تفسير سورة براءة

الإمام الخامنئي دام ظله


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


تفسير سورة براءة

مقدّمة الترجمة العربية

يؤمن بعض الأساتذة في الحوزة العلمية بأنّ التفسير هو الميدان أو العلم الوحيد الذي يمكن أن يقدّم رؤية شاملة عن الإسلام، فسائر العلوم كالفقه والكلام والفلسفة وغيرها، تعطي صورة مقطعية متخصصة عن الإسلام، وتكشف عن بُعدٍ من أبعاده. أما التفسير فإنّه يعطي صورة بانورامية عن الإسلام ككلّ. والسبب واضح، وهو أنّ آيات القرآن الكريم تتنوّع موضوعاتها بين عقيدة وتشريع وأخلاق وتاريخ...

 

واللافت في كتاب الله تعالى أنّ هذه الخاصية لا تزول ولا تفتقد حتى مع انخفاظ الوحدة الموضوعية للسور، وكون كل سورة لها هدف أو مجموعة أهداف مترابطة يقترب بعضها من بعض. فإنّ المقاربة القرآنية للهدف الواحد تتنوّع، وتتعدّد الزوايا التي يعالج القرآن الكريم فيها هذا الهدف الواحد. وبعبارة أخرى: على الرغم من دوران آيات السورة حول موضوع بعينه فإن زوايا المقاربة تتنوّع وتختلف فيبقى الهدف واحدًا والموضوع واحدًا لكن زوايا النظرة متعدّدة.

 

وثمة سور تتميّز بأهداف تغلب عليها، فبعض السور يغلب عليها طابع التشريع، وبعضها يغلب عليها التاريخ، وأخرى يغلب عليها البعد الأخلاقي... والمفسّرون بدورهم تتنوّع أغراضهم واتجاهاتهم التفسيرية، لأسباب شتّى، فبعض المفسرين يصدر في تفسيره عن الهم الاجتماعي، ومفسّر آخر ينطلق من خلفية فقهية، وثالث ينطلق من خلفية كلامية، فيولي الاهتمام الأكبر للآيات التي تنسجم مع غايته والاتّجاه الذي اختاره ليكون ميدانًا يجيل النظر فيه.

 

ومفسّرنا الكبير سماحة آية الله العظمى الإمام الخامنئي (دام ظله)، على الأقل في تفسيره سورة التوبة، يمكن تصنيفه بين المفسرين ذوي الاتّجاه الاجتماعيّ النهضوي. وكان اختياره لهذه السورة في الوقت الذي كان يشتغل على تفسيرها، فالفترة فترة حراك وتمهيد للنهضة الثورية الإسلامية، والظروف أشبه ما تكون بظروف المدينة في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كانت المدينة تعاني الانقسام بين مجموعة من الفئات التي تسكنها، وأخطر هذه الفئات فئة المنافقين الذين أخذوا قسطًا وافرًا من اهتمام سورة التوبة. والتخلّف عن ركب الجهاد ومحاولة تثبيط العزائم من أخطر المؤامرات التي كانوا يتولون كبرها في ذلك العصر.

 

وعصر الثورة الإسلامية كان شبيهًا من بعض الجهات بذلك العصر، فبعض المسلمين كانوا يكيدون للثوّار أو يحاولون عزل أنفسهم عنهم بذرائع شتّى، وجماعات كثيرة من الناس كانت مترددة تعاني الحيرة بين الوقوف مع الثوّار ودعم محاولة التغيير أو الحياد ودعم الطرف الميّال إلى الدعة والراحة.

 

فكانت هذه المحاولة التفسيرية ذريعة لتقديم الرؤية الإسلامية الاجتماعية من وجهة نظر واحدة من الثوّار الأوائل. ومن هنا نجد أنّ الطابع الغالب على هذه المحاولة هو استجلاء مفاهيم القرآن والكشف عن تعاليمه الاجتماعية بهدف ربطها بالراهن وتطبيقها على الأوضاع الاجتماعية التي كانت تُلقى في أثنائها هذه الدروس. واللافت في هذا التفسير هو حُسن التطبيق من دون تكلّف.

 

وقد كان لنا شرف تولّي الترجمة العربية، وسعينا جاهدين إلى الحفاظ على الطابع الأصلي للنص، حتى في الأمثلة التي يضربها وتقتضيها طبيعة المخاطب الإيراني. ولم نتصرّف فيه إلا في حدود ما يقتضيه الاختلاف بين النص العربي والنص غير العربي، كما في حالة حذف ترجمة الآيات وشرحها باللغة الفارسية، وحتى في هذه الموارد سعينا حيث أمكن إلى التعامل مع الترجمة على أنها شرح مبسط للآية قبل الدخول في تفسيرها، فترجمنا الترجمة على أنها شرحٌ.

 

وفي الختام نسأل الله التوفيق لنشر ما بقي من تراث تفسيري لمفسرنا الجليل، ونسأل الله له طول العمر والمزيد من العزّ في الدنيا والآخرة. إنه أعزّ مسؤول وأكرم مجيب.

 

لا يسعنا أيضًا إلا أن نشكر كل من ساهم في إعداد وترجمة النسخة العربية، لا سيما المترجم سماحة الشيخ محمد زراقط. في التدقيق اللغوي الحاج عدنان حمود والأخت سكينة مصطفى، في التصميم الفني الأخ علي عليق، ولا ننسى مكتب حفظ ونشر آثار الإمام الخامنئي ناشر النسخة الأصلية، ودار المعارف الإسلامية الثقافية ناشرة النسخة العربية.

 

مركز المعارف للترجمة

20 محرم الحرام 1442هـ

 

6


1

تفسير سورة براءة

مقدمة[1]

يضمن الإيمان بالقرآن الكريم والعمل بتعاليمه سعادة الناس أفرادًا وجماعات، وتتعارض هذه التعاليم مع مصالح الحكّام الظالمين، ولأجل هذا سعى هؤلاء الظالمون عبر التاريخ إلى إيجاد القطيعة بين أعضاء الأمّة الإسلامية والقرآن، ومفاهيمه العميقة الضامنة لنجاة البشرية والمؤمّنة لسعادتها. ولم تكن السلالة البهلوية التي حكمت إيران قبل الثورة الإسلامية بمنأًى عن هذه السياسة.

 

ومن هنا، يمكن القول إنّ أهمّ الأنشطة الثورية التي كان يؤدّيها الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله إبّان الثورة الإسلامية، هو الجلسات واللقاءات التفسيرية التي كانت تعقد في أماكن عدّة وتستضيف الطلاب من الحوزة والجامعة، مضافًا إلى عامّة الناس. وذلك على الرغم من الفضاء السياسي الضاغط والمعيق لمثل هذه الأنشطة. وقد تعرّضت هذه اللقاءات للمنع تحت ضغط التهديد مرّات عدّة من قبل الجهاز الأمني الملكيّ، ولكنّ إصرار سماحته وعزيمته ورغبة المخاطبين كانت تضغط في الجهة المقابلة، ما كان يفضي إلى استئناف النشاط بعد فترة من التعطيل القسري. وقاسى سماحته في سبيل هذه اللقاءات وغيرها من الأنشطة الثورية آلام السجن ومعاناته مرات عدّة.

 

شرع سماحته في درس التفسير لطلّاب الحوزة العلمية في خريف عام 1350 هـــ.ش. (1971م.) في مدرسة ميرزا جعفر[2]. وقد كانت هذه الدروس مصدر قلقٍ وتوتّر للجهاز الأمني الملكي منذ انطلاقتها، إلى حدّ أنّ وثائق السافاك التي


 


[1] ترجمة مقدمة ناشر النسخة الفارسية.

[2] هذه المدرسة تستخدم حاليًّا كمقرّ للجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية.

 

8


2

تفسير سورة براءة

كُشِفت لاحقًا بعد الثورة تصف سماحته بأنّه: "شخصٌ مزعجٌ لا يمكن إصلاحه"، وتوصي "بوجوب إخراجه من الحوزة العلمية"[1].

 

وقد فسّر سماحته في هذه اللقاءات سور المائدة والأنفال وبراءة وقسمًا من سورة يونس. وتاريخ تفسير سورة براءة شتاء عام 1351 هـ.ش. الموافق لمحرم الحرام من عام 1393 هـ.ق (1973م). وقد كان درس التفسير هذا واحدًا من درسين في التفسير في الحوزة العلمية في مشهد. وكان يُعقد هذا الدرس يومي الخميس والجمعة حيث تُعطّل الدروس الرسمية في الحوزة العلمية، وذلك في مدرسة ميرزا جعفر بداية، ثم انتقل إلى مسجد في الشارع المعروف في هذه الأيام بشارع الشهيد نوّاب صفوي، وأخيرًا انتقل إلى مسجد القبلة.

 

وعلى الرغم من الفضاء الأمني الضاغط في تلك الأيّام فإنّ المضامين التي قدّمت في هذا الدرس التفسيري هي مضامين تربويّة واجتماعية، تستجيب لعطش المخاطبين وشوقهم إلى تلقّي المعارف من زلال القرآن وتراث أهل البيت عليهم السلام، ولم يكن هذا الدرس درسًا نظريًّا يهتمّ بمعالجة القضايا العلمية واللغوية والنكات الأدبية التي تستعرض عادةً في دروس التفسير، بل كانت قضايا المجتمع هي القضايا والمسائل الأساس التي يتوقّف عندها، من قبيل: حاكمية الدين في المجتمع، ومواجهة الطاغوت وغير ذلك ممّا كان يتعارض مع الجوّ السياسي الذي كان يريد الشاه وجهازه الأمني نشره في المجتمع الإيراني. ولقد تركت هذه المضامين أثرها في نفوس المخاطبين وعمّقت قناعتهم وإيمانهم بوجوب العمل على هدم أركان سلطة الطاغوت وإحلال نظام تُبنى قواعده على الدين محلّها.

 

وورد في تقرير لأحد عملاء جهاز السافاك يصف فيه الطلاب الذي يحضرون درس التفسير في مسجد الإمام الحسن  عليه السلام، بقوله: "وهذه الجماعة تتلقّى بشكلٍ مستمرٍّ دروسًا تترك عظيم الأثر في نفوس أعضائها، حتّى يكاد أحدهم يتحوّل إلى شعلة متّقدة لا تخشى شيئًا. ويتحوّل هؤلاء الأشخاص إلى مبلّغين ودعاة يروّجون لفكرة أنّ الدولة الحالية أسوأ من دولة يزيد، ويُقال لهم إنّكم اليوم بمنزلة الإمام


 


[1] شرح اسم، ص 458.

 

9


3

تفسير سورة براءة

الحسن عليه السلام وعلي الأكبر والحسين  عليه السلام، ويُلقنون أنّ الاعتقال بل والموت هو فخرٌ لكم، وإنّ أعضاء هذه الجماعة تقبل كل هذه الدعاوى بإيمانٍ راسخٍ"[1].

 

ولعلّ اختيار هذه السور بالتحديد لتفسيرها في هذه اللقاءات كان مقصودًا، لأنّ هذه السور وخاصة سورة براءة تحتوي على الكثير من المضامين الاجتماعية.

 

وتتشرّف "مؤسسه پژوهشی فرهنگی انقلاب اسلامی (مکتب حفظ ونشر آثار حضرت آیت الله العظمی خامنه ای)" (مؤسسة الثورة الإسلامية البحثية الثقافية: مكتب حفظ ونشر مؤلّفات حضرة آية الله العظمى الخامنئي)، بنشر هذه الدروس وتقديمها إلى القرّاء الكرام، بهدف تعميم الفائدة ونشر آرائه ورؤاه القرآنية.

 

وما ننشره في هذا الكتاب هو ما وصلنا من دروس سماحته عن طريقين:

أحدهما: المدوّنات التي تفضّل بها حجة الإسلام والمسلمين حسن ربّاني فردوسي الذي كان يتولى التسجيل الصوتي للدروس ثم يعمل على تفريغها على الورق وتحويلها إلى نص مكتوب.

 

والثاني: المدوّنات والملاحظات التي كان يسطّرها في الدرس حجة الإسلام والمسلمين محمد باقر داودي. فلهما معًا نرفع أسمى آيات الشكر والتقدير.

 

أشرف على مسار إعداد هذا الكتاب حجة الإسلام والمسلمين محمد باقر فرزانه (رئيس الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية)، وحجة الإسلام والمسلمين السيد مصباح العاملي (مدير الحوزة العلمية في مشهد)، بالتعاون من اثنين من الفضلاء الذين كانوا يشاركون في دروس التفسير هذه. وبعد جمع هذه الدروس وتحويلها إلى مدونات على الورق وضعت بين أيدي ثلاثة من أعضاء الهيئة العلمية في الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية هم: الدكتور جواد إيرواني، والدكتور علي خيّاط، والدكتور رضا حق پناه، وقد عملت هذه اللجنة الكريمة على إصلاح النصوص وتخريج الأحاديث والأقوال من مصادرها، وتقطيع النص وعنونة فقره، وتحرير النصوص بشكلٍ جزئيٍّ، مع الحرص على بقاء روح النصّ أقرب


 


[1] شرح اسم، ص 511.

 

10


4

تفسير سورة براءة

ما يمكن إلى أسلوب صاحبها. وكان الهدف من التحرير الجزئي تحويل النصّ الشفهي إلى نصٍّ مكتوب يتناسب مع طبيعة الكتابة التفسيرية. وطلبًا للتخصصية فقد سلّمنا النص النهائي إلى لجنة متخصصة في مركز الدراسات الإسلامية التابع للجامعة الرضوية ووضع في عهدة السيد مهدي أنواري ليعمل تحت إشراف لجنة مؤلفة من عدد من أعضاء الهيئة العلمية في الجامعة الرضوية وهم: الدكتور خيّاط والدكتور رضا حق پناه والدكتور جلائيان. وتقديرا للجهود التي بذلها هؤلاء الكرام جميعا فإنّ المؤسسة تتقدّم إليهم بالشكر والتعبير عن الامتنان.

 

وفي عام 1393 هـ.ش (2014م). نُشر كتاب يعالج مسألة قواعد التفسير عند آية الله العظمى الخامنئي دام ظله ويستند الكاتب في استخراج منهج سماحته والقواعد التي يستند إليها في التفسير إلى هذه الدروس، وقد أعدّ هذا العمل في مؤسسة "نسيم انقلاب" (نسيم الثورة) ونشر في مؤسسة "انتشارات انقلاب اسلامي" تحت عنوان: "مرورى بر مباني، روش، وقواعد تفسير حضرت آيت الله العظمى خامنه اى دام ظله في تفسير سورة التوبة"، وبهدف تعميم الفائدة ونشر الفكر القرآني لسماحة السيد حفظه الله، عملنا على ضم هذا الكتاب إلى كتابنا هذا وجعلناه بمنزلة التمهيد قبل تفسير سورة براءة.

 

إنّ هذا الكتاب موجّه إلى المجامع العلمية والمهتمين بتفسير القرآن الكريم، كما هو موجّه إلى سائر الناس، ويمكن أن يكون كتابًا مساعدًا في التفسير ومناهجه. نسأل الله تعالى أن يقبل منّا هذا الجهد، وأن يجعله خطوة في مسار نشر المعارف القرآنية.

 

ومن الله التوفيق

 

 

11

 

 

 

 


5

تفسير سورة براءة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التفسير عند آية الله الخامنئي: المنهج والمباني والقواعد

 

أ- المنهج التفسيري[1]

يكشف التأمل في المادة التفسيرية التي بين أيدينا عن أنّ المنهج المعتمد فيها هو المنهج الاجتهادي، مع الاستفادة الملحوظة من منهج تفسير القرآن بالقرآن، كما يلحظ المراقب لهذه المادة حضورًا معتنًى به للرواية أيضًا.

 

ومرادنا من المنهج الاجتهادي اعتماد المفسِّر على جهده العقليّ والفكري لتحليل الآيات وفهمها والوصول إلى مراد الله تعالى ومقاصده من القرآن الكريم. وهكذا يتبيّن أنّ الأساس في المنهج الاجتهادي هو التدبّر، على خلاف المنهج الروائي الذي يُعتمد فيه بالدرجة الأولى على الرواية والأحاديث الواردة في تفسير الآية.[1] والموارد التي يمكن عدّها أمثلة على اعتماد هذا المنهج كثيرةٌ سوف نوردها لاحقًا، وخاصّة عند معالجتنا قضيّة التجديد في التفسير عند الإمام الخامنئي.

 

ولا يعني اعتماد المنهج الاجتهادي هجرَ المنهج الأثير عند عدد من المفسرين وهو منهج تفسير القرآن بالقرآن، وذلك أنّ المنهج واضح الحضور في تفسير

 


[1]  نقصد بالمنهج في هذه الدراسة الأدوات أو المصادر التي يستخدمها المفسر للوصول إلى نتائج محدّدة في مجال الكشف عن معنى آيات القرآن الكريم. ومن أهم مناهج التفسير المعروفة بين المشتغلين على التفسير وعلوم القرآن: تفسير القرآن بالقرآن، ،التفسير الروائيّ أو الأثريّ، التفسير العلميّ، والتفسير العقلي الاجتهاديّ، والتفسير الإشاريّ، والمنهج المتكامل في التفسير. للمزيد عن مناهج التفسير، انظر: أصول التفسير وقواعده، ص 107-182، المبادئ العامّة لتفسير القرآن بين النظرية والتطبيق، ص 89-129، ومباني وروشهاى تفسير قرآن، ص 215-216.

2- انظر  التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، ج2، ص349، أصول التفسير وقواعده، ص176.

 

31


6

تفسير سورة براءة

الإمام الخامنئي، حيث يستعين بآيات من القرآن لتفسير آية أخرى. وفي ما يأتي نورد بعض النماذج:

1- عند تفسيره لآية: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ﴾[1] وفي سياق بيانه لمعيار مواجهة الكافرين يستند إلى الآيتين 8 و9 من سورة الممتحنة، وذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم﴾.

 

2- في تفسيره لكلمة "الحامدون"[2] الواردة في ذيل آيات الجهاد، يرجع المستمعَ والقارئَ إلى آيات سورة النصر.

 

3- عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾[3] يبيّن أنّ مرجع الضمير في كلمة سكينة هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وليس أبا بكر، وذلك بالاستناد إلى آيات عدّة منها، قوله تعالى: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾[4]، وقوله عزّ وجل: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾[5]، و﴿وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ﴾([6])، و﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى[7]، و﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾[8] وهذه الآيات جميعًا تفيد أنّ تثبيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ لا إشكال فيه بل لازمٌ.

 

4- يشير في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾[9]، إلى قوله تعالى: ﴿أَمْ


 


[1] سورة التوبة: الآية 13.

[2] سورة التوبة: الآية 112.

[3] سورة التوبة: الآية 40.

[4] سورة التوبة: الآية 26.

[5] سورة الحجر: الآية 97.

[6] سورة هود: الآية 12.

[7] سورة طه: الآية 2.

[8] سورة الإسراء: الآية 74.

[9] سورة التوبة: الآية 16.

 

 

32


7

تفسير سورة براءة

حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾[1]، وقوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا﴾[2].

 

5- والأمر عينه نلاحظه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾[3]، حيث يربط هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[4].

 

6- ومن أجل بيان المعنى الصحيح لمفهوم التوكّل، في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[5]، يربط بين المفهوم الوارد في هذه الآية وبين آيات أخرى مثل: الآية 59 من سورة العنكبوت، والآية 81 من سورة النساء، والآية 71 من سورة يونس، والآيات 53 إلى 56 من سورة هود، والآية 12 من سورة إبراهيم، والآية 10 من سورة المجادلة.

 

7- رُبِط بين قوله تعالى: ﴿يؤمن للمؤمنين﴾[6]، وبين آية: ﴿إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ﴾[7] لتأصيل مبدأ عامٍّ.

 

8- طُرِح قوله تعالى: ﴿هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله﴾[8]، إلى جانب قوله: ﴿ويقبضون أيديهم﴾[9].

 

9- في تفسير الآية 38 من سورة التوبة، وبمناسبةٍ مّا أُشير إلى آيات من سور: المائدة والفتح، وحُلِّلت هذه الآيات بطريقة التفسير الموضوعي. وكذلك في تفسير الآية 71 ولبيان معنى قوله تعالى: ﴿يطيعون الله ورسوله﴾ أحال


 


[1] سورة البقرة: الآية 214. 

[2] سورة العنكبوت: الآية 2.

[3] سورة التوبة: الآية 46.

[4] سورة الأنفال: الآية 60.

[5] سورة التوبة: الآية 51.

[6] سورة التوبة: الآية 61.

[7] سورة الحجرات: الآية 6.

[8] سورة المنافقون: الآية 7.

[9] سورة التوبة: الآية 67.

 

 

33


8

تفسير سورة براءة

سماحته إلى آيات أخرى ذات صلة بالموضوع.

 

10- وفي تفسير الآية 73 فتح بحثًا موضوعيًّا في مفهوم الجهاد في القرآن، وبيّن أنّ استعراض الآيات المرتبطة بالجهاد هي السبيل الأساس لفهم هذا المصطلح القرآنيّ. وفعل ذلك باستعراض عددٍ من الآيات ذات الصلة. وفي الآية نفسها أيضًا وبمناسبة تفسير عبارة ﴿واغلظ عليهم﴾ أشار إلى عددٍ من الآيات.

 

11- في تفسير الآية 74 التي تصف المنافقين بعبارة: ﴿كفروا بعد إسلامهم﴾، توقّف عند كلمة الإسلام واستعمالها وعدم استعمال كلمة الإيمان، وربط بين هذه الآية وبين الآية 14 من سورة الحجرات، لورود الكلمة نفسها في وصف المنافقين.

 

12- وفي تفسير الآية 79 أشار سماحته إلى الآيات الأولى من سورة الهمزة، وفي تفسير جملة ﴿بأنّهم كفروا بالله﴾ في الآية 80 الواردة في وصف المنافقين، بيّن أنّ المراد من "الكافر" الذي يأمر القرآن بمواجهته وقتاله، هو الكافر في مقام العمل والذي يندسّ بين المسلمين بهدف الإضرار بهم، ولتأييد هذا المعنى يستند إلى الآيتين 8 و 9 من سورة الممتحنة.

13- في تفسير الآية 97، يستند إلى آية من سورة الحجرات، ويستعين لتفسير الآية 114 بآيات من سورة الممتحنة أيضًا.

 

14- عند تفسير قوله تعالى: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم﴾[1] يستشهد بآية: ﴿وكأيٍّ من نبيّ قاتل معه ربّيّون﴾[2].

 

مضافًا إلى النماذج التي ذكرناها يُلاحِظ القارئ لهذا العمل التفسيري في موارد عدّة، تحليلَ موضوعات بشكلٍ مستقلٍّ، وفي هذه الأبحاث تظهر بوضوح أهميّة الآيات في تفسيره وذلك يؤكّد أنّ المنهج الغالب على هذا التفسير هو المنهج القرآنيّ، أو منهج تفسير القرآن بالقرآن. وسوف يأتي المزيد حول هذه السمة.


 


[1] سورة التوبة: الآية 111.

[2] سورة آل عمران: الآية 146.

 

34


9

تفسير سورة براءة

وتجدر الإشارة إلى أنّ الأخبار والروايات لها حضور ملحوظ في هذا التفسير، وقد صرّح في تفسير الآية 60 من سورة التوبة بأنّ فهم الآية بشكلٍ صحيح ينبغي أن يمرّ بمراحلَ أوّلها التأمّل في ظاهر الآية بحسب الفهم العرفيّ، والمرحلة الثانية هي ملاحظة الأخبار والروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وهذه الأخبار إمّا أن تبيّنَ معنى الآية وتزيده جلاءً ووضوحًا، وإمّا أن تقيّد الآية أو تخصّصها. ومن الموارد التي يمكن الإشارة إليها كأمثلة على الاستناد إلى الروايات، تفسير الآيات الآتية: 1، 3، 38، 44، 51، 53، 54، 63، 111، 112.

 

ويزداد الاستناد إلى الروايات وضوحًا في تفسير الآيات ذات الطابع الفقهيّ. وسوف نتوقّف لاحقًا من أجل بيان الضوابط العامّة للتفسير الروائيّ المعتمدة في هذا التفسير.

 

ب) الاتّجاه التفسيري[1]

الاتّجاه الأساس المعتمد في هذا التفسير هو الاتّجاه الاجتماعيّ – السياسيّ، مع بعدٍ تربويّ هدائيٍّ واضحٍ. ومن هنا، يلاحظ المتأمّل في أنحاء هذا الجهد التفسيريّ قلّة الاهتمام بالقضايا الأدبية والفقهية والكلاميّة. ومن أهمّ خصائص الاتّجاه الاجتماعي، ما يأتي:

- الآيات التي تتضمّن إشارات إلى المسائل الاجتماعيّة، هي الآيات الأكثر حظوة بالاهتمام.


 


[1] المقصود من الاتّجاه السمة الغالبة على التفسير والتي عادة تكون مستندة إلى اهتمامات المفسِّر حيث ينعكس اهتمامه وتوجّهاته المذهبية والعلمية والثقافية وتخصّصه العلميّ على تفسيره. ومن أهمّ الاتّجاهات التي بُحث عنها عند المشتغلين على منهجيّات التفسير: الاتّجاه الأدبيّ، والفقهيّ، والفلسفيّ، والاجتماعيّ، والأخلاقيّ، والتاريخيّ، والعلميّ، والكلاميّ، والمعنويّ – التربويّ، والجهاديّ، والتقريبيّ، والسياسيّ. (للمزيد حول هذه الاتجاهات، انظر: التفسير والمفسِّرون، ج2، ص 14-20، وج1، ص 150-153؛ ومباني وروشهاي تفسير قرآن، ص 214).

 

35


10

تفسير سورة براءة

- تُعرض المشكلات الاجتماعيّة على آيات كتاب الله بهدف البحث عن حلول قرآنيّة لها.

 

- يقلّ فيه الاهتمام بالمسائل الأدبيّة، والفقهيّة، ولا يتوقّف المفسِّر كثيرًا عند الأبعاد اللغويّة والأدبيّة في تفسيره.

 

- يهتمّ المفسِّر بالقضايا المعاصرة. ومن القضايا المعاصرة التي حظيت باهتمام هذا التفسير: معرفة العدوّ، ومواجهة الاستعمار وخططه التي يدبِّرها للمجتمعات الإسلاميّة، وقضية التقريب والعلاقات البينية بين المسلمين.

 

- يبرز المفسِّر التعاليم التربويّة والإرشاديّة في الآيات التي يفسِّرها.

 

- يستعين بمقدار الحاجة بأحدث منجزات العقل البشريّ في مجال العلوم التجريبية والعلوم الإنسانيّة.

 

- يتجنّب صاحب هذا الاتّجاه الخوض في الإسرائيليّات أو الاستناد إليها في تفسيره.

 

- لغة هذا الاتّجاه تميل عادةً إلى البعد عن التعقيد، حيث يفترض أنّ المخاطب هو شرائح متنوّعة من المجتمع، ولهذا يتجنّب هذا التفسير اعتماد اللغة التخصّصية التي يستعصي فهمها على غير المتخصّصين، أو النخب الاجتماعيّة.

 

- يعمل المفسِّر الاجتماعي على بيان السنن الإلهيّة في المجتمع ويظهرها، ويطبِّق الآيات عليها[1].

 

وهذه الخصائص كلّها موجودة في هذا العمل التفسيريّ الذي نحن بصدد التقديم له، وسوف نفصّل القول في هذا الأمر لاحقًا.

 

والآن وبناءً على هذا التمهيد، سوف نحاول إبراز أهمّ الخصائص التي تسمح بتصنيف هذا التفسير في دائرة الاتّجاه الاجتماعيّ:

 


[1] للمزيد عن الاتّجاه الاجتماعيّ، انظر: التفسير والمفسِّرون، ج 2، ص 451-453؛ المبادئ العامّة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، ص 128-129.

 

36


11

تفسير سورة براءة

1- تظهير المباحث الاجتماعيّة القرآنية

مصاديق هذه الخصوصية ومواردها كثيرة في هذا التفسير. ومن باب المثال نشير إلى ما يأتي: في تفسير الآية 67، ركّز هذا التفسير على الأبحاث الاجتماعية المرتبطة بالنفاق، والتيّارات المنافقة في المجتمع. وفي تفسير الآية 103 وفي سياق الحديث عن الفعل "تطهِّرهم" تعرّض بالتفصيل للبحث في الآثار الاجتماعيّة لأداء الزكاة. وبمناسبة الإشارة القرآنية إلى "سبيل الله" كمصرفٍ من مصارف الزكاة كانت لهذا التفسير وقفةٌ عند المذهب الاقتصاديّ في الإسلام لبيان أنّه مذهبٌ يوازن بين الفرد والمجتمع في وقتٍ واحدٍ. وسوف نعرض نماذج أخرى في المباحث الآتية.

 

2- تحليل الأمراض الاجتماعيّة وحلولها القرآنية

لا شكّ في أنّ من أهمّ الشواخص في التفسير الاجتماعيّ التوقّف عند المشكلات والآفات التي هي محلّ ابتلاء في المجتمع، وعرضها على القرآن الكريم، بهدف البحث عن التوجيهات القرآنيّة في شأنها.

 

وفي هذا التفسير نماذج عدّة منها، أنّه عند تفسير الآية 113 من سورة التوبة، تعرّض للبحث في الغرور والعُجب الناجم عن التوفّر على السلطة نتيجة الحظوة بالأكثريّة، وعدّ هذه المشكلة من أخطر الآفات التي يمكن أن تُبتلى بها جماعة من الجماعات. ومن هنا، نلاحظ أنّ القرآن الكريم يولي الأمر بالمعروف والتواصي بالحق والصبر عنايةً ملحوظةً. وقد ابتُليت كثيرٌ من المجتمعات بهذه الآفة، ما يجعل لفت القرآن إليها وإلى علاجها من الأمور المطلوبة.

 

فقد أورد في تفسير قوله تعالى: ﴿قاتلوهم يعذِّبهم الله بأيديكم﴾[1] فقدان الأمم إرادتها من جهة، وميل أمم أخرى إلى السلطة والسيطرة على مقدّرات غيرها من الأمم من جهة أخرى، من الآفات الاجتماعيّة الخطيرة، التي تحكم العلاقة بين الأمم المستعمَرة والأمم المستعمِرة.

 


[1] سورة التوبة: الآية 14.

 

37


12

تفسير سورة براءة

وكذلك في تفسير الآية 54 يتوقّف عند الأسباب الاجتماعية الأساسْ التي تجعل الأمم تعاند وتعارض الحركات الإصلاحية التي بشّر بها الأنبياء وغيرهم من المصلحين عبر التاريخ. ومن أبرز هذه الأسباب: وفرة الإمكانات والمقدّرات المالية والاقتصادية، الموقع الاجتماعي والمصالح غير المشروعة. ومن هنا، يحذّر سماحتُه المجتمعَ الإسلاميَّ من الوقوع تحت تأثير هذه الأسباب.

 

في تفسير الآيتين 41 و 42 يصرّح بأنّ هاتين الآيتين تتضمّنان ثلاثة مطالب كلّيّة... والثالث من هذه المطالب مطلبٌ اجتماعيٌّ هو: "العواقب الخطيرة للتخاذل في أمر الجهاد في المجتمع" وعالج هذا الأمر بالتفصيل.

 

3- فكرة تشكيل الحكومة الإسلامية

ومن خصائص الاتّجاه الاجتماعي – السياسيّ في التفسير؛ بل ربّما خصوصيّته الأهمّ والأبرز الاهتمام بالأحكام ذات الطابع الاجتماعيّ في القرآن؛ أي ما يقابل الأحكام الفرديّة، ويدخل في دائرة هذا النوع من الأحكام والتعاليم الأمور ذات البعد السياسيّ. ومن ذلك قضية تأسيس الدولة والنظام السياسيّ الإسلاميّ، وهذا ما تتكرّر الإشارة إليه في هذا التفسير. ومن نماذجه وتطبيقاته، ما ورد في تفسير الآيات: 12، و13، و38، و40، و111.

 

4- الردّ على الشبهات المثارة حول القرآن

تدخل الشبهات المثارة حول القرآن أو بعض تعاليمه وأحكامه في دائرة اهتمام الاتجاه الاجتماعيّ. ومن هنا، نجد أنّ المشتغلين بالتفسير في إطار هذا الاتّجاه يرصدون الشبهات المثارة ويقدّمون أجوبتهم عنها، وهذا ما نلاحظه في هذا التفسير، ومن ذلك:

1- في تفسير الآية 5 من سورة التوبة التي تأمر بقتل المشركين، يُطرح عادةً تساؤلٌ حول مبرّر هذا الحكم، ومن الأجوبة التي طرحها سماحته في تفسيره أنّ

 

38

 


13

تفسير سورة براءة

هؤلاء يمثّلون سدًّا في وجه الإنسانية في مسارها نحو التكامل والسعادة في الدارين.

 

2- في سياق تفسير الآية 12، وفي مقابل قوله تعالى: ﴿وطعنوا في دينكم﴾، يُطرح هذا التساؤل وهو أنّه لماذا يعدّ القرآن الانتقاد أو الرأي المخالف طعنًا في الدين؟ وبالتالي يواجهه بالسيف. وفي الجواب عن هذا التساؤل يردّ مفسِّرنا الجليل بأنّ طريقة القرآن هي الجدال بالتي هي أحسن، وهي غضّ الطرف والتسامح؛ ولكن عندما يصل الأمر إلى تحوّل الرأي المخالف إلى محاولة للتعمية على الناس ومنع صوت الهداية من الوصول إليهم، عندها لا بدّ من المواجهة. إذًا لا يردّ الإسلام على الرأي المخالف بالسيف؛ بل يردّ به على من يتحوّل إلى قاطعٍ لطريق الهداية على الناس.

 

3- في تفسير قوله تعالى: ﴿أتخشونهم﴾[1]، يتساءل بعض الناس كيف يمكن لمسلمٍ في صدر الإسلام أن يخاف، وخاصّة في تلك الفترة التي كان الإسلام في أوج سيطرته على الجزيرة العربية؟ وفي الجواب يشير إلى أسباب هذا الخوف وجذوره مستنبطًا ذلك من الآية نفسها.

 

4- في تفسير الآية 29 من سورة التوبة، يطرح التساؤل المعروف عن مبرّر أخذ الجزية من أهل الكتاب؟ ويعالج هذا الموضوع بالتفصيل.

 

5- في تفسير قوله تعالى: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾[2]، وبعد بيان مرجع الضمير في كلمة "سكينة" وأنّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يردّ على الشبهة أو التساؤل عن مدى حاجة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى السكينة ونزولها عليه؟ ويستند في الردّ إلى عددٍ من الآيات ذات الصلة.

 

6- في تفسير قوله تعالى: ﴿عفا الله عنك﴾[3]، تُطرح تساؤلات حول عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيدرس هذه الأسئلة ويجيب عنها بما يثبت عصمته صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أخيرًا ثمة موارد تستحقّ الإشارة منها: تحليله لقوله تعالى: ﴿كره الله انبعاثهم

 


[1] سورة التوبة: الآية 13.

[2] سورة التوبة: الآية 40.

[3] سورة التوبة: الآية 43.

 

39


14

تفسير سورة براءة

فثبّطهم﴾[1]، ومنها بحثه في السبب الذي يجعل الله لا يقبل نفقات المنافقين، في الآية 54 من سورة التوبة، ومنها التوقّف عند موقف الإسلام من الرقّ ودعوته إلى تحرير العبيد في تفسير الآية 60 من سورة التوبة، ومنها تحليله لموقف المنافقين في الوحي في تفسير الآية 64، ومنها تساؤله عن الدعوة إلى طاعة الله بعد الدعوة إلى طاعة رسوله في الآية 71، ومنها تحليله للأسباب الداعية إلى تكرار القرآن الحديث عن النعم وتأكيده على خلود نعم الجنّة في تفسير الآية 72، ومنها تحليله لعدم الأمر بجهاد المنافقين في الآية 73، وأخيرًا تحليله للتمييز بين فئات غير القادرين على الجهاد وعدم ذكر حكمهم جملةً واحدة في تفسير الآية 91. وثمة موارد أخرى نترك للقارئ اكتشافها.

 

5- بيان السنن الإلهيّة

السنن الإلهية التي ذُكِرت في عدد من آيات كتاب الله[2]، هي القوانين الثابتة التي يُدار الكون على أساسها في عالمي التشريع والتكوين[3]. والقرآن يسمّي هذه القوانين بالسنن في بعض الموارد، وفي موارد أخرى يذكرها دون أن يشير إلى كونها سنّةً، وهنا على المفسِّر المتعمِّق في دلالات كتاب الله تعالى أن يكتشف هذه القوانين والسنن. وبعض هذه السنن محلُّها وموردُ انطباقها المجتمعُ الإنسانيّ، وهي تتّسم بالسمة نفسها أي سمة الثبات وعدم التغيّر، والالتفات إليها واكتشافها يُسهِم في تحسين إدارة المجتمع الإنساني، ويساعد على السير به في الطريق الأكثر انسجامًا مع طبيعته.

 

ومن ميزات هذا التفسير اهتمامه بهذا البعد وبيان السنن الإلهية وتوقّفه عندها، وفق الهدف الأساس وهو اكتشاف البرنامج الذي يساعد المجتمع والأفراد على


 


[1] سورة التوبة: الآية 46.

[2] انظر: سورة الأنفال: الآية 38؛ سورة الحجر: الآية 13؛ سورة الإسراء: الآية 77؛ سورة الكهف: الآية 55؛ سورة الأحزاب: الآيتان 38 و62...

[3] ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا﴾ (سورة فاطر: الآية 43؛ وانظر: تفسير نمونه، ج 17، ص 435، وج 18، ص 296.

 

40


15

تفسير سورة براءة

السير التكامليّ. ونكتفي بالإشارة إلى عدد من الموارد من هذه المواقف التفسيرية:

1- في تفسير الآية الثانية من سورة التوبة يتوقّف عند سنّة إلهية تقضي بأنّ من يعاند الحقّ ويحاول طمسه لن يحصل إلا على الخزي والفضيحة.

 

2- بيانه لسنّة توقّف حصول الإنسان على ما يريد على الجهد الذي يبذله، وذلك عند تفسير الآية 14.[1]

 

3- الترابط بين العزّة في الدنيا وبين تحمّل مسؤولية المواجهة في ساحات الجهاد، وذلك في تفسير الآية 39.

 

4- الإشارة إلى سنّة الابتلاء والامتحان عند تفسير الآية 16.

 

5- حديثه عن سنّة الترابط بين بقاء الفكر وبين الجهاد، وتشبيهه هذه السنّة بقانون الجاذبية في الثبات، وذلك في تفسير الآية 41.

 

6- وقوفه مطوّلًا عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾[2]، وذلك لبيان السنّة الإلهية القاضية بأنّ النزاع بين أصحاب المبادئ وبين غيرهم، نتيجته واحدة وهي أن تكون العاقبة للمبدئيّين، ولكن ذلك بعد امتحانات واختبارات، وانتصارات وهزائم موقّتة.

 

6- الاهتمام بالتفسير العلميّ

في تفسير الآية 41 يشير إلى أنّ المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا مطّلعين إلا على النزر اليسير من العلوم والمعارف وخاصّة ما يرتبط منها بالعلوم التجريبية؛ ولكنّ إيمانهم بالله وتصديقهم بالوحي كان يفتح آفاق وعيهم وإدراكهم عندما يسمعون مثل قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾. ومع مرور الزمان بدأوا يتعرّفون إلى العلوم: "وظهرت علوم عدة في مجال الإنسانيّات كعلم الاجتماع وعلم النفس.

 


[1] الموارد التي لا نشير فيها إلى السورة، تكون هذه السورة هي سورة التوبة.

[2] سورة التوبة: الآية 50.

 

41


16

تفسير سورة براءة

وعرف المسلمون أنّ تقدّم الفكر يتوقّف على الجهد الذي يبذله المؤمنون به، وهو القانون الذي تشير إليه هذه الآية".

 

وهذه الإشارة يمكن اعتبارها التفاتةً إلى التفسير العلميّ والاستفادة من نتائج العلوم الإنسانية والتجريبيّة في فهم آيات كتاب الله. وليست هي المرّة الوحيدة التي يشير فيها إلى هذا الأمر؛ بل يقول في تفسير الآية 38: "جرت عادة النبيّ في حروبه ومعاركه على أن لا يكشف خططه وأهدافه، وكان أفراد معسكره ينطلقون ولا يعرفون المقصد حتّى بعد أن يقطعوا مسافة في مسارهم. وقد نقل عددٌ من مؤرّخي أهل السنّة هذه السيرة من سيره صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه ومعاركه. ولكنّه في هذه المعركة بيّن الهدف والمقصد؛ وذلك لبعد الشقّة وخطورة المعركة. وتغيير سيرته في هذه المعركة ينسجم مع مبدإ اجتماعيّ، ما زال معترفًا به حتّى عصرنا هذا، وحاصل هذا المبدإ أنّ الجنود في المعارك الخطرة يحسن أداؤهم إذا عرفوا التفاصيل. ومن هنا نجد، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم بيّن لجيشه أنّ المقصد هو مواجهة الروم في تبوك". وهذه الالتفاتات الدقيقة النفسية والاجتماعية من المؤشِّرات على اهتمام مفسِّرنا الكبير بالمنهج العلميّ والاستفادة منه في تحليل كتاب الله.

 

7- التقريب بين المذاهب الإسلامية

يحرص المفسِّرون ذوو الاتّجاه الاجتماعيّ على الاهتمام بالمسائل ذات الصلة بالتقريب بين المسلمين، سعيًا منهم لتمتين الوحدة وتحقيق الانسجام بين المسلمين على اختلاف توجّهاتهم وانتماءاتهم المذهبية. ويمكن مشاهدة الأبحاث ذات الطابع التقريبيّ في هذا التفسير على نحوين. النحو الأوّل: هو الالتفات إلى ما ورد عند أهل السنّة في كتب التفسير السنّي أو في كتب الحديث، بغضّ النظر عن موضوعها، ومن الأخبار التي ينقلها ما يرتبط بأسباب نزول بعض الآيات في حقّ بعض الخلفاء أو الصحابة. ومن النماذج ما يقوله في تفسير الآيات الأولى من سورة التوبة. وعند تفسير الآية 100 من سورة التوبة، يقول في بحث عدالة الصحابة: "لا نريد الدخول الآن في النقاش الشيعي السنّي، وإنما هدفنا فهم القرآن من دون تعصّبٍ لهذا الرأي أو ذاك، وليس التعصّب طريقة لنا ولا مذهبًا". والنحو الثاني:

 

 

42


17

تفسير سورة براءة

انتقاده لتطرّف بعض المفسِّرين في تعاملهم مع القرآن وآياته، ومن ذلك انتقاده ما يطرحه صاحب المنار في تفسير الآية 40 من سورة التوبة. وكذلك انتقاده تعصّب بعض المفسِّرين من أهل السنة في تفسير الآية 26 من السورة نفسها.

 

ومن نماذج الاهتمام الاجتماعي بقضية التقريب والوحدة ما يطرحه حول ضرورة التآخي بين المسلمين، وتوحيد صفوفهم في سياق تفسيره الآية 50 من سورة التوبة.

 

8- تجنّب المباحث القليلة الجدوى

من حسنات الاتّجاه الاجتماعي تجنّب أصحاب هذه الاتّجاه من المفسِّرين الدخول في المباحث التي لا تترتّب عليها جدوى كبيرة. وتتجلّى هذه الخصلة في هذا التفسير بوضوحٍ. والأمثلة كثيرةٌ منها توقّفه عند مفهوم الحجّ الأكبر في الآية 3 من سورة التوبة، فيشير إلى اختلاف المفسِّرين في تعيين المراد من هذا المفهوم، ويعلّق بأنّه لا ينبغي أن يكون الهدف من التفسير معرفة رأي هذا وذاك؛ ولكنّه يعد بالتوقّف عند هذه القضية على الرغم من تقديره عدم أهميّتها، لإمكان بيانها باختصار ومن دون تطويل. وكذلك في تفسير الآية الأولى يلفت إلى عدم أهمية الخوض في البحث عن "الذين عاهدتم" فيشير إلى اختلاف المفسِّرين ويطوي كشحًا عن الدخول في التفاصيل. والأمر عينه يتكرّر عند تفسير الآية 114؛ حيث يتجاوز الكثيرَ من التفاصيل التي ذكرها بعض المفسّرين حول شخصية آزر.

 

9- هدفية القرآن وهدائيّته

يشير القرآن الكريم في عددٍ من آياته إلى الهدف المبتغى منه، وأرقى هذه الأهداف وأجلّها هو هداية البشريّة[1]. والالتفات إلى هدف القرآن من الأركان الأساسيّة في جودة فهمه وتفسيره؛ وذلك لأنّه يوجّه تفسير الآية في الاتّجاه المنسجم مع الغاية المتوخّاة منها، ويحثّ المفسِّر على البحث عن الأبعاد الهدائية التي يدخل المفسّر إلى


 


[1] انظر: سورة البقرة لآية 2؛ وسورة إبراهيم: الآية 1.

 

 

43


18

تفسير سورة براءة

التفسير معتقدًا بوجودها. ويتأكّد هذا الأمر في التفسير ذي الوجهة الاجتماعيّة.

 

ومفسِّرنا المحترم يصرّح في موارد عدّة من أنحاء تفسيره بأنّ الله عز وجلّ لا يريد من القرآن زيادة معارف الإنسان وتطوير علومه فحسب؛ بل يريد ما هو أهمّ وأكثر جدوى وهو الهداية والتربية والتزكية. والنماذج كثيرة منها ما ورد في تفسير الآيات الآتية من سورة التوبة: 38، و111. وفي تفسير الآيتين 38-39 يصرّح عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ يصرّح بقوله: "هذا الكلام تعليم، وفي الوقت نفسه تعزيز للروح وتقوية للقلب... وبالتالي هو تعليم وتربية في آنٍ واحدٍ، ويبيّن الله في هذه الآية للناس أنّكم إن لم تمدّوا يد النصرة لهذا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الله سوف يقيّض له من ينصره".

 

ج) مباني التفسير وقواعده

تنوّع فهم الآية وتعدّد الاستفادات منها، ترجيح بعض المباحث والاهتمام بها وإغفال مباحث أخرى، اختيار رؤية تفسيريّة أو أكثر وتبنّيها وردّ سائر الرؤى والنظريّات، وتمايز المواقف من الأسئلة والشبهات التي تُثار حول القرآن، كلّ ذلك يتأثّر في كثير من الأحيان بالفرضيّات المسبقة والأصول الموضوعة والمباني الفكريّة التي ينطلق منها المفسِّر. وبعض ما أشرنا إليه من قبليّات هو جزءٌ من المعتقدات الكلامية للمفسِّر وبعضها الآخر نظريّات وآراء تُدرس في ما يمكن تسميته بـ"علوم القرآن" بالمعنى العامّ الواسع لهذه الكلمة. وبالتالي فإنّ تنوّع هذه المنطلقات يفضي إلى تنوّع الاستفادات والأفهام من الآية.

 

يُضاف إلى ذلك أنّ فهم القرآن وتفسيره ليس عملًا منفلتًا؛ بل هو عملٌ منظّمٌ مبنيٌّ على قواعد تحكم مسار الفهم ومسيرة التفسير. وما سوف نحاوله في هذا الفصل من الدراسة هو الكشف عن القواعد والمبادئ التي يستند إليها سماحة السيد في تجربته التفسيرية التي نحن بصدد التقديم لها.

 

44


19

تفسير سورة براءة

أولّا) المباني التفسيريّة:

أهمّ هذه المباني هي الآتية:

1- إمكان تفسير القرآن وجوازه

وتستند أهمّية هذا المبنى إلى أنّه المدخل والبوّابة التي تبرّر الاشتغال بتفسير القرآن، فمن يرى عدم جواز التفسير أو عدم إمكانه، لا يحقّ له البدء بعملية التفسير ولا الاشتغال بها. وقد يبدو هذا الكلام غريبًا لأوّل وهلةٍ؛ ولكن غرابته تنتفي عندما نعلم أنّ ثمة من اعتقد بحرمة التفسير[1] مستندًا إلى ظاهر بعض الأخبار الواردة في المصادر الحديثية[2]. ولا شكّ في أنّ مفسِّرنا يرى جواز وإمكان الوصول إلى رأي تفسيريّ يمكن نسبته إلى كتاب الله تعالى، ويُستفاد هذا من اشتغاله بالتفسير أوّلًا، ومن اختياره اتّجاه التفسير الاجتماعي الذي يبتني على هذه الفكرة وينطلق منها.

 

2- حجية ظواهر القرآن والاهتمام بها

من المباني التي يقبلها وينطلق منها أكثر المفسِّرين[3]، الاعتقاد بحجيّة ظواهر القرآن الكريم. وهذا المبنى من متفرّعات المبنى السابق. ولا شكّ في أنّ الاعتماد على ظاهر القرآن في الموارد التي لا قرينة تدلّ على الخلاف، من المباني التي تضبط عملية التفسير، ومن العناصر المساعدة على النقاش والحوار بين الرؤى التفسيرية لقبول هذه وردّ تلك. وهذا المبنى من المباني الأساسية التي تُلاحظ بوضوح في أنحاء هذه التجربة التفسيريّة، وذلك بتصريح سماحته بهذا المبنى في عددٍ من


 


[1] للاطلاع على موقف هذه الفئة من العلماء ونقدها، انظر: الفوائد المدنية، ص 128؛ التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 4-7؛ كفاية الأصول، ج 3، ص 201-214؛ دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، ص 223.

[2] انظر: وسائل الشيعة، ج 18، ص 141-142.

[3] انظر: البيان في تفسير القرآن، ص 261-271.

 

 

45


20

تفسير سورة براءة

الموارد التي يعرض فيها اختلاف الآراء في تفسير آية فيتبنّى وجهة نظرٍ محدّدة ويستدلّ لذلك بظاهر الآية[1].

 

كما إنّه يضع التأويلات العرفانية لبعض الآيات على محكّ النقد، ويردّ بعضها عندما يراها غير منسجمة مع ظاهر الآية. ومن ذلك موقفه من الآية 72 في تفسير الجنّات ونعمها التي أشارت إليها الآية، ففي تفسير هذه الآية يعرض رأي بعض العرفاء وتأويلهم النعم وتجسُّم الأعمال بالنعم الروحية وما شابه، فيردّ ذلك، ويرى أنّه لا مبرّر لهذا التأويل؛ لأنّه يسقط ظاهر الآية ولا ينسجم معه.

 

3- ترتيب الآيات: توقيف وحكمة

من المباني التي تترك أثرها على التفسير، الموقف من ترتيب الآيات في السورة، وفي هذا المجال يرى أكثر المفسِّرين أنّ ترتيب الآيات في السورة توقيفيٌّ. وذلك أنّ جعل هذه الآية في هذا الموضع المحدّد من السورة تابع لإرادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم[2].

 

ومن الواضح أنّ لهذا الموقف أثره على عملية فهم القرآن وعلى تحليل آياته وتفسيرها، وأوّل هذه الآثار الاعتقاد بوجود حكمة وراء نظم القرآن بهذه الطريقة، ما يسمح للمفسِّر بالبحث عن هذه الحكمة، في إطار ما يعرف بالمناسبات. ومن هذا المبنى وما يترتّب عليه من نتائج يمكن للمفسِّر أن يستفيد معاني محدّدة من ترتيب الآيات، كما يمكنه الردّ على الشبهة المشهورة التي يطرحها المستشرقون وحاصلها أنّ القرآن مشوّشٌ لا يخضع ترتيبه لضابط معنائيّ.

 

وهذا المبنى من المباني الملحوظة في هذه التجربة التفسيرية التي نحن بصدد البحث فيها، والموارد التي يمكن أن تكون شاهدًا على الالتزام بهذا المبنى كثيرةٌ نكتفي بذكر بعضها والإشارة إلى بعضها الآخر:


 


[1] انظر تفسيره للآيات: 64، و71، 72، 79...

[2] انظر: التمهيد في علوم القرآن، ج 1، ص 275-280؛ وتفسير العياشيّ، ج 1، ص 19؛ ومسند أحمد، ج 4، ص 218؛ والإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 60.

 

46


21

تفسير سورة براءة

1- يصرّح مفسّرنا الجليل في تفسير الآية 60 بأنّ التقديم والتأخير في القرآن له ضوابطه، فما يُقدّم يقدّم لأهميّته، وترتيب القرآن مستندٌ إلى الحكمة الإلهية.

 

2- الآيات من 1 إلى 16 من سورة التوبة تطرح قضية البراءة من المشركين وتدعو إلى الجهاد، بينما الآيتان 17 و 18 تتحدّثان عن بناء المساجد، وهنا يطرح سماحته سؤالًا عن مبرّر تغيير الموضوع وعن إمكان الربط بين الآيات، ويجيب بإمكان ذلك، ويستند إلى تحليل موقف المشركين من الكعبة والنبيّ إبراهيم عليه السلام ليربط بين الآيات ويحفظ الوحدة الموضوعية فيها[1].

 

4- الالتفات إلى غرض السورة وترتيب الموضوعات

لاكتشاف الغرض الأصليّ والمقصد الأساس للسورة وكذلك الأهداف الفرعية آثارٌ إيجابيّة على التفسير وفهم كتاب الله تعالى. ومن أهمّ هذه الآثار: تقديم الأهداف وإعطاؤها أولويّة الاهتمام، قلّة الاهتمام بالجزئيّات والمصاديق، النظرة المجموعيّة والسياقيّة إلى الآيات، وتجنّب النظرة الأحادية، الترتيب الممنهج للموضوعات في السورة. كما يُعدّ هذا المبنى من العناصر الأساسية التي يُبنى عليها علم التناسب، ويسهم أيضًا في الردّ على شُبَه المستشرقين حول الوحدة الموضوعية للقرآن. ومفسِّرنا العزيز أولى عنايةً خاصّة في بداية تفسير سورة التوبة لهذا الأمر، ومهّد لتفسيرها بالكشف عن الموضوعات الأساس فيها، كما أشار إلى هذا الأمر في موارد أخرى منها تفسير الآية 46.

 

5- اكتشاف الغرض من الكلمات المفتاحية

يساعد النظر في الكلمات المفتاحية في الآية على اكتشاف غرضها الأصليّ وموضوعها المركزيّ. وهذا الأمر نلاحظه عند مفسِّرنا الكبير في تفسيره الآية 86

 

 


[1] للمزيد من هذه الموارد، انظر تفسير الآيات: 25، و29-30، الربط بين الآيتين 38-39 والآية 40، الربط بين الآيتين 58-59 و60...

 

 

47


22

تفسير سورة براءة

وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ﴾، ففي هذه الآية لفت إلى أنّ استخدام عبارة "أولو الطول" لا ينسجم مع افتراض أنّ هذه الآية تتحدّث عن المنافقين؛ لأنّ الحديث عن القدرة الاقتصادية ليس له ربطٌ مباشرٌ بالنفاق، فالأنسب الاعتقاد بأنّ هذه الآية بصدد الحديث عن فئة اجتماعيّة هي فئة الأغنياء وأصحاب الثروات.

 

6- استعمال اللفظ في أكثر من معنى

من المباني التي أخذت نصيبًا من النقاش بين علماء التفسير، السؤال عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بحيث يُستفاد من الكلمة معنيان في آنٍ واحدٍ. ومبرّر طرح هذا السؤال هو احتمال يطرحه بعض العلماء يقضي بأنّ كلمة في آية يمكن استفادة أكثر من معنى منها. وهذه المعاني المتعدّدة المفترضة عندما تكون جميعًا مصاديق لمعنًى واحدٍ لا تدخل في دائرة هذا النقاش، بل يتوقّف دخولها في دائرته عندما تكون المعاني المتعدّدة المفترضة متباينة. وعلى ضوء ما تقدّم، من يرى جواز الاستعمال في أكثر من معنى يمكنه أن يحتمل أو يتبنّى دلالة الكلمات على المعاني المتباينة، ومن يرى عدم الجواز ليس له سوى خيار القبول بأحد المعاني وردّ سائرها.

 

وهذه المسألة مطروحة في علم الأصول أيضًا، ويختلف الأصوليّون فيها بين من يرى استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى[1]، ومن يرى عدم الاستحالة مع الاعتقاد بأنّ هذا الاستعمال على خلاف العرف؛ ولذلك لم يسمح بافتراض دلالة الكلمة على معانٍ عدّة متباينة في وقتٍ واحدٍ[2]. وثمة من يرى الإمكان والوقوع[3]، ولم يكتفِ بعض المجوِّزين بإثارة احتمال الجواز، بل عدّوا ذلك من مؤشِّرات الفصاحة وعلاماتها.


 


[1] انظر: كفاية الأصول، ج 1، ص 208؛ أجود التقريرات، ج 1، ص 51؛ أصول الفقه، ص 51.

[2] انظر: أصول الاستنباط، ص 50-51.

[3] انظر: تهذيب الأصول، ج 1، ص 69؛ محاضرات في أصول الفقه، ج 1، 236.

 

48


23

تفسير سورة براءة

والنظر في أنحاء هذا التفسير يكشف عن أنّ مفسِّرنا المحترم يتبنّى الرأي الثالث. ومن هنا، نجده في عددٍ من الآيات يطرح أكثر من احتمال دون أن يسعى لترجيح أحدها على الآخر، بل صرّح بإمكان أن تكون جميع هذه الاحتمالات مرادةً. ويصرّح بمبناه هذا في تفسير الآية 90 في كلمة "المعذِّرون"، ويقول بعد طرح احتمالين في تفسير هذه الكلمة: "يرى بعضٌ أنّ الكلمة تفيد المعنيين؛ أي المقصِّر والمعتذر، ونحن نقبل وجهة النظر هذه. وفي المقابل يرى أكثر علماء الأصول استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ولا يمكن عندهم أن يستخدم الإنسان كلمة واحدةً لإفادة معنيين أو أكثر في استعمال واحد؛ ولكنّ هذه المسألة ليست إجماعية وثمّة من يخالف الأكثرية فيها. وعندما نرجع إلى أنفسنا لا نشعر بصحّة دعوى الاستحالة، وعلى أيّ حال هذه المسألة جديرةٌ بالبحث في محلّها. ونكتفي هنا بالإشارة إلى عدم قناعتنا بصحّة ما ذهبوا إليه من دعوى الاستحالة. وبناءً على ذلك لا نرى أيّ مانع يمنع من استفادة المعنيين من هذه الكلمة". ويُلاحظ أنّ المستند الذي ينطلق منه في ردّ دعوى الاستحالة هو الوجدان.

 

هذا، ولكنّه يتابع البحث في هذه القضية ويكشف عن شرطٍ لإمكان الاستعمال المتعدّد هو أن لا تكون المعاني متنافية فيما بينها أو متناقضة، ويطبِّق هذا الإشكال على كلمة "معذّر"؛ ولأجل هذا ينهي البحث بضرورة اختيار أحد المعنيين[1].

 

وثمّة ملاحظةٌ تجدر الإشارة إليها وهي أنّه في عدد من الموارد يطرح احتمالات عدّة في تفسير الآية، ولا يُبنى هذا التعدّد على قضية الاستعمال المتعدّد التي نحن بصدد بحثها؛ بل إنّ ذلك من تطبيقات النظر في أبعاد الآية، ومن أمثلة ذلك استفادته ثلاث رسائل أو تعاليم من الآية 40.


 


[1] للمزيد من النماذج انظر تفسير الآيات: 17، و38، و51، و81، و112.

 

 

49


24

تفسير سورة براءة

7- مسألة الوجوه والنظائر

بحث الوجوه والنظائر من مباحث علوم القرآن. الوجوه مصطلح يُقصد به الإشارة إلى محتملات المعاني، والنظائر مصطلح يستخدم في ما يرتبط بالألفاظ والتعابير. فإذا احتُمل في لفظ أو عبارةٍ معانٍ عدّة سُمِّي ذلك بـ"الوجوه"، وعندما تفيد ألفاظ عدّة معاني متقاربة عُبِّر عن ذلك بـ"النظائر"[1].

 

والنقطة الجديرة بالإشارة هنا، هي أنّ بعض المشتغلين بالتفسير وعلوم القرآن تطرّفوا في مبحث الوجوه وذكروا لأكثر كلمات القرآن الكريم معاني عدّة. والحال أنّ أكثر هذه الموارد ليس للفظ فيها إلا معنًى واحدًا، وما عدّوه وجهًا أو وجوهًا هو مصاديق للمعنى استُعمل اللفظ فيها.

 

ومفسِّرنا الجليل يلتفت إلى هذه النقطة بدقّة لافتة وفي تفسيره للآية 60 من سورة التوبة، وأثناء بحثه عن مفهوم الصدقة والزكاة، يشير إلى هذا المطلب بقوله: "إنّه لمن العجيب والبعيد أن نعتقد بأنّ القرآن الكريم يستخدم لفظًا واحدًا في موارد عدّة دون أن يكون لهذا اللفظ معنًى واحد، بحيث يكون له في كلّ مورد معنًى مختلف عن معناه في المورد الآخر. ومن نماذج ذلك لفظ الصلاة أو الزكاة وغيرهما من المفاهيم الإسلامية، فهذه المفاهيم أينما استُخدمت في القرآن أفادت معنًى واحدًا، أو على الأقل لها معنًى عامّ له مصاديق متنوّعة. وكلمة "صدقة" أينما استُخدمت في القرآن لها معنًى واحد، وليس صحيحًا أنّ لكلمة "صدقة" أكثر من معنى أحدهما الزكاة المفروضة والثاني سائر الإنفاقات المالية".

 

8- مسألة المكّي والمدني

تنقسم آيات القرآن إلى مكيّة ومدنيّة، وبحث علماء القرآنيّات في هذا بالنظر إلى الآثار التي تترتّب عليه في التعامل مع القرآن وآياته. وقد تساءل العلماء عن إمكان احتواء السورة الواحدة على آيات مكيّة وأخرى مدنية؟ وأجاب أكثرهم

 


[1] انظر: علوم قرآنى، ص 320؛ الإتقان، ج 2، ص 121.

 

50


25

تفسير سورة براءة

بالإثبات وارتضوا إمكان وجود آيات مكية في السورة المدنية والعكس، ولعلّ أهمّ أدلّتهم على هذا الموقف الأخبار الواردة في كتب الحديث[1]. هذا وقد تبنّى عددٌ من الباحثين المعاصرين في القرآنيات نظرية وحدة النسبة الجغرافية للسورة[2]. ويبدو أنّ مفسِّرنا الجليل يميل إلى هذا الرأي؛ حيث إنّه يبيّن في تفسير الآية الأولى من سورة التوبة أنّ جميع آيات هذه السورة مدنية، وذلك في سياق ردّه الأخبار التي تفيد أنّ بعض آياتها مكيّة.

 

9- الالتفات إلى الفضاء الاجتماعي (السياسي، والثقافي) لزمن نزول السورة

لا يخفى تأثير المعرفة بالبيئة الاجتماعية لنزول الآية في فهمها. ويمكن التعرّف إلى هذه البيئة عبر طريقين، أوّلهما: المعرفة بتاريخ عصر النزول وأحداثه ووقائعه، ويمكن ذلك عن طريق التأمّل في روايات أسباب النزول، وهو أمرٌ سوف نتحدّث عنه لاحقًا؛ وثانيهما: التدقيق في مضمون الآية ومحاولة اكتشاف ظروف بيئتها الاجتماعية من لسانها ومفادها. وقد استفاد مفسِّرنا من الأسلوبين؛ حيث إنّه قدّم لتفسير سورة التوبة بمقدّمة تبيّن الظروف الاجتماعية لزمان نزولها بالاستناد إلى الأخبار التاريخية التي تكشف عن هذه الأوضاع، وكذلك فعل أثناء تفسير الآيتين 25 و29. والأمر عينه تكرّر مع الآية 38. كما تعرّض أثناء تفسير الآية 43 وخاصّة عند شرح عبارة: "عفا الله عنك"؛ حيث عرض الاحتمالات الواردة في تفسيرها، وردّ بعضها وأيّد أحدها بالاستناد إلى بعض المعطيات الاجتماعية والتاريخية. وهذا يكشف عن التفات المفسِّر إلى دور معرفة البيئة الاجتماعية وتأثيرها في فهم أفضل للآيات. ولا ينحصر استخدام هذا العنصر في التفسير في الموارد السابقة؛ بل ثمّة نماذج عدّة يمكن الإشارة إليها منها: تفسير الآية 83، والآيات 97 إلى 99، والآية 117.

 

ثمّ إنّه في بعض الموارد يتصدّى للحديث عن الأوضاع الاجتماعية التي ترتّبت


 


[1] انظر: الإتقان، ج 1، ص 45-53.

[2] انظر: التمهيد في علوم القرآن، ج 1، ص 169-237.

 

51


26

تفسير سورة براءة

على نزول الآية، ومن ذلك ما ورد في تفسير الآية 38 من سورة التوبة؛ حيث يقول: "لو كان المسلم المعتقد الذي سمع هذه الآية ميتًا لعاد إلى الحياة؛ ولو كان نائمًا لاستيقظ من هجعته. وقد حصل هذا وتركت هذه الآية أثرها في الغافلين والنيام، وأثارت فيهم روحًا جديدة. وقد ورد في الأخبار أنّهم أعلنوا جميعًا الاستعداد للقتال، سوى عددٍ من المنافقين الذين لا يتجاوزون الستين نفرًا كما في بعض الأخبار، فهؤلاء كانوا يتحيّنون الفرص. أمّا سائر المسلمين فقد هبّوا، وأمّا أولئك الذين ما كانوا يملكون وسيلة السفر، فقد تعبّأوا وتهيّأوا ووقفوا يبكون فسُمّوا البكّائين؛ وذلك لأنّهم رأوا قافلة السعادة تسير باتّجاه تبوك، وآلمهم العجز عن الالتحاق بها".

 

10- الالتفات إلى أسباب النزول ودورها في الفهم الصحيح للآية

أشرنا قبل قليل إلى أنّ أسباب النزول جزء من المستندات الحاكية عن تاريخ عصر النزول عمومًا. ولا شكّ في أنّ روايات أسباب النزول المعتبرة تمثّل قرينة تساعد على فهم الآية وتوجِّه التفسير في هذا الاتّجاه أو ذاك. ولكن التعامل مع هذه الظاهرة التفسيريّة ليس بهذا المستوى من البساطة؛ بل الأمر يخضع لاعتبارات عدّة على المفسِّر أن يحسمها قبل الاستناد إلى مثل هذه الأخبار. وهذا ما سوف نحاول بيانه في منهج مفسِّرنا وطريقته:

أوّلًاـ بيان الصحّة والاعتبار

الخطوة الأولى في مسار التعامل مع أخبار أسباب النزول هي الموقف من صحّتها والحكم في مدى وثاقتها؛ وذلك لأنّ يد الوضع امتدّت إلى هذا التراث وأدخلت فيه الكثير من الخرافات والقصص التي لا واقع لها، ومع الأسف تداولها عددٌ من المفسِّرين في كتبهم. ويصرِّح مفسِّرنا الكبير بهذه النقطة، ويلفت النظر إلى ضعف أكثر أخبار أسباب النزول. ومن الوسائط التي يعتمدها لردّ هذه الروايات ضعف الرواة الواقعين في سند الرواية وعدم وثاقتهم. وقد أشار إلى هذا الأمر في

 

52


27

تفسير سورة براءة

عدد من الموارد، منها عند تفسيره الآية 79. وكذلك عند تفسير الآية 64 حيث يشير إلى عدم الاطمئنان إلى الروايات الواردة في بيان سبب النزول، إلا إذا كانت منقولة عن المعصوم بطريقٍ صحيح أو طريق يمكن الوثوق به والركون إليه. كما طبَّق هذه القاعدة في تعامله مع الأخبار الواردة في نزول الآية 114 حيث ناقش الأخبار ذات الصلة بإيمان أبي طالب.

 

ومن المباني التي تشكّل نظريّة مفسِّرنا في تعامله مع أسباب النزول ردّ الرواية على أساس عدم أهميّة مضمونها، وذلك عندما لا يكون سبب النزول أمرًا يستحقّ نزول آية. ومن ذلك ما ورد في سبب نزول الآية 74، وتفصيل ذلك أنّه ورد في كتب الإمامية وأهل السنّة أنّها نزلت في منافق كذّب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في معركة تبوك، فاستدعاه فأنكر ما يُنسب إليه فنزلت الآية، ويردّ مفسِّرنا هذا الخبر لعدم أهمية الحادثة وعدم استحقاقها نزول آية فيها.

 

ثانيًاـ الفائدة

النقطة الثانية التي ينبغي الالتفات إليها أثناء التعامل مع أخبار أسباب النزول هي الفائدة التي تترتّب عليها في ما يرتبط بفهم الآية وتفسيرها. ومن هنا نجد أنّ هذا التفسير أعرض عن الاهتمام بروايات أسباب النزول في حال عدم ترتّب فائدة عليها في مجال التفسير وحسن فهم الآية. واكتفى مفسِّرنا في بعض الحالات بالإشارة إلى بعض هذه الروايات دون الخوض فيها، كما فعل عند تفسير الآية 114.

 

وفصّل في بعض الحالات بين رواية وأخرى، ففي تفسير الآية 74 ورد في الأثر ثلاثة أسباب لنزول الآية، فعرض سماحته واحدًا منها لردّه، وأعرض عن الثاني، وذكر الثالث وتوقّف عنده بالتفصيل، وذلك لأنّه الأشهر والأكثر تداولًا. واختلاف أسلوب التعامل مع هذا النمط من الأخبار الواردة في نزول آية واحدة يكشف عن نقاطٍ عدّة، منها: أوّلًا: إنّ بعض هذه الأخبار لا أساس لها؛ ولذلك لا تستحقّ التوقّف عندها إلا لردّها في بعض الحالات؛ ثانيًا: ثمّة أخبار وردت في سبب نزول بعض الآيات لا تترتّب عليها فائدة مهمّة في فهم الآية، فلا داعي

 

 

53


28

تفسير سورة براءة

للاهتمام بها خاصّة إذا كانت لا تثير مشكلة.

 

ثالثًاـ استخدام أسباب النزول لتأييد تفسير أو احتمال تفسيريّ

وهذا الأمر الذي هو من أهمّ الآثار التي تترتّب على أخبار أسباب النزول، يكثر تكرّره في هذا التفسير. ومن هذه النماذج ما ورد في تفسير الآية 49 حيث رجّح مفسِّرنا أحد الاحتمالات التفسيرية بالاستناد إلى انسجامه مع ما ورد في سبب نزول الآية. والأمر نفسه تكرّر في تفسير الآيتين 58 و59. ومن ذلك أيضًا عددٌ من الموارد التي تكشف أخبار النزول الواردة فيها عن أوضاع عصر النزول بطريقة تسهم في تجويد فهم الآية وتحسينه، ومن ذلك تفسير الآيات: 1، و19، و20، و114.

 

رابعًاـ عدم تقييد الآية بسبب نزولها

من المبادئ الأساسية في التعاطي مع أسباب النزول، أنّ الأصل في هذا النوع من الأخبار عدم تقييد الآية بها وحصرها في مورد نزولها. وعلى الرغم من ورود أسباب النزول واهتمام المفسِّرين بها، إلّا أنّ القاعدة الأساس هي القاعدة التي تقول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد"[1]. وقد راعى مفسِّرنا الكبير هذا المبدأ والتزم به في تفسيره، إلى درجة أنّه في بعض الحالات يؤخِّر الحديث عن سبب نزول الآية حتّى لا يوهم ذلك التقييد أو الحصر بمورد نزولها. كما فعل في تفسير الآية 64 حيث يقول: "أميل إلى تأخير الحديث عن سبب نزول الآية؛ وذلك خشية أن يلزمنا ما ورد في سبب نزولها بتبنّي تفسير محدّدٍ، وفي الآية اختلافٌ كبيرٌ سببه عدم وضوح بعض العبارات وعدم الاتفاق على مرجع الضمير

 

وفي تفسير الآية 102 يشير إلى هذه القاعدة بصراحةٍ، ويبيّن عدم صحّة تقييد الآية بسبب نزولها، ففي كثيرٍ من الحالات تكون الحادثة ذريعة لنزول الآية ليس أكثر. ويكشف عن أنّ القرآن يسقط أكثره عن الجدوى، لو أنّنا قيّدنا الآية بسبب


 


[1] انظر: التمهيد في علوم القرآن، ج 1، ص 261.

 

54


29

تفسير سورة براءة

نزولها[1]. ومن الموارد التي يمكن الإشارة إليها تفسير الآيتين 58 و59، حيث يشير مفسِّرنا إلى أنّه حتّى لو صحّ ما ورد في سبب نزول الآية، لا ينبغي تقييدها به.

 

خامسًاـ ردّ رواية سبب النزول لعدم انسجامها مع الآية

في تفسير الآية 63، وبعد بيان ما ورد في سبب نزولها، يصرّح سماحته بأنّ هذا السبب لا ينسجم مع ما تفيده الآية، ويقول: "إنّ هذه الآية تكشف عن سبب نزولها بنفسها؛ حتى لو لم يرد نقلٌ أو خبرٌ يكشف عن ذلك السبب".

 

11- مسألة النسخ وتحليلها الصحيح

ومن المسائل المهمّة في علوم القرآن مسألة النسخ. وللموقف من هذه المسألة تأثيرٌ كبيرٌ في مجال الدراسات القرآنية. وقد ادّعى عددٌ من المفسِّرين وخاصّة من الصحابة والتابعين نسخ عددٍ كبيرٍ من آيات القرآن الكريم. وفي مقابل هذه الكثرة يرى عددٌ من علماء القرآنيّات أنّ دعوى النسخ لا تثبت إلا بدليل قطعيٍّ[2]. وارتفع منسوب دعاوى النسخ في سورة التوبة بالنظر إلى الاختلاف الواقعيّ أو الموهوم بين الأحكام التي وردت في هذه السورة في ما يرتبط بالمنافقين والمشركين، مع ما ورد في سور أخرى وخاصّة السور المكيّة. وقد تعرّض سماحته في مقدمة تفسير هذه السورة لقضية النسخ، وبيّن سبب إيهام الاختلاف بين هذه السورة وما نزل قبلها، وبيّن أن ما في هذه الآية ليس نسخًا بالمعنى الاصطلاحيّ، وما الاختلاف الظاهر بين مفاد هذه السورة وما سبقها إلا اختلاف في التكتيكات التي تصبّ في خدمة هدفٍ استراتيجيّ واحدٍ. وبعبارة أخرى: إنّ تبدّل بعض الأحكام في هذه السورة تابعٌ لتبدّل الظروف والأوضاع، وليس إلغاءً للأحكام السابقة، وبالتالي لو أنّ الظروف السابقة عادت لعاد الحكم السابق إلى ما كان عليه.


 


[1] وهنا يطيل كاتب المقدّمة في بيان تفاصيل هذا المورد، ونحن نعرض عن ترجمة التفاصيل لبنائنا على الاختصار في ترجمة المقدّمة. (المترجم)

[2] انظر: البيان في تفسير القرآن، ص 284.

 

55


30

تفسير سورة براءة

12- الاهتمام بالمبادئ الأدبية واللغوية

والمقصود من المباحث الأدبية في هذا العنوان المعنى الذي يشمل كلّ ما يرتبط باللغة من شرح لمعاني الكلمات، وصرفٍ ونحوٍ وبلاغةٍ، وهذا اللون من الأبحاث له حضور ملحوظ في هذا التفسير، نكشف في ما يأتي عن بعض أبعاده:

أ ـ المباحث اللغوية

من نماذج الأبحاث اللغوية في هذا التفسير توقّفه عند عددٍ من المفاهيم القرآنية المهمّة وشرحها، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ نكتفي بالإشارة إلى بعضها: كلمة "مِن" ومفهوم "الكافر" في تفسير الآية 1، ومفهوم "البشارة" في تفسير الآية 3، ومفهوم "الانسلاخ" في تفسير الآية 5، ومفهوم "الفسق" في تفسير الآية 8... إلى غير ذلك من النماذج التي يمكن للقارئ الالتفات إليها.

 

وممّا يستحقّ الذكر في هذا المجال توقّف مفسِّرنا عند بعض العبارات القرآنية لبيان الاختلاف في دلالتها على الرغم من التشابه الظاهريّ، ومن ذلك المقارنة بين تعبير "يأتون الصلاة" الوارد في حقّ المنافقين، والتعبير بإقامة الصلاة عند الحديث عن المؤمنين. وثمّة إبداعات وآراء جديدة في هذا المجال يمكن مشاهدتها في موارد عدّة، ومنها ما ورد في تفسير الآية الأولى من السورة.

 

ب ـ المباحث الصرفيّة

ويتعرّض سماحته للبحث الصرفيّ حيث يخدم هذا النوع من الأبحاث تفسير الآية. ومن موارد ذلك ما ورد في تفسير الآية 38 عند شرح كلمة "إثّاقلتم"، وفي تفسير الآية 81 عند شرح كلمة "مقعد"...، وكذلك في شرح كلمة "أعراب" لبيان الفرق المعنائي بينها وبين كلمة "عرب" على أساس تحليلها صرفيًّا...

 

جـ المباحث النحويّة

وفي بعض الحالات يتعرّض سماحته لبعض المباحث النحوية خدمةً لتفسير الآية، وبهدف نقد بعض التفسيرات غير الصحيحة. ومن ذلك توقّفه عند حرف

 

56


31

تفسير سورة براءة

"أو" في الآية 80 وبيان أنّه للتساوي وليس للتخيير. وفي تفسير الآية 83 يشير إلى مبنيين نحويّين في ما يرتبط بالحرف "لَنْ"....

 

دـ المباحث البلاغيّة

يجد المتتبّع لهذا التفسير أبحاثًا بلاغيّة عدّة في الموارد التي يخدم البحث البلاغي فيها فهم الآية وتفسيرها. ففي تفسير كلمة "إثّاقلتم" في الآية 38 رُجِّح المعنى الكنائيّ؛ أي الكناية بهذه الكلمة عن بطء الحركة والتأخّر... وفي تفسير الآية 59 أشار إلى زيادة بلاغة الآية بحذف جواب "لو"... وغير ذلك من الموارد؛ ولكنّ المبدأ الأساس الحاكم على هذا التفسير في البحث البلاغيّ هو تجنّب الإطالة والاكتفاء من التحليل البلاغيّ بما يخدم الهدف وهو فهم الآية وتفسيرها.

 

13- الالتفات إلى لوازم الكلام في الاستفادة من الآية

للكلام في بعض الحالات دلالات غير مطابقيّة يمكن استفادتها منه، على طريقة التضمّن، أو الإشارة، أو الاقتضاء[1]. وقد اهتمّ هذا التفسير بهذا النوع من الدلالات وحاول المفسِّر الكشف عنها والإشارة إليها، ومن نماذج ذلك تفسير الآية 91؛ حيث يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ﴾ فاستفاد من هذه العبارة أنّ المجاهدين في تلك الأيّام كانوا ينفقون من أموالهم لتجهيز أنفسهم للقتال، ولم تكن الدولة الإسلاميّة هي التي تتولّى الإنفاق.

 

14- التعليل المستفاد من ذيول الآيات

من الأساليب الملحوظة في القرآن الكريم ختم الآية بعبارة محدّدة، في كثيرٍ من الأحيان تكاد تكون ظاهرة في تعليل الأحكام الواردة فيها. وقد اهتمّ مفسِّرنا بهذه الظاهرة التعبيريّة القرآنية وتوقّف عندها، ومن النماذج ما أشار إليه في تفسير الآية


 


[1] للمزيد حول هذه الدلالات، انظر: أصول الفقه، ص 145-149.

 

 

57


32

تفسير سورة براءة

91، عند تفسير عبارة: "ما على المحسنين من سبيل"، وعدّ هذه العبارة تعليلًا للحكم الذي تقدّم في صدر الآية.

 

15- دور الأخبار في التفسير

الاستعانة بالأخبار والروايات في هذا التفسير ظاهرةٌ مشهودةٌ في موارد عدّة. ونكتفي بالإشارة إلى بعض هذه الموارد دون استقصاء. ومن ذلك ما ورد في تفسير الآية 2 من سورة التوبة في تحديد المراد من الأشهر الأربعة؛ حيث يتّفق ظاهر الآية مع عددٍ من الروايات على تضعيف كونها الأشهر الحرم. وفي تفسير الآية 2 استُند إلى الأخبار لتحديد مصاديق الكفر المشار إليه في الآية. والأمر نفسه؛ أي الاستناد إلى الأخبار والروايات، تكرّر في تفسير الآيات 23، و25، و29، و31. وفي تفسير الآية 34 وبعد الاعتراض على حصر تحريم الكنز بما قبل الزكاة، والإشارة إلى احتمال توسعة حكم التحريم إلى ما بعد دفع الزكاة، يستند سماحته إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "فما جاع فقيرٌ إلّا بما مُتِّع به غنيّ"[1]. ويرتِّب على هذا الاستشهاد الدعوة إلى الاستفادة من هذا النمط من الأخبار في الفقه، معترضًا على حصر دائرة الاستدلال الفقهيّ بنمطٍ محدّدٍ من الأخبار التي تُصنَّف في دائرة الروايات الفقهيّة. وعلى هذه النماذج يُقاس ما سواها.

 

ونختم الحديث عن هذه النقطة بالإشارة إلى أنّ الاستفادة من الأخبار في هذا التفسير تهدف إلى عددٍ من الغايات هي:

أوّلًا: تأييد أحد الاحتمالات التفسيريّة، بعد الاستدلال عليه من ظاهر الآية. وبعبارة أخرى: ليس الاستناد إلى الرواية هو الخيار الأوّل، بل يُستفاد منها كمؤيّد بعد محاولة تحديد دلالة الآية بأدوات قرآنية.

 

ثانيًا: توضيح المعارف القرآنيّة بمساعدة الأخبار، وخاصّة في المباحث التي لها نوع من الاستقلال عن تفسير الآية، فتكون الأخبار ذات بعدٍ هدائيٍّ تربويٍّ.

 

 


[1] نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 320.

 

58


33

تفسير سورة براءة

ثالثًا: بيان سبب نزول الآية.

 

رابعًا: توضيح بعض المفاهيم القرآنية.

 

خامسًا: بيان بعض مصاديق المفاهيم القرآنية في عصر النزول.

 

سادسًا: تحليل الروايات المرتبطة بفضائل السور، وهو ما سوف يأتي لاحقًا.

 

16- عدم حجيّة أقوال الصحابة والتابعين في التفسير

العنوان المذكور أعلاه يشير إلى مبنًى من المباني الأساسيّة عند مفسِّرنا الجليل. وحاصل هذا المبنى أنّ كلام الصحابة والتابعين ليس حجّة ملزمةً للمفسِّر ليبني تفسيره على أساسها. وقد بيّن هذا المبنى في تفسيره للآية 100، حيث بحث في نظرية عدالة الصحابة، وكان رأيه أنّ الأدلّة القرآنية والروائية والأخبار التاريخيّة، لا تساعد على إثبات هذه النظرية بالطريقة المعتمدة عمومًا عند أهل السنّة. ومن الواضح أنّ بين نظرية العدالة وحجيّة الأقوال في التفسير ترابطًا، فإذا سقطت النظرية انتفت الحجيّة. وبالتالي لا يمكن التسليم بما ورد في التفسير المأثور إلا بما ثبتت روايته عن المعصوم. وهذا ما جرى عليه العمل في هذا التفسير.

 

17- معرفة الرواة والوضّاعين ودورها في الموقف ممّا نُقل عنهم من التفسير

تكشف المستندات التاريخية عن أنّ بعض التراث التفسيريّ الروائيّ مُدّت إليه يد الوضع، وذلك لأهداف عدّة، منها البحث عن مستندات مخترعة لتأييد دول الجور التي ظهرت في المجتمع الإسلاميّ في العصور المبكِّرة. ومع الأسف، فقد بُني على هذا النمط من الأخبار تفسير وفقه وأخلاق وكلام. ومن الواضح أنّ معرفة الأوضاع التاريخيّة وأحوال الرواة تجعل المفسِّر قادرًا على تمييز الغثّ من السمين من هذا المأثور التفسيريّ. وقد اهتمّ مفسِّرنا بهذا الجانب وتصدّى لردّ بعض الآراء التفسيريّة بالاستناد إلى عدم صلاحية الراوي. ومن ذلك ما ورد في تفسير الآية 34 من سورة التوبة، حيث يُستند إلى رواية عن كعب الأحبار

 

 

59

 


34

تفسير سورة براءة

يبيّن فيها أنّ الإنسان مجازٌ في التصرّف في أمواله بأي طريقة شاء بعد أداء الزكاة، حتى لو بنى قصرًا من ذهب. وفي ردّ هذا الرأي يستند سماحته إلى أحوال كعب الأحبار ومصالحه التي دعته إلى إعلان الإسلام، ثمّ مصالحه التي كانت تدعوه إلى تبنّي هذا الرأي أو ممالأة لمن يُحتاج إلى ممالأته.

 

ومهما يكن من أمرٍ فإنّ المطالع لهذا التفسير يلحظ بوضوح حضور البحث الرجاليّ في موارد عدّة غير هذا المورد، منها: تفسير الآية 69، وتفسير الآية 73، والآية 79، والآية 80. سواء كان ذلك لردّ رواية أو رأي بالاستناد إلى ضعف الراوي، أو لتأييد نظرية أو قول بالاستناد إلى وثاقته.

 

18- حجية القراءات ودورها في التفسير

يبدو من تفسير الآية 73 أنّ مفسِّرنا الجليل يرى عدم جواز الاعتماد على القراءات غير المشهورة أو غير المتواترة لإثبات فكرة أو وجهة نظر تفسيريّة. كما يشير إلى عدم جواز القراءة بهذا النوع من القراءات في الصلاة. ولكن يُستفاد من كلامه اعتقاده بتواتر قراءة القرّاء السبعة المعروفين، وبناءً على هذا الموقف يمكن الاستناد إلى قراءتهم والاستفادة منها في استنباط بعض الدلالات.

 

19- استخدام التاريخ والسيرة في التفسير

يستفيد سماحة السيد في تفسيره في موارد عدّة من الوقائع والأحداث التاريخيّة ويستثمرها في شرح الآية وتفسيرها. ومن الأمثلة على هذه الفكرة أنّه في تفسير الآيتين 30 و31 يستشهد بثلاثة تقارير تاريخيّة. وفي بعض الحالات يستخدم بعض الأحداث التاريخيّة في صدر الإسلام لنقد وجهات نظرٍ تفسيريّة أو قراءات غير مشهورة. من أمثلة ذلك ما فعله عند تفسير الآية 73 لردّ القراءة غير المشهورة للآية بهذه الصيغة: "جاهد بالمنافقين"، والشاهد لإبطال هذه القراءة عنده أنّ وقائع التاريخ الإسلامي ليس فيها حالة من حالات جهاد المشركين بالمنافقين. ومن النماذج أيضًا ردّه في تفسير الآية 100 على النظرية التي يتبنّاها مفسِّرو أهل

 

 

60


35

تفسير سورة براءة

السنّة والتي تقضي برضى الله عن جميع الصحابة، حيث إنّه يستشهد ببعض الوقائع التاريخية لردّ ذلك.

 

20- تعميم بعض المفاهيم القرآنية

يعمد بعض المفسِّرين إلى تخصيص بعض المفاهيم القرآنية بموردٍ محدّدٍ على الرغم من عموم ظاهرها. ويوجِّه سماحة السيد نقده لهذا التخصيص، ويعمل على توسعة هذه المفاهيم القرآنية بهدف تعميم معارف القرآن وتعاليمه. ومن أمثلة ذلك تفسيره للآية 39 عند شرح قوله تعالى: ﴿إلا تنفروا يعذِّبكم عذابًا أليمًا﴾؛ حيث يوجِّه نقده لتخصيص العذاب المذكور في هذه الآية وأمثالها بعذاب الآخرة، ويبيّن أنّ العذاب يمكن أن يكون عذابًا دنيويًّا بتسلّط الأعداء على الأمّة، وما يترتّب على ذلك من ضيق في المعيشة، وذلّ في الحياة الدنيا. وهذا العذاب من وجهة نظره جزء من سنن التاريخ وقوانينه. ومن الأمثلة أيضًا ما فعله عند تفسير الآية 3 من تعميم لمفهوم البشارة، وكذلك تعميم مفهوم الظالم في الآية 47، وتوسعة مفهوم الإنفاق عند تفسير الآية 67.

 

21- تفاوت المستويات المعرفية بحسب المخاطبين

ومن المبادئ التي يمكن ملاحظتها في هذا التفسير اختلاف المستوى المعرفي للخطاب باختلاف مستوى وعي المخاطب. وهو يرى أنّ من أساليب القرآن الاعتماد على البرهان والاستدلال في المواضع التي يكون الخطاب فيها موجّهًا إلى الخواصّ، وأمّا حيث يكون الخطاب عامًّا فقد تخلو الآية من الاستدلال والبراهين المعقّدة، وهو يصرِّح بهذا المبدأ عند تفسير الآية 111.

 

22- إمكان تطوّر المعارف الدينية

يرى مفسِّرنا أنّ المعارف الدينيّة الإلهية ليست جامدة عبر التاريخ، على الرغم من الوحدة في المضمون بين ما أوحي إلى الأنبياء من آدم عليه السلام إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

61


36

تفسير سورة براءة

 

 في تفسير الآية. ومن ذلك أنّه يثير بعض الاحتمالات في تفسير كلمة "عدن" في الآية 72، ويرى عدم إمكان تبنّي وجهة النظر والاختلاف هو من ناحية العمق ففي بعض الأحيان تكون أعمق من أحيان أخرى. وهذا يشبه صفوف المدارس واختلافها باختلاف المراحل العمرية والتعليمية. وهذه الإشارة تلاحظ عند تفسير الآية 39.

 

ويترتّب على هذه الملاحظة أنّه دام ظله لا يرى نفسه ملزمًا بتكرار ما طرحه المفسِّرون السابقون عليه، مع المحافظة على الاعتدال وتجنّب الإفراط والتفريط، بحيث يبقى متوازنًا لا يقع في الالتقاط ولا يقبع على ضفّة التحجّر والتعصّب ضدّ التجديد.

 

23- تجنّب التفسير الذوقي وفصل الذوقيّات عن التفسير

لا شكّ في أنّ الالتفاتات الذوقية التي لا تخضع لقواعد التعامل التفسيري مع القرآن لا تعدّ تفسيرًا، ولا يحسن الخلط بينها وبين التفسير، وخاصّة عندما لا يكون بينها وبين القرآن صلة أو ربطٌ واضح. ولكن في الوقت نفسه ثمّة استحسانات يمكن وضعها في خانة تداعي المعاني[1]، ومثل هذه الالتفاتات يمكن طرحها، ولكن ليس من باب التفسير والشرح للآية.

 

وهذا التمييز من المبادئ التي يلتزم بها مفسِّرنا، ومن أمثلة ذلك أنّه عند تفسير الآية 46 يطرح وجهة نظره التفسيرية، ثم بعد ذلك يطرح احتمالًا آخر، مشيرًا إلى أنّه ليس من باب التفسير، بل هو استنباط ذوقيٌّ يتداعى من الآية وليس أحد معانيها.

 

24- نفي الجزمية في تفسير المتشابهات

يجتنب سماحته خلال تفسيره الآيات المتشابهة القطع والجزم بوجهة نظر محدّدة، إذا لم تساعد الأدلّة على مثل هذا الجزم، ويحرص على طرح وجهة نظره كاحتمال من الاحتمالات الممكنة المشهورة

 


[1] انظر: التفسير الأثري الجامع، ج 1، ص 46.

 

62


37

تفسير سورة براءة

بين المفسرين في تفسير هذه الكلمة؛ ولكن في الوقت نفسه لا يمكن الجزم بوجهة أخرى حيث إنّ الأدلّة لا تكفي لهذا الجزم. وكذلك نلاحظ أنّه يراعي جانب الاحتياط والتحفّظ في تفسير سبب ذكر بعض الأحداث التاريخية في القرآن عند تفسيره للآية 107.

 

25- عرض الآراء والاحتمالات المتنوّعة وتقويمها

يحرص مفسِّرنا على عرض وجهات النظر المتنوّعة في الآية كما في بعض الكلمات والمفاهيم. وهذه المعاني التي يذكرها تارة تكون مصاديق لمفهوم عامٍّ، وأحيانًا تكون استفادات تفسيرية لجمل أو عبارات، وهذه الآراء قد تكون متعارضة وقد يمكن التوفيق بينها. ومن الواضح أنّ المفسِّر مطالبٌ بتقديم وجهة نظره في هذه الآراء والنظريّات.

 

وفي هذا التفسير نلاحظ أسلوبين أساسين في التعامل مع الآراء والنظريات التفسيرية المطروحة في التراث التفسيري الإسلاميّ:

أ ـ عرض الأقوال المختلفة واختيار أحدها:

وفي كثيرٍ من الحالات يطرح دليله والمبرِّر الذي يدعوه إلى اختيار هذا الرأي أو ذاك. والأمثلة على هذا الأسلوب كثيرةٌ نشير إلى بعضها. ففي تفسير الآية 34 اختلف المفسِّرون في تفسير الكنز المذموم في الآية، ويرى بعضهم أنّ الكنز هو الامتناع عن أداء الزكاة[1]، وفي المقابل يرى آخرون أنّ الكنز لا ينحصر بالتخلّف عن إيتاء الزكاة[2]. من بين هاتين الرؤيتين يؤيّد مفسِّرنا وجهة النظر الثانية، ويرى أنّ الكنز أوسع من دائرة الامتناع عن أداء الزكاة، ويشير إلى المستندات القرآنية والروائية التي تثبت ذلك. ويعقّب بقوله: "نحن ننقل وجهة نظر أبي ذرّ وأئمة


 


[1] انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 10، ص 152؛ أحكام القرآن، ج 3، ص 137؛ كنز العرفان، ج 1، ص 223.

[2] انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 250؛ الكاشف، ج 4، ص 36.

 

63


38

تفسير سورة براءة

الهدى عليهم السلام، على الرغم من معارضة آخرين لها وعدم قبولهم إيّاها. وهذه هي وجهة نظري".

 

وفي تفسير الآية 79 في ما يتعلّق بكلمة "المطوّعين" ثمة رأيان على الأقل، أحدهما أنّ المراد هو الذين ينفقون عن ميل ورغبة، والثاني أنّ المراد من هذه الكلمة أهل السعة، وهو يرى أنّ هذا الاحتمال الثاني لا ينسجم مع مفهوم التطوّع الذي يتضمّن الإنفاق عن ميل ورغبة. ومن الأمثلة أيضًا ما فعله في تفسير قوله تعالى: ﴿وجاء المعذّرون﴾[1]. والأمر نفسه يتكرّر منه في تفسير الآية 101، عند شرح قوله تعالى: ﴿سنعذّبهم مرتين﴾.

 

بـ طرح الاحتمالات من دون اختيار أحدها

في عددٍ من الموارد يطرح سماحته أكثر من رأيٍ في تفسير الآية من دون اختيار واحدٍ منها، أو تضعيف رأي أو ترجيحه على غيره من الآراء. ويفعل هذا، عادةً، حيث تتساوى الاحتمالات في درجة انسجامها مع الآية ومع ما ورد في سبب النزول، والأجواء المحيطة ببيئة النزول. ولا يعتمد هذا الأسلوب فقط في حالة كون هذه الآراء مصاديق متعددّة لمفهومٍ واحدٍ؛ بل حتى في الحالات التي تكون هذه الآراء معاني وتفسيرات مختلفة للآية. ولكنّه لا يحافظ على حياده في الحالات التي يرى أنّ أحد هذه الاحتمالات لا ينسجم مع ظاهر الآية.

 

والأمثلة على هذا الأسلوب كثيرةٌ، منها تفسيره للآية 81 في تفسيره لمفهوم الفقه، وعند الآية 82 في تفسيره للضحك والبكاء، فإنّه يطرح أكثر من احتمال ولا يرجّح بين الاحتمالات التي يرى أنّها متساوية في علاقتها بالآية، ويكتفي بردّ أحد الاحتمالات الذي يرى عدم انسجامه مع الآية...


 


[1] ويذكر كاتب المقدّمة موردًا آخر ويعرضه وأدلّته بالتفصيل، ولمّا كان الاختصار هو الخيار المعتمد في الترجمة، فقد اكتفينا بالإشارة إليه. (المترجم)

 

 

64


39

تفسير سورة براءة

26- عدم حصر الآية بمصداقٍ واحدٍ

ومن المباني التي يلتزم بها سماحته في تفسيره عدم حصر الآية بمصداقٍ محدّد، أو مصاديق بعينها، حتى لو وردت الإشارة إليها في كتب المفسِّرين القدماء من أهل الصدر الأول. وقد أشرنا في مناسبة سابقة إلى نماذج لهذا المبنى، ونشير هنا إلى حالة واحدة هي ما صدر عنه في تفسيره للآية 71 عند تفسير قوله تعالى: ﴿سيرحمهم الله﴾؛ حيث لا يرى انحصار الرحمة بالرحمة في الآخرة، ويبرز احتمال شمول الرحمة للرحمة في الحياة الدنيا.

 

ثانيًا: القواعد التفسيرية

من الواضح أنّ ما تقدّم حتّى الآن يمكن تصنيفه في دائرة القواعد التفسيرية أو هو من تطبيقاتها. ولكن مضافًا إلى ما تقدّم ثمّة قواعد تعبّر بمجموعها عن الإطار النظريّ الذي يلتزم به صاحب هذا التفسير الذي نحن بصدد التقديم له بهذه المقدمة المنهجية. وسوف نحاول في ما يأتي عرض أهمّ القواعد التفسيرية التي يسير على هديها هذا العمل التفسيريّ.

 

1- قاعدة المنع من التفسير بالرأي

ورد في عددٍ من الأخبار المنع عن التفسير بالرأي[1]. والمصداق الأبرز للتفسير بالرأي تبنّي وجهة نظرٍ محدّدة وحمل الآية عليها، بغضّ النظر عن القرائن والمؤشِّرات والظهورات التي قد تكون مخالفة لهذا الرأي.

 

وقد التزم مفسِّرنا الجليل في تفسيره بظواهر القرآن ودلالاته، وتجنّب التفسير بالرأي، ووجّه انتقاداته إلى المفسِّرين الذين تورّطوا في هذا النمط من التفسير. وسوف نعرض هذا النقد تحت عنوان خاصٍّ يأتي لاحقًا.

 


[1] انظر: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2، ص 107؛ وسائل الشيعة، ج 18، ص 149؛ بحار الأنوار، ج 89، ص 110.

 

65


40

تفسير سورة براءة

2- قاعدة "التأويل"

(اكتشاف الرسائل والتعاليم وتطبيقها على المصاديق المعاصرة)

التأويل بمعنى اكتشاف بطن القرآن من المبادئ التفسيرية الأساس. وهاتان الكلمتان (التأويل، والبطن) على الرغم من تعدّد المراد منهما في الدراسات القرآنية[1]، فإنّنا نقصد منهما المعنى الذي ورد في بعض الأخبار من قبيل: "ظهره تنزيله، وبطنه تأويله؛ يجري كما تجري الشمس والقمر"[2]. وحاصل هذا المبنى أو القاعدة أنّ لكل آية تنزيلًا وتأويلًا، والمقصود من التنزيل ربط الآية بظروف نزولها وأوضاع الزمان الذي نزلت فيه وأحواله، وبعبارة أخرى: الفهم والتفسير التاريخيّ للآية. والتأويل هو فصل الآية عن الأمور المشار إليها وتفسيرها في محاولة لاكتشاف الرسالة المتضمّنة فيها، ثمّ تطبيق هذه الرسالة على مصداق معاصر. والمؤشِّر الدالّ على صحّة هذا الاستبطان، إن صحّ التعبير، هو إمكان تصنيف هذا المعنى في خانة المصداق للآية[3]. وتتجلّى في اعتماد هذا المبدأ في التفسير جدّة[4] آيات القرآن وانطباقها على كلّ عصر وزمان.

 

وقد أفضت الدراسات القرآنية في الفترة الأخيرة إلى وضوح هذا المبنى ودقّة تطبيقه، غير أنّ التأمل في أنحاء هذا العمل التفسيري يكشف عن دقّة نظر من المفسر الجليل في تطبيق هذا المبنى، وعن دقّة في تطبيق دلالة الآيات على مصاديق ونماذج معاصرة له، وهذه بضعة أمثلة:

1- بعض آيات سورة التوبة نزلت في التمهيد لمعركة تبوك والحضّ عليها، غير أنّ مفسِّرنا يشير إلى أنّ الرسالة التي تتضمنّها الآية يمكن أن تنطبق على الأوضاع التاريخية المعاصرة.

 

 


[1] انظر: التمهيد في علوم القرآن، ج 3، ص 28-30.

[2] بصائر الدرجات، ص 216.

[3] انظر: التفسير الأثري الجامع، ص 31-37؛ وتقعيد هذا المبنى يشبه إلى حدٍّ كبير فكرة تنقيح المناط في أصول الفقه الإسلامي. انظر: الأصول العامّة للفقه المقارن، ص 315.

[4] أي بقاؤها جديدة.

 

66


41

تفسير سورة براءة

2- في تفسير الآية 39 يشير إلى عواقب ترك النفر إلى الجهاد في عصره، كما كان من آثار ترك الجهاد تسلّط معاوية على المسلمين وتحكّمه في رقابهم.

 

3- في تفسير الآية 67 يلفت النظر إلى الاستفادة من الآية التي تشير إلى المنافقات وتطبيقها على العصر، وضرورة فهم تاريخ الإسلام، لمعرفة الأوضاع المعاصرة.

 

3- قاعدة "الجري والتطبيق"

هذه القاعدة من القواعد التفسيرية المهمّة، وذلك أنّ القرآن لم تنتهِ صلاحيّته بعد عدد من السنوات، بل هو كتاب هداية يصلح لكلّ زمان ومكان. وطراوة القرآن ونضارته ترتبط إلى حدٍّ كبيرٍ بحسن استخدام هذه القاعدة في فهمه. يشير العلامة الطباطبائي إلى استفادة هذه القاعدة من كلام أهل البيت عليهم السلام[1]، ويقول: "واعلم أنّ الجري اصطلاح مأخوذٌ من قول أئمّة أهل البيت عليهم السلام... وهذه سليقة أئمّة أهل البيت فإنّهم عليهم السلام يطبّقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وإن كان خارجًا عن مورد التنزيل"[2]. ويعرّف آخرون هذه القاعدة بقولهم: "الجري والتطبيق هو انطباق ألفاظ وآيات القرآن على مصاديق غير المصاديق التي نزلت فيها هذه الآيات"[3].

 

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه القاعدة تختلف عن قاعدة التأويل المتقدّمة التي تفترض مسبقًا إلغاء خصوصيات الآية وتعميمها، ثم بعد ذلك اكتشاف الرسالة المتضمّنة فيها وتطبيقها على المصاديق الجديدة، أما هذه القاعدة فلا تستدعي مثل هذا التعميم؛ بل هي شكلٌ من أشكال تطبيق ظواهر الآية على المصاديق المعاصرة مباشرةً.

 


[1] انظر: الكافي، ج 1، ص 192؛ تفسير العيّاشي، ج 1، ص 22-23.

[2] الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 42.

[3] روشهاى تأويل قرآن، ص 147.

 

 

67


42

تفسير سورة براءة

ومن أمثلة استخدام هذه القاعدة في هذا التفسير ما ورد في تفسير الآية 112 من روايات تفسِّر مفهوم السياحة في الآية بالصوم. وفي تحليل هذا التفسير يحمل سماحته السياحة على السفر الداخليّ في النفس الموجب لتقوية الإرادة وشدّ العزيمة، والصوم من الوسائل التي تسمح للإنسان أن يسافر إلى أعماق نفسه، ويزيد في وجوده، وهذا في رأيه ما يبرّر تطبيق السياحة على الصوم كما ورد في الروايات[1].

 

ومن أمثلة الاستناد إلى هذه القاعدة ما صدر عنه في تفسير الآية 41 حيث عمّم الدعوة إلى النفر خفافًا وثقالًا لكل أشكال النفر وألوانه، مع الاحتراز عن التورّط في التفسير بالرأي بحصر معنى الآية في لونٍ خاصٍّ من التفسير. والأمر عينه نلاحظه في توسعة مفهوم العذاب في الآية 39؛ حيث يرى عدم صحّة حصر العذاب بالعذاب الأخرويّ. وأخيرًا نشير إلى توسعة مفهوم الجهاد المدعوّ إليه في الآية 41 لما يشمل الجهاد خارج إطار ميدان القتال.

 

3- قاعدة السياق

السياق هو الفضاء الذي تشكّله الكلمات والعبارات والجمل، ومن الواضح أنّ للسياق دوره وأثره في إضفاء المعنى على العبارات أو توجيه معناها في اتّجاه محدّد[2]. والسياق عند عددٍ من المفسّرين من أهم القرائن التي تتحكم في توجيه معنى الآية، ومن هنا نجد أنّ العلامة الطباطبائي مثلًا، يقدِّم السياق على ظهور الأخبار والروايات[3]. ووجه الاهتمام بالسياق والاعتماد عليه في التفسير هو أنّه من الأسس التي يقوم عليها ظهور الآية، وبالتالي يرجع إلى قاعدة الاستظهار العرفية التي هي من الأصول العقلائيّة.


 


[1] انظر: الكافي، ج 1، ص 15.

[2] ثمة أقوال وتعريفات عدّة للسياق وما ذكرناه نرى أنّه الأوفى في شرح معناه وتعريفه. للمزيد انظر: البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 313؛ دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، ص 103.

[3] من باب المثال، انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 7 و9.

 

68


43

تفسير سورة براءة

تحضر قاعدة السياق بوضوح في هذا التفسير؛ بحيث يرجّح على ضوء السياق أحد الاحتمالات التفسيرية الممكنة على غيره من الاحتمالات، كما وردت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية 13، وكذلك في تفسير الآيتين 47 و53.

 

وفي بعض الحالات يُعتمد على السياق لنقد بعض النظريّات التفسيرية، ومن ذلك نقده لرأي بعض المفسِّرين للآية 111 من سورة التوبة لتعميمهم شراء نفوس المؤمنين وتفسيره بجميع الواجبات البدنية.

 

وقال في تفسير الآية 71 في ما يرتبط بعبارة "سيرحمهم الله": "استند بعض المفسِّرين إلى حرف السين في "سيرحمهم" ليفسِّروا الرحمة بالرحمة الأخرويّة، كما فعلوا مع صفتي الرحمن والرحيم؛ ولكن عندما نتأمّل في سياق الآية يتبيّن لنا أنّ هذا القول يقتضي إضافةً إلى الآية من قبيل: "سيرحمهم الله في الآخرة"، أو "في الجنّة". وهذا يخالف السياق، فإنّنا إذا أردنا أن نفسِّر كلام الله حقّ تفسيره من دون التبرّع بإضافة قيد إليه، علينا أن نبقيه على إطلاقه ونفسِّر الرحمة بالرحمة في الدنيا والآخرة".

 

والاهتمام بالسياق نلاحظه في تفسير الآية 82 أيضًا؛ حيث ردّ على من يفسِّر الأمر بـ"الضحك قليلًا" بـ"التكليف به"، بأنّه ناجمٌ عن عدم الالتفات إلى سياق الكلام. كما استند إلى السياق أيضًا لتفسير الإعراض الثاني المذكور في قوله تعالى: ﴿لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم﴾ في الآية 95. وإلى هذه الموارد يمكن إضافة مورد آخر هو تفسير التفضيل في قوله تعالى في الآية 67: ﴿الأعراب أشدّ كفرًا ونفاقًا﴾، بأنّه تفضيل بالقياس إلى الحضر... ومن الموارد السياقية التي نودّ ذكرها تفسيره الآية 103 حيث استند إلى السياق لحمل الفعل "تطهِّرهم" الوارد في الآية على المذكر في مقابل احتمال التأنيث.

 

5- قاعدة "التأسيس أولى من التأكيد"

يولي سماحته ظاهرة التكرار الملحوظة في القرآن اهتمامًا، ويُنعِم النظر في هذه الحالات لاكتشاف السبب الداعي إليها والغاية منها. ومن الظواهر المنهجية التي تستحقّ التوقّف عندها في هذا التفسير اعتماد قاعدة ترجيح التأسيس على التأكيد.

 

 

69

 


44

تفسير سورة براءة

وعلى ضوء هذه القاعدة حاول في كثيرٍ من الموارد البحث عن المعنى الذي يمكن استفادته من الآية المكرّرة؛ كي لا تكون مجرّد تكرار لأختها. وفي عددٍ من الموارد نلاحظ أنّه يوجِّه نقده إلى من ادّعى التكرار من المفسِّرين السابقين عليه.

ومن موارد تطبيق هذه القاعدة، ذكر الكفّار بعد ذكر المنافقين في الآية 68؛ وقد حاول الإجابة عن سؤالِ: إذا كان المنافق كافرًا فلماذا يُذكر أوّلًا ثم يُذكر الكافر مرّة أخرى بعده؟ كما نلاحظ الاستناد إلى هذه القاعدة لتفسير قوله تعالى: ﴿ولهم عذابٌ مقيمٌ﴾، بعد قوله عزّ وجلّ: ﴿نار جهنّم خالدين فيها﴾... إلى غير ذلك من الموارد.

 

6- قاعدة "أصالة عدم التقدير"

حاصل هذه القاعدة أنّ تفسير الكلام من دون تقديرِ كلمةٍ أو زيادتها، هو الأصل الذي ينبغي أن يكون معتمدًا في تفسير كتاب الله. وهذا ما فعله مفسِّرنا في عدد من الموارد حيث تجنّب إضافة أيّ كلمة أو تقديرها لاستفادة معنًى ما، خاصّةً عندما يمكن فهم الكلام من دون هذا التقدير. ومن ذلك ما أشرنا إليه قبل قليل في ما يرتبط بالآية 71؛ حيث تُفسَّر الرحمة بالرحمة في الآخرة، ويرفض سماحته هذا الرأي لاقتضائه إضافة قيدٍ إلى الآية من دون داعٍ يدعو إليه.

 

7- قاعدة "التعريض"

ثمة موارد في القرآن الكريم يظهر منها لأوّل وهلة أنّ المخاطب بها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحال أنّ المخاطب الحقيقي هو غيره. وورد التعبير عن هذه القاعدة في بعض الأخبار بعبارة: "إيّاك أعني واسمعي يا جارة"[1].وقد اعتمد الله عزّ وجلّ هذا الأسلوب في الخطاب في عدد من الموارد في القرآن الكريم، ومن أبرز حالاته وأشهرها الآيات 22-24 من سورة الإسراء. ولهذا الأسلوب من الخطاب


 


[1] بحار الأنوار، ج 90؛ ص 145.

 

 

70


45

تفسير سورة براءة

ثماره وآثاره الإيجابية على المخاطب. وعدم الالتفات إلى هذه القاعدة في الخطاب القرآني له آثار سوء تترتّب عليه؛ حيث تحسب بعض الآيات خطابًا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو أجلّ من أن يُخاطب بهذه الطريقة. ومهما يكن من أمرٍ، فقد التفت مفسِّرنا إلى هذه القاعدة في تفسيره وحمل بعض الخطابات الموجّهة بحسب الظاهر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى غيره عملًا بقاعدة التعريض، ومن ذلك الآية 85. فالنهي عن الإعجاب بأموال المنافقين هو نهي لأصحابه وليس له.

 

8- الالتفات إلى التناسب المضموني للآيات

من العناصر المهمّة في التفسير الالتفات إلى التناسب المضموني وعلى مستوى المحتوى بين الآية وما قبلها وما بعدها. وهذا يكشف في عددٍ من الحالات عن وحدة السياق واختلافه، وعن وجه الحكمة في ترتيب الآيات في السورة الواحدة بالطريقة التي هي عليها في المصحف الشريف. وقد حرص مفسِّرنا الجليل على تطبيقه هذه القاعدة في التفسير، وراعى هذا التناسب لاستنباط دلالة الآية على وجهها الصحيح. ومن أمثلة ذلك ما فعله في تفسير الآية 58 حيث ربط بينها وبين الآية 60 على أساس وحدة المضمون والمحتوى ليوحِّد المعنى المقصود من الصدقة في الآيتين. وثمّة أمثلة أخرى نترك ذكرها بالتفصيل لفطنة القارئ ونكتفي بالإشارة إلى مواردها وهي: الربط على أساس التناسب بين الآيتين 68 و71، والآية 71 لتوسعة المقصود من الرحمة على أساس الترابط المضموني، وأخيرًا الآية 72.

 

9- الالتفات إلى التركيب الإعرابي ودوره في المعنى

يؤدّي الاختلاف في الإعراب وتشكيل حركة آخر الكلمات في اللغة العربية إلى اختلاف المعنى، ولا يخلو كتاب الله من موارد اختلفت قراءتها من الناحية الإعرابية، ومن أمثلة ذلك الآية 15 من سورة التوبة، حيث قرئت كلمة "يتوب" بفتح الباء وبضمّها. وبناءً على الفتح تكون الجملة جواب شرطٍ، أو عطفًا على

 

71

 


46

تفسير سورة براءة

الجمل السابقة، وبناءً على الضمّ يُحتمل أن لا تكون الواو للعطف بل للاستئناف.

 

10- الاستفادة من مبادئ الدين ومحكماته

لا شكّ في أنّ عددًا من الأفكار والمبادئ الدينية يمكن أن يكون قرينة قويّة تصلح للاعتماد عليه في التفسير، وخاصّة في الآيات المتشابهة من خلال ردّها إلى المحكمات الدينية أو الكتابية. وقد استفاد مفسِّرنا من هذه القاعدة في عدد من الموارد منها توسعة النهي عن كنز المال لما هو خارج حدود بحث الزكاة، وذلك بالاستناد إلى أنّ من مسلّمات الدين دعوته لنشر العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وحصر تحريم الكنز بالامتناع عن أداء الزكاة، قد لا يكفي لتحقيق هذه الغاية الدينية.

 

11- تقديم ظهور الآية على مفاد الروايات

يصرّح سماحة السيد دم ظله في تفسير الآية 60 بأنّ ما تفيده الآية بحسب الظهور العرفيّ مقدّمٌ على ما تدلّ عليه الروايات التفسيريّة. ويضيف أنّ الدلالة الظهورية للآية هي الخيار الأوّل، وإنّما نلجأ إلى الروايات والأخبار في حالة عدم انعقاد ظهور عرفيٍّ للآية، أو في حالات انعقاد ظهور لها في الإطلاق أو العموم، ثم وردت رواية مخصّصة أو مقيّدة؛ وذلك لأنّ عموم القرآن وإطلاقه يقبلان التخصيص والتقييد. وهذه الإشارة تفيد أنّه يقبل تخصيص القرآن وتقييده بخبر الواحد.

 

12- عدم حجّية فتوى الفقهاء في تفسير الآية

من المباني التفسيرية المعمول بها في هذا التفسير عدم حجّية فتاوى الفقهاء في التفسير، سواء كانوا من الإمامية أو من أهل السنّة. وهو يصرّح بهذا المبنى في تفسير الآية 60 أيضًا، ويبيّن أنّ الخيار الأوّل في التفسير وفهم كتاب الله هو الظهور العرفيّ المنعقد للآية، وفي المرتبة الثانية الأخبار والروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام، في ما إذا كانت مفسِّرة لما لم ينعقد له ظهورٌ، أو انعقد ولكن كان عمومًا أو إطلاقًا ثم وردت رواية مقيّدة أو مخصّصة. وهذا المبنى من المباني الأساسية التي

 

 

72

 


47

تفسير سورة براءة

تحمي المفسِّر من التورّط في الأخطاء التفسيريّة نتيجة تقليده لهذا الفقيه أو ذاك وجعل فتواه معيارًا في التفسير.

 

13- الاستفادة من "الاطّراد" وكثرة الاستعمال في فهم مفردات القرآن

يمكن تحديد المراد من بعض المفردات القرآنية، على ضوء كثرة ورودها في سياقٍ محدّد يوجِّه دلالتها في اتّجاه معيّن. وقد اعتمد مفسِّرنا الجليل هذه القاعدة لشرح بعض المفاهيم القرآنية، ومن ذلك مفهوما الزكاة والصدقة، في تفسير الآية 60.

 

14- منهج القرآن في وصف عقائد الأشخاص

يرى مفسِّرنا الجليل في تفسير الآية 30، أنّ طريقة القرآن في تعريف عقائد الأشخاص ووصفها، هي أنّه عندما يتبنّى مجموعة من الأشخاص معتقدًا أو فكرةً ثم لا يعارضها الآخرون، فإنّ تلك العقيدة تُنسب إلى الجميع على حدٍّ سواء. ويستشهد لهذه الفكرة بالآيتين 30 و65 من سورة التوبة.

 

د) الخصائص والمميّزات

ثمّة خصائص ومميّزات يتحلّى بها هذا الجهد التفسيريّ، مضافًا إلى ما ذكرناه تحت عنوان المنهج، والاتّجاه، والمباني والقواعد. وسوف نشير في ما يأتي إلى أهمّ هذه الخصائص:

1- استنباط المبادئ الكلّية والمعايير

من القضايا التي حظيت بالعناية والاهتمام في هذا التفسير، استنباط المبادئ العامّة والكليّة للإسلام من آيات القرآن الكريم، مضافًا إلى تطبيقها على مصاديقها المعاصرة في عددٍ من الحالات. وتتنوّع هذه المبادئ العامّة بين مبادئ عامّة للشريعة

 

 

73

 


48

تفسير سورة براءة

ككلّ، وقواعد عامة فقهيّة، أو أصل من أصول الفقه، وفي بعض الأحيان معايير وملاكات أحكام.

 

ومن النماذج التي يمكن أن يُشار إليها:

1- استنباط مبدأ التزاحم[1] وتقديم الأهمّ على المهمّ من الآيتين 3 و4 من سورة التوبة، وهذا المبدأ من الأصول المهمّة في علم أصول الفقه.

 

2- في تفسير قوله تعالى: ﴿وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر﴾[2]، طرح مبدأً عامًّا حاصله أنّ ملاك القتال هو الطعن في الدين، وإعاقة الدعوة إليه، وبناءً على هذا المبدأ كلّ محاولة لتغيير الأرضية الفكرية للمجتمع الإسلاميّ بطريقة لا يرتضيها الإسلام، هي طعنٌ في الدين.

 

3- يستفيد من الآيتين 12 و13، أنّ الإسلام لا يكتفي في بعض الحالات بالأمر والنهي عن الشيء بشكلٍ مباشرٍ، بل يتصدّى أحيانًا للخلفيات والدوافع.

 

4- يستفيد من الآية 13 أنّ الكفر وحده لا يبرّر القتال، بل العدوان هو السبب الذي يبرّر الردّ على العدوان بدفعه ومواجهته، وبناءً على هذا قد يتضرّر الإسلام من بعض الفاسقين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام أكثر ممّا يتضرّر من الكفر والكفّار.

 

5- في تفسير الآية 27 أشار سماحته إلى المعيار الذي على أساسه تُصنّف المعصية بأنّها كبيرةٌ.

 

6- يستفيد من الآية 59 أنّ مصلحة المجتمع مقدّمة على مصلحة الفرد...

 

7- يستنتج من الآية 94 أنّ من مبادئ التواصل في الإسلام عدم قبول كلام الفاسق.


 


[1] المراد من التزاحم المبدأ الذي يقضي بتقديم التكليف الأكثر أهميّة على الأقل أهمية، في حالات التعارض بين التكليفين وعجز المكلّف عن الإتيان بهما معًا. كما لو تعرّض شخصان للغرق واستطاع المكلّف إنقاذ أحدهما فقط، ففي هذه الحالة يقدم الأهمّ منهما على الأقل أهمية.

[2] سورة التوبة: الآية 12.

 

74


49

تفسير سورة براءة

 

8- يستفيد من الآية 107 أثناء تحليله لحادثة مسجد ضرار أنّ الإسلام لا يهتمّ بالظاهر على حساب المضمون؛ ولأجل ذلك يقضي بهدم المسجد على الرغم من كونه بحسب الظاهر بيت الله، إذا كانت العبادة فيه ظاهرًا لا مضمون له.

 

2- طرح موضوعات مستقلّة

يتعرّض هذا التفسير لبعض الموضوعات المستقلّة بمناسبة تبرّر طرحها وتفصيل القول فيها. وهذا النوع من الاستطرادات قد يكون موضوعًا قرآنيًّا يحتاج إلى بسط القول فيه، أو موضوعًا اجتماعيًّا مهمًّا يستحقّ التوقّف عنده، أو شبهة أو إشكالية ينبغي التعرّض لحلّها، أو فهمًا خاطئًا لآية من كتاب الله يستأهل التصحيح. وهذه بضعة أمثلة لهذا النوع من الاستطرادات.

 

تعرّض في تفسير الآية 34 لتحليل فلسفة المال والنقد، وللأسباب التي أدّت إلى اعتماد الذهب والفضّة. ويستنتج من هذا الاستطراد أنّ بعض أحكام الذهب والفضة المذكورة في الآية تنطبق على النقد المتداول في عصرنا.

 

في تفسير هذه الآية نفسها تعرّض لقضية منع الإسلام من تركيز الثروة في أيدي جماعة محدّدة، وعرض بعض الآليات التي تحول دون ذلك، ومنها: تحريم القمار والربا، حيث هما وسيلة لتحصيل مال كثير من دون جهد اقتصاديّ معادل؛ الربط بين توزيع الإرث في الإسلام، وتفكيك الثروات الكبيرة إلى حصص أقل؛ وتشريع الضرائب على أشكالها من خمسٍ وزكاة وغيرهما.

 

في تفسير الآية 103، وفي سياق الحديث عن الأهداف المعنوية لتشريع الإنفاق في الإسلام، يتعرّض للمذهب الرأسماليّ الذي يجعل مصلحة الفرد هي المعيار، بينما المعيار في الإسلام هو مصلحة الجماعة والفرد على حدٍّ سواء، وهذا يكشف برأيه عن اعتدال الإسلام ووسطيّته.

 

وفي بعض الحالات يصرّح مفسِّرنا بأنّ هذه القضايا التي يعالجها هذا التفسير

 

75


50

تفسير سورة براءة

ليست من المطالب التفسيريّة، ولكن لا بد من طرحها والبحث فيها. وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أنّ الأسلوب المعتمد في معالجة هذه الموضوعات هو في الغالب أسلوب التفسير الموضوعيّ.

 

3- الاستفادة من التمثيل لشرح الآية

التمثيل من الأساليب المناسبة لتوضيح الأفكار العميقة، وتقديمها بطريقة بسيطة تسهّل فهمها، وتسمح باستقرارها في عقول المخاطبين وضمائرهم. وقد اعتمد هذا التفسير هذا الأسلوب في التعامل مع الأفكار.

 

وثمّة أمثلة كثيرةٌ نشير إلى بعضها، في ما يأتي:

1- شبّه الامتحان الإلهيّ بطريقة المدرِّب الرياضي، عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿أم حسبتم أن تتركوا﴾[1]، ولم يشبّهها بطريقة المعلّم النظريّ في الامتحان، وذلك أنّ المعلّم النظريّ هدفه اكتشاف مستوى الطالب، بينما المدرِّب هدفه تعزيز قدراته وتربيته، وعلى هذا النحو تكون الاختبارات الإلهيّة.

 

2- في تفسير الآية 34 يشبّه المال في المجتمع بالدم في بدن الإنسان، ووجه الشبه المقصود هو أنّ كلًّا منهما يجب أن يبقى في حالة جريان ليصل إلى جميع الأعضاء بطريقة عادلة ومنصفة...

 

3- في تفسير الآية 38، شبّه خلود الأفكار الإسلاميّة إثر تضحيات المجاهدين بالحجر الذي يستقر بطريقة طبيعية ولا يجرفه السيل. وهذا المثال هو من باب تشبيه السنن الاجتماعية بالسنن الطبيعية.

 

4- في تفسير قوله تعالى: ﴿فما متاع الحياة الدنيا من الآخرة إلا قليل﴾[2]، يشبّه السالك إلى الآخرة بالسائر نحو البحر، فهذا الأخير على الرغم من أنّه يسير نحو البحر إلا أنّه يستفيد في سفره من الجداول، والسائر إلى الله كذلك لا


 


[1] سورة التوبة: الآية 16.

[2] سورة التوبة: الآية 38.

 

76


51

تفسير سورة براءة

يستغني عن الاستفادة من متاع الحياة الدنيا...[1]

 

4- طرح المباحث الاجتماعيّة

في سورة التوبة عددٌ من الآيات التي تخبر عن أوضاع المجتمع الإسلاميّ في السنوات الأخيرة من حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وقد توقّف مفسّرنا الجليل عند هذه الخاصّة وتصدّى في بعض الأحيان لبعض المباحث الاجتماعية بالاستعانة بآيات من سور أخرى، وعلى الخصوص ذلك النوع من المباحث التي يمكن تطبيقها على عصور عدّة. وبعبارة أخرى: إنّ كثيرًا من الإشارات الاجتماعيّة في سورة التوبة وغيرها من سور القرآن الكريم، تحكي عن القوانين الاجتماعية التي لا ترتبط بمجتمع بعينه.

 

ومن أمثلة ما تصدّى له مفسّرنا الجليل، بيانه للفئات الاجتماعية التي تعارض على الدوام دعوات الأنبياء والمصلحين، وهذه الفئات هي المثلّث الاجتماعي الذي يمكن تسميته بالطاغوت، وهي: أهل السلطة، والأغنياء، وعلماء البلاط وطلّاب الدنيا. وقد فصّل القول في هذا الموضوع الاجتماعيّ، بمناسبة تفسير الآية 34 من سورة التوبة.

 

وفي تفسير الآيات 97-99، تعرّض لخصائص أهل البدو وأهل الحضر، على ضوء الإشارة القرآنيّة، وأوضح أنّ القرآن في هذه الآيات وما يشبهها يعطينا دروسًا في علوم: الاجتماع، والنفس، والإناسة، على الرغم من أنّه ليس كتابًا تخصّصيًّا في هذه العلوم؛ بل هو فوق ذلك وأعلى شأنًا، فهو كتاب هداية، وهدفه الأساس هو تعليم الإنسان كيف يعيش...

 

وفي تفسير الآية 103، في سياق شرحه لمفهوم التزكية الوارد في الآية، يشرح كيف يؤدّي أداء الزكاة إلى نموّ المجتمع الإسلاميّ وزكاته، إثر الإنفاق على المصالح العامّة من أموال الأغنياء...


 


[1] عرض كاتب المقدّمة اثني عشر موردًا كأمثلة للتشبيهات المستخدمة في هذا التفسير. وقد أعرضنا عن ترجمتها للسبب المتقدّم وهو الرغبة في الاختصار. (المترجم)

 

77


52

تفسير سورة براءة

5- تحليل الروايات المرتبطة بفضائل السور

يتعرّض مفسّرنا العزيز في بعض الحالات للروايات التي تتحدّث عن فضائل السور ويعمل على تحليلها. ومن ذلك أنّه ورد في بعض الأخبار أنّ قراءة سورتي التوبة والأنفال تذهبان النفاق أو تحميان منه. وهو يرتضي كما يظهر هذه الرواية ويحاول تحليل ذلك على ضوء موضوع السورتين؛ حيث إنّهما تعرضان أحوال المنافقين، ما يستدعي الالتفات إلى خصائصهم عند القراءة وتأمّل قارئهما في أحواله ورصد مدى إخلاصه أو نفاقه.

 

6- تحليل فلسفة الأحكام القرآنية

أحكام القرآن وتشريعاته تابعةٌ للمصالح والمفاسد، كما هو معلوم. وبعض هذه المصالح بيّنها الله عزّ وجلّ في كتابه[1]، وبعض هذه الحكم أو المصالح على الرغم من السكوت عنها، فإنّه يمكن اكتشافها والتعرّف إليها، وخاصّة ما كان منها ذا طابع اجتماعيٍّ. ولاكتشاف هذه المصالح آثارٌ، أهمّها إقناع المخاطب بها، يُضاف إلى هذا الأثر أنّ بيان المصالح المترتّبة على الأحكام يدفع بعض الشبهات المثارة في وجهها.

 

وليس بيان هذه المصالح من الأعراف السائدة في ميدان التفسير؛ ولكنّ مفسِّرنا الجليل يهتمّ بهذا البعد، ويحاول اكتشاف تلك المصالح والحكم المترتّبة على الأحكام، على ضوء التجارب الاجتماعية المعاصرة. والأمثلة كثيرةٌ نكتفي بالإشارة السريعة إلى بعضها:

1- في تفسير الآية 17 بيّن الأسباب التي أفضت إلى تشريع تحريم بناء المساجد من قبل المشركين.

 

2- في تفسير الآية 54 عالج قضية قبول الأعمال، وبيّن أنّ الأجر والثواب في الآخرة ليس هو الهدف الوحيد للعبادة والأعمال الصالحة.

 

 


[1] انظر: سورة البقرة: الآية 219؛ وسورة المائدة: الآيتان 90-91.

 

78


53

تفسير سورة براءة

3- تعرّض للآثار المترتّبة على التوكّل في تفسير الآية 51.

 

4- بيّن في تفسير الآية 60 أهداف تشريع الزكاة وغيرها من أشكال الإنفاق في الإسلام.

 

5- شرح في تفسير الآية 72 الأسباب التي من أجلها يكرّر الله تعالى في القرآن وعوده للمؤمنين.

 

6- علّل في تفسير الآية 80 الأسباب التي تكمن وراء التشدّد مع المنافقين بحيث ينهى الله عن الاستغفار لهم. ولم يكتفِ سماحته ببيان المصاديق المتنوّعة للأحكام والتشريعات القرآنية؛ بل قدّم أفكارًا عامّة تعالج قضية تعليل الأحكام، وبيان الأسباب التي أدّت إلى السكوت عن بعض العلل وبيان بعضها الآخر.

 

7- بيان أهداف الأخبار التاريخية في القرآن

يقول سماحته في سياق تفسير الآية 107 التي تبيّن قصّة مسجد ضرار، في مجال بيان الأهداف المتوخّاة من نقل الأحداث التاريخيّة في القرآن: "قد يلاحظ المدقّق في هذه القصّة أنّ الله تعالى اهتمّ بنقل قصّة ليس فيها من الأهميّة ما يدعو إلى نقلها؛ ومع ذلك تحدّث عنها القرآن في أربع آيات. ولعلّ النظرة الأولى تقضي بكفاية ما هو أقل لنقل هذه الواقعة التاريخيّة والإخبار عنها؛ وذلك أنّه ليس من عادة القرآن التفصيل في نقل الوقائع التاريخيّة؛ بل إنّ كثيرًا من وقائع سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسكوتٌ عنه في القرآن. ومن هنا نقول بثقة إنّ تفصيل الكلام في الأحداث التاريخيّة يراد منه التعليم واستفادة العبر من هذه الأحداث".

 

8- انتقاد المفسِّرين بالرأي الذين يحملون آراءهم على القرآن

ينتقد مفسِّرنا الجليل، عند تفسيره الآية 12 من سورة التوبة، المفسِّرين الذين يوجِّهون دلالة الآية وفق آرائهم وميولهم. وهذا الانتقاد يكشف عن مقاربته

 

79


54

تفسير سورة براءة

التفسيرية وهي الحرص على الحياد في مقام التفسير، بعيدًا عن التأثّر بالمتبنَّيات الخاصّة، وإعطائها القيمومة على التفسير، وهذه الانتقادات تتكرّر في أكثر من مورد، منها:

1- في تفسير الآية 111 ينتقد الذين يفسِّرون شراء الله تعالى من المؤمنين أنفسهم، بالعبادات البدنية، ويرى أنّ السياق يفيد نوعًا محدّدًا من هذه العبادات وهي عبادة الجهاد.

 

2- في تفسير الآية 40 ينتقد صاحب المنار على اختراعه بعض الفضائل للخليفة الأوّل، ويقسو عليه في نقده إيّاه؛ ولكنّه لا يقصر نقدَه على المفسِّرين من أهل السنّة؛ بل نجده يحمل هذه النظرة النقدية حتّى تجاه بعض مفسّري الإمامية.

 

3- في تفسير الآية 43 يطرح عددًا من الآراء في المقصود من العفو عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وينتقد أكثرها، ويختار رأيًا يرى أنّه الأصوب. إلى غير ذلك من الأمثلة التي يمكن للقارئ الفطن الالتفات إليها.

 

ومن الموارد المشار إليها أعلاه وغيرها ممّا لم نشر إليه، يتبيّن أنّ المباني التي يستند إليها مفسِّرنا في نقده لسائر الآراء، هي:

- احترام ظاهر الآية

 

- الالتفات إلى السياق

 

- ملاحظة سائر الآيات وفق منهج التفسير بالقرآن

 

- ملاحظة الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام

 

- ردّ الأخبار غير المعتبرة

 

- الالتفات إلى المعاني اللغوية للكلمات والمفردات

 

- ملاحظة المفاهيم القرآنية ومعاني الاصطلاحات الخاصّة

 

 

80

 


55

تفسير سورة براءة

- التحليل التاريخي لأحداث صدر الإسلام

 

- الالتفات إلى المبادئ الإسلامية المستفادة من الآيات المحكمة

 

- التحليل العقلي

 

- نفي التكرار المحض عن القرآن

 

9- الإبداعات التفسيريّة

 

من خصائص هذا التفسير أنّه يتضمّن بعض الآراء الجديدة التي يمكن تصنيفها في دائرة الإبداعات الخاصّة به. ونشير إلى بعض هذه الآراء الجديدة في ما يأتي:

1- في تفسير الآية 38 عرض أقوال المفسِّرين في المقصود من قلّة متاع الحياة الدنيا في الآخرة وبيّن وجهة نظر خاصّة به.

 

2- في تفسير الآية 112 عرض آراء المفسّرين في السياحة وحملها على السياحة في النفس.

 

3- في تفسير الآية 43 عرض المراد من العفو عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ طرح رأيًا جديدًا في الموضوع.

 

4- في تفسير الآية 29 عرض المقصود من الفتنة، وطرح وجهة نظرٍ مستفادة من أخبار أسباب النزول.

 

5- في تفسير الآية 69 بيّن وجهة نظر المفسِّرين في شدّة قوّة المحكيّ عنهم، ثمّ طرح احتمالًا آخر... ومن أهمّ عناصر التجديد في هذا التفسير التوقّف عند المفاهيم القرآنية واكتشاف المقصود منها قرآنيًّا، ومن الأمثلة توسعة مفهوم الزكاة لتشمل ما هو أوسع من الزكاة بحسب الاصطلاح الفقهيّ.

 

10- بيان مصاديق الآية

من خصائص هذا التفسير أنّه يتعرّض لبيان مصاديق الآية؛ ما يؤدّي إلى زيادة

 

 

81

 


56

تفسير سورة براءة

الفعالية والتأثير. وثمّة أمثلة عدّة لهذه الخصيصة، منها بيان مصاديق الغلظة في تفسير الآية 73، ومصاديق العذاب في تفسير قوله تعالى: ﴿يعذّبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة﴾ في الآية 74، ومصاديق تعذيب المنافقين بالأموال والأولاد في تفسير الآية 85، ومصاديق الخيرات في عند تفسير الآية 88.

 

11- التدقيق في الكلمات واكتشاف دلالاتها

يتوقّف المفسر الجليل عند المفردات والعبارات القرآنية بهدف اكتشاف دلالاتها وتمييز الفوارق الدلالية بينها، وقد أشرنا إلى بعض ما يمكن إدراجه ضمن هذا البند. وهنا نشير إلى نماذج أخرى، منها:

في تفسير الآية 71 يقارن بين عبارة "بعضهم من بعض" الواردة في وصف المنافقين، وعبارة "بعضهم أولياء بعض" الواردة في وصف المؤمنين. والأمر نفسه يلحظ في ما يرتبط بتعبير "يقيمون الصلاة" وبين الفعل "يصلّون"، وكذلك يتوقّف عند الدعوة إلى طاعة الله والرسول بعد الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة...، مع أنّ هذه الأوامر هي مصاديق لطاعة الله والرسول. وفي تفسير الآية 73 تساءل عن سبب تقديم الأمر بجهاد الكفّار مع أنّ البحث عن المنافقين. وفي تفسير الآية 86، يتساءل عن تعبير الله عزّ وجلّ عن المنافقين بعبارة "أولو الطول"، مع أنّ الكلام عن استئذان المنافقين، ويؤكّد أنّ كلّ عبارة أو كلمة ترد في القرآن مقصودة ولها دلالة محدّدة. وفي تفسير الآية 91، يتساءل عن سرّ التعبير بالمغفرة والرحمة في ما يرتبط بالمؤمنين المعذورين عن الجهاد لعدم توافر الزاد بين أيديهم، ويجيب عن هذا التساؤل بتحليل المقصود من المغفرة، ويبيّن معناها في هذا المورد.

 

وفي بعض الحالات يتوقّف هذا التفسير عند ذكر حرفٍ أو عدم ذكره، ليستنبط دلالة ذلك ومرماه، ومن الأمثلة:

في تفسير الآية 34، يقارن بين عبارَتيْ: "والذين يكنزون الذهب" و"الذين يكنزون الذهب" (مع الواو أو بدونها). وفي تفسير الآية 102 يتساءل عن الفارق الدلاليّ بين ذكر الباء وعدم ذكرها في قوله تعالى: ﴿خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا﴾

 

 

82

 


57

تفسير سورة براءة

ليكشف عن الفارق الدلاليّ بين الآية كما هي في القرآن وبين تعبير "بآخر". وكذلك يبيّن الفارق في المعنى في الآية 103 بين نسبة التزكية إلى الأشخاص ونسبتها إلى المال.

 

12- ترتيب وتصنيف مطالب الآيات

في موارد عدّة يعرض المفسّر لعدد من الآيات ويصنّف المطالب والمضامين الواردة فيها، بهدف تمييز المطالب الأساسيّة عن غيرها، وبهدف بيان التناسب بين الآيات. ومن ذلك أنّه يقول في ما يرتبط بالآيتين 41-42: "وبالمناسبة فإنّ في هاتين الآيتين ثلاثة مطالب عامّة ومهمّة، ومطالب أخرى جانبية". ثم يعمد إلى فهرسة هذه المضامين وتصنيفها.

 

وهذه الطريقة في التعامل التفسيريّ مع الآيات تترتّب عليها فوائد جمّة، أهمّها إبراز الرسائل الأساسية للآيات، وتمييزها عن المطالب الهامشية الأقلّ أهمّية، وهذا يساعد المفسِّر والمتلقّي على توضيح آلية التعامل مع هذه المطالب.

 

13- الالتفات إلى القواعد والأحكام الفقهيّة

على الرغم من تصنيف هذا التفسير في دائرة الاتّجاه الاجتماعي الهدايتي، فإنّه يولي اهتمامه ببعض الأبعاد الفقهيّة التي تتعرّض لها الآيات. وهذا يكشف بوضوح عن الخلفية الفقهيّة التي يستند إليها المفسّر.

 

ومن أمثلة هذه الخصيصة أنّ الآية 39 من سورة التوبة تقول: ﴿إلا تنفروا يعذِّبكم عذابًا أليمًا﴾ والسؤال الذي يُطرح هنا هو: ألا تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى: ﴿لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها﴾؟ وتصدّى لمعالجة التعارض الموهوم بين الآيتين بالإشارة إلى مصاعب الجهاد ومتاعبه، مع بقائه في دائرة الإمكان والقدرة.

 

وثمّة موارد في القرآن الكريم تُبيّن فيها بعض الأحكام الفقهية الجزئية، مضافًا إلى القواعد، ومن الأمثلة ما ورد في الآية 111 التي تُفسَّر بحالة اتّخاذ الكفّار بعض المؤمنين دروعًا بشريّةً، ومن ذلك أيضًا التمييز بين صحّة العمل وقبوله في تفسير الآية 53. وقد توقّف مفسِّرنا عند الأمرين.

 

83

 


58

تفسير سورة براءة

ومن الأمثلة أيضًا توقّفه مليًّا في تفسير الآية 71 عند مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصّةً عند شرط الأمن من الضرر، كما توقّف عند طبيعة وجوب الأمر والنهي، وأنّه عينيٌّ أو كفائيٌّ.

 

وفي تفسير الآية 73 توقّف عند مبدأ الجهاد لتحليل دلالات الاصطلاح الفقهيّ، وأشار إلى عددٍ من الآراء المطروحة بين الفقهاء، وقارن بين الصورة القرآنية للجهاد والتفصيلات الفقهيّة التي استنبطها الفقهاء حوله. وممّا يقرّره في ختام البحث أنّ مفهوم الجهاد في القرآن يختلف عن المعنى الاصطلاحي الفقهيّ، فحتّى لو سلّمنا بالشروط التي يذكرها الفقهاء للجهاد، فإنّ الجهاد بالمعنى القرآنيّ ليس مشروطًا بهذه الشروط كحضور المعصوم وما سوى ذلك ممّا سوف يلاحظه القارئ لهذا التفسير.

 

وفي تفسير الآية 74 قارن في مسألة الصلاة على الميت بين حالة كونه مؤمنًا وحالة كونه منافقًا، ليستفيد من ذلك تأييد ما ورد في سبب نزول الآية. ومن الأمثلة أيضًا توقّفه في قضية الزكاة في الآية 103 عند الأعيان التي أوجب الفقهاء الزكاة فيها، وعرضه اختلاف الأقوال في حصر وجوب الزكاة بالأعيان المعروفة أو تعميم ذلك إلى غيرها.

 

وأخيرًا يُلاحظ في هذا التفسير بعض النقد الموجّه إلى بعض الفتاوى والآراء الفقهيّة، وذلك من زاوية معارضة هذه الفتاوى لما يُستفاد من ظاهر هذه الآية أو تلك، ومن الأمثلة ما ورد في تفسير الآية 29 من سورة التوبة.

 

14- البحث في الاصطلاح القرآنيّ

ثمة كلمات في القرآن الكريم استُخدِمت في معانٍ تختلف عن معانيها العرفية اللغوية. وهذه الكلمات هي اصطلاحات أو مفاهيم لها في القرآن حمولة معنوية محدّدة. وهذه الحمولة المعنوية أو الدلالة القرآنية الخاصة يمكن اكتشافها ونيلها، بواسطة التأمّل في موارد الاستعمال وخاصة إذا كثُر استعمال هذه الكلمات في سياقات تساعد على استظهار هذا المعنى المختلف عن المعنى اللغويّ.

 

 

 

84

 


59

تفسير سورة براءة

ومن خصائص هذا التفسير اهتمامه بهذا النوع من المفردات والمفاهيم القرآنية، والأمثلة كثيرة نشير إلى بعضها في ما يأتي:

ففي تفسير الآية 34 وبعد شرحه للمعنى اللغوي لكلمة "كنز"، يشير إلى أنّ هذه الكلمة هي مفهوم قرآني لا يُشترط في صدقه إخفاء المال تحت الأرض؛ بل الكنز في القرآن هو إخراج المال من دائرة استفادة عامّة الناس منه، والقرينة التي يُستفاد منها هذا المعنى هي عبارة: "لا ينفقونها في سبيل الله". وعليه فالكنز في القرآن هو عدم إنفاق المال في سبيل الله، وبالتالي من ينفق أمواله على شهواته المحرّمة ورغباته وميوله السخيفة يصدق عليه أنّه يكنز المال.

 

وفي الآية نفسها نلاحظ أنّه يفتح بحثًا مفهوميًّا اجتماعيًّا يبيّن فيه بمساعدة المفاهيم القرآنيّة ما يسمّيه بمثلّث السلطة في المجتمعات الإنسانية:

الأول: هو مفهوم "الملأ"، وهم الحاشية الذين يحيط السلطان نفسه بهم، وهم الأدوات التي يحكم بواسطتها. ومن هؤلاء "هامان" في بلاط فرعون.

 

الثاني: "المترفون"، وهم الأغنياء وأصحاب الثروات، وقد لا يكون هؤلاء ممّن يحيطون بالسلطان؛ ولكنّ بينهم وبين السلطان مصالح متبادلة. ومن رموزهم القرآنيّة "قارون".

 

الثالث: الأحبار والرهبان، وهذه الطبقة هي رجال الدين المسمّاة في الفكر الإسلامي بوعّاظ السلاطين، والدور الأساس الذي يؤدّيه هؤلاء هو إضفاء المشروعية على سلطة الحاكم وتصرّفات ضلعي المثلّث السابقين. ويقبع على قمّة هذا الهرم المثلّث السلطان المعبّر عنه أحيانًا بالطاغوت، مع صدق هذا المفهوم على سائر الأضلاع أيضًا.

 

وثمّة أمثلة أخرى تستحقّ التوقّف عندها، نشير إليها سريعًا. فمنها مفهوم "الولاية" الذي حظي بوقفة بحثيّة بيّن فيها مفسِّرنا أنواع الولاية وأقسامها ودلالتها في القرآن. ومن ذلك أيضًا مفهوم "الزكاة" ويرى سماحته أنّ المعنى القرآنيّ يختلف عن المعنى الاصطلاحي الفقهيّ، ويستدلّ لذلك بمؤشِّرات عدة.

 

85

 


60

تفسير سورة براءة

ومنها أيضًا مصطلح "الجهاد"؛ حيث يُفهم منه عادةً معنى القتال؛ ولكنّ سماحته يلفت إلى أنّ المعنى القرآني أوسع دلالة وأشمل، ومن المؤشِّرات التي يستند إليها، أمر الله في القرآن الكريم بمجاهدة المنافقين، مع أنّ سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُسجّل فيها أنّه خاض معهم معركة حربية. ومن ذلك أيضًا المفاهيم الآتية: "الإيمان" و"الإسلام"، و"الصدقة"، و"الكفر"...

 

15- المسائل العقدية- الكلاميّة

بيّنّا من قبل أنّ الاتّجاه الأساس لهذا التفسير ليس اتّجاهًا عقديًّا كلاميًّا؛ بل يغلب عليه الطابع الاجتماعيّ، ولكنّ تبنّي الاتّجاه الاجتماعي في التفسير يقتضي في بعض الحالات التوقّف عند بعض القضايا العقدية وخاصة الشبهات التي توجّه إلى الدين لمناقشتها. وهذا ما يدعو سماحته إلى الخوض في مثل هذه الأبحاث؛ يُضاف إلى هذا أنّ بعض الآيات تستدعي الخوض في مسائل اعتقاديّة بالنظر إلى الموضوعات التي تتحدّث عنها.

 

ومن أهمّ المباحث التي تستحقّ الإشارة إليها، ما يأتي:

ففي تفسير الآية 19 توقّف عند قضية إيمان أبي طالب مع شيءٍ من الاختصار. كما توقّف في تفسير الآية 30 عند بعض معتقدات اليهود والمسيحيين وخاصة عند فكرة أبوّة الله تعالى للإنسان. وفي تفسير الآية 40 توقّف عند مفهوم العصمة وبيّن حدودها وشرح ما يمكن أن يطرأ على النبيّ من حالات البشر وما لا يمكن أن يطرأ عليه. وفي تفسير الآية 68 فتح بحث المعاد الجسمانيّ. وفي تفسير الآية 71 كشف عن عقيدة المشركين في الله على ضوء عدد من آيات القرآن. وعند تفسير الآية 72 بيّن على ضوء عدد من آيات القرآن نِعَم الجنّة وطبيعتها....

 

وعلى الرغم من طرح هذه القضايا في هذا التفسير، فإنّ سماحته يرى أنّ الخوض في النقاشات الكلامية النظرية في تفسير القرآن خطأٌ كبيرٌ وقع فيه عدد من المفسِّرين، وهو يرى أنّ البحث الكلاميّ له محلّه الخاصّ به. ثم إنّه يشير إلى

 

 

86

 


61

تفسير سورة براءة

أنّ أهم المخاطرات التي يقع فيها المفسِّر ذو الاتّجاه الكلاميّ هو مخاطرة حمل رأيه وموقفه الكلاميّ على القرآني وتقويله إيّاه. هو ينتقد عددًا من المفسِّرين الذين يرى أنّهم تورّطوا في هذه المخاطرة ومنهم الفخر الرازي ورشيد رضا.

 

16- الأبحاث النفسية

يتعرّض سماحته لبعض المباحث النفسية بمناسبة الإشارة إلى مثل هذه الموضوعات في الآية مورد التفسير، والهدف الأساس هو تعميق فهم الآية. وثمة أمثلة كثيرة نشير إلى بعضها:

في تفسير الآية 26 وبمناسبة ورود كلمة "سكينة" في الآية فتح بحثًا نفسيًّا في هذا الموضوع، ليبيّن الحالات التي تعرض للنفس الإنسانية. في تفسير الآية 79 بحث في تأثير الإثراء وكنز المال على كدورة النفس وظلمانية الروح. وفي تفسير الآية 80 بحث عن الحالة النفسية للأشخاص الذي يشعرون بالحبّ تجاه من لا يستحقّ المحبّة. وأشار إلى أنّ هذه الحالة موجودة عند كثيرٍ من الناس؛ ولكنّ هذه العاطفة برأيه تحتاج إلى توجيه. وفي تفسير الآيتين 80 و81 أشار إلى الحالات النفسية التي يعيشها المتخلّفون عن الجهاد. في تفسير الآية 86 أشار إلى الحالة النفسية التي تعرض للأغنياء المنافقين الذي يبخلون ويحرصون على الشعور براحة الضمير. وفي تفسير الآية 117 تحدّث عن آليّات تقوية الإرادة في التعاليم الإسلامية.

 

17- بيان الدروس القرآنية

ثمة آيات في القرآن الكريم فيها دروس مهمّة وعبر، ومثل هذه الآيات حظيت باهتمام هذا التفسير والتوقّف التفصيلي عندها، ففي تفسير الآية 107 وبمناسبة الحديث في الآية عن مسجد ضرار توقّف مليًّا عند هذه الإشارة القرآنية وبيّن ما فيها من دروس وعبر على مستوى الفرد والمجتمع.

 

 

87

 


62

تفسير سورة براءة

18- الالتفات إلى قواعد أصول الفقه

من خصائص هذا التفسير الاهتمام بقواعد أصول الفقه الإسلامي التي يمكن استنباطها من القرآن، أو الاستفادة منها في تفسير آياته. ومن باب المثال نشير إلى موردين:

الأوّل: قاعدة تخصيص القرآن بخبر الواحد: أشار سماحته إلى هذه القاعدة في تفسير الآية 60 وبحث في مسألة تخصيص القرآن أو تقييده بخبر الواحد، واستفاد من هذه القاعدة في تفسير هذه الآية.

 

الثاني: قاعدة المفهوم والمنطوق: ومن الأمثلة عن تأثير أصول الفقه في تفسير القرآن، قاعدة المفهوم والمنطوق، والاستفادة من مفهوم المخالفة في فهم الآية وقد استفيد من هذه القاعدة في تفسير الآية 14.

 

ومن موارد حضور أصول الفقه وقواعده في التفسير الحديث عن قاعدة التزاحم في تفسير الآية 29، مع الإشارة إلى الفرق بين التزاحم والتعارض وذكر أمثلة لكلّ واحد من الأمرين.

 

وفي تفسير الآية 67 وفي سياق الحديث عن "الأمر بالمنكر" أشار إلى أنّ المقصود من المنكر هنا ما يشمل الشرعيّ والعقليّ. وبهذه المناسبة بحث في قاعدة "ما أمر به العقل أمر به الشرع"، وبيّن الشروط التي تجعل حكم العقل مقبولًا ومحلّ تأييد الشرع.

 

19- نقد الأخبار الموضوعة

من خصائص هذا التفسير اهتمامه بنقد الأخبار الموضوعة، ومن الأمثلة على ذلك توقّفه عند ظاهرة الوضع في باب فضائل الخلفاء في عهد معاوية. وفي سياق تفسير الآية 34 فتح البحث في أخبار كعب الأحبار في باب إطلاق يد الناس في أموالهم بعد دفعهم الزكاة.

 

88


63

تفسير سورة براءة

مباني النقد

وبعد النظر في موارد النقد المتعددة في هذا التفسير يتبيّن أن المباني التي يستند إليها في ردّ بعض الروايات أو الحكم عليها بالوضع ما يأتي:

1- التعارض وعدم الانسجام مع ظاهر الآية، وذلك كما في حالة الروايات الواردة عن كعب الأحبار في تفسير الآية 34. وكذلك الأخبار التي تؤمِّن القرشيّين من العذاب في تفسير الآية 71. وفي تفسير الآية 67 ثمّة تصريح بأنّه قبل النظر في سند الرواية التفسيرية لا بدّ من النظر في مدى انسجام مضمونها مع ما يظهر من دلالة الآية.

 

2- تعارض الرواية مع الروايات المعتبرة، يشير سماحته في تفسير الآية 34 إلى أنّ تعارض الرواية مع عدد من الروايات المعتبرة سبب من أسباب ضعفها ومبرّرٌ للحكم عليها بالوضع. وفي تفسير الآية 71 يذكر الأخبار التي تضمن للهاشميين الأمن من العذاب، فيردّها بالاستناد إلى معارضتها عددًا من الأخبار والروايات المعتبرة. ويُستند إلى هذا المبنى في الأخبار التفسيرية الواردة في الآية 73، والآية 84.

 

3- ضعف السند، من المباني التي يُستفاد منها في هذا التفسير لردّ الأخبار التفسيرية ونقدها، ففي تفسير الآية 73 يردّ الرواية التي تذكر قراءة مختلفة للآية.

 

4- يستفيد سماحته في بعض الموارد من التاريخ لنقد الأخبار ومن ذلك نقد الروايات الواردة في قراءة: "جاهد الكفّار بالمنافقين"؛ حيث يستند إلى سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لردّ هذه القراءة.

 

5- نقل الرواية عن غير المعصوم. من المباني التي يُستند إليها لردّ بعض الأخبار كونها مرويّةً عن غير المعصوم. ومن المواضع التي يصرّح فيها بهذا المبنى تفسير الآية 73، والآية 34، والآية 79. ومن الأسباب التي يدعم بها شكّه

 

 

89

 


64

تفسير سورة براءة

في مثل هذه الروايات احتواؤها على بعض المطالب غير الصحيحة أو الغريبة.

 

6- عدم انسجام الرواية مع مقام المعصوم. ثمّة رواياتٌ يتوقّف سماحته فيها بسبب ما تتضمّنه من أمور لا تنسجم مع مقام المعصوم، سواء كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّة عليهم السلام. ومن ذلك ردّه لخبرٍ مفاده عدم إدراك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معنى آية من القرآن الكريم. فلا يقبل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون، بحسب تعبيره، مساويًا في مقامه العلميّ والمعرفيّ لأحد أعراب عصره.

 

7- تصنيف الرواية في باب اختراع الفضائل. وهذا أيضًا من المباني التي يستند إليها سماحته لردّ بعض الأخبار، ففي تفسير الآية 80 ردّ بعض الأخبار؛ بسبب أنّ عهد معاوية كان عهد اختراع عددٍ من الفضائل ونسبتها إلى بعض الصحابة. وبعد الكلام على التفاصيل التاريخيّة لهذه الظاهرة يخلص إلى أنّ معرفة هذه التفاصيل تثير الشكّ في النفس في صحّة الكثير من الفضائل التي نُسِبت إلى هذا الصحابيّ أو ذاك.

 

8- "معارضة حكم العقل" من المباني التي يستند إليها سماحته لردّ بعض الأخبار؛ من ذلك ردّه الرواية المشهورة التي تُنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهي رواية: "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم"، فهو يرى أنّ هذه الرواية بغضّ النظر عن ضعف سندها لا تنسجم مع حكم العقل الذي يرى أنّ طريق الحقّ واحدٌ، والصحابة قد اختلفوا، فلا يُعقل أن يدعونا النبيّ إلى الاقتداء بأيّ واحد من المختلفين.

 

9- "عدم انسجام الرواية مع الكرامة الإنسانيّة"، ويستند إلى هذا المبنى لردّ بعض الأخبار في تفسير الآية 29 على الرغم من صحّة سندها؛ لأنّ مضمونها لا ينسجم مع موقف الإسلام من كرامة الإنسان حتّى لو كان غير مسلمٍ. ومن هذا المبنى يظهر أنّه يرجّح النقد المتني المضمونيّ على النقد السندي.

 

وأخيرًا نشير في هذا السياق إلى أنّه يرى أنّ انسجام بعض الروايات مع طريقة بعض الصحابة وسيرتهم كأبي ذرٍّ مثلًا، مؤيّد لصحّة الرواية.

 

90

 


65

تفسير سورة براءة

20- نقد الترجمات

من خصائص هذا التفسير اهتمامه بالترجمات الفارسية لمعاني القرآن الكريم. وفي كثيرٍ من الحالات يذكر الترجمة ويوجّه إليها نقده، ومن الأمثلة نقده لترجمة عبارة "إحدى الحسنيين" في الآية 52، حيث المعتمد في الترجمات الفارسية غالبًا عبارة يرى سماحته أنّها ليست ترجمة دقيقة.

 

21- تربية الطلّاب وتنمية قدراتهم الفكريّة

يُلاحظ في هذا التفسير اهتمامه بتطوير قدرات المتلقِّين ودعوتهم إلى متابعة البحث ومراجعة المصادر، وترغيبهم بالتفكير في هذه القضية أو تلك من القضايا التي تكون محلّ البحث. ومن ذلك أنّه عند تفسير الآية 29 يذكر بعض النقاط التفسيرية ويدعو المتلقّين إلى متابعة البحث لاكتشاف نقاطٍ أخرى. والأمر نفسه يتكرّر عند تفسير الآيتين 40 و80؛ حيث يدعو إلى مزيد من التدبّر وإلى مراجعة الروايات التفسيرية.

 

22- المصادر التفسيرية

يكشف التأمّل في أنحاء هذا التفسير عن الدقّة في مراجعة المصادر والاستفادة منها، على الرغم من توجيه النقد إلى بعض هذه المصادر. وبعبارة أخرى: لا يظهر للمدقّق في هذا التفسير أنّ صاحبه يرى أيّ تنافٍ بين الاستفادة من المصادر والتجارب التفسيرية السابقة، وتوجيه النقد إليها عند الاختلاف معها، وبالتالي هذا التفسير تفسير اجتهاديٌّ بعيد عن التقليد والتعصّب.

 

وتفاسير مجمع البيان والميزان ونور الثقلين (كمصدر للروايات التفسيرية) لها السهم الأوفر من الاهتمام، وإلى جانب هذه التجارب التفسيرية تحضر أيضًا تجارب من تفاسير أهل السنّة مثل: المنار، وفي ظلال القرآن وغيرهما...

 

كما تحضر المصادر اللغوية كمفردات الراغب الأصفهاني، ومجمع البحرين

 

91


66

تفسير سورة براءة

للطريحي، كما يشير إلى ذلك في تفسير الآية 60. ولا يخلو هذا التفسير من الاستناد إلى بعض الموسوعات ودوائر المعارف، على الرغم من قلّة الاستناد إليها بالقياس إلى التفاسير المعروفة. ونقطة الضعف التي يراها في هذه الموسوعات هي أنّ بعضها من عمل المستشرقين، مع الإلفات إلى بعض النقاط الإيجابية التي تسمح بالاستفادة منها. ومن هذه النقاط استنادها إلى مصادر لغوية وأدبية يمكن أن يكون لها دورٌ في فهم الآية.

 

ومن الكتب التي أشير إليها أو دُعي إلى الاستفادة منها في هذا التفسير: كتاب عباس محمود العقّاد معاوية بن أبي سفيان في الميزان (في تفسير الآية 34)، ومفردات الراغب الأصفهاني (في تفسير الآية 72)، وكتاب جواهر الكلام للفقيه محمد حسن الجواهري، وشرح اللمعة ومسالك الأفهام للشهيد الثاني (في تفسير الآية 73)، ومنتهى المطلب للعلامة الحلي(في تفسير الآية 73)، وتفسير علي بن إبراهيم القمي (في تفسير الآية 83).

 

 

92

 


67

تفسير سورة براءة

حول سورة براءة

 

زمان النزول ومكانه

لا شكّ في أنّ سورة براءة بتمامها نزلت في المدينة. وينقل في بعض مصادر أهل السنّة أنّ آيتين منها نزلتا في مكّة، ويروون أنهما نزلتا في قضية الاستغفار لأبي طالب. ونحن نرى عدم صحّة هذا القول، بالنظر إلى أنّ أبا طالب كان آمن بالإسلام، وكان حامي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمدافع عنه في جميع الشدائد، ولم يتركه في أمرٍ ألمّ به طوال حياته. وبناءً على هذا تكون هاتان الآيتان أيضًا كسائر السورة من الآيات المدنية. هذا، ولكنّ بعض المفسِّرين يستثنون من السورة قوله تعالى: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ إلى آخر السورة[1].

 

وقد فُتِحت مكّة في السنة الثامنة للهجرة. ونزلت هذه السورة في السنة التاسعة[2]، وحجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حجّة الوداع في العام العاشر للهجرة[3].

 

بنية السورة

ثمّة اختلاف في استقلال هذه السورة عن سورة الأنفال أو كونها تابعةً لها. يقول العلامة الطباطبائي: "وقد اختلفوا في كونها سورة مستقلّة أو


 


[1] انظر: مجمع البيان، ج 5؛ والآيتان هما الآيتان الأخيرتان من السورة.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

 

93


68

تفسير سورة براءة

جزءًا من سورة الأنفال، واختلاف المفسِّرين ينتهي إلى اختلاف الصحابة ثمّ التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام غير أنّ الأرجح بحسب الصناعة ما يدلّ على أنّها ملحقة بسورة الأنفال"[1].

 

أوّل السورة

لا يخفى أنّ هذه السورة لا تبتدئ بالبسملة، وقد فسّر بعضهم ذلك بكونها تكملةً لسورة الأنفال وليست سورة مستقلّة حتّى تُفتتح بالبسملة كسائر السور المستقلة. وثمة رواية عن أمير المؤمنين عليهم السلام تبرّر عدم افتتاح السورة بالبسملة بأنّ اسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لدفع الأمان بالسيف، وفي هذا إشارة إلى الآية المعروفة بآية السيف وهي قوله تعالى: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾[2]. هذا ولكنّ هذا الكلام مبنيٌّ على استقلال السورة عن سورة الأنفال.

 

أسماء السورة

يذكر المرحوم الشيخ الطبرسي[3] لهذه السورة عشرة أسماء، ولكلّ واحد من هذه التسميات مناسبة ومبرّر، ونحن بدورنا ننقل هذه الأسماء مع بيان مبرّراتها:

1- براءة: وذلك بالنظر إلى مطلعها الذي يشير إلى براءة الله من المشركين.

 

2- التوبة: وسبب هذه التسمية كثرة الحديث في السورة عن التوبة. ونحن نرى أنّ للتوبة معانيَ متنوّعة أوسع من معناها المتداول،


 


[1] الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 146.

[2] انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 5-6.

[3] أحد أهمّ مفسِّري الإمامية وهو الفضل بن حسن الطبرسي الملقّب بأمين الإسلام، (460-548هـ.ق.)

 

94


69

تفسير سورة براءة

وسوف نبيّن ذلك إن شاء الله.

 

3- الفاضحة: وذلك لأنّها تكشف ما استتر من أحوال المنافقين وأوضاعهم. والنفاق غدّة متورّمة مليئة بالقيح تودي بصاحبها وبالمجتمع إلى الموت. وهذه السورة تتولّى فضح المنافقين وكشف ما استتر من أحوالهم: "عن سعيد بن جبير قال، قلت لابن عبّاس سورة التوبة. فقال: تلك الفاضحة. ما زال يقول حتّى خشينا أن لا يبقى منهم أحدٌ إلا ذكره"[1].

 

4- المُبعثِرة: وقد سُمِّيت بذلك لأنّها تنبش أسرار المنافقين وتكشفها. وقد ورد هذا المعنى في رواية عن ابن عباس[2].

 

5- المُقَشْقِشة: القشقشة هي الإبراء من المرض. يُقال: قشقشه إذا برأه، وتقشقش المريض من علّته إذا أفاق وبرئ منها. وقد ورد في الخبر أنّها سُمِّيت بهذا الاسم لأنّها تبرئ من قرأها من النفاق والشرك؛ لما فيها من الدعاء إلى الإخلاص[3]. وذلك أنّ المنافق يؤمن بأفكار مخالفة للمجتمع الذي يعيش فيه، وللدين الذي يتظاهر به؛ ولكنّه لا يظهر ما في نفسه ويدّعي الالتزام بلوازم الدين وواجباته، وفي السر هو غير ذلك. وهذه السورة تقدِّم معيارًا يصلح للتمييز بين الإيمان والنفاق، ويستطيع الإنسان بواسطته أن يعرف نفسه، وبالتالي تسعفه هذه المعرفة في التخلّص من آفة النفاق.

 

6- المدمدِمة: أي المهلِكة. وقد ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿فدمدم عليهم ربّهم﴾[4]، وهو بهذا المعنى. وسبب تسمية هذه السورة بهذا الاسم أنّها تضمّنت الإذن بالقتال، وذلك مقدِّمة لهلاك الكافرين على أيدي


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 5.

[2] المصدر نفسه.

[3] انظر: تفسير العيّاشي، ج 2، ص 46.

[4] سورة الشمس: الآية 14.

 

95


70

تفسير سورة براءة

المسلمين. والمؤمن أيضًا قد لا يلتفت إلى تورّطه في مرض النفاق، فيؤول أمره إلى الهلاك.

 

7- البحوث: ورد في الرواية عن أبي أيّوب الأنصاريّ سمّاها بذلك؛ لأنّها تتضمّن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم.

 

8- الحافرة: عن الحسن لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسترونه.

 

9- المثيرة: وقد سُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنّها أثارت مخازيهم ومقابحهم.

 

10- سورة العذاب: وسُمِّيت بهذا الاسم لأنّها نزلت بعذاب الكفّار. وقد نُقل هذا الاسم عن حذيفة بن اليمان[1].

 

فضل سورة التوبة

1- روى أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من قرأ سورة الأنفال والبراءة، فأنا شفيعٌ له وشاهدٌ يوم القيامة أنّه برئ من النفاق، وأعطي من الأجر بعدد كلّ منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات، ومُحِي عنه عشر سيّئات ورُفِع له عشر درجات، وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيّام حياته في الدنيا"[2].

 

2- روى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قرأ سورة الأنفال والبراءة في كلّ شهرٍ لم يدخله نفاقٌ أبدًا، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حقًّا، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتّى يفرغ الناس من الحساب"[3].

 

3- في كتاب ثواب الأعمال بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قرأ

 


[1] انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 6.

[2] المصدر نفسه، ج 4، ص 794.

[3] المصدر نفسه؛ تفسير العيّاشي، ج 2، ص 73؛ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 176.

 

96


71

تفسير سورة براءة

سورة الأنفال وسورة البراءة في كلّ شهرٍ لم يدخله نفاقٌ أبدًا، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام"[1].

 

الخطوط العامّة للسورة

موضوعات سورة التوبة هي:

أ- العلاقات بين المسلمين والكفّار والمشركين

ب- كيفية الجهاد والقتال بين المسلمين والكفّار والمشركين

ج- قتال أهل الكتاب

د- التعريف بالمنافقين وتحريض المؤمنين على مواجهتهم

هـ- تحريض المؤمنين على القتال، وتحديد الموقف من المتخلّفين عن الجهاد

و- تحديد الموقف من ولاية الكفّار وعدم ولايتهم

ز- الزكاة وبعض ما يرتبط بها

 

وقسم كبير من آيات هذه السورة مخصّصٌ للحديث عن جهاد الكفّار والمنافقين.

 

محتوى السورة

في هذه السورة عددٌ من المباحث المرتبطة بزوايا وأبعاد عدّة للمجتمع عمومًا والمجتمع الإسلاميّ خاصّةً، وهي مباحث جديرة بالتأمّل والاهتمام. والسورة من أوّلها إلى آخرها تتضمّن أحكامًا ذات طابعٍ اجتماعيٍّ، والمواقف التي ينبغي للمجتمع الإسلاميّ أن يأخذها تجاه بعض الجماعات والقضايا.


 


[1] ثواب الأعمال، ص 106.

 

97


72

تفسير سورة براءة

الإسلام هو مجموعة من المواقف في مقابل مواقف ورؤى، ويمكن تعميم هذا الحكم لجميع الأديان. فعندما يعتنق شخصٌ مّا دينًا، ينبغي أن يتبدّل موقفه من الذين لا يؤمنون بهذا الدين. ويمكن تقسيم المواقف التي تدعو إليها هذه السورة إلى أقسام:

القسم الأوّل: بيان موقف المسلمين من الكفّار والمشركين في الجزيرة العربية، وقد حدّدت هذه السورة طبيعة المواقف الواجب على المسلمين اتّخاذها مواجهة المشركين والكفّار.

 

القسم الثاني: الموقف من أهل الكتاب (اليهود والمسيحيّين).

 

القسم الثالث: المواقف الإسلاميّة من المنافقين؛ وذلك لأنّ تهديد هؤلاء يفوق تهديد الآخرين خطورةً، ولذلك كانت مواجهة هذا الخطر مهمّة، وما زالت حتّى عصرنا هذا.

 

القسم الرابع: خطابُ الله وعتابه للذين لا يأخذون المواقف المشار إليها أعلاه، بقوله: ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة﴾[1].

 

القسم الخامس: التمييز بين الناس وتقسيمهم إلى فئات وجماعات. المجتمع الإسلاميّ لا يقرّ الطبقية التي نعرفها في بعض الأنظمة الاجتماعية؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّ جميع الناس وجميع أعمالهم عند الله سواء: ﴿فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا﴾[2]، ويقول عزّ وجلّ أيضًا: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾[3].

 

وتُختم السورة بالحديث عن بعض الأمور المرتبطة بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وموقعه في المجتمع الإسلاميّ، وواجب أصحابه تجاهه. وفي السورة أيضًا بعض الحديث عن الجهاد وفضله وفضل المجاهدين.


 


[1] سورة التوبة: الآية 38.

[2] سورة النساء: الآية 95.

[3] سورة الزمر: الآية 9.

 

98


73

تفسير سورة براءة

أقسام المشركين

تبيّن هذه السورة أنّ الكفّار والمشركين من قريش وغيرها، ينقسمون إلى أقسام أربعةٍ، لكل قسمٍ منهم حكمه الخاصّ:

القسم الأوّل: هم الذين ليس بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهدٌ وميثاق. وحكم هؤلاء الإمهال إلى أن تنتهي الأشهر الحرُم.

 

القسم الثاني: هم الذين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهدٌ وميثاق؛ ولكنّهم نقضوا عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحكم هؤلاء الإمهال أربعة أشهرٍ.

 

القسم الثالث: هم الذين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهدٌ وميثاق غير مقيّدٍ بوقتٍ محدّد؛ ولم ينقضوا عهدهم. وحكم هؤلاء أيضًا الإمهال إلى أربعة أشهرٍ.

 

القسم الرابع: هم الذين ليس بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهدٌ وميثاق، موقّت بأجل؛ ولم ينقضوا عهدهم. وحكم هؤلاء أن لا يُتعرَّض لهم قبل انتهاء أمد عهدهم. وبعد انقضاء مدّة المعاهدة يمهلون أربعة أشهرٍ، وبعدها لا يُجدّد العهد معهم.

 

أجواء نزول السورة:

وُقِّع صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة. وقد حقّق هذا الصلح منافع ومصالح مهمّة للمسلمين، وترتّبت عليه بركاتٌ مهمّة؛ ولكنّ المشركين لم يلتزموا ببنود معاهدة الحديبية. وحاصل القصّة أنّ معركة دارت بين قبيلة متحالفة مع المشركين وجماعة متحالفة مع المسلمين، وانتصرت قريش لحلفائها، ما دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إلى فتح مكّة.

 

وفي السنة الثامنة دخلت مكّة تحت سيطرة المسلمين. وبعد فتح مكّة عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله عز وجل على تطهير الجزيرة العربية من لوث الشرك.

 

99

 


74

تفسير سورة براءة

وحيث إنّ الخطّة الإسلامية كانت تقضي باستقرار الإسلام في دولة مركزيّة مستقرّة يمكن تطبيق تعاليم الدين فيها، تمهيدًا لنشره في سائر أرجاء المعمورة، كان لا بدّ من اتّخاذ هذا القرار، أي قرار تطهير الجزيرة العربية من رجس الشرك، ومن العناصر التي استدعت هذا الإجراء أنّ بعض القبائل التي هادنت المسلمين بعد فتح مكّة بدأت تبدر منها أفعال تدلّ على نقض تعهّداتها.

 

ومن هنا، أوفد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عددًا من المسلمين للحج، وأمّر عليهم أبا بكرٍ وأرسل معه الآيات الأولى التي نزلت من سورة براءة ليتلوها في موسم الحج على الملإ لتصل إلى أسماع المشركين. وحاصل ما تتضمّنه هذه الآيات إعلان براءة الله من المشركين ودعوة الكفّار الذين نقضوا عهودهم إلى الإيمان أو الاستعداد للمناجزة. وهذا إعلان صريح بأنّ المجتمع الإسلاميّ لم يعد يتحمّل وجود عدوٍّ داخليٍّ يتربّص به الدوائر. ويتضمّن هذا الإعلان التهديديّ الإمهال لفسح المجال للتفكير.

 

وخلال مسيره من المدينة إلى مكّة وصل أبو بكرٍ إلى أحد المنازل فلحق به في ذلك المنزل أميرُ المؤمنين لينقل له عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بتسليم ما بيده من سورة براءة ليكون هو الحامل لها إلى المشركين ليتلوها على أسماعهم. وحتى هذه النقطة القصّة متّفقٌ عليها بين الجميع. ومن هذه النقطة فصاعدًا، ثمة أكثر من رواية بين محدّثي الشيعة ومحدّثي أهل السنة.

 

فقد ورد في رواية أنّ أبا بكر عاد من ذلك المنزل إلى المدينة ليسأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أأنزل الله فيَّ شيئًا؟ قال: لا إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عنّي إلا أنا أو رجل منّي[1].

 

وفي رواية أخرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أخذ سورة براءة؛ ولكنّ أبا بكرٍ بقي أمير الحج وتابع مساره إلى مكّة.

 

ويروي المرحوم الطبرسي: "روى أصحابنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولّاه أيضًا


 


[1] تفسير القمي، ج 1، ص 281-282.

 

100


75

تفسير سورة براءة

الموسم، وأنّه حين أخذ البراءة من أبي بكرٍ رجع أبو بكرٍ"[1].

 

وحمل أمير المؤمنين عليه السلام سورة براءة وتلا على مسامع الحجيج من المسلمين والمشركين رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأضاف: "يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم بأن لا يدخل البيت كافرٌ، ولا يحجّ البيت مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، ومن كان له عهد عند رسول الله، فله عهده إلى أربعة أشهرٍ، ومن لا عهد له فله مدّة بقية الأشهر الحرم.."[2]..

 

وفي السنة التاسعة للهجرة وبفضل صلح الحديبية انتشرت أفكار وتعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شبه الجزيرة، واستطاع الناس سماعها وتناقلها والتعمّق فيها وفهمها. وكانوا حتّى ذلك الحين لا يعرفون مفاد تعاليم هذا الرسول ولا برامجه؛ وذلك أنّ الدعاية السلبية التي كان يؤدّيها المشركون حالت بينهم وبين فهم الدين وتعاليم الإسلام.

 

وسمح صلح الحديبية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإيفاد أصحابه إلى سائر أنحاء شبه الجزيرة وأطرافها، لتغيير الصورة التي كانت قريش وغيرها قد نشرتها بين الناس، وتصحيح صورة الإسلام ودعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وجعل فتح مكّة التي كانت مركزًا أساسًا من مراكز المشركين، جعل مكّة قاعدة للدعوة وتبليغ تعاليم الإسلام. ومن هنا، يمكن القول إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صار في السنة التاسعة للهجرة على رأس دولة مستقلّة، يعمل على تنفيذ أحكام الله عز وجل من دون قلقٍ أو خوفٍ من القوى المنافسة من تيّار الشرك. وقد أفسح هذا الاستقرار الداخلي المجال للاشتباك مع الإمبراطورية الرومانية على حدودها مع الدولة الإسلامية، وذلك في تبوك.

 

ولم يخلُ هذا النجاح من المكدِّرات، فقد بدأت بعض القوى الداخلية وبعض المشركين من قريش وغيرها، بالقيام ببعض التحرّكات المضادّة لحراك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبدأت بعض القبائل العربية تروّج الشائعات المضادّة


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 8.

[2] المصدر نفسه، ص 9.

 

101


76

تفسير سورة براءة

للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كأن يتوقّعوا له عدم العودة حيًّا من حربه مع الروم في تبوك، ومن هنا بدأوا بإثارة القلاقل ضدّ المجتمع الإسلاميّ.

 

وعلى الرغم من هذا التواطؤ وهذه الشائعات المغرضة، عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مظفّرًا من معركة تبوك. وبدأ بمحاسبة مثيري الفتن في غيابه والمشوّشين عليه. ومن الإجراءات التي أقدم عليها إحراق مسجد ضرار لأنّه كان يمثّل مركزًا لما يمكن تسميته بالطابور الخامس، وسوّاه بالأرض، وأبلغ سائر الناس سورة براءة لاقتلاع جذور الشرك والكفر من داخل المجتمع الإسلاميّ. وهو بهذه الإجراءات يريد كسر شوكة نوعين من الأعداء الخارجيّين والداخليّين.

 

الاختلاف في الأحكام بين هذه السورة وغيرها:

ثمّة اختلاف بين الأحكام الواردة في سورة براءة والأحكام الواردة في سائر سور القرآن حول المشركين والكفّار؛ وذلك أنّ تغيّر الأوضاع والظروف المحيطة بالمجتمع الإسلاميّ استدعى تغيير التكتيك. وهذا التغيير دفع بعض الناس إلى الاعتقاد بأنّ بعض الآيات ناسخةٌ لآيات أخرى. والحال أن لا نسخ بين آيات هذه السورة وآيات سور أخرى.

 

وتوضيح ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بدأ دعوته التنويرية وحيدًا في مجتمع مشحونٍ بالكفر والشرك الذي كان يخيّم على العالم كلّه، وشيئًا فشيئًا بدأ هذا النور بالانتشار أشبه بنار يشعلها شخصٌ في دائرة محدّدة ثمّ تأتي ريح توسّع دائرة النار والنور وتزدهر شعلة الإسلام.

 

والمجتمع الإسلاميّ بدأ من الصفر إثر مجاهدات النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، وقد استطاع خلال 23 سنة من الجهاد المتواصل أن يؤسّس مجتمعًا مختلفًا عن سابقة كلّ الاختلاف. وكانت الاستراتيجيا المعتمدة عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واحدةً من بداية الدعوة إلى لحظة وصوله إلى أوج الاقتدار، على الرغم من اختلاف التكتيك

 

 

102

 


77

تفسير سورة براءة

 بين فترة وأخرى. وكلّ خطة تكتية تمثّل نقطة في الخطّ الطويل الذي يشكّل النظام الاستراتيجي العام.

 

وفي ما يأتي نفهرس التكتيكات المتنوّعة التي اعتمدها النبيّصلى الله عليه وآله وسلم: في فترة من الفترات كان يصلّي خفية مع خديجة عليها السلام وعليّ عليه السلام في زاوية من الزوايا، في مرحلة الدعوة السريّة فيأتي شخصٌ ينضمّ إلى هذه الحلقة القليلة العدد.

 

وبعد ذلك ينتقل من مرحلة السرّ إلى مرحلة الإصحار بالدعوة والجهر بها، ويقتضي التكتيك هنا الإعلان وترك التخفّي، فيأتي إلى المسجد الحرام ليعلن دعوته على الملإ، على الرغم من مخالفة المشركين وتمتماتهم المعارضة والممانعة. وفي حالات أخرى يقصد القبائل فيطرق أبوابها ليدعوها إلى الإسلام؛ وذلك أنّه لم يكن قد أسّس المجتمع الإسلاميّ بعد. وكخطوة في سبيل تحقيق هذا الهدف يدور على القبائل؛ بل يرسل بعض أصحابه لفعل الشيء نفسه في الحبشة.

بعد مدّة يعزم على الهجرة إلى المدينة، وبعد ذلك يدخل في معارك وحروب مع المشركين، وأثناء هذه المرحلة يدخل معهم في صلح الحديبية، وبعد ذلك يعزم على فتح مكّة، فتنزل سورة البقرة، وسورة الفتح و... وكلّ هذه الخطوات التكتية تصبّ في خدمة الهدف الاستراتيجي الكبير.

 

وإذا نظرنا إلى أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه العين وانطلقنا من أنّ كلّ أفعاله محسوبة بدقّة، نكتشف أنّ كلّ هذه الإجراءات والأعمال هي خطوات تكتية تهدف إلى تحقيق غاية أساس، وأنّ الخطوة الثانية ليست ناسخة للخطوة السابقة ولا ملغية لها. وبعبارة أخرى: إنّ كثيرًا من أفعال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرتبطة بظروفها. وفي هذا العصر ينبغي أن يُسار على السيرة نفسها، فإذا كانت الظروف مثل ظروف الحديبية لا بدّ من الدخول في هدنة، وإذا كانت الظروف تقتضي المواجهة والجهاد لا بدّ من العمل بما تقتضيه الظروف.

 

 

103


78

تفسير سورة براءة

بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿1﴾ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿2﴾ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿3﴾ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا و َلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿4﴾ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿5﴾ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴿6﴾

 

 

105

 


79

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

الآيات الأولى من هذه السورة التي تُلِيت بواسطة أمير المؤمنين عليه السلام تعبّر عن اسم السورة وعنوانها، وخاصّة الآية الأولى منها التي هي بمنزلة عنوان للبيان الإلهيّ حيث يقول تعالى: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

 

"بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ": أي هذه براءة، والبراءة هي الاشمئزاز والانفصال عن شيء روحًا وفكرًا. وهذه البراءة معلنةٌ من الله تعالى ورسوله تجاه المخاطبين بهذه الآية.

 

"مِن" في الآية لابتداء الغاية، وعلى الرغم من أنّ الفعل برئ يحتاج غالبًا أو دائمًا إلى الحرف "من" ليصل إلى المتبرّأ منه، فيقال "برئ مِن..".. ولكنّها في هذا المورد تفيد ابتداء الغاية، وبالتالي تفيد أنّ هذه البراءة التي يعلنها سفير رسول الله، ليست منه وإنّما هي من الله ورسوله.

 

وإلى من يوجّه هذا الإعلان؟ تكمل الآية وتقول: "إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ"، ولم يتعرّض أكثر المفسِّرين لشرح حرف الجرّ "إلى"، وربّما كان ذلك لوضوح معناه وهو انتهاء الغاية، في مقابل "مِن" التي تقدّم أنّها لابتدائها، وعليه يكون المعنى أنّ هذا الإعلان مبدأ الله تعالى وغايته والمخاطب به هو المشركون الذين عليهم أن يسمعوه ويدركوا مفاده. إذًا "من" في الآية تبيّن أنّ الإعلان من الله، و"إلى" تكشف عن المخاطب المراد وصول الإعلان إليه. ومرجع الضمير في "عاهدتم" هو المسلمون والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

"فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ

 

106

 


80

تفسير سورة براءة

اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ": الكلمة الأولى في الآية فعل أمرٍ، فهم مدعوّون إلى السير والتنقّل في الأرض مدّة أربعة أشهر، وفي هذه الفترة هم في أمان من التعرّض لهم. ولكنّ الآية تكمل على نحو التهديد وتقول لهم: ولكن إذا أردتم المخالفة فاحذروا فإنّ الله غالبٌ، ورسول الله سوف يفضحكم، ولن يكون نصيب الكافرين إلا الخزي والعذاب.

 

ما أشدّ وقع هذا الكلام! المجتمع الذي يشعر بالقدرة يستطيع مخاطبة أعدائه بهذه اللهجة الواضحة، ويمهلهم أربعة أشهر.

 

والآية هي رسالة لنا أيضًا تبيّن أنّ الإسلام ليس دين الابتسام الدائم. وهذا الإسلام الذي يعرف جنوده كيف يتعاملون برأفة مع المغلوبين والمهزومين، هو نفسه الإسلام الذي يخاطب الكافرين بقوله: "وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ". وسبب الخطاب بهذا الأسلوب أنّ الحساب هو حساب الإسلام والإسلام غالبٌ. ومن هنا يخاطب الكافرين بأنّكم إن لم تسلّموا لإرادة الله، وإذا عزمتم على مواجهته سبحانه، فإنّ الخزي والذلّ سوف يكون نصيبكم.

 

وبعد إعلان البراءة في أوّل السورة يُمهل الكافرون أربعة أشهر، ولحن الخطاب في السورة يختلف عن الخطاب المتعارف، فالله عزّ وجلّ يعطي المهلة قبل إعلان الحرب.

 

"وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ": تصف هذه الجملة حال الكافرين وتخبر عن أنّهم ليسوا على حال من القوّة والقدرة بحيث يعجر الله عن النيل منهم، ولا هم يقدرون على الفرار من قبضته، وكذلك تنبئ الآية الكافرين بأنّهم لن يستطيعوا في هذه المهلة المعطاة لهم حشد الجيوش لمواجهة الإسلام.

 

ما يخالف الإسلام ويعارضه يخالف الفطرة والطبيعة التي خلق الله الخلق عليها. وكلّ ما تحقّق وفق الدين في تاريخ البشرية موافقٌ لفطرة العالَم، ومطابقٌ لفطرة الإنسان، ولمّا كان الإنسان هو الأصل حظي ما يُطابق فطرته

 

 

107

 


81

تفسير سورة براءة

بالخلود والبقاء وما خالفها يذهب جفاءً. وبالتالي لن يترتّب على الإمهال مدّة أربعة أشهر بقاء الكفر؛ بل الكفر مآله إلى الزوال والانعدام، لمخالفته الفطرة الإنسانيّة.

 

"وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ": مآل الكافرين بحسب هذه العبارة من الآية هو الخزي والذلّ. وهذا من القوانين الإلهية التي تحكم حركة التاريخ منذ القدم. فما يخفيه الكافرون فترة من الزمان سوف ينكشف ويفضي إلى ذلّ الكافرين وخزيهم.

"الكافرين": الكفر هو الستر والكافر هو الساتر. والكافرون بحسب أصل المعنى اللغوي للكلمة هم الذين يسترون، وأمّا ماذا يسترون ويخفون؟ فهذا حديث ذو شجون: هم يسترون وجه نعمة الله، ويسترون حقائقهم الحيوانية القبيحة... ولكن القانون الإلهي والسنّة الجارية في التاريخ تقضي بأن يكشف الله كلّ ما يجهد الكافرون لستره ويفضي ذلك إلى فضحهم. وكلمة "الكافرين" في هذه الآية عامّة تشمل كلّ من ينطبق عليه هذا الوصف، سواء في ذلك المعاصرون لصدر الإسلام والذين أتوا من بعدهم وما زالوا يأتون نسلًا بعد نسل.

 

رسالة الأشهر الأربعة

إذًا حمل أمير المؤمنين عليه السلام الرسالة بالنيابة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإمهال الكافرين مدّة أربعة أشهر، ووقف بين الناس وأبلغ هذه الرسالةَ التهديدَ، فما هو المعنى الذي يتضمّنه هذا الإمهال بحسب مقاييس ذلك الزمان؟

 

إنّي أرى أنّ هذا الإمهال في حدّ ذاته هو معجزة من معجزات الإسلام الحقيقية. ففي ذلك اليوم كان المعيار لتبرير قتل الناس هو القدرة على فعل ذلك. فمن كان قادرًا على قتل امرئ لم يكن يرى حرجًا في قتله. ويبدو مع الأسف أنّ هذا المبدأ ما زال جاريًا في جميع الدول حتّى في عصرنا هذا. إذًا

 

 

108

 


82

تفسير سورة براءة

تُليت هذه الرسالة في وقت القدرة على القتل والنيل من الأعداء، وفي زمن لم يكن للرحمة فيه محلّ ولا موقع. وكان الإسلام في ذلك الوقت قد وصل إلى أوج قوّته، وكانت شبه الجزيرة العربية تحت سيطرته آمنة وادعة تحت سلطة الدولة الإسلاميّة، في هذه الظروف يعطي الإسلام مهلة أربعة أشهر للكافرين. هذه هي روح الإسلام الواقعيّة. وهذا هو الإسلام الذي ربّى جنوده على أنّهم حين يمتشقون السيف، ينبغي أن يقاتلوا بروحية طلب السعادة والعزّة للأعداء. وهذا الإمهال مصداقٌ من مصاديق هذه السيرة الحسنة. جاء الإسلام ليصنع من الإنسان إنسانًا، وقد أثبت التاريخ وحركة الدعوة الإسلامية صدق هذه الدعوى.

 

بداية المهلة ونهايتها

ثمّة اختلافٌ في بداية الأشهر الأربعة، بين من يرى أنّها تبدأ من أوّل شهر شوّال وتنتهي في آخر محرّم، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى تتمّة الآية التي تشير إلى انسلاخ الأشهر الحرُم؛ ولكن هذا الرأي غير صحيح. والصواب هو أنّ بداية المهلة من حين الإبلاغ؛ فعندما يرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سفيره لإبلاغ هذه المهلة ينبغي أن يبدأ العدّ من حين الإبلاغ، ولا يصحّ أن تُحتسب المدّة السابقة من المهلة، وعليه تكون نهاية الأشهر الأربعة هي العاشر من ربيع الثاني. وفي الأخبار والروايات ما يؤيّد هذا التفسير[1].

 

"وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ": اختلف المفسِّرون في المراد من "الحجّ الأكبر" على آراء عدّة[2]، هي: 1- عيد الأضحى في السنة التاسعة

 


[1]  مجمع البيان، ج 5، ص 12.

[2] معرفة بعض الأمور لا تترتّب عليها فائدة؛ مثلًا كمعرفة اليوم الذي وقعت فيه الحادثة الفلانيّة. وعندما لا يتوقّف فهم الآية على معرفة تاريخ واقعةٍ ذُكِرت فيها، لا أرى لهذه المعرفة ضرورةً؛ ولكن لمّا كان ذُكِر التاريخ في الآية يحسن البحث في تحديد هذا التاريخ مع مراعاة الاختصار. (منه حفظه الله)

 

109


83

تفسير سورة براءة

 للهجرة؛ "لأنّه أعظم وأكبر يومٍ جُمع فيه" 2- يوم عرفة؛ 3- اليوم الذي يلي عيد الأضحى؛ 4- ليس المقصود يومًا محدّدًا؛ بل المراد جميع أيّام الحجّ، كما عندما يُقال يوم صفّين، فإنّه لا يقصد يوم محدّد بل أيام الحرب كلّها. وقد ورد في بعض الأخبار أنّ عليًّا عليه السلام قرأ هذه الآيات في تلك السنة أكثر من مرّة[1]. ويبدو أنّ الوجه الأوّل هو الأكثر انسجامًا مع مفاد الروايات.

 

"بريء": من عهد المشركين[2]، أي لا التزام ولا مسؤولية تجاههم.

 

"وبشر الذين كفروا": البشارة هي "كل خبر يظهر أثره في بشرة المستمع والمخبر له"، ولا تعني البشارة بالضرورة الخبر السارّ.

 

وهذه الآية تريد أن تبيّن أنّ معركة الإسلام هي مع الغدر وقلّة المروءة، وبالتالي عندما يحكم على المشركين بالقتل، فإنّما يضحّي بهم من أجل سعادة الإنسانيّة؛ لأنّهم خلقوا السدود والحواجز التي تحول بين الناس وسعادتهم وإنسانيّتهم. وكأنّ الآية تقول لهم أنتم أشبه بالغيوم التي تحجب شمس الإسلام، ولولا هذا لأُمهلوا وأُجِّلوا كما أُمهِل غيرهم وأُجِّل[3].

 

"فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ": تبيّن هذه الآية حكم المشركين بعد انتهاء المهلة المعطاة لهم، وحكمهم هو القتل أينما ثُقِفوا؛ حتى لو كان ذلك في الحرم، وهذا مبدأ عامٌّ في الإسلام يُسمّى بمبدأ التزاحم، ويقضي هذا المبدأ بأنّه عند التعارض بين واجبين أحدهما أكثر أهمية من الآخر يقدّم الأهمّ، وكذلك إذا


 


[1] تفسير العيّاشي، ج 2، ص 74.

[2] مجمع البيان، ج 5، ص 12.

[3] لم نعثر على تفسيره للآية الرابعة، ولكنّ حكم هؤلاء الأشخاص ورد في بحث أقسام المشركين، ص99.

 

110


84

تفسير سورة براءة

 تعارض محرّمان يُقدّم الحرام الأهمّ ويرتكب الأقل أهمية تجنّبًا للأكثر أهميّة.

 

"الانسلاخ": كناية عن الانتهاء. والسلخ في الأصل كشط الإهاب عن ذيه[1]. أي نزع الجلد عن صاحبه كما في سلخ جلد الحيّة. ثمّ استُعمِل مجازًا في انتهاء المدة وانقضاء الزمان.

 

"الأَشْهُرُ الْحُرُمُ": يرى بعض المفسِّرين أنّ المقصود من هذه الأشهر هو الأشهر المعروفة التي يحرم فيها القتال[2]؛ لكنّ سياق الآية يفيد أنّ المقصود هو أشهر المهلة المعطاة للكافرين.

 

"وَخُذُوهُم": يرى بعضٌ أنّ الواو في هذه العبارة هي واو العطف، والمعنى هو الأمر بقتلهم وأسرهم؛ ولكنّ هذا التفسير لا ينسجم مع لحن الخطاب في الآية. فالأخذ والحصر والترصّد المدعوّ إليه في الآية كلّه من مقدّمات ما يُراد بهم وهو القتل. وكأنّ الآية تقول: اقتُلوهم ولكنّ قتلهم ليس بهذه الدرجة من السهولة، فربّما يحاولون الفرار وعليكم نصب المكامن لهم وترصّدهم لاعتقالهم واقتلاع شوكة الكفر. وهذا الرأي هو الذي يميل إليه مفسِّرو الإمامية[3].

 

وقد يُسأل: لماذا يجب قتلهم؟ وفي الجواب عن هذا التساؤل نلفت إلى أنّ هذا الحكم كان مسبوقًا بالمقدّمات. فالإسلام لم يأتِ ليقتل الناس؛ بل بُعِث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لإحياء البشريّة؛ والحياة هي حقٌّ لجميع البشر، ومن هنا إذا تحوّل بعض الناس إلى عائق ومانع من وصول هذا الحقّ إلى أصحابه، لا بدّ من مواجهته ورفع خطره عن حياة غيره من الناس أصحاب الحقّ في الحياة.

 

تحقّق الحياة لجميع الناس له مقدّماتٌ: أُولاها وجود دولة إسلامية مستقلّة؛ وثانيتها أن يقدر الإسلام على طرح مشروعه من دون مزاحم


 


[1] العين، ج 4، ص 198.

[2] مجمع البيان، ج 5، ص 15.

[3] مجمع البيان، ج 5، ص 15.

 

111


85

تفسير سورة براءة

وعائق يحول دون وصول صوته إلى آذان الناس. وهنا إذا كان تحوّل شخص ما إلى غيمة تريد حجب شمس الإسلام، ومنع ضوئها من الوصول إلى المتعطّشين له، ففي هذا الحالة لا بدّ من رفع خطره، وهذه القضايا لا ينبغي التعامل معها على أساس العواطف. فالعواطف مقبولة إلى أن تتعارض مع المنطق والحقّ.

 

"وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ": تبيّن هذه الآية حكم اللجوء واستجارة أحد المشركين بالنبيّ، وهي تدعوه صلى الله عليه وآله وسلم إلى إمهال المشرك الذي يطلب الأمان وإجارته.

 

وتثير هذه الآية في الذهن سؤالًا هو: كيف يمكن التوفيق بين الدعوة إلى قتل المشركين؛ لأنّهم كما قلنا قبل قليل تحوّلوا إلى سدّ يقف في وجه سعادة البشريّة، ثم في هذه الآية يؤمر المسلمون بإعطاء الأمان لمن يطلبه حتّى لو كان ذلك في ميدان القتال؟ وخاصّة أنّ الآية تتابع وتبيّن أنّه لو ادّعى الرغبة في سماع آيات الله، ثمّ بعد سماعها بقي مصرًّا على الكفر أو بدر منه الغدر والخديعة، فلا تقتلوه بعد تأمينه؛ بل ساعدوه للوصول إلى مكانٍ آمنٍ، بحيث يخرج عن دائرة سلطتكم.

 

ومن هذه الآية وأشباهها يُعرف خطأ الصورة التي يرسمها الغربيّون عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه رجلٌ يحمل السيف بيد والقرآن بأخرى. فهم يدّعون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن والإسلام على الناس، ومن لا يقبل عنده الخيار الآخر وهو السيف والقتل. ما أبعد هذه الصورة عن واقع حال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم!

 

يصوّر الإمام الصادق عليه السلام سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في القتال بقوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سريّةً دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول: سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله. لا تغلّوا، ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرًا، إلا أن تضطرّوا إليها. وأيّما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى رجل من المشركين، فهو جارٌ حتّى يسمع كلام الله؛ فإن تبعكم فأخوكم في دينكم،

 

112

 


86

تفسير سورة براءة

وإن أبى فأبلغوه مأمنه ثم استعينوا بالله عليه"[1].

 

وهذه الرواية تبيّن أنّ القتال والحرب في الإسلام هو من أجل الله، وليس من أجل الغنيمة والسيطرة. وبعبارة أخرى: راية الحرب وشعارها هو اسم الله تعالى.

 

كلمة "بالله" في الرواية تعني أنّ جميع القوانين والأسباب والمسبّبات خاضعة للإرادة الإلهية، وهي تجري لمصلحتكم. عالم الخلق هو عالم الفطرة؛ يعني جميع الظواهر تسير وفق قوانين دقيقة. والإنسان أيضًا ينبغي أن يسير وفق الفطرة؛ ولكنّ الفارق بين الإنسان وغيره من الظواهر الطبيعية أنّه صاحب إرادة واختيار، فهو قادرٌ على السير في غير الاتّجاه المرسوم له، ولو سار وفق القوانين المرسومة لوصل إلى السعادة بالضرورة.

 

والدِّين الصحيح هو الدِّين الذي يدعو الإنسان إلى تنظيم حركته على أساس القوانين الطبيعية والفطريّة، ويرسم خططه وفقها. والإسلام يريد للإنسان أن يتطابق مع قواعد الفطرة وقوانينها. ومثل هذا المخطّط ينسجم مع جميع قوانين العالم، وكلّها تصبّ في مصلحته. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى أنّ بين يديه بذورًا صالحةً يمكن أن تنمو في الظروف المساعدة؛ لأجل هذا توقّع صادقًا السيطرة على إيوان كسرى.

 

"في سبيل الله"؛ أي في سبيل الحريّة والسعادة وفي سبيل النور. وكل ما يصل خيره إلى جميع الناس هو في سبيل الله. "سيروا في سبيل الله..".؛ أي انطلقوا من أجل البشريّة كلّها، وبهدف تحقيق العدالة لجميع الناس.

 

"لا تمثّلوا" هذا نهي عن التمثيل وهو التنكيل بالقتلى بعد موتهم، وكأنّ هذا الكلام المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يقول جاء الإسلام ليرفع الأشواك من طريق البشريّة، ولا ينبغي له أن يضع الأشواك في طريقها؛ ومن هنا النهي عن كلّ ما لا ينسجم مع الأهداف والغايات التي كان القتال من أجلها.


 


[1] تهذيب الأحكام، ج 6، ص 138؛ وسائل الشيعة، ج 15، ص 58.

 

 

113


87

تفسير سورة براءة

"ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرًا، إلا أن تضطرّوا إليها". هذه ضوابط وقواعد للقتال والحرب في الإسلام، فالإسلام يحرّم إبادة الموجودات، والأصل الأوّل هو تحريم الإيذاء والاعتداء، حتى على الكائنات غير الحيّة.

 

والقسم الأخير من الرواية يبيّن أنّ المسلم يمكن أن يجير ويعطي الأمان للكافر بغضّ النظر عن موقعه الاجتماعيّ بين المسلمين، وإذا أعطي الكافر الأمان وأمهل حتّى يسمع كلام الله وآيات القرآن الكريم، فإنْ آمن والتحق بالمسلمين فبها ونعمت؛ وإن بقي مصرًّا على الكفر فإنّه لا يُقتل بذريعة احتمال عدم القدرة على النيل منه إذا وصل إلى مكانٍ آمنٍ، بل يُترك ويترك أمره إلى الله الذي على المسلمين أن يستعينوا به على أعدائهم.

 

 

114

 


88

تفسير سورة براءة

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿7﴾ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿8﴾ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿9﴾

 

 

116


89

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

بعد إعلان البراءة وتلاوة رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والإعلان عن المهلة المعطاة للمشركين، وأنّ بعدها لن يبقى للمشركين أيّ عهد أو أمانٍ، كشفت الآيات السابقة عن أنّ الخيار المتاح هو الاستجارة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الأمان منه.

 

وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها تقدّم الجواب عن السؤال الذي قد يُطرح في أذهان بعض الناس، وهو أنّه لماذا يدين الإسلام المشركين إلى هذا الحدّ، ويحكم عليهم بهذا الحكم؟ مع أنّه دين الوفاء بالعهود والمواثيق، ومع أنّ الله عزّ وجلّ يدعو في آية أخرى إلى الالتزام بالعهود والوفاء بها؛ حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾[1]، فلماذا أجاز نقض العهد مع المشركين؟

 

وحاصل رسالة هذه الآيات هو عدم إمكان استمرار العهد والميثاق بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وإذا وقعت معاهدة بين الطرفين فإنّها سرعان ما سوف تُنقض.

 

يُضاف إلى ذلك أنّ طبيعة الإيمان وطبيعة الشرك لا تلتقيان؛ وبالتالي فلن يلتقي المشركون مع المسلمين، حتّى لو حصل وتوافق الطرفان في معاهدة فإنّ المشركين سوف يستغلّون أوّل فرصة للغدر بطرف المعاهدة معهم. وعليه فإنّ المقابلة بالمثل هي عملٌ عقلائيٌّ مقبولٌ.

 

نعم إنّ الإسلام استفاد في مسيرته ومساره من بعض التكتيكات، ففي


 


[1] سورة المائدة: الآية 1.

 

 

118


90

تفسير سورة براءة

بعض الحالات كان يواجه بعض العقبات فيحوّل طريقه في اتّجاهٍ آخر، ثمّ يعود إلى مساره المستقيم المرسوم له. وليس هذا التحوّل وتحويل وجهة السير انحرافًا عن البغية والهدف المقصود. والمعاهدة مع المشركين هي مصداقٌ من مصاديق هذا التحوّل الموقّت، في جادّة الوصول إلى المقصد.

 

"كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ": تتضمّن هذه الآية استثناءً من حكم الآية السابقة. وهذا الاستثناء ينطبق على المشركين الذين لم ينقضوا عهودهم للمسلمين. فهؤلاء تجب مقابلة وفائهم بالوفاء، فإذا آمنوا بعد انتهاء مدّة المعاهدة معهم فهم إخوانٌ في الدين، وإلا فينطبق عليهم حكم الآية الآتية التي تقول: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾[1].

 

وفي هذه الآيات يرسم القرآن الكريم أسلوب التعامل مع المشركين وقضية العهد والميثاق معهم، ويكشف بجمالٍ عن بعض المفاهيم المرتبطة بعلم النفس الاجتماعيّ.

 

المحور الأساس للاعتقاد بالله

التوحيد والاعتقاد بالله يدوران حول هذا المحور وهو: أنّ كلّ من في العالم هو من الله، وأنّ جميع قوى العالم وقدراته خاضع لإرادة الله وفي قبضته، وقد أمر الله بحصر الطاعة به تعالى دون غيره: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلّا إيّاه﴾[2]. وكلّ الأنبياء أتوا لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، والتخلّي عن عبادة الآلهة المصنوعة بيد الإنسان.

 

ويعتقد بعض الناس أنّ كلّ شيء بيد هذا الصنم أو ذاك، وهذه الآلهة أو تلك، ويعتقدون أنّ هذه الآلهة


 


[1] سورة التوبة: الآية 12.

[2] سورة يوسف: الآية 40.

 

 

119


91

تفسير سورة براءة

شريكةٌ لله تعالى، حتّى إنّ بعضهم كان يعتقد أنّ الله أشبه بلوحةٍ لا حول لها ولا طول كاللوحات التي توضع فوق مداخل البيوت. وبعض الناس لا يؤمنون بالتوحيد في الأمر والنهي؛ بل يعتقدون بوجود شريك له عزّ وجلّ، يتقاسم وإيّاه. ومن هنا كانوا يوزّعون العبادة بين الله و"هُبَل"، و"اللات"، و"عزّى".

 

"إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ": هذا القسم من الآية يستثني جماعة محدّدة، ويرى بعض المفسِّرين أنّ المقصودين بهذا الاستثناء هم الذين وقّعوا صلح الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولكن ليس مهمًّا معرفة من هم هؤلاء من بين المشركين. والإسلام يقول هؤلاء ما داموا وفوا بعهدهم فإنّنا نفي لهم، إلى أن يبيّن حكمهم كما بيّن حكم سائر الفئات.

 

"كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ": تكشف هذه الآية عن أن المستقبل لن يشهد أيّ معاهدة بين المسلمين والكفّار.

 

"الظهور" هو الغلبة وكلمة "إلّ" في اللغة "كلّ حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة.."[1].. و"الذمّة" هي كلّ ما يلتزم به الإنسان، وفي الاصطلاح العهد والميثاق.

 

"وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ": فسّروا الفاسق في هذه الآية بالذي ينقض العهد والميثاق. والفسق هو الخروج عن حجر الدين، من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره[2]. ووجه استعمال هذه الكلمة في نقض العهد أنّه خروج وتحلّل من الالتزامات التي تترتّب على العهود والمواثيق.

 

"اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ": تتحدّث الآية عن المعاملة الخاسرة التي يدخل المشركون فيها وهي التجارة


 


[1] مفردات ألفاظ القرآن، ص 81. (المترجم)

[2] مفردات ألفاظ القرآن، ج 1، ص 636.

 

120


92

تفسير سورة براءة

بآيات الله، والصدّ عن سبيله، وتبيّن أنّ هذا العمل من أسوإ الأعمال التي يمكن أن يقدم عليها الإنسان.

 

وآيات الله هي أدلّة التوحيد. وكلّ ما في هذا العالم ممّا يدلّ على وجود الله ووحدانيّته هو من آيات الله. وما فعله المشركون هو أنّهم باعوا أو اشتروا هذه الآيات بثمنٍ بخسٍ. مثلًا ما فعله أبو سفيان قبل معركة أحد هو أنّه دعا الناس إلى مائدة من اللحم والمرق وطلب منهم الالتزام بقتال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معه. وفي الفترات الزمنية اللاحقة لتلك الفترة ثمّة من يفعل الشيء نفسه فينطبق عليه قوله تعالى: "اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً". وأهل الكتاب فعلوا الشيء نفسه على الرغم ممّا عندهم من المؤشّرات الكاشفة عن صدق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه النبوّة[1].

 

 


[1] لم يتوافر لنا تفسير الآيتين 10 و 11.

 

121


93

تفسير سورة براءة

 

وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ
فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ
لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴿12﴾

 

 

122


94

تفسير سورة براءة

مواجهة أئمّة الكفر

"نكث" مصدر، وهو النقض بعد الفتل، سواء كان حبلًا أو غزلًا، ونكثُه إعادته قطنًا بعد أن كان خيطًا أو شبهه. "نكثوا أيمانهم"، أي نقضوا عهودهم. وموضوع هذه الآية أولئك الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد ولم يفوا بعهودهم لهم.

 

"إنّهم لا أيمان لهم": لا تبرّر هذه الآية قتال الناكثين عهودهم بأنّ قلوبهم خالية من فضيلة الوفاء والالتزام؛ بل تبرّر ذلك بأنّهم تورّطوا في نقض العهد والميثاق، وبالتالي لا يجب على المسلمين الالتزام بما كان بينهم وبينهم، وتدعوهم إلى قتالهم لعلّهم يلتفتون فيتراجعون عن خطإهم.

 

وفي هذه الآية بضع نقاطٍ تبيّن حدود الآية وتوضّحها.

 

النقطة الأولى: هي في قوله تعالى: "فقاتلوا"، حيث يأمر الله فيها بقتال الذين يطلقون العنان لألسنتهم في الطعن في المسلمين والبحث عن عيوبهم. فهل الإسلام يجوّز مواجهة الكلام بالقتال؟

 

والجواب بالنفي، فالإسلام ليس ضيّقًا إلى حدّ مواجهة الكلمة بالسيف؛ وذلك أنّ التاريخ نقل لنا حالات عدّة كان قادة الإسلام والمسلمين في أوج قوّتهم وشوكتهم، ومع ذلك تحمّلوا وصبروا على الأذى، عملًا بقوله تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾[1].


 


[1] سورة النحل: الآية 125. والجدال المدعوّ إليه في هذه الآية ليس جدالًا مع المؤيّدين، بل هو جدال مع علماء اليهود والنصارى. والآية تكشف عن أنّ الجدال بالتي هي أحسن يحوّل العدوّ إلى صديق. وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميمٌ﴾ فصّلت الآية 34، وهذه الآية تكشف عن أنّ معارضي النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا من أهل المودّة واللطف معه. (منه حفظه الله)

 

 

124


95

تفسير سورة براءة

معنى الطعن في الدين هو التشويش على الإسلام وإثارة غبار الشبهات والشكوك في أذهان الناس بحيث يؤدّي ذلك إلى عدم وصول صوت الإسلام إليهم، ويقفل قلوبهم دونه، وإلا فإن الذمّ أو الكلام السيّئ لا يستدعي القتل، وهو هنا بسبب الحيلولة دون نور الإسلام إلى الناس.

 

وبناءً عليه، نحن نفهم من هذه الآية أنّ المقصود من الطعن في الدين هو محاولة تشويه صورة الدين وإسقاطه من عيون الناس؛ حتّى لو كان بصورة المدح.

 

النقطة الثانية: هي أنّه تعالى يقول: ﴿فقاتلوا أئمّة الكفر﴾، الآية تتحدّث عن القادة والأئمة في معسكر الكفر، فهي لا تدعو إلى قتال جميع الناس، ولا تدعو إلى قتال الكفر بما هو كفر؛ وإنّما تدعو إلى قتال القادة والأئمّة في الساحة المقابلة. ومن هنا، فإذا كانت قبيلة خزاعة قد نقضت العهد، فلا يتحمّل المسؤولية البقّال وصغار الكسبة الذين لم يشاركوا في النقض ولم يكن لهم فيه يدٌ، بل من يتحمّلها هو القيادات الذين عبّرت عنهم الآية بالأئمة، فهم الذين يسدّون طريق الإيمان ومسار الدعوة.

 

والأئمة هم القادة والرؤساء، وقد وردت أخبار وروايات عدّة تتضمّن كلمة الإمام بهذا المعنى، منها: "لأعذّبن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية إمام جائر... ولأعفونّ عن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية إمامٍ عادلٍ"[1]. فالإمام بحسب هذه الرواية وبحسب الآية هو القائد الذي يتولّى إدارة أمور الناس. و"أئمة الكفر" في مقابل أئمّة الدين والإيمان.

 

ومن دواعي الأسف ومثيراته أنّ بعض الناس لا يهتمّون بإدراك مرامي آيات كتاب الله ومقاصده؛ بل تجدهم يهتمّون بما يؤمنون به ويحاولون تحميل القرآن إيّاه. ومن هنا، قال بعض هؤلاء إنّ معنى الآية "وإن نكثوا وطعنوا في دينكم بعد النكث فقاتلوهم".


 


[1] الكافي، ج 1، ض 376.

 

125


96

تفسير سورة براءة

وهذا التفسير يرتكز على جعل المفعول به للفعل "فقاتلوا" هو عينه مرجع ضمير الفاعل في "نكثوا"، وبالتالي يكون المعبّر عنه بأئمة الكفر هو نفسه. وهذا التفسير غير صحيح.

 

وإذا قيل في الاستدلال على هذا التفسير إنّه من باب الإظهار بدل الإضمار؛ أي استعمال تعبير "أئمّة الكفر" بدل الضمير "هم"، لبيان أنّ الذين نكثوا وطعنوا هم أئمّة الكفر؛ نقول في الردّ: أوّلًا: لا تلازم بين نقض العهد والميثاق والكفر؛ ثانيًا: ليس في نقض العهد خصوصيّة تستدعي قتال المشركين؛ فقد نقض اليهود العهد مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الفترات ولكنّه تعامل معهم بالرفق واللين. وحقيقة الأمر ووجه الصواب فيه هو أنّ انطباق عنوان "إمام الكفر" على شخصٍ أو جماعة يبرّر الدعوة إلى قتاله.

 

"إمام الكفر" هو المنظِّر والأيديولوجي الهادي والمرشد إلى الكفر. فلا تقول الآية قاتلوا أهل الكفر إذا نقضوا العهد؛ بل هي تبيّن حكمًا اجتماعيًّا ذا طابع عالميٍّ. وعلى أي حال إمام الكفر وقائده هو الذي ينقض العهد وليس الإنسان العاديّ المتواضع حتّى لو كان كافرًا. تقول الآية: إذا نقضوا العهد فقاتلوا أئمّة الكفر؛ لأنّهم الغدّة الاجتماعية المتقيّحة التي تسدّ باب الهداية في وجوه الناس وتحول بينهم وبين الإيمان.

 

يقول أحد المستشرقين المسيحيّين: "إنّ معارك الإسلام وحروبه كانت مع الدول والرؤساء والطبقة الحاكمة، ولم تكن مع الشعوب والأمم". فمن هو الذي يمنع تشويهُه صورةَ الإسلام الناسَ من الإيمان؟ هل هو الإنسان العاديّ؟ لا؛ القيادات الاجتماعية هي التي تستطيع سدّ باب الهداية بالطعن في الدين وتشويه صورته.

 

النقطة الثالثة: تختم الآية بقولها: "لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ"، الهدف الأساس للجهاد بحسب هذه الآية هو التراجع والاهتداء إلى الإسلام؛ ولا يهدف الإسلام إلى الانتقام من الطاعنين في الدين حتى لو كانوا أئمّة الكفر، كل ما يريده الإسلام هو هداية هؤلاء المشركين إلى الإسلام، وإعادتهم إلى الجادّة.

 

 

126

 


97

تفسير سورة براءة

وهذا من المؤشِّرات التي تكشف عظمة الإسلام.

 

وقد يُسأل: كيف يمكن لقادة الكفر أن يتراجعوا؟ هل يمكن أن يصدر ذلك منهم؟ والجواب عن هذا السؤال هو بالإيجاب؛ لأنّ كثيرًا من الناس ميّالون إلى السلطة، فحيثما مالت دفّة القوّة والسلطة مالوا معها. وهذه هي طبيعة النفوس الضعيفة التي تجذبها السلطة، كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس[1]. وعلى الرغم من أنّ هذه الحالة ليست صحيحة ولا صحّيّة؛ ولكن هذا هو الواقع، فعندما تقوى شوكة الإسلام يرى كثيرٌ من أهل الكفر عدم إمكان متابعة طريق العناد، وعقم الإصرار على الكفر والدعوة إليه. ومن هنا يدعو الإسلام إلى قتال أئمة الكفر على أمل تراجعهم لعلّهم ينتبهون فينتهون.

 

وهذه العبارة إشارة إلى العلاقة بين الشوكة والهداية، وإشارة إلى قدرة القوّة على جذب أصحاب النفوس الضعيفة. وهذا عين ما يقوله بعض المفكِّرين المعاصرين: "لو أنّ دولة قويّة للإسلام تنشأ وتقام في زاوية من زوايا العالم، فسوف يكون أثرها وقدرتها على جذب النفوس أقوى من أثر مئات المبلِّغين والدعاة".

 

النقطة الرابعة: موضوع الآية هو بعض الجماعات من الكفّار الذين كانت بينهم وبين الدولة الإسلامية عهود فلم يرعوا عهودهم ولم يلتزموا بمقتضياتها.

 

يظنّ بعض الناس أنّ الكافر هو كل من لا يؤمن بالله تعالى، أو يشرك به فقط. وهذا غير صحيح. فالكفر معناه التغطية. فالكفارة سُمّيت كفّارة؛ لأنّها تغطي الذنب وتستره، والكافر هو الذي يستر الحقيقة ويستر نعمة الله ويحول دون ظهورها. وكذلك من يضيّع نعمة الله ولا يشكرها أو يصرفها


 


[1] ترجمنا هذا التشبيه الأخير بتصرّف. ففي اللغة الفارسية شيء يسمّونه "كَهْرُبَا" وهذه الكلمة مركّبة من كلمتين هما "كاه" و"ربا"، الأولى معناها القشّة والثانية معناها الجذب.

 

127


98

تفسير سورة براءة

في غير محلّها هو كافر أيضًا؛ وعليه يمكن القول: إنّ كلّ من يضيّع ما أنعم الله به عليه، ولا يعمل بمسؤوليّاته تجاه الله تعالى هو كافرٌ، فدائرة الكفر أوسع ممّا يظنّ بعض الناس. نعم كان كثير من الكفّار، بهذا المعنى، من المشركين في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

حديث:

قال حنان بن سدير: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "دخل عليّ أُناسٌ من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير، فقلتُ: لهم كانا إمامين من أئمّة الكفر. إنّ عليًّا يوم البصرة لمّا صفّ الخيول، قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتّى أُعذر في ما بيني وبين الله عليه السلام وبينهم، فقام إليهم، فقال: يا أهل البصرة! هل تجدون عليّ جورًا في حكم؟ قالوا: لا؛ قال: فحيفًا في قَسمٍ؟ قالوا: لا؛ قال: فرغبةً في دنيا أصبتُها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثُتم بيعتي؟ قالوا: لا؛ قال: فأقمتُ فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا؛ قال فما بال بيعتي تُنكث وبيعة غيري لا تُنكث! إنّي ضربت إلى الأمر أنفه وعينيه، فلم أجد إلا الكفر أو السيف. ثمّ ثنى إلى أصحابه فقال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة، واصطفى محمّدًا بالنبوّة، إنّهم أصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت"[1].


 


[1] تفسير العيّاشي، ج 2 ، ص 78؛ وتفسير نور الثقلين، ج 2، ص 189.

 

128


99

تفسير سورة براءة

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ﴿13﴾ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴿14﴾ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿15﴾ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿16﴾

 

 

 

130


100

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تقدّم في بدايات البحث أنّ الآيات الأولى من سورة التوبة توجّه الخطاب إلى الكفّار والمشركين وسائر الحاضرين في مكّة في تلك السنة. يرى بعض المفسِّرين أنّ الإعلان الإلهيّ المشار إليه سابقًا يقتصر على الآيات الأولى من السورة فقط، ويرى بعضٌ أنّ هذا الإعلان محصور بالآيات الخمس الأولى دون سائر السورة، ويرى آخرون أنّ ما بين ثلاثين إلى أربعين آية من سورة التوبة تشتمل على الإعلان المذكور. ووفق هذه الآراء يكون لسائر آيات السورة مناسبة أو مناسبات مختلفة، وربّما تكون نزلت قبل آيات الإعلان ولكنّها قرئت في تلك المناسبة، وربّما بعض آيات السورة لم تقرأ في ذلك الموقف؛ وبناءً عليه لا يمكن الحسم في عدد الآيات التي تُليت أو عدد الآيات المرتبطة بتلك المناسبة مباشرةً.

 

ويبدو لنا أنّ هذه الآيات التي نحن الآن بصدد تفسيرها، ليست من الآيات التي تولّى أمير المؤمنين عليه السلام أمر تلاوتها على أسماع الكافرين والمشركين؛ وذلك لأنّ الخطاب فيها موجّهٌ إلى المؤمنين وليست على صلة بأجواء الآيات الأولى من السورة. وهذه الآيات الثلاث تحرِّض المؤمنين على قتال الكفّار.

 

وفي هذه الآيات نقاطٌ على درجة عالية من الدقّة، قلّما توجد في آية تبيّن حكمًا من الأحكام. وبعض هذه النقاط ناظرةٌ إلى الرؤية الكلّية والعامّة للإسلام.

 

 

132

 


101

تفسير سورة براءة

وفي هذه الآيات يلاحظ المفسِّر بيسرٍ جمال الأسلوب في مجال دعوة المؤمنين إلى مواجهة الكافرين، مع تضمّن الآيات عددًا من المطالب في عدد قليل من الكلمات.

 

يدعو الله المؤمنين إلى قتال الكافرين ويخبرهم أنّهم يده التي يقاتلهم هو بها، وما أجمل أن تكون يد الإنسان هي يد الله، ويخبرهم أيضًا بأنّه تعالى سوف يتولّى إذلال الكافرين، وتأمين النصر عليهم، ليتحقّق بذلك شفاء صدور عدد من المؤمنين. ويعلن الله تعالى في هذه الآيات فتح باب التوبة لمن يرغب فيها، ويبيّن علمه واطّلاعه على تفاصيل الأشياء من صغير أمور هذا العالم إلى كبيرها. أضف إلى ذلك أنّه عزّ وجلّ حكيمٌ، والحكيم هو الصانع المتقِن، أو هو الذي يفعل الفعل عن إدراكٍ ومعرفةٍ. أو هو من يشتمل فعله على فنٍّ وجمال لا يقبل الزوال. وعبر التاريخ ذهب الكثير ممّا فعله الآخرون وبقي إحكام صنع الله ظاهرًا لا يقبل الزوال.

 

خطاب الاستفهام أو بلاغة الآية

يقول تعالى في الآية الأولى: "أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ". خطابٌ بليغٌ وعلى درجة من الفصاحة والوضوح يدعو الله فيه المؤمنين إلى قتال المشركين والجهاد في مواجهتهم. ويمكن إصدار الأمر بأكثر من صيغة وأسلوب، فأحيانًا يكون الأمر صريحًا ومباشرًا، كأن نقول لأحدهم: "صلِّ"! وأحيانًا نوجّه إليه الخطاب بالصلاة بطريقة الاستفهام بأن نقول له: "ألا تصلِّ؟". والطريقة الثانية بشهادة أهل الخبرة في مثل هذه الأمور أكثر بلاغة ووقعًا في النفس. ومن الواضح أنّ الآية استُخدِم فيها الأسلوب الثاني؛ حيث وجّه الله أمره بالجهاد بأسلوب الاستفهام، فكأنّه يقول لهم: ألا تريدون قتال أولئك الذين نكثوا عهودهم...؟

 

 

133


102

تفسير سورة براءة

تمهيد الإسلام لإبلاغ الأحكام

لا يكتفي الإسلام في مجال تبليغ الأحكام بإصدار الأوامر والنواهي وإبلاغها إلى الناس؛ بل يفعل كلّ ما يساعد الناس على امتثال هذه الأوامر والنواهي، ويبيّن كلّ ما هو مؤثِّر على هذا الصعيد. مثلًا عندما يخبرنا الله بأنّ القتل جريمة محرّمة في الإسلام، يمهّد لامتثال هذا التشريع بعدد من التشريعات والتوصيات في مجالات عدّة، ويسدّ باب ارتكاب الجريمة في وجوه الناس إلى درجةٍ كبيرةٍ. ومن هنا، لمّا كان عدم الاهتمام بتطبيق القوانين في المجتمع سببًا من أسباب ارتكاب الجرائم، فإنّ الإسلام حرص كلّ الحرص على تطبيق هذه القوانين؛ بهدف المحافظة على سلامة المجتمع والحيلولة دون تحوّله إلى بيئة مساعدة على الإجرام.

 

ومن الأمثلة على ما نقول أنّ الإسلام بيّن جميع الوسائل المساعدة على الوقاية من جريمة السرقة في المجتمع. ومن أدوات حماية المجتمع من هذه الجريمة تشريع حدّ السرقة وهو قطع يد السارق، في حال توافرت الشروط المأخوذة لتطبيق هذا الحدّ على السارق. وبعد بيان هذه الوسائل وتشريع آليّات الدفاع نهى الإسلام عن السرقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الضجيج الاعتراضيّ على هذا التشريع لا قيمة له.

 

التذكير بجرائم الكفّار لتشجيع المسلمين على الجهاد

وهذه الآية تتضمّن مضافًا إلى الدعوة إلى الجهاد، فتح ملفّ الكفار والمشركين وجرائمهم، لإعداد المسلمين نفسيًّا لمجاهدتهم؛ وذلك لأنّ شوكة المسلمين وضعف العدوّ، ربّما يدعوان المسلمين إلى التقاعس عن قتال المشركين المنتشرين هنا وهناك في أطراف الدولة الإسلاميّة. فالقوّة وضعف العدوّ قد يدعوان إلى التكاسل عن الجهاد؛ ومن هنا كأنّ هذه الآية تدعو المسلمين إلى العودة بالذاكرة إلى الملف الأسود للعدوّ ، وتقليب

 

134

 


103

تفسير سورة براءة

صفحاته الآثمة من إخراج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونقض العهود والمواثيق، وبدئهم بقتال المسلمين.

 

إيذاء المسلمين أقبح من الكفر

تبيّن الآية الجرائم الخطيرة التي ارتكبها الكفّار في حقّ المسلمين. أوّلًا: ذكرت الآية ثلاث جرائم ارتكبها المشركون، وتشير بشيء من الخفاء إلى أنّ هذه الجرائم هي من أخطر ما ارتكبوه وأقدموا عليه؛ ثانيًا: هذه الجرائم المذكورة في الآية كلّها جرائم ارتُكبت في حقّ المسلمين، وهذا يوحي أنّ هذه الجرائم عند الله أخطر من الكفر نفسه وأشدّ.

 

وبالنظر إلى المعيار المستفاد من الآية لا ينبغي مثلًا أن نقول: الإمبراطور الروماني أسوأ من عبد الملك؛ لأنّ عبد الملك بن مروان مسلم وذاك مسيحيّ؛ وذلك لأنّ المعيار في المفاضلة بين الطرفين هو مقدار الأذى الذي صدر من هذا وذاك ضدّ المجتمع الإسلاميّ. وهذا ما يُستفاد من الآية؛ حيث إنّها تحكم على الكفّار بهذا الحكم بالنظر إلى ما صدر عنهم تجاه المسلمين.

 

وما يؤيّد هذا المدّعى قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[1]. فهذه الآية تحدّد المعيار والضابطة التي على ضوئها يؤخذ الموقف من الكفّار، وهذا المعيار هو عدوانهم على المسلمين وليس كفرهم. وبعد أن ذكّر الله المسلمين بجرائم الكفّار طرح عليهم السؤال عن الخشية منهم والخوف من مواجهتهم، وبيّن لهم أنّ الله أحقّ بالخشية والخوف من المشركين.


 


[1] سورة الممتحنة: الآيتان 8-9.

 

 

135


104

تفسير سورة براءة

مواجهة الخوف، بالالتفات إلى التوحيد

النقطة الأخرى التي تستحقّ التوقّف عندها هي ما تتضمّنه جملة "أتخشونهم؟". الخوف جزء من الطبيعة البشريّة الموجودة في كلّ فردٍ من أفراد الإنسان؛ ولكن على الرغم من ذلك فإنّ الإسلام يشتمل على تدابير احترازية تقهر الخوف من داخل الإنسان، وتحول دون تحوّله إلى قيد. فالخوف عدوٌّ داخليٌّ يأكل الإنسان من داخله، ويفرّغه من محتواه. وحقيقة الأمر الخوف هو عميلٌ للعدوّ يكمن في أعماق المحارب ويعمل لمصلحة العدوّ. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "...ثمّ إنّ الرعب والخوف من جهاد المستحقّ للجهاد والمتوازرين على الضلال ضلالٌ في الدين.."[1]..

 

والعارف بمنطق الدين يفهم أنّ الخوف والتوحيد لا يجتمعان، والموحِّد الحقيقيّ لله لا يخشى أيّ سلطة غير سلطة الله تعالى. والإسلام يرى أن لا قوّة في العالم تستأهل الخشية؛ وبناءً عليه، فإنّ الخوف إذا وُجِد في قلوب المؤمنين يكشف عن ضعف اعتقادهم بالتوحيد. فمع التوحيد الحقيقيّ، لا موجب ولا مبرّر للخوف. وهذا معنى ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن أنّ الخوف من جهاد المستحقّ للجهاد ضلالٌ في الدين.

 

وفي هذه الآية يلفت الله تعالى نظر المسلمين إلى أنّ الخوف من أسباب تقاعسهم عن الجهاد، ويطرح عليهم السؤال الآتي: هل يقعدكم الخوف من العدو عن الجهاد؟ أم أنّ ما يقعدكم عنه هو خوفكم على أرواحكم وأولادكم وأموالكم ومواقعكم التي أنتم فيها؟

 

وفي ختام الآية يخاطبهم الله عزّ وجلّ بقوله: "فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ". وفي هذا الخطاب درجة عالية من الصراحة تخيّر المسلمين بين الاعتراف بعدم الإيمان في حال الخوف، أو تحدّي الخوف إن صدقوا في دعواهم الإيمان. وبعبارة أخرى تبيّن هذه العبارة في الآية أنّ من لوازم الإيمان


 


[1] الكافي، ج 5، ص 38.

 

 

136


105

تفسير سورة براءة

وعلاماته زوال الخوف من غير الله تعالى من القلوب العامرة بالإيمان.

 

تعلن هذه العبارة من الآية بصراحة أنّ على المؤمن أن يخشى الله وحده، وأن لا يعمل بخلاف أوامره، وأنّه تعالى هو القدرة الوحيدة التي تستحقّ أن يُخشى منها، ولا تنبغي الخشية من مخلوقاته سبحانه. وتلفت نظر المسلمين إلى أنّ الخشية ينبغي أن تكون من عقاب الله في الآخرة وليس من جهاد العدوّ في ميدان القتال.

 

وإذا دقّقتم النظر سوف تلاحظون أنّ القضية في هذه الآية هي الاختيار بين أمرين: إمّا الضرر الموقّت في الدنيا، وإمّا الخوف من العدوّ وعدم الخوف من الله، وفي هذه الحالة لن يحصل الخائفون على ما يطلبون، وسوف يقعون في عكس ما خافوا منه، فإنّ العدوّ لا يمكن أن يتعايش مع الإسلام، وبالتالي إن لم تقاتلوه سوف يستأصلكم من جذوركم؛ وبالتالي إذا كنتم تطلبون الحياة فلن تنالوها بالخوف من العدوّ والتردّد في قتاله. يُروى عن عليّ عليه السلام: "فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين"[1].

 

بلى، الحياة مع الذلّ موتٌ، والحياة من دون عقيدة ومُثُلٍ عليا هي الموت بعينه، والموت هو ذهاب هذه المعاني السامية والبقاء على الأرض مع التجرّد منها، والحياة هي بقاء هذه القيم السامية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[2].

 

إذًا، يلفت هذا التساؤل "أتخشونهم"؟ نظرَ المسلم ويحذّره من أنّ الخوف هو جاسوس العدوّ الذي يعشّش في القلب، وهو سبب الانهيار والتخاذل عن مواجهة العدوّ. ومن الطبيعيّ أن يزيل هذا الخطابُ الخوفَ من قلوب المسلمين. وقد خاطب الله تعالى المسلمين بقوله: "أتخشونهم" عندما اكتملت سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية كلّها؛ فهذه الآية لم تنزل قبل


 


[1] نهج البلاغة، الخطبة رقم 51.

[2] سورة آل عمران: الآية 169.

 

137


106

تفسير سورة براءة

ثماني أو تسع سنوات من تاريخ نزولها، يبدو أنّ المسلمين في تلك الفترة لم يكن للخوف إلى قلوبهم سبيلٌ، أمّا عند نزول الآية فلعلّ الخوفَ بدأ يشقّ طريقه إلى قلوبهم. فما الذي يجعل المسلم لا يخاف وهو في حالة الضعف، ثمّ يتسرّب الخوف إلى قلبه وهو في حالة القوّة والشوكة؟

 

السرّ هو أنّ المسلمين في العهد الأوّل كانوا يرون ضعفهم ويرون تفوّق العدوّ في العدد والعدّة عليهم، ومن هنا كانوا يخوضون غمار المواجهة بعزمٍ راسخٍ، وكانوا يعلمون أنّهم لو تقاعسوا عن مؤازرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ العدوّ لن يبقي عليهم ولن يذرَ، فكانوا يهبّون إلى الجهاد رغبةً في حماية أنفسهم وطلبًا لتأسيس المجتمع الإسلاميّ، ونقل مثُله وأفكاره إلى أرض الواقع.

 

وأمّا في السنتين التاسعة والعاشرة للهجرة الشريفة، فإنّهم بدأوا يشعرون بقوّتهم ويرون ضعف العدوّ بأمّ أعينهم، وهذه الحالة من أشدّ الأمراض فتكًا بالمجتمعات. وهذه الحالة المرضية تُرى في كثير من المجتمعات والجماعات عبر التاريخ؛ حيث إنّ التجربة التاريخية كشفت عن عدد من الحالات سواء في ذلك الدول أو الجماعات، تبدأ من الصفر وتصل إلى أوج قوّتها، ثمّ تنحدر ثانية إلى حيث انطلقت، وتدخل في مرحلة الانحطاط.

 

التعاليم الإسلاميّة للوقاية من الانحطاط

في الإسلام تعاليم كثيرة تهدف إلى وقاية المجتمع من الانحطاط بعد وصوله إلى مرحلة الشوكة والقوّة، ومن هذه التعاليم بل أهمّها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه القيمة الاجتماعية تحدّد مسؤوليّات أعضاء المجتمع الإسلاميّ تجاه الأمّة والدولة، وبالعكس.

 

ومن التعاليم أيضًا قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[1]، وهو تكليف يبيّن مسؤوليةً في اتّجاهين بين أعضاء المجتمع الإسلامي. هذا


 


[1] سورة العصر: الآية 3.

 

138


107

تفسير سورة براءة

ولكنّ المسلمين ابتلوا بما ابتُليت به الأمم والدول الأخرى، فخرج قطار مسيرتهم عن سكّته المرسومة له، ولا يكشف هذا الخروج والانحطاط عن خللٍ أو عيبٍ في الإسلام، بل عن عيبٍ في المسلمين، حيث لم يعملوا بالمقدار اللازم لرفع جميع أسباب الانحطاط من بين ظهرانيهم.

 

وصفوة القول في هذه العبارة إنّها تبيّن نمط التفكير الإسلاميّ في هذا المجال وهو: عدم الإذن الإلهيّ للمسلمين بالخوف من غير الله تعالى.

 

تحقّق الإرادة الإلهيّة بمجازاة الكافرين بجهاد المؤمنين

"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ": تخبر هذه الآية عن العذاب الإلهيّ المقرّر للكافرين، وتجعله على عاتق المؤمنين. فلا يريد الله أن ينزل عذابه على الكافرين المستحقّين للعذاب من عالم الغيب؛ بل أوكل هذه المهمّة إلى المؤمنين، وجعلهم واسطة لتحقّق هذه الإرادة الإلهيّة.

 

وهذه الآية تكشف عن خطأ الاعتقاد الرائج بين الناس، وهو الاعتقاد بأنّ الله يجب عليه أن يفعل بيده كلّ ما يريد، ومن مساوئ هذا الاعتقاد الخاطئ الإحساس بعدم تحمّل المسؤولية عن بذل الجهد والتشمير عن ساعد الجدّ. وقد كان تجلّى هذا الاعتقاد غير الصحيح وتجسّد بأشكال عدّة فمرّة أخذ اسم الاعتقاد بـ"الجبر"، ومرّة تعنون بعنوان "انتظار الفرج"، وأفضى بأشكاله وألوانه إلى جمود المجتمع الإسلاميّ؛ بل إلى انحطاطه وتراجعه، وهو في الواقع غطاءٌ ظاهره شرعيّ لتبرير تخلّي المسلمين عن أداء واجباتهم.

 

وقد انتشرت عقيدة الجبر على يد بني أميّة، حيث قال ابن زياد في الكوفة للإمام السجّاد عليه السلام: "أليس الله قد قتل عليّ بن الحسين؟"[1]. كما قال يزيد عين هذا الكلام أو مثله في الشام[2]. وصدر مثل هذا الكلام عن معاوية مرارًا؛


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 116.

[2] المصدر نفسه، ص 120.

 

139


108

تفسير سورة براءة

حيث نُقِل عنه قوله المشهور: "إنّ لله جنودًا من عسلٍ"[1]. وينقل المؤرّخون أنّ اثنين أو ثلاثة من المعارضين لعقيدة الجبر قتلوا في عهد الدولة الأمويّة[2]. وقد اشتغلت أيدٍ كثيرة من المسلمين ومن غير المسلمين على ترويج الاعتقاد بأنّ "على الله أن يفعل كلّ ما يريد فعله"[3].

 

بحثٌ روائيٌّ

عن أبي الأغرّ اليمني قال: إنّي لواقفٌ يومَ صفّين إذا نظرتُ إلى العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب شاكٍ في السلاح على رأسه مغفرٌ وبيده صفيحة يمانية وهو على فرس أدهم؛ إذ هتف به هاتفٌ من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم يا عباس هلمّ إلى البراز! قال: ثم تكافحا بسيفيهما مليًّا من نهارهما لا يصل واحدٌ منهما إلى صاحبه لكمال لأمتِه[4] إلى أن لاحظ العباس وهيًا[5] في درع الشامي فأهوى إليه بالسيف فانتظم به جوانح[6] الشامي وخرّ الشاميّ صريعًا بخدّه وسما العبّاس في الناس وكبّر الناس تكبيرة ارتجّت لها الأرض، فسمعتُ قائلًا يقول: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾"" فالتفتُّ فإذا هو أمير المؤمنين عليه السلام[7].

 


[1] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص 81.

[2] من أمثال: معبد الجهنيّ وغيلان الدمشقي. انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4، ص 456، و ج 5، ص 363.

[3] انظر: تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 190.

[4] اللامة أو اللأمَة هي الدرع. (المترجم)

[5] الوهي هو الشق. (المترجم)

[6] الجوانح جمع الجانحة: وهي الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر كالضلوع مما يلي الظهر. (المترجم)

[7] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 190-191.

 

140


109

تفسير سورة براءة

آثار القتال مع الكفّار

قبل هذه الآية حرّض الله المسلمين على القتال من جهات عدّة. ومن ذلك قوله تعالى في آية سابقة: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ﴾، وقد قلنا إنّ هذا الخطاب أوضح من خطاب "قاتلوا". وهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها تتضمّن شكلًا من أشكال التحريض على القتال؛ حيث يقول تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ فما هو هذا العذاب؟ هل هو الأسر؟ أو هو شيءٌ آخر؟

 

لبعض المفسِّرين كلامٌ لا بأس من الإشارة إليه، على الرغم من عدم دلالة ظاهر الآية عليه، وهو أنّ العرب لا يعبِّرون عن الأسر والقتل بالعذاب. وبالتالي ينبغي أن يكون هذا "العذاب" شيئًا آخر. وكذلك لا يُراد من "العذاب" آلام الحرب ومصاعبها كالجرح وغيره من أشكال الأذى والتعب التي تصيب المقاتلين في الحرب.

 

"وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ": يعد الله في هذه العبارة بأنّ الخزي سوف يكون من نصيب الكفّار والنصر من نصيب المسلمين.

 

"وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ": وهذا أيضًا وعد بالراحة النفسية التي ينالها المؤمنون بعد هزيمة الكافرين وما يصيبهم من الأذى والخزي.

 

وفي هذه الآية نقطتان تستحقّان التوقّف:

النقطة الأولى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ"، تشتمل الآية من حيث التركيب النحويّ على طلب "قاتلوهم" وجواب الطلب "يعذِّبْهم الله"، وهذا مثل قولنا "صلِّ تَزْكُ" أو تطهرْ، ومعنى هذه العبارة الأخيرة إذا صلّيت تصل إلى حالة الطهارة أو التزكية. وبناءً على هذا معنى الآية هو: إنّكم إذا قاتلتموهم فإنّ الله سوف يعذّبهم بأيديكم. والمفهوم المخالف[1] لهذه الجملة هو: "إن لم تقاتلوهم


 


[1] المفهوم المخالف هو المدلول الالتزامي للكلام، وذلك عندما يُقيّد الكلام بقيدٍ فإنه يفيد أنّ زوال هذا القيد يؤدّي إلى عدم تحقّق ما تقيّد به.

 

141


110

تفسير سورة براءة

لا يعذّبهم الله، ولا ينصركم عليهم، ولا يشفي صدور قومٍ مؤمنين".

 

ومن طبيعة الإنسان حبّه نيل ما يريد نيله بأسهل السبل والوسائل. فإذا خيّر الإنسان الذي يريد أن يصير عالمًا، بين أن يدرس مدّة عشرين سنة وأن يأخذ كبسولة دواء يتحوّل بها فجأة إلى عالِمٍ، فإنّه يختار الطريق الثاني، ولعلّ هذا يؤدّي إلى اضطراب الحوزات العلمية وسعي الجميع طلبًا لهذا الدواء السحريّ. هذه هي طبيعة الإنسان يحاول الوصول إلى المقصد من الطريق الأقصر والأسهل، ويحاول ما استطاع تجنّب الصعوبات والمشاقّ، وهذا الميل الفطريّ يعيق الكثير من المشاريع ويحرم الإنسان من كثيرٍ من أسباب النجاح، ومع الأسف فإنّ بعض الأمور لها طريق واحد هو الطريق الوعر.

 

في صدر الإسلام كان جميع المسلمين يودّون لو أنّ الله يسلّطهم على الكفّار، وعندما كانت السلطة على المسلمين بيد أبي جهل وابنه عكرمة، وأبي لهب وأبي سفيان، وكان ينال المسلمين من أذاهم ما ينالهم، وكانوا يحاصرون تجارتهم وأرزاقهم بل وزواجهم أيضًا، في ذلك الزمان كانوا يريدون المواجهة والمقابلة بالمثل، وكانوا يتصوّرون وجود طريقين لتحقيق هذا الهدف؛ أحدهما: وهو الطريق الطبيعي والمباشر وهو التشمير عن سواعد الجدّ وخوض ميدان المواجهة مع الكفّار وتحمّل شدائد الحرب وتجرّع غصصها. والطريق الثاني: هو أن يستيقظوا صباح يوم من الأيّام فيجدوا أنّ الله أنزل عذابه على الكفّار وأهلكهم، وقتل محاربيهم والمسلمون مشغولون عنهم بشيء آخر.

 

تعلن الآية الكريمة أنّ الطريق الثاني خيالٌ ساذجٌ. فليس من سنن الله في التاريخ والمجتمعات أن ينام الإنسان ثم يستيقظ فلا يرى لعدوه أثرًا ولا عينًا. فإذا أردتَ أيّها الإنسان أن ينتصر كلامك المحقّ، وأن ينتشر ما تتبنّاه من أفكار وتعاليم دينيّة، وأن تسيطر على عدوّك وتحول دون خطره، الطريق لهذا كلّه هو التوجّه إلى الميدان ومواجهة العدوّ، وليس النوم في الفراش الوثير. نعم بالتأكيد للميدان تبعاته ففيه الكثير من الآلام والجراح،

 

142


111

تفسير سورة براءة

واحتمال الموت، ولكن ليس ثمة خيارٌ منطقيٌّ آخر. فانتصار الفكر مرهونٌ بالتضحيات، وإذا انتهت طريق التضحيات إلى الموت، فليعلم هذا المضحّي أنّه يموت هو لكنّ فكره يبقى خالدًا حيًّا.

 

بلى، هذه الآية إعلان صريح عن أنّ النتائج المطلوبة تتوقّف على التضحيات المناسبة، فشجرة النصر لا تثمر إلا عندما تُسقى بالتضحيات والمعاناة، ولا تتحقّق النتائج إذا طلبها الإنسان وهو نائم على فراشه الوثير. يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود"[1].

 

النقطة الثانية: توقظ الآية دوافع المسلمين بطريقة غير مباشرة؛ حيث إنّها تدعوهم إلى المواجهة وتبيّن لهم الآثار والنتائج المترتّبة على هذه المواجهة، وهي: التعذيب والنصر وشفاء الصدور. وهذه النتائج تبعث في القلوب الهمّة والنشاط، فكلّ مسلمٍ يرغب في أن يكون وسيلة لتحقيق إرادة الله، ويرغب في أن يرى عدوّه وعدوّ الله منهزمًا.

 

كثيرًا ما لا تتوافر الدوافع لأداء الأعمال المهمّة، وبالتالي ولأسباب عدّة يبتعد الإنسان عن الخيارات الصحيحة، فيموت في نفسه الميل نحو الأهداف الصحيحة. في الحالات الطبيعية يميل الإنسان إلى الغلبة على عدوّ الله وعدوّه، ولكن نتيجة التلقينات الخاطئة أو الميل إلى الدعة وطلب الراحة، تموت في نفسه هذه الرغبة، وهذا من الحالات السيئة التي يواجهها الإنسان في حياته. وهي أشبه بحالة المريض الذي يئس من الشفاء وفقد الثقة في الطبيب، فمثل هذا الإنسان لا يتوقّع له الشفاء والتحسّن. وهذه الآية تهدف إلى معالجة هذا المرض النفسيّ، وهو مرض القعود عن الأهداف والغايات، وتستند الآية إلى العواطف الكامنة في النفس الإنسانية لإيقاظ همم المسلمين وإحياء دوافعهم: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾.


 


[1] نهج البلاغة، الخطبة 56.

 

143


112

تفسير سورة براءة

اختلاف القراءات

"وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء": هذه الجملة من الآية تُقرأ بضمّ "الباء" وفتحها. بناءً على قراءة الفتح تكون الجملة جواب الشرط (المقدّر المشار إليه آنفًا)، ويمكن أن يكون الفتح من باب العطف على الجمل السابقة، والمعنى هو أنّه على ضوء قتالكم إيّاهم قد يقبل الله توبة كثيرٍ من الكافرين.

 

وبناءً على الاحتمال الثاني أي احتمال الضمّ، لا تكون الواو حرف عطفٍ؛ بل استئنافية[1]؛ والمعنى بناء على هذا الاحتمال هو أنّ توبة الكفّار وقبول الله إيّاها لا تترتّب على قتالكم؛ أي قاتلوهم حتّى تشفى صدوركم، ثمّ يُقتل من يُقتل منهم على أيديكم، ومن يبقى منهم فقد يتوب ويقبل الله توبته: "والله عليمٌ حكيمٌ".

 

سنّة الامتحان والاختبار

"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ": تسأل هذه الآية المسلمين عن ظنّهم بأنّ الله سوف يتركهم قبل أن يعلم المجاهدين منهم والذين لم يختاروا أحدًا سوى الله ورسوله ليكون لهم معتمدًا ومستندًا؟[2] والجواب عن هذا السؤال بالنفي؛ فلن يُترك المسلمون قبل أن يمتازوا وفق الأسس المبيّنة في الآية، والله خبير ومطّلعٌ على ما يفعل المسلمون.

 

والمفهوم من الآية هو أنّ الله لن يترك المسلمين قبل أن تمتاز الفئة التي قطعت كلّ صِلاتها بغير الله ورسوله وانصرفت إلى الجهاد، وهذه الفئة سوف تظهر بالتدريج نتيجة الغربلة التي يتعرّض لها المسلمون والامتحانات التي يتجاوزونها، وسوف يؤدّي ذلك إلى ظهور هذه الجماعة وتميّزها داخل المجتمع الإسلاميّ.

 


[1] الاستئناف هو الابتداء وقطع الصلة بين ما بعد الواو وما قبلها.

[2] سوف يأتي شرح هذه الفكرة لاحقًا.

 

 

144


113

تفسير سورة براءة

وهذه الآية هي واحدة من الآيات التي تتحدّث عن قانون الاختبار والامتحان الإلهيّ لجميع الأمم والجماعات، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾[1]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[2]، وهذه الآيات وغيرها تبيّن هذا المبدأ الإلهيّ الذي يقضي بأنّ الامتحان والاختبار هو الوسيلة التي تؤدي إلى تمييز الصادقين في دعواهم الإيمان والمخلصين في إيمانهم، عن الكاذبين الذين يدّعون الإيمان زورًا.

 

الامتحانات الإلهية وأهدافها

قيل الكثير في ما يرتبط بالامتحان، والامتحان أو الابتلاء من المفاهيم القرآنية المركزيّة. وقد قلنا سابقًا إنّ فهم الموضوعات القرآنية يتوقّف على وضعها في سياقها القرآنيّ. ويُستفاد من الرجوع إلى القرآن الكريم أنّ الامتحان من السنن الإلهية الثابتة، ولا يمكن أن ينجو المؤمن من الاختبار والتعرّض للامتحان.

 

فما هو الامتحان؟ وكيف يمتحن الله الناس؟ وهل يمكن أن لا يمتحن الله خلقه؟ وما هو دور الامتحان في عالم الخلق وعالم الإنسان؟ وهل الهدف من الامتحان هو التضييق والتشديد، أم ثمّة هدف آخر؟

 

هذا الموضوع أي فهم فكرة الامتحان وحتميّتها وموقعها في نظام الخلق من المسائل الأساسية التي يجب الاشتغال عليها. لا يهدف الامتحان الإلهي إلى معرفة أو اكتشاف ما هو مجهولٌ كما يمتحن الأستاذ طلّابه ليختبر مدى فهمهم لما علّمهم إيّاه؛ بل الامتحان الإلهيّ هو خطوة في مسار التربية والتدريب. فإذا أراد المدرِّب الرياضي تدريب بعض الأشخاص على تسلّق الجبال، فإنّه يخضعهم لتدريبات وامتحانات قاسية، ولكنّ الهدف من هذه الامتحانات هو


 


[1] سورة آل عمران: الآية 142.

[2] سورة العنكبوت: الآية 2.

 

 

145


114

تفسير سورة براءة

متابعة التدريب والتربية، وليست الغاية مجرّد الاختبار للمعرفة.

 

والامتحان الإلهيّ هو "تحمّل المصاعب من أجل الوصول إلى الهدف". فمن أراد الانتقال من مكان إلى آخر، عليه قطع المسافة الفاصلة بين المكانين، وقطع المسافة هذا وتحمّل صعوبات الانتقال هو الامتحان الذي يساعد الإنسان لوصوله إلى المقصد المطلوب. وكما إنّ الوصول إلى قمة الجبل يتوقّف على الجهد والسعي والمثابرة، فإنّ الوصول إلى قمّة الإنسانيّة يحتاج إلى تجاوز الاختبارات واحدًا بعد آخر، فمن دون الامتحان لا يصل الإنسان لا إلى قمة الجبل ولا إلى أوج الإنسانيّة.

 

فليس الهدف من الامتحان أن نتعرّف إلى أنفسنا، ولا أن يتعرّف الله إلينا ويكتشف قدراتنا، بل الهدف هو التربية والتدريب، فأن تصير عالمًا يعني أن تدرس كثيرًا وعلى الدوام، وهذا الجهد العلمي هو الامتحان نفسه. فليست المسألة أن لا تدرس ثمّ بعد الامتحان تكتشف أنك لم تصر عالمًا. فالفهم والمعرفة هو النتيجة القهرية للامتحان الذي يحصل أثناء العمل وبذل الجهد. فالقضية الأساس هي: من لا يبذل الجهد لا يصل إلى القمّة.

 

وقد أرسل الله الأنبياء إلى البشر ليأخذوا بأيديهم إلى السعادة والكمال ويوصلوهم إلى الحدّ الأعلى من الإنسانيّة. وهذا هو دور الأنبياء، وهذا ما فعلوه عبر التاريخ، ومن واجبكم الالتحاق بهذه القافلة ومتابعة المسيرة إلى الأمام، ومساعدة هذه القافلة قدر المستطاع بتمهيد الطريق لها. وقد انطلقت هذه القافلة مع بداية الحياة البشريّة، ويجب أن تبقى سائرة إلى يوم القيامة. وكان السائرون في هذه القافلة أطفالًا صغارًا قليلي البضاعة في العلم والمعرفة، إلى أن جاء الأنبياء وتطوّرت البشرية على ضوء هدايتهم.

 

ومسار هذه القافلة فيه الكثير من الصعوبات والمسالك الوعرة وقطّاع الطرق، وقد يلوح لبعض السائرين طريق سهلة؛ ولكنّها في بعض الأحيان لا توصل إلى المنازل التي قرّرها الأنبياء. فيلفت الأنبياء نظر البشرية إلى ضرورة تجنّب هذه الطريق وتغيير المسار والانحراف عنه إلى مسارهم.

 

 

146


115

تفسير سورة براءة

وعلى الإنسان أن يسير ويتغلّب على العوائق ولا ينحرف عن المسار المرسوم له، وعليه عدم الالتفات إلى قطّاع الطرق الذين يواجههم، ويتابع سيره بوقار وسكينة، وكل ما يواجهه في مسيره هو امتحانٌ واختبار يتعرّض له. وبين السير وعوائقه يكتشف الإنسان نفسه، ومن الطبيعيّ أنّ الله يطّلع على أحوال الإنسان ويراه.

 

والمسألة الأهم هي تجاوز الامتحانات الإلهيّة وعبور الموانع والتغلّب عليها، وعدم الخضوع للأهواء والميول التي قد تعيق الإنسان في سيره نحو الهدف المرسوم له. ولا شكّ في أنّ العناية الإلهيّة لها دورٌ فاعلٌ في هذا المجال.

 

وأحد أشكال النجاح في الامتحان هو عندما يصل الإنسان في مساره إلى مفترق طرقٍ، أحدهما طريق الأنبياء، والآخر هو الطريق المعبّد الممهد المزوّد بوسائل النقل المريحة والمنازل الفاخرة. والنجاح هو اختيار طريق الأنبياء حتّى لو كان وعرًا مليئًا بالأشواك، فعلى الإنسان ألّا يتراجع خشية على أقدامه من شوك الطريق.

 

وعليه، إنّ الآيات التي أشارت إلى الامتحان الإلهيّ بأشكال مختلفة، كل آية منها تبيّن وضعًا خاصًّا من الأوضاع والحالات التي قد تعرض للإنسان في الطريق، والإنسان معرّضٌ في كلّ محطّة للتراجع والخوف من متابعة السير. وأحد أشكال الامتحان المبيّنة في هذه الآية هو الامتحان بالجهاد.

 

شروط كمال الإيمان

يُفهم من هذه الآية الشريفة أنّ من شروط كمال الإيمان "الجهاد في سبيل الله". والشرط الآخر هو تولّي الله ورسوله والمؤمنين دون غيرهم، وأنْ لا يعلّق الإنسان آماله على الكفّار بجعلهم أولياء يثق بهم ويعتمد عليهم.

 

 

147

 


116

تفسير سورة براءة

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿17﴾  إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿18﴾

 

 

149


117

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

هاتان الآيتان من الآيات المشْكِلة (المعقّدة)؛ لذا طُرحت احتمالات عدّة في تفسيرهما. ويبدو أنّ هاتين الآيتين والآيات الثلاث اللاحقة لهما من الآيات التي تلاها أمير المؤمنين عليه السلام "يوم النحر"[1] على أسماع المشركين. وعلى الرغم من هذه الملاحظة إلّا أنّه لا تسليم بنزول هذه الآيات في هذه المناسبة؛ بل من المحتمل نزولها قبل يوم تلاوتها. وتشتمل هاتان الآيتان مضافًا إلى الحكم القانوني أو بيان الواقع والإخبار عنه على عدد من المطالب.

 

منع المشركين من عمارة المساجد

"مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله": المعنى الأوّلي للآية واضحٌ وهو عدم الإذن للمشركين بعمارة المساجد. فما المراد من العمارة في هذه الآية؟ أحد معاني العمارة الترميم. وتُستخدم كلمة عُمْر في المدة التي يعيشها الإنسان بالنظر إلى أنّ بدن الإنسان ينمو ويتطوّر على مدى عمره. وما يوجب عمارة جسم الإنسان هو روحه. ومن هنا، ما يُسمّى بالعمر هو الوقت الذي تكون الروح فيه في الجسد. وكذلك سُمِّيت العمرة بهذا الاسم؛ لأنّها تؤدّي إلى عمارة بيت الله. وقد حثّ الدين على الحجّ إلى بيت الله لحمايته من الخراب.

 

والآية تفيد المعنيين معًا، وحاصل ما تدل ّ عليه هو منع المشركين من ترميم المساجد وبنائها، ومنعهم من عمارتها بمعنى الإقامة فيها والدخول إليها لأداء عباداتهم الشركية فيها.


 


[1] يوم عيد الأضحى ويُسمّى بهذا الاسم لنحر الأضاحي فيه.

 

150


118

تفسير سورة براءة

وفي الآية قراءتان إحداهما بالجمع "مساجد الله"، والأخرى أفردت فيها المساجد. وعلى الجمع يشمل الحكم المسجد الحرام وغيره من المساجد، وعلى الإفراد يختصّ الحكم بالمسجد الحرام. هذا ويمكن القول إنّ الآية نزلت في المسجد الحرام، ولكنّ حكمها ينطبق على سائر المساجد.

 

"شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ": تشير الآية إلى إقرار المشركين على أنفسهم بالكفر إمّا باللسان وإمّا بالعمل. وإمّا أنّهم يدّعون الإيمان ولكنّهم في مقام العمل يجعلون لله شريكًا أو شركاء. ومثل هؤلاء لا بدّ أن يحكم عليهم ببطلان العمل، وبالتالي ستكون النار هي الجزاء المستحقّ لهم: "أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ".

 

المعاني المحتملة للآية

في تفسير الآية احتمالات عدّة:

الأوّل: أن تكون الآية في مقام الإخبار عن واقع حال المشركين. وهذا التفسير غير صحيح؛ لأنّنا لا نعدم مشركين أنفقوا من أموالهم على عمارة المساجد أو تولّوا عمارتها وبناءها.

 

الثاني: الاحتمال الثاني هو أن تكون الآية بصدد بيان حكم شرعيٍّ قانونيٍّ يقضي بمنع المشركين من بناء المساجد بعد نزول الآية، وبالتالي يُحصر شرف بناء المساجد بالمؤمنين، وعلى المؤمنين منع المشركين من نيل هذا الشرف.

 

وهنا سؤال يُطرح حول الصلة بين هذا الحكم القانونيّ وإعلان البراءة في هذه السورة؟

 

من المعروف أنّ مشركي قريش ينتسبون إلى النبيّ إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام اللذين رفعا القواعد من البيت كما يخبرنا القرآن الكريم. ومن هذه الجهة كان المشركون يرون أنّهم ورثة هذين النبيّين في الولاية على المسجد الحرام وبنائه وإدارة أموره. وقد استبدل الإسلام قواعد القرابة

 

 

151


119

تفسير سورة براءة

والوراثة في مثل هذه الأمور وربطها بالقرابة الفكرية والمعنوية، بدل القرابة القومية والنسبية. ومن هنا، وإن لم يكن جميع المسلمين على صلة نسبية أو قومية بالنبيّ إبراهيم عليه السلام غير أنّ الإسلام عدّهم الورثة الحقيقيّين له[1].

 

وإذا قبلنا الاحتمال الثاني، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الإسلام كان بصدد إخراج الشرك من جزيرة العرب، وقد اقتضت عظمة الإسلام أن يخبر المشركين قبل الإقدام على هذا الإجراء والبدء بتنفيذه.

 

ووفق هذا الاحتمال يكون معنى الآية: ليس من حقّ المشركين المشاركة في عمارة المساجد، مع اعترافهم بشركهم وكفرهم، ومن شروط عمارة المساجد الإيمان بالله وتنزيهه عن الشريك. وهذا هو سرّ الإشارة إلى هذا التشريع القانونيّ في سياق هذا الإعلان الموجّه إلى المشركين؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يتذرّعون بسقاية الحجيج لدعوى الأولوية على غيرهم في إدارة المسجد الحرام، والقرآن الكريم يصرّح في تقويم أعمالهم بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾. ومن الآن فصاعدًا على من يريد المشاركة في عمارة المسجد الحرام أن يتحلّى بالمواصفات المطلوبة ومنها الإيمان وعدم الشرك.

 

الاحتمال الثالث: في عبارة "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ..". أنّ المشركين لا يتحلّون باللياقات الكافية لعمارة المساجد[2]، وذلك لأنّهم يعملون بغير ما يريده الله تعالى، وبالتالي لن تجديهم عمارتهم وسوف تذهب جهودهم سدى. وبناءً على هذا الاحتمال يكون معنى قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أنّ الكافر من الأساس لا فائدة ترتجى منه ولا جدوى لأعماله.

 

الاحتمال الرابع: أنّ قوله تعالى: "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ..". معناه بيان نفي الحكم عن الزمن الماضي، وليس نفي الحكم بالنسبة إلى الأزمان القادمة.


 


[1] انظر: سورة إبراهيم: الآية 68.

[2] تفسير الصافي، ج 2، ص 327.

 

152


120

تفسير سورة براءة

وبالتالي يكون معنى الآية أنّ المشركين لم يكن ينبغي لهم المشاركة في عمارة المساجد، وما فعلوه في ما مضى ذهب سدى ولن ينالوا من ثماره شيئًا.

 

هذا بالنسبة للاحتمالات الواردة في تفسير الآية؛ ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّنا عندما نقول في الآية احتمالات عدّة لا يعني ذلك أنّ علينا قبول أحد هذه الاحتمالات وحده؛ بل يمكن استفادة هذه المعاني جميعًا من الآية. ثمّ إنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ﴾ يُراد منه المعنى أو المعاني المقابلة لما يُستفاد من هذه الآية.

 

شروط عمارة المساجد

"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ"، تتضمّن هذه الآية خمس خصائص لا بدّ من توافرها في من يقدم على عمارة المساجد: 1- الإيمان بالله؛ 2- الإيمان بالمعاد؛ 3- إقامة الصلاة؛ 4- أداء الزكاة؛ 5- عدم الخوف ممّا سوى الله.

 

"فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ": تخبر الآية بلهجة الرجاء عن اهتداء المتّصفين بما تضمّنته الآية من صفات. وعسى في اللغة العربية تدلّ على الترجّي؛ ولكن لمّا كان التوقّع والاحتمال غير وارد في ساحة علم الله، فإنّ المراد من هذه العبارة هو الإخبار. والمهتدي هو من عرف طريق السعادة والكمال الإنسانيّ، وليس الاهتداء بالمعنى الاصطلاحيّ. والمراد هو الاهتداء إلى ما أتى جميع الأنبياء السابقين للدلالة عليه.

 

وفي الآيات اللاحقة حديث على بعض القيم الإسلامية الأصيلة، وبعض القيم الموهومة عند سائر الناس.

 

وفي الآية نقطتان، إحداهما تُستفاد من الآية نفسها، والثانية تُستفاد من الربط بينها وبين الآيات الأخرى.

 

النقطة الأولى: تفيد الآية أنّ الأعمال أشبه ما تكون بالجسد الذي يحتاج

 

153

 


121

تفسير سورة براءة

إلى روح حتّى تترتّب عليه الفوائد المرجوّة منه، والعمل كذلك لا بدّ له من روح، وروح الأعمال هي: الإيمان بالله، وقصد القربة، وأداء الأعمال طلبًا لوجهه تعالى. وهذه المواصفات والخصائص هي التي تجعل الروح تدبّ في الأعمال التي تصدر عن الإنسان.

 

العمل الذي يصدر عن الإنسان غير المتحلّي بهذه الخصائص، لن يكون عمله بتلك المنزلة من القيمة والجدوى والشرف. صحيحٌ أنّ جسد الإنسان أشرف من جسد الحيوان، ولسنا نقصد سلب هذه الكرامة عن الإنسان، إلّا أنّ ما يضفي على العمل الإنسانيّ شرافته هو تلك الروح التي تُنفخ في الأعمال تبعًا لوجود تلك الخصائص.

 

وثّمة نماذج كثيرة نراها في حياتنا تنطبق عليها هذه القاعدة. فقد تصدر عن الناس أشياء كثيرة تبدو بحسب الظاهر خدمة لخلق الله أو لشريعته تعالى؛ ولكنّ الله لا ينظر إليها بعين الرضا والقبول ولا يعطيها هذا التقويم الذي يبدو لها بحسب ظاهرها. وهذه نقطة مهمّة لنا أيضًا، فقد يستحوذ علينا الإعجاب بأعمالنا ما يجعلنا ندخل في دوّامة العجب الكاذب. مثلًا قد يبني الإنسان مسجدًا؛ ولكن قد لا تكون دوافعه إلهيّةً، ولا يحظى عمله بحسب النظام القيمي الإسلاميّ، بشرف القبول والتقويم الإيجابيّ. وهذا معنى كون العمل جسدًا يتوقّف نيله شرف القبول على حلول الروح فيه. ولسنا نقصد أنّ هذا العمل لا قيمة له، ولكنّه ليس كامل القيمة.

 

معيار إلهية العمل

وبناءً على ما تقدّم إذا أقدم أحدهم على عملٍ يقصد به خلاص البشرية والمجتمع، يكون عمله لله ولو لم يلتفت إلى هذه النية أثناء العمل. مثال ذلك: إنّما أمر الله بالإحسان إلى الفقراء لأنّه يريد أن يزيل الفقر من المجتمع البشريّ، فعندما يقدم أحد أعضاء المجتمع على مساعدة الفقراء لرفع الفقر عنهم، يكون بصدد تحقيق ما يريده الله تعالى؛ حتى لو لم يلتفت إلى الله أثناء

 

 

154


122

تفسير سورة براءة

العمل. أمّا إذا كانت له أغراضٌ شيطانية من وراء الإحسان، فأحسن إلى الفقراء بهذه النية، عندها يبطل إحسانه ويفقد قيمته.

 

دور القيم في مصير المجتمع

النقطة الثانية في هذه الآية يمكن أن تُستفاد من ضمّها إلى آيات أخرى. وهذه النقطة هي بيان القيم الإسلاميّة. القيم هي مجموعة من الأمور تكتسب قيمتها نتيجة التفاهم بين أعضاء مجتمع من المجتمعات. فربّما يكون العلم قيمة في مجتمع، ما يؤدّي إلى تقديم العالِم في هذا المجتمع على غيره من الناس. وتختلف المجتمعات في ما تضفي عليه قيمة، فربّما تكون كثرة الأولاد في مجتمعٍ ما قيمةً، أو الأصنام قيمة، وهكذا كما كان عليه الحال في المجتمع الجاهليّ.

 

مثلًا عبد المطّلب لم يحظَ بقيمة في المجتمع المكّي إلا بعد أن صار أبًا لأولاد، عندها فقط اختاره أهل مكّة لرئاستها. وقد كانت الأمور تسير على هذا النحو في إيران وعدد من البلاد والمجتمعات، وما زال الأمر على هذا المنوال حتّى في عصرنا هذا. وبين القيم والأمور القيّمة في المجتمع ورقيّ هذا المجتمع أواصر وثيقة، فالمجتمعات تسير نحو ما تراه قيّمًا وتسعى لتحقيقه. فعندما تكون القوّة والسلطة هي القيمة، نرى أنّ أعضاء هذا المجتمع ينجذبون نحو السلطة ويسعون للحصول عليها أو الاستكثار منها. وعندما يكون الجنس هو القيمة، سوف يغرق المجتمع في وحول الشهوات واللذّات الجنسية. وهذا ما يحصل في أيّامنا هذه في مهرجانات انتخاب ملكة جمال إيران، وهذا يجعل كلّ فتاة تحلم في نومها بأن تكون يومًا مّا ملكة جمال إيران وتضع على رأسها ذلك التاج[1]. وحاصل الكلام هو أنّ القيم هي التي ترسم شكل المجتمع وتضفي عليه ملامحه وتحدّد له مصيره ومقصده.

 

 


[1] إشارة إلى ما كان يجري في زمان الشاه، قبل انتصار الثورة الإسلامية.

 

155


123

تفسير سورة براءة

والآية وردت لتحدّد بعض القيم، وقرّرت أنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد ليست في مستوى الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر. وهذا لا يعني أنّ السقاية ليست عملًا جيّدًا؛ ولكن الإسلام يقرّر أنّ قيمة العمل الجيّد أيضًا تتوقّف على الروح الدافعة نحوه، وبالتالي الإيمان المطلوب ليس مطلوبًا في نفسه فقط، بل هو مطلوب أيضًا لما يترتّب عليه من نتائج في الاجتماع البشريّ.

 

155


124

تفسير سورة براءة

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿20﴾ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴿21﴾ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿22﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿24﴾

 

158


125

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

هذه المجموعة من الآيات موضوعها الأساس هو بيان مجموعة من القيم الإسلامية الأصيلة، في مقابل القيم الموهومة عند أهل الجاهلية.

 

سبب النزول

في سبب نزول الآية التاسعة عشرة اختلافٌ طفيف بين ما ورد في كتب الإمامية وما ورد في كتب أهل السنّة. فقد ورد في بعض الأخبار أنّ العبّاس لمّا أسِر يوم بدرٍ، أقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار، فعيّروه بالكفر، وقطيعة الرحم، فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا؟ قالوا: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم والله لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، ونفكّ العاني. فأنزل الله تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا..". إلى آخر الآيات[1]. لتبيّن له أنّ هذه الأعمال لا قيمة لها إذا لم يتحلَّ فاعلها بالإيمان.

 

وورد في بعض الأخبار[2] أنّها نزلت في الإمام عليٍّ بن أبي طالب عليه السلام، والعبّاس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، وذلك أنّهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتُّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها. وقال عليّ عليه السلام: ما أدري ما تقولان، لقد صلّيتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. وقيل إنّهم


 


[1]  مجمع البيان، ج 5، ص 28.

[2] المصدر نفسه، 27 و28.

 

160


126

تفسير سورة براءة

جعلوا النبيّ حكمًا بينهم فنزلت الآية.

 

نعم من يحقّ له الفخر هو ذلك الشخص الذي يدافع عن الدين في الوقت الذي يتكاتف جميع الخلق ضدّه، ومع ذلك يشمّر عن ساعد الجدّ وينهض للدفاع عن الدين وترويجه، ولا ينتظر المعجزة الإلهيّة، بل يعمل على تثبيت الدين وبسط سلطته ونشره في الأرض.

 

وفي رواية أخرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ناشد الناس يسألهم هل يعرفون أحدًا غيره نزلت فيه هذه الآية؟[1] نعم من حقّ عليٍّ عليه السلام أن يفتخر بأنّه أوّل الناس إسلامًا في وقت عزّ فيه المؤمنون، ولم يكتفِ بالإيمان؛ بل بذل الجهد ولم يدّخر وسعًا في سبيل الدفاع عن الدين.

 

وهذه الآية تبيّن مطلبًا كليًّا عامًّا وهو أنّه في منطق الإسلام وعند الله سبحانه، لا شيء من الأعمال يمكن أن يُقاس بالإيمان به عليه السلام، وبالتالي تستنكر الآية على المشركين جعلهم هذين المنصبين في درجة الإيمان، والحال بحسب منطق الآية أنّ معيار الشرف والقيمة هو في الإيمان قبل أيّ شيء آخر.

 

"وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ": تخبر هذه الآية عن أنّ الله لا يهدي الظالمين من الناس. والمقصود من الظالمين في الآية إمّا الذين يحسبون أنّ هذه الأعمال البسيطة تقع في درجة الإيمان بالله، وإمّا أولئك الذين يشغلون أنفسهم وغيرهم من الناس بأعمال تافهة، ويشغلون أنفسهم بذلك عن القيم الواقعيّة.

 

تفوّق القيم الإلهيّة على القيم الموهومة عند الناس

يتابع القرآن الكريم في مقام بيان عدم التساوي بين القيم الأصيلة وهي: "الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيل الله"، وأعمال من قبيل: "سقاية الحاج، وعمارة المسجد"، فيقول: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ


 


[1]  انظر: الاحتجاج، ج 1، ص 140.

 

161


127

تفسير سورة براءة

فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ".

 

وتوضيح ذلك، أنّ الإسلام أتى بفكرٍ جديدٍ معارض للفكر الذي كان سائدًا في المجتمع الجاهليّ. ولم يكن الإيمان بالله تعالى في تلك المرحلة التاريخيّة أمرًا سهلًا قليل التكاليف؛ بل كانت تبعاته كثيرة على المؤمنين في تلك المرحلة من تاريخ الأمّة الإسلاميّة، وذلك لأنّ المؤمنين كانوا يسيرون بعكس التيّار السائد، وكان يعني ذلك تحمّل كلّ أشكال الظلم الذي كانت تمارسه قريش على المؤمنين، من رجم بالحجارة وجلد بالسياط.

 

في تلك المرحلة ثمّة من آمن بحسب الظاهر؛ ولكنّه في مقام العمل كان يهادن المشركين، ولم يتعرّض لأذاهم ولم يذق مرارة ظلمهم وتعذيبهم. والتاريخ يعيد نفسه، ففي عصرنا الحاضر ثمّة من يتماشى مع الظلم ويهادنه تحت عنوان التقيّة. وأنا أرى أنّ تسمية هذه المهادنة باسم التقيّة ظلمٌ لهذا المفهوم. العبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واحدٌ من هؤلاء. هذا ولكن أتمنّى أن لا يفهم أحدٌ أنيّ أعارض مفهوم التقيّة؛ بل أنا أعارض وأخالف بعض التفسيرات الخاطئة لهذا المفهوم.

 

وثمّة من يصرّ على أنّ العبّاس مؤمنٌ على الرغم من أنّه لم يخطُ خطوةً من أجل الإسلام؛ بل أتى لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وأمّا عندما يصل إلى أبي طالب الذي دافع عن الإسلام وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وضحّى بكلّ شيء من أجله، وتحمّل الكثير من الآلام والمشاقّ، يحكم عليه بعدم الإيمان، وهذا ظلمٌ لأبي طالب.

 

إنّ مثل هذا الإيمان المنسوب إلى العبّاس ليس فضيلةً، ولو أنّه قُتِل في المعركة في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لجرت عليه أحكام الكفّار.

 

وثمّة طائفة ثانية من الناس آمنت بالله، وبقيت في مكّة إلى أن صدر الأمر بالهجرة وتحمّلت هذه الطائفة من المؤمنين العذاب، ونالها من أذى قريشٍ ما نالها، وثبت هؤلاء المؤمنون وصبروا حتّى صدر الأمر بالهجرة من مكّة إلى المدينة لتأسيس المجتمع الإسلاميّ، وهؤلاء يمكن وصفهم

 

162

 


128

تفسير سورة براءة

بالمسلمين العلويّين؛ حيث إنّ عليًّا بن أبي طالبٍ عليه السلام كان رمزهم والمجسّد لجميع تضحياتهم وأشكال ثباتهم، كيف لا وهو الذي ضحّى بكلّ شيء في سبيل الله.

 

وعلى الرغم من أنّ الجهاد بالمال والنفس أمرٌ ممكنٌ ومقدور، ولولا أنّه مقدور وممكنٌ لما كلّف الله به، على الرغم من إمكانه، فإنّه في مقام العمل والتطبيق تكليفٌ شاقٌّ؛ لأنّه يستدعي التضحية بالمال الذي بذل الإنسان الكثير من التعب لجمعه، وهو تعريض للنفس لخطر الموت وتقديمها قربانًا على مذبح الدين.

 

والحديث عن هذه الأمور يبدو سهلًا، ولكنّ صعوبته تظهر عندما تبدأ السياط بالتلوّي على ظهره. وهؤلاء الذين يثبتون تحت ظلال السيوف والسياط هم الذين يستحقّون التقدير، وأمّا من لا يكلّفه إيمانه الكثير من التضحيات فهو لا يصل إلى مرتبة أولئك، ولا ينال درجتهم.

 

ولعلّه يمكن القول إنّ صيغة التفضيل[1] المذكورة في الآية في قوله تعالى: "أَعْظَمُ دَرَجَةً" ليس فيها معنى التفضيل على الحقيقة؛ لأنّ غيرهم ليس عنده ذلك الفضل حتّى يشترك معهم ويكونوا هم أعظم درجةً منه.

 

"وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ": هؤلاء الفائزون هم الذين فازوا بالوصول إلى هدفهم الذي هو الهدف الأساس من الخلق، وأما أولئك الذين يحسبون أنّهم يفوزون بطلب الراحة والسكون والميل إلى الدعة، فهم مخطئون في منطق الإسلام ومنظومته القيمية.

 

والآية اللاحقة تبيّن منزلة هذه الفئة الثانية التي نتحدّث عنها حيث


 


[1] صيغة التفضيل المعبّر عنها في اللغة العربية بـ"أفعل التفضيل"، تدلّ على الاشتراك بين طرفين في صفة وتفوّق أحد الطرفين على الآخر في هذه الصفة؛ ولكن في بعض الحالات قد تُستعمل لبيان الفضل وليس لبيان التفضيل.

 

163


129

تفسير سورة براءة

يقول تعالى: "يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ". وفي هذه الآية يبشِّر الله هذه الطائفة من المؤمنين بنيل رحمته والتمتّع برضوانه، والرضوان من الله هو أعظم ما يمكن أن يناله الإنسان من ثواب: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾[1]. ومن الصفات التي تذكرها هذه الآية للجنّة ونعمها، أنّها نعمٌ خالدةٌ هم مقيمون فيها إلى ما شاء الله، فلا تشبه من هذه الناحية نعمَ الدنيا التي مهما طالت فإنّها سوف تزول في نهاية المطاف. فهم ضحّوا بالنعم المعرّضة للزوال فأثابهم الله نعمًا خالدةً لا يعرف الزوال طريقًا إليها، وهم خالدون فيها إلى الأبد: "خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا". فبحسب هاتين الآيتين من كتاب الله النعم خالدة والمنعّمون خالدون، ومن هنا لا تكرار في الآية كما ربّما يُتوهَّم.

 

في جملة "إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" إشعارٌ بالحصر، ومعنى الآية أنّ من عنده أجرٌ عظيمٌ هو الله وحده، وما سوى الله مهما كبر ثوابه وعظُم لن يكون عظيمًا، عظمة جميع العطايا غير الإلهية نسبيّةٌ، فهي تبدو عظيمة في نظر بعض الناس ولكنّ واقعها أقلّ ممّا تبدو.

 

كان الكلام في الآية 20 على الإيمان والهجرة. والهجرة وغضّ النظر عن الأوطان أمرٌ ثقيلٌ؛ لأنّ العلاقات والروابط العائليّة أشبه ما تكون بالقيد الذي يشدّ المدعوّ إلى الهجرة والمطالَب بها نحو الاستقرار. ومن هنا، نجد أنّ الله عز وجل يدعو إلى الهجرة ويشجّع عليها بالإلفات إلى هذه النقطة تحديدًا حيث يقول تعالى في مقام تحديد ضوابط العلاقات والقرابات ومدى السماح لها بالتأثير في حركة الإنسان واستقراره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾. تنهى هذه الآية عن اتّخاذ الأقارب أولياء إن هم رجّحوا الكفر على الإيمان.


 


[1] سورة التوبة: الآية 72.

 

164


130

تفسير سورة براءة

معنى الولاية

يختلف المفسِّرون في معنى الولاية ومعنى كلمة "وليّ"؛ والمعنى الذي تفيده كلمة ولاية هو العلاقة بين شخصين مهما كان الدافع إلى هذه العلاقة. فإذا كانت هذه العلاقة بين العبد وسيّده ففي هذه الحالة يكون السيد "مولى" لعبد، وفي بعض الحالات توجب الصلة بين طرفين أن يرث أحدهما الآخر، وفي حالة ثالثة يكون الدافع نحو هذه العلاقة هو المحبّة. وفي بعض الحالات تكون هذه العلاقة بين الحاكم ورعيّته فيُسمّى الحاكم بـ"الوليّ" أو "الوالي".

 

وفي القرآن الكريم آيات عدّة تنهى المؤمنين عن اتّخاذ من سوى الله ورسوله والمؤمنين أولياء. وهذه الآيات تفيد دعوة المسلمين إلى المحافظة على علاقتهم وروابطهم بالله ورسوله والمؤمنين، وتدعوهم إلى أن يكونوا في صفّهم وجبهتهم، وتنهاهم عن الكون في الضفّة المقابلة لهم مع اليهود والنصارى أو مع الكفّار والمشركين، حتّى لو كانت بينهم وبين هؤلاء صلة قرابة أو علاقة مهما كان نوعها وسببها.

 

والعلاقة بالآباء والأمّهات والإخوة وغيرهم من الأقارب، هي رابطة مبنية على الدم والنسب، ومثل هذه الصلة محترمة في الإسلام؛ ولكنّ رابطة الإيمان والعلاقات الناشئة عنه بحسب الرؤية الإسلامية هي الأوثق والأعمق. فلو كانت بينك وبين شخصٍ عشرات الصلات والروابط، ولم يكن هذا الشخص متّحدًا معك في الفكر، فليست هذه الروابط بشيءٍ. وقد ورد في عدد من الأخبار والروايات عن أهل العصمة والطهارة، أنّ بين المؤمن والمؤمن قرابة وصلة وثيقة[1]. والأخ قد ينبغي قطع العلاقة به بحسب الرؤية الإسلامية إذا كان في الجبهة المقابلة لجبهة الإيمان.

 

وهذه الآيات تؤسّس لهذه القاعدة وتدعو المؤمنين إلى قطع علاقاتهم


 


[1]  انظر: بحار الأنوار، ج 64، ص 73.

 

165


131

تفسير سورة براءة

بأقاربهم حتى لو كانوا آباءً وأمّهات، إن هم رجّحوا الكفر على الإيمان. وبحسب هذه الآية تكون جميع الروابط والعلاقات الطبيعية بين الناس فرعًا، ويكون الأصل والأساس هو "القرابة الفكرية".

 

"وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ": تختم هذه الآية ببيان أنّ من يعمل عكس القاعدة الأساس المشار إليها، ويتولّى أقاربه الذين استحبّوا الكفر على الإيمان، يكون ظالمًا لنفسه ودينه وعقيدته، كما يكون ظالمًا لعباد الله المؤمنين.

"قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ": ماذا يحصل عندما نزن ونقيس حاصل العلاقات القومية والقرابية المبنية على صلة الدم؟ الأب هو محلّ افتخار الإنسان وهو منشأ وجوده، وهو من له حقّ الاحترام والمحبّة على ابنه. وبعده يأتي الابن الذي هو ثمرة حياة الإنسان وهو الذي يجعل الإنسان من نفسه درعًا له يحميه من المخاطر التي قد تواجهه ويفديه بنفسه. وبعدهما يأتي الأخ وهو الشريك في الأصل والمنشأ، وأخيرًا الأزواج الذي يساعدون أزواجهم على قضاء حاجاتهم الطبيعية، ويمثّل كلّ واحدٍ منهما الستر للآخر.

 

وكما هو ملاحظٌ فإنّ الكثير من الدوافع والعواطف في مجال القرابة والتولّي يمكن اختصارها بهذه الكلمات الواردة في الآية: الآباء، والأبناء، والأزواج، والأموال التي حصّلها الإنسان بشقّ النفس في بعض الحالات، وهي التي قد تكون وسيلة مساعدة لتأمين الدنيا والآخرة. فإذا كانت هذه الأشياء التي هي فيها راحة الإنسان وطمأنينته أحبّ إليه من الله ورسوله وأهمّ من الفكر والجهاد في سبيل الله، وإذا نظرت في قلبكَ أيّها الإنسان فوجدت أنّه يميل إلى هذه الأمور ويتعلّق بها أكثر من تعلّقه بالله ورسوله، فعليك انتظار أمر الله فيك: "فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ".

 

فما هو هذا الأمر المطلوب توقّعه وانتظاره؟ يبدو أنّه غامضٌ قليلًا. ومن

 

 

166

 


132

تفسير سورة براءة

هنا قال بعضهم إنّ الآية بصدد الوعيد بالعذاب في الدنيا. وقال آخرون إنّه التهديد بالاستبدال بأن يأتي الله بمن يقبل هذا الفكر ويضحّي من أجله. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الواضح من لحن الخطاب في الآية أنّها في مقام التهديد.

 

الجهاد هو قبول تحمّل أشكال العذاب إلى أن يصل الأمر إلى الشهادة. ولكن كيف يمكن أن يحبّ الإنسان هذه الأمور أكثر من محبّته لأبيه وابنه وأخيه وزوجه...؟ وحيث إنّ الله طالبنا بهذا وكلّفنا به نستنتج أنّه ممكنٌ، ولكنّ المطلوب أوّلًا هو معرفة الله حقّ معرفته، ثم بعد ذلك يقدر الإنسان على حبّ الجهاد والتضحية في سبيل الله أكثر من حبّه لأبيه وابنه...

 

"وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ": تكشف هذه الآية عن حرمان الله الفاسقين من هدايته، والفسق هو خروج الرطب من قشره، وفي الآية معناه خروج الإنسان من ربقة الإيمان.

 

167

 

 


133

تفسير سورة براءة

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴿25﴾ ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿26﴾ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿27﴾

 

168


134

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

ينقل بعض المفسِّرين أنّ هذه الآيات هي تكميل للمطالب الواردة في الآية 23. ويرى آخرون أنّ مفاد هذه الآية ومؤدّاها أوسع وأشمل ممّا ورد في الآية 23، وبالتالي لا ضرورة تقتضي عدّها تكميلًا أو تتمّة لما ورد فيها.

 

وعلى أيّ حال، ليس حسم هذا الأمر مهمًّا بالنسبة لنا؛ إذ نرى أنّ كلّ آية من هذه الآيات، بيانٌ مرحليٌّ للوصول إلى ذاك الهدف. ويعتقد بعض المفسِّرين أنّ الآية 23 تمهيد لآيات حنين. ويبدو أنّ هذا الكلام غير صحيحٍ؛ لأنّ ما قيل أوّلًا لا تتّضح فيه حيثية التمهيد والتقديم؛ بل هو مضمونٌ أصليٌّ وأساس، وعليه لا تكون آية يوم حنين تتمّةً له.

 

الحرفان اللام و"قد" في قوله تعالى: "لقد نصركم الله" يفيدان التأكيد، والمعنى: إنّ الله نصركم في حالات عدّة، ووقائع مختلفة، ويوم حنين واحدٌ من هذه الأيام والوقائع.

 

ويمكن الاستفادة في تعيين المقصود من الكثرة من الأخبار الواردة، في الوقائع والحروب التي خاضها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة المشركين. ومن هذه الأخبار أنّ المتوكّل[1] لمّا سُمَّ نذر إن عوفي أن يتصدّق بمالٍ كثيرٍ، فلمّا عوفي سأل الفقهاء عن حدّ المال الكثير فاختلفوا عليه. فقال بعضهم: مئة ألف، وقال بعضهم: عشرة آلاف. فقالوا فيه أقاويل مختلفة، فاشتبه عليه الأمر فقال رجل من ندمائه، يقال له صفعان: ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأل


 


[1]  من الأمور اللافتة في هذه الرواية أنّ المتوكّل وهو المستبدّ المعاند لله وللإسلام، والذي حاول حرف الإسلام عن مساره، وتابع طريق أجداده، وخطا خطوات واسعة لهدم الإسلام، هذا الرجل يعتقد بالنذر والعهد. (منه دام ظلّه)

 

170


135

تفسير سورة براءة

عنه! فقال له المتوكّل: من تعني ويحك؟ فقال: ابن الرضا؛ فقال له: وهو يحسن من هذا شيئًا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا، وإلا فاضربني مئة مقرعة؛ فقال المتوكّل: قد رضيت... فعرضت القضية على الإمام الهادي عليه السلام، فقال: الكثير ثمانون، فقال له السائل: يا سيدي إنّه يسألني عن العلّة فيه. فقال له الإمام عليه السلام: إن الله عزّ وجلّ يقول: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة"، فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين[1].

 

إذًا يُستفاد من هذه الرواية أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين واجهوا المشركين في ثمانين موطنًا.

 

إشارة إلى معركة حنين

"وَيَوْمَ حُنَيْنٍ": خُصَّ هذا اليوم بالذكر لشدّته على المسلمين، مضافًا إلى أنّ هذه الآية نزلت وقد مضى على واقعة حنين سنة أو أقلّ.

 

"إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ": لعلّه من الطبيعيّ أن يثير الإعجابَ اجتماع اثني عشر ألفًا في جيش المسلمين. وعشرة آلاف من هذا الجيش أتوا من مكّة، وألفان منهم كانوا حديثي الإسلام.

 

"فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا": هذا ولكنّ هذه الزيادة في العدد لم تنفعكم الشيء الكثير. والمقصود من الإغناء في الآية هو المنفعة والفائدة التي ترتّبت على اجتماع هذا العدد الكبير في عسكر المسلمين.

 

"وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ": صارت الأرض على رحابتها وسعتها ضيّقةً عليكم. "رَحُبَ" أي كان رحبًا واسعًا. وسبب الضيق أنّ العدوّ حاصركم من كلّ مكانٍ وضيّق الأرض عليكم فلم يعد لكم منها ما يسعكم.

 

"ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ": يُستفاد من الحرف "ثمّ" الذي هو للتراخي أي لبيان


 


[1]  انظر: الكافي، ج 7، ص 463-464؛ روضة المتّقين، ج 8، ص 49.

 

171


136

تفسير سورة براءة

الفاصلة الزمانية بين فعلين، يُستفاد منه أنّ المسلمين ثبتوا في بداية الأمر ولم يفرّوا من المعركة في أوّل وقت اندلاعها.

 

"ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ": وبعد أن ولّيتم وفررتم من القتال أنزل الله السكينة والاطمئنان على رسوله وعلى المؤمنين، وأمدّكم بجنود من عنده لا ترونهم.

 

وهؤلاء الجنود إمّا هم الملائكة، أو هم الحالات النفسية التي تبدّلت فتحوّلت إلى يقظة وثبات، وهذه الحالات هي أيضًا من جنود الله، ولا فرق بين أن ينصر الله المؤمنين بالملائكة التي تنزل لتقاتل معهم، أو ينصرهم بالتصرّف في حالتهم الروحية والنفسية. والآية عامّة لا إشارة فيها إلى الملائكة. وفي مقابل إنزال السكينة والجنود لمصلحة المؤمنين أنزل الله العذاب على الكافرين وجزاهم بما يستحقّون.

 

لقد أبدع الله نظام الخلق على قاعدة الحقّ، والدين الإلهيّ من أهمّ تجلّيات هذا الحقّ. والحقّ أشبه بشجرة تمتدّ جذورها في أعماق الأرض وتضرب فروعها وأغصانها في عنان السماء. وأمّا الباطل فهو أشبه بشجرة لا جذور لها، ولذلك فهي تنهار في مواجهة أوّل عصفة ريح، أو هي كالأعشاب الضارّة التي تنبت حول الحقّ، فتحاول إعاقة نموّه وتطوّره. ومن هنا فإنّ تطوّر الحقّ ونموّه يحتاج إلى استئصال هذه الأعشاب الضارّة ومنعها من إعاقة مسار تطوّره، وأظهر مصاديق الباطل المعيق للحقّ "الكفر والشرك": ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء... وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار﴾[1].

 

وفي هذا الميدان تقضي السنّة الإلهيّة بنصرة أهل الإيمان، ما داموا من أهل الثبات والصبر في مواجهة الشرك والكفر.


 


[1] سورة إبراهيم: الآيتان 24 و26.

 

172


137

تفسير سورة براءة

وجنود الله قد يكونون من الملائكة الذين لا يراهم الناس، كما حصل في معركة بدر؛ حيث نزلت الملائكة لنصرة المؤمنين؛ ولكنّ الله له جنودٌ من أنواعٍ شتّى، من قبيل: الوعي ويقظة الضمير، والعواطف المعنوية والرغبة في التضحية، والعزم والثبات، وكلّ هذه الصفات تنبع من داخل المؤمن.

 

وينبغي أن يُعلم أنّه ثمّة سننٌ أخرى في العالم، منها السنّة التي مؤدّاها هزيمة الجماعة التي تُبتلى بالغرور. لو اغترّ المسلمون بعددهم وعدّتهم، وغفلوا عن يد الله التي تدير الأمور وراء الأسباب الظاهريّة، ولو أنّهم علّقوا قلوبهم بالأسباب الماديّة بدل الاتّكال على الله والاعتماد على عنايته، لو أنّهم أصابهم هذا الخلل، لوكلهم الله إلى أنفسهم، ليذوقوا مرارة الغفلة، وليعلموا أنّ الملجأ والركن الذي يمكن أن يأوي إليه الإنسان على الدوام هو الله تعالى وحده.

 

في بداية معركة حُنين اغترّ المسلمون بعدّتهم، فشملتهم السنّة الإلهيّة وجرت عليهم، وتركهم الله لأنفسهم، فاستولى عليهم الخوف والرعب من العدوّ، ولم تغنِ عنهم كثرة العدد شيئًا، وضاقت عليهم الأرض على رحابتها وسعتها، وعزم بعضهم على الفرار وتخلّوا عن الدفاع عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، وظهرت في جيش المسلمين إرهاصات الهزيمة؛ ولكن أيقظهم نداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله السكينة عليهم، وأنزل الله جنوده لنصرتهم، وبدّل الله حالهم من الهزيمة إلى النصر، ونزل العذاب على عدوّهم وذاق طعم الهزيمة الذي أوشك أن يذوقه المسلمون.

 

هذا ولكنّ من السنن الإلهيّة الثابتة أنّ الكفر والشرك لا يدومان في معركتهما مع الإيمان، وما دام من يحمل الإيمان في ساحة المواجهة فإنّ الشرك سوف يضعف ويُذل. وفي المقابل، كتب الله أن يقوى الحق يومًا بعد يومٍ إلى أن يعمّ الدنيا على يد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فلا يبقى في عهده أثرٌ للباطل ولا دولة.

 

وينبغي الالتفات إلى أنّ التقدّم قد يُساء تفسيره في بعض الحالات. ثمّة

 

173

 


138

تفسير سورة براءة

صعود وهبوط في مسيرة الحقّ، وليس المسار دائمًا في أرض سهلة لا حزونة ولا وعورة فيها. ففي بعض الحالات قد يتراجع الحقّ وينهزم لفترة من الزمان على يد الباطل، ما يؤدّي إلى يقظة أهل الحقّ وعودتهم إلى رشدهم.

 

والهبوط في بعض الحالات من لوازم التطوّر والتقدّم، وهذا أشبه بالبناء الذي لا يمكن أن يبنى على وجه الأرض؛ بل لا بدّ من الحفر في الأرض لوضع القواعد وتثبيت البناء عليها. ومن هنا فإنّ الحكم بالتقدّم أو بالتراجع ينبغي أن يكون مبنيًّا على النظرة الشاملة التي يُلاحظ فيها المسار كلّه، ولا يصحّ أن نبني أحكامنا على التبدّل المؤقّت في المسارات. وليس هذا خاصًّا بالإسلام والحقّ، فكلّ الثقافات والاختراعات والاكتشافات تواجه بعض العقبات ثمّ تعود وتنطلق من جديد.

 

"ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ": تاب تعني عاد ورجع، غاية الأمر أنّ توبة العبد إلى الله هي رجوعه إليه سبحانه بالاستغفار والتراجع عن الذنب. وتوبة الله على العبد تعني قبول الله توبة العبد ورجوعه. والتوبة في هذا المورد المذكور في الآية لها معنًى دقيق. فأولئك الذين فرّوا من المعركة وأداروا ظهورهم للعدوّ، عليهم أن يعودوا من جديد إلى الميدان، وليست توبتهم بأن يقول أحدهم "أستغفر الله" وهو ما زال مولِّيًا ظهره للعدو. فالتوبة هي العودة إلى ساحة المعركة بعد مغادرتها. وهذا هو ملاك التوبة في الإسلام ومعيارها. فعندما عادوا عاد الله إليهم، وهذه هي القاعدة في أفعال الله أن تجري بأسبابها وعللها، إلا في حالات الاستثناء والموارد الخاصّة.

 

أسلوب الإسلام في تطبيق الأحكام

بعد وضوح سبب نزول الآيات ومناسبة نزولها، لا بدّ من الالتفات إلى سرّ نزولها. الآيات من الآية العاشرة فما بعدها تحثّ المسلمين وتحضّهم على الجهاد في سبيل الله. وقد قلنا إنّ الإسلام لا يكتفي بمجرّد إبلاغ الأحكام وبيانها؛ بل يهتمّ أيضًا بأسلوب التطبيق والتنفيذ، ويبيّن بأسلوب جميل كيفية

 

174

 


139

تفسير سورة براءة

رفع الموانع من تحويل هذه الأحكام النظرية وتجسيدها على أرض الواقع. وبعض هذه الموانع والمعيقات قد تكون في طريقة التفكير عند الناس وقد تكون صفة نفسية أو روحيّة عندهم، وقد تكون موانع ومعيقات خارجية.

 

ومن الأساليب التي ترفع الموانع بيان علل الأحكام. والإشارة إلى منافع الأحكام والأوامر الإلهية، ومضارّ المنهيّات، هي أيضًا من هذه الأساليب التي يعتمدها الله تعالى. فقد قال تعالى في المصالح المترتّبة على الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[1]. وقال في المفسدة المترتّبة على الخمر والميسر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾[2]. ويصبّ هذان البيانان وما يشبههما في مصلحة تسهيل الالتزام بتطبيق الأحكام الإلهيّة، وإقامة دين الله.

 

والأسلوب نفسه اعتُمد في مجال الدعوة إلى "الجهاد في سبيل الله". فقد بيّن القرآن الكريم معيقات الاشتغال بتلبية هذه الدعوة الإلهيّة، وعمل على رفع هذه المعيقات بحكمة بالغةٍ. ومن هذه الموانع التعلّق بالقيم الظاهريّة الرائجة في المجتمع، كسقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام، وعدّها هي القيمة بدل أن تكون القيمة هي "الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله". وفي السياق نفسه ذمّ الله الركون إلى العلاقات القرابية والتعلّق القلبيّ بالماديّات.

 

وطرح القيم الحقيقية بدل القيم الظاهريّة سببه أنّ انشداد الإنسان إلى القيم الفارغة والتعلّق بها، ينزع من قلبه الحماسة إلى الجهاد في سبيل الله، ويربّي في نفسه الميل إلى الدعة وطلب الراحة.

 

ومن موانع الجهاد ومعيقاته حالة اليأس وانعدام الأمل التي لا بدّ من مواجهتها واقتلاعها من النفس الإنسانيّة؛ وذلك لأنّ هذه الحالة تحول

 


[1] سورة العنكبوت: الآية 45.

[2] سورة المائدة: الآية 90.

 

175


140

تفسير سورة براءة

بين الإنسان والحضور في الساحة، وحتى لو شهد المجاهد الحرب بهذه الروحية فإنّه لا يرى النصر ولا يذوق حلاوته. والآيات المذكورة تواجه هذه الحالة وتلفت إليها.

 

وقد تُليت هذه الآيات في وقت لم يكن قد بقي من عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من حوالى أربعة عشر شهرًا، وقد كان يعلم ماذا سوف يواجه المسلمين بعد وفاته من أحداث وحالات روحية. ولم تكن التكاليف الدينية خاصّة بالسنوات التي قضاها صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين؛ بل إنّ هذا الدين هو دين الله إلى الأبد، والمجتمع الإسلاميّ سوف يبقى إلى ما شاء الله له البقاء، وبالتالي لا بدّ من بيان ما ينفع المسلمين في مستقبل حياتهم وحياة مجتمعهم.

 

وحيث إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان عارفًا بهذا الأمر، كان حريصًا على تزويد المسلمين بما ينفعهم في مواجهة الأحداث التي سوف تطلّ برأسها بعد حين من وفاته، ولذلك كان يكرّر بعض المسائل في المجامع العامّة وعلى ملإٍ من الناس.

 

وفي هذه المدة التي كانت قد بقيت من عمره الشريف حدثت وقائع استُغلّت في تحقيق هذا الهدف، منها واقعة الغدير، ومنها أيضًا واقعة حنين. والهدف هو أن لا يخسر المسلمون دينهم في اليوم التالي لفقدهم نبيّهم... وذكر قصّة حنين هو مثال يهدف إلى إيصال هذه الرسالة، وهي رسالة بعث الأمل بالنصر الإلهيّ والتحذير من اليأس وخمود شعلة الأمل في النفوس، والتحريض على مواجهة الكفّار.

 

والرسالة الأخرى التي تضمّنتها الآيات هي التحذير من الاغترار بالكثرة العددية؛ لأنّ كثرة العدد ليست هي العنصر الحاسم في تحقيق النصر.

 

والإلفات إلى نزول السكينة والطمأنينة على عسكر المسلمين، من البشائر الإلهية لأهل الإيمان والثبات. والسكينة هي موهبة إلهيّة يمنّ الله بها على النفس الإنسانية فتؤدّي إلى قدرتها على الثبات في مواجهة المهالك

 

176

 


141

تفسير سورة براءة

والأزمات. وعندما يهبّ هذا النسيم على الوجوه الإنسانيّة يمسح عليها بالسعادة والنصر.

 

السكينة هي مركّب من سمات وحالات روحية عدّة، هي:

الحالة الأولى هي الهدوء الروحيّ، ويقابلها الاضطراب والتشويش والقلق.

 

الحالة الثانية هي حالة الوثوق والثقة واليقين، ويقابلها حالة الشكّ والتردّد، وهذه الأخيرة هي الحالة التي ترافق السالك من بداية مساره إلى أن يصل إلى مقصده، وهي ناجمة عن التفكير في المستقبل وعدم وضوح الرؤية تجاهه، وعندما تصيب هذه الحالة الإنسان تدعوه دائمًا إلى التردّد والشكّ في صحة خياراته.

 

الحالة الثالثة هي حالة الاستقرار، ويقابلها حالة التزلزل. حالة الاستقرار ناجمة عن متانة البنى الفكرية، وهو ما يمنع الإنسان من السقوط هنا وهناك. فالبناء الذي أحكمت قواعده يبقى ثابتًا راسخًا في الأرض مهما واجه من أعاصير ورياح.

 

يُستفاد من مجموع الآيات الواردة في السكينة أنّها حالة مركّبة من هذه الحالات الثلاث، فهي تستبطن الهدوء الروحي، والثقة، والاستقرار.

 

والحالة الرابعة التي ربّما تكون جزءًا من السكينة أو عنصرًا فيها هي "الميل إلى الاستقرار وعدم التأثّر بالمؤثّرات الخارجيّة"، وهذه الحالة تدعو الإنسان إلى الثبات وعدم الانجذاب إلى هذه الجهة أو تلك. وهذه الحالة من آثار رسوخ الإيمان في القلب، وتؤدّي هذه الحالة في الوقت نفسه إلى تعميق الإيمان، وهي ذات مراتب عدّة، يصل الإنسان إلى أعلاها عندما يتجلّى الإيمان في قلبه. وعليه فإنّ السكينة التي تنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلى درجة من السكينة التي تنزل على قلب غيره من المؤمنين.

 

يقول بعض المفسِّرين: "أثر السكينة في قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو أنّه كان واثقًا

 

177

 


142

تفسير سورة براءة

من أنّ الكفّار لن يدركوه. ومن الطبيعي أن يترك هذا الاعتقاد في نفس النبيّ الخارج للبحث عن مكانٍ وموضع يمكن تثبيت عقيدة التوحيد فيه، من الطبيعي أن يطبع قلبه بطابع الهدوء والاطمئنان".

 

في بداية معركة حنين فرّ عددٌ من المسلمين من مواجهة الكفّار؛ ولكنّهم سرعان ما انتبهوا واستأنفوا القتال وعادوا إلى ساحة الجهاد، وعند ذلك نزلت السكينة على قلوبهم.

 

ينبغي أن يُعلم أنّ الإيمان الذي ينمو على العواطف والأحاسيس لا يدوم، وسرعان ما يزول من النفس عند أوّل هزّة يواجهها. ولو أنّ جميع المسلمين اعتنقوا الإسلام تحت تأثير الخطاب الحماسيّ للقرآن، لما استطاعوا تحمّل مرارات عذاب أبي جهل. بل كان الإسلام قد نفذ إلى قلوبهم فكرًا وهدفًا، وكان عندهم وعيٌ وإدراك خاصٌّ له. ومع الأسف نحن الآن بعيدون عن ذلك المستوى من الإدراك الذي كان عند عددٍ منهم، وقد تركت الأحداث التاريخيّة أثرها في نفوسنا.

 

الثابتون في معركة حنين

ثمّة روايات عدّة تخبر عن عدد الأشخاص الذين اتّصفوا بالثبات في معركة حنين، ففي بعض الأخبار أنّ عددهم كان أقلّ من مئة شخص. وأعلى رقم محدّد ورد في المصادر التاريخية هو ثمانون شخصًا. وأقلّ تعداد ورد في المصادر الشيعية والسنّية هو أربعة أشخاص، هم: أمير المؤمنين عليه السلام، والعبّاس، والفضل بن العبّاس، وعبد الله بن مسعود، وهو من المهاجرين ذوي الشأن في الإسلام. وثمة شكٌّ في آخرين. وبعض المفسِّرين ينظر إلى هذه الحادثة بعين التعصّب، وينسب إلى الشيعة ما لا يصحّ.

 

178

 


143

تفسير سورة براءة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿28﴾

 

180


144

تفسير سورة براءة

نجاسة المشركين

"إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ": بين كلمتي نجِس ونجَس فرق، فالثانية مصدرٌ والأولى صفة مشتقّة من المصدر. فمعنى كلمة نجَس هي كون الشيء منشأً للنجاسة والخبث. ومع كون هذه الكلمة مصدرًا فقد جعلت صفة للمشركين في الآية. وهذا أسلوب معروفٌ في اللغة العربية، حيث يوصف الشيء بالمصدر للمبالغة في الوصف. وهذا يشبه العدول عن قولنا "زيدٌ عادلٌ" إلى قولنا "زيد عدلٌ"، فهذه العبارة الأخيرة تتضمّن المبالغة في وصفه بالعدالة. والأمر نفسه يُقال في الآية التي وصف المشركون فيها بأنّهم نجَسٌ من باب المبالغة ولتأكيد نسبة النجاسة إليهم.

 

"فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا": ولمّا وُصِف المشركون بالنجاسة بهذا المستوى المذكور في الآية، كان من الطبيعي أن يُنهَوا عن الاقتراب من المسجد الحرام. تحدّثنا سابقًا عن خطّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي تقضي بإخراج المشركين من الجزيرة وعدم السماح بغير فكر التوحيد بالبقاء والانتشار فيها. وأَولى الأماكن بالطهارة من الشرك هو مكّة قاعدة التوحيد. هذه هي الخطّة، ولكنّ عدالة الإسلام وسماحته قضت بأن لا يفاجأ المشركون بهذا القرار؛ بل يُعطوا فرصةً، ومن هنا تتحدّث الآية عن منعهم من الاقتراب من المسجد الحرام بعد عامهم هذا.

 

المعارضون لخروج المشركين من مكّة

لقد عارض فريقان إخراجَ المشركين من مكّة، أحد هذين الفريقين هو

 

182

 


145

تفسير سورة براءة

المشركون أنفسهم؛ حيث كانت مكّة مدينتهم ومسجدها مستقرّ أصنامهم. والفريق الثاني هو بعض المسلمين الذين كانت تربطهم بالمشركين علاقات اقتصادية كالبيع والشراء والدلالة، وعندما يُمنع المشركون من الدخول إلى مكّة سوف يخسرون هذا المورد من موارد رزقهم.

 

يُضاف إلى ذلك أنّ طبيعة الحياة الاقتصادية لقريش كانت تقوم على قاعدة "رحلة الشتاء والصيف"، فإذا منع المشركون من دخول مكّة، ربّما يمنعون قوافل أهل مكّة من المرور في مناطق سكناهم، وبالتالي يتعرّض المسلمون للحصار الاقتصاديّ. لهذا وجد بعض المسلمين أنّ منع المشركين من دخول مكّة يضرّ بمصالحهم الاقتصاديّة.

 

أخذ الله تعالى هذه الملاحظات والهواجس بالاعتبار عند تشريع هذا الحكم وقال سبحانه: "وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"؛ وفي هذا المقطع من الآية يبين الله للخائفين على مصالحهم الاقتصاديّة بأنّ الرزق من عنده، ويقول لهم إذا خفتم من الفقر المترتّب على منع المشركين من الدخول إلى مكّة فإنّي أضمن لكم الغنى بفضلي. وإذا كنتم ترون أنّ هذا الحكم سوف يسدّ عليكم بابًا من أبواب الرزق، فإنّ الله سيفتح لكم أبوابًا أخرى من الرزق، وهو العالم بمصالحكم، وهو الذي يدبّر ويدير أموركم بحكمته.

 

على الإنسان أن يلاحظ هذه الآية ويلتفت إليها، عندما يرى أنّه على مفترق طرقٍ وبين خيارين: إمّا الحياة المرفّهة الماديّة، وإما العمل بأحكام الله وتشريعاته التي قد تترتّب عليها بعض المشقّة وضيق ذات اليد.

 

183

 


146

تفسير سورة براءة

قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿29﴾

 

184


147

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تقدّم في بداية تفسيرنا لهذه السورة أنّ عددًا من آياتها يبيّن الموقف الواجب اتخاذه تجاه الكفّار والمشركين. وهذه الآية هي واحدة من عدد من الآيات التي تحدّد موقف المسلمين من أهل الكتاب (اليهود والنصارى). وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الروايات تدخل المجوس أيضًا في أهل الكتاب[1].

 

تبيّن هذه الآية حكم القتال مع أهل الكتاب بطريقة تختلف عن حكمه مع المشركين. وفي الآيات اللاحقة سوف يأتي الحديث عن فلسفة القتال بين المسلمين وأهل الكتاب، وعن الأسباب الاجتماعية التي تدعو أهل الكتاب إلى التسليم المطلق لأحبارهم وعلمائهم والنتائج المترتّبة على هذا التسليم، وعن فلسفة ظهور الإسلام، وغير ذلك من الموضوعات التي تعرّضت لها الآيات الآتية. وهذه الآية واحدة من سبع آيات بينها شيءٌ من الاشتراك، فهذه الآية تحدّد الحكم، والآيات اللاحقة تشرح هذا الحكم وتبيّن مجموعة من الأمور المرتبطة به.

 

يرى بعض المفسِّرين أنّ هذه الآية تمهّد لمعركة تبوك. وعلى الرغم من إمكان صحّة هذا الأمر إلا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ الفاصل الزمنيّ بين نزول هذه الآية ومعركة تبوك هو ما يقرب من سنتين. وقد قيل في تبرير


 


[1] المقصود من أهل الكتاب هو أهل الأديان الذين يعتقدون بواحد من الأديان السماويّة التي نزل الوحي على نبيّها وله كتابٌ يؤمنون به. واليهود والنصارى والزرادشتيّون من أهل الكتاب. وكذلك الصابئة أيضًا هم من أهل الكتاب بحسب ما انتهى إليه البحث حولهم. ولا إشكال في معاشرة هؤلاء الناس وفق قواعد الأخلاق. (انظر: آية الله الخامنئي، رسالة أجوبة الاستفتاءات، ص 68، السؤال 316.)

 

185


148

تفسير سورة براءة

هذا الربط رغم الفاصل الزمانيّ، إنّ معركة تبوك هي المعركة الأولى التي كانت الإمبراطوريّة الرومانية طرفًا فيها، وهذا يستدعي التمهيد المبكّر وإعداد جيش المسلمين روحيًّا قبل الدخول في الحرب.

 

"قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ": تدعو الآية إلى قتال الذين لا يؤمنون بالله ولا يعتقدون حرمة ما حرّم الله ورسوله. والمجتمع الإسلاميّ كغيره من المجتمعات ينبغي أن يخضع أعضاؤه لمجموعة من القوانين والمقرّرات التي تحدّد ما هو مسموحٌ به وما هو ممنوعٌ ومنهيٌّ عنه.

 

والآية تدلّ على نهي أهل الكتاب عمّا تنهاهم عنه شريعتهم، ولكن ثمّة نقاش في دلالتها على تحريم المحرّمات الإسلاميّة عليهم، وهنا ينبغي القول: "إنّ كل ما هو محرّم على المسلمين في المجتمع الإسلاميّ على اليهود والنصارى الالتزام بحرمته وعدم ارتكابه". وهذا المنع أمرٌ طبيعيٌّ؛ وذلك لأنّ أيّ مجتمع يستقبل بعض الأشخاص من غير نسيجه الاجتماعيّ يلزمهم بأحكامه ومقرّراته، وذلك في مقابل ما يُعطى من حقوق وامتيازات وحماية من الدولة الإسلاميّة. وليس في هذا الإلزام ظلمٌ أو جورٌ عليه؛ بل هو ممّا يقتضيه العرف والسيرة العقلائيّة، وبه يتحقّق صلاح المجتمع واستقراره.

 

وبناءً على هذا الفهم، يجب على أهل الكتاب الالتزام بأنظمة المجتمع الإسلاميّ وقواعده، وهذا الالتزام هو واحدٌ من شروط عقد الذمّة بين المسلمين وأهل الكتاب.

 

مبرّر مقاتلة أهل الكتاب

لمّا كان الاعتقاد بالله ويوم الجزاء من الأصول المسلّمة في جميع الأديان السماويّة، لا يمكن حمل الآية وتفسيرها بأنّها تتحدّث عن بعض الطوائف التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر؛ بل ينبغي فهم الآية على أنّها تدعو إلى قتال أهل الكتاب لانحرافهم عن عقيدة التوحيد الحقيقية التي أتى بها

 

186


149

تفسير سورة براءة

أنبياؤهم، وإدخالهم في دينهم بعض الخرافات التي تتنافى مع التوحيد.

 

إله اليهود هو من يُسمّونه "يَهْوَه"، وهم يصوّرونه إلهًا إسرائيليًّا يحبّ شعبه ويكره الأغيار. ويهوه هذا إله طبقيٌّ قوميٌّ، فبين العقيدة اليهودية بالإله وعقيدة التوحيد الصافي بونٌ شاسعٌ. وعقيدة التوحيد المشار إليها هي العقيدة التي تبيّنها سورة التوحيد وغيرها من آيات القرآن الكريم التي تقدّم الفهم الصحيح لله تعالى.

 

"وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ": تتابع هذه الآية بيان الصفات التي يتّصف بها هؤلاء، ومن صفاتهم أنّهم لا يعلنون الطاعة والتسليم للحقّ والقواعد المنسجمة مع الفطرة ونظام الخَلْق. وهذه العبارة من الآية تقدّم مبرّرًا آخر لقتال أهل الكتاب، وهذا المبرّر هو أنّ هؤلاء يديرون ظهورهم ويعلنون التمرّد على المبادئ التي أتى بها الإسلام وقدّمها لهم كما يقدّم الطبيب الدواء لمريضه.

 

والعبارة الآتية من الآية تحدّد المقصودين الذين تنطبق عليهم أحكامها، والعنوان الوارد في الآية هو أوسع من دائرة اليهود والنصارى، حيث إنّ الآية تقول: "مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ".

 

"حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ": تبيّن هذه الآية الأجل الذي ينبغي أن تنتهي عنده الحرب مع أهل الكتاب؛ وهو أن يسلّموا بدفع الجزية ويلتزموا بأدائها. وبناءً على هذا فإنّ بين قتال المشركين وقتال أهل الكتاب فرقًا. والجزية من مادة "جزي"، وهي مبلغٌ من المال يدفعه اليهود والنصارى في مقابل استقبالهم في المجتمع الإسلامي وتأمين الحماية لهم واستفادتهم من المزايا والتقديمات التي تؤدّيها الدولة الإسلاميّة لمواطنيها.

 

فلسفة الجزية

في توضيح مفهوم الجزية ينبغي القول إنّ في زمان التوحّش حيث كانت إراقة الدماء ثمنًا للسلطة، وفي تلك المرحلة التاريخية التي كانت مجموعة من الأمم البدائيّة والمتوحّشة تتنافس في ما بينها وتتزاحم، بزغ نور الإسلام،

 

187

 


150

تفسير سورة براءة

لتنحسر ظلمات الظلم من المجتمعات الإنسانية، ويمتدّ ظلّ العدل على الأرض، ولا دين غير الإسلام يمكن أن يحقّق هذا الرفاه وهذه العدالة للبشريّة.

 

ومن نماذج العدالة الاجتماعية في الإسلام أنّ بعض جنود معاوية أغاروا على بلدة واعتدوا على بعض النساء المسلمات والمعاهدات، وعندما وصل خبر هذا الاعتداء إلى أمير المؤمنين عليه السلام علّق عليه بقوله: "فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً"[1].

 

في مثل هذا المجتمع كان يجب على الدولة الإسلاميّة أن تتعهّد بحماية مواطنيها سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين، وحماية أموالهم، ودفع مبلغ من المال بعنوان الجزية مقابل هذه الحماية ليس بالشيء الكثير. وفي مقابل الجزية المفروضة على غير المسلمين، نجد أنّ واجبات المسلمين تجاه المجتمع الإسلاميّ أكبر بكثير، وذلك أنّ المسلم مطالبٌ بدفع الزكاة والخمس، ومطالبٌ بالمشاركة في الجهاد وغيره من الواجبات الدفاعيّة، وكل هذه الأمور لا يُطالب بها أهل الذمّة، ومسؤوليّاتهم تجاه المجتمع الإسلاميّ أخفّ وأقلّ مؤونة. وعليه يمكننا القول إنّ التكليف بدفع الجزية لا يتنافى مع العدالة، بل هو في الحقيقة من تجلّيات الرحمة الإسلاميّة. وأخيرًا بهذا التوضيح يتبيّن أنّ ما يروّجه بعض المستشرقين حين يقولون إنّ الإسلام يطالب غير المسلمين بالمال دون غيرهم من الناس، هو فرية بعيدة عن الواقع، ومجانبة للصواب.

 

مقدار الجزية

تختلف التقارير التاريخية الواردة في تحديد مقدار الجزية. وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ بعض هذه التقارير التاريخية والدراسات المنجزة حولها لا تخلو من الأغراض غير النزيهة.


 


[1] نهج البلاغة، الخطبة 27.

 

188


151

تفسير سورة براءة

ويبدو أنّ متوسّط الجزية يعادل حوالى عشرة دراهم في السنة تدفع عن الرجال الأصحّاء القادرين على القتال، وأمّا الأطفال والنساء والمجانين وكبار السنّ فقد كانوا معفيّين من دفع الجزية ولا يطالبون بها. هذا هو تشريع الجزية في حال كان الفقراء في إيران في ذلك الزمان يدفعون للطبقة الحاكمة أكثر من هذا المبلغ، وقد كان الأغنياء يعفون من دفع الضرائب ولا يُطالبون بها. وعندما جاء الإسلام عمّم هذا الحكم على جميع الناس فقيرهم وغنيّهم، وقد كان في ذلك شفاءٌ لصدور الطبقات الاجتماعية الضعيفة من الناحية الاقتصاديّة.

 

"عَن يَدٍ": يختلف المفسِّرون في المراد من هذه العبارة، وقد طُرح احتمالان في تفسيرها، أحدهما: أن يدفعوها بأيديهم مباشرة؛ والثاني: أن تكون صفة للمسلمين ويكون المعنى: "عن قدرةٍ لكم"، أي أن يدفعوها مع قدرتكم وسلطتكم.

 

ويمكن طرح احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من العبارة أن الجزية المطلوب دفعها يجب أن تكون مقدورًا عليها لهم ومتناسبة مع ما يستطيعون دفعه لا أقلّ ولا أكثر، ولعلّ هذا الاحتمال أقرب إلى الصواب من الاحتمال الثاني، ويمكن استفادته من بعض الأخبار الواردة في هذا الشأن[1].

 

"وَهُمْ صَاغِرُونَ": أي يجب عليهم دفع الجزية وهم ممتثلون طائعون لا يمكنهم التمرّد على هذا القانون الإسلاميّ. وقد فسّرت كلمة "صاغرون" بطريقة خاطئة وأدّى ذلك إلى استنباطات فقهيّة غير صحيحة. فثمة من فهم الصَّغار في الآية بمعنى الإذلال. وبناءً على هذا الفهم أفتى بعض الفقهاء بأنّه ينبغي إذلال الذميّ عند دفع الجزية بأن يكون الآخذ جالسًا والذميّ مطأطئ الرأس حاني الظهر، أو بأن يقبض الآخذ لحيته ويضربه؛ وهذا الفهم غير صحيح والآثار المترتّبة عليه كذلك. ولا يُستفاد من كلمة "صاغر" معنى الإذلال أبدًا.

 


[1] وسائل الشيعة، ج 15، ص 149.

 

189


152

تفسير سورة براءة

الـ"صاغر" هو الشخص الذي يرضى لنفسه أن يكون في المرتبة الدنيا، ومثاله: من يقدر على متابعة الدراسة والوصول إلى المراتب العلمية العالية، مثل هذا الشخص إذا لم يدرس مع قدرته على الدرس هو صاغر، أي رضي المرتبة الدنيا وتكاسل عن طلب المعالي. وهذا المعنى لا يتضمّن الإذلال ولا يقتضيه.

 

والأمر نفسه يُقال في من يعرض عليه الإسلام، ولا يقبله، ويرضى بأن يحرم نفسه من هداية الإسلام، فمثل هذا الشخص لن يكون في مرتبة واحدة مع المسلم ولن ينال درجته. وبناءً عليه يُطالب بطاعة الدولة الإسلاميّة وأداء الضريبة لها مقابل تعهّدها بحمايته وحماية أولاده وأمواله.

 

وينبغي الالتفات إلى أنّ شوكة الإسلام وقوّته في قوّة مبادئه ومبانيه الفكريّة، وفي عملانيّة تشريعاته وأحكامه، وفي وجود الضمانات التنفيذية لهذه التشريعات، وليس في تكبّره واستبداده. وقد نهى الإسلام بصراحة عن الكبر حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾[1]. وسيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام تكشفان عن احترام الكرامة البشرية للناس. والإنسان بما هو إنسانٌ محترمٌ في الإسلام، ولأجل هذا احتضن أهل الكتاب بهدف جذبهم نحوه، ومن لوازم هذا الاحتضان السلوك الحسن.

 

ولعلّ منشأ هذا الخطأ في فهم الآية والحديث عن إذلال أهل الكتاب عند دفع الجزية هو سيرة الأمراء والحكّام من بني العبّاس وغيرهم، ما أدّى إلى أنّ هذه السيرة المعمول بها حُسبت من الإسلام.

 

بحث روائيُّ في الجزية

أشرنا من قبلُ إلى ورود بعض الروايات والأخبار التي يمكن بواسطتها تحديد الجزية كمًّا ونوعًا. وبين هذه الأخبار ما يحوم حوله الشكّ ولا يمكن التصديق به، ومن ذلك الأخبار التي تدعو إلى إذلال الذميّ عند أدائه الجزية، وحتّى لو كانت هذه الروايات معتبرة السند؛ غير أنّ منافاة


 


[1] سورة لقمان: الآية 18.

 

190


153

تفسير سورة براءة

مضمونها ومؤدّاها لروح التعاليم الإسلاميّة وعمل عظماء الإسلام، فإنّها تردّ ولا يمكن القبول بها، ولا مشكلة في أن ننكر صدورها عن المعصوم. ولمّا كان البحث بحثًا علميًّا فإنّه لا مانع من نقل هذه الرواية ومناقشتها لتتضّح صورة القضية:

"قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما حدّ الجزية عن أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شيء موظّفٌ لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟ فقال: ذاك إلى الإمام[1]، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما له وما يطيق، إنّما هم قوم فَدَوا أنفسهم من أن يُستعبدوا، أو يُقتلوا، فالجزية تؤخَذ منهم على قدر ما يطيقون. فإنّ الله تبارك وتعالى قال: ﴿حَتَّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُونَ﴾. وكيف يكون صاغرًا، وهو لا يكترث لما يؤخذ منه؟! حتى يجد ذلًّا لما أُخِذ منه فيألم لذلك، فيسلم"[2].

 

صدر الرواية يبيّن أنّ على أهل الكتاب دفع الجزية للإمام وهو حاكم المجتمع الإسلاميّ. إلى هنا لا مشكلة في الرواية؛ ولكن في القسم الأخير منها تبيّن ضرورة شعور الذميّ بذلّ دفع الجزية وبأن تكون فوق ما يطيق حتّى يضطرّ إلى الدخول في الإسلام، ونحن نرى أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع التعاليم الإسلاميّة، فالإسلام الذي يحصل تحت الضغط لا قيمة له وليس إسلامًا حقيقيًّا.

 

الإسلام يعني التسليم لله تعالى، ولا يعني الأسْرَ والاستعباد. الإسلام هو تكامل روحي وروحك بالمعارف الإسلاميّة والعمل بمقرّرات الشريعة والالتزام بها. والتسليم المطلوب والممدوح هو التسليم الناجم عن المعرفة والرغبة. وما يهدف إليه الإسلام هو التطوير والتقدّم المعنويّ والأخلاقيّ للمجتمع، وليس مجرّد زيادة عدد المسلمين، وتوسعة رقعة انتشار الإسلام في الجغرافيا.


 


[1] المقصود من الإمام هنا هو حاكم المجتمع الإسلاميّ وقائده.

[2] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 203.

 

 

191


154

تفسير سورة براءة

وممّا يؤسف له أنّ جغرافيا المجتمعات الإسلاميّة توسّعت في التاريخ الإسلاميّ المبكّر؛ ولكنّ الفكر الإسلاميّ لم ينتشر. وما الفائدة أن يزداد عدد الأشخاص الذين يحملون الإسلام على وثيقة هويّتهم، ولا يزداد عدد الذين يحملون الإسلام فكرًا وهويّة حقيقيّة؟! ولأجل هذا نستبعد أن يكون الهدف من الجزية إدخال أهل الكتاب في الإسلام تحت ضغط الأعباء الاقتصاديّة.

 

وبعد انتشار نور الإسلام واتّساع دائرة شعاعه، وارتفاع جميع الموانع نتيجة التضحيات والمجاهدات، وظهور عظمة الإسلام وأهميّته للناس، بعد هذا كلّه لم يبقَ أيّ داعٍ يدعو إلى إكراه الناس على الإيمان.

 

وتشهد طريقة المسلمين في صدر الإسلام، كما طريقة الدول والحكومات الإسلاميّة بأنّهم لم يمارسوا الإكراه والجبر على الناس، ولم يفرضوا على اليهود ولا على النصارى اعتناق الإسلام، ولو فعلوا هذا لما بقي مسيحيٌّ أو يهوديٌّ في المجتمع الإسلاميّ. والصورة المعبِّرة التي نقلها لنا التاريخ أنّه لم يكن الإسلام يُعارض أن يعيش رجلٌ يهوديٌّ في جوار أمير المؤمنينعليه السلام إذا كان يؤدّي واجباته تجاه المجتمع الإسلامي ويلتزم قوانينه.

 

الإسلام أشبه بدواء ناجع فمتى عرف المرضى في أنحاء الأرض صفته هذه وآثاره، أقبلوا عليه من دون تردّد، ولا يحتاج أحدهم إلى إجبار على تناوله، شرط أن ترفع الموانع التي تحول دون الوصول إليه. والشاهد الذي يؤكّد عدم ممارسة الإكراه على الإسلام، أنّ الدول التي حكمت المسلمين على الرغم من ممارستها كثيرًا من ألوان الظلم، إلا أنّها لم تجبر غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وظلّ هؤلاء يعيشون في نقاط عدّة من العالم الإسلاميّ يمارسون عقائدهم بعيدًا عن أيّ إكراه.

 

والآن وبالنظر إلى جميع هذه الملاحظات كيف يمكن أن نقبل أنّ الإمام عليه السلام يجيز تحديد أيّ مقدار من الجزية على أهل الكتاب حتّى يضطرّوا إلى إعلان الإسلام؟! يبدو أنّ علينا "ردّ هذه الرواية إلى أهلها" حتى لو

 

 

192

 


155

تفسير سورة براءة

كانت صحيحة السند، لمخالفتها ظاهر كتاب الله.

 

وورد في رواية أخرى يُسأل فيها الإمام الصادق عليه السلام، ومورد السؤال في الرواية هو مقدار الجزية الذي يؤخذ من نصارى تغلب، ويبدو أنّه كان يؤخذ منهم ضعفا ما هو مقرّر، وليس في هذه الرواية أيّ إشارة إلى الإذلال، ويمكن أن يُستفاد منها أنّ الجزية تجعل بالتراضي مع أهل الكتاب ولا تفرض عليهم دون أن يكون لهم خيارٌ فيها:

"قال محمد بن مسلم: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أرأيت ما يأخذ هؤلاء من الخمس من أرض الجزية، ويأخذون من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شيء موظّف؟ فقال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء، فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: هذا كان صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 

يبدو أنّ الخليفة الثاني تراضى مع نصارى تغلب أن يضاعفوا الدرهم الذي كانوا يؤدّونه إليه. ويعفيهم بذلك من الجزية. وبحسب هذه الرواية يبدو أنّ مقدار ما كان يؤدّيه أهل الكتاب يختلف من حالة إلى أخرى، فأصحاب الأرض كانوا يؤدّون خمس حاصل الأرض، والدهاقين كانوا يدفعون على الأشخاص.

 

وهذا الاختلاف في مقدار الضريبة المفروضة على غير المسلمين، من اختراع عمر بن الخطّاب، وهذا ما دفع السائل إلى الاستفهام من الإمام الصادق عليه السلام عن حدّ الجزية وعن جواز اختلافها بين شخص وآخر. فيجيب الإمام بقوله: "وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء.."..


 


[1] الكافي، ج 3، ص 567.

 

 

193


156

تفسير سورة براءة

وفي تعبير "ما أجازوا على أنفسهم"، احتمالان، وكلا الاحتمالين يفيد إعطاء أهل الكتاب شيئًا من الصلاحية في التوافق على الجزية.

 

الاحتمال الأول أن يكون المراد هو إعطاء أهل الكتاب صلاحية تحديد المقدار الذي يقدرون على دفعه.

 

والاحتمال الثاني هو عين معنى الجزية. ولما كانت الجزية بمعنى العوض، فإنّ الإمام يريد أن يقول إنّ البديل عن الجزية يجب أن يكون مساويًا للجزية وليس أكثر منها.

 

ومن هنا يسأل الراوي لماذا يؤخذ منهم الخمس؟ فيبيّن الإمام أنّ ذلك على أساس صلحٍ عقده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معهم. وأنّ عمر يتابع العمل وفق ذلك الصلح. وعلى أيّ حال ثمة من يحمل الرواية على التقية.

 

ومهما يكن من أمرٍ فإنّه ليس في الرواية أيّ إشارة إلى الإذلال، كما إنّ مقدار الجزية تُرك لأهل الكتاب وللتراضي معهم. وبالتالي ما نراه في بعض الكتب الفقهيّة لا يُستفاد من الآية، ولا ينسجم مع تكريم الإسلام للإنسان بغضّ النظر عن دينه ومعتقده. وعليه لا يمكن الإفتاء أو العمل بما هو مخالف للقرآن ولسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وربّما يثير هذا الكلام سؤالًا هو: كيف ينسجم هذا التسهيل مع مضمون الآية حيث يصف تعالى المؤمنين بأنّهم: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار﴾؟

في الجواب عن هذا السؤال يمكن القول: إنّ هذه الآية ناظرة إلى حالة الحرب، وذلك أنّهم نقضوا عهدهم مع المسلمين.

 

 

194

 


157

تفسير سورة براءة

 

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿30﴾ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿31﴾

 

 

195


158

تفسير سورة براءة

فلسفة مواجهة أهل الكتاب

بعد الدعوة إلى قتال أهل الكتاب في الآية السابقة، تتولّى هاتان الآيتان بيان السبب الذي دعا إلى الدعوة السابقة، ولو على نحو التلويح. والسبب المستفاد من الآية هو أنّ اليهود يقولون: "عزيرٌ ابن الله"، والنصارى يقولون: "المسيح ابن الله"، وتبيّن الآية أنّهم يقولون ذلك بأفواههم، وهذا التعبير يفيد عند العرب عدم صحّة الكلام وأنّه غير مستند إلى الدليل.

 

وهذا وجه شبهٍ بين هاتين الفئتين والمشركين، وبالتالي لا ينبغي الاعتراض على الإسلام بالتساؤل عن السبب الذي يجعله يشرّع قتال أهل الكتاب؛ والآية تقول هم مشركون، واعتقادُهم هذا، شكلٌ من أشكال الشرك؛ حيث إنّهم ينسبون الولد لله ويجعلونه شريكًا له. وهذا يبرّر الدعوة إلى قتالهم كقتال المشركين.

 

وثمّة فرقٌ بين تعبير "قتلهم الله" وبين تعبير "قاتلهم الله"، ذلك أنّ التعبير الأوّل يفيد الدعاء عليهم بالموت والقتل، بينما التعبير الثاني يفيد استمرار اللعن والإبعاد عن العناية الإلهية.

 

"أنّى يؤفكون": هذا تساؤل استنكاريٌّ يفيد معنى كيف يشيحون بوجوههم عن الحقّ؟! والإفك هو كلّ كلامٍ مخالفٍ للواقع، وفي هذا السياق يدلّ على الإعراض عن الحقّ وتضييعه.

 

تاريخ عقيدة أبوّة الله عند اليهود

"وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ": تفيد الأبحاث التي أجراها المفسِّرون

 

 

197

 


159

تفسير سورة براءة

والمستشرقون أنّ هذا الاعتقاد لم يكن مقبولًا عند اليهود جميعًا؛ ومبرِّر نسبة القرآن هذه العقيدة إلى اليهود هو أنّ الرافضين لها لا يُقبل منهم السكوت عليها، ولمّا لم ينكروا ولم يرفضوا هذه العقيدة فيمكن نسبتها إليهم وشراكتهم مع المؤمنين بها فيها. والأمر نفسه نلاحظه في نسبة الاعتقاد بغل ّ يد الله إلى جميع اليهود[1]، مع أنّ بعضهم لم يكن ينسب هذا الأمر إليه تعالى.

 

وعُزير اسمه في لغة اليهود عزرا، وقد تغيّر في اللغة العربية إلى هذه الصيغة. كما إنّ اسم السيد المسيح هو يسوع، ولكن سُمِّي عيسى في اللغة العربية.

 

والعهد القديم، وهو الكتاب الشامل للتوراة وغيره من الأسفار يحتوي على سفرٍ باسم عزرا. وهو الشخص الذي جدّد العهد القديم بعد ضياعه. وذلك أنّ بخت نصّر ملك بابل عندما فتح فلسطين وخرّب هيكل سليمان أحرق التوراة وأسر اليهود. وبعد عودة اليهود إلى فلسطين عمل عزير على تجديد التوراة وإعادة كتابتها وجمعها من جديد، ولهذا وصفه اليهود بأنّه ابن الله. وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا المعتقد اليهودي يختلف في دلالته عن الاعتقاد ببنوّة عيسى لله في التراث والفكر المسيحيّ.

 

وحاصل الكلام أنّ هذه الآية تبيّن علّةَ الدعوة إلى قتال أهل الكتاب؛ لدفع الاعتراض على التشريع الذي تضمّنته الآية السابقة؛ وهذا الاعتراض يُطرح بصيغة أنّه كيف لا يفرّق الإسلام بين المشركين وأهل الكتاب الذين يشتركون مع المسلمين في جزء من العقيدة الإسلامية. والجواب هو أنّ الإسلام لا يستطيع مهادنة من ينحرف عن الحقّ، حتّى لو كان لا يطلب الباطل بحسب الأصل. وسوف يأتي أثناء الحديث عن الآية اللاحقة الآثار والأضرار التي ترتّبت على تحريف التوراة والإنجيل.


 


[1] سورة المائدة: الآية 64.

 

 

198


160

تفسير سورة براءة

الاختلاف في معنى أبوّة الله بين اليهود والنصارى

يعتقد المسيحيّون أنّ السيد المسيح هو ابن الله، ويؤمنون بالعقيدة المعروفة بعقيدة التثليث، ويعبِّرون عن أجزاء عقيدتهم هذه بـ"الآب والابن والروح القدس"، وفي الواقع ينسبون إلى عيسى شكلًا من الجزئية لله المؤلّف من أقانيم ثلاثة. وهذا المعنى من البنوّة لا يعتقده اليهود، ويبدو أنّ البنوّة المنسوبة لعزير ترتكز على تجديد دين اليهود وإعادة تدوين التوراة. وهذا المعنى الأخير ينسبه المسيحيّون إلى عددٍ من الأنبياء، فقد وصف إبراهيم وسليمان وغيرهما من الأنبياء في الإنجيل بهذا الوصف.

 

هذا، بينما نرى أنّ القرآن الكريم يصف النبيّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله، مع كلّ ما لهذا الرسول من العظمة والاحترام في الإسلام، وسرّ هذا الوصف وسرّ التأكيد عليه في القرآن أن لا يتحوّل المسلمون إلى الاعتقاد بمحوريّة الشخص، على الرغم ممّا لهذا الشخص من خصائص.

 

العقائد الباطلة عند أهل الكتاب

بعد إعلان القرآن الكريم الموقف من اليهود والنصارى وبيانه مبرّر هذا الموقف منهم، يعرض فصلًا آخر من فصول عقائدهم، ويكشف عن وجوههم للمسلمين فيقول: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ". ودلالة الآية واضحة تفيد أنّهم أعطوا أحبارهم ورهبانهم منزلة إلهيّة.

 

و"الأحبار" جمع "حَبْر" وهو العالِم، وهو مصطلح يستخدمه اليهود للتعبير عن علمائهم الأقوياء. وهؤلاء الأحبار هم الذين كانوا يقولون للمشركين قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّهم ينتظرون نبيًّا يبلغون معه الفتح[1]. وعندما ظهر النبيّ ذهبت عنهم شخصيّاتهم المزيّفة، وظهروا على حقيقتهم،


 


[1] انظر: سورة البقرة: الآية 89.

 

199


161

تفسير سورة براءة

وأنكروا أن يكون النبيّ الذي كانوا ينتظرون[1].

 

رهبان جمع راهب. وهو أحد المناصب المسيحيّة، والراهب في الأصل هو الشخص الذي تجلبب بلباس الخوف والخشية من الله، وتَرَك الدنيا. ولكن في الاصطلاح هو الشخص الذي يدعو إلى الدين المسيحيّ.

 

وتأخذ الآية على أهل الكتاب أنّهم بدل أن يصفوا الله عزّ وجلّ، بأنه "ربٌّ"، فقد جعلوا هذا الوصف لأحبارهم ورهبانهم، كما وصفوا به عيسى بن مريم عليها السلام؛ والحال أنّهم لم يؤمروا في كتبهم المقدّسة بغير الاعتقاد بربوبيّة الله تعالى، وقد نهوا عن الاعتقاد بربوبيّة الآلهة المتعددين.

 

"لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ": تعلن هذه العبارة من الآية عن نزاهة الله عز وجل من الشرك. والربّ في اللغة من مادة "ربو" أو "ربب"[2]. والربّ هو الذي يتولّى إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدّ التمام. وتأتي هذه الكلمة في معنى صاحب وحاكم. ويذكر الراغب الأصفهانيّ أنّ كلمة ربّ لا تقال على الإطلاق من دون تقييد إلا لله تعالى، المتكفّل بمصلحة الموجودات. ولكن مع إضافتها إلى كلمة أخرى يصحّ استعمالها في حقّ غيره تعالى، فيقال ربّ العالمين، كما يُقال ربّ البيت.

 

وخلق الله العالمَ ليس على نحو أن يكون الله قد خلق العالمَ ثمّ بعد ذلك تركه وأعرض عنه؛ بل هو عزّ وجلّ يدبّر الوجود ويرعاه حالًا فحالًا. وكما يحصل الأمر على هذا النحو في عالم التكوين، كذلك يحصل في عالم التشريع. فلو اعتقد شخصٌ بأنّ أحدًا غيرَ الله يدير أمورَه في عالم التكوين، أو أنّ أحدًا له هذا المنصب وهذه الصلاحيّة في عالم التشريع، يكون قد اعتقد بربوبيّة غير الله تعالى، وتنطبق عليه هذه الإدانة المستفادة من الآية الشريفة.


 


[1] انظر: الآية نفسها.

[2] مفردات ألفاظ القرآن، ص 337.

 

 

200


162

تفسير سورة براءة

التلازم بين الربوبية والألوهية

تُستخدم في القرآن الكريم كلمتان للتعبير عن الله تعالى، إحداهما "ربّ" والأخرى "إله". فالربّ هو المربّي الذي يتولّى إنشاء الشيء حالًا فحالًا، كما مرّ آنفًا نقلًا عن الراغب الأصفهانيّ، وربّما يُظنّ أنّ مفهوم الربوبية لا صلة مباشرة له بالعبادة. أمّا كلمة "إله" فهي تفيد معنًى آخر، وقد اختُلف في المادة التي اشتُقَّت منها هذه الكلمة، ومهما يكن مصدر الاشتقاق فإنّ هذه الكلمة تعني "المحبوب". والإله: "جعلوه اسمًا لكلّ معبودٍ".

 

وبناءً عليه عندما يُنظر إلى هاتين الكلمتين يُلاحظ ولو أوليًّا، الاختلافُ بينهما في الدلالة. فقد يكون الموجود ربًّا، ولا يكون إلهًا، أو يكون إلهًا ولا يكون ربًّا؛ أي يكون مربّيًا ومشرِّعًا وآمرًا وناهيًا ولا يكون معبودًا. نعم هذان المعنيان يبدوان مختلفين؛ ولكن في الخارج وفي واقع الحال ليس بينهما اختلافٌ، فكلّ من يُتّخَذ ربًّا للمجتمع فقد عُبِد، وكلّ من يُعبد فقد جُعِل ربًّا. وعليه نحن ندّعي أنّ معنى العبادة والحبّ متضمّنٌ في معنى الربوبيّة والعكس صحيحٌ. وعليه عندما تُفسّر الألوهية بالعبادة، فإنّ بينها وبين الربوبيّة اتّحادًا. وعندما تُفسِّر الربوبية بالطاعة والأمر والنهي، فإنّ هذا المعنى يتضمّن نوعًا من العبادة أيضًا.

 

يقول تعالى في القرآن على لسان موسى عليه السلام: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[1]، ففي هذه الآية يشير موسى عليه السلام إلى إنعام الله عليه بأن جعل بني إسرائيل عبيدًا مطيعين له تعالى. فقد استُخدِمت العبادة للدلالة على معنى العبادة. وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا"[2]. ولا تعني هذه الكلمة لا تعبدْ غير الله ولا تقدِّسْه؛ بل تعني لا تطع غيره تعالى، وهذا ما كان يفهمه المؤمنون في صدر الإسلام من هذه الحكمة العلويّة.


 


[1] سورة الشعراء: الآية 22.

[2] نهج البلاغة، الكتاب 31.

 

201


163

تفسير سورة براءة

ومهما يكن من أمرٍ فإذا لم نستطع إثبات وحدة المعنى بين العبادة (الألوهية) والطاعة (الربوبية)، فإنّنا ندّعي التداخل بينهما واشتراكهما في الحدود، وفي كثير من الدلالات التي تتضمّنها كلّ واحدة من الكلمتين.

 

ويُستنبط من هذه الآية أنّ أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، وهذا المعنى المشار إليه في الآية هو العبادة التي يشار إليها عندما يكون الحديث عن الألوهيّة. وبالتالي تفيد الآية أنّ الله أمرهم بحصر العبادة به تعالى وحده؛ ولكنّهم تجاوزوا الحدّ وعمّموا العبادة لتشمل الأحبار والرهبان والمسيح بن مريم عليهما السلام.

 

العبودية المذمومة في القرآن

ما هي العبادة التي يذمّها القرآن وينهى عنها؟ هل عبادة أهل الكتاب لأحبارهم ورهبانهم، غير جائزة ومنهيٌّ عنها؟ ظاهر الآية يفيد هذا المعنى بوضوحٍ. هل كان يجوز لليهود والنصارى استفتاء أحبارهم ورهبانهم في أمور دينهم، والعمل بما يفتون؟ إذا كان يحرم عليهم ذلك فمن أين يأخذ هؤلاء تعاليم دينهم؟

 

ينبغي أن يُقال في الجواب عن هذه الأسئلة: إذا كان شخصٌ مّا متخصّصًا في مجال معيّنٍ، لا مشكلة في الرجوع إليه والعمل برأيه، وبالتالي لا مشكلة في الرجوع إلى الأحبار والرهبان للتعرّف إلى تعاليم الدين من التوراة والإنجيل. وأما طاعتهم في ما يكون مخالفًا لحكم الكتابين فهي غير جائزةٍ، وهي شكلٌ من أشكال العبادة المذمومة التي يذمّها الله تعالى، بحسب هذه الآية.

 

202

 


164

تفسير سورة براءة

بحثٌ روائيٌّ

1- "عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك! قال: فطرحته، ثمّ انتهيتُ إليه، وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾، حتى فرغ منها، فقلتُ له: إنّا لسنا نعبُدهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلّ الله فتحرِّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال: فقلت بلى. قال: فتلك عبادتهم"[1].

 

2- "عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عز وجل عن قول الله عز وجل: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾؟ فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم؛ ولكن أحلُّوا حرامًا، وحرّموا حلالًا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون"[2].

 

3- "عن علي بن محمّد عن ابن أبي عمير عن رجلٍ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أطاع رجلًا في معصية الله فقد عبده"[3].

 

4- "عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ قال: أما والله ما صاموا لهم ولا صلّوا؛ ولكنّهم أحلّوا حرامًا وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم"[4].

 

5- "عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾، أما المسيح فعصوه[5] وعظّموه في أنفسهم حتّى زعموا أنّه إله وأنّه ابن الله، وطائفة منهم قالوا:


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 43.

[2] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209.

[3] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209.

[4] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209.

[5] ورد في بعض المصادر "فبعضٌ" بدل "فعصوه". انظر: الميزان في تفسير القرآن، عند تفسيره هذه الآيات. وهو ينقل هذا الحديث عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.

 

203


165

تفسير سورة براءة

ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا: هو الله، وأما أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوا وأخذوا بقولهم واتّبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أربابًا بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم وعصوا الله ورسوله. وإنما ذُكِر هذا في كتابنا لكي نتّعظ بهم، فعيّر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بما صنعوا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾"[1].

 

 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209-210.

 

204


166

تفسير سورة براءة

 

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿32﴾ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿33﴾

 

 

205


167

تفسير سورة براءة

موقف أعداء الدين وبرنامجهم

ورد مضمون هاتين الآيتين في الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الصف، مع اختلاف ضئيلٍ في العبارة؛ حيث يقول تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾. والعنصر المشترك بين الموردين هو الحديث عن السعي لإطفاء نور الدين الإلهيّ، بعد الإشارة إلى أهل الكتاب. وثمّة روايات وردت في تفسير هذه الآيات تبيّن أنّ المقصود منها هو أهل الكتاب[1].

 

مفاد هاتين الآيتين هو بيان موقف الإسلام من أعدائه من سائر الأديان، وبيان برامج أعداء الإسلام ومخطّطاتهم تجاهه، سواء في عصر صدر الإسلام وبداية ظهوره، أم في العصور اللاحقة. كما تبيّن هاتان الآيتان الحالة الطبيعية والقهرية للدين.

 

وتصنّف هاتان الآيتان الناس إلى صنفين تجعل أحدهما في مقابل الآخر، وترسمان صورة الطرفين في ذهن المستمع، وتقيمان نوعًا من الموازنة بين الطرفين مخبرةً عن الطرف الذي سوف تكون له الغلبة في نهاية المطاف.

 

تشبّه الآية الأولى دين الله بالشعلة الوهّاجة الدائمة التي تزداد ألقًا وإشراقًا كلّ لحظة، وسنةً بعد سنةٍ، وتشبّه محاولة الأعداء مواجهة هذه الشعلة بمن يحاول إطفاء هذا النور، ولا يملك لذلك إلا وسيلة العاجز وأداته، وهي النفخ عليها بفمه لعلّه يستطيع إطفاءها، ولكنّه يعجز عن


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209-213.

 

207


168

تفسير سورة براءة

ذلك ولا يكون له ما يريد. وهذا المعنى الأخير يُستفاد من قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.

 

تحقير الكفّار

تخبر هذه الآية عن الطريقة التي يعتمدها أعداء الدين لمواجهته، وهي طريقة النفخ بالفم. وهذا الأسلوب في التعبير من عجائب التعبير وبليغه، في الدلالة على العجز والحقارة؛ وذلك أنّ النفخ يمكنه أن يطفئ النور أو النار الضعيفة الواهية، أمّا النور القويّ فلا يمكن أن يؤثّر فيه النفخ.

 

أضف إلى ذلك أنّ العرب لا يعبّرون بالإطفاء عن محاولة إخماد النار بوسيلة كبيرة. وهذا أيضًا تعبير يفيد التصغير والتضعيف. وهو شبيه بقولنا: فلانٌ يضرب الجبل بيده الضعيفة الحقيرة! وهذا التعبير يدلّ بطريقة بليغة على التصغير. وكأنّ الآية تفيد هذا المعنى: إنّ هؤلاء المساكين يحاولون إطفاء نور الإسلام على عظمته وقوّة نوره بالنفخ عليه بأفواههم.

فشل مؤامرات الأعداء في إطفاء شعلة الدين

 

"وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ": بلى إنّ الله لا يرضى لدينه ونور دينه إلا أن يتمّ ويكتمل. في آية سورة الصف يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ وفي هذه الآية يقول عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (فالجملة هناك اسمية وهنا فعليّة). والنور في الحالتين منسوبٌ إليه سبحانه. وهذا السراج المنير أشعله الله خالق الكون، وهو الذي يتولّى زيادة نوره وشعلته، ويرعى انتشاره وكماله بعنايته ولطفه. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فماذا يمكن أن يؤثّر نفخ العاجز في هذا النور؟!

 

"وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ": إنّ نور الله سيبقى مضيئًا حتى لو كره الكافرون له ذلك. والكفر في اللغة هو التغطية. ومن هنا، يُسمّى المزارع في اللغة بالكافر؛ لأنّه يغطّي الحبّ بالتراب عند زراعته. والكافر يفعل الشيء نفسه

 

208


169

تفسير سورة براءة

تجاه الدين؛ حيث يحاول تغطيته وحجب نور الله. وفي مقابل تغطية الكفّار وعلى خلاف ميلهم يريد الله لنوره أن يتمّ ويشرق على الأرض كلّها، من دون أن يستطيع هؤلاء إطفاء هذا النور أو حجبه.

 

وخلاصة الكلام: أنّ الآية تقول إنّ الله عزّ وجلّ يريد لهذا الدين ولهذا النور أن يكتمل بالاستناد إلى القانون القهريّ الطبيعيّ، ولهذا الدين أن يتكامل ويتمّ. وهذا التكامل لا بدّ من فهمه.

 

تكشف هذه الآية عن أنّ الدين في حالة تكامل، وهو يسير نحو التمام والكمال. وجذور الدين أشبه بالشجرة التي تنمو في أعماق أرواح الناس وتنتشر فروعها وأغصانها في أرجاء الدنيا. وحقيقة كلّ الأديان السماوية على هذا النحو، أي إنّها تبدأ بالتكامل والتطوّر من اليوم الأوّل لظهورها بإرادة الله تعالى، وهذه القاعدة تشمل جميع الأديان، ومنها الديانة المسيحيّة. والإسلام أيضًا بدأ بعدد قليل من الأشخاص كانوا ثلاثة أشخاصٍ، ثمّ بدأ هذا الدين ينتشر وتتسع دائرة انتشاره، وأخذت جذوره تتعمّق، ولا ترضى الإرادة الإلهية لدينه تعالى أن لا ينمو ويتطوّر.

 

علّة معارضة الدين عبر التاريخ

والأمر الجدير بالالتفات إليه والتعلّم منه، هو أنّه عندما يُطرح مشروعٌ إصلاحيٌّ جادٌّ في المجتمع، ترتفع الأصوات المناهضة له وتشرئبّ الأعناق لمواجهته. وهذه المخالفات ومحاولات الإعاقة لها أشكالٌ مختلفة، وتظهر بصورٍ عدّة.

 

في عصر الإسلام تولّى اليهود والنصارى إعاقة تطوّر الإسلام، ففي البدايات دفعهم حبّ الرئاسة إلى تحريف البشائر بالنبيّ الآتي التي تتضمّنها كتبهم، وذلك بهدف تضليل الناس ومنعهم من التعرّف إليه، من خلال تطبيق العلامات المذكورة له في تلك الكتب.

 

والشكل الثاني لهذه المحاولات هو إثارة الشبهات في أذهان المسلمين

 

209

 


170

تفسير سورة براءة

والمسيحيّين والتعريف بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بطريقة خاطئة. والشكل الثالث هو الدخول في المواجهات الحربية مع الإسلام في معارك عدّة كمعركة بني قريظة[1]، وبني قينقاع[2]، وبني النضير[3]، إلى المعركة مع الروم في مؤتة[4] وتبوك[5]، والطرف الثاني في هذه المعارك هم أهل الكتاب.

 

التشجيع في زمن غربة الإسلام

ماذا كان يعني الإسلام بحسب النظرة الظاهرية إلى الأمور في عهده الأوّل؟ الإسلام كان بضع كلمات، نزل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الجبل [غار حراء] فأعلن عن بطلان هذه الآلهة المخترعة، بطلان عبادة الأصنام، وبطلان

 


[1] غزوة بني قريظة هي المعركة الأخيرة التي خاضها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مع اليهود، وقد وقعت في السنة الخامسة للهجرة، بعد أن نقض بنو قريظة عهدهم وتحالفوا مع المشركين في معركة الخندق.

[2] بنو قينقاع هم قبيلة من اليهود كانت تسكن المدينة في عصر صدر الإسلام. وقد دخلوا وقتها في معاهدة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكنّهم ما لبثوا أن نقضوا عهدهم، ما اقتضى الدخول في الحرب معهم ومحاصرتهم إلى أن استسسلموا.

[3] بنو النضير من اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة في السنوات الأولى للهجرة. تعاهدوا مع المسلمين على الدفاع عن المدينة في حال تعرّضها للهجوم من المشركين، ولكنّهم نقضوا العهد، فأجلاهم المسلمون عن المدينة.

[4] من أكبر السرايا في تاريخ صدر الإسلام، وقد شكّلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثامنة للهجرة، لتخوض الحرب مع جيش الروم. وقد وقعت هذه المعركة إثر مقتل مبعوث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على يد حاكم مؤتة. وتعاقب على قيادة جيش المسلمين ثلاثة من صحابة النبيّ هم: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، استشهدوا جميعًا، ولمّا رأى المسلمون مقتل قادتهم، وقلّة عديدهم بالقياس إلى عديد الروم، انسحبوا بقيادة خالد بن الوليد وعادوا إلى المدينة.

[5] غزوة تبوك هي آخر الحروب التي خاضها المسلمون في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد وقعت في رجب وشعبان في السنة التاسعة للهجرة، في منطقة تبوك (وهي في الأردن الحالي) والهدف من هذه الحرب هو مواجهة التحرّكات العسكرية للروم على ثغور المسلمين. في تلك المعركة عزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على التحرّك إلى تبوك؛ ولكنّ بعض الصحابة عارضوا هذا الحراك وامتنعوا عن الخروج مع العسكر، وكان للمنافقين دورٌ كبيرٌ في تثبيط المسلمين. ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصرّ على الخروج فخرج المسلمون ومكثوا أيّامًا في تبوك ثم عادوا من دون الدخول في مواجهة مع الروم.

 

 

210


171

تفسير سورة براءة

اختراعها وتقديسها. وأعلن وجوب الإيمان بالله الواحد، والامتناع عن تقديم القرابين للأصنام وتقديمها لله وحده، وحصر الطاعة به عزّ وجلّ.

 

عندما طرح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكلام تشكّل سيلٌ من ردود الأفعال المعارضة له. هذا ولكنّ كلّ من نهض بالمعارضة نال جزاءه عاجلًا أم آجلًا. فالجميع حصلوا على ما يستحقّون، واتسع نطاق الإسلام على خلاف ميل المعارضين وعلى عكس إرادتهم؛ وذلك بسبب واقعيّة كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبسبب الدعم الإلهيّ له. وكم تحمّل صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى، فقد عانى من الغربة وقتل الأقارب، نُفي وحوصر ثلاث سنوات، وأخرج من بلده وتعرّض للضرب، اضطرّوه إلى الهجرة من وطنه إلى المدينة، لم تسمع القبائل العربية كلامه ولم تصغِ إلى صوته. أصرّ مع عدد قليل من المؤمنين به على الدعوة إلى الإسلام مدّة ثلاث عشرة سنة. وبعدها استطاع تأسيس دولة صغيرة في يثرب، ومن اليوم الأوّل تعرّضت حركته لمحاولات التخريب والإضعاف على يد المنافقين واليهود، وحاول الأعداء الداخليّون والخارجيّون إعاقة انتشار الإسلام والحيلولة دون توسّعه، وبعد سبع سنوات من الجهاد والتواصل مع القبائل التي دخلت في الإسلام أو لم تدخل نزلت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها.

 

الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات كان وقتًا صعبًا على الإسلام؛ حيث كان في أول مراحل انتشاره، وكان يتعرّض للمقاومة والرفض ومحاولات التخريب، بدءًا من الإعاقة إلى تحريف التوراة الدالّة على نبوّته، وإلى الحروب مع الروم. ثم ما هي طبيعة البيئة التي كان الإسلام ينشط فيها؟ كانت البيئة الحاضنة لهذا الدين نقطة صغيرة في زاوية صغيرة في الجزيرة العربية. وشتّان ما بين هذه الدولة المتواضعة والدول والإمبراطوريّات العظيمة التي كانت تنافسه!

 

تشبّه هذه الآية تلك السنوات الثلاث عشرة، وتلك الدولة المتواضعة التي تتعرّض للهجوم من كل ناحية، تشبّهها بالنور المتصل بالله تعالى، وما

 

211


172

تفسير سورة براءة

يتصل بالله لا نفاد له. وكل القوى المعارضة لا تتجاوز حدود أن تكون نفخًا في مواجهة هذا النور. ولتكن أكثر من نفخة، فلتكن إعصارًا، فهل يضير الإعصار الشمسَ أو يستطيع إطفاء نورها؟!

 

هذا التشبيه المشحون بالمعنى يعلّمنا أنّ الدين وكلمة الحقّ ثابتة، تنبع من أعماق الفطرة الإنسانيّة، والشجرة التي تضرب جذورها في أعماق الأرض لا يمكن أن تجفّ. وكلّ مخالفات البشر سوف تؤول إلى الزوال، فالإنسان نفسه فانٍ وأعماله المعارضة للحقّ تخضع لمبدأ الفناء والزوال نفسه. وأهمّ دواعي الفشل في معارضة الحقّ أنّ هذه المعارضة تحاول أن تعاكس قوانين الخلق، وما يعارض قوانين الخلق لا يمكن أن يستمرّ: "لا تستوحشوا في طريق الحقّ لقلّة أهله"[1]، و"للباطل جولة وللحق دولة"[2]، نعم طريق الباطل روّاده كثر؛ ولكنّ الحق ينتصر في نهاية المطاف. وعلى أتباع الحقّ والسائرين في دروبه أن يعلموا بأنّ كل المحاولات الهادفة إلى منع الحقّ من الانتشار سوف تفشل.

 

"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ": هذا الحقّ الذي أرسل الله رسوله به هو الإسلام وما يحتويه من شرائع وأحكام وإخبارات عن العقاب والثواب، وكل ما سوى الدين المرسل من الله باطلٌ بعيد عن الحقّ يستحقّ أتباعه العذاب.

 

"لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ": أي ليعلي دين الإسلام على جميع الأديان بالحجّة والغلبة والقهر لها، حتى لا يبقى على وجه الأرض دينٌ إلا مغلوبًا، ولا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجّة، وهم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجّة[3]...


 


[1] نهج البلاغة، الخطبة 201.

[2] عيون الحكم، ص 403.

[3] مجمع البيان، ج 5، ص 38.

 

 

212


173

تفسير سورة براءة

معنى غلبة الإسلام الأديانَ وزمان هذه الغلبة

مفاد هذه الآية عميقٌ ومؤثّرٌ في معرفة الدين وأحكامه. قد تقولون: إذا كان الله يريد لدينه الغلبة والتفوّق على سائر الأديان، فلماذا لم يحصل هذا الأمر حتى هذه اللحظة؟ فعلى الرغم من السعي في نشر الإسلام، ومع ذلك بقيت سائر الأديان حتى عصرنا هذا؛ بل إنّ الإسلام دخل إلى بعض البلاد ثمّ استؤصل وأُخرِج منها كما حصل في الأندلس، وغيرها من المناطق في بلاد أفريقيا حيث بعض المسلمين متأثّرون إلى درجة كبيرة بالمسيحيّة والمسيحيّين.

 

وقد تقولون أيضًا: إنّ هذه الغلبة المقدّرة مؤجّلة إلى آخر الزمان، في عهد دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإذا كان الأمر كهذا، فلماذا هذه المسافة الزمانية الطويلة التي تفصل بين ظهور الإسلام وانتشاره وغلبته في آخر الزمان؟

 

في الجواب عن هذه الأسئلة ينبغي أن نقول: إنّ الله أرسل رسوله بهذا الدين وزوّده بالحجج والبراهين التي تمكّنه من التغلّب على سائر الأديان، وبهذه الحجج والبرامج تزول كلّ الألوان وتبهت ويبقى لون دين الله ثابتًا لا يتغيّر.

 

والآن نسأل: ما هو الدين؟ الدين هو "مجموعة التعاليم التي يدير الناس حياتهم وفقها"، شكل الحياة يُسمّى دينًا وشريعة. والدين والشريعة لهما معنى واحد، فحتّى أولئك الذين يعيشون في مجاهل الأمازون يخضعون في حياتهم لمجموعة من التعاليم التي يمكن تسميتها بالدين.

 

هذا والدين الصادر عن الله هو "دينٌ إلهيٌّ"، والدين الذي اخترعه الناس ولم يستندوا فيه إلى الله هو "دينٌ بشريٌّ"، وإذا كان صادرًا عن الطاغوت فهو "دينٌ طاغوتيٌّ"، وبناءً على هذا الفهم لمصطلح الدين لا يمكن العثور على جماعة بشريّة من دون دينٍ.

 

وقد أتى الدين الإلهيّ لتحرير الناس من ألوان التديّن التي يخضعون

 

 

213

 


174

تفسير سورة براءة

لها، ليحصروا الخضوع والطاعة بهذا الدين الإلهيّ الجديد. وحاصل دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي: اتركوا أنماط الحياة التي تعيشونها، وألقوا تقاليدكم القديمة جانبًا، وأحلّوا هذا البرنامج الجديد للحياة محلّ تلك البرامج القديمة.

 

وكلّ كلامٍ جديدٍ قاله الإسلام يهدف إلى تغيير القوالب التي كان الناس يصوغون حياتهم على أساسها، وإعادة صياغة حياتهم من جديد على ضوء القالب الجديد الذي أتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه هي القاعدة في الأديان الإلهيّة، كلّ دينٍ جديد يأتي يدعو الناس إلى إعادة برمجة أمورهم على ضوئه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾.

 

الدين البشريّ والطاغوتيّ لا دوام لهما. أمّا دين الحقّ فإنّه يتطابق مع طبائع بني آدم وطبيعة العالَم، وهذا الدين هو الذي من شأنه البقاء والدوام، وإذا قبله الناس يمكنه إدارة حياتهم بالطريقة المثلى وبأحسن الوجوه. وهذا هو الفرق بين الحقّ والباطل.

 

والمجتمع المتديّن هو المجتمع الذي يحكم فيه الدين حياة الناس، ويمثّل برنامجًا لها. فعندما يكون الدين برنامجًا للحياة يمكن أن نصف المجتمع بأنّه متديّنٌ. يجب علينا أن نعرف دين الحقّ، لنميّز المشرك عن غير المشرك، فالحقّ مصدره الله وحده، والبرنامج هو البرنامج الإلهيّ فحسب. وعليه فإنّ من يتّبع دين الحقّ هو الموحّد الحقيقيّ، أمّا من يميل أو يرغب في إدارة حياته وفق الأهواء والرغبات الجامحة، فهو مشركٌ. من يعارض الدين مشركٌ. فقد بعث الله الأنبياء بالأديان لتحلّ محل سائر أنماط الحياة وأشكالها. وهذه الآية تثير في النفوس الاطمئنان والأمل بمستقبل البشريّة.

 

 

214

 

 


175

تفسير سورة براءة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾

 

 

215


176

تفسير سورة براءة

منهج الإسلام في بيان الأحكام

أشرنا أكثر من مرّة إلى أنّ من منهج الإسلام في بيان المواقف والأحكام، أن يهتمَّ ببيان سبب الحكم أو الموقف قبل الإعلان عنه أو بعده، وهذا يمهّد السبيل لتطبيق هذا الموقف أو الحكم في الواقع الاجتماعيّ. فالقاعدة المعتمدة في بيان الأحكام في الإسلام هي أن يُعمَل أوّلًا على تأسيس الأرضية المساعدة للحكم، ثم بعد ذلك يُبيَّن الوجهُ والمبرّرُ الذي يدعو إلى تشريع الحكم أو اتّخاذ الموقف، وبعد هذين الأمرين أو قبلهما يُعلن عن التشريع ويصدُر الحكم، وهذا يساعد الناس على تعميق إيمانهم بهذا التشريع، ويسهِّل عليهم الالتزام به وتطبيقه في حياتهم الاجتماعيّة.

 

وقد جرى القرآن الكريم على هذه القاعدة في آيات الجهاد والقتال. فقد بيّن الله تعالى حكم القتال مع أهل الكتاب، ثمّ بيّن العلّة التي دعت إلى هذا التشريع، والعلّةُ هي بُعْدُ هؤلاء عن الدين السماويّ وانحرافهم عنه، حتّى لو كانوا يدّعون الانتساب إلى الدين السماويّ والانتماء إليه.

 

في الآية الرابعة والثلاثين حدّثنا الله عن الرهبان والأحبار وموقفِهم في مواجهة الإسلام، وذلك أنّهم أوّلُ من شهر العداء للإسلام بين أهل الكتاب، بالنظر إلى تولّيهم الأمور الدينيّة في مجتمع الكتابيّين. ومن هنا، تصدّى القرآن لهم أوّلًا، وأعلن الموقفَ منهم قبل غيرهم من الناس.

 

وفي هاتين الآيتين أيضًا يتصدّى القرآن للحديث عن ثلاث فئات اجتماعيّة هي: الأحبار والرهبان وأصحاب الثروة المترفون. ويبيّن لنا دورهم في المجتمع، وبرنامجهم العملي والاجتماعيّ، وموقفهم من الإسلام.

 

 

217


177

تفسير سورة براءة

كلمتا الأحبار والرهبان كلمتان قصيرتان؛ ولكنّهما تتضمّنان الكثيرَ من المعاني التي تستحقّ التأمّل والنظر، والأثرياء هم فئةٌ اجتماعيةٌ لها دورٌ جديرٌ بالبيان والتوضيح، خاصّة في ما يرتبط بموقفها من الإسلام. وفي هذه الآية يبيّن لنا الله تعالى عقاب هؤلاء الأفراد في الآخرة.

 

في القسم الأوّل من الآية يخاطب الله أهلَ الإيمان ويبيّن لهم أنّ كثيرًا من الأحبار والرهبان يتورّطون بأكل أموال الناس بطرقٍ غير مشروعةٍ، ويجعلون من أنفسهم وتصرّفاتهم العملية سدودًا تحول بين الناس والإيمان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾.

 

وفي القسم الثاني من الآية يحدّثناعز وجل عن الأثرياء الذين يراكمون الذهب والفضة ويمتنعون عن إنفاقها في سبيل الله، ويهدّدهم بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم يوم القيامة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وقد ينطبق هذا القسم من الآية على الأحبار والرهبان؛ إذ إنّ بعضَهم، بالنظر إلى تجارته بالدين والقضايا الدينية، يدخلُ في طبقة الأثرياء وأصحاب الكنوز وينطبق عليه حكمهم.

 

والاختلاف بين هاتين الفئتين، أي فئة رجال الدين وفئة الأثرياء في موقفهم من الإسلام، هو في العنوان. فالأحبار والرهبان وقفوا في وجه الإسلام بسبب حبّهم للرئاسة، والأغنياء دفعتهم ثرواتهم إلى هذه المواجهة.

 

الآية وعدم تعميم الأحكام السلبية

ينبغي التوقّف عند نقاطٍ مهمّة، لفهم الآية ولتوضيح بعض المسائل الاجتماعيّة. ومن هذه النقاط المرتبطة بالآية أنّها تتحدّث عن كثيرٍ من الأحبار والرهبان، وكأنّ الله عز وجل يريد أن يبيّن لنا أنّ هذه الصفة ليست جزءًا من طبيعة هذه الفئة الاجتماعيّة؛ بحيث تكون الدوافع الاقتصادية وطلب

 

218

 


178

تفسير سورة براءة

الرئاسة سببًا يدعو جميع الأحبار والرهبان إلى مواجهة الإسلام، والوقوف في وجهه. وهذا من اللطف الإلهيّ حيث إنّه تعالى لم يعمّم هذا الحكم على جميع أفراد هذه الجماعة البشريّة؛ بل اعترف سبحانه لبعض الأفراد بالصلاح والاستعداد لتلبية نداء الإسلام. وهذا ما حصل في التاريخ الإسلاميّ المبكِّر عندما اعتنق "عبد الله بن سلام"[1] الإسلامَ ودعا قومَه إليه ودخل بدعوته عددٌ منهم في الإسلام. ومهما يكن من أمرٍ فإنّ هذه الآية تعلِّمنا عدم تعميم الأحكام السلبية من أفراد جماعة من الجماعات مهما كانوا كثيرين، إلى جميع الأفراد مهما قلّ عدد المختلفين عن الأكثريّة.

 

تحريم التكسّب بالطرق غير المشروعة

المطلب الثاني في الآية هو النهي عن "أكل المال بالباطل"، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه في الإسلام عمومًا وفي هذه الآية بشدّة. وأكل المال بالباطل، هو اكتساب المال من الطرق غير المشروعة، مثل الاسترباح بالقمار والسرقة، أو تقاضي المال على إضلال الناس عن الحقّ، أو الإضرار بالناس بجرحهم أو قتلهم وتقاضي المال على ذلك. وهذه الطرق جميعًا تعدّ في منظومة الكسب الإسلاميّة أكلًا للمال بالباطل؛ لأنّ جميع هذه الوسائل طرقٌ غيرُ صحيحةٍ ومحرّمةٌ.

 

طريقة الأحبار والرهبان في "أكل المال بالباطل"

ما هي وسائل هؤلاء الأحبار والرهبان لتحصيل المال واكتسابه؟ يذكر بعض المفسِّرين أنّ العناوين التي يحصل بها بعض الأحبارِ والرهبانِ على المال متعدّدة، منها الهدية والرشوة على القضاء؛ بحيث يأخذون من أحد الطرفين


 


[1] عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، كنيته أبو يوسف، وكان من كبار أحبار اليهود من بني القينقاع. ويُقال إنّه من أحفاد النبيّ يوسف عليه السلام، ويعدّ واحدًا من علماء اليهود. وقد كان له موقف معادٍ لأمير المؤمنين عليه السلام، ويذكر في تاريخ حياته امتناعه عن بيعة الإمام عليّ بعد مقتل عثمان.

 

219


179

تفسير سورة براءة

ليحكموا لمصلحته، ومن هذه الوسائل أخذ المال لتبديل بعض الأحكام[1].

 

ومن الواضح أنّ تغيير الأحكام من بعض هؤلاء لم يكن يحصل بطريقةٍ مباشرةٍ؛ بحيث يأخذون المال فيصدرون حكمًا مخالفًا للحكم الحقيقيّ، فيقولون مثلًا: لا صلاة في الدين أو لا صيام؛ بل كثيرًا ما كانوا يمهّدون الأرضية بتلبيس الحقّ على أهله وإعطاء الحرام صفةَ الحلال بعد ذلك. وتصويره بصورة الحكم الشرعيّ.

 

وقد كان لبعض هؤلاء حسابٌ مفتوحٌ مع الأثرياء والمترفين في مقابل تبديل الأحكام وفق مصالحهم. ومن النماذج في التاريخ الفقهيّ الإسلاميّ "القاضي أبو يوسف"[2]، فقد كان هذا الفقيه يفتح الأبواب المغلقة لهارون الرشيد ليبرّر له العلاقة ببعض النساء اللواتي يعشقهنّ. وقد ولّاه هارون الرشيد القضاء، لِمَا رأى من استعداده وقدرته على إلباس الباطل لبوس الحقّ.

 

وأنا أدعوكم إلى فتحِ آفاق الآية والنظر إليها بهذه العين. فليست أبوابُ أكلِ المال بالباطل والحرام مقصورةً على القمار والربا والسرقة. فكلّ تناولٍ للمال بطريقةٍ غير مشروعةٍ هو أكلٌ للمال بالباطل، كالرشوة وغيرها. ولهذه الآية مصاديقُ واضحةٌ ولها مصاديقُ خفيّةٌ، ومن مصاديقها الواضحة العامل الذي يتقاضى أجرًا على عددٍ من الساعات بينما هو يعمل عددًا أقلّ من العدد المطلوب منه، أو الذي يتقاضى أجرًا على عملٍ بشرط الإتقان فلا يتقنه. ومن المصاديق أيضًا لو دُعي إلى تكريم الرياضيين فأدخَل أحد الأشخاص نفسه بينهم وهو ليس منهم لينال الجوائز المخصّصة لهم، هذا أيضًا أكل للمال بالباطل.


 


[1] انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 47.

[2] أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم الأنصاريّ، أحد الفقهاء الذين أسهموا في بناء الفقه الحنفيّ وتحويله إلى مذهبٍ. وُلِد سنة 113 للهجرة، ودرس على أبي حنيفة 17 سنة، وبعد وفاة أبي حنيفة سنة 150 للهجرة، كان يُنظر إليه على أنّه أحد أبرز تلامذته. وهو من الفقهاء الذين اشتغلوا بالسياسة، له دورٌ مهمٌّ في إضفاء المشروعية على تصرّفات الخلفاء العبّاسيين. تُوفِّي عام 182 للهجرة.

 

220


180

تفسير سورة براءة

والآن طبِّقوا هذه الأمثلة على الأحبار والرهبان واستنتِجوا منها. المثال الأوّل كان عن العامل الذي يتقاضى الأجر على عملٍ لم يعمله أو لم يتقنه، فإذا طبّقنا هذا المثال على الأحبار والرهبان، فإنّ المال الذي يتقاضونه على أعمالهم الدينيّة يكون حرامًا وأكلًا للمال بالباطل إذا كان الناس يسمعون ويطيعون، ولم يستغلّ هؤلاء الفرصة ولم يبيّنوا أحكام الله أو بدّلوا غيرها بها، وأكلوا المال على فعلهم هذا، فهذا المال يكون حرامًا كمال العامل الذي لا يعمل.

 

كما يمكن تطبيق المثال الثاني أيضًا على هذه الفئة الاجتماعيّة، فالناس عادةً يهتمّون بتكريم أهل العبادة والصلاح وأهل العلم والتقوى، ويرون أنّ لهم حقًّا عليهم. فإذا أخذوا ما يُعطى لهم بهذا العنوان ولم يكونوا أهلًا له، يكون تناول هذه الجوائز والهدايا أكلًا للمال بالباطل. فمن لا يكون عابدًا ولا من أهل المحراب والصلاة، ويوهم الناسَ بأنّه كذلك، ويأخذ ما يُقدّم إليه بهذا العنوان، يدخل في خانة الذين يأكلون المال بالباطل.

 

وبناءً على ما تقدّم كلّه، يتبيّن أنّ المال الحرام وأكل المال بالباطل ليس محصورًا في الرشوة والربا؛ بل له مصاديقُ كثيرةٌ ومتعدّدةٌ. وإذا راجعنا تاريخ اليهود والنصارى، نجد عددًا كبيرًا من هذه الحالات، في مرحلتي ما قبل الإسلام وما بعده. وقد فعلتْها الكنيسة عندما باعت الناسَ صكوكَ الغفران، أو الأراضي في جنان الخلد. والأمر نفسه ينطبق على حالات تبديل الأحكام للفتِ نظرِ الناس، أو عقد مجالس الرقص بهدف جذب الشباب وإعادتهم إلى الكنيسة[1].

 

على أيّ حال مثل هذه القضايا كثيرةٌ في تاريخ أهلِ الكتاب، وكلامُ القرآن عن هذه الحالات حقٌّ. فقد كانوا يأكلون أموال الناس بدعوى استحقاقها، ولهذا تعرّض لهم القرآن وأشار إلى فعلتهم هذه.


 


[1] الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 249.

 

 

221


181

تفسير سورة براءة

الصدّ عن سبيل الله عند بعض علماء أهل الكتاب

"وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ": تشير هذه العبارة إلى أنّ الأحبار والرهبان كانوا يصدّون عن سبيل الله، مضافًا إلى أكلهم أموال الناس بالباطل. يقول المفسِّرون إنّ الأحبار والرهبان كانوا يحولون بين الناس والإسلام، ويمنعونهم من اعتناقه. وهذا المعنى في حدّ نفسه مقبولٌ كتفسيرٍ للآية. وثمّة معنًى أفضل يمكن حمل العبارة عليه، وهو سدّ الطريق إلى الإيمان وإلى الله، وذلك أنّ المعنى الأوّل لا يشمل أمثال "أبي يوسف" و"شريح القاضي"[1]، فهؤلاء لم يمنعوا الناس من الإسلام، أمّا إذا فسّرنا العبارة بالمعنى الثاني، فإنّها تتّسع ليدخل في دائرتها أمثال من ذكرنا.

 

المعنى الصحيح لعبارة: "وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" هو المنع عن سبيل الله، وسبيلُ الله تارة يكون الإسلام وطورًا قد يكون ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقد يكون ثالثةً أعمال البرّ والخير ومساعدة الفقراء، وهؤلاء الأحبار كانوا يفعلون كلّ هذه الأمور.

 

ومن ينظر في تاريخ الكنيسة بعد الإسلام، يرى أنّ رجالها غالبًا ما كانوا يتصرّفون بطريقةٍ تفضي إلى الإضرار بضعفاء قومهم وتنفع أعداءهم. وقد رأوا أنّ الإسلام أتى بفكرٍ جديدٍ يهدف إلى سعادة الناس وعزّتهم، ويعمل على نجاتهم وحلّ الاختلافات الداخلية بينهم، وينقّي علاقاتهم مع الآخرين. فعندما رأوا هذا المنهج الفكريّ الجديد، أعاقوا انتشاره وحالوا بين أتباعهم وبينه، ومثل هذا العمل يصدر عن غيرهم من المسلمين أيضًا أمثال أبي يوسف.

 

[1] هو قاضي الكوفة المعروف في التاريخ الإسلاميّ. وهو شريح بن الحارث، يمنيّ الأصل، تولّى القضاء في عهد عمر بن الخطّاب، ومارسه مدّة ستين سنةً، ولم يترك القضاء إلّا ثلاث سنوات في عهد عبد الله بن الزبير، وفي عهد الحجّاج بن يوسف الثقفي تقاعد عن القضاء وصار جليس بيته، إلى أن توفِّي عام 97 أو 98 للهجرة. كما إنّه اشتغل في القضاء مدّة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام. وعندما ولّاه الإمام عليه السلام هذا المنصب اشترط عليه عدم بتّ الأحكام قبل عرضها عليه. وفي الكتاب الثالث من كتب الإمام في نهج البلاغة تأنيب له، على بعض ممارساته.

 

222


182

تفسير سورة براءة

ومن مصاديق الصدّ عن سبيل الله عند الأحبار والرهبان أنّهم كانوا يعمدون إلى أحكام التوراة فيحرّفونها، فيخفون ما كان فيها من حقٍّ. ومن ذلك أنّهم أخفوا دلائل نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، ولم يؤدّوا واجبهم في اتّباع الحقّ والدعوة إلى العمل به. ودافعهم إلى هذا العمل يدور أمره بين الغرض الشخصيّ والجهل.

 

الترابط بين "الأكل بالباطل" و"الصدّ عن سبيل الله"

من الأمور التي تسهِم في حسن فهمنا للآية، فهمُ مبرّر الربط بين أمرين يبدو كلّ منهما غير الآخر، وهذان الأمران هما: "الأكل بالباطل" و"الصدّ عن سبيل الله"، فبين هذين العملين ترابطٌ عِلّيٌّ؛ حيث إنّ أحدهما قد يكون علّةً للآخر وسببًا. وذلك أنّ أوّل هذين الأمرين قد يكون دافعًا وسببًا للثاني، فالأحبار والرهبان كانوا يصدّون عن سبيل الله لأسباب ماليّة واقتصاديّة. وتتابعُ الآية الحديثَ عن ظاهرة أخرى موجودة في المجتمعات اليهودية والمسيحية أو غيرها من المجتمعات، وهذه الظاهرة هي ظاهرة "الكنز".

 

معنى "الكنز"

"الكنز" في اللغة مصدرٌ يدلّ على تكديس الثروات ومراكمتها، كما يفيد إخفاءها عن عيون الناظرين أيضًا. وهذا المعنى متداولٌ في اللغة الفارسية كذلك. وقد كانت العادة، بحكم الظروف الاجتماعيّة، تقضي بأن يدفن الإنسان أمواله تحت الأرض ليحفظها من الأعداء، ويستخدمها وقت الحاجة. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا المعنى أي الدفن والتكديس ليس بالضرورة أن يكون مقصودًا في الاستعمال القرآنيّ لهذه الكلمة.

 

فالكنز بحسب الاستعمال القرآنيّ هو "جمع الثروة وعدم تسييلها في خدمة المجتمع". والقرينة الدالّة على هذا المعنى القرآنيّ هي عبارة: "وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ"، فهذه العبارة تفيد أنّ المشكلة ليست في جمع الثروة

 

 

223


183

تفسير سورة براءة

ولا في الدفن بما هو دفنٌ؛ بل في عدم إنفاقها في سبيل الله. وبعبارة أخرى: عدم جعلها في خدمة الناس، ولو كانت المشكلة في الكنز نفسه بمعنى الدفنِ والجمعِ، لما كان لقيد عدم الإنفاق حاجةٌ في التعبير عن المقصود.

 

العبارة المذكورة التي تشير إلى عدم الإنفاق في سبيل الله، تبيّن أنّ الغنيّ المذموم هو ذلك الشخص الذي لا يرى إلّا نفسه، ولا يستخدم ماله إلا في مصالحه الخاصّة، وهو الذي يصرف أمواله على شهواته وملذّاته، ولا يجعل للآخرين من ماله نصيبًا. أو ذلك الشخص الذي يبني القصور المنيفة وناطحات السحاب ويستثمر في التجارة من دون أن يلتفت إلى من حوله من الناس.

 

وعلى ضوء ما تقدّم يظهر أنّ الآية لا تذمّ من يدفن أمواله تحت الأرض فقط؛ بل تستوعب أولئك الذين يجمّدون أموالهم ولا يسيّلونها في خدمة المجتمع.

 

والمؤشِّر الآخر الذي يفيد هذا المعنى المتقدّم هو الآية الثانية التي تصوّر حال هذه الفئة الاجتماعيّة، حيث يُقال لهم يوم القيامة، هذا ما كنزتم لأنفسكم، أي ما ادّخرتم لأنفسكم وحرمتم سائر الناس من ثرواتكم.

 

المراد من "الذهب والفضّة"

ويتضمّن ذكر الذهب والفضّة إشارة أخلاقيّة ذُكِرت في كتب التفسير؛ ولكن لا بدّ من الالتفات إلى انطباق هذا الحكم المعلّق على الذهب والفضّة على النقد المتداول في زماننا. فقد كان الذهب والفضّة يؤدّيان دور النقد في هذا العصر. فعندما أدرك الناسُ حاجة بعضهم إلى بعضهم الآخر، اهتدوا إلى حاجتهم إلى تبادل السلع والخدمات، فكانوا في البدايات يبادلون سلعةً بسلعةٍ، ومن كان يحتاج إلى الزيت مثلًا وعنده من القمح ما يفيض عن حاجته، كان يعطي القمح ويأخذ في مقابله الزيت من جاره المستغني عن مقدار من زيته وهكذا.

 

 

224

 


184

تفسير سورة براءة

وواجهت الناسَ مشكلةُ غموض التقدير في مبادلة الأجناس، إلى أن اهتدى الإنسان إلى ضرورة استخدام معيارٍ لتقويم الأشياء والسلع، فصار الذهب والفضّة معيارين لتقويم السلع وتثمينها، لما يتمتّع به هذان المعدنان من ندرة وقدرة على الدوام. وهذا ما يؤدّيه النقد في هذا العصر؛ بعد أن أعرض الناسُ عن استخدام الذهب والفضّة لصعوبة حملهما وحمايتهما، واستبدلوا النقد الورقيّ بهما.

 

وعليه فإنّ الآية لا تتحدّث عن الذهب والفضّة بما هما معدنان؛ وإنّما ذُكِرا بالنظر إلى دورهما ووظيفتهما التي يؤدّيانها في العلاقات الاقتصاديّة بين الناس. فالآية تذكر الذهب والفضّة من هذه الناحية، وينطبق حكمهما على ما يحلّ محلّهما ويؤدّي دورهما في التعامل التجاريّ.

 

وقد كان الأحبار والرهبان في عصر صدر الإسلام محلّ ثقة الناس الذين كانوا يقدّمون لهم النذور والهدايا بالنظر إلى حسن ظنّهم فيهم، كما كانوا يستأمنونهم على أموالهم في بعض الحالات.

 

فضيلة الزهد بين المسلمين في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

كان الزهدُ يعدّ فضيلةً وقيمةً من القيم الأخلاقيّة في زمان بعثة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم. وكان بعض الأغنياء يفدون على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم مع ما كانوا يحملونه من طباعٍ قاسيةٍ، ومع ما هم عليه من غرور الصحراء وقسوتها؛ ولكنّهم عندما كانوا يخالطون النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويلاحظون بساطة عيشهم، كانوا يتأثّرون بنمط الحياة هذا، ويميلون إلى حياة الزهد وبساطة العيش.

 

تحوّل تكديس الذهب إلى فضيلة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

أظهر المسلمون في صدر الإسلام من الزهد ما يثير العجب والإعجاب، ولم يكن عامّة الناس يميلون إلى حياة الترف والتجمّل؛ ولكن بعد خوض المسلمين عددًا من الحروب وإصابتهم فيها الكثير من الغنائم، استطاع

 

225


185

تفسير سورة براءة

بعض الناس تسريب بعض هذه الثروات إلى جيوبهم؛ حتّى إنّ زيد بن ثابت خلّف وراءه بعد موته من الذهب والفضّة ما يُقطّع بالفؤوس[1]. وقد بدأ انحراف المسلمين عن منهجهم السابق منذ عهد الخليفة الثاني، ووصل إلى أوجه في عهد الخليفة الثالث عثمان. فقد أُخبِر عمرُ يومًا عمّا يفعله معاوية من جمع المال فقال: "هذا كسرى العرب"، وكان يُبرّر بعضَ سلوكه بمجاورته للروم واعتياد الناس على هذا النمط من العيش وكثرة الجواسيس في تلك البلاد[2].

 

وهذا الأسلوب في العيش غير مقبول في الإسلام، والإسلام لا يقرّ تقسيم المجتمع إلى طبقات تفصل بينها حواجز اجتماعيّة، وهو دينُ العدل والمساواة، فلا يقرّ الخليفةَ على مراعاة عادات الناس وتقاليدهم التي تدعو في بعض الحالات إلى التجمّل والترف. فعندما تمارس الطبقة الحاكمة مثل هذا السلوك يتحوّل إلى ميلٍ واتّجاهٍ عند الحاشية الذين يسعون إلى الاستئثار بما تصل إليه أيديهم من أموال. وبعد هذا التفصيل إذا تعاملنا مع عبارة: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" بحرفيّةٍ، فإنّ دائرتَها تضيق عن استيعاب ما راج بين المسلمين، ويقتصر مفادها على إدانة الأحبار والرهبان.

 

نظرة الإسلام إلى الثروة

بمناسبة السياق نرى من المناسب التوقّف قليلًا عند قضية المال والثروة لاكتشاف نظرة الإسلام إلى هذه القضية. فهل يوافق الإسلامُ الناسَ في نظرتهم إلى الأغنياء وأصحاب الثروات، وعلى إعطائهم القيمة بالنظر إلى ما يملكون من مالٍ؟

 

إنّ كثيرًا من الناس يحترمون أصحاب الأموال من أجل أموالهم، ويقدّمونهم بسبب ما يملكون من مالٍ، وهذا من الأخطاء الأخلاقية


 


[1] الغدير، ج 8، ص 284.

[2] انظر: سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 134.

 

 

226


186

تفسير سورة براءة

التي يقع فيها بعض الناس، والإسلام لا يقرّ الناس على هذا التقويم، وفي الرؤية الإسلاميّة أنّ الثروة يجب أن تجري في شرايين الاقتصاد الاجتماعيّ كما يسري الدم في جسد الإنسان ويصل إلى كلّ خلية من خلاياه. فالثروة أيضًا هي الدم الاجتماعي الذي يجب أن يصل إلى جميع أعضاء الاجتماع.

 

ويمكن تشبيه الثروة بالمائدة التي يجلس إليها مجموعة من الناس، فليس من الأدب ولا من الأخلاق في شيء أن لا يستطيع بعض الحاضرين الوصول إلى الأطعمة الموضوعة على المائدة المشتركة. فالإسلام في هذا المثال يقول عندما يمتلئ بطنك من الطعام لا يحقّ لك أن تبدأ بوضع الطعام في جيبك، وتدّخره إلى الغد. وممّا يكشف عن هذه الرؤية الإسلاميّة ما ورد في عدد من الروايات والأخبار ومن ذلك "المال مال الله"[1]، وهذه العبارة ليست مجرّد موعظة أو نصيحة أخلاقيّة، بل هي قاعدة قانونية حقوقيّة. طبعًا هذا لا يعني إلغاء حقوق أصحاب الثروات، بل يعني أنّ المال الموضوع على المائدة الإلهيّة يجب أن يصل إلى جميع البشر.

 

أساليب الإسلام للحدّ من تكديس الثروة

وهنا سؤال يستحقّ البحثَ عن جوابه، وهو ما هي الأساليب التي أقرّها الله تعالى للحدّ من تكدّس الثروات في يد عددٍ قليل من الناس؟ وما هي الإجراءات التي اعتمدها لتداول المال بين أيدي الناس جميعًا؟

 

أقرّ الإسلام عددًا من الإجراءات التي تحول دون الأمرِ الأوّل وتحقّق الأمر الثاني. ومن هذه الإجراءات منعه من تداول الثروة بطرقٍ غير مشروعة كالقمار والربا؛ لأنّ هذين البابين من أهمّ الأبواب لتراكم الثروة في أيدي عددٍ قليل من الناس، من دون أن يقوموا بنشاطٍ اقتصاديٍّ مجدٍ في المجتمع.

 

والطريق الثاني هو تشريع الزكاة وغيرها من الصدقات الواجبة، وإقرار


 


[1] وسائل الشيعة، ج 11، ص 500.

 

 

227


187

تفسير سورة براءة

الخمس والكفّارات، ما يؤدّي إلى الحيلولة دون تراكم الثروة وتضخّمها.

 

والطريق الثالث هو المفضي إلى نشر الثروات وتوزيعها إلى أيدي عددٍ من الناس بعد أن كانت في يدِ واحدٍ منهم، وذلك بتشريع أحكام الإرث التي تؤدّي إلى تقسيم أموال الميت على الورثة. وفي هذا إلفاتُ نظرٍ للإنسان ودعوة غير مباشرةٍ له إلى استخدام بعض ثروته في إعمار آخرته؛ ليؤمّن بها سعادته في تلك الدار.

 

والأمر الجدير بالعناية هو أنّه في حال الحاجة إلى ما يزيد عمّا ذُكر، على إدارة المجتمع الإسلاميّ أن تسعى إلى صرف المزيد على تحسين أوضاع الفقراء. وهذه النقطة هي واحدة من نقاط الاختلاف بين أبي ذرٍّ وعثمان.

 

وحاصل البحث في هذه القضية أنّ الإسلام يحدّد أساليب تحصيل المال كما يضع القواعد والقيود على طريقة التصرّف فيه بعد تحصيله.

 

بحث روائيُّ

يحضر منطقُ القرآن الذي بيّناه في ما تقدّم في عدد من الأخبار والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام. ومن ذلك الرواية التي تخبر أنّ الإنسان يُسأل يوم القيامة عن ماله من أين كسبه وأين أنفقه؟[1]

 

ومن ذلك أيضًا رواية تبيّن مناقشةً دارت بين أبي ذرٍّ من جهة، وعثمان وكعب الأحبار من جهة أخرى، يكشف فيها أبو ذرٍ عن أنّ الإنسان لا يُكتفى منه بأن يكسب المال من الحلال، ويؤدّي زكاته ويحتفظ بما بقي منه دون أن ينفقه في سبيل الله. وقد استشهد أبو ذرّ بهذه الآية لإثبات وجهة نظره هذه[2].


 


[1] انظر: الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 93، المجلس العاشر.

[2] سوف تُذكر هذه الرواية لاحقًا بنصّها الكامل.

 

228


188

تفسير سورة براءة

وقد بُذِلت مساعٍ كبيرة لصرف قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" عن هذا المعنى، أو حصر إدانته بأحبار أهل الكتاب ورهبانهم؛ في محاولة لتبرئة ساحة المسلمين الذين كانوا يكنزون الذهب والفضّة. ومن هذه المساعي محاولة إسقاط الواو في أوّل هذه العبارة؛ بحيث تكون العبارة اللاحقة للواو صفة للأحبار والرهبان دون غيرهم.

 

ومن المحاولات أيضًا، الربط الحصري بين هذه العبارة والزكاة، ومن هنا كان كعب الأحبار يقول على مسمع عثمان إذا أدّى الإنسان زكاته المفروضة فلا يضيره أن يبني بيته لبنةً من الذهب وأخرى من الفضّة. ولا شكّ في أنّ هذا التفسير كان مرغوبًا فيه من الطبقة الحاكمة في ذلك الزمان؛ ولكنّ أمثال أبي ذرّ كانوا يرفضون هذا التفسير، ويرون أنّ هذه العبارة تبيّن حكمًا خارج دائرة الزكاة المعروفة.

 

والأخبار تؤيّد وجهة النظر هذه. وفي واحد منها ورد تحديد الثروة التي توجِب المساءلة بين يدي الله تعالى بألفي درهمٍ، وفي أخرى تحديدها بأربعة آلاف درهمٍ. وبالتالي ينطبق عليه حكم العبارة محلّ البحث في الآية.

 

النهي عن تكديس الثروة في الإسلام

والآن ماذا يُستفاد من مجموع ما تقدّم؟ ألا يُستفاد منه أنّ الإسلام ينهى عن تكديس الثروات ومراكمتها، أو عن إنفاقها على المصالح الشخصيّة فقط؟

 

هذا حكمٌ من أحكام الإسلام، أنّ الإنسان إذا اكتسب مالًا، فإنّه لا يحقّ له تجميده وكنزه، ولا يحقّ له حصر الاستفادة منه بنفسه. الآية الشريفة والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام يُستلهم منها هذا المعنى، كما يمكن استفادة هذا المعنى بالتحليل العلميّ.

 

 

229

 


189

تفسير سورة براءة

الثروة وسيلة للكمال لجميع الناس

ولتأييد المعنى الذي بيّناه يمكن أن نقول: إنّ الله لم يخلق الإنسان عبثًا على هذه الأرض؛ بل خلقه من أجل غرضٍ وغايةٍ، هي الوصول إلى الحدّ الأعلى من الكمال المتاح للإنسان. وهو أشبه بغرسةٍ يضعها البستانيّ في أرضه ويتعهّدها بالعناية والرعاية حتى تصل إلى مرحلة الإثمار.

 

والله تعالى خلق الإنسان ليصل إلى الكمال الذي قدّره له. والوصول إلى هذا الكمال يتوقّف على مجموعة من الوسائل التي خلقها الله في الطبيعة وسخّرها للإنسان ليستخدمها من أجل نيل الكمال المقدّر له. وهذا يشبه ما لو كُلِّف شخصٌ بالذهاب إلى مكانٍ محدّدٍ، فإنّ الآمر الحكيم يضع في خدمة المكلَّف كل ما يساعده على الوصول إلى الهدف، من السيارة وقائدها الخبير إلى البنزين والطريق المعبّدة.

 

وقد فعل الله ما يشبه هذا الأمر، فقد أراد له الوصول إلى أعلى درجات الكمال، ووضع بين يديه كلّ ما يساعده للترقّي والصعود في مدارج الكمال. سواء في ذلك الإمكانات الموجودة في عالم الطبيعة، أو الاستعدادات النفسية والروحية والبدنية التي وفّرها له، والإرادة وقوّة العزيمة التي زوّده بها، والعواطف التي تسعفه عند الحاجة، كما أرسل له عددًا من الأنبياء يأخذون بيده ويساعدونه في مساره.

 

وقد زوّد الأرض بالقدرة على احتضان النبات فيها وتنميته ليتحوّل إلى طعامٍ يساعد الإنسان على النموّ، ويقدر الإنسان على تبديله والتصرّف فيه ليتحوّل إلى ما يشبه البنزين اللازم لحركة السيارة في المثال المتقدّم. كما زوّد الأرض وهي البيئة الحاضنة للإنسان باحتضان الكثير من الإمكانات المادية ليستثمرها في مساره ويستخدمها في رحلته نحو الكمال.

 

وخلاصة الكلام أنّ الإنسان خُلِق من أجل هدفٍ محدّدٍ، وهذا التكامل متوقّفٌ على وسائل وأدوات وفّرها الخالق سبحانه لمخلوقه القابل

 

230

 


190

تفسير سورة براءة

للتكامل. وهنا يُطرح هذا السؤال: هل يريد الله الكمال لبعض الناس أو يريده لهم جميعًا؟

 

لا شكّ في أنّ الجواب هو: إنّ الله يريد الكمال لجميع الناس، وليس لبعضهم دون بعضهم الآخر. وإرادة الكمال لجميع الناس تقتضي وضع الإمكانات المحتاج إليها بين أيدي الناس جميعًا. فعندما يُقال لعشرة أشخاصٍ مثلًا، المطلوب منكم أن تقطعوا المسافة الفلانيّة، فهذا يعني أنّ الإمكانات الموضوعة يجب أن تصل إلى الجميع ليستفيدوا منها ليصلوا جميعًا إلى المقصد في أقرب فرصةٍ ممكنةٍ. فإذا بكّر أحد هؤلاء العشرة واستخدم الأدوات المتاحة للوصول وترك الآخرين من دون ما يساعدهم على الوصول، يكون قد خان رفاقه وأجحف في حقّهم.

 

والثروة والأموال الموجودة في هذه الدنيا، سواء كانت أموالًا طبيعيّةً أو أموالًا أنتجها الإنسان بالاستناد إلى ما في الطبيعة، فكلّ تلك الأموال يجب أن لا ينحصر تداولها في أيدي عددٍ محدود من الناس؛ بل يجب أن تصل أيديهم جميعًا إليها. فالإنسان الذي يعيش في مجاهل الأمازون من حقّه أن يستفيد من خيرات الطبيعة كما يستفيد الإنسان المتحضّر الذي يعيش في أيّ مدينة من مدن الغرب. والفيلسوف والعالم يتساوى مع الجاهل في حقّه من الاستفادة ممّا خلق الله من إمكانات تساعد على التكامل.

 

بلى، الكمال مطلوبٌ من الجميع ولهم جميعًا، وقد خُلِقوا من أجل هذا، وكلّ الإمكانات والوسائل المساعدة مخلوقة لهم جميعًا، ليستفيد كلُّ واحدٍ منهم بمقدار عزمه وأعماله وإرادته، ويصل إلى الكمال المتاح له.

 

ونتيجة البحث في هذه الآية أنّه إذا صادر شخصٌ حقوق الآخرين واستولى على مقدّرات الطبيعة والإمكانات المتوافرة فيها، وحرم الآخرين من فرصة استثمار ما خلق الله، يكون قد فعل نفس ما فعله ذلك الذي استغلّ نوم زملائه وانطلق في رحلته قبلهم.

 

231

 


191

تفسير سورة براءة

وعلى الرغم من أنّ الآية لم تكشف عن هذا الفهم الذي عرضناه لها، بصراحة، وعلى الرغم من عدم ورود رواية صريحة في تفسيرها بهذا المعنى، فإنّنا نستفيد من الرؤية الإسلاميّة العامّة أنّ الكنز وتكديس الثروة بطريقةٍ فاحشةٍ في أيدي عددٍ قليلٍ من الناس، ظلمٌ واعتداء على حقوق الآخرين المطالبين بالسير للوصول إلى الهدف الذي حدّده الله تعالى للجميع. وعليه فإنّ ما ذكرناه ليس مطلبًا إضافيًّا ضممناه إلى الآية، فما يهمّنا هو الآية وقرينيّتها على المعنى المدّعى.

 

هذا ولكنّنا لا نقصد من المساواة المذكورة ذلك المعنى العاميّ البسيط، أي أن يأخذ كل شخصٍ 200 تومان كراتبٍ شهريٍّ. فهذا المعنى من المساواة لا يُستفاد من الآية ولا نقصد تحميله للإسلام.

 

بل ما نقصد هو أنّ الوجود كلّه هو مائدة الله المبسوطة للبشريّة كلّها، ومن حقّ جميع الجالسين إليها أن يتناولوا منها بمقدار حاجتهم. فإذا أخذ أحدٌ أكثر من حاجته، فهذا يلزم منه أن لا ينال الباقون ما يحتاجون إليه. فإذا جلستَ على رأس المائدة وأخذتَ بدل الصحن الواحد ثلاثة فهذا يعني أنّ اثنين من الجالسين بقيا من دون طعامٍ. وهذا هو معنى كلام أمير المؤمنين عليه السلام حين يقول: "فما جاع فقيرٌ إلى بما مُتِّع به غنيٌّ"[1].

 

لماذا لا نستفيد من أمثال هذه الروايات في الفقه؟ فهذه الروايات ليست مجرّد مواعظ أخلاقيّة في الإسلام. فعندما تَصِلُ إلى هذه المطالب، وتَدخُلُ إلى البحث الفقهيّ بهذه الذهنية، سوف تفهم كلام أمير المؤمنين عليه السلام عندما يقول: "ما رأيتُ نعمةً موفورةً إلّا إلى جانبِها حقٌّ مضيَّعٌ". كما تفهم معنى قوله عز وجل: "فما جاع فقيرٌ إلى بما مُتِّع به غنيٌّ".

 

بهذا البيان عندما تأكل بالطريقة التي شرحناها أعلاه، سوف تكون النتيجة أن يبقى عددٌ من الضعفاء الفقراء جوعى على أطراف المائدة


 


[1] نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 328.

 

232


192

تفسير سورة براءة

الإلهيّة. منطق الإسلام يقضي بأنّه لا يحقّ لك أن تملأ يديك الاثنتين وتترك أيدي الضعفاء خاوية وأصحابها جوعى.

 

والمراد من التوصيات الدينية المذكورة سابقًا هو التوازن. فعندما تأخذ شيئًا من إحدى كفّتي الميزان وتضعه في الكفّة الأخرى، من الطبيعيّ أن ترجُحَ هذه الكفّة الأخيرة. وهذا الفهم ليس مستندًا إلى الذوق الشخصيّ، بل هو جوهر الإسلام وحقيقته.

 

فإذا أراد كعب الأحبار أن يفتي عثمان ويقول له: إذا أدّيت زكاتك فافعل ما تشاء وابنِ القصورَ المنيفة، فإنّه يقول ذلك؛ لأنّه يهوديٌّ أسلم طمعًا لا اعتقادًا. وإنّ معرفة هذا الشخص تفتح لنا الكثير من الآفاق في مجال المعرفة الدينيّة، وتبيّن لنا أنّ الرجل أسلم من أجل المال، ومن أجله أدّى دور العالِم.

 

فعندما يسلِم كعب الأحبار ويُجعَلُ له من بيت المال نصيبٌ، ويُرفَع عنه عنوانُ أهلِ الذمّة، ويجلس إلى جانب الخليفة، ما الذي يدعوه إلى التردّد في إعلان إسلامه، هذا الإسلام الذي هو من أجل الطعام والشراب، ومن أجل المقام والمال، وإذا لزم الأمر وطُلِب منه أن يُفتي سوف يفتي غبَّ الطلب. ولكن فتوى أبي ذرٍّ مختلفة، فهو رفع العصا في وجهه وقال له: "يا ابن اليهوديّة ما لك والنظر في أحكام المسلمين..".. لهذا نحن نقبل فتوى أبي ذرٍّ وأئمّة الهدى عليهم السلام، على الرغم من أنّ هذا الكلام الذي قلناه قد لا يكون محلّ إجماع؛ ولكن هذه هي وجهة نظري.

 

مثلّثُ السلطة في مواجهة الدين

ثمّة فئاتٌ اجتماعيّةٌ تكرّر ذكرها في مواضع عدّة من القرآن الكريم، ومن هذه المواضع الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وذلك بالنظر إلى أهمّيّة التعرّف إليها واكتشاف أدوارها.

 

 

233


193

تفسير سورة براءة

وهذه الفئات التي تكرّر ذكرها في القرآن هي التي غالبًا ما تشكّل مثلّثَ السلطة في أيّ مجتمع من المجتمعات. وهذه الفئات هي التي تنهض لمعارضة دعوة الأنبياء كلّما ظهر نبيٌّ يحمل رسالة الله إلى عباده. وتتضامن هذه الفئات وتترابط مصالحُها؛ ولهذا وصفناها بأنّها مثلّثُ السلطة والقوّة في المجتمعات الإنسانيّة.

 

الفئةُ الأولى وهم الذين يسمّيهم القرآن الكريم بـ "الملأ"، وهم الحاشية التي تحيط بالحكّام. وهم الذين يشكّلون الأعمدة التي يستند إليها رأس هرم السلطة، مثل: فرعون والنمرود، فـ"الملأ"، بحسب المصطلح القرآنيّ، هم المحيطون بهذا الرأس والذين يحاصرونه، ويحافظون على وجوده وقوّته، وهو يستفيد من أفكارهم ووجودهم في حفظ سلطته وشوكته.

 

هامان واحد من رموز هذه الفئة في التاريخ السابق على ظهور الإسلام، والآية التي تقول: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾[1] تشير إليه. وقد تكرّرت شخصية هامان في التاريخ الإسلاميّ مرّاتٍ عدّة، حيث كان معاوية محاطًا بعدد من الشخصيّات المشابهة، مثل: عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه.

 

وإذا نظرتم في سيرة معاوية وتاريخه، فسوف تكتشفون أنّ خصائص شخصية هامان تنطبق على هؤلاء المشار إليهم وأمثالهم، وقد استند معاوية في بناء سلطته عليهم واستفاد من أفكارهم ومشورتهم.

 

الفئة الثانية التي تشكّل الضلع الثاني لهذا المثلّث هم الأغنياء والمترفون. وأعضاء هذه الفئة الاجتماعية على الرغم من أنّهم قد يكونون خارج دائرة الحاشية المذكورة أعلاه؛ ولكنْ بينهم وبين حاشية السلطان مصالحُ متبادلة ومنافعُ مشتركة. ومن هنا، نجد أنّ السلطان يستفيد منهم ويستخدمهم وهم يفعلون الشيء نفسه.


 


[1] سورة غافر: الآية 36.

 

234

 


194

تفسير سورة براءة

ومن نماذج هؤلاء قبل الإسلام قارون ذلك الشخص الذي يجسِّد في القرآن رمز الغنى الفاحش. وفي التاريخ الإسلاميّ ظهر مثل هؤلاء في عهد عثمان وفي عهد بني أميّة؛ حيث تشكّلت طبقة من الأغنياء والملّاك وأكلة الربا. وسرّ حاجة هذه الفئة الاجتماعية إلى رأس السلطة، أنّها تستفيد من سلطته وحمايته لتجميع الثروات التي تريد جمعها والاحتفاظ بها. والسلطة بدورها تستفيد من أموال هذه الطبقة عند الحاجة إليها على شكل ضرائب أو غير ذلك. ومن هنا، يظهر أنّ بين الفئتين مصالح متبادلة، وكلٌّ من الفئتين تخدم الأخرى وتساعدها على سدّ احتياجاتها. والكلمة التي تشير إلى هذه الفئة أي فئة الأغنياء هي "المترفون".

 

والفئة الثالثة أو الضلع الثالث من أضلاع المثلّث الذي نتحدّث عنه، هم أولئك الذين يبرّرون للفئتين السابقتين أعمالهم، ويُضْفُون الشرعيّة على سلوكهم بين الناس. مثلًا: يريد معاوية أن يسنّ قانونًا يبيح سبّ أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر، أو يريدُ يزيد خوض الحرب في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام، فهما يحتاجان إلى من يبرّر لهما فعلهما ويقنع عامّة الناس بمشروعية هذا السلوك وصحّته. فيأتي شريح القاضي مثلًا ويفتي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام نقض أصلًا من الأصول الدينية المسلّمة، فقد وردَ أنّه هو الذي أفتى بأنّ حركة الإمام عليه السلام هي حركة خروج على الإمام العادل يزيد، وهو يستحقّ القتل بحدّ الحرابة[1]، بحكم قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ...﴾[2]. والأمر عينه حصل من قبل في ما يرتبط بأمير المؤمنين عليه السلام.

 

وكذلك إذا استدعت حاجة أحد أضلاع هذا المثلّث الإغارة والاعتداء على أموال الناس، فلا يمكن الاستغناء عن مثل أبي يوسف القاضي، ليفتي


 


[1] أشار مترجم كتاب الألفين للعلامة الحلّي إلى هذا الأمر، ولكنّنا لم نعثر على هذه القضية في الكتاب، بل هي من تعليقات المترجم، ولا يمكن نسبتها إلى العلامة.

[2] سورة المائدة: الآية 33.

 

235


195

تفسير سورة براءة

لهارون الرشيد بجواز مصادرة الأموال وسدّ الحاجة بها. وإذا اشتهى هارون الرشيد أمَةَ أحد المارّة وأراد الحصول عليها، وكان صاحب الأمَةِ قد نذر أن لا يبيعها، ولم يرد مخالفة نذره أو حنث يمينه أو عهده؛ فهذا الأمر يدخل ضمن دائرة اختصاص أبي يوسف وصلاحيّاته، ليفتي للرجل بأنّ نذره ليس مشروعًا، وأنّ أمر الخليفة لا بدّ من أن يُطاع. وهذا شكلٌ آخر من أشكال تقديم الدعم للسلطة، يقع على عاتق أبي يوسف وأمثاله، ومن هنا نلاحظ أنّ خطّ أبي يوسف في القضاء كان هو المعتمد على امتداد الجغرافيا الإسلاميّة في الدولة العبّاسية.

 

وهذه الفئة الاجتماعية الثالثة هي التي يُرمَز إليها في القرآن ببعض الأحبار والرهبان أو كثيرٍ منهم. وقد تكرّرت الإشارة في القرآن إلى هذه الفئة أو الطبقة الاجتماعيّة، كما أشير إلى الفئتين السابقتين. وعندما تكتمل أضلاع هذا المثلّث يقبع الطاغوت على رأس الهرم. وعلى الرغم من أنّ جميع الأضلاع أي جميع هذه الفئات ينطبق عليها مفهوم الطاغوت، فإنّ الطاغوت الأكبر هو رأس السلطة، والفئتان الأخريان مستخدمتان لمصلحته.

 

ومن المهمّ أن نعلمَ أنّ طبع من يعبِّرُ عنهم القرآنُ بالملإ هو الوقوفُ في مواجهة الأنبياء على الدوام ومعارضتهم؛ أي لا يمكن لهذه الفئة بعد أن تحوّلت إلى "ملإ" إلا الوقوف في وجهِ حركةِ الأنبياء. ومن هنا، فإنّنا نلاحظ في القرآن أنّ كلمة "الملأ" تقترن بالتآمر على الأنبياء.

 

ومثال ذلك تكرّر الإشارة إلى ملإ فرعون في مواجهة حركة النبيّ موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾[1]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾[2].


 


[1] سورة القصص: الآية 20.

[2] سورة الأعراف: الآية 127.

 

236


196

تفسير سورة براءة

ولا نجد في القرآن كلّه غير مرّةٍ واحدة يشير فيها الله تعالى إلى الملإ وهم إلى جانب أحد الأنبياء، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[1]. فالملأ في هذه الآية يطالبون بالقتال في سبيل الله! والسؤال الأوّل الذي يخطر في البال هنا، هو: ماذا حصل حتّى يطالب الملأ بالقتال في سبيل الله؟! هل اختلّ أمرٌ من أمور حياتهم؟!

 

تتمّة الآية تكشفُ لنا هذا السرّ وتبيّن الجواب عن هذا السؤال. نبيّ الله يعرفهم جيّدًا، ويعلم أنّهم لم يكونوا يومًا مستعدّين للقتال في سبيل الله؛ لذلك يصرّح بشكّه في مطلبهم ويردّ على طلبهم بسؤال فيقول: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾، فهو في هذه الآية يسألهم ألا تحتملون أنّكم سوف تفرّون من القتال إن فُرض عليكم؟

 

وها هم يكشفون عن مكنون نفوسهم، عندما يكشفون عن سرّ رغبتهم في القتال في سبيل الله، وذلك أنّهم أُخرِجوا من ديارهم: ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾[2]. نعم صودرت ممتلكاتهم وضياعهم وبيوتهم الفارهة، وحُرِموا من النعم التي كانوا يرفَلون فيها؛ فهم مفجوعون بالدنيا، وليسوا من أهل الله والقتال في سبيله، لا يريدون القتال من أجل الناس ودفاعًا عنهم، إنّهم يريدون القتال دفاعًا عن بيوتهم وأبنائهم.

 

﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[3]: وهذا المقطع من الآية يبيّن حالهم عندما استُجيب لطلبهم وكُتِب عليهم القتال، لم يثبت إلا عددٌ قليلٌ منهم، وذيل الآية فيه تهديد مبطّنٌ بل صريحٌ للظالمين منهم بأنّ الله يعلمهم.


 


[1] سورة البقرة: الآية 246.

[2] سورة البقرة: الآية 246.

[3] سورة البقرة: الآية 246.

 

237


197

تفسير سورة براءة

ولا نجد في القرآن كلّه غير مرّةٍ واحدة يشير فيها الله تعالى إلى الملإ وهم إلى جانب أحد الأنبياء، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[1]. فالملأ في هذه الآية يطالبون بالقتال في سبيل الله! والسؤال الأوّل الذي يخطر في البال هنا، هو: ماذا حصل حتّى يطالب الملأ بالقتال في سبيل الله؟! هل اختلّ أمرٌ من أمور حياتهم؟!

 

تتمّة الآية تكشفُ لنا هذا السرّ وتبيّن الجواب عن هذا السؤال. نبيّ الله يعرفهم جيّدًا، ويعلم أنّهم لم يكونوا يومًا مستعدّين للقتال في سبيل الله؛ لذلك يصرّح بشكّه في مطلبهم ويردّ على طلبهم بسؤال فيقول: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾، فهو في هذه الآية يسألهم ألا تحتملون أنّكم سوف تفرّون من القتال إن فُرض عليكم؟

 

وها هم يكشفون عن مكنون نفوسهم، عندما يكشفون عن سرّ رغبتهم في القتال في سبيل الله، وذلك أنّهم أُخرِجوا من ديارهم: ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾[2]. نعم صودرت ممتلكاتهم وضياعهم وبيوتهم الفارهة، وحُرِموا من النعم التي كانوا يرفَلون فيها؛ فهم مفجوعون بالدنيا، وليسوا من أهل الله والقتال في سبيله، لا يريدون القتال من أجل الناس ودفاعًا عنهم، إنّهم يريدون القتال دفاعًا عن بيوتهم وأبنائهم.

 

﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[3]: وهذا المقطع من الآية يبيّن حالهم عندما استُجيب لطلبهم وكُتِب عليهم القتال، لم يثبت إلا عددٌ قليلٌ منهم، وذيل الآية فيه تهديد مبطّنٌ بل صريحٌ للظالمين منهم بأنّ الله يعلمهم.


 


[1] سورة البقرة: الآية 246.

[2] سورة البقرة: الآية 246.

[3] سورة البقرة: الآية 246.

 

237


198

تفسير سورة براءة

أحد الاحتمالات في معنى "تولَّوا" أنّ الفاعل هو "الملأ"، وأنّهم في نهاية المطاف سوف يديرون ظهورهم ويتركون القتال والجهاد، وثمّة احتمالٌ ثانٍ هو أنّهم من أوّل أمرهم منصرفون، سوى قليل منهم، والأخبار الواردة لاحقًا هي عن هذه الفئة القليلة.

 

بعد أن أظهروا رغبتهم في القتال في سبيل الله، وبعدما تقرّر أن يتولّى نبيّ الله قيادة الجماعة، وأوكل هذه المهمّة إلى طالوت، بدأوا بتطويل اللسان على القائد المعيّن من قبل النبيّ، وقالوا في حقّه: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾[1]. فهذه هي رؤيتهم والزاوية التي ينظرون إلى الأمور منها، معيارهم الأساس هو المال. لا قيمة للمعنويّات في حساباتهم؛ ولو بدّلنا المعيار وجعلناه شيئًا آخر سوف يكون هو الأحقّ بالملك: ﴿قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[2]. طالوت عالمٌ ومستنيرٌ وواعٍ، يعرف الزمان والمكان، وهو في الوقت عينه مقتدرٌ، والفارق بينكم وبينه هو أنّكم أكلتم وغذّيتم أجسادكم، وهو عاش في البريّة وربّما كان أبوه راعيًا، تألّم وقاسى شمس الصحراء، هو صاحب استعداد وعنده القابلية لتولّي إدارة جماعتكم.

 

وبعد بضع آيات يخبرنا الله تعالى عن قصّةِ وصوله إلى نهرٍ وتنبيهه جنوده بأن لا يتناولوا من هذا النهر شيئًا، ويجعل هذا الماء وسيلة لامتحان جنوده، ويهدّدهم بأنّ من يشرب من ماء هذا النهر فهو بحكم الخارج من الجماعة، ومن لا يشرب منه سوى غرفةٍ يغترفها بيده، يكون بذلك قد أثبت انتماءه إلى هذه الجماعة، وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾[3].

 

 

 

 


[1] سورة البقرة: الآية 247.

[2] سورة البقرة: الآية 247.

[3] سورة البقرة: الآية 249.

 

 

238


199

تفسير سورة براءة

وفي هذه المحطّة أيضًا تبيّن أنّ الذين ثبتوا مع الجماعة حتّى هذه المرحلة عادوا فخرج أكثرهم، ولم يطيعوا قائدهم. فعندما وصلوا إلى النهر شرب أكثرُهم من مائه وأكثَرَ، وعبَرَ المؤمنون وأطاعوا قائدهم، والآن أتى دورُ من بقي من هؤلاء المسمَّين بـ"الملإ" الذين يُفترض بهم أن يتابعوا المسيرة ويثبُتوا في ساحة الجهاد؛ ولكنّهم لم يفعلوا وأعلنوا عجزهم عن المواجهة وعدم قدرتهم على قتال جالوت: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾[1].

 

والغرض من عرض هذه الآيات من سورة البقرة، هو بيان أنّه كلّما ذكر القرآن "الملأ" أشار إلى خصلةٍ سيّئة من خصالهم. وفي هذا الموضع أيضًا تبيّن أنّ من بقي منهم إلى ما قبل المحطة الأخيرة خرّب ولم يثبُت.

 

التفاوت الطبقي منشأ كثير من الجرائم

عندما تتّسع الهوّة بين الطبقات، بحيث تتمتّع طبقةٌ بالثروات وتحتكرها لمصلحتها، وتُحرم منها طبقةٌ أخرى ولا تنال إلا النزر اليسير، في مثل هذه الحالة تكثر الجرائم والجنايات الاجتماعيّة وتترتّب الكثير من الآفات على هذا الشرخ الاقتصاديّ الاجتماعيّ.

 

الأشراف والوجهاء في أيّ مجتمع قد يقدمون على بعض الذنوب، مثل الفساد، وشرب الخمر، والفحشاء، والظلم، والطغيان، والتخلّي عن العبودية لله. والطبقات الاجتماعيّة الأخرى ترتكب بدورها عددًا من الجرائم الاجتماعيّة، مثل: السرقة، والحسد، والغشّ، والرشوة، والكذب؛ وعليه فإنّ كثيرًا من هذه الآفات الاجتماعيّة المشار إليها ذات منشإ اقتصاديّ اجتماعيّ يرجع في نهاية المطاف إلى هذه الهوّة التي تفصل بين الفئات الاجتماعيّة.


 


[1] سورة البقرة: الآية 249.

 

239


200

تفسير سورة براءة

اقتضاء الترف للفساد والفحشاء

هذه هي حالة المترفين أيضًا. طبيعة الترف والإسراف تقتضي الفحشاء وتلازمها؛ ولهذا نجد القرآن أنّى ذكر الترفَ أشار إلى مساوئه، ويصل الأمر بهذه الظاهرة الاجتماعيّة، بحسب القرآن الكريم، إلى أنّها تؤدّي إلى زوال الحضارات وأفولها، وإلى انهدام البلاد وخرابها.

 

معارضة أكثر الأحبار والرهبان للأنبياء عليهم السلام

لا يقتضي طبع الأحبار والرهبان معارضة الأنبياء والوقوف في وجههم؛ بل هذا الموقف من الأنبياء عارضٌ على هذه الفئة الاجتماعيّة. فليس من ذاتيّات الحبر أو الراهب أن يقف في وجه الحقّ ويعارضه، والدليل على هذه الدعوى أنّ بعض الأحبار والرهبان كانوا عبر التاريخ سببًا لالتحاق عددٍ كبيرٍ من الناس بالأديان وميلهم إليها؛ ولكنّ هذه الفئة الاجتماعيّة تحتضن فيها الكثير من الأفراد الذين شوّهوا سمعتها عبر التاريخ أيضًا. وعليه فإنّ كلمة "كثير" الواردة في الآية تبيّن أنّ هذه السمة ليست جزءًا من ذاتيّات هذه الجماعة.

 

وهذه الآيات هي واحدة من آيات عدّة تتحدّث عن هذه الفئة. وفي آخر هذه الآية الشريفة أشار تعالى إلى طبقتين من الطبقات التي يقوم عليها المثلّث الذي ذكرناه آنفًا، وينبغي الالتفات إلى هذه الجماعات في القرآن كلّه.

 

وخلاصة القول إنّ آية ﴿الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ تشير إلى المترفين الذين يراكمون الأموال على تنوّعها، سواء كانت نقودًا ورقيّةً أو غيرها، وجملة ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ تشمل كلّ الأموال المراكَمَة التي تودع في المصارف أو تُحوّل إلى عقارات وأملاك وما سوى ذلك، فهذه الأموال ينطبق عليها مفهوم الكنز حتّى لو كانت في حالة حراكٍ وتداولتها الأيدي؛ ولكن لمّا كانت منفعتها محصورةً بصاحبها فإنّ ذلك يُعدّ كنزًا. والمراد من العذاب الأليم هو عذاب يوم القيامة، وهو ما تؤكّده الآية اللاحقة.

 

 

240

 


201

تفسير سورة براءة

"يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ"، في ذلك اليوم حين تُوضع تلك الأموال المعبّر عنها بالذهب والفضّة في الآية في ما يشبه الفرن وتُحرق بها وجوه أصحابها، في ذلك اليوم يُقال لهؤلاء الأغنياء تذوّقوا ما كنتم تدّخرونه، فهذه الحرارة وهذا الحريق هو تجسيدٌ لذلك العمل؛ أي عمل مراكمة المال والامتناع عن إنفاقه في سبيل الله.

 

هذا هو الذهب وهذه هي الفضّة التي كان الإنسان مستعدًّا للتضحية بكلّ شيء من أجلها، للتضحية بدينه وإيمانه وإنسانيّته من أجلها. وعليه الآن، أي في يوم القيامة، أن يتذوّقَ النتيجة التي آل إليها أمرُ ما ادّخره وكنزه.

 

"فَتُكْوَى": من الكيّ والفعل كوى، أي أحرق. وكانوا يقولون قديمًا آخر الدواء الكيّ، وهنا يمكن أن نعبّر بالطريقة نفسها: آخر العذاب أن يُكوى الإنسان بما كان يجمعه من أموال[1].

 


[1] لم يرد تفسير الآيتين، 36و37.

 

241


202

تفسير سورة براءة

ملحق بحثٌ روائيٌّ

لما أمَر عثمان بنفي أبي ذرٍّ إلى الربذة دخل عليه أبو ذرّ وكان عليلًا متوكِّئًا على عصاه، وبين يدي عثمان مئة ألف درهم قد حُمِلت إليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان، ما هذا المال؟ فقال عثمان: مئة ألف درهم حُمِلت إليَّ من بعض النواحي، أريد أن أضمّ إليها مثلها، ثم أرى فيها رأيي.

 

فقال أبو ذر: يا عثمان أيّهما أكثر مئة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ فقال عثمان: بل مئة ألف درهم، فقال أبو ذرٍّ: أما تذكر أنا وأنت قد دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشاءً فرأيناه كئيبًا حزينًا فسلّمنا عليه، فلم يردّ علينا السلام، فلمّا أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكًا مستبشرًا، فقلنا له: بآبائنا وأمّهاتنا دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيبًا حزينًا، ثم عدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكًا مستبشرًا؟! فقال: "نعم كان قد بقي عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير، لم أكن قَسمتُها وخفتُ أن يدركني الموت وهو عندي، وقد قسمتُها اليوم فاسترحت منها"، فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له: يا أبا إسحاق ما تقول في رجل أدّى زكاةَ ماله المفروضة هل يجب عليه في ما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا؛ ولو اتّخذ لبِنَةً من ذهبٍ ولبِنَةً من فضّةٍ، ما وجب عليه شيء. فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: يا بن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين، قول الله أصدقُ من قولك حيث قال: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾

 

فقال عثمان: يا أبا ذر إنّك شيخٌ قد خرفتَ وذهب عقلك، ولولا صحبتُك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتلتُك، فقال: كذبتَ يا عثمان أخبرَني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: [لا يفتنونك يا أبا ذر و] لا يقتلونك، وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظ حديثًا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك وفي قومك، قال: وما

 

 

242

 


203

تفسير سورة براءة

سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيَّ وفي قومي؟ قال: سمعته صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلًا صيّروا مالَ الله دُولًا وكتابَ الله دغلًا، وعبادَه خولًا والفاسقين حزبًا، والصالحين حربًا.

 

فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هل سمع أحدٌ منكم هذا من رسول الله فقالوا: لا ما سمعنا هذا من رسول الله: فقال عثمان: ادعُ عليًّا فجاء أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عثمان: يا أبا الحسن انظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مَهْ يا عثمان لا تقل كذّاب، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق أبو ذر فقد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

فبكى أبو ذر عند ذلك فقال: ويلكم كلكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال ظننتُم أنّي أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نظر إليهم فقال: من خيرُكُم؟ فقالوا: من خيرُنا؟ فقال: أنا؛ فقالوا: أنت تقول إنّك خيرنا، قال: نعم خلفتُ حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الجبّة وهو عنّي راضٍ وأنتم قد أحدثتم أحداثًا كثيرة، والله سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

 

فقال عثمان: يا أبا ذرّ أسألك بحقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه، فقال أبو ذر: والله لو لم تسألْني بحقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَا أخبرتُك، فقال: أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها فقال: مكّةُ حرمُ الله وحرمُ رسوله، أعبد الله فيها حتّى يأتيني الموت. فقال: لا؛ ولا كرامة لك، قال: المدينة حرمُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا؛ ولا كرامة لك، قال: فسكتَ أبو ذر، فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال: الربذة التي كنتُ فيها على غير دين الإسلام، فقال عثمان: سِرْ إليها.

 

فقال أبو ذر: قد سألتَني فصدقتُك وأنا أسألك فأصدقني؟ قال: نعم، قال أبو ذر: أخبرني لو بعثتَني في بعثِ أصحابِك إلى المشركين فأسَرُوني،

 

 

243

 


204

تفسير سورة براءة

فقالوا: لا نفديه إلا بثلث ما تملك؟ قال: كنتُ أفديك. قال: فإن قالوا: لا نفديه إلا بنصف ما تملك؟ قال: كنت أفديك. قال: فإن قالوا: لا نفديه إلا بكل ما تملك؟ قال: كنت أفديك.

 

قال أبو ذر: الله أكبر! قال لي حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما: يا أبا ذر، كيف أنتَ إذا قيل لك أيّ البلاد أحبُ إليك أن تكون فيها؟ فتقول: مكة حرم الله ورسوله أعبد الله فيها حتى يأتيني الموت، فيقال لك، لا؛ ولا كرامة لك، فتقول: فالمدينة حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقال لك: لا؛ ولا كرامة لك، ثم يُقال لك، فأيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ فتقول: الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام، فيُقال لك: سِرْ إليها، فقلتُ: إنّ هذا لكائنٌ يا رسول الله؟ فقال: أي والذي نفسي بيده إنّه لكائنٌ، فقلت: يا رسول الله أفلا أضع سيفي هذا على عاتقي فأضرب به قدمًا قدمًا؟ قال: لا، اسمعْ واسكتْ ولو لعبدٍ حبشيٍّ، وقد أنزل الله فيك وفي عثمان آيةٌ، فقلت: وما هي يا رسول الله؟ قال قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾[1].

 

 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 95؛ تفسير القمي، ج 1، ص 51-54.

 

244


205

تفسير سورة براءة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴿38﴾ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾

 

 

245


206

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

يخاطب الله في هذه الآيات المؤمنين، ويؤنّبهم على التقاعس عن الجهاد في سبيله، ويسألهم سؤال مستنكرٍ لماذا فضّلوا الحياة الدنيا على الآخرة على الرغم من أنّ المقارنة بين الحياتين تكشف عن قصر أمد الأولى وضآلة قيمتها بالقياس إلى الأخرى؟ وتحتوي هذه الآيات على بيانٍ كاملٍ شاملٍ لتحريض الناس على الجهاد، والاستعداد للتضحية في سبيل الله، ويمكن القول إنّ هذه الآيات كان لها دورٌ مهمٌّ في تأسيس البنية التحتية الفكرية للحرب في تاريخ الإسلام.

 

تقوية روحية الطاعة والاتّباع

هذه الآيات تعدّ من جهة فكرية وأخرى روحية مثيرةً للأمل في نفوس المسلمين، وهي تُعِدّهم لأداء التكاليف، ومن الناحية النفسية فيها ما يستحقّ التأمّل. يقوّي القرآنُ الكريمُ البعدَ الروحيَّ عند المسلمين؛ وذلك أنّ الأمل وإثارتَه في النفوس من العناصر الأساسية في تحقّق النصر، ومعاينةِ بشائره قبل حصوله. وهذا يبيّن حقيقة الدين ببضع جملٍ مختصرة، ويُفْهِمُ الإنسانَ أنّ الدينَ الذي هو مجموعة من الأفكار والتعاليم المنسجمة مع الفطرة الإنسانيّة، لا بدّ من أن يسير إلى الأمام، وأنّه لا يقبل الهزيمة بأيّ وجهٍ من الوجوه، وهو يتطوّر يومًا بعد يومٍ.

 

هذه النبتة يجب أن تنموَ وتثمر وسوف تثمِر حتمًا. الآن أنتم أيضًا مخاطبون، والقرآنُ الكريم يخاطبكم أنتم أهل هذا العصر. وإذا لم تسمعوا

 

 

247

 


207

تفسير سورة براءة

نداء القرآن ولم تلبّوا دعوته سوف يأتي غيركم ليحمل الراية ويرفع شارة النصر، ولن تنالوا السعادة التي أريدت لكم، وسوف يستفيد من نتائج الإسلام والدعوة الإسلاميّة من حمل رايتها وكان بديلًا عنكم.

 

وتتابع الآيات، من أجل تقوية عقيدة المسلمين وتمتين إيمانهم بالغلبة الدائمة للدين وبانتصارهم المحتوم، تتابع بنقل شاهدٍ من ماضي النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، وتعرِض لهم وقائع سابقة من حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويذكّرهم الله عز وجل بأنّ هذا الواقف بينكم يحرّضكم على الجهاد ولا تستجيبون له، تولّى الله نصره على أعدائه في مرّات سابقةٍ، ولا تحسبوا أنّه سيتركه إذا أنتم تخلّيتم عنه هذه المرّة.

 

فسواءٌ لبّيتم دعوته إلى الجهاد أو لم تلبّوا، فإنّ النصر حليفه. وهذا الأسلوب في الحثّ على الجهاد له أثرٌ كبير من الناحية النفسية، ومن الطبيعيّ أن يضع المسلمين على الصراط المستقيم ويوجّههم نحو الحقّ.

 

سبب النزول

نزلت هذه المجموعة من الآيات بعد وقت غير طويل من عودة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من غزوة الطائف[1]. وفي ذلك الوقت بلغ النبيَّ أنّ الروم وهم أهل الدولة الوحيدة في ذلك العصر التي كانت قادرةً على منافسة الإمبراطوريّة الفارسية، بلغه أنّ الروم يستعدّون لخوض المواجهة مع الإسلام والمسلمين. وقد كانت تقتضي سياسة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يعمد إلى حركة عسكريّة تخطف أبصار الروم وتخيفهم؛ ولأجل هذا خطّط لتسيير جيش إلى تبوك لخوض المواجهة مع شرق الدولة الرومية.


 


[1] وقعت غزوة الطائف في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة. وذلك بعد أن بلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خبر مفاده أنّ قبيلتي هوازن وثقيف تستعدّان لمواجهة الإسلام. فجهز النبيّ جيشًا قوامه اثنا عشر ألف مقاتل وتحرّك من مكّة باتّجاه الطائف. وانجلت المعركة بعد حصار عن هزيمة المشركين وأصاب المسلمون غنائم كثيرةً وأسروا ستة آلاف أسير.

 

 

248


208

تفسير سورة براءة

وضعيّة الإسلام والروم إبّان معركة تبوك

كانت للروم في ذلك العصر دولةٌ لا نظير لها؛ وكان هدفهم إبعاد المسلمين عن حدودهم؛ لأنّهم رأوا أنّ انتشار الفكر الإسلاميّ وإقبال الناس على اعتناق الإسلام يشكّل تهديدًا لدولتهم ونفوذهم، وذلك أنّ التحاق الناس بالإسلام يؤدّي إلى تشكّل قوّة منافسةٍ لهم تهزّ استقرارهم الذي كانوا يشعرون به؛ وهذا الفكر الصحيح له القدرة على المنافسة وتهديد مراكز القوّة في البيئة المحيطة به.

 

وكانوا يرون أنّ القتال بين فئتين، إحداهما تعتنق فكرًا صحيحًا وبرنامجًا للدنيا والآخرة، وفئة ليس عندها برنامج فكريّ ولا تهتمّ سوى بالحياة الماديّة وما يرتبط بها، فإنّ النصر سوف يكون حليف الفئة الأولى. وأهل الفئة الثانية لا يفكّرون إلا بحفظ ما بأيديهم ولا يهتمّون إلا بـ"النقد"، فإذا رأوا أنّ القتال سوف يعرّض نقدهم للخطر، فلن يتنازلوا عنه مقابل ما يوعدون به "نسيئةً" مهما كانت قيمته، بينما أهل الفئة الأولى وبالنظر إلى قوّة إيمانهم واعتقادهم لا فرق عندهم بين ما هو بأيديهم وما هم موعودون به عند الله؛ لذلك هم مستعدّون للتضحية والفداء إلى النفس الأخير.

 

وينطبق هذا على المسائل العلمية أيضًا. الرومان خاضوا مواجهة كبرى مع المسيحيّة، وحاولوا وأدها في مهدها وكادوا يقضون عليها. فقد قتلوا الكثير من المسيحيين من دون أن يسمع بهم أحدٌ، قتلوهم في هذه الزاوية أو تلك، وفي هذه القرية أو المدينة أو تلك؛ والسبب هو أنّهم رأوا في المسيحية تهديدًا لإمبراطوريّتهم.

 

ويرجع انتشار المسيحيّة في عصرنا هذا إلى هذه الحروب التي أدّت إلى تشتّت المؤمنين بها في البلاد، كما كان لهذه الحروب آثار سلبيّة حيث أدّت إلى تحريف الكتاب المقدّس. وقد رأى الرومان أنّ المسيحيّة على الرغم من قلّة عدد أتباعها في ذلك العصر، وعلى الرغم من انتشارهم وتشتّتهم في البلاد،

 

 

249


209

تفسير سورة براءة

تغلّبوا على الإمبراطوريّة بشكلٍ أو بآخر، أو على الأقل لنقل لم تستطع السيطرة عليها، فأرادت هذه الدولة أن لا تتكرّر تجربتها مع المسيحية مع الإسلام.

 

دخل الإسلام والإمبراطورية الرومانية في مواجهة جادّة بعد مضيّ ما بين 300 إلى 350 سنة على ظهور الإسلام. ولكنّ هذه المواجهة تختلف عن المواجهة التي خاضها الرومان مع المسيحيّة، وأحد وجوه الاختلاف هو أنّ المسيحيّين لم يكن لهم قيادة مركزيّة ودولة موحّدة تجمعهم، بينما هذه الدولة كانت متوافرة عند المسلمين، وتجسّد الإسلام اجتماعيًّا منذ بداياته بدولة سيطرت على جزيرة العرب وبدأت تتوسّع خارج حدود الجزيرة، ويبدو أنّ الرومان بدأوا بالالتفات إلى قوّة الإسلام منذ فتح مكّة. كما خاض الرومان مواجهة تاريخية مع الإسلام قبل سنة من فتح مكّة تقريبًا، وذلك في معركة مؤتة التي تواجه فيها ثلاثة آلاف من جنود المسلمين مع عشرات الآلاف من العسكر الرومانيّ.

 

وعلى الرغم من استشهاد جعفر بن أبي طالب[1] وقائدين آخرين في هذه المعركة، إلا أنّ الرومان شاهدوا بسالة المسلمين واستعدادهم للثبات حتّى الموت.

 

بدأ المسلمون يتلمّسون قوّتهم ويشعرون بقدرتهم على مواجهة الرومان. يُضاف إلى ذلك أنّ الإسلام أثار الرعب في قلب الإمبراطورية الرومانية، ومع خوفهم وربّما نتيجة خوفهم وخشيتهم من الإسلام، وجدوا أنّه لا بدّ من المواجهة المبكِّرة والقضاء على هذا الخصم قبل فوات الأوان. وعلى ضوء ذلك كلّه بدأوا بتجهيز جيش لقتال الإسلام وتعاونوا في سبيل ذلك مع عددٍ من القبائل العربية مثل قبيلة غسّان[2] التي كانت تقطن على


 


[1]  جعفر بن أبي طالب، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وُلِد قبل عشرين عامًا من البعثة. وكان رأس المهاجرين إلى الحبشة وقائدهم، استُشهد في السنة الثامنة للهجرة في معركة مؤتة. وهو مدفونٌ في الأردن الحالي، وله قبر يُزار.

[2] قبيلة عربية من قبائل الأزد، أصلها يرجع إلى اليمن.

 

250


210

تفسير سورة براءة

حدود الحجاز، ويمكننا تسمية هذا التعاون استغلالًا من قبل الرومان لهذه القبائل، وذلك أنّ الإسلام لم يكن في نيّته القضاء على هذه القبائل أو التعرّض لها، ولكنّ الرومان لو انتصروا فإنّه لن يثنيهم شيء عن استغلال مواردهم الطبيعية والاستفادة من خيرات بلادهم. ولكنّ هذه القبائل خُدِعت ووقفت مع الرومان في مواجهة الإسلام.

 

ظروف معركة تبوك

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حالة ضيقٍ عند وصول الأخبار عن الحشد الرومانيّ، وبوصول الخبر إليه ازداد ضيقًا؛ وذلك لأنّ جيش المسلمين كان قد عاد للتوّ من معركة الطائف. وكان الجميع في حالة تعبٍ وإرهاقٍ. يُضاف إلى هذا أنّ الوقت كان قريبًا من جني محصول النخيل. ووقت جني المحصول في الحجاز أوائل الخريف، ومن هذا يُعلم وقت اندلاع الحرب مع الروم.

 

اجتمعت عناصر عدّة في ذلك الوقت، شمس الحجاز الحارقة، والعنصر الاقتصاديّ وأهمّيّة التمر بالنسبة للحجازيّين في ذلك الزمان، فهو المحصول الزراعي الأساس لهم، والتعب والإرهاق الناجم عن المشاركة في معركة الطائف. هذه العناصر دفعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى التفكير في المخارج، فلعلّ المسلمين يتقاعسون عن الخروج إلى الحرب.

 

يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ هذه الحرب تختلف عن سائر الحروب التي خاضها المسلمون من قبل. فمعركة بدرٍ وأحد والخندق خاضها المسلمون على أرضهم قريبًا من المدينة؛ أمّا هذه المعركة فهي تحتاج إلى سفر[1] في الصحراء بحرارتها ورمالها اللاذعة، حتى يصلوا إلى أطراف بلاد الشام.

 

وفوق ذلك كلّه وضعية العدوّ، فالطرف المقابل هو جيش كثير العدد وكبير العدّة. وكان على المسلمين وقيادتهم تحدّي هذه الصعوبات كلّها


 


[1] ـ منطقة تبوك تبعد عن المدينة حوالى 670 كليومترًا.

 

251


211

تفسير سورة براءة

وتجاوزها. وهنا تجب ملاحظة لحن الآية وبساطة التعبير فيها. ولكنّ السفر إلى تلك البلاد على درجةٍ عاليةٍ من الصعوبة، وفي نظر الناس العاديّين هو شكلٌ من أشكال الانتحار والإقدام على التهلكة. كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يرافقهم حوالى ثلاثين فرسخًا[1] ليخرجهم من ظلال بيوتهم وبساتينهم وبرْدِ مياههم إلى حرّ الصحراء، وليتخلّوا عن فترة استراحتهم، ويخلّفوا وراءهم موسم التمر السنويّ، ويتركوا أُسَرَهم ويسافروا، وليس السفرُ سفرَ نزهةٍ أو سياحةٍ؛ بل سفرُ قتالٍ وشهادةٍ.

 

تأنيب المتقاعسين عن الجهاد

في هذه الظروف كان لا بدّ من النفير والدعوة إلى الخروج للقتال، ولكن ثمّة من تقاعس وأبى الخروج، فنزلت هذه الآيات، تؤنّب المتقاعسين وتوبّخهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾، بعد السؤال عن السبب يطرح الاحتمالات بطريقة السؤال أيضًا ويقول لهم: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾، يقول لهم: هل فضّلتم الحياة الدنيا على الآخرة؟ هل رجّحتم الحياة الفانية على الحياة الباقية الخالدة؟ إنّه احتمالٌ غريب. هل يمكن أن تكون الحياة الدنيا أفضل وأرجح من الآخرة؟! ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾؛ فمتاع الحياة الدنيا ومتعها مهما طالت سوف تنتهي بعد أمدٍ.

 

لنفرضْ أنكّ بقيتَ إلى جانب زوجتك وأطفالك، وجنيتَ محصولك، وتظلّلتَ بشجر بساتينك وارتويتَ بنهر من الماء، واسترحتَ وسُررتَ وارتحتَ من حرّ الصحراء، ولم تعانِ وعثاء السفر وويلات الحرب، ونلتَ الحياة بدل تجرّع غصص الموت؛ ولكن ما هي نهاية المطاف؟ ما هي العاقبة؟ هل ستبقى في هذه الدنيا إلى الأبد؟ ماذا ستفعل في تلك الدار التي تنتظرك؟ ما حجم الحسرات التي سوف تتجرّعها عندما تجد أنك حرمتَ نفسك

 


[1] يعادل الفرسخ 5200 متر تقريبًا.

 

252


212

تفسير سورة براءة

من لذّات رضوان الله ومرافقة أوليائه؟ ما هو الموقف عندما تكتشف أنّك سددتَ على نفسك دروب الكمال والعزّة؟ في ذلك اليوم عندما تجد بعض أقرانك يرفلون بحلل العزّ والكمال والسعادة، أيّ إحساس سوف يعتريك؟

 

عندما يسمع المسلم المعتقد تلك الآية في وقت نزولها سوف يعود إلى الحياة لو كان ميتًا، وسوف يستيقظ لو كان نائمًا. وقد حصل ذلك واستيقظ بعض أهل الغفلة، ودبّت فيهم روح جديدة، وشدّ عددٌ منهم رحال السفر، ولم يتخلّف عن الركب غير جماعة من المنافقين، يُقال إنّ عددهم بلغ الستّين، وكانوا يتحيّنون مثل تلك الفرصة. عزم الجميع على السفر حتّى أولئك الذين لم يكن لديهم راحلة أو وسيلة سفر، حتى هؤلاء اصطفّوا يبكون إلى أن سُمِّي بعضهم بـ"البكّائين"[1]، يتحسّرون على عجزهم عن اللحاق بقافلة السعادة.

 

في هذه الأجواء ثمّة من آثر الحياة الدنيا، وفضّل البقاء في مزرعته، وواحد[2] من هؤلاء كانت له زوجتان، وعنده بستانٌ جميل، نظر فوجد أنّ أهله يعدّون الطعام وهم جميعًا على أهبة الاستعداد للبدء بتناول الطعام، عندما وجد نفسه في قلب هذا المشهد أفاق من غفلته وتساءل: كيف يمكن له أن يأنس بالحياة المتاحة له في المدينة ورسول الله وأصحابه يقاسون حرّ الصحراء؟ وفكّر في الجواب الذي سيدلي به عندما يقف في محكمة العدل الإلهية، فوجد أن لا مبرِّر يمكن الاستناد إليه. فسارع للحاق بمن سبقه إلى ساحة الشرف[3].


 


[1] يُروى أنّ سبعة من فقراء المدينة أتوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: يا رسول الله احملنا، فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فبكوا وسالت الدموع على خدودهم، فلمّا رأى بعض الموسرين هذا المشهد تبرّعوا بما توافر بين أيديهم ومكّنوهم من المشاركة في الجهاد. فنزل قوله تعالى في هذه المناسبة: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾. (سورة التوبة: الآية 92) (انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 91؛ بحار الأنوار، ج 21، ص 218).

[2] أبو خَيْثمة، عبد الله بن خَيْثمة.

[3] مجمع البيان، ج 5، ص 137.

 

 

253


213

تفسير سورة براءة

والخطاب في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ موجّهٌ إلى الذين يؤمنون بالفكر الإسلامي، يسألهم الله كيف لكم أيّها الذين تؤمنون بتعاليم الإسلام، أن تسمعوا نداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخروج والنفر ثم تتثاقلون عن الاستجابة وتلتصقون بالأرض؟! النفر هو الخروج الجماعيّ والحراك العامّ؛ والمقصود منه هنا هو التعبئة العامّة بهدف الخروج إلى القتال.

 

وقوله تعالى: "اثَّاقَلْتُمْ[1] إِلَى الأَرْضِ" يشير إجمالًا إلى عشق هؤلاء ومحبّتهم للحياة الدنيا وتعلّقهم بها، وتضْحيتهم بكلّ شيء من أجلها. وقد طُرِح في المقصود احتمالان؛ أحدهما: بطء المخاطبين في تلبيتهم الدعوة إلى النفر للجهاد، والاحتمال الثاني: هو ما أشرنا إليه، وهو ميلهم إلى الأرض وجنوحهم نحو الأسفل بدل التعالي والتكامل باستجابة دعوة الداعي إلى الجهاد. ولا تنافي بين المعنيين، فكلاهما مشارٌ إليه في الآية على نحو يكون الثاني سببًا للأول.

 

والاستفهام الاستنكاري التوبيخيّ[2] الوارد في السؤالين: "مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ..". و: "أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ"، يشير هذان السؤالان إلى نمط التفكير الإسلاميّ وطبيعة النظرة الإسلامية إلى الدنيا والآخرة؛ إذ يريد الله تعالى بهذين السؤالين لفْتَ نظر المسلمين إلى أنّ الحياة الدنيا لا يحسن أن ترجّح على الآخرة؛ بالنظر إلى الفارق بينهما، فمتاع الحياة الدنيا حتّى لو كان قريب المنال وكثيرًا، فإنّه سريع الزوال، أما متاع الآخرة فهو خالدٌ دائمٌ، ولا عاقل يفضِّل الزائل على الخالد. هذه هي الرؤية الإسلامية التي تختصر موقف الإسلام من الدنيا والآخرة.

 

 


[1] أصل الكلمة "تثاقلتم"، وبعد إدغام التاء في الثاء أضيفت الهمزة، فصارت الكلمة على نحو ما وردت في الآية الشريفة.

[2] الأصل في الاستفهام والسؤال طلب العلم بشيء؛ ولكنّ من الأساليب الأدبية في التعبير أن يُطرح السؤال ويُراد منه الاستنكار على المخاطب وتأنيبه أو توبيخه على موقفٍ أو فعلٍ.

 

254


214

تفسير سورة براءة

منهج القرآن في التربية والتعليم

يقوم منهج القرآن الكريم على الجمع بين بيان التعاليم وتقديمها والتربية الفكريّة عليها. وبعبارة أخرى: يجمع القرآن بين بيان الحقائق وبثّ روح الالتزام بها والتربية عليها. وهذا المنهج في التربية يثير في الإنسان روح المسؤولية ويجعله مستعدًّا للعمل وفق تلك الحقائق المبيّنة. وهذا المنهج هو الأسلوب الأمثل في التربية والتعليم.

 

تأنيب المؤمنين بهدف تربيتهم روحيًّا

أسلوب التأديب في القرآن يعيدُ الإنسان إلى ذاته، ويربّي فيه روحَه. فعندما يرضى الإنسان بالقليل من المتاع، فيُلفت نظره إلى ضآلة ما حصل عليه، ينتبه إلى الخسارة التي وقع فيها. وهذا تعليم وبيانٌ للواقعِ وحقيقةِ الأمر، وتربيةٌ في الوقت نفسه وتنمية للروح. والآية اللاحقة تفعل الشيء نفسه وتعلّم وتربّي بالطريقة عينها؛ حيث تشرح هذه الآية للمسلمين وتبيّن لهم أنّ حركة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لن تتوقّف إذا تخلّيتم عنه، فإنّ الله سيستبدل غيرَكم من الناس بكم، ويؤدّون ما كان يجب عليكم أداؤه تجاه رسول الله.

 

وخطاب "ما لكم"، لا يتناسب مع أهل الإيمان والذين وصلوا إلى مقام الإيمان. فالإنسان العاديّ قد يرجّح الدنيا على الآخرة، ويحرص على الأولى ويتخلّى عن الآخرة من أجلها، أما المؤمن فلا ينبغي له ذلك، وبالتالي ترمي هذه الآية إلى لفت نظر المسلمين إلى أنّهم تصرّفوا بغير الطريقة المتوقّعة منهم. وكأنّها تقول إنّ المتوقّع منك أيّها المؤمن هو ترجيح الآخرة على الدنيا، وما كان يُتوقّع منك التثاقل في السعي في أمور الآخرة! لأنّ من يدّعي الإيمان يعرف قيمة الدنيا وقيمة الآخرة وعليه أن يتصرّف وفق معرفته. ولو أنّ المسلمين المخاطبين بهذه الآية كانوا على حالة من الانسجام بين ما يعتقدون وما يفعلون لما خوطبوا بعبارة: "ما لكم".

 

وذلك الذي يعرف معنى الإسلام وحقيقته ويفهم طبيعة النظرة

 

255

 


215

تفسير سورة براءة

الإسلامية إلى الدنيا والآخرة، يُقال له: "لماذا؟" عندما يلتصق بالأرض ويتمسّك بها، ويُسأل هل غفلت عمّا تعتقد به تجاه الدنيا والآخرة؟ هل غرّتك الدنيا وشدّتك إليها وسُرَّ قلبك بها، فرضيت بها بديلًا عن الآخرة؟ لماذا لا تجيب داعي الله إلى الجهاد؟! "فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ".

 

إذا أردتَ الوصول إلى جنّة الخلد عليك أن تسير عشرات الفراسخ. ولكنّك رجّحت المقصد القريب على المقصد البعيد الأفضل!

 

قلّة فوائد الدنيا بالقياس إلى ثواب الآخرة

يرى المفسِّرون أن معنى قوله تعالى: "فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ"، أنّ متاع الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل، وهذه الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليلة لا قيمة لها. وبالتالي يفسِّرون "في الآخرة" بمعنى "في جنب الآخرة"؛ ولكن يبدو لي أنّ التفسير الأصحّ هو "متاع الآخرة"، وبالتالي المقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.

 

وتوضيح ذلك أنّ الهدف من مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا بما هي عليه من خصائص ومواصفات هو الوصول إلى الكمالات الممكنة، ونقلها من حالة الاستعداد والكمون إلى حالة الفعليّة والظهور. كلّ الحياة الدنيا وما هو متاحٌ فيها من إمكانات ومقدّرات ينبغي أن تُصرف في هذا السبيل؛ أي في سبيل تكامل إنسانية الإنسان. وعلى الإنسان أن يسعى للوصول إلى كماله الواقعيّ. وبعد الوصول إلى الكمال المتاح في الدنيا، فإنّ محل الاستفادة من هذا الكمال ليس هنا؛ بل في الآخرة. أنت تسعى إلى آخر العمر وتكافح لتكمُل. وعندما تموت تكون رحلة التكامل قد انتهت: "الدنيا مزرعة الآخرة"[1]. وهذا يعني أنّ عليك استهلاك بدنك واستثماره لتنضج[2]، حتّى


 


[1] عوالي اللآلي، ج 1، ص 267.

[2] استخدم سماحته أسلوب الكناية للتعبير عن هذه الفكرة باستخدام مصطلحات مستوحاة من صنعة البناء وإعداد الطين لتحويله إلى مادة صالحة لاستخدامها في البناء. (من محرّر الأصل الفارسي)

 

 

256


216

تفسير سورة براءة

إذا ما وصلت إلى المحطة الأخيرة تكون قد تكاملتَ.

 

وبهذا البيان نستطيع إثبات فكرة المعاد ومسألة الآخرة والحياة بعد الموت. وشرح ذلك أنّ الإنسان عليه أن يبقى في حالة عملٍ ومكابدة دائمة إلى أن يلفظ النفس الأخير، وبعده ينبغي أن يكون ثمّة عالمٌ يستفيد فيه من نتائج كفاحه ونضاله في حياته التي انقضت. وبالتالي فإنّ الإنسان يعمل طوال العمر ليصل إلى تلك اللحظة التي هي بعينها الآخرة، حيث النعيم ووعد الله بالجنّة.

 

وهذا يشبه ما لو قيل لأحدهم إذا سرتَ في هذا الطريق فسوف تصل في نهايته إلى الماء العذب. فسوف يسير هذا الشخص ويستفيد أثناء سيره ممّا يتوافر بين يديه ليستطيع الوصول إلى المنبع العذب، والآخرة أيضًا يجب تأمينها في الدنيا، ولا يقدر الإنسان على الوصول إلى البحر والمقصد الأصيل إلا إذا استثمر ما أتيح بين يديه في الطريق.

 

والمتاع والمنفعة القريبة هي ما يحصّله الإنسان في مساره، وربّما بحسب المثال المتقدّم يشرب من الماء المتوافر على الطريق.

 

ولكنّ المتاع الأكبر والمنفعة الأهمّ هي التي تنتظر الإنسان في نهاية مسيرته، وعليه أن يضحّي ويكابد حتّى يصل إلى المقصد الأهمّ. وفي المثال لو فرضنا أنّ الإنسان توقّف عن السير وانشغل بما توافر لديه من ماء، وصرف النظر عن الماء الأعذب الذي ينتظره، فهل يعدّ هذا الإنسان عاقلًا؟ الجواب: لا؛ وذلك لأنّه اكتفى بالجرعة أو الجرعتين اللتين توافرتا بين يديه، وتخلّى عن المعين الذي لا ينضب، ولو أنّه واصل السير حتى الوصول إلى المقصد لارتوى بماء لا يظمأ بعده أبدًا.

 

وإذا قيل لمثل هذا الشخص: ما نلتَه قليلٌ، وما شربتَه قليلٌ! لكان هذا التقويم صحيحًا. وواقع المطلب الذي نحن بصدد بيانه من هذا الباب، أنَّ متاع الدنيا مهما كثر قليلٌ، والمتاع الأكثر والأهمّ، هو متاع الآخرة وما فيها حتّى لو كان بعيدًا.

 

 

257


217

تفسير سورة براءة

أحد مبادئ الفكر الإسلامي

الآية اللاحقة تبيّن الرؤية الإسلاميّة وتكشف عن حقيقةٍ عاليةٍ عميقةٍ، وتقول للمسلمين: إذا لم تنفروا مع نبيّكم، سوف ينفر معه آخرون؛ ولا يظنّن أحدٌ منكم أنّه إذا لم يذهب، ولم يشبك يده بأيدي سائر المسلمين لحمل هذه الأمانة، فسوف تبقى الأمانة مطروحةً أرضًا. القصة ليست على هذا النحو أبدًا، فما تتركونه أرضًا يحمله غيركم من الناس: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

وهذه الحقيقة هي أحد مبادئ الفكر الإسلاميّ، وقد كشف عنها القرآن في مواضع عدّة[1]، وحاصل هذا المبدإ هو: لا تظنّوا أيّها المسلمون أنّ الإسلام مرهونٌ بكم، فإذا أخليتم عواتقكم سوف يبقى مطروحًا وسوف يتوقّف تطوره وتتجمّد مسيرته. لا؛ إنّ الإسلام مقدّرٌ له أن يصل إلى محلٍّ مّا، وسوف يصل إلى هذا المحلّ، غاية الأمر أنّه كان لكم شرف الانطلاق به، ولا يحسن بكم أن تتخلّوا عن هذا الشرف وتسلّموا الراية لغيركم من البدلاء.

 

الدين يسير بطريقة طبيعيّة؛ لأنّه موافقٌ للفطرة ومنسجم مع نظام الخلق والعالم. وهذا أشبه بصندوق يوضع على سطح الماء الجاري فسواء دفعتَ به أم لم تدفعْه سوف يسير ويتابع مساره، فهذه هي طبيعة القوانين التي تحكم حركة الأشياء.

وسفينة الإسلام سوف تتابع مسارها، المهم أن لا توضع العراقيل في وجهها. والتجديف والجهد مطلوبان حيث يكون السير بعكس تيار الماء، أما عندما يكون السير مع التيار، فلا حاجة إلى جهد يُبذل، كل المطلوب هو ترك الأشياء تتابع مسارها، والأمر نفسه ينطبق على الدين، المطلوب من الناس هو رفع العوائق من طريق الدين، وترك متابعة المسار لقوانين الفطرة والاعتماد على انسجام الدين مع نظام الخلق.


 


[1] سورة المائدة: الآية 59؛ سورة محمد: الآية 38.

 

258


218

تفسير سورة براءة

وهذا يشبه أيضًا الحَجَر الذي يُرمى من الأعلى، فإنّه لا يحتاج إلى قوّة دفعٍ تدفعه نحو الأرض، فمساره الطبيعيّ ينتهي به إلى الأرض ما لم يواجه عائقًا يحول بينه وبين الوصول إلى مستقرّه. والحجَر الذي يحتاج إلى قذف وقوّة دفع هو الحجَر الذي يُرمى به في الاتجاه المعاكس أو على الأقلّ غير الموافق لجاذبية الأرض، فمثل هذا الحجر يحتاج إلى عضد وساعد يرمي به إلى الأعلى أو إلى الأمام، وعندما تنتهي الطاقة الدافعة له يعود ويسير باتّجاه الأرض ويستسلم لقوّة جاذبيّتها. والمسار الطبيعيّ لدين الحقّ على هذا النحو.

 

وعلى هذا، لا ينبغي أن تقولوا كان فلان صاحب دينٍ والآن لم يعد كذلك، ولا تقولوا: كان يظهر منه زيادة الدين والآن قلّ اللون الدينيّ عنده؛ ولا: الأندلس كانت يومًا مّا مسلمةً والآن صارت أسبانيا مسيحيّةً.

 

فلا يعني انتشار الدين واتّساع نطاقه أنّ شخصًا اسمه مثلًا "عبد الرحمن الناصر"[1] أسّس دولةً في الأندلس واليوم هذه الدولة لا وجود لها، ولا ندري أيّ دولةٍ كانت تلك الدولة. ليس هذا هو معنى تجذّر الدين وتعمّقه. لا يعني الدين أنّ السلطان الفلانيّ في الهند، أو الخليفة العبّاسي في بغداد، أو الخليفة الفاطمي في مصر، أو السلطان العثماني في تركيا، أو الحاكم الأمويّ في الأندلس كانت له سلطة ودولة في يومٍ والآن زالت دولته. إنّ الإسلام الذي نفكّر فيه والذي نقول إنّه منسجمٌ مع الفطرة لا يتوافق في كثير من مبادئه وتفاصيله مع الإسلام الذي كان في أيدي هؤلاء الخلفاء والحكّام.

 

الإسلام الذي نعتقد أنّه باقٍ وخالدٌ، والإسلام الصحيح المطابق للفطرة، حركته عالميّةٌ ليست مرهونةً بهذا أو ذاك، هذا الإسلام الذي إذا تركته أنت اليوم سوف يأتي من يحمل رايته ويسير بها. الإسلام الحقيقيّ ليس إسلام المنصور ولا عبد الرحمن الناصر، ولا إسلام السلطان العثمانيّ وأمثالهم. الإسلام المطابق للفطرة هو المسار الدقيق الذي بقي وسوف يبقى


 


[1] (272 - 350 هـ.ق.)

 

259


219

تفسير سورة براءة

محفوظًا مهما انحرف الاجتماع الإسلاميّ عن أصوله ومبادئه.

 

ولفهم هذا المطلب بدرجة أدقّ تخيّلوا مجرًى واسعًا لنهر من الماء المالح والآسن يسير بسرعةٍ إلى مصبّه، وفي ثنايا هذا النهر جدول متواضعٌ من الماء العذب يجري مع الماء العظيم ولكنّه لا يختلط به، قد تتّفق سرعة الماءين وقد تختلف؛ ولكنّهما لا يختلطان أبدًا، ولا يمتزج أحدهما بالآخر. وهذا مثال صرفٌ وربّما لا يكون مجرّد افتراض، فربّما يوجد مجرى للماء في هذه الدنيا يجري فيه ماءان لا يختلط أحدهما بالآخر.

 

ومثَل الإسلام الحقيقيّ مثَل الماء العذب الذي يبقى في حالة حركة حتّى يصل إلى غايته ومصبّه، ولا يضيره، بل يكفيه أنّه لا تشوبه شائبة الماء الآسن.

 

ذلك الإسلام المتطابق مع فطرة العالم وخلقة بني آدم، هو ما نراه اليوم راسخًا ومتجذّرًا في عقائد الناس وأفكارهم، وترك أثره وطبع الوجود بطابعه، وجذب كثيرًا من القلوب إليه، وبين يوم وآخر يتصدّى جيلٌ من الناس لحمل رايته والدعوة إلى تعاليمه، وكلّما تخلّى عنه قومٌ استبدل الله بهم غيرهم.

 

وهو هذه الشعلة التي يتخلّى عنها بعض الناس أو يحاولون إطفاءها، ثم يأتي من يتعهّدها من جديد ويعيد إشعالها في مكانٍ آخر. وربّما يعطيها بعضٌ اسمًا آخر؛ ولكنّ روحها وحقيقتها واحدة لا تتغيّر.

 

وإذا عدنا إلى مثال الماء، فإنّكم إذا جزّأتم هذا الماء وفصلتموه إلى نوعيه، سوف تجدون أنّ ذلك الجدول المتواضع هو الذي سيبقى وسيستولي على الدنيا كلّها ويروي عطشها، وسوف تتجلّى حقيقته وتخيّم على العالم، وهذا هو وعيد القرآن وتهديده للمسلمين حيث يقول لهم: إذا تخلّيتم عن الإسلام وأخليتم عواتقكم منه، فسوف يأتي الله بقومٍ آخرين يحبّهم ويحبّونه، هؤلاء هم المتسامحون أهل اللين مع إخوانهم المؤمنين، وأهل الشدّة على الكافرين، وهؤلاء هم الذين لا يأبهون للوم أو تأنيب إذا كان ذلك في سبيل الله: ﴿يَا أَيُّهَا

 

260


220

تفسير سورة براءة

الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[1].

 

وهذه الحقيقة بيّنها الله في آية أخرى بطريقة ثانية؛ حيث لفت نظرهم إلى أنّه عندما يدعون لينفقوا في سبيل الله، عليهم أن لا يظنّوا في الله حاجة إليهم، وأن لا يظنّوا أنّهم إذا بخلوا وأحجموا عن الإنفاق يكونون قد بخلوا على الله ووفّروا على أنفسهم، بل عليهم أن يفهموا أن آثار البخل سوف ترتدّ عليهم هم، وأنّهم لم يبخلوا إلا على أنفسهم، وأنّ تركهم الواجب لا يعني سقوطه بأيّ حال، بل سيأتي آخرون ويحملون مشعل الإسلام وينفقون أموالهم في سبيل الحفاظ على هذا النور: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[2].

 

وبناءً على ما تقدّم كلّه سوف يأتي ذلك اليوم الذي تُبنى فيه مدينة الإسلام الفاضلة، وتتحقّق تلك الجنّة الأرضية. وغاية الشرف ونهايته أن يتولّى بعض الناس بدل آخرين كانوا مرشّحين لأداء هذه المهمّة، ولن يضرّ الله ولن يضيره تخلّي هؤلاء واهتمام أولئك، وإنّ من سنن الله في هذا العالم أن يعلو الإسلام، ومن سنن العقاب الإلهيّ أن يحيق العذاب الأليم بأولئك الذين حادوا عن صراط الأنبياء وطريق هدايتهم.

 

عذاب التخلّي عن نصرة الدين

في هذه السورة وعيدٌ من الله تعالى للذين لا يلبّون الدعوة إلى نصرة الدين: "إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا". هذا وليس بالضروة أن يكون العذاب المتوعّد به هو عذاب الآخرة فقط، وإنّه لمن ضيق الأفق ما جرت


 


[1] سورة المائدة: الآية 54.

[2] سورة محمّد: الآية 38.

 

261


221

تفسير سورة براءة

عليه العادة من تبادر العذاب الأخرويّ إلى الأذهان عندما تُسمع هذه الكلمة من القرآن الكريم أو من غيره من المصادر الدينيّة. فمن العذاب الذي يصيب المتخلّفين عن الجهاد، العذاب المباشر الذي يلازم التخلّي عن أداء الواجب، وهو عذاب الذلّ والخزي الناجم عن تسلّط الأعداء.

 

والعذاب في مقابل التاريخ، والعذاب الذي يترتّب على تجاهل الحقّ والحقيقة، وما ينجم عنه من عدم نيل السعادة، وعذاب الضمير، كلّ هذه العذابات هي عذابات تصيب مستحقّها في الدنيا. والضيق الاقتصاديّ وقلّة ذات اليد عذابٌ آخر يترتّب في كثيرٍ من الحالات على ترك الجهاد ونصرة الدين؛ وذلك لأنّ عمارة الدنيا تكون بالدين أيضًا؛ وبناءً على هذا كلّه، ينبغي توسعة دائرة دلالة العذاب المشار إليه في الآية إلى عذاب الدنيا أيضًا.

 

عندما يدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد ولا يُستجاب له، النتيجة التي تترتّب على عدم الاستجابة هي عدم تحقّق المجتمع الإسلاميّ، أو تضعيف المجتمع الموجود والحيلولة دون قوّته، وهذا يعني قوّة الأعداء وغلبتهم. وقد يؤدّي ذلك إلى انهيار المجتمع الإسلاميّ وعودة الناس إلى الجاهليّة والشرك، لتحكم دولة الطاغوت بدل دولة الله، ويُدعى إلى طاعة الطاغوت بدل طاعة الله، وحتّى لو افترضنا أنّ دولة الإسلام بقيت قائمةً، ولكنّها سوف تُدار بواسطة الأعداء المتغلّبين وسوف تكون ألعوبة للمستعمرين، وينجم عن ذلك استعباد المسلمين للكفّار.

 

وخلاصة القول: إنّ ترك الجهاد يؤدّي إلى تسلّط الأعداء، وإلى إذلال المسلمين واستعبادهم، وسوف يتحوّل المسلمون شاؤوا ذلك أم أبَوا إلى قوّة تُضاف إلى قوّة العدوّ.

 

ولو أنّ جنود الإسلام في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصابتهم رهبة الموت، وأحجموا عن النفر إلى ساحات الجهاد، لسيطر الروم واليهود ومشركو قريش على المجتمع الإسلاميّ. وقد حصل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنتيجة كانت أن الدولة التي كان يبشِّر بها الإمام عليّ عليه السلام لم تستطع الاستمرار، وآلت الأمور

 

 

262


222

تفسير سورة براءة

إلى دولٍ أخرى وأصاب الناسَ عذابٌ أليمٌ.

 

وقبل أن تمضيَ على وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثلاثين سنةً، تسلّط معاوية على رقاب المسلمين وعلى المجتمع الإسلاميّ، وبدّل دولة الإسلام والمسلمين إلى دولة الطاغوت، وأذلّ المسلمين وأعزّ المنافقين.

 

عندما يتخاذل المسلمون عن النفر إلى ساحات الجهاد، تكون العاقبة هي الابتلاء بهذا العذاب، وسوف يكون ذلك في الدنيا أوّلًا وفي الآخرة ثانيًا وأخيرًا، وهذا هو معنى: "الدنيا مزرعة الآخرة". العمل صالحًا كان أم سيّئًا سوف يرى الإنسان نتيجته في العاجل والآجل. وهذا هو القانون الإلهيّ الحاكم على نظام الخلق البشريّ، كلّما تخلّى المجتمع عن واجباته في طريق الحقّ، وأخلى عاتقه من المسؤوليّات المطلوبة منه، سوف يُبتلى بالفقر والذلّ في الدنيا، وسوف يكون تعيس الحظّ في الآخرة.

 

هذه هي الرؤية الإسلاميّة في مجال التربية، حيث تقتضي الإخبار عن القوانين والسنن الاجتماعيّة. يبيّن الله تعالى في هذه الآية الآتي: لا تحسبوا أنّ تخلّيكم عن الإسلام سوف يجعله غريبًا وحيدًا لا ناصر له ولا حامل لرايته! لا؛ إنّ هدف الله وغايته من إنزال الكتب وإرسال الأنبياء سوف يتحقّق بكم أو بغيركم من الذين يأتون ويثبتون حيث تخاذلتم وتراجعتم، وسوف يسيرون في طريق الله، ويحملون هذه الأمانة ويبلغوا بها المحلّ الذي قدِّر لها: "وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ".

 

يتحدّث أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة مشهورة له عن الجهاد وعواقب تركه، فيقول: "إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه... فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ.."[1].

 

"وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا": ينفي الله في هذه العبارة لحوق الضرر بالله تعالى نتيجة تخاذل المتخاذلين عن الجهاد؛ وذلك لأنّ الله غنيٌّ بالذات لا حاجة له إلى أحدٍ أو شيء.


 


[1] الكافي، ج 5، ص 4.

 

263


223

تفسير سورة براءة

وربّما يكون المقصود من هذه الجملة عدم لحوق الضرر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك لأنّ الله تعالى وقاه من جميع البلايا وحفظه بالملائكة وغيرهم. أو أنّ المراد الإشارة إلى أنّ قومًا غير المتخاذلين سوف يؤدّوا المهمّة، وفي هذه الحالة سوف يتحقّق ما يريد الله ورسوله، ولن يتضرّر إلا المتخاذلون، وسوف يبقى الدين جاريًا في مساره المقرّر له. وتختم الآية بالإشارة إلى قدرة الله على كلّ شيء، سواء كان عذابهم الذي أوعدهم به، أو استبدال غيرهم بهم: "وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

 

ترقّي المعارف الإلهيّة

تعيد هذه الآية بيانَ واحدٍ من أهمّ المعارف الإلهيّة في الأديان كلّها. والمعارف التي يوحيها الله تعالى إلى أنبيائه بدءًا من آدم إلى خاتم الأنبياء، بينها جهة اشتراك واتّحاد؛ ولكنّها أحيانًا تشتدّ وتتعمّق وأحيانًا تكون أسهل وأبسط، وهذا يشبه بعض ما يتكرّر في دروس الحساب والرياضيات في عددٍ من السنوات الدراسيّة، ولكن مع تفاوتٍ في مستوى العمق والصعوبة.

 

والمعارف الإلهيّة الموحاة من الله هذا هو حالها، هي واحدةٌ من زمان آدم عليه السلام إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولكنّها صارت أكثر عمقًا في النسخة الأخيرة من الدين الإلهيّ، فالمعارف من جهة كشفها وبيانها للحقائق الثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر من نبيٍّ إلى نبيٍّ، ولكنّها تتطوّر وتترقّى. وعليه فمن الخطإ الاعتقاد بأنّ المعارف الإلهيّة لا تتطوّر؛ بل هي تتطوّر من جيل إلى جيل، وقد وعد الله بهذا، وهذا الترقّي هو الذي ينسجم مع تطوّر وعي البشريّة ونموّها الفكريّ.

 

بقاء التكليف بالجهاد مع جميع الصعوبات

يُستفاد من هذه الآية أنّ التكليف بالجهاد لا يسقط في أيّ حال، بل هو تكليف ثابتٌ مهما كان صعبًا وشاقًّا، وهذا يكشف عن عدم صحّة التفسير

 

264

 


224

تفسير سورة براءة

الذي يُفرض لقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾[1].

 

ما ينبغي أن يُفهم من قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، هو أنّ التكليف بالجهاد في سبيل الله لا يسقط مهما تعاظمت صعوباته؛ وذلك أنّنا رأينا ضخامة المشكلات التي واجهت جيش الإسلام في معركة تبوك، ومن ذلك حداثة رجوعهم من معركة الطائف، وحاجة المعركة إلى البعد عن الأسر، ومكابدة الحرّ وترك الأوطان وظلال البيوت والبساتين، واحتمال خسارة الموسم الذي كان قد آن أوانه، وفوق هذا كلّه مواجهة عدوٍّ مجهّز بالعدد والعدّة، هو المنافس الوحيد للإمبراطورية الفارسية في ذلك الوقت.

 

هذه بعض المشكلات التي كانت تواجه المسلمين وتجعل بعضهم يتردّد في النفر إلى معركة تبوك، ولعلّه كان لهم بعض الحقّ في التردّد وفي أن يقولوا للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم لا نريد خوض هذه الحرب؛ ولكنّنا نجد أنّ الله يواجه هؤلاء المتردّدين بتهديدهم بالعذاب الأليم، ولا يعفيهم من التكليف.

 

فهذه الآية تفيد وجوب مواجهة المشكلات والصعوبات؛ وذلك أنّ تعاظم الصعوبات والمشاقّ لا يعني بالضرورة أنّها أعظم من الوسع والطاقة، وبالتالي لا تجعل التكليف غير مقدورٍ. ولو لم يكن التكليف ممكنًا لما شرّعه الله لك، ولما طالبك به. غاية الأمر أنّ على الإنسان أن يوسّع قدراته ويزيد من طاقته. وكثيرًا ما يحصل أن يعجز الإنسان عن رفع حملٍ من الأحمال، أو أداء مهمّة، ولكنّه لا يقف عاجزًا، بل نجده يتحايل على الحمل ويحاول أداء المهمّة، وفي كثيرٍ من الحالات ينجح. وما أجمل قول أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "أتزعم أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر"[2]. وعلى أيّ حال إنّ الله يعلم مدى قدرة الإنسان، وبالتالي عندما يكلّفنا بشيء، فلا ينبغي الشكّ في أنّه ممكنٌ.


 


[1] سورة البقرة: الآية 286.

[2] الديوان المنسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام ص 179.

 

265


225

تفسير سورة براءة

بعد كشف هذه الآيات عن النظرة الإسلاميّة إلى الجهاد، في سياق الدعوة إليه، وبعد الإشارة إلى تردّد بعض المسلمين وتهديدهم وبيان ما يترتّب على تركهم التكليف بالجهاد، تتابع الآيات وتشجّع المسلمين وتثير الطمأنينة في نفوسهم، بالكشف عن عناية الله تعالى بنبيّه وتعهده بنصرته في مواطن سابقةٍ.

 

وهذا الأسلوب في البيان له وقعٌ روحيٌّ على المسلمين في ذلك الوقت. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يكشف لهم في هذه الآيات عن أنّه لن يترك نبيّه حتّى لو تركه المؤمنون به، ويبيّن لهم أنّها ليست المرّة الأولى التي يتولّى فيها سبحانه أمر رسوله والعناية به، ونصرته عند الحاجة.

 

وممّا تشير إليه الآيات الآتية قصّة هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة يوم خرج معه أبو بكرٍ كما ورد في كتب التاريخ والسيرة، ولاحقتهما قريش حتّى اضطرّا إلى اللجوء إلى أحد الكهوف، وكادوا يمسكون بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويعيدونه إلى مكّة؛ ولكنّ الله تولّى أمر نبيّه وفشلت خطّة قريش وعجزت عن الإمساك به: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

 

في تلك الواقعة من المعروف أنّ مشركي قريش ضيّقوا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى اضطرّ إلى الخروج من بيته ووطنه، وقد أعانه الله ونصره عليهم، ولم يكن يحميه منهم سوى الهجرة واللجوء إلى الغار في الطريق، ويبدو أنّ صاحبه في الغار كان خائفًا حزينًا، فحاول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تهدئة روعه وتأمين فزعته، ودعاه إلى ترك الحزن والخوف، وطمأنه بأنّه يسير وفق الخطّة والتكليف الإلهيّ، وبالتالي لا بدّ من النجاة والفوز: "إِنَّ اللّهَ مَعَنَا".

 

"وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا": قضى الله بأن تكون كلمة الباطل هي السفلى وكلمة الحقّ المنسجمة مع الفطرة هي العليا، وهذا قانونٌ يصدّقه الواقع عبر

 

266

 


226

تفسير سورة براءة

التاريخ؛ إذ قد يكون للباطل جولةٌ ينتصر فيها، ولكن في نهاية المطاف لا بدّ للحقّ أن ينتصر، والعنصر الأساس في هذا النصر، هو انسجام الحقّ مع الفطرة والطبيعة البشريّة، ولهذا نؤمن بأنّ البشريّة سوف تميل إلى الإسلام ولو بعد حينٍ، ولهذا نؤمن بأنّ المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف سوف يظهر وسوف تكون له دولةٌ وأيّ دولة.

 

"وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ": إنّ الله "غالِبٌ لا يُغلَب"، وما يريده لا بدّ من أن يتحقّق. وهو سبحانه حكيمٌ وعالمٌ وصنعه متقنٌ، وأفعاله منسجمة مع الحكمة على الدوام.

 

وحاصل ما يُستفاد من هذه الآية:

أوّلًا: تعزيز معنويّات المسلمين وشدّ عزيمتهم. فالآية تعلمهم أو تذكّرهم بأنّ الله هو الضامن لنصرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه لم يتركه في أحلك الظروف ولن يتركه. وعندما يسمعون هذا الإخبار وعندما يطّلعون على هذا الوعد المتجدّد، سوف تزول كلّ أشكال الخشية من رؤوسهم، وسوف تقوى عزيمتهم على مواجهة الروم، وسوف يزول التردّد الناجم عن استثقال أعباء الجهاد الذي كانوا يشكّون في انتهاء تجربته بنصرٍ.

 

ثانيًا: عندما يلتفت الإنسان إلى أنّ تركه وإحجامه عن أداء تكليفه وإنجاز المهمّات العظمى الموكلة إليه، لن يؤدّي إلى سقوط هذه التكاليف وبقاء هذه المهامّ دون إنجاز؛ بل سوف ينال آخرون شرفَ إنجازها وأدائها، عندما يلتفت الإنسان إلى هذا الأمر من الطبيعيّ أن تتحرّك فيه الحميّة، ويرغب في نيل هذا الشرف.

 

وعندما يسمع المسلم على لسان أصدق القائلين، أنّه نصر نبيّه في ظروف لم يكن النصر فيها متوقّعًا أو محتملًا، يلتفت إلى العناية الإلهيّة بهذا النبيّ، ويسأل نفسه لماذا لا أكون واسطةً ومجرًى لهذه العناية، فأنال شرف التوسّط على الأقل ما دامت العلّة الأهمّ والأساس هي العناية الإلهيّة؟ وأي شرفٍ

 

 

267

 


227

تفسير سورة براءة

أخطر من أن يكون الإنسان واسطةً لتحقّق الإرادة الإلهيّة وسببًا. وهذا الإحساس وهذا التساؤل، مضافًا إلى شدّه عزيمة الإنسان، فإنّه يشعره بالغبطة ويدفعه نحو أداء ما يُطلب منه بسرور.

 

ثالثًا: تذكّر الآيةُ المسلمين بواحدة من أجمل الوقائع التي حصلت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. في ذلك اليوم كان المهاجرون والأنصار قليلي العدد في المدينة. والمخاطبون بهذه الآية أكثرهم حديثو الإسلام من الذين عادوا لتوّهم من معركة الطائف، أو شاركوا من زمن غير بعيد في صلح الحديبية أو فتح مكّة وأسلموا في تلك الوقائع، وكثيرٌ من هؤلاء لا خبر عندهم عن ماضي الإسلام القريب، وما حصل مع رسول الله قبل دخوله إلى المدينة. ومن هنا، فإنّ تذكيرهم بهذه الوقائع وكشفها لهم، يترك أثره العظيم على روحيّاتهم وعزائمهم.

 

إنّ من أخطر الأساليب التي تؤدّي إلى فشل أمّة من الأمم وتضعيف نفوس أفرادها، سلبُ الثقة بالنفس من هؤلاء الأفراد، وذلك بأن يقنع هؤلاء الناس بأنّ عالِمَهم ليس عالمًا، وشجاعَهم ليس شجاعًا... ويعملوا بحيث يبدو تاريخ هذه الأمّة غير ذي شأنٍ فتغدو هذه الأمّة بلا تاريخ ومن غير ماضٍ. وإنّ من أخطر الأمراض التي تصيب الأمم أن تنسى تاريخها، وتشعر بأنّها بنت اليوم لا ماضي لها، وعلى العكس من ذلك فإنّ من أجمل الأمور أن تعتزّ الأمّة بتاريخها وأن تنظر إلى ماضيها فتجد أنّ لها ماضيًا مشرّفًا.

 

بعض المسلمين في ذلك الزمان كانوا من الأنصار، وكان في ذاكرتهم وكتاب أعمالهم وقائع مشرّفة. وبعضهم كانوا من المهاجرين، كان لهم مثل ذلك أيضًا. وإلى جانب هاتين الفئتين من المسلمين آخرون من حديثي الإسلام من الأعراب ومن بعض الأعداء السابقين الذين دخلوا في الإسلام، ولكنّهم لا يحملون في ذاكرتهم شيئًا من ذلك التاريخ القريب للإسلام. وما تهدف إليه هذه الآية هو لفت نظر هذا الصنف من المسلمين إلى تعهّد الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم في حالات أصعب من هذه الحالة. وهذا التذكير له وقعه

 

 

268

 


228

تفسير سورة براءة

وتأثيره في المسلمين جميعًا، وفي هذه الفئة الأخيرة على وجه الخصوص.

 

هذه الملاحظات الثلاث الأهمّ التي يمكن استفادتها من هذه الآية. ولا شكّ في أنّ التأمّل في أبعاد الآية يكشف عن ملاحظات أخرى ويبيّن مرامي مختلفة يمكن استفادتها منها.

 

نقد فهم أهل السنّة لهذه الآية

يقودنا الحديث عن هذه الآية بعد فهمها إلى بحث واسعٍ نختم به معالجتنا لها. إخواننا من أهل السنّة يصرّون على أنّ هذه الآية تشير إلى فضيلة من فضائل أبي بكرٍ؛ ونحن لا نرى فيها أيّ بيانٍ لفضيلة من هذا النوع.

 

"رشيد رضا"[1] صاحب التفسير المعروف المسمّى بـ"المنار"، هو من سلالة آل البيت عليهم السلام، ولكنّه لا يعتقد بأجداده، وهو متعصّبٌ ضدّ الشيعة وله موقفٌ سلبيٌّ منهم، وهو أداة من أدوات الاستعمار. يعترض في تفسيره[2] لهذه الآية على الشيعة وفهمهم إيّاها! وعلى أيّ حال نحن عندما ننظر في هذه الآية لا نرى أنّها تثبت فضيلةً لصاحب النبيّ. وليس فهمنا لهذه الآية بهذه الطريقة بدعًا بين التفاسير ولا ابتكارًا خاصًّا بنا مبنيًّا على موقف مذهبيٍّ؛ بل نجد أنّ عددًا من المفسِّرين يوافقوننا الرأي على الرغم من اختلافهم معنا في الموقف المذهبيّ من الصحابة عمومًا ومن هذا الصحابيّ على وجه الخصوص.

 

فالآية تخاطب المسلمين وتقول لهم: إنْ تخاذلتم عن نصرة نبيّكم فإنّ الله سوف يتولّى أمره وينصره هذه المرّة كما نصره في مرات سابقةٍ: "إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ".


 


[1] (1282-1354هـ.ق.) إصلاحيّ وناشطٌ اجتماعيٌّ جعل من وحدة المسلمين أحد أهدافه، وسعى إلى تجديد نظريّة الخلافة في الفكر السياسيّ الإسلاميّ المعاصر. وفي كتبه نقدٌ حادٌّ للمذهب الإماميّ ومعتقداته.

[2] انظر: المنار، ج 10، ص 450-459.

 

269


229

تفسير سورة براءة

ولكن متى فعل الله ذلك بنبيّه وفي أيّ موقعٍ؟ تكمل الآية وتخبرنا عن تلك الواقعة، فتقول: "إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ"؛ أي في ذلك الوقت حيث كان أكثر أهل مكّة من المشركين، فأقدموا على التضييق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى اضطروه إلى الهجرة من وطنه. كم عدد الذين هاجروا معه؟ هل خرج من موطنه ومعه جيش من المؤمنين به؟ تخبرنا الآية أنّه كان وحيدًا ومعه شخصٌ آخر. وكان ثاني الرجلين اللذين خرجا. ولا يعني كونه ثاني الرجلين فضيلة للرجل الأوّل؛ فهذا ليس مرادًا من الآية أبدًا، إذ عندما يتصاحب رجلان، يكون كلّ واحدٍ منهما ثانيًا لصاحبه. وبعبارة أخرى: كل ما تريد الآية بيانه أنّ عدد الخارجين في تلك الواقعة كان اثنين.

 

ثم تكمل الآية وتبيّن طبيعة الظروف المحيطة بتلك الهجرة والتأييد الذي ناله النبيّ في تلك الظروف، فتقول: "إِذْ هُمَا فِي الْغَار". أي لم يكن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم راكبًا صهوة فرسٍ، ولا مسلّحًا بسيف، حتى يدافع هو وصاحبه عن نفسيهما إذا أتاهما العدوّ؛ بل اضطرّا إلى الاختباء في الغار المعروف بغار ثور، وهو يبعد عن مكّة ستّة أميال؛ أي حوالى فرسخين، وهو على حدّ تعبير إبراهيم المصري[1] الذي شاهد الغار عن قرب: "ولمّا بلغنا الغار وجدناه صخرة مجوّفة في قنة الجبل أشبه بسفينة صغيرة ظهرها إلى أعلى ولها فتحتان في مقدّمها واحدة وفي مؤخّرها أخرى، وقد دخلتُ من الغربية زاحفًا على بطني مادًّا ذراعيّ إلى الأمام وخرجتُ من الشرقية التي تتّسع عن الأولى قليلًا... والفتحة الصغيرة عرضها ثلاثة أشبار في شبرين تقريبًا، وهي الفتحة الأصلية التي دخل منها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهي من ناحية الغرب. أمّا الفتحة الأخرى فهي في الشرق، ويُقال إنّها محدثة ليسهل على الناس الدخول إلى الغار والخروج منه..".[2]. في مثل هذه الظروف مهما كان الإنسان قويًّا؛ حتى


 


[1] إبراهيم بن شريف، المعروف بإبراهيم رفعت باشا (1273- بقي حيًّا إلى 1353 هـ.ق.)

[2] إبراهيم رفعت باشا، مرآة الحرمين، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1344 هـ.ق.، ج 1، ص 62.

 

270


230

تفسير سورة براءة

لو كان "رُسْتَمْ دَسْتَانْ"[1] فإنّه في مثل هذه الظروف وفي مثل هذا الموقع لا يستطيع الدفاع عن نفسه. ففي مثل هذه الأوضاع بمخاطرها وصعوباتها، تعهّد الله نبيّه وتولّى أمر نصرته والدفاع عنه.

 

ومن الصعوبات التي واجهت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الهجرة أنّ رفيق سفره كان خائفًا، ما استدعى تهدئة خوفه والتخفيف عنه: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ". ولو كان هذا الصاحب شجاعًا لما حزن، ولما كان ثمّة داعٍ للتخفيف عنه بدعوته إلى عدم الحزن. ورشيد رضا نفسه يقول في تفسير هذه العبارة: "...كان يقول لصاحبه... حين رأى عليه أمارة الحزن والجزع، أو كلّما سمع منه كلمةً تدلّ على الخوف والفزع: لا تحزن، الحزن انفعالٌ نفسيٌّ اضطراريٌّ يُراد بالنهي عنه مجاهدته، وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن وهو تألّم النفس ممّا وقع، يستلزم النهي عن الخوف ممّا يُتوقع، وقد عبّر عن الماضي بصيغة الاستقبال (يقول) للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات.."..[2]

 

لا تقل الحزن أمرٌ طبيعيٌّ أو اضطراريٌّ. لا؛ فعندما يقول له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويكرّر قوله على حدّ تعبير رشيد رضا: "لا تحزن"، كأنّه يريد أن يقول له: "إذا كان الحزن قد أسر قلبك، فلا تسلم قلبك له، وحاول مجاهدة الحزن ومقاومته، واسعَ لتحرير قلبك من هذا الحزن، أو على الأقل لا تظهر الحزن فإنّ الله معنا".

 

وليس معنى "إنّ الله معنا" أنّ الله ثالثنا في الغار؛ فالله لا يحدّه مكانٌ ولا زمانٌ، فلا اثنين إلا والله معهما في أيّ مكانٍ كانا. وعندما كان الكفّار يخطّطون لقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان الله بينهم وكان يطّلع على أفعالهم، فلا مكان يمكن أن يغيب الله عنه. والمعيّة الخاصّة المذكورة في هذه الآية هي النصرة،


 


[1] بطل أسطوريٌّ فارسيّ، تغنّى الفردوسي الشاعر الإيرانيّ ببطولاته في ملحمته الشهيرة المعروفة بـ"شاهنامه". وتنسب إليه الكثير من الفضائل والمواقف الشجاعة. (المترجم)

[2] رشيد رضا، تفسير المنار، دار الكتب العلمية، بيروت، لا تاريخ، ج 10، ص 371.

 

271


231

تفسير سورة براءة

أي قدرة الله وقوّته معنا، وسننه وقوانينه التي سيّر المجتمعات البشريّة على أساسها، تسير وفق ما يخدم مصلحتنا. وبعبارة أخرى: إنّنا نسير وفق القوانين الإلهيّة والسنن التي جعلها الله تعالى.

 

أيّها الرفيق غير الموافق! نحن نسير في الصراط الذي جعله ربّ العالم وإلهه، ونحن نسير في الاتّجاه الموافق للقوانين والسنن الإلهيّة، وسوف نصل إلى الغاية المحدّدة لنا، وحالنا تشبه حال ورقة الشجر أو القشّة التي تسقط على سطح الماء الجاري، من الطبيعيّ أن تسير مع الماء. أمّا أعداؤنا فهم يسيرون في الاتّجاه المعاكس للتيار. فلماذا الخوف والحزن؟!

 

تقتضي سنن الله تعالى أن تخيّم ظلال الإسلام على العالم، وأن يميل الناس إلى هذا الدين الجديد، وأن ينهار ذلك النظام القديم كما تنهار الشجرة التي نخرها السوس من الداخل، حتّى لو بدت من الخارج شجرة ضخمة غليظة الجذع عظيمة الغصون والفروع، فهذه الشجرة ستنهار حتمًا عندما تواجه إعصار "لا إله إلا الله" القادم.

 

في هذه الوضعيّة الخطرة والصعبة التي كان عليها النبيّ عندما أخرِج من وطنه ومسقط رأسه، والضعف والخوف في مثل هذه الحالة أمرٌ طبيعيٌّ يصيب الناس العاديّين، ومن جهة أخرى العدوّ لم يكتفِ منه بالمغادرة والخروج؛ بل لاحقه واقتفى أثره في الطريق إلى باب الغار، فاضطرّ هو وصاحبه إلى الدخول في ذلك الغار الضيّق، وصاحبه على تلك الحالة التي تُستفاد من الآية، في مثل هذا الوضع تولّى الله نصرة نبيّه وحمايته.

 

في مثل هذه الأوضاع تخبرنا الآية عن الآليّات التي نصر الله بها نبيَّه، وذلك بأسلوبين أو بأمرين: الأوّل: إنزال الله الطمأنينة والسكينة على نفسه وقلبه: "فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ". والأسلوب الثاني، هو: تأييده بجنود من عالم الغيب لا يمكن للإنسان العاديّ رؤيتها والاطلاع عليها: "وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا".

 

 

272

 


232

تفسير سورة براءة

وهنا قد يُطرح سؤال هو: من المقصود بإنزال السكينة؟ ومن هو الشخص الذي أنزل الله السكينة عليه؟ هل يمكن أن يكون شخصًا آخر غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ في الجواب عن هذا السؤال نرى أنّه لا يمكن أن يكون من نزلت عليه السكينة، ومن نال التأييد الإلهيّ شخصًا غير النبيّ؛ وسياق الآية يفيد ذلك، فالمقصود هو ضرب تشبيه الوضع الذي كان عليه النبيّ في المدينة بوضعه الذي كان عليه عندما خرج مهاجرًا إليها، ولا يصحّ والحالة هذه أن يكون غيره هو المقصود في الحالة السابقة، وإلا يكون هذا شبيهًا بما لو أعطينا الطعام لشخصٍ وتحدّثنا عن شبع شخصٍ آخر!.

 

وقد يقال: وهل كان النبيّ محتاجًا إلى نزول السكينة عليه؟ فإنّه كان دائمًا مطمئنّ القلب وصاحب سكينةٍ؟ وفي الجواب عن هذا التساؤل نقول: ليست هذه هي المرّة الوحيدة التي يتحدّث الله عن نزول السكينة على قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال تعالى في موضعٍ آخر: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِه﴾[1]. فهذه الآية تفيد أنّ حال السكينة والاطمئنان الموجودة عند النبيّ لا تتنافى مع نزول السكينة الخاصّة وفي مرتبة أعلى في بعض الحالات.

 

ونقرأ في كتاب الله تعالى أنّ صدر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يضيق في بعض الحالات بتصرّفات المشركين واستهزائهم، وفي هذه الحالات يحتاج النبيّ إلى رعاية خاصّة من الله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾[2].

 

والسكينة تعني ارتفاع ضيق الصدر. إذًا؛ لا مانع من أن يشعر النبيّ بالضيق. ولا مانع من أن يتعهّد الله نبيّه في بعض المواضع ليرفع عنه بعض الشقاء والتعب الذي يسبّبه لنفسه: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[3]. ولا مانع يمنع من حاجة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تثبيت قلبه بالرعاية الإلهيّة: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ


 


[1] سورة التوبة: الآية 26.

[2] سورة الحجر: الآية 97.

[3] سورة طه: الآيتان 1-2.

 

 

273


233

تفسير سورة براءة

فُؤَادَكَ﴾[1]. ومن هذه الآيات وغيرها يتبيّن أنّ حالات المؤمنين حتى لو كانوا أنبياءَ تتفاوت بين فترة وأخرى، والطمأنينة والسكينة لها مراتب متعدّدة بعضها موجودٌ دائمًا وبعضها يحتاج إلى رعاية وعناية إلهيّة خاصّةٍ.

 

والتبرير الكلاميّ لهذا المطلب هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من اتّصاله بالله تعالى، فهو بشرٌ وإنسانٌ. وقد يصيبه بعض ما يصيب البشر، على المستويين الجسديّ والروحيّ، وهذا لا يتنافى مع العصمة عن الخطإ والخطيئة، فما يضرّ بالعصمة وينقضها يستحيل طروءه على النبيّ، وما سوى ذلك لا دليل يدلّ على منعه واستحالته. فقد يتعب النبيّ، وقد يشعر بالجوع، وله شهوةٌ وعاطفة تجاه النساء...

 

وأمور مثل الخوف من الموت والإخراج من الوطن، وحتى الخوف من فشل دعوته، أمورٌ لا معنى لها في حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولكن ما المانع من أن يحزن النبيّ عندما يرى قومه وقد سدّوا آذانهم عن سماع صوت من يدعوهم إلى السعادة، كما حصل مع النبيّ في معركة حنين[2].

 

وعندما لا نحكم باستحالة بعض هذه الأمور في حقّ النبيّ، وعندما يُصاب صاحبه بالحزن والقلق، فلا مانع من إنزال الله السكينة والطمأنينة على قلب نبيّه وتثبيت قلبه، ولا مشكلة كلامية أو اعتقادية تترتّب على هذا الفهم. وعبارة: "وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا" هي دليلٌ آخر على أنّ من نزلت السكينة عليه هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

يُستفاد من السياق أنّ ضمير المفعول المتكرّر ذكره في هذه الآية مع أكثر من فعلٍ يُشير إلى شخص واحدٍ؛ وقد حاول بعضٌ إثبات تعدّد مرجع الضمير بأن فسّر الآية على هذا النحو: حزن صاحب النبيّ فقال له النبيّ لا تحزن فأنزل الله السكينة على هذا الصاحب.


 


[1] سورة الفرقان: الآية 32.

[2] سورة التوبة: الآيتان 25-26.

 

274


234

تفسير سورة براءة

ويُمكن أن يُعترض عليهم بهذا الاعتراض: إذا كان من نزلت عليه السكينة هو صاحب النبيّ، فلا بدّ أن يكون من أيّده الله بجنود غير مرئيّة هو صاحبه أيضًا؟! وربّما قبل بعضهم هذا الاعتراض ورأى أن لا مانع من توحيد مرجع الضمير بحيث يكون من صاحب السكينة والمؤيّد بالجنود هو صاحب النبيّ وليس النبيّ نفسه.

 

وهذا الفهم غير صحيحٍ أبدًا، ولا ينسجم مع الفهم السليم للآية. فليس من الإنصاف أن نؤوّل الآية لنخترع فضيلة لأحد أصحاب النبيّ، بحيث يكون هو من نصره الله، وهو من نزلت عليه السكينة، وهو من أيّده الله بجنودٍ من عالم الغيب. وإنّ كثيرًا من هذه الفضائل اختُرعت في عهد معاوية[1].

 

والتأييد الذي يُفهم من الآية نوعان، أحدهما من الداخل وفي قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو السكينة والاطمئنان، والثاني من الخارج وهو التأييد بالجنود. وهذا التأييد قد يكون على نحو تسخير عالم الطبيعة لرسول الله؛ إذ يُروى أنّ عنكبوتًا نسجت بيتًا لها على باب الغار، وأنّ حمامة عشّشت في فتحة الغار أيضًا.

 

وهذه الأمور حصلت بطريقة إعجازيّة خارقةٍ للعادة. وقدرة الله تخرق العادات التي نعرفها لوقوع الأحداث والظواهر. هذا ولكنّ أفعال الله لا تخرق قانون العليّة، فلا شيء يقع خارج دائرة قانون العلاقة بين العلّة والمعلول، غاية ما في الأمر أنّ الله يعطّل بعض العلل لمصلحة عللٍ لا نعرفها يسخّرها الله لوقوع بعض الأحداث بطريقة غير الطريقة المعتادة. كما حصل في قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام  بحيث عطّل الله خاصّية الإحراق في النار، لأنّه لو احترق نبيّ الله بالنار في تلك الحادثة كان تاريخ البشريّة قد تغيّر وتبدّل على غير ما نعرفه اليوم. فكان يجب أن لا يحترق إبراهيم، ولا بدّ من علّة ومعلولٍ آخر لا نعرفه نحن.


 


[1] انظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 16.

 

 

275


235

تفسير سورة براءة

إنّ الفترة الزمنية التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة، هي فترة على درجة عاليةٍ من الحساسيّة؛ وذلك أنّ أصول ومبادئ الفضيلة والإنسانيّة كانت في مراحل ظهورها الأولى. وينبغي أن يتدخّل الله تعالى بطريقة خارقةٍ للعادة، ليستطيع النبيّ تأسيس المجتمع الإسلاميّ. وما كان لهذا المجتمع أن يتأسّس لو توفّي النبيّ في تلك اللحظة التاريخية الحرجة، ولذلك كان لا بدّ من التدخّل الإلهيّ من الطرق غير الطبيعية المعتادة، وليس بعيدًا على الله ولا خارج نطاق قدرته أن يجعل الحمامة أو العنكبوت تستوطن فتحة الغار كي لا يلفت نظر الأعداء الملاحقين للنبيّ.

 

وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذه النصرة والتأييد هي مبدأ وقانون عامٌّ، فكلّ من سار في خطّ الله وفي سبيله، نال تأييده ونصرته، ووافقته السنن الإلهيّة وساعدته على الوصول إلى بغيته.

 

سر انتصار الحقّ على الباطل

"وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى": نعم كلمة الكافرين هي السفلى؛ أي إنّ الله أفشل خطط الكافرين التي وضعوها للقضاء على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل ما يريدون ومقاصدهم كلمتهم السفلى، وكلمة الله وما يريد الله هو الأعلى. وهذه الإشارة فيها الكثير من التعليم.

 

فكلّما كان الجدال وكانت المواجهة بين ما يريده الله وما يريده الطاغوت، اعلموا أنّ الزمان سوف يكون في مصلحة ما يريده الله تعالى؛ لأنّ كلمة الله هي العليا دائمًا، والله عزيزٌ وغالبٌ غير مغلوبٍ، وحكيم وعالمٌ. وهو بصير بالعباد، وأعماله تسير وفق تدبير حكيم ومحكم، وأنصار الله يقتبسون من قبس قدرته وعزّته.

 

 

276

 


236

تفسير سورة براءة

انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿42﴾

 

277


237

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

يقع ترتيب هذه الآيات بحسب سياق الكلام ومساره على النحو الآتي: بعد أن خاطب الله تعالى المؤمنين في الآيات السابقة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾[1]، وعاتبهم فيها على ضعف همّتهم في الجهاد بعد دعوتهم إلى النفير في سبيل الله، وبعد أن بيّن لهم تعالى حقيقة الدنيا والآخرة، وشرح لهم ما ينبغي بهم تفضيله والميل إليه، وحذّرهم من عاقبة التثاقل ومآل التخلّف عن تلبية دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد، وبيّن لهم عقب ذلك بالمثال أنّه سوف ينصر دينه ونبيّه كما نصره من قبلُ، وسوف يساعده على إيصال أمانته إلى المحلّ الذي يريد تعالى أن تصل هذه الأمانة إليه، وبذلك كلّه وما يتضمنّه الكلام السابق من وعظ وتعليم يكون قد أزال الصدأ عن تلك القلوب ورفع عنها آثار الغفلة، فصارت مستعدّة لتحمّل التكليف من جديدٍ، بعد ذلك كلّه أعاد الله على مسامع المؤمنين الأمرَ بالجهاد. وهذه الآية التي نتعرّض لها أوّلًا هي دعوة عامّةٌ إلى الجهاد موجّهةٌ إلى المؤمنين الذين خاطبهم الله بالآيات السابقة.

 

وكرّر تعالى في هاتين الآيتين الإشارةَ إلى تقصير بعض المسلمين، وعرض طريقة تفكيرهم، وبيّن طبيعة نظرتهم إلى مثل هذه الأمور، وكشف عن ضعف نفوسهم وتخاذلهم ومحاولتهم التعلّل واختلاق الأعذار. وهذه الحالة هي حالة نفسية وإنسانيّة.

 

والمطلب الآخر الذي تتصدّى هاتان الآيتان للحديث عنه قضيّة


 


[1] سورة التوبة: الآية 38.

 

279


238

تفسير سورة براءة

اجتماعيّة هي مسألة "التخلّف عن الجهاد وآثارها الخطيرة".

 

وبناءً عليه تشتمل هاتان الآيتان على ثلاثة مطالب عامّة ومهمّة، وعلى عدد من المسائل الجانبيّة. والمطالب العامّة هي: الدعوة إلى الجهاد، والتحليل النفسي والروحيّ للأشخاص المتخلّفين عن الجهاد، والعواقب الخطيرة التي تترتّب على هذه الظاهرة في المجتمع. وأما المطالب الفرعية في هاتين الآيتين فهي متعدّدةٌ. وهذه المضامين الواردة في هاتين الآيتين تربطهما بالآيات السابقة وتصلهما بها.

 

"انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً": يدعو هذا المقطع من الآية المؤمنين إلى النفير والتحرّك في طريق الجهاد، سواء خفّت أحمالهم أم ثقلت، ويحرّضهم على الجهاد بالمال والنفس.

 

خفاف جمع خفيف، وثِقال جمع ثقيل. وقد اختلف المفسِّرون على آراء عدّة في المراد من الثقل والخفّة في هاتين الكلمتين. فقال بعضهم: المراد من الخفّة الهمّة والنشاط ومن الثقل ضعف الهمّة وقلّة النشاط. وقال آخرون إنّ المراد من الخفّة توافر الزاد والراحلة والعتاد، ومن الثقل عدم توافر الزاد والراحلة والعتاد وغير ذلك من وسائل السفر. وأرجع جماعة من المفسِّرين الثقل والخفّة إلى حالات المدعوّين إلى الجهاد من حيث العمر، فالمراد من الخفاف الشباب والمقصود من الثقال كبار السنّ.

 

والحقيقة أنّه يمكن تفسير هذه العبارة بحيث تؤدّي الآية معنًى عامًّا تكون الأقوال المشار إليها أعلاه مصاديق لهذا المعنى العامّ. فيكون المقصود من الخفّة والثقل توافر الإمكانات الروحية والمادية والمعنوية وعدم توافرها.

 

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان في بعض الحالات يتوافر لديه الاستعداد الروحيّ والإمكانات الماديّة والبدنية، وأحيانًا لا يتوافر له ذلك. وثمّة أعذار قد يتمسّك الإنسان بها تؤدّي إلى تثاقله عن أداء بعض الواجبات المهمّة، ومن هذه الأعذار: ضعف النشاط والإقبال على أداء تلك الواجبات، أو

 

 

280


239

تفسير سورة براءة

الفقر وقلّة الحيلة الماليّة، والإعالة، والانشغالات الاقتصاديّة، وذهاب حيوية الشباب وهمّته، وفي بعض الحالات قد يعتقد أنّه معذورٌ عن الانشغال بالواجب المدعوّ إليه، فيقول: أنا ثقيلٌ، دعوا الخفاف يؤدّون هذا الواجب. قد يكون ذلك العذر إعالته لأطفاله فيرى أنّ ذهابه إلى الجهاد يجعلهم بلا معيل، أمّا فلانٌ من جيرانه مثلًا فلا أطفال عنده فهو خفيف المؤونة من هذه الناحية. وقد يكون هذا العذر من قبيل الانشغال بتجارته من الصباح إلى المساء، وبالتالي يرى أنّ الجهاد سوف يعطّل تجارته.

 

في هذا الأمر العامّ تبيّن الآية: أنّه في مقابل واجب كالجهاد، يتوقّف عليه مستقبل هذه الجماعة وحياتها الاجتماعية، ويتوقّف عليه مسار ومصير الفكر الذي تحمله لا ينبغي الالتفات إلى الوراء عند سماع الدعوة إلى الجهاد، وعلى السامعين القادرين على الحراك الانطلاق وتلبية الدعوة، سواء كانوا خفافًا أم كانوا ثقالًا. وهذه التلبية هي الأفضل والأنسب لهم.

 

وتضع هذه الآية الإصبع على نقطة حسّاسةٍ، تقيّد أرجل الجميع عادةً وأيديهم، وتقول للمخاطبين انفروا وتحرّكوا إلى ساحات الجهاد على ما أنتم عليه من انشغالات وأعذار قد تشدّكم إلى الأرض وتحول دون انطلاقكم.

 

إذًا، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ تفسير الآية بالأنحاء التي أشرنا إليها هو من باب بيان المصداق والمثال، وليس بالضرورة أن تكون هذه المصاديق والأمثلة بمنزلة المعاني المرادة من الآية، ولعلّنا نستطيع اتّهام أصحاب تلك التفسيرات بأنّهم تورّطوا في التفسير بالرأي، وذلك أنّ المعنى الذي نميل إليه هو معنًى عرفيٌّ يمكن استفادته من الآية وفهمه منها.

 

فالآية أوسع وأشمل ممّا ورد في تفسير قدماء المفسِّرين لها. وقد التفت المفسّرون المعاصرون إلى هذا الأمر ولم يحصروا الآية بما ذكر سابقًا؛ بل عمّموا دلالتها. ورأوا أنّ الآية هي نداءٌ عامٌّ ودعوة شاملة إلى الجهاد والنفير العامّ، بغضّ النظر عن أوضاع المخاطبين وأحوالهم.

 

281


240

تفسير سورة براءة

والجدير بالذكر أنّ الاستثناءات المعروفة في باب الجهاد محفوظة في هذه الآية أيضًا، فالعجزة وكبار السنّ من الرجال، والنساء لا حرج عليهم في ترك الجهاد، وذلك بمقتضى قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ﴾[1]، وكذلك بحسب قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾[2].

 

"وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ": وهذه الآية تدعو المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله، وكأنّها تقول لهم: إذا كنتم تملكون المال، فاجعلوه في سبيل الله وجاهدوا به، وإذا لم يتوافر لكم مالٌ فإنّ لكلّ منكم نفسًا فليبذلها في سبيل الله. هذا ولكن الأمرين مطلوبان، ولا تفيد الآية إمكان أن يفدي الإنسان نفسه بماله.

 

دائرة الجهاد ومصاديقه

فعل الأمر "انفروا" الوارد في الآية دعوة إلى الخروج والحركة، ولا يعني فقط الانطلاق إلى ساحة القتال وميدان الحرب؛ بل ينبغي أن يُفهم منه وبقرينة الجملة اللاحقة التي تقول: "وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ"، أنّ الأمر بالنفر عامٌّ شاملٌ لجميع مظاهر الحياة الإنسانيّة.

 

الجهاد بالمال

أحد مصاديق الجهاد بالمال هو بذل المال لتأمين العتاد، وكان في ذلك الزمان الخيل والسيف والدرع وما شابه، وهذا ما يذكره المفسِّرون في تفسيرهم لهذه الآيات وأمثالها.


 


[1] سورة التوبة: الآية 91.

[2] سورة الفتح: الآية 17.

 

282


241

تفسير سورة براءة

ومن مصاديق الجهاد بالمال أن يدفع الإنسان بعض ماله لتشجيع بعض الناس على المشاركة في القتال والذهاب إلى الجبهات والميادين. وثمّة مصاديق أخرى قد تكون أبعد من هذه المصاديق عن الذهن، ولكن ما ذكرناه هو الأقرب لواقع الأمور. وبناءً عليه، كلّ بذلٍ للمال يصبّ في خدمة الجهاد هو جهاد بالمال.

 

الجهاد بالنفس

المعنى الأوّل الذي يتبادر إلى الذهن من الجهاد بالنفس هو المشاركة في الحرب وبذل الأرواح في هذا السبيل. هذا ولكن بذل النفس هو المرحلة الأخيرة التي ينبغي أن تكون مسبوقة بمراحل أخرى مثل تقديم العقل والمعرفة والاستفادة من جميع الطاقات الروحية والبدنية، فكلّ هذه الأمور جهادٌ بالنفس في سبيل الله.

 

وبالتالي تدعو الآية المسلمين إلى استثمار عقولهم للتخطيط، وألسنتهم للدعوة وخدمة هذا الهدف المقدّس، وتدعوهم إلى إتعاب أبدانهم في متابعته، وإفناء أعمارهم وصرفها في هذا السبيل، وبعد ذلك كلّه يصلون إلى المرحلة الأخيرة وهي تقديم النفوس والأرواح. وهذا هو منهج حبيب بن مظاهر وأمثاله عندما وصلوا إلى المحطة الأخيرة؛ أي محطّة الفداء وتسليم الروح إلى مالكها الحقيقيّ. هذا كلّه جهاد في سبيل الله من المحطة الأولى إلى المقصد الأخير.

 

ولو تدقّقون النظر فسوف ترون أنّ الأمر الوارد في قوله تعالى: "وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ"، يستوعب في دائرته كلّ الوجود الإنسانيّ والحياة البشريّة وجميع ما يرتبط بالإنسان ويرتبط به الإنسان، وعلى أي حالٍ لم تنزل الآية في معركة تبوك وأحُد وحُنين وحدها.

 

وربّما لا تشمل الآية الجهاد بالأبناء، ووجه ذلك أنّ الخطاب موجّهٌ

 

 

283


242

تفسير سورة براءة

إلى الأبناء على نحو الاستقلال، وعليهم تلبية الدعوة كما يجب على آبائهم تلبيتها؛ ولا شيء يبرّر دلالة الآية على عدم دخولهم في إطار هذه الدعوة إلى الجهاد، فالأبناء مكلّفون مخاطبون عليهم أن يلبّوا نداء الداعي إلى الله كغيرهم من المكلّفين.

 

معنى الإخلاص في العمل

"فِي سَبِيلِ اللّهِ": تبيّن هذه العبارة حدود الجهاد، وتكشف عن أنّه يجب أن يكون في سبيل الله تعالى. وهذه الخصوصية في الأعمال مطلبٌ دقيقٌ. يحسب بعض الناس أنّه يكفي لتحقّق هذه الخصوصية أن يقول الإنسان حين العمل: "قربة إلى الله تعالى"، حتّى لو كان القلبّ معلَّقًا في محلٍّ آخر، وهو وهمٌ ليس مبنيًّا على أساس.

 

تعني هذه العبارة أن يكون عمل الإنسان في طريق الأهداف الإلهيّة. فالزكاة في سبيل الله تعني أن يُستثمر ما يراه الله ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية وهو المال، أن يُستثمر في خدمة الناس وفي سبيل تحقيق إرادة الله، وهي وصول هذه النعمة إلى أيدي الناس جميعًا، فلا تكون حكرًا على جماعة أو فئة دون غيرهم من الناس. والجهاد الذي يُشترط فيه أن يكون في سبيل الله يجب أن يكون في خدمة الغرض الإلهيّ والأهداف المقدّسة، ومنها تشكيل المجتمع الأمثل الذي يريده الله تعالى. وعليه فليس كلّ قتالٍ يقع يكون في سبيل الله، ومثل هذا القتال ليس هو الجهاد المطلوب إلهيًّا.

 

فليس صحيحًا ما يُقال في التاريخ إنّ فلانًا استشهد في إحدى المعارك التي خاضها السلطان محمود[1]، أو ما يُقال في المعركة الفلانية التي خاضها هذا السلطان أو غيره استشهد العدد الفلانيّ من الناس، هؤلاء ليسوا


 


[1] السلطان محمود الغزنوي (971-1030م.) أحد ملوك الدولة الغزنوية التي كانت تحكم منطقة واسعة من العالم الإسلاميّ، مثل: أجزاء من إيران، وباكستان، والهند وكرجستان وغيرها.

 

284


243

تفسير سورة براءة

شهداء، والطرف المقابل يرى أنّ قتلاه شهداء أيضًا. إنّ كثيرًا من معارك السلاطين خيضت من أجل الذهب والمال، ولم تكن في سبيل الله، ولا خدمة لأهدافه تعالى.

 

"ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ": نعم إنّ بذل الأرواح والمهج في سبيل الله هو الأفضل عندما يدرك الإنسان المعايير الحقيقية للحكم على الأشياء، ويعلم ما أعدّ الله في الآخرة من نعيمٍ مقيمٍ.

 

وهذا البيان الإلهيّ من أعذب الأساليب وأكثرها إلفاتًا في مقام الحضّ والتشجيع. ففي كلام الإنسان الكثير من المبالغات وقلّة الدقّة؛ ولكن عندما يصدر التشجيع عن الله خالق الخير والشرّ والمحيط بخير الإنسان وشرّه، فإنّ الحال مختلفةٌ تمامًا، كلمتا خيرٌ وشرٌّ لهما معنًى، وعندما يقارن الله تعالى بين خيرين، ويفضّل أحدهما على الآخر يكون لذلك معناه الدقيق أيضًا. "خَيْرٌ لَّكُمْ" مع تقييدها بالعلم تشير إلى أنّ هذا الفعل هو الأفضل للإنسان حتّى لو كان يعتقد أن ثمّة شيئًا أفضل له ممّا يدعوه الله إليه.

 

عندما يُقال لك: "أيّها المسلم! انهض للجهاد في سبيل الله، وسارع إلى قتال العدوّ!"، فربّما يحسب بعض الناس أنّ البقاء والإخلاد إلى الراحة والدعة هو الأفضل والأجدى، ومعيار الحكم هو الاعتقاد بأنّ البقاء يعفي الإنسان من تبعات القتال ويأمن به الإنسان على نفسه من القتل، وإذا تخلّف يستطيع متابعة أعماله وزيادة ثروته، وربّما يحدّث الإنسان نفسه بأنّ المكث في الديار يعفيني من آلام فراق الأحبّة والأصدقاء، أو يقول إذا بقيتُ أستطيع خدمة الدين بطريقة أخرى كالصلاة الصوم وإيتاء الزكاة والسفر إلى الحج.

 

لعلّكم أيّها الناس تظنّون أنّ ترك الجهاد يفتح الباب في وجه الإنسان لما هو أفضل من هذه الأمور التي أشرنا إليها؛ ولكنّ الله تعالى يقول لكم: دعوا كل أوهامكم وحساباتكم وانطلقوا في سفر الجهاد فهو "خَيْرٌ لَّكُمْ"، فإذا لم تذهب إلى الجهاد، قد تبقى مئة سنة على قيد الحياة تعبد الله فيها ما

 

 

285

 


244

تفسير سورة براءة

شئت أو شاء الله لك أن تعيش؛ ولكن مع ذلك الجهاد خيرٌ من كل ما تظنّ أنّه خيرٌ؛ ولا تستطيعون تقويم الأمر بهذه الطريقة إلا إذا كنتم تعلمون.

 

لم يكن المسلمون في ذلك الزمان على دراية عميقة بالمسائل العلمية والتجارب البشريّة، ولعلّ الكثيرين منهم كان يعتقدون أنّ ترك الجهاد وصرف العمر في أمور أخرى خيرٌ من الجهاد؛ ولكن في المقابل كان كثيرٌ منهم أيضًا يتوافرون على اعتقاد راسخٍ يدعوهم إلى الإيمان بأنّ مغادرة الديار وفراق الأهل خيرٌ؛ لأنّ الله يقول لهم ذلك ويخبرهم بأنّ الموت في سبيل الله خيرٌ من الحياة بناءً على تشخيصاتهم الخاصّة.

 

وقد توصّل العلماء مع مرور الأيّام إلى علوم ومعارف لم تكن متوافرةً في تلك الأيّام، ومن هذه العلوم علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعيّ، واكتشفوا في هذه العلوم وغيرها أنّ الضامن الأساس لأيّ فكرٍ هو "الجهد المستمرّ"، وهو ما تشير إليه هذه الآية.

 

نعم إنّ الضامن الأساس لبقاء أيّ فكرة في المجتمع هو الجهاد بالمال والنفس، وهذا أمرٌ طبيعيّ لا ينبغي أن يُسأل عنه بـ"لماذا؟"، فإذا كنتَ صاحب فكرٍ، وكنتَ مستعدًّا للدفاع عن هذا الفكر بما أوتيت من مال ونفس، سوف يبقى هذا الفكر حتّى لو كان باطلًا.

 

إنّ الإسلام دين الحقّ والحقيقة، وقد بقي حتى اللحظة وسوف يبقى إلى الأبد بإذن الله، بفضل المجاهدات التي بذلها المجاهدون بدءًا من صدر الإسلام، وقد ضحّى المسلمون الأوائل، وكان أحدهم لا يرى لنفسه فضلًا ولا كرامةً يكتسبها بولده وأهله أو ماله، بل كان يرى أنّ فكره ومعتقده هو سرّ هويّته ومقوّم شخصيّته. ولهذا تقول الآية بتعبيرنا: "إذا أردتَ البقاء والخلود ونيل العظمة، عليك بعد الاعتقاد الراسخ، الاستعداد للتضحية بالمال والنفس في سبيل ما تؤمن به".

 

إذا أريد للفكر أن يبقى ويخلد، فلا بد من التضحية بهذا الجسد الفاني من أجله؛ وذلك لأنّك أيها الإنسان لستَ جسدًا، فما أنت سوى فكرك

 

 

286

 


245

تفسير سورة براءة

الذي تحمله، وإنّك تبقى وتخلد ببقائه وخلوده. وربّما لا يكون هذا المطلبُ واضحًا في عصرنا هذا؛ ولكن في عصر صدر الإسلام كانت هذه الحقيقة ساطعة كالشمس[1].

 

ثمّ إنّ الله لم يعبِّر عن قضية العلم وعدمه بـ"لو"، فلم يقل: "لو كنتُم تعلمون"؛ والفرق بين "إن" و"لو" أنّ الأخيرة في اللغة العربية هي حرف امتناع لامتناع، يفيد أنّ ما دخلت عليه ممتنعٌ. ولهذا اختار الله عزّ وجلّ الحرف "إِنْ" وهذا الحرف يشير إلى أنّهم سوف يعلمون ولو بعد حينٍ أنّ الخروج إلى الجهاد خيرٌ لهم؛ لأنّهم لم يخرجوا فسوف يخرج العدوّ إليهم ويغزو بلادهم، وعندها لا ينفع الندم ولن يجديهم قول يا ليتنا خرجنا لقتالهم ولم نسمح لهم بالغلبة والتفوّق علينا.

 

وحينها سوف يعلمون أنّ إيثار الراحة والدعة والتخاذل عن الجهاد، فتح عليهم أبواب الشرّ، وعندها سوف يعلمون أنّ الخروج خيرٌ لهم من التخاذل. وعلى أيّ حال يمكن اختصار الآية بهذه العبارة: إنّ الخروج خيرٌ لكم وإذا كنتم لا تدركون هذه الحقيقة الآن، فسوف تدركونها عن قريب.

 

بعض الآيات المتقدِّمة (الآيات 38-41) يمكن عدّها بمنزلة التمهيد لمجموعة الآيات التي سوف تتحدّث عن المنافقين، وطليعة الكلام على النفاق هو قوله تعالى: "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا". وتتضمّن هذه الآية والآيات اللاحقة لها الحديث عن المنافقين، وتبيّن طبائعهم، وتشرح دورهم المخلّ في معركة تبوك، وتعلن إدانتهم بشدّة وعبارات حادّة.

 

عندما سمع المؤمنون الدعوة إلى الجهاد بدأوا بالاستعداد للخروج وتلبية النداء، ولكنّ المنافقين رأوا أنّ هذه المعركة من حيث وقتها وظروفها سوف تضرّ بمصالحهم الآنية وأرزاقهم، وسوف تفسد عليهم موسم التمر، والسفر إلى تبوك سوف يذيقهم حرّ الصحراء، فبدأوا باختلاق الأعذار وتثبيط عزائم الآخرين بدعوى أنّ هذه المعركة لا جدوى منها.


 


[1]  انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 51.

 

287


246

تفسير سورة براءة

ظاهرة النفاق وأسبابها

ينبغي الالتفات إلى أنّ ظاهرة النفاق وحركة المنافقين يمكن أن تُتوقّع في مجتمع كمجتمع المدينة، وذلك بخلاف المجتمع المكيّ؛ لأنّ المجتمع الإسلامي لم يتشكّل في مكّة حتى تنبت على ضفافه مثل هذه الظواهر الضارّة. والنفاق هو "إظهار الشيء وإبطان ضدّه"، بأن يظهر الإنسان عمل المؤمنين ويبطن شيئًا آخر ويحمل عقيدةً لا تنسجم مع العمل الذي يؤدّيه.

 

وتتحقّق هذه الظاهرة، عادةً، عندما يشعر الإنسان بالاضطرار إلى إخفاء عقيدته وأهدافه، ولا حاجة إلى مثل هذا الإجراء إلا عندما تكون اليد العليا لمن يراه الإنسان عدوًّا.

 

في مكّة كانت الأكثريّة مخالفةً للإسلام، ولم يكن أحدٌ من المشركين يشعر بالحاجة إلى إخفاء عدائه للإسلام؛ بل كانوا يجهرون بالعداء ويعلنونه، ولم يكن للإسلام شوكة تُخشى. فقد كان الإسلام من الناحية الظاهريّة ضعيفًا، وكانت اليد العليا بحسب الظاهر أيضًا للأعداء الذين كانوا يضيّقون على المسلمين والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن حاصروا النبيّ وكل من يمتُّ له بصلة قرابة في المحلة المعروفة بشعب أبي طالب. وبناءً على هذا لم تكن الظروف تقتضي النفاق.

 

أمّا أوضاع المدينة فقد كانت غير ذلك، ففيها تشكّل المجتمع الإسلاميّ وقويت شوكة المسلمين، وصاروا مرهوبي الجانب، وكان هذا المجتمع محكومًا بدولةٍ لها قائدٌ ورأسٌ مدبّرٌ له الأمر والنهي، فاقتضت هذه الظروف حاجة أعداء الدين إلى إخفاء عدائهم وممارسة كيدهم ومؤامراتهم سرًّا، فبدأ النفاق.

 

تفيد كتب التاريخ، ويبدو أنّ هذه التقارير التاريخيّة صحيحةٌ، تفيد أنّ عبد الله بن أُبيّ بن سلول كان مرشّحًا لرئاسة الأوس والخزرج إبّان دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وكان هذا الرجل من وجهاء المدينة وأعيانها، فأدّى ورود النبيّ إلى المدينة إلى قطع الطريق على رئاسته، وطمست شخصيّةُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شخصيَّتَه ونحّته إلى الظلّ.

 

 

288


247

تفسير سورة براءة

لم يستطع عبد الله بن أبيّ بن سلول تحمّل انصراف الناس عنه وإقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجمع عددًا من الناس حوله على مبدإ العداء للإسلام في الباطن والكيد له سرًّا. هذا ولم يكن هو وجماعته الفئة الوحيدة التي أسرّت العداء للإسلام. فقد كان في المدينة آخرون أعلنوا اعتناق الإسلام لسببٍ أو آخر وأضمروا حقدًا على الإسلام وكيدًا له. وهكذا بدأت ظاهرة النفاق تضرب جذورها في المجتمع الإسلاميّ وتنبت على ضفافه وحواشيه، هذا ولكنّ تفسير النفاق بهذه الطريقة سوف يحول بيننا وبين معرفة المنافقين والتمييز بينهم وبين المسلمين الصادقين في عصر صدر الإسلام.

 

معيار النفاق ومصاديقه

لا ينحصر النفاق في عددٍ محدّد من الأشخاص، فقد ذكر القرآن مجموعةً من الخصال والخصائص، من توافرت فيه كان منافقًا، حتّى لو كانت دوافعه مختلفةً عن دوافع عبد الله بن أبيّ.

 

ومن أهمّ خصائص المنافق إيمانه بالدين باللسان وعدم استقرار الإيمان في قلبه. ويُمكن اكتشاف هذه الخصوصية النفسية من أنّ مثل هذا الشخص يقبل من الإسلام ما ينفعه أو على الأقل ما لا يضرّه، أمّا ما يتعارض مع مصلحته ويضرّ بأوضاعه فهو يرفضه ويعارضه. وعلى حدّ تعبير الإمام الباقر عليه السلام: "يُقبِلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم في نفسٍ ولا مالٍ، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها"[1]. أولئك الذي يعتمدون القاعدة التي عبّر عنها الله تعالى بقوله: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾[2]، هؤلاء يقبلون من كتاب الله ما لا يضرّ مصالحهم، ولا يصدق وصف المؤمن عليهم.

 

والمسلم الذي يؤمن بالجهاد عادةً يكون مؤمنًا بالصلاة أيضًا؛ ولكنْ


 


[1] الكافي، ج 5، ص 55.

[2] سورة النساء: الآية 150.

 

289


248

تفسير سورة براءة

كثيرون من أولئك الذين يؤمنون بالصلاة ولا يؤمنون بالجهاد. وبناءً على هذا الكلام، ينبغي أن نوسّع دائرة النفاق؛ بحيث لا يدخل فيها عبد الله بن أبيّ وأمثاله فقط. فطلحة والزبير أيضًا حتّى لو كانا مؤمنين بحسب الظاهر، غير أنّهما خرجا على الإمام عليّ عليه السلام وأشعلا حرب الجمل.

 

وتتضمّن آية "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ..". مطلبين، أوّلهما بيان الأسباب النفسية والروحية التي تحول بين بعض الناس والمشاركة في الجهاد، وتبيّن الحالات التي ربّما يقبلون على ترك الأوطان من أجلها. وهذه قضية مهمّة لنا. والمطلب الثاني هو عاقبة المتخلّفين عن اللحاق بركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والذين لا يلبّون دعوته إلى الجهاد.

 

تقول الآية عن المطلب الأوّل: لو كان السفر عرضًا قريبًا أي شأنًا من شؤون الدنيا القريبة منهم بمعنى أنّ أيديهم تصل إليها ويثقون بأنّهم ينالونها، لسافروا وللبّوا داعي الرحيل والسفر؛ ولكن بشرط أنّ الإحساس بالأمان أيضًا وعدم وجود خطرٍ في هذا السفر. فلو قيل لهم: عندنا سفر إلى ثلاثة فراسخ نهدف فيه إلى مصادرة قافلة تجارية للمشركين، فإنّهم يسافرون ويتّبعونكم؛ لأنّ المبتغى هو المال، والسفر قريب ميسور.

 

وبالتالي فإنّهم يتخاذلون عن تلبية دعوة الجهاد لأنّهم لا يتوقّعون المنفعة المالية من هذا السفر، يُضاف إلى ذلك أنّ السفر بعيدٌ. فشرط استجابتهم لدعوة الجهاد هو توقّع الحصول على المال السهل بطريقة لا تستدعي مخاطرة السفر البعيد. أمّا عندما يُقال لهم هيّا إلى تبوك للقتال لتوفير العزّة والأمن لأمّتكم مدّة عشر سنوات مثلًا، فإنّهم يحجمون عن السفر. بلى، بعض الناس يفكّرون بهذه الطريقة.

 

"وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ": أي بعد عليهم السفر، فالشّقة هي السفر البعيد. والمسافة الفاصلة بين المدينة وتبوك بالنسبة لهم مسافةٌ بعيدة خاصّة بمقاييس ذلك الزمان؛ ولذلك لم يذهبوا. ولاحظوا لحن التأنيب والتوبيخ

 

 

290

 


249

تفسير سورة براءة

في الآية. فهي تقول لهم: "لو كان ثمّة مالٌ؛ لسافرتم". وبالتالي تنبئ الآية عن أنّهم لا يصحبون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا يرافقونه إلا من أجل مصالحهم الخاصّة.

 

سياسة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب

اعتمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب سياسة تقضي بعدم التصريح بالمقصد عند إرادة الخروج إلى القتال، ولم يكن يعلم المقاتلون مقصدهم إلا بعد الوصول إلى مكانٍ محدّدٍ، وفي بعض الحالات لم يكن معلومًا لهم ماذا ينتظرهم من واجبات وتكاليف. وقد نقل عددٌ من مؤرِّخي أهل السنّة هذه الطريقة النبوية.

 

وفي هذه المعركة تُرِكت تلك السياسة، وأعلن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن المقصد والغاية من السفر الذي يدعو المسلمين إليه، وذلك بالنظر إلى خطورة السفر وبعد المسافة، ومن المعلوم، ويبدو أنّ التجربة البشرية المعاصرة تؤكّد أنّ المعرفة بحجم المهامّ الشاقّة والمعقّدة تساعد على تنفيذ خططها. ومن هنا نلاحظ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صرّح للمقاتلين بمقصده، وقال لهم إنّ الغاية من السفر هي مواجهة شرقيّ إمبراطوريّتهم في منطقة تبوك.

 

عموم مفاد الآية

من الأمور المقارنة والملازمة لتعاليم القرآن التربية الفكريّة، في سياق التعليم وبيان الأحكام أو الوقائع. وبهذا يجمع القرآن بين أمرين، تطوير المعرفة وتنمية الروح، وهذه هي طريقة القرآن التربويّة؛ حيث يعمل القرآن الكريم على بيان الحقائق بطريقة فريدةٍ تجعل النفوس مستعدّة لتحمّل المسؤوليّات الجسام وقبول الحقائق بقلب منشرحٍ. وهذا هو الأسلوب الأنسب في التربية والتعليم.

 

وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الآيات على الرغم من ورودها في ظروفٍ زمانية محدّدة، هي ظروف التهيئة لمعركة تبوك وتحريض المسلمين على السفر

 

291

 


250

تفسير سورة براءة

للجهاد في ذلك المكان. على الرغم من ذلك، لا ينبغي حصر الآية بتلك الواقعة؛ وذلك لأنّ ما فيها من مضامين وتعاليم نفسية وروحية يصلح لكلّ زمانٍ ولكلّ مكانٍ. ومن الصحيح مخاطبة المسلمين المعاصرين بلسان الآية وتأنيبهم على بعض التقصير بأن يُقال لهم: "لماذا تتخاذلون وتظهرون ثقل الهمّة عن الجهاد عندما تُدعون إليه".

 

تبرير المنافقين فرارهم من الجهاد

"وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ": تكمل الآية وتخبرنا أنّ المنافقين سيقسمون ويقولون: ما حال بيننا وبين الخروج معكم سوى العجز، ولو استطعنا الخروج لكنّا معكم. ومثل هذا القول سهلٌ لا مشقّة فيه، فعندما يذهب المسلمون إلى القتال ويعودون منتصرين من غير قتال؛ بسبب تجنّب الروم مواجتهم، سوف يأتي هؤلاء المنافقون المتخلّفون ويفتحون صدورهم لاستقبال المسلمين الظافرين، وسوف يختلقون الأعذار لتبرير غيابهم عن تلك المعركة الرابحة من دون تكلفة.

 

أيّها النبيّ! لا تظنّن أنّ المنافقين يتقنون الاستدلال العقليّ، لا؛ فهؤلاء عندهم حسابات شخصيّة، وسوف يسارعون إلى القسم بالله وبغيره من المقدّسات، إنّهم لو استطاعوا أن يكونوا معكم لفعلوا ورافقوكم. ولعلّهم صادقون هذه المرّة حيث إنّهم يتمنّون لو أنّهم شاركوا ونالوا شرف المشاركة ما دامت عواقبها وفق حساباتهم يسيرة.

 

تبيّن الآية بدقّة بالغة أحوال هذه الجماعة في جميع الظروف والأحوال. فهم ليسوا من أهل تحمّل المسؤوليّة، كما إنّهم لا يتحلّون بالشهامة الكافية التي تجعلهم يعترفون بأنّهم لم يؤدّوا واجبهم؛ بل يريدون المشاركة في شرف النصر بدعوى العجز وعدم الاعتراف بالتخلّف؛ ولكنّهم كاذبون. وهم يضمّون إلى جريمة التخلّف ومعصية ترك الجهاد معصية الكذب والنفاق.

 

 

292


251

تفسير سورة براءة

عاقبة ترك الجهاد

المطلب الثاني من المطلبين اللذين أشرنا إليهما أعلاه هو بيان الآية عاقبة ترك الجهاد. فالقرآن في هذه الآية يُسقط أمثال هؤلاء من عيون الناس ويتعامل معهم وكأنّهم أعدموا أنفسهم: ﴿يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ﴾. فهم بقسمهم الكاذب، ونفاقهم المفضوح حكموا على أنفسهم بالهلاك ودمّروا شخصيّاتهم.

 

ويشتمل هذا التعبير على بعدٍ اجتماعيٍّ مهمٍّ. يعتقد بعض الناس أنّ سبب الهلاك هو الأيمان الكاذبة التي تصدر عنهم. نعم لا شكّ في أنّ اليمين الكاذبة سببٌ من أسباب الهلاك؛ ولكن ليس هذا ما ترمي إليه الآية. فلم تصدر عبارة "يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ" عن الله تعالى لتبيّن أنّ أيمانهم أهلكتهم؛ بل ترمي الآية إلى بيان أنّ ما أحوجهم إلى القسم الكاذب هو الذي أهلكهم، فقد أهلكهم تركهم الجهاد، وترك العمل بالواجب الذي نُدبوا إليه فلم يستجيبوا.

 

سعة معنى الهلاك

ليس "الهلاك" هو الموت وانفصال الروح عن الجسد، و"الابتلاء بالهلاك الأبديّ" ليس معناه الابتلاء بالموت الأبديّ. وفي كثيرٍ من النصوص القرآنية والروائية لم يُستعمل الهلاك في هذا المعنى وحده؛ بل إنّ الهلاك له معنًى عامٌّ وواسعٌ يدخل في دائرته السقوط المعنويّ وموت الفضيلة في الإنسان. وهذا المعنى أوسع وأدقّ؛ وذلك أنّ بعض الناس تراهم هالكين على الرغم من أنّهم على قيد الحياة، وعلى الرغم من أنّ الدماء ما زالت تجري في عروقهم، وأشقياء التاريخ هم هؤلاء، وأسرى الشقاء الماديّ هم من هذا القبيل.

 

وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[1] لا يُقصد منه لا


 


[1] سورة البقرة: الآية 195.

 

293


252

تفسير سورة براءة

تجعلوا أنفسكم بين يدي الموت. ولو كان المراد هذا المعنى يكون عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام قد عمل على خلاف هذه الآية حيث إنّه وضع نفسه في فم الموت مرّاتٍ ومرّات. في إحدى المعارك مع الروم يُروى أنّ شابًّا من شباب المسلمين أخذته الحماسة فتجرّد من بعض ملابسه وهجم على الأعداء، فصرخ بعض المسلمين وقالوا: "يلقي نفسه إلى التهلكة"[1]. ويُروى أنّ أبا أيّوب الأنصاريّ كان حاضرًا فعندما التفت إلى خطإ هؤلاء في فهم الآية، بيّن لهم خطأهم وأنبأهم أنّها نزلت في الأنصار عندما أعزّ الله الإسلام وكثُر ناصروه بدأ يسرّ بعضهم لبعض ويقول لو أقمنا في أموالنا نصلح ما ضاع منها، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وترك الجهاد.

 

وعلى أيّ حال، إنّ غرضنا هو بيان أنّ الهلاك في القرآن الكريم لا يعني الموت وخروج الروح من الجسد فقط؛ بل يعني أيضًا الموت المعنويّ، فهذا هلاك أيضًا. والسقوط الأخلاقيّ والاجتماعي وخسارة الكرامة وماء الوجه هلاك كذلك، كما إنّ الانحراف عن جادة التكامل هلاك، والفقر الماديّ هلاكٌ، والرضا بالظلم سقوط للمجتمع وهلاكٌ.

 

ويخبرنا القرآن أنّ ترك الجهاد لا يفضي إلى الهلاك الفرديّ فقط؛ بل يفضي إلى الهلاك الجماعيّ. فإحدى رسائل هذه الآية هي أنّ أيّ جماعة تتخلّى عن مسؤوليّاتها كالمنافقين تكون قد أسلمت نفسها للهلاك. بلى، هذه هي بعض مرارات ترك الجهاد وبعض عواقبه السيّئة.

 

"وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ": تختم هذه الآية ببيان أنّ الله مطّلعٌ على سرائر المنافقين يعلم كذبهم، ويعلم طبائعهم والدوافع التي جعلتهم يتركون الجهاد.

 

 


[1] الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 72.

 

294


253

تفسير سورة براءة

عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿43﴾ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿45﴾

 

295


254

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

وهذه المجموعة من الآيات كسابقتها تأتي في سياق التعبئة وحضّ المسلمين على الجهاد وبثّ العزيمة في نفوسهم.

 

ضرورة الاقتران بين التعليم والتربية

كرّرنا أكثر من مرّة أنّ أسلوب القرآن الكريم يقتضي الجمع بين التعليم والتربية عندما يتحدّث عن موضوعٍ مّا. وبهذه الطريقة يتحقّق أمران في وقتٍ واحدٍ، من الناحية الذهنية تحصل الإحاطة الذهنية عند المخاطب بالموضوع من أبعاده المتنوّعة المقصودة بالبيان، ومن الناحية النفسية والروحيّة تتحقّق الآثار المطلوبة على هذا الصعيد، ولا يكتفي القرآن بصرف التعليم وبيان الحقائق، بل يجمع بين التعليم الذهني والتربية الروحية والنفسية.

 

هذه هي الطريقة المعتمدة في التعليم والتربية في آيات القرآن. وفي أكثر هذه الآيات الأمر الأكثر حظوةً بالاهتمام هو تعليم المؤمنين فكرة الجهاد وأحكامه، وفي الوقت عينه إعدادهم روحيًّا ونفسيًّا للإقبال عليه، وذلك لأنّ بيان الحكم وتعليم المخاطبين المفهوم لا يجدي ما لم يقترن بالتربية الروحية عليه، ولا ينفع التعليم خاصّة في مثل هذه الأمور إلا إذا اقترن بالتربية.

 

طوال تاريخ البشريّة، وأقرب وأوضح طوال تاريخ الإسلام والمسلمين، رأينا كثيرًا من الناس من أهل العلم والمعرفة؛ ولكنّهم لم يستفيدوا من علمهم ولا من معرفتهم لعدم تحلّيهم بالتربية الروحية بالمقدار الكافي؛

 

297

 


255

تفسير سورة براءة

بل لعلّه يصدق عليهم قول الشاعر الإيراني حيث يقول: "إنّ السارق الذي يحمل ضوءًا أشدّ خطرًا على الأموال وأكثر ضررًا". وقد وجدنا أنّ بعض هؤلاء العالمين أساؤوا استغلال علمهم واستغلّوا الناس والمجتمع وسخّروا كلّ شيءٍ من أجل أهدافهم غير النبيلة. لهذا نرى الإسلام يصرّ دائمًا على الجمع بين التعليم والتربية.

 

احتمالان في تفسير "عَفَا اللهُ عَنكَ"

"عَفَا اللهُ عَنكَ": يعلن الله في هذه الآية أنّه عفا عن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه أذِن لمجموعة من الناس بالبقاء في المدينة وسمح لهم بعدم الخروج إلى القتال. وهذا هو الاحتمال الأوّل في تفسير الآية، وهو تثبيتٌ وتقرير لإذن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، ويُفهم من الآية أنّ جماعة من الناس استأذنوا بالبقاء في المدينة وعدم الخروج إلى الجهاد فأُذن لهم في ذلك، وكان هذا الاستئذان والموافقة وإعطاء الإذن وسيلةً من وسائل التميّز بين المنافقين والمؤمنين.

 

ولا مشكلة في هذا المعنى، وليس بعيدًا عن ظاهر الآية أيضًا. و"لِمَ" قبل الفعل "أذنتَ" لا يُقصد بها الاستفهام؛ بل فيها إشارة إلى استفهام مقدّرٌ في حال عدم العفو. وهذه الجملة في الآية تشبه قولنا: "لن أؤاخذك، لماذا ذهبت إلى المكان الفلانيّ"، فكلمة لماذا في هذه الجملة لا يُقصد بها السؤال، وإنّما ينبغي حملها على السؤال على تقدير المؤاخذة، فلو أنّه آخذه لصحّ أن يسأله: لماذا ذهبت؟ وبناءً على هذا الاحتمال يكون المقصود من الآية تقرير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على إذنه لهم، بالنظر إلى ما ترتّب على هذا الإذن من انكشاف حالهم، وتمييز الصادقين من غيرهم.

 

والاحتمال الثاني أن تكون جملة "عَفَا اللهُ عَنكَ" للدعاء، وليس للإخبار عن عفو الله تعالى عن رسوله. وهذا شبيهٌ بدعائنا لشخصٍ بأن نقول له: "غفر الله لك".

 

وعلى هذا الاحتمال تتضمّن الآية معنى التشويق والتشجيع للنبيّ وفيها

 

298

 


256

تفسير سورة براءة

الشيء الكثير من إظهار المحبّة له صلى الله عليه وآله وسلم كما لو قال أحد الأشخاص لمن هو أدنى مرتبةً "غفر الله لك، على ما قلت من الكلام الذي أدّى إلى انكشاف أمر فلانٍ وانفضاحه حتى لا يتورّط الناس في شرّه"، وهذا لا يعني أنّ هذا القائل يكره انكشاف أمر من انكشف أمره؛ بل مثل هذه العبارة تفيد التشجيع والاستحسان.

 

وبناءً على ما تقدّم يكون الإذن الصادر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" مطلوبًا من قبل الله ومقبولًا؛ لأنّه أدّى إلى انكشاف الكاذبين والمنافقين: "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"، وقوله تعالى: "عَفَا اللهُ عَنكَ" تلطّفٌ من الله وتعبير عن الرضا بصورةٍ غير مباشرةٍ، وكأنّه عزّ وجلّ يقول له: "بارك الله فيك! على ما أعطيت من الإذن لهؤلاء بالبقاء في المدينة، وتخلّفهم عن الجهاد".

 

أجواء نزول الآية

كما تقدّم وسوف يأتي بصراحةٍ في الآيات اللاحقة، تتحدّث هذه الآية عن مجموعة من الأشخاص يدّعون الإيمان بالإسلام، ولكنّهم أتوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان بصدد الاستعداد للخروج إلى تبوك، وطلبوا منه الإذن بالبقاء في المدينة وعدم الخروج معه ومع سائر المسلمين إلى الحرب.

 

والاستئذان في هذه الأوضاع، وهي أوضاع الحاجة إلى أيّ مقاتلٍ ينضمّ إلى عسكر المسلمين، أشبه باستئذان رجلٍ يملك الكثير من الطعام، ويحضره شخصٌ جائع أحوج ما يكون إلى الطعام، فيأتي صاحب الطعام إلى الجائع، وهو يخشى من اتّهامه بالبخل وعدم إطعام الجائعين، فيستأذن الجائع ويقول له: "أتسمح لي برمي هذا الطعام؟!" إنّ هذا الاستئذان أقرب إلى السخرية منه إلى الأدب والاستئذان.

 

والفارق بين هذا المثال ومورد الآية، أنّ الإذن في المثال يضرّ بمصلحة الآذن، أمّا الآية الشريفة فإنّ هؤلاء أتوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائد هذه الثورة ومفجّر

 

 

299


257

تفسير سورة براءة

هذا التحوّل العظيم، ليطلبوا منه الإذن بعدم المشاركة في استمرار مشروعه، والحال أنّ الله أعطاهم القوّة والذراع والعضد ليستعملوها في ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. وتفيد الآية أنّ من أتى يستأذن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رياءً ونفاقًا، أراد أن يحفظ صورته عنده وأن لا يخسر ثقة النبيّ فيه.

 

منافع تخلّف المنافقين

المنفعة الأولى المترتّبة على إذن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بعدم اللحاق بالركب، هي أنّهم استفادوا من هذا الإذن وبقوا في بيوتهم بكلّ وقاحةٍ، وبذلك تسنّى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولسائر الناس معرفتهم وتمييزهم، ولو أنّه لم يأذن لهم لاضطرّوا إلى المشاركة في المعركة والسير في ركابه، ففي ذلك الزمان لم يكن الأمر على هذا النحو بحيث يمكن لهم أن يبقوا أحلاس بيوتهم والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم يجب عليكم الخروج معنا؛ فأحكام الإسلام كانت ملزمة في ذلك العصر، فلم يكن عصرهم كعصرنا بحيث يدعو الإسلام إلى إيتاء الزكاة ومن شاء يؤدّي ما عليه ومن شاء يمتنع!

 

قوانين الإسلام وتعاليمه كانت ذات طابعٍ اجتماعيٍّ، والدولة في ذلك الوقت كانت محكومة بهذا المنهج الفكريّ، وذلك المجتمع كان يسير وفق الإيديولوجيا الإسلاميّة، ورأس تلك الدولة وذلك المجتمع هو مؤسّس هذا الفكر وداعيتُه، والمشرف على تطبيقه وتجسيده في الاجتماع الإنسانيّ. فعندما كان يأمر كان على الناس الاستجابة وتلبية الدعوة، ومن لا يلتحق بالركب يُعدّ من المتخلِّفين عن الجهاد، والتخلّف عن الجهاد جريمة لها عقابها المعروف. وعليه، لو أنّ جميع الناس خرجوا ولبَّوا دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما عُرِف المنافقون ولما امتازوا عن سائر الناس، ولما انكشفت وجوههم من وراء الأقنعة التي كانوا يغطّونها بها.

 

المنفعة الثانية التي ترتّبت على الإذن النبويّ، هي أنّ المنافقين ضعاف النفوس، وبالتالي سوف يؤدّي وجودهم بين سائر المقاتلين إلى سراية ضعفهم

 

300

 


258

تفسير سورة براءة

وانتقاله إلى سائر العسكر، فيحول ذلك دون ثباتهم في المعركة وإصرارهم عل النصر أو الشهادة، وسوف يبتلى الجميع بالتردّد والاضطراب. ومثل هذه الحالة حصلت أكثر من مرّة في تاريخ الإسلام المبكِّر، ففي أُحد ضعُفت نفوس بعض المقاتلين ففرّوا من ساحة المعركة أو فكّروا في الفرار منها، ويوم حُنين أيضًا ضعف بعض الناس وخرّبوا الأوضاع بضعفهم هذا، ولولا رشد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وثبات أمير المؤمنين عليه السلام وعددٍ آخر من الصحابة لتعرّضت مسيرة الإسلام لانتكاسة بالحدّ الأدنى.

 

وخلاصة الكلام، إنّ قوله تعالى: "عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" فيه إشارة إلى الموافقة الإلهيّة على هذا التدبير النبويّ.

 

نقد فهم بعض المفسِّرين للآية

يتبيّن ممّا تقدّم أن موقف بعض المفسِّرين من فهم الآية بعيدٌ بعض الشيء عن الموضوعيّة. وذلك أنّ بعضهم كأنّه غفل عن قراءة الآية والتدقيق في معناها، فقال في تفسيرها إنّ الإذن النبويّ لم يؤدِّ إلى انكشاف المنافقين وامتيازهم عن سائر الناس، وبالتالي كان من الأجدى عدم الإذن لهم. ونحن نرى أنّ هذا الفهم لا ينسجم مع دلالة الآية ومؤدّاها الظاهر.

 

وما قدّمناه من توضيح يكشف عن أنّ التفسير الصحيح للآية هو كشفها عن الرضا الإلهيّ عن الإذن النبويّ؛ لأنّ هذا الإذن هو الذي كشف وجوه المنافقين الحقيقيّة وميّز بينهم وبين المؤمنين.

 

وقد توقّف عددٌ من المفسِّرين من المتقدّمين والمتأخِّرين مثل: الفخر الرازي، والزمخشري، وصولًا إلى رشيد رضا[1] عند هذه القضية وتساءلوا: هل ارتكب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذنبًا أو أخطأ حتّى يعفوَ الله عنه؟ وقد رأى بعضهم أن لا مانع من وقوع النبيّ في الخطإ أو المعصية! بينما رأى آخرون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أقدم على ترك الأولى! وذهب بعضٌ إلى أنّ قوله تعالى: "عَفَا اللهُ عَنكَ


 


[1] التفسير الكبير، ج 16، ص 73؛ الكشّاف، ج 2، ص 192؛ المنار، ج 10، ص 402.

 

301


259

تفسير سورة براءة

لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ"، محمول على المزاح، ولا يُستفاد منه الجدّ! إلى غير ذلك من الأوهام والأقوال غير الصحيحة.

 

وفي الردّ على هذه الأفكار ينبغي قول الآتي:

أوّلًا: لا ينبغي إدخال النظريّات الكلامية والآراء الاعتقادية في تفسير الآية. وفي هذا العمل مجانبةٌ للطف في التعاطي مع القرآن؛ وذلك أنّ الصحيح هو النظر إلى الآية نفسها، واكتشاف نقطة الارتكاز الأساس فيها، أمّا الدخول في البحث الكلاميّ بأدنى مناسبةٍ فهو خلطٌ منهجيٌّ غير صحيحٍ. والخوض في تفاصيل الأبحاث الكلامية لا ينسجم مع وظيفة المفسِّر ودوره. والبحث في عصمة الأنبياء وإمكان وقوع النبيّ في المعصية أو عدم إمكانه بحثٌ كلاميٌّ محلّه علم الكلام، وقد بيّن الأشاعرة موقفهم من هذه القضية الكلامية في كتبهم التخصّصية.

 

ثانيًا: إن إنطاق القرآن بالآراء الشخصية المستندة إلى الخلفية المذهبيّة أو غيرها جريمةٌ كبيرةٌ في حقّ القرآن، وقد أقدم عددٌ من المفسِّرين على ارتكابها.

 

الاستئذان في ترك الجهاد من علامات عدم الإيمان

في الآية نقطة مهمّة تتولّى الآية اللاحقة تفصيلها، وهذه النقطة مفادها أنّ الاستئذان في ترك الجهاد، حيث يكون التكليف عامًّا وشاملًا لجميع الناس، دليلٌ على عدم الإيمان. والإذن الذي صدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أدّى إلى ظهور عدم إيمانهم وانكشافهم؛ وذلك لأنّ الأمّة عندما تُعلَم بأنّها مسؤولة عن حمل الأمانة، ولا تستطيع ذلك إلّا بتصدّي عددٍ من المسلمين للجهاد بأنفسهم وأموالهم، وأن يضحّوا بما يملكون ليوصلوا هذه الأمانة إلى الأجيال الآتية، فعلى الجميع في هذه الحالة التشمير عن السواعد وحمل الأعباء المطلوبة كلٌّ بحسب قدرته، مهما كانت المخاطر والتبِعات، وهذا أمرٌ كان يدركه المسلمون بعقولهم، وأكّده لهم القرآن الكريم وكلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعليماته الصادرة لهم.

 

302

 


260

تفسير سورة براءة

في مثل هذه الظروف يكشف طلب الإذن بالإعفاء من تحمّل هذه المسؤولية العظيمة، عن أنّ المستأذن ليس من أهل العمل وليس من المؤهّلين لحمل الأمانات والأعباء الثقيلة. ومن هنا، تكشف الآية اللاحقة عن هذه السمة من سماتهم، وتؤكّد أنّ من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يطلب الإذن ولا يسعى إلى التخفّف من الأعباء: "لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ".

 

التلازم الحتميّ بين الجهاد والإيمان

يُستفاد من الكلام العامّ المتقدّم مطلبٌ فرعيٌّ حاصله أنّ بين الإيمان والجهاد تلازمًا حتميًّا؛ أي إنّ المؤمن الحقيقيّ الواقعيّ يسير في صراط الجهاد عندما يعلم بأنّ ذلك هو المطلوب منه، أمّا من يعلّق مشاركته في أداء هذا الواجب على عدم إعفاء النبيّ له، فهو ليس من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، وبذا يُعلم أنّ طلب الإذن بعدم المشاركة في الجهاد كاشفٌ عن عدم الإيمان، أو على الأقلّ عن عدم عمق الإيمان؛ ولهذا تتابع الآية وتبيّن علم الله بالمؤمنين وغير المؤمنين: "وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ".

 

"إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ": تخاطب هذه الآية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له: لا يخدعنّك هؤلاء الذين يُظهرون الإيمان، فبعضهم متورّطون في عالم شكّهم وريبهم، فهؤلاء ليسوا في مركز الإيمان، بل هم غارقون في التردّد والشكّ، يراوحون على الدوام بين هذا الموقع وذاك ولا يستقرّون على حال؛ ومن الدلائل الكاشفة عن حالهم هذه مجيئهم إليك وطلبهم إعفاءهم من الجهاد؛ ولو كانوا صادقي الاعتقاد لما تردّدوا في الطاعة بعد صدور الأمر منك.

 

303

 


261

تفسير سورة براءة

وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ

انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ

 

305


262

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تأتي هذه الآية بعد عدد من الآيات وتسبق عددًا آخر من الآيات التي تتحدّث عن المنافقين وأوضاعهم. وعلى الرغم من شيء من الاختلاف في بعض المضامين بين هذه الآيات إلا أنّ الفضاء العام للسورة واحدٌ.

 

وهذه الآية مليئة بالمطالب المهمّة واللافتة، وتحتوي على عددٍ من الإشارات المربِّية والمعلِّمة، فهي تقول: إنّ هؤلاء الذين يأتون إليك لاستئذانك، يحاولون في الحقيقة تغطية ضعف نفوسهم بالرياء والتظاهر بالأدب. وفي الحقيقة هم ليسوا من أهل الجهاد ولا من المستعدّين له. والدليل على هذا التقويم لهم أنّ من يريد الخروج ومن هو عازمٌ عليه، لا بدّ له من إعداد العدّة وتهيئة المقدّمات، وهم لم يفعلوا شيئًا من هذا، وبالتالي لا معنى لاسئتذانهم منك، وهم من أوّل الأمر مائلون إلى البقاء والتخلّف عن ركبك.

 

"وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً": من يعزم على الخروج مع المسلمين إلى الجهاد لا بدّ له من تمهيد المقدّمات المطلوبة لهذا السفر. "العُدّة" هي وسائل السفر وأدوات القتال. وكأنّ في هذه الآية إشارة إلى آية أخرى يقول فيها جلّ وعلا: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾[1] وهذه الآية من سورة الأنفال، والآية محلّ البحث من سورة التوبة، تفيدان وجوب الاستعداد الدائم وتمهيد مقدّمات الدفاع كي يخاف العدوّ من الهجوم، وإذا هجم كي يمكن ردّه عن ثغور المسلمين وبلادهم.

 

"وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ": نعم إن الله لا يحبّ حركة هؤلاء


 


[1] سورة الأنفال: الآية 60.

 

307


263

تفسير سورة براءة

وانبعاثهم والتحاقهم بسائر المسلمين. والانبعاث المطاوعة من البعث، وهو إثارة الشيء وإرساله في حاجةٍ، وليس كلّ إرسال بعثًا؛ بل البعث هو خصوص الإرسال في أمرٍ مهمّ مقترن بالسرعة، ومن ذلك بعث الأنبياء، وبعث الأموات يوم القيامة. والانبعاث هو التحرّك والاستجابة لفعل البعث، وعلى حدّ تعبير بعض المفسِّرين هو "الانطلاق بسرعةٍ"، كما تنطلق الرصاصة من البندقيّة. فالآية تقول إنّ الله كره استجابتهم لبعثه وانبعاثهم، فصرفهم عن الاستجابة.

 

"التثبيط" هو الإعاقة والترديد وجعل الإنسان معرِضًا فاقدًا للميل إلى عملٍ.

"وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ": وقد عبّر الله عن تثبيطه إيّاهم بأن خاطبهم بالبقاء مع القاعدين ليكونوا مثلهم، والمراد من القاعدين أولئك العاجزين عن الجهاد أو المعفوّين من وجوبه عليهم، كالأطفال والعجزة والمرضى والنساء.

 

وتخطر في البال عند قراءة هذه الآية أسئلة عدّة:

أوّلها: لماذا يكره الله استجابة بعض الناس للدعوة إلى الجهاد؟

ثانيها: كيف ينسب الله إلى نفسه تثبيطهم عن الجهاد، وكيف يحول بينهم وبين الحركة نحو ساحة القتال بعد أن دعاهم النبيّ إلى الخروج؟

 

ثالثها: من هو الذي يُنسب إليه فعل القول في عبارة: "وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ"؟ فهل القائل هو الله تعالى؟ أم هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أم هو نفوسهم التي سوّلت لهم البقاء ودعتهم إليه؟

 

سبب كراهة الله خروج المنافقين

في الجواب عن السؤال الأول حول سبب كراهة الله مشاركة المنافقين في الجهاد إلى جانب سائر المؤمنين، ثمة احتمالات عدّة أقربها إلى ظاهر الآية هو أنّ خروجهم مع المؤمنين إلى القتال كانت ستترتّب عليه آثار سلبيّة، بسبب إثارتهم التردّد والقلق بين صفوف العسكر، ولأنّه من المتوقّع من المنافقين

 

308

 


264

تفسير سورة براءة

ترك الساحة عند احتدام المعركة، وبالتالي تركهم مواقعهم خاليةً. وهذا الاحتمال ينسجم أكثر من بقية الاحتمالات مع مفاد الآية اللاحقة. وعليه كره الله خروجهم لأنّه لن تترتّب عليه آثار إيجابية أو منفعة للمسلمين.

 

وثمّة احتمالٌ آخر يخطر في الذهن، وأعترف بأنّه ذوقيٌّ ولعلّه غير مقصودٍ من الآية، وهذا الاحتمال هو أنّ الله كره انبعاثهم، أي لم يرد لأمثال هؤلاء من غير المؤهّلين ولا الجامعين لشروط الجهاد في سبيل، لم يرد لهم أن يحظوا بشرف حمل هذه الرسالة العظيمة. فهؤلاء بعد تمنّعهم عن طاعة الله، وإثر طاعتهم للنفس المتمرّدة، تراجعوا عن مرتبة الكمال الإنسانيّ التي يريدها الله تعالى. ومن لم يصل إلى مرحلة الكمال لا ينبغي له شرف حمل الأمانة.

 

السنوات الثلاث والعشرون من نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت نقطة تحوّلٍ في مسار البشريّة وانعطافة مهمّة لقافلة الإنسانيّة، ولو أنّ المسلمين ناموا عن واجباتهم، ولو أنّ الغفلة أصابتهم واستولت عليهم؛ لكان مصير البشريّة تبدّل وآل إلى غير ما آل إليه. ولو أنّ هذه الرسالة الخطيرة لم توضع على عاتق شخصٍ كالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشاركه في حملها مجموعة من الرجال العظام كأصحابه الذين كانوا يحيطون به، لما كانت الإنسانية وصلت إلى هذه الحالة التي نعرفها، ولكانت سفينة البشريّة رست في موضع آخر غير الذي ترسو فيه الآن. وفي هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الإنسانيّة يريد الله تعالى لخير أهل الأرض ولأشرف الناس أن يحملوا لواء الشرف هذا، ومن هنا فإنّ ضعاف النفوس ليسوا أهلًا لهذا الشرف، ولا يريد الله لهم الحظوة بتلك الجائزة.

 

نسبة أعمال الإنسان إلى الله

السؤال الثاني الذي تثيره الآية هو كيف تصحّ نسبة أفعال الإنسان إلى الله، فهؤلاء بحسب الآية كره الله خروجهم فأعاقهم عن الخروج وثبّطهم؛ ولأجل ذلك لم يخرجوا مع سائر المسلمين؟ فهل الله الذي أمر بالقتال والجهاد وجعله تكليفًا على عاتق آحاد الأمّة، هو نفسه اختار جماعةً من الناس فحال

 

 

309


265

تفسير سورة براءة

بينهم وبين المشاركة في أداء هذا التكليف؟ أليس هذا هو الجبر؟

 

وقد عمد المفسِّرون الذين يهتمّون بذكر الآراء والنظريّات الكلاميّة في تفاسيرهم، عمدوا إلى نقل كلام المجبِّرة وآراء المعارضين لهم وأوردوها في التفسير. ولحلّ هذه الإشكالية ينبغي البحث أوّلًا في كيفية نسبة الأفعال الاختياريّة للإنسان، أو غيرها من الظواهر التي تحصل في الكون إلى الله تعالى، وبعد ذلك نبحث في كيفية نشوء الانصراف عن القتال والجهاد عند الإنسان، وكيف تنمو في فكره الرغبة في ترك أداء واجب الجهاد.

 

إذا قُلتم إنّ الله هو الذي يُسقط أيّ ورقةٍ من أيّ شجرة، فهذا الكلام صحيح، على الرغم من أنّ كثيرًا من الأوراق تسقط نتيجة أسباب وعوامل عدّة. فالورقة تتّصل بالجذع عبر الغصن، وبواسطة الغصن تصل إليها الموادّ الغذائية التي تحافظ على نضرتها. فعندما تطرأ أسباب تؤدّي إلى انقطاع الصلة بين الشجرة وغصنها، لن يعود ممكنًا للغصن متابعة حياته النباتيّة فتجفّ الأوراق التي عليه وتسقط على الأرض. وهذه علّة ماديّة طبيعيّة شاهدها أكثر الناس أو جرّبوها أو قرأوا عنها على الأقلّ، وهي معلومة معروفة للناس كافّةً.

 

ونحن جميعًا نعلم أنّ الله خلقنا، ولكنّنا نعلم أيضًا أنّ وجودنا متوقّفٌ ومرتبطٌ بعدد من العلل الماديّة والعوامل الطبيعيّة. فأول العلل الطبيعية هو التلقيح الذي يحصل بين الحيوانات المنويّة الصغيرة التي تدخل إلى البويضة وتستقرّ في رحم المرأة، وبعد ذلك تحتاج لتنمو وتتطوّر إلى التغذية، حتى تتحوّل تلك الذرّات الصغيرة إلى إنسان.

 

مثالٌ آخر هو اشتعال الكبريت الذي يتوقّف على قابلية الكبريت نفسه للاشتعال والاحتراق، والاحتكاك بينه وبين سطح خشنٍ نسبيًّا، واليد التي تنجز عملية الاحتكاك هذه، وعلى الرغم من هذه العوامل كلّها يمكن القول إن الله هو الذي يفعل ذلك.

 

 

310

 


266

تفسير سورة براءة

على الرغم من أنّ علل الظواهر الطبيعيّة واضحةٌ وكثيرٌ منها معلومٌ، فإنّنا نقدر أن ننسب أيّ ظاهرة في آفاق الطبيعة سواء وجِدت بواسطة الإنسان أو بواسطة غيره، فإنّنا نقدر على نسبة هذه الظواهر إلى الله تعالى؛ والسؤال هو: لماذا؟ والجواب هو: لأنّ الله ليس في عرض هذه العلل والأسباب، وإنّما هو في طولها. فالله تعالى هو علّة العلل وهو الذي هيّأ مقتضيات التأثير بين الظواهر، وكلّ ما يوجد يوجد بعلمه وإرادته. وبناءً على ذلك، فإنّ انتساب الظواهر الطبيعيّة والأفعال غير الاختياريّة للإنسان، إلى الله تعالى صحيحٌ ولا إشكال فيه.

 

أمّا بالنسبة إلى الأفعال التي تدخل في دائرة الإرادة الإنسانيّة وتصدر عن الإنسان بإرادته واختياره، فإنّ الأمر يحتاج إلى شيء من التوضيح على الأقلّ عند بعض الناس؛ وذلك لأنّه بناءً على هذا المبدإ يمكن نسبة جميع الأفعال الإنسانيّة إلى الله، حتى لو كانت أفعالًا من قبيل قتل الأنبياء، وهذا لا يتنافى مع صدور العمل وفق إرادة الإنسان واختياره، وذلك لأنّ الإرادة التي تستند إليها، والقدرة على أخذ القرار التي أعطاك إياها الله، يمكنك أن تستفيد منها ويمكنك أن لا تستخدمها في هذا الفعل أو ذاك، وهذا معنى كون الإنسان مكلفًا ومختارًا، أمّا الحيوانات فلا تقدر على استخدام إرادتها بالطريقة نفسها، ومن الواضح أنّ الأشياء لا تقدر على اتّخاذ القرار ولا إرادة لها إلى الفعل أو الترك؛ فالإرادة والاختيار من خصائص الإنسان. ولعلّ الموجودات العلويّة أيضًا تشترك مع الإنسان في هذه الخصوصية.

 

إذًا؛ العمل الذي يتحقّق في الخارج بواسطة شخصٍ يمكن نسبته في وقتٍ واحدٍ إلى الله تعالى وإلى الفاعل أيضًا؛ وذلك لأنّه لو توافرت الأسباب والدواعي ولم يتّخذ الفاعل قرار الفعل ولم يرده، فإنّ الفعل لا يحصل ولا يتحقّق، فإرادة الإنسان إذًا مؤثِّرةٌ ولها دورٌ في حصول الفعل؛ ومن هنا يُنسب الفعل إليه. والله تعالى هو الذي خلق الإنسان وخلق له القدرة على الإرادة واتّخاذ القرار، ومن هذه الجهة يُنسب الفعل إليه تعالى،

 

 

311

 


267

تفسير سورة براءة

ولأنّه هو الذي جعله قادرًا على الفعل وهيّأ له مقدّمات التنفيذ؛ ولكنّ الله لا يجبر الإنسان على اتّخاذ القرار بالفعل أو الترك.

 

وانطلاقًا ممّا تقدّم يمكن نسبة الفعل الاختياريّ الصادر عن الإنسان بإرادته واختياره إلى الإنسان الفاعل، ويصحّ أن يُقال هو الذي فعل كذا. ويمكن نسبته إلى الله تعالى بالقول إنّه عزّ وجلّ هو الذي أوجد الشيء أو الفعل الفلانيّ؛ وذلك من جهة أنّه هو الذي خلق الفاعل وأقدره على الفعل.

 

وبالنظر إلى التوضيح المتقدِّم يكون معنى "فثبّطهم" أنّ الله حال بينهم وبين الخروج وأعاقهم عنه؛ أي إنّ الله أوجد ظروفًا معيّنةً، أدّت إلى أن يشعر الإنسان الماديّ والمتعلّق بالدنيا، بمزيد من الحبّ للبقاء، وميل إلى الفرار من الحرب والقتال في سبيل الله. وحيث إنّ الله هو الذي يوجد محبّة الولد في قلب الإنسان، وحيث إنّ كل ما بين يدي الإنسان من إمكانات هي من الله، وهو الذي أقدر الإنسان على الإرادة والاختيار وأخذ القرار بالذهاب أو البقاء، لأجل ذلك كلّه يمكن نسبة الميل إلى البقاء وترجيحه على السفر مع المسلمين إلى تبوك إليه تعالى.

 

والآن، تصوّروا حال رجلين، أحدهما عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وأبو ذر الغفاري الذين كان لهم دورٌ بشكلٍ أو بآخر في معركة تبوك. عبد الله بن أبيّ هو واحدٌ من أولئك الذين رجّحوا البقاء على الخروج، وهو واحدٌ من الذين يقول عنهم الله تعالى: "فَثَبَّطَهُمْ"، بلى إنّ الله لم يكتب له الخروج، وبالنسبة إلى أبي ذرٍّ يمكن القول إنّه انبعث بإرادة الله؛ أي رجّح السفر مع المسلمين على البقاء مع القاعدين.

 

والآن لننظر في هذين المثالين: لنعرف ما هي علّة ذهاب أحدهم، وما سبب تخلّف الآخر؟ الظروف العامّة مشتركةٌ بينهما، عبد الله كان له أولاد وأبو ذر كان له أولاد أيضًا. عبد الله بن أبيّ كان طالب رئاسةٍ وأبو ذرٍّ أيضًا كان يطلب الرئاسة، وهذه غريزة طبيعيّة في الإنسان تدفع الإنسان ليكون متقدّمًا لا متأخّرًا. وحبّ الرئاسة في حدّ نفسه ليس خصلةً سيّئةً،

 

 

312

 


268

تفسير سورة براءة

وهو سببٌ من أسباب تكامل الإنسان، وتبدأ المشكلة عندما تتجاوز هذه الخصلة الحدّ المعقول والمنطقيّ، فتتحوّل إلى رذيلةٍ. وكلا المثالين يحبّ الراحة ويميل إليها أكثر من التعب، وكلاهما يحبّ الحياة ويكره التورّط في الآلام والمتاعب، وكلاهما يحبّ أن يبقى إلى جانب زوجته وأطفاله.

 

ومن جهة أخرى، نداء الاستعداد للقتال توجّه إليهما معًا. وكان متاحًا لكليهما أن يُستشهد في سبيل الله، ولو أنّ أيًّا منهما نال شرف الشهادة لأمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى.

 

وكان عند كليهما حالةٌ أخرى، وهي القدرة على اتّخاذ القرار والاختيار بين الذهاب والبقاء؛ ولكن عندما آن أوان الانطلاق أحدهما قرّر البقاء والآخر قرّر الذهاب.

 

ولم يتوجّه إلى أيٍّ منهما ظلمٌ من الله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وقد أعطي كلٌّ منهما ما يحتاج إليه لأخذ القرار بشكلٍ متساوٍ، غاية الأمر أنّ أحدهما قرّر بإرادته السفر، والآخر قرّر بإرادته أيضًا أن يبقى حيث هو. ولكن ما الذي حصل حتّى ذهب أحدهما وبقي الآخر؟

 

إنّ منشأ كلا القرارين هو الإيمان وعدمه. وعندما نحلّل القرارين وما نشآ عنه نجد أنّ منشأ القرار أيضًا أمرٌ اختياريٌّ وإراديٌّ. وبالتالي فإنّ امتناع عبد الله بن أبيّ عن الذهاب يستند إلى اختياره وإرادته، ويمكن نسبته إلى الله وفق التحليل المتقدّم. وذهاب أبي ذرٍّ ومشاركته في معركة تبوك يُنسب إليه لأنّه حصل بإرادته واختياره، ويمكن نسبته إلى الله وفق ما تقدّم أيضًا. وذلك كما إنّ الورقة تسقط من الشجرة تبعًا لعوامل عدّة طبيعيّة؛ ولكن في الوقت نفسه يمكن نسبتها إلى الله عزّ وجلّ.

 

بلى، ليس الله هو الذي حرم المنافقين من نيل شرف الشهادة، ومنعهم من تناول الفيض؛ بل هم الذين كانوا السبب في هذا الحرمان. ولم يكن الشرف الذي ناله أبو ذرّ نتيجة تمييز إلهيٍّ تجاهه؛ بحيث يجعل هذا التمييز

 

312


269

تفسير سورة براءة

وهو سببٌ من أسباب تكامل الإنسان، وتبدأ المشكلة عندما تتجاوز هذه الخصلة الحدّ المعقول والمنطقيّ، فتتحوّل إلى رذيلةٍ. وكلا المثالين يحبّ الراحة ويميل إليها أكثر من التعب، وكلاهما يحبّ الحياة ويكره التورّط في الآلام والمتاعب، وكلاهما يحبّ أن يبقى إلى جانب زوجته وأطفاله.

 

ومن جهة أخرى، نداء الاستعداد للقتال توجّه إليهما معًا. وكان متاحًا لكليهما أن يُستشهد في سبيل الله، ولو أنّ أيًّا منهما نال شرف الشهادة لأمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى.

 

وكان عند كليهما حالةٌ أخرى، وهي القدرة على اتّخاذ القرار والاختيار بين الذهاب والبقاء؛ ولكن عندما آن أوان الانطلاق أحدهما قرّر البقاء والآخر قرّر الذهاب.

 

ولم يتوجّه إلى أيٍّ منهما ظلمٌ من الله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وقد أعطي كلٌّ منهما ما يحتاج إليه لأخذ القرار بشكلٍ متساوٍ، غاية الأمر أنّ أحدهما قرّر بإرادته السفر، والآخر قرّر بإرادته أيضًا أن يبقى حيث هو. ولكن ما الذي حصل حتّى ذهب أحدهما وبقي الآخر؟

 

إنّ منشأ كلا القرارين هو الإيمان وعدمه. وعندما نحلّل القرارين وما نشآ عنه نجد أنّ منشأ القرار أيضًا أمرٌ اختياريٌّ وإراديٌّ. وبالتالي فإنّ امتناع عبد الله بن أبيّ عن الذهاب يستند إلى اختياره وإرادته، ويمكن نسبته إلى الله وفق التحليل المتقدّم. وذهاب أبي ذرٍّ ومشاركته في معركة تبوك يُنسب إليه لأنّه حصل بإرادته واختياره، ويمكن نسبته إلى الله وفق ما تقدّم أيضًا. وذلك كما إنّ الورقة تسقط من الشجرة تبعًا لعوامل عدّة طبيعيّة؛ ولكن في الوقت نفسه يمكن نسبتها إلى الله عزّ وجلّ.

 

بلى، ليس الله هو الذي حرم المنافقين من نيل شرف الشهادة، ومنعهم من تناول الفيض؛ بل هم الذين كانوا السبب في هذا الحرمان. ولم يكن الشرف الذي ناله أبو ذرّ نتيجة تمييز إلهيٍّ تجاهه؛ بحيث يجعل هذا التمييز

 

313


270

تفسير سورة براءة

الفعل الصادر عنه غير إراديٍّ؛ بل هو عملٌ اختياريٌّ وإراديٌّ، يمكن نسبته إليه تعالى.

 

إشارةٌ: في الصلة والعلاقة بين قوله تعالى: "فَثَبَّطَهُمْ"، وقوله عزّ وجلّ: "وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ"، ينبغي القول إنّ الإنسان عندما يجد نفسه على مفترق طرقٍ يدعوه العقل إلى اختيار أحدهما والهوى إلى اختيار الآخر، فإذا مال مع الهوى واختار ما يدعوه إليه، فإنّه ليس مجبرًا على متابعة السير حتى بعد الاختيار، فهو يقدر على العودة أو تحويل المسار.

 

وثمّة مطلبٌ آخر ينطبق على طريق الخير وطريق الشرّ على حدّ سواء، وهو أنّ كل خطوةٍ هي مقدّمةٌ للخطوة التي تليها. فعندما يخطو الإنسان الخطوة الأولى في طريق الشرّ، ويقرّر مثلًا عدم المشاركة في الجهاد في سبيل الله. تنفتح عليه أبواب الوساوس وتغلي في نفسه مراجل الشرّ وتدفعه إلى الأمام في هذا الطريق أبعد فأبعد.

 

كل خطوة مقدمة للتي تليها خيرًا أو شرًّا

أنعموا النظر، فإنّ هذه الحالة موجودة عندنا أيضًا! النفس الإنسانية توسوس للإنسان، وتحسّن في عينيه ترك الجهاد، وتبرّره له بأشكال عدّة، وترفع أمام ناظريه تكاليف الذهاب إلى الجهاد وأعباءه، وتبدأ بتقديم الأدلّة على حسن هذا الاختيار، وتدفعه هذه التسويلات إلى المزيد من الشرّ. وذنبه هو الخطوة المنحرفة التي خطاها أوّلًا؛ لكنّه بعد تلك الخطوة ليس مجبرًا، بل هو قادر على تحويل مساره وترك الطريق الخطأ.

 

الأمر نفسه يصدق على اختيار طريق الخير والسير فيه. فعندما يختار الإنسان طريق الخير بحكم العقل وبدفعٍ منه، تبدأ كلّ عوامل الخير وأسبابه بالظهور والنشاط، وتدفع الإنسان إلى الأمام لمتابعة المسار الذي اختاره. فعقل الإنسان يبدأ بالكشف عن الواقع، ونفس الإنسان تبدي له

 

 

314


271

تفسير سورة براءة

 قدراته وتشجّعه على متابعة السير، بل تتضاعف قدراته ويشتاق أكثر فأكثر إلى المتابعة.

 

وهذا يشبه ما لو كان الإنسان في بريّةٍ مظلمة، وأعطي شمعةً وقيل له سر إلى الأمام، وهذه الشمعة سوف تنير لك الطريق إلى متر. وكلّما سرتَ مترًا أضاءت لك الشمعة المتر الذي يليه. وهذا يدفعه إلى السير ليتلمّس طريقه مترًا فمترًا، إلى أن يصل إلى مبتغاه.

 

وخلاصة الكلام أنّ كلًّا من عوامل الشرّ وعوامل الخير وأسبابهما تدفع الإنسان إلى الأمام. والاسم الذي يطلق على دوافع الخير هو التوفيق. والنتيجة المستفادة من الشرح المتقدّم كلّه أنّه يصحّ نسبة كلٍّ من التوفيق والتثبيط إلى الإنسان، كما يصحّ نسبته إلى الله تعالى. ويصحّ بالتالي أن يُقال للمنافقين اقعدوا مع القاعدين.

 

والسؤال الثالث كان عن الفاعل المجهول في قوله تعالى: "وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ"، فمن هو صاحب هذا القول؟ طرح المفسِّرون احتمالات عدّة. ومن هذه الاحتمالات أنّها خطابٌ من الله تعالى لهم، ومنها أنّها قولُ بعض المنافقين لبعضهم الآخر، وقيل إنّها تسويلات نفوسهم ووساوس الشيطان والنفس وقد كشف الله عزّ وجلّ عنها في هذه الآية.

 

وبناءً على شرحنا السابق، يقوى احتمال أن يكون القائل هو الشيطان أو وساوس النفس، هي التي تقول لهم: "اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ".

 

315


272

تفسير سورة براءة

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿47﴾ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿48﴾ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿49﴾

 

 

316


273

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

بيّنّا في تفسيرنا للآيات السابقة أنّ جماعة من الناس كانوا غير مستعدّين للخروج إلى الجهاد؛ ونتيجة عدم الاستعداد هي عدم الخروج. وتحدّثت آية سابقة عن هذه الجماعة وأخبرت أنّ أفرادها لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. ويُستفاد من الجمع بين الآيات أنّ الذين لم يعدّوا العدّة اللازمة للخروج إلى الجهاد لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وفي هذه الآية محلّ البحث تبيّن أنّ سبب عدم الخروج هو عدم الاستعداد، والاستعداد تارةً يكون ماديًّا وأخرى يكون معنويًّا.

 

وتكشف هذه الآيات عن الحالات الروحية والنفسية والفكريّة للمنافقين، وعن الآثار السيِّئة التي تترتّب على وجودهم بين المؤمنين.

 

كما إنّ هذه الآيات تظهر السرور من عدم خروج المنافقين، وتعزّي المسلمين بأن تبيّن لهم أنّ خلوّ صفوفهم من المنافقين أفضل لهم وأولى. وكأنّ الله يريد دفع الخوف واليأس عن قلوب المسلمين، ويريد أن يثير الأمل في نفوسهم ويشدّ من عزائمهم؛ كي لا يظنّ أحدٌ منهم أنّه سيواجه الهزيمة أو الفشل بسبب بقاء عددٍ من الناس في بيوتهم وترجيحهم عدم الخروج للقتال.

 

وهذه الآيات تذكِّر بمؤامرة تولّى المنافقون والكافرون حياكتها؛ ولكنّها لم تترك أثرها في المجتمع الإسلاميّ ولم تستطع إعاقة تقدّم الفكر الإسلاميّ. وهذه تعزية أخرى لقلوب المؤمنين لتثبيت قلوبهم، ولتذكِّرهم بأنّ سيرة المنافقين الدائمة هي تقليب الأمور وتغيير الأوضاع

 

 

318


274

تفسير سورة براءة

 والمواقف؛ ولكنّهم لن ينالوا سوى الفشل.

 

لقد تآمر المنافقون وكادوا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أوّل الهجرة، ودسّوا عليه الدسائس وخطّطوا لمواجهته؛ ولكنّ خططهم باءت بالفشل وانتصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. واليوم (يوم تبوك) يكرّرون الأمر نفسه؛ فلا تحزنوا أيّها المسلمون سوف يكون النصر حليفكم.

 

في ما يرتبط بعدد المنافقين الذين تخلّفوا مع عبد الله بن أبيّ يروي بعض المؤرّخين أنّه عندما عزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إلى الجهاد عسكرَ عبد الله بن أبيّ في جماعة منفصلة والتفّ حوله عددٌ من المنافقين، ويقول أحد المؤرّخين في تعدادهم: "وما كان في ما يزعمون بأقل ّ العسكرين". وهذا ما يفسِّر التدخّل الإلهيّ لشدّ عزيمة المسلمين وتعزيتهم.

 

"لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً": "الخبال" كلمة استُعمِلت في أكثر من معنى، وأنسب هذه المعاني إلى العبارة التي وردت في الآية هو الاضطراب والفساد الفكريّ. والمقصود من الآية هو أنّه لو خرج المنافقون معكم، ولو من باب فرض المحال[1]، لما ترتّب على خروجهم معكم سوى إثارة الاضطراب والإخلال الفكريّ بين صفوفكم.

 

"ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ": ولأسرعوا بينكم. والمقصود من إسراع المنافقين بين المؤمنين أنّهم يسرعون في إثارة الفتن والنميمة وينتقلون من جهة إلى أخرى ومن صفٍّ إلى صفٍّ لتفريق الصفوف وتشتيت القلوب. والإيضاع هو الإسراع في السير، وفسّرها بعضٌ بالإسراع في الشرّ؛ ولكنّ مفهوم الشرّ ليس قيدًا في هذه الكلمة ولا مأخوذًا فيها، وإنّما يُستفاد من العبارة


 


[1] الموصوف بأنّه محالٌ هو الخروج المنظّم للمنافقين بهدف نصرة المؤمنين والقتال في صفوفهم. أما الخروج لأسباب أخرى فسوف يأتي في تفسير الآيات اللاحقة أنّ بعض المنافقين خرجوا مع المسلمين بهدف التآمر لاغتيال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد همّوا بقتله في طريق العودة من تبوك؛ ولكنّ الله سلّم، وأخبر النبيّ عمار بن ياسر بأسمائهم وفشلت مؤامرتهم. ويذكر أكثر المصادر التاريخية اسم حذيفة بدل عمّار؛ غير أنّ اسم عمّار ورد في عددٍ منها.

 

 

319

 


275

تفسير سورة براءة

 اللاحقة في الآية، حيث يشير سبحانه إلى الفتنة التي يبتغي المنافقون إثارتها بين المؤمنين.

 

"وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ": كلمة سمّاعون فُسِّرت بمعنيين، قال بعضٌ إنّها وصفٌ للجواسيس، أي إنّ المنافقين جواسيس بينكم يستمعون لمصلحة أعدائكم من المنافقين أو الكفّار.

 

ويبدو أنّ هذا الاحتمال بعيدٌ عن دلالة الآية؛ وذلك لأنّ الآية في مقام بيان المنّ الإلهيّ على المسلمين بتطهير صفوفهم من حضور المنافقين بينهم. وهذا لا ينسجم مع وجود عددٍ من المنافقين ينقلون إلى إخوانهم في النفاق أخبارَ المسلمين وأوضاعَ عسكرهم. وبالتالي يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة وصف المنافقين المندسّين بين صفوف المسلمين.

 

وقال آخرون إنّ كلمة سمّاعين صيغة مبالغة من مادة "سمع"، أي كثير السمع، ويبدو أنّ هذا المعنى هو الأقرب إلى سياق الآية. والمقصود هو الإشارة إلى بعض المسلمين الذين يقعون تحت تأثير الدعاية المضادّة.

 

وليس جميع المسلمين ذوي عقيدة راسخة ثابتة، وليسوا جميعًا محصّنين في مقابل المنافقين؛ بحيث لا يتأثّرون بخداعهم. وثمّة من لم يفهم الإيمان حقّ الفهم، وثمة من هو قليل التجربة تترك وسوسةُ المنافقين أثرَها عليه، وتنتقل عدوى كلامهم كالمرض الساري من شخصٍ إلى آخر من هؤلاء الأشخاص الذين يُخشى من تأثّرهم بالمنافقين وخروجهم من صفوف المسلمين تحت تأثير الدعاية السلبية.

 

وحاصل الكلام أنّ الآية تخاطب المسلمين وتقول لهم: أيّها المسلمون! لا يؤلمنّكم عدم وجود عبد الله بن أبيّ وأمثاله بين صفوفكم؛ فعدم وجودهم بينكم هو الأفضل لكم، ولو أنّهم بقوا بين صفوفكم لما ترتّب على وجودهم سوى الإخلال وإثارة الفتنة وتشتيت جماعتكم. وبالتالي فإنّ عدم التحاقهم بكم هو من النعم الإلهية عليكم.

 

 

320


276

تفسير سورة براءة

"وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ": بهذه العبارة يبيّن الله تعالى سبب حكمه على المنافقين، ويكشف أنّ حكمه عليهم بهذه الطريقة التي تقدّمت يستند إلى علمه بباطن أمورهم وانكشافهم بين يديه تعالى، فهو المطّلع على فساد أحوالهم وأفكارهم.

 

سعة معنى الظلم

كلمة "ظالم" ومشتقّاتها تكرّرت في القرآن الكريم مرّات عدّة، ويحسن بنا البحث عن موارد استعمالها. وقد قلتُ مرّات إنّه يجب علينا بذل المزيد من العناية حتّى نفهم هذه الكلمات التي تحوّلت إلى مفاهيم ومصطلحات. ومن الأساليب التي تساعد على اكتشاف دلالات كلمات ومفاهيم من قبيل: كافر، مشرك، وظالم، تتبّع موارد استعمالها في آيات كتاب الله، وهذه الطريقة تساعدنا على فهمٍ أدقّ لهذه الكلمات.

 

استُعملت كلمة "ظالم" في هذه الآية في حقّ شخصٍ ربّما لم يمدّ يد الأذى إلى يتيمٍ، وإنّما استُخدمت في حقّ شخصٍ أو مجموعة أشخاص ظاهرهم الموافقة للإسلام والانسجام معه، وباطنهم المخالفة وإضمار العداء. وأحد وجوه المخالفة للإسلام التمنّع عن السير إلى الجهاد حسب الأمر الصادر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم بهذا قد ظلموا أنفسهم ومجتمعهم.

 

"لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ": إذا قلنا إنّ هؤلاء يريدون الفتنة فلا تتعجّبوا ولا تستغربوا، واخشوا فتنتهم. وليست هذه هي المرّة الأولى التي يقدمون فيها على مثل هذا العمل، فمن قبلُ دخلوا في الفتنة وقلبوا الأمور عليك أيّها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفعلوا ما كاد أن يخفت نور الحقّ والحقيقة الذي يظهر على لسانك ويتجلّى فيك؛ ولكنّ الله سلّم وأفشل خططهم ومؤامراتهم، وحفظ دينه وحمى رسالتك.

 

ثمّة احتمالات عدّة في عبارة "مِن قَبْلُ": الاحتمال الأوّل أن تكون هذه

 

 

321

 


277

تفسير سورة براءة

العبارة إشارةً إلى معركة أحُد، عندما صرخ بعض المنافقين قائلًا قُتِل النبيّ، بهدف إضعاف معنويّات المجاهدين في تلك المعركة، وبهدف تراجعهم وخروجهم من ساحة المواجهة بعد استشهاد القائد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. والآية: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾[1]، تقول: إنّ رسول الله أدّى ما عليه وبلّغكم التكليف بوجوب الجهاد! فإنْ مات أو استُشهد هل يسقط التكليف عن عواتقكم ويرتفع الواجب عنكم، وبالتالي يتعطّل حكم الجهاد، وتعودون إلى ما كنتم عليه من الجاهلية والوثنية؟

 

بلى، في معركة أحُد أظهر عددٌ من المسلمين البسالة والشجاعة، وعلى رأس هؤلاء عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وهذه البسالة والشجاعة أفشلت خطّة المنافقين وذهبت بها أدراج الرياح، خاصّة بعد أن علم المسلمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما زال على قيد الحياة، ولم ينجحوا في قتله أو اغتياله كما كانوا ربّما يخطّطون بعد انصراف الناس عنه.

 

الاحتمال الثاني هو إشارة العبارة إلى ما حصل في معركة حنين من خطّة مشابهة وأحداث توافق ما ذكرنا عن معركة أحُد.

 

الاحتمال الثالث الذي قد يخطر على الذهن أيضًا هو أن لا يكون في العبارة أيّ إشارة إلى واقعة من وقائع معركة محدّدة؛ بل أن يكون الهدف منها الإشارة إلى مجموعة أحداث حصلت ما بين دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حيث كانت نقطة تحوّل في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ البشرية كلّها، إلى زمان نزول هذه الآيات.

 

في هذه الفترة الزمانية خطا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خطوات مهمّة وحياتية ومصيرية بالنسبة إلى المجتمع، وأفهم عددًا من الناس الذين سوف ينطبع اسم الدين في أذهانهم إلى الأبد، أفهمهم أنّ الدين لا يمكن اختصاره في الدعوة إلى أداء فعلٍ أو الامتناع عن فعلٍ آخر؛ بل الدين يهدف إلى بناء


 


[1] سورة آل عمران: الآية 144.

 

322


278

تفسير سورة براءة

المجتمع وفق محور الدين وعلى قواعده.

 

ولو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعظم أنبياء الله، لم يخطُ تلك الخطوة وهي خطوة الهجرة، ولو أنّه بقي في مكّة مئة سنة مضافًا إلى الفترة التي قضاها فيها، ودعا عددًا من الناس إلى الإسلام وحسُن إسلامهم، لما كان أدّى رسالته، ولما كان أتى بما يجب على الأنبياء أن يأتوا به.

 

دسائس المنافقين في مسار تشكيل المجتمع النبويّ

تقتضي القاعدة أنّ الأمر أو العمل الأهمّ، يواجه صعوباتٍ أكثر. ووفق هذه القاعدة واجه المجتمع النبويّ بالنظر إلى أهميّته تعقيدات عجيبة، حتّى إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه تعرّض لمحاولات اغتيال عدّة وتهديدات بالقتل من قبل المشركين. وبعد الهجرة إلى المدينة شمّر المنافقون عن سواعدهم لتكدير فضاء المدينة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

وكانوا بين الفينة والفينة يوقدون نار الحرب في مواجهته، ففي يومٍ يحرّضون يهود بني قريظة عليه، وفي آخر يتآمرون مع مشركي مكّة ويتعاونون معهم في حربهم ضدّ المدينة، وفي آخر يتآمرون في السرّ ضدّه، وتارةً ببناء مسجدٍ في الظاهر ليكون قاعدةً للعمل ضدّ المسجدِ، وطورًا بإثارة الإشكالات والشبهات في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وعليه فإنّ قوله تعالى: "لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ"، يشير إلى ديدن المنافقين وسيرتهم التي ساروا عليها، وتهدف هذه الإشارة ضمنًا إلى إفهام المسلم المعاصر أيضًا الذي يواجه مثل هذه الوقائع، أنّ عليه أن لا يقف مكتوف الأيدي، وأن لا يتردّد في مواجهة الصعوبات؛ وليقيس الأحداث المعاصرة له على الأحداث الماضية، وتكون عبرةً له ودرسًا، فلا يخشى خطط العدوّ ولا يرهبها. والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتحدّث مع الناس بلسان هذه الآيات.

 

"حَتَّى جَاء الْحَقُّ": إذا كان صدر الآية فيه إشارةٌ إلى واقعة أحُد أو حنين،

 

 

323


279

تفسير سورة براءة

فإنّ هذه الجملة ينبغي أن تُفسَّر على النحو الآتي: إلى أن جاء الحقّ أي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وظهر بين الناس أنّه ما زال على قيد الحياة، عندها فهم الناس أنّ عليهم البقاء في المعركة وعدم الفرار منها.

 

أمّا إذا كان صدر الآية يشير إلى ماضي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منذ دخوله إلى المدينة إلى ساعة نزول هذه الآيات، فإنّ كلمة "الحق" في هذه العبارة ينبغي أن تُفسّر بالحقيقة، فيكون معناها: جاءت الحقيقة وصارت أوضح في عيون الناس؛ أي إنّ الناس لما عاينوا الحقيقة إثر مجاهدة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإثر ثبات المسلمين وصبرهم على المشاقّ؛ اكتشفوا الحقيقة وبانت كالشمس أمام نواظرهم.

 

"وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ": أي انكشف أمر الله، وهذه العبارة أيضًا تتضمّن معنى العبارة السابقة عليها؛ ولكن بلسان مختلفٍ. ويُحتمل أن يكون المراد من الظهور الغلبة، فيكون معنى الآية أنّ أمر الله غلب دسائس المنافقين ومؤامراتهم، ولعلّ هذا المعنى أنسب من سابقه وأكثر انسجامًا مع سياق الآية.

 

"وَهُمْ كَارِهُونَ": أي وهم كارهون ومبغضون لما جاء الحقّ أو ظهر(غلب) أمر الله على أمورهم.

 

تذرّع المنافقين بالأعذار الشرعيّة

"وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي": تذرّع بعض المنافقين بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذرائع شرعيّة وطلبوا منه الإذن في التخلّف عن الجهاد خوفًا من الوقوع في الفتنة إن هم ذهبوا.

 

وفي قول بعضهم: "لاَ تَفْتِنِّي" احتمالات ثلاثة؛ قال بعض المفسِّرين إنّ المراد منه لا تخدعني، ولا تجعلني مفتونًا بما يجعلني أرغب في الخروج، فلا تقل لي إذا خرجتَ إلى الجهاد سوف تنال الكثير من الغنائم، أو سوف تكون الجنّة من نصيبك في الآخرة، فلا تغيّر نيّتنا بهذا الكلام ودعنا نعِشْ في هذه الحياة الدنيا!

 

324

 


280

تفسير سورة براءة

وقال آخرون: "لاَ تَفْتِنِّي": إنّ المراد من الفتنة البليّة والبلاء؛ أي لا تقطع علينا حياتنا الهادئة في المدينة، ولا تتعبْنا بالخروج إلى الجهاد فننال به النصب والتعب ومشاقّ السفر. وهذا النمط من الخطاب عادةُ المنافقين وديدنهم ويمكن تلمّسه في خطابهم حتى في يومنا هذا.

 

والاحتمال الثالث في تفسير هذه العبارة هو: لا توقعنا في فتنة النساء الروميّات إذا سافرنا إلى بلادهم لقتالهم. ولعلّه الأكثر انسجامًا مع سياق الآية وأجواء زمان نزولها، ولا أدري لماذا لم يحظَ هذا الاحتمال باهتمام أكبر بين المفسِّرين مع أنّه ورد في روايات أسباب النزول.

 

من سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يشاور المسلمين في الأمور العامّة المرتبطة بشؤون الأمّة، وكان يهدف من هذه المشورة التعرّف إلى بعض الأمور، ومن ذلك التعرّف إلى أوضاع وأحوال الذين يشاورهم ويكتشف مذاقهم وطبيعة نظرتهم إلى الأمور، أو يثير الاستعداد في نفوسهم بهذه المشورة. ومن الوقائع التي استشار فيها قضيّة الخروج إلى تبوك حيث استدعى الجدّ بن قيس[1] وقال له: ماذا تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فاختلق العذر للتهرّب من الخروج وقال: إنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتن، فائذن لي ولا تفتنّي. وفي رواية أنّه قال في الجواب: "إنّي مستهتر بالنساء، فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ، فائذن لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي، فائذن لي".

 

واللافت في هذا الحوار أنّ هؤلاء المنافقين لا يخجلون من نسبة خصلة سيّئة إلى أنفسهم.


 


[1] جدّ بن قيس، كنيته أبو عبد الله وأبو وهب، صحابيّ أنصاريٌّ من بني سلمة، رأس قبيلته وكان بخيلًا غنيًّا. (انظر: المغازي، ج 2، ص 591). وعُدّ عند بعض أهل التراجم من المنافقين. (ابن سعد، ج 3، ص 112). وفي بعض المصادر الإمامية أنّه كان صاحب خطّة اغتيال أمير المؤمنين عليه السلام في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبحسب هذه المصادر أنّ عبد الله بن أبيّ كان شريكه في هذه المؤامرة. (مدينة معاجز الأئمّة الاثني عشر، ودلائل الحجج على البشر، ج 1، ص 482-484).

 

 

325


281

تفسير سورة براءة

وسبب النزول هذا ورد في كتب أسباب النزول عند الشيعة[1]. وورد أيضًا في مصادر أهل السنّة. وبناءً على صحّة ما ذُكِر في سبب النزول هذا، يتعيّن الاحتمال الثالث في معنى "لاَ تَفْتِنِّي"، ويكون المراد التهرّب من الحرب بدعوى الاحتياط من الوقوع في فتنة النساء الروميّات.

 

وهذه القضيّة تكشف عن حالة عجيبة عند عدد من المسلمين في أكثر من عصر وأكثر من زمان، وذلك أنّهم باسم الاحتياط وتجنّب الوقوع في الحرام، يقعون في حرامٍ أعظم، أو تحت عنوان المحافظة على الواجب يفوّتون على أنفسهم واجبًا أهمّ.

 

الحلّ في قاعدة التزاحم

في بعض الحالات قد نجد أنفسنا أمام واجبين يريدهما الله منّا ولا نستطيع أداءهما معًا، ولا يرضى الله بتركهما معًا. وهذا ما يُسمّى بالتزاحم بين الواجبين، ففي هذه الحالة علّمنا الإسلام النظر في هذين الواجبين والإتيان بالأهمّ منهما وترك المهمّ أي الأقلّ أهميّةً. وقد بحث علماء الفقه والأصول في هذه القاعدة وتوسّعوا في بحثها والتنظير لها.

 

والفرق بين التزاحم والتعارض، أنّه في حالة التعارض يردُ إلينا دليلان يدلّان على حكمين شرعيّين نعلم يقينًا أن أحدهما يخالف ما شرّع الله تعالى. بينما في حالة التزاحم نحن نعلم أنّ كلا الحكمين ممّا شرّعه الله، ولكنّنا في مقام العمل والامتثال لا نقدر على الجمع بينهما، وبالإتيان بأحدهما نكون مضطرّين إلى ترك الآخر. وفي مثل هذه الحالة يعتقد الأصوليّون والفقهاء، بحقٍّ، أنّ المطلوب هو النظر في هذين التكليفين واكتشاف الأهمّ منهما وأداؤه وترك الآخر. مثلًا: إذا وجبت علينا الصلاة وضاق وقتها، وبينما نحن نريد إقامة الصلاة إذا بنا نرى شخصًا يغرق وإذا صلّينا غرق ومات،


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 223.

 

 

326


282

تفسير سورة براءة

ففي مثل هذه الحالة يجب ترك الصلاة والانصراف إلى إنقاذ الغريق، وبالتالي تحرم علينا الصلاة التي يؤدّي الاشتغال بها إلى موت شخصٍ غرقًا.

 

والتضحية بعمل حسنٍ من أجل عملٍ أحسن تدخل في هذا الباب. الإمام الحسين عليه السلام وجد نفسه بين خيارين، إمّا البقاء في مكّة وإكمال مناسك الحجّ، وإما أن يذهب إلى العراق، فاختار السفر إلى العراق. وحجّ هذا الإمام عليه السلام ليس كحجّ غيره من الناس؛ ولكنّ الدفاع عن الحقّ ومواجهة ظالمٍ كيزيد أكثر أهميّةً بالنسبة إليه؛ ومن أجل هذا ترك الإمام عليه السلام الحجّ وضحّى بالمهمّ من أجل الأهمّ.

 

سقوط المنافقين في الفتنة

والخلاصة أنّ بعض المنافقين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستأذنوا منه البقاء في المدينة بذريعة الخوف من الافتتان بالنساء. وهذه الذريعة قد تبدو لأوّل وهلةٍ موافقةً لظاهر القرآن؛ ولكنّها في الواقع ليست كذلك أبدًا.

 

"أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ": لقد سقطوا في الفتنة وتورّطوا، أو أسقطوا أنفسهم فيها. والفتنة في حقيقة الأمر هي هذا الشيء الذي يحاولون التخلّص من الفتنة به، فهم وقعوا في ما يدّعون أنّهم يحاولون الفرار منه.

 

"وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ": محيط اسم فاعل من الإحاطة والعبارة تفيد أنّ جهنّم في الحياة الدنيا أي قبل الموت محيطةٌ بهم. وهذا الأسلوب من التعبير معروفٌ في اللغة العربية حيثُ يُعبّر عن المستقبل، بصيغة الحاضر. والمقصود من هذا التعبير يُحتمل فيه أن يكون إشارةً إلى أنّ جهنّم قد تتجلّى للمنافقين بصورة خاصّةٍ تختلف عن صورتها الحقيقيّة في الآخرة، وهي نار الوسوسة والاضطراب الذي يعيشونه، ونار الأفكار الباطلة والمنحرفة التي يعانونها قبل الموت والحشر، وكلّ ذلك محيطٌ بهم عند نزول الآيات.

 

ويرى بعض المفسِّرين، أنّ المقصود من الآية هو إحاطة موجبات

 

327

 


283

تفسير سورة براءة

الدخول إلى جهنّم بهم. وهذا المعنى صحيحٌ أيضًا وليس بعيدًا عمّا أشرنا إليه قبل قليل.

 

والنقطة اللافتة في الآية هي التعبير عن المنافقين بكلمة "الكافرين"، فهؤلاء مسلمون بحسب الظاهر، وكانوا يخاطبون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما يقفون بين يديه بعبارة: "يا رسول الله"، وتكشف الآية عن استئذانهم منه، وهذا كلّه بحسب ظاهره يُعدّ مؤشِّرات وقرائن على إيمانهم. ووصفهم بالكافرين في هذه الآية يفيد أنّ من يتآمر على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومن يبني مسجدًا كمسجد ضرار ليكون مقرًّا للتفريق بين المسلمين ومواجهة النبيّ، لا يمكن أن يكون مؤمنًا.

 

 

328


284

تفسير سورة براءة

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا

مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ

اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿51﴾

 

330


285

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تكشف الآية الخمسون من هذه السورة عن صفةٍ أخرى من صفات المنافقين؛ وذلك لرفع مستوى الوعي عند المؤمنين وبهدف نصحهم. فالمنافقون وعلى الرغم من أنّهم يعيشون في المجتمع الإسلاميّ وفي ظلّ الدولة الإسلاميّة، وعلى الرغم من نيلهم نصيبًا من خيرات هذا المجتمع، فإنّهم وبسبب معارضتهم لأهداف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يغتمّون عندما يصيب المسلمين خيرٌ. وفي المقابل تجدهم يفرحون وتنشرح صدورهم لكلّ شرٍّ يصل إلى المسلمين أو غمٍّ ينالهم. ليس هذا فحسب؛ بل إنّهم وبسبب حقدهم، عندما يرون أنّهم في أمانٍ من مخاطر تلك المصيبة التي نزلت بالمسلمين، يعلنون أو يتخيّلون أنّهم حموا أنفسهم من شرّ تلك المصيبة بذكائهم.

 

وفي مقام مواجهة هذه الحركة القبيحة وهذه الروحيّة المعارضة، تخاطب هاتان الآيتان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والهدف هو تقوية روحية المسلمين من جهة في مواجهة تلك الروح الحاقدة التي يحملها المنافقون تجاه الإسلام والمسلمين، ومن جهة أخرى تهدف هاتان الآيتان إلى حماية المسلمين من مخاطر اختراق المنافقين ثغور المسلمين على المستوى الروحي والنفسيّ. ومن التعاليم التي توصي بها الآية الثانية التوكّل على الله عز وجل، وتبيّن هذه الآية أنّ التوكّل هو السمة التي يجب أن يتحلّى بها كلّ مؤمنٍ.

 

لا مبالاة المنافقين بمصير المسلمين

عاش المنافقون في تلك الفترة التي تتحدّث عنها هذه السورة في المجتمع

 

 

332

 


286

تفسير سورة براءة

الإسلاميّ وتفيّأوا ظلال لواء الإسلام والدولة الإسلاميّة، واستفادوا من كلّ خير أصابه المسلمون، ولكنّهم وعلى الرغم من ذلك كلّه كانوا يعيشون حالة الانفصال النفسي عن المجتمع الذي يعيشون فيه، ويشعرون أنّهم ليسوا جزءًا منه، ولم يكن في قلوبهم أيّ عاطفة تجاه ذلك المجتمع، ولم يكن عندهم أيّ إحساس بالتضامن مع سائر أفراده، ولا إحساس بالشراكة في منافعه ونجاحاته.

 

وبناءً على هذا الوصف المستفاد من الآية يمكن القول إنّ هذه الصفة من علامات النفاق في أيّ زمان ومكانٍ، فالمنافق أنّى وُجِد لا يرى نفسه واحدًا من أفراد المجتمع الإسلاميّ الذي يعيش فيه، وليس فقط لا يسعده ما يحقّقه هذا المجتمع من نجاحات؛ بل يشعر بالحزن والأسى عندما يرى أيّ نجاحٍ، وفي المقابل يشعر بالفرح ويستولي عليه الحبور والسرور عندما تنزل بالمسلمين نازلة سوء، شرط أن لا يكون له فيها نصيب.

 

وعلى الرغم من الفوارق الكبيرة بين عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأزمنة والعهود؛ ففي عهده صلى الله عليه وآله وسلم كان المسلمون مجتمعًا واحدًا، وكانت لهم دولةٌ واحدةٌ تلمّ شملهم وتجمع فرقتهم. ولكن وعلى الرغم من هذا، حتّى لو لم تكن الوحدة الاجتماعيّة قائمةً وفي أحسن أحوالها بين المسلمين، فإنّ آحاد المسلمين وأفرادهم ينبغي أن تبقى اللحمة قائمةً بينهم، وينبغي أن يتشاركوا الأفراح والأتراح، وقد ورد في عدد من الأحاديث أنّ المسلمين كالجسد الواحد[1]، فإذا كانوا كذلك كانوا جسدًا حيًّا.

 

 


[1] عن أبي أسامة زيد الشحّام قال: قال لي أبو عبد الله: "اقْرَأْ عَلى مَنْ تَرى أَنَّهُ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ. وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِله، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ؛ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا، بَرًّا أَوْفَاجِرًا، فَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ، وَالْمَخْيَطِ؛ صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ؛ فَإِنَ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ وَإِذَا كَانَ عَلى غَيْرِ ذلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَقِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ فَوَاللَّهِ، لَحَدَّثَنِي أَبِي: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ وَصَايَاهُمْ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ فَتَقُولُ: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لَأَدّانَا لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلحدِيثِ". (الكافي، ج 2، ص 635)

 

 

333


287

تفسير سورة براءة

الارتباط الحيويّ بين أجزاء مركّبٍ كائنٍ حيٍّ يؤدّي إلى تفاعل هذه الأجزاء والأعضاء في ما بينها؛ فإذا ألمّ بأحد هذه الأعضاء مصابٌ تتأثّر به سائر الأعضاء، فالقلب أو الرأس في جسد الإنسان كلٌّ له موقعه الخاصّ من هذا الجسد وهو بعيدٌ عن إصبع القدم مثلًا؛ ولكن إذا أصيب إصبع القدم بمرضٍ أو حادثةٍ تظهر آثارها وتداعياتها في الرأس أو القلب، وتهتزّ لها الأعصاب ويتدخّل الدماغ. هذا من جهةٍ ومن جهةٍ ثانيةٍ تبدأ جميع أعضاء الجسد بالنشاط للمساعدة على حلّ المشكلة ومعالجة أسباب هذا المصاب وتداعياته.

 

وبناءً على هذا، فإذا ألمّ مشكلٌ أو مصابٌ بجماعة مسلمة في المغرب، ولم يشعر بها أهل المشرق، فإنّ هذا دليلٌ على الانفصال وعدم الترابط العضويّ بين أنحاء المجتمع الإسلاميّ، وهذا مؤشّرٌ على عدم الترابط الحيويّ بين هذه الأعضاء وبالتالي أمارةٌ على موت هذا المجتمع. وهؤلاء الذين لا يشعرون بمصاب إخوانهم هم منافقون بحكم هذه الآية. وهذا ما يؤكّده ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "مَنْ أَصْبَحَ لا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَمَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"[1]. إذًا؛ على المسلمين أن يكونوا جسدًا واحدًا، يهتمّ بعضهم لأمور بعضٍ، ويفكّروا في حلّ مشكلات إخوانهم.

 

وعلى ما تقدّم تفيد الجملة الأولى من الآية أنّ المنافقين هم أولئك الذين ينسحبون من المجتمع الإسلاميّ، وينفصلون عنه نفسيًّا وروحيًّا، فلا يعنيهم ما يحصل فيه، فلا أفراحه تفرحهم ولا أحزانهم تضيرهم؛ بل إنّهم يفرحون لمصاب المسلمين، وتحزنهم نجاحاتهم.


 


[1] الكافي، ج 2، ص 164.

 

334


288

تفسير سورة براءة

أوهام المنافقين

"إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ": تكشف هذه الآية عن وهمٍ كان يقع فيه المنافقون، فقد كانت تسوؤهم الحسنة التي تصيب المسلمين، وأما إذا نزلت بهم نازلة سوء فإنّهم كانوا يحسبون أنّ تلك السيّئة لم تنلهم؛ لأنّهم أحسنوا التعامل معها بالاحتياط لها ووقاية أنفسهم منها، وأداروا ظهورهم لما ألمّ بالمسلمين من سوء (تولّوا) وهم في حالة من الفرح والرضا بالسلامة والأمن ممّا أصاب غيرهم من المسلمين.

 

فإذا انهزم المسلمون في معركة أو انتهت المعركة من دون أن يغنموا منها شيئًا، يبادرون إلى القول إنّهم كانوا يفكّرون في هذه الساعة، وكانوا يعرفون النتيجة قبل أن تحصل، واستطعنا بذلك وقاية أنفسنا من الوصول إلى ما وصل إليه المسلمون من هزيمة. وفي هذا الأسلوب من التفكير اشتباهات عدّة.

 

- توهّم الفوز بالفرار من التكليف

الاشتباه الأوّل الذي وقع فيه المنافقون أنّهم كانوا يحسبون أنّ الفرار من التكليف و"عدم الدخول إلى ميدان سبيل الله" شطارةٌ تفضي إلى الفوز والفلاح. ومن هنا، كانوا يعبّرون عن ذلك بقولهم: "إنّا احتطنا لأنفسنا، ووُقينا شرّ ما أصاب غيرنا". هذا ولكنّهم لو فكّروا بطريقة صحيحة، لاكتشفوا أنّ منهجهم في التصرّف خاطئ وغير صحيح، وبعيدٌ كلّ البعد عن الكياسة والحكمة؛ بل هو على الضدّ من الاحتياط وحسن التدبير، فحسن التدبير والحكمة يقتضيان الخشية من الله.

 

فاعلم أنّكَ إذا تركتَ العمل بواجبك بتقدير أنّ ذلك من حسن التدبير، اعلم أنّ ذلك أبعد ما يكون عن الحكمة وحسن التدبير، بل هو الحمق بعينه. إذًا الخطأ الأوّل في حسابات المنافقين هو ظنّهم أنّ ترك الواجب تدبيرٌ وكياسةٌ، وهو ليس كذلك أبدًا.

 

 

335


289

تفسير سورة براءة

- الغفلة عن سنن العالَم

الخطأ الثاني الذي وقع فيه المنافقون هو أنّهم غفلوا عن السنن والقوانين التي تحكم العالَم. فهم لا يعلمون أنّ الانكسار الجزئيّ والمصاب المورديّ الذي يقع لجماعةٍ فكريّةٍ لا يعني انهزام المشروع الفكريّ على المدى الأوسع، ولا يعني توقّف مساره. فهم لا يعلمون أنّه في حركة الصراع بين جماعتين أو فئتين سوف يكون النجاح والفوز في نهاية المطاف للجماعة التي تحمل فكرًا وتتبنّى نظريّةً فكريّةً وإجماعيّةً، والجماعة التي لا تستند إلى الفكر والخلفية النظرية سوف تهزم في آخر الخطّ؛ غير أنّ حركة الصراع بين هاتين الجماعتين تحتوي على صعودٍ وهبوطٍ واهتزازات طبيعيّة، والنصر والهزيمة النهائية لا تُقاس بهذه الاهتزازات.

 

فالمسافر إلى مكانٍ مّا يضطرّ في مساره إلى أَن لا يسير دائمًا في طريقٍ مستقيمٍ؛ بل يضطرّ إلى بعض الصعود والهبوط، وإلى العودة إلى نقطةٍ عبرها من قبل، فمن يسير في طريقٍ جبليٍّ مثلًا يعود خلال مساره الصعوديّ إلى النقطة التي كان فيها من قبل، ولكنّه مع ذلك يشعر بالتقدّم والاقتراب من مقصده. وهذا الدوران والرجوع هو عين التقدّم إلى الأمام والرقيّ. وليس تراجعًا أو سيرًا قهقرائيًّا ولا سكونًا، غاية الأمر أنّ المسار الطبيعيّ يقتضي هذه التراجعات في بعض الأحيان.

 

هزيمة المسلمين في معركة أحُد واستشهاد عددٍ من كبار الصحابة فيها، ليست هزيمةً لدعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا تراجعًا لمشروعه؛ بل هي تراجعٌ طبيعيٌّ في هذا المسار أدّى في نهاية المطاف إلى التقدّم خطوةً إلى الأمام. فكلّما عمل المسلمون بواجبهم خطوا إلى الأمام، وكلّما أدّوا ما يجب عليهم أداؤه رقَوا درجةً من درجات التكامل والترقّي.

 

ولم يعِ المنافقون في صدر الإسلام هذا الأمر، ولم يفهموا هذه السنّة التاريخيّة؛ ولأجل ذلك كانوا يرون أنّ كلّ انكسارٍ يتعرّض له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكلّ

 

336

 


290

تفسير سورة براءة

مصيبةٍ تصيب المسلمين، هو خطوة إلى الوراء في حركة النبوّة ومسارها.

 

اعتقاد المؤمنين بالقضاء والقدر

"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا": يا أيّها النبيّ! من أجل تقوية روحية المسلمين في مواجهة منهج المنافقين وأسلوبهم في التعاطي مع الوقائع والأحداث، ولإبطال ورفع آثار هذه الدعاية التي يعمل المنافقون على الترويج لها قل للمسلمين: "لن يصيبنا إلا كتب الله لنا، فإذا كانت الأقدار الإلهيّة المقدّرة لنا تقتضي جرحًا سوف يصيبنا هذا الجرح سواء ذهبنا إلى القتال أم بقينا أحلاس بيوتنا". وقد ورد في سورة النساء أنّ الموت المكتوب للإنسان سوف يصيبه ولو كان في ﴿بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾[1]. فإذا كان مقدّرًا للإنسان أن يموت في الساعة الفلانية، فلن تعجز يد الأجل من الوصول إليه أينما كان.

 

ولكن ليس هذا القدر بالمعنى العاميّ المتداول بين الناس، بل للقدر معنًى أعمق تحدّثنا عنه في مرّةٍ سابقةٍ[2]. فالتقدير هنا معناه المحاسبات الدقيقة التي تحكم حركة العالَم والأحداث التي تقع فيه.

 

تُفسّر هذه الآية عادةً على هذا النحو، وأنا لا أرى عدم صحّة هذا التفسير؛ ولكنّ لهذه الآية معنًى آخر يخطر في البال، ولا مشكلة في أن يكون للآية وجهان في وقتٍ واحدٍ. وهذا الوجه هو أنّ الآية تريد أن تقول للمنافقين: أيّها المنافقون! اعلموا أنّكم مخطئون إذا فرحتم لمصابنا، وسررتم لهزيمتنا في معركة أو واقعةٍ من الوقائع. فلا خوف علينا ولا خشية ممّا يقع لنا أو نتعرّض له من آلامٍ، فإنّ المكتوب والمقدّر لأمثالنا من أهل الحقّ، وما هو سنّة وقانونٌ هو أنّ النصر والفلاح سوف يكون من نصيبنا في نهاية المطاف. وهذا المعنى


 


[1] سورة النساء الآية 78. والبروج هي الأبنية المتينة.

[2] يبدو أنّ مفسّرنا الجليل تحدّث عن القضاء والقدر في تفسير سور أخرى، ومن دواعي الأسف أنّ ذلك التفسير لا يتوافر بين أيدينا حتّى الآن.

 

337


291

تفسير سورة براءة

 ناظرٌ إلى السنّة الإلهيّة التاريخية التي تقضي بانتصار الحقّ على الباطل. وقد جرت هذه السنة على الأمم السابقة قبل الإسلام والمسلمين.

 

فعندما يتقابل الحقّ والباطل، ويخوضان المواجهة، سوف يكون النصر والفوز من نصيب الحقّ. وهذه هي سنّة هذا العالَم؛ لأنّ العالَم والوجود خُلِق على قاعدة الحقّ، ومسار الطبيعة محكومٌ لقواعد الحقّ والحقيقة؛ ولأجل هذا نجد أنّ الحقّ يسير إلى الأمام بشكلٍ دائمٍ. وهذا معنًى عامٌّ وصحيحٌ.

 

وهذا يعني أنّ المجتمع الإسلاميّ سوف يتقدّم تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسوف تكون له الغلبة في هذا الصراع، ولن تفلح محاولاتكم أيّها المنافقون أنتم وإخوانكم الكافرون، لن تفلح في إعاقة حركة الإسلام ومنعه من التقدّم؛ فهذا المشروع في مسار تصاعديٍّ سوف يصل إلى مقصده المقدّر له، وسوف تحزنون للنجاحات التي يحقّقها هذا المشروع مرّة بعد أخرى.

 

والخلاصة أنّ ديننا سوف يتقدّم وسوف تصابون بالإحباط عن قريبٍ. وما يؤكّد هذا المعنى؛ أي أنّ المقدّر للإسلام والمسلمين هو الفوز والتقدّم، هو ورود عبارة "لَنَا" في الآية. وذلك أنّ الخيار الآخر هو أن يُستخدم بدل "لَنَا" عبارة "إلينا". فعبارة "لَنَا" تفيد معنى لمصلحتنا، وبالتالي تشير الآية إلى أنّه لن يصيب المسلمين إلا ما كتب الله لهم من نجاحٍ، سواء وقف المنافقون إلى جانبهم أو تركوهم وتخلّوا عنهم؛ بل حتى لو عملوا ضدّهم، فإنّ المصير المقدّر للإسلام والمسلمين هو الفلاح والنجاح.

 

والمؤيّد الثاني لهذا المعنى هو عبارة "هُوَ مَوْلاَنَا" في وصف الله تعالى، فكلمة "مولى" لها معانٍ عدّة منها الناصر والمعتِق والقريب والوارث. و"الولاية" هي علقةٌ وقرابةٌ بين شخصين تقتضي الإرث في بعض الحالات، وتقتضي العبودية والسلطة في حالات أخرى، وتقتضي القرابة والمحبّة في حالاتٍ، وهذه الموارد هي مصاديق للولاية وليست هي المعنى الحقيقيّ للولاية. في معنى قوله تعالى: "هُوَ مَوْلاَنَا" احتمالات عدّة فقد يكون المراد منها أنّ بيننا وبين الله صلةٌ وثيقةٌ، أو هو وليّنا وصاحب السلطة علينا، أو

 

 

338


292

تفسير سورة براءة

هو ناصرنا. وجميع هذه المعاني محتملةٌ وصحيحةٌ.

 

وعندما نقول "اللهَ مَوْلاَنَا" فهذا لا يعني أنّه مولانا في هذا المورد أو في هذه الواقعة فحسب؛ بل "هُوَ مَوْلاَنَا" على الدوام وفي كلّ واقعةٍ ومكانٍ، فالسنن الإلهيّة حاكمة على حركة الوجود كلّه، وهي تسيّر العالم وفق مصلحتنا.

 

تفيد آيات الكتاب الحكيم أنّ العالم محكومٌ للحقّ ويسير وفق مقتضياته: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1]، ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[2]. وهذه السنّة في خدمة الذين يسيرون في طريق الحقّ؛ لأنّ هؤلاء يسيرون مع تيّار الحقّ كالتفاحة التي توضع على وجه الماء يأخذها الماء معه حيث يذهب، أمّا أولئك الذين يسيرون عكس تيّار الحقّ فلن يستطيعوا مقاومته، حتّى لو غالبوه فترةً من الزمان. والدليل على واقعيّة هذا الكلام أنّ إبراهيم وأمثاله ما زالوا موجودين في كلّ زمان، أمّا النمرود فقد ذهب وبطل ما كان يسعى إليه. بلى إنّ بقاء إبراهيم ببقاء فكره وعقيدته.

 

التوكّل من علامات الإيمان

"وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ": تدعو هذه الآية المؤمنين إلى التوكّل على الله، ومن هذه الدعوة وطريقة صياغتها يُستفاد أنّ عدم التوكّل يفقد المؤمن خاصّيّة جوهريّة، بحيث لا تسمح بتقديمه كنموذجٍ للمؤمن المطلوب بحسب النظرة الإسلاميّة. فالمؤمن المثاليّ أو النموذجيّ هو المؤمن الذي تجتمع فيه جميع خصائص المؤمن المذكورة في القرآن الكريم.

 

وعليه فإنّه صحيحٌ أن يُقال: إنّ التوكّل من علامات الإيمان الكامل أو


 


[1] سورة الدخان: الآيتان 38-39.

[2] سورة الأحقاف: الآية 3.

 

 

 

339

 


293

تفسير سورة براءة

من علامات كمال الإيمان. وبعبارة أخرى وربّما أدقّ، أن يُقال: إنّ التوكّل على الله من الخصائص التي يجب توافرها في المؤمن المثاليّ.

 

معنى التوكّل على الله

التوكّل من وَكَلَ، وأحد معاني التوكيل إلقاء الأمر على عاتق شخص آخر، وتفويضه صلاحيّات القيام به. وهذا المعنى لا ينسجم مع المعنى القرآني للتوكّل، فلا يُراد من التوكّل تفويض الأمر إلى الله والتخلّي عن مسؤوليّة الأعمال والأمور وتركها إلى الله بهذا المعنى المشار إليه أعلاه. وممّا يؤسف له أنّ التوكّل كثيرًا ما يُفسّر بهذه الطريقة في أيامنا هذه.

 

والمعنى الصحيح للتوكّل هو أن يستفيد الإنسان من جميع الأدوات والوسائل المتاحة بين يديه لأداء عملٍ من الأعمال؛ ولكن مع ذلك يبقى ملتفتًا إلى أنّ يد الله المقتدرة هي فوق هذه الوسائل والأدوات كلّها، وأن يكون واثقًا بأنّ الله سيتولّى جبر نقاط الضعف وتحويلها إلى قوّة ما دام العامل قد أدّى ما عليه من واجب السعي، ويكفل الله إيصال الجهد المبذول إلى النتائج والغايات المتوخّاة منه.

 

ونستعين لتوضيح الفكرة بالمثال، إذا أردنا أن نضرب عددًا مؤلّفًا من خمسة عشر رقمًا في عدد مثله، فإنّنا نحتاج إلى وقت طويل وعمليات معقّدة، ولكن الكومبيوتر أو الآلة الحاسبة تستطيع إنجاز هذه المهمة لنا في وقتٍ قصيرٍ جدًّا. ولا يعني الاعتماد على الآلة الحاسبة الاستغناء عن الضغط على المفاتيح وتدوين الأرقام وطلب النتائج. مع الاعتراف بالفارق الكبير بين هذا المثال والواقع؛ ولكن على أي ّحال الهدف من ضرب الأمثلة تقريب الأفكار إلى الأذهان.

 

وعلى هذا النحو يُستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ التوكّل يتحقّق من الإنسان الذي يسعى ويمهّد المقدّمات، مثلًا يشارك في النفير العامّ ويخرج إلى الجهاد، ويترك الباقي على الله تعالى ليوصل هذه الجهود إلى أهدافها.

 

 

340

 


294

تفسير سورة براءة

ومركز الخطإ في فهم التوكّل والأمر الذي أدّى إلى الانحراف هو أنّ بعض الناس يؤمنون بالتوكّل ويثقون بالله تعالى؛ ولكنّهم يتخاذلون عن أداء واجباتهم ولا يؤدّون المطلوب منهم، ومثل هذا ليس توكّلًا بالمعنى المطلوب دينيًّا.

 

ركنا التوكّل

للتوكّل ركنان أوّلهما العمل بحسب الواجب، والركن الثاني هو الاطمئنان إلى النتيجة، وأن يعلم الإنسان ويلتفت إلى أن ّالله قادر على ترتيب النتيجة على المقدمات والأسباب. فإذا اختلّ أحد هذين الركنين لم يتحقّق مفهوم التوكّل.

 

أصحاب النظرة الماديّة إلى العالم، لا يتوافر عندهم الركن الثاني من ركني التوكّل. ومن هنا، فإنّ مشيتهم عرجاء. فهم ينجزون المقدّمات وربّما يتقنون إنجازها؛ ولكنّهم في مقام ترتيب النتائج لا يؤمنون بقدرة الله. وهم إمّا يحصلون على النتائج ويعتقدون أنّ دورهم هو الأساس وكلمتهم هي العليا، وهذا خطأ واشتباه؛ وإمّا لا ينالون ما يبتغون فيُصابون باليأس والإحباط؛ لأنّهم لا يرون لله أيّ دورٍ في ترتّب النتائج على المقدّمات التي أنجزوها.

 

والخطأ الذي يقع فيه بعض المتديّنين محلّه الركن الأوّل من أركان التوكّل، فهم يؤمنون بأنّ الله قادر على رتق السماء والأرض؛ ولكنّهم يتوهّمون بأنّ هذه الأعمال التي يقدر الله عليها، يفعلها الله لهم من دون أن يحرّكوا ساكنًا. فتجد بعضهم يقبع في بيته ويتوقّع أن ينزل الله إليه الرزق من كوّة في جدار البيت أو سقفه، فهو لا يعمل، وفي الوقت عينه يتوقّع أن تكون كنوز الأرض كلّها بين يديه، وكلا الطرفين مخطئٌ.

 

والصحيح هو أنّ التوكّل له ركنان، أحدهما تمهيد الأرضية وإعداد

 

 

341


295

تفسير سورة براءة

المقدّمات، والركن الثاني هو ترتيب النتائج على المقدّمات، والركن الأوّل بيد الإنسان والثاني بيد الله تعالى. وقد عرّف أحد المفسّرين المعاصرين التوكّل بعبارة جميلة وذلك بقوله: "ترك التدبير وامتثال الأمر"[1]. والمراد من هذه العبارة أنّ على الإنسان أن يعمل بتكليفه ويؤدّي ما يجب عليه، ويترك التفكير في ترتّب النتائج على ما أنجز من مقدّمات، فعليه بعد أن أدّى ما عليه أن يطمئن إلى تدبير الله لما بقي، فإذا أدّيتَ واجبك ثق بأنّ الله سوف يكمل ما أنجزت ويحقّق المطلوب بالطريقة التي يراها أحسن.

 

وقد ورد التعبير عن هذا المعنى في القرآن الكريم بأشكال عدّة من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[2]، ومفاد هذه الآية نوعٌ من التعهّد الإلهيّ للإنسان بأنّه إذا أنجز ما عليه فليترك الباقي للطف الإلهيّ. هذا ولكنّ التعهّد مركّبٌ ومترتّب على تحمّل الإنسان المسؤولية ووضع بعض الأعباء على عاتقه، والله هو الذي يوصل حمله إلى مستقرّه.

 

ومفهوم التوكّل من المفاهيم التي أصابها التحريف والتشويه وأحيانًا سوء الفهم، وامتدّت إليه يد الجهل والتفسير الخاطئ.

بعض الناس يظنّون أنّ التوكّل المطلوب من المسلم لا يتحقّق إلا إذا آمن الإنسان بقدرة الله تعالى على فعل كلّ شيء، وإلا إذا ترك الإنسان العمل والاستفادة من المقدّمات التي وضعها الله بين يديه. مثلًا بدل أن يستفيد الإنسان من النعم التي أولاها الله له كالعين والرجل والعقل واليد، للنظر والسير في الأرض والتفكير السعي في تحصيل الرزق وتأمين المعاش، بدل الاستفادة من هذه الوسائل يظنّ أنّ عليه تعطيل هذه النعم والانتظار لعل الله يمدّ يدًا من عالم الغيب لتفرش له مائدة رزقه ويتناول منها طعامه. وإذا قلتَ لمن يفكّر بهذه الطريقة: "لماذا لا تعمل؟" يقول لك: "إنّي متوكّلٌ على الله!"، وإذا قلتَ له: "لماذا لا تأخذ حقّك من غاصبه؟"، يقول لك: "سوف يأخذه الله لي".


 


[1] الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 306.

[2] سورة البقرة: الآية 40.

 

342


296

تفسير سورة براءة

بعض المستشرقين عندما بدأوا بالتعرّف إلى الإسلام تدريجًا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولاحظوا هذا الفهم للتوكّل الذي كان سائدًا بين المسلمين، قالوا: "الآن فهمنا سبب تخلّف هذه الأمّة. وقد كان سؤالا محيّرًا لنا كيف استطاع الإسلام والأمة الإسلامية التقدّم والتطوّر في فترة من تاريخها، والآن تميل إلى الانحطاط والانحلال؟! الآن انكشفت لنا علّة هذا التخلّف والتأخّر، فالمسلمون يفهمون التوكّل بهذه الطريقة؛ ولذلك يرضون بما هم عليه ولا يفكرون بتغيير أحوالهم ونفض الغبار والرماد عن أجسادهم وثيابهم".

 

نعم اعتقد هؤلاء أنّ هذا الفهم للتوكّل هو سبب تخلّف المسلمين، وكانوا محقّين في ذلك. فعندما يُفهم التوكّل بتلك الطريقة المغلوطة، لا يحتاج التخلّف إلى علّة أخرى وسبب آخر. هذا الفهم الخاطئ للتوكّل اعتمده أشرار بني إسرائيل في عهد موسىعليه السلام عندما قالوا له: إذا كان لا بدّ من تحرير بيت المقدس فلتذهب أنت وربّك لتحريرها ونحن هنا ننتظركما: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[1].

 

هذا هو المنطق الذي يترك إعداد الطعام وبسط المائدة ومدّها لله تعالى، وما على الإنسان إلا أن يتصدّى لملء بطنه من الأطعمة التي أعدّت له. نعم هذا هو منطق بعض الناس، ولا نبالغ إذا قلنا: إذا أراد أحد الشقاء والتخلّف لأمّة من الأمم فليعلّمها التوكّل بهذه الطريقة.

 

والتأمّل في آيات القرآن الكريم يفيد معنًى آخر تمامًا. فعندما يتدبّر الإنسان في موارد استعمال كلمة التوكّل سواء في دعوة الله إلى التوكّل، أو في الآيات التي تبيّن آثاره، وكذلك عندما ننظر في أحوال أولئك الذين دعاهم الله إلى التوكّل ووصفهم الله بالمتوكّلين، عندما ننظر في هذه الآيات كلّها يتّضح لنا معنى التوكّل.


 


[1] سورة المائدة: الآية 24.

 

343


297

تفسير سورة براءة

التوكّل في القرآن هو صفة لـ"العاملين". فإذا لم تكن من أهل العمل والجهد لا تكون من أهل التوكّل. فلا تكون من أهله إلا إذا استنفدت قواك واستخدمت الوسائل التي أودعها الله بين يديك، وبعد ذلك تعلّق الآمال على الله ليرتّب النتائج على المقدّمات التي مهّدتَها، وفي الوقت عينه عليك أن تلتفت إلى أنّ الأمر بيد الله، فقد يحول بينك وبين ما عملتَ. هذا هو الفهم الصحيح للتوكّل بحسب النظرة الإسلامية القرآنيّة. نعم التوكّل بحسب القرآن من صفات أهل العمل والسعي: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[1]، فهؤلاء الذين يحدّثنا الله عنهم في هذه الآية هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين يستحقّون الأجر بما أنّهم عاملون.

 

هؤلاء العاملون الذين يثني الله عليهم في هذه الآية يتابع عزّ وجلّ ويصفهم بأنهم من أهل الصبر والتوكّل في الآية اللاحقة وذلك في قوله: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[2].

 

وبناءً عليه إذا قبعتُ في بيتي وتخلّيت عن العمل والدرس والنشاط وبذل الجهد وقلتُ لربّ العالمين: "يا إلهي! أطلب منك أن تقوم بدور الربوبيّة وأنت القادر على كلّ شيء، وأن تؤدّي في الوقت نفسه دور العبد وواجبات العبوديّة المطلوبة منّي". ليس هذا من التوكّل في شيء؛ بل هو شكلٌ من أشكال السخرية والتلاعب بآيات الله ومفاهيم الدين.

 

وفي سورة النساء موردٌ من موارد الحديث عن التوكّل يوصي الله فيه بالتوكّل ويدعو المؤمنين إليه، في سياقٍ يُستفاد منه أنّ المدعوّين إلى التوكّل قد أدّوا ما عليهم من واجبات ومهّدوا المطلوب منهم من مقدّمات: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ


 


[1] سورة العنكبوت: الآية 58.

[2] سورة العنكبوت: الآية 59.

 

 

344


298

تفسير سورة براءة

مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾[1]. وهذه الآية التي تتضمّن التوصية بالتوكّل تكشف عن أسلوب المنافقين في التعاطي مع النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، فهم بحسب الآية يعلنون الطاعة والامتثال، ولكن عندما يغادرون مجلس النبيّ ويخلون بأنفسهم يضمرون غير ما أعلنوا ويبطنون غير ما قالوا، ويحسبون أنّ نواياهم غائبةٌ عن علم الله؛ ولكنّ الله يعلم ما يسرّون ويعرف منهم التلوّن ويدعو رسوله إلى التوكّل عليه سبحانه. فهذه الآية في هذا المقطع الأخير منها تدعو إلى التوكّل على الله بعد أداء الإنسان ما عليه، فالنبيّ في هذه الآية مطالبٌ بالإعراض عنهم وبعد الإعراض عليه أن يتوكّل ويترك الباقي لله الذي هو خير وكيلٍ.

 

فوائد التوكّل

أحد الأسئلة التي تستحق التوقّف عندها السؤال عن الفوائد المترتّبة على التوكّل. وما يستدعي هذا السؤال كثرة الحديث عن هذا المفهوم في القرآن الكريم.

 

الفائدة الأولى للتوكّل

من فوائد التوكّل ونتائجه أنّه "يبعث الأمل في قلب الإنسان". فكثيرًا ما تواجه الإنسان خلال مسيرته في هذه الحياة مشكلات وعقبات قد تولّد في نفسه اليأس من إمكانية أو جدوى متابعة المسار. وفي بعض الأحيان تواجه مسيرةَ الفكرِ مشكلةٌ تكون كبيرة ومعقّدة إلى حدّ أنها توصل حمَلةَ هذا الفكر من الرسل على الرغم من علوّ كعبهم وعظمة أرواحهم، توصلهم هذه المشكلة إلى حافّة اليأس من إمكانية وجدوى الإصرار على متابعة المسيرة: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾[2]. ما يحمي الإنسان في مثل هذه الحالات من


 


[1] سورة النساء: الآية 81.

[2] سورة يوسف: الآية 110.

 

345


299

تفسير سورة براءة

الوقوع في مستنقع اليأس ويصونه منه هو التوكّل على الله تعالى. وذلك أنّه عندما يعلم الإنسان أنّه مكلّفٌ بأداء الواجب وإنجاز ما هو مطلوبٌ منه، وأما ترتّب النتائج على أفعاله فهو متروك لله تعالى، مع هذه النظرة لا معنى لليأس ولا محلّ له.

 

التكاليف التي جعلها الله على عاتق العباد طول التاريخ لها آثار دنيوية وأخرى أخرويّة، وقد بيّنها الله وكشف عنها، ولا قائل أصدق من الله عز وجل، وليس لقدرته غايةٌ ولا نهاية، ولا محلّ للنسيان والغفلة في ساحة الحديث عن الله تعالى. ولمّا كان الله أصدق القائلين فما عليك سوى أداء واجبك وانتظار تحقّق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وإذا كنتَ متوكّلًا عليه تعالى، فهل يعرف اليأس إلى نفسك سبيلًا؟ فإذا تأخرّت النتائج يومين لا يمكنك أن تقول خسرنا وضاعت جهودنا سدًى؛ بل إنكَ تصبر حتّى وتنتظر وعد الله.

 

خلاصة القول: إنّ التوكّل في مظانّ اليأس يسدّ منافذه ويبعث الأمل ويحيي الروح. وقد أشير إلى هذه الفائدة من فوائد التوكّل في عددٍ من الآيات والروايات.

 

توكّل نوح عليه السلام

ورد في القرآن الكريم في توكّل نوحٍ عليه السلام قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ﴾[1]. تدعو هذه الآيةُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلاوة نبإ نوحٍ عليه السلام وقصّته العظيمة على مسامع المسلمين، عندما قال لقومه: يا قومِ إذا استثقلتم مقامي بينكم وأزعجكم تذكيري إيّاكم بآيات الله، ولم يعد بإمكانكم تحمّلي، ولم يعد عندكم أيّ استعداد لتقبّل رسالتي إليكم، فإنّي أدعوكم إلى استجماع قِواكُم والاستنصار بشركائكم في الموقف، وما ردّي


 


[1] سورة يونس: الآية 71.

 

346


300

تفسير سورة براءة

عليكم سوى التوكّل على الله.

 

لاحظوا! هل ثمّة موقفٌ أكثر إثارة لليأس في النفس من موقف قوم نوح في مقابل دعوته، بعد أن حشد قومُه له كلَّ ما أوتوا من قوّة وأنصار، ولم يكن قد آمن به إلا القليل: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾[1]، أليس اليأس في مثل هذا الموقف هو الخيار الطبيعيّ؟!

 

ولكنّ هذا النبيّ العظيم لم ييأس، ولم يستسلم؛ ولكن لماذا؟ الجواب الذي يكشف عنه القرآن هو: حالة التوكّل التي كان عليها.

 

إذًا؛ تكشف هذه الآية عن أنّ ما يحمي الإنسان من اليأس وما يبعث الدفء في القلوب الباردة ويعيد إليها حرارة الحياة هو التوكّل.

 

توكّل هودٍ  عليه السلام

حالة النبيّ هود عليه السلام تشبه حالة النبيّ نوح عليه السلام وذلك أنّ قومه أعلنوا له بصراحة أنّهم لن يؤمنوا به ولن يتركوا عبادة آلهتهم من أجله واستجابةً لدعوته. وما جوابه عليه السلام في مقابل هذا الجواب المثير لليأس إلّا أن قال: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾[2]. وهذا موقفٌ لا لبس فيه في مقابل موقفهم، فهو يعلن لهم أنّه لن يتنازل ولن يلين لهم إن هم قسوا وتصلّبوا، ولن يركن إلى أوثانهم ومسلكهم إن هم أصرّوا على غيّهم وطغيانهم.

 

﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾[3]، نعم يقول لهم اجتمعوا في مواجهتي ولا تمهلوني! لاحظوا أسلوب النبيّ وطريقته في خطاب قومه. هذا هو منطق الأنبياء، وليس كما يقول ذلك الرجل الأميّ الجاهل: إنّ الأنبياء بُعثوا ليجيبوا عن أسئلة الناس. الجواب عن أسئلة الناس لا يحتاج إلى

 


[1] سورة هود: الآية 40.

[2] سورة هود: الآية 54.

[3] سورة هود: الآية 55.

 

 

347


301

تفسير سورة براءة

هذه الصراحة، ولا إلى هذه المواقف الصلبة التي تدعو الناس إلى الاجتماع وتعلن الاستعداد للمواجهة وتحمل النتائج من دون أي مهلةٍ.

 

عندما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ كان من الطبيعي أن يدبّ اليأس في قلب النبيّ هودٍ عليه السلام، ولكنّ السلاح الذي تمسّك به هو سلاح التوكّل حيث يعبّر عن ذلك بحسب القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم﴾[1]. وهذا الكلام يعني في ما يعنيه أنّي أعلم أنّ ما أريده سوف يتحقّق في نهاية المطاف، وأنّ النصر سوف يكون حليفي. وقد كان محقًّا، والدليل هو أنّنا في هذا العصر نردّد ما كان يقول ونؤمن بما كان يدعو إليه، ففكره هو الخالد. حاصل كلام هود عليه السلام هو: "إني أعلم أنّ كيدكم لن يثمر، والفكر الذي أحمله هو الذي سيبقى؛ لأنّي متوكّلٌ على الله؛ لأنّي أفعل ما يجب عليّ فعله وأترك الباقي على الله تعالى وله سبحانه".

 

الفائدة الثانية: رفع المعنويّات

الفائدة الثانية التي تترتّب على التوكّل هي رفع المعنويات، وهذا أمرٌ آخر غير إثارة الأمل. كلّ إنسانٍ يتابع أمرًا مهمًّا قد يصل في بعض المواطن إلى مفترق طرق تواجهه عنده الكثير من العقبات، فيجد نفسه مثلًا في بعض الحالات بين خيارين، أحدهما متابعة المسار لتحقيق الأهداف والغايات التي انطلق من أجلها، والآخر هو الخيار الذي لا يوصل إلى المقصد والغاية، مثلا ربّما يوصله هذا الطريق الثاني إلى الكثير من المال، أو يكون أحد الطرق موصلا إلى الهدف والغاية والآخر موصلًا إلى المقام والجاه.

 

وفي مثل هذه الحالات لا ييأس الإنسان؛ بل يتردّد ويحتار أيّ طريق يسلك، وأيّ وجهةٍ يتوجّه؟ فإذا كان أحد الطريقين يوصله إلى الكنز والآخر يوصله إلى المنزل المقصود. وهنا إذا أدار هذا السالك ظهره للكنز


 


[1] سورة هود: الآية 56.

 

348


302

تفسير سورة براءة

وتابع مسيرته للوصول إلى غايته المنشودة سوف يكون إنسانًا ناجحًا؛ ولكنّ هذا الخيار يحتاج إلى همّة "الرجال".

 

عندما يجد الإنسان نفسه متردّدًا بين الحق ّوالباطل، يأتي التوكّل على الله الذي يؤدّي دور خشبة الخلاص من الغرق في بحر التردّد والحيرة. وقد وقع في مثل هذه الحالة الحرّ وعمر بن سعد، الأول اختار طريق الحقّ والآخر انتخب خيار الباطل.

 

يُفسر الإمام عليه السلام التوكّل في إحدى الروايات بقوله: "لم يعمل لأحد سوى الله ولم يرجُ ولم يخف أحدًا سوى الله"[1]. بلى هذا هو التوكّل في المفترقات الحادّة حيث الشكّ والتردّد والخوف والطمع... ينبغي النظر إلى الهدف والغاية ومتابعتها. سبيل الوصول إلى الهدف هو التوكّل. والآيتان 12 من سورة إبراهيم و10 من سورة المجادلة تبيّنان الفكرة نفسها.

 

الفائدة الثالثة: التسهيل وتذليل الصعوبات

في بعض الأحيان وفي مواجهة الأمور العظيمة يجلس الإنسان على أمل أنّ يمدّ الآخرون يد العون له، مفهوم التوكّل في هذه الحالات يخاطب الإنسان ويقول له: انتبه! لا تعلّق الآمال على الآخرين! وهذه فائدة أخرى من فوائد التوكّل، ولكن في جهة السلب والنفي. فالتوكّل على الله يعني من ناحية النفي: "عدم الاعتماد وتعليق الآمال على غير الله تعالى. والاستناد إلى الله وحده لتحقيق الأهداف والغايات والوصول إلى المقصد". وهذا هو "استعمال اليأس من الناس"[2]. وهو مفهوم ورد في عددٍ من الأخبار والروايات؛ أي افترض أن لا أحد في الدنيا سواك، وبالتالي عليك أن تيأس من الناس لعدم وجودهم، وواجبك يقع على عاتقك وحدك، وعليك وحدك أداؤه والنهوض بأعبائه. وهذا الفهم للتوكّل يسهّل على الإنسان


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 358.

[2] مجمع البحرين ج 5، ص 494.

 

 

349


303

تفسير سورة براءة

الصعاب ويريه الأمور العظيمة صغيرةً؛ وذلك أنّ الإحساس بأنّ العمل هو عمل الإنسان ومهمّته وليس مهمّة غيره يساعده على تحمّل المسؤولية وإنجاز المهمّة.

 

وبمتابعة مفهوم التوكّل في الآيات والروايات، يُعلم أن هذه الصفة من السمات البارزة في المؤمنين. وعندها يتّضح معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

 

 

350


304

تفسير سورة براءة

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ

أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴿52﴾

قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿53﴾

 

 

352


305

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تضمّنت الآيتان السابقتان مخاطبة المنافقين بإخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ هذه الجماعة تفرح لما يسوء المسلمين ويسوؤها ما يفرحهم، وفي مقابل حالة المنافقين هذه، تدعو الآية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للفت نظرهم إلى أنّ الأمور بيد الله تعالى، ومن كان الله مولاه فلن يؤول أمره إلّا إلى خير. وبناءً عليه، لا يحقّ للمنافقين أن يفرحوا بخسارة المسلمين معركة، وبفشلهم في محطّة من محطّات مسيرتهم؛ فمن يخسر في واقعة ليس بالضرورة أن يفشل مشروعه بالكامل.

 

وبعد بيان هذه الحقيقة الواضحة، يتابع الله عز وجل الشرح بطريقةٍ أخرى، تصيب هدفين في آنٍ واحدٍ، فمن جهةٍ يرفع عزّ وجلّ، معنويّات المسلمين ويبشرّهم بأنّ المستقبل لهم، ومن الجهة الأخرى يحبط المنافقين ويثير في نفوسهم اليأس من فشل المشروع الإسلاميّ، والمنافقون المقصودون بالخطاب في هذه الآيات هم أولئك الذين تخلّفوا عن ركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسرّهم أن أراحوا أنفسهم من عناء السفر معه إلى الجهاد، وأعفوا أنفسهم من متاعب الحرب ومخاطر التعرّض للأسر.

 

الاختلاف البيّن بين المجاهدين المؤمنين والمنافقين

﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾: الحُسنى مؤنّث الأحسن، وهي صيغة التفضيل من الحسن، ومن أخطاء ترجمة القرآن بالفارسيّة أنّه كثيرًا ما يترجم قوله تعالى: "إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ"، من دون الالتفات إلى التفضيل وذلك بترجمتها

 

353


306

تفسير سورة براءة

بما يعادل "إحدى الحسنتين"، بينما المعنى الذي تفيده هذه العبارة في اللغة العربية هو التفضيل؛ أيّ إحدى حالتين هما أحسن من غيرهما.

 

ولم تصرّح الآية بالمراد من هاتين الحسنيين، ولكن من المعلوم أنّ المجاهد لا بدّ من أن يصيب أحد أمرين، إمّا النصر وإمّا الهزيمة. والنصر في هذه المعركة هو نصرٌ على دولة الروم. والهزيمة على الرغم ممّا فيها من انكسار وجراح، هي أيضًا واحدةٌ من هاتين الحسنيين؛ وذلك لأنّها تؤدّي إلى تسارع رحلة التكامل وتفضي إلى مرحلةٍ جديدة في هذا المسار.

 

يا أيّها النبيّ، قل لهؤلاء: إنّنا سوف نفارقكم وننفصل عنكم في رحلة الجهاد هذه لمواجهة الروم، وعندما نضع أقدامنا في هذا الميدان ينتظرنا أمران أحسنان إمّا الفتح والغلبة، وأيّ شيءٍ أحسن من النصر على أعداء دين الله، والاحتمال الآخر هو خسارة هذه المعركة وتحمّل عواقب هذه الهزيمة وتذوّق نتائجها، وهي الحسنى الثانية التي تتحدّث عنها الآية، بل ربّما تكون أعذب من النصر. وعليه، فإنّ العاقبة الحسنى لنا سواء كان نصيبنا النصر أو كان الشهادة.

 

وأمّا بالنسبة إليكم: فإنّكم تواجهون أحد احتمالين، إمّا أن نعود إليكم مكلّلين بأكاليل النصر، وعندها سوف يصدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره فيكم، وسوف تنالون العقاب الذي تستحقّون على أيدي المسلمين. ويثير بعض المفسّرين احتمالاً آخر في العذاب المشار إليه في الآية، وهو أنّه سوف ينزل عليهم ما كان ينزل على سائر الأمم من عذاب الله عز وجل من برقٍ ورعدٍ وما شابه من العذاب الذي كان يصيب الأمم المتمرّدة على دعوة الله، أو سوف يصيبكم نوعٌ جديدٌ من العذاب ليس له سابقة يؤدّي إلى أن يقبض الله أرواحكم، أو عذاب الجوع وانعدام الأمن والإذلال على أيدي الروم أو الفرس في ذلك الزمان، أو حتّى أعدائكم من اليهود والنصارى الذي يسكنون أطراف المدينة وأكنافها، ويُحتمل في المراد من العذاب أن يكون الجور واختلال ميزان العدالة الناجم عن انحسار ظلّ الدولة الإسلاميّة.
 

 

354
 

 


307

تفسير سورة براءة

وعلى ما تقدّم، لا مبرّر لحصر العذاب المذكور في الآية بنوعٍ محدّد من العذاب في الدنيا أو قصره على عذاب البرزخ أو الآخرة؛ بل كلمة العذاب عامّةٌ يُحتمل شمولها لما تقدّم كلّه.

 

وعبارة "بِأَيْدِينَا" ترشد إلى أنّ العذاب ليس بالضرورة أن ينزل من الله مباشرةً ومن دون واسطة بشريّة؛ فقد يسلّط الله بعض خلقه على بعضهم الآخر ليذيقهم ما يستحقّون من عقاب.

 

يخاطب الله في هذه الآية المنافقين بواسطة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بهدف تضعيف معنويّاتهم، ويبيّن لهم أنّ المواقف التي اتّخذوها لها عواقب وآثار، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وفي الحدّ الأدنى تثير اليأس في نفوسهم من الوصول إلى أغراضهم الدنيويّة.

 

وفي المقابل، تهدف الآية إلى دعم المؤمنين روحيًّا ومعنويًّا، وتطمئنهم بأنّ محاولات المنافقين وجهودهم التي يبذلونها ضدّهم لن تضيرهم في شيء، وسوف يعود عسكر المسلمين من حرب الروم سالمًا، ومن يُستشهد منهم سوف ينال الدرجات العالية عند الله تعالى.

 

لقد كانت هذه الآية عبر التاريخ وفي جميع الوقائع والمواجهات التي خاضها المسلمون مع أعدائهم، أنجع دواء لمعالجة أيّ ضعفٍ أو خور يمكن أن يصيب المسلمين. وقد كانت كذلك في عصر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم عندما كان المسلمون يشعرون بضغط المنافقين أو الكفّار عليهم. وهذه الآية تنسجم مع منطق الإسلام ونظرته إلى الإنسان والعالم، ويؤيّد كلّ شقٍّ منها الآخر.

 

وخلاصة مفاد الآية أنّ مغادرة المدينة إلى الجهاد ليس فيها إلّا الخير، وليس هذا فحسب، بل خير الخير، وتخلّفكم أيّها المنافقون عن اللحاق بركبنا ليس فيه لكم إلّا الهوان والخسران.

 

"فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ": تأمر الآية المنافقين عبر المؤمنين بالانتظار، وتدعوهم إلى إخبارهم بأنّهم هم أيضًا ينتظرون؛ ولكن شتّان بين الانتظارين،

 

 

355


308

تفسير سورة براءة

نحن ننتظر حسن العاقبة وأنتم تنتظرون سوءها.

 

ولهذا المقطع من الآية تفسيرٌ آخر لعلّه أدقّ وألطف من المعنى المشار إليه أعلاه، وذلك أنّ الآية تأمر المسلمين بأن يقولوا للمنافقين: أنتم تنتظرون ما سوف يصيبنا من سوء، ونحن ننتظر ذلك بكم، وسوف نرى عاقبة أيّنا ستكون خيرًا من عاقبة الآخر. وسوف ينكشف لكم من صاحب المصلحة في هذا الانتظار ومن هو الخاسر.

 

والجدير بالالتفات في الآية، هو أنّها عندما تتحدّث عن العاقبة المتوقّعة للمسلمين تتحدّث بلسان الحصر فتقول: "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ"، فتخبر أنّ المصير الذي ينتظر المسلمين ليس هو إلّا واحدة من اثنتين كلاهما الأحسن، إمّا النصر والغلبة وإمّا الشهادة؛ ولكنّها عندما تتحدّث عن المنافقين فإنّها تبيّن لهم حالة واحدة وهي العذاب الذي سوف ينزل عليهم، إمّا من الله مباشرةً وإمّا بواسطة المسلمين، ولكنّها لا تبيّن ذلك بأسلوب الحصر، بل تفتح لهم باب احتمالٍ ثالث هو أن يتوبوا ويدخلوا في جماعة المسلمين و بذلك ينجون من المصير المقدّر لهم وهو العذاب.

 

وفتح باب النجاة لمثل هؤلاء هو من أظهر علامات التسامح والتعالي في الإسلام تجاه أعدائه. وعلى الرغم من بسط يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه يمدّ يده ليخرج المنافقين من مستنقع النفاق والعداء للإسلام والمسلمين. وقد حصل هذا على أرض الواقع عندما هدم مسجد ضرار، حيث تاب عددٌ من جماعة عبد الله بن أبيّ رأس النفاق، وتركوا جماعته والتحقوا بالمسلمين، وحتّى عبد الله بن أُبيّ ـ على ما كان عليه من معاداة النبيّصلى الله عليه وآله وسلمـ آمن وأعلن إسلامه إثر تسامح النبيّ معه وصفحه عنه.

 

فالإسلام ليس دين انتقام، وإنّما هو دين صفحٍ وتجاوز؛ ولكنّه يواجه المعاندين ما داموا على عنادهم ومواجهتهم للإسلام، أمّا عندما يتخلّون عن العناد والمواجهة فإنّه يتناسى أفعالهم ويغضّ النظر عنها. ولو أنّ أبا جهل ـ على ما كان عليه من عداء وكره للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ترك المواجهة والعناد،

 

 

356

 


309

تفسير سورة براءة

لعفي عنه وغضّ النظر عن سيرته السيّئة، وليس هذا مجرّد افتراض فقد عفا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن وحشيّ قاتل عمّه الحمزة[1].

 

فضل الشهادة على الحياة

تصف هذه الآية الشهادة في سبيل الله بأنّها "حسنى". وقد يثير هذا التقويم للشهادة السؤال في الذهن عن مبرّر هذا التقويم، وكيف يكون الموت أفضل من الحياة؟

 

يمكن أن يُقال الكثير من الكلام في توضيح هذه الحقيقة، ولكنّنا نرجّح جانب الاختصار فنقول: إنّ نظرة الإسلام إلى الموت تختلف عن النظرة الماديّة؛ فالموت وفق هذه الأخيرة هو نهاية الحياة، أمّا بحسب النظرة الإسلاميّة فإنّ الموت هو بداية لفصلٍ جديد من فصول حياة من نوع آخر. الموت في الرؤية الماديّة غرقٌ في ظلمات العدم وتيهٌ في صحاريه، أمّا بحسب الرؤية الإلهيّة فإنّ الموت نافذة تُفتح في وجه الإنسان على عالمٍ أجمل وأرقى من العالم الذي كان يعيش فيه. وبالمقارنة بين هاتين الرؤيتين من الواضح أنّ الأفضل للإنسان أن يسرع في الانتقال من سجن المادّة وأسرها إلى رحاب التحرّر، ويخرج من سجن الحياة الماديّة إلى رحابة الرحمة الإلهيّة.

 

وقد سُئل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ذنوب الشهيد هل يغفرها له الله عز وجل بشهادته، فأخبر بأنّ الله يغفر له كلّ ذنبٍ. ثمّ سألوه عن شمول المغفرة للعفو عن حقوق الناس؛ فأخبرصلى الله عليه وآله وسلم بأنّ عدل الله لا يسمح بالعفو عن حقوق الناس، فهذه لا بدّ من أدائها إلى أصحابها أو عفوهم عنها[2]. وأيّ حسابٍ أرحم وأيسر من هذا الحساب؟! وعلى ضوء هذه الخصوصيّة وغيرها نجزم أنّ الرؤية الإسلاميّة تقضي بوضوح أن تكون الشهادة إحدى الحسنين.


 


[1] الطبقات الكبرى، ج7، ص 418؛ الاستيعاب، ج4، ص 1564، رقم: 2739.

[2] انظر: من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 183.

 

357


310

تفسير سورة براءة

﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ تتضمّن هذه الآية مطلبًا مهمًّا، ويزداد وضوحًا بملاحظة الرواية الواردة في سياق تفسيرها. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ الفكرة التي سنعرضها في التعليق على هذه الآية ليست خاصّةً بها، بل هي نقطة عامّة تشمل المورد وغيره من الموارد.

 

يتضمّن كلام جدّ بن قيس -الذي تقدّم الحديث عنه- عند طلبه الإذن من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض التضحية! حيث يقول: "...ولكن أعينُك بمالي". وبالتالي كأنّه يقول: "منّا المالُ وعليك التضحية بالأرواح". فنزلت هذه الآية في الردّ على استئذانه، والالتفات إلى هذه الواقعة وما ورد في أخبارها يزيد الآية وضوحًا. حيث يبيّن الله  في هذه الآية أنّ الإنفاق لا قيمة له عندما يكون صادرًا عن مثل هذه الروح، ولا فرق بين أن يكون طوعًا أو يكون كرهًا. وكون الإنفاق الصادر عن المنافقين كرهًا وهباءً لا قيمة له أمرٌ يسهل فهمه وإدراك حقيقته. وما يثير التساؤل هو شمول هذا الحكم للإنفاق طوعًا وعن ميل ورغبة، فلماذا يفقد الإنفاق الطوعيّ قيمته أيضًا؟

 

والجواب عن هذا السؤال هو أنّ على المؤمن أن يعرف مكمن الخلل فيسدّه، ويكتشف الحاجة فيرفعها. فإذا لم تُسدّ تلك الثغرة ولم تُرفع الحاجة فلا قيمة لأيّ عملٍ لا يسدّ حاجة ولا يرتق فتقًا. على المؤمن أن يعرف الواجب المطلوب فيفعله بعينه لا أن يفعل شيئًا آخر غير الواجب.

 

وفي مورد الآية، هذا الرجل يرى أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يعدّ العدّة لمعركةٍ كبيرةٍ مع الروم، وهو يحتاج إلى مقاتلين، وكان بصدد تجهيز جيشٍ مؤلّفٍ من ثلاثين ألف مقاتل، وهذا في حدّ ذاته يعني أنّ هذه المعركة ليست كسائر المعارك التي خيضت من قبل، وهو يهتف بالمسلمين بكلّ لسانٍ أن "هيّا إلى الجهاد والقتال"، وهذا الرجل يشاهد كلّ هذا ويدّخر نفسه ويجود بماله، فيأتيه الجواب في الآية الشريفة التي تنبئه: أن لا خير في مالِك سواء أنفقته طوعًا أم كرهًا، فلن يُقبل منك في الحالتين.

 

وتعلّل الآية سبب عدم القبول بأنّ صاحب هذا العرض ليس من أمّة

 

358


311

تفسير سورة براءة

النبيّ؛ بل هو وأمثاله من الخارجين الذين خسروا شرف الانتماء: "إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ".

 

وقوله تعالى: "كُنتُمْ" في هذه العبارة لا تتضمّن معنى الزمان كما في قوله عز وجل: ﴿وكان الله عليمًا حكيمًا﴾، فـ"كان" في مثل هذه العبارات تفيد الثبوت ولا يتقيّد هذا الثبوت بزمانٍ بعينه. وقد أشرنا في مناسبة سابقة أنّ الفسق في اللغة هو الخروج، كما تخرج ثمرة البلح من قشرها.

 

وعبارة: "قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا" تكشف عن وجود حوارٍ نزلت الآية لتدخل على خطّه؛ فالآيات السابقة ليس فيها كلامٌ عن الإنفاق حتّى نربطها بسياقها السابق. ودعوة الله النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى قول هذه العبارة وإيصال هذه الرسالة يكشف عن مثل هذا الحوار الذي نتحدّث عنه، والرواية الواردة عن جدّ بن قيس تؤكّد هذه الدعوى.

 

وفي الإخبار عن عدم القبول إشارة إلى أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ من بعض هؤلاء ما يدفعون من مال، والآية تخبر عن عدم قبول الله تعالى إنفاقهم.

 

معنى قبول الأعمال

ينبغي أن يُعلم أنّ بعض الأعمال قد تكون صحيحةً من وجهة نظر فقهيّة، ومطابقةً للمواصفات المطلوبة فيها، غير أنّ الله قد لا ينظر إليها بعين القبول.

 

فالصلاة مثلًا، يُقال إنّ شرط قبولها عند الله حضور القلب فيها، ولكنّ الفقهاء لا يشترطون في صحّة الصلاة وسقوط الأمر بها حضور القلب، فمن يصلّي من دون حضور قلبٍ يسقط عنه الأمر بالصلاة ولا يجب عليه قضاؤها أو إعادتها؛ ولكنّها مع ذلك قد لا تكون مقبولةً عند الله تعالى. فما المقصود من القبول؟

 

يبدو لنا أنّ التكاليف الشرعية لها وجهان وفيها بعدان. فمن جهةٍ قد

 

 

359


312

تفسير سورة براءة

يصدر عن الله -بما له من سلطة ومولويّة على العباد- أمرٌ مولويٌّ وعلى العباد الطاعة والعمل، سواءٌ أعطى الله الثواب على هذا العمل أم لم يعطِ، فله سبحانه حقّ الطاعة على العباد بغضّ النظر عمّا يترتّب على هذه الطاعة من ثوابٍ أو لا يترتّب. ومن جهة ثانية، يبدو الأمر وكأنّ الله -جلّ وعلا- يعقد صفقةً مع العباد، ويعطيهم في مقابل العمل الذي يدعوهم إليه ويؤدّونه ثوابًا يتناسب مع كرمه وفضله. وكأنّهم أقبلوا على العمل تطوّعًا ولم يأتوا به استجابةً للأمر المولويّ الصادر عنه تعالى والواجب الطاعة.

 

وفي المعاملات لا بدّ من القبول من الطرفين حتّى يستحقّ الباذل عوضَ ما قدّم. وفي حالتنا لمّا كان العبد هو الذي يبدأ ويقدّم عمله ويعرضه على الله، فإذا قبله الله تعالى استحقّ العبد الثواب والأجر بقبول عمله، وإذا ردّه الله ولم ينظر إليه بعين القبول، فلا حقّ ولا استحقاق.

 

والنتيجة هي أنّ قبول كلّ عملٍ من الأعمال معناه ترتيب الأثر عليه. وإذا كان العمل عبادةً غير مقبولةٍ، فإنّ الأثر المتوقّع منها لا يترتّب عليها. ولا ينبغي للإنسان أن يتوقّع الثواب على عملٍ لا يقبله الله، فلا ثواب ولا عوض.

 

وممّا يستحقّ الالتفات إليه أنّ الثواب والآثار التي تترتّب على الأعمال ليست محصورةً بالآخرة؛ فقد يشاهد الإنسان بعض آثار أعماله في الدنيا أيضًا. وإذا لم يؤدِّ الإنسان العمل المطلوب منه بطريقةٍ مناسبة، فإنّه -وإن كان بحسب الظاهر قد يشعر أنّه أدّى ما عليه وأسقط التكليف عن عاتقه- ولكن بحسب الواقع فإنّ الآثار المتوقّعة من الأعمال التي لا ينظر إليها الله بعين القبول لا تترتّب عليها، سواء كان الأثر المتوقّع أخرويًّا كدخول الجنّة، أو دنيويًّا كالآثار التي تعدّ أهدافًا وغايات لكثيرٍ من الأعمال العباديّة وغيرها.

 

ولتكن الصلاة مثالًا، فإنّ حضور القلب شرطٌ أساس من شروط القبول، فإذا صلّى الإنسان من دون حضور القلب، فقد يسقط الأمر بالصلاة ولا تجب عليه إعادتها أو قضاؤها، ولكنّ الصلاة المجرّدة من حضور القلب لا أثر لها، لا في الآخرة؛ أيّ الثواب، ولا في الدنيا كالنهي عن الفحشاء

 

 

360

 


313

تفسير سورة براءة

والمنكر وما شابه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[1]، والأمر نفسه يقال عن التقرّب إلى الله تعالى: "الصلاة قربان كلّ تقيّ"[2]. والزكاة وغيرها من التكاليف الماليّة أيضًا قد يؤدّيها الإنسان بطريقةٍ تسقط عنه التكليف؛ ولكن لا ينال آثارها ونتائجها المتوقّعة منها. ومن هنا، فإنّنا نرى أنّ كثيرًا من الناس يؤدّون زكاة أموالهم؛ ولكن لماذا لا تترتّب الآثار الوضعيّة دائمًا على إيتاء الزكاة؟ الجواب هو أنّ الشرط الأساس لترتّب الآثار هو القبول. وصفوة القول إذًا: إنّ ترتّب الآثار على الأعمال هو علامة ومؤشّرٌ يدلّ على القبول الإلهيّ، سواءٌ كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة.

 

وفي الآية -محلّ الكلام- يُقال للمنافقين: "لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ"؛ لماذا؟ الجواب هو أنّ الشرط اللازم لترتّب الأثر والقبول لم يتحقّق. ومن شروط القبول الإيمان باللّه تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. والمتّقون هم الأشخاص الذين يتحرّكون في دائرة الفكر الإسلاميّ، والذين تحرّكهم وتدعوهم إلى السكون تعاليم هذا الدين وإرشاداته.

 

العمل الصالح من غير المسلمين

في بعض الأحيان -وتحت ذريعة التنوير والحداثة- يطرح بعض الناس التساؤل الآتي فيقول: إنّ فلانًا من الناس قدّم إلى أهله وأمّته الكثير من الخدمات، فكيف لا ينال الثواب عليها من الله تعالى، بحجّة أنّه ليس مسلمًا، فلماذا لا تشمله رحمة الله جزاءً له على الخدمات التي أدّاها للبشرية؟!

 

وثمّة أشخاص كثيرون قدّموا لأممهم الكثير من الخدمات وكانوا نافعين للبشرية؛ ولكنّ ذنبهم كان عدم الإيمان بالإسلام وعدم تبنّي الفكر الإسلاميّ، وربّما وقفوا في مواجهة الإسلام في بعض الحالات. إنّ عدم


 


[1] سورة العنكبوت: الآية 45.

[2] الكافي، ج 3، ص 265.

 

 

361


314

تفسير سورة براءة

قبول الأعمال من مثل هؤلاء أمرٌ ممكنٌ، ولا يكشف عن أنانيّة الإسلام بأيّ وجهٍ من الوجوه؛ وذلك لأنّ الإنسان يتكامل ويرتقي في ظلّ الفكر الإسلاميّ وفي رعاية التعاليم الإسلاميّة.

 

وعلى هذا، فإنّ البذل والإنفاق الماليّ المقبول من الله تعالى هو الذي يكون بدافعٍ دينيٍّ، ويكون على ضوء الرؤية الإسلاميّة المنجية والمحقّقة للفلاح، ولا يقع كلّ إنفاقٍ موقع القبول، ولا يُنظر إليه بعين الرضا.

 

كثيرون يسألون هل سينتهي مصير آينشتاين[1] وأديسون[2] إلى جهنّم؟ وهذان الشخصان لا تخلو حالهما من أحد أمرين: إمّا التقصير وإمّا القصور، فإذا كانا جاهلين قاصرين لا يذهبان إلى جهنّم، ولكن إذا كانا قادرين على المعرفة وقصّرا في طلبها فإنّهما سوف يذهبان. أمّا أنّ فلانًا من الناس قدّم للبشرية الاختراع الفلانيّ، فإنّ هذا لا يستدعي نقض السنن الإلهيّة وتغيير قوانين الوجود.

 

وثمّة نقطة أخرى تستحقّ التدقيق والتأمّل وهي نقطة الحقّ والباطل، يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ اَلْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ اَلْحَقُّ لَرُبَّمَا فَلَرُبَّمَا وَلَعَلَّ وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ‏ءٌ فَأَقْبَلَ"[3]. إذًا، ليس صحيحًا أن يُقال إنّ فلانًا أدّى الخدمة الفلانية -وقد لا يكون في عمله إسداء خدمةٍ- وبالتالي يجب أن يُقبل عمله عند الله. فالمراد من قوله تعالى: "إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ" أنّ المنافقين اختاروا لأنفسهم محورًا آخر ومحرّكًا مختلفًا عن المحرّك المؤدّي إلى القبول عند الله، وكان قصدهم وغرضهم في محلّ آخر غير المحلّ الذي يريده الله تعالى، وهذا يبرّر عدم قبول أعمالهم مهما كانت كبيرةً وجليلة.


 


[1] آلبرت آينشتاين (Albert Einstein) (1879-1955م.) فيزيائيٌّ ألمانيّ.

[2] توماس آلفا أديسون (Thomas Alva Edison) (1847-1931م.) عالمٌ ومخترعٌ أمريكيّ.

[3] نهج البلاغة، الخطبة 16.

 

362


315

تفسير سورة براءة

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿54﴾ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿55﴾ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿56﴾ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿57﴾

 

 

363


316

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

محور الكلام في الآية السابقة هو عدم قبول الإنفاق على الحرب من المنافقين، وبيّنت الآية أنّ الفسق هو المانع من قبول هذا العمل. وتتابع هذه المجموعة من الآيات بيان السبب نفسه بطريقة أخرى وبأسلوب مختلف عن أسلوب الآية السابقة. وتكمل الآية ببيان أنّ تظاهر هؤلاء الأشخاص بالإيمان لا قيمة له عند الله تعالى؛ لأنّ المعيار والملاك الأساس عنده سبحانه هو روح العبادة وجوهرها، أمّا الظاهر والشكل فلا قيمة له. فالصلاة الجوفاء الخالية من الروح والباطن لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا يترتّب عليها أيّ أثر من الآثار المتوقّعة من الصلاة. وما ينفع ويترتّب عليه الأثر سواء كان صلاة أم نفقة، هو ما كان مقرونًا بروح العمل العباديّ، وما أتِي به لوجه الله وطلب رضاه، وما كان دافعه الطاعة وامتثال الأمر الإلهيّ.

 

علل عدم قبول الأعمال من المنافقين

"وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ": تكشف هذه العبارة من الآية عن أنّ السبب الأساس الذي يمنع من قبول النفقة من المنافقين هو كفرهم باللّه ورسوله. فهؤلاء الناس لا يعرفون الله حقّ المعرفة ولا يؤمنون بصفاته ووحدانيّته كما ينبغي، ولا يعتقدون أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يحمل رسالة الله إلى البشريّة؛ ولهذا لم يطيعوا أمره ولم يخضعوا له. وهذه الانحرافات عن جادّة العقيدة الصحيحة هي السبب لعدم القبول.

 

والسبب الثاني الذي تكشف عنه الآية هو ما يعبّر الله تعالى عنه بقوله: "وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى"، فهؤلاء إن صلّوا لا يصلّون إلّا مع التكاسل

 

 

365

 


317

تفسير سورة براءة

والتثاقل عن الصلاة، ويؤدّونها من دون رغبة ولا شوق، و"كسالى" جمع كسلان، وهو الشخص الذي يؤدّي عمله من دون رغبةٍ ولا ميل إليه.

 

"وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ": مستوى الدافع عند هؤلاء إلى الإنفاق يشبه مثيله إلى الصلاة. يُستفاد من الآية أنّ أسباب عدم قبول الأعمال ثلاثة هي: 1- الكفر باللّه والرسول، 2- الصلاة مع الكسل، 3- الإنفاق مع الكراهة. ويبدو أنّ المراد من الكفر في الآية معنًى آخر غير الكفر بالمعنى الاصطلاحيّ المقابل للإيمان؛ لأنّ ذكر الكسل في الصلاة وكره الإنفاق لا داعي له بعد افتراض الكفر الاصطلاحيّ، فمن الطبيعيّ أن يتكاسل الكافر في الصلاة وعنها، ومن الطبيعيّ أن يكره الكافر الإنفاق في سبيل الله. وبالتالي ليس هذان السببان سببين مستقلّين، بل هما من توابع الكفر الاصطلاحيّ، على فرض إرادته من الآية.

 

ولمّا عدّدت الآية هذه الأسباب الثلاثة فهذا يقوّي احتمال تثليثها الحقيقيّ، وتقوية احتمال أن يكون المراد من الكفر معنًى آخر غير المعنى المتعارف. وهذا المعنى هو المعنى الحقيقيّ الأصلي للكفر؛ أيّ التغطية. فهؤلاء يسعون في سبيل طمس الحقّ، ومن الحقوق التي يحاولون طمسها حقوق الله ورسوله، حيث يمنعون من ظهور هذه الحقوق في حياتهم وعلى سلوكهم وأعمالهم.

 

ويمكن أن يكون المراد من الكفر عدم شكر النعمة، وليس هذا المعنى منقطع الصلة بالمعنى اللغويّ؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعمةٌ كبرى على البشرية يستحقّ الله الشكر عليها. وخلاصة الكلام أنّ الكفر في الآية ليس كفرًا اصطلاحيًّا؛ بل هو عدم كمال الإيمان.

 

الكفر من أهمّ موانع قبول الإنفاق

ويبدو لنا من التأمّل في معنى الآية أنّها تبيّن عدم تعدّد الأسباب التي تؤدّي إلى عدم قبول الأعمال من هؤلاء، وتشير إلى أنّ السبب الأساس

 

 

366


318

تفسير سورة براءة

 والأوحد لذلك هو الكفر وعدم التحلّي بالإيمان باللّه والرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وقد يثير الحديث عن كفرهم التساؤل؛ إذ كيف يكونون من الكافرين وهم يصلّون؟ ومن جهةٍ أخرى كيف يوصفون بالكفر وهم ينفقون على الجهاد والقتال في سبيل الله؟

 

والآية تجيب بطريقة أو بأخرى عن هذا السؤال، وكأنّ الله عزّ وجلّ يقول لنا في هذه الآية: "لا تغرّنكم صلاتهم، فإنّهم يتثاقلون عن الصلاة ولا يقومون إليها إلّا وهم كسالى. ولو كانت صلاتهم صادرة عن إيمانٍ لما تكاسلوا عنها ولا فيها". والكسل في أداء العمل دليلٌ ومؤشّرٌ واضح على صدوره من دون إيمانٍ أو اعتقاد.

 

الإنسان الذي يؤدّي عملًا عن قناعة، ونتيجة الإحساس بالحاجة إليه، يؤدّيه بنشاطٍ وهمّة. فالعطشان الذي يبحث عن الماء لسدّ عطشه قد يتعب أثناء البحث عن الماء؛ ولكنّه يبحث بنشاط وهمة عالية. أمّا الشخص المرتوي الذي يبحث عن الماء لأسياده الذين أمروه بالبحث عن الماء فإنّه يتعب ويكسل أيضًا.

 

وصلاة هؤلاء الذين تتحدّث عنهم الآية ليست صادرةً عن أشخاص يسعون وراء ملء الفراغ الروحيّ الذي يشعرون به ولا لريّ العطش المعنويّ؛ بل هي وسيلة لكسب الاعتراف بهم في المجتمع الإسلاميّ وقبول انتمائهم إلى هذا المجتمع. وبالتالي هي عملٌ جبريٌّ يؤدّونه من دون رغبةٍ فيه ولا ميلٍ إليه. ومثل هذا العمل من الطبيعيّ أن يكون مقرونًا بالكسل.

 

وما يُقال عن صلاتهم يُقال عن إنفاقهم، فهم لا ينفقون في سبيل الله ولا من أجل تقوية شوكة المسلمين؛ بل ينفقون لينالوا الاعتراف ويعبّروا عن الانتماء غير الصادق إلى المجتمع الذي يعيشون فيه ولا يستطيعون الاستغناء عنه. إذًا معنى الآية بناءً على الاحتمال الثاني في تفسيرها: أنّ المانع الأساس من قبول الأعمال هو الكفر.

 

 

367


319

تفسير سورة براءة

ولعلّ هذا التفسير للآية أكثر مناسبةً وانسجامًا. فهي -بناءً على هذا التفسير- تعلّمنا أنّ الصلاة والإنفاق ليسا أهمّ علامات الإيمان الواقعيّ؛ بل الإيمان له علامات أخرى، ينبغي أن تعدّ هي المعيار الأساس للحكم بإيمان الفرد. وعلى هذا التفسير تتحوّل الآية إلى درس للأجيال على مرّ التاريخ، وتعلّم البشرية أنّ إيمان بعض الناس قد يكون ظاهريًّا لا يعانق القلب؛ فقد يتظاهر الإنسان بالإيمان ويكون باطنه مملوءًا بالكفر باللّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وعبارة "وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ" في هذه الآية لافتةٌ؛ لأنّ القرآن يعبّر عن صلاة المؤمنين بـ"الإقامة" ولا يستخدم كلمة الإتيان أو مشتقّاتها، مثلًا: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾[1]، و﴿أَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾[2]، و﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[3]. وإقامة الصلاة جعلها قائمةً وأداؤها بجميع أركانها وشروطها، ولا تكون الصلاة قائمة إلّا إذا كانت حيّةً فيها الروح.

 

هذا عن صلاة المؤمنين، أمّا عن المنافقين فإنّه لا يقول تعالى في هذه الآية "ولا يقيمون الصلاة إلّا وهم كسالى"؛ بل يقول سبحانه: "وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى". ونستنتج من هذا الاختلاف في التعبير الفرق بين الإقامة والإتيان والفرق بين صلاة المؤمن وصلاة المنافق، فالإقامة هي أداء الصلاة بشرطها وشروطها. ومثل هذه الصلاة هي التي تصنع الفرق وتترتّب عليها الآثار المرجوّة منها.

 

ولا يمكن أن تتحقّق الإقامة من المنافق الذي لا يصلّي من أجل الله، ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يصدر منه سوى إتيان الصلاة. وإقامة الصلاة من خصائص المؤمنين وصفاتهم، وهم الذين يؤدّون الصلاة بروحها وشروطها.


 


[1] سورة البقرة: الآية 3.

[2] سورة البقرة: الآية 43.

[3] سورة طه: الآية 14.

 

 

368


320

تفسير سورة براءة

في نظرةٍ أوّليّة إلى الآيتين 53 و 54 قد يبدو بينهما شيء من التنافي في ما يرتبط بالموقف من إنفاق المنافقين، وينبغي التوقّف عند هذا الأمر وحلّ هذا التعارض الظاهريّ بين الآيتين. يُستفاد من الآية 53 التي يقول تعالى فيها: "قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا" أنّ إنفاق المنافقين يمكن أن يكون طوعًا وعن رغبة، ويمكن أن يكون عن إكراه؛ بينما تفيد الآية 54 أنّ المنافقين لا ينفقون إلّا وهم كارهون للإنفاق غير محبّين له.

 

وبعبارةٍ أخرى: تبيّن الآية الأولى أنّ الإنفاق الصادر عن المنافقين فيه احتمالان، أحدهما الإنفاق الطوعيّ والآخر الإنفاق الصادر عن كراهة. بينما تبين الآية الثانية علّة عدم قبول الإنفاق من المنافقين، والعلّة هي أنّهم لا ينفقون إلّا وهم كارهون للإنفاق.

 

وثمّة احتمالان في تفسير الآية يرفعان ما يبدو أنّه تعارضٌ، الاحتمال الأول هو أن يكون أحد قسمي الإنفاق، وهو الإنفاق الطوعيّ، مجرّد افتراض، بحيث تبيّن الآية أنّه لو افترض أنّ المنافقين أنفقوا طوعًا ورغبةً ولكنّ إنفاقهم لا يقبل منهم بسبب كفرهم، وبناءً على هذا التفسير لا تخبر الآية عن إمكان الإنفاق الطوعيّ من المنافقين.

 

وهذا المعنى يشبه قول بعضهم: "يجب أن تفعل الفعل الفلانيّ حيًّا كنت أو ميتًا"، فهذه العبارة لا ينبغي تفسيرها بالإخبار عن إمكان صدور الفعل عن الإنسان وهو ميتٌ، فالميت لا يمكن أن يصدر عنه أيّ فعل. إذًا معنى هذه العبارة هو وجوب أداء الفعل وعدم ترك خيار آخر للمأمور بأدائه. فالآية بناءً على هذا هي بصدد الإخبار عن عدم قبول الإنفاق في جميع الأحوال حتى على فرض صدوره عن رغبة وشوق.

 

وثمّة وجهٌ ثانٍ ذكره الزمخشري أيضًا في تفسيره[1]، وحاصل هذا الوجه أنّ قوله تعالى: "أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا" يعني: لن يُقبل الإنفاق منكم سواء أجبركم الحاكم الإسلاميّ عليه وألزمكم بالإنفاق ودفع الصدقات، أم


 


[1] الكشّاف، ج 2، ص 279.

 

369


321

تفسير سورة براءة

تصدّيتم لدفع المال وإنفاقه من دون إجبار من الحاكم. وذلك أنّه في بعض الحالات والموارد قد يلزم الحاكم المسلم الرعيّة على دفع بعض المال من أجل بعض المصالح.

 

وبعبارةٍ أخرى: بناءً على الوجه الثاني يمكن تفسير الآية بأنّ إنفاقكم لن يقبله الله تعالى، سواء أدّيتموه طوعًا ومن دون إجبار، أو أنفقتم استجابة لإلزام الحاكم المسلم إيّاكم بالإنفاق. وبالتالي لا ضرورة تقضي بأن يكون أداء الزكاة دائمًا تطوّعًا، فقد يطلب الحاكم من الناس أداء الزكاة ودفعها ويلزمهم بها، وقد يدفع بعض الناس الزكاة وهم كارهون لدفعها وإيتائها. وعليه يكون المراد من الـ"كُره" في الآية الأولى "الإكراه" و"الإجبار"، و"الطوع" مقابل "الإكراه"، ولا تنافي بين المعنيين.

 

أمّا الآية الثانية، فلا تدلّ على الإكراه والإجبار من قبل الحاكم الإسلاميّ، بل تفيد الكراهة القلبية من المنافق المنفِق نفسه.

 

وحاصل المقارنة بين الآيتين أنّ الآية الأولى تخاطب المنافقين وتقول لهم: لن يُقبل الإنفاق منكم سواء أجبِرتم عليه وألزِمتم به، أم أقدمتم عليه طوعًا. والآية الثانية تقول: إنّ المنافق لا يدفع الصدقة ولا ينفق ماله في سبيل الله عن طيب نفسٍ.

 

وصف المنافق على لسان الإمام الصادق عليه السلام

ورد في الأثر عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في وصف المنافق: "قد رضي ببعده عن رحمة الله تعالى؛ لأنّه يأتي بأعماله الظاهرة شبيهًا بالشريعة وهو لاهٍ ولاغٍ باغٍ بالقلب عن حقها مستهزئ فيها... وقد وصف الله تعالى النفاق في غير موضعٍ فقال عزّ من قائلٍ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾[1]"[2]

 

في هذه الرواية يحدّد الإمام الصادق عليه السلام الصفة الأهمّ من صفات المنافق،


 


[1] سورة الحج: الآية 11.

[2] مصباح الشريعة، ص 144.

 

370


322

تفسير سورة براءة

وهي أنّه يحافظ على ظاهر الشريعة؛ ولكنّ قلبه خالٍ من أيّ اعتقادٍ بالأعمال الشرعيّة التي يؤدّيها، بل إنّه يستهزئ بها. وهذه العلامات بالنسبة إلينا هي مؤشّرات نكتشف بواسطتها النفاق، وينبغي الالتفات إليها على الدوام.

 

"فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ": بعد أن بيّنت الآيتان السابقتان اختلال الأسس واهتزاز الأرضيّة الإيمانيّة عند المنافقين، وعدم قبول الله أعمالهم، تصدّت هذه الآية للإشارة إلى الوسائل والأدوات التي يستند إليها المنافقون في معارضتهم ومخالفتهم للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم حيث يخاطب الله نبيّه ويخاطب عبره المسلمين ويقول لهم لا ينبغي أن تعجبكم أموال هؤلاء ولا أولادهم، ولا ينبغي أن تعجبوا وتتساءلوا لماذا يعيش هؤلاء مرفّهين في الدنيا وينالون فيها ما يحبّون من أموالٍ وأولادٍ؛ بل ينبغي الالتفات إلى أنّ ما يعجب المنافق ويدخل السرور على قلبه هو في حد ذاته، مصدر شرٍّ له ومن أسباب ضرره، وذلك عندما ننظر إليه بعين الإيمان وعين المؤمنين.

 

وتشير الآية إلى أحد أسباب الكفر والنفاق، والإعراض عن دعوة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وهو الشعور بالاستغناء والإحساس بنيل كلّ ألوان الترف والامتيازات الماديّة في الحياة الدنيا، من مالٍ وولدٍ. وتبيّن الآية للمؤمنين أنّ نعم الدنيا لا تساوي شيئًا ولا قيمة لها عند الله تعالى؛ كي يزهد بها المؤمنون. ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أنّ الإسلام ينظر إلى الدنيا ونعمها بسلبيّة، ولا أنّه يدعو المسلمين إلى اعتزال الدنيا والتخلّي عنها وتركها لغير المؤمنين.

 

قلنا مرارًا وأشرنا أكثر من مرّة إلى أنّ عمدة معارضة الأنبياء والنواة الأصليّة لها هي المترفون الذين يظهر في أوساطهم النبيّ وبين ظهرانيهم، فهؤلاء غالبًا ما كانوا يشعرون أنّ موقعهم الاجتماعيّ سوف يتعرّض للخطر، وفي ظلّ النبوّة سوف تتبدّل الموازين وتنقلب معايير التقديم والتأخير، ومن الطبيعيّ أن يتحسّس هؤلاء الخطر ويشعروا بالتهديد.

 

وبحسب هذه السيرة الاجتماعيّة شعر بعض أهل المدينة من هذه الطبقة بأنّ حاكمية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وانتشار رسالته في المدينة سوف تبدّل مواقعهم

 

 

371


323

تفسير سورة براءة

الاجتماعيّة، فكشّروا عن أنياب المعارضة وشمّروا عن سواعد المضادّة والمعاندة. وعلى رأس من فعل ذلك المترفون وأصحاب الثروة والمال والجاه والعشيرة والأولاد.

 

"إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا": تبيّن هذه الآية الغاية النهائيّة التي سوف ينتهون إليها، أنّه تعالى سوف يعذّبهم بهذه الوسائل التي يستقوون بها على معارضة النبيّ ومحاربته. فهذه الأدوات والنعم التي أتاحها الله لهم في الدنيا سوف تكون وسيلة عذابهم في الآخرة، ومن يستفيد ممّا آتاه الله هو ذلك الذي يستثمر ما أوتي في مصلحة حياته الأبديّة. وأمّا من يشقى لتحصيل الدنيا ولا يستثمرها بالشكل الصحيح سوف تتحوّل هذه الدنيا إلى أداة من أدوات عذابه في الآخرة.

 

وأحد معاني التعذيب بالمال أنّ الإنسان يتعب ويشقى للحصول عليه، ويتعب لحفظه وصونه من الضياع، ويتعذّب من الخوف من ضياعه وفقدانه، ثمّ العذاب الأشدّ هو ما يشعر به عند فقدانه وخسارته، ومن أشكال العذاب التفكير الدائم في كيفيّة صرف هذا المال. وأصعب من ذلك كلّه أن يأتي الحاكم الإسلاميّ وهو النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ويأمر هذا المنافق بدفع مقدارٍ من هذا المال للاستعانة به على قتال إخوانه من أهل الكفر من الروم والشرك من أهل مكّة أو غيرها.

 

ولعلّ بعض المسلمين يعاني من بعض هذه الآلام المشار إليها أعلاه؛ ولكنّ هذه المعاناة لا ينبغي أن تصل إلى حدّ العذاب؛ لأنّ المسلم يعتقد بأنّ المال لله، وعندما يطلبُ المسلمُ المالَ ينبغي أن يطلبه لله لا لنفسه، وثانيًا: إنّ التربية الإيمانيّة تعطي المسلم حصانة تحول دون تعلّقه بالمال على حدّ تعلّق المنافق به. وبناءً على هاتين الملاحظتين، يُفهم أنّ المال لا ينبغي أن يكون عذابًا للمسلم. ثمّ إنّ المسلم يستثمر أمواله في المحلّ الصحيح ويجمعها من الحلال وينفقها في رضا الله تعالى ووفق تعاليمه، وهذا حصانةٌ تحول دون تحوّل المال إلى عذاب.

 

372

 


324

تفسير سورة براءة

وأمّا التعذيب بالأولاد فإنّ المنافق ترهقه تربية أبنائه، ويبذل الغالي والرخيص لتربيتهم على معتقداته ويلقّنهم تعاليم دينه، ثمّ عندما يكبر بعض هؤلاء الأولاد يتخلّون عن تعاليم الآباء ويتركون نحلة النفاق وينتحلون الإسلام؛ بل يلتحق بعضهم بجيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويلتحقون بصفوف الجهاد والقتال تحت رايته.

 

فقد كان لعبد الله بن أبيّ ولدٌ أسلمَ وأتى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّةً وطلب منه أن يأذن له بقتل أبيه[1]. ولا شكّ في أنّ هذا الأمر وسيلة من وسائل العذاب تلاحق المنافق إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يكون هذا الولد نعمة أو رحمة في نظر المنافق.

 

"وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ": يخبرنا الله تعالى عن كيفيّة موت المنافقين ويعبّر عنه بـ"الزهق" والزهق في اللغة هو الخروج بصعوبة. وهذا المعنى هو الذي يفيده قوله تعالى: ﴿جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾[2]. وعبارة "تزهق أنفسهم" تفيد معنى الخروج بصعوبة بطريقة تتضمّن نوعًا من الإهانة خاصّة من جهة الإشارة إلى أنّهم يموتون وهم على الكفر. هذه هي إرادة الله وليس هذا من باب الخصومة أو العداوة مع هذه الفئة من الناس؛ بل من باب أنّ سنّة الكون هي هذه، فمن يعيش منافقًا لا بدّ أن يموت كافرًا.

 

وعليه، فإنّ الله تعالى يريد للمنافقين أن تكون أموالهم وأولادهم سببًا ووسيلة عذابٍ لهم، وأن تخرج أرواحهم من أجسادهم بصعوبة وألمٍ، وأن لا ينالوا من الآخرة حظًّا ولا نصيبًا.

 

"وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ": تشير هذه الآية إلى علامةٍ أخرى من علامات النفاق، وهي علامة تشتمل على العبرة وتستحقّ


 


[1] سفينة البحار، ج 6، ص 38.

[2] سورة الإسراء: الآية 81.

 

 

373


325

تفسير سورة براءة

الالتفات وتثير الانتباه. فهم عندما يواجهون الشوكة والشدّة لا يثبتون، وعندما يرون الحقّ قويًّا لا يقدرون على مخالفته، وبدل ذلك يقسمون الأيمان المغلّظة لإثبات الانتماء إلى أهل الحقّ، على الرغم من أنّ الحقّ وأهله بريء منهم ولا صلة لهم به ولا صلة له بهم.

 

"وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ": تلفت هذه العبارة من الآية إلى صفة جديدة من صفات المنافق وهي شدّة الخوف، وهو ما تُعبِّرُ عنه الآية بـ"الفَرَق" وهو في اللغة التشتّت وسرعة ضربات القلب من شدّة الخوف. فالإنسان عندما يشتدّ خوفه يتشتّت ذهنه وتسرع ضربات قلبه. وما يثير خوف المنافق وفرَقَه قوّة الحقّ وانتصاره.

 

الجبن من علامات النفاق

"لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ": تصوّر هذه الآية حجم الخوف الذي يستولي على المنافقين عندما يرون قوّة الحقّ وشوكته، فيتمنّى المنافق لو أنّه يجد ثقبًا في الأرض أو نقبًا في جبل على شكل مغارةٍ ليغور فيه ويلجأ إليه، بحيث يغيب بين كثرة الناس فلا يشعر به أحدٌ. والمغارات هي النقب الطبيعيّ أو الصناعيّ في الجبل ومعناه معروفٌ. وتستعمل كلمة غار في الفارسيّة للدلالة على المعنى نفسه. والمُدخَل هو الثقب في الأرض الذي يدخل فيه الحيوان أو غيره، فيحتمي به من المخاطر التي تواجهه.

 

إذًا من علامات النفاق الانسحاب في مواجهة القوّة والاختباء من شدّة الخوف من أصحابها. ولا قدرة للمنافق على المواجهة والوقوف والتعبير عن معارضته. فهو يعلن أنّه مع المنتصر الذي يخاف منه ويقسم على ذلك؛ ولكنّه في الواقع يتمنّى لو أنّ الأرض تنشقّ فيختبئ فيها ولا يعيش تحت سلطة الحقّ.

 

 

374

 


326

تفسير سورة براءة

المنافق في كلّ عصرٍ هو ذلك الشخص الذي يبطن غير ما يُظهر والذي يقول غير ما يعتقد. فهو يتظاهر بصحّة الفكر والاعتقاد، ويضمر الانحراف عن الحقّ والصواب. ولو أنّ الإنسان ينظر في الصفات التي ذكرت في القرآن الكريم للمنافقين لوجد أنّها صفاتٌ عامّة تنطبق على جميع المنافقين في جميع العصور والأزمنة.

 

 

375


327

تفسير سورة براءة

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿58﴾
 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴿59﴾ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾

 

 

377


328

تفسير سورة براءة

الاتّهام بالحيف الاقتصاديّ من علامات النفاق

تكشف الآية الأولى من هذه الآيات عن خصلة أخرى من خصال المنافقين وعلامة من علاماتهم. وهذه السمة المميّزة للمنافقين هي موقفهم من الحاكم العادل على المستوى الاقتصاديّ. وذلك أنّ الحاكم العادل لا يحيف على بعضٍ لحساب بعضٍ آخر، ولا يحابي أحدًا على حساب أحدٍ آخر؛ بل يعطي كلّ صاحب حقٍّ حقَّه من الموارد الماليّة للدولة. وعندما يرى المنافقون هذه العدالة لا تعجبهم، فيبدأون بإثارة الشكوك والشبهات التي تشوّه صورة الحاكم وتخرّب سمعته في المجتمع. وهذا ما تعبّر عنه الآية بقوله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ". فالمنافقون يرضيهم الحصول على الحصّة الأكبر وتسعدهم المحاباة، وتسخطهم مساواتهم بالآخرين من أعضاء المجتمع الذي يعيشون فيه. فالعدالة عند المنافقين أو حتّى المساواة هي حصولهم على حصّة أكبر من حصّة الآخرين.

 

لم يرد في سبب نزول الآية الأولى سوى روايات ثلاث في كتب أهل السنّة، وفي هذه الأخبار ما يفيد بأنّها نزلت في أبي الخويصرة التميميّ الذي صار من الخوارج لاحقًا؛ ولكن حتّى لو صحّت هذه الروايات وكان هذا الرجل وفعله هو سبب نزول الآية فإنّ هذه الآية وما بعدها لا ينبغي أن تُقيّد هذه الآية بهذا الرجل وفعله، ويمكن تعميمها إلى الفئة التي ينتمي إليها.

 

فبعض الناس هذه سيرتهم وهذا ديدنهم عندما لا يصلون إلى ما يبتغون يطلقون لسانهم بالذمّ والاعتراض على الحاكم العادل الذي يتّهمونه بالحرمان، وعندما يحصلون على ما يطمعون به يكيلون للحاكم كلّ ما يعينهم عليه لسانهم في الثناء على الحاكم والمدح له، ولا يهمّهم

 

 

379

 


329

تفسير سورة براءة

مصدر هذا المال الذي يحصلون عليه، ولا يعنيهم أن يحصلوا على هذا المال من حصّة غيرهم من الناس: "فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ".

 

لأحد المفسّرين المعاصرين رأيٌ فيه شيء من اللطافة يدلي به عند تفسيره لكلمتي: "رضوا" و"يسخطون"، حيث يقارن بين الكلمتين فيعبّر الله عزّ وجلّ عن الرضا بصيغة الماضي للإشارة إلى أنّ هؤلاء المنافقين إذا حصلوا على شيء من المال يرضون ولكنّ رضاهم سرعان ما ينتهي ويصير شيئًا من الماضي، ولا يبقون في حالة الرضا إلّا إذا حصلوا في كلّ مرّة على ما يريدون. أمّا السخط فهو حالة دائمة لهم؛ لأنّ طمعهم دائم وهو طبعٌ غالبٌ عليهم، ومن يرضى وينقضي رضاه سريعًا فلا بدّ أن يحلّ السخط محلّ الرضا عنده.

 

"وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ": تطرح هذه الآية الخيار الثاني، وهو الخيار الأنسب للمنافقين. وتحضّ الآية المنافقين على أن يرضوا بقسمة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم العادلة، وعلى أن يرضوا به حاكمًا عادلًا، بدل الاعتراض عليه وإثارة الشكّ في منهجه وأسلوبه. وتقول الآية إنّ على هؤلاء الرضا والقناعة بما يقسم الله ورسوله لهم.

 

وجوب تقديم المصلحة الاجتماعيّة على الفرديّة

عندما تتحقّق الثقة بين الحاكم والمحكوم وتبنى هذه الثقة على قواعد متينة، عندها يجب أن يكون أوّل الكلام وآخره هو كلام الحاكم والقائد، وينبغي أن يكون تقديره للمصلحة مقبولًا سواء كان ذلك في مجال القرارات وإعطاء الامتيازات الماليّة أم غيرها من المجالات. وذلك لوجوب الثقة بقضاء الله، وقرارات المختارين من جهته عزّ وجلّ، فإنّ الله وأولياءه لا يختارون إلّا الخير العامّ ولا يراعون إلّا مصلحة الجماعة في القرارات والأقضية التي تصدر عنهم. ولو فُرِض أن تضرّر شخصٌ بما

 

 

380


330

تفسير سورة براءة

اختار له وليُّ الله، عليه أن يغضّ الطرف عن مصلحته الخاصّة ويذعن لما اختاره وليّ الله ويؤمن أنّ الخير في ما اختاره، ويضحّي بمصلحته الخاصّة من أجل مصلحة الجماعة.

 

وهذا ما كان يجب على المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعلوه، فإذا كانوا صادقين في اعتقادهم بنبوّته وتكليفه بإدارة المجتمع من الله عزّ وجلّ، عليهم الإذعان والرضا بقراراته الماليّة حتّى لو اقتضت حرمانهم من بعض الامتيازات التي كانوا يرون أنّها من حقوقهم. وكان عليهم الرضا بما قُسِم لهم وعدم المطالبة بما لم يصل وعدم التشوّق إلى تحصيل المزيد ولو عبر السبل المحرّمة والوسائل غير المشروعة. والتعدّي عن الحدود التي رُسِمت لهم ليس جولانًا في الأرض المباحة؛ بل هو تخطٍّ إلى أرض الآخرين واعتداء على مساحتهم الخاصّة بهم. ولو أنّهم صبروا والتزموا حدودهم ورضوا بما قسم الله لهم لكان خيرًا لهم.

 

وليس المقصود من كون الرضا خيرًا أنّه سيفتح لهم في المستقبل باب الحصول على المزيد، كما يعتقد بعض الناس الذين يرون أنّ الرضا بالقليل الذي يعطيك الله إيّاه اليوم يفتح لك باب المزيد من عند الله في الغد. فهذا المعتقد غير صحيح، ولسنا نقول إنّ الله لن يعطي المزيد، فربّما يعطي وربّما يمنع. وما نقصده أنّ على الإنسان أن يرضى بسهمه ونصيبه كائنًا ما كان.

 

وعلّة كون الرضا خيرًا وأفضل للإنسان أنّ الرضا والقناعة بالسهم هو الواجب، ولا محلّ لقاعدة تعطي اليوم عشرة وتأخذ غدًا خمسة عشر. وفي منظومة القيم الإسلاميّة على الإنسان المسلم أن يرضى بما قسم الله له، قليلًا كان أم كثيرًا، وعليه أن يقول حسبي الله وكفى، وسوف أنال من الله خيرًا ممّا أتوقّعه سواء نلت ذلك في الدنيا أم في الآخرة. ويكفيني أنّ المجتمع الإسلاميّ عندما يُدار وفق توجيهات وليّ الله سيكون وعاءً وبيئة صالحة للتكامل.

 

"إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ": أي إنّا إلى الله سائرون ومتّجهون. الفعل "رغب" في اللغة العربيّة له حالات عدّة؛ فتارةً يتعدّى بحرف الجر "في"، وفي هذه

 

 

381

 


331

تفسير سورة براءة

الحالات يدلّ على الإقبال على الشيء والميل إليه، وطورًا يتعدّى بحرف الجر "عن" وفي هذه الحالة يفيد المعنى المضادّ للمعنى السابق فيدلّ على الإعراض عن الشيء وعدم الرغبة فيه، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[1]. وأمّا عندما يتعدّى هذا الفعل بالحرف "إلى" فإنّه يدلّ على معنى السير والهدف، وما يرغب إليه الإنسان يكون منتهى غايته، ومعنى هذه العبارة من هذه الآية أنّ المال والامتيازات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ليست مطلوبًا لنا ولا غاية، وإنّما منتهى غاياتنا هو الله تعالى.

 

وخلاصة الكلام أنّه لو كان هذا هو موقف الجماعة التي تتحدّث عنها الآية لكان هذا الموقف خيرًا لهم؛ لأنّ هذا الموقف هو خطوةٌ في مسار التكامل الإنسانيّ. هذا ولكنّ المصالح والمنافع التي ينالها الإنسان في المجتمع الإسلاميّ ليست منافع أخرويّة فقط، بل المجتمع الإسلاميّ يؤمّن لأعضائه الراحة والرفاه والأمن والاقتصاد والحياة الجيّدة، وعندما يتأسّس المجتمع الإسلاميّ في العصور الآتية سوف نشهد هذه المنافع الدنيويّة فيه ونلاحظها فيه. والنظر في كلمة "أمن" في القرآن الكريم والبحث في موارد استعمالها يكشف عن أنّ هذه النعمة وما يرتبط بها سوف تتحقّق في المجتمع الإسلاميّ.

 

لم يرد في الآية جواب الحرف "لو"، وعلى الرغم من عدم ذكره فإنّ سياق الآية يكشف عنه ويدلّ عليه، وفي مثل هذه الحالات الحذف يكون هو الأبلغ، فالكلام الذي لا يذكر اعتمادًا على السياق ليكشفه للمخاطب هو الكلام الأكثر بلاغةً وفصاحةً.

 

يُعلم من سياق الآيات التي نحن بصدد تفسيرها أنّ بعض الناس أتوا إلى النبيّصلى الله عليه وآله وسلم للمطالبة بامتيازات ماليّة واقتصاديّة خاصّة، ليحصلوا على أكثر ممّا قسم أو يريد أن يقسم لهم.

 

الآية الأولى (الآية 58) تكشف لنا عن تعيير المنافقين النبيَّصلى الله عليه وآله وسلم واتّهامهم إيّاه في عدالته التوزيعيّة، وتكشف لنا بالتالي عن وجود هذه الفئة من الناس


 


[1] سورة البقرة: الآية 130.

 

 

382


332

تفسير سورة براءة

في المجتمع الإسلاميّ في ذلك العصر.

 

والآية الثانية (الآية 59) تعلن عن الدواء المضادّ لهذا المنهج في التفكير، وتعلن أنّ على الإنسان أن لا يجعل مصلحته الشخصيّة المعيار والميزان للحكم على الأشياء والمواقف، مع تجاهل الآخرين ومصالحهم أو نسيانها.

 

والآية الثالثة (الآية 60) تجيب بلهجة حاسمة وقانونيّة في مواجهة هذه المطالبات غير المبرّرة، وتقول للفئة المستهدفة بوضوح: أيّها المطالِبون بامتيازات خاصّة، اعلموا أنّ ماليّة المجتمع الإسلاميّ وبيت ماله-بحسب المصطلح الإسلاميّ- له مصارف محدّدة، ومنافعه تطال فئات بعينها في هذا المجتمع، والزكاة وغيرها من الصدقات هي الموارد التي تُجمع وتجبى إلى خزينة الدولة الإسلاميّة، وحاصل الأموال التي تُجمع تصرف في مصالح فئات محدّدة من المجتمع، لستم منها ولا تنطبق عليكم المعايير المحدّدة للاستحقاق، مهما ارتفعت أصواتكم ومهما بلغت ادّعاءاتكم.

 

ميدان الصدقات

حدّدت الشريعة الإسلامية مصارف الصدقات التي تُجبى من الزكاة إلى بيت المال الإسلاميّ، وهي بحسب الآية الشريفة ثماني فئات، لا تتساوى بالضرورة في ميزان استحقاقها وانتفاعها من هذه الصدقات. ولا يختصّ هذا التحديد بالزكاة المعروفة بالمعنى الاصطلاحيّ في الفقه الإسلاميّ. ومن هنا، يرى عددٌ من العلماء أنّ هذا التوزيع يُعمل به في أصناف أخرى من الزكاة مثل زكاة الفطرة؛ حيث إنّ هذا النوع من الصدقات جزءٌ من الموارد الماليّة لبيت مال المسلمين. ولو أنّ زكاة الفطرة جُمعت بطريقةٍ صحيحة وصُرِفت بطريقةٍ مناسبة لتركت أثرًا أكبر ممّا تتركه في هذا العصر.

 

وفي رأينا أنّ كلمة صدقات في الآية عامّةٌ، ويمكن أن تشرّع الدولة الإسلاميّة موردًا ماليًّا آخر، من دون أن تجعل له مصرفًا غير هذه المصارف المذكورة في الآية. هذا ولا شكّ في أنّ الخمس من الموارد أيضًا، والآن لا

 

 

383


333

تفسير سورة براءة

نريد الدخول في تفاصيل الحديث عنه. ولكنّ سائر الموارد الماليّة التي يمكن أن تطرأ أو تقرّ في المجتمع الإسلاميّ وسائر الصدقات الواجبة أو المستحبّة يمكن صرفها بهذه الطريقة المذكورة.

 

الحكمة في ترتيب المستحقّين

ينبغي الالتفات إلى أنّ المصارف الثمانية المذكورة في الآية منظّمة بدقّة عالية من جهة، ومذكورة بترتيبٍ دقيقٍ أيضًا. ولو أنّ هذا الترتيب ورد على لسان إنسان عاديٍّ ما كان يستحقّ أن يولى اهتمامًا وعنايةً خاصّةً؛ بحيث نحكم بأنّ ما ذُكِر أوّلًا هو الأهم ويليه ما ذكر بعده في الأهميّة؛ وذلك لأنّ الإنسان العاديّ قد لا يلتفت إلى ترتيب كلامه أو لا يراعي الأهميّة في الترتيب. أمّا والكلام كلام الله تعالى، فلا ينبغي تجاهل الترتيب؛ لأنّ اختيار الله تعالى أسلوبًا محدّدًا لعرض فكرة من الأفكار أو معالجتها لا بدّ أن يكون لحكمة وغاية محدّدة، فعندما يذكر الله شيئًا أوّلا ثم يعقّب بذكر شيء آخر لا بدّ أن يكون الترتيب مبنيًّا على حكمة خاصّة اقتضت التقديم والتأخير. وعلى ضوء هذا المعيار، يمكننا أن نستنبط من ترتيب أصناف المستحقّين في الآية أنّ الصنف الأوّل له أهميّة لا يحظى بها الصنف الثاني وهكذا. وفي رأينا أنّ تقديم الفقراء والمساكين يهدف إلى بيان إحدى أهمّ غايات التشريع الاقتصاديّ في الإسلام، وهي اقتلاع الفقر والقضاء عليه.

 

ولكن هل يصحّ القول إنّه ما دام في المجتمع فقيرٌ لا يجوز أن يصرف المال في جهةٍ أخرى من الجهات المذكورة في الآية؟ نقول في الجواب عن هذا السؤال: لا؛ لا يُستفاد هذا المعنى من الآية. وهذا هو فهم فقهاء الإماميّة للآية وهذا ما يفتون به؛ حيث يجيزون دفع الزكاة إلى غير الفقراء حتّى مع وجودهم[1].


 


[1] انظر: جواهر الكلام، ج 15، ص 428.

 

 

384


334

تفسير سورة براءة

معنى الصدقة

"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ": يرى الفقهاء المسلمون أنّ المراد من الصدقات في هذه الآية هو الزكاة. ويرون كذلك أنّ الأصناف الثمانية المذكورين في الآية هم المستحقّون لصرف الزكاة عليهم أو فيهم. ويعمّمون هذا الاستحقاق لزكاة الفطرة، ويفتون بأنّ هذه الزكاة أيضًا تصرف على هذه الفئات أو وفق المصالح الاجتماعيّة. وهذه الرؤية مشتركة بين الفقهين الإماميّ والسنّي ويتبنّاها أكثر فقهاء المسلمين.

 

ولسنا الآن بصدد تتبّع أقوال الفقهاء والنظر فيها. فالآية لها ظهورٌ عرفيٌّ، وهي تدلّ بحسب قواعد التعبير العرفيّ على معنًى، ينبغي أن نحاول اكتشافه أوّلًا، وإذا كان ثمّة غموض أو معنى يحتاج إلى بحث وتحرٍّ ليُكتشف، نرجع إلى الأخبار والروايات الواردة في تفسير الآية لنحاول استكشاف ذلك المعنى الأعمق المستبطن في الآية. وكذلك الحال، لو كان المعنى المستفاد من الآية عامًّا أو مطلقًا، ينبغي الرجوع إلى الأخبار والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة للبحث عن المخصّص أو المقيّد، وهذا متوقّعٌ في عددٍ من الآيات أن تُخصَّص بالأخبار والروايات. وهو أمرٌ مطروحٌ في علم "أصول الفقه". ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الهدف من هذه الإشارة هو أنّ المنهج الذي نعتمده في فهم الآية وغيرها من الآيات، هو محاولة استكشاف المعنى الظاهريّ والعرفيّ للآية، وبعد ذلك نرجع إلى الأخبار والروايات لمحاولة اكتشاف المعاني الأخرى التي يمكن أن تستفاد منها.

 

ولا بدّ من الالتفات إلى نقطة مهمّة وهي أنّ كلام الفقهاء سواء كانوا من الإماميّة أم من أهل السنّة ليس حجّةً في فهم القرآن وتفسيره. فالحجّة في فهم الآية هي المعنى الظاهر المستفاد من الآية، وهذا يقع في المرتبة الأولى، ويأتي بعده في المرتبة الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية وشرح معناها، ولو كان هذا الشرح تخصيصًا أو تقييدًا، أو تأويلًا.

 

 

385

 


335

تفسير سورة براءة

إذًا ما هو المعنى الظاهر المستفاد من الآية أوّلًا؟ الآية بكلّ وضوحٍ تقول: إنّما الصدقات للفقراء والمساكين وغيرهم من الأصناف. ولا تقول: إنّما الزكاة لهذه الأصناف الثمانية. وثمّة فرقٌ بيّنٌ، فالزكاة في المصطلح الفقهيّ الإسلاميّ ضريبةٌ محدّدة لها شروطها وضوابطها الخاصّة.

 

هذا وتجدر الإشارة إلى تبنّي بعض المفسّرين رأيًا مفاده أنّ كلمة "الزكاة" في القرآن الكريم لها معنًى واسع يشمل جميع أنواع الصدقات، ولا يقتصر على الأعيان التسعة التي يفتي الفقه الإسلاميّ بتعلّق الزكاة بها، وهي: الغلّات الأربع: القمح والشعير والتمر والزبيب، والأنعام الثلاثة: البقر والإبل والغنم، والنقدان الذهب والفضة؛ ولكنّنا لا نسلّم بهذا التفسير، وهو وجهة نظر قد تكون صحيحة وقد لا تكون، ولنغضّ الطرف عنها حاليًّا. فالزكاة في عرف الفقهاء واصطلاحهم: ضريبة ماليّة محدّدة لها شروط وضوابط معيّنة على عدد من المحاصيل هي الأعيان المشار إليها أعلاه.

ويفترض الفقهاء أنّ "الصدقات" في الآية هي الزكاة المعروفة في الفقه الإسلاميّ، وقد بيّنت هذه الآية أصناف مستحقّيها.

 

وهنا نسأل هل ينطبق مفهوم "الصدقة" الوارد في الآية 58 على الزكاة أيضًا؟ وإذا كان تطبيقه ممكنًا، فما هي نسبة احتمال انطباقه على الزكاة الاصطلاحيّة؟ وبعبارة أخرى: هل الزكاة والصدقة مفهومان متساويان أم أنّ ثمة اختلافًا بينهما؟

 

لا بدّ أوّلًا من الالتفات إلى رواية وردت في سبب نزول آية "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ"، ربّما تسعفنا في توضيح معنى الآية وتوجيه دلالتها على هذا المعنى أو ذاك.

 

ثانيًا: ينبغي الرجوع إلى كتب اللغة للبحث فيها عن معنى كلمة "صدقة"، فلعلّ ذلك يسهم في تسليط الضوء على معنى الآية ويساعد في جلاء المعنى المقصود من الصدقات في الآيتين.

386

 


336

تفسير سورة براءة

ورد في سبب نزول الآية58[1] أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة حنين مع قبيلة هوازن قسم الغنائم فأعطى بعض القرشيّين أكثر من غيرهم، فاعترض بعض الأنصار وعدّوا ذلك شكلًا من أشكال المحاباة لأشخاصٍ من قبيلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حساب غيرهم من المسلمين. فبيّن لهم النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أنّ لهذا التمييز في العطاء فلسفةً إلهيّة وحكمةً خاصّة.

 

وبناءً على هذه الرواية في سبب نزول الآية، يتّضح أنّ الأموال التي يدور الحديث عنها في الآية وبين المسلمين في تلك الفترة لم تكن من الزكاة، فمن مسلّمات الفقه الإسلاميّ أنّ الزكاة تتعلّق بأعيان محدّدة هي التسعة المذكورة آنفًا، وغنائم الحرب ليست منها، وأما الغنائم فيتعلّق بها الخمس لا الزكاة.

 

والترابط بين الآية 58 والآية التي تليها يسمح لنا باستفادة وحدة المقصود من "الصدقات" في الآيتين. ففي الآية الأولى يحدّثنا الله تعالى عن الذين يلمزون النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في الصدقات ويأخذون عليه توزيعها بطريقة لا تتناسب مع مصالحهم، وفي الآية الثانية يحدّد الله موارد صرف الصدقات والفئات الاجتماعيّة والمصالح الاجتماعيّة التي تُصرف فيها الصدقات. وتسمح لنا وحدة سياق الآيات بالحكم بأنّ المفهوم المستفاد من الآيتين واحدٌ، وأنّ الصدقات التي وردت في الآية الأولى هي عينها التي يحدّد لنا الله مصارفها في الآية الثانية. وبناءً عليه، نصل إلى هذه النتيجة الواضحة وهي أنّ الصدقات التي عيّن الله تعالى مصارفها في الآية الثانية هي غنائم الحرب، وهي نفسها التي كانت محلّ عتابٍ وأثارت غضب بعض المسلمين بعد معركة حنين.

 

وثمّة كلامٌ آخر على المعنى اللغويّ لكلمة "صدقة" والمعنى الاصطلاحيّ الشرعيّ. فكتب اللغة قلّما تمدّنا بالتفسير الواضح لمادّة "صدق" بحيث ينفع ذلك في فهمنا للمعنى الاصطلاحيّ الشرعيّ. ويمكن تعميم هذه الملاحظة


 


[1] انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 62.

 

387

 


337

تفسير سورة براءة

على عددٍ من كتب التفسير التي لم تبيّن للقارئ معنى هذه الكلمة عندما تُستخدم للدلالة على المال الذي يُنفق على الفقراء أو غيرهم، ولم تكشف كثيرٌ من كتب التفسير عن السبب الذي يسمح بتسمية هذا المال بالصدقة. ويزداد الأمر غرابةً عندما نجد أنّ كتابًا مثل "مجمع البحرين" وهو الكتاب المخصّص لتفسير المفردات الواردة في القرآن الكريم والأحاديث، لا يتوقّف عند هذه المسألة ويسير فيها بسيرة غيره من المؤلّفين والمفسّرين.

 

نعم، في كتاب المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني[1]، إشارة ترتبط بما نحن بصدده. وفي إحدى دوائر المعارف إشارة إلى هذا المطلب أيضًا، وإنّ كنّا لا نعترف لهذه الموسوعة بالوثاقة ولا نطمئنّ إليها كثيرًا. فدوائر المعارف والموسوعات الإسلاميّة التي دوّنها المستشرقون، لا يمكن الركون إلى استنباطاتها، وما يسمح لنا في بعض الأحيان بالنظر فيها والاستفادة منها، هو اعتماد بعض مقالاتها على عددٍ من المصادر الفقهيّة والمرجعيّات الإسلاميّة؛ الأمر الذي يبرّر بعض حسن الظنّ فيها وفي النتائج التي توصّل إليها كتّابها ومحرّروها.

 

يقول الراغب الأصفهانيّ وكذلك محرّر مادّة "صدق" في الموسوعة المشار إليها: إنّ الصدقة من مادّة "صدق" وهذه المادّة تعني مطابقة الكلام للواقع. وقد سُمِّيت الصدقة التي هي مالٌ وفق ضوابط ومعايير متنوّعة؛ لأنّ المنفِق بإنفاقه هذا المال يصدّق إيمانه باللّه بعمله بالأوامر الإلهيّة.

 

وقد وردت كلمة صدقة في القرآن الكريم في آيات عدّة من غير أن يُراد بها الزكاة الواجبة في الشريعة الإسلاميّة كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾[2]، و﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ


 


[1] مفردات ألفاظ القرآن، ص 480.

[2] سورة المج22ادلة: الآية 12.

 

388


338

تفسير سورة براءة

وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾[1]، و﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[2]. وفي هذه الآية وأمثالها التي تربو على العشر استُعمِلت كلمة صدقة للدلالة على الإنفاق في غير موارد الزكاة المعرّفة في الفقه الإسلاميّ.

 

ويسمح لنا التأمّل في هذه الموارد المذكورة أعلاه بالجزم بأنّ كلمة الصدقات في الآية محلّ البحث، لا يُراد منها الزكاة الواجبة؛ بل يقصد منها الإنفاق الماليّ المستحبّ أو الإنفاق مطلقًا سواء كان بعنوان الزكاة أم بغير عنوانها.

 

وبناءً عليه، لا يمكننا الموافقة على تفسير كلمة الصدقات في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾، وقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء﴾، وكذلك في قوله سبحانه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم﴾[3]، بالصدقة الواجبة على نحو ما فهم منها الفقهاء؛ حيث فسّروها بالزكاة، بخلاف الآيات المتقدّمة التي يُستفاد منها بوضوح أنّها لا تتحدّث عن الزكاة أو ليست خاصّة بها. ومن البعيد في نظرنا أنّ كلمة واحدة في القرآن الكريم ومفهومًا أساسيًّا كمفهوم الصدقة يرد في القرآن مرّةً في معنًى ومرّة أخرى في معنى آخر.

 

ونحن نرى أنّ المفاهيم القرآنيّة الأساسيّة كالصلاة والزكاة وغيرها من المفاهيم المشابهة التي تُستعمل للدلالة على المفاهيم الإسلاميّة المركزيّة، عندما يتكرّر ذكرها في القرآن الكريم تفيد في جميع الموارد معنًى واحدًا، ولو كان هذا المعنى شاملًا لمعانٍ أضيق دائرة تندرج تحته. وعلى ضوء هذا الكلام، يبدو لنا أنّ كلمة صدقة في جميع موارد استعمالها تفيد معنًى واحدًا، ونستبعد أن تفيد هذه الكلمة في بعض موارد استعمالها معنى الزكاة المفروضة وفي موارد أخرى تدلّ على سائر الإنفاقات الماليّة.


 


[1] سورة الحديد: الآية 18.

[2] سورة البقرة: الآية 280.

[3] سورة التوبة: الآية 103.

 

389


339

تفسير سورة براءة

والنتيجة التي ننتهي إليها هي أنّ الإنفاق الماليّ يُسمّى في القرآن بالصدقة. ولكنّ تحديد هذا المصارف الخاصّة لهذه الصدقات يسمح لنا بالحديث عن الزكاة؛ وذلك لأنّ سائر الصدقات لا ينحصر إنفاقها في هذه الموارد المذكورة.

 

هذا ولا بدّ أن يُعلم أنّ الصدقات الواجبة لا تنحصر في الزكاة بالمعنى الاصطلاحيّ المعروف؛ بل تشمل كلّ إنفاقٍ يجب على المسلم أداؤه وتقديمه إلى بيت المال الإسلاميّ ليكون تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ وقائد المجتمع المسلم لينفقه في المصالح المقرّرة. وهذا المعنى يُستفاد إلى حدٍّ كبيرٍ من عددٍ من الأخبار والروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام. كما يُستفاد من هذه الأخبار أنّ إمام المسلمين له صلاحيّات واسعة في التصرّف في بيت المال.

 

تعريف الفقير

"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء": تحصر هذه العبارة من الآية الحقّ في الصدقات بالفقراء. وبناءً على استفادة الترتيب من التقديم يكون معنى الآية أنّ المال المجموع في بيت المال هو للفقراء أوّلًا. ولكن من هو الفقير؟ الفقير في اللغة وفي الاصطلاح لا يعني الشخص الصفر اليدين؛ بل الفقير هو المعنى المقابل لـ"الغنيّ". فبحسب المعجم القرآنيّ كلّما وردت كلمة فقر إلى جانب كلمة غنى يكون المراد الإشارة أو الدلالة على التقابل بين الكلمتين في المعنى: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[1]، و﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا﴾[2]. الغنيّ هو الشخص الذي لا يحتاج غيره وهو الآمن من الناحية الاقتصاديّة على الأقل، وفي المقابل الفقير هو الشخص الذي لا تصل يده إلى جميع ما يحتاج إليه. وبعبارةٍ أخرى: هو غير الآمن اقتصاديًّا. وبناءً على هذا التفسير، ليس بين الغنيّ والفقير حدٌّ فاصل يميّز أحدهما عن الآخر بالكامل.


 


[1] سورة النور: الآية 32.

[2] سورة النساء: الآية 135.

 

390

 


340

تفسير سورة براءة

والحاجة ليست حاجة إلى المأكل والملبس فحسب، فإذا أشبعنا بطن الفقير وكسونا عريه ولكنّه بقي من دون سقفٍ يأوي إليه، فلا يصير غنيًّا ولا يرتفع فقره. وكذلك إذا أمّنّا له المسكن، ولكن تركناه من دون مالٍ يتمكّن من إنفاقه على تعليم أبنائه، فلا يكون مثل هذا الشخص غنيًّا. ويمكن توسعة الدائرة بأن نقول إذا وفّرنا له جميع احتياجاته الماديّة ولم نمكّنه من الترقّي والتطوّر الفكريّ والمعنويّ، لا يكون مثل هذا الشخص مستغنيًا. والكلام عينه يُقال إذا تركناه من دون طبابةٍ.

 

فالشخص الغنيّ وغير المحتاج هو الذي يجد بين يديه جميع حاجاته الماديّة بالمقدار المعقول الذي يسمح له بالعيش بشكلٍ طبيعيٍّ.

 

وخلاصة الكلام أنّ الشخص الذي يفتقر إلى ما يسدّ حاجةً من حاجاته الماديّة أو المعنويّة ينطبق عليه مفهوم الفقير، بحسب اللغة والاصطلاح الشرعيّ. وقد جاء الإسلام ليستأصل شأفة الفقر بهذا المعنى الواسع ويزيله من المجتمع الإنسانيّ. وهذه هي الحكمة المبتغاة من التشريعات الاقتصاديّة الإسلاميّة.

 

والبدء بالفقراء في مقام تحديد مصارف بيت المال أمرٌ له دلالاته الجليّة، ومن هذه الدلالات وأوضحها أنّ هدف الإسلام الأوّل أو أهمّ أهدافه في الميدان الاقتصاديّ استئصال الفقر واقتلاعه من جذوره. وتأمين أعضاء المجتمع الإسلاميّ من الناحية الاقتصاديّة، ولسنا نقصد من هذه العبارة أنّ الإسلام يريد لجميع الناس أن يكونوا أثرياء ومترفين؛ بل المراد أنّ يحصل أعضاء المجتمع الإسلاميّ على ما يحتاجه الإنسان ليعيش بشكلٍ طبيعيٍّ من ناحية المأكل والملبس والمسكن والطبابة، وغير ذلك من الحاجات الماديّة والمعنويّة.

 

بعض الناس يهرفون بما لا يعرفون ويصدرون أحكامًا خاطئة، فيقولون مثلًا: إنّ الإسلام يشجّع على الفقر ويرجّحه على الغنى. ويستندون لتأييد تقويمهم هذا ببعض التعاليم الإسلاميّة التي تعلي من شأن الفقر وتمدح الفقراء. بينما الواقع غير ذلك تمامًا، فنحن نرى أنّ الإسلام لا يريد الفقر في

 

 

391

 


341

تفسير سورة براءة

حدّ ذاته ولا يدعو إليه من حيث هو فقرٌ وحاجة؛ بل المطلوب إسلاميًّا هو الغنى والاكتفاء الذاتيّ للمجتمع الإسلاميّ.

 

المرغوب فيه بحسب الإسلام هو استغناء المسلمين ومجتمعهم عن الآخرين، وعدم حاجتهم إليهم. ومن يُجِلِ النظرَ في أنحاء التعاليم الإسلاميّة يجدْ أنّ الرفاه واليسار هما المطلوبان؛ ولكن في جميع الأحوال لا الفقر في حدّ ذاته ولأجل نفسه مطلوبٌ ولا الغنى كذلك. فالغنى أو اليسار مطلوبٌ، بحسب الرؤية الإسلاميّة؛ لأنّه يؤمّن بيئة مساعدة على التكامل والتعالي. فالإنسان الذي يكابد فلا يجد ما يسدّ حاجة جسده لا يمكنه التفرّغ للتفكير في حاجاته الروحيّة.

 

والمجتمع الذي لا يعيش حالة اليسار لا يمكن أن يتكامل. الإسلام يرجّح الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط في نظرته إلى الأمور الماديّة. وما يريده الإسلام أوّلًا وبالذات هو وجود مجتمع مساعد وبيئة مؤاتية لمسيرة التكامل الروحيّ. ومن الأمور المساعدة انعدام الفقر وانتفاؤه من المجتمع الإسلاميّ. إذًا الإسلام يعارض الفقر، وليس معارضًا ولا مخالفًا للغنى؛ ولكنّه لا يعير الثروة بما هي اهتمامًا ولا يوليها عناية بما هي ثروة؛ بل بما هي وسيلة تساعد الإنسان على التفكير في مسار تكامله وتعاليه المعنويّ. وهذا شيء تهتدي إليه البشريّة بالفطرة، فالبلدان المتطورة تقدّم الأمور التي تساعد الإنسان على التكامل على غيرها من الأمور.

 

تعريف المسكين

"وَالْمَسَاكِينِ": يرى بعض علماء اللغة العربيّة أنّ المسكين هو صنف من الفقير. وبناءً على هذا، يصحّ إطلاق الكلمتين على معنًى واحدٍ، والمعنى المشترك بينهما هو الحاجة الاقتصاديّة. ولكن مع ذلك ثمّة فرقٌ بين الكلمتين في المعنى. فالفقير هو الشخص الذي لا يتوافر له ما يكفيه من المال، أمّا المسكين -بناءً على تحليل الجذر اللغويّ للكلمة- يمكن أن

 

 

392

 


342

تفسير سورة براءة

تكون هذه الكلمة دالّة على الشخص الذي سكن بيته وعجز عن مغادرته للسعي والبحث عن لقمة العيش. وبالتالي، هذا الشخص فقيرٌ أيضًا بالنظر إلى حاجته إلى المال لتأمين نفقات عيشه، ولكنّ جهة الفقر فيهما مختلفة. فالمسكين بناءً على هذا المعنى يكون أشدّ حاجةً.

 

"وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا": العاملون على الزكاة هم الأشخاص الذي يتولّون جباية الزكاة وجمع الضرائب الماليّة. وهم المكلّفون من قبل الدولة الإسلاميّة بالعمل على جمع الموارد الماليّة لبيت المال وخزينة الدولة. وهؤلاء يأخذون رواتبهم وبدل أتعابهم من المال الذي يجمعون سواء كان زكاة أم غيرها.

 

المؤلّفة قلوبهم

"وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ": ورد في بعض الأخبار والتفاسير أنّ هؤلاء هم مجموعة من الأشخاص يُعطَون من الزكاة طلبًا لمودّتهم وإسكاتهم ودفع ضررهم عن المسلمين بالمال الذي يأخذونه من الزكاة. ويرى آخرون أنّ هؤلاء هم أشخاص لا ميل عندهم إلى الجهاد ولا رغبة لهم فيه، ولكنّ الدولة الإسلاميّة تستخدمهم وتستقطبهم في الخدمة العسكريّة مقابل البدل الماليّ الذي تعطيهم إيّاه.

 

وسواء كان هذا الاحتمال هو الصحيح أم الذي قبله، فإنّ المستفاد من هذا المصطلح أنّ جماعة من الناس يمكن اكتساب مودّتهم أو الاستفادة منهم في الحرب والقتال، أو على الأقلّ يمكن دفع ضررهم عن الإسلام والمسلمين ببعض المال الذي يُعطى لهم. فهؤلاء يخصّص لهم سهمٌ من الزكاة ومن بيت المال عمومًا لتحقيق هذه المصالح أو لدفع مفاسدهم عن المسلمين.

 

تحرير العبيد

"وَفِي الرِّقَابِ": المقصود من الرقاب هو العبيد. وتخصيص سهمٍ من الزكاة لتحرير العبيد يدلّ على الموقف المبدئيّ للإسلام من العبوديّة. ففي

 

 

393

 


343

تفسير سورة براءة

ذلك الزمان كانت العبوديّة أمرًا سائدًا في المجتمعات البشريّة كلّها في بلاد الرومان وبلاد فارس، ولكنّ الإسلام عندما ظهر بدأ بإلغاء العبوديّة بالتدريج. وقد خصّص الله تعالى سهمًا من الزكاة لتحرير العبيد، مضافًا إلى الحضّ على تحريرهم بوسائل أخرى، والوعد بالثواب الجزيل على ذلك.

 

ويروى أنّه في زمان عمر بن عبد العزيز، تراكمت الزكاة فلم يجد فقيرًا يصرف عليه منها، فأنفق ما عنده من الزكاة على تحرير العبيد.

 

"وَالْغَارِمِينَ": غارمون جمع غارم، وهو الشخص الذي كثُرت ديونه نتيجة حادثة ألمّت به، كما لو احترق بيت الإنسان فخسر مسكنه واضطرّ إلى الاقتراض وعجز عن السداد.

 

"وَفِي سَبِيلِ اللّهِ": سبيل الله مصطلح إسلاميٌّ ينطبق على كل ما يصدق عليه أنّه مصلحة عامّة، ينتفع بها الناس. وأمثلته كثيرةٌ منها بناء المساجد، وإنشاء الجسور والقناطر وغير ذلك. وهذا شيء آخر يختلف عن الفقر والصرف من الزكاة لاستئصاله.

 

" وَابْنِ السَّبِيلِ": ابن السبيل هو الشخص المسافر الذي فقد نفقته وانقطعت به السبل وعجز عن الرجوع إلى بلده.

 

"فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ": تبيّن هذه الآية أنّ جميع هذه الأحكام شرّعها الله بالاستناد إلى حكمته وعلمه بحاجات الإنسان وما يؤمّن مصلحته. والفريضة هي الأمر الواجب والثابت، ووجه الوجوب والثبات هو الحاجة الدائمة إلى تشريع هذا الحكم، ولأنّ الله يعلم مصلحة العباد كما قلنا ويعلم أنّ هذه الحاجات سوف تبقى في جميع المجتمعات، فلأجل علمه وحكمته شرّع لهم ما يرفع حاجاتهم ويحلّ مشكلاتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

 

 

394

 


344

تفسير سورة براءة

البحث الروائيّ

وردت بعض الأخبار اللافتة من حيث معناها ومضامينها في هذا المجال. ومن ذلك الرواية الآتية: "عن أبي عبد الله عز وجل قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: أيّما مؤمن أو مسلم[1] مات وترك دينًا ولم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيَه؛ فإن لم يقضِه فعليه إثمُ ذلك. إنّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية فهو من الغارمين وله سهمٌ عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه"[2].

 

في هذه الرواية نقاط عدّة تستحقّ التوقّف عندها والبحث فيها. لغة الأخبار والروايات لغةٌ قرآنيّة، وكلّ كلمة فيها يفترض أن تكون محسوبة بدقّة؛ لأنّها صادرة عن المعصومين عليهم السلام. ولو أنّنا بذلنا مزيدًا من الدقّة والعناية بهذه الكلمات ووقفنا عند كلّ كلمة بمقدار ما تستحقّ، لانكشفت لنا الكثير من أسرار كلمات الأئمّة ومرامي أقوالهم؛ ولكن مع الأسف لم تُبذل العناية الكافية في هذا المجال حتّى الآن.

 

النقطة الأولى التي تتضمّنها الرواية أنّ الدين الذي يعترف به الإسلام ويجعل صاحبه من مستحقّي الزكاة هو الدين الذي لا يكون ناجمًا عن الإسراف. والإسراف في منظومة القيم الإسلاميّة لا اعتبار له ولا يُقرّ. فإذا اقترض الإنسان بهدف الإنفاق الخارج عن الحدّ المعقول (الإسراف) لا يعترف الإسلام له باستحقاق النفقة من بيت المال لتسديد مثل هذا الدين، حتّى لو تاب عمّا أسرف فيه. وما سوى ذلك يعترف الإسلام لصاحبه بالاستحقاق والأهليّة للاستفادة من خدمات بيت المال. هذه زاوية من نظرة الإسلام إلى المسائل الماليّة من جهة الاستهلاك والإنفاق.

 

ما يحظى بالاهتمام في الاقتصاد المعاصر، ويكثر النقاش فيه هو الإنتاج


 


[1] عندما يرد مصطلح "مؤمن" في الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام إلى جانب مصطلح "مسلم"، يكون المقصود من المصطلح الأوّل الإمامي الاثني عشريّ. (منه دام ظلّه).

[2] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 228.

 

395


345

تفسير سورة براءة

والكسب وتحصيل الثروة، وقلّما يُهتمّ بالاقتصاد من زاوية الإنفاق والصرف. مثلا يُطرح السؤال الآتي في الاقتصاد المعاصر: هل الدولة هي من يجب أن يملك وسائل الإنتاج أم الشعب؟ أمّا الأسئلة التي تتعلّق بالإنفاق فقلّما تنال حظّها من العناية والاهتمام، مثلًا قلّما نجد أحدًا يسأل: إذا اكتسب الإنسان مالًا من طريق مشروع وقانونيّ هل يحقّ له إنفاقه بالطريقة التي يريد؟ هل يحقّ للعامل الروسيّ أو الصينيّ الذي يتقاضى راتبه من الدولة في المجتمعات الاشتراكيّة وحيث تملك الدولة وسائل الإنتاج، هل يحقّ له أن ينفق راتبه على شرب الخمر مثلًا؟ مثل هذه الأسئلة لا تبدو مهمّة في الاقتصاد المعاصر. أمّا الإسلام فكما اهتمّ بالإنتاج اهتمّ كذلك بالإنفاق وأولاه عنايته وشرّع له أحكامًا.

 

فبحسب الشريعة الإسلاميّة حتّى لو اكتسب الإنسان مالًا من طريق مشروع، فإنّه لا يحقّ له إنفاقه من دون قيود أو ضوابط، وهذا مع الأسف من الأخطاء الكبرى التي يقع فيها بعض أهلنا وناسنا. فإذا سُئل أحدهم: لماذا أنفقت أموالك بهذه الطريقة؟ ولماذا اشتريت هذا الشيء الفخم؟ لا يحقّ لهذا الشخص أن يدافع عن نفسه بأن يقول: هذا مالي، ومن حقّي أن أصرفه بالطريقة التي أريد ولا يحقّ لأحد الاعتراض عليّ أو مساءلتي! في منطق الإسلام الإسراف ممنوعٌ: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾[1].

 

وثمّة حديث لافتٌ في مجال الإسراف يقول: "المال مال الله"[2]. ومفاد هذا الحديث أنّ الدنيا وما فيها من أموال وغيرها هي لله تعالى، وهي مجرّد أمانة بين أيدينا علينا أن نتصرّف فيها وفق إرادة صاحبها من دون إسراف أو تبذير. ويكمل الإمام عليه السلام بناءً على المبدأ الأساس وهو ملكيّة الله، وكون المال وديعة في يد الإنسان، ويبيّن أنّ من حقّ الإنسان أن يستفيد من الدنيا، ولكن بقصد ومن دون إسراف لا في المأكل ولا في الملبس وفي المركب. وخلاصة


 


[1] سورة الأعراف: الآية 31.

[2] بحار الأنوار، ج 2، ص 305.

 

396


346

تفسير سورة براءة

القول: إذا ابتُلي الإنسان بالاقتراض نتيجة إسرافه، لا تعترف له الشريعة بالاستحقاق لخدمات بيت المال والأخذ من الزكاة لتسديد قرض إسرافيّ.

 

النقطة الأخرى في الرواية التي تستحقّ التوقّف عندها هي مصطلح "الإمام" الوارد في الخبر. الإمام في المعجم القرآنيّ والحديثيّ هو: الحاكم، والأمير، والقائد السياسيّ والاجتماعيّ، وهو الشخص الذي يقف في أعلى الهرم في المجتمع وبيده الأمر والنهي، سواء كان نظام الحكم إسلاميًّا أم غير إسلاميٍّ. ومن هنا تضاف هذه الكلمة إلى كلمات أخرى مثل: عدل، وظلم، كفر... فيقال مثلاً: "أئمّة الظلم والجور"، و"أئمّة الكفر"، وتوصف هذه الكلمة كذلك بالكفر والعدل والظلم والجور وغير ذلك. وقد ورد في بعض الأخبار: "لأعذّبنّ كلّ رعيّة أطاعت إمامًا جائرًا"[1]. كما وردت كلمة "إمام" في بعض الأخبار والروايات للدلالة على الإمام الفكريّ.

 

والمعنى المقصود في هذه الرواية -بقرينة قوله عز وجلّ -"فعليه إثم ذلك" الحاكم في المجتمع، ولا يُراد من كلمة إمام أحد الأئمّة الاثني عشر.

 

وفي رواية أخرى أنّ زرارة ومحمد بن مسلم قالا للإمام الصادق عليه السلام: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ": أكلّ هؤلاء يُعطى وإن كان لا يعرف (أيّ لا يعرف الإمام)؟ فقال: "إنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعاً لأنّهم يقرّون له بالطاعة". قال: قلتُ: فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال: "يا زرارة لو كان يعطي من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، وإنّما يعطي من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأمّا اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلّا من يعرف. فمن وجدتَ من هؤلاء المسلمين عارفًا فأعطه دون الناس..". قال: قلت: فإن لم تسعهم (أي الفقراء) الصدقات؟ فقال: "إنّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم، إنّهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله، ولكن أوتوا من منع من منعهم حقّهم، لا ممّا فرض الله لهم ولو أنّ الناس أدَّوا


 


[1] الكافي، ج 1، ص 376.

 

397


347

تفسير سورة براءة

حقوقَهم لكانوا عايشين بخير"[1].

 

وهذا من عجيب الكلام وأوضحه دلالة، وخاصّة الجملة الأخيرة التي يقرّر فيها الإمام أنّ إيتاء الناس الزكاة سوف يؤدّي إلى أن يعيش الناس بخير.

 

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فما جاع فقير إلّا بما مُتِّع به غنيّ"[2]. ومن المؤسف أنّك عندما تقرأ هذه الحِكَم يأتيك أحدهم ويقول لك: إنّ نهج البلاغة لا سند له! وهذا من البلايا أنّ بعضهم ليس مستعدًّا ليتعامل مع نهج البلاغة وما فيه كرواية، وأيّ روايةٍ هي الرواية والخبر الذي يرويه الشريف الرضيّ؟!


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 228-229؛ نقلًا عن الكافي، ج 3، ص 496.

[2] الكافي، ج 2، ص 412؛ نهج البلاغة، الحكمة 328.

 

 

398


348

تفسير سورة براءة

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ

وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾

 

400


349

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

في هذه الآية يكشف الله تعالى عن سمة جديدة من سمات المنافقين وعلامة من العلامات الدالّة عليهم، وهي شكلٌ آخر من أشكال إزعاجهم النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وإيذائهم إيّاه. وهذه الخصلة من الخصال الدائمة للمنافقين على مرّ العصور، وليست خاصة بمنافقي صدر الإسلام على الرغم من أنّ هذه الآية نزلت فيهم.

 

مؤذو النبيّ من المنافقين

"وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ": تبيّن هذه الآية شكلًا من أشكال الإيذاء الذي كان يصدر عن المنافقين بحقّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنّهم كانوا يتّهمونه بأنّه "أذنٌ"، أيّ يصدّق كلّ ما يسمع ويُقال له. وبعبارة أخرى: يمكن لأيٍّ كان أن يخدعه ويجعله يقبل ما يلقي إليه من الأفكار ويضع بين يديه من الاقتراحات.

 

شأن النزول

وردت أخبارٌ عدّة في سبب نزول هذه الآية من طرق الإماميّة كما في كتب الحديث عند أهل السنّة. ومن ذلك أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم أنّ أحد المنافقين نمّ عليه، فعاتبه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فأنكر وأقسم أنّه لم يقل شيئًا ولم يذكره بسوء، فقبل منه النبيّ إنكاره وسكت عنه. وعاد هذا المنافق إلى جماعته وأخبرهم بما دار بينه وبين النبيّ من حديث، واتّهم النبيّ بأنّه

 

401

 


350

تفسير سورة براءة

أذنٌ، كناية منه عن قبوله كلّ ما يُقال له، وتعبيرًا عن إمكان خداعه!

 

أدب الاستماع إلى الناس عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

لا تكشف الآية بوضوح وصراحة عن سبب النزول؛ ولكن يبدو أنّ عددًا من الناس كانوا يحسبون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سريع التصديق يسهل إقناعه بما يُلقى إليه من كلام. ويبدو أنّ السبب الذي يستند إليه هؤلاء في تقويمهم لسلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو أدبٌ من آداب المعاشرة عنده، وذلك أنّه كان يحسن الاستماع إلى ما يُقال في مجلسه، وإذا لم يقبل شيئًا ولم يصدّق لا يصرّح بتكذيبه القائلَ، ولا يحرجه بالتعبير عن عدم التصديق. ولهذا السلوك النبويّ سرٌّ وحكمة.

 

عندما يعتمد قائد المجتمع البشاسة ويظهر البشر لعامّة الناس، ويصغي إليهم عندما يتحدّثون، حتّى لو كان في كلامهم بعض الانتقادات الموجّهة إليه، فإنّ شخصية هؤلاء تنمو وتتطوّر، ويسمح لهم ذلك بإبداء وجهات نظرهم والتعبير عمّا يدور في خلدهم من أفكار. والعكس صحيح أيضًا، فعندما يقطّب قائد الجماعة حاجبيه ولا يعتني بما يُقال في مجلسه، فإنّ ذلك سوف ينعكس على أفراد الجماعة إحساسًا بالحقارة والضعة، وسوف تضعف ثقة الأشخاص بأنفسهم ولا يجرؤ أحدهم على التعبير عما في نفسه.

 

ولم يكن يميّز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه هذا بين مسلم وآخر؛ بل بين المؤمنين والمنافقين. وكان يعتمد هذا السلوك وهذا الأسلوب في تعامله مع الجميع. وكان يظهر البشر وحسن الاستماع للجميع. وإذا كان هذا الخبر خبرًا عن شخصٍ ما كان يستمع؛ ولكن لم يكن ليطبّق الآثار على ما يسمع إلا إذا ثبت الخبر الذي انتهى إليه. ويُفهم هذا السلوك المنسوب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الآية، كما تكشف سيرته أيضًا عن ذلك.

 

وفي مقابل هذا السلوك الحكيم ثمّة قادةٌ ورؤساء جماعات يسمعون ما

 

402

 


351

تفسير سورة براءة

يُقال ويتسرّعون في ترتيب الآثار على ما يسمعون ويبنون مواقفهم اللاحقة على الأخبار التي تصلهم من هنا وهناك. وهذا عيب كبير من عيوب القادة والرؤساء.

 

وعلى أيّ حال، كان المنافقون يعيبون على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا السلوك ويعيّرونه به في مجالسهم ومنتدياتهم، ويتّهمونه بأنّه من هذا الصنف المشار إليه من القادة. وهذا ما يفيده تعبيرهم بطريقة الكناية والمبالغة ووصفهم إيّاه بأنّه أذنٌ. وهو سوء فهمٍ وتحوير لأدب النبيّ في معاشرته الناس وتعامله معهم. وكانوا يفسّرون سكوته على ما يسمع وحياءه من تكذيب القائل بأنّه سرعة تصديق.

 

ولم تنفِ الآية بأسلوبٍ مباشرٍ؛ بل اعتمد سبحانه أسلوبًا غير مباشرٍ في الدفاع عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم. وكأنّ الآية تقول نعم هو أذنٌ وحَسَنُ الاستماع؛ لكنّه أذن خيرٍ. وبعبارةٍ أخرى: الآية تقول إنّه يستمع إليكم ولكنّه يستمع من أجل مصلحتكم، والغاية التي تترتّب على حسن استماعه فيها خيركم وصلاح أمركم.

 

وفي تحليل عبارة "أذن خير" وجهتا نظر، إحداهما تقول هي من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والثانية تقول هي من باب الإضافة الحقيقيّة على معنى اللام، ويكون المعنى هو أذنٌ لخيركم، وليست أذنُ النبيّ وحسن استماعه من أجل ضرركم وعلى خلاف مصلحتكم.

 

وبعبارة أخرى، تبيّن هذه الآية أنّ حسن الاستماع المذموم هو الاستماع من الشخص الذي يصدّق كل ما يُقال له ويرتّب الآثار عليه ويبني مواقفه على أيّ كلام يسمعه من دون تثبّتٍ أو تدقيق.

 

ويضيف بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحسن الاستماع إلى الوحي الإلهيّ وهذا في مصلحة الناس. وكذلك يحسن الاستماع إلى آحاد المسلمين وفي هذا أيضًا خير الناس؛ لأنّ ذلك يخفّف عنهم ضغوط الحياة

 

 

403

 


352

تفسير سورة براءة

عندما يجدون شخصًا كالنبيّ مستعدًّا للاستماع إليهم ويشجّعهم على التعبير عمّا يدور في أذهانهم من أفكار، وفي ذلك أعلى درجات الاحترام لهم.

 

وجوب احترام عامّة الشعب

أهم الأسس التي يقوم عليها الاجتماع الإنسانيّ أن يحظى أعضاء هذا المجتمع بالاحترام، وأن لا يشعروا بالإهانة، وأن يشعروا باعتبار شخصيّاتهم في المسائل العامّة التي تعني المجتمع الذي يحيون فيه. وأن يؤخذ برأيهم في الأمور التي تعنيهم وترتبط بمعاشهم. وإعمال هذا المبدأ والالتزام به يؤدّي إلى تطوّر شخصيّتهم وتعاليهم المعنويّ.

 

ونلاحظ في جميع النظم السياسية والاجتماعية التي تسير في الاتّجاه المعارض لمصلحة الشعب، نلاحظ أنّ الحكّام يديرون الأذن الصمّاء لشعوبهم. وإذا رفع الناس صوتهم وصادف أن سمعه هؤلاء الحكّام فإنّهم يتجاهلون صوت الناس ويسخّفون أفكارهم ولا يعملون بها.

 

وممّا يؤسى له أنّ المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم سار في هذا الاتّجاه المنحرف، ووصل الأمر إلى حدّ أن يقول عبد الملك بن مروان وهو يتسنّم منصب الخلافة في الدولة الإسلاميّة: "والله لا يأمرني أحدٌ بعد مقامي هذا بتقوى الله إلّا ضربتُ عنقه"[1]. ولم يكن هذا الحاكم استثناءً في المجتمعات الإسلامية؛ بل تحوّل هذا السلوك إلى نهج ما زال يعتمد إلى عصرنا هذا عند كثير من الحكّام الذين يتسلّطون على المجتمعات الإسلاميّة[2]. وقد كان النهج النبويّ مختلفًا عن هذا النهج، بل على عكسه تمامًا، ما سمح للأمّة بالتعالي والرقيّ المعنويّ.

 

جملة "أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ" جوابٌ إجماليٌّ تفصّله الآية لاحقًا في قوله تعالى:


 


[1] الكامل في التاريخ، ج 4، ص 391.

[2] نلفت النظر إلى أنّ هذا الكلام صدر عنه دام ظلّه عام 1351 هـ.ش. وذلك في أوج الضغط السياسي لدولة الشاه وأقصى درجات استبداده.

 

 

404


353

تفسير سورة براءة

"يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ"، وحاصل المعنى المستفاد من هذه الآية أنّ ما تذمّونه وتنكرونه على رسولنا ليس شيئًا سوى الإيمان باللّه والإيمان للمؤمنين أو بهم.

 

"يُؤْمِنُ بِاللّهِ": تبيّن هذه العبارة الخلفية العقدية التي ينطلق منها النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في حركته، وتخبرنا أنّ هذا النبيّ صاحب مدرسةٍ فكريّةٍ تنطلق من الإيمان والاعتقاد باللّه تعالى. وإذا لم يؤمن صاحب الدعوة بما يقول فلا يترك قوله أيّ أثرٍ في نفوس الناس، وهو كمن يبني قصورًا من الرمل، أمّا إذا كان يؤمن بما يقول فإنّه ينطلق من قاعدة محكمة وثابتة. ونقطة القوّة الأساس في حركة النبيّ ودعوته هي إيمانه بما يقول ويدعو الناس إليه، سواء كان ذلك على صعيد العقيدة والإيمان باللّه والملائكة والوحي والجنّة والناس وغيرها، أم على مستوى التشريع والتعاليم المرتبطة بالسلوك. وقد أخبر الله تعالى عن إيمان النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في عددٍ من الآيات كقوله عزّ وجلّ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾[1].

 

كلّ المشكلات الاجتماعيّة التي عانت منها المجتمعات الإسلاميّة عبر التاريخ تكمن أسبابها في الحكّام وطبقة النخبة السياسيّة المتسلّطة على الأمّة. فهؤلاء لم يستطيعوا إقناع الناس بأفكارهم وآرائهم، أو أنّ الناس لم يكونوا يتصدّقون الشعارات البرّاقة التي كانوا يرفعونها ويتغنّون بها. والسبب هو أنّ هذه الطبقة الاجتماعيّة كانت تعظ الآخرين ولا تتّعظ، ومن الطبيعي أن يترك كلامها أثرًا في نفوس الناس. ومن الواضح أنّ هذه السيرة تعاكس السيرة التي كان يسير عليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

مصداق آخر من مصاديق قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ﴾ هو أنّه إذا أخبر الله عن المنافقين بخبرٍ أو كشف من أسرارهم سرًّا فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسلّم بما أخبره الله ويؤمن بصدق إخباره. فيا أيّها المنافق، إذا أتيت إلى النبيّ وأقسمت بين يديه وغضّ النبيّ وأغضى عن تكذيبك فلا تظنّنّ أنّه شكّ في إخبار الله


 


[1] سورة البقرة: الآية 285.

 

405


354

تفسير سورة براءة

وصدّق يمينك. فرسول الله لا يمكن أن يشكّ في إخبار الله تعالى بسبب يمين كاذبة تتولّى كبرها.

 

"وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ": يرى بعض المفسّرين أنّ اللام في هذه العبارة بمعنى من أجل، فيكون المعنى يؤمن لمصلحة المؤمنين، والمراد من المؤمنين أعضاء المجتمع الإسلاميّ. وبعبارة أخرى، معنى هذه العبارة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يؤمن بكلّ ما فيه مصلحة المجتمع الإسلاميّ ونفعه، فإذا قيل له شيء فيه مصلحة لهذا المجتمع قبله وصدّقه.

 

ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أنّ فعل "آمن" يتعدّى عادة بالباء وليست باللام، فيُقال: "يؤمن باللّه وبالرسول وبالقرآن"، ولا يُقال: "يؤمن لله وللرسول..".. وعلى هذا، لا يكون المراد من الإيمان المرتبط بالمؤمنين الإيمان بهم، ولأجل هذا اختلف حرف الجرّ بين كلمتي الله والمؤمنين.

 

وعلى الرغم من قوّة هذا الكلام وإمكان الموافقة عليه من حيث المبدأ، ولكنّ دليله غير صحيحٍ. وذلك أنّ الفعل "آمن" يتعدّى بكلٍّ من اللام والباء، فيمكن أن نقول: يؤمن باللّه، ويؤمن لله، مع ملاحظة أنّ المعنى في حالة اللام لا يكون "لأجل المؤمنين ومصلحتهم"، كما يقول أصحاب الرأي المتقدّم. وقد وردت هذه الصيغة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فآمن له لوطٌ﴾[1]. وبناءً على هذا، لا ضرورة تقتضي تفسير اللام في هذه العبارة بمعنى لأجل أو لمصلحة المؤمنين.

 

فالمعنى الذي نرجّحه للآية هو معنى الإيمان بالمؤمنين والثقة بهم. وهذا دليل على علوّ شأن المؤمنين عند رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، وسوف نتوقّف عند هذه النقطة في البحث الاجتماعيّ حول الآية.

 

"وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ": النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بحسب هذه الآية بالنسبة للمؤمنين رحمةٌ. وربّما يكون الخطاب موجّهًا إلى المنافقين أيضًا؛ ليلفتهم إلى أنّ ترك


 


[1] سورة العنكبوت: الآية 26.

 

 

406


355

تفسير سورة براءة

 النفاق يدخلهم في جماعة المؤمنين فتنالهم الرحمة النبويّة، ويشملهم برأفته وعنايته.

 

ووصف النبيّ بالرحمة وهي مصدرٌ، بدل أن يُقال رحيم من باب المبالغة، وهذا معروف في اللغة العربيّة، يُقال مثلًا: زيدٌ عدلٌ، والمقصود عادلٌ. وقد ورد وصف النبيّ بهذه الطريقة في آية أخرى حيث يقول تعالى: ﴿وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين﴾[1]. فوجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رحمةٌ من الله للعالمين، ورحمةٌ للمؤمنين على وجه الخصوص أيضًا.

 

وعلى الرغم من أنّ جميع نِعمِ الله تعالى على الكائنات كلّها رحمةٌ، ولكنّ وجود النبيّصلى الله عليه وآله وسلم مع سائر النِّعم الإلهيّة مثل الهداية والسعادة وغيرها ممّا قارن وجوده المبارك هو من أعظم النِّعم الإلهيّة. وهو مع ذلك نقمة وسببٌ للعذاب بالنسبة إلى الكفّار والظالمين والمشركين: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[2].

 

"وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ": يتوعّد الله في هذه العبارة من الآية أولئك الذين يؤذون النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بما تلوكه ألسنتهم من أقوال يتوعّدهم بالعذاب الأليم. والعذاب ليس بالضرورة أن يكون عذابًا أخرويًّا، فربّ عذابٍ يصيب الإنسان في الحياة الدنيا. ولكنّ العذاب المتوعّد به في هذه الآية هو عذاب الآخرة، أو المصداق الأتم ّوالأكمل لعذاب الآخرة؛ وذلك لأنّنا نستبعد أن يكون في حسابات النبيّ الذي هو رحمةٌ للمؤمنين أن يعذّب المنافقين بمثل هذا العذاب الموصوف بأنّه أليم.

 

إيذاء المؤمنين من الذنوب التي تترتّب عليها عقوباتٌ، ولا يترتّب عليها مثل هذا العذاب الأليم؛ ولكن عندما يكون الإيذاء للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حيث هو قائد المجتمع والآخذ بيده في صراط الهداية، فالأمر مختلفٌ والجريمة لا


 


[1] سورة الأنبياء: الآية 107.

[2] سورة الفتح: الآية 29.

 

407


356

تفسير سورة براءة

شكّ أكبر. فالنبيّ الذي يُترك وشأنه يمكنه التفرّغ لهداية البشريّة وسوقها لما فيه سعادتها، أمّا عندما يتصدّى جماعة من الناس لإزعاجه في كلّ يوم بقضيّة ويؤذونه بإشاعاتهم وكلماتهم، فإنّه لن يستطيع أداء مهمّته بنفسٍ آمنةٍ، وسوف تخلق هذه الإزعاجات المتكرّرة عقباتٍ في طريقه تعيق مساره وتحول دون تحقيق أهدافه بالحدّ المبتغى.

 

وخلاصة القول في تفسير الآية أنّها تنفي تهمة سرعة التصديق عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وتمجّد سيرته وسلوكه في التعامل مع الأمّة، وتصف سلوكه هذا بأنّه خيرٌ للأمّة ويهدف إلى تحقيق صلاح المؤمنين، وفي الختام تتوعّد الآية المنافقين بالعذاب الأليم على ما يصدر عنهم في حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

تصديق المؤمن وردّ كلام الفاسق

يمكننا استخراج مبدإ أساسيّ في التعامل مع ما نسمع من كلام بواسطة المقارنة بين قوله تعالى: ﴿يؤمن للمؤمنين﴾، وقوله عز وجل في الآية المعروفة بآية النبأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾[1].

 

نزلت آية النبأ في شخص فاسقٍ اسمه الوليد أرسله النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لجمع الزكاة من بني المصطلق، وكان بينه وبينهم خصومة من زمن الجاهليّة، فادّعى عليهم أنّهم ارتدّوا ولا يريدون دفع الزكاة. فأُعِدّت العدّة لقتالهم وأخذ الزكاة منهم عنوةً. وعندها نزلت الآية تنهى عن تصديق الفاسق قبل التحقّق من أخباره. هذا خلاصة مفاد آية النبأ.

 

وحظيت آية النبأ بعناية علماء الأصول؛ حيث يستدلّون بها على حجيّة خبر الواحد. ومستندهم في إثبات الحجيّة من الآية مفهوم الشرط أو الوصف. وخلاصة وجه الاستدلال أنّهم يحدّدون مفاد الآية على النحو الآتي: إذا كان الآتي بالخبر فاسقًا يجب عليكم التبيّن والتثبّت من صحّة


 


[1] سورة الحجرات: الآية 6.

 

 

408


357

تفسير سورة براءة

خبره. هذا هو منطوق الآية، وتدلّ على حجيّة خبر الواحد العادل بالمفهوم، وذلك أنّ لازم المدلول المباشر للكلمة أنّه إذا لم يكن المخبر فاسقًا جاز الأخذ بخبره من دون تبيّن وتثبّت.

 

وثمّة تفاصيل كثيرة تُذكر في علم الأصول ترتبط بمفهوم الأمر الذي أفضى إلى الغفلة عن منطوقها ومدلولها المباشر[1].

 

والحال أنّ منطوقها المباشر يستحقّ المزيد من العناية والاهتمام. يريد الإسلام أن يؤسّس قاعدة عدم الثقة بكلام الفاسق. وفسقه هو العلّة لعدم قبول قوله، فهو بفسقه يعلن التمرّد على القيم الإسلاميّة.

 

وإذا بحثنا فسوف نكتشف كثيرًا من أسباب المعاصي والمخالفات في مجتمعنا. وعندما ندقّق سوف ينتفي الكثير من الكلام الذي ينتشر في أوساطنا المعاصرة، وسوف يتبيّن أنّ الكثير من الأحكام التي تُطلق هي أحكام مبنيّة على كلام من هذا الصنف. عندما نتتبّع كلامًا ونصل في نهاية السلسلة إلى مجهول سوف نكتشف أنّ هذا المجهول فاسقٌ، والآية تنهى عن تصديق الفاسق والأخذ بخبره. وعليه فإنّنا نرى أنّ كثيرًا من النقاشات الأصوليّة التي دارت حول الآية تقع خارج الدائرة الأساسيّة، وكان يجب التركيز على المدلول المباشر للآية وهو كلام الفاسق وحكمه. وقد وردت روايات وأخبار في هذا المجال أيضًا.

 

تريد الآية أن تبيّن أنّ الفاسق الذي يُعرف بالتديّن ولا يستقرّ عليه، مثل هذا الشخص لا يستحقّ الاحترام في المجتمع الإسلاميّ بتصديق قوله والبناء عليه. ولا قيمة لكلامه ولا اعتبار، وإذا قال شيئًا ينبغي التثبّت والتوثّق من كلامه قبل البناء عليه والعمل بمضمونه.

 

وعكس هذا المبدأ نجده في عبارة: "يؤمن للمؤمنين" التي وردت في


 


[1] المدلول المباشر للكلام يُسمّى في علم أصول الفقه بالمنطوق. والمدلول غير المباشر يُسمى بالمفهوم. ويُقسم المدلول غير المباشر أو المفهوم إلى مفهوم موافق ومفهوم مخالف. ومن مصاديق المفهوم المخالف: مفهوم الشرط، والوصف، واللقب، والغاية، والحصر.

 

409


358

تفسير سورة براءة

الآية محلّ البحث. تقرّر هذه العبارة عكس المبدأ السابق، وهي تكشف عن مبدأ معاكس، هو مبدأ الثقة بكلام المؤمنين وهالة الاعتبار التي ينبغي أن يحاط بها كلامهم.

والصياغة العامّة لهذا المبدأ -الذي يُستفاد من الآية- أنّ الإيمان في المجتمع الإسلاميّ موجب لنيل الإنسان الاعتبار والحيثيّة المعنويّة التي تسمح بقبول خبره. والعكس صحيحٌ، فانعدام الإيمان يسقط الإنسان ويحرمه من هذه المرتبة الاعتباريّة. فمن يستحقّ الاحترام والثقة هو المؤمن.

 

وقد روى محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: قلت له: "جعلت فداك الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأساله عن ذلك فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال لي: يا محمد كذِّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولًا فصدّقه وكذّبهم لا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته".[308]

ومهمّتنا نحن علماء الدين أكثر حساسيّة، وموقعنا يفرض علينا ممارسة درجة أعلى من الدقّة بالقياس إلى غيرنا تجاه الأخبار التي ترد إلينا من أشخاص فاسقين، علينا التدقيق في هذه الأخبار وعدم التسرّع في الأخذ بها.

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴿62﴾ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾

تناسب الآيات

تقع هاتان الآيتان أيضًا في سياق الحديث عن علامات النفاق والمنافقين. وقد بيَّنَّا أكثر من مرّة أنّ هذه العلامات يمكن تعميمها لجميع المنافقين في كلّ عصر وزمانٍ، فالنفاق ظاهرة موجودة في جميع العصور والأزمنة، وعلامات النفاق مشتركة بين الجميع.

سبب النزول

ورد في سبب نزول الآية أنّ أحد المنافقين ذكر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بسوء في غيابه فدافع عنه أحد المسلمين وردّ على المنافق، فبلغ ذلك الخبر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وساءله فشرع يحلف بالله ما قال ولا صدر عنه ما يُنسب إليه، فقال المسلم المدافع: "اللهمّ صدِّق الصادق وكذِّب الكاذب". فنزلت الآيتان استجابة لدعائه.

هذا ولكنّ لسان الآيتين لا ينسجم مع الخبر المشار إليه أعلاه عن سبب النزول؛ لأنّ الآية الأولى تدلّ على أنّ المنافقين يحلفون باللّه لإرضاء المسلمين، بينما الحلف بحسب سبب النزول المذكور أعلاه ينبغي أن يكون الهدف منه إرضاء النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لأنّ القصّة المذكورة تبيّن أنّ المنافق حلف ليصدّقه.

ويمكن اكتشاف شأن النزول من الآية نفسها، حتّى لو لم يرد أيّ خبرٍ يكشف عن سبب النزول. ومضافًا إلى هذه الملاحظة فقد ورد في بعض كتب التفسير القديمة ما يؤيّد وجهة نظرنا في السبب المذكور أعلاه. وهو ما يرويه الطبرسيّ -رحمه الله- عن مقاتِل[309] والكلبي.[310]

وحاصل القصّة أنّ الآيتين نزلتا في معركة تبوك وما يرتبط بها من أحداث. فهذه المعركة كانت من المعارك والغزوات الصعبة في التاريخ الإسلاميّ المبكر بالنظر إلى مجموعة أمور منها: بعد المسافة عن المدينة، ووقوعها في فصل الحرّ، وفصل الحصاد وجني التمر. فاستثقل عددٌ من أهل المدينة ترك البلاد والمحاصيل والخروج من الظلّ إلى الحرور ومكابدة عناء السفر. ونتيجة هذه الذرائع استأذن عددٌ من غير المؤمنين أو من لم يكتمل إيمانهم النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في التخلّف عن القتال والبقاء في المدينة، فأذن لبعضهم.

 

 

410


359

تفسير سورة براءة

ومن جهة أخرى، عقد المنافقون الأمل على عودة النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم مهزومًا من الحرب، أو على الأقلّ منهكًا؛ بحيث لا يقدر على محاسبة هؤلاء المتخلّفين عن ركبه.

 

ولكن آل الأمر إلى غير ما توقّع المنافقون وعاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منتصرًا. فعندما رأى الروم عدد المسلمين مع النبيّصلى الله عليه وآله وسلم الذي بلغ ثلاثين ألف مقاتلٍ، ولما كانوا قد خبروا شجاعة المسلمين وبأسهم في معركة مؤتة، فضّلوا الفرار على تكرار التجربة. فاستعرض المسلمون قوّتهم وأقاموا الأحلاف مع القبائل التي كانت تسكن في أطراف الحجاز وعادوا فاتحين منتصرين.

 

وبعد عودة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجيشه إلى المدينة مسبوقين بأخبار النصر والظفر، بدأ الندم والعضّ على الأصابع عند المنافقين، وأدركوا خطأ حساباتهم عندما فضّلوا التخلّف خوفًا من القتل والجرح، وندموا على أنّهم لو شاركوا لعادوا سالمين غانمين كما عاد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وجيشه.

 

هذا هو طبع المنافق. فالمنافقون عندما يُعرض عليهم تحمّل المسؤولية والقيام بأعباء شيء يحاولون الفرار والتملّص، ولكن عندما تبيّن لهم أنّ الذين أقدموا فاقت أرباحهم خسائرهم شعروا بالندم، وفهموا حجم الخسارة وخطأ الحسابات.

 

وثمّة مسألة أخرى كانت تقضّ مضاجع المنافقين في ذلك الزمان،

 

 

412

 


360

تفسير سورة براءة

وهي أنّ تخلّفهم عن القتال أفضى إلى صعوبة عيشهم في المجتمع الإسلاميّ المنتصر بقيادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك أنّ منظومة القيم في ذلك المجتمع كانت تقضي بأنّ العزّة والشرف يُكتسبان من الاستعداد لتحمّل المسؤولية في مجتمع يرأسه قائد إلهيٌّ كرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم ومن الطبيعي أن تضيق الدنيا على ضعاف النفوس في مثل هذا المجتمع. فمن ليس عنده الاستعداد الكافي لتحمّل المسؤولية سوف يشعر بالمهانة والغربة عن هذا الفضاء الاجتماعيّ. وعليّة القوم ونخبته في بيئة اجتماعيّة كهذه هم الأكثر استعدادًا لتحمّل المسؤوليّة والأكثر استعدادًا للتضحية والبذل.

 

أمّا ضعاف النفوس الذين يخلون عواتقهم من الأعباء ويفرّون من تحمل المسؤوليّة، فسوف تضيق عليهم سبل العيش في هذا المجتمع. وإذا استطاعوا البقاء ومتابعة الحياة فمن الطبيعيّ أن يكونوا على هامش المجتمع وأن يُنظر إليهم على أنّهم غرباء عن البيئة الاجتماعيّة ودخلاء عليها. ومن هنا، بدأ المنافقون، باجتراح الحلول للعودة إلى متن المجتمع لمتابعة حياتهم فيه، فبدأوا يختلقون الأعذار والحجج لتبرير تخلّفهم عن القتال والوسيلة التي استندوا إليها هي الحلف والأيمان المغلّظة.

 

بلى، بعد أن عاد المسلمون متوّجين بالنصر والظفر، شعر ضعاف النفوس هؤلاء بأنّهم موجودات هامشيّة وطفيليّة بين الأعزّاء الذين أقدموا وأعلنوا الاستعداد للتضحية والفداء. وكان لا بدّ لإرضاء أهل العزّة والشرف من إقناعهم بأنّهم منهم، وأنّهم كانوا شركاء للمقاتلين في سفرهم وحلّهم وترحالهم ولو بالدعاء لهم بالنصر.

 

وكلّ المجتمعات البشرية تعاني من هذه المشكلة وهي انقسامها إلى طائفتين، إحداهما طائفة مسؤولة مستعدّة للتضحية ولتحمّل الأعباء، وطائفة أخرى تتهرّب من المسؤولية وتحمّل الأعباء. والآية الشريفة تبيّن حال الطائفة الثانية، وتشير إلى نشاطهم الذي يمارسونه لتبرير فرارهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، وتقول لهم:

 

 

413


361

تفسير سورة براءة

الأولى والأجدر بكم السعي في مرضاة الله ورسوله بأدائكم واجباتكم بدل الفرار منها، والسعي لتلميع صوركم عند أهل الطائفة الأولى بعد تخاذلكم. فإنّكم حتّى لو نجحتم في إقناع المؤمنين واستعادة اعتباركم فإنّ ذلك لن ينفعكم في شيء.

 

السعي لإصلاح الخطأ بخطأ آخر

ثمّة تلازمٌ بين هذه الصفة من صفات المنافقين وصفة أخرى وهي أنّهم في سعيهم لإصلاح خطأهم وتبريره يقعون في خطأ آخر. فالتخلّف عن الجهاد والمشاركة فيه خطيئة كبيرة، فبدل الندم والسعي لإصلاح ما سلف بالعزم على المشاركة واستئناف العمل في المرّات القادمة، وبدل وضع أنفسهم في خدمة الله ورسوله، بدل ذلك كلّه نجد أنّهم يصلحون أخطاءهم بالإقدام على الأيمان الكاذبة، لإصلاح ما فسد من أمرهم بفساد جديد يفضي إلى تأصّل سمة النفاق في نفوسهم.

 

ولو أنّهم كانوا يملكون شجاعة الاعتراف بأن يأتوا إلى النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ويعترفوا بأنّهم تخلّفوا خوفًا من الموت أو الجرح، أو خوفًا على محاصيلهم الزراعيّة، أو استثقالاً للسفر في فصل الصيف وحرّه، لكان ذلك أفضل لهم وأجدى.

 

ولكنّ المنافق يخشى من الاعتراف بدخيلة نفسه؛ بل يسعى دائمًا إلى إخفاء دوافعه الحقيقيّة، وأحد سبل هذا الإخفاء الاستفادة من المقدّسات الإسلاميّة للحلف بها واستخدامها وسيلة لتبرير تخلّفهم. وبهذا يحاولون إصلاح الخطأ بارتكاب خطأ آخر.

 

سعي المنافقين لإرضاء الناس بدل إرضاء الله

والمأخذ الآخر على المنافقين أنّهم بدل التوبة والاعتذار من الله ورسوله على ما اقترفوا من تخلّفٍ عن الجهاد والامتثال لأوامر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم حاولوا

 

 

414


362

تفسير سورة براءة

استمالة المسلمين ونيل رضاهم، فما الذي يدعوهم إلى اعتماد هذا الأسلوب الخاطئ؟ السبب الأوّل هو أنّهم لا يؤمنون باللّه تعالى، وهذا ما تشير إليه الآية حيث يقول تعالى: ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾. يقول الله عز وجل لهم في هذه الآية لو أنّكم تتحلّون بحقيقة الإيمان، ولو لم تكونوا منافقين كان الأجدر بكم بدل القسم باللّه عز وجل أن تسعوا في رضاه ولا تستعيضوا عن رضاه برضا غيره حتّى بالمؤمنين من عباده.

 

نعم هذا الاستبدال سببه عدم الإيمان، ولو كانوا مؤمنين لتابوا إلى الله ورسوله وربّما أدخلهم الله في تجربة جديدة فأطاعوا وعادوا إلى الانتماء إلى جماعة المؤمنين؛ ولكنّم لم يفعلوا ذلك خوفًا من التكليف الجديد، وخشية من الدخول في تجربة مسؤوليّة جديدة. ومشكلتهم الأساس هي الرغبة في الفرار من تحمّل المسؤوليّة فكيف يمكن أن يقدموا على تصرّف فيه احتمال التكليف بعبء جديد؟! فكان الحلّ عندهم هو الذهاب إلى من لا يستطيع تكليفهم بأعباء جديدة.

 

هذا محصّل ما يمكن استفادته في سبب نزول الآية ويمكن الوصول إليه بالتحليل، حتّى لو لم يرد في رواية. يعلم من الآية أنّ المنافقين كانوا يسعون في طلب رضا المسلمين لاستعادة إحساسهم بالانتماء إلى الجماعة، ويحلفون باللّه على الأعذار التي يختلقونها، وكان المطلوب منهم أن ييمّموا شطر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ويتوبوا بين يديه. فنزلت الآية تذمّ حساباتهم الخاطئة ومعالجاتهم الفاشلة، وتدعوهم إلى إعادة النظر في سلوكهم، وتندبهم إلى تنظيم أولويّاتهم في من ينبغي السعي في رضاه.

 

النقطة الأولى الجديرة بالتأمّل والنظر في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾، هي أنّ ضمير الغائب في "يرضُوه" حقّه التثنية وفق قواعد اللغة العربيّة بأن يُقال: "يرضوهما". وهنا سؤالان، هما: لماذا أفرد الضمير ولم يُثنَّ؟ من هو مرجع الضمير؟ هل هو الله تعالى؟ أم النبيّ؟

 

في الجواب عن السؤال الأوّل يبرّر بعض المفسّرين بأنّه عندما يكون

 

 

415

 


363

تفسير سورة براءة

الشخصان المراد رضاهما مختلفين في ما يرضيهما لا بدّ من التثنية وفعل ما يرضي كلّ طرفٍ على حدة، وعندما يكون ما يرضي أحد الطرفين هو عين ما يرضي الطرف الآخر فلا داعي للتثنية ولا ضرورة له، فيكفي إرضاء طرفٍ ليرضى الطرف الآخر تلقائيًّا. ولما كان رضا الله والرسول يتحقّقان بفعل واحدٍ فلا شيء أفضل للتعبير عن هذه الوحدة من إفراد الضمير. ولو قال الله تعالى: أن يرضوهما لما فُهم منه الوحدة. نعم يمكن الإشارة إلى الوحدة بعبارة إضافيّة كأن يُقال "ورضاهما واحدٌ" ولكنّ الأسلوب القرآني في التعبير يقتضي البيان بأفصح الأساليب وأكثرها لطافة ودقّةً. ويبدو أنّ أهل اللغة العربيّة خاصّة في ذلك الزمان كانوا يلتفتون إلى هذه الدقائق فيكتشفون أنّ ما يرضي الله هو عين ما يرضي الرسول من هذا التعبير الموجز.

 

والنقطة الثانية التي تستحقّ التوضيح أيضًا هي البحث عن مرجع الضمير. وهل هو الله أو الرسول؟ أو كلاهما؟ وكل من الاحتمالات الثلاثة له مغزاه وفيه لطافة تعبيرية خاصّة.

 

إذا كان مرجع الضمير هو الله تعالى يكون المعنى بين الله ورسوله، الله تعالى هو الأولى بالسعي لنيل رضاه. وبالتالي تكون الآية بصدد بيان أنّ المعيار الأساس هو رضا الله تعالى. ولطافة هذا الأسلوب من التعبير تكمن في أدب التوحيد، وتلفت النظر إلى أنّه إذا أردتم الفوز برضا أحدٍ فعليكم التفكير في رضا الله تعالى أوّلاً وقبل رضا أيّ كان. وقد ورد ما يقرب من هذا المعنى في حديث أنّ أحد الأشخاص قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: سأفعل ما يرضيك ويرضي الله. فنهاه عن جعله في صفّ الله عز وجل وذكر رضاه إلى جانب رضا الله[1]. فعلى الرغم من كون رسول الله أشرف الكائنات وأعلاها مقامًا، فإنّه في الوقت عينه عبد الله المطيع. وهو مخلوق لله عز وجل فقد لا يكون من الأدب أن يُذكر رضاه إلى جانب رضا الله. إذًا بناءً على عود الضمير على الله عز وجل


 


[1] انظر: بحار الأنوار، ج 24، ص 392. (مع شيء من الاختلاف)

 

416


364

تفسير سورة براءة

 يكون المعنى أنّ الأساس هو رضا الله ورضا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تابعٌ لرضاه عزّ وجلّ.

 

وفي هذا التعبير درسٌ لنا نحن المسلمين في جميع مراحل التاريخ وفي جميع مسائل حياتنا، علينا أن نسعى لنيل رضا الله عزّ وجلّ أوّلًا وآخرًا، ويجب أن يكون رضاه سبحانه المقصد والغاية، كما ينبغي أن يكون السبب والواسطة. ولا ينبغي أن نقدّم رضا أحدٍ من الناس حتّى رضا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم على رضا الله، وإن كان واقع الحال أنّ ما يرضي الله يرضي نبيَّه ضمنًا. وهذا الأدب هو أدب أولياء الله الذين يدعون إلى تقديم رضا الربّ على رضا المربوب كائنًا من كان.

 

وإذا كان مرجع الضمير هو الله تعالى، فالمعنى صحيحٌ أيضًا. وفي هذا الاحتمال أيضًا نكتةٌ كامنةٌ تستحقّ البيان والتوضيح. وقد بيّنّا هذه النقطة في تفسيرنا لأوّل سورة الأنفال، وهناك قلنا يجب السعي لنيل رضا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه النقطة هي أنّه عندما يُقال عليك أن ترضي الله تعالى، فهذا الأمر فيه شيء من الغموض، فلرضا الله درجات متفاوتة ومختلفة، وبالتالي يكون المعنى متشابهًا. وجميع الفرق والتيّارات رفعت شعار رضا الله والسير في سبيل الله. وفي عصر النبيّ نفسه رفع بعض الكفّار والمشركين شعار رضا الله بجعل الأوثان شفعاء ووسائط إلى الله عزّ وجلّ. فهم كانوا يدّعون البحث عن الله والاهتمام برضاه، وكانوا يرون أنّ السبيل إلى ذلك هو الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله.

 

وبعد ذلك وفي إبّان الصراع الذي دار بين معاوية والإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم ينكر معاوية وجود الله ولم يعلن الكفر به؛ بل كان يدّعي الإيمان والعمل بالأركان من صلاة وغيرها، وكان يقدّم نفسه على أنّه يقاتل إمام زمانه من أجل الله وفي سبيله! والأمر نفسه تكرّر عبر التاريخ مع يزيد وغيره من ملوك الجور الذين عرفهم التاريخ الإسلاميّ. ألم يقل عمر بن سعد في كربلاء: "يا خيل الله اركبي".[1]


 


[1] وقعة الطف، ص 193.

 

 

417


365

تفسير سورة براءة

وعندما اغتال معاوية الإمام الحسن عليه السلام بالسمّ الذي دسّه إليه قال: "إنّ لله جنودًا من عسل"[1]. يريد معاوية من هذه العبارة أنّ العسل جندٌ من جنود الله سخّره لوليّه معاوية لقتل أحد جنود المعسكر المقابل لمعسكر الله.

 

وخلاصة الكلام أنّ غير أهل الله يدّعون أنّهم من أهل الله ومن الساعين لنيل رضاه. وعليه لا بدّ من معيار مشخّص للتمييز بين الحقّ والباطل.

 

ولو أنّ الآية جعلت المحور في خطاب المنافقين نيل رضا الله، ربّما كانوا يقولون: لقد تبنا إلى الله وحصّلنا رضاه. وقدّمنا عذرنا بين يديه تعالى ومنّ علينا بالتوبة وقبول العذر. وعندها لا يمكن لأحدٍ أن يناقشهم في دعواهم. ولا يمكن أن يُقال لهم: لا لم يرضَ عنكم الله حتّى الآن. فمن هو هذا الوسيط الذي يمكنه الإخبار عن قبول الله التوبة أو عدم قبولها؟ إذًا الحصول على رضا الله دعوًى سهلة يمكن لأيّ شخصٍ ادّعاؤها. صدقًا أو كذبًا أو خطأً.

 

فلو قيل للمنافق اسعَ لنيل رضا الله، لأمكنه أن يقول تبت إلى الله البارحة ونزل ملكٌ من السماء يخبرني بقبول الله توبتي! ولكن عندما يُربط الأمر برضا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فالأمر مختلفٌ، فالنبيّ شخصٌ حاضرٌ بين الناس، ولا يمكن للمنافقين أن يدّعوا الفوز بهذا الرضا، فهو حاضرٌ يمكنه تكذيب دعواهم.

 

ومن هنا، جُعل رضا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شرطًا في رضا الله، وعبّرت الآية بأنّه أحقّ أن يُنال رضاه. وهذا السرّ نلاحظ تجلّيه في آيات أخرى تجمع بين الدعوة إلى طاعة الله وطاعة الرسول بتكرار الأمر بالطاعة مع كلّ منهما، كما في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾[2]. فطاعة الله وطاعة الرسول تتحقّقان بأمر واحد، وسرّ تكرار الأمر هو هذا المطلب الدقيق الذي أشرنا


 


[1] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج 56، ص 391.

[2] سورة محمد: الآية 33.

 

418


366

تفسير سورة براءة

إليه. وذلك أنّه ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى طاعته تسدّ باب الادّعاء وتسقط جميع الذرائع.

 

وبالموازنة بين الاحتمالين نحن نرجّح الاحتمال الثاني وهو عود الضمير على الرسول.

 

الفضيحة الكبرى: عاقبة محاربة الله ورسوله

"أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ": تبيّن الآية عاقبة الذين يحملون راية محاربة الله ورسوله وتكشف عن أنّ العاقبة المحتومة لهم هي نار جهنّم وما فيها من فضيحة كبرى وخزيّ عظيم.

 

"الخزي" هو الذلّ والفضيحة. نعم إنّه أقصى غاية الذلّ أن يتورّط الإنسان في عذاب الله الذي لا خلاص منه ولا مفرّ.

 

وهو جزاء الذين يشهرون العداء ويعلنون الحرب على الله ورسوله. ولعلّ استعمال كلمة الخزي للتعبير عن العذاب الذي ينتظر المنافقين هو أنّهم كانوا من وجهاء القوم ونخبهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعزّهم الموهوم في الدنيا كان يمنعهم من الخضوع بين يدي الرسول والاعتراف بتخاذلهم، فكانوا يذهبون إلى الناس ويسعون لشراء رضاهم بالأيمان الكاذبة. وما ورد في بعض كتب التاريخ يؤيّد هذا الفهم للآية.

 

عبد الله بن أبيّ كان رأس المنافقين ورئيسهم، وكان الأوس والخزرج قد اتّفقوا على اختياره لحكم المدينة وتولّي أمرها قبل دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها. ولكنّ بدخول النبيّ إلى المدينة وإسلام الأنصار واستتباب الأمر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حُرِم ممّا كان يحلم به. فتحوّل ذلك إلى عقدة في نفسه أفضت به إلى النفاق ودعوى الإيمان وإضمار المحاربة للرسول ودينه.

 

 

 

419


367

تفسير سورة براءة

إذًا، دوافع النفاق كثيرة، من أهمّها: الروحيّة الإقطاعيّة وطلب الجاه، والدنيا والسلطة... وذلك كلّه يحول بين الإنسان والائتمار والطاعة، وقبول الحقّ والخضوع له، ويرى في ذلك ذلًّا وخزيًا. وهيهات ذلك: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1]. فمن يقبل الحقّ هو العزيز. والله تعالى هو مصدر العزّة ومنبعها، وكلّ من يرجع إليه ينال العزّة منه.

 

ووفق الحسابات الخاطئة المشار إليها أعلاه، امتنع المنافقون من الإياب إلى الله ورسوله، حفظًا لعزّتهم وضنًّا بماء وجوههم أن يراق، فذهبوا إلى الناس الذي يرون أنّهم أعزّاء بينهم بالنظر إلى وجاهتهم الاجتماعيّة. وبناءً على هذا، تبيّن لهم الآية أنّ الذلّة التي تفرّون منها واهمين، سوف تتورّطون فيها يوم القيامة عندما تذوقون عذاب جهنّم، وشتّان بين خزي الدنيا وخزي الآخرة، هذا إذا فرضنا أنّ في قبول الحقّ شيئًا من الذلّ، فيكون المنافقون كمن فرّ من خزيٍ ضئيل إلى خزيٍ عظيم. بينما وضع المنافقين وحالهم أسوأ، فهم حرموا أنفسهم من عزّ الحقّ، وكان جزاؤهم في الآخرة الخزيّ العظيم في نار جهنّم.


 


[1] سورة المنافقون: الآية 8.

 

420


368

تفسير سورة براءة

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ﴿65﴾ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴿66﴾

 

422


369

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تكمل هذه الآيات بيان علامات النفاق، وتحدّد الخطوط العامّة لملامحهم التي يمتازون بها. ومضافًا إلى بيانها الإجماليّ إحدى علامات النفاق، تشير الآيات الثلاث إلى واقعة تاريخيّة محدّدة حصلت في عصر صدر الإسلام، وفي هذه الإشارة تلميح إلى شأن النزول. وقد ذكرنا أكثر من مرّة أنّ عددًا من آيات القرآن الكريم مرتبط بحادثة معيّنة تُسمّى هذه الحادثة شأن النزول أو سببه.

 

وقد ورد في شأن نزول هذه الآية روايات عدّة، تُنقَل غالبًا عن متقدّمي المفسرين والمشتغلين بالقرآن وعلومه؛ ولكن لمّا كنّا لا نجزم بانتهاء هذه الأخبار إلى معصوم، فإنّنا لا نستطيع الوثوق الكامل بصحّة الربط بين الآية وهذه الأحداث التي رُبطت بها الآيات لنعدّها سببًا للنزول أو شأنًا. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الأخبار المنسوبة إلى المعصوم تتضمّن بيان سبب النزول؛ ولكنّ سند هذه الأخبار لا يسمح بالاطمئنان بالصدور، كما إنّ لسان بعضها مجملٌ أو غير صريح. وبالتالي، نرى أنّ ربط الآية بمفاد هذه الأخبار وحصره بها مجازفة ليس لها مبرّرٌ كافٍ.

 

وسوف نؤجّل الحديث عن سبب النزول، ونحاول تفسير الآية بعيدًا عن سبب النزول المرويّ، كي لا يترك ذكر هذا السبب تأثيره على فهمنا للآيات ويوجّه تفسيرنا إيّاها. وفي الآية آراء واحتمالات عدّة، وخاصّة في مرجع الضمائر فيها، وسوف نحاول شرح الآية وتفسيرها بالطريقة التي تنسجم مع ما عليه أكثر المفسرين، ثم بعد ذلك نلفت إلى ما ورد في شأن نزول الآية

 

 

423


370

تفسير سورة براءة

 لنرى مع أيّ عبارة من الآية ينسجم، وإلى أيّ مدى يتوافق مع دلالتها.

 

"يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ": تكشف هذه الآية عن خشية المنافقين وحذرهم من نزول سورة على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يفضح الله فيها المنافقين ويكشف لرسوله ما يدور في خلدهم من أحقاد ومؤامراتٍ وخيالات فاسدة. ثمّ ينتقل الخطاب في الآية إلى النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ويطلب منه الله عز وجل أن يطلب منهم الاستهزاء! ويعده عز وجل بأنّ الله سوف يخرج ما تنطوي عليه نفوسهم ممّا يخافون انكشافه ويحذرون.

 

يدلّ سياق الآية ومفاد خطابها على أنّ بعض الأشخاص المعاصرين للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم من الذين كانوا يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر (المنافقون) كانوا مشغولين في أعراض النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وكراماتهم، وكانوا يحيكون المؤامرات ضدّ الإسلام والمجتمع الإسلاميّ كلّه.

 

خطط المنافقين لمواجهة المجتمع الإسلاميّ

تنوّعت أنشطة المنافقين وتلوّنت، فكان من فعلهم أنّهم كانوا يطرحون فكرةً ليشغلوا بها أذهان المسلمين تجاه النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، وذلك بهدف التشكيك وإثارة التردّد في قلوب المسلمين. وهذه سيرة المنافقين على الدوام، همّهم إثارة البلبلة الفكرية في المجتمع الإسلاميّ تجاه الأفكار والتعاليم الإسلاميّة. فكانوا يجتمعون لتدارس الاقتراحات ويفكّرون في نقاط الضعف التي يعاني منها المجتمع الإسلاميّ، ويطرحون فكرةً ويجعلونها محور استهزائهم وسخريتهم.

 

وقد تقدّم الحديث عن وصفهم النبيّ بأنّه "أذنٌ" في تفسير الآية 61. ولمّا كانوا عاجزين عن المواجهة بالفكر والرأي وخوض الجدال العلميّ مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يشفون غلّ صدورهم بالسخرية والاستهزاء في خلواتهم ونواديهم.

 

424

 


371

تفسير سورة براءة

ومن أعمال المنافقين أيضًا تسخيفهم خطط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحكم عليها بأنّها طفوليّة وبعيدة عن الحكمة. مثلًا في قضيّة معركة تبوك وبينما كان المسلمون في طور الإعداد والاستعداد للسفر إلى تبوك لمواجهة الروم، كان همّ المنافقين التشكيك في قدرة المسلمين على الغلبة وتثبيط عزائمهم بتخويفهم من عظمة الروم وجيشهم! والهدف هو ضرب الروح المعنويّة عند المسلمين بتشكيكهم في حكمة قائدهم وقدرته على تنظيم الخطط العسكريّة.

 

ومن أعمالهم أيضًا سعيهم المباشر لمواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الحالات كما يُروى في قصّة المسجد المعروف بمسجد ضرار، حيث كان الهدف من تأسيس هذا المسجد افتتاح مشروع في مواجهة المشروع النبويّ.

 

ومن أعمالهم التي همّوا بها سعيهم لاغتيال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنّهم عزموا في بعض المرّات على الخروج مع المسلمين إلى الجهاد، وخطّطوا للانشقاق عن صفوف المسلمين وسط المعركة كي يضعف معسكر المسلمين وتدبّ الفوضى في أوساطهم فيسهل الوصول إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقتله.

 

وكلّما عزم المنافقون على عملٍ من هذه الأعمال أو خطّطوا لتنفيذ جريمة من جرائمهم كان الوحي ينزل على رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم ويكشف ما في سرائرهم. مثلاً كانوا يعلنون الإيمان ويظهرونه؛ ولكن في أوقات خلواتهم مع أمثالهم كانوا يخبرونهم بأنّهم يستهزئون ولم يؤمنوا حقيقةً. فكانت تنزل الآية على رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم لتكشف ما يدور في خلواتهم. واستمرّت العلاقة بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سنوات على هذا المنوال بين مؤامرة أو خطّة يدبّرونها وانكشافها للنبيّ وفشلهم في الوصول إلى أهدافهم.

 

وتكشف لنا هذه الآية عن نتيجة هذا الصراع الدائم بين النفاق والإيمان، وتكشف عن حالتهم الروحيّة والنفسيّة، وأنّهم في حالة قلقّ دائمٍ وحذرٍ من نزول سورة تكشف الأفكار التي يجيلونها في رؤوسهم، فيفضحون بذلك عند النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وعند المسلمين.

 

425
 


372

تفسير سورة براءة

الاحتمالات الواردة في الآية 64

طرح المفسّرون قبل الشيخ الطبرسيّ في مجمع البيان وبعده احتمالاتٍ عدّة في المراد من الآية. وسبب تعدّد هذه الاحتمالات عدم وضوح المعنى الظاهريّ لبعض الجمل في الآية.

 

الجملة الأولى "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ" في الآية يُحتمل في دلالتها أنّها تشهد للمنافقين بالإيمان. وذلك أنّها تتحدّث عن حذر المنافقين وخشيتهم من نزول سورة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تفضح سوء نواياهم وخبث سرائرهم. وتتضمّن هذه الإشارة اعتراف المنافقين بنبوّة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وارتباطه باللّه تعالى، وتنسب إليهم الإيمان باللّه والاعتقاد بعلمه بباطن حالهم. بينما نحن نعتقد بأنّ المنافق يتظاهر بالإيمان؛ ولكنّه يبطن الكفر وعدم الاعتقاد بشيء من الإسلام. ومن لا يؤمن بالإسلام، لا معنى لخوفه من نزول الوحي على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ولا معنى لخوفه من كشف الله سوء سريرته.

 

وقد ردّ على هذا التساؤل الإشكاليّ بردود عدّة منها أنّ الجملة ليست خبريّة بل هي جملة أمريّة تدعو المنافقين إلى الحذر وكأنّها تقول "ليحذرِ المنافقون من نزول آية عليهم تكشف للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم أحوالهم وما يضمرون من شرٍّ".

 

وثمّة من احتمل أن يكون المراد من الآية الإشارة إلى اعتقاد المنافقين بتوفّر جواسيس ينقلون للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم أخبارهم، كما يعتقدون أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ينسب هذه الأخبار إلى الوحي الإلهيّ ويتلوها على الناس بوصفها قرآنًا. وبالتالي، فإنّ حذر المنافقين هو حذرٌ من جهاز التجسّس العامل بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

هذا ولكنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع جملة أخرى في الآية هي قوله تعالى: "تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ"، فهذه العبارة صريحة إلى حدٍّ كبيرٍ من أنّ مركز حذر المنافقين هو نزول سورة وليس تأليف سورة ونسبتها إلى الوحي.

 

وقد دفع أصحاب الاحتمال الثاني الاعتراض المشار إليه أعلاه، بأنّ القرآن الكريم يتحدّث بحسب الواقع وليس بحسب ما يعتقد المنافقون.

 

 

426

 


373

تفسير سورة براءة

فالمنافقون يخشون من تأليف سورة، ولكنّ واقع الحال على خلاف اعتقادهم وظنّهم في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية لتخبر عن واقع حال النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وليس عن اعتقاد المنافقين فيه. وكأنّ الله عز وجل في هذه الآية يريد أن يقول: "أيّها المنافقون، ساء اعتقادكم في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبطُل، فإنّ ما تخشون منه ليس إخبارًا من الجواسيس والعيون؛ بل هو إخبارٌ ووحيٌ إلهيٌّ من الله إلى رسوله".

 

وثمّة دفع آخر يمكن توجيهه لردّ الاعتراض والدفاع عن الاحتمال الثاني، وهو أنّ حذر المنافقين ليس حذرًا حقيقيًّا، ولا ربط له بالإيمان والاعتقاد بنبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل شكلٌ من أشكال السخرية، فكأنّهم كانوا يخطّطون لشيء ضدّ الإسلام وضدّ النبيّ، وكان يوصي بعضهم بعضًا من باب السخرية والاستهزاء ويقول: إيّاكم أن ينزل الوحي على النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم ويطّلع على ما نخطط ضدّه.

 

ويبدو لنا أنّ هذا التفسير معقولٌ ومنطقيٌّ؛ وذلك لأنّه ينسجم مع نفاقهم وعدم الاعتقاد، وثانيًا: ينسجم هذا الاحتمال مع عبارة: "تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ" فربّما كان يقول بعضهم لبعض: "هذه المرّة أيضًا سوف ينزّل الله سورة على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويكشف خطّتنا". ومرادهم من ذلك السخرية والتعبير عن الثقة بعدم إمكان انكشاف خطّتهم وافتضاح مؤامرتهم.

 

وعليه، فإنّنا نرى أنّ الاحتمال الثاني أقرب إلى معنى الآية، ومن المؤيّدات المساعدة على استفادته من الآية الإشارة إلى الاستهزاء في آخرها.

 

والجملة الثانية التي دعت المفسّرين إلى طرح احتمالات عدّة في تفسيرها هي قوله تعالى: "تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ"، ومركز التعقيد في هذه الجملة أنّ الضمير المجرور هو ضمير جمع، والاحتمال الوارد في مرجع الضمير هو المنافقون، والسؤال الذي يُثار في مواجهة هذا الاحتمال: كيف يمكن أن تنزل السورة على المنافقين؟

 

والاحتمال المقابل للاحتمال المشار إليه في السؤال هو نزول السورة على

 

427

 


374

تفسير سورة براءة

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو على المؤمنين على معنى من المعاني، وتبرير هذا الاحتمال الأخير يتوقّف على مقدّمات كثيرة. منها الحاجة إلى اسم ظاهر غير "المنافقون" ليكون هو مرجع الضمير بحسب قواعد اللغة العربيّة التي تفترض وجود مرجع للضمير. وهذا الاسم الظاهر لا وجود له، فلا بدّ من البحث عن مخرجٍ آخر.

 

ومن الاحتمالات المطروحة في تفسير الآية أنّ المراد من "عليهم" في العبارة هو "فيهم"، وقد ورد في القرآن الكريم استعمال حرف الجرّ على بمعنى في.

 

ومن الاحتمالات المطروحة المحافظة على معنى حرف الجرّ "على" في العبارة، وتوجيه ذلك أنّ السورة التي تنزل على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ولكنّها في مآلها تنزل على مجتمع المسلمين. وبعبارة أخرى: إنّ الهدف من نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو هداية مجتمع المسلمين وسائر الناس. وقد ورد مثل هذا التعبير في القرآن الكريم في سياق الحديث عن اليهود في قوله تعالى: ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾[1]. وتوضيح ذلك أنّ الوحي كان ينزل على أنبياء اليهود، ولكن لمّا كانت هداية اليهود هي الهدف والغاية من الوحي، كانوا ينسبون النزول إليهم.

 

ومعنى هذا الكلام أنّ السورة التي تنزل على النبيّ سواء كانت قرآنًا أو غيره من الكتب السماويّة، فإنّها تنزل على الأنبياء وعلى المحيطين بهم من أممٍ وشعوبٍ. وعليه يكون المراد من قوله تعالى: "تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ" نزول السورة على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وعلى المحيطين به في المجتمع الذي بُعث لهدايته، وهذا يعمّ المنافقين والمؤمنين على حدٍّ سواء.

 

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ الفعلين "نزل" و"أنزل" يتعدّيان بكلا حرفي الجرّ "على" و"إلى"، ولا فرق مهمّ في المعنى بين الحالتين. ومن أمثلة تعديتهما


 


[1] سورة البقرة: الآية 91.

 

 

428


375

تفسير سورة براءة

بـ"إلى" قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾[1]، ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا﴾[2].

 

الجملة الثالثة التي توقّف فيها المفسّرون هي عبارة: "تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم". يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه العبارة نزول آية تنبّئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين من أسرار وضغائن؛ وذلك لأنّ المنافقين يعلمون ما في صدورهم، وبالتالي لا تتوقّف معرفتهم على نزول سورة من عند الله تعالى ليعرفوا دخيلة أنفسهم. وبالاستناد إلى هذه الملاحظة يبدو أنّ إرجاع الإنباء إلى المؤمنين منطقيٌّ ومقبول.

 

ويمكن في الوقت نفسه إرجاع الضمير إلى المنافقين، ولكن يكون المعنى هو أنّ السورة التي تنزل سوف تضع أسرارهم بين أيديهم وتكشفها لهم. وبناءً على هذا التحليل يكون المعنى المستفاد من الآية أوضح؛ وذلك لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا يمارسون فعل السخرية من النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ويتظاهرون في نواديهم بالخشية والخوف من نزول آية تخبرهم عمّا يختلج في قلوبهم. وحال هؤلاء أشبه بحال من يريد اللعب مع طفل فيتظاهر بالخوف منه، وهؤلاء كانوا على الرغم من معرفتهم بالنبيّصلى الله عليه وآله وسلم ونزول الوحي مرّات كانوا يسخرون بالتظاهر بالخوف والحذر من نزل سورة في حقّهم.

 

وفي مقابل هذا الواقع تخاطبهم الآية بلسانٍ عجيبٍ ويقول لهم الله تعالى: لم تكونوا حذرين أو خائفين قبل الآن؛ بل كنتم تتظاهرون بالحذر سخرية واستهزاءً، ولكن من الآية فصاعدًا عليكم افعلوا ما شئتم: "قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ" لا مانع عندنا من استهزائكم.

 

ويستوي في الحيرة والتوقّف في المعنى المقصود من قوله تعالى: "قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ" من رأى أنّ الفعل "يحذر" في الآية ذا معنًى إنشائيٍّ معادلٍ


 


[1] ـ سورة النور: الآية 34.

[2] سورة الأنبياء: الآية 10.

 

 

429


376

تفسير سورة براءة

للمضارع الذي دخلت عليه لام الأمر، وأولئك الذين فسّروا الفعل بأنّه ذو دلالة خبريّة، وأنّ المراد هو الإخبار عن حذر المنافقين وخشيتهم. ومن هنا ثمّة من قال إنّ الاستهزاء المذكور في الآية هو النفاق وليس شيئًا آخر غيره. وبناءً عليه كأنّ الآية تقول: كونوا منافقين! ولكنّ هذا التفسير لا ينسجم مع المعنى اللغويّ للكلمتين؛ فالاستهزاء شيءٌ آخر يختلف عن النفاق، وهو من لوازم الأخير وليس عينه.

 

وبعد النظر والمقارنة بين الاحتمالات المتعددة التي عرضناها يتبيّن لنا أنّ المعنى الذي ذكرناه وحملنا الآية عليه هو التفسير الصحيح، وعليه يكون معنى الآية والمراد منها: يا أيّها النبيّ، قل للمنافقين، فلتسخروا وتستهزئوا بنا بإظهاركم الحذر والخشية؛ ولكن لن يتأخّر نزول السورة التي سوف تكشف بواطنكم وتفضح ما تضمرون. وهذه السورة هي الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، ولعلّهم لم يكونوا يتوقّعون نزول هذه الآيات على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم؛ ولكنّ الآية نزلت وحصل ما كانوا يظهرون الخشية منه سخرية من غير إيمان ولا خوف حقيقيٍّ.

 

"وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ": تنبئ هذه الآية رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم بأنّه لو سألهم عن باطن حالهم لقالوا: إنّا كنّا نلعب ونلهو فيما بيننا! ويكمل الله تلقين نبيّه الحجة معلنًا بلسان يجمع بين الاعتراض والإخبار عن أنّ ما كان منهم لم يكن لعبًا، وإنما هو استهزاء بآيات الله ورسوله.

 

"الخوض" في اللغة هو دخول القدم في ما كان مائعًا من الماء والطين. وهذا هو المعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة، وأمّا المعنى المجازيّ فهو توسّع في معنى الكلمة لتشمل الدخول في الحديث وغيره. وتُستعمل هذه الكلمة كذلك في السير في الطريق وما سوى ذلك من الأمور التي ينشغل الإنسان بها عن غيرها.

 

إذًا، الخوض بحسب المعنى اللغويّ هو الدخول في الشيء أو الأمر،

 

 

430

 


377

تفسير سورة براءة

وقد استُعمل في هذا المعنى في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾[1]. والاحتمالان واردان في معنى كلمة "نخوض" في هذه الآية.

 

فقول المنافقين: "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ" في وقتٍ كانوا يتآمرون ويدخلون في مسار ما كان ينبغي لهم الدخول فيه؛ وبعد أن أطلع الله رسوله على ما كانوا يخطّطون وطلب منه مساءلتهم قالوا في تبرير أفعالهم والدفاع عن أنفسهم: "كنّا نتحدّث ونلعب ويمازح بعضنا بعضًا". وهذا المعنى ينسجم مع سياق الآية وسبب نزولها.

 

وتفسير الخوض بالحديث، ينسجم كذلك مع سبب النزول، ويصير المعنى: لئن سألتهم عمّا كان يدور بينهم وما كانوا يفعلون؟ سوف يقولون: كنّا نتحدّث ونلهو، ولا تحمل ذلك منّا على محمل الجدّ.

 

وثمة احتمالٌ ثالثٌ هو أضعف من سابقيه، وهو أنّك لو سألتَهم: لماذا أتيتم إلى الحرب وأنتم على هذا المستوى من ضعف الإيمان واهتزاز العقيدة؟! لأجابوك بقولهم: جئنا للتسلية والترفيه و"شمّ الهواء".

 

وهذه الاحتمالات الثلاثة واردةٌ في تفسير الآية؛ غير أنّ الاحتمالين الأولين أقرب إلى وأكثر تناسبًا مع سياق الآية وسبب نزولها.

 

يقول القرآن في مقام الردّ على دعوى الخوض واللعب في كلام المنافقين: "قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ". وتنكر الآية على المنافقين استهزاءهم بالله وآياته، ومن أعظم آيات الله وجود رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والآية الثانية تأسيس المجتمع الإسلاميّ، والثالثة هي نزول جبرائيل بالوحي على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

والقرآن يعلن هذه الأمور ويصرّح بهذه الاتهامات التي لم يعد ثمّة داعٍ إلى كتمان خطط المنافقين والتستّر على مؤامراتهم. فتاريخ نزول هذه الآيات


 


[1] سورة النساء: الآية 140.

 

 

431

 


378

تفسير سورة براءة

هو السنة التاسعة للهجرة؛ حيث العزم على كشف الستر الذي كان مرخًى على المنافقين. ومن هنا، نجد أنّ لحن الآية فيه شيءٌ من الحدّة والصراحة.

 

وقد حسب بعضهم أنّ المراد من الاستهزاء هو قول المنافقين "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، والحال أنّ الاستهزاء هو نفس أعمالهم لا قولهم هذا ومؤامراتهم التي كانوا يحوكونها ضدّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لا دفاعهم عن أنفسهم وتبريرهم. والنبيّصلى الله عليه وآله وسلم وضع الإصبع على الجرح وضرب في المكان المناسب وواجههم بصراحة تامّة بالاتهام بالاستهزاء بالله ورسوله وآياته.

 

اعتذار المنافقين الواهي

"لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ": تواجه هذه الآية المنافقين بعدم جدوى الاعتذار، وتعد طائفة منهم بالعفو وطائفة أخرى بالعذاب بسبب اتّصافها بالإجرام، والكفر بعد الإيمان.

 

ويُستفاد من النهي عن الاعتذار أنّهم حاولوا ذلك وسألوا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم العفو والمعذرة.

 

"قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ": تخبر هذه العبارة المنافقين بأنّهم خرجوا من الإيمان بعد دخولهم فيه. وقد يُستفاد من هذه العبارة أنّهم آمنوا في فترة من فترات حياتهم ثمّ كفروا بعد إيمانهم وخرجوا من حظيرة الإيمان. ولا يبعد تفسير الآية بهذا الشكل. فلا مانع أن يكون بعض هؤلاء المنافقين دخل في الإسلام صادقًا في بداية الدعوة أو في فترة من الفترات ثمّ طرأ عليه الكفر بعد ذلك. ولعلّ كفرهم ناجمٌ عن مطامع شخصيّة وأهواء خاصّة عندما رأوا أنّ النبيّ وصل إلى أواخر رحلة العمر الشريف.

 

وقد ورد في بعض الأخبار التي تبيّن سبب نزول هذه الآية أسماء بعض الشخصيّات التي دخلت في الإسلام في بدايات الدعوة في مكّة، ولا شيء

 

 

432

 


379

تفسير سورة براءة

هو السنة التاسعة للهجرة؛ حيث العزم على كشف الستر الذي كان مرخًى على المنافقين. ومن هنا، نجد أنّ لحن الآية فيه شيءٌ من الحدّة والصراحة.

 

وقد حسب بعضهم أنّ المراد من الاستهزاء هو قول المنافقين "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، والحال أنّ الاستهزاء هو نفس أعمالهم لا قولهم هذا ومؤامراتهم التي كانوا يحوكونها ضدّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لا دفاعهم عن أنفسهم وتبريرهم. والنبيّصلى الله عليه وآله وسلم وضع الإصبع على الجرح وضرب في المكان المناسب وواجههم بصراحة تامّة بالاتهام بالاستهزاء بالله ورسوله وآياته.

 

اعتذار المنافقين الواهي

"لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ": تواجه هذه الآية المنافقين بعدم جدوى الاعتذار، وتعد طائفة منهم بالعفو وطائفة أخرى بالعذاب بسبب اتّصافها بالإجرام، والكفر بعد الإيمان.

 

ويُستفاد من النهي عن الاعتذار أنّهم حاولوا ذلك وسألوا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم العفو والمعذرة.

 

"قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ": تخبر هذه العبارة المنافقين بأنّهم خرجوا من الإيمان بعد دخولهم فيه. وقد يُستفاد من هذه العبارة أنّهم آمنوا في فترة من فترات حياتهم ثمّ كفروا بعد إيمانهم وخرجوا من حظيرة الإيمان. ولا يبعد تفسير الآية بهذا الشكل. فلا مانع أن يكون بعض هؤلاء المنافقين دخل في الإسلام صادقًا في بداية الدعوة أو في فترة من الفترات ثمّ طرأ عليه الكفر بعد ذلك. ولعلّ كفرهم ناجمٌ عن مطامع شخصيّة وأهواء خاصّة عندما رأوا أنّ النبيّ وصل إلى أواخر رحلة العمر الشريف.

 

وقد ورد في بعض الأخبار التي تبيّن سبب نزول هذه الآية أسماء بعض الشخصيّات التي دخلت في الإسلام في بدايات الدعوة في مكّة، ولا شيء

 

 

432

 


379

تفسير سورة براءة

يمنع من صدق إيمان هؤلاء عندما كانوا في مكة.

 

وإذا قلتُم: لا يُتصوّر الإيمان الحقيقيّ عند المنافقين؛ لبعد أن يكونوا صادقين في إيمانهم في أيّ فترة من فترات حياتهم!

 

وبناءً على صحّة هذا الاستبعاد، يمكن أيضًا فهم الآية بطريقة أخرى وهي أنّها تخبر عن إيمانهم الظاهريّ الذي كانوا يدّعونه ولأجله كانوا يُحسبون جزءًا من الجماعة المؤمنة، ولكن بعد تصرّفاتهم التي تعاتبهم الآيات عليها أعلن عن خروجهم من الجماعة المؤمنة. وبهذا لا تعترف لهم الآية بالإيمان الحقيقيّ، ويكون حالهم حال من يخبر عنهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[1]، ويشبهه قوله تعالى أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ﴾[2].

 

فالفعل الأول إخبار عن الانتماء الظاهريّ إلى الجماعة المؤمنة، والفعل الثاني دعوة إلى التحلّي بالإيمان الحقيقيّ. فظاهر حال هؤلاء الإيمان بالنبيّصلى الله عليه وآله وسلم والصلاة خلفه؛ ولكنّ واقعهم كان غير ذلك.

 

وعلى هذا فيمكن أن يكون قوله تعالى: "قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" إخبارًا عن ظاهر حال الأوّليّ الذي انكشف خلافه بعد ما صدر عنهم من استهزاء وتآمر ضدّ الإسلام.

 

حكمة المجتمع الإسلاميّ في مواجهة المنافقين

"إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ": تميّز هذه الآية بين المنافقين وتقسّمهم إلى قسمين، قسمٌ منهم يمكن أن يطاله العفو، وقسمٌ آخر لا مجال للعفو عنه، وربّما كان معيار التمييز هو المشاركة في الكيد للإسلام أو عدم المشاركة.

 

"بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ": يُستفاد من هذه العبارة أنّ النفاق على الرغم من


 


[1] سورة الحجرات: الآية 14.

[2] سورة النساء: الآية 136.

 

 

433


380

تفسير سورة براءة

قبحه وموقف الإسلام منه، فإنّه ما لم يتحوّل إلى سلوك يمكن أن يُغضّ النظر عنه ولا يجرّم صاحبه والمتّصف به. وعندما يتحوّل من موقف نفسيّ واعتقاديّ إلى سلوك وممارسة يتبدّل الموقف، وليس للمجتمع الإسلاميّ الإقدام على مواجهته. ولا يُقصد من غضّ النظر الإذن الشرعيّ والاجتماعيّ في النفاق؛ فالنفاق مرضٌ اجتماعيٌّ ونفسيٌّ يجب استئصاله، ولكن بأساليب تربويّة وأخلاقيّة. وأما التجريم والتصدّي القانونيّ وترتيب العقوبة، فإنّه يتوقّف على خروج النفاق من الحالة النفسيّة وانتقاله إلى مرحلة السلوك المؤذي للمجتمع الإسلاميّ، ففي هذه الحالة لا بدّ من العقاب، والسبب هو جرم التآمر الذي ارتكبه المنافق.

 

سبب النزول

ورد في المصادر الحديثيّة عند الشيعة الإماميّة أنّ هذه الآية نزلت في قضيّة العقبة بعد معركة تبوك؛ حيث تواطأ اثنا عشر منافقًا على قتل النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته من معركة تبوك إلى المدينة، واتّفقوا على أن يكمنوا له في عقبة ويقتلوه عند وصوله إليها. وفي بعض الأخبار أنّ هؤلاء المنافقين كانوا من بني أميّة ما خلا أربعة منهم[1].

 

وقد ورد في مصادر الحديث عند أهل السنّة أنّ رجلًا قال في غزوة تبوك: "ما رأيت أكذب لسانًا، ولا أجبن عند اللقاء من هؤلاء (يعني رسول الله وأصحابه)، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمّارًا بن ياسر لمساءلتهم حول ما قالوا فاعتذروا له بقولهم: "إنما كنّا نخوض ونلعب"[2].

 

 


[1] انظر: تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 237.

[2] مجمع البيان، ج 5، ص 82.

 

 

434


381

تفسير سورة براءة

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ

وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾

 

 

435


382

تفسير سورة براءة

وحدة المنافقين

"الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ": تبيّن لنا هذه العبارة من الآية الاتّحاد والتشابه بين المنافقين. فهؤلاء حتّى لو اختلفت أشكالهم وألوانهم وانتماءاتهم؛ فلا ينبغي أن تغترّوا بهذا التنوّع والاختلاف بينهم؛ لأنّ الجهة الجامعة بينهم هي العداوة للإسلام والمسلمين. وعلى هذا لا ينبغي أن يُخدع المسلمون ويحسبوا إمكان الاستفادة من بعض المنافقين وتحييدهم، فهم ضدّ المسلمين يدٌ واحدة.

 

وكلمة "المنافقات" في الآية تكشف عن وجود ظاهرة النفاق بين النساء أيضًا في مجتمع صدر الإسلام. وعلينا أن نلتفت إلى هذه الزاوية في حياتنا المعاصرة. نعم من المعلوم وجود نساءٍ ضعيفات الإيمان؛ ولكن ليست كلّ ضعيفة الإيمان منافقةً، فالنفاق شرطه إظهار شيء وإضمار شيء آخر. إظهار الإيمان من جهة، والعمل على مواجهة الإسلام ومجتمع المسلمين من جهة أخرى. وتفيد هذه الآية وجود هذا الصنف من النساء في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

العلامة الأولى للنفاق: الأمر بالمنكر

تتضمّن هذه الآية أربع علامات دالّة على النفاق، أُولى هذه العلامات الأمر بالمنكر والدعوة إليه. وبعبارة أخرى: الإسلام والإيمان يقتضيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمّا النفاق فإنّه يعمل في الاتّجاه المعاكس تمامًا؛ أيّ يقتضي الأمر بالمنكر. والمنكر هو كلّ أمرٍ مبغوض وقبيح عقليًّا كان قبحه أم شرعيًّا.

 

437


383

تفسير سورة براءة

"المنكر العقليّ" هو العمل الذي يحكم العقل بقبحه وينهى عنه. وأمثلة ما يستنكره العقل كثيرةٌ منها: الغشّ، والاحتيال، والمواربة، وترك الإنصاف، والاستعجال في الحكم، والمحاباة في الأحكام، والتصرّف في أموال الآخرين من دون إذنهم.

 

فهذه الأمور وأمثالها لو تُرك العقل وحده بعيدًا عن التلقينات الخاطئة، لحكم بقبحها ونهى عنها. وخلاصة الكلام إنّ المنكر العقليّ هو ما يستقبحه العقل وينهى عنه.

 

"المنكر الشرعيّ" هو الأمور والأفعال التي قد لا يدرك العقل قبحها ولو استفتيناه فيها لسكت ولم يستطع تحديد حكمها لنا، ففي هذه الأمور يتدخّل الشرع وينهى عنها. مثلًا ربّما لا يقدر العقل لو ترك وحده على اكتشاف قبح الخمر، وذلك أنّ كثيرًا من العقلاء يقدمون على معاقرة الخمرة؛ فتدخّل الشارع وبيّن لنا قبحها وحرّمها على الناس. وربّما يُدعى أنّ العلاقة الجنسيّة بين غير زوجين لا يرى العقل قبحها ما دامت برضا الطرفين. وهنا يتدخّل الشرع ويبين للإنسان القبح ويحرّم الزّنى.

 

وهنا نقطة جديرةٌ بالعناية والاهتمام وهي أنّه ورد في الحديث "إنّ لله على الناس حجّتين..."[1]، فلا يمكن بناءً على هذا الحديث أن تسير كلٌّ من الحجّتين في الاتّجاه المخالف للأخرى، بحيث يأمر العقل بشيء وينهى الشرع عنه أو يأمر بضدّه. معنى أنّ لله حجتين الاتفاق بينهما والانسجام الكامل، فلا يمكن أن ترشدنا إحدى الحجّتين إلى طريق وتهدينا الحجّة الأخرى إلى الجهة المعاكسة.

 

وبناءً على هذا، يطرح السؤال الآتي: لماذا يتصدّى العقل لاستنكار بعض المنكرات، ويتولّى الشرع غيرها؟

 

وفي الجواب عن هذا السؤال نلفت إلى أنّه كلّما أصدر الشارع حكمًا

 

 


[1] الكافي، ج 1، ص 16.

 

438


384

تفسير سورة براءة

سواء كان حكمًا بالتحليل والإباحة أم الحسن بأن يقول "هذا حلالٌ" أو "هذا حسنٌ"، أم كان حكمًا بالتحريم أو التقبيح بأن يقول "هذا حرامٌ" أو "هذا قبيحٌ"، وكذلك في سائر أحكامه، فإنّ العقل السليم سوف يوافق الشرع ويقبل حكمه، وفق قاعدة "كل ما حكم به الشرع حكم به العقل". وعكس هذه القاعدة صحيحٌ أيضًا، وذلك أنّ ما يحكم به العقل السليم يؤيّده الشرع ويوافق عليه. هذا ولكن ثمّة شروط يجب توافرها في العقل ليحظى بتأييد الشرع.

 

الشرط الأوّل: أن يكون العقل سليمًا، فلا يمضي الشرع بالضرورة الأحكام العقليّة التي تصدر عن صاحب عقلٍ مختلٍّ أو مصاب بمرضٍ نفسيٍّ، فالأحكام التي تصدر عن عقلٍ كهذا لا ينطبق عليها هذا المبدأ. إذًا المراد من العقل السليم العقل الذي لا يعاني من خللٍ يخرج عقله عن الحالة الطبيعيّة التي خلقه الله عليها.

 

الشرط الثاني: أن يكون هذا العقل فطريًّا؛ أيّ يستلهم العقل مدركاته من الفطرة الإنسانيّة؛ بحيث لا تكون أحكامه خاضعة للميول والأهواء والمصالح الخاصّة. وإلّا فإنّ جميع الجرائم والمجازر التي ارتُكبت بحقّ الإنسانيّة صادرة عن عقولٍ مشوبة بشوب الأحقاد والمصالح الشخصيّة أو القوميّة.

 

مثلًا قد يجلس سياسيٌّ صاحب سلطة فيستغلّ قدراته العقليّة للتفكير في كيفيّة قصف المدينة أو المنطقة الفلانيّة ليموت مئات الأشخاص من دون أن يصاب هو بأذًى. مثل هذا العقل لا يغترف من الفطرة الإنسانيّة ولا يستلهم أحكامه منها. فالفطرة تقتضي أن يحافظ الإنسان على أبناء نوعه، ولا يعتدي على من لا يعتدي عليه. ومن هنا فإنّ العقل الذي يبتكر الأساليب والأدوات التي تساعد على إيذاء الناس والاعتداء عليهم، هو عقلٌ خطيرٌ على الإنسانيّة ومؤذٍ لها. إذًا العقل الذي يحظى بشرف تأييد الشرع هو العقل الفطريّ المنزّه عن الميول والأهواء والشهوات.

 

 

439

 


385

تفسير سورة براءة

الشرط الثالث: هو تربية هذا العقل وتدريبه على الإدراك الصحيح. فإذا لم ينل العقل حظّه من التدريب والتربية والتعليم لا يمكنه الوصول إلى الإدراك الصحيح، ويزداد الأمر خطورة عندما يتدرّب هذا العقل بطريقة سلبيّة، فمثل هذا العقل لا يمكنه فهم الكثير من الأسرار التي كان يقدر على فهمها لو خضع للتربية والتدريب المناسبين. ومن هنا، نجد أنّ كثيرًا من المفكّرين من أهل الدين وغيرهم يعجزون عن فهم أسرار بعض الأحكام الشرعيّة، فربّما يعجز كثيرٌ من الناس عن إدراك قبح الزّنى أو شرب الخمر أو حسن قطع يد السارق...

 

وأمّا العقل الفطريّ السليم الذي تربّى واعتاد النظر في المعارف والمسائل العلميّة الدينيّة والإسلاميّة والاجتماعيّة، واعتاد النظر في أمور الاجتماع الإنسانيّ وأحواله، والتفت إلى الشهوات وتجنّب آثارها السلبيّة، مثل هذا العقل يصير قادرًا ومؤهّلا لإدراك قبح المعاصي وفهم الأسباب التي أدّت إلى تحريمها في الشريعة. مثل هذا العقل الذي راكمَ خبرةً وأهليّة يمكنه أن يعرف لماذا حرّم الشارع شرب الخمر، ويعرف الخلفيّات التي على أساسها أصدر الشارع حكمه هذا، ومن هذه الأسباب أنّ الخمرة مضرّة بالعقل ومؤذية للجسم؛ بل في بعض الحالات يقدر هذا العقل على اكتشاف قبح هذا الشيء أو ذاك ويحرّمه حتى لو سكت عنه الشرع. وعلى ضوء هذا، نفهم مفاد قاعدة: "كل ما حكم به العقل حكم به الشرع".

 

وبعض الناس لا يدركون دلالة هذه القاعدة بدقّة، فيحسبون أنّ كلّ حكم شرعيّ واجب أو مستحبّ أو مكروه أو محرّم يجب أن يدركه العقل، ويظنّون أنّ كلّ عقلٍ قادرٌ على فهم أسرار هذه الأحكام. فإذا لم يدرك العقل سرّ هذا الحكم الشرعيّ أو ذاك يقعون في الحيرة أو الشكّ، مثلاً تجد أحدهم يحتار لماذا جعل الله صلاة الفجر ركعتين.

 

بناءً على التوضيح المتقدّم، يتبيّن أن الاتّحاد بين حكم العقل وحكم الشرع مشروط بالشروط التي أشرنا إليها وهي: سلامة العقل، وتربيته،

 

 

440


386

تفسير سورة براءة

وفطريّته. فعندما تتوافر هذه الشروط يتحقّق التطابق بين مدركات العقل وأحكام الشرع.

 

والآن نعود إلى قوله تعالى: "يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ" يبدو لنا أنّ المنافقين يأمرون بما ينكره العقل والشرع. فمشروع المنافق ودوره الاجتماعيّ هو إخراج الناس من الحالة التي هم عليها، وتوريط المؤمنين في المنكرات. فعندما ينظر إلى نفسه ويرى فيها صفة الخداع يسعى لنقل هذه الصفة إلى سائر الناس. وعندما يرى أنّه ليس مؤمنًا، يميل إلى تكثير غير المؤمنين في المجتمع. وعندما يلاحظ أنّه يسبّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يرغب في أن يشاركه سائر الناس في هذا العمل القبيح.

 

وعلى هذه الأعمال والصفات يُقاس ما سواها من الخصال الموجودة عند المنافق ويحبّ أن يراها في غيره من خلق الله.

 

العلامة الثانية للنفاق: النهي عن المعروف

تبيّن هذه الآية علامةً أو خصلةً جديدةً من خصال المنافقين وعلاماتهم وهي النهي عن المعروف "وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ". يقع المعروف على الضفّة المقابلة للمنكر. وينقسم كما المنكر إلى قسمين: عقليٍّ وشرعيٍّ.

 

"المعروف العقليّ" هو الأمور التي يقبلها العقل ولا يستنكرها. مثل: العدل، والإنصاف، والوفاء، والإخلاص، والصدق، والصراحة والشفافيّة، والتطابق بين الظاهر والباطن، والإحسان، والإنفاق في سبيل الله والمصالح العامّة...

 

"المعروف الشرعيّ" هو الأمور والأفعال التي يقرّها الشرع ويسكت عنها العقل ولا يدركها بشكلٍ قطعيٍّ لو تُرك وحده ولم يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ. وأمثلته كثيرةٌ منها: عبادة الله بالطريقة المحدّدة التي نصّ عليها الشرع، والتوسّل بأولياء الله تعالى، والصلاة في أوّل الوقت مع الخضوع والخشوع...

 

441


387

تفسير سورة براءة

والمنافق يجهد ويناضل لصدّ الناس عن المعروف والحيلولة دون عمل الناس بشريعة الله وما نصّ عليه الإسلام.

 

العلامة الثالثة للنفاق: البخل

"وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ": وهذه الجملة أيضًا تكشف لنا عن صفة وعلامة ثالثة من علامات النفاق وهي صفة البخل، وقد ذكرت هذه الصفة في سورة المنافقين حيث يقول تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا﴾. يتواصى المنافقون بحسب هذه الآية بعدم الإنفاق على الفقراء المحيطين بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أمل أن يتركوه وينفضّوا عنه.

 

فمن الواضح أنّ المؤسسات والأجهزة تحتاج إلى المال لتعمل، ولا يُستثنى من هذه القاعدة الأشخاص الذين يعملون تحت لواء النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، فدولة النبيّ تحتاج كسائر الدول إلى المال لتتحرّك عجلاتها وتدور سواء في مجال الحرب والدفاع، وقد عرف المنافقون ذلك فحاولوا التضييق الاقتصاديّ على الأشخاص المحيطين بالنبيّ لعلّهم يتركونه وحيدًا وينفضّون من حوله. وهذا شكلٌ من أشكال النهي عن المعروف.

 

"قبض اليد" هو إمساكها وعدم مدّها، وهو كنايةٌ عن البخل وتجنّب الإنفاق، وذلك أنّهم كانوا يحجمون عن الإنفاق على غير أنفسهم، ممّا آتاهم الله ومنّ عليهم به.

 

يكشف التدقيق في آيات كتاب الله سبحانه عن أنّ أكثر الآيات التي وردت فيها كلمة إنفاق ومشتقّاتها يُراد منها الإنفاق الماليّ، وتدلّ هذه الآيات على هذا المعنى إمّا بالتصريح أو بالاعتماد على القرائن. ولكن لا مانع من توسعة الإنفاق في بعض الآيات إلى ما يشمل غير الإنفاق الماليّ. مثلاً لا شيء يمنع من فهم التوسعة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ

 

442


388

تفسير سورة براءة

أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾[1]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[2]. فهذه الآيات وأشباهها تتّسع للدعوة إلى الإنفاق من المال والفكر وغير ذلك مما منّ الله به على أهل السعة من خلقه. وتفيد هذه الآيات أنّ المؤمنين من صفاتهم الإنفاق من جميع هذه الأمور في سبيل الله ومصلحة الإنسانيّة. وكذلك يُستفاد هذا المعنى من مثل قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[3]، فلا ينحصر ما يحبّه الإنسان في المال، فإنّ الإنسان يحبّ المال والولد وسائر الطاقات والإمكانيّات التي وضعها الله تحت تصرّفه.

 

وعليه، لا مبرّر لحصر الإنفاق في القرآن بالمال. والإنفاق الماليّ ضئيلٌ وقليلٌ في مقابل غيره من أشكال الإنفاق. الإنفاق بعبارة عامّة هو: أن تتنازل عمّا أعطاك الله إيّاه وتقدّمه أو تجعله في خدمة سائر الناس. ومن علامات النفاق الحجب والمنع (عدم الإنفاق). وهم لا يرون حقًّا لأحدٍ في ما وصل إلى أيديهم، وما لهم يجب أن ينتفعوا به وحدهم. الأشخاص الذين يرون أنّ ما لَهم هو لهم وحدهم يصدق عليهم قوله تعالى: "يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ". وما أشبه هؤلاء بدودة القزّ التي تستخدم كل لعابها لتلفّه حول نفسها ثمّ تموت داخل هذه الشرنقة وينتفع غيرها بما تركته.

 

ينقل الشيخ الطبرسيّ في المجمع أنّ المراد من القبض في هذه الآية هو إمساك اليد عن الجهاد في سبيل الله[4]. وهذا المعنى ينسجم إلى حدٍّ بعيد مع سياق الآية، فالمنافقون ليس عندهم أيّ درجة من الاستعداد للتنازل عن سعادتهم من أجل الدين.

 

 


[1] سورة المنافقون: الآية 254.

[2] سورة البقرة: الآية 3.

[3] سورة آل عمران: الآية 92.

[4] مجمع البيان، ج 5، ص 85.

 

443


389

تفسير سورة براءة

العلامة الرابعة للنفاق: نسيان الله

"نَسُواْ اللّه": معنى نسيان الله عز وجل هو أن لا يلتفت الإنسان إلى الله عز وجل في هذا الموقف أو ذاك أو في مجموع حياته. فكلّ من يبعد الله من حساباته ويلتفت إلى غيره ينطبق عليه أنّه نسي الله.

 

فنسيان الله في عملٍ أو موقفٍ محدّدٍ هو أن لا يلتفت إليه سبحانه في معاملة مثلًا، بأن يحسب هذا الإنسان كم يربح من هذه المعاملة، وكم يستفيد، ومن يتأثر بها سلبًا أو إيجابًا، ولا يدخل في حساباته رضا الله أو غضبه من هذه المعاملة.

 

وأما معنى نسيان الله في مجموع الحياة كلّها، فهو بأن يلتفت إلى كثيرٍ من الأمور ولا يدخل رضا الله وموقفه في حساباته أبدًا.

 

وعليه فإنّ المراد من قوله تعالى: "نَسُواْ اللّه" هو أنّ المنافقين لا يلتفتون إلى الله في أعمالهم المتفرّقة أو في مجموع حياتهم. وبناءً على الاحتمال الأوّل، يكون معنى الآية أنّ المنافقين في أمر الإنفاق أو في أمر التآمر والكيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظّموا أمورهم وأجروا حسابات دقيقة فلاحظوا هل يرضي هذا العمل أهل مكّة أو لا يرضيهم، ولكنّهم لم يلتفتوا إلى الله ولم يدخلوا في حساباتهم رضاه عن هذه التصرّفات أو عدم رضاه. وبناءً للاحتمال الثاني، يكون معنى الآية أنّ المنافقين أخرجوا الله من أذهانهم بالكامل.

 

وثمّة احتمال ثالثٌ طرحه بعض المفسّرين، حاصله أنّ المنافقين عندما كانوا يلتقون بالمؤمنين كانوا يتودّدون إليهم ويظهرون الاستعداد للتضحية معهم، وأمّا في باطنهم فقد كانوا يكيدون للإسلام ويضمرون المودّة لأعدائه. فقد كان المنافقون يهتمّون برضا المؤمنين ولكنّهم نسوا رضا الله تعالى ولم يلتفتوا إليه.

 

الردّ الإلهيّ على أعمال المنافقين

بعد عرض الآية أربع علامات أو خصالٍ من خصال المنافقين، كشفت

 

 

444

 


390

تفسير سورة براءة

الآية عن الردّ الإلهيّ على هذه الخصال والأعمال. الردّ الأوّل هو نسيان الله تعالى من ينساه: "فَنَسِيَهُمْ"، فهؤلاء الذين يجلسون إلى المائدة الإلهيّة ولا ينيلون الفقراء منها جزاؤهم أن ينساهم الله ولا يوصل إليهم خيره، ويحرمهم من بركاته.

 

الردّ الثاني هو الحكم الذي تكشف عنه الآية، وهو الحكم على المنافقين بالفسق: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".

 

والفسق هو الخروج من الجماعة المؤمنة. فلا تحسبوا أنّ الانتماء يحصل بحسب الظاهر، بحيث يحسب المنافقون أنفسهم أعضاءً في جماعة الإيمان فقط لأنّهم يعملون ببعض أعمال المؤمنين، ويعلنون إيمانهم بما يؤمنون به. وهذه الآية إعلانٌ أبديٌّ يحدّد القاعدة للانتماء وعدم الانتماء: المنافق ليس مؤمنًا بل هو فاسقٌ؛ أيّ خارجٌ من حظيرة الإيمان وجماعة المؤمنين.

 

معايير النفاق في كلّ عصر

تفيد الآية بحسب معناها الظاهر أنّ كلّ منافقٍ سواء كان رجلًا أم امرأةً له صفات هي الصفات التي ذكرتها الآية. كما يُستفاد من الآية بطريقة غير مباشرةٍ أنّه كلّما وجدت هذه الصفات في شخصٍ كان منافقًا.

 

وهذا المعنى غير المباشر أهمّ وأثرى؛ وذلك أنّك إذا عرفت أنّ هذا منافقٌ فمن الطبيعيّ أن تتوقّع منه بعض الأعمال والصفات القبيحة. والأهمّ من ذلك أن تكتشف نفاقه من صفاته وأعماله. ووجه الأهمّيّة أنّ النفاق غالبًا لا يمكن اكتشافه بسهولة لأنّه إخفاء الإنسان غير ما يظهر، فهذا المعنى غير المباشر للآية يعلّمنا كيف نكتشف النفاق من الأفعال والصفات.

 

 

 

445


391

تفسير سورة براءة

وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّاeَ نَاeَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿68﴾ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿69﴾

 

447


392

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

كشفت الآية السابقة عن أربع علامات للمنافقين والمنافقات، هي: الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، والإمساك، ونسيان الله.

 

كما بيّنت الجزاء الإلهيّ لهذه الخصال النفاقيّة؛ وذلك أنّ من ينسى الله فإنّه تعالى ينساه في أوقات الإثابة والجزاء الحسن، وختمت الآية السابقة بالحكم على المنافقين بالفسق والخروج من الدين.

 

وهاتان الآيتان تكادان تكونان تكميلًا لما بيّنته الآية السابقة؛ ففي هاتين الآيتين أوعد الله المنافقين والمنافقات بالعذاب في الآخرة والخزي والذلّ في الدنيا.

 

تتحدّث الآية الأولى عن أمور عدّة، هي: أنّ موقع المنافقين والكافرين يوم القيامة في نار جهنّم والخلود في عذابها؛ والأمر الثاني: الابتلاء بلعن الله لهم، واللعن هو الإبعاد عن رحمة الله وفضله؛ والأمر الثالث: العذاب الخالد الأبديّ.

 

السؤال الأوّل: الذي يخطر في بال من يتأمّل في الآية هو: ما السرّ الداعي إلى الجمع بين المنافقين والكفّار في الوعيد في قوله تعالى: "وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّار"؟ والجواب أنّ السمة المشتركة بينهم هي الكفر؛ وذلك أنّ المنافقين وإن أظهروا الإيمان إلّا أنّهم كافرون في الباطن.

 

السؤال الثاني: إذا كان المنافقون كافرين بحسب الباطن فلماذا لم تكتفِ الآية بالحديث عن الكفّار، واستخدام كلمة تشمل الصنفين؟ والجواب هو: أنّ المنافقين بحسب النظرة السطحيّة يُعدّون مؤمنين، على الرغم من كفرهم

 

 

449

 


393

تفسير سورة براءة

الباطنيّ. وبعض هؤلاء تسرّهم المظاهر الدينيّة وتسعدهم؛ ولكنّ الآية تبيّن لأصحاب هذه الرؤية السطحيّة أنّ المنافقين والكافرين من القماش نفسه.

 

وعلى المؤمنين تبنّي هذا التقويم للمنافقين والنظر إليهم بهذه العين، ولا يصحّ منهم ترجيح النفاق والمنافقين على الكافرين بذريعة أنّ هؤلاء على الأقلّ يتوافرون على مظاهر الإيمان وظواهره، أمّا الكافر فظاهره وباطنه كلاهما كفرٌ. إذًا، عندما يكون تقويم الكافرين بحسب النظرة الإلهيّة هو هذا، على المؤمنين أن يتبنّوه بالحرف وينظروا إليه بهذه العين. وقد وعد الله الفئات الثلاث؛ أيّ المنافقين، والمنافقات، والكافرين، بالعذاب الجسمانيّ في نار جهنّم، ونحن نؤمن بالمعاد الجسمانيّ، وبالتالي نؤمن بأنّ العذاب المتوعّد به جسمانيٌّ أيضًا.

 

"خَالِدِينَ فِيهَا": الخلود الأبديّ في جهنّم هو بحدّ ذاته عذابٌ آخر، فأولئك الذين يدخلون جهنّم على أمل الخروج منها ولو بعد حين، يتعذّبون، ولكنّ الأمل بالخروج يخفّف عنهم. أمّا المحكوم عليهم بالخلود في نار جهنّم فإنّ عذابهم مضاعفٌ.

 

"هِيَ حَسْبُهُمْ": حسبهم أيّ تكفيهم. وقد ذكر المفسّرون معانيَ عدّة لتفسير هذه العبارة، أقربها في ما نحسب هو أنّ هؤلاء ارتكبوا من الأعمال القبيحة وسوف ينالون من العذاب ما يوازي أعمالهم، وهم يستحقّون من العذاب بمقدار ما سوف ينالون، وهذه النار التي يتلظّون بحرّها توازي ما يستحقّون.

 

بُعد المنافقين عن رحمة الله في الدنيا والآخرة

الواو في عبارة "وَلَعَنَهُمُ اللّهُ" للعطف، ولمّا كان العطف يفيد التغاير، يُستفاد منها أنّ اللعن هو جزاءٌ آخر يختلف عن نار جهنّم والخلود فيها.

 

ويذكر المفسّرون هنا احتمالين؛ أحدهما: أنّ عطف اللعن على عذاب جهنّم والخلود فيها يبيّن تعدّد العذاب الذي سوف يحيق بالمنافقين يوم

 

 

450


394

تفسير سورة براءة

القيامة، وأنّ أحد العذابين جسدّيٌّ والثاني روحيٌّ ونفسيٌّ. ونقرأ في دعاء كميل ما يوضّح هذه الصورة في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك".

 

هذا ولكن من المعلوم أنّ الخوف من ألم "الفراق" خاصٌّ بعليّ وأمثاله في هذا العالم. وهو خاصٌّ بخواصّ الرجال، ولعلّنا لا نتوافر على المقدار الكافي من المعرفة التي تسمح لنا بتذوّق ألم فراق الله والبعد عنه! ولكن في الوقت نفسه، يكفينا أن ندرك أنّ فراق الله هو فراق نعمه ورضاه، فهذا المقدار من فهم الفراق متاحٌ لجميع الناس يوم القيامة، وربّما كان أكثر إيلامًا من العذاب الجسديّ.

 

والشاهد المؤيّد لهذه الدعوى أنّ الله تعالى في الآيات اللاحقة -وبعد بيان النعم الماديّة التي يمنّ بها على أهل الجنّة- يبدأ بالحديث عن النعم الروحيّة فيقول عز وجل: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾. وتفيد هذه الآية أنّ أقلّ مقدار من رضوان الله يفوق جميع النعم الماديّة التي ينالها أهل الجنّة. ومن المقابلة بين الرضوان وضدّه يمكننا القول إنّ العذاب الروحيّ أشدّ إيلامًا وأعظم وقعًا في النفوس المعذّبة. ومهما يكن الأمر، فقد أوعد الله المنافقين بالعذاب الروحيّ مضافًا إلى العذاب الماديّ.

 

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من قوله تعالى: "وَعَدَ الله المنَافِقِينَ وَالمنَافِقَاتِ" هو الوعيد بعذاب الآخرة، وأمّا اللعن فهو من عذاب الدنيا؛ بحيث إنّ الله يخبر في هذه الآية عن لعن المنافقين في الدنيا.

 

ومن يبعده الله أو يبعد نفسه عن رحمته تعالى تكون لحياته سماتٌ وصفاتٌ خاصّة: مثل هذا الإنسان لا يحظى بالإلهام الإلهيّ، ولا تُدار حياته وفق الهداية الإلهيّة. وهو لا يسير في الاتّجاه الذي يوصله إلى الله، ولا يعمل بالبرنامج الذي وضعه الله للمؤمنين وقرّره لهم في هذه الحياة الدنيا.

 

وفي هذا العصر عندما تنظر في المجتمعات التي تعيش حياةً ظاهرها

 

 

451


395

تفسير سورة براءة

الرفاه والسعادة عند الشعوب التي تدّعي الحضارة والمدنيّة، ويتمتّع أهلها بكثيرٍ من اللذّات الماديّة، وعندما تدقّق في حياتهم تكتشف آثار البعد عن رحمة الله عندهم؛ فالقلق والاضطراب هو الحاكم على حياتهم، والضياع ملحوظٌ بوضوحٍ بينهم، وكثيرٌ منهم يشعر بالعبثيّة والفراغ، وهذه المشكلات تُلاحظ عند شبابهم وشيوخهم، وعند علمائهم وجهّالهم. وهذا كلّه من آثار البعد عن رحمة الله.

 

لا يحسن بالإنسان أن يكون صاحب نظرةٍ سطحيّة، بحيث عندما يرى الآلات المتطوّرة والتقانة المتقدّمة، وهذه الأمور لا شكّ من مظاهر الحضارة والمدنيّة؛ ولكنّها أحد أبعاد الحضارة وليست كلّ شيء فيها، لا يجوز الانبهار بهذه المظاهر وحسبان أنّ من نالها حظي بالسعادة وقبض عليها من جميع أطرافها. بحسب واقع الحال لا يشعر كثيرٌ من هؤلاء بالسعادة؛ وبعضهم يعيش حياةً بائسةً وشقيّة. ومن يطالع أحوال الغربيّين يكتشف هذا بسهولة.

 

عندما تحيق لعنة الله بأمّةٍ من الأمم ويبتعدون عن رحمته عزّ وجلّ، لن تنال هذه الأمّة الهداية الإلهيّة ولن تستضيء بنورها، ولن يكون ربّان سفينتها أحد أولياء الله، وغالبًا ما يحيط البلاء بهذه الأمّة من كلّ حدبٍ وصوبٍ. وهذه قاعدةٌ وسنّةٌ دائمة، كلّ الأمم التي غفلت عن الله ضاقت عليها سبل الحياة، وشملتها اللعنة. والآية الثانية تؤيّد هذا الاحتمال.

 

"وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ": العذاب المقيم هو الدائم، ويبدو أنّ المقصود هنا هو العذاب الدائم في الدنيا؛ لأنّ الخلود في نار جهنّم قد تقدّم ذكره في الآية، في عبارة "خالدين فيها". وبناءً على هذا التفسير، ليس في هذه العبارة تكرارٌ لما تقدّم في الجملة التي سبقتها. والمنافقون في هذه الدنيا في حالة عذابٍ دائمٍ. فهم يشعرون بعذاب الضمير على الدوام، وهم يخشون على الدوام من كشف سرّهم وانكشاف ستارة الإيمان عمّا تحتها من نفاق. وهذا كلّه سببٌ من أسباب العذاب الدائم لهم.

 

 

452


396

تفسير سورة براءة

الرفاه والسعادة عند الشعوب التي تدّعي الحضارة والمدنيّة، ويتمتّع أهلها بكثيرٍ من اللذّات الماديّة، وعندما تدقّق في حياتهم تكتشف آثار البعد عن رحمة الله عندهم؛ فالقلق والاضطراب هو الحاكم على حياتهم، والضياع ملحوظٌ بوضوحٍ بينهم، وكثيرٌ منهم يشعر بالعبثيّة والفراغ، وهذه المشكلات تُلاحظ عند شبابهم وشيوخهم، وعند علمائهم وجهّالهم. وهذا كلّه من آثار البعد عن رحمة الله.

 

لا يحسن بالإنسان أن يكون صاحب نظرةٍ سطحيّة، بحيث عندما يرى الآلات المتطوّرة والتقانة المتقدّمة، وهذه الأمور لا شكّ من مظاهر الحضارة والمدنيّة؛ ولكنّها أحد أبعاد الحضارة وليست كلّ شيء فيها، لا يجوز الانبهار بهذه المظاهر وحسبان أنّ من نالها حظي بالسعادة وقبض عليها من جميع أطرافها. بحسب واقع الحال لا يشعر كثيرٌ من هؤلاء بالسعادة؛ وبعضهم يعيش حياةً بائسةً وشقيّة. ومن يطالع أحوال الغربيّين يكتشف هذا بسهولة.

 

عندما تحيق لعنة الله بأمّةٍ من الأمم ويبتعدون عن رحمته عزّ وجلّ، لن تنال هذه الأمّة الهداية الإلهيّة ولن تستضيء بنورها، ولن يكون ربّان سفينتها أحد أولياء الله، وغالبًا ما يحيط البلاء بهذه الأمّة من كلّ حدبٍ وصوبٍ. وهذه قاعدةٌ وسنّةٌ دائمة، كلّ الأمم التي غفلت عن الله ضاقت عليها سبل الحياة، وشملتها اللعنة. والآية الثانية تؤيّد هذا الاحتمال.

 

"وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ": العذاب المقيم هو الدائم، ويبدو أنّ المقصود هنا هو العذاب الدائم في الدنيا؛ لأنّ الخلود في نار جهنّم قد تقدّم ذكره في الآية، في عبارة "خالدين فيها". وبناءً على هذا التفسير، ليس في هذه العبارة تكرارٌ لما تقدّم في الجملة التي سبقتها. والمنافقون في هذه الدنيا في حالة عذابٍ دائمٍ. فهم يشعرون بعذاب الضمير على الدوام، وهم يخشون على الدوام من كشف سرّهم وانكشاف ستارة الإيمان عمّا تحتها من نفاق. وهذا كلّه سببٌ من أسباب العذاب الدائم لهم.

 

 

452


396

تفسير سورة براءة

والنقطة الأهمّ والأكثر حساسيّة وتعليمًا هي أنّه حتّى لو افترضنا وجود مجتمع جميع أعضائه وأفراده من المنافقين؛ بحيث يظلّل النفاق كلّ من يعيش في هذا المجتمع، فهذا المجتمع لن يشعر بالسعادة، وسيكون معذّبًا في هذه الحياة أيضًا.

 

فالمجتمع الذي يدّعي الانتماء إلى الإسلام؛ ولكنّه في الباطن يضمر الكفر وعدم الإيمان، مثل هذا المجتمع مجتمع نفاق؛ وذلك لأنّ تعريف النفاق ينطبق عليه: "أظهر الإيمان وأبطن الكفر". وعلى الرغم من أنّ مثل هذا المجتمع يرفض الاتّصاف بالنفاق، ويعدّ نفسه مجتمعًا مؤمنًا، فإنّه ليس فيه من الإيمان حتّى الرائحة، لا في العمل ولا في نظام الحياة الاجتماعيّ. مثل هذا المجتمع يدّعي الإخلاص والبعد عن الرّياء، وفي الواقع هو غارقٌ في الرياء. وهذا المجتمع المفترض يصدق عليه أنّه في عذابٍ مقيمٍ، ولن يذوق أهله طعم السعادة أبدًا.

 

وفي الآية اللاحقة عند قوله تعالى: "كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ" حصل انتقال من الغيبة إلى الخطاب، وتوجّهت الآية بالخطاب إلى جماعة لتشبّههم بمن كان قبلهم. وبين الآيتين ارتباطٌ لا بدّ من اكتشافه والالتفات إليه. وثمّة احتمالان في المراد من المخاطب في الآية: هل هم المنافقون؟ أم جميع أفراد المجتمع الإسلاميّ؟ والاحتمال الأوّل يستند إلى ظاهر الآية فيكون المخاطب والمقصود بضمير الكاف هو المنافقون وحدهم.

 

والاحتمال الثاني هو أن يكون المخاطب هم الناس جميعًا، وذلك بمقتضى التشبيه الذي ورد في عدد من الأحاديث والأخبار. والآية تشبّه المخاطبين بمن سبقهم من الأمم الذين كانوا أشدّ منهم قوّةً وأكثر مالاً وعددًا: "كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا". والقوّة في الآية هي القوّة البدنيّة أو السياسيّة.

 

وأكثر المفسّرين -ومنهم الشيخ الطبرسيّ في مجمع البيان- يميلون إلى

 

 

453

 


397

تفسير سورة براءة

أنّ القوّة في الآية هي البدنيّة[1]. ولكن، يبدو لنا أنّ الأرجح تفسيرها بالقوّة السياسيّة والاجتماعيّة، فإنّ بعض الأمم السابقة كانت قويّة في هذه الأمور، ولم يكن السابقون أقوى أبدانًا من المنافقين. ففرعون مثلًا، كان يتوافر على قوّة أشدّ من قوّة المنافقين في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك كان معارضو الأنبياء السابقين أقوى وأشدّ من المنافقين المعارضين للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

"فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ": تبيّن هذه الجملة وجه الشبه في الحياة بين الطرفين، وتقول أولئك نالوا نصيبهم من الحياة، والكافرون الذين سبقوكم نالوا نصيبهم منها. فالخلاق هو النصيب والحظّ من الشيء. ونصيب الإنسان وحظّه هو ما يصل إليه من نعم الدنيا وما فيها.

 

"وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ": ووجه الشبه الثاني بين الطرفين أنّكم تورّطتم وانهمكتم في الأعمال والأمور التي تورّطوا وانهمكوا فيها؛ فأنتم تشغلون أنفسكم بالأعمال عينها التي كانوا يشغلون أنفسهم بها. وبالتالي بينكم وبينهم تطابقٌ كاملٌ في الحياة ونمط العيش.

 

"أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ": مصير أولئك الذين سبقوكم ووصفنا لكم حياتهم هي ذهاب أعمالهم سدًى (الحبط) وضياعها. وإذا كانوا ينالون شيئًا فإنّهم نالوا ما نالوا في الدنيا وليس في الآخرة. وكلّ المعاملات والأعمال والحسابات التي نظّمها أولئك السابقون كانت معاملاتٍ خاسرةً باطلة.

 

وعندما تكون حياة المجتمع الإسلاميّ شبيهةً بحياة الأمم السابقة، سوف يكون مصير المؤمنين عين مصير المؤمنين من أهل الأمم السابقة، وسوف يتشابه مصير المنافقين مع مصير منافقيهم، وكذلك كفّارهم مع كفّارهم. هذا ولا مانع يمنع من تخصيص الخطاب بالمنافقين؛ ولكن يبدو أنّ الخطاب عامٌّ والآية تشمل المؤمنين أيضًا.


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 85.

 

 

454


398

تفسير سورة براءة

وثمّة مطلبٌ آخر وهو أنّ الآية 69 تتحدّث عن دنيا الأمم السابقة وعن مصيرهم فيها، والتشبيه بحرف الكاف ينبغي أن يكون تشبيهًا لدنيا هؤلاء بدنيا أولئك، بهدف بيان التشابه بين الطرفين في العاقبة والمصير. وهذا يقوّي أن يكون المراد من اللعنة البعد عن الرحمة في الدنيا. نعم، لا مانع من أن يكون ذلك في الدنيا والآخرة، ولكنّنا اعتدنا تفسير جميع أنواع العذاب بالعذاب الأخرويّ وهذا لا ضرورة ولا موجب لحصر التهديد الإلهيّ بالعذاب بالآخرة، فرُبّ عذابٍ يتوعّد الله عليه الناس في الدنيا.

 

تثير عبارة: "فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ" سؤالًا في ذهن القارئ هو أنّ لسانه يوحي بشيء من السلبيّة، والسؤال هو: هل يقبح من الإنسان أو يحرم عليه أن يستمتع بنصيبه في الدنيا؟ ينبغي الالتفات إلى صحّة هذه الاستفادة ولا شكّ في أنّ لحن الآية وطريقة خطابها توحي بالذمّ والتأنيب، ويُستفاد هذا من سياق الآية والمضامين التي احتوتها. هذا ولكنّ الذمّ لا ينصبّ على أصل استفادة الإنسان من نصيبه في الدنيا؛ بل على طريقة الاستفادة، فالسابقون واللاحقون مشكلتهم أنّهم كانوا ينفقون أموالهم ويصرفون إمكاناتهم على منافعهم الشخصيّة، وإرضاءً لشهواتهم وميولهم. وكانوا إذا نال أحدهم نصيبًا من الدنيا أمسكه لنفسه ولم يشرك أحدًا فيه. وهذا هو الأمر السلبيّ الذي يجعل تمتّع الإنسان بنصيبه من الدنيا أمرًا قبيحًا.

 

التشابه والتكرار في التاريخ

تفيد هذه الآية أمرًا عامًّا وأشمل من الأمور التي ذكرناها حتّى الآن، وتساعد آياتٌ أخرى على فهم هذا المطلب من القرآن الكريم. وهذا الأمر هو ما يعبّر عنه بـ"التاريخ يعيد نفسه" وهي فكرة تشير إلى تشابه الأمم في حركتها التاريخيّة. ويحسب البعض أنّه هو الذي اكتشف هذا المبدأ التاريخيّ الخطير. ولكن يبدو أنّ القرآن سبق كلّ الذين نظّروا لهذا الأمر، وبيّن أنّ تاريخ الأمم يتشابه ويتطابق في بعض الأحيان.

 

455

 


399

تفسير سورة براءة

هذه الآية والآيات المشابهة توحي بأنّ جميع الحوادث والظواهر والوقائع التاريخيّة من أوّلها إلى آخرها، ومن فجر تاريخ البشريّة إلى الساعة التي نحن فيها، كلّ ذلك خاضعّ لقوانين ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل. ففي جميع العصور علّة تقدّم الأمم واحدة، وهي تسير إلى الأمام وفق مجموعةٍ من الأسباب المشتركة بينها، وفي المقابل ثمّة عوامل وعناصر محدّدة ومشتركة تؤدّي إلى سقوط الأمم وهوانها. فإذا اكتشفنا سبب الفساد والانحطاط عند أمّةٍ من الأمم يمكننا نسبة انحطاط أمّة أخرى ومجتمع آخر إلى هذا السبب والبحث عن وجوده عندها، حتّى لو كان الفاصل الزمنيّ بين الأمّتين والمجتمعين قرونًا. فسنن الكون والتاريخ ثابتةٌ لا تتغيّر، والعناصر المؤثّرة في هداية المجتمعات إلى الجادّة أو انحرافها يمينًا أو يسارًا مشتركةٌ ودائمة التأثير والفعاليّة. والعكس صحيحٌ أيضًا، فإذا اكتشفنا سبب تقدّم مجتمعٍ من المجتمعات يمكننا البحث عن هذا السبب عينه عند أمّةٍ أخرى، أو اعتماده لإحداث نقلةٍ حضاريّة في مجتمعٍ آخر، أو لتفسير التطوّر في هذا المجتمع. المشكلة التي قد تواجهنا هي خطأنا في تشخيص أسباب الازدهار والانحدار، أمّا إذا أصبنا في التشخيص، فلا شكّ في إمكان التعميم وتطبيق القاعدة على سائر الأمم، فلا ينبغي تفسير هذه الظواهر بالاستثناءات والخروج عن القواعد. ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "لعمري، لو كنّا نأتي ما أتيتم لما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عودٌ"[1]. هذا الكلام لا ينبغي حصره بالإمام عليه السلام وأصحابه، فعندما يكون سلوك أمّة من الأمم مثل سلوك أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام سوف تصل الأمّة إلى النتيجة نفسها التي وصلت إليها الأمّة في عهده. فهذه القواعد والقوانين الاجتماعيّة تشبه القواعد الطبيعيّة في وحدتها ووحدة آثارها ونتائجها، فالنار تحرق دائمًا، والماء يرطّب باستمرار، والأرض تجذب الأشياء إليها قديمًا وحديثًا.... والتاريخ يتكرّر ويسير وفق قوانين وسنن مشتركة.

 

 


[1] نهج البلاغة، الخطبة 56.

 

 

456


400

تفسير سورة براءة

البحث الروائيّ

ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾[1] رواية بهذا المضمون الذي نتحدّث عنه وهو تشابه الأمم في مصائرها، عن المعصو  عليه السلام وهي رواية ينبغي قبولها والاعتقاد بصحّة مضمونها. والمعصوم عليه السلام يبيّن في هذه الرواية المنقولة عنه بطريقة كنائيّة تشابه الأمّة المعاصرة مع الأمم السابقة في سلوكها، ويشرح لمعاصريه أنّ الأمّة الإسلاميّة ليست استثناءً بين الأمم سوف ترتكب ما ارتكبته الأمم السابقة، وسوف تكرّر أخطاء الماضين، وبدأ الخلل في مسألة الولاية وخلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يصل بحسب الرواية إلى نقض عرى الإسلام عروةً عروةً:

"لتركبنّ سنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، ولا يُخطأ طريقهم شبْرٌ بشبْرٍ وذراعٌ بذراع، حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبٍّ لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟! لينقض عرى الإسلام عروةً عروة، فيكون أوّل ما يُنقض من دينكم الإمامة وآخره الصلاة"[2].

 

وورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "يكون في آخر الزمان... يقبلون على الصلاة والصيام... ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها..."[3].

 

 


[1] سورة الانشقاق: الآية 19.

[2] تفسير القمّيّ، ج 2، ص 212-213.

[3] الكافي، ج 5، ص 55.

 

 

457


401

تفسير سورة براءة

 

 

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ

أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾

 

 

458


402

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

كشف الله في الآية 67 عن بعض علامات النفاق، وأوعد المنافقين في الآية 68 بالعذاب جزاءً لهم على خصالهم وسلوكهم. وفي المقابل تبيّن الآية 71 بعض علامات الإيمان والمؤمنين، وفي الآية 72 سوف يأتي الوعد بالنعيم ورحمة الله. ويُستفاد من هذه المجموعة من الآيات أنّ الإيمان والنفاق مفهومان متقابلان، كما يُستفاد أنّ المؤمنين والمنافقين جماعتان تشكل كلٌّ منهما جبهة في مواجهة الأخرى، والتقابل بينهما أعمق من التقابل بين المؤمنين والكفّار.

 

صفات جبهة المؤمنين

تشرح لنا هذه الآية صفات المؤمنين وتكشف عن بعض العلامات المميّزة لهم في سلوكهم وطريقة تصرّفهم. ولكنّها تبدأ بالإشارة إلى نقطة مهمّة جدًّا هي نقطة العرى الوثيقة التي تربط بينهم. يقول سبحانه: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ"، بينما في وصف العلاقة بين المنافقين قال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ"، وهذه العبارة الأخيرة تكشف عن مستوى من التشابه والاتّفاق بين المنافقين، فهم ينتمون إلى طبيعةٍ واحدة هي طبيعة النفاق، وربّما اختلف مستوى النفاق من واحد منهم إلى آخر، ولكنّ الزيادة والنقص لا يحوّلان النفاق عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فهم يفكّرون بطريقةٍ واحدة، ويخالفون الحقّ بأسلوب واحدٍ، ويخفون رذائلهم الأخلاقيّة ويظهرون عكسها.

 

 

 

460

 


403

تفسير سورة براءة

وأمّا في وصف العنصر المشترك بين المؤمنين، فقد أشارت الآية إلى أمرٍ أعمق وأكثر أهميّة، وهو ما عبّر الله عنه بالولاية، فالمؤمنين لا شكّ يربطهم الإيمان وما يقتضيه من سلوك وتصرّفات محدّدة؛ ولكنّ الفارق بينهم وبين المنافقين أنّ العلاقة بينهم هي علاقة ولاية، فبعضهم وليّ بعضٍ.

 

مفهوم الولاية

بيّنا سابقًا في مرّات عدّة معنى الولاية، وأنّ الأساس في الولاية هو الترابط الوثيق بين طرفين. فولاية شيء لشيء تعني أنّ بين الشيئين علاقةً وترابطًا، وهذا الترابط ترابطٌ دائمٌ ومستمرّ، وهذا المعنى مشتركٌ بين جميع حالات استخدام هذه الكلمة على الرغم من بعض الاختلافات المرتبطة بالمصاديق والحالات التشريعيّة التي تترتّب عليها.

 

قد يكون بين شخصين "ولاية إرثٍ"، وفي بعض الحالات قد تكون الولاية ولاية سلطة، وهذا مصطلح سياسيٌّ، وقد تكون الولاية مشيرةً إلى علاقة نسبيّة بين شخصين، وفي بعض الحالات قد تكون الولاية ناجمةٌ عن علاقةٍ تعاقديّةٍ كما في حالة العلاقة بين العبد وسيّده، فالسيّد هو وليّ العبد، وكذلك إذا نال العبد حريّته وأعتق تنشأ بينه وبين معتقه علاقة ولاية تُسمّى "ولاية العتق"، ومن ينصر شخصًا يكون وليّه، ومن يحبّ شخصًا يكون بينه وبين ذلك الشخص ولاية.

 

وعلى أيّ حال، تتنوّع معاني الولاية ولا يمكن حصرها في معنًى واحد من المعاني التي عرضناها أعلاه. وعلى الرغم من التنوّع الذي بيّناه فإنّ مركز المعنى في مفهوم الولاية هو العلاقة الوثيقة بين طرفين، وتتنوّع بتنوّع أطرافها.

 

وإذا لم يساعد السياق الذي استُخدمت فيه كلمة ولاية على معرفة المقصود بدقّة ينبغي حملها على المعنى المشترك وهو أصل العلاقة والرابطة بين طرفين. وتحديد نوع هذه الولاية ومستواها وتجلّياتها التشريعيّة والأخلاقيّة وغير ذلك يحتاج إلى قرينة.

 

 

461

 


404

تفسير سورة براءة

معنى الولاية بين المؤمنين

ليست الولاية بين المؤمنين مجرّد ولاية نسبٍ أو إرثٍ أو محبّة؛ وذلك لأنّ هذا النوع من العلاقات ليس خاصًّا بالمؤمنين، فلا بدّ من البحث عن معنًى آخر، وقد حاول المفسّرون اكتشاف نوع الولاية المشار إليه في الآية. يرى الشيخ الطبرسيّ  رحمه الله أنّ الولاية هي ولاية النصرة: "بعضهم أنصار بعضٍ"[1].

 

وهذا الاحتمال معقولٌ ويمكن حمل الآية عليه. فالمؤمنون لا يكتفون بأنّهم من طبيعةٍ واحدة، وأنّ مسارهم واحد، ووجهتهم واحدة؛ أمّا المنافقون فيكفيهم أن تكون الجهة الجامعة بينهم هي الاشتراك في خصلة النفاق ووحدة المسار. ولكن هل بين المنافقين علاقة ولاء؟ الجواب هو النفي؛ لأنّ المنافقين قد يتخلّى بعضهم عن بعضٍ عند أوّل أزمةٍ، ويتبادلون الخيانة والتخوين. وهذا هو ما تقتضيه طبيعة النفاق. نعم يتوحّد المنافقون في مواجهة الحقّ، ولكن لا يعني هذا التوحّد الولاء الداخليّ بينهم؛ بل قد يضرب بعضهم بعضًا ويؤذي أحدهم الآخر عند تعارض المصالح. وهم أشبه بالحيوانات المفترسة التي قد تتوحّد ضدّ عدوٍّ مشتركٍ، ولكن بمجرّد ارتفاع الخطر تعود إلى الصراع الداخليّ في أيّ لحظة.

لا وفاء ولا صفاء في العلاقات بين المنافقين. والمؤمنون حالهم على العكس تمامًا، فهم ليسوا من طينة واحدة وطبيعة مشتركة فحسب؛ بل بينهم علاقة ولاء وتناصر، فإذا واجهوا عدوًّا مشتركًا وتضامنوا ضدّه وانتصروا عليه، عندما يعودون إلى ديارهم وحياتهم الطبيعيّة تبقى فيهم هذه الروح الواحدة، ويبقى الصفاء والوفاء حاكمًا سيّد العلاقة بينهم، وهذا يجعل التناصر المتبادل وأخذ بعضهم بيد بعضٍ هو الحالة الحاكمة والسائدة في علاقاتهم.

 

النساء المؤمنات تنطبق عليهنّ هذه القاعدة أيضًا. يقول المرحوم الطبرسيّ في الحديث عن التناصر عند المؤمنات والمؤمنين: "...أيّ بعضهم


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 87.

 

462


405

تفسير سورة براءة

أنصار بعضٍ، يلزم كلّ واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته، حتّى إنّ المرأة تهيّئ أسباب السفر لزوجها إذا خرج. وتحفظ غيبة زوجها.."[1]..

 

كانت النساء في صدر الإسلام تشارك في جبهات القتال؛ على الرغم من أنّهنّ لم يكنّ يضربن بالسيوف عادةً، سوى في حالات خاصّة ونادرة؛ ولكن كان لهنّ دورٌ وتأثير في مجريات الجهاد ووقائعه. ولو كانت تلك المشاركة في حدود تأمين العتاد وتجهيز المقاتلين ومداواة الجرحى.

 

على ضوء ما تقدّم ننتهي إذًا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ هو النصرة المتبادلة.

 

والاحتمال الثاني الذي يخطر في بالي على الرغم من عدم ملاحظتي إيّاه في كتب التفسير، هو أن لا نحصر الولاية بالنصرة؛ بل نعمّم معناها ليكون المراد أن المؤمنين صفٌّ واحدٌ وجبهةٌ، ويد واحدة على من سواهم.

 

وثمّة فرق بين المجموعة البشريّة التي تشترك في الفكر والهدف؛ ولكنّها لا تشكلّ صفًّا واحدًا ولا تجتمع في جبهة واحدة لتحقيق الأهداف المشتركة. وينسجم هذا المعنى مع الحديث المنسوب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "هم يدٌ واحدة على من سواهم"[2].

 

والاختلاف بين الحالتين دقيقٌ. فعندما يصطفّ مجموعة من الأشخاص متّحدين مع وحدة هدفهم تنسجم أعمالهم وتحرّكاتهم. انظروا إلى جسم الإنسان، فليس الجسم مجرّد أعضاء هي العينٌ والأذن والمعدة... اجتمعت فشكّلت جسمًا؛ بل إنّ بين هذه الأعضاء -إضافةً إلى وحدة الهدف- تنسيقًا وانسجامًا، فعندما يُصاب عضوٌ بخلل تتداعى سائر الأعضاء إلى مساعدته والدفاع عنه. فعندما تفرز غدّةٌ معيّنة مادّةً ما في الجسم، يتولّى العضو المتخصّص جذب هذه المقدار نفسه، وعندما تتحرّك المعدة تصدر ردّات فعلٍ عن الفم واللسان، فكلّ عضوٍ له دوره الخاصّ به


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 87.

[2] الكافي، ج 1، ص 403.

 

463


406

تفسير سورة براءة

والذي يتكامل في أداء هذا الدور مع سائر الأعضاء.

 

وبين صفوف المؤمنين نلاحظ أو يجب أن نلاحظ هذا الانسجام؛ بحيث تتطابق حركاته وتتناغم لتخدم الهدف المشترك الواحد. فالمؤمن عندما يقدم على عملٍ يقدّر حاجة المجتمع الإيمانيّ الذي يحتضنه، ويقدّم ما يحتاجه هذا المجتمع، وإذا طرأ خللٌ أو فراغٌ في موقع يعمل الباقون على ملئه.

 

وبناءً على هذا الاحتمال يكون معنى "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ" أنّ بين المؤمنين -مضافًا إلى التناصر والمحبّة- اتّحادًا وتضامنًا وانسجامًا في العمل لتحقيق الأهداف المشتركة. وهذا ما عبّرنا عنه بالصفّ الواحد أو وحدة الصفّ، ويتجلّى هذا الأمر في تشكيل الهيئات والعمل الجماعيّ، وخاصّة المؤسّسات؛ لأنّ المؤسّسة تمتاز بقدرتها على تنظيم الجهود وتنسيقها.

 

صادقو الإيمان لا يعمل أحدهم ضدّ الآخر. وممّا يؤسى له أنّ المؤمنين في عصرنا ليسوا على هذه الحالة، وفي بعض الأحيان يقدم طرفان من أهل الإيمان على أعمال خيّرة؛ ويحاول أحد الطرفين نفي الآخر وإلغاءه.

 

مثل المؤمنين كمثل البناء المؤلّف من قطع من الأحجار والحديد والخرسانة يشدّ بعضه بعضًا ويمسكه أن ينهار ويقع: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا"[1]. والمؤمنون كذلك يشدّ بعضهم بعضًا. هذه هي الحالة المطلوبة والمرغوب فيها في مجتمع المؤمنين. أمّا جماعة المنافقين، فلا شيء من هذا عندهم، فهم على الرغم من اتحادهم الظاهريّ فإنّ قلوبهم شتّى. وعلى المؤمنين الالتفات إلى واقعهم والحذر من فقدان هذه الخاصيّة المميّزة لجماعتهم. وإذا لم تكن موجودة بيننا علينا تحقيقها وإيجادها، وعلينا السعي للمحافظة على جهود غيرنا من المؤمنين وعدم تسقيطهم إذا رأيناهم ابتكروا أسلوبًا جديدًا في العمل أو اعتمدوا أسلوبًا غير مألوفٍ لنا.


 


[1] نهج الفصاحة، ص 779.

 

 

464


407

تفسير سورة براءة

علامات المؤمنين

بعد حديثها عن طبيعة المؤمنين، انتقلت الآية إلى استعراض علامات المؤمنين وسماتهم المميّزة لهم. وذكرت أربع علامات تقع تمامًا في الجهة المقابلة والمعاكسة لصفات المنافقين. فالعلامة الأولى من علامات المؤمنين هي الأمر بالمعروف في مقابل علامة النفاق التي هي الأمر بالمنكر. والعلامة الثانية هي النهي عن المنكر في مقابل أمر المنافقين به. والثالثة إيتاء الزكاة في مقابل السمة المميّزة للمنافقين وهي الإمساك وقبض الأيدي. والرابعة إقامة الصلاة والالتفات إلى الله مقابل نسيان الله الذي كان علامة من علامات النفاق.

 

وبإزاء هذه الصفات الحسنة التي يتحلّى المؤمنون بها، يعدهم الله بالجزاء المناسب وهو الرحمة: "سَيَرْحَمُهُمُ الله"، في مقابل نسيان الله المنافقين وحجب رحمته عنهم: "فَنَسِيَهُمْ". وثواب المؤمنين هو الجنّات الملأى بالنعم الموفورة في مقابل الخلود في جهنّم للمنافقين، مضافًا إلى العذاب الروحيّ باللعن والإبعاد عن رحمة الله. وبناءً عليه، بين الآيتين 67 و 71 تقابلٌ كاملٌ بين وضعي المؤمنين والمنافقين.

 

قلنا في تفسير أوائل سورة الأنفال إنّ الإيمان له علامات فإذا فقدت هذه العلامات المذكورة في تلك الآيات الشريفة كشفت عن فقدان الإيمان؛ وذلك لأنّ المؤمن الحقيقيّ والواقعيّ هو من توافرت فيه تلك الصفات وتحلّى بها[1].

 

وهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، تعرّف لنا المؤمن الحقيقيّ، وتذكر لنا بعد بيان الطبيعة العامّة للإيمان، تذكر لنا صفاتٍ أو خصالًا أربعًا من خصال المؤمنين وصفاتهم. فإذا فُقِدت هذه الصفات فُقِد الإيمان، وإذا وجدت وُجِد.


 


[1] انظر: سورة الأنفال: الآيات 2-4.

 

465


408

تفسير سورة براءة

 

العلامة الأولى: الأمر بالمعروف

أُولى علامات الإيمان وفق هذه الآية هي "الأمر بالمعروف": "يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ". ومعنى كونها علامة أنّه لا يمكن انطباق عنوان الإيمان على شخص غير آمرٍ بالمعروف، أو مؤمن لا يرى الأمر بالمعروف واجبًا من واجباته. ومن كان كذلك ينبغي الشكّ في صدق إيمانه.

 

وللمرحوم الشيخ الطبرسيّ كلامٌ جميلٌ أنقله هنا: "وفي الآية دلالة على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأعيان؛ لأنّه جعلهما من صفات جميع المؤمنين، ولم يخصّ قومًا منهم دون قوم"[1].

 

العلامة الثانية: النهي عن المنكر

العلامة الثانية من علامات الإيمان هي "النهي عن المنكر": "وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكَرِ". وهذا يعني أنّ المؤمنين لا يكتفون بالأمر بالأفعال الحسنة؛ بل يضمّون إلى ذلك النهي عن الأعمال القبيحة. وهذان الواجبان متلازمان، يكمّل أحدهما الآخر. فالمجتمع الذي يكتفي بالأمر بالمعروف ويترك النهي عن المنكر، لا يحصل على المنفعة المرجوّة من الأمر. وإذا تناصح الناس بدعوة بعضهم بعضًا بأداء الأعمال الحسنة وتركوا النهي عن المنكر، مثل هذا المجتمع سوف يصل إلى الفشل، وسوف تُبطِل المنكرات جميع الأعمال الحسنة التي أُمِر بها في هذا المجتمع. ولا يتحقّق الهدف من أيّ من هذين التكليفين وحده، بل لا بدّ من الجمع بينهما وضمّ أحدهما إلى الآخر.

 

عموم وجوب الأمر والنهي

من القضايا التي تُستفاد من الآية قضيّة عموم التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومطالبة جميع المكلّفين بهذين التكليفين. بالاستناد إلى


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 88.

 

 

466


409

تفسير سورة براءة

سياق عبارة: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"، وبالنظر إلى فهم العارفين باللغة العربيّة، لا يصحّ لمؤمن أو مؤمنة أن يترك أداء هذا الواجب. فكلّ من اتّصف بالإيمان عليه التحلّي بهاتين الخصلتين :الأمر والنهي. ومن يدّعي الإيمان ولا يؤدّي هذين الواجبين عليه أن يشكّ في صدق إيمانه.

 

وتفصيل البحث في هذه الفريضة موكولٌ إلى كتب الفقه؛ ولكن أسمح لنفسي بالتعرّض لها في حدود ما لا يخرجنا عن دائرة التفسير.

 

يفيد ظاهر الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مكلّف؛ ولكن ثمّة تعقيدات تواجه فهمنا لهذه الآية التي يُستفاد من ظاهرها عموم التكليف بالأمر والنهي على جميع المكلّفين، وقد أشرنا قبل قليل إلى استفادة الشيخ الطبرسيّ من الآية أنّ الوجوب الذي تثبته هو وجوبٌ عينيٌّ. بينما يُستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[1]، عدم العموم لجميع الناس؛ لأنّ الآية تندب المؤمنين إلى أن يتولّى الأمر والنهي أمّةٌ منهم، ولا يتوجّه الخطاب إليهم جميعًا.

 

وبعبارةٍ أخرى: تقتضي "من" التبعيضيّة في "ولتكنْ منكُم..". أنّ هذه الفريضة مطلوبة من بعض الناس وليست مطلوبةً من الجميع. وبالتالي، يبدو أنّ بين الآيتين تعارضًا ظاهريًّا لا بدّ من رفعه لأنّنا نعلم استحالة وقوع التعارض في القرآن.

 

في معالجة هذا الإشكال نقول: إذا كانت "من" للتبعيض يرد الإشكال ويقع التعارض بين الآيتين؛ ولكن الصحيح أنّ "من" بيانيّة، والمعنى هو: يجب أن تظهر الجماعة المؤمنة بصورة جماعة آمرةٍ بالمعروف وناهية عن المنكر.

 

وهذا التعبير يشبه قولنا: "أيّها السادة! تعالوا لنضرب من هذه الحوزة


 


[1] سورة آل عمران: الآية 104.

 

 

476


410

تفسير سورة براءة

العلميّة رأسَ أعداء الإسلام". أو يشبه قولنا: "أنا أصنع من هؤلاء الطلاب أشخاصًا صالحين". وفي الأمثلة الثلاثة كلمة من لا تبعيض فيها، ومثل هذه العبارات متداولة ورائجة في الحياة اليوميّة في اللغتين الفارسيّة والعربيّة. وعليه، لا يُراد من "ولتكن منكم..". "ليكن بعضكم..".؛ أيّ لتقم جماعة أو طائفة منكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى هذا التفسير لا يرتفع التعارض الموهوم فحسب، بل تتّحد الآيتان في الدلالة على معنى مشترك.

 

والإشكال الثاني أنّه يُستفاد من الروايات الواردة، ومن آراء العلماء وفتاواهم أنّ من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعرفة بهما، ولا يمكن أداء هذا الواجب من دون معرفة. وهذا الأمر ينبغي أن يكون من الواضحات التي يمكن اكتشافها بالتحليل؛ حتّى لو فرضنا عدم وجود رواية عن المعصومين عليهم السلام أو فرضنا أنّ العلماء لم يفتوا بهذا الشرط ولم يصرّحوا به. فالعقلُ وحده دليلٌ كافٍ لاكتشاف هذا الشرط، وهو يفهم توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المعرفة بهما.

 

ومن لوازم هذا الشرط أن لا يكون التكليف عامًّا وشاملًا؛ وذلك لأنّ المعرفة ليست متاحةً لجميع الأشخاص، فبعض الأشخاص فقط هم الذين يتوافر فيهم هذا الشرط. وحاصل الإشكال: أنّ الآية تفيد عموم وجوب الأمر والنهي، بينما نحن نعلم أنّ الأمر والنهي محصوران بمن يعلم فقط.

 

والجواب يبلغ الغاية في الوضوح، فعندما تكون دلالة الآية واضحة في العموم ويدلّ العقل على اشتراط المعرفة، نستنتج من الجمع بين الدليلين وجوب تحصيل المعرفة للتمكّن من أداء الواجب.

 

نعم، قد لا يعرف بعض الناس المعروف والمنكر؛ ولكن عليهم تحصيل المعرفة بهما للتمكّن من أداء التكليف. وتحصيل العلم والمعرفة في المجتمع الإسلاميّ واجبٌ عينيٌّ. ولا يجيز الإسلام لأحد أن يبقى غارقًا في ظلمة الجهل، فلا يعرف الحسن من القبيح. يجب على جميع الناس التعرّف إلى

 

 

468


411

تفسير سورة براءة

التعاليم والمعارف الكليّة والمبادئ الأساسيّة للدين. ويجب أن يعرف الجميع أنّ هذا معروف وذلك منكر. يجب على جميع المسلمين معرفة الواجبات والمحرّمات كالزكاة والخمس والصلاة واحترام حقوق الناس، والظلم والانظلام... هذه الأمور لا يُعذر أحد بجهلها ولا يسعه ذلك. ولا يتوقّف علم الإنسان بهذه المبادئ على التفرّغ للدراسة في الحوزة العلميّة وقراءة الكتب الكبيرة والموسوعات الضخمة. كيف كان الحال في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل كان جميع المسلمين يعرفون تفاصيل الأحكام والتعاليم الإسلاميّة؟ إنّ عددًا من الناس كانوا يجهلون المقرّرات الفرعيّة والتعاليم التفصيليّة. ومع ذلك ينقل لنا التاريخ أنّ أحدهم أتى إلى الخليفة وقال له: "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناك بسيوفنا"[1]. والاعوجاج ليس هو عدم العمل بأحكام الإسلام الجزئيّة؛ بل المراد منه هو الانحراف عن المبادئ الكبرى. وعليه، فإنّ هذا الأعرابيّ كان يعرف أصول الإسلام ومبادئه الكبرى.

 

وخلاصة القول: تحصيل العلم واجب، والعلم ليس شرطَ وجوبٍ، بل هو شرط واجب[2]. وكون الواجب مشروطًا لا يصلح لتقييد الآية وحصر دلالتها بالوجوب على العالِمين فقط. بل إنّ هذه الآية تكشف لنا عن وجوب تحصيل شرط الواجب. فعندما يكون التكليف بالأمر عامًّا يجب تحصيل شروطه ومقدّماته.

 

 


[1] صلح الحسن عليه السلام ص 221.

[2] بعض الشروط هي شروط للوجوب مثل الاستطاعة التي هي شرطٌ في وجوب الحجّ، فالإنسان ما لم تحصل له الاستطاعة لا يجب عليه الحجّ. وبعض الشروط هي شروط في الواجب؛ فالفعل يكون واجبًا على الإنسان حتّى قبل تحققها، وإنما تُطلب هذه الأمور منه لتمكّنه من أداء الواجب، مثل الوضوء بالنسبة إلى الصلاة. فالإنسان مطالبٌ بالصلاة وهي واجبة عليه قبل الوضوء، ولكن إذا أراد أن يؤدّي هذا الواجب عليه أن يتوضّأ.

 

469


412

تفسير سورة براءة

موقع الأمر والنهي بين أحكام الإسلام

والقضيّة الأخرى الجديرة بالتوقّف هي قضية موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منظومة التعاليم والمقرّرات الإسلاميّة. تبدو مجموعة التعاليم الدينيّة كبناءٍ مترابط الأجزاء، كلّ جزءٍ منها له دوره وتأثيره في سائر الأجزاء، فلو أُخِلّ بجزءٍ ظهرت آثار الخلل في سائر الأجزاء. ومن هنا، يحسن بنا البحث عن موقع هذا الجزء المهم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بهدف معرفة حدوده ومدى تأثير تركه على سائر أجزاء منظومة التعاليم الدينيّة.

 

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الضمان لبقاء الإسلام. فلو لم يُشرّع هذان الواجبان أو تُرك العمل بهما، فسوف لن تبقى تلك الروح الصحيحة والسليمة في المجتمع الإسلاميّ. وبعبارةٍ أخرى: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سوف يُضعف الروح الثوريّة والتغييريّة في الإسلام.

 

وتوضيح كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة يحتاج إلى تفصيل الكلام على أصول الإسلام ومبادئه الكبرى، وعلى شرح طبيعة منظومة التعاليم والأحكام الإسلاميّة. وهذا غير متاحٍ في هذه المناسبة؛ لذلك نكتفي بما يفي بالغرض، ويبيّن المطلب ولو على نحو الإجمال.

 

لنفرض أنّ قافلةً تسير نحو مقصدٍ محدّد، في طريق متعرّج فيه الكثير من قطّاع الطرق والأعداء، وعلى أطراف هذا الطريق طرقٌ فرعيّة قد يخيّل للسالك أنّها توصل إلى المقصد أيضًا. مثل هذه القافلة تحتاج إلى قائدٍ أو عددٍ من القادة لتصل إلى مقصدها. فإذا صدر أمرٌ يطلب من أفراد القافلة الانتباه إلى أنفسهم: "قوا أنفسكم وأهليكم نارًا"[1]، كي لا تؤذيكم أشواك الطريق ولا يأسركم قطّاعها، ولا يهاجمكم حيوان مفترسٌ، ولا تتيهوا في الطرق الفرعيّة. ولمّا كانت هذه الاحتمالات واردةً بالنسبة إلى جميع المسافرين في


 


[1] سورة التحريم: الآية 6.

 

 

470


413

تفسير سورة براءة

موقع الأمر والنهي بين أحكام الإسلام

والقضيّة الأخرى الجديرة بالتوقّف هي قضية موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منظومة التعاليم والمقرّرات الإسلاميّة. تبدو مجموعة التعاليم الدينيّة كبناءٍ مترابط الأجزاء، كلّ جزءٍ منها له دوره وتأثيره في سائر الأجزاء، فلو أُخِلّ بجزءٍ ظهرت آثار الخلل في سائر الأجزاء. ومن هنا، يحسن بنا البحث عن موقع هذا الجزء المهم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بهدف معرفة حدوده ومدى تأثير تركه على سائر أجزاء منظومة التعاليم الدينيّة.

 

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الضمان لبقاء الإسلام. فلو لم يُشرّع هذان الواجبان أو تُرك العمل بهما، فسوف لن تبقى تلك الروح الصحيحة والسليمة في المجتمع الإسلاميّ. وبعبارةٍ أخرى: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سوف يُضعف الروح الثوريّة والتغييريّة في الإسلام.

 

وتوضيح كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة يحتاج إلى تفصيل الكلام على أصول الإسلام ومبادئه الكبرى، وعلى شرح طبيعة منظومة التعاليم والأحكام الإسلاميّة. وهذا غير متاحٍ في هذه المناسبة؛ لذلك نكتفي بما يفي بالغرض، ويبيّن المطلب ولو على نحو الإجمال.

 

لنفرض أنّ قافلةً تسير نحو مقصدٍ محدّد، في طريق متعرّج فيه الكثير من قطّاع الطرق والأعداء، وعلى أطراف هذا الطريق طرقٌ فرعيّة قد يخيّل للسالك أنّها توصل إلى المقصد أيضًا. مثل هذه القافلة تحتاج إلى قائدٍ أو عددٍ من القادة لتصل إلى مقصدها. فإذا صدر أمرٌ يطلب من أفراد القافلة الانتباه إلى أنفسهم: "قوا أنفسكم وأهليكم نارًا"[1]، كي لا تؤذيكم أشواك الطريق ولا يأسركم قطّاعها، ولا يهاجمكم حيوان مفترسٌ، ولا تتيهوا في الطرق الفرعيّة. ولمّا كانت هذه الاحتمالات واردةً بالنسبة إلى جميع المسافرين في


 


[1] سورة التحريم: الآية 6.

 

 

470


413

تفسير سورة براءة

القافلة، فإنّ الإنسان المسؤول والعاقل لا يكتفي بالالتفات إلى نفسه؛ بل يرى من واجبه الالتفات إلى رفاق سفره؛ كي لا يتورّط أحدٌ منهم في أحد هذه المحاذير المذكورة.

 

فإذا انحرف أحد الرفاق يمينًا أو يسارًا يجب أن يتصدّى سائر الركب لإعادته إلى الجادة، بالتنبيه أو حتّى بالإجبار. وإذا هاجم القافلة ذئب، يرى كلّ أعضائها وجوب الدفاع عن القافلة، وإذا تعب فردٌ لا يترك ليرتاح إذا خُشي عليه من التيه والضلال؛ بل يؤخذ بيده ويحاول الآخرون بثّ روح الصمود والجلد فيه كي يتابع السير، أو ربّما يُحمل ليبقى مع القافلة ولا يسقط في منتصف الرحلة.

 

وإذا انحرفت جماعةٌ، أو تعرّضت لهجوم، هل تترك لمصيرها لتتدبّر أمرها؟ لا، فقوانين القوافل تلزِم سائر الركب بالدفاع، والهداية إلى الجادّة إذا ضلّت جماعة الطريق، وانحرفت عن المسار يمينًا أو يسارًا. ولا يقول عضو القافلة المسؤول إنّهم جماعة يستطيعون اللحاق بالقافلة متى شاؤوا. بل كلّما كان عدد المنحرفين أو المتعرّضين للخطر أكبر ازداد الحرص على إعادتهم إلى القافلة. بل حتّى لو انحرفت القافلة إلّا عددًا ضئيلًا من أفرادها، فليس من العقل أن يقول من يعرف الطريق الصحيح: ما دام الركب قد انحرف فلأمِلْ معهم. فضلال الآخرين لا يبرر ضلال الأقليّة العارفة.

 

والأمر عينه يقال لو انحرف رائد القافلة ورأسها، ففي هذه الحالة وعلى الرغم من أنّ الجميع يثق به، وولّاه قيادة القافلة؛ ولكن لا بدّ من لفت نظره، ولا يسقط التكليف عمّن اطّلع على الانحراف وعرف أنّ الرائد أخطأ المسار.

 

هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يبدو أنّ هذا التشبيه دقيقٌ إلى درجة كبيرة، يصوّر موقع الأمر بالمعروف في الإسلام. فالإسلام هو الجادّة التي يصل الإنسان في آخرها إلى السعادة والكمال، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي رسمها أو بيّنها للناس ودلّهم عليها، وحمل مجموعة من الأفراد على السير

 

471

 


414

تفسير سورة براءة

فيها، وهداهم إليها ليوصلهم إلى ذلك المقصد الأسنى.

 

وفي كلّ عصر لهذه القافلة رأسٌ وقائد. فمرّةً يكون هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عصرٍ آخر ينوب عنه الإمام المعصوم عليه السلام وهكذا. فالحاجة إلى القائد أمرٌ طبيعيٌّ: برًّا كان أم فاجرًا[1]. وإذا خلا موقع القائد ولم يملأ هذا الفراغ احتلّه المستبدّ وملأه وقاد القافلة وفق هواه.

 

وفي هذا الطريق الذي تعيّنت جهته وفق مبدأ: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"[2]، المسلمون مطالبون بواجبات وتكاليف في هذا المسار نحو الله تعالى. والخطوات التي تحقّق السير نحو المقصد كثيرةٌ منها: الصلاة والصوم، والحجّ، وغيرها من الواجبات. كلّ تكليف هو خطوة في هذا المسار الطويل، تنقل الإنسان مسافة إلى الأمام. وقد أوصي السالكون بأن لا يسمحوا للتعب بأن يقعدهم عن السير، ولُفتوا إلى هوى النفس وكلاب الشهوة والغضب وغيرها من الوحوش التي تكمن على المنعطفات، وإلى خنزير الشهوة كي لا يشدّ السائرين نحو الاتجاه الخاطئ.

 

ومضافًا إلى التكليف الشخصيّ دُعي الإنسان إلى مراقبة رفاق سيره؛ كي يعيد من انحرف منهم عن الجادّة، بل لو انحرف رأس القافلة وقائدها يجب على الجميع لفت نظره، ومنعه من أخذ القافلة إلى حيث لا يجوز. إذا لاحظت أنّ ذئب الفساد الأخلاقيّ بدأ يفترس الرفاق فلا بدّ من مواجهته وإبعاده عن المجتمع، وإذا رأيت أنّ المجتمع توقّف عن الحركة نحو الهدف المرسوم له فلا بدّ من إثارة الروح المعنويّة فيه ليعود إلى السير قبل أن يستولي عليه العدوّ أو تفتر همّته وتخبو دوافعه.

 

بعض الناس لم يستطع تقدير الآثار المترتّبة على عدم تولّي الإمام عليّ عليه السلام منصب الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كانوا مطمئنّين أنّ الصلاة تقام


 


[1] انظر: نهج البلاغة، خطبة 40.

[2] سورة البقرة: الآية 156.

 

 

472


415

تفسير سورة براءة

والحدود تطبّق... وروح النبيّ صلى الله عليه وآله سلم كان وهجها وبريقها ما زال حاضرًا في ذلك المجتمع على الرغم ممّا حصل فيه. وما كان أحد يتوقّع حجم الآثار التي سوف تترتّب لاحقًا على إجلاس عليّ  في بيته وحرمان الأمة من هدايته. إنّ كثيرًا مما نعانيه اليوم هو من آثار حجب الهداية العلويّة عن المجتمع الإسلاميّ. فربّما لم تهاجم الذئاب قافلة الإسلام عندما غابت شمس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً؛ ولكن بعد أن غابت تلك الشمس بفترة بدأت الذئاب تفترس الإسلام والمسلمين مبدأ بعد مبدأ وفردًا بعد فردٍ.

 

بهذا البيان يظهر موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون حاجة إلى الكثير من البحث والتنقيب. ولهذا الواجب درجات وموارد تكبر وتصغر وتدقّ وتعظم، ويبقى هذا التكليف ثابتًا حتّى في الحالات التي لا يكون أثرها مباشرًا، فإذا رمى أحدهم قشرة موز[1] في الطريق وأعاق السير أو هدّد السائرين لا بدّ من منعه والتصدّي له.

 

الأمر والنهي وحفظ الروح الثوريّة للمجتمع الإسلاميّ

يحمي هذان الواجبان روح الإسلام ويحافظان عليها. وهما الضمان الذي يسمح ببقاء روح الثورة والتغيير حيّة في المجتمع الإسلاميّ. والحالة الثوريّة لا تعني السيف والرمح وغيرهما من الأسلحة الحربيّة؛ بل تعني بقاء أركان الإسلام وشروطه وبقاء فكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيًّا في المجتمع. وعندما تتخلّى الأمة عن الحالة التي أسسّ لها وأوجدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ترتدّ على أعقابها وتدخل في ما يُسمى بـ"الحالة الرجعيّة" ومرحلة "الانحطاط".

 

وقد أعاد الإمام عليٌّ عليه السلام عندما تسنّم منصب الخلافة والإمامة بعد النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم أعاد تلك الروح الثوريّة التي كانت على عهد النبيّ. ذلك العظيم هو الذي أعاد نصاب العدالة والمساواة بين جميع الناس إلى حيث كان في


 


[1] عبّر دام ظلّه بقشرة فاكهة. ويبدو أنّ المقصود من العبارة هو المعنى المجازيّ. (المترجم)

 

 

473


416

تفسير سورة براءة

عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . فهو الذي أعاد قاعدة أنّ المرأة القرشيّة والأمة السوداء يجب أن تنالا النصيب نفسه من بيت المال ومن خزينة الدولة الإسلاميّة. هذا ما نقصده من مصطلح الروح الثوريّة. نعم عليّ عليه السلام هو الذي أعاد ألق الروح النبويّة في المجتمع الإسلاميّ إلى سابق عهده. أمّا في زمان معاوية فقد حُوِّلت بوصلة هداية القافلة إلى الخلف، وتحوّل السير إلى الانقلاب والارتداد إلى الحالة التي كانت الأمّة عليها قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث كانت الروح الجاهليّة هي السائدة.

 

والآن إذا أردنا أن يعود المجتمع إلى حالة الالتزام وسيادة المبادئ الثوريّة الإسلاميّة التي أقرّها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإذا أردنا أن يبقى الإسلام حيًّا والمسلمون مسلمين إلى يوم القيامة، الخيار الوحيد هو إحياء هذين الواجبين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحيث يكون جميع الناس مسؤولين عن حفظ هذه الروح وأداء هذين الواجبين اللذين يحفظان هذه الروح، ومراقبة مدى الالتزام الاجتماعيّ بمقتضيات تلك الروحيّة النبويّة. ويجب أن يُخاطب جميع الناس ويُقال لهم: "أيّها المسلمون، أيّها المؤمنون، عليكم جميعاً إحياء تعاليم الإسلام الكبرى والتفصيليّة والسهر على الالتزام بها في المجتمع".

 

دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حراسة سائر الواجبات، ولو أنّ الأمة التزمت بهذين الواجبين من اليوم الأوّل، فلست أشكّ في بقاء روح الإسلام على بريقها ووهجها الأوّل الذي كان لها في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ولمَا عُدنا في أيّ فترة من فترات تاريخنا إلى الوراء بدل السير إلى الأمام، ولما شاهدنا أيّ علمٍ من أعلام الجاهليّة مرفوعًا بعد أن نكّسه رسول الله صلى الله عز وجل. ولكن مع الأسف، عندما نقلّب صفحات تاريخ المسلمين، نجد أن الالتزام بهذا الواجب ضعف في فترات طويلة من تاريخ الأمّة، وترك هذا الضعف أثره في ساحات وميادين أخرى. ففي عصر الخلفاء الثلاثة الأوائل؛ حيث كان صدى صوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما زال يتردّد في آذان المسلمين، بقيت أصول الإسلام ومبادئه محفوظة إلى حدٍّ كبير. وتيقّنوا أنّه لولا التزام الناس في تلك

 

 

474

 


417

تفسير سورة براءة

الفترة إلى حد مّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان التاريخ كلّه تبدّل، ولكُتِبت صفحاته بطريقة أخرى غير التي نعرفها. ففي عهد الخليفة الثاني كانت هذه الوظيفة ما زالت حيّةً في عقول الناس ووجدانهم، والسبب هو قرب العهد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وروحه التي كانت تظلّل المجتمع الإسلاميّ في تلك الفترة. ولكن بعد أن حجب ذلك النور الساطع بالتدريج، وعندما استطاع ملوك بني أميّة كمّ الأفواه ومنع الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زاد الفساد وعظم الانحراف عن الجادّة.

 

فقد أعلن عبد الملك بن مروان وللمرّة الأولى في التاريخ الإسلاميّ -بحسب الظاهر- وجوب تعطيل هذه الفريضة عندما صعد على المنبر وأعلن: "والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلّا ضربت عنقه"[1]. نعم، يبدو أنّ هذا هو الإعلان الرسميّ الأوّل عن تعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقبل عبد الملك بن مروان ضُربت أعناق كثيرين، ولكن بذرائع أخرى، وليس بـ"جريمة الأمر بتقوى الله". وبعد عبد الملك انطلق مشروع تضعيف القواعد الفكريّة لهذه الفريضة بهدف حذفها من أذهان الناس. وفي بعض الحالات استُبدلت دورةُ المعارف الكاذبة بفريضة الأمر بالمعروف[2]. ووصل الأمر في بعض الحالات إلى أنّ الناس صاروا يعتقدون بأنّ هذا الواجب ليس عامًّا؛ بل هو تكليف بعض الأشخاص في بعض الأزمنة فحسب.

 

وفي هذا العصر نرى الأمر في أوساطنا على هذه الحال. وما أفضى إلى ما نحن عليه ليس سوى الدعاية المضلّلة لبعض أهل السلطة والنفوذ الذين يخشون عودة هذا الواجب إلى الحياة من جديد، وهم الذين خلقوا ظروفًا تسمح للناس بالاعتقاد بضيق دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

وفي هذا العصر وفي هذه الأوضاع التي تصعب فيها معرفة الحقائق لا


 


[1] الجصّاص، أحكام القرآن، ج 1، ص 88.

[2] لعلّ الإشارة إلى أحد برامج الشاه للتعليم والتربية الدينيّة. (المترجم)

 

 

475


418

تفسير سورة براءة

مرجع لنا للتمييز بين الحقّ والباطل سوى القرآن، كما أمر رسول الله حيث قال: "إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن"[1].

 

في هذه الأيام أيّ ستارةٍ هي الأكثر حجبًا للحقائق عن أذهاننا؟ وأيّ ستارة تؤدّي إلى وقوع هذا الحجم من الاختلاف الفكريّ والعمليّ بيننا؛ بحيث يرى أحدنا أنّ هذا العمل واجبٌ، ويرى الآخر عدم وجوبه؟ هذا العصر هو عصر العودة إلى القرآن؛ لأنّ الزمن هو زمن الفتنة. وإلى جانب القرآن عددٌ من الأخبار والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة  عليهم السلام نشير إليها أوّلًا ونعرض بعض الأحاديث المعارضة[2]. ثمّ بعد ذلك نبيّن وجهة نظرنا في كيفيّة الجمع بين الأخبار لرفع التعارض المفترض بينها، أو ترجيح بعضها على بعضها الآخر.

 

البحث الروائيّ

1- يروي بن عبد الله عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرّأون[3] ويتنسّكون حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمرًا بمعروف ولا نهيًا عن منكر، إلّا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلّات العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يُكْلِمُهم في نفس ولا مال. ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض


 


[1] الكافي، ج 2، ص 599.

[2] انظر صفحة 488 الروايات الدالة على عدم العموم.

[3] كان يطلق مصطلح القرّاء في ذلك الزمان على الأشخاص الذين كان عندهم شكلٌ من أشكال التخصّص في قراءة القرآن. وبعض هؤلاء كان يستأجرهم معاوية لوضع الحديث في ذمّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وبالتالي هذه الرواية تتحدّث عن الصنف من قرّاء القرآن. فهؤلاء كانوا من أخطر الفئات الاجتماعيّة؛ حيث كانوا يتقنون ظواهر الدين ومظاهره، وكانوا يأخذون الجوائز من سلاطين الجور على جعل الحديث ووضعه. (منه دام ظله)

 

 

476


419

تفسير سورة براءة

 وأشرفها. إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتمّ غضب الله عز وجل عليهم، فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجّار والصغار في دار الكبار. إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب وتُردّ المظالم وتعمر الأرض ويُنتصف من الأعداء ويستقيم الأمر. فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتّعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانًا ولا باغين مالًا ولا مريدين بظلم ظفرًا، حتّى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته".

 

قال: "وأوحى الله عز وجل إلى شعيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنّي معذّبٌ من قومك مئة ألفٍ أربعين ألفًا من شرارهم وستّين ألفًا من خيارهم! فقال عليه وسلم: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي".

 

يحدّثنا الإمام عليه السلام في هذه الرواية عن جماعة تظهر في آخر الزمان تتظاهر بالصلاح والعلم والمعرفة وقراءة القرآن؛ ولكنّها في الباطن غير ذلك. ويصفهم عليه السلام بأنّهم حدثاء؛ أيّ سطحيّو التفكير وسفهاء. وهؤلاء لا يأمرون بالمعروف إلّا إذا أمنوا الضرر. ثمّ يبيّن الإمام في هذه الرواية أهمّيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآثار المترتّبة عليه في الدين والاجتماع. ثمّ يكشف لنا في موضع من الحديث عن ضرورة الإنكار بما تيسّر حتّى لو كان ذلك بالتعبير عن النفور وعدم الرضا. وهذا القسم من الحديث يشبه قول الله عز وجل في سورة الكافرون: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. يحسب بعض الناس أنّ هذه السورة هي سورة

 

 

477

 


420

تفسير سورة براءة

مداراة وتسامح. في رأيي إنّ هذه السورة هي سورة حرب وإعلان عن التمايز والانفصال؛ لأنّ الله يطلب من رسول الله عز وجل أن يعلن البراءة من دين الكافرين ومعتقداتهم وتميّز دينه عن دينهم.

 

ثمّ يتابع الإمام فيدعو مخاطبيه إلى عدم التوقّف عند لوم اللائمين، وإلى الثبات في مواجهة المنكر لا من أجل الطمع في المال والدنيا؛ بل بهدف استئصال المنكر من الأرض. وفي آخر الحديث ينقل لنا الإمام عليه السلام وحي الله إلى شعيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويبيّن لنا فلسفة نزول العذاب على صنفين من الناس بعضهم مجرمون وآخرون ليسوا مثلهم، ولكنّ جريمتهم هي ممالأة المجرمين وعدم الإنكار عليهم.

 

2-خطب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه وقال: "أمّا بعد؛ فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربّانيّون والأحبار عن ذلك، وإنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك، نزلت بهم العقوبات. فأْمُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقرّبا أجلًا ولم يقطعا رزقًا، إنّ الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كلّ نفس بما قدّر الله لها من زيادة أو نقصان.."[1]..

 

ما هي العقوبات الإلهيّة التي يتحدّث عنها الإمام عليه السلام في خطبته هذه؟ قد تكون بعض البلايا التي تحلّ على الناس من فقر وظلم وفساد أخلاقيّ. فعندما يتورّط الناس في المعاصي تزول الأمانة والصدق، وتزول موجبات الاطمئنان والأمن في المجتمع. ويسود سوء الظنّ، ومع الأسف سوء الظنّ هذا في محلّه في ظلّ الظروف الاجتماعيّة التي نتحدث عنها. وهذه الظواهر من العقوبات الإلهيّة التي تترتّب على المعاصي ومنها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


 


[1] المصدر نفسه، ص 57.

 

 

478


421

تفسير سورة براءة

ورد في الخبر "المؤمن يسكن إلى مؤمن"[1]. ففي مجتمع المؤمنين يأمن الإنسان على نفسه وماله وولده؛ ولكن عندما تعمّ المعاصي يرتفع الأمن ويسود الانحراف. وهذه الآثار الاجتماعيّة من نتائج التخلّف عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

3- ويروي الشيخ الكلينيّ في الكافي عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قوله: "لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم". يبيّن لنا الإمام عليه السلام في هذا الحديث أنّه بعد استيلاء الأشرار على الأمّة لا يمكن أن يُستجاب دعاء الأخيار؛ لأنّهم ضيّعوا الوسيلة الحقيقيّة للحيلولة دون تسلّط الأشرار، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

4- ويروي أيضًا عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وهذا الحديث يستحقّ التوقّف عنده والتأمّل في دلالته في عصرنا هذا. فنحن مبتلون في هذا العصر بمن يعيب على الآمرين والناهين أداءهم لهذه الفريضة والتزامهم بها.

 

5- ويروي أيضًا عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها، فلما انتهيا إلى المدينة وجدا رجلًا يدعو الله ويتضرّع؛ فقال: أحد الملكين لصاحبه: أما ترى هذا الداعي؟ فقال: قد رأيته ولكن أمضي لما أمر به ربّي، فقال: لا ولكن لا أحدث شيئًا حتّى أراجع ربّي فعاد إلى الله تبارك وتعالى؛ فقال: يا ربِّ إنّي انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانًا يدعوك ويتضرّع إليك، فقال: امضِ لما أمرتك به، فإنّ ذا رجلٌ لم يتمعر وجهه غيظًا لي قطّ"[2].

 

نعم، مشكلة هذا الرجل بحسب الحديث هي أنّه لم يربدّ وجهه غضبًا لله.

 


 


[1] الكافي، ج 2، ص 247.

[2] الكافي ج 5، ص 58.

 

 

479


422

تفسير سورة براءة

بعض الناس يظنّ أنّ على المؤمن أن يشتغل بنفسه عن الآخرين، المهم هو أن تكون صالحًا، ولا مشكلة بعد ذلك إذا صاحبت أهل المعاصي وداهنتهم، ولم تأمرهم بالمعروف ولم تنههم عن المنكر. وهذا وهمٌ لا واقع له.

 

6- ولسان هذه الرواية لسان تشبيه وتمثيل: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله فمن نصرهما أعزّه الله ومن خذلهما خذله الله"[1].

 

7- وعن الإمام الرضا عليه السلام يقول: "كان رسول الله عز وجل يقول: إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فليأذنوا بوقاع من الله تعالى"[2]. في هذا الحديث تهديد مباشر بالعذاب الذي يمكن أن يوقعه الله تعالى على الأمّة التي تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة التواكل؛ بحيث كلّ فردٍ يقول إنّ الفرد الآخر هو الذي يجب أن يؤدّي هذه الفريضة. والآن انظروا إلى أوضاع مجتمعاتنا فهل نزل عليها العذاب؟ ليس بالضرورة أن يكون العذاب شبيهًا بالعذاب الذي نزل على الأمم السابقة مثل: الجراد، والقمّل، والطوفان وغير ذلك مما نزل بالأمم الهالكة. فجلوس يزيد بن معاوية على مسند الخلافة عقاب إلهيٌّ، وتولّي المنصور الدوانيقي وبنو العباس محلّ بني هاشم عقابٌ أيضًا. إذ لا ضرورة تقضي بانتظار البلاء الطبيعيّ الذي ينزل بصورة غير طبيعيّة.

 

وورد في روايةٍ أخرى عن الإمام عليّ عليه السلام: "وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ"[3].

 

8- وينقل المرحوم الفيض عن التهذيب روايةً أخرى يقول فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس بخيرٍ ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض،


 


[1] الكافي ج 5، ص 59.

[2] الكافي، ج 5، ص 59.

[3] نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 374.

 

 

480


423

تفسير سورة براءة

ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء".

 

الأمر والنهي لله هو روح الإسلام الثوريّة، وهو الذي يحفظ هذه الحالة التي ظهرت في المجتمع الإسلاميّ الذي أسّسه رسول الله عز وجل. ومن أهم خصائص هذه الحالة الأخوّة والعدالة والمساواة والإنسانيّة. هذه الخصائص تُحفظ بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا تُركت هذه الفريضة فإنّ هذه الخصائص سوف تزول وتنقلب الأمّة إلى الحالة الجاهليّة، كما حصل في عهد معاوية وبعده في دولة بني العبّاس.

 

ليست البركة بأن يصير مبلغ عشرة توامين خمسة عشر. فبعض الناس يقولون: "ارتفعت البركة من مالِنا. في السابق كنّا نشتري بمبلغ عشرة توامين ما يكفينا للعيش خمسة أيام. ولكن الآن صار هذا المبلغ يسدّ حاجات يوم واحدٍ". ليس هذا ارتفاع للبركة، ارتفاع البركة هو ارتفاع حالة الأخوّة والمساواة بين الناس، وانعدام حالة الأمن وراحة البال، وابتلاء الناس بالفقر... نعم ارتفاع هذه الأمور هو ارتفاع للبركة.

 

إنّ عبارة "ولم يكن لهم ناصر... في السماء" على درجةٍ عالية من الأهميّة. لا يقصد منه ألا تنتظروا أن يهبط عليكم ملاكٌ من السماء ليساعدكم وينصركم. بل المقصود من هذه العبارة: من الآن فصاعدًا لا ترفعوا أيديكم بالدعاء وتتوقّعوا الإجابة؛ فإنّ من في السماء وهو الله تعالى لن ينصركم ولن يستجيب دعاءكم بتغيير واقعكم بعد أن كنتم السبب في ما وصل أمركم إليه. نعم، يمكنكم دعاء الله لتدبّ الحميّة والغيرة في نفوسكم فتثور ثائرتكم وتدبّ الحياة فيكم من جديد.

 

الأخبار الدالّة على عدم العموم

ثمّة أخبارٌ وروايات عدّة ظاهرها وجوب الأمر بالمعروف والنهي

 

 

481

 


424

تفسير سورة براءة

عن المنكر على بعض الأشخاص فقط. وهي تنقسم إلى طوائف، ويجب عرض بعضها على القرآن لمعارضتها لما تقدّم. وسوف يظهر لنا أنّ لبعضها محملًا صحيحًا ووجهًا مقبولًا. وبعضها لا يمكن القبول به ولا الموافقة عليه لا سندًا ولا مضمونًا. ومن هذه الروايات ما يشترط في الوجوب الأمن من الضرر بينما لاحظنا في الرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه يذمّ أولئك الذين يعلّقون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمن من الضرر.

 

ويُستفاد من هذه الرواية لوم أهل آخر الزمان على تركهم الواجبات بذريعة الخوف من الضرر الماليّ أو النفسيّ الذي يترتّب عليها. ولعلّ أحدهم يترك الصلاة كما في الرواية إذا كلّفته مالًا. وصريح هذه الرواية أنّ الأمن من الضرر ليس شرطًا في وجوب الأمر والنهي. إذًا، ينبغي أن يفهم أولئك الذين يعلّقون وجوب الأمر والنهي على هذا الشرط، أنّ الحالة الطبيعيّة والأولية لهذا الواجب هي عدم الاشتراط.

 

نعم، إذا كان المعروف المتروك أو المنكر المرتكب لا يستأهل التضحية بالنفس والمخاطرة بالعرض والشرف من أجله، ففي هذه الحالة لا بدّ من الموازنة وترجيح حفظ ما هو أهمّ. وبالتالي حمل روايات الاشتراط على هذه الحالة وأمثالها.

 

لنفرض أنّ ظالمًا يحمل سيفًا ويطلق شاربيه بطريقةٍ غير مألوفة، فلا يجب على الإنسان أن يتصدّى لنهيه عن هذا المنكر بقصّ شاربيه، ويعرّض حياته للخطر. والأمر نفسه لو فرض أنّه يلبس خاتمًا من ذهب. فهذه المنكرات لا تستحقّ التضحية بالنفس من أجل النهي عنها. أمّا إذا كان هذا الظالم عازمًا على قتل مؤمن، فلا بدّ من نهيه حتّى لو أدّى إلى أن يتعرّض الناهي لضرر الضرب بالعصا مثلًا؛ وذلك لأنّ حياة المؤمن تستحقّ الدفاع وتحمّل ضرر أخفّ من القتل من أجلها.

 

ومن الواضح أنّ ملاحظة الضرر مقبولة في الحالات التي ترتبط بالأمور القليلة الأهمّيّة، أمّا القضايا الدينيّة الكبرى، كما لو كان أصل الدين

 

 

482


425

تفسير سورة براءة

في معرض الخطر، فعندها لا ينبغي إدخال الضرر في الحسابات، ولا بدّ من الدفاع عن الدين، مهما كانت الأضرار والمخاطر التي قد تصيب المدافع. وقد فعل الأئمّة ذلك وتعرّضوا للمخاطر الكبرى.

 

وصفوة القول: عندما نرى رواية مشكلة الفهم لا بدّ من عرضها على القرآن، خاصّة إذا كان لهذه الرواية معارض من الحديث. وهذا ما دُعينا إليه في الأخبار الواردة لحلّ التعارض: "ما وافق كتاب الله فخذوه"، وأمّا الرواية المعارضة للقرآن فقد أُمِرنا بأن نضرب بها الجدار. كتاب الله من ناحية لغته وأدبيّاته قابلٌ للفهم. وقد بيّن الله عز وجل لنا فيه صفات المؤمنين وفضائلهم، فقال: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر"، ولم يرد في هذه الآية أيّ قيدٍ لوجوب الأمر والنهي. وهذه الآيات وأمثالها تدلّ بوضوح وصراحة على وجوب الأمر والنهي على الناس كافّة.

 

والوجه الآخر الذي يمكن حمل الروايات المعارضة عليه هو التقيّة. ومن المعلوم في الفقه الإماميّ أنّ الحديث المعارض الموافق لأهل السنّة يُحمل على التقيّة. وقد كانت التقيّة أسلوبًا يعتمده الأئمّة عليهم السلام لحفظ شيعتهم في ذلك الزمان. وبالتأمّل في هذه الروايات نجد أنّ الروايات النافية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنسجم مع مصالح السلطة. وأمّا الروايات التي تدلّ على عموم الأمر والنهي، فهي موجّهة إلى خواصّ أصحاب الأئمّة لبيان الحكم الواقعيّ.

 

ثالثة علامات المؤمنين: إقامة الصلاة

العلامة الثالثة المميّزة لأهل الإيمان هي إقامة الصلاة. والكلمة المستخدمة هي الإقامة؛ أيّ جعل الصلاة قائمةً، وهو تعبير يختلف في دلالته عن "يصلّون". ولعلّ الهدف من العدول عن الكلمة الأخيرة إلى التعبير بإقامة الصلاة، هو الإشارة إلى المعاني الآتية: أداء الصلاة بالصورة

 

 

483

 


426

تفسير سورة براءة

والكيفيّة المطلوبة؛ أيّ أداء المؤمنين إيّاها على وجهها. وإلّا فإنّ المنافق قد يصلّي. وقد تكون صلاته بحسب الظاهر أفضل وأدقّ من صلاة المؤمن، ولعلّه يتظاهر بالخضوع والخشوع؛ ولكنّ صلاته ميتة لا روح فيها.

 

النكتة الدلاليّة الثانية للإقامة هي الاجتماع للصلاة. فالمؤمنون لا يصلّون وحدهم؛ بل يحوّلون الصلاة إلى ظاهرة اجتماعيّة، يدعون الآخرين إليها. وعلى أيّ حال بين "يصلون" و"يقيمون الصلاة" فارقٌ في المعنى. وقد طُرحت احتمالات أخرى غير ما ذكرنا في بيان الفوارق الدلاليّة بين التعبيرين.

 

رابعة العلامات: إيتاء الزكاة

العلامة الرابعة من علامات الإيمان إيتاء الزكاة: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ". يبدو لنا أنّ الزكاة في المصطلح القرآنيّ مفهوم عامٌّ يشمل كلّ ما ينفقه المؤمن من ماله في سبيل الله. وبهذا التعميم يتّضح المعنى. المؤمن ينفق ممّا آتاه الله، ولا يرى أنّ المال ماله وحده، ولا يحبس نفسه داخل الشرنقة التي يبنيها حول ذاته. المؤمن ليس ضيّق النظر ولا ضيّق الأفق.

 

فضل الصلاة على سائر الواجبات

وهنا ينبغي التوقّف عند الصلاة والزكاة لاكتشاف السرّ الذي يجعل الله عز وجل يعدّهما علاماتٍ للإيمان. أهم خواصّ الصلاة أنّها التفات إلى الله وتوجّه إليه. وهذه الخاصيّة لا يستغني العبد عنها إذا أراد العيش بسعادة.

 

عندما يتحقّق التوجّه إلى الله عز وجل ويقدر الإنسان على تأسيس هذه العلاقة بينه وبين ربّه، ترتفع جميع المفاسد من حنايا نفسه. وإذا انتشرت حالة التوجّه إلى الله في المجتمع فإنّها تطهّره من جميع الرذائل المعاكسة.

 

فعندما يخبرنا الله عز وجل عن أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر[1]، وعندما


 


[1] الكافي، ج 5، ص 59.

 

 

484


427

تفسير سورة براءة

يرد في الأخبار والروايات أنّ الصلاة معراج المؤمن[1]، هذه الأوصاف والتقويمات للصلاة دقيقة وصحيحة وليست شعرًا أو مبالغات أدبيّة.

 

وأحد الفوارق بين الصلاة وغيرها من العبادات أنّ الأخيرة أكثرها موسميّة ومرتبطة بمناسبات بعينها، أو فرديّة، أو لها فلسفة محدّدة: الزكاة لمواجهة الفقر في المجتمع، والجهاد لدفع العدوّ ورفع العوائق من طريق الدعوة، والحجّ موسمٌ ومناسبة لاجتماع الناس ليشهدوا منافع لهم.

 

فكلّ تشريع له بعدٌ خاصٌّ ومحدّد ويؤمّن قسمًا من أهداف الدين ومقاصده. أمّا الصلاة فهي صلب الدين ومتنه وليست حاشية من حواشيه. فالتوجّه إلى الله ينبغي وجوده في الحجّ والجهاد والزكاة... وفي كلّ عبادة من العبادات.

 

وفي الحقيقة تعادل الصلاة مستوى سطح الدين، فالصوم شهرٌ في السنة، والحجّ مرةٌ في العمر على المستطيع، والجهاد يجب عند الحاجة إليه. أمّا الصلاة فهي عمل كلّ يوم وكلّ ساعة.

 

وإذا أردنا تشبيه الصلاة بشيء ولو من باب تشبيه الأعلى بالأدنى والكامل بالناقص، يمكن العثور على شبيه لها في المؤسسات والدول والأحزاب، فهي أشبه بالنشيد الوطنيّ أو الحزبيّ... فعندما يُراد تبنّي نشيد وطنيّ يجمع المفكّرون والشعراء ويضمّنون النشيد أهمّ المعاني والقيم التي تتبنّاها الجهة صاحبة النشيد المقترح.

 

والنشيد الوطنيّ يبثّ في روح الأمّة أهمّ قيمها وأحلامها. وبعبارة موجزة: يستوعب رؤيتها الكونيّة ونظرتها إلى الحياة والوجود. ولقد سمعنا أنّ بعض الدول العظمى إذا أرادت تحديد موقفٍ من دولة أو جماعة سياسيّة تأخذ في الحسبان نشيدها الوطنيّ وتنظر فيه، لترى هل فيه ما يتعارض مع سياساتها أو لا. فالصلاة بحكم النشيد الوطنيّ للأمّة الإسلاميّة. هي تختصر أعظم أهداف الشريعة وأسنى مقاصدها الكبرى.


 


[1] الكافي، ج 3، ص 265.

 

 

485


428

تفسير سورة براءة

يرد في الأخبار والروايات أنّ الصلاة معراج المؤمن[1]، هذه الأوصاف والتقويمات للصلاة دقيقة وصحيحة وليست شعرًا أو مبالغات أدبيّة.

 

وأحد الفوارق بين الصلاة وغيرها من العبادات أنّ الأخيرة أكثرها موسميّة ومرتبطة بمناسبات بعينها، أو فرديّة، أو لها فلسفة محدّدة: الزكاة لمواجهة الفقر في المجتمع، والجهاد لدفع العدوّ ورفع العوائق من طريق الدعوة، والحجّ موسمٌ ومناسبة لاجتماع الناس ليشهدوا منافع لهم.

 

فكلّ تشريع له بعدٌ خاصٌّ ومحدّد ويؤمّن قسمًا من أهداف الدين ومقاصده. أمّا الصلاة فهي صلب الدين ومتنه وليست حاشية من حواشيه. فالتوجّه إلى الله ينبغي وجوده في الحجّ والجهاد والزكاة... وفي كلّ عبادة من العبادات.

 

وفي الحقيقة تعادل الصلاة مستوى سطح الدين، فالصوم شهرٌ في السنة، والحجّ مرةٌ في العمر على المستطيع، والجهاد يجب عند الحاجة إليه. أمّا الصلاة فهي عمل كلّ يوم وكلّ ساعة.

 

وإذا أردنا تشبيه الصلاة بشيء ولو من باب تشبيه الأعلى بالأدنى والكامل بالناقص، يمكن العثور على شبيه لها في المؤسسات والدول والأحزاب، فهي أشبه بالنشيد الوطنيّ أو الحزبيّ... فعندما يُراد تبنّي نشيد وطنيّ يجمع المفكّرون والشعراء ويضمّنون النشيد أهمّ المعاني والقيم التي تتبنّاها الجهة صاحبة النشيد المقترح.

 

والنشيد الوطنيّ يبثّ في روح الأمّة أهمّ قيمها وأحلامها. وبعبارة موجزة: يستوعب رؤيتها الكونيّة ونظرتها إلى الحياة والوجود. ولقد سمعنا أنّ بعض الدول العظمى إذا أرادت تحديد موقفٍ من دولة أو جماعة سياسيّة تأخذ في الحسبان نشيدها الوطنيّ وتنظر فيه، لترى هل فيه ما يتعارض مع سياساتها أو لا. فالصلاة بحكم النشيد الوطنيّ للأمّة الإسلاميّة. هي تختصر أعظم أهداف الشريعة وأسنى مقاصدها الكبرى.


 


[1] الكافي، ج 3، ص 265.

 

 

485


428

تفسير سورة براءة

مثلاً عبارة "إيّاك نعبد" تشير إلى أعلى درجات التوحيد، والدولة في الإسلام تبنى على التوحيد. والتوحيد هو أهمّ محرّضٍ على الثورة. وكذلك يكشف قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" عن تجميع المسلمين في صفٍّ واحدٍ في مواجهة أعداء الدين. ومفهوم "المغضوب عليهم" يشمل كلّ الذين يعارضون الدين عمدًا أو نتيجة الجهل وسوء التقدير. الركوع والسجود وكلمة الله أكبر كلّها أجزاء من هذا النشيد الإيمانيّ اليوميّ. وهذه المعاني وهذا الموقع للصلاة هو الذي أفضى إلى الحكم بعدم جواز تركها على أيّ حال. إذًا، موقع الصلاة في رأس قائمة الأحكام والواجبات الإسلاميّة. ولا مانع أن يكون الأثر الظاهريّ لبعض الأعمال أكبر من أثر الصلاة؛ ولكن مع ذلك تبقى هي الأهمّ، فهي التي تُعدّ الإنسان ليكون آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر ومجاهدًا.

 

وإنّه لمن قصر النظر إسقاط عبارة "حيّ على خير العمل" من الأذان، وكذلك إضافة عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم" في أذان الفجر، وفي تقديرنا هي عبارةٌ مضحكة[1]. وقد توهّم أصحاب هذه الاقتراحات أنّ إبقاء عبارة "حيّ على خير العمل" سوف يدعو الناس إلى ترجيح الصلاة على الجهاد. وهذا من العجائب، فإنّ الصلاة هي التي تبثّ في الإنسان روح الجهاد. من أصعب المواقف أن يضع الإنسان نفسه في مواجهة المخاطر. فما هو الدافع الذي جعل المجاهدين في صدر الإسلام مستعدّين لمواجهة الصعاب والمخاطر؟ لا يبدو أنّ شيئًا أكثر تأثيرًا على إعداد الإنسان لهذا المستوى من التضحية سوى الالتفات إلى الله والتوجّه إليه. وروحيّة الثبات هذه لا شيء أكثر من الصلاة يحقّقها في النفس الإنسانيّة. فالصلاة إذًا، هي أهمّ الضمانات للوقوف في مواجهة المخاطر والصعاب، وهي التي تساعد الإنسان على تحمّل أعباء الأعمال الشاقّة، وببركة الصلاة تُذلّل الصعاب وهي ركنٌ ركينٌ للدين.


 


[1] انظر: وسائل الشيعة، ج 2، ص 373.

 

 

486


429

تفسير سورة براءة

بعض الناس يملكون لسانًا فصيحًا في الحديث عن القضايا الاجتماعيّة في الإسلام؛ ولكنّهم قاصرون عن الحديث عن الصلاة لحسبانهم أنّها عملٌ فرديٌّ، أو على الأقلّ يحسبون أنّ البعد الاجتماعيّ فيها ليس مباشرًا. وقد بيّنّا أنّ الصلاة هي أمّ جميع الواجبات والتكاليف الإسلاميّة، تقريبًا كلّ شيء من الدين حاضرٌ في الصلاة بشكلٍ أو بآخر.

 

أهميّة الزكاة في الإسلام

الزكاة أيضًا ركنٌ من أركان الإسلام؛ وذلك لأنّ الدولة لا يمكن أن تستمرّ وتؤدّي وظائفها من دون موارد ماليّة. وهذا الركن له تأثيرٌ في مجال تقدّم العقيدة وانتشارها أيضًا. فكثيرٌ من النجاحات بُنيت على المال. والدولة الإسلاميّة ليست بدعًا بين الدول، فهي لا تستطيع أداء واجباتها تجاه المجتمع من دون ميزانيّة ماليّة. وبكلمة عامّة ومختصرة المال شرط أساس لإدارة الدول والمجتمعات.

 

خامسة علامات المؤمنين: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

خمّست هذه الآية علامات الإيمان، في مقابل العلامات الأربع التي ذُكِرت للمنافقين. والعلامة الخامسة هي طاعة الله ورسوله: "يُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ".

 

وهنا أسئلة يمكن أن تُطرح: ما الداعي للحديث عن طاعة الله ورسوله بعد الحديث عن الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنّ هذه الأمور هي مصاديق لطاعة الله ورسوله؟

 

وبعبارة أخرى: لماذا ذُكرت العلامات الأربع ثمّ ذكرت بعدها العلامة الخامسة التي تشمل ما تقدّم، أليس الأفضل أن تُذكر هذه الخامسة العامّة ويكتفى ويُستغنى بها عمّا سبقها؟

 

 

487

 


430

تفسير سورة براءة

السؤال الثاني: لماذا تُعدّ طاعة الله ورسوله شرطًا من شروط الإيمان؟ بل ما هو المراد من طاعة الله ورسوله؟ هل المراد وجوب طاعة الإنسان الله في كلّ أمرٍ ونهي وتصرّف وسلوك، في الكليّات والجزئيات والتفاصيل؟ وهل إنّ ارتكاب معصية صغيرة أو الإقدام على مخالفة لحكم تفصيليّ ولو كان ذلك نتيجة غفلة أو ضعفٍ يخرج الإنسان من دائرة الإيمان؟ هل يمكن الالتزام بالجواب الإيجابيّ عن هذه الأسئلة وخاصّة السؤال الأخير؟

 

نحن نعتقد أنّ فهم عبارة "يُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ" يجيب عن السؤالين أو الأسئلة المتقدّمة.

 

الطاعة وأداء الواجبات

بالنظر إلى ظاهر هذا الكلام وإلى ما قدّمناه في تفسير الآية، نرى أن ليس المراد من الطاعة هنا هو الطاعة العمليّة وفي مقام الممارسة والأداء؛ بل المراد هو التحلّي بروحيّة الطاعة بأن يكون المؤمن مستعدًّا لامتثال ما يُطلب من تكاليف وواجباتٍ.

 

فكلّ شخص يرسم مسارًا ومسلكًا لحياته، أمّا المؤمنون فهم أولئك الذين ينتظرون خريطة الطريق التي يرسمها لهم الله ليسيروا وفقها.

 

بالنظر إلى هذا المعنى طاعة الله ورسوله هي حالةٌ يمكن اكتسابها والتحلّي بها؛ وبالتالي فإنّ الواجبات الأربعة التي وردت في الآية ليست هي كلّ التكاليف المطلوبة بحسب الشريعة الإسلاميّة، بل هي مجرّد مؤشّرات تكشف عن وجود هذه الحالة، وهي حالة الطاعة والانقياد في مقابل أوامر الله تعالى.

 

ولمزيد من التوضيح نقول إنّ أيّ مجتمع من المجتمعات يحتاج إلى برنامج لتنظيم أمور حياته، ولترتيب أوضاع معاشه ومعاده، ومن الطبيعيّ أن يتضمّن هذا البرنامج مجموعة من الأوامر والنواهي. وهذا البرنامج تارةً

 

 

488

 


431

تفسير سورة براءة

يتولّى تدوينه إنسانٌ مّا بالاستناد إلى اتّجاه فكريّ بشريّ، وطورًا يعتمد هذا المجتمع على ما يمليه عليه ميله الباطنيّ، ومرّة ثالثة يُستقى هذا البرنامج من تعاليم الوحي وهدايات الله سبحانه.

 

من يتّبعْ شخصًا يُطِعْهُ، ومن يتّبعْ هواه وميله الباطنيّ والنفسيّ يُطِعْ هذا الهوى أو الميل النفسيّ، وفي الحالات التي تعتمد فيها المجتمعات أو الأشخاص على برامج الوحي وهدايته تكون في حالة طاعة لله ورسوله.

 

إذًا، المقصود من طاعة الله ورسوله، وجود روحيّة الانقياد في النفس تجاه أوامر الله ورسوله. ومعنى ذلك أنّ يسلّم الإنسان زمام أمور حياته لله ورسوله. ومن هنا، ذكر الله تعالى في هذه الآية قضية الطاعة بشكلٍ منفصلٍ عمّا سبقها من أعمال وعبادات.

 

هذا ومن الواضح للجميع أنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن تكون هذه كلّها مسبوقةً بالطاعة وروحيّة الانقياد، فحالة الطاعة هي المنبع الذي تصدر عنه هذه الأعمال. فمن لا يعزم على طاعة الله ورسوله، ولم يجعل برنامج الدين خريطة طريقه في الحياة، مثل هذا الشخص لن يصلّي ولن يدفع الزكاة لوجه الله. وإذا فعل شيئًا من هذه الأمور سوف يكون ذلك لأسباب أخرى ولا يُقصد بها وجه الله، وبالتالي لن تكون الأعمال الصادرة عنه داخلة في دائرة الطاعة.

 

وخلاصة الكلام: إنّ حالة الطاعة شيء آخر غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وعليه إذا أردنا أن نصيب الحقيقة في تفسيرنا لقوله تعالى: "يُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ" ينبغي أن نقول: حالة الطاعة والانقياد لأوامر الله ورسوله جزء من حقيقة المؤمنين ووجودهم. وبحسب قول بعض المفسّرين هم في حالة طاعة مستدامة، "يداومون على فعل الصلاة"[1]، و"يمتثلون طاعة الله ورسوله"[2]. ومراد هذا المفسّر هو أنّ طاعة


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 87.

[2] المصدر نفسه.

 

 

489


432

تفسير سورة براءة

الله ورسوله هي الحاكمة على حياة المؤمنين، وهم يرسمون برنامج حياتهم ومسارهم وفق التعاليم والبرامج التي أوحى بها الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك"[1]. ويقصد عليه السلام من هذه الكلمة بيان هذا المبدأ الذين نحن بصدد الحديث عنه، وهو وجوب أن يكون الإنسان مطيعًا لله وحده وليس لأحد سواه.

 

طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من شروط قبول طاعة الله

السؤال الثالث الذي يمكن طرحه في سياق تفسير هذه العبارة من الآية هو: ما الغاية من النصّ على طاعة الرسول؟ أليس الرسول ناقلًا لأوامر الله ونواهيه؟ وهل طاعة الله منفصلة عن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى يُحتاج إلى النصّ على كلٍّ منهما إلى جانب الأخرى؟

 

وهنا ثلاثة أجوبة يمكن تقديمها في الردّ على هذا السؤال، الجواب الأوّل هو ما تقدّم في آيات سابقة، فبعض الكلام المتقدّم يصلح جوابًا عن هذا السؤال[2].

 

الجواب الثاني: هو أنّ طاعة الله معنى كلّيٌّ وعامٌّ، يمكن لأيّ معتقد بوجود الله أن يطبقه على تعاليمه كائنةً ما كانت. فاليهوديّ يمكنه أن يقول عملي بما في التوراة طاعة لله. ويمكن للمسيحيّ أن يدّعي أنّه يؤدّي طاعة الله عندما يعمل بما في الإنجيل. والمشرك من مشركي قريش من أهل مكّة كان يدّعي أنّ تقديمه القرابين للأصنام والأوثان طاعةٌ لله. وقد كان المشركون يعتقدون بوجود الله ويؤمنون بأنّه ربّ الأرباب؛ ولأجل هذا كانوا يقولون: نحن لا نعبد الأصنام وإنّما نتخذ منها وسيلة للتقرّب إلى الله: ﴿ما نعبدهم إلا ليقرّبونا من الله زلفى﴾[3]. وبناءً على هذا فإنّ طاعة الله


 


[1] تحف العقول، ص 77.

[2] انظر: تفسير الآية 62 من هذه السورة.

[3] سورة الزمر: الآية 3.

 

 

490


433

تفسير سورة براءة

مفهومٌ كليّ يمكن لأيّ متديّن مهما كان دينه أن ينسبه إلى نفسه. والإسلام له رؤيته وتصوّره لطاعة الله تعالى. فما هي طاعة الله بحسب الإسلام؟

 

طاعة الله بحسب النسخة الإسلاميّة هي أن يعلن الإنسان الإيمان بالنبيّ الذي ﴿يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل﴾[1]. فالمطلوب من الناس هو طاعة الله بحسب التعاليم التي وصلت بواسطة هذا النبيّ دون غيره. فمن لا يطيع آخر أنبياء الله كأنّه لم يطع الله حتّى لو كانت التعاليم التي يتّبعها منزلة فعلًا من عند الله. ومن هنا يصرّح القرآن بوضوح بالترابط بين طاعة الله وطاعة الرسول: ﴿من يطع الله فقد أطاع الرسول﴾[2].

 

وبهذا يتّضح الجواب الثاني وهو باختصار أنّ الله تعالى يريد أن يبيّن لنا مصداقًا محدّدًا لطاعته وهو طاعة رسوله الأخير. وكأنّه يقول لنا من أراد أن يكون مطيعًا لله عليه أن يطيعه بحسب هذه النسخة التي أتى بها هذا الرسول. ولمّا كانت طاعة الله أمرًا مبهمًا وكليًّا يمكن افتراض مصاديق عدّة له، حسم القرآن الكريم هذا الجدل والاختلاف في كيفيّة الطاعة وحدّدها في عددٍ من آياته ومنها هذه الآية. والتماهي بين طاعة الله وطاعة الرسول أمرٌ مستدامٌ في كلّ عصر ومصر.

 

وفي فترةٍ من الفترات واجهت طاعة الرسول أيضًا بعض الإبهام والغموض، وذلك بعد أن التحق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى وانتقل إلى جوار ربّه. في ذلك العهد ادّعت جماعة من الصحابة من معارضي عليّ عليه السلام أنّ طاعة الله تتحقّق بطريقة ما، ووصل الأمر ببعضهم إلى حدّ ادّعاء أنّ اتّباع معاوية يحقّق طاعة الله. وهذا ما نقصده بالغموض أو العموم الذي ينفتح الباب معه للادّعاءات والادّعاءات المعاكسة. ومن هنا، نجد أنّ الله عز وجل حدّد من تؤمّن طاعتُهم طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ


 


[1] سورة الأعراف: ألآية 157.

[2] سورة النساء: الآية 80.

 

 

491


434

تفسير سورة براءة

أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[1]. فأولو الأمر الذي هم أشخاص بأعيانهم هم الذين تتحقّق بطاعتهم طاعة الله والرسول.

 

والجواب الثالث وهو مستفاد من كلام بعض المفسّرين المعاصرين وهو ينقله عن بعض الأكابر. وحاصله قبول الفرق والتمييز بين طاعة الله وطاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالأولى هي طاعة الأوامر الإلهيّة التي تجلّت في الشريعة الإسلاميّة، بينما طاعة الرسول هي أوامر الرسول التي تصدر عنه[2].

 

وهذا الكلام جميل ومقبولٌ وهو واقعيٌّ أيضًا. فثمّة أوامر من قبيل: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾[3]، و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾[4]، و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾[5]، فهذه الأوامر وأشباهها هي أوامر الله ودور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو التوسّط في الإبلاغ والإعلام، وعندما يبلّغها للناس ينقلها باسم الله وبما هي أوامر إلهيّة. وفي المقابل ثمّة أوامر تصدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وهو عند إبلاغها لا يعلنها بوصفها أوامر إلهيّة، بل ينسبها إلى نفسه، وهذه لا شكّ في أنّها ترضي الله وتحقّق رضاه؛ ولكنّها في نهاية المطاف أوامر صادرةٌ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمثلتها كثيرةٌ في حياة النبيّ، كما لو أمر بالاستعداد لهذه الحرب أو تلك، وكما لو عيّن قائدًا للجيش، ومن ذلك عندما طلب من الإمام عليّ عليه السلام أن يبقى في المدينة وطلب من فلان أو فلان أن يخرج إلى معركة تبوك.

 

وهذه الأوامر تقع في سياق إرادة الله وليست مخالفة لإرادته تعالى، وهو يأمر وفق شريعة الله ولا يأمر بخلافها؛ ولكنّها في نهاية المطاف أوامر منسوبة مباشرة إلى النبيّ وليس إلى الله.

 

وعليه، فإذا قال لك صديقك خذ هذا السوط واضرب به رأس فلان


 


[1] سورة النساء: الآية 59.

[2] الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 338.

[3] سورة الإسراء: الآية 78.

[4] سورة البقرة: الآية 183.

[5] سورة البقرة: الآية 216.

 

492


435

تفسير سورة براءة

الظالم؛ فلا يحقّ لك أن تفعل. أمّا لو قال لك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فيجب عليك أن تفعل، وفعلك هذا طاعة للرسول مباشرة وطاعة الله بطريقة غير مباشرة. ولهذا يقول الله تعالى: "يُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ". فالمؤمنون هم أولئك الذين يطيعون الله ورسوله. وأنت يا رسول الله صاحب الأمر والنهي فيهم ولك السلطة والصلاحيات التي تسمح لك بإصدار الأوامر ونقل أوامر الله لهم. وهذا المطلب عينه يُستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[1].

 

شمول الرحمة الإلهيّة المؤمنين

"أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ": هؤلاء الرجال والنساء المتّصفون بصفة الإيمان سوف تشملهم الرحمة الإلهيّة وتظلّلهم. في مقابل الحرمان من رحمة الله بالنسبة للمنافقين.

 

يرى بعض المفسّرين أنّ الرحمة التي تتحدّث عنها الآية هي الرحمة في الآخرة، ويستندون في هذا الفهم إلى سين الاستقبال في أوّل الفعل المضارع. ولكن يبدو لي أنّه إذا أردنا أن نفهم كلام الله من دون أن نتبرّع بإضافة قيدٍ إليه ينبغي أن نبقيه على عمومه، فلم يقل الله عز وجل: سيرحهم الله في الآخرة أو بالجنّة أو فيها. وبالتالي لا داعي لإضافة رقعة إلى الآية تُستوحى من ذوقنا، والصحيح في تفسير الآية أنّ الله يعد المؤمنين بالرحمة مطلقًا سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة. ورحمة الله في الآخرة هي الجنّة أو غيرها من النعم لا ندّعي أنّنا ندركها أو نفهمها حقّ فهمها. ورحمته في الدنيا هي السعادة التي تترتّب على اتّباع تعاليم الدين، وهي رفاه العيش واستقرار الحياة الإنسانيّة ببركة الواجبات الأربعة التي تقدّم ذكرها في الآية. ولو أنّ البشرية تلتزم بالواجبات التي كلّفها الله بها لرأت وعاينت الجنّة في هذه الدنيا قبل الآخرة. ولما رأينا قتل الإنسان لأخيه الإنسان، ولما رأينا حسدًا


 


[1] سورة النساء: الآية 65.

 

 

493


436

تفسير سورة براءة

أو ضغينة، هذا كلّه من الرحمة الإلهيّة التي يمكن أن تصيب الإنسان في الدنيا. وتبقى رحمة الله في الآخرة وامتيازها هو الخلود والدوام.

 

وهذا المعنى على الرغم من انسجامه مع ظاهر الآية، غير أنّ الإنسان يبقى متردّدًا وغير جازمٍ به عندما ندخل الآية اللاحقة في الحسبان.

 

وحاصل الرأي الثالث هو أنّه لمّا كانت الآية اللاحقة تعدُ المؤمنين برحمة الله في الجنّة، فلا بدّ من قصر الرحمة في هذه الآية على الرحمة في الدنيا. وهذا عكس ما يُستفاد من الرأي السابق؛ وذلك لأنّ التكرار خلاف الأصل في كلام الله تعالى. وفي كلّ كلمة أو حرف من كلام الله سرٌّ ينبغي البحث عنه، وكلّما ارتقى الإنسان درجةً في التكامل استطاع فهم سرٍّ من هذه الأسرار. وقد بلغ أئمّة الهدى عليهم السلام الأوج في هذا المجال، فكانوا يفهَمون ويفهِمون سائر الناس.

 

ومهما يكن من أمر،ٍ فإنّ رحمة الله تنال الإنسان في الدنيا والآخرة وليست الرحمة مقصورة على الآخرة وحدها. ولكن في هذه الآية الرحمة رحمة عامّة تنال الإنسان في الدنيا، أمّا الرحمة في الآية اللاحقة فهي رحمته عز وجل في الآخرة.

 

"إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ": تُساعد كلمة عزيز في هذه الجملة على استفادة الرحمة الدنيويّة من الآية؛ لأنّ العزيز هو "الغالب الذي لا يُغلب". وكأنّ الآية تقول عندما نقول: سيرحمهم الله فلا تتعجبوا؛ لأنّ الله قادرٌ وإرادته ثابتةٌ وكلّ أفعاله صادرة على ضوء عزّته وحكمته، وكلّ فعلٍ يصدر عنه يكون في موقعه المناسب بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفاته تعالى.

 

البحث الروائيّ

نعرض في هذا البحث الروائيّ بضعة أحاديث تلقي بعض الضوء على قيمة طاعة الله وأهميّتها:

1- يخاطب الإمام الباقر عليه السلام جابرًا فيقول له: "يا جابر، والله ما يتقرب

 

 

494

 


437

تفسير سورة براءة

إلى الله عز وجل إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعًا فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصيًا فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"[1].

 

في هذا الحديث نقاطٌ عدّة تستحقّ التوقف عندها، ففي هذا الحديث يبيّن الإمام لجابر أنّ الطاعة هي الوسيلة الوحيدة للتقرّب إلى الله، ولا يمكن لأحد أن يحتجّ على الله ويقول له أدخلني الجنّة لهذا السبب أو ذاك، فللّه الحجّة البالغة. ثمّ إنّ الإمام يريد أن يرفع الأوهام من أذهان الناس، فربّما يعتقد أحدهم أنّه يمكن أن يكون وليًّا لله من دون طاعة، كما لو أراد أحدهم أن ينال مقام القرب بمحبّة أهل البيت عليهم السلام. الإمام في هذا الخبر يضع حدًّا لهذه الأوهام، ويخبر جابرًا أنّ معيار القرب وتولّي أهل البيت عليهم السلام هو طاعة الله، فالمطيع وليٌّ والعاصي عدوٌّ. وولايتهم لا تُنال بالتمنّي والميول، بل تُنال بالعمل والورع.

 

والورع هو الشيء الذي ينقصنا، فنحن في كثيرٍ من الأحيان لا نلتفت إلى ما يصدر عنّا، نقول كلّ شيء، ونفعل كلّ شيء؛ وما يدعو الإنسان إلى التوقّف قبل العمل وقبل الإقدام هو الورع، فهو الحاجز والعائق الذي يحول دون الإنسان والتورّط في مخالفة الله عز وجل ومعصيته.

 

2- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فإنّ الله ليس بينه وبين أحد من الخلق شيء يعطيه به خيرًا أو يصرف به عنه سوءًا إلّا بطاعته وابتغاء مرضاته. إنّ طاعة الله نجاح كلّ خير يُبتغى، ونجاة من كلّ شرٍّ يُتّقى. وإنّ الله يعصم من أطاعه، ولا يعتصم منه من عصاه"[2].

 

يكشف لنا هذا الحديث أيضًا عن أنّ رحمة الله لا تُنال بالتمنّي؛ بل تُنال بالطاعة وطلب الرضا، والمعيار في الفوز بالنعم هو الطاعة، وملاك النجاة

 

 


[1] أمالي الشيخ الصدوق، ص 626.

[2] أمالي الصدوق، ص 488.

 

495

 


438

تفسير سورة براءة

من الشرّ هو تقوى الله وتجنّب معصيته. وعلى الإنسان أن يلتفت وإلى أنّه إذا أخطأ فلا عاصم له من الله سوى الله وحده.

 

3- عن الوشّاء، عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿يا نوح إنّه ليس من أهلك﴾[1] أنّه قال: "لقد كان ابنَه؛ ولكن لمّا عصى الله عز وجل نفاه الله عن أبيه. وكذا من كان منّا ولم يطع الله فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت"[2].

 

هذه الروايات صريحة في تحديد معيار الانتماء؛ ولكن ورد في بعض الأخبار أنّ بني هاشم والسادة في أمنٍ من العذاب. وأنا لا أقبل هذه الروايات؛ لأنّه ورد في الأخبار المتقدّمة وفي روايات أخرى عن الإمام عليّ عليه السلام والإمام السجّاد عليه السلام وفي عددٍ من آيات القرآن الكريم، أنّ الاعتقاد والمحبّة والانتماء النسبيّ إلى أهل البيت ليس معيارًا للقرب ولا للأمن من العذاب، ولا بدّ من العمل والطاعة.

 

فقد رُوِي عن الإمام السجّاد أنّ أحدهم عاتبه على بكائه من خشية الله وقال له: يا بن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله !؟ قال: فالتفت إليّ وقال: "هيهات هيهات، يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأمّي وجدّي! خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبدًا حبشيًّا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدًا قرشيًّا"[3].


 


[1] سورة هود: الآية 46.

[2] عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 232.

[3] مناقب آل أبي طالب عليه السلام، ج 4، ص 151.

 

 

396


439

تفسير سورة براءة

وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ

خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ

 أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿72﴾

 

 

498


440

تفسير سورة براءة

ثواب المؤمنين في الآخرة

تأتي هذه الآية بعد سابقتها التي حدّدت صفات المؤمنين ووعدتهم بالرحمة الإلهيّة، وفي هذه الآية يعد الله عزّ وجلّ ثلاثًا من النعم التي ينالها الإنسان في الجنّة: ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾.

 

النعمة الأولى في هذه الآية هي الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، والنعمة الثانية هي المساكن الطيّبة في تلك الجنّات، والنعمة الثالثة هي رضوان الله عز ّوجلّ.

 

الوعد الأول للمؤمنين: الجنّات

"جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار": جنّات جمع جنّة، وهي كلّ بستانٍ ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. هذا وليس بالضرورة أن تكون الأنهار تحت أرض الجنّة، فيصح هذا التعبير حتّى لو كانت الأنهار تجري بين جذوع الأشجار. وقد استُخدمت نفس الكلمة والعبارة في قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾[1]. فكلمة تحت في عبارة فرعون لا يُراد منها أكثر من أنّ المياه والأنهار تمرّ من جانب قصره مثلاً وتدور في البساتين بين الأشجار.

 

وقد قال المفسّرون كلامًا كثيرًا حول الجنّة ونعمها، وخاصّة مفسّري أهل السنّة. ومفسّرو الإماميّة من ذوي الاتّجاه العرفاني، أوّلوا نعم الجنّة


 


[1] سورة الزخرف: الآية 51.

 

 

500


441

تفسير سورة براءة

بالنعم الروحيّة، وحملوا تجسّم الأعمال في الآخرة على تجسّم الحالات الروحيّة والنفسيّة للإنسان.

 

ونحن لا ننفي ولا نرفض وجود مثل هذه النعم في الجنّة. والنعم الروحيّة والمعنويّة وتجسّم الأعمال وغيرها من الأمور ثابتة ولها موقعها في الآخرة. ولكن لا نرى مبرّرًا لتأويل هذه الآية وأشباهها بالنعم الروحيّة والمجرّدة، فظاهر الآية الحديث عن النعم الماديّة.

 

والمراد من "جَنَّاتِ عَدْنٍ" أيضًا في الآية هو المعنى الذي نراه من الأشجار والبساتين في الدنيا ونأنس برؤيته ونسعد به. نعم، جنّات من هذا النوع؛ ولكن من نوعٍ أفضل ومستوًى أعلى، والسعادة واللذّة المترتبّة على الدخول إليها لا توصف، ما يجعل التشابه بين جنّات الآخرة وجنّات الدنيا تشابهًا في الاسم دون الحقيقة.

 

فجنّات الدنيا وجنّات الآخرة بينها تشابهٌ في الاسم والظاهر؛ ولكن مع هذا التشابه، فالفوارق بينها كبيرةٌ جدًّا. فالفاكهة التي يأكلها الإنسان في هذه الدنيا هي فاكهةٌ من الجنّة أيضًا، ولكنّها جنّة في الاسم، وما أدرانا أن تكون الجنّة في الآخرة شيئًا آخر غير المعنى الذي نفهمه.

 

والخلاصة هي أنّ فهم الآية يكفي فيه الاعتماد على الظاهر ولا حاجة إلى التأويل والنبش عن المعنى الباطنيّ، ونترك معرفة حقيقة الجنّة وما فيها من نعم إلى الآخرة، إن شاء الله!. ولكن إذا أردنا مزيدًا من المعرفة بالجنّة هنا ونحن في الدنيا وقبل أن ننتقل إلى الآخرة يمكننا الاعتماد على الكلام الوارد عن المعصومين عليهم السلام للوصول إلى فهم أوضح للمراد الحقيقيّ من الجنة ونعمها. ولنفرض أنّنا لا نعرف شيئًا عن الجنّة وما فيها سوى الاسم فنحن علينا أن نعلن الإيمان بها والتصديق بوعد الله فيها.

 

"خَالِدِينَ فِيهَا": الخلود هو البقاء في الجنّة. ولعلّ الإشارة إلى نعمة الخلود هدفها رفع الخوف من زوال النعمة، وهذا الخوف من أكثر الأمور التي

 

 

501

 


442

تفسير سورة براءة

تثير قلق الإنسان. فكثيرٌ من النعم يأنس بها الإنسان ويشعر بلذّة الحصول عليها، ولكنّ التفكير في زوالها ينغّص عليه أعظم اللذّات. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في الإنسان أن يخشى زوال النعمة، وكلّما كانت النعمة أعظم روحيّة أو جسديّة، كان الخوف من زوالها أشدّ إيلامًا للنفس.

 

واللذّة الروحيّة المشار إليها في هذه العبارة الأخيرة لا نقصد بها لذّة التمتّع والتلذّذ بالنظر إلى الجنّة ونعمها ومناظرها الجميلة؛ وذلك لأنّ هذه النعمة أيضًا هي نعمةٌ جسديّة. ما نفهمه من النعمة الروحيّة هو نعمة إدراك الحقائق والمعارف الإلهيّة، وهذه النعم أيضًا يمكن للإنسان أن يخشى زوالها وارتفاعها. فالإيمان بوجود الله عز وجل قد لا يبقى في قلوب بعض الناس، فربّ مؤمن ينقلب كافرًا عاقبته التكذيب بآيات الله: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾[1].

 

ففي صدر الإسلام اعتنق الإسلام عددٌ من الناس كانوا على درجةٍ عاليةٍ من عمق الإيمان، وكانت علامات الإيمان تظهر في سلوكهم وتصرّفاتهم. وشارك بعض هؤلاء في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا مستوًى كبيرًا من الاستعداد للتضحية والفداء؛ ولكن بعد فترة خبا بريق الإسلام في نفوسهم وفقد حرارته، وفي لحظةٍ من لحظات حياتهم خسروا كلّ شيء وسقطوا من قلّة الإيمان التي كانوا عليها.

 

والتاريخ مليء بمثل هذه النماذج. انظروا مثلاً في سيرة حياة عددٍ من أصحاب النبيّ سوف تجدون بينهم أشخاصًا مميّزين، ولكن انظروا إلى هؤلاء بعد خمس وعشرين أو ثلاثين سنة من بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

مثلاً الزبير، لم يكن رجلًا قليل الأهميّة في التاريخ الإسلاميّ. هو نفسه الذي قال أمير المؤمنين عليه السلام في حقّه بعد مقتله: "سيفٌ طالما كشف الكرب

 

 

 

 

[1] سورة الروم: الآية 10.    

 

502


443

تفسير سورة براءة

عن وجه رسول الله"[1]. ولكنّ الزبير هذا وقف في وجه عليّ عليه السلام. نعم، فالغفلة عن النفس تورّط الإنسان في ما لا ينبغي التورّط فيه. فلا تبقى الإرادة دائمًا حارّة فوّارة تدفع الإنسان في الاتّجاه الصحيح. فلا يعرف الإنسان متى تزلّ به قدمه ويسقط. وعلى الناس جميعًا وخاصّة بعض الشخصيّات أن يحذروا من السقوط والانزلاق.

 

وبناءً عليه، فإنّ النعم الروحيّة مثل نعمة الإيمان بالله والمعرفة يمكن أن تزول أيضًا. ومن حقّ الإنسان أن يرتجف عندما يتذكّر أنّ مثل هذه النعم الروحيّة العظيمة يمكن أن تزول عنه ، وأن يخسرها في أيّ لحظةٍ. ولكنّ نعم الله في الجنّة لا تزول، فلا يخشى الإنسان زوالها والحرمان منها؛ ولهذا نجد أنّ الله تعالى كلّما ذكر الجنّة ذكر الخلود فيها من باب التطمين ورفع الخشية من نفس الإنسان. وهذا الخلود في حدّ ذاته نعمة مستقلّة، مضافًا إلى كونه صفةً لسائر النعم.

 

وعد الله بالجنّة الأعلى

"وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ": ومضافًا إلى الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، وعد الله المؤمنين بمنازل طيّبة طاهرة في جنّات محدّدة يصفها تعالى بأنّها جنّاتُ عدنٍ. ومفاد هذا الوصف في اللغة الثبات والاستقرار. ويُقال إنّ المعدن سُمِّي بهذا الاسم لثباته ودوامه[2].

 

هذا ولكن عندما نتأمّل في الآية، نكتشف أنّ المراد الإشارة إلى معنى آخر غير الاستقرار والثبات؛ وذلك لأنّ العبارة السابقة تحدّثت عن الخلود، فما جدوى أن يكرّر القرآن الفكرة نفسها في الآية الواحدة مرّتين؟! نحن نعتقد أنّ كلّ كلمة في القرآن لها دلالة محدّدة والتكرار على خلاف الأصل. وإذا


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 236؛ سفينة البحار، ج 3، ص 443.

[2] انظر: مفردات ألفاظ القرآن، ص 553.

 

503


444

تفسير سورة براءة

فرضنا أنّه كرّر، فإنّه يكرّر لفائدة وغرض يترتّب على التكرار.

 

وبناءً عليه، لا أقبل بسهولة أنّ المراد من المساكن الطيّبة في الجنّات الموصوفة بعدن هو نفس الجنّات التي ذكرت في العبارة الأولى من الآية، فلا بدّ من البحث عن معنى جديد يمكن استفادته من الآية.

 

ولتوضيح الفكرة نتحدّث عن المعاني والمضامين التي وردت في الآية. في العبارة الأولى لا شكّ في أنّ الله عندما وعد المؤمنين بالجنّة في العبارة الأولى من الآية، لم يعدهم بمجرّد النظر إليها أو الأنس بسماع اسمها؛ بل وعدهم بالسكن فيها. ومن المعلوم أيضًا أنّ المسكن الذي سوف يعطيه الله للمؤمن في الجنّة هو مسكنٌ طيّبٌ، ولا يمكن أن يكون غير طيّب أو خبيثٍ، فثواب العمل الصالح لا بدّ أن يكون صالحًا وطيّبًا.

 

أضف إلى ذلك أنّ الله أشار إلى خلود المؤمنين في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، والخلود معناه البقاء والاستقرار في الجنّة وعدم الخروج منها. ويُستفاد من قوله تعالى: "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا" في العبارة الأولى أنّ وعد الله للمؤمنين مركّب من أربع خصائص، هي: 1- أنّه سيعطي الجنّة للمؤمنين؛ 2- هذه الجنّات ستكون مسكنًا للمؤمنين؛ 3- مساكن المؤمنين في الجنّة طيّبة؛ 4- هذه النعم خالدةٌ لن تزول.

 

والعبارة الثانية وهي قوله تعالى: "وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ"، تتضمّن الوعد الثاني من الوعود الثلاثة التي ذكرت في الآية. أكثر المفسّرين فسّروا هذه العبارة على نحو ما ورد في بعض الروايات أيضًا، بأنّ جنّات عدنٍ سوف تكون محلًّا للمنازل والمساكن الطيّبة التي سوف يعطيها الله للمؤمنين في الآخرة. وهذا التفسير لا يضيف إلى معنى الآية السابقة شيئًا جديدًا، وهذا بعيدٌ عن أسلوب القرآن وطريقته في التعبير. لا يمكن أن يكرّر الله في العبارة الثانية عين ما أفادته العبارة الأولى.

 

ومن هنا، لا نستطيع تفسير كلمة عدنٍ بالاستقرار والثبات على نحو

 

 

504


445

تفسير سورة براءة

ما نقلنا عن بعض المفسّرين. ولا بدّ من البحث عن معنًى آخر لها، ولسنا ندّعي أنّ هذا المعنى الذي نبحث عنه قطعيٌّ لا شكّ فيه، فنحن لا نعلم الغيب، وإنّما نعلم إجمالًا أنّ القرآن الكريم ليس فيه تكرارٌ من دون فائدةٍ جديدة. ويكفينا أن نبيّن أنّ المساكن التي يحدّثنا الله عنها في العبارة الثانية هي أرقى وأعلى من المساكن التي تضمّنتها العبارة الأولى. وبعبارةٍ أخرى: تكشف لنا الآية عن مراتب في الجنّة، أولاها مرتبة الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، والثانية الأعلى منها هي مرتبة جنّات عدنٍ. ويُستفاد هذا من ترتيب الجملتين في الآية، فعندما تقول الآية جنّات وتتحدّث الثانية عن مساكن في جنّات عدنٍ، هذا يكشف عن أنّ ما تشير إليه العبارة الثانية هو مرتبة أعلى من المرتبة المفادة من العبارة الأولى.

 

البحث الروائيّ

ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه احتجّ على الناس يوم الشورى فقال لهم: "نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّتي التي وعدني ربي، جنّات عدنٍ قضيب غرسه الله بيده، ثمّ قال له كن فكان، فليوالِ عليًّا بن أبي طالب وذريّته من بعده فهم الأئمّة، وهم الأوصياء. أعطاهم الله علمي وفهمي لا يدخلونكم في باب ضلال ولا يخرجونكم من باب هدًى، لا تعلّموهم فهم أعلم منكم يزول الحقّ معهم أينما زالوا، غيري"[1].

 

نقاط مستفادة من الرواية

أ- يستفاد من الرواية أنّ جنات عدنٍ تختلف عن الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، وهي الجنّة التي وعد الله نبيّه بها، وينبغي أن تكون مكانًا أعلى


 


[1] الخصال، ج 2، ص 558.

 

 

505


446

تفسير سورة براءة

وأرقى من غيرها من مواضع الجنّة.

 

ب- في هذه الرواية عبارة لافتة للنظر وهي عبارة "غرسه الله بيده"، لعلّ في هذه العبارة إشارة إلى معنى باطنيٍّ يفهمه أهل المعرفة. وإلّا فيبعد أن يكون المراد من القضيب شجرة يغرسها الله بيده تكون شجرة كرزٍ أو غيره من الأشجار المثمرة.

 

ج- ليس المراد من الموالاة في الحديث مجرّد الحبّ؛ فربّ شخصٍ أحبّ ولكنّ الباب لن يفتح له إلى ذلك المحلّ الأرفع. الموالاة هي الدرجة الأعلى من الارتباط والعلاقة الوثيقة.

 

2- روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "عدن دار الله التي لم ترها عينٌ ولم تخطر على قلب بشر. لا يسكنها غير ثلاثة، النبيّين، والصدّيقين، والشهداء. يقول الله: طوبى لمن دخلك"[1].

 

الوعد الثالث للمؤمنين: رضوان الله

الأمر الثالث الذي وعد الله المؤمنين به في هذه الآية هو ما بيّنه بقوله: "وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ"، وهذه هي النعمة المعنويّة التي تفوق ما قبلها من النعم التي ذكرت في الآية. تفيد هذه العبارة أنّ أقل مقدار من رضوان الله عز وجل يفوق أعظم الجنّات.

 

وقد ورد في تفسير العيّاشيّ: ثمّ إنّ الله يشرف عليهم، فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ألا هل أنبئكم بخيرٍ ممّا أنتم فيه! فيقولون: ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه...؟ فيجيبهم الله عز وجل بقوله: رضاي عنكم ومحبّتي لكم خيرٌ وأعظم ممّا أنتم فيه[2]...


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 88.

[2] انظر: تفسير العيّاشي، ج 2، ص 97.

 

 

506


447

تفسير سورة براءة

سرّ تكرار الوعد بالجنّة في القرآن

لماذا يكرّر الله عز وجل وعد المؤمنين بالجنة في القرآن، ويذكر جميع النعم من طعام وشرابٍ... وغير ذلك ممّا ذكر في القرآن؟ لهذا التكرار عللٌ عدّة. وما يمكننا فهمه هو أنّ المؤمن السالك في مسار العمل بالتكاليف الإلهيّة يواجه في حياته الكثير من المطبّات والأشواك التي تعيق مساره. ومن هذه المعيقات: الشهرة والشهوات وغير ذلك. ولا يقدر الإنسان على متابعة سيره بنجاح إلّا إذا ضعفت أهميّة الدنيا في عينيه وقلّ بريقها. وكلّما ازداد الإنسان تعلّقًا بحياته الدنيا وبنفسه ضعفت همّته عن السير إلى الله.

 

ومن باب المثال، إذا وضعنا حبلاً بين مكانين مرتفعين فإنّ الإنسان الأكثر قدرة على السير على الحبل هو الذي يحاول تناسي نفسه، أمّا من يركّز تفكيره على نفسه وعلى خطر السقوط فهو لن يستطيع السير بسهولة. وطريق السعادة الأبديّة أكثر دقّة، فلا بدّ من الاستخفاف بالدنيا ليقدر الإنسان على السير فيه.

 

ولأجل أن تقلّ أهميّة الدنيا ونعمها في عين الإنسان، نجد أنّ الله عز وجل يذكّر قارئ القرآن بالنعم التي سوف ينالها في الآخرة، كما يذكّره بالعذاب الذي ينتظر العاصين والمجرمين. إذا استطاع الإنسان التخلّص من حالة التعلّق بالدنيا وأعتق نفسه من أسرها، حلّ الكثير من مشكلاته. وهذه الآيات والكثير من الأحاديث والخطب الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة هدفها تقليل أهميّة الدنيا في نفوسنا، ومن تقلّ أهميّة الدنيا في عينيه يَكُن أقدر على العمل بالتكليف: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[1].


 


[1] سورة التوبة: الآية 24.

 

507


448

تفسير سورة براءة

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(37)

 

508

 

 


449

تفسير سورة براءة

جهاد المنافقين

ظاهر الآية أنّها تصدر الأمر بجهاد الكفّار والمنافقين. وهي تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى جهادهم والغلظة عليهم. ولكن وقع البحث بين المفسّرين وخاصّة بين المتقدّمين منهم، في أنّه هل أُمِر النبيّ بمقاتلة المنافقين كما أمر بمقاتلة الكفّار؟

 

فلم يُعرف من سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه شهر السلاح في وجه المنافقين أو أعلن الحرب عليهم؛ بل عُرف عنه مداراتهم وتحمّل أذاهم إلى أن نزلت هذه الآية، وبعد نزول الآية أيضًا لم يدوّن التاريخ مواجهة ماديّة بين النبيّ والمنافقين سوى ما حصل من هدمه لمسجد ضرار. ويتّفق علماء الشيعة والسنّة على أنّ الحرب على المنافقين ليست واجبةً، فلا يجب على الحاكم في المجتمع الإسلاميّ إعلان الحرب على المنافقين الذين ينتمون إلى هذا المجتمع.

 

المراد من الجهاد في القرآن

يعرف الجواب عن بعض الأسئلة المثارة أعلاه، عندما نعرف المراد من مفهوم الجهاد في القرآن الكريم. والاختلاف في معنى الآية يرجع إلى عدم الاتّفاق على معنى الجهاد بين المفسّرين. ولو فهمنا هذا المصطلح بطريقة أخرى وكانت محل اتّفاق، عندها كثيرٌ من الأسئلة لن يعود لها محلّ ولن تطرح.

 

لا بدّ من توضيح المعنى القرآنيّ للجهاد، والتمييز بينه وبين المصطلح الفقهيّ الذي تبنّاه علماء الإماميّة وفقهاؤهم. وذلك بهدف تجنّب الخلط بين المفهومين القرآنيّ والفقهيّ.

 

 

510

 


450

تفسير سورة براءة

الجهاد في اللغة والمجاهدة كلمة تدلّ على مطلق بذل الجهد والتعب للوصول إلى غاية. وقد خلط بعض المغرضين بين هذا المعنى اللغويّ والمفهوم القرآنيّ. وأمّا في المصطلح القرآنيّ فهو بذل الجهد في مواجهة الأعداء. وهذا المعنى القرآنيّ متداول في الأدبيّات الفارسيّة. فيُقال للإنسان مثلاً: "جاهد هذه الصفة القبيحة في نفسك". فالجهاد ليس قتالًا بالضرورة. الجهاد هو عملٌ في مواجهة العدوّ حتّى لو لم يكن قتالًا، فتوزيع المنشورات في الليل ضدّ السلطة الظالمة جهادٌ. وعليه، بين المعنى اللغويّ والمعنى القرآنيّ والحديثيّ فرقٌ ينبغي الالتفات إليه.

 

هذا في القرآن الكريم، وأمّا في الفقه الإسلاميّ فالجهاد هو المواجهة المسلّحة مع العدوّ. أو قل هي مواجهة العدوّ في ميدان القتال. وهذا المعنى من الجهاد هو الذي خصّص له الفقهاء باب الجهاد في الفقه الإسلاميّ، وعالجوا فيه أحكامه.

 

يقول صاحب الجواهر: "الجهاد... شرعًا بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص"[1]. وهذا القيد الأخير "وجه مخصوص" يفيد أنّ الجهاد لا يصدق على جميع أشكال المواجهة مع العدوّ، بل هو مواجهة من نمط محدّد، باستخدام أدوات الحرب والقتال.

 

وبعد عرض هذا التعريف ينقل الشيخ النجفيّ تعريف الشهيد الأوّل من كتابه مسالك الأفهام وهو: "...أو بذل المال والنفس والوسع في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان". ويردّ هذا التعريف بذريعة أنّه ليس مانعًا؛ أيّ لا يمنع من دخول ما ليس بجهادٍ في دائرته، والمطلوب من التعريف أن ينطبق على أفراده ومصاديقه فقط. وحاصل اعتراضه هو أنّ إعلاء الدين قد يحصل بأيّ شيء غير الجهاد المخصوص، مثلاً قد يكتب الإنسان كتابًا يؤدّي إلى إعلاء كلمة الدين، وهذا ليس جهادًا بحسب صاحب الجواهر.


 


[1] جواهر الكلام، ج 21، ص 3.

 

 

511


451

تفسير سورة براءة

وبعد أن يذكر الشهيد الثاني في الروضة البهيّة[1] أقسام الجهاد ويشير إلى من يجب جهادهم، يعرّف الجهاد تقريباً بالطريقة نفسها، والأمر عينه نلاحظه في كتاب المسالك[2]. وعلى أيّ حال، فإنّ الفقهاء يكادون يتّفقون على تفسير مصطلح الجهاد بالمواجهة المسلّحة مع الأعداء.

 

وما أثير من تساؤلات حول دلالة الآية يستند إلى هذا الفهم للجهاد. وبعبارة أخرى: منشأ التساؤل والنقاش حمل المعنى الفقهيّ على القرآن. وحاولوا بعد ذلك حلّ الإشكالات التي واجهتهم، وفي بعض الأحيان وقعوا في ما هو أكثر تعقيدًا من السؤال نفسه. وذلك أنّهم أخطأوا فهم الآية وإصابة معناها، وأثاروا إشكالات أخرى غير الإشكال الأساس الذي حاولوا معالجته. وشبيه هذا الأمر ما سوف نشير إليه في اختلاف القراءات.

 

ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ كلمة "جهاد" في النصوص الإسلاميّة استُعملت في المعاني الثلاثة التي ذكرناها، ومن حصرها في معنى القتال، توقّف في تفسير هذه الآية وواجه الإشكال المذكور آنفًا.

 

ونحن نرى أنّ الأمر بالجهاد في هذه الآية يدلّ على المواجهة بمعناها المطلق، وليس خصوص المواجهة المسلّحة؛ أيّ الجهاد بحسب المصطلح الفقهيّ. وعلى هذا التفسير يتّضح أنّ الآية لا تدعو إلى تشكيل جبهة مسلّحة في مواجهة المنافقين، حتّى يرد الاعتراض أو السؤال.

 

ويطرح بعض المفسّرين احتمالاً هو أنّ الدعوة إلى الجهاد في الآية هي دعوة إلى الجهاد المسلّح، غاية الأمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى بقتال أحد الطرفين وهو الكفّار، وأمر الإمام عليًّا عليه السلام بقتال المنافقين من بعده، وقد فعل أمير المؤمنين ذلك وامتثل أمر الجهاد في بعض حروبه التي خاضها مثل الجمل وصفّين والنهروان مثلًا. وهذا الاحتمال مبنيٌّ على حديث لا يصحّ سنده


 


[1] الروضة البهيّة، ج 2، ص 377.

[2] مسالك الأفهام، ج 3، ص 7 و 10.

 

 

512


452

تفسير سورة براءة

وبالتالي لا يمكن الموافقة عليه؛ لأنّ هذا الحديث منقول عن عليّ بن إبراهيم وهو لا يسنده، وما لا يذكر عليّ بن إبراهيم سنده لا يمكن البناء عليه والتعامل معه على أنّه حديث صحيح. أضف إلى هذا الإيراد أنّ الخطاب في الآية موجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي أُمِر بقتال الكفّار والمنافقين.

 

وعلى أيّ حال، فإنّ الجهاد في القرآن هو مصطلح واسع يشمل كلّ مواجهة للأعداء بهدف إعلاء كلمة الإسلام، ويمكن أن يكون ذلك بالسيف أو بالكلمة أو بالصبر على الأذى وتحمّل فقدان المال والولد.

 

والجهاد بمعنى الصبر يتحقّق في جهاد النفس؛ لأنّ المهم في الجهاد وفي كلّ مواجهة هو مجاهدة النفس والتغلّب على الذات، فمن لا يستطيع التغلّب على نفسه، ومواجهة الوحوش الضارية التي تستبدّ بالنفس الإنسانيّة وتميل بها إلى الشهوات ورغد العيش، لا يمكنه الوقوف في ميدان الحرب ولا الثبات في مواجهة العدوّ. إذًا الشرط الأوّل للجهاد في مواجهة "عدوّ الله" هو جهاد "العدوّ الباطنيّ"؛ فإذا لم تنتصر على هذا العدوّ الأخير، لا يمكنك التصدّي للعدوّ الأوّل. هذا هو أصل الجهاد. وعلى هذا يتبيّن لنا عموم واتّساع مفهوم الجهاد في المصطلح القرآنيّ والإسلاميّ.

 

وبالنظر إلى هذا المعنى يكون المراد مواجهة العدوّين: الكفّار والمنافقين، نعم لم تحدّد الآية كيفيّة المواجهة، وهذا متروك للنبيّ  لتحديد الأسلوب الأنسب للمواجهة في مقابل الطرفين.

 

ومن الآيات التي يمكن أن نستفيد منها هذا المعنى العام الآيات التي تدعو إلى أو تتحدّث عن الجهاد بالمال، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[1]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[2].


 


[1] سورة التوبة: الآية 41.

[2] سورة الأنفال: الآية 72.

 

 

513


453

تفسير سورة براءة

ومن الواضح أنّ الجهاد بالمال لا يقتضي بالضرورة الذهاب إلى جبهة القتال المسلّح؛ لأنّه لا معنى للذهاب بالمال إلى الجبهة، بل المراد منه صرف المال في سبيل الله. وليس بالضرورة أن يكون المراد إنفاق المال على مقدّمات الحرب المباشرة مثل شراء السلاح وما شابه، بل كلّ إنفاق للمال على المواجهة بأيّ معنى من معانيها هو جهادٌ. فالإنفاق على التخطيط جهاد، وإنشاد الشعر لبثّ الحماسة في نفوس المقاتلين جهاد، والمحاضرة والخطابة التي تنوّر الرأي العام أو تشرح الموقف الفكريّ الإسلامي جهادٌ، وهكذا....

 

وهذا وقد استُعملت كلمة جهاد في بعض الآيات بطريقة لا تسمح بغير تفسيرها في المواجهة المسلّحة والقتال، وهذا يُستفاد من القرائن ومن السياق الذي وردت فيه الكلمة أو الآية. ومن ذلك مثلًا قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي﴾[1]، ففي هذه الآية تساعد كلمة الخروج على استفادة الجهاد المسلّح من الآية. يقول الراغب الأصفهانيّ في تعريف الجهاد: "الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ"[2]. وهذا الشرح اللغويّ للآية ليس بعيدًا عمّا نقول، فمن يدفع الأنانية عن نفسه، هو في حالة جهاد. وكلّ من يستخدم قواه لدفع أيّ عدوّ من أعداء الدين هو في حالة جهاد.

 

القراءة غير المشهورة

يشير الشيخ الطبرسيّ في مجمع البيان إلى قراءة غير مشهورة لهذه الآية وهي قراءتها بهذا النحو: "جاهد الكفّار بالمنافقين"[3]. ومن الواضح أنّ هذه القراءة تغيّر معنى الآية وتحوّل المعنى إلى دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستفادة من المنافقين لقتال الكفّار.


 


[1] سورة الممتحنة: الآية 1.

[2] مفردات ألفاظ القرآن، ص 208.

[3] مجمع البيان، ج 5، ص 89.

 

514


454

تفسير سورة براءة

أوّلاً: هذه القراءة غير مشهورة ولا متواترة، ولا شاهد عليها سوى رواية ضعيفة مرسلة[1]. ولهذا لا يجوز القراءة بها في الصلاة.

 

ثانيًا: إذا أريد إبطال القراءة المشهورة بالاستناد إلى حياة النبيّ بأن يُقال إنّه لم يُقاتل المنافقين في حياته أبدًا، وبالتالي لا بدّ أن تكون هذه القراءة المشهورة غير صحيحة، هنا يمكن أن نقول أيضًا إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفد مرّة في حياته من المنافقين ليقاتل بهم الكفّار؛ بل يقول تعالى في هذه السورة: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾[2]. بلى، خروج المنافقين مع المؤمنين سوف يؤدّي إلى الإخلال في البنيان المرصوص، والكفّار والمنافقون على الرغم من الاختلاف بينهم فإنّ لهم هدفًا مشتركًا هو ضرب الإسلام، فليس من العقل إخراج المنافقين لقتال الكفّار، ولا يكشف لنا تاريخ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه فعل ذلك.

 

ثالثًا: إنّ هذه القراءة المشهورة وصلت إلينا بسند صحيح وقطعيٍّ حيث ينقلها تفسير نور الثقلين مثلًا، عن أربعة من الثقاة هم: عليّ بن إبراهيم، وأبوه، وابن أبي عمير، وأبو بصير. فنحن نجزم بأنّ هذه القراءة هي الصحيحة، ونحكم على القراءة الثانية بالضعف والشذوذ.

 

البحث الروائيّ

يُستفاد من بعض الأخبار أنّ الجهاد في القرآن يدلّ على المواجهة بالمعنى الواسع.

1- ينقل الراغب الأصفهانيّ عن رسول الله عز وجل قوله: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم"[3]. وذلك أنّ الإنسان لا يقاتل أهواءه بالسلاح.


 


[1] الخبر المرسل هو الذي سقطت منه إحدى الوسائط بين الراوي والمعصوم.

[2] سورة التوبة: الآية 46.

[3] مفردات ألفاظ القرآن، ص 208.

 

 

515


455

تفسير سورة براءة

2- ويروي الراغب نفسه أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "جاهدوا الكفّار بأيديكم وألسنتكم"[1]. وهذا الحديث واضح الدلالة على أنّ الجهاد يصدق على المواجهة باللسان.

 

3- يروي العلّامة الحلّي عن عليّ عليه السلام قوله: "كتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل أن يبذل ماله ونفسه حتّى يُقتل في سبيل الله. وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وعشيرته"[2].

 

4- يروى أنّ عثمان بن مظعون فقد أحد أبنائه، فحزن لفقده وعزم على التنسّك والترهّب بعد وفاته، فلمّا وصل خبره إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "لا تفعل، فإنّ سياحة أمّتي الغزو والجهاد"[3]. وفي رواية أخرى أنّه قال له: "إنّما رهبانية أمّتي الجهاد في سبيل الله"[4].

 

يعلم من هذه الرواية أنّ موقف الإسلام من الرهبانية سلبيٌّ؛ لأنّ الرهبانية هي انطواء على الداخل، بينما الأساس في الإسلام هو الجهاد. ووجه دلالة هذه الرواية على ما نحن بصدده، أنّ الإمام عليه السلام يستخدم كلمتي الغزو والجهاد، وتفسير الجهاد بالحرب يجعل كلام الإمام تكرارًا، بينما ينبغي أن يُفسر كلام الإمام بطريقة غير التكرار، ونفي ذلك عن كلام الإمام يتوقّف على تفسير الجهاد بمعنى أوسع من القتال الحربيّ المستفاد من كلمة "غزو".

 

وخلاصة الكلام في هذه الآية: أنّ بعض المفسّرين أخطأوا فهم كلمة الجهاد، فوقعوا في الإشكال وحاولوا ردّه والتخلّص منه بطريقة أو بأخرى. ونحن نرى أنّ كلمة "جهاد" في القرآن الكريم تفيد معنًى أوسع من القتال والمواجهة المسلّحة. الجهاد هو مواجهة العدوّ بأيّ طريقة متاحة.

 


[1] مفردات ألفاظ القرآن، ص 208.

[2] منتهى المطلب، ج 14، ص11.

[3] تهذيب الأحكام، ج 6، ص 122.

[4] أمالي الشيخ الصدوق، ص 66؛ بحار الأنوار، ج 79، ص 114.

 

516


456

تفسير سورة براءة

وهذا التفسير له نتيجة فقهيّة؛ وهي أنّه إذا فسّرنا الجهاد بهذا المعنى الواسع، فعندما نرى في بعض الروايات شروطًا للجهاد ترفع وجوبه في بعض الحالات، فلا بدّ من حمل هذه الروايات على تقييد بعض أشكال الجهاد وأنواعه. وبعبارة أخرى: ورد في بعض الأخبار شروط للجهاد في زمان الغيبة تجعله مستحيل التحقّق، وبالتالي تعطّل هذه الفريضة، ونحن أوّلاً لا نقبل هذه الشروط والقيود التي تؤدّي إلى تعطيل فريضة من الفرائض؛ وثانيًا: إذا قبلنا هذا الشرط من حيث المبدأ فإنّنا نصرفه إلى بعض أشكال الجهاد وأصنافه ولا نعمّم الحكم لكلّ جهاد ومواجهة للعدوّ.

 

شرط تحقق الجهاد؛ قتال العدو

بناءً على ما تقدّم، توجب الآية على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مواجهة الكفّار والمنافقين وجهادهم، بالمعنى العامّ للجهاد، غاية الأمر أنّ جهاد الكفّار بأسلوب وجهاد المنافقين بأسلوب آخر.

 

وما يستحقّ الذكر هنا، ولو أنّه لا يرتبط بتفسير الآية بشكلٍ مباشر، هو أنّه يُستفاد من كلام بعض المفسّرين والفقهاء أنّ مفهوم الجهاد عامٌّ يشمل كلّ شكل من أشكال المواجهة، ويُستفاد هذا المعنى من كلامهم في تفسير الآية، ومن كلامهم في أوّل كتاب الجهاد في كتبهم الفقهيّة؛ ولكن يتوقّف إطلاق مصطلح الجهاد على الكتابة والتأليف في مجال بيان الحقائق وإقامة الحجج للدفاع عن الدين، يتوقّف ذلك على وجود حالة من المواجهة.

 

فمن يكتب في قضيّة دينيّةٍ أو علمّيةٍ أو فكريّة، وبيّن وجهة نظر معاكسة لوجهة نظر المعادين للدين والمعارضين له، ولكن لم تكن لغته وطريقة تعبيره لغة مواجهة وتأييد للإسلام وردٍّ للكفر، مثل هذا الفكر لا يمكن إطلاق مصطلح الجهاد عليه.

 

مثلاً قد يكتب أحدهم أو يقول ويحاضر في التوحيد ومعرفة الله والنبوّة،

 

517

 


457

تفسير سورة براءة

ويثبت ذلك بالبراهين العقليّة والأدلّة المتقنة، وقد يبذل في هذا المجال جهدًا بالمعنى اللغويّ؛ ولكنّ كلامه وكتابته لا تقع في مواجهة الكفّار، فمثل هذا الجهد لا ينطبق عليه اسم الجهاد ولا مصطلحه.

 

إذا بيّن أحدهم مسألة فقهيّة فرعيّة، أو شرح مسألة مرتبطة بالصلاة مثلًا، مثل هذا الشخص لا شكّ في أنّه في مقام بيان الحقيقة؛ ولكنّه ليس في حالة جهاد، فالجهاد هو مواجهة مع العدوّ، حتّى يكون كلامك جهادًا لا بدّ من أن يكون خطرًا على العدوّ. وهذه نقطة دقيقةٌ جديرةٌ بالتأمّل.

 

نحن نعتقد بأنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا في حالة جهاد مستمرٍّ، وهذا المعنى يمكن اكتشافه من الأخبار والروايات الواردة عنهم، ومن سيرة حياتهم ومن مصائرهم التي انتهوا إليها. ولم يكن جهادهم بأنّهم كانوا يجلسون ويقولون الحقائق ويبيّنون الأحكام فقط، ولم يكن ما يقولون هو الحقائق التي لا معارض لها ولا مخالف فقط. أن تقول الحقّ الذي لا يعارضه أحدٌ ولا يختلف معك فيه أحد ليس جهادًا حتّى لو كان قولًا للحقّ. فعندما نقول كان الأئمّة في حالة جهادٍ ماذا نقصد؟ كيف يمكن أنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في حالة جهاد وهو لم يمتشق سيفًا؟

 

جهادهم عليهم السلام بقول الحقائق التي تُصنّف في باب المواجهة المباشرة مع المنافقين والكفّار. فطرح الحقائق يكون جهادًا عندما يتحوّل إلى خطر وتهديد للمعارضين للحقّ. وهذا ما نفهمه من الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وهذا ما نفهمه من الدعوة إلى جهاد الكفّار والمنافقين، والأمر بالغلظة، المراد من الغلظة هو عدم المهادنة وقول الحقّ الذي فيه تهديدٌ لهم.

 

ومفاد هذه الآية يشبه إلى حدّ ما مفاد قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[1]. فالغلظة والشدّة المطلوب إظهارها للكافرين أو المنافقين تختلف من حالة إلى أخرى، ومن مورد إلى


 


[1] سورة الفتح: الآية 29.

 

518


458

تفسير سورة براءة

آخر. فقد تكون برفع الصوت وقد تكون بتجهّم الوجه، وقد تكون ببيان الحقّ بطريقة قاطعة وحاسمة لا مواربة فيها ولا مهادنة.

 

وهذه الغلظة هي إحدى العقوبات الدنيويّة التي كتبها الله عليهم، فهذا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو رسول رحمة وهداية، لا يستحقّون أن يروا منه هذا الجانب الرحمانيّ. فيا أيّها النبيّ، كن في مواجهتهم ولا تكن إلى جانبهم، وسوف يرون من الله يوم القيامة مثل ما يرونه في الدنيا: "مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصِير".

 

المصير هو ما يصير الإنسان إليه، وما ينتهي إليه أمره وعاقبته. وقد بيّنا سابقًا أنّ الموضوع الأساس لهذا القسم من سورة التوبة هو الحديث عن المنافقين وأحوالهم وصفاتهم، وقد بيّن الله عددًا من هذه الصفات والأحوال، ومن الأساليب التي اعتمدها عزّ وجلّ أنّه رسم صورتين متقابلتين، إحداهما صورة المنافقين والأخرى صورة المؤمنين. وهذه الآية تحدّد الموقف من طريقة التعاطي مع الكفّار والمنافقين، وهي باختصار المواجهة والشدّة.

 

وعليه، فإنّ الهدف الأساس المنسجم مع موضوع السورة، أو على الأقلّ موضوع هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، هو المنافقون والدعوة إلى مواجهتهم، وذكرت الآية الكفّار للإشارة إلى أنّ المنافقين والكفّار في صفٍّ واحدٍ وجبهة واحدة، وبالتالي ينبغي تعامل المسلمين معهم بطريقة واحدة وهي طريقة المواجهة. إذًا الهدف هو المنافقون والكلام عليهم وتحديد الموقف منهم؛ وذكرهم إلى جانب الكفّار يهدف إلى توضيح صورتهم الحقيقيّة للمؤمنين، وهي الكفر الباطنيّ وإن كانوا على مستوى الاجتماع والتعامل يتظاهرون بالإيمان.

 

وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية والآية اللاحقة تتحدّثان عن جماعة بعينها؛ ولكنّ العلامات والمواصفات المذكورة فيها قابلة للتعميم على جميع المنافقين في كلّ عصرٍ وزمانٍ.

 

519

 


459

تفسير سورة براءة

 

 

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ

وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ

فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿74﴾

وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾

 

 

520


460

تفسير سورة براءة

قسم المنافقين كذبًا

"يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ": يُعلم من هذه العبارة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صرّح لهم بشيء فلجأوا إلى الحلف بالله كذبًا أنّهم ما قالوا ما يُنسب إليهم.

 

"وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ": وفي مقابل إنكارهم يؤكّد الله عز وجل في كتابه أنّهم قالوا كلمة الكفر؛ أيّ الكلام الذي لازمه الكفر أو هو علامةٌ من علامات الكفر ومؤشّرٌ من مؤشراته، وأنّ ذلك جرى على ألسنتهم.

 

كفر المنافقين

"وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ": تبيّن هذه العبارة أنّ الكفر الصادر عن المنافقين هو ردّةٌ وكفر بعد الإسلام. ويُستفاد من هذه العبارة عدم إيمانهم الواقعيّ؛ لأنّ الآية تنسب إليهم الإسلام لا الإيمان. ومعنى العبارة أنّ هؤلاء المنافقين أعلنوا الشهادتين وصرّحوا بكلمة التوحيد بألسنتهم فاقتضى ذلك أن يحسبوا بين المسلمين؛ ولكنّهم بعد قولهم "لا إله إلا الله" عادوا وغلبهم الكفر الباطنيّ الكامن في نفوسهم، وتحوّل من كفر استعداديّ وبالقوّة إلى كفر فعليٍّ.

 

ويُفهم من صريح القرآن الكريم التفاوت والاختلاف بين مفهومي الإسلام والإيمان في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. فهذه الآية تخاطب الأعراب وتنهاهم عن التبجّح بالإيمان ونسبته إلى أنفسهم، وتدعوهم إلى الاكتفاء بنسبة الإسلام، أمّا الإيمان فهو مرتبة تنفيها الآية عنهم. فالإيمان مرحلة من التسليم أعلى من الإسلام، وقد يكون الإنسان مسلمًا ولكن ينبغي أن يرقى

 

 

522


461

تفسير سورة براءة

درجة حتّى يصير مؤمنًا.

 

ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الآية التي نحن بصدد تفسيرها تتحدّث عن المنافقين، وتخبر عن انقلابهم إلى ما كانوا عليه من الكفر بعد جريان كلمة التوحيد على ألسنتهم، والتي لأجلها حسبوا من المسلمين.

 

فشل المنافقين في تآمرهم

"وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ": يُعلم من هذه الجملة أنّ المنافقين أرادوا (همّوا) فعل شيء مضافًا إلى عودتهم إلى الكفر، ويبدو أنّهم كانوا يخطّطون ويتآمرون على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو على الإسلام، ولكنّهم باؤوا بالفشل، بالتدخّل الإلهيّ الذي أبطل مكرهم.

 

وضاعة المنافقين

"وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ": تكشف هذه العبارة عن وضاعة المنافقين وحقارتهم، فهؤلاء لم يكتفوا بإعلان الكفر بعد التظاهر بالإسلام؛ بل بلغت بهم الوضاعة وخبث السريرة أنّهم نقموا من الإسلام أنّه جعلهم أغنياء من فضل الله. وبهذا انحطّوا أكثر من الكافرين الذين قد يُتفهّم موقفهم السلبيّ وعداؤهم للإسلام لأنّه أضرّ بهم وبدينهم، فإذا تآمروا على الإسلام وخطّطوا لضربه يمكن فهم دوافعهم. أمّا هؤلاء المنافقون فإنّهم ينقمون بعد أن أغناهم الله من فضله، وجعلهم سادةً، وبدل أن يشكروا الله على نعمته وفضله كانوا يتآمرون على الإسلام في السنة الثامنة للهجرة.

 

وهذا أعلى درجات الوضاعة والخسّة والبعد عن الفطرة الإنسانيّة السويّة.

 

انفتاح باب التوبة

"فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ": تنبئ هذه العبارة من الآية عن فتح الله باب التوبة في وجوه المنافقين على الرغم من كلّ ما فعلوه وقالوه. والتوبة هي

 

 

523


462

تفسير سورة براءة

الرجوع عن الخطإ والعودة إلى صراط الإسلام المستقيم. والمطلوب من المنافقين حتّى تُقبل توبتهم الصدق والعزم الحقيقيّ على التراجع ليعودوا كسائر المسلمين نساءً ورجالًا يخلصون لله ولرسوله ويحملون فكر هذا الرسول ويعملون بتعاليم دينه.

 

ووجه كون التوبة خيرًا لهم واضحٌ، أمّا في الدنيا فإنّها تكون سببًا لنيلهم منافع الإسلام في حياتهم ليعودوا بسبب التوبة أعضاءً في المجتمع الإسلام لهم ما لسائر المسلمين. وأمّا في الآخرة فإنّ التوبة سببٌ لنيل الفضل الإلهيّ الذي أعدّه الله للتائبين.

 

تهديد المنافقين بسوء العاقبة

"وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ": المقلب الآخر غير التوبة هو التولّي والإصرار على ما هم عليه، والعاقبة التي سوف يؤول أمرهم إليها إن لم يتوبوا هي العذاب الإلهيّ في الدنيا والآخرة. وليس الله بعاجزٍ عن النيل منهم ليضطرّ إلى السكوت عنهم والإغضاء عمّا فعلوه أو قالوه. وبحسب قانون العقاب والثواب فلا بدّ من نيلهم الجزاء الذي يستحقّون في الدنيا والآخرة.

 

والعذاب الذي يتوعّدهم الله به في هذه العبارة هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. ولعذاب الدنيا صورٌ عدّة، منها: فشل خططهم وتآمرهم على الإسلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهاء أمرهم إلى القتل على أيدي المجاهدين أو البقاء على قيد الحياة، ولكن العيش أذلّاء في المجتمع الإسلاميّ؛ ومن صور العذاب الدنيويّ للمنافقين أن لو نجحت مؤامرتهم ووصلوا إلى ما يريدون واستطاعوا إنهاء الإسلام والقضاء عليه، ففي هذه الحالة سوف يعودون إلى الحياة المظلمة التي كانوا فيها قبل بعثة رسول الله، وبذلك سوف يعيشون في جهنّم الدنيا التي تحرقهم بنار الشرك والكفر. هذه بعض صور العذاب التي قد تنالهم في الدنيا سواء كان ذلك داخل المجتمع الإسلاميّ أو خارجه.

 

524

 


463

تفسير سورة براءة

وعذابهم في الآخرة هو أنّهم بعد أن يحشروا يوم القيامة، وبسبب تضييعهم الفرصة في الدنيا وعدم الاستفادة منها، في التكامل الذي كان متاحًا لهم لو أنّهم تابوا وأحسنوا العمل، فلن يجدوا في تلك الساعة سوى العذاب الإلهيّ المعدّ لهم ولأمثالهم.

 

"وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ": تعلن هذه العبارة بصراحة ووضوح للمنافقين أنّه عليهم أن لا يظنّوا أنّ ضربهم للإسلام وتآمرهم عليه سوف ينتهي إلى ما يحبّون، وأنّهم بعد ذلك سيجدون من يحميهم ويتولّى أمرهم أو يدافع عنهم. فلن ينفعهم لا يهود المدينة ولا مشركو مكّة. فعبد الله بن أُبيّ ليس له أن يطمئنّ إلى أنّ اليهود الذين يتآمر معهم ضدّ الإسلام سوف يكونون له ولجماعته عونًا ونصيرًا. وإذا رفع الله يد رحمته ولطفه عنهم، فلن يجدوا بعد ذلك راحمًا لهم ولا لطيفًا بهم. فليس لهم في الأرض ولا في السماء بعد ذلك من ينصرهم أو يكون لهم وليًّا.

 

شأن النزول

وردت في شأن نزول الآية أخبار عدّة من طرق الإماميّة وأهل السنّة. ففي بعض الروايات ورد أنّ أحد المنافقين قال لصحبه ما يدلّ على تكذيبه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "فإن كان ما جاء به محمّد حقًّا، لنحن شرٌّ من الحمير"، ووصل الخبر إلى النبيّ فاستدعاه فحلف أنّه ما قال[1].

 

وقد وردت هذه الرواية من طرق الإماميّة وأهل السنة؛ ولكن لا نرى ضرورة التسليم بكون هذه الحادثة هي سبب نزول الآية، فليست هذه الحادثة أمرًا مهمًّا يستأهل نزول جبرائيل بالوحي، نحن نعتقد أنّ الوحي لا ينزل إلّا من أجل شيء أكثر خطرًا من هذه الواقعة.

 

وروي أيضًا أن هذه الآية نزلت بسبب كلام صدر عن بعض الأشخاص


 


[1]  الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 260.

 

 

525


464

تفسير سورة براءة

 كانوا معترضين على تنصيب الإمام عليّ عليه السلام خليفةً لرسول الله صلى الله عليهم السلام فعاتبهم على ما قالوا فأنكروا فنزلت الآية[1].

 

وأخيرًا روي أنّ سبب النزول هو حادثة العقبة، وهذا مرويٌّ من طرق الفريقين[2]. وحادثة العقبة حادثة مشهورة معروفة في تاريخ الإسلام. ولا نستبعد أنّها هي سبب النزول بالنظر إلى أهميّة هذه الحادثة.

 

تآمر المنافقين لقتل النبيّ صلى الله عليه وأله وسلم

خلاصة قصّة المؤامرة التي تروى في هذا المجال أنّ المنافقين توقّعوا أن يُهزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في معركة تبوك، وسوف تكون هذه الهزيمة فرصة لهم لإخراج المسلمين من المدينة بالتعاون مع بعض أعداء المسلمين من خارج المدينة. ولكن عندما رأوا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عاد منتصرًا من تبوك، فعزموا على الكمين له خارج المدينة كي يقتلوه قبل دخوله إليها.

 

وكمنوا له في منعطف على طريق المدينة، وقبل وصول المسلمين إلى ذلك المكان أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الجيش بمتابعة السير في الصحراء واختار هو وبعض أصحابه - ومنهم عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان - أن يمرّ من ذلك المعبر الذي كمن فيه المنافقون. ولعلّه تعمّد ذلك، ولكنّنا لا نعرف المصلحة التي قدّرها ليختار المرور من المكان الخطر. ولمّا رأى المنافقون الفرصة سانحة عزموا على اغتيال النبيّ في ذلك المكان، وذلك بقطع أتساع راحلته ليسقط النبيّ في ذلك الممرّ الوعر وبعد ذلك يجهزوا عليه، من دون أن يُعلم الفاعل.

 

ويبدو من الأخبار الواردة في بيان القصّة -على اختلافها- أنّهم همّوا بالتنفيذ، وصدرت عنهم بعض الكلمات التي تكشف عن كفرهم وكانوا يطعنون في الإسلام وفي النبيّ نفسه. فأمر النبيّ حذيفة وعمّار بالهجوم عليهم، فردّاهم وخشي المنافقون من انفضاح أمرهم فلاذوا بالفرار،


 


[1] تفسير القمّي، ج 1، ص 301.

[2] تفسير العيّاشي، ج 2، ص 100.

 

 

526


465

تفسير سورة براءة

ولكنّهم لم يستطيعوا إخفاء أنفسهم. هذا مختصر قصّة حادثة العقبة.

 

والسبب الذي دعا المنافقين إلى فعل ما فعلوه هو أنّ الدولة الثورية التي أسّسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيّقت الحياة على أهل الجاهليّة ووجهاء المدينة فلم يعد متاحًا لهم فعل ما كانوا يفعلونه قبل تأسيس هذه الدولة المباركة. فعزموا على التخلّص من هذه الدولة أو إزعاجها وخلق المشاكل لها وإثارة المصاعب في وجهها، وإعادة الأمور إلى كانت عليه قبل الإسلام، وذلك بإعادة بناء المجتمع الجاهليّ الذي يعيد لهم الامتيازات التي خسروها بعد ظهور الإسلام.

 

وثمّة اختلافٌ بين الإماميّة وأهل السنّة في تسمية هؤلاء بأشخاصهم. فعند الإماميّة أنّهم مجموعة من الأشخاص حاولوا إعاقة حركة الإسلام ولمّا فشلوا انتقموا بعد ذلك بحرف الإسلام عن مساره. ويذكر أهل السنّة أسماء أشخاص آخرين.

 

وورد في بعض كتب التاريخ أنّ عمارًا وحذيفة كانا يهدّدان بعض الأشخاص بالإعلان عن أسماء الذين كانوا في العقبة.

 

نقض المنافق عهده

"وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ": تبيّن هذه الآية أيضًا علامةً من علامات المنافقين، وذلك أنّهم يعاهدون الله على أمر أو فعلٍ، فيعطون الله العهد بأنّهم إن نالوا الأمر الفلانيّ فسوف يفعلون كذا. مثلاً: إذا أصبنا مالًا فإنّنا نعاهد الله على فعل الأمر الفلانيّ؛ ولكنّهم بعد أن ينالوا ذلك المال أو غيره لا يفون لله بما عاهدوه عليه. هذا وتشير الآية إلى حادثة محدّدة، ولكنّ مضمونها قابل للصدق على المنافقين في موارد أخرى[1].

 

 


[1] لم نجد تفسير الآيات: 76، و77، و78.

 

527


466

تفسير سورة براءة

 

 

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿79﴾ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿80﴾

 

 

528


467

تفسير سورة براءة

طلب المنافقين الزيادة وسخريتهم من المنفِقين

تكشف الآية الأولى من هاتين الآيتين عن صفة جديدة من صفات المنافقين. فهؤلاء لا يتنازلون بسهولة عمّا يعتقدون أنّه لهم، وليسوا مستعدّين لوضع شيء ممّا يحسبونه حقًّا لهم في خدمة المجتمع الإسلاميّ، أو إنفاقه في خير هذا المجتمع ومصلحته.

 

يُضاف إلى الصفة المذكورة أعلاه، أنّهم يسخرون من الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وفي خدمة المجتمع. ولا تقتصر سخريتهم على جماعة أو فئة محدّدة؛ بل تطال الأغنياء الذي ينفقون الكثير من أموالهم، وأولئك الذين ينفقون ما تيسّر لهم من المال الذي تصل إليه أيديهم.

 

ومن لا يعرف قيمة أو مقام التصدّق في سبيل الله، ليس مستعدًّا للإقدام على التصدّق وبذل المال في هذا السبيل، ولا يمكن لهذا الصنف من الناس أن يفهم دوافع المتصدّقين أو يقوّم فعلهم بطريقة مناسبة. ومن هنا، تجده يسخر من الآخرين سواء أكثروا من الصدقة أم أقلّوا منها: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾.

 

اللمز هو التصريح بعيوب الناس وذكرها أمام الآخرين، وهو قريب في المعنى من الهمز. يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾[1]، ففي هذه الآية تهديد للذين يتتبّعون عيوب الناس ويكشفون عوراتهم، بهدف السخرية أو الانتقاص منهم. وقد وردت كلمة "يلمزك" في آية سابقة لتحكي فعل المنافقين واتّهامهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عدالته في توزيع الصدقات والمكاسب الاقتصاديّة.


 


[1] سورة الهمزة: الآية 1.

 

530


468

تفسير سورة براءة

"مُطَّوِّعين" هي في الأصل متطوّعين، وقد حُذِفت التاء بحسب القاعدة المعروفة في الصرف العربيّ التي تقضي بحذف تاء التفعّل، والمعنى الذي تدلّ عليه هذه الكلمة هو أداء العمل برغبة وبعيدًا عن الإلزام الخارجيّ.

 

وفي تفسير كلمة "المطَّوِّعِينَ" احتمالان؛ أحدهما: أنّ المراد هو الإشارة إلى أولئك الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع الرغبة والحبّ بالإنفاق، من دون خشية نقصان أموالهم أو كثرة ما ينفقون، ولا يمنّون على أحد بهذا الإنفاق؛ وذلك لأنّهم يقصدون وجه الله تعالى من الإنفاق، ونتيجة اعتقادهم بأنّ أموالهم ليست لهم وحدهم، بل هي مشتركة بينهم وبين سائر خلق الله. لهذا تجدهم ينفقون بإخلاص ورغبة كاملة.

 

والاحتمال الثاني هو: المعنى الذي يتبنّاه بعض المفسّرين، وهو أنّ المقصود بهذه الكلمة هم ذوو السعة أو الملاءة الماليّة، وبالنظر إلى غناهم وعدم فقرهم فهم ينفقون من دون خشية الفقر أو الحاجة، فهؤلاء مهما أنفقوا يبقى عندهم من المال ما يغنيهم عن الناس؛ ولأجل هذا ينفقون برغبة وشوق إلى الإنفاق.

 

وهذا الاحتمال، باعتقادنا، لا ينسجم مع ظاهر الآية، وما ذكروه لتقريب هذا التفسير لا يكفي لإثبات صحّة هذا الرأي التفسيريّ؛ وذلك لأنّ معنى كلمة مطوّع في اللغة لا علاقة لها بزيادة المال وقلّته؛ بل التطوّع صفة للمنفق والروحيّة التي ينفق بها. وثانيًا: إنّ التوجيه الذي ذكر للتطوّع والرغبة في الإنفاق ليس صحيحًا، فرُبّ شخصٍ غنيٍّ، شحيح لا يجرؤ على إنفاق أقلّ القليل من ماله، وربّ شخصٍ فقيرٍ، مقدامٌ في مجال الإنفاق أكثر من أغنى الأغنياء.

 

الثروة وظلمة الروح

ولعلّ مصاديق هؤلاء الأشخاص في المدارس الاجتماعيّة المعاصرة واضحون. وأمّا بالنسبة إلى ما يُستفاد من القرآن، فإنّ من الواضح وجود ترابطٍ بين الغنى والثروة وظلمة الروح، وحيلولة الثروة دون القدرة على

 

 

531


469

تفسير سورة براءة

الإحساس بالمسؤوليّة الاجتماعيّة، وتحوّل الغنى في حدّ ذاته إلى عائق عن الإنفاق في سبيل الله. وفي المجتمع وبحسب التجربة الاجتماعيّة، نلاحظ أنّ الأغنياء هم الأقلّ إنفاقًا وهم الأقلّ عطاءً. وبناءً على هذا، نرى أنّ الاحتمال الأوّل أقرب إلى المعنى المقصود من الآية.

 

المنافقون والنظرة الكمّيّة إلى الإنفاق

"وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ": الجهد هو غاية الطاقة التي يمكن للإنسان أن يبذلها. فعندما يبذل الإنسان أقصى ما يستطيع فعله لأداء عملٍ أو إنفاق مالٍ أو غير ذلك، يُقال بذل فلانٌ جهده، أو أجهد نفسه في العمل الفلانيّ.

 

تحدّثنا الآية الشريفة عن مجموعة من الأشخاص يسعون في خدمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمجتمع الإسلاميّ، سواء كان بجهادهم بأنفسهم في سبيل الله، أم في تسخير إمكانيّاتهم الماليّة المتواضعة في هذا السبيل، وما يحظى به هؤلاء من المنافقين هو السخرية استقلالًا منهم لحاصل هذا الجهد الماليّ. وتبيّن لنا الآية أنّ الله يتولّى الدفاع عن هؤلاء الأشخاص ويقابل المنافقين بما يستحقّون من سخرية.

 

ونقطة ارتكاز الآية هي أنّ من كانت هذه صفته فهو منافق. وهذه من الصفات السيّئة التي يمكن أن يتّصف بها الإنسان، فهو من جهة لا يعمل ولا يؤدّي واجباته الاجتماعيّة؛ ولكنّه لا يكتفي بذلك، بل يسخر ويشوّه أداء الآخرين الذي يشعرون بالمسؤوليّة ويتصدّون للخدمة الاجتماعيّة.

 

والمراد من الصدقة في الآية مطلق الإنفاق في سبيل الله، سواء كان ذلك من الزكاة أم غيرها من الإنفاق المستحبّ والواجب، فكلّ إنفاق في سبيل الله هو صدقة بحسب المصطلح القرآنيّ.

 

جملة: "وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ" معطوفة على "المطوّعين" وليست

 

 

532

 


470

تفسير سورة براءة

معطوفة على "الذين يلمزون..."، ومن هذا يُعلم أنّ المنافقين يسخرون من الطرفين، من الذين يدفعون الصدقات ومن الذين يضعون إمكاناتهم في خدمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. واعتراض المنافقين على المنفِقين ليس مبنيًّا على منطق أو حجّة عقلانيّة، ولذلك يعدّه الله عز وجل مجرّد سخرية: "فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ".

 

بلى، القاعدة هي: أنّ الأشخاص الذين لا يملكون الحجّة والبرهان لمواجهة منطق الخصم، يحاولون استبدال السخرية بالبرهان والحجّة المنطقيّة. وهذا الأسلوب لا يشبه طريقة المؤمنين من عباد الله. ويجب على من وضع تعاليم الصراط المستقيم للدين نصب عينيه، أن يلتفت إلى أنّه لا يجوز له مواجهة المنطق الذي لا يقبله بالسخرية، فهذا من عمل المنافقين في مواجهة المتطوّعين في الصدقات، ولا يحسن بالمؤمن أن يكون هذا سلوكه.

 

شأن النزول

أورد المفسّرون عددًا من الأحاديث في بيان شأن نزول هذه الآية. وبعض هذه الأحاديث ورد في مصادر الإماميّة، وبعضها نُقل في كتب أهل السنّة. وبعض هذه الأحاديث لا يمكن الاطمئنان إلى صحّته؛ وذلك لأنّ بعض من رُويت عنه هذه الأحاديث ليس بذلك المستوى من الوثاقة. ولكن من مجموع الأحاديث الواردة يُستفاد أنّ هذه الآيات نزلت في الحوادث المرتبطة بغزوة تبوك، وذلك أنّ بعض الأشخاص كانوا يضعون أموالهم في خدمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم طوعًا ورغبةً بغضّ النظر عن حجم هذه الأموال وقيمتها، وكان هؤلاء يتعرّضون لسخرية المنافقين باتّهامهم إمّا بالرياء وإمّا باختلال التفكير؛ وذلك لأنّهم يقدّمون أموالهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجيشه لتنفق على الحرب والقتال بدل أن يحتفظوا بها لأنفسهم وعيالهم.

 

وإلى جانب الأغنياء ثمّة فقراء كانوا يضعون أموالهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون هذا جهدنا، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقبلها منهم، فكان بعض المنافقين يقول: ما أعطى فلانٌ إلّا رياءً وسمعة، وكان الله ورسوله غنيين عن هذا!

 

533


471

تفسير سورة براءة

وبالتالي لم يسلم من سخرية المنافقين وتشكيكهم لا الأغنياء ولا الفقراء.

 

استهزاء الله بالمنافقين

ما هو الردّ الإلهيّ على سخرية المنافقين واستهزائهم؟ هل سكت الله عنهم؟ كلّا، لم يفعل سبحانه، وإنّما تولّى الدفاع عن المتطوعين وأوعد المنافقين بالسخرية منهم كما سخروا من المؤمنين: "سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ". ومعنى سخرية الله أنّه يبيّن تعالى لهم أنّ الأحقّ بالسخرية هم المنافقون، لا أولئك الذين يضعون ما يملكون في سبيل الله ورسوله. ولكن لمّا كنتم أيّها المنافقون لا تدركون حقيقة الأمر والسنن الإلهيّة فأنتم أولى بالسخرية. فقد سنّ الله مبدأ انتصار الحقّ على الباطل، ولكن أنّى للمنافقين أن يدركوا هذه الحقيقة ويتعرّفوا إلى هذا القانون الإلهيّ الاجتماعيّ؟ بلى، أنتم أحقّ بالسخرية والاستهزاء؛ لأنّكم لا تعرفون أنّ الدرهم الذي ينفقه المؤمن في سبيل الله سوف يقابله الله بالثواب العظيم والجزاء الأوفى.

ذبح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أحد الأيّام شاةً، وتصدّق بها على الفقراء ولم يبق له سوى كتفها، فسأل عائشة: ما بقي؟ فقالت: ما بقي منها إلّا كتفها. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بقي كلّها غير كتفها[1].

 

بقاء ما ينفق في سبيل الله

يذهب المال ولا يبقى منه سوى ما ينفقه المرء في سبيل الله، ويعوّض الله صاحبه يوم القيامة أجرًا عظيمًا. وهذه هي عقيدة المسلم في ما ينفق من أمواله، فهو يؤمن أنّ ما ينفقه في سبيل الله لا يذهب هدرًا، ولا يلتفت إلى هذا المبدأ العقديّ إلّا الواعون.

 

وهذا يشبه حال تاجر يدخل إلى سوق بلدٍ فيرى فيه بضاعة كاسدة لا


 


[1] كنز العمال، ج 6، ص 381.

 

534


472

تفسير سورة براءة

أحد يرغب فيها؛ ولكنّه يعلم أنّ هذه البضاعة مطلوبة ومرغوبٌ فيها في بلده، فيحمل منها ما استطاع حمله ويشتريه ليبيعه في بلده، مثل هذا التاجر يكون في معرض السخرية من زملائه التجّار، ويتّهم من قبلهم بأنّه بسيط لا خبرة له في التجارة؛ حيث إنّه يشتري صنفًا كاسدًا لا راغب فيه. وأمّا التاجر الذي يعرف مآل أمر تجارته ويعرف أنّ هذا الصنف سوف يُباع في بلد آخر بأضعاف قيمته، يضحك في باطنه ويسخر ممّن يسخرون منه.

 

وأولئك الذين يعرفون ما ينتظرهم من ثواب الله في مقابل صدقاتهم، لا يزعجهم أبدًا أن يكونوا موضع سخرية بعض المغفّلين. وفي الواقع الله العالم بمآل الأمور هو الذي يسخر منهم. وكأنّ وضع العالم ونظام الخلق وقوانين الاجتماع وحركته تسخر من المنافقين وتحذّرهم من عاقبة سخريتهم، وتلفت نظرهم إلى عاقبة المؤمنين وأعمالهم. وبعبارة أخرى: معنى عبارة "سَخِرَ الله مِنْهُمْ" أنّ النظام الإلهيّ والقوانين الحاكمة على الاجتماع الإنسانيّ هي التي تسخر من المنافقين وتحكم عليهم بأنّهم مغفّلون وغافلون عن الحقائق.

 

"وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ": العذاب الأليم هو مآل المنافقين، وهو العاقبة التي تنتظرهم عاجلًا أم آجلًا. ولم يبيّن لنا الله عز وجل موقع هذا العذاب ووقته، وهل هو في الدنيا أم في الآخرة. والأرجح في نظرنا أنّه عذاب الآخرة، ولكن لا مبرّر لنفي أن يكون هذا العذاب في الدنيا، فربّما أصابهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة.

 

عذاب الدنيا للمنافقين

العذاب الذي ينتظر المنافقين في الدنيا هو انكشاف أمرهم وسوء سمعتهم بين المؤمنين، أو شدّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصرامته في التعامل معهم. وذلك أنّ التاريخ ومصادر السيرة يكشفان عن أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من غزوة تبوك بدأ بمواجهة المنافقين قبل دخوله إلى المدينة، وذلك بأمره بهدم المسجد

 

535

 


473

تفسير سورة براءة

الذي بنوه في أطراف المدينة، وهو المسجد الذي عرف بأنّه مسجد ضرار، وكان ذلك إيذانًا بتبدّل أسلوب التعاطي معهم. ووصل الأمر به صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم الصلاة على جنازة أحدهم وعدم الوقوف على قبره، وأيّ فضيحة لهذا المنافق ومن يحيط به!

 

العطف غير المبرّر على المنافقين

بعد أن بيّنت الآيات السابقة أقسام النفاق والمنافقين وتصرّفاتهم، تصدّت الآية اللاحقة التي تبدأ بقوله تعالى: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ"، لبيان أمرٍ آخر وهو أنّ بعض الناس تأخذه حالة بلبوس دينيّ، ولكنّ واقع هذه الحالة ليس دينيًّا ولا صلة له بالدين. وهي حالة العطف والرأفة على من لا يستحقّهما.

 

وفي الآية إشارة خفيّة إلى هذه الحالة التي يمكن ملاحظتها عند كثير من المتديّنين؛ ولكنّها في بعض الحالات تخرج عن حدّ الاعتدال. مثلاً قد يُتوفّى شخصٌ سارقٌ وغاصبٌ آذى كثيرًا من المسلمين في الدنيا، ولم يترتّب على وجوده سوى الضرر والأذى؛ ولكنّ ربّما تجد أشخاصًا يقولون: وما أدرانا فلعلّ الله يغفر لهذا الشخص ويرحمه!

 

وهذه الحالة من حسن الظنّ ملوّنة بلونٍ إنسانيٍّ بل بلونٍ دينيٍّ؛ ولكنّها في الواقع ليست كذلك، بل هي معاكسة للدين ومضادّة له. ومثل هذه العاطفة قد تجدها عند عددٍ من الناس تجاه كثيرٍ من الجناة والمفسدين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام. انظروا إلى التاريخ تجدوا مثل هذه الحالات، بل تجدوا مَن دَوّنَ الكتب وألّفَ في تنزيه شخصيّة أو تلميع صورتها وهي لا تستحقّ ذلك![1]

 

مثل هذه الحالة موجودة ومنتشرة عند عددٍ من المسلمين. حيث


 


[1] انظر: تطهير الجنان واللسان.

 

 

536


474

تفسير سورة براءة

يشعرون بمثل هذه العاطفة تجاه الكفّار؛ بل تجاه المنافقين. وربّما يتحرّج بعض المسلمين من الانطلاق من هذه العاطفة في علاقتهم مع الكفّار، ولكنّ اعتماد هذا الأسلوب مع المنافقين أسهل عليهم. فقد يصعب على المسلم إظهار البراءة أو اللعن لشخصٍ يتظاهر بالإسلام حتّى لو كان يضمر الكفر ويبطنه، بل قد يطلب من الله المغفرة والرحمة له، مع أنّ المنافق أشدّ كفرًا وأضرّ من الكافر. وبلغت شدّة ضررهم أنّ الله عز وجل حذّر رسوله منهم بقوله: ﴿فاحذرهم قاتلهم الله﴾[1].

 

وفي سورة التوبة هنا، وضع الله المنافقين والكفّار في خانةٍ واحدة، وأمر بالتعامل معهم بطريقة واحدة: "جاهد الكفّار والمنافقين"، وفي هذه السورة أعلن عز وجل بصراحة كفر المنافقين وعدم تديّنهم بالإسلام: "لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ"[2]. نجاسة باطن المنافق أشدّ من نجاسة باطن الكافر، وهو أضرّ بالمجتمع الإسلاميّ من الكافر، فهو يطعن بخنجره هذا المجتمع من الخلف؛ ولكن لمّا كان لا يملك شهامة الكافر وجرأته ولا يعلن كفره، فإنّ بعض المسلمين قد يرى أنّ من حقّه الاستغفار له وطلب الثواب من الله، وهذا في الواقع فضولٌ وتدخّل في عمل الله. وهذه الآية نزلت لتبيّن هذه الحقيقة وتدعو المسلمين إلى تجنّب الاتّصاف بهذه الحالة، ولا ضرورة لوجود واقعة محدّدة نزلت هذه الآية فيها.

 

هذا ولكن ورد في كتب أهل السنّة بعض الأخبار التي تنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الاستغفار لبعض المنافقين، ونحن نرى وضوح بطلان هذه الأخبار وعدم صحّتها، ولا نرى توقّف نزول الآية على واقعة من هذا النوع خاصّة إذا نسبت إلى النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

والآية تهدف إلى بيان هذه الحقيقة للمسلمين ولو بتوجيه الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتريد من المسلمين أن يفهموا أن لا داعي ليكونوا ملكيّين

 

 

 


[1] سورة المنافقون: الآية 4.

[2] سورة التوبة: الآية 73.

 

 

537


475

تفسير سورة براءة

أكثر من الملك. فالله عز وجل يضع الكافر والمنافق في كفّة واحدة، وقد أوعدهم بالعذاب في الدنيا والآخرة، فلا داعي للدعاء لهم وطلب الرحمة والمغفرة من الله. ولا ينبغي أن يكون في قلب المؤمن رحمة للمنافق؛ لأنّ مثل هذه الحالة إذا وجدت أدّت إلى انعدام الحاجز النفسيّ بين الطرفين. والله تعالى يريد وضوح الحدود والمسافات الفاصلة بين الإيمان والكفر والنفاق.

 

والدعاء والاستغفار ينتهك هذه الحدود ويلغي المسافات بين المؤمنين وغيرهم. ولكنّ الآية لا تأخذ موقفًا واحدًا من الكفّار جميعًا فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾[1]. فليس المراد من الكفر الكفر الاعتقاديّ، بل الكفر العمليّ؛ أيّ من يتصدّى لمواجهة الإسلام والإضرار به هو المقصود، أمّا من يعتقد بعقيدة مخالفة للإسلام ولكنّه لا يحمل على الإسلام سيفًا ولا يضع نفسه في مواجهته ولا يقصد الإضرار به فحكمه مختلفٌ. ولا فرق بين الكافر والمنافق من هذه الجهة، فكما إنّ الكافر العمليّ لا يستحقّ المحبّة والرحمة، فكذلك المنافق.

 

ومن هنا، ولأجل أن لا يبقى في قلوب المؤمنين ذرّة محبّة للمنافقين تتوجّه الآية بالخطاب إلى رسول الله وتقوله له: أيّها النبيّ، لا تتعب نفسك في الاستغفار للمنافقين، فسواء استغفرت لهم أم لم تستغفر، فلن يغفر الله لهم.

 

وجملة: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِر" ليست للتخيير، وليس معناها الأمر لك إمّا أن تستغفر وإمّا أن لا تفعل، ومن اللافت أنّ مثل هذا التفسير ورد في بعض الأخبار المحرّفة؛ بل المقصود من الآية التسوية، وتبيان أنّ الاستغفار لهم ليس له جدوى، ولو بلغ ما بلغ فقد حقّ العذاب الإلهيّ عليهم.

 

"ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ": تبيّن هذه العبارة من الآية السبب الذي من أجله لن يغفر الله للمنافقين مهما بلغت كثرة الاستغفار لهم، و هو


 


[1] سورة الممتحنة: الآية 8.

 

538


476

تفسير سورة براءة

كفرهم بالله ورسوله وإنكارهم عقائد الإسلام، ومثل هؤلاء لن يهديهم الله إلى جنّته. وهذه العبارة أيضًا تقع في سياق معالجة الخصلة العاطفيّة الخاطئة التي أشرنا إليها، وقد بيّنها الله بأوضح صورة وأصرح عبارة، حيث وجّه الخطاب أوّلاً إلى رسوله بأن دعاه إلى عدم الاستغفار لهم، ثمّ ذكر العدد سبعين - الذي يدلّ على الكثرة في اللغة العربيّة- وأخبره بأنّه سواء أكثر من الاستغفار لهم أم أقلّ فلن يغفر لهم الله.

 

نقد الروايات الموضوعة

أورد المفسّرون في سياق تفسيرهم هذه الآية رواية بسندٍ فيه جهالة، تفيد هذه الرواية أنّ عبد الله بن أبيّ عندما تُوفّي أبوه أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه أن يشهد تشييع جنازته، وقال إنّهم وجهاء القوم وأهل شرف وجاه فإذا لم يشاركهم جنازتهم فسوف يكون ذلك هتكًا وانتقاصًا من مكانتهم الاجتماعيّة. وتقول الرواية أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استجاب لطلبه وحضر جنازة أبيه[1]. وتختلف الأخبار الواردة في تفاصيل هذه القصة بين رواية تتحدّث عن أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لفّه بردائه، وأخرى تقول إنّه أخرجه من قبره ووضعه في حجره، وفي ثالثة أنّه استغفر له فاعترض عليه عمر وذكّره بأنّ الله نهى عن الاستغفار للمنافقين، فضحك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: استغفرت له إحدى وسبعين مرّةً[2].

 

وفي بعض هذه الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برّر لنفسه الاستغفار بأنّ الله خيّره بينه وبين تركه[3]. وتظهر هذه الأخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بصورة شخصٍ يحتاج - والعياذ بالله - إلى من يذكّره بتعاليم الشريعة وأحكام الدين! أضف إلى هذا، أنّ الآية ليس فيها أيّ دلالة على التخيير كما قلنا، بل الآية تكشف عن عدم جدوى الاستغفار.


 


[1] تفسير القمّي، ج 1، ص 303.

[2] ابن هشام، السيرة النبويّة، ج 4، ص 979.

[3] تفسير القمّي، ج 1، ص 302.

 

 

539


477

تفسير سورة براءة

وعلى أيّ حال، حاصل هذه الروايات أنّها تبيّن أنّ الآية نزلت في نهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستغفار للمنافقين. ولكنّ واقع الحال هو أنّها بصدد اختراع فضيلة لأحد الصحابة، ولو على حساب الحطّ من قدر رسول الله ومكانته. وقد اختُرعت مثل هذه الروايات في زمن معاوية. ومع الأسف الشديد فقد تسرّبت مثل هذه الروايات إلى التراث الإماميّ أيضًا.

 

واعلموا أنّ معاوية اعتمد هذا الأسلوب، وكان ينفق الأموال على وضع الأحاديث في فضائل الصحابة وخاصّة أبا بكر وعمر، ونشرها في البلاد الإسلاميّة. وقد نقلت كتب التاريخ الصحيح هذه المثلبة لمعاوية، مثل مروج الذهب، وتاريخ الطبريّ وغيرهما. وقد تعرّض لهذه القضية صاحب كتاب صلح الحسن[1]. فما هو هدفه والغاية التي كان يريد تحقيقها؟ هل كان محبًّا لهذين الصحابيين؟ الهدف بكل بساطة الترويج لهما للغضّ من قيمة الإمام عليّ عليه السلام في سياق مواجهته مع الإمام الحسن عليه السلام الذي كان يمثّل الخطر الأهمّ عليه عند سائر المسلمين، وغايته التي كان يبتغيها هي جعل هذين الصحابيين في منزلة الإمام عليّ عليه السلام. وبعد مدّة أمر بوضع الحديث في حقّ عثمان. وممّا يؤسى له أنّ المنصف عندما ينظر في هذا التاريخ الذي ملأه معاوية وأمثاله بالأحاديث والأخبار الموضوعة، يفقد ثقته في الكثير من المعطيات التي وصلتنا عن تاريخ الإسلام. فقد كثُر الوضع، وأشرنا آنفًا إلى ابن عبّاس ومكانته الحقيقيّة، ولكن ماذا صنع منه العباسيّون الذين حكموا الأمّة ستمئة سنة، ألا يمكن أن يضعوا ستّين حديثًا في فضائله؟ أدعوكم إلى الدقّة والتأمّل، انظروا إلى ما نحن بصدده، بعض هذه الأخبار تهدف إلى إعلاء شأن عمر؛ ولكن هل يكون ذلك على حساب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟! وهذا من عجائب الأمور حيث وصلتنا الكثير من هذه الأمور الفارغة في تاريخنا الإسلاميّ.

 

نعم، هذا كلام فارغ من المعنى، لا ربط له بالآية ولا بتفسيرها. تهدف الآية إلى إزالة النظرة الإيجابيّة للمسلمين إلى المنافقين، واستئصال العاطفة


 


[1]  انظر أيضًا: شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 44.

 

 

540


478

تفسير سورة براءة

الموجودة في قلوبهم تجاههم. وتتوجّه بالخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتبيّن للمسلمين عدم جدوى الاستغفار للمنافقين، كثر أو قلّ؛ لأنّهم كفروا بالله ورسوله، ومثل هؤلاء لا يستحقّون شرف الدخول إلى جنّة الله.

 

 

541


479

تفسير سورة براءة

 

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿81﴾ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿82﴾ فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴿83﴾ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴿84﴾

 

 

542


480

تفسير سورة براءة

شأن النزول

نزلت هذه الآيات في مجموعة من الأشخاص تخلّفوا عن ركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما توجّه إلى معركة تبوك، وقد تخلّفوا بالاستناد إلى أعذار اختلقوها وذرائع تذرّعوا بها. وفي هذه الآيات شيء من الشماتة والتهديد الإلهيّ. وهؤلاء الذين نزلت فيهم هم من المنافقين، وبالتالي بين هذه المجموعة من الآيات وسابقاتها وحدة موضوعيّة.

 

تناسب الآيات

بناءً على ما تقدّم منّا في هذه الجماعة خلال حديثنا عن الآيات السابقة، هذه المجموعة من الآيات، أو الآيتان الأوليان تلفت نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى الحالة الروحيّة والنفسيّة للمتخلّفين عن الجهاد، وتشرحها لهم. ويبدّل الله عز وجل فرح المنافقين بتخلّفهم عن الجهاد إلى حزن وغمّ، وذلك ببيان ما سوف يؤول أمرهم لجهة العقاب الأخرويّ، ويبيّن حقيقة الإحساس بالأمن الذي تشعر به هذه الجماعة، وأنّه حتّى لو كان أمنًا ومكسبًا فهو مكسبٌ وضيع لا ينبغي أن يفرحوا به.

 

والآية اللاحقة تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تغيير منهجه وأسلوبه في التعامل مع المنافقين بعد العودة من معركة تبوك، وتدعوه إلى ترك المداراة معهم واعتماد الصراحة والمباشرة في طريقة التعامل معهم. وإنّ الآيتين 83 و84 في الواقع هما إعلان لقرار المواجهة العلنيّة مع المنافقين، وكأنّ الآية تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم الآن وقد قويت شوكة الإسلام لا بدّ من تغيير السلوك مع

 

 

543


481

تفسير سورة براءة

 المنافقين، ومن الآن فصاعدًا يجب إخراجهم من جماعة المسلمين ووضع الحدود الفاصلة بينهم وبين المجتمع الإسلاميّ.

 

وهم المتخلّفين عن الجهاد عبر التاريخ

"فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ": المخلّفون هم الذين تخلّفوا عن ركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتصرّفوا خلاف أوامره، أو الذين تُرِكوا في المدينة عندما خرج إلى تبوك. وموقف هؤلاء يشبه موقف من يدخل في معاملة غير مشروعة ويفرح بالربح الذي ناله من هذه المعاملة إثر الاحتيال على الطرف الآخر فيها، فعندما ينظر إلى مقدار الربح الذي حصل عليه يفرح به ويشعر بالنشوة، أو يشبه موقف اللصّ الذي يدخل خلسة إلى بيوت الناس ويفرح بما أصاب من أموالهم.

 

"مُخَلَّفون": هم الذين تُرِكوا في المدينة. وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج إلى تبوك ترك مجموعة من الأشخاص وراءه في المدينة، حيث لم يرغبوا في الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فخلّفهم في المدينة، فهو المخلِّف (اسم فاعل)، وهم المخلَّفون (اسم مفعول)؛ أيّ الذين لم يخرجوا مع النبيّ إلى الجهاد.

 

"مَقْعَد": مصدر بمعنى القعود. و"خِلاف": فيها احتمالان؛ أحدهما: المخالفة، ولعلّ هذا المعنى أقرب إلى الذهن؛ والمعنى الثاني: هو خَلْف أيّ وراء. وسياق الآية ينسجم مع الاحتمالين. وهؤلاء هم جماعة من أهل المدينة أجروا حساباتهم وقالوا لأنفسهم الفصل فصل صيف ووقت جني الثمر، ووجدوا أنّ البقاء في المدينة يوفّر عليهم معاناة حرّ الصحراء بين المدينة والشام؛ ومن جهة ثانية يأمنون خطر الموت في الحرب. ويُضاف إلى هذين المكسبين أنّ البقاء يضمن لهم موسم جني التمر بخلاف من يخرج إلى الجهاد فإنّه سوف يعجز عن جني تمره. ومن جهة رابعة يبقون في أحضان أسرهم وفيء نخلهم ويرتاحون من معاناة الغربة والبعد عن الأهل والديار.

 

 

544


482

تفسير سورة براءة

وكان هؤلاء مسرورين فرحين بهذه الحسابات والنتائج المترتّبة عليها، وكانوا يحسبون أنّ هذا هو ما يقتضيه الذكاء والعقل العمليّ. ولعلّهم كانوا يسخرون من مجاهدي الإسلام حيث أخطأوا الحساب ولم يتقنوه حتّى يتوصّلوا إلى ما توصّلوا هم إليه بذكائهم ودقّة حساباتهم. نعم هذه هي سيرة المتخلّفين عن الجهاد على الدوام.

 

"وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ": لقد كانوا يكرهون الجهاد بأموالهم وأنفسهم، ولا يحبّون أن يضعوا ما آتاهم الله في خدمة دينه تعالى، وكانوا يرون أنّ ذلك يقلّل من شأنهم ومقامهم. وكانوا يحاولون بيان المعادلة التي استندوا إليها في جملة مختصرة، ففي نهاية المطاف لا أحد يرضى لنفسه أن يظهر في موقف من لا يملك الحجّة والدليل؛ وحتّى لو كان المنطق الذي يستند إليه غير صحيح فهو يحاول تقديمه بصورة متقنة كي يقنع نفسه ويقنع الآخر المختلف معه بمنطقه.

 

والحجّة التي كان يستند إليها المنافقون لتبرير تخلّفهم عن الجهاد، وتبرير سرورهم بالقعود في المدينة هي أنّهم كانوا يقولون للمسلمين: لا تخرجوا إلى الجهاد في الحرّ: "لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ"، وكانوا يحاولون إقناعهم بهذه الحجّة وبأنّ الخروج في الحرّ ليس في مصلحتهم، وذلك أنّ المقاتل لا يقوى على القتال في شدّة الحرّ.

 

هذه بضعة جمل في بيان حال المتخلّفين عن الجهاد، ولمّا يتعرّض القرآن إلى الآن للردّ ولا لإبداء موقف وكأنّه يعطيهم فرصة التعبير عن موقفهم والكشف عمّا يدور في ضمائرهم؛ ولكنّه يفاجئهم بجواب محكم ومتين؛ حيث يقول تعالى لهم: "قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا". أيّها المنافقون، إن كنتم تفرّون من حرّ شبه الجزيرة العربيّة، وإن كانت هذه هي الذريعة التي تتذرّعون بها للفرار من الجهاد، والجبن عن قتال أعداء الله، فيا أيّها النبيّ، قل لهم إنّ النار التي تنتظركم أشدّ حرًّا وأكثر إحراقًا! فليس لديهم دليل أو حجّة أقوى من هذه الحجّة، والله يعلم ما

 

545

 


483

تفسير سورة براءة

في نفوسهم ويعلم صدق اعتذارهم من كذبه.

 

ولو أنّهم سمعوا أنّ محصول نخلهم يمكن أن يُباع في المدينة الفلانيّة بسعر أعلى، أو أنّ الخروج إلى الحرب فيه مغانم كثيرة وخطر قليلٌ، لشمّروا عن سواعدهم وهبّوا للخروج لبيع محصولهم أو الحصول على الغنائم، مهما كانت المشقّات التي تنتظرهم. فلا يعترف الله بهذا المانع المدّعى ولا يقبله عذرًا، العائق الوحيد الذي منعهم من الخروج حبّهم للدنيا وتعلّقهم بمتاعها، وحبّهم للزوجة والولد. وهذه ليست أعذارًا مقبولة عند الله.

 

ثم يعلّق الله عز وجل على ما تقدّم بقوله "لو كانوا يفقهون"؛ أيّ لو كانوا يدركون لأعادوا النظر ودقّقوا الحساب من جديد، وعندها كانوا سيعلمون أنّ الموازنة بين حرّ نار جهنم وحرّ الصيف تقتضي الفرار من حرّ جهنّم، وتحمّل حرّ الخروج إلى الجهاد، فإنّ ذلك أسهل وأخفّ مؤونةً من نار جهنم.

 

وبعد عرض وجهة النظر التي ينطلق منها المنافقون، يبدأ الله عز وجل بتأنيبهم بجمل قصيرة قاطعة الدلالة فيقول لهم: أوّلاً: إنّ الفرصة التي يمنحكم إيّاها البقاء في المدينة لن تطول ولا تستحقّ المخاطرة بالدخول إلى نار جهنّم. وثانيًا: إنّ العقاب الذي ينتظركم جرّاء التخلّف عن ركب المجاهدين تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبيرٌ وأليم. وهاتان الفكرتان يبيّنهما الله بلغةٍ رمزيّةٍ مختصرة في قوله: "فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا". وربّما يظنّ بعض الناس أنّ الضحك والبكاء تكليفٌ موجّهٌ إلى المنافقين كتكليفهم بالصلاة والصوم، وكأنّه يوجب عليهم الضحك القليل والبكاء الكثير!

 

وهذا الفهم غير صحيح، وهو من نتائج عدم الدقّة في فهم سياق الآية. فالآية ليست في مقام بيان الحكم التكليفيّ؛ وإنّما صورة الخطاب صورة أمريّة فقط، والمعنى المقصود بيانه هو الدعوة إلى الالتفات والانتباه إلى حقيقة سلوكه. مثلًا عندما يرتكب شخصٌ خطأ كبيرًا وأردت لفت نظره إلى حجم هذا الخطأ فتقول له: عليك أن تختلي بنفسك وتبكي طوال عمرك على هذا الخطأ الذي وقعت فيه! والآية أيضًا تبيّن للمنافقين أنّ العمل الذي

 

 

546

 


484

تفسير سورة براءة

ارتكبوه وتخلّفهم عن ركب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ربّما يمكن أن يضحكوا له قليلًا ففيه بعض الربح الدنيويّ؛ ولكن حريٌّ بهم أن يبكوا كثيرًا لأنّ النتائج المترتبّة عليه أعظم ممّا يتخيّلون.

 

في عبارة: "فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا" احتمالان على الأقلّ؛ أحدهما: أنّ على المنافقين أن يقلّ ضحكهم في حياتهم، فالذنب الذي ارتبكوه عظيم يستحقّ البكاء الكثير، وينبغي لهم ترك الضحك والسرور، أو التخفيف منه على الأقلّ.

 

والاحتمال الثاني، هو: أنّ الآية تلفت نظرهم إلى أنّ لهم أن يضحكوا في الدنيا جرّاء ما أصابوا نتيجة التخلّف، فربّما أفضى ذلك إلى بعض المكاسب في الدنيا، ولكنّ عاقبة أمرهم في الآخرة هي البكاء والحزن الشديد. فالإنسان قد يبقى في الدنيا سنة أو عشر سنين أو ربّما خمسين سنة يسعد بخياراته الصائبة أو الخاطئة؛ ولكنّه في نهاية المطاف سوف ينتقل إلى العالم الآخر، وهناك سوف ينال جزاء خياراته في الدنيا، ومدّة الإقامة في الآخرة أطول من الإقامة في الدنيا مهما طالت هذه الأخيرة.

 

وهذا فيه نوع من تسلية الخاطر للمؤمنين وتعزية لهم؛ فكأنّ الآية تقول للمؤمنين: إذا كنتم تحمّلتم صعاب الغربة وعناء السفر وتخلّيتم عن أرزاقكم وعانيتم في سبيل الله ورسوله، وبقى أعداؤكم سعداء هانئين في المدينة؛ ولكن الموقف في الآخرة سوف ينقلب ويؤول أمركم إلى الضحك والسرور وأمر أعدائكم إلى الحزن والبكاء. تعبكم وألمكم قصير الأمد، وعناؤهم وألمهم سوف يطول أمده.

 

وعليه، ليس في الحكم عليهم بطول البكاء أيّ ظلمٍ لهم؛ بل هو وصفٌ لواقع حالهم، وهو لازم فعلهم في هذه الدنيا وجزاء عملهم الذي جنوه بأنفسهم، وهذا ما تلفت إليه العبارة الأخيرة في الآية حيث يقول تعالى: "جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ".

 

 

547

 


485

تفسير سورة براءة

وجوب مصارحة المنافقين والإعلان عن الموقف تجاههم

بيّنت الآيات الشريفة للمسلمين وضع المنافقين وكشفت لهم عن وجوههم الحقيقيّة. والآية اللاحقة "فَإِن رَّجَعَكَ اللّه" تتحدّث عن الاصطفاف في مقابل المنافقين، وتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفى هؤلاء ما نالوه حتّى الآن من عيشٍ هانئ وحفظٍ لكرامتهم وماء وجههم. ومن الآن فصاعدًا لا بدّ من تغيير الأسلوب معهم، وحدّد موقفك الواضح والصريح منهم. وكان أفراد الأمّة يعرفون أشخاص المنافقين وأعيانهم، مثلًا كانوا يعلمون أنّ عبد الله بن أبيّ أحد رؤوس النفاق والتآمر ضدّ دولة النبيّ الإلهيّة في الأرض. وينطبق هذا على غيره من المنافقين الذين كشفوا عن وجوههم بأشكال مختلفة في الأحداث والوقائع التي حصلت، وعرّفوا الناس إلى أشخاصهم؛ ولكن حتّى ذلك الحين كان المسلمون يتعاملون معهم بالمداراة والرفق، وكانوا يتعاطون معهم على أنّهم جزءٌ من المجتمع الإسلاميّ.

 

بنزول هذه الآيات تبدّل المسار، وصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مطالبًا بموقفٍ آخر، والمسلمون كذلك هم مطالبون بالتميّز عن المنافقين. وهذه الآيات تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما يرجع إلى المدينة ويأتيه أحد المنافقين يطلب منه الإذن في الالتحاق بصفوف المسلمين في وقائع جهاديّة لاحقة، صار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مطالبًا بأن يصارحه ويقول له: عرفناك بالنفاق فلن تخرج معنا من المدينة إلى قتال ولن تشاركنا في مواجهة عدوٍّ "لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا".

 

والخطاب في الآية موجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه درسٌ لجميع المسلمين في كلّ زمانٍ ومكانٍ، يعلّمنا هذا الدرس أنّه لو شاهدنا علامات النفاق في شخصٍ أو جماعةٍ، فلا ينبغي لنا أن نعلّق الآمال عليهم، ولا أن نراهن عليهم أو ندخلهم في حسابات قوّتنا. حتّى لو مدّوا يد العون، لا ينبغي أن نمسك بهذه اليد ولا نراهن عليها.

 

 

548


486

تفسير سورة براءة

وتعبير "رَجَعَكَ" ينبئ عن أنّ هذه الآيات نزلت في واقعة تبوك قبل عودة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وقد تقدّم أنّ بعض آيات هذه السورة نزلت قبل الخروج من المدينة، وبعضها الآخر نزل بعد الخروج في الطريق إلى الشام أو في تبوك نفسها. ومن هذا القسم الأخير هذه الآيات، وقد نزلت كالماء البارد على نفوس المسلمين الظمأى، وفيها الكثير من التطمين لقلوبهم المضطربة.

 

نعم، نزلت هذه الآيات في تلك الأجواء العاصفة والموّاجة التي كان يمرّ بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، أثناء سلوكهم إلى الله، بعيدًا عن الظلّ والأهل والولد، وكانت هذه الآيات لتلك القلوب التي ما زالت تحمل الكثير من الندوب من معركة الطائف، كانت هذه الآيات أشبه بنشيد يبعث الحياة والأمل في النفوس، وخاصّة عندما يتلوها رسول الله عز وجل على المسلمين، فلا يتوقّع لها من أثر سوى تطمين النفوس القلقة ونشر روحيّة الثبات والجَلد فيها.

 

تقول الآية يا رسول الله، إذا أرجعك الله إلى المدينة وأتاك المنافقون يعبّرون لك عن استعدادهم للخروج معك إلى الجهاد، فلا تعتنِ بقولهم ولا تصدّق أكاذيبهم، وقل لهم: ضيّعتم على أنفسكم الفرص، لن تخرجوا معي بعد الآن.

 

"لن" حرف تأبيد أو تأكيد للنفي في اللغة العربيّة. ويرى بعضهم أنّ هذا الحرف يدلّ مضافًا إلى النفي على التأبيد، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: "فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا"، لم يعد ثمّة فرصة لكم للخروج معنا إلى قتال عدوٍّ، فهذه ساعة الافتراق الفكريّ بيننا وبينكم، وكلّ يوم يمضي تزادد المسافة الفاصلة بيننا وبينكم، فأنتم تبتعدون عن الله ونحن نقترب إليه.

 

وحيث إنّ "لن" في قوله تعالى "لَن تَخْرُجُواْ" لنفي الخروج، وفي قوله تعالى: "وَلَن تُقَاتِلُواْ" لنفي الحرب والقتال. يمكن أن يكون المراد من "لن" الثانية نفي المشاركة في القتال للأعداء الداخليّين، أو يكون المراد نفي القتال في مواجهة العدوّ الخارجيّ من داخل المدينة، كما حصل في معركة الخندق

 

 

549

 


487

تفسير سورة براءة

حيث قاتل المسلمون داخل المدينة ولم يخرجوا منها لمواجهة العدوّ.

 

"إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ": عندما سنحت لكم الفرصة في المرّة الماضية آثرتم القعود على القيام والخروج إلى الجهاد. فقد كانت تلك المعركة من أشدّ المعارك وطأةً على المسلمين حيث كان العدوّ هو الروم، وربّما كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة في تلك الفترة قوّة عظمى، وكان بينها وبين المسلمين حدود مشتركة وبعيدة، وكان الرومان يحرّضون القبائل العربيّة في بلاد الشام على إثارة القلاقل في وجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

عندما سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثين ألفًا بين راجل وفارس ليواجه بهم ما يقرب من نصف مليون مقاتل رومانيّ، كان المعتقد السائد هو هزيمة الإسلام في هذه المعركة غير المتكافئة، وكان التوقّع السائد بأن ينتهي المجتمع الإسلاميّ أو تدخل تلك التجربة في مرحلة الاحتضار. في تلك الظروف آثر المنافقون البقاء في المدينة وعدم الاشتراك في المعركة، ولكن عندما خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعسكره، إلى المكان الذي كان متوقّعًا له أن يكون ساحة النزال، لم يجدوا من عسكر الروم عينًا ولا أثرًا، ويبدو أنّهم فضّلوا التراجع والانسحاب عندما وصلهم خبر خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في ثلاثين ألفًا من المقاتلين الذين يضعون أرواحهم على أكفّهم. وكانوا جرّبوا بأس المسلمين في السنة السابقة في معركة مؤتة التي استشهد فيها جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة.

 

في معركة مؤتة هزم المسلمون لأنّ عديدهم كان قليلًا؛ ولكنّهم مع ذلك أظهروا الكثير من البأس والجلد، وعرّفوا الرومان إلى نسخة أخرى غير التي يعرفونها من المقاتل الذي يحمل روحًا ملكوتيّةً وعزمًا فولاذيًّا لا يعرف التراجع ولا الانهزام. في أجساد هؤلاء المقاتلين روح وتوجّه إلهيٌّ. فعندما تناهى إلى أسماع الرومان أنّ جيشًا بعديد أكثر من العديد الذي واجهوه السنة الماضية يزحف لمواجهتهم آثروا الفرار على البقاء والنزال.

 

وعندما وصل جيش الإسلام إلى حدود الشام، ناور المسلمون في تلك

 

550


488

تفسير سورة براءة

المنطقة وبسطوا فيها نفوذهم السياسيّ، وعقدوا التحالفات مع عددٍ من القبائل، ودخل بعض الناس في الإسلام. وعاد المسلمون فاتحين إلى المدينة.

 

وفي ظلّ هذه المستجدّات قويت قلوب المنافقين الذين كانوا يخشون الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتوا إليه يعرضون عليه خدماتهم للمرّات القادمة. وفي الجواب يعلن لهم القرآن الكريم بصريح العبارة: كانت التجربة السابقة امتحانًا لكم وقد فشلتم فيه، ففي وقت الشدّة والحاجة إليكم لم تخرجوا وآثرتم القعود على القيام والنهوض، فالآن اقعدوا مع القاعدين. والقاعدون هم كبار السنّ والعاجزون عن الجهاد كالأطفال والنساء العواجز، بل سائر النساء اللواتي لا يستطعن تقديم أيّ خدمةٍ في ساحة القتال ولو كان ذلك بمداواة الجرحى. إذًا القرآن يعلن للمنافقين بأنّ مكانهم هو بين هؤلاء العاجزين عن تقديم أيّ خدمة في الحرب. فلن تستطيعوا أيّها المنافقون خداع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

المنع من الصلاة على جنائز المنافقين

وبعد هذه المواقف المباشرة التي يطالب الله بها رسوله، يدعوه تعالى إلى عدم الصلاة على جنائزهم: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا". إلى ذلك اليوم كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلّى على جنائز المنافقين؛ لأنّهم كانوا في حكم المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشارك في جنائزهم ومراسم دفنهم ويقوم على قبورهم كما لو كانوا مسلمين. أمّا بعد العودة من تبوك فقد دُعِي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المفاصلة النهائيّة معهم، حتّى في الجنائز وطلب المغفرة.

 

"إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ": هم قومٌ كافرون لأنّهم كانوا يعملون على تغطية الحقّ، و"فسقوا" يعني خرجوا من الإيمان ومن المجتمع الإيمانيّ.

 

وينقل عليّ بن إبراهيم القمّيّ قصّة لافتة عن عبد الله بن أبيّ وابنه، تقع هذه الرواية في الجهة المقابلة للأخبار التي وردت في كتب أهل السنّة والتي

 

551

 


489

تفسير سورة براءة

أشرنا إليها آنفًا: إنّها نزلت لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ومرض عبد الله بن أُبَيّ وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنًا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه يجود بنفسه، فقال: "يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي، إنّك إن لم تأتِ أبي كان ذلك عارًا علينا". فدخل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقون عنده، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: "يا رسول الله، استغفر له". فاستغفر له. فاعترض أحد المسلمين أو سأل عن مبرّر الاستغفار مع النهي عن ذلك في القرآن... فأجاب النبيّ بأنّه قال: وهل تدري ما قلتُ؟! إنّما قلتُ: اللهم احشُ قبره نارًا[1]...

 

ويبدو لنا أنّ هذه الرواية صحيحة، وقد ورد في الفقه في كيفيّة الصلاة على جنازة المنافق أن يُدعى عليه ويُلعن بدل الاستغفار له. ولا غرو فقد لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته ولا ينبغي أن نكون ملكيّين أكثر من الملك، فعندما يلعن الله الظالم بقوله: "ألا لعنة الله على الظالمين"[2]، لا ينبغي لنا نحن عباد الله أن ندّعي الرأفة والرحمة ونطلب منه تعالى الرحمة لهم.

 

 


[1] تفسير القمّيّ، ج 1، ص 302.

[2] سورة الأعراف: الآية 44.

 

552


490

تفسير سورة براءة

 

وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا

فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿85﴾

 

 

553


491

تفسير سورة براءة

مال المنافقين وأولادهم عذابٌ لهم في الدنيا

الآية 85 تكاد تكون تكرارًا للآية 55، وكلماتها تتكرّر فيها مع اختلافٍ يسير.

 

"وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا": تدعو هذه الآية النبيّ  إلى عدم الإعجاب بأموال المنافقين وأولادهم؛ لأنّه لن يعود منها عليهم شيء. وذلك لأنّ الله سوف يجعل من هذه النعم-المال والأولاد- وسيلة عذابٍ لهم. والسبب الثاني أنّهم سوف يموتون على حالة الكفر بسبب هذه النعم: "وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ".

 

والنهي عن الإعجاب بأموال المنافقين وأولادهم هدفه لفت نظر المسلمين إلى أنّ هذه النعم لا ينبغي أن تغرّهم، ولكي لا يكون في نفوس المسلمين شيءٌ من العتب والتساؤل عن سبب تمتّعهم بهذه النعم على الرغم من نفاقهم وكفرهم، وأخيرًا كي يحذروا من التورّط في ما تورّط فيه المنافقون بسبب أموالهم وأولادهم.

 

"وَلاَ تُعْجِبْكَ": والخطاب في هذه العبارة موجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه في واقع الحال يهدف إلى لفت نظر المسلمين، ويقول لهم: لا تغترّوا بهذه النعم التي يرفل فيها المنافقون، ولا تعتبوا على ربّكم وتسائلوه كيف يعطي هذه النعم لمن لا يستحقّ. فهذه النعم سوف تكون منشأ عذابٍ لهم في الدنيا، كما ستكون سبب موتهم على الكفر قبل خروجهم من هذه الدنيا، وبالتالي ستخرج أرواحهم وهي مطرودة من رحمة الله.

 

أمّا كيف يكون أولاد المنافقين وأموالهم عذابًا لهم في الدنيا، فهذا يحتاج

 

 

554

 


492

تفسير سورة براءة

إلى قليلٍ من الشرح. وذلك أنّ المنافق يشقى أكثر من المؤمن في جمع المال، فالمؤمن ينظر إلى المال على أنّه وسيلة تساعده على الوصول إلى أهدافه الأخلاقيّة السامية. وليس المال بالنسبة للمؤمن هدفًا أقصى أو غايةً. فإذا لم يصب مالًا في يوم من الأيّام لا يطول غمّه. أمّا المنافق فإنّ المال بالنسبة له هدفٌ وغاية وليس مجرّد وسيلة. وعدم الحصول على المال بالنسبة للمنافق عجز عن تحقيق الهدف الأقصى والغاية النهائيّة للحياة.

 

وعندما يحصل الإنسان على المال، فإنّ المال لا يبقى عادةً فقد يخسره الإنسان بطريقة أو بأخرى، ينشب حريق فتلتهم النار بعض الأموال، أو يستولي عليه سارقٌ وهكذا... وفي هذه الحال غمّ المنافق وألمه أكبر من غمّ المؤمن على فقد المال وخسرانه.

 

وأحد وجوه التعذيب بالمال أو تحوّله إلى عذاب في الدنيا، أنّ المجتمع الإسلاميّ فيه قوانين ماليّة متعدّدة تلزم المواطن فيها بالتنازل عن مقدار من ماله لمصلحة هذا المجتمع، كما في حالة الزكاة وغيرها من الواجبات الماليّة. فعندما يرى المنافق أنّه مطالبٌ بالإنفاق على مجتمع لا يؤمن بتعاليمه، فإنّ هذا من دواعي ألمه وغمّه وحزنه. وفي المقابل، فإنّ المؤمن يدفع الزكاة رغبةً وحبًّا، وعندما يفعل هذا يشعر بأنّه منسجمٌ مع نفسه وما يؤمن به، فهو يضع أمواله في خزينة الدولة الإسلاميّة التي يؤيّدها، وهو يتوقّع صرفها على المصالح الاجتماعيّة التي يؤمن بها، وفي نهاية المطاف يتوقّع الثواب عليها من الله. وقد أشرنا قبل صفحات إلى قصّة الشاة التي ذبحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

والخلاصة هي أنّ المؤمن يشعر وكأنّه يدّخر أمواله التي ينفقها في سبيل الله، بينما المنافق يشعر بأنّ ما ينفقه يذهب هدرًا لأنّه لا يتوقّع الثواب ولا يؤمن به.

 

هذا بالنسبة إلى العذاب بالمال، وأمّا العذاب بالأولاد فإنّه أشدّ ألمًا وأقسى؛ وذلك لأنّ المنافق يحبّ أولاده بمقتضى الفطرة الإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أن يميل المنافق إلى أن يتابع ابنه طريقته وأسلوبه في الحياة. ولكن في المقابل لا يطمئنّ المنافق إلى أنّ أولاده سيكملون مسيرته من بعده، فهو

 

 

555

 


493

تفسير سورة براءة

يواجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أهداف دنيويّة أو غيرها، ولكنّه يخشى بعد مدّة أن يرى أولاده في الجبهة التي يسعى في محاربتها. وقد حصل مثل هذا الأمر مع عددٍ من المنافقين الذين أسلم أولادهم كما هي حالة عبد الله بن أبيّ الذي أسلم ابنه ومات هو على النفاق. وقد حصل أنّ بعض أبناء المنافقين طلب الإذن من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تنفيذ حدّ  الله وعقوبته في أبيه. وأيّ شيءٍ أشدّ إيلامًا على المرء من أن يرى فلذة كبده يتحوّل إلى عدوٍّ فكريٍّ له؟!

 

ومن جهات العذاب بالأولاد بالنسبة إلى المنافقين أنّ بعضهم كان يرى أبناءه مقاتلين في صفوف المسلمين، وتجرّع بعضهم كأس الشهادة في تلك الساحات المقدّسة. وهنا يرى المنافق أنّه فقد ابنه، وفقد الابن مؤلمٌ بالنسبة إلى جميع البشر، والاختلاف بين المؤمن والمنافق أنّ هذا الأخير لا يعتقد بمفهوم الشهادة ولا يؤمن بالجنّة والخلود فيها، فليس عنده ما يعزّيه ويسلّي فؤاده في حالة فقد الولد. هذا هو تفسير الوعيد الإلهيّ بعذاب المنافقين بأموالهم وأولادهم في الدنيا.

 

السنّة الإلهيّة في أموال المنافق وأولاده

ثمّة فهم آخر وتفسير لقوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا" وإجمال ذلك أنّ الله وضع في هذا العالم سننًا وقوانين تقضي بأن لا يتمتّع المنافق بأمواله وأولاده؛ بل تتحوّل إلى منشأ عذابٍ له، بحسب قوانين العالم والتاريخ وسننه.

ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ المؤمن الواعي عندما يسمع هذه المضامين تستيقظ فيه جميع العواطف والأحساسيس، وتعمل في الجهة التي يريد الله لها أن تعمل فيها. ولعلّك لا تجد مؤمنًا بعد هذا الشرح والتوضيح ينظر بعين الإعجاب إلى ثروة منافق أو عدد أولاده، أو يغبطه على ما يرفل به من نعم، بل يرى أنّ ذلك كلّه سيتحوّل إلى مصدر عذابٍ وشقاءٍ له. وهذه قاعدة اجتماعيّة عامّة.

 

 

556

 


494

تفسير سورة براءة

يُضاف إلى ما تقدّم أنّ المؤمن لو أصاب شيئًا من المال أو الولد، سوف يسعى إلى التميّز عن المنافق واختلاف سيرته عن سيرته. وعليه، فإنّ الآية تعزية من جهة، ودرسٌ وعبرة من جهة أخرى. ومن يشعر بالحزن للاختلاف بينه وبين الآخرين في المال والولد أنصحه بقراءة هذه الآية والتأمّل فيها. ولكن مع ذلك أؤكّد أنّ الآية لا توصي بالفقر، ولا ينبغي أن تُفهم بهذه الطريقة.

 

"وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ": العلاقة بين الموت على الكفر والتوافر على نعمتي الولد والمال، هي أنّ النعم التي يصيبها الإنسان توجب عليه الشكر، وترك الشكر يُعبّر عنه في الأدبيّات الإسلاميّة بالكفر أو الكفران. فمن لا يشكر نعمة الله يكون قد كفر بها، والمنافق لا يُتوقّع منه شكر الله تعالى على ما أنعم عليه. فالمنافق يجب عليه أن يؤدّي شكر نعمة الله باللسان والفعل بأن ينفق هذا المال في الموارد التي أمر الله بالإنفاق فيها، لا في الحرام ولا في التآمر على المسلمين وإفساد المجتمع الإسلاميّ. والإنفاق في هذه الموارد الأخيرة كفرٌ لنعمة المال.

 

والأولاد نعمةٌ تستحقّ الشكر، وأحد وجوه شكر هذه النعمة أن يربّي الإنسان أبناءه ويساعدهم على التكامل الروحيّ والأخلاقيّ، وإذا لم يستطع فعل ذلك فعلى الأقلّ عليه أن يؤمّن لهم الأرضيّة المساعدة. وهذه مسؤوليّةٌ على عاتق كلّ أبٍ.

 

والمنافق لا يهدي أولاده إلى طريق الحقّ، وإذا اهتدى أحدهم فليس لأبيه فضلٌ في هذا الاهتداء؛ بل يكون ذلك نتيجة العيش في بيئةٍ اجتماعيّةٍ سليمة ساعدته على إصابة الحقّ. وعليه، فإنّ المنافق لا يؤدّي واجب الشكر على نعمة الأولاد فهو كافرٌ بها.

 

557


495

تفسير سورة براءة

 

 

وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ﴿86﴾ *رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴿87﴾ لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿88﴾ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿89﴾

 

558


496

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

في هذه الآيات يبيّن لنا الله عز وجل لونًا جديدًا من ألوان حياة المنافقين، ويكشف لنا عن فصلٍ جديد من فصول حياتهم البائسة. في الآية الأولى من هذه الآيات يكشف لنا الله عن أنّه عندما تنزل سورة أو آية فيها دعوةٌ إلى الجهاد، يعمد ذوو السعة والقدرة الماليّة إلى الاستئذان من النبيّ صلى الله عليه وسلم في البقاء مع القاعدين. وقد كشفت آياتٌ سابقة عن هذه الروح التي يحملها المنافقون، ولكن هذه الآية بعد عرضها هذه الصورة من صور المنافقين، تعرض لنا صورة أخرى هي صورة المؤمنين واستعدادهم للتضحية، والآثار المترتّبة على ذلك في الدنيا والآخرة.

 

موقف المنافقين الأغنياء من الجهاد

لا تخبرنا هذه الآية عن موقف جميع المنافقين من الجهاد؛ بل تبيّن لنا أنّه عندما تنزل سورة تدعو إلى الجهاد، ينبري أهل الغنى والثروة "أولو الطول" من المنافقين إلى استئذان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البقاء مع القاعدين. ولا تتحدّث عن موقف الفقراء منهم.

 

ولو كان موضوع الحديث هو النفاق في حدّ ذاته، لفقدت عبارة "أولو الطول" معناها، ولما كان ثمّة داعٍ لاستخدامها. وقد بيّنا أكثر من مرّة أنّ لغة القرآن الكريم دقيقة، ولكلّ كلمة فيه دلالتها الخاصة ووراء استعمالها دون غيرها حكمة وهدفٌ. وبالتالي يحسن بنا التوقّف وطرح السؤال عن سبب الإشارة إلى الأغنياء وأولي الطول دون غيرهم.

 

 

560

 


497

تفسير سورة براءة

يبدو لنا أنّ هذه الآية تكشف عن بُعدٍ آخر من الأبعاد السلبيّة لنمط الحياة الإقطاعيّ، وتكشف عن خصلة سيّئة من خصال المترفين والأغنياء. ولا شكّ في أنّ الأغنياء هم أقلّ استعدادًا للتضحية من الفقراء، وأقلّ رغبةً في الحضور في ميادين الجهاد وساحاته. ولسنا نقصد التعميم وتوسعة هذا الحكم إلى جميع الأغنياء، على نحو ما تذهب إليه بعض المدارس الفكريّة؛ ولكن في جميع الأحوال هذه هي الحالة الغالبة.

 

فالآية تبيّن لنا أنّ بعض الطبقات الاجتماعيّة لا تكتفي بالتقصير في أداء واجباتها؛ بل هي تريد تشريع هذه المخالفة! مثلاً قد تجد فقيرًا تضطرّه ضغوط الحياة إلى اقتراض مبلغٍ من المال بقرضٍ ربويٍّ، وهو يشعر بعذاب الضمير وتأنيبه. بينما الغنيّ الغارق في الربا إقراضًا واقتراضًا تجده يبحث عن حيلةٍ شرعيّة تسمح له بتبرير فعله المخالف لمعتقده إذا كان يعتقد بحرمة الرباء. على أيّ حال، هذه صفة كثيرٍ من أهل السعة والغنى، حيث يحاولون التوفيق بين معتقدهم وسلوكهم، بطلب الأعذار لأنفسهم أو طلب الإذن في المخالفة.

 

وهذه الآية تكشف لنا عن هذه الصفة في هذه الطبقة الاجتماعيّة التي جمعت بين الغنى والنفاق. فالمنافق لو كان يعيش في مجتمعٍ غير المجتمع الإسلاميّ، لم يكن يجلس في بيته ولا يذهب إلى الجهاد فحسب، بل ربّما كان يسخر من المجاهدين ويضحك من ضعف عقولهم بحسب اعتقاده. أمّا في المجتمع الإسلاميّ فهو غير قادر على الكشف عن مكنون نفسه؛ ولذلك يأتي إلى رسول الله عز وجل ويحاول تبرير جبنه وتخاذله عن الجهاد بالاستئذان من النبيّ في البقاء مع القاعدين.

 

الوقاحة هي التي تدعو هذا الصنف من الناس إلى الاستئذان. وهي سمة من سمات هذه الطبقة الاجتماعيّة؛ أيّ طبقة الوجهاء والإقطاعيّين (أولو الطول)، فهم لا يكتفون بترك الفريضة الواجبة، بل يذهبون إلى قائد المجتمع الإسلاميّ ويطلبون منه بكلّ وقاحة أن يأذن لهم في التخلّف الذي عزموا عليه مسبقًا!

 

 

561

 


498

تفسير سورة براءة

ولو كان المتخلّف فقيرًا غير مستلّحٍ بموقعه الاجتماعيّ والاقتصاديّ لَعمل على إخفاء نفسه والتواري عن الناس؛ كي لا يعرف أحدٌ منهم أنّه يفرّ من أداء واجبه الجهاديّ؛ وكثيرًا ما وقع هذا في التاريخ، وتوارى كثيرون فرارًا من الواجب، وحاولوا أن لا يراهم أحدٌ، ثمّ بعد أن انكشف أمرهم أعلنوا التوبة وحاولوا تبرير تقاعسهم بأعذار مقبولة أو غير مقبولة، ولم يأتوا قبل الحرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لطلب الإذن في التخلّف والتقاعس عن أداء واجب الجهاد. أمّا الغنيّ المترف فإنّه يملك ما يكفي من الجرأة والصفاقة لطلب الإذن في التخلّف، لماذا؟ ببساطة لأنّه متسلّحٌ بالغنى والثروة.

 

والنقطة الدقيقة في الآية التي هي أوضح وأصرح من البيان السابق، أنّ السورة على الرغم من نزولها للدعوة إلى الإيمان بالله والجهاد -وهذان المفهومان يتكرّران في القرآن الكريم- ولكن الميزة اللافتة في هذه الآية أنّها تتحدّث عن الإيمان كمقدّمة للجهاد. وبعبارةٍ أخرى: الإيمان يتجلّى بأظهر صوره في الجهاد. وكأنّ ما يجسّد الإيمان الحقيقيّ أو ما يكشف عن صدق الإيمان أو عدمه هو "الجهاد في سبيل الله". وسائر الفرائض ليست على حدّ الجهاد في كونها محكًّا لمعرفة صدق الإيمان. ولعلّ هذا الأمر من الواضحات، فإنّ سائر الفرائض كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها خفيفة المؤنة. أمّا الجهاد، فإنّه أثقل على النفس، وبالتالي يحتاج إلى محرّك إيمانيّ أقوى.

 

فالإنسان الذي يقف على الحدّ الفاصل بين الإيمان وعدمه، ترتعد فرائصه عندما يُدعى إلى الجهاد. ولأجل هذا نجد أنّ الآية تدعو إلى الإيمان أوّلًا ثمّ تذكر الجهاد، وكأنّها توحي للقارئ والمستمع بأنّ الجهاد هو المحكّ الصادق والميزان الأمين لمعرفة صدق الإيمان من كذبه.

 

وثمّة تعابير في اللغتين العربيّة والفارسيّة قريبة من هذا التعبير، كقولنا مثلا: "كن رجلًا، واعفُ عن خطأ فلان"، أو "كن رجلًا! وهب هذا المال لفلان، أو تنازل عن القرض الذي لك في ذمّته". فهل تتضمّن هذه العبارات طلبين؛ أيّ الرجولة وما بعدها؟ أم المطلوب فيها أمرٌ واحد وهو المترتّب

 

 

562

 


499

تفسير سورة براءة

على الرجولة؛ أيّ العفو، أو الهبة، أو إبراء الذمّة من القرض؟ وعندما توجّه الخطاب إلى شخص غاضب وناقمٍ يريد أن يقتصّ من شخص آخر، وتقول له: "كن رجلًا أو صاحب مروءة، وتنازل عن حقّك في الانتقام أو الاقتصاص"، ففي مثل هذه الحالات، التمهيد للطلب بذكر الرجولة أو المروءة يقصد منه بيان أنّ المروءة والرجولة تقتضي العفو وعدم الاقتصاص. وفي الحقيقة، الرجولة والمروءة ليست مطلوبة أو مدعوًّا إليها بالذات، وإنّما تُذكر من باب التمهيد للطلب الحقيقيّ الوحيد وهو ما تقتضيه.

 

وبهذا البيان يتّضح أنّ مفاد قوله تعالى: "أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله" هو الدعوة إلى الجهاد، أو بيان أنّ الجهاد هو من مقتضيات الإيمان، ولا تطالب السورة الناس بأمرين هما: الإيمان والجهاد؛ وذلك لأنّ المخاطبين بالآية هم المسلمون، وبالتالي لا داعي لدعوتهم إلى الإيمان مجددًا. وهذه السورة تخاطب المجتمع الإسلاميّ كلّه، ولا تتوجّه بالخطاب إلى المنافقين حتّى تكون دعوتهم إلى الإيمان قبل الجهاد مبرّرة. وبعبارة مختصرة: المطلوب الأساس في هذه السورة التي تتحدّث عنها الآية هو الدعوة إلى الجهاد، وإنّما ذُكر الإيمان فيها لبيان الترابط بين الجهاد والدافع نحوه وهو الإيمان.

 

وممّا يؤيّد هذا التفسير، أنّ جواب "إذا" الشرطيّة لم يتضمّن أيّ حديث عن الإيمان؛ بل ما ذُكِر في الجواب هو طلب الإذن في التخلّف عن الجهاد، ولم يطلبوا الإذن في عدم الإيمان. وعليه، فإنّه لو نزلت هذه السورة التي تشير إليها الآية لفهم المخاطبون بها جميعًا -المؤمنون منهم والمنافقون- أنّ الغرض الأساس والهدف من هذه السورة هو الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله. ويبدو لنا أنّ هذا المعنى واضحٌ، وحسبنا ما قلناه في تأييده وتظهيره.

 

والمراد من "القاعدين" في الآية النساء والمرضى وغيرهم من العاجزين عن الخروج للجهاد. وقد أشرنا آنفًا إلى أنّ النساء لسنَ معفيّات دائمًا من الجهاد، بل من بعض أشكاله وبشرط عدم الحاجة أو العجز.

 

563

 


500

تفسير سورة براءة

رضا المنافقين بالتخلّف

"رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ": تكشف هذه الآية عمّا رضيه المنافقون لأنفسهم من تخلّفٍ عن الجهاد، وعدم إدراكهم لمدى قبح ما يقدمون عليه نتيجة الطبع على قلوبهم، وبالتالي عجزهم عن إدراك فداحة تخلّفهم.

 

تشتمل هذ الجملة على طعنٍ كبير في المنافقين من حيث رضاهم بالقعود والتخلّف. وهذا من أصرح أشكال الإدانة لهم، حيث رضوا بأن يكونوا مع المتخلّفين والقاعدين، وفي هذا إهانة وتحقير. ويشبه هذا التعبير في مؤدّاه جواب الأب حيث يقول لابنه الذي يقترح قائلًا: "أبي العزيز! اسمح لي بأن لا أذهب إلى المدرسة"؛ فيقول الأب مؤنّبًا وموبّخًا: "رضي ابني لنفسه أن يبقى عاطلًا من العمل ومتّخذًا من البيت مقرًّا". ولو كان الابن يدرك قبح البطالة والقعود في البيت لأدرك أنّ في هذه العبارة أشدّ أشكال اللوم والإهانة له.

 

وهذه الجملة في الآية تخبر عن المنافقين بأنّهم رضوا لأنفسهم البقاء مع العاجزين المتخلّفين عن الركب، فما أسوأ حظّهم! ولا يجد الإنسان تعبيرًا أشدّ صراحةً ووضوحًا في إدانة المنافقين من هذا التعبير. ويبدو لي أن هذه العبارة هي أفصح تعبير عن مدى قبح ما اختاره هؤلاء لأنفسهم.

 

فكيف رضي المنافقون لأنفسهم هذا العار؟ الجواب هو أنّ طلب العافية والتقاعس هما اللذان سدَّا على المنافقين أبواب الفهم، وأعجزاهم عن إدراك الحقيقة، وفهم فضل الجهاد وعلوّ كعب المجاهدين وما ينتظرهم من ثواب في الدنيا والآخرة، وعن تشخيص السلبيّات المترتّبة على ما اختاروه من ترك الجهاد والرغبة في الفرار منه. ولو كانت لهم قدمٌ راسخة في العقل لما أقدموا على اختيار الخيار الأسوأ. وبالعودة إلى مثال الطفل الذي يستأذن من أبيه ويطلب منه عدم الذهاب إلى المدرسة، هذا الطفل لو كان يدرك قبح ما يطلبه لما طلبه.

 

 

564

 


501

تفسير سورة براءة

تقديم المؤمن ما عنده على طبَق الإخلاص

الصفّ المقابل هو صفّ الإيمان الذي يتألّف من النبيّ نفسه صلى الله عليه وآله وسلم وسائر المؤمنين الذين جاهدوا بأنفسهم وأموالهم: "لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ". وسيرة هؤلاء معاكسة تمامًا لسيرة المنافقين الذين يأبون أن يخطوا خطوة إلى الإمام، بينما يقدّم المؤمنون كلّ ما هو متاحٌ لهم على طبق الإخلاص ويضعونه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا فإنّ الخيرات هي الجزاء الذي يستحقّونه. النبيّ والمؤمنون في غاية الشوق إلى الجنّة وهم مستعدّون للتضحية بكلّ ما يملكون من أجل نيلها.

 

جملة "وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ" تتضمّن معنى الحصر؛ أيّ تفيد أنّ الخيرات هي لهذه الفئة من الناس. والخيرات مفهوم شاملٌ يستوعب الكثير من الأمور مثل: الفتح والنصر، ولذّة الغلبة على الأعداء، وحسن الصيت والسمعة والشرف في الدنيا والآخرة، وخيرٌ من ذلك كلّه الإسهام في تشييد أركان المجتمع الإسلاميّ وحفظ حدوده، والمغفرة من الله فوق ذلك كلّه. أمّا المنافقون فإنّهم بتقاعسهم حرموا أنفسهم من ذلك كلّه.

 

وقد ورد في الرواية أنّ المجاهد عندما يتشحّط بدمه وقبل أن ينتقل إلى العالم الآخر يدرك ما ينتظره من النعم المعنويّة، وهذا من ألطاف الله بالمجاهدين[1]. وورد أيضًا: "أوّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلّا الدين، فإنّ كفارته قضاؤه"[2]. بلى، ما يناله المؤمنون المجاهدون هو خيرات الآخرة والدنيا، في الدنيا ينالون شرف الحرية والعزّة والعيش سادةً. وعلى الضفّة الأخرى؛ أيّ الآخرة تنتظرهم الجنّة ورضوان الله تعالى.

 

"وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ": الفلاح هو النجاح والتوفيق، والنجاح


 


[1] صحيفة الإمام الرضا عليه السلام، ص 92.

[2] من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 183.

 

565


502

تفسير سورة براءة

من صفات المؤمنين في القرآن كما في قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"[1]. والفلاح هو نيل المقصود والظفر بالمطلوب. وتفسّر هذه الكلمة بالفارسيّة بـ"رستگار" وهو تفسير أو ترجمة غير دقيقة؛ فالمعنى الدقيق لهذه الكلمة الفارسيّة هو: الحرّ والخالص. وهذا المعنى مختلفٌ عن معنى الكلمة في اللغة العربيّة.

 

والآية اللاحقة فيها قرّة عين المؤمنين المجاهدين: "أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"، تبيّن هذه الآية ما أعدّه الله للمؤمنين في جنّته من نعم، وتختم بوصف ذلك بأنّه الفوز العظيم.


 


[1] سورة المؤمنون: الآية 1.

 

566


503

تفسير سورة براءة

وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ

سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿90﴾

 

 

568


504

تفسير سورة براءة

التناسب

في هذه الآية أيضًا طعنٌ آخر على المنافقين، لجهة تخلّفهم عن أداء الواجب واستجابة دعوة الله ورسوله إلى الجهاد.

 

وفي تفسير الآية اختلافٌ لعلّه يستند إلى الاختلاف في المراد من كلمة "معذّرون". فالاحتمال الأوّل في معنى هذه الكلمة هو المقصّر، من التقصير من باب التفعيل. والاحتمال الثاني هو "معتذر" من الاعتذار من باب الافتعال. والمعتذر هو الشخص الذي يقدّم عذره بين يدي طلبه أو اتّهامه بالخطأ والتقصير. وتحويل معتذر إلى معذّر له نظائر في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: "أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى"[1].

 

جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى

وقال بعض المفسّرين لا مانع من دلالة هذه الكلمة في الآية على المعنيين؛ أيّ معتذر ومقصّر، ونحن نقبل وجهة النظر هذه. في مقابل عددٍ من علماء الأصول الذين ينكرون إمكان استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى؛ أيّ يرون استحالة أن يستعمل الإنسان كلمة ويقصد بها الدلالة على أكثر من معنى في استعمال واحد. ويدّعون أنّ العقل يحكم باستحالة هذا الاستعمال. وعلى أيّ حال ليست المسألة محلّ إجماعٍ بينهم.

 

وعندما نرجع إلى أنفسنا نرى عدم صحّة هذه الدعوى على الرغم من


 


[1] سورة يونس: الآية 35. والشاهد في الآية هو الفعل يهدّي وأصله يهتدي من باب الافتعال، وقد قلبت التاء التي هي من حروف الزيادة إلى الدال وأدغمت مع الدال الأصليّة. وهذا معروف في القواعد الصرفيّة في اللغة العربيّة.

 

 

569


505

تفسير سورة براءة

إصرارهم على الاستحالة ودعوى أنّها استحالة يحكم العقل بها. وهذا أمرٌ ينبغي أن نحيله إلى محلّه في علم الأصول. وحسبنا أن نشير إلى عدم وضوح هذه الاستحالة المدّعاة. نعم، في خصوص هذه الآية يبدو الأمر ممتنعًا بالنظر إلى أنّ المعنيين المقترحين ينافي أحدهما الآخر ويضادّه، فإنّ جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى لا يتنافى مع استحالة ذلك في مورد يتنافى فيه هذا المعنيان.

 

وبناءً على استفادة التقصير من الآية، يكون المعنى أنّ عددًا من الأعراب المقصّرين أتوا لطلب الإذن في القعود والتخلّف عن اللحاق بركب المجاهدين.

 

والمراد من الأعراب ليس ما يقابل العجم أيّ غير العرب؛ بل المراد منه أهل البادية الذين يعيشون خارج المدينة. وهذه الكلمة هي اسم جنس جمعيّ[1] يؤخذ المفرد منه بإضافة ياء النسبة إليه. وعليه، لا يُراد في هذه الآية الحديث عن العرب جميعًا، بل عن فئة محدّدة منهم، وهم الذين يسكنون البادية ويعيشون فيها. وعليه، فإنّ هذه الآية تخبرنا عن مجيء بعض الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاستئذانه في التخلّف عن الجهاد.

 

"كذبوا" بدون تشديد على الذال؛ أيّ لم يصدقوا في ما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبناءً على هذا الاحتمال، يكون المراد الحديث عن جماعة من الأعراب المقصّرين الذين يحاولون الفرار من الجهاد بالكذب على الرسول، وتبرير تخلّفهم بكلامٍ غير صحيح.

 

أمّا بناءً على المعنى الثاني، فيكون معنى الآية مختلفًا، وتفيد أنّ بعض


 


[1] اسم الجنس في اللغة العربيّة هو الكلمة التي تدلّ على معنى كلّيّ له مصاديق متعدّدة. مثل إنسان. واسم الجنس ينقسم إلى قسمين: إفراديّ وجمعيّ، واسم الجنس الإفراديّ هو الذي يشترك مع فرده في اللفظ مثل إنسان، فالإنسان كلمة تصدق على المفرد كما تصدق على المعنى الكلّي العام. أمّا اسم الجنس الجمعيّ فهو الذي يختلف مفرده عن جمعه، ويميّز بينهما بإضافة الياء للدلالة على الفرد كما في ما نحن فيه؛ حيث يعبّرعن الفرد بإضافة ياء النسبة إلى اسم الجنس أو تاء التأنيث. فيقال أعرابٌ للجماعة وأعرابيّ للفرد، كما يُقال تمرٌ وتمرة للمفرد.

 

570


506

تفسير سورة براءة

الأعراب المعذورين واقعًا جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يضعون أعذارهم بين يديه ليأذن لهم في ترك الجهاد. وفي مقابل هؤلاء المعذورين من أهل البادية، ثمّة أشخاص من وجهاء المدينة لم يأتوا للاستئذان الواقعيّ. وبناءً على هذا الاحتمال، تكون الآية بصدد الحديث عن فئتين من الأشخاص المتخلّفين عن الجهاد، إحداهما الفئة المعذورة الصادقة التي لا لوم عليها، والفئة التي تدّعي الاعتذار وهي كاذبة، وهي الملومة.

 

ذهب كثيرٌ من المفسرين إلى ترجيح الاحتمال الأول. ومال بعض أهل التحقيق من المفسّرين إلى الرأي الثاني؛ أيّ تفسير المعذرين بأصحاب العذر الحقيقيّ. ويبدو لنا من التقارن بين كلمتي "جاء" و"قعد" أنّ الصحيح هو القول الثاني.

 

فلا تهدف الآية إلى الحديث عن فئتين من المنافقين تخلّفتا عن الجهاد، وإلّا لما كان ثمة داعٍ لاستعمال كلمة أعراب. وذلك أنّه لا فرق في التكليف بين البدويّ والحضريّ، فكلا الفريقين مكلّفٌ ومطالب بتعاليم الشريعة وأحكامها. فلا فرق بين الحضريّ والبدويّ المقصّر بحيث يكون أحدهما مطالبًا بالتكليف والآخر غير مطالب أو حكمه غير معلوم حتّى يذكر تكليفه ويبيّن.

 

جميع الآيات التي تدين المقصّرين عامّة وشاملة للبدويّ والحضريّ؛ وعليه نحن نرى أنّ الرأي الذي يرجّح المعنى الأوّل غير صحيح. والصحيح هو الرأي الذي يرجّح المعنى الثاني؛ لأنّ الآية تهدف إلى بيان الفرق والاختلاف بين البدويّ والحضريّ، فالأوّل بالنظر إلى بعده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم تقرع سمعه مواعظ النبيّ، ولم تتح له ظروفه إدراك تعاليم الشريعة، مضافًا إلى شدّة العيش في البادية في تلك الأيّام، ومن الطبيعيّ نتيجة البعد أن لا تصلهم دعوة الجهاد إلّا متأخرة، ويبدو أنّ هذه الظروف والأوضاع مجتمعة سمحت لهم بالحضور بين يدي رسول الله وعرض أعذارهم أمامه والاستئذان منه في ترك الجهاد.

 

571

 


507

تفسير سورة براءة

وقد ورد في بعض الأخبار أنّ عذرهم هو الخوف على أهلهم وأعراضهم من عدوان القبيلة الفلانيّة، إن هم تركوا مضاربهم والتحقوا بقوافل المجاهدين. وفي هذه الأخبار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل اعتذارهم وأذن لهم في القعود لحماية أعراضهم وأموالهم.

 

وهكذا نلاحظ أنّ بعض الأشخاص على الرغم من تعقيد أوضاعهم يأتون لشرح عذرهم عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وربّما كانوا يشعرون بالأسى لعجزهم واضطرارهم إلى الاعتذار، بينما ثمّة من يعيش في جوار النبيّ وكنفه، يتملّص من الجهاد بعدما قرع سمعه نداء الجهاد من أوّل لحظة، وعلى الرغم من فهمه ووعيه بتعاليم الشريعة أكثر من الأعرابيّ البعيد، ومع ذلك بعض هؤلاء يتهرّب من الجهاد من دون أن يكون له عذرٌ مقبولٌ.

 

قلنا في تفسير قوله تعالى: "وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ". إنّ المقصودين في هذه الآية هم جماعة من الأغنياء ووجهاء المدينة الذين طلبوا الإذن في ترك الجهاد. أمّا هذه الآية فموضوعها جماعةٌ أخرى من أهل المدينة ليسوا من الأثرياء، لكنّم تهرّبوا من دون أن يستأذنوا، وبالتالي تهدف هذه الآية إلى المقارنة بين جماعتين، إحداهما معذورة عرضت عذرها وطلبت الإذن، وجماعة أخرى لم تستأذن وتهرّبت بصمت. وهذا يشبه قولنا: فلان يدرس على الرغم من صعوبة أوضاعه، والثاني يترك الدرس كسلًا.

 

وبالنظر إلى المعنى الثاني لكلمة "معذّرون" يكون معنى الآية: أتى الأعراب من المعذورين واقعًا لعرض عذرهم وطلب الإذن في القعود. وأمّا الجزء الثاني من الآية وهو قوله تعالى: "وقعد الذين كذبوا الله ورسوله" فكلمة "قعد" تفيد المعنى المقابل لـِ"جاء"، ومعنى هذه العبارة أنّه في مقابل من جاء ليعتذر ثمّة من قعد ولم يحاول الاعتذار، وهذا الثاني كاذبٌ، وسبب وصفه بالكذب مع أنّه لم يقل شيئًا أنّه كاذب في دعواه الإيمان، فصادق الإيمان يؤدّي واجباته ويلتزم بها.

 

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية هو أن يكون المراد من الاعتذار طلب

 

 

572

 


508

تفسير سورة براءة

الإذن في الجهاد، فيكون سبب الاعتذار هو طلب الإذن في الجهاد وليس القعود. وبالتالي يكون المراد أنّ بعض الأعراب الذين يسكنون في بادية المدينة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأذن لهم في الجهاد على الرغم من أنّ عندهم من العذر ما يعفيهم من واجب الجهاد. في مقابل أولئك الذين يعيشون مع النبيّ في المدينة وليس عندهم عذر لكنّهم تثاقلوا عن الجهاد. وهذا التقابل يكشف عن البون الشاسع بين الجماعتين.

 

مصير الكافرين والقاعدين

"سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ": القاعدون صنفان من الناس: أحدهما صنف الكافرين من المنافقين من جماعة عبد الله بن أبيّ من الذين يدّعون الإيمان كذبًا على الله ورسوله. والصنف الثاني هو ممّن تخلّف عن الجهاد من دون عذر؛ ولكنّ أهل هذا الصنف ليسوا من الكافرين؛ ولكنّهم لم يبلغوا الدرجة المطلوبة من صدق الإيمان وخلوصه، وكذب هؤلاء في دعواهم كمال الإيمان وخلوصه. وبناءً عليه، عدم الصدق في دعوى كمال الإيمان لا يوجب صدق الكفر على ناقص الإيمان. والعذاب الأليم في الآية من نصيب الكافرين.

 

والاحتمال الثاني في تفسير عبارة "سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" هو: أولئك الذين يموتون على الكفر من هذين الصنفين سوف يصيبهم عذابٌ أليم؛ وذلك أنّ من يتوب ويعود إلى طاعة الله ورسوله لا يناله الوعيد بالعذاب الأليم.

 

ولولا الجارّ والمجرور "منهم" في الآية لكان التهديد بالعذاب الأليم شاملًا لجميع المتخلّفين عن الجهاد. ولأنّ الله لا يُخلف الميعاد فقد حدّد التهديد ووجّهه إلى الذين يموتون على الكفر. وإذا قبلنا الاحتمال الأوّل في تفسير الآية يكون المراد من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. وعليه يجعل الاحتمال الثاني العذاب خاصًّا بالآخرة.

 

 

573

 


509

تفسير سورة براءة

 

 

 

 

 

لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿91﴾

 

575

 


510

تفسير سورة براءة

المعذورون المعفوّون من الجهاد

تبيّن هذه الآية أحد الأحكام الشرعية في الإسلام، وهو حكم العفو ورفع الوجوب عن العاجزين عن الجهاد.

 

"لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء...حَرَجٌ": ترفع هذه الآية الحرج عن الضعفاء. والضعفاء هم العاجزون بدنيًّا؛ أيّ الذين لا قدرة لهم على الضرب بالسيف، كالمشلول وغيره، فهؤلاء بحسب هذه الآية يسقط التكليف بالجهاد عن عواتقهم.

 

"وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى": والمرضى حكمهم كحكم من سبقهم حيث يسقط عن عواتقهم هذا التكليف أيضًا. والفرق بين المريض والمقعد أنّ الأوّل يتوقّع أن يزول مرضه ويعود إلى حالته السابقة، أمّا المقعد فهو الشخص الذي لا يرجى شفاؤه وارتفاع علّته. ومع هذا الاختلاف فإنّ الحكم في حالة المرض واحدٌ.

 

"وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ": هؤلاء هم الفئة الثالثة من المعفوّين، وهم الفقراء الذين لا يملكون من المال ما يسدّ حاجتهم لشراء عدّة الحرب كالسيف والراحلة وما شابه من وسائل السفر إلى الحرب أو عدّة المشاركة فيها.

 

ومن هذه العبارة يُعلم أنّ المجاهدين كانوا يؤمّنون عدّة القتال ولوازم السفر إليه من أموالهم الخاصّة، ولم تكن الدولة الإسلاميّة تنفق من بيت المال على تجهيز المجاهدين. ولم يكن ذلك مقدورًا للدولة الإسلاميّة في ذلك العصر.

 

 

577


511

تفسير سورة براءة

اشتراط العفو بنيّة الخير

"إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ": تقيّد الآية رفع الحرج عن الفئات والجماعات التي ذكرت بإرادتها ونيّتها الخير لله ورسوله. والمراد من الخير هو النصح والحرص على مصلحة المجتمع الإسلاميّ، فلا يعني العفو ورفع الحرج عمّن لا يقدر على الخروج إلى الحرب إسقاط المسؤوليّة الاجتماعيّة عنه.

 

والمراد من النصح بحسب الظاهر إرادة الخير والنصيحة للمسلمين والمجتمع الإسلاميّ. والتعمّق في معنى النصح وتتبّع بعض استعمالاته في اللغة العربيّة يكشف عن معنى أعمق. يُقال مثلًا: "نصح الخيّاط الثوب"، والمعنى هو: أنّ الخيّاط بذل وسعه وأقصى طاقته لإصلاح الثوب وخياطته بالطريقة المثلى. وبالنظر إلى هذا المعنى يكون المراد من نصيحة هذه الفئات أن تستثمر أقصى طاقاتها وكلّ إمكاناتها في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والدين والمجتمع الإسلاميّ. فالمريض الذي قبل الله عذره وأذن له في البقاء وعدم الخروج إلى الحرب، عليه أن يؤدّي واجباته التي بقيت على عاتقه. ليحسب وكأنّه واحدٌ من المجاهدين، فإذا استطاع أداء خدمةٍ مدنيّة في المدينة عليه أن يؤدّيها، كما لو استطاع خدمة أُسر المجاهدين بأيّ طريقةٍ من الطرق.

 

وعليه - في هذه الحالة التي تتحدّث عنها الآية - أن يتولّى مواجهة الحرب الإعلاميّة والنفسيّة التي يخوضها المنافقون بترويجهم الشائعات ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهدف تثبيط عزائم من بقي في المدينة من أسر المجاهدين، ومهمّته بالتحديد هي إبطال آثار الحرب النفاقيّة ضدّ الإسلام والمسلمين.

 

والخلاصة أنّ من بقي يجب عليه أن يعدّ نفسه واحدًا من المجاهدين، يفكّر معهم ويحسب نفسه دائم الاتّصال بهم، ولا يجوز أن يكون لسان حاله حمد الله على إعفائه من الجهاد وعلى بقائه سالمًا بعيدًا عن ساحاته؛ بل ينبغي أن يكون دائم الغمّ والحزن على عجزه عن اللحاق بالمجاهدين.

 

وعليه يكون معنى قوله تعالى: "نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ": أن يكون المعذور

 

578

 


512

تفسير سورة براءة

خالص النيّة ومريدًا للخير لله ورسوله. والنصح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الالتزام بقيادته وتنفيذ جميع المقرّرات التي تصدر عنه وإعلان الطاعة الكاملة والوفاء للتعاليم التي تصدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. كما عليه أن لا يعدّ العفو وسقوط التكليف بالجهاد نعمةً؛ بل عليه تسخير كلّ طاقاته في خدمة الرسول وكأنّه واحدٌ من المجاهدين ولكن على جبهةٍ أخرى.

 

"مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ": تعدّ هذه العبارة بمنزلة التعليل لإسقاط التكليف ورفع الحرج عن الفئات التي ورد ذكرها في الآية. وتبيّن هذه العبارة أنّ هؤلاء المذكورين إذا كانوا من المحسنين وخالصي النيّة فلا عيب ولا ضير عليهم.

 

والسبيل هو الطريق العريض المفتوح، وعندما يقال: "لا سبيل على فلان"، يقصد أنّه في مأمنٍ لا يمكن الوصول إليه، أو مؤاخذته أو تعريضه للوم والعقاب. وقد تحوّل هذا التعبير إلى مصطلح جميل في لغة العرب.

 

وهذه الجملة مطلقة تُستخدم في موارد عدّة، ويستشهد الفقهاء بهذه العبارة من الآية في عددٍ من المباحث الفقهيّة، كمبحث الأمانة والوديعة، فإذا تلفت الوديعة من دون أن يكون الودعيّ مقصّرًا في حفظها، كما لو سرقها سارقٌ، فلا يُحكم عليه بالضمان؛ لأنّه محسنٌ، وما على المحسنين من سبيل. وينطبق هذا الحكم على الوديعة غير المضمونة.

 

والمحسنون في هذه الآية هم العاجزون عن الجهاد الذي لا يملكون المال أو القدرة البدنيّة الكافية. وتنبّه من أصابه نقصٌ بدنيٌّ أو يعاني من ضائقةٍ ماليّة، وتدعوه إلى أن لا يخرج نفسه من دائرة المحسنين. مثل هذا الشخص يعدّه الله محسنًا؛ لأنّ الله غفور رحيم، كما تختم الآية وتقرّر في حقّ جميع المؤمنين الذين أخلصوا النيّة وأرادوا الخير لله ورسوله.

 

ويثير استعمال كلمة غفور في هذه الآية التساؤل عن الداعي إلى استعمال هذه الكلمة، وهل يُعدّ تخلّف المعذورين عن الجهاد معصية حتّى تحتاج إلى المغفرة؟

 

 

579


513

تفسير سورة براءة

يكشف لنا التعمّق في معنى كلمة غفر عن مفهوم الستر والتغطية. ومن هنا تُسمّى الأداة التي يستر المقاتل نفسه بها "مِغفَرًا" لأنّها تستر الوجه والرأس. وعبارة "غافر الذنوب" تعني ساتر الذنوب والمعاصي. وفي بعض الأدعية نقرأ العبارتين "يا غفّار الذنوب" و"يا ستّار العيوب"، والمعنى إلى حدٍّ ما واحدٌ أو متشابه.

 

إذًا، "غفّار" تعني ستّار. والسؤال هو لماذا وُصِف الله بأنّه غفّار الذنوب؟ وخاصّة أنّ بعض الذنوب تكون في السرّ وبالتالي تكون مستورةً، فلا تحتاج إلى ستر.

 

توضيح ذلك، أنّ كلّ تكليف من التكاليف التي شرّعها الله تعالى، يضيف أداؤها نقطة تكامل في مسيرة الإنسان، وهي أشبه بلبنة في بناء الإنسان الكامل. وبالتالي فإنّ أداء كلّ تكليف هو لبنة تضاف إلى مشروع الإنسان الكامل، فإذا ترك الإنسان واجبًا من باب المعصية والمخالفة، فسوف يؤدّي ذلك إلى نقصٍ وخللٍ في هذا البناء المعنويّ للإنسان. أمّا المعذور فهو لم يرتكب معصية؛ ولكن في نهاية المطاف سوف يفضي هذا الترك إلى خلل في هذا البناء ويعيق تكامله، على الرغم من عدم تحميله المسؤولية أو تعريضه للوم والعقاب.

 

من باب المثال: عندما يقول الله تعالى: "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ"[1]، فذلك لأنّ الصلاة والصوم يؤدّيان إلى التعالي والرقيّ الروحيّ للإنسان. فالصوم يشدّ من عزيمة الإنسان ويجعله أقدر على التحليق في سماء المعنويّات. فإذا مرض الإنسان وعجز عن الصوم، فهل يمكن أن ينال ما يناله الصائم؟ بالتأكيد لن ينال لأنّه لم يعانِ ما عاناه الصائم من جوع وعطش، خاصّة عندما يكون النهار 16 ساعة في الصيف.

 

هذا المريض الذي ترك الصوم بسبب مرضه ليس عاصيًا، ولكنّه لم يحظَ


 


[1] سورة البقرة: الآية 45.

 

580


514

تفسير سورة براءة

 بالآثار والنتائج التي يحصل عليها الصائم. وهنا يتولّى الله أمر هذا المريض ويسدّ هذا النقص الذي أصاب مسيرة تكامله، وهذا هو سبب الحاجة إلى المغفرة. فالشخص الذي لا يسرّه سقوط الصوم؛ بل يغتمّ ويحزن لخسرانه ويتمنّى لو أنّه استطاع الصوم، مثل هذا الشخص يجبر الله له ما أصابه من نقص في مسيرة تكامله ويغطّي له النقص الذي أصابه بمغفرته ورحمته.

 

والمعفوّون من الجهاد، لا يعانون ما يعانيه المجاهدون في سوح القتال، والقاعدون محرومون من ثواب المجاهدين؛ ولكن حالة الحزن لعدم الخروج إلى الجهاد، لها آثارها ونتائجها، وهي تجبر الخسائر التي ألمّت بالعاجز، وهذا الجبر من آثار رحمة الله تعالى. ولعلّ استعمال كلمة "رحيم" في الآية يفيد أنّ هذا التدبير الخاصّ وهو المغفرة من تجلّيات الرحيميّة التي هي صفة خاصّة بالمؤمنين.

 

تصرّح هذه الآية بالعفو وسقوط التكليف بالجهاد عن الضعفاء والمرضى والفقراء. وقد يُطرح هنا سؤال: لماذا لم يجمع الله هؤلاء تحت عنوان واحد مثل "العاجزون" عن الجهاد؟ ولم يقل تعالى: لا حرج على العاجزين أو غير القادرين على الجهاد؟

 

وإذا أراد أحدٌ أن يجيب عن هذا السؤال يمكنه أن يقول إنّ استعمال عنوان عامٍّ واحدٍ يشمل الفئات الثلاث قد يفتح باب الاجتهاد في تفسير مصاديق العاجزين، وربّما تسوّل النفس الإنسانيّة لبعض الأشخاص أن يدّعوا العجز بهدف الاستفادة من العفو المذكور في الآية، وعندها يزداد عدد العاجزين! وفي بعض الحالات قد لا يريد الإنسان الكذب ولا يقصده، ولكنّه يقع في وهمٍ يؤدّي إلى اشتباه حاله فيحسب نفسه عاجزًا وهو قادرٌ. خاصّة في الموارد التي لا يوجد فيها معيارٌ واضحٌ ومحدّد يميّز القادر من العاجز.

 

غالبًا لا يقدر الناس على تقويم إمكاناتهم وقدراتهم. مع أنّ قدرات الناس عادةً أكبر ممّا يتوقّعون وأكبر من الموانع التي تواجههم. ويصدق هذا

 

581

 

 


515

تفسير سورة براءة

الأمر حتّى في القدرة البدنيّة، ويتّضح هذا في حالات الخوف من الموت أو غيره، ففي هذه الحالات تصدر عن الإنسان ردود فعل يظنّ أنه عاجزٌ عن مثلها في الحالات الاعتياديّة، فقد يقفز أو يصرخ أو يحمل شيئًا أو غير ذلك من الأعمال التي لا يقدر على مثلها في حالات الأمن. وهذا يكشف لنا عن أنّ قدرة الإنسان أكثر ممّا يتصوّر ويظنّ.

 

فقد أعطي الإنسان قدرةً تسمح له بالتحكّم في الطبيعة والسيطرة عليها. مثلًا: الشخص الضعيف الذي يحمل في يده مسدّسًا وفي مقابل شخص عظيم الجثّة قويّ العضلات، أيُّهما الأقوى؟ من الطبيعيّ أنّ الشخص المسلّح له اليد العليا. لا تقولوا الإنسان أصغر من الفيل! ولا أقلّ وزنًا من الأسد! فهذا الإنسان الأصغر حجمًا والأقلّ وزنًا استطاع بما أوتي من قدرات فكريّة وروحيّة تسخير الطبيعة بطرائق شتّى سمحت له باستغلال الذرّة وتحويلها إلى سلاح مدمّر، واستطاع بما أوتي من قدرة صيد الحيوانات البحريّة الضخمة القادرة على إغراق سفينة. هذه هي القدرة. إذًا الإنسان هو أقوى المخلوقات في عالم الممكنات، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ قدرة الإنسان لا نهاية لها.

 

لقد بذل الإنسان ما استطاع من جهد، وما عجز عن الوصول إليه حتّى الآن ناتج عن تقصيره، لو أراد لوصل، فالقاعدة هي: القدرة بحسب الإرادة.

 

ومن الأدلّة على صحّة ما نقول أنّ بعض التشريعات الإسلاميّة قد تبدو للوهلة الأولى أنّها أحكام ثقيلة على المكلّفين. فعندما يقرر الله تعالى أنّه لا يحقّ للإنسان أن يحبّ زوجته وأبناءه أكثر من حبّه لله. فهذا من التكاليف الثقيلة على النفس الإنسانيّة. وممّا يثير العجب أن يقدر الإنسان بعد هذه الدعوة الإلهيّة على التضحية بأولاده في سبيل الله. ومن العجيب أيضًا أنّ الإنسان الذي يمثّل حبّ الذات أحد الدوافع الأساسيّة نحو كثير من أعماله، عندما يُقال له: اقتل نفسك. تجده يقدم على ذلك مشتاقًا.

 

في إحدى معارك المسلمين مع اليهود استعصت قلعة من قلاع اليهود

 

582

 


516

تفسير سورة براءة

على الفتح. وخطّط المسلمون لفتح تلك القلعة، ولكنّ الخطّة كانت صعبة وقاسية، وقضت بأن يمثّل بأحد الأشخاص ويُرمى به في القلعة. أحد المسلمين أعلن استعداده لجدع أنفه وقطع أذنه والدخول إلى القلعة بأيّ طريقة وإقناع اليهود بأنّه كان محبًّا لهم ومؤيّدًا ولذلك جدع المسلمون أنفه وقطعوا أذنه، وبالتالي فإنّه سوف يكون موضع ثقتهم وترحيبهم، وعندما يجنّ عليه الليل يتسلّل ويفتح باب القلعة ويدخلها المسلمون. وحصل ذلك ودخل القلعة وأوهم أهلها بأنّه سوف ينقل لهم أسرار المسلمين وأخبارهم، ثمّ أقدم على فتح أبواب القلعة أمام المسلمين.

 

نعم، من الأمور اللافتة أنّ الإنسان الذي يحبّ نفسه إلى هذا الحدّ، يصير مستعدًّا للتضحية بذاته في سبيل الله. لو أعطيتَ مليون تومان لتفقأ إحدى عينيك هل تفعل؟ سوف تقول: ولماذا أفعل هذا؟ ولكن هؤلاء الناس الذين يحبّون أنفسهم إلى هذا الحدّ، عندما دعاهم الإسلام إلى سوح القتال وما فيها من تبعات جسديّة وماديّة، فعلوا ذلك بافتخارٍ وأنس.

 

الإسلام على الرغم من كلّ التكاليف الصعبة التي شرّعها يقول: "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"[1]. إذًا كلّ هذه التكاليف هي في حدود الوسع والقدرة على الرغم من ثقلها والعبء الذي ترتّبه على الإنسان. نعم قدرة الإنسان لا نهاية لها، جسمه صغير؛ ولكنّ فكره وقدراته العقليّة عظيمة وطاقته كبيرة. يمكن للإنسان أن يبقى أربعين يومًا من دون طعامٍ. ولكنّ القضية هي أنّ الإنسان يميل إلى التسهيل على نفسه. وما كشفته العلوم حتّى الآن هو أسهل الأمور.

 

خاصّية الطبيعية الإنسانيّة أنّ الإنسان يفشل عندما يُطالب بتكليف صعبٍ فيه مشقّة. وفي بعض الحالات يتخلّف الإنسان عن أداء تكليفه، ولا يرى لنفسه عذرًا، ولا يعتقد بأنّه معذورٌ، ويقولها بصراحة لا أريد أداء هذا العمل.


 


[1] سورة البقرة: الآية 286.

 

583


517

تفسير سورة براءة

وفي بعض الحالات يكون ملتزمًا بعقيدةٍ مّا، ولكن يدعوه الضعف إلى التعلّل بعذر مقبول في عقيدته ودينه ليبرّر لنفسه التخاذل والتقاعس عن أداء الواجب. ولهذا ربّما يظنّ كثيرٌ من الناس أنّهم معذورون غير قادرين على الجهاد، ونفس الإنسان قادرة على اختلاق الأعذار وتساعده على ذلك. وهذا واقع الحال. لاحظوا أوّل شهر رمضان فإنّ الإنسان العازم من أوّل الشهر على الصيام؛ على الرغم من كبر سنّه وضعف بنيته الجسديّة، تجد أنّ هذه الأعذار قليلة الأثر وهو يسعى للصيام وأداء هذا الواجب مهما كانت النتائج. أمّا الإنسان غير العازم على الصيام فإنّه يرى أقلّ الموانع عذرًا يسقط عنه وجوب الصوم.

 

ومهما يكن من أمرٍ، ربّما لم يستعمل الله تعالى مفهومًا عامًّا يصدق على الفئات الثلاث؛ كي لا يفتح باب الاجتهاد ويساعد ضعاف النفوس على عدّ أنفسهم عاجزين عن الجهاد معذورين. وبالتالي يبقى هذا الحمل الثقيل وهو واجب الجهاد ملقًى على الأرض لا أحد يتصدّى لحمله.

 

البحث الروائيّ

ينقل صاحب نور الثقلين عن الكافي حديثًا يبيّن فيه الإمام عليه السلام أنّ قدرة الناس أكبر وأعظم من التكاليف التي طالبهم الله بها:

عن أبي عبد الله عليه السلام: "وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدًا في ضيق. ولم تجد أحدًا إلّا ولله عليه الحجّة... وقال: وما أمروا إلّا بدون سعتهم، وكلّ شيء أمر الناس فهم يسعون له، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم؛ ولكنّ الناس لا خير فيهم، ثمّ تلا: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾"[1].


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 252.

 

584


518

تفسير سورة براءة

ووفق هذا الحديث، التكليف بالجهاد على الرغم من صعوبته ومشقّته، أقلّ من قدرة الإنسان ووسعه. ولم يكلّف الله الإنسان إلّا ما يقدر على أدائه. مثلاً لم يكلّف الله الإنسان الصوم إلى سنة؛ بل طالبه بالصوم مدّة شهر واحد في السنة.

 

 

585


519

تفسير سورة براءة

 

وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴿92﴾ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿93﴾

 

 

587


520

تفسير سورة براءة

شأن النزول

نزلت هاتان الآيتان في سبعة رجال من الأنصار. واللافت في قصّة هؤلاء الرجال أنّهم قصدوا رسول الله يطلبون منه الراحلة ومؤنة السفر، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عنده ما يعطيهم إيّاه. وورد في تفسير عليّ بن إبراهيم أنّهم أتوا إليه يطلبون منه حذاءً لأرجلهم[1]. وهذا مثير للإعجاب، فلو أنّهم كانوا يملكون الحذاء لخرجوا إلى الجهاد راجلين. على هذا الصنف من الرجال صلوات الله.

 

في بعض الحالات يكون الجهاد إجباريًّا، وفي هذه الحالة من الطبيعيّ أن يذهب بعض الناس؛ ولكنّ المهم واللافت أن تبكي ويسيل دمعك لتذهب إلى الجهاد. فهؤلاء المجاهدون كانوا يتمنّون الذهاب إلى مواجهة الروم. وقد استطاع هرقل ملك الروم هزيمة خسرو برويز قبل سنة، مع عظمة الدولة الإيرانيّة في ذلك الزمان؛ ولكنّ جيشه عجز عن مواجهة ثلاثين ألفًا من المجاهدين المسلمين، ففضّل الفرار من المواجهة وعدم خوض التجربة.

 

آية "وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ"، تتحدّث عن هذه العدّة من المشتاقين إلى الجهاد ونزلت فيهم وهم أشخاصٌ معفوّون من الجهاد بحكم الآية السابقة، ولا حرج عليهم؛ لأنّهم لا يملكون من المال ما يسمح لهم بتأمين الزاد والراحلة، ومع ذلك أتى هؤلاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه المساعدة في تأمين وسائل السفر ومقدّماته، فاعتذر منهم الرسول، وبيّن

 


 


[1] تفسير القمّيّ، ج 1، ص 293.

 

 

589


521

تفسير سورة براءة

لهم أنّه لا يجد بين يديه ما يحملهم عليه، فانقلبوا ونفوسهم حزينة وعيونهم مغرورقة بالدمع أن لا يجدوا ما ينفقونه على مقدّمات السفر إلى الجهاد.

 

"إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء": الفقراء الذين لا يجدون لا بأس عليهم، وإنّما أصحاب المشكلة هم الأغنياء الذين يطلبون الإعفاء من الجهاد وهم أغنياء قادرون على تأمين مخارج السفر وعدّة الجهاد.

 

"رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ": وقد رضي هؤلاء الأغنياء أن يبقوا في المدينة مع المتخلّفين عن ساحة الجهاد لأيّ سبب من الأسباب. وقد تقدّم هذا التعبير في الآية 87.

 

"وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ": طبع أيّ ختم الله على قلوبهم وأقفلها؛ ولأجل هذا فهم لا يعلمون.

 

إذا أردت أن تعرف المعنى الدقيق لكلمة "طبع"، تصوّر شابًّا متمرّدًا فاسدًا يعود آخر كل ليلة سكرانَ إلى البيت، أو يُبتلى بالإدمان على الهروئين، وينفق أمواله على هذه الآفة، ولهذا الشاب أمٌّ أو أخٌ شفيقٌ يحاولان أن يشرحا له أضرار هذا الانحراف السلوكيّ؛ ولكنّه لا يفقه شيئًا ممّا يقولان.

 

أنا وأنت قد نتعجّب من سوء حال مثل هذا الشخص الذي مهما قيل له في بيان سوء حاله لا يلتفت ولا يعي. وهو نتيجة هذه الأعمال التي يقدم عليها تسوء سمعته في المجتمع؛ ولكنّه مع ذلك لا يلتفت ولا يهتمّ. "طبع الله..". أيّ يعجز هؤلاء عن إدراك سوء حالهم بسبب انغماسهم في اتّباع الأهواء والشهوات، ما يؤدّي إلى عدم إدراكهم فداحة التخلّف عن الجهاد. أمّا الإنسان المؤمن فإنّه يدرك بوضوح أنّ مقامه في الدنيا لن يبقى إلى الأبد، ربّما يعمّر خمسين سنة أخرى؛ ولكنّها سوف تنقضي في نهاية المطاف وهي مشحونة بالشدائد. أمّا إذا خرج إلى الجهاد، فقد يتحمّل بعض الصعوبات والمشاقّ؛ ولكنّ تحمل المصاعب والمشاقّ يعوّض عندما يحشره الله يوم القيامة مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين.

 

 

590


522

تفسير سورة براءة

وحسابات الربح والخسارة في مثل هذه المواقع تقتضي الخروج إلى الجهاد؛ ولكنّ المنافقين لا يدركون ولا يتقنون هذه المحاسبة، ولا يفهمون أنّ هذه اللذّة العابرة التي يحصلون عليها بالقعود سوف يعقبها خسرانٌ أبديٌّ.

 

 

591


523

تفسير سورة براءة

 

 

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94﴾ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿95﴾ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿96﴾

 

 

592


524

تفسير سورة براءة

 

 

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94﴾ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿95﴾ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿96﴾

 

 

592


525

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تتحدّث هذه الآيات الثلاث عن المنافقين الذين يتعلّلون ويختلقون لأنفسهم الأعذار للتخلّف عن الجهاد. وهي تأتي بعد ما تقدّم من آيات تبيّن حالة آخرين يفعلون عكس ذلك تمامًا.

 

وفي هذه الآيات نرى أنّ المنافق الذي لا يعتقد بالجهاد ولا يرى وجوب الإعداد للمشاركة في هذا الأمر الخطير، لا يملك الشجاعة الكافية للتصريح والكشف عن حقيقة اعتقاده، وتبرير غيابه وعدم حضوره وسط المجاهدين بعدم الاعتقاد.

 

تعلّل المنافقين للتخلّف عن الجهاد

تحتوي هذه الآيات الثلاث على بيان ثلاثة تصرّفات للمنافقين موجودة في جميع المنافقين على الدوام، وتوصي المؤمنين بثلاث ردود فعلٍ في مقابل تصرّفات المنافقين.

 

التصرّف الأول هو التعلّل واختلاق الأعذار ونحتها.

التصرّف الثاني هو احتماء المنافقين من تعرّض المؤمنين لهم بالقسم والأيمان؛ وذلك لأنّه عندما ينكشف حال المنافق، فإنّ الألسنة سوف تبدأ الحديث عنه والإشارة إلى سوء فعاله.

 

التصرّف الثالث هو محاولة المنافقين كسب رضا المؤمنين، واستمالة قلوبهم وتأليفها، وإزالة الكدر الذي تركه النفاق والتخلّف عن الجهاد

 

 

594

 


526

تفسير سورة براءة

بينهم وبين المؤمنين. وبالتالي رفع موجبات قلق المؤمنين وشكّهم فيهم.

 

وفي مقابل التصرّفات الثلاثة التي تصدر عن المنافقين توصي الآية المؤمنين بردود فعلٍ محددة. فقد أوحى الله إلى نبيّه وأعلمه أنّه عندما يعود إلى المدينة سوف يأتي إليه المنافقون يعتذرون بين يديه، كما أخبره أن لو عدتُم مهزومين فلن يعتذروا إليكم؛ بل كانوا سيطلقون العنان لألسنتهم بالنيل من المسلمين. وأوصى الله نبيّه بأن لا يقبل لهم عذرًا، بل أوصاه بأن يجعلهم يائسين من قبول أعذارهم الواهية: "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ". وهذا من المطالب الرئيسة التي تتضمّنها الآية.

 

فقد بيّن الله تعالى في الآية 61 من سورة التوبة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، وفي هذه الآية أعلن بصراحة أنّ نبيه وسائر المسلمين لا يؤمنون للمنافقين؛ ولهذا نهوا عن الاعتذار.

 

فمن الأصول الاجتماعيّة المسلّم بها في الإسلام أنّ كلام الفاسق لا يؤخذ به، والفاسق هو الشخص الذي خرج من حظيرة الدين والتديّن، ومثل هذا الشخص لا حيثيّة ولا شخصيّة اجتماعيّة تامةّ له. وقد قلنا آنفًا في مناسبة أخرى إنّ المجتمع الذي يريد أن يعيش حياةً هانئة، ويريد أن تسود الأخوّة والمودّة بين أعضائه، عليه أن لا يقيم لكلام الفاسق وزنًا ولا قيمة، سواء كان كلامه إخبارًا أم تنظيرًا أم غير ذلك. وهذا ما تقرّره الآية المعروفة بآية النبأ[1]. وهذا المبدأ نجده شاخصًا في هذه الآية أيضًا.

 

الحالة التي كانت سائدة بين المسلمين والمنافقين إلى حين نزول هذه الآيات هي حالة المسايرة والمداراة. وقد كانت عودة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من معركة تبوك حدًّا فاصلًا وبداية فصل جديد في العلاقة مع المنافقين. وتقرّر منذ ذلك الحين انتهاء أمد المداراة. وطولب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصارح المنافقين ويعلن لهم بأنّ كلامهم من الآن فصاعدًا لا قيمة له، وحتّى اعتذارهم لن يقبل. ومنذ تلك

 

 


[1] سورة الحجرات: الآية 6.

 

595


527

تفسير سورة براءة

اللحظة فقد المنافق كلّ اعتبار وحيثيّة معنويّة في المجتمع الإسلاميّ.

 

وهذا درس لنا نحن المسلمين المعاصرين أيضًا يفهمنا أنّ كلام المنافق الذي لا يبالي بالدين ولا يهتمّ لأمره، ليس حجّة ولا ينبغي التعويل عليه. وإنّ عملنا بهذا المبدأ والتزامنا به سوف يجعلنا نخطو خطوة كبيرة إلى الأمام.

 

اطّلاع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على خطط المنافقين

لماذا ظهرت حالة انعدام الثقة عند المسلمين تجاه المنافقين؟ يجيب الله في هذه الآية عن هذا السؤال المفترض، بأنّ الله أخبر رسوله عن تآمر المنافقين مع اليهود: "قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ". ولعلّ حرف الجر "مِنْ" في الآية للتبعيض؛ أيّ إنّ الله أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بشطر من أخبار المنافقين، أو كما يرى بعض المفسرين أنبأهم بأخبارهم المهمّة والأساسيّة.

 

"وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ": لحن الخطاب في هذه العبارة فيه شيءٌ من التهديد للمنافقين. فالآية تخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتطلب منه أن يقول للمنافقين: من الآن فصاعدًا لن نؤمن لكم ولن نثق بكم، وقد علمنا ما مضى من أخباركم ومؤامراتكم، وسيطّلع الله ورسوله على ما ستفعلونه لاحقًا، وسوف تكون سيرتكم كتابًا مفتوحًا يقرأ النبيّ كلّ تفصيل فيه، ولم يعد بإمكانكم التخفّي والاختباء وراء الأيمان وإظهار الإيمان. وهذا ما حصل فعلًا في قضيّة مسجد ضرار الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهدمه.

 

"ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ": عدم الثقة وفقدان الإيمان للمنافقين هو ردّ الفعل المناسب والطبيعيّ تجاه أعمال المنافقين في الدنيا. وبعد أيّام الدنيا المعدودة التي سوف تقضونها بيننا سوف تنتقلون إلى عالم الآخرة وتقفون بين يدي الله الذي لا يخفى عليه شيء مهما بطن.

 

"الشهادة" هي الظهور والوضوح. فالله تعالى يعلم ظاهر أعمالكم كما يعلم ما تضمرون في سرّكم، أو ما تأتونه في الخفاء من أعمال.

 

596

 


528

تفسير سورة براءة

"فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ": وسوف يعرض الله لكم، عندما تقفون بين يديه، صحيفة أعمالكم، وينبّئكم بما اقترفت أيديكم في الحياة الدنيا. ومن الواضح أنّ هذا الإخبار ليس من باب إخبار العالم للجاهل؛ بل من إخبار العالِم للعالِم.

 

في بعض الحالات قد يُنقل للإنسان خبرٌ لا علم له به، وفي حالات أخرى يعرض عليه ما يعرفه ويوضع بين يديه. وهذا إخبارٌ أيضًا ولكنّه ليس خبرًا يرفع جهله، ويحدث له علمًا جديدًا؛ لأنّه كان عالمًا به من قبل. وتترتّب على هذا الإخبار مصالح جمّة من حيث إنّه يترك أثره في النفس ويخضعها للحقّ، كما لو صارح السيّد عبده وقال له: أنت فعلتَ كذا. فالهدف من الإخبار في هذه الحالة ليس هو الإعلام؛ بل تحصيل حالة الإذعان والاعتراف. وبحسب هذه الآية فإنّ الله تعالى يعتمد مثل هذا الأسلوب مع المنافقين.

 

وثمّة احتمالٌ آخر في تفسير قوله تعالى: "فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"، وهو أنّ الله تعالى سوف يخبركم بما غاب عنكم. فهم في الدنيا تملّصوا من الخروج إلى الجهاد بهدف البقاء على قيد الحياة لتطول أعمارهم وينعموا بها، ولكن خفي عنهم أنّ هذا التهرّب سوف تكون عاقبته سوء الحظّ والبؤس في الحياة الدنيا. والمنافق كان يبخل ويمسك يده عن الإنفاق خوفًا من الفقر والفاقة؛ ولكنّه في الحقيقة غافلٌ عن أنّه أخطأ الاختيار حيث رجّح الدنيا على الآخرة.

 

وبناءً على هذا الاحتمال، وعلى الرغم من أنّ الإنسان الواعي يعلم عادةً بما يعمل؛ فإنّه في كثير من الحالات يغفل عمّا سوف تؤول إليه خياراته. وفي هذه الحالة سوف يطلعه الله عز وجل على واقع الحال ويكشف له ما غاب عن ذهنه، سوف يقول له إنّك عندما أمسكت لم تتقن الحساب ولم تكن دقيقًا، فقد بعت الآخرة بالدنيا وتلك صفقةٌ خاسرة، وعندما فررت من الجهاد وتهرّبت منه بهدف أن يطول عمرك أيّامًا معدودة، فإنّك خسرت في هذه المعاملة أيضًا وفضّلت الدنيا العابرة على الحياة الأبديّة الخالدة.

 

"سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ": تخبر الآية عن التصرّف الثاني الذي سوف يقدم

 

597

 


529

تفسير سورة براءة

عليه المنافقون وهو الحلف بالله تعالى، لحماية أنفسهم من تعرّض المؤمنين. فتكشف الآية للمسلمين عن أنّ المنافقين سوف يعتمدون استراتيجيّة الحلف والأيمان الكاذبة عندما تعودون إلى المدينة أو عندما تلتقون بهم في أيّ مكانٍ آخر.

 

والمراد من الإعراض في عبارة: "لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ" الإعراض الطيّب والحسن. وذلك أنّ هدف المنافقين من الحلف هو أن ينالوا صفح المسلمين وغضّ نظرهم عنهم، وعدم لومهم أو تأنيبهم. وتدعو الآية المسلمين إلى أن يعرضوا عنهم: "فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ"، وكأنّ الآية تدعو المؤمنين إلى تلبية رغبة المنافقين، ولكن بأسلوب آخر. وهذا لونٌ من ألوان الفصاحة والبلاغة القرآنيّة. وبعبارةٍ أخرى: سوف يقسم المنافقون بالله لتصدّقوهم وتكفّوا عنهم، والمطلوب منكم أيّها المسلمون فعل ذلك، فأعرضوا عنهم وأديروا لهم ظهوركم. وهذا إعراضٌ ولكنّه إعراض مختلفٌ عن الإعراض المطلوب من قبل المنافقين، والقرينة الدالّة على استفادة المعنى السلبيّ من هذا الإعراض هي تتمّة العبارة التي تشبه التعليل وهي قوله تعالى: "إِنَّهُمْ رِجْسٌ".

 

وقد استُعملت كلمتا رجس ونجس في القرآن مرّتين لوصف البشر، مرّةً في وصف المشركين والمرّة الثانية في وصف المنافقين في هذه الآية. وهذا شكلٌ من أشكال الاصطفاف الذي يدعو إليه القرآن في الدنيا، بأن لا يكون المؤمنون والمنافقون في صفٍّ واحدٍ، وفي الآخرة أيضًا من الطبيعيّ أن تفترق جبهة الإيمان وصفّه عن جبهة النفاق وصفّه.

 

"وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ": مستقرّ المنافقين في الآخرة ومأواهم الأخير هو جهنّم، وهو الجزاء المتناسب مع سيرتهم وسلوكهم في الدنيا.

 

عدم رضا الله عن المنافقين

"يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ": لا يكتفي المنافقون بالإعراض عنهم؛ بل

 

 

598

 


530

تفسير سورة براءة

يحلفون لنيل هدفٍ آخر هو الرضا. ويبدو أنّ الطمع جزءٌ من طبع المنافق، فهو يسعى لتحقيق أقصى الأهداف بالتدريج. وها هم يتابعون الحلف والقسم لتصفية قلوبكم ونيل رضاكم.

 

ولم يحذّر الله المؤمنين من الرضا عن المنافقين بطريقة مباشرة؛ بل اختار أسلوبًا غير مباشرٍ لإيصال هذه الرسالة، وهذا الأسلوب أبلغ وأوضح دلالةً على التحذير من الرضا، وذلك بأن قال تعالى: "فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ". وتعني هذه العبارة أنكّ حرٌّ وقرارك بيدك، ولكن يجب عليك أيّها المسلم أن تتّبع في رضاك وسخطك رضا الله وسخطه، فاحذر أن يكون رضاك عن شخصٍ لن يرضى الله عنه.

 

وفي هذه الآية أيضًا وُصف المنافقون بأنّهم فاسقون خارجون عن الدين. وقد استفاد المفسّرون من هذه الآية النكتة التي أشرنا إليها وهي التحذير من الرضا عن المنافقين. ومن دلالات هذه الآية ومراميها أنّ الشخص الذي لا يهتمّ لرضا الله ولا يسعى لكسبه، فلن يأذن الله لعباده بأن يرضوا عنه. وهذه قاعدة عامّة يندبنا الله إليها ويلفت نظرنا إلى فحواها.

 

وإذا تأمّلنