالما شقّ الصرب بطون النساء الحوامل، وأخرجوا من أرحامهنَّ الأجنّة، وقتلوا الأطفال الصغار، وقطّعوا رؤوسهم، ولعبوا بها (لعبة الكرة) أمام أعين آبائهم وأُمّهاتهم.

وفي الشيشان، ذبح الروس أطفال المسلمين، وقدّموا لحومهم طعاماً للخنازير. والظلم الذي مارسه الشيوعيّون على مسلمي بلاد آسيا الوسطى إبّان الحكم الشيوعي، أمرٌ

 

65


52

الانتظار الموجّه

تقشعرّ له الجلود. وما يجري على المسلمين في سجون العدوّ الإسرائيليّ من العذاب الوحشيّ، أمرٌ فوق حدود التعبير. وفوق ذلك كلّه، وأعظم منه، ما جرى في العراق من ظلم، وتصفية، وإبادة، وتعذيب واضطهاد للمؤمنين على يد جلاوزة البعث من فئة صدّام، ممّا لا يقوى على وصفه التعبير.

أقول: إنّ الذي يجري من الظلم في أقطار العالم الإسلاميّ على المسلمين، في كلّ مكان تقريباً، أمر رهيب يدلّ على شيء أكثر من الظلم والجَور، ومن (امتلاء الأرض ظلماً وجَوراً)، إنّه يدلّ، ومن دون مؤاخذة، على نضوب نبع الضمير في الأُسرة الدوليّة المعاصرة، وفي الحضارة البشريّة المادّيّة المعاصرة. ونضوب الضمير مؤشّر خطر في تاريخ الإنسان يعقبه دائماً السقوط الحضاريّ الذي يعبّر عنه القرآن بـ (هلاك الأُمم).

و(الضمير) حاجة أساسيّة ورئيسة للإنسان، وكما لا يمكن أن يعيش من دون (الأمن)، ومن دون (الطبّ والعلاج)، ومن دون (الغذاء)، ومن دون (النظام السياسيّ)، ومن دون (العلم)، كذلك لا يمكن أن يعيش من دون الضمير، ومتى آل أمر هذا النبع إلى النضوب، فإنّ السقوط الحضاريّ هو النتيجة الطبيعيّة لهذه الحالة. وبعد السقوط يأتي قانون (الاستبدال) و(التبديل) و(الإرث)، وهذه هي حالة قيام ثورة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) الكونيّة وقيام الدولة العالميّة الشاملة.

3. وقد كانت غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) بسبب طغيان الشرّ والفساد والظلم، ولولا ذلك لم يغب، فكيف يكون طغيان

 

66

 


53

الانتظار الموجّه

الفساد والظلم سبباً لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وخروجه؟

4. وبعكس ما يتوقّعه بعض الناس، يتّجه العالم اليوم نحو سقوط المؤسّسات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة الظالمة. فقد شاهدنا بأعيننا كيف سقط الاتّحاد السوفياتيّ خلال بضعة أشهر، وكان مثله مثل بناء خاوٍ، منخور من الداخل، لم يتمكّن أحد من دعمه وإسناده عند سقوطه. ورياح التغيير اليوم تهبّ على أمريكا، وتعرّضها لهزّات عنيفة وقويّة في اقتصادها، وأمنها، وأخلاقها، ومصداقيّتها، بوصفها دولة كبرى.

إنّ النظام الجاهليّ اليوم آخذ بالعدّ العكسي مؤذناً بالسقوط والانهيار، فكيف نتوقّع أن لا يزداد هذا النظام قوّة وشراسة وضراوة؟

5. على أنّ الذي يوجد في نصوص الغيبة: «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجَوراً»[1]. وليس (بعد أن مُلئت ظلماً وجَوراً). أي أنّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه) لا ينتظر أن يطغى الفساد والظلم أكثر ممّا ظهر إلى اليوم حتى يظهر، وإنّما معنى النصّ أنّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه) إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً، ويكافح الظلم والفساد في المجتمع، حتّى يطهّر المجتمع البشريّ منه، كما امتلأ المجتمع البشريّ بالظلم والفساد من قبل.

 

 


[1]  إرشاد القلوب، الديلميّ، ج 2، ص 314.

 

67


54

الانتظار الموجّه

روى الأعمش عن أبي وائل، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في المهديّ (عجل الله تعالى فرجه): «يخرج على حين غفلة من الناس وإقامة من الحقّ، وإظهار من الجَور، يفرح لخروجه أهلُ السماء وسكّانها، ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجَوراً»[1]. وفي رواية أُخرى: «يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً»[2].

 

وبرأيي، إنّ معنى امتلاء الأرض ظلماً وجوراً، هو أن يكثر الظلم والجَور حتّى يضجّ الناس منه، ويفقد الظلم غطاءه الإعلاميّ الذي يخرجه للناس إخراجاً حسناً، فيبرز للناس في صورته الحقيقيّة، وتفشل هذه الأنظمة في تحقيق ما تَعِد الناس به من خير، ويبدأ الناس بعد هذا الإحباط الواسع بالبحث عن النظام الإلهيّ الذي ينقذهم من هذه الإحباطات، وعن القائد الربّاني الذي سيأخذ بأيديهم إلى الله تعالى. وقد بدأت تتعاقب الإحباطات تتوالى في حياة الناس واحدةً بعد أُخرى، وكان أعظم هذه الإحباطات سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، والهزّات العنيفة التي تعرّضت لها أمريكا في السنوات الأخيرة، وكلّ واحد من هذه الإحباطات يوجّه الناس إلى النظام الإلهيّ والقائد الربّانيّ المنقذ.

 

 


[1]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 51، ص 120.

[2]  منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، الشيخ الكلپايكاني، ص 162.

 

68


55

الانتظار الموجّه

هذا، على نحو الإجمال، نقد الرأي الأوّل في أسباب تأخير الفرج. والآن نبحث في الرأي الثاني.

 

الرأي الثاني في أسباب تأخير الفرج

يعتمد الرأي الثاني، في فهم أسباب تأخير الفرج وتأخير ظهور الإمام، الأسباب الموضوعيّة، وفي مقدّمتها عدم وجود العدد الكافي من الأنصار من الناحية الكمّيّة، وعدم وجود الكيفيّة المطلوبة في أنصار الإمام وشيعته من الناحية الكيفيّة. إنّ الثورة التي يقودها الإمام ثورة كونيّة شاملة، يتولّى فيها المستضعفون والمحرومون الإمامة والقيمومة على المجتمع البشري: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾[1]. يرثُ المستضعفون المؤمنون، في هذه المرحلة، ما كان يتداوله الطغاة في ما بينهم من السلطان والمال: ﴿وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾، ويتمّ لهم السلطان على وجه الأرض ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[2]، ويطهّر الإمام في هذه المرحلة الأرض كلّها من لوثة الشّرك والظلم «يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً»، ولا يبقى، في المشارق والمغارب، أرض لا يقال فيها: «لا إله إلّا الله» كما في طائفة من الروايات.

 

 


[1]  سورة القصص، الآية 5.

[2]  سورة القصص، الآية 6.

 

69


56

الانتظار الموجّه

ومحور هذه الثورة الشاملة (التوحيد) و(العدل). ومثل هذه الثورة لا بدّ لها من إعداد واسع، وتوطئة على مستوى عالٍ من الناحيتين الكمّيّة والكيفيّة، ومن دون هذا الإعداد وهذه التوطئة، لا يمكن أن تتمّ هذه الثورة الشاملة، حسب سنن الله تعالى في التاريخ.

 

*دور السُّنن الإلهيّة والإمداد الغيبيّ في الثورة

لا تتمّ الثورة، في مواجهة العُتاة والطغاة والأنظمة والمؤسّسات الجاهليّة الحاكمة والمتسلّطة على رقاب الناس، من دون إمداد غيبيّ وإسناد وتأييد من جانب الله بالتأكيد. والنصوص الإسلاميّة تؤكّد وجود هذا الإمداد الإلهيّ، وتصف كيفيّته، إلّا أنّ هذا المدد الإلهيّ أحد طرفَي هذه القضيّة، والطرف الآخر هو دور السُّنن الإلهيّة في التاريخ والمجتمع في تحقيق هذه الثورة الكونيّة، وتطويرها، وإكمالها. فإنّ هذه السُّنن لا تتبدّل، ولا تتغيّر ﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلا﴾[1]، ولا تعارض المدَدَ والإسناد الإلهيّين. وشأن هذه الثورة شأن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى التوحيد، والحركة التي نهض بها (صلى الله عليه وآله)؛ لتحقيق التوحيد في حياة الناس. فقد كانت هذه الحركة موضع الإمداد الإلهيّ الغيبيّ بالتأكيد. ونَصَرَ الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) بالملائكة المسوَّمين والمردفين والرياح، وجُندٍ لم يروهم، ونَصَرهُ على أعدائه بالرُّعب، ولكنّ الله تعالى أمر رسوله 

 

 


[1]  سورة الأحزاب، الآية 62.

 

70


57

الانتظار الموجّه

(صلى الله عليه وآله) بأن يعدّ العدّة لهذه المعركة المصيريّة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة﴾[1].

وتمّت مراحل هذه المعركة بموجب سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع، ينتصر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أعدائه حيناً، فيستخدم الجُند والمال والسلاح في هذه المعركة، ويُخطّط لها، ويفاجئ العدوّ بوسائل وأساليب جديدة للقتال، ويفاجئه في الزمان والمكان، وينتكس حيناً آخر، من دون أن يعارض ذلك الإمداد الغيبيّ الإلهيّ لرسوله (صلى الله عليه وآله) الذي لا نشكّ فيه، وهما وجهان لقضيّة واحدة. ولا تشذّ الثورة الكونيّة التي يقودها حفيده (عجل الله تعالى فرجه) عن الدعوة والثورة التي قادها هو (صلى الله عليه وآله) من قبل، بأمر من الله تعالى.

ومن جملة هذه السُّنن التي لا بدّ منها في هذه الثورة الكونيّة: (الإعداد) و(التوطئة) قبل ظهور الإمام و(النصرة) و(الأنصار) حين ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه). ومن دون هذا الإعداد والنصرة والتوطئة، لا يمكن أن تتمّ ثورة بهذا الحجم الكبير في تاريخ الإنسان.

ونحن، في ما يلي، نستعرض طائفتين من النصوص، تختصّ أُولاهما بـ(الإعداد والتّوطئة)، والأُخرى بـ(الأنصار والنصرة)، لنتأمّل فيهما إن شاء الله.

 


[1]  سورة الأنفال، الآية 60.

 

71


58

الانتظار الموجّه

والطائفة الأُولى من النصوص هي النصوص المتعلّقة بـ(الموطِّئين)، وهم الجيل الذي يعدّ الأرض والمجتمع لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وثورته الكونيّة الشاملة. وهذا الجيل بطبيعته يسبق ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه). والطائفة الثانية من النصوص تخصّ (الأنصار)، وهم الجيل الذي ينهض بهم الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، ويقود بهم الثورة على الظالمين.

إذاً، نحن بين يدَي جيلَين:

1. جيل (الموطِّئين) الذين يمهّدون الأرض لظهور الإمام.

2. جيل (الأنصار) الذين ينهض بهم الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، ويثور بهم على الظالمين. وفي ما يلي نستعرض، إن شاء الله، هاتين الطائفتين من النصوص.

*جيل (الموطِّئين) في النصوص الإسلاميّة

تضافرت طائفة من النصوص الإسلاميّة، من الفريقين الشيعة والسنّة، عن جيل الموطّئين الذين يوطّئون الأرض لدولة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). وقد حدّدت هذه النصوص عدداً من الأقاليم الإسلاميّة المعروفة لهذا الجيل، وأهمّ هذه الأقاليم التي تخصّ جيل الموطّئين هي: المشرق وخراسان -ويظهر أنّ المشرق هو خراسان- وقم، والريّ، واليمن. وفي ما يلي النصوص التي تخصّ جيل الموطّئين في هذه الأقاليم.

 

72


59

الانتظار الموجّه

1. الموطّئون من المشرق

روى الحاكم في المستدرك عن الصحيحَين، عن عبد الله بن مسعود، قال: أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج إلينا مستبشراً، يُعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلّا أخبرنا به، ولا سكتنا إلّا ابتدأنا، حتّى مرّ فتية من بني هاشم منهم: الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم، وانهملت عيناه.فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه؟ فقال: «إنّا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتّى ترتفع راياتٌ سودٌ في المشرق، فيسألون الحقّ فلا يعطونه، ثُمَّ يسألونه فلا يعطونه، ثُمَّ يسألونه فلا يعطونه، فيقاتلون فيُنصرون. فمن أدركه منكم أو من أعقابكم، فليأتِ إمام أهل بيتي، ولو حبواً على الثلج، فإنّها رايات هدى، يدفعونها إلى رجلٍ من أهل بيتي...»[1].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كأنّي بقومٍ قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحقّ فلا يعطونه، ثُمَّ يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتّى يقوموا، ولا يدفعونها إلّا إلى صاحبكم -أي الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)- قتلاهم شهداء...»[2].

 


[1]  مستدرك الصحيحين، النيسابوريّ، ج 4، ص 464.

[2]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 52، ص 243. والسيوف، في هذا الحديث، تعني السّلاح.

 

73


60

الانتظار الموجّه

2. الموطّئون من خراسان

عن محمّد بن الحنفيّة، والرواية مقطوعة (أي قُطع إسنادها بحيث وقف عند راويها)، ولكن يبدو أنّها عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «... ثُمَّ تخرج من خراسان {راية} سوداء أخرى... يهزمون أصحاب السفيانيّ، حتّى تنزل ببيت المقدس، توطّئ للمهديّ سلطانه»[1].

3. الموطّئون من (قم) و(الريّ)

روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام): «رجل من قم، يدعو الناس إلى الحقّ، يجتمع معه قومٌ قلوبهم كزُبُر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، لا يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكّلون، والعاقبة للمُتّقين»[2].

4. الموطّئون من اليمن

عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قيادة اليمانيّ قبل ظهور الإمام: «وليس في الرايات أهدى من راية اليمانيّ، هي راية هدى؛ لأنّه يدعو إلى صاحبكم»[3].

 


[1]  عصر الظهور، علي الكورانيّ، ص 206.

[2]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 60، ص 216.

[3]  (م.ن.)، ج 52، ص 232.

 

74


61

الانتظار الموجّه

*الدلالات

1. الجيل الصلب

أوّل ما يلفت النظر في هذا الجيل هو الصّلابة والقوّة والاستحكام، فهو جيل صعب، شديد المراس، يوطّئ الأرض لظهور الإمام، ويواجه وحده طواغيت الأرض. والإمام الصادق (عليه السلام) يُفسّر، كما في رواية محمّد بن يعقوب الكُلينيّ قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡس شَدِيد﴾[1] بهذا الجيل، وتصفهم الرواية بهذا الوصف العجيب: «قلوبهم كزُبُر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف...».

إنّها قلوب، ومن طبيعة القلوب اللين والرقّة، ولكنّ هذه القلوب تتحوّل في مواجهة الطغاة والعتاة إلى زُبُر من الحديد لا تلين ولا ترقّ. إنّ الصّلابة والقوّة من خصائص الأجيال التي يحمّلها الله تعالى مسؤوليّة التغيير والثورة، ومن خصائص الأجيال التي يضعها الله تعالى في منعطفات التاريخ الكبرى لنقل الناس من مرحلة إلى مرحلة، وهذا الجيل يحمل هذه الخصائص.

2. جيل التحدّي والتمرّد

ومهمّة هذا الجيل هي تحدّي (النظام العالميّ)، والتمرّد عليه، وما أدراك ما النظام العالميّ؟ وكيف صمّم على خدمة

 

 


[1]  سورة الإسراء، الآية 5.

 

75


62

الانتظار الموجّه

القوى الكبرى، ومن دار في فلكها، والاحتفاظ بمراكز القوّة والمواقع الإستراتيجيّة لها في مختلف مناطق الأرض؟ إنّها مسؤوليّة شاقّة وعسيرة ودقيقة، يتعهّد بها هذا النظام على مستوى العالم كلّه، وليس على مستوى منطقة أو إقليم من الأرض فحسب.

إنّ هذا النظام يتكوّن من مجموعة من المعادلات والموازنات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والإعلاميّة الدقيقة، ومن أنظمة أعضاء الأُسرة الدوليّة، ومن مجموعة من الخطوط الحمر والخضر والصفر فيما بين هذه الأنظمة وهذه المجموعة من الاتفاقات، والتنازلات، وتنظيم الأدوار، واقتسام الموارد والأسواق، ومصادر الثروة ومناطق النفوذ.

أقول: إنّ هذه المجموعة المعقّدة تمكّن القوى الكبرى من السيطرة على الوضع العالميّ، كما تمكّن العتلة الصغيرة[1] -أي الإنسان- من حمل الأثقال الكبيرة بحركة خفيفة. ولذلك، فإنّ النظام العالميّ قبل سقوط الاتّحاد السوفياتيّ وبعده، يبقى أمراً يحترمه الجميع؛ لأنّ هؤلاء يستفيدون منه كلٌّ بمقدار حجمه وقوّته... وهؤلاء الشباب من جيل الموطّئين يخترقون ببساطة ومن دون تردّد، هذه الخطوط الحمر، ويغيّرون هذه المعادلات والموازنات التي يتفاهم عليها الجميع، ويتلقّونها بالقبول والاحترام، ويفسدون على هذه الأنظمة والمؤسّسات الدوليّة استقرارها وتوازنها وهيبتها الدوليّة. ولا سبيل لها على

 

 


[1]  وتعني العصا الضخمة من حديد، وهي تستخدم في أعمال الهدم والحمل.

 

76


63

الانتظار الموجّه

هؤلاء الشباب، ولا تستطيع أن تتحمّلهم، ولا تتمكّن من أن تدفعهم. فإنّ أكثر قوّة هذه الأنظمة وهيبتها الدوليّة في مواجهة أنظمة ومؤسّسات من مثلها، وأقوى ما تملك من السلاح هو القتل والسجن والتعذيب والمطاردة. وهؤلاء الموطِّئون لا يخافون شيئاً من ذلك، ولا يرهبهم شيء من ذلك.

والوصف الموجود في الرواية دقيق في وصف هذا الجيل: «لا تزلّهم الرياح العواصف، لا يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكّلون، والعاقبة للمُتّقين». إنّ الذي لا يجبن لا يملّ الحرب، ولا تزلّه الرياح العواصف بطبيعة الحال. وقوّة هؤلاء وميزتهم أنّهم لا يجبنون، وهذه هي مشكلتهم في حساب الأنظمة والقوى الكبرى.

في موسم الانتخابات العامّة للرئاسة الأمريكيّة، وفي عهد الرئيس الأمريكيّ الأسبق كارتر، جرى حوار تلفزيونيّ ضمن النشاط الإعلاميّ الذي يقوم به عادةً المرشّحون للرئاسة الأمريكيّة، بينه وبين المرشح الآخر المنافس له على الرئاسة، فقال له هذا الأخير: إنّ أمريكا خسرت الكثير من هيبتها الدوليّة في حادث تفجير مقرّ القوّات البحريّة الأمريكيّة في بيروت (المارينز)، وتتحمّل أنت -مخاطباً الرئيس الأمريكيّ- مباشرةً مسؤوليّة هذه الخسارة بالكامل، فقال له الرئيس الأمريكيّ بالحرف الواحد: وماذا تراني قادراً أن أفعل في مواجهة إنسان جاء هو ليطلب الموت؟! إنّ أقصى ما نتمكّن منه أن نردع الناس بالرّعب والإرهاب من أمثال ذلك، فإذا كان

 

77


64

الانتظار الموجّه

الذي يقوم بهذا التفجير هو من يطلب الموت، ويلقي بنفسه عليه، فماذا تراني قادراً أن أفعل في ردعه؟ وماذا كنت تفعل أنت لو كنت في مثل موقعي في هذا الظرف؟!

هذه هي بعض ملامح جيل التحدّي الذي برز في مواجهة الأنظمة والقوى الكبرى في العراق، وإيران، وأفغانستان، ولبنان، وفلسطين، والجزائر، ومصر، والسودان، وفي الشيشان، والبوسنة، والهرسك.

عجيبٌ أمر هذا الجيل، يسبّ جلّاديه ويشتمهم، وهو في قبضتهم وتحت سلطانهم وسياطهم، يصبّون عليه العذاب صبّاً فلا ينثني أبناؤه، ولا يلينون، ولا يئنّون، ولا يصرخون. وإنّ أحدهم ليقول لجلّاديه، وهم يعذّبونه بما لا يعلمه إلّا الله من فنون التعذيب: سوف أُبقي في نفسك حسرةً أن تسمع منّي صرخةَ تألُّم أو أنين أو توجُّع.

3. ردود الفعل العالميّة

تصرّح النصوص الآتية بردود الفعل العالميّة تجاه هذا الجيل، ردود فعلٍ غاضبة وساخطة، لأنّ هذا الجيل يعرّض هذه المعادلات والموازنات لهزّات عنيفة وحقيقيّة؛ ولذلك، فإنّ ردود الفعل العالميّة تجاهه تتّسم بالغضب والسخط دائماً.

روي عن أبان بن تغلب عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا ظهرت راية الحقّ لعنها أهل الشرق وأهل الغرب. أتدري لمَ ذلك؟ قلت: لا، قال: للّذي يلقى الناس من أهل بيته قبل

 

78


65

الانتظار الموجّه

ظهوره»[1]. وأهل بيته قبل ظهوره، عادة، هم الموطّئون الذين يُثيرون المتاعب لهذه الأنظمة والمؤسّسات، ويسلبون استقرارها وراحتها.

وروى ثقة الإسلام الكلينيّ في «الكافي»، في تفسير قوله تعالى: ﴿بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡس شَدِيد...﴾[2] ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم، فلا يدعون وتراً لآل محمّد إلّا قتلوه»[3].

وردود الأفعال العالميّة، المذكورة في هذه النصوص، تشبه إلى حدّ كبير ردود الأفعال العالميّة اليوم تجاه الصحوة الإسلاميّة التي يسمّونها بـ«الأُصوليّة الإسلاميّة»، وينعتونها بالإرهاب وبأقسى النعوت.

*مشروع التوطئة

توطئة الأرض لثورة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) مهمّة واسعة وكبيرة ومعقّدة، ينهض بها هذا الجيل في مواجهة عُتاة الأرض وطغاتها المستكبرين وأئمّة الكفر.. وهؤلاء العتاة يعدّون جميعاً جبهة سياسيّة عريضة، رغم هذه التناقضات القائمة فيما بينهم، وهي جبهة تملك الكثير من أسباب القوّة؛ من المال والسلطان السياسيّ والجيش والإعلام والعلاقات والنُظم، وتستخدم جميع هذه الأسباب في ضرب الصحوة الإسلاميّة الناشئة

 

 


[1]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 52، ص 63.

[2]  سورة الإسراء، الآية 5.

[3]  الكافي، الكلينيّ، ج 8، ص 230.

 

79


66

الانتظار الموجّه

وإجهاضها. ولا بدّ لهذا الجيل الذي ينهض بمشروع إعداد الأرض لظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه) من أن يواجه هذه القوّة بالآليّة نفسها التي تستخدمها جبهة الاستكبار العالميّة، وتزيد عليها بالتربية الإيمانيّة والجهاديّة والتوعية السياسيّة. وعليه، فإنّ مشروع التوطئة الذي ينهض به جيل الموطّئين يتكوّن من بُعدين:

البُعد الأوّل: التربية الإيمانيّة والجهاديّة، والتوعية السياسيّة؛ وهذا ما تفقده الجبهة المقابلة.

البُعد الثاني: الآليّة السياسيّة، والعسكريّة، والاقتصاديّة، والإداريّة، والإعلاميّة التي لا بدّ منها في مثل هذه المعركة.

وليس من شكٍّ في أنّ الفئة المؤمنة التي تعدّ الأرض لظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه) لها من إعداد هذه القوّة، وإن كانت لا تستطيع أن تكافئ الجبهة العالميّة المضادة. وهذه الآليّة السياسيّة، والعسكريّة، والاقتصاديّة، والإعلاميّة لا تتحقّق من دون وجود نظام سياسيّ ودولة على وجه الأرض. وهذه هي دولة الموطّئين التي وردت الروايات بالتبشير بها كثيراً. وليقرب ظهور الإمام، لا بدّ من تحقيق هذه القوّة على وجه الأرض، ومن دون ذلك لن تتهيّأ الأسباب الطبيعيّة لظهور الإمام. والإعداد لهذه القوّة يحتاج إلى عمل وحركة في واقع الحياة، ولا يغني (الرصد) و(الانتظار) عنها شيئاً.

*جيل الأنصار في الروايات الإسلاميّة

يسبق جيل الموطّئين جيل الأنصار، وأفراد هذا الجيل هم

 

80


67

الانتظار الموجّه

تلامذة الجيل الذي سبقهم، ويتميّزون بمزايا وقيم يتفرّدون بها. ونحن سوف نستعرض النصوص الواردة في نموذج واحد من هذا الجيل، وهو شباب «الطالقان»، وهذه الروايات وردت بأسانيد الفريقين: السنّة والشيعة وطرقهم.

- شباب الطالقان

سوف نستعرض الروايات التي رواها المحدّثون، من السنّة والشيعة، والمتعلّقة بـ«شباب الطالقان».

روى المُتّقي الهنديّ في «كنز العمّال»، والسّيوطي في «الحاوي» في أنصار الإمام من «الطالقان» عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «ويحاً للطالقان، فإنّ لله عزّ وجلّ بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضّة، ولكن بها رجال عرفوا الله حقّ معرفته، وهم أنصار المهديّ»[1].

وفي «ينابيع المودّة لذوي القربى» للقندوزي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «بخٍ بخٍ للطالقان»[2]. كما روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن الإمام الصادق (عليه السلام): «له كنزٌ بالطالقان ما هو بذهب، ولا فضّة، وراية لم تُنشر مُذ طويت، ورجالٌ كأنّ قلوبهم زُبُر الحديد، لا يشوبها شكٌّ في ذات الله، أشدُّ من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براياتهم بلدةً إلّا خرّبوها، كأنّ خيولهم العقبان، يتمسّحون بسرج الإمام 

 

 


[1]  كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج 7، ص 26.

[2]  ينابيع المودّة لذوي القربى، القندوزيّ، ص 449.

 

81


68

الانتظار الموجّه

(عليه السلام)، يطلبون بذلك البركة، ويحفّون به، يقونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه ما يريد فيهم.

رجالٌ لا ينامون الليل، لهم دويّ في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويُصبحون على خيولهم، رُهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار. هم أطوَع له من الأَمَة لسيّدها، كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل، وهم من خشيته مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى إرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحقّ»[1].

- أصحاب الإمام شباب

والروايات تشير إلى أنّ الغالب من أصحاب الإمام من الشباب، ولا يوجد فيهم من الكهول والشيوخ إلّا نادراً.

روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أصحاب المهديّ شباب لا كهول فيهم، إلّا كمثل كُحل العين»[2].

- عدد قادة أنصار الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن الإمام الباقر (عليه السلام): «فيجمع الله عليه أصحابه، وهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً،

 

 


[1]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 52، ص 307.

[2]  (م.ن.)، ج 52، ص 334.

 

82


69

الانتظار الموجّه

ويجمعهم عليه على غير ميعاد، فيبايعونه بين الركن والمقام، ومعه عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد توارثته الأبناء عن الآباء»[1].

وفي غالب الروايات أنّ هذا العدد الذي يبايع الإمام، بين الركن والمقام، هو عدد قادة جيش الإمام (عجل الله تعالى فرجه).

*الدلالات والتأمّلات

لا بدّ أن نشير قبل أن ندخل في التأمّلات والدلالات، أنّ اللغة المألوفة وقت صدورها لغة رمزيّة؛ فالسيوف هي الأسلحة، والخيول هي مراكب القتال. كما أنّ الوصف بـ«رهبانٌ بالَّليل، ليوثٌ بالنّهار» تعبير رمزيّ ومجازيّ عن العبادة والتهجّد في الليل، والشجاعة والجرأة في النهار.

وهذه لغة معروفة لِمَن يألف طريقة التعبير في النصوص والروايات الإسلاميّة. والآن نبدأ الحديث عن الدلالات والتأمّلات في هذه الروايات.

1. كنوز ليست من ذهب ولا فضّة

أنصار الإمام كنوز، والكنز هو الثروة المخبوءة التي يجهل الناس مكانها، وقد يكون الكنز في بيت الإنسان وتحت قدميه، أو في أرض مجاورة لبيته أو في مدينته، ولكنّه يجهل مكانه، وأنصار الإمام كنوز مُخبّأة، قد يكون أحدهم في بيت أحدنا أو في جواره أو في مدينته، وهو لا يعرفه وقد يزدريه وتحتقره عيون الناس التي لا تعرف أن تنفذ إلى الأعماق لتعرف الكنوز. إنّ

 

 


[1]  (م.ن.)، ج 53، ص 238 و239، (بتصرّف).

 

83


70

الانتظار الموجّه

هذه البصيرة واليقين، والإقبال على الله، والشجاعة، والجرأة، والذوبان في ذات الله، التي يتّصف بها هؤلاء لا تتكوّن دفعة واحدة، بل كانت موجودة في نفوس هؤلاء الشباب، إلّا أنّها كانت مخفيّة عن أعين الناس، كما تختفي الكنوز عن العيون.

2. القوّة والوعي

يقول تعالى، في صفة عباده الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام): ﴿وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٤٥ إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَة ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٤٦ وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ﴾[1]، وهذا من أروع الوصف.

فإنّه لا بدّ للبصيرة من قوّة، ومن دون القوّة تضيع البصيرة، وتخمد، ولا يحمل البصيرة إلّا المؤمن القويّ، فإذا ضعف فقد البصيرة، ولا بدّ للقوّة من بصيرة، فإنّ القوّة من دون بصيرة تتحوّل إلى لجاج وعناد واستكبار، ويصف الله تعالى إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) بأنّهم أُولو (الأيدي) و(الأبصار)؛ أي القوّة والبصيرة.

وتُشير النصوص التي قرأنا طائفة منها، أنّ أنصار المهدي (عجل الله تعالى فرجه) أولو الأيدي والأبصار.

3. الوعي والبصيرة

تعبّر الرواية عن حالة الوعي والبصيرة لدى أنصار الإمام

 


[1]  سورة ص، الآيات 45 - 47.

 

84


71

الانتظار الموجّه

تعبيراً عجيباً، «كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل»، وهل يمكن أن يخترق الظلام القنديل؟ قد يحاصر الظلام القناديل، ولكنّه لا يستطيع أن يخترقها.

وأنصار الإمام (عجل الله تعالى فرجه) لا ينفذ إلى نفوسهم ووعيهم الشكّ والريب، مهما تكاثفت ظلماتهما، ومهما تعاقبت الفتن؛ لذلك، لا يدخلهم الشكّ، ولا يتردّدون، ولا يتراجعون، ولا ينظرون وراءهم إذا مضوا في الطريق. والتعبير في الرواية: «لا يشوبها شكّ في ذات الله» هو أمر غير الشكّ، إنّه خليط من الشكّ واليقين، أو لحظات من الشكّ تخترق حالات اليقين، ولا تثبت لليقين الذي يهزمها، وهذا أمر يحصل للكثير من المؤمنين، إلّا أنّ أنصار الإمام لا يشوب يقينهم شكّ، يقين خالص من دون شائبة من الشكّ والريب.

4. عزم نافذ

وهذه البصيرة تمنحهم عزماً نافذاً لا تردُّد ولا تراجُع فيه، والتعبير عن هذا العزم بـ«الجمر» تعبير رائع ومُعبّر، فإنّ الجمر ينفذ ويخترق، ما دام ملتهباً، والتعبير هكذا «أشدّ من الجمر» هو أروع تعبير عن نفوذ العزم، ولستُ أدري ما أودعَ الله تعالى في نفوس شباب الطالقان من كنوز الوعي واليقين والعزم والقوّة، فإنّ التعبيرات الواردة في هذا النصّ تعابير غير مألوفة، كأنّ الحديث عنهم حديثُ وَجدٍ وهيام: «كزُبُر الحديد،كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل، أشدّ من الجمر، رهبانٌ باللّيل ليوثٌ

 

85


72

الانتظار الموجّه

بالنّهار»، وكأنّ النصّ يستفرغ كلّ ما في وسع اللغة من معانٍ لتتمكّن من التعبير عن وعي هؤلاء الشباب وبصيرتهم، وقوّتهم ونفوذ عزمهم.

5. القوّة

ويصف النصّ شباب الطالقان بقوّة هائلة لا عهد لنا بها بمَنْ نعرف من الشباب. تأمّلوا هذه العبارة: «كأنّ قلوبهم زُبُر الحديد». أرأيت أحداً يتمكّن من أن يصهر أو يكسر أو يلين زُبُر الحديد بقبضة يده؟ «لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براياتهم بلدة إلّا خرّبوها، كأنّ على خيولهم العقبان».

هذه تعابير عجيبة تُنبئ عن قوّة هائلة، وهذه القوّة ليست من نوع القوّة التي يملكها طواغيت الأرض، وإنّما هي قوّة عزم وإرادة، وقوّة يقين.

6. الاستماتة وحبّ الشهادة

«يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله». إنّ الموت الذي يرعب الشيوخ في التسعينات، وبعد المئة من أعمارهم، وقد فقدوا جميع لذّات الحياة وشهواتها، يهيم به هؤلاء الشباب وهم في غضاضة العمر، وحبّ الشهادة ينبع من أمرين، ويُنتِج أمرين في حياة الناس.

أمّا الأمران اللّذان هما مصدر حبّ الشهادة في النفس، فهما الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الله. فإذا كافح الإنسان

 

86


73

الانتظار الموجّه

الذي تمكّن من أن يُحرّر نفسه من الدنيا، يجد في نفسه من العزم والقوّة ما لا يجده سائر الناس.

وهذان -أي العزم والقوّة- لا علاقة لهما بما في أيدي الناس في الجبهة الأُخرى من أسباب القوّة الماديّة، من دون أن ننفي ضرورة تلك الأسباب وأهميّتها في ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وقرب الفرج.

7. تعادل الشخصيّة

«ليوثٌ باللّيل، رهبانٌ بالنهار». من أبرز معالم هذا الجيل التعادل في الشخصيّة، وهذا سرّ قوّتهم ونفوذهم، تعادل بين الدنيا والآخرة، وتعادل بين القوّة والبصيرة. والله تعالى يحبُّ هذه الموازنة والتعادل، ويكره الإفراط والتفريط والجنوح إلى اليمين واليسار، يقول تعالى: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾[1]، ويقول في ما يعلّمنا من الدعاء: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَة﴾[2]. ويقول أيضاً: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُوما مَّحۡسُورًا﴾[3].

ومن هذه الموازنة، يبرز التعادل بين الخشوع والعبوديّة لله والتذلّل للمؤمنين، والصرامة والقوّة مع الكافرين: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى

 

 


[1]  سورة القصص، الآية 77.

[2]  سورة البقرة، الآية 201.

[3]  سورة الإسراء، الآية 29.

 

88


74

الانتظار الموجّه

ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[1]، ومنها أيضاً، يبرز التعادل بين الاتّكال على الله والجهد والعمل والتخطيط. ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) لهمّام (رحمه الله)، كما في رواية الشريف الرّضيّ، أطرافاً من هذه الموازنة والتعادل في شخصيّة (المُتّقين)، فيقول:

«فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَه قُوَّةً فِي دِينٍ، وحَزْماً فِي لِينٍ، وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ، وحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وعِلْماً فِي حِلْمٍ، وقَصْداً فِي غِنًى، وخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ، وصَبْراً فِي شِدَّةٍ... يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُوَ عَلَى وَجَلٍ... يَبِيتُ حَذِراً، ويُصْبِحُ فَرِحاً... يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ... فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ، وفِي الْمَكَارِه صَبُورٌ، وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ... نَفْسُه مِنْه فِي عَنَاءٍ والنَّاسُ مِنْه فِي رَاحَةٍ»[2]. وهذه الموازنة من الملامح الواضحة في شخصيّة أنصار الإمام (عجل الله تعالى فرجه).

8. رهبان باللّيل ليوث بالنّهار

وإلى هذه الموازنة تشير الرواية «رهبانٌ باللّيل، ليوثٌ بالنّهار». وللّيل والنهار دوران مختلفان في بناء شخصيّة الإنسان، ولكنّ هذين الدورين متكاملان يكمّل أحدهما الآخر، ولا بدّ منهما معاً لبناء شخصيّة الإنسان المؤمن الداعية والمجاهد، فلولا قيام اللّيل لم يثبت الإنسان في مواجهة

 

 


[1] سورة المائدة، الآية 54.

[2]  نهج البلاغة، مقتطفات من خطبة المتّقين، ج 2، ص 164.

 

89


75

الانتظار الموجّه

العقبات الصعبة في النهار، ولم يتمكّن من مواصلة الحركة على طريق ذات الشوكة في النهار. ولولا حركة النهار، لعزل اللّيل صاحبه من القيام برسالة الدعوة إلى الله في وسط المجتمع، وفقد الإنسان دوره الثاني في الحياة الدنيا بعد عبوديّة الله، وهو الدعوة إلى عبوديّة الله.

وفي القرآن تأكيد على دور الليل في إعداد الإنسان للدعوة إلى الله، والاهتمام به. ومن أوائل ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدء الدعوة والوحي، سورة المُزَّمِّل المباركة، التي يدعو الله تعالى فيها نبيّه إلى أن يعدّ نفسه في اللّيل إعداداً؛ لتحمُّل القول الثقيل في النهار. يقول مخاطباً نبيّه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلا ٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ٤ إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلا ثَقِيلًا ٥ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔا وَأَقۡوَمُ قِيلًا ٦ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحا طَوِيلا﴾[1].

والتعبير عن الّليل بالناشئة دقيق ومعبّر، فإنَّه ينشىء الإنسان الذي يقيمه إنشاءً، ويصنعه صنعاً للأعمال الصعبة، ويوطّئ شخصيّته، ويعدّها إعداداً للمهام الكبيرة، ويقوّم سلوكه. وقوله (قيلاً) يعني تقويماً: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡ‍ٔا وَأَقۡوَمُ قِيلًا﴾.

وفي خطبة المُتّقين، يصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لهمَّام(رحمه الله)، كما في رواية الشريف الرّضيّ، شطرَي حياة المُتّقين، وهما الّليل والنهار، فاستمع إليه:

 


[1]  سورة المُزَّمِّل، الآيات 1-7.

 

90


76

الانتظار الموجّه

«أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِه أَنْفُسَهُمْ، ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ؛ وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ... وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، ويَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا، ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ».

إنّ اللّيل والنّهار شطرا حياة الإنسان، وهما يتكاملان. وللّيل رجال ودولة، وللنّهار رجال ودولة. ورجال النهار تنقصهم دولة اللّيل، ورجال اللّيل تنقصهم دولة النّهار في الدّعوة إلى الله، وإقامة الحقّ، وتعبيد الناس لله، وأنصار الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) رجال اللّيل والنّهار، وآتاهم اللّه دولة اللّيل والنّهار.

سِمَةُ العبيدِ من الخُشُوعِ عَلَيْهِمُ

للهِ إنْ ضَمَّتْهُمُ الأسحارُ

فإذا تَرَجَّلَتِ الضُّحَى شَهِدَتْ لَهُمْ

بِيْضُ الْقَوَاضِبِ أنَّهُمْ أَحْرَارُ[1]

ولولا أنّهم رجال دولة اللّيل، لم يتمكّنوا من مواجهة طغاة الأرض بمفردهم، ولولا أنّهم رجال النّهار، لم يتمكّنوا من تطهير الأرض من لَوثة الشّرك، وإقامة التوحيد والعدل على

 

 


[1]  من ديوان السيّد حيدر الحلّيّ.

 

91


77

الانتظار الموجّه

وجه الأرض، ولو لم يكونوا من رجال النّهار، لم يحكّموا التوحيد والعدل في حياة الناس. ولو لم يكونوا من رجال اللّيل، لأخذهم الغرور، وشطّ بهم عن الصّراط المستقيم.

*مرحلتان أم جيلان

إذاً، نحن أمام جيلَين؛ أوّلهما جيل يشهد سقوط التجربة الاشتراكيّة الماركسيّة، والتجربة الديمقراطيّة الرأسماليّة وانهيارهما، ويوطّئ الأرض لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وهو «جيل الموطِّئين»، وثانيهما «جيل الأنصار». هل هما جيلان فقط، أم جيلان ومرحلتان من التاريخ؟ لست أعلم، ولكن من المُستبعد أن يتمّ هذا العمل العظيم في جيل واحد.

*واجبات مرحلة (الانتظار) ومسؤليّاتها

نحن الآن نعيش في مرحلة (الانتظار)، وقد تكون أطول مرحلة في تاريخ الإسلام، فما هي أهمّ واجباتنا ومسؤوليّاتنا؟ في ما يأتي عرض موجز لتلك الواجبات والمسؤوليّات:

- أوّلاً (الوعي)

والوعي على أنحاء:

أ- وعي التوحيد: وأنّ الكون كلّه من الله، وكلّ شيء مسخّر بأمره، وهو قادر على كلّ شيء، وكلّ شيء في السّماء والأرض جُندٌ مُسخّر له لا يملك من أمره شيئاً.

 

92


78

الانتظار الموجّه

ب- وعي وعد الله وسط الأجواء السياسيّة الضاغطة: وفي مرحلة الضعف والانحسار، وفي أجواء النكسة. وإنّ من أشقّ الأُمور في مثل هذه الأجواء الضاغطة، أن يتلقّى الإنسان بوعي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[1]، وقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[2]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[3]، وقوله تعالى: ﴿لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ ﴾[4]، وقوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾[5].

ج- وعي دور الإنسان المسلم على وجه الأرض: وهو القيمومة، والشهادة والإمامة للبشريّة، يقول تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيداۗ﴾[6].

د- وعي دور هذا الدين في حياة البشريّة: في إزالة الفتنة والعوائق من طريق الدعوة، يقول تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ﴾[7].

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 139.

[2]  سورة القصص، الآيتان 5 و6.

[3]  سورة الأنبياء، الآية 105.

[4]  سورة المجادلة، الآية 21.

[5]  سورة الحجّ، الآية 40.

[6]  سورة البقرة، الآية 143.

[7]  سورة البقرة، الآية 193.

 

93


79

الانتظار الموجّه

هـ - وعي السُّنن الإلهيّة للتاريخ والمجتمع: وضرورة الإعداد والتمهيد والحركة والعمل ضمن هذه السُّنن، واستحالة اختراقها. ولذلك يأمر الله تعالى المسلمين بالإعداد لهذه المعركة الفاصلة ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة﴾[1].

- ثانياً: (الأمل)

عندما يكون الأمل بوعد الله لعباده، وبحَوله وقوّته وسلطانه، فإنَّه لا ينفد، ولا يخيّب صاحبه. وبهذا الأمل، يشدّ الإنسان المسلم حبله بحبل الله، وحَوله بحول الله، ومَن يشدّ حبله بحبل الله، فلا نفاد لأمله وقوّته وسلطانه.

- ثالثاً: (المقاومة)

وهي نتيجة الأمل؛ إذ إنّ الغريق الذي ينظر إلى فريق الإنقاذ، يتقدّم إليه، ويغالب أمواج الماء، ويجد في عضلاته قوّة فوق العادة لمغالبتها.

- رابعاً: (الحركة)

وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وإعداد الأرض لظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه) وقيام دولته العالميّة، وإعداد جيل مؤمن يتولّى نُصرة الإمام(عجل الله تعالى فرجه)، والإعداد لظهوره وعياً، وإيماناً، وتنظيماً، وقوّة.

 

 


[1]  سورة الأنفال، الآية 60.

 

94


80

الانتظار الموجّه

- خامساً: الدعاء لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

لا شكّ في أنّ الدعاء مع العمل والحركة، وإلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من عوامل تقريب ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه). وقد وردت أدعية كثيرة في أمر ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وفي ثواب الانتظار، منها الدعاء الذي يردّده المؤمنون كثيراً، وهو: «اللّهمّ كن لوليّك الحجّة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كلِّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تُسكنه أرضك طوعاً، وتُمتعه فيها طويلاً».

*شكوى ودعاء

وفي دعاء الافتتاح، المنقول عن الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، تقرأ هذه الشكوى المرّة، وهذا الدعاء العذب: «اللّهمّ، إنّا نشكو إليك فَقْدَ نبيِّنا (صلواتك عليه وآله)، وغيبةَ وليِّنا، وكَثْرةَ عدوِّنا، وقلَّةَ عددِنا، وشدَّةَ الفتنِ بنا، وتظاهرَ الزمانِ علينا... اللّهمّ، إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ، تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذِلُّ بها النِّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة».

*الانتظار الموجّه

إذاً، الانتظار انتظاران: الانتظار الواعي والموجّه، والانتظار غير الموجّه. والثاني هو (الرصد) الساذج لعلامات الظهور: الصيحة، الخسف، ظهور السفيانيّ، الدجّال. ولست أنفي هذه

 

95

 


81

الانتظار الموجّه

العلامات، فقد وردت فيها روايات كثيرة في مجموعة روايات (الملاحم)، ولكنّني أُعارض أُسلوب (الرصد) في مسألة الانتظار، وأعتقد أنّ هذا الأُسلوب يحرِف الأُمّة عن واجباتها ومسؤوليّاتها في مرحلة الانتظار والأُسلوب الصحيح للانتظار.

أمّا الأوّل فهو (الانتظار الموجّه). وفي الانتظار الموجّه، يبرز العمل والحركة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله والجهاد. وهذا هو العلامة الكبرى لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، والعامل الأكبر لذلك؛ لأنّ الأمر يرتبط بسلسلة من السُّنن الإلهيّة الموضوعيّة في التاريخ والمجتمع، وهذه السُّنن لا تتحقّق إلّا بالعمل والحركة، والعلامات المذكورة في الروايات صحيحة على نحو الإجمال، ولكنّها في رأيي غير موقوتة بوقت خاصّ، وقد وردت روايات تصرِّح بتكذيب الوقّاتين.

يقول عبد الرّحمن بن كثير: «كُنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك، أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر متى هو؟ فقال: يا مهزم، كذب الوقّاتون، وهلك المستعجلون»[1]. ويسأل فضيل بن يسار الإمام الباقر (عليه السلام): ألِهذا الأمر وقت؟ فقال (عليه السلام): «كذب الوقّاتون»[2].

إذاً، هذه العلامات تعني التوقيت الدقيق لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، والصحيح أنّها مرتبطة بأعمالنا، فصحيح أنّ الخسف والصيحة

 

 


[1]  إلزام الناصب في إثبات إمامة الحجّة الغائب، اليزديّ الحائريّ، ج 1، ص 260.

[2]  (م.ن.).

 

96


82

الانتظار الموجّه

من علامات الظهور، ولكنّ عملنا هو الذي يقرّبهما ويبعّدهما، وهذا تصحيح وتوجيه ضروريّ لا بدّ منه لمفهوم الظهور؛ وهذا هو (الانتظار الموجّه).

*تصحيح مفهوم الانتظار

نحن اليوم نعيش في عصر يكثر فيه الحديث عن ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، ولست أعرف في عصور تاريخنا القريب والبعيد عصراً كان الحديث عن ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) ودولته يأخذ من اهتمام الناس هذا المأخذ القويّ. إذاً، الانتظار سمة بارزة من سمات عصرنا. ولكن -مع الأسف- لم يجرِ تصحيح وتوجيه على مستوى الجمهور لمسألة الانتظار، ويبحث شبابنا عن ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وعلاماته في بطون الكتب، وفي رأيي أنّه اتّجاه غير صحيح، والصحيح أن نبحث عن ظهور الإمام والثورة الكونيّة التي يقودها في واقع حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة.

إنّ علامات ظهور الإمام لا تستبطنها الكتب، بقدر ما نجدها في واقعنا السياسيّ والحضاريّ المعاصر، وفي وعينا ومقاومتنا، ووحدة كلمتنا، وانسجامنا السياسيّ، وتضحياتنا وقدراتنا الحركيّة والسياسيّة والإعلاميّة.

إنّ المنهج الذي يتّبعه بعض شبابنا في البحث عن علامات ظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه) في بطون الكتب منهج سلبيّ بالتأكيد، ويجب علينا تصحيح مفهوم الانتظار، وتوجيه حالة الانتظار بالاتجاه

 

97


83

الانتظار الموجّه

الإيجابّي. والفرق بين المفهومين يتمثَّل في أنَّ المفهوم الأوّل يجعل دور الإنسان في الانتظار، دوراً سلبيّاً، والمفهوم الثاني يجعل دور الإنسان في عمليّة ظهور الإمام دوراً إيجابيّاً وفاعلاً، ويربطها بحياتنا وواقعنا السياسيّ والحركيّ، ومعاناتنا وعذابنا.

روي عن معمر بن خلّاد عن أبي الحسن (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿الٓمٓ ١ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ﴾[1]، قال: «يُفتَنون كما يُفتَن الذهب. ثُمَّ قال: يُخلصون كما يُخلص الذهب»[2].

وعن منصور الصيقل قال: كنتُ أنا والحارث بن المغيرة وجماعة من أصحابنا جلوساً، وأبو عبد الله (عليه السلام) يسمع كلامنا، فقال لنا: «في أيّ شيء أنتم؟ هيهات، هيهات! لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تُغَربَلوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تُمَحَّصوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تُمَيَّزوا»[3].

وعن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يا منصور، إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد إياس. لا والله، حتّى تُميّزوا، ولا والله حتّى تُمحَّصوا، ولا والله حتّى يشقى مَن يشقى، ويسعد مَن يسعد»[4].

 

 


[1]  سورة العنكبوت، الآيتان 1 و2.

[2]  إلزام الناصب في إثبات إمامة الحجّة الغائب، اليزديّ الحائريّ، ج 1، ص 261.

[3]  الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 370.

[4]  (م.ن.).

 

98


84

الانتظار الموجّه

إذاً، يرتبط ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) بعملنا، وواقعنا، وابتلائنا، ومحنتنا، وسعادتنا وشقائنا، أكثر ممّا يرتبط بالعلامات الكونيّة المذكورة في الكتب. وهذا مفهوم يجب أن نعمّقه ونثبّته.

*مَن ينتظر الآخر نحن أم الإمام (عجل الله تعالى فرجه)؟

بناءً على هذا المفهوم ينقلب الأمر، ويكون الإمام (عجل الله تعالى فرجه) هو الذي ينتظر حركتنا ومقاومتنا وجهادنا، وليس الأمر بالعكس؛ فإنّ أمر ظهور الإمام إذا كان يتّصل بواقعنا السياسيّ والحركيّ، فإنّنا نحن الذين نصنع هذا الواقع. وبالتالي، فنحن نستطيع أن نوطّئ لظهور الإمام، بالعمل، والحركة، ووحدة الكلمة، والانسجام، والعطاء، والتضحية، والأمر بالمعروف، وبإمكاننا أن نؤخّر ذلك، بالتواكل والغياب عن ساحة العمل، والتهرّب من مواجهة المسؤوليّات.

*قيمة الانتظار

وهذا المفهوم الإيجابيّ والموجّه لـ (الانتظار) هو الذي يستحقّ هذه القيمة الكبيرة التي تعطيها النصوص الإسلاميّة له، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل أعمال أُمّتي انتظار الفرج»[1].

 

 


[1]  إلزام الناصب في إثبات إمامة الحجّة الغائب، اليزديّ الحائريّ، ج 1، ص 411.

 

99


85

الانتظار الموجّه

وروي عنه (صلى الله عليه وآله): «انتظار الفرج عبادة»[1]، وروي أيضاً: «المنتظِر لأمرنا كالمتشحِّط بدمه»[2]. وهذه القيمة الكبيرة الواردة في هذه الروايات، تناسب هذا التصوّر الإيجابيّ عن الانتظار، وأبعد شيء عن التصوّر السلبيّ للانتظار بمعنى (الرصد).

*علاقة (الحركة) بـ (الانتظار)

بين الحركة والانتظار علاقة متبادلة، وقد تحدّثنا عن علاقة الانتظار بـ (الحركة)، والآن نتحدّث عن علاقة الحركة بـ(الانتظار).

- العمل الحركيّ

العمل الحركيّ عمليّة هدم وبناء، ولذلك، فهو يقترن بالتحدّي والمقاومة والمعاناة والعذاب دائماً. ولو كانت الحركة بناءً فحسب من دون هدم، لم تكن لتتطلّب هذا الجهد والعناء؛ فإنّ الهدم يقع على كيان سياسيّ قائم، ولكلِّ كيان منتفعون ينتفعون به، ويدافعون عنه. والدعوة إلى التوحيد حركة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ولذلك، تقترن هذه الدعوة بـ(الجهاد والقتال) ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ﴾[3]، فلا يمكن أن تشقّ هذه

 

 


[1]  الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، ابن الصبّاغ المالكيّ، ج 2، ص 860.

[2]  كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 645.

[3]  سورة الأنفال، الآية 39.

 

100


86

الانتظار الموجّه

الدعوة طريقها إلى حياة الناس من دون إزالة الفتنة، وإزالة العقبات التي يضعها المنتفعون من الكيان السياسيّ للشرك. ولا يمكن إزالة الفتنة من طريق الدعوة إلّا بالقتال والجهاد؛ وذلك لأنّ التوحيد لا يستقرّ في فراغ سياسيّ واجتماعيّ، وإنّما يستقرّ في موضع الشّرك، ولا تقوم دعوة إلى الله إلّا على أنقاض الشّرك.

- ضريبة العمل الحركيّ

ولهذا السبب، فإنّ القيِّمين على الشّرك وقادته، يبذلون كلّ ما في وسعهم لإعاقة حركة التوحيد، وإثارة الفتن، وزرع الألغام والعقبات في طريق الدعاة إلى الله. والدعوة إلى التوحيد تتطلّب إزالة هذه الفتن جميعها، ومواجهة جميع هذه المعوّقات، وتحدّي كيان الشّرك.

وهذان الأمران -التحدّي والمواجهة- يكلّفان الدعاة إلى الله تعالى كثيراً في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويتطلّبان منهم جُهداً كبيراً، ما يحمّلهم خسائر واسعة.

- التكليف بالحركة

لهذه الأسباب، يعطي القرآن اهتماماً كبيراً وأكيداً للتكليف بالحركة، ولولا هذه المشقّة والمعاناة في حركة التوحيد لم يكن وجه لهذا التأكيد كلِّه. يقول تعالى: ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ﴾[1]، 

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 238.

 

101


87

الانتظار الموجّه

﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾[1]، ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ﴾[2]، و﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ﴾[3]، و﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ﴾[4]، و﴿جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾[5]، ﴿وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾[6]، و﴿ٱنفِرُواْ خِفَافا وَثِقَالا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ﴾[7]، ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾[8]، ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾[9]، ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَة﴾[10].

وهذه جميعها تعليمات حركيّة باتجاه تغيير الواقع، وإحلال التوحيد محل الشّرك، وإزالة الفتن والعوائق من طريق الدعوة.

- ضعف الإنسان

يضعف الإنسان عن القيام بمثل هذه المسؤوليّة الصعبة، ولا يجد في نفسه القدرة على مواجهة جميع هذه العقبات والعوائق؛ فإنّ المعركة بين جبهتي التوحيد والشّرك ضارية وشرسة، فيجد الإنسان في نفسه ضعفاً من مواجهة هذه الجبهة وحده، أو مع قلّة من المؤمنين، ويستجيب لهذا

 

 


[1]  سورة لقمان، الآية 17.

[2]  سورة هود، الآية 112.

[3]  سورة النحل، الآية 125.

[4]  سورة العلق، الآية 1.

[5]  سورة التوبة، الآية 73.

[6]  سورة البقرة، الآية 218.

[7]  سورة التوبة، الآية 41.

[8]  سورة البقرة، الآية 191.

[9]  سورة البقرة، الآية 190.

[10]  سورة الأنفال، الآية 39.

 

102


88

الانتظار الموجّه

الضعف، وينسحب عن المواجهة، إلّا أن يعصمه الله تعالى. والاستجابة لعوامل الضعف في نفس الإنسان، هي أوّل العوائق التي يواجهها العاملون في سبيل الله، ويبرز هذا الضعف على شكل الخوف والجبن من الطاغوت وأعوانه، أو التعب من مواصلة الطريقة، أو اليأس من جدوى الاستمرار، أو حبّ العافية وإيثار الراحة، أو ذلك كلّه.

والذين تساقطوا على الطريق كثيرون، ممّن لم يتمكّنوا من إكمال المسيرة.

- كيف نُحصّن أنفسنا من السقوط؟

لا بدّ من أن نبحث عن العوامل والأسباب التي تحصّننا في هذه المسيرة من السقوط، وتعصمنا من الشَّيطان، ومن ضعف أنفسنا. ووسائل التحصُّن والعصمة في حياة العاملين كثيرة. وأهمّها أربعة يذكرها القرآن:

1. الاستعانة بالصّبر والصّلاة.

2. الولاء.

3. الميراث.

4. الانتظار.

 

103


89

الانتظار الموجّه

وفي ما يلي توضيح موجز لهذه الوسائل الأربع:

1. الاستعانة بالصَّبر والصَّلاة:

يقول تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ﴾[1]، ويقول أيضاً: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ﴾[2].

وفي سورة هود، يشدّ الله على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله) في وسط المعركة الضارية التي كان يخوضها مع أئمّة الشّرك في الجزيرة، فيقصّ له قصّة مسيرة التوحيد الطويلة، ثُمَّ يقول تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) بعد استعراض هذه المسيرة الطويلة: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِير ١١٢ وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ١١٣ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ ١١٤ وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[3].

والصَّبر هو الثبات لسُنن الله تعالى، فتجري المعارك بموجب سُنن الله. والذي يريد أن يربح المعركة لا بدّ من أن يعرف هذه السُّنن، ويثبت لها، ويقابلها بما يكافئها، ويقابلها في سنن الله. وإعداد القوّة المكافئة لقوّة العدوّ في ساحة المعركة، أو في الساحة السياسيّة، أو الإعلام... من الصَّبر.

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 45.

[2]  سورة البقرة، الآية 153.

[3]  سورة هود، الآيات 112 - 115.

 

104


90

الانتظار الموجّه

إنّ الصَّبر ليس بمعنى أن يتحمّل الإنسان العدوّ، بل بمعنى أن يقاوم ويثبت للعدوّ، ولا ينهار، ولا ينسحب من مواجهته، حتّى يتمكّن من ردعه ودفعه بقوّة مكافئة لقوّته، وهو المعنى الإيجابيّ للصَّبر.

والصَّلاة تُمثّل الارتباط بالله وذكره، والإنسان المسلم في وسط المعركة لا بدّ من أن يستعين بالله، ويذكره ذكراً كثيراً، ويستمدّ القوّة والعزم من الله، ويشدّ حبله بحبل الله، فإذا وَصَل الإنسان حبله بحبل الله تعالى في ساحة المعركة، فإنّه لا يخاف، ولا يجبن، ولا يضعف؛ وهذا هو معنى الصَّبر والصَّلاة.

2. الولاء

إنّ المسلمين نسيج واحد، بعضهم من بعض، تربط بعضهم ببعض علاقة عضويّة متينة هي علاقة الولاء. وهذا الولاء هو الولاء على الخطّ الأُفقي في مقابل الولاء لله تعالى ورسوله وأولياء الأُمور، وهو الولاء على الخطّ العموديّ في نسيج المجتمع الإسلاميّ. وإلى هذه العلاقة العضويّة التي تشدُّ الأُمّة المسلمة بعضها ببعض، وتكوِّن منها كتلة مترابطة واحدة، تشير الآية الكريمة: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضۚ﴾[1]. وهذا الولاء يتضمّن التحابب، والتناصر والتضامن، والتكافل، والتعاون، والتسالم والتناصح.

 

 


[1]  سورة التوبة، الآية 71.

 

105


91

الانتظار الموجّه

والأُمّة التي يرتبط بعضها ببعض بهذه الوشائج القويّة، هي أُمّةٌ متماسكةٌ في ساحة المعركة، ولأمرٍ ما يجعل الله تعالى أساس العلاقة بين أطراف هذه الأُمّة وأعضائها، هو الولاء الذي يعدّ أمتن علاقة في الأُسرة الواحدة.

ولمّا كانت مهمّة هذه الأُمّة الأُولى هي المواجهة والتحدّي في ساحة الصراع، فلا بدّ من أن تتمتّع ببناء داخليّ قويّ، ونسيج محكم ومتين، لتستطيع أن تقاوم ضراوة المعركة الحاسمة التي تدخلها هذه الأُمّة. ومن دون هذا الولاء المتين الذي يشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض، لا تستطيع هذه الأُمّة أن تقاوم جبهة الكفر والنفاق في هذه المعركة المصيريّة. وهذه الأُمّة مجتمعة تعتصم بحبل الله، وهي كتلة واحدة، ومجموعة واحدة، وأُسرة واحدة، في مواجهة أئمّة الكفر، ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾[1].

وفي هذه الآية، يأمر الله تعالى المسلمين بالاعتصام أوّلاً بحبل الله في ساحة المعركة، وأن يكون هذا الاعتصام من قبل الجميع ﴿جَمِيعا﴾. وإنّ الصراع يتطلّب من الطرفين المتصارعين أن يستحضر كلٌّ منهما قوّته. وقوّة هذه الأُمّة في أمرين: في اعتصامها بالله، وفي اجتماعها ووحدة كلمتها في هذا الاعتصام.

3. الميراث

من الضروريّ أن يستحضر أعضاء هذه الأُسرة، في ساحة

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 103.

 

106


92

الانتظار الموجّه

المعركة، عراقة هذه الأُسرة في التاريخ، وجذورها التاريخيّة؛ فإنّ معرفة هذه العراقة والعمق التاريخيّ لهذه الأُسرة، واستحضارها في ساحة المواجهة، تمنحان الدعاة والعاملين في سبيل الله، في ساعة المواجهة، قوّةً وصلابةً ومتانةً واستحكاماً أكثر، فليست هذه الحركة الكبيرة في التاريخ حركة مبتورة الجذور، وإنّما هي تضرب في أعماق التاريخ من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وإلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وحركة تملك هذا العمق والعراقة، وتثبت لمؤامرات المشركين وكيدهم ومكرهم طوال عشرات القرون، حَرِيّة بأن تثبت جدارتها وكفاءتها في هذه المعركة. إنّ أُسرة التوحيد شجرة طيّبة على وجه الأرض، أصلها ثابت وفرعها في السّماء. ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا كَلِمَة طَيِّبَة كَشَجَرَة طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِت وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾[1].

والشّرك كذلك أُسرة، إلّا أنّها أُسرة مبتورة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وإنّه لَمن الضروريّ لأعضاء هذه الأُسرة الداعية إلى الله، أن تستحضر جذورها وعمقها وعراقتها في التاريخ، وصلتها بالصدِّيقين، والصَّالحين، والراكعين، والساجدين، والذاكرين الله والدعاة له.

ولأمر ما نحيِّي الحسين (عليه السلام)، ونسلّم عليه بهذا الميراث الضخم الذي يرثه من آبائه (عليهم السلام)، من آدم إلى نوح إلى إبراهيم

 

 


[1]  سورة إبراهيم، الآيتان 24-25.

 

107


93

الانتظار الموجّه

إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنقول: «اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نَبِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ الله».

إنّه لَمن الضروريّ، في ساحة المعركة، أن يستحضر الإنسان هذا العمق وهذه العراقة، فإنّها تعصمه، وتحصّنه، وتدعمه في وسط هذه المعركة الضارية.

4. الانتظار والأمل

يعدّ الانتظار رابع العوامل التي تمدّ الإنسان بالحركة، فإنّه الانتظار الذي يبعث الأمل في نفسه، والأمل يمنحه القدرة على المقاومة والحركة. إنّ الغريق الذي ينتظر وصول فريق الإنقاذ، يقاوم أضعاف ما يقاوم الغريق الذي يفقد الأمل من الإنقاذ.

إنّ الإيمان بـ(وراثة الصَّالحين) للأرض، و(إمامة المُستضعفين المؤمنين)، وأنّ (العاقبة للمُتّقين)؛ يمنح الصَّالحين والمُتّقين ثقة وقوّة، ويثبّت أقدامهم على أرض المعركة، ويمنحهم قدرة على مواجهة الصعاب، وتحدّي الجبابرة والمُستكبرين، في أشقّ الظروف وأقساها، ويحول بينهم وبين الانهيار والهزيمة النفسيّة في ظروف المحنة الصعبة.

ولأمرٍ ما، يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة ﴿وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾[1]، ويقرّر وراثة الصَّالحين للأرض، ويؤكّدها كما

 

 


[1]  سورة الأعراف، الآية 128.

 

108


94

الانتظار الموجّه

قرّرها الله تعالى من قبل في «الزبور»؛ ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[1].

ولأهميّة هذه الحقيقة، وضرورة تأكيدها وتعميقها في نفوس المؤمنين، وبناء العقليّة الإسلاميّة عليها، يقرّرها الله تعالى في «الذكر» و«الزبور» معاً. ويقرّر الله تعالى إمامة المستضعفين في الأرض، وقيمومتهم على مسيرة الحضارة الإنسانيّة. وهذا إقرار من الله تعالى وإرادة حتميّة منه سبحانه، إذا استجاب المستضعفون لما يأمرهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان والعمل الصالح، يقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[2].

وهاتان الآيتان وإن كانتا واردتين في قصّة أمر موسى (عليه السلام) وفرعون وهامان، فإنّ الإرادة الإلهيّة لإمامة المُستضعفين المحرومين مُطلقة وغير مقيّدة بشيء، إلّا الاستجابة لما يدعو الله تعالى إليه المؤمنين من الإيمان والعمل الصالح. وهذا الوعد الإلهيّ بإمامة المستضعفين في الأرض، يمنح المؤمنين المستضعفين قوّة، وثقة، وطمأنينة، ومقاومةً، وصبراً على تحمّل متاعب الساحة والصراع، وثباتاً على الأذى، ويثبّت أقدامهم على أرض المعركة، شأنه في ذلك شأن أيّ انتظار حقيقي للإنقاذ، يبعث الأمل في نفوس المقاتلين في ساحات

 

 


[1]  سورة الأنبياء، الآية 105.

[2]  سورة القصص، الآيتان 5 و6.

 

109


95

الانتظار الموجّه

القتال. وفي وسط المعركة، في مواجهة فرعون وهامان، يثبّت رسولُ الله موسى بن عمران(عليه السلام) قومه من بني إسرائيل، بوعد الله وانتظار الفرج، وانتظار المدد من الله تعالى.

تأمّلوا في هذه الآيات المباركات من سورة الأعراف: ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ١٢٨ قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾[1]؛ فيحاول نبيّ الله موسى بن عمران (عليه السلام) أن يُشعر بني إسرائيل في ساحة المعركة، وفي ساعة المواجهة بالأمل بالله تعالى، ووعد الله، وانتظار الفرج، ويقرّر لهم هذا القرار الإلهيّ العظيم.

ومن العجب أن ربط موسى بن عمران (عليه السلام) بين (الصَّبر) و(الانتظار) لوعد الله ﴿وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ﴾، ويحاول بنو إسرائيل أن يعيدوا نبيّهم (عليه السلام) من انتظار المستقبل إلى مرارة الحاضر، فيقولون له: ﴿أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ﴾، فيعود موسى بن عمران(عليه السلام)إليهم مرّة ثانية، ليعيدهم بالنَّبرة نفسها المطمئنة إلى انتظار وعد الله والصَّبر على الأذى حتّى يأذن الله بالفرج، وهو قريب: ﴿قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾.

 

 


[1]  سورة الأعراف، الآيتان 128 و129.

 

110


96

الانتظار الموجّه

إذاً، فإنّ الله تعالى يريد لهذه الأُمّة أن يثقّفها على (الوراثة) و(الانتظار)، وراثة الأنبياء والصَّالحين، وانتظار وعد الله تعالى بالفرج وإمامة الصَّالحين. وحركة التوحيد يحفّها من جانب قانون (الوراثة)، ومن جانب آخر قانون (الانتظار). والوراثة والانتظار هما أهمّ أعمدة حركة التوحيد في مسيرها الطويل الشاقّ. وعلينا أن نُثقّف أنفسنا بهذه الثقافة القرآنيّة المزدوجة (الوراثة) و(الانتظار).

 

111


97

العدل الشامل

يقول الله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[1].

*الهدف من بعث الأنبياء (عليهم السلام)

إنّما بعث الله تعالى الأنبياء إلى البشر لأجل هدفَين أساسيَّين:

أحدهما: تحقيق العلاقة الصحيحة بين العبد وخالقه، وبين العبد وربّه. وبعبارة أخرى، منع البشر من عبادة غير الله. ويتلخّص ذلك في الكلمة الطيّبة «لا إله إلّا الله».

الهدف الثاني: تحقيق الروابط الحسنة والسليمة بين البشر، بعضهم مع بعضهم الآخر، على أساس العدالة، والصلح، والصفاء، والتعاون، والإحسان، والمحبّة، وخدمة كلّ منهم للآخر.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذين الهدفين للأنبياء كمال التصريح. فبالنسبة إلى الهدف الأوّل، قال عن خاتم

 

 


[1]  سورة النور، الآية 55.

 

115


98

العدل الشامل

الأنبياء (صلى الله عليه وآله): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجا مُّنِيرا﴾[1]، ويقول عن الهدف الثاني: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾[2]. فانظروا إلى صراحته في بيان ما اهتمّ به الأنبياء، بل ما أُمروا به، وأُرسلوا به؛ أي إقرار العدل بين البشر. فهو تعالى يقول في هذه الآية الأخيرة، أرسلنا رسائل بالدلائل، وأنزلنا الكتاب والدستور مع الميزان؛ أي القوانين والتشريعات العادلة، من أجل ماذا؟ ﴿لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾، وليتعاملوا بالعدالة، وتُقرّ بينهم. وبناءً على هذا، فمسألة إقرار العدالة -حتّى في المقياس البشريّ- هدف أصليّ وعامّ لكلّ الأنبياء؛ فالأنبياء الذين بعثهم الله، لديهم وظيفة ورسالة هي العدالة بنصّ القرآن المجيد.

*العدالة مطلب واقعيّ

أمر آخر يجب ذكره هنا، وهو: هل العدل العامّ الشامل -لا العدل النسبيّ والفرديّ والشخصيّ- بمعنى أن يأتي يوم في هذه الدنيا لا أثر فيه لهذا الظلم، والتفرقة، والحروب، والنفور، والأحقاد، وسفك الدماء، والاستغلال، ولوازم هذه الأمور من أكاذيب ونفاق وخداع. وبالجملة أن لا يكون بين البشر أثر لهذه المفاسد، هل سيكون للناس مثل هذا اليوم؟ هل سيكون للبشر في مستقبلهم مثل هذا الأمر،

 

 


[1]  سورة الأحزاب، الآيتان 45 و46.

[2]  سورة الحديد، الآية 25.

 

116


99

العدل الشامل

أم لا؟ أم أنّ ذلك ليس إلّا مجرّد خيال وأمل لن يحدث في أيّ وقت من الأوقات؟ وهل يمكن لشخص ذي ذوق دينيّ مذهبيّ -طبعاً هذا المعنى يصدق في غير الشيعة- أن يقول: لست منكراً للعدالة الشاملة، ولست من دعاة أن تبنى الدنيا على أساس الظلم، إلّا أنّني أعتقد أنّ هذه الدنيا دنيّة وحقيرة، مظلمة حالكة، بحيث لا مجال لأن يكون في الدنيا عدل عامّ، وعدالة واقعيّة، وصلح وصفاء واقعيّين، وإنسانيّة واقعيّة، ولن يأتي يوم يكون فيه الأفراد -واقعاً- يعيشون مع بعضهم بعضاً بإنسانيّة؛ فالدنيا دار الظلم والظلمات، والظلم كلّه سيعوّض عنه في الآخرة، والعدالة محلّها الآخرة. هذه الفكرة موجودة عند غير المسلمين من الأديان الأخرى. ومن المميّزات المهمّة للمعتقدات الإسلاميّة، وبالأخصّ في نظرة الشيعة للإسلام، هو عدم التشاؤم؛ فزمن الظلم والجَور، والحرب والصراع، والاختلاف، والفساد الأخلاقيّ، والظلمة والسواد، زمنٌ مؤقّت، والعاقبة نور وعدالة.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل مستقبل البشريّة في هذه الدنيا، التي هي زينة ومتاع، سيشهد أفول الظلم وظهور العدالة؟

والجواب: إنّ المتأمّل في آيات القرآن الكريم، يرى أنّ القرآن يؤيّد، بل يؤكّد على ذلك المعنى، ويرى فيها تفاؤلاً بمستقبل الدنيا. والآيات كثيرة في هذا المجال، منها قوله تعالى الذي صدّرنا به الكلام:

 

 

117

 


100

العدل الشامل

﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔاۚ﴾.

*والعاقبة للمتّقين

يرى أهل الإيمان، والذين يعملون الصالحات، أنّ عاقبة الدنيا تحت أيديهم، والذي سيحكم في نهاية الأمر هذه الدنيا الدين الإلهيّ وكلمة «لا إله إلّا الله»، وسيفنى المادّيّون وطلّاب المادّة ومحبّو النفس. عاقبة الدنيا أمن ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ﴾، وآخر الدنيا توحيد بمراتبه كلّها.

ومن هنا، نستفيد من القرآن المجيد مطلبَين:

أحدهما: أنّ الهدف الأساسيّ لبعثة الأنبياء أمران: التوحيد وإقرار العدالة. والأوّل مرتبط بعلاقة الإنسان مع الله، والثاني مرتبط بعلاقة الناس بعضهم ببعض.

الثاني: أنّ مسألة العدالة ليست مجرّد أمل وخيال، بل هي أمر واقعيّ تتحرّك الدنيا باتّجاهه؛ أي أنّها سنّة إلهيّة، والله قضى أنّ العدالة ستحكم هذه الدنيا في النهاية، وسيحكم البشر قروناً -ولا ندري مقدارها، ولعلّه مئات أو ملايين السنين- بالرشد والإنسانيّة الواقعيّة، حيث لا وجود لأيّ من هذه المظالم والكدورات.

إذاً، عندما يدّعي الإسلام أنّ العدل الشامل سيتحقّق، فعلى أيّ أساس يستند في دعواه؟ ومن هنا، سنفصّل في ثلاثة موضوعات:

 

 

118

 


101

العدل الشامل

أحدهما: ما هي العدالة؟

ثانيها: هل في الخلقة والفطرة البشريّتين ميلٌ لوجود العدالة، أم أنّ الفطرة البشريّة خالية من هذا الميل أساساً؟ وفي أيّ وقت تعطى العدالة للبشر؟ وهل ستعطى بالإكراه والإجبار، لأنّه من المحال أن تلجأ البشريّة إلى العدالة بميلها ورضاها؟

ثالثها: هل أنّ العدالة أمر عمليّ أم لا؟ وإن كانت عمليّة، فكيف تصير كذلك؟

*تعريف العدالة

يعرِف الناس الظلم بنحوٍ أو بآخر، والعدالة هي ضدّ الظلم والتمييز بلا حقّ. وبعبارة أخرى، إنّ أفراد البشر في هذه الدنيا، بمقدار ما عندهم من استعدادات وفعاليّات وحسب فطرتهم، يمتلكون جملة من الاستحقاقات. والعدالة عبارة عن إعطاء هذا الاستحقاق، وهذا الحقّ الثابت لكلّ فرد بموجب خلقته، وبموجب عمله وقدرته. فهي في الجهة المقابلة للظلم، الذي يعني عدم إعطاء ذي الحقّ حقّه وسلبه منه. وفي الجهة المقابلة للتمييز الذي يحصل بين شخصين متكافئين، إذ يُضيَّق على موهبة أحدهما من دون الآخر.

وفي الوقت نفسه، كان في القديم رجال بين البشر من فلاسفة اليونان القدامى حتّى العصور الأوروبيّة ينكرون الوجود الواقعيّ للعدالة، فلا معنى للعدالة عندهم أصلاً. وهي عندهم تساوي الإكراه، وهي ذلك الشيء الذي يحكم به القانون الموجود. والقانون الموجود هو ذلك الفرض على

 

119


102

العدل الشامل

البشر؛ فالعدالة -إذاً- تعينها القوّة. وهذا الكلام غير صحيح، إذ للعدالة واقعيّة، لأنّ للحقّ واقعيّة، فمن أين هذه الواقعيّة للحقّ؟ يثبت الحقّ بالخلقة، ولأنّ الخلقة واقعيّة، وكلّ موجود بفطرته له قابليّة واستحقاق، والإنسان بقدرته ونشاطه يملك حقوقاً، والعدالة التي هي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، يتحقّق معناها. وتلك الكلمات كلمات خياليّة.

*هل طلب العدالة أمر فطريّ؟

بمعنى آخر: هل في فطرة البشر حبٌّ للعدالة أم لا؟

البشر يطلبون أشياء بحكم طبعهم وفطرتهم، ودليلهم على إرادة تلك الأمور ليس إلّا البناء البدنيّ والروحيّ لهم. مثلاً: أنتم عندما ترون شيئاً جميلاً؛ تسرّون به، وتستأنسون، لماذا؟ ومَن الذي أجبركم على أن تكونوا مسرورين؟ لم يُجبر أحد، فلأنّه جميل سُررتم به. ففي خلقة كلّ إنسان يوجد مثل هذه القوّة، بأن يتحسّس الجمال، وهذا لا يحتاج إلى قانون يوضَع، أو يفرَض بالقوّة على الإنسان. هذا في فطرة الإنسان، وأمثال هذه الأمور يقال لها أمور فطريّة. حبّ العلم، وأمور كثيرة أخرى هي فطريّة. فهل الميل إلى العدالة وحبّ عدالة الآخرين، ولو لم يحصِّل المرء أيّ منفعة، وبعبارة أخرى، هل الميل إلى عدالة البشر وعدالة المجتمع، بغضّ النظر عن أيّ منفعة للإنسان في العدالة، هو من جملة ما يطلبه البشر، ومقتضى الفطرة البشريّة، أم لا؟

 

120

 

 


103

العدل الشامل

- رأي نيتشه وماكيافيلي

يعتقد أكثر فلاسفة أوروبا بعدم وجود مثل هذه القوّة أساساً في الفطرة البشريّة، وأنّ العدالة اختراع الشعوب الفقيرة، فعندما يواجه هؤلاء الفقراء الضعاف الأقوياء، وحيث لا يملكون القوّة لمواجهتهم، اخترعوا كلمة العدالة واستحسنوها، وألزموا الإنسان أن يكون عادلاً!

هذه كلمات جوفاء، والدليل على ذلك أنّ هؤلاء المؤيّدين للعدالة لو ملكوا القوّة، فإنّهم سيقومون بما قام به الأقوياء الذين سبقوهم. يقول الفيلسوف الألماني المعروف نيتشه: «كثيراً ما حدثت أمور أضحكتني، عندما كنت أرى الضعفاء يتحدّثون عن العدالة وطلبها، أتأمّل فيهم، فأرى أنّ هؤلاء يتحدّثون عن العدالة؛ لأنّهم لا يملكون القبضة، فأقول لبعضهم: أيّها المسكين، لو كنت تملك القبضة لم تكن لتنطق بهذه الكلمات على الإطلاق».

وهؤلاء الذين لا يعتقدون أنّ العدالة من الأمور الفطريّة على فرقتَين:

إحداهما تقول: لا ينبغي التوجّه إلى العدالة والسعي نحوها، حتّى بعنوان أنّها أمل، وعلى الناس أن يتحرّكوا باتجاه القوّة والقدرة. العدالة كلام فارغ لا تتأمّلوا به، ولا تسعوا نحوه أصلاً. وليكن سعيكم نحو القوّة فحسب، فماذا تعني لك العدالة؟ تحرّك نحو القوّة.

 

 

121


104

العدل الشامل

- رأي برتراند راسل

في مقابل الرأي الأوّل، ثمّة من يقول: يجب السعي نحو العدالة، لكن لا على أساس أنّها مطلوبنا، بل على أساس أنّ مصلحة الفرد في عدالة المجموع. وهذا هو رأي برتراند راسل، وهو -مع هذا الرأي- يدّعي أنّه محبّ للإنسان أيضاً، حيث إنّ فلسفته تقتضي ذلك، فليس له إلّا أن يقول ذلك. يقول راسل: الإنسان بحسب طبعه الذي وجد عليه، يطلب مصلحته، وهذا هو الكلام، ولا كلام غيره، فكيف يسعى لتحقيق العدالة؟ أتقول للبشر: يا أيّها البشر، اطلبوا العدالة؟! وهذا لا محيص معه من القوّة، إذ طلب العدالة ليس أمراً فطريّاً. وكيف يمكننا أن نطلب من الناس بالقوّة طلب العدالة؟ هنا طريق آخر، وهو أنّ نقوّي العقل والعلم والمعرفة عند البشر، حتّى نصل إلى مرحلة نقول للبشر: بشرٌ. صحيح أنّ الأصالة للمنفعة، وأنت لا تريد إلّا منفعتك الشخصيّة، لكنّ المنفعة الشخصيّة إنّما تنال في العدالة الاجتماعيّة التي لولاها لا يمكن تأمين منفعة الفرد.

صحيح أنّك -بحكم طبعك- تريد الاعتداء على جارك، إلّا أنّك إذا اعتديت عليه سيعتدي عليك. فبينما أنت تريد تحصيل منفعة أكثر فإذا بك تنال منفعة أقلّ. إذاً فكّر في تلك ووازن الأمور، تفهم أنّ مصلحتك الفرديّة أيضاً في العدالة. فهؤلاء يعتقدون بالعدالة، إلّا أنّ طريق تحصيلها هو تقوية الفكر والعلم والمعرفة؛ أي أن يدرك البشر أنّ المنفعة الفرديّة تتحقّق في العدالة الاجتماعيّة.

 

122


105

العدل الشامل

- نقد هذه النظريّة

من الواضح، أنّ هذه النظريّة غير عمليّة؛ لأنّها تصدق في حقّ أفراد لا قوّة لديهم. فالرجل الضعيف عندما يخاف من جيرانه، ويرى أنّ قوّته بحجم قوّة جيرانه سيكون عادلاً معهم، خوفاً من قوّتهم، لكن في الساعة التي يمتلك فيها القوّة، ولا يكون لديه أيّ خوف من جيرانه، وعلى يقين تامّ من أنّه إن ضرب جاره فليس من قوّة تقف في وجهه، فكيف سيكون عادلاً حينذاك؟ وكيف يمكن لعلمه أن يصيّره عادلاً؟ لأنّك تقول: إنّ البشر يطلبون منفعتهم، والعلم يقول: كن عادلاً لأجل منفعتك، وهذا إنّما يكون عندما أرى قوّة تواجهني، أمّا عندما لا تكون أيّ قوة تواجهني، فكيف أكون عادلاً؟ لذا، فإنّ فلسفة راسل - خلافاً لجميع الشعارات عن حبّه للإنسان- تعطي الحقّ للأقوياء وذوي القوّة العليا أن يظلموا الضعفاء الذين لا خشية منهم.

- رأي الماركسيّة

ترى الماركسيّة -التي يمكن عدّها من الفرقة الثانية- أنّ العدالة أمر واقعيّ، لكن ليس عن طريق الإنسان، إذ لا يمكنه أن يقيم العدالة، وليست هي من عمله، فلا مجال لأن يُربّى الإنسان حتّى يطلب العدالة واقعاً بقلبه وروحه، ولا أن يحصّلها عن طريق تنمية العلم والعقل البشريّين. العدالة إنّما تطلب من الآلة (الإله)، ومن الوسائل الاقتصاديّة. بعبارة أوضح، لا يجوز أن

 

123


106

العدل الشامل

تطلبها، ولا يمكنك السعي نحوها، وإذا اعتقدت أنّك تصير طالب عدالة فهذا خطأ، أنت أصلاً لست طالباً لها، وإذا اعتقدت أنّ عقلك سيهديك يوماً إلى العدالة، فهذا خطأ أيضاً. لكنّ الآلة تأخذ البشريّة شيئاً فشيئاً نحو العدالة، مع التحوّلات التي تطرأ على الوسائل الاقتصاديّة والإنتاجية، ضمن معايير وضعوها لأنفسهم، وكثير منها خاطئة لم يتدبّروها تصل إلى الرأسماليّة، ثمّ شيئاً فشيئاً إلى الاشتراكيّة، حيث تفرض العدالة والمساواة قهراً بحكم الآلة. شئت أم أبيت، فلست الذي سيحقّق العدالة؛ كي تأتي وتفكّر: هل عقلي يدعوني إلى العدالة؟ وهل تربيتي تشدّني إلى العدالة؟ فهؤلاء يقولون: هذا الكلام خاطئ.

- رأي الإسلام

وهو الرأي الثالث في هذه المسألة، ومفاده: إنّ الأفكار المتقدّمة كلّها نوع من سوء النظر إلى الطبيعة والفطرة البشريّة، وإن كنتَ ترى البشريّة اليوم تهرب من العدالة؛ فذلك لأنّها لم تصل إلى مرحلة الكمال. فالعدالة فطريّة، وإذا تربّى البشريّ جيّداً في ظلّ رجلٍ مربٍّ كامل، سيصل البشر جميعاً إلى حيث يطلبون من العدالة واقعاً، ويرجّحون العدالة الاجتماعيّة على المنفعة الفرديّة. فكما أنّ البشريّة تحبّ الجمال، فكذلك هي محبّة للعدالة؛ لأنّ العدالة من مقولة الجمال المعقول لا الجمال المحسوس. ثمّ يأتون[1] بدليل فيقولون: في عقيدتنا،

 

 


[1]  أي أصحاب الرأي الإسلاميّ. (المترجم)

 

124


107

العدل الشامل

التي هي عقيدة دينيّة، لدينا دليل على المطلب، هو: أنّكم تقولون: إنّ البشريّة لا تطلب العدالة بحسب فطرتها، والعدالة تفرض عليهم فرضاً، أو تقولون: عليك أن تحكم بعقلك؛ لكي تدرك أنّ منفعتها في ذلك، أو تقولون: إنّ (تكامل) وسائل الإنتاج (تحقّقها شيئاً فشيئاً). لكن لدينا موارد نرشدكم إليها، حيث نجد أفراداً عادلين وطلّاب عدالة، مع أنّ منافعهم لا توجب ذلك، وكانت العدالة فكرتهم وهدفهم وأملهم على خلاف منافعهم الفرديّة، بل كانوا يحبّونها كمحبوب، ويضحّون بأنفسهم في سبيل تحقيقها. وهؤلاء نماذج كُمَّل من البشر في العصور الماضية، وهذه النماذج دلّت على أنّ البشر يمكنهم أن يسلكوا درب العدالة حتّى يصلوا إلى رتبتها، وعلى الأقلّ، يمكن للبشر أن يصيروا نموذجها الصغير.

ويبرز الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من تلك النماذج التي تبطل تلك الفلسفات كلّها. عليٌّ (عليه السلام) ويدُ عليّ الربانيّة، وجماعة كثيرة من أفراد البشر وُجدوا في العصور كلّها. ونحن عندما نذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) مثالاً، قد يظنّ بعضهم أنّ عليّاً (عليه السلام) فرد واحد. لا، ليس الأمر كذلك، فالآن يوجد بين المؤمنين الواقعيّين الكثير ممّن عندهم حبّ للعدالة واقعاً، وفطرتهم مرتبطة بالعدالة، وكذلك سيكون البشر في العصور الآتية.

يتخيّل الكثير من البشر أنّ مسألة ظهور الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) أمر ملازم لانحطاط الدنيا وتقهقرها، والقضيّة عكس ذلك، فإنّ الشواهد

 

125

 

 


108

العدل الشامل

والأدلّة كلّها التي وصلتنا من الدين، تدلّ على أنّها مساوية للرقيّ الفكريّ والأخلاقيّ والعلميّ البشريّ. وهذا الدين، الذي ذكر لنا موضوع ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه) والعدل التامّ، قد ذكر لنا هذه الأمور أيضاً. ففي حديث في «أصول الكافي» أنّه عندما يظهر الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، فإنّ الله تعالى يبسط يده فوق البشر، فيرقى عقل أفراد البشريّة، ويزداد فكرهم وعلمهم. عندما يظهر وجوده المقدّس فلا وجود بعدُ للذئب والغنم في الدنيا، حتّى إنّ الذئاب تعيش مع بعضها بعضاً بسلام وصفاء. أيّ ذئاب؟ هل هي تلك الذئاب التي تعيش في الصحاري، أم الذئاب البشريّة؟ أي أنّ الذئب يتخلّى عن طبيعته الذئبيّة، ونُنتَزع منه؟

ثمّة قرائن كثيرة عن وضع زمان الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، سنذكر بعضها، ولكن لا بدّ من ذكر مسألة مهمّة قبلها، وهي: مسألة عمر الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)

*مسألة عمر الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)

كثير من الناس عندما يطرحون موضوع الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) يسألون: هل يمكن لبشر أن يعيش 1200 سنة؟ هذا خلاف قانون الطبيعة. هؤلاء يتخيّلون أنّ جميع الأمور التي حدثت في هذه الدنيا، متلائمة تمام الملاءمة مع قوانين الطبيعة العاديّة التي يعرفها العلم اليوم. أصلاً، التحوّلات الكبرى كلّها في تاريخ حياة عموم الموجودات الحيّة -من نبات وحيوان- كلّها تحوّلات غير عاديّة. فهل إنّ أوّل نطفة حيّة وجدت

 

126

 

 


109

العدل الشامل

على الأرض مطابقة لأصول علوم الحياة؟ ومع أيّ قانون طبيعيّ تنسجم أوّل حياة وجدت على هذه الأرض؟ بناءً على فرضيات اليوم العلميّة، وفي نظر علم اليوم المسلّم به، إنّ عمر الأرض يتجاوز حدود الـ40 مليار سنة، ومنذ مليارات السنين كانت أرضنا كرة مذابة، حيث كان يستحيل أن يوجد أرواح تحيا عليها. وبناءً على التخمينات العلميّة، مضت مليارات السنين حتى وجد أوّل ذي روح على الأرض. وعلم اليوم يقول: إنّ ذا الروح إنّما يوجد من ذي روح، ولا يمكنه أن يفيد إنّ ذا الروح يوجد من غير ذي روح. والعلم لم يستطع -حتى الآن- أن يجيب عن مسألة وجود أوّل ذي روح على الأرض. يعني ذلك التحوّل الكبير الأوّل، وتلك النطفة الأولى للحياة التي ارتبطت بالأرض، كيف ارتبطت؟

ثمّ يقولون: إنّ أوّل نطفة حياة وأوّل خليّة عندما توجد تتكامل؛ فتصل إلى مرحلة تتحوّل إلى عنصرين: العنصر النباتيّ، والعنصر الحيوانيّ، أضف إليهما مشخّصات أخرى، حيث تكون بعض أقسامها ضدّ بعضها الآخر، وأحدها يكمل الآخر، وهذا من العجائب: فإذا لم يكن نبات فلا حيوان، ولو لم يكن حيوان فلا نبات، وبشكل خاصّ من جهة الأخذ والعطاء عبر الهواء المنتشر في الفضاء[1].

 

 


[1]  (المقصود تعادل الأوكسجين وثاني أكسيد الكوربون، حيث يتنفس الحيوان الأوكسجين ويخرج ثاني أوكسيد الكوربون، والنبات بالعكس).

 

127


110

العدل الشامل

ويحصل وضع غير قابل لملاحظته مع قانون الطبيعة.

وبناءً عليه، فإنّ هذا الموضوع لا بحث فيه، فلا داعي لأن يفكّر فيه الإنسان، أو يبتلى -والعياذ بالله- في بلاء الشكّ والتردّد. وعالَم الدين إنّما هو لأجل أن يفتح عينَ الإنسان، ويستحثّ فكره عن الحوادث والمجريات العادية المحدودة. ففي ذلك العصر -عصر تكامل العلم، والعقل، والأخلاق، والمجتمع- ماذا سيحصل؟ سأذكر قسماً كأنموذج لذلك.

*مميّزات عصر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)

تواتر عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، باتّفاق علماء أهل السنّة والشيعة، ولم يتردّد أحد في أنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوَّل الله ذلك اليوم، حتّى يخرج رجل من ولدي»[1].

والمقصود منه أنّ هذا قضاءٌ إلهيٌّ حتميٌّ، فلو فرضنا أنّه لم يبقَ من عمر الدنيا إلّا يوم واحد، فإنّ هذا القضاء واقع لا محالة.

كان بعض الأصدقاء يتعجّب عندما يرى أخانا الحجازيّ الشيخ خليل الرحمن[2] يتحدّث دائماً عن انتظار ظهور الإمام الحجّة(عجل الله تعالى فرجه)؛ إذ إنّه لم يكن شيعيّاً، فكيف يؤمن أهل السنّة بمسألة انتظار ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه)؟ هم -واقعاً- عندهم انتظار

 

 


[1]  الغيبة، الطوسيّ، ص 453.

[2]  من قرّاء القرآن، حيث دعي من قبل حسينيّة الإرشاد.

 

129


111

العدل الشامل

ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه) على أساس الاعتقاد والإيمان. إذاً، ليس في هذا الأمر سنّة وشيعة، فالكلّ يؤمن بظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه).

الآن انظروا كيف يبيّن النبي (صلى الله عليه وآله) لنا يوم الظهور؟ وكيف أنّه يرى ذلك اليوم عصر كمال البشريّة؟ فهو (صلى الله عليه وآله) يقول: «أُبشّركم بالمهديّ يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال»، وليس المقصود الزلازل الأرضيّة، بل تتزلزل الأرض في الأصل بأيدي الناس، وتهدّد البشريّة بأن لا أرض بعد، وسوف تفنى، حينها «يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جَوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض»[1]؛ أي يرضى عنه إله السماء وخلق إله السماء، والناس الذين هم على الأرض، فيقولون: الحمد لله الذي نجّانا من شرّ هذا الظلم، ثمّ يقول (صلى الله عليه وآله): «يقسّم المال صحاحاً»، قالوا: يا رسول الله، وكيف يقسّمها صحاحاً؟ قال: «بالعدل والسويّة». و«يملأ الله قلوب أمّة محمّد غنًى، ويسعهم عدله»[2]؛ أي لا نتوهّم أنّ المقصود خصوص الثروة الماديّة، فالقلوب تغنى، والفقر والحاجة والحقارات والمسكنة والأحقاد والحسد كلّها ستزول.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ، بَادِياً نَوَاجِذُهَا، مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا، حُلْواً

 

 


[1]  بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 51، ص 76.

[2]  إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ص 401.

 

130


112

العدل الشامل

رَضَاعُهَا، عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا»[1]، فهو (عليه السلام) يتنبّأ بما سيحصل قبل الظهور من فتنةٍ عجيبةٍ وحروبٍ كثيرةٍ مهيبةٍ وخطرةٍ في الدنيا، فتقف الحرب على قدمها، وتبدي نواجذها كحيوان مفترس، وتبرز حليبها؛ فيرى مسعّرو نار الحرب حليبها حلواً، أي في نفعهم، لكنّهم لا يعلمون أنّ عاقبة هذه الحرب في ضررهم، فرضاعها حلوٌ، لكنّ عاقبتها علقم.

«أَلَا وفِي غَدٍ، وسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ»، أي هذا حاصل في غدٍ، وسيأتي بما لا تعرفون، «يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا»، وأوّل عمل يقوم به الوالي الإلهيّ، هو أن يأخذ العمّال والحكّام واحداً واحداً، ويصلح أعوانه، ويصلح الدنيا.

«وتُخْرِجُ لَه الأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا»، فالأرض تُخرج ما في باطنها من معادن، وكلّ ما يمكنكم تصوّره.

«وتُلْقِي إِلَيْه سِلْماً مَقَالِيدَهَا»، أي وتسلّم له مفاتيحها، كغلام في حالة الاستسلام يسلّم مفاتيحه. وكلّ ما ذُكر هو كنايات تشير إلى أنّه لا يبقى في الطبيعة سرّ إلّا وسينكشف في ذلك العصر. «فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ»، سيريكم في ذلك الوقت معنى العدالة الواقعيّة، وأنّ كلّ ما ينطق به دعاة السلم وبيانات حقوق البشر والحريّة، إن هي إلّا كذب ونفاق. «ويُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ»، أي ما تُرك من الكتاب والسنّة، ومات في ظاهر الأمور وانتفى، سيحييه.

 

 


[1]  نهج البلاغة، من الخطبة 138.

 

131


113

العدل الشامل

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (عليه السلام) حَكَمَ بِالْعَدْلِ»[1].

كلّ إمام من الأئمّة (عليهم السلام) له لقب، فأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً: عليّ المرتضى، الإمام الحسن: الحسن المجتبى، الإمام الحسين: سيّد الشهداء، والأئمّة الآخرون: السجّاد، الباقر، الصادق، الكاظم، الرضا، التقيّ، النقيّ، الزكي العسكري (عليهم السلام)، والإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) له لقب خاصّ به، أُخذ من معنى القيام. وفي الأصل، نحن نعرف الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) بالقيام والعدالة، كلّ إمام له صفة عرف بها، وهذا الإمام (عجل الله تعالى فرجه) عرف بهذا المعنى.

«وَارْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ الْجَوْرُ، وَأَمِنَتِ بِهِ السُّبُلُ»، أي أنّ الطرق البريّة والبحريّة والجويّة تصبح آمنة؛ لأنّ سبب عدم الأمن في هذه الأمور، المضايقات وانعدام العدالة. وعندما تقرّ العدالة، حيث إنّ فطرة البشر هي فطرة العدالة، فلا وجه بعد كي يكون لعدم الأمن وجود.

«فَحِينَئِذٍ تُظْهِرُ الْأَرْضُ كُنُوزَهَا، وَتُبْدِي بَرَكَاتِهَا، فَلَا يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعاً لِصَدَقَتِهِ وَلَا لِبِرِّهِ... وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾»، أي أتدرون ما هو الضيق الذي سيحصل للناس في ذلك اليوم؟ ضيق الناس هو أنّهم لو أرادوا التصدّق ومساعدة شخصٍ ما فلن يجدوا شخصاً مستحقّاً، ولن يجدوا فقيراً.

 


[1] كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، الإربلي، ج 2، ص 465.

 

132


114

العدل الشامل

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) عن التوحيد الإلهيّ، «حتّى يوحَّدَ الله عزَّ وجلَّ ، وحتّى لا يكون شرك»[1]. وعن الأمن يقول: «وحتى تخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا يؤذيها أحد»[2].

لقد قيل الكثير عن العدالة، وعن الصفاء والسلام بالمعنى الواقعيّ، وعن الحريّة والأمن الكاملين، وعن الثروة والبركة الواسعة، وعن تقسيم الثروة العادل، وعن توفّر وسائل المحافظة على الحيوانات وغيرها بشكل واسع، وما قيل عن الفاكهة والغنم وعن انعدام المفاسد؛ إذ لا شرب للخمر بعد ذلك، ولا وجود للزنا، وسينفر الناس من الكذب، والغيبة، والتهمة، والظلم. هذه كلّها على أساس أيّة فلسفة سوف تطبّق؟

أساس ذلك الذي ذكرته هو الإسلام، الذي يقول إنّ العدالة هي عاقبة البشر، لكن ليست بمعنى ما ينتهي إليه الفكر البشريّ من أنّ منفعتي الشخصيّة هي حفظي لمنافع الآخرين. لا، في ذلك الزمان، العدالة محبوبةُ البشر، كأنّها معبودهم، أي تترقّى أرواحهم، وتتربّى بشكل كامل، وهذا لا يمكن إلّا إذا حكم العالم حكومة عادلة على أساس الإيمان؛ الإيمان بالله، ومعرفة الله، وعلى أساس حكم القرآن. ونحن المسلمين، لحسن حظّنا، أنّنا بخلاف هذا التشاؤم الموجود في دنيا الغرب في النظرة إلى البشريّة؛ فنحن متفائلون بمستقبل البشريّة. فراسل -المتقدم

 

 


[1]  ينابيع المودّة لذوي القربى، القندوزيّ، ج 3، ص 240.

[2]  (م.ن.).

 

133


115

العدل الشامل

ذكره- يقول في كتاب «الآمال الجديدة»: أغلب العلماء اليوم قد يئسوا من البشريّة بواسطة هذا العلم. ويقول: أحد هؤلاء العلماء أينشتاين، ثمّ يعتقد أنّ البشر لم يبقَ لهم إلّا خطوة حتّى يصلوا إلى قبرٍ حفروه بأيديهم، والبشريّة وصلت إلى مرحلة لا تحتاج إلّا ضغط أزرار عدّة، والأرض تكون كأن لم تكن.

في الواقع، لو لم نكن مؤمنين بالله ويد الغيب، ولولا اطمئناننا بما يدلّ عليه القرآن من مستقبل البشريّة؛ أي لو أنّنا قصَرنا نظرنا على هذه الظواهر الدنيويّة، لرأينا أنّ الحقّ معهم، فمَعَ كلّ يوم يأتي، تزداد وسائل التخريب قوّةً وهيبةَ ورعباً، منذ أن ألقيت القنبلة الذريّة في هيروشيما حتّى يومنا هذا، انظروا كم بلغت القدرة الصناعيّة البشريّة التخريبيةّ! وصلت إلى مرحلة يقولون فيها: إنّ الدنيا، اليوم، ليس فيها غالب ولا مغلوب، فلو وقعت حرب عالميّة ثالثة، فليس الكلام أنّ الغالب أميركا أو روسيا أو الصين. إذا وقعت الحرب الثالثة الخاسر هو الأرض والبشريّة، ولا غالب أبداً.

لكن نحن نقول: إنّ الأرض والبشريّة لهما مخلّص من هذه الأزمات، ويد الله فوق جميع الأيادي ﴿وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَة مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ﴾[1]. قالوا لنا: «أفضل الأعمال انتظار الفرج»[2]، وهذا تفاؤل. ولماذا انتظار الفرج هو أفضل الأعمال؟ لأنّ ذلك إيمان في المرتبة العليا جدّاً.

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 103.

[2]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 122.

 

134


116

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)[1]

 

يقول تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[2].

استمراراً للبحث السابق، نستعرض في هذا المبحث قسماً من الأمور المسلّمة في تاريخ الإسلام حول الإمام المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه).

يتخيّل بعض الذين لا اطّلاع عندهم في هذا المجال -وخصوصاً أولئك الذين لا يعتقدون بأصول التشيّع ومبانيه، وقرأوا شيئاً من الكلام في بعض الكتب- أنّ الاعتقاد بالمهدويّة بدأ منذ نصف القرن الثالث الهجريّ تقريباً عندما ولد الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، وأريد أن أذكر أنّ هذا الموضوع منذ متى طرح؟ وكيف؟ سواء أكان بشكل تفصيلي أم بشكل إجماليّ وعامّ أو بنحو الإشارة.

*المهدويّة في القرآن الكريم والأحاديث النبويّة

بدايةً، ذكر القرآن مسألة المهدويّة كبشرى بصراحة تامّة؛ فكلّ مَن يقرأ كتاب الله يرى أنّ القرآن الكريم قد ذكر في

 

 


[1]  الشهيد الشيخ مرتضى مطهري (رحمه الله).

[2]  سورة النور، الآية 55.

 

137


117

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

آيات كثيرة -على نحو القطع- أنّ تلك النتيجة التي تترتّب على وجود الحجّة المقدّس، حاصلة في المستقبل، ومن تلك الآيات: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[1].

يقول تعالى في هذه الآية: إنّنا كتبنا في الزبور بعد أن كتبنا في الذكر-قيل إنّه التوراة- ﴿أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ لا محالة. وليس الكلام عن منطقة أو محلّة أو مدينة، بل الفكرة واسعة وكبيرة إلى حدّ أنّ الكلام عن الأرض كلّها؛ فلن تبقى تحت سلطة الجبّارين والظالمين والأقوياء، بل هذا أمر مؤقّت، وستتحقّق في المستقبل دولة الصالحين، وتحكم الأرض كلّها، وليس في الآية أدنى ترديد في هذا المعنى.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما ورد في القرآن من حديث عن أنّ الدين الإسلاميّ سيصبح الدين لجميع البشر، وتزول جميع الأديان الأخر في مقابله، وتُمحَق. وهذا أثر آخر من آثار وجود الإمام المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[2]؛ أي أنّ كلّ إنسان في هذه الدنيا سيتّبع هذا الدين.

وتوجد آيات أخرى، نُعرِض عنها اختصاراً للبحث.

 

 


[1]  سورة الأنبياء، الآية 105.

[2]  سورة الصف، الآية 9.

 

138


118

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

*أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه)

أمّا الأحاديث النبويّة، فماذا ذكر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال؟ ولو كانت روايات الإمام المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) منحصرة بروايات الشيعة، لكان ثمّة مجال لتشكيك المشكّكين، في أنّه لو كانت مسألة المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) واقعيّة، لوجب أن يُخبر عنها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولنقَلت هذه الأخبار جميع الفرق الإسلاميّة.

والجواب عن هذا الاعتراض واضح جدّاً: فإنّ الواقع أنّ روايات باب الإمام المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) لم تنفرد بروايتها الشيعة، والروايات التي يوردها أهل السنّة في هذا الباب ليست أقلّ من روايات الشيعة، إن لم تكن أكثر. وقد صنّفت الكتب في هذا المجال، منها، كتابان: أحدهما للمرحوم آية الله السيد صدر الدين الصدر (أعلى الله مقامه)، طبع باللغة العربيّة باسم (المهديّ)، وما ينقله في ذلك الكتاب من روايات كلّها من روايات أهل السنّة، وهي ليست بأقلّ عدداً من روايات الشيعة.

الكتاب الآخر هو (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام))، وقد صنّفه أحد فضلاء الحوزة العلميّة البارزين في قم، وهو الميرزا لطف الله الصافي الگلبايگانيّ. وقد ألّف هذا الكتاب بإرشاد من المرحوم آية الله البروجرديّ؛ إذ هو الذي أعطى الأمر بتأليفه، وعيّن موضوعه وشكله ورسمه، ثمّ

 

139


119

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

اهتمّ هذا الرجل الفاضل، وكتب الكتاب. طالعوا أيضاً هذا الكتاب لتروا الروايات الكثيرة في المسألة، وبشكل خاصّ من أهل السنّة بمعانٍ وألفاظٍ مختلفة.

 

كما ينحصر بحثي في هذه المسألة في الجهة الروائيّة فحسب، وأريد الحديث عن الموضوع من جهة أخرى وهي: ما هو تأثير هذه المسألة على التاريخ الإسلاميّ؟ عندما نقرأ تاريخ الإسلام، نرى -وبغضّ النظر عن الروايات الواردة في هذا الصعيد عن النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)- أنّ أخبار المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) صارت منشأ لحوادث في تاريخ الإسلام، بدءاً من النصف الثاني للقرن الأوّل؛ إذ كانت تحصل أحياناً سوء استفادة لمثل هذه البشرى، ومثل هذه الأقوال الواردة في كلمات النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). وهذا دليل بنفسه على أنّ مثل هذا الخبر قد انتشر بين المسلمين عن لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإلّا (لَمَا بقي) مجال لسوء الاستفادات تلك.

 

*بيان الإمام عليّ (عليه السلام)

وقبل أن أذكر أوّل حادثة تاريخيّة في هذا المجال، أنقل جُملاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) -موجودة في (نهج البلاغة)- وهذه الجمل متواترة، لم يقتصر ذكرها في الكتاب المذكور، بل لها أسانيد متواترة. ففي حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) مع كميل بن زياد النخعيّ، يقول كميل: «أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ» -والظاهر أنّ ذلك في

 

140

 


120

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

الكوفة-، «فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ»[1]؛ أي عندما وصلنا إلى الصحراء أخذ نفساً عميقاً؛ وتأوّهَ من عمق القلب، وأخذ يبرز ما في قلبه من آلام. فيبدأ بالتقسيم المعروف: «النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ»، ثمّ يشكو، فيقول لكميل: لم أجد رجلاً أهلاً لأن أقول له ما أعلمه، يوجد أناس جيّدون، لكنّهم حمقى، ويوجد أفراد أذكياء، لكنّهم بلا دين، جعلوا الدين وسيلة للدنيا. قسَّم الناس، ثمّ شكا الوحدة. يقول لكميل: أشعر بالوحدة. أنا وحيد، لا أجد رجلاً أهلاً وقابلاً لأن أقول له ما في قلبي من أسرار. لكنّه في النهاية يقول: «اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّه بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً؛ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّه وبَيِّنَاتُه... يَحْفَظُ اللَّه بِهِمْ حُجَجَه وبَيِّنَاتِه؛ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، ويَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ».

*ثورة المختار والاعتقاد بالمهدويّة

لقد ظهر أوّل أثر للإيمان بالمهدويّة في تاريخ الإسلام في حادثة انتقام المختار من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام). ولا شكّ أنّ المختار كان رجلاً سياسيّاً جيّداً، ونهجه قبل أن يكون نهج رجل دين ومذهب، هو نهج رجل سياسيّ. -طبعاً، لا أريد أن أقول إنّ المختار كان رجلاً سيّئاً أو جيّداً؛ إذ هذا الأمر ليس مصبّ اهتمامنا-. كان المختار يعلم أنّ الناس تعارض ما يريد القيام به، وإن كان أخذ الانتقام من قتلة سيّد الشهداء (عليه السلام) أمراً عظيماً، ولعلّه -بناء على رواية- اتصل بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، فلم

 

 


[1]  نهج البلاغة، الحكمة 147.

 

141


121

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

يأذن له، فطرح مسألة المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) التي أخبر بها النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله)، باسم محمّد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخي سيّد الشهداء؛ لأنّ اسمه محمّد، وقد جاء في الروايات النبويّة «اسمه اسمي». فقال: أيّها الناس، إنّني نائب مهديّ الزمان؛ ذلك المهديّ الذي أخبر به النبيّ[1]، والمختار أمضى سياسته مدّة من الزمن باسم النيابة عن مهديّ الزمان. الآن، هل أنّ محمّد ابن الحنفيّة قبل واقعاً بأنّه المهديّ الموعود؟ يقول بعضهم: إنّه قبل حتّى يمكّنه الأخذ بالثأر، إلّا أنّ هذا غير ثابت. نعم، لا شكّ في أنّ المختار قد عرَّف محمّد ابن الحنفيّة على أنّه المهدي الموعود، ثمّ ظهر مذهب الكيسانيّة، وعندما مات محمّد بن الحنفيّة، قالوا: المهديّ الموعود لا يموت، حتّى يملأ الأرض عدلاً. إذاً، محمّد بن الحنفيّة لم يمت، بل غاب في جبل رضوى.

*كلام الزهري

في التاريخ الإسلاميّ حوادث أخرى أيضاً. منها ما يذكره أبو الفرج الأصفهانيّ، وهو أمويّ الأصل، ومؤرّخ غير شيعيّ في «مقاتل الطالبيّين» أنّه عندما وصل إلى الزهريّ[2] خبر استشهاد زيد[3]بن عليّ بن الحسين، قال: «لماذا يستعجلون

 


[1]  وليلتفت أيضاً إلى أنّه في صدر الإسلام لم يعطَ أيّ علامة لزمان ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه). نعم، بعض الخواصّ كانوا يعلمون أنّه فلان بن فلان بن فلان؛ أي أنّ ما جاء في روايات النبيّ (صلى الله عليه وآله) بهذا المقدار فقط أنّ المهديّ من آل البيت لا بدّ من أن يظهر؛ مقدار لم يرد عنه أيّ تشخيص لتاريخ الظهور.

[2]  الزهري من أهل السنّة، وهو والشعبي من التابعين؛ أي من الذين أدركوا أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولم يدركوا النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهما من كبار مشايخ عصرهم وعلمائهم.

[3]  للإمام زين العابدين (عليه السلام) ولد اسمه زيد، ثار واستشهد. وثمّة الكثير من الكلام حوله، لكن يستفاد من روايات الشيعة أنّ أئمّتنا قد عظّموا زيداً. وقد جاء في رواية (الكافي) أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «والله، إنّ زيداً لشهيد». وزيد هذا هو الذي ينسب إليه الشيعة الزيديّون، الذين يتواجدون الآن في اليمن، وكلّهم أو أكثرهم يرون أنّه الإمام بعد الإمام زين العابدين (عليه السلام). وعلى كلّ حال، فهو رجل زاهد تقيّ. وبناءً على رواياتنا، فإنّ قيامه كان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا لادّعاء الإمامة. وعليه، ففي نظرنا زيد رجل شريف صالح.

 

142


122

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

أهلَ البيت؟ وسيأتي يوم يظهر المهديّ منهم»، فيعلم أنّ كون المهديّ الموعود من أولاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) قطعيّ مسلَّم. ومعنى ما قوله أراد أنّ على أولاد النبيّ أن لا يثوروا الآن، وثورتهم هي للمهديّ الموعود... ولا أريد البحث عن صحّة اعتراض الزهريّ وعدمه، وإن كان اعتراضاً غير صحيح، إلّا أنّ محلّ الشاهد في عبارة الزهري أنّه سيأتي يوم يثور فيه أحد أولاد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تكون ثورته ثورةً ناجحةً وموفّقة.

*ثورة (ذي النفس الزكيّة) والإيمان بالمهدويّة

كان للإمام الحسن (عليه السلام) ابن اسمه الحسن أيضاً، يقال له الحسن المثنّى -أي الحسن الثاني، الحسن بن الحسن-والحسن المثنّى صهر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) لابنته فاطمة، فأولدا صبيّاً اسمه عبد الله. ولأنّ نسبه يرجع إلى أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء (عليهما السلام) من طرف الأمّ والأب معاً، فكان نسبه خالصاً، وسمّي بـ: عبد الله المحض؛ أي أنّه رجل علويّ محض وفاطميّ محض. وكان لعبد الله المحض ولدان: اسم أحدهما محمّد، والآخر إبراهيم، وزمانهما مقارن لأواخر العصر الأمويّ نحو سنة 130هـ. ومحمّد بن عبد الله المحض رجل شريف جدّاً، عُرف باسم (ذي النفس الزكيّة). وقد ثار في أواخر العهد الأمويّ بعض السادات الحسينيّين

 

143

 


123

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

-وهذا له بحث مفصّل- حتّى إنّ العباسيين بايعوا محمّد بن عبد الله المحض. لقد دُعي الإمام الصادق (عليه السلام) إلى جلسة اتخاذ القرار بالثورة، وقالوا له إنّنا سنثور، ونريد جميعاً أن نبايع محمّد بن عبد الله المحض فبويع، وأنت سيّد الحسينيّين. فقال لهم الإمام (عليه السلام): ما هدفكم؟ إن كان محمّد يريد الثورة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّني أؤيّده. أمّا إن كان يريد الثورة على أنّه مهديّ هذه الأمّة فهو مشتبه، فليس هو مهديّها، بل المهديّ شخص آخر، ولن أؤيّده على الإطلاق. ولعلّ الأمر قد اشتبه على محمّد بن عبد الله المحض إلى حدٍّ ما؛ لأنّ اسمه اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وله خال على كتفه[1]، فظنّ الناس أنّ هذه العلامة تدل أنّه المهديّ، وكثير من الناس بايعوه على أنّه مهديّ هذه الأمّة. فعلم أنّ مسألة المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كانت قطعيّة بين المسلمين، حيث إذا ثار رجل، وهو على شيء من الصلاح، يقولون هذا هو المهديّ الذي أخبر به النبيّ، فلو لم يكن هناك كلام من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لم يكن ليصير الأمر كذلك.

- خدعة المنصور الخليفة العباسيّ

وفي مقلب آخر، نرى أنّ اسم أحد الخلفاء العباسيّين هو المهديّ، وهو ابن المنصور، والخليفة العباسيّ الثالث. ويذكر المؤرّخون ومن جملتهم «دارمستر»، أنّ المنصور قد تعمّد أن يسمّي ابنه المهديّ، حتّى يستفيد سياسيّاً من ذلك، بل ليتمكّن

 

 


[1]  كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) أيضاً خال على كتفه، يسمّونه ختم النبوّة.

 

144


124

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

من خداع جماعةٍ من الناس، ويقول ذلك المهديّ الذي أنتم في انتظاره هو ابني. ولهذا، يُذكر في «مقاتل الطالبيّين» وغيره أنّه في بعض الأحيان، عندما كان المنصور يقابل خواصّه، كان يعترف لهم بكذبه بهذا الأمر. فعندما يلتقي مع مسلم بن قتيبة، وهو من المقرّبين إليه، يسأله عن محمّد بن عبد الله المحض ماذا يقول؟ قال: إنّه يقول إنّه مهديّ هذه الأمّة، فقال له: هو مشتبه، لا هو مهديّ الأمّة، ولا ابني مهديّها. لكنّه أحياناً أخرى عندما يقابل أشخاصاً آخرين، يقول لهم: «ليس هو مهديّ الأمّة، بل المهديّ ابني».

إذاً، فالروايات المرويّة عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) كانت كثيرة، وهذا الذي سبّب الاشتباه لدى الناس، إذ لم يحقّقوا تحقيقاً كاملاً كي ينالوا مشخّصاتٍ أكثر، فكانوا يؤمنون سريعاً بأنّ هذا مهديّ الأُمّة.

- محمّد بن عجلان والمنصور العباسيّ

كما أنّنا نلاحظ أحداثاً أخرى في تاريخ الإسلام، منها: أنّ أحد فقهاء المدينة، وهو محمّد بن عجلان، قد بايع محمّد بن عبد الله المحض. وبنو العبّاس بعد أن كانوا يدافعون عنه، عندما تمكّنوا من الخلافة واستلموها، قتلوا السادات الحسينيّين، طلب المنصور هذا الفقيه، وحقّق في أمره حتّى ثبت له أنّه بايع، فأمر بقطع يده قائلاً: يجب أن تُقطع هذه اليد التي بايعت عدوّي. قالوا: إنّ فقهاء المدينة اجتمعوا، وتشفّعوا لذلك الرجل، وقد برّروا

 

145

 


125

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

له عمله بهذا النحو، قالوا: يا أيّها الخليفة، إنّه رجل فقيه عالم بالأخبار، وقد تخيّل هذا الرجل أنّ محمّد بن عبد الله المحض مهديّ الأمّة، ولهذا بايعه، وإلّا فهو لم يقصد عداوته لك.

فالذي نراه في تاريخ الإسلام أنّ مسألة «المهديّ الموعود» من المسائل المسلّمة جدّاً، وهكذا كلّما لاحظنا كلّ عصر نجد ظهور حوادث في تاريخ الإسلام ناشئة من هذا الإيمان بظهور المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه). وكثير من أئمّتنا (عليهم السلام) عندما توفّوا، ذهب جماعة إلى القول: لعلّ الإمام لم يمت، ولعلّه غاب، وقد يكون هو مهديّ الأمّة. وهذا ما حصل مع الإمام الكاظم (عليه السلام)، بل ومع الباقر (عليه السلام)، والظاهر أيضاً مع الإمام الصادق (عليه السلام)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى غيرهم من الأئمّة (عليهم السلام).

- إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام)

كان للإمام الصادق (عليه السلام) ابن اسمه إسماعيل، وهو الذي تنتسب إليه الإسماعيليّة. توفّي إسماعيل في حياة الإمام (عليه السلام)، وقد كان (عليه السلام) كثير الحبّ لإسماعيل، وعندما توفّي إسماعيل غسّله (عليه السلام) وكفّنه. ثمّ وقف (عليه السلام) حيث توسّد إسماعيل، ونادى أصحابه، ثمّ فتح الكفن، وأراهم وجه إسماعيل، ثمّ قال: هذا ابني إسماعيل قد مات، فلا تقولوا غداً إنّه مهديّ الأمّة وقد غاب، فانظروا جثّته، وانظروا وجهه، اعلموا ثمّ اشهدوا.

هذا كلّه يدلّ على أنّ مسألة مهديّ الأمّة كانت قطعيّة بين

 

146


126

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

المسلمين، حيث لا مجال للشكّ والترديد فيها. وفي كلّ مورد حَقّقتُ فيه إلى زمان ابن خلدون، لم أجد شخصاً واحداً من علماء الإسلام يقول: إنّ أحاديث المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) لا أساس لها، بل الجميع قبلوا بها، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم فهو في الجزئيّات؛ هل المهديّ هو هذا الشخص أم ذاك؟ وهل هو ابن الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) أم لا؟ وهل هو من أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) أم من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام)؟ لكن في أنّ لهذه الأمة مهديّاً، وأنّه من أولاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأولاد الزهراء (عليهم السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جَوراً وظلماً، فهذا الأمر لا شكّ فيه.

- كلام دعبل

يأتي دعبل إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ويقول له أشعاره الرثائيّة:

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

التي يخاطب فيها الزهراء عليها السلام، ويبيّن المصائب التي نزلت بأولادها (عليهم السلام) الواحدة تلو الأخرى، وهي من القصائد العربيّة الغرّاء، ومن أجمل المراثي في هذا المجال. وقد بكى الإمام الرضا (عليه السلام) لها كثيراً. وفي أشعاره هذه وإظهاره لتأثّره، يعدّد دعبل قبور أولاد الزهراء (عليهم السلام) واحداً واحداً، فقبر في (فخ)، وقبر في (كوفان)، ويشير إلى شهادة محمّد

 

 

147

 

 


127

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

بن عبد الله المحض، وإلى شهادة أخيه، وإلى شهادة زيد بن عليّ بن الحسين، وشهادة الإمام سيّد الشهداء (عليه السلام)، وشهادة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):

وقبرٌ ببغداد لنفسٍ زكيّة

تضمّنها الرحمن في الغرفات

وهنا ذكروا أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قال له: أضف إليه هذا الشعر الذي أقوله:

وقبر بطوسٍ يا لها من مصيبة

توقد في الأحشاء بالحرقات

فقال له: أنا لا أعرف هذا القبر، قال (عليه السلام): هذا قبري.

في هذه الأشعار، يذكر دعبل بيتاً من الشعر يشير به إلى موضوعنا، حيث يصرّح بأنّ هذه القضايا كلّها ستبقى موجودة حتّى ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، هذا الظهور الذي هو لا محالة واقع:

إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً

يفرج عنّا الهمّ والكربات

هذه الشواهد من التاريخ، والتي يوجد الكثير منها، كان الغرض من ذكرها القول: إنّ مسألة المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) كانت أمراً قطعيّاً ومسلّماً به بين المسلمين، منذ صدر الإسلام وزمان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وإنّها كانت منشأ لحوادث تاريخيّة كبرى منذ القرن الأوّل للهجرة.

 

148

 

 


128

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

*الإيمان بالمهدويّة عند أهل السنّة

وإذا أردتم أن تدركوا أنّ المسألة ليست مختصّة بالشيعة، فانظروا إلى مدّعي المهدويّة، فهل هم من الشيعة فقط أم كان منهم من أهل السنّة؟ لتروا أنّ مدّعي المهدويّة بين أهل السنّة كانوا أيضاً كثُراً. أحدهم المهديّ السودانيّ أو المتمهدي السودانيّ، الذي ظهر قبل هذا القرن الأخير في السودان، وقد أسّس جمعيّة لا زالت حتّى هذه الأياّم. وفي الأساس، ظهر هذا الرجل على أنّه المهديّ؛ فالاعتقاد بالمهديّ في تلك البلاد السنيّة كان كبيراً إلى حدّ السماح ببروز ادّعاء كاذب بالمهدويّة، وكذلك في غيرها من البلاد الإسلاميّة. فقد كثر مدّعو المهدويّة في الهند وباكستان، والقاديانيّون[1] ظهروا على أساس ادّعاء المهدويّة، وقد جاء في رواياتنا أنّه سيوجد مدّعون بالمهدويّة كاذبون كثر، وسيظهر دجّالون يدّعون ذلك أيضاً.

*كلام حافظ

أنا لا أدري هل أنّ حافظاً شيعيّ أم سنّي، ولا أعتقد أنّ أحداً

 

 


[1]  نسبة إلى القاديانيّة، وهي فرقة أسّسها المدعو ميرزا غلام أحمد القادياني، نسبة إلى قاديان في الهند إحدى قرى بنجاب، ويُقال لها الأحمديّة أيضاً نسبةً إليه، كانت تربطه علاقة قويّة بالأنكليز، أنكر ختم النبوّة وقال إنّ الوحي لم ينقطع، ومنع الجهاد، وادّعى التجديد في الإسلام، ثم ادّعى المهدويّة، ثم ادّعى أنّه عيسى المسيح، ثم أنّه نبي مستقل، وهو يدّعي كلّ ذلك في آن واحد. لديه أتباع موجودون حتى يوم في بعض البلدان. (أنظر: الأعلام للزركلي، ج1، ص256).

 

149


129

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

بمقدوره القطع بكونه شيعيّاً، إلّا أنّنا نجد في أشعاره إشارة إلى مسألة المهدويّة، وأذكر منها موردين، أحدهما يقول فيه (ما تعريبه):

أين الصوفيّ، كالدجّال

عينه، كالملحد شكله

قل له احترق، فالمهديّ ملجأ الدين أتى

وفي المورد الثاني، يقول بانسجام تامّ في غزله المعروف (ما تعريبه):

بشارة يا قلبي نفس كالمسيح يأتي

من أنفاسه الطيّبة رائحة شخص تأتي

فلا تتأوّه من الغمّ والألم

تفاءلت ومجيب النداء آتي

ولست وحدي فرحاً من نار وادي (أيمن)

فموسى على أمل قبسٍ إلى هنا يأتي

لم يلتقِ أحداً يرشده أين المنزل المقصود

ليس إلّا أنّ صوت الجرس يأتي

يخبر بلبل هذي الحديقة أنّي

أسمع أنّات من قفص تأتي

 

150


130

مقدّمة

*تكليفنا في زمن الغيبة

بعد أن ذكرنا أنّ العدل الشامل سيحصل بعد امتلاء الأرض جَوراً وظلماً، نُلفت إلى أنّ بعضهم يعارض أيّ إصلاح اعتماداً منه على ذلك، ويقول: يجب أن تُملأ الدنيا جَوراً وظلماً حتّى تحصل الثورة فجأة، وتمتلئ عدلاً. ولو لم يقولوا ذلك بلسانهم، فإنّهم في أعماق قلوبهم مخالفون (للإصلاح)، وإن شاهدوا رجلاً يقدّم رِجلاً في طريق الإصلاح يتأذّون. وعندما يرون أنّ في المجتمع علامة على توجّه الناس نحو الدين يتألّمون واقعاً، ويقولون: يجب أن لا يحصل هذا الشيء، بل يجب أن يزداد الأمر سوءاً، حتّى يظهر الإمام (عجل الله تعالى فرجه). فلو أردنا أن نقوم بهداية الناس نحو الدين فنحن نخون الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، ونؤخّر ظهوره.

فهل الأمر واقعاً كذلك أم لا؟ هذا ما سنجيب عنه في الآتي.

- ما هي ثورة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؟

بعض الحوادث في هذه الدنيا إذا وقعت لا مجال لها إلّا الانفجار، تماماً مثل الدمّل في البدن إذا ظهر. فهذا الدمّل يجب أن يصل إلى حدّ الانفجار، وأيّ عمل يمنع هذا الانفجار يكون مضرّاً. وإذا أردتم استعمال دواء، فيجب أن يكون دور الدواء هو الإسراع في تفجير الدمّل.

أتباع بعض التوجّهات، والتي توافق عليها بعض الهيئات الاجتماعيّة والسياسيّة، يؤيّدون الثورة بمعنى الانفجار،

 

151

 

 


131

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

ويعتقدون أنّ أيّ شيء يقف في وجه الانفجار ضرر. ولذا، نرى أنّ بعض المذاهب والهيئات الاجتماعيّة معارضة تماماً لأيّ إصلاح اجتماعيّ، ويقولون: ما هي هذه الإصلاحات التي تقومون بها؟ دعوها، واتركوا المفاسد والعقد والأحقاد والأذى والظلم يزداد، والأمور تزداد اضطراباً؛ اضطرابٌ من هنا، واضطراب من هناك، ويتضارب الأساس من فوقه ومن تحته، وتحصل الثورة.

ولفقهنا هنا موقف واضح، هل يجب علينا -نحن المسلمين- أن نفكّر بهذا النحو نسبةً إلى ظهور الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)؟ ويجب أن نقول: دعوا المعصية والذنوب تزداد، ودعوا الأوضاع تزداد اضطراباً؛ فلا نأمر بالمعروف، ولا ننهى عن المنكر، ولا نربّي أطفالنا، بل علينا نحن أنفسنا أن لا نصلّي -والعياذ بالله- حتّى نساهم في ظهور الإمام الحجّة (عليه السلام)، ولا نصوم، ولا نقوم بأيّ واجب، وندعو الآخرين إلى ترك الصلاة، ونرغّبهم في ذلك؛ حتّى تتهيّأ مقدّمات الظهور.

والجواب الإسلاميّ القطعي هنا هو: أنّ انتظار ظهور الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) لا يُسقط عنّا أيّ تكليف؛ لا التكليف الفرديّ ولا التكليف الاجتماعيّ. ولن تجدوا في الشيعة -حيث إنّ تلك النظرة لا توجد إلّا في العالم الشيعيّ- فضلاً عن أهل السنّة عالماً يقول: إنّ انتظار ظهور الحجّة يسقط عنّا أدنى تكليف. لا يسقط أيّ تكليف عنّا على الإطلاق. هذا نوع من تفسير ظهور الحجّة (عجل الله تعالى فرجه).

 

152

 

 


132

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

التفسير الآخر هو أنّ الكلام في الظهور والإثمار لا عن الانفجار، كالفاكهة وهي في طريق نموّها. فالفاكهة لها موقعها، كما أنّ الدمّل لها موقعها حين تنفجر. أمّا الفاكهة فموقعها حيث تثمر؛ أي أنّها تطوي نموّها وسيرها التكامليّ، وتصل إلى مرحلة وجوب قطفها. ومسألة ظهور الإمام الحجّة (عليه السلام) هي شبيهة بنضج الفاكهة لا بانفجار الدمّل، أي أنّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه) إذا لم يظهر إلى الآن، فليس سببه قلّة الذنوب، بل لأنّ الدنيا لم تصل إلى مرحلة النضج بعد. ولذا، ترون في روايات الشيعة الكثير منها يقول: إنّه عندما تتوفّر تلك الأقليّة التي يبلغ عددها 313 شخصاً فإنّ الإمام سيظهر. فإلى الآن لم يوجد هذا العدد -أو الأقلّ أو الأكثر- فيجب أن يتقدّم الزمان، حيث ينتشر الفساد من جهة، ومن جهة أخرى يظهر أولئك الذين سيشكّلون الحكومة، ويمسكون بزمام الأمور تحت قيادته (عجل الله تعالى فرجه) وفي ظلّ لوائه (عجل الله تعالى فرجه). وإلى الآن، لم يوجد مثل هؤلاء الرجال المؤهّلين لذلك في الدنيا.

نعم، ما لم يزدد الاضطراب لن يصل الأمر إلى حدّ الاستقرار، لكن هناك فرق بين اضطراب واضطراب؛ فالدنيا لم تخلُ من اضطراب ومن استقرار بعد اضطراب، ثمّ يتبدّل الاستقرار باضطراب، لكنّه اضطراب بدرجة أعلى لا الاضطراب الخفيف، ثمّ يتبدّل الاضطراب إلى استقرار وبرتبة أعلى من الاستقرار السابق، ثمّ يتلوه اضطراب أشدّ من سابقه؛ أي أنّ هذا الاضطراب الذي تلا ذلك الاستقرار يكون أقوى حتّى من

 

153

 

 


133

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

هذا الاستقرار، ولهذا يُشبّهون حركة المجتمع البشريّ بحركة حلزونيّة؛ أي حركة دائريّة ارتفاعيّة، فالحال التي يدور فيها المجتمع البشريّ ليست في أفق واحد. نعم، فالاستقرارات دائماً تميل إلى اضطرابات، لكن هذا الاضطراب، مع كونه اضطراباً، إلّا أنّه في رتبة أشدّ، وبلا شكّ فإنّ دنيانا اليوم هي دنيا مضطربة، ومنطوية، وممزّقة، دنيا خرجت عن سلطة الحكّام الكبار، لكن هذا الاضطراب الحاصل على مستوى العالم يفرق عن الاضطراب الحاصل في قرية من القرى، فرق السماء عن الأرض، ونسبته إلى الاستقرار في قرية من القرى بُعد السماء عن الأرض، وهو أبعد عن استقرار مدينة من المدن بُعد السماء عن الأرض أيضاً.

إذاً، فنحن في حركة نحو اضطراب، وأيضاً نحو استقرار في آنٍ واحد. نحن الذين نتّجه نحو ظهور الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، في الوقت نفسه، نتحرّك نحو اضطراب ما؛ لأنّ الاستقرار إنّما يحصل بعد اضطراب، ونتحرّك نحو استقرار؛ لأنّ الاضطراب بلغ أوجه. وهل كانت منذ مئة سنة، فضلاً عن خمس مئة سنة، توجد هذه الأفكار الموجودة اليوم بين البشر؟ اليوم يقول مثقّفو العالم: السبيل الوحيد للتخلّص من المصائب البشريّة أن تتشكّل حكومة واحدة عالميّة. أصلاً، لم يكن بالإمكان أن يرد إلى مخيّلة البشر مثل هذه الفكرة في الأزمنة الماضية.

ولهذا، فإنّنا في الوقت نفسه الذي نتحرّك فيه نحو اضطراب،

 

154


134

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

فإنّنا أيضاً نتوجّه نحو الاستقرار، فلا يمكن للإسلام أن يأمر بترك التكاليف كلّها، وإلّا لأمر بارتكاب المحرّمات، وترك الواجبات. اتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تربّوا أبناءكم، دعوا الفساد يكثر، أنتم الذين تصلّون، وتصومون، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتصنّفون الكتب، وتلقون المحاضرات، وتبلّغون وتريدون توسعة التبليغ، أنتم الذين تريدون الإصلاح، إنّكم تؤخّرون ظهور الحجّة! كلّا، فهذه الإصلاحات تقرّب من ظهور الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، كما أنّ تلك الاضطرابات تقرّب ظهوره. يجب أن لا تدخل مسألة انتظار ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه) إلى أدمغتنا بذلك النحو أبداً، من أنّنا منتظرون، فنسقط ذلك التكليف -الصغير والكبير- كلّا، لا يسقط أيّ تكليف على الإطلاق، بل على العكس تزداد المسؤوليّات.

*المهدويّة فلسفة عالميّة كبرى

اسعوا كي تكون أفكاركم حول مسألة الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) موافقة لما جاء في متن الإسلام. ونحن غالباً ما نتحدّث عنها مثل أملٍ طفوليّ وكرجل عنده عقدة يريد الانتقام، فيقال إنّ الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) فقط ينتظر متى يعطيه الله تعالى الإذن كي يأتي ويغرق شعب إيران بالسعادة، أو يغرق الشيعة في بحر السعادة. كلّا، فلسفة المهدويّة فلسفة عالميّة كبرى، مرتبطة بأنّ الإسلام دين عالميّ، وبأنّ التشيّع بمعناه الواقعيّ أمر عالميّ، فيجب أن نتلقّى ذلك كفلسفة عالميّة كبرى. عندما يقول تعالى: 

 

 

155

 


135

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[1]، إنّما يتحدّث عن الأرض لا عن هذه المنطقة وتلك، وهؤلاء القوم، وذلك العرق.

فأوّلاً: الأمل بالمستقبل بأنّ الدنيا لن تفنى، وقد ذكرت مراراً أنّ أوروبا اليوم، ترى أنّ البشر في تمدّنهم وصلوا إلى مرحلة يحفرون فيها قبورهم بأيديهم، وما هي إلّا خطوة حتّى يصلوا إلى ذلك. وظواهر الأمور تعطي هذه النتيجة أيضاً. لكنّ الأصول الدينيّة والمذهبيّة، تقول لنا: أنّ الحياة السعيدة للبشريّة هي في المستقبل، والأمر الموجود الآن مؤقّت.

ثانياً: إنّ ذلك العصر عصر العقل والعدالة، وأنتم تلاحظون أنّ للفرد مراحل ثلاثة عامّة: مرحلة الطفولة، وهي مرحلة اللهو والأفكار الطفوليّة، ومرحلة الشباب، وهي مرحلة الغضب والشهوة، ومرحلة العقل الرجوليّ والكبر، ومرحلة النضج والاستفادة من التجارب، مرحلة الابتعاد عن العواطف، ومرحلة حكم العقل؛ وكذلك المجتمع البشريّ، فالمجتمع البشريّ له ثلاث مراحل لا بدّ من طيّها:

المرحلة الأولى: مرحلة الأساطير والأوهام، وبتعبير القرآن مرحلة الجاهليّة.

المرحلة الثانية: مرحلة العلم، لكن علم وشباب، يعني

 

 


[1]  سورة الأنبياء، الآية 105.

 

156


136

المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه)

مرحلة حكم الغضب والشهوة، فعلى أيّ محور يدور عصرنا؟ وإن أجرى الإنسان حساباً دقيقاً يرى أنّ المحور الذي يدور زماننا حوله إمّا الغضب أو الشهوة.

فعصرنا هو قبل كلّ شيء عصر الانفجار؛ أي الغضب، وعصر الشهوة. ألن تأتي مرحلة تكون مرحلة حكومة غير حكومة الأساطير وغير حكم الغضب والشهوة والانفجار؟ مرحلة في الواقع تكون مرحلة المعرفة والعدالة والسلم والإنسانيّة والمعنويّة وحكم هذه الأمور؟ كيف يمكن أن لا تأتي مثل هذه المرحلة (أي المرحلة الثالثة)؟ أم يمكن لخالق هذا العالم، والذي خلق البشر على أنّهم أشرف المخلوقات أن لا يوصل البشريّة إلى مرحلة بلوغها، ويقلب البشريّة رأساً على عقب دفعة واحدة؟

إذاً، المهدويّة فلسفة كبرى جدّاً، فانظروا إلى المعاني التي لدينا في الإسلام كم هي راقية.

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ، تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك».

 

157


137
العَدْلُ المُنْتَظَر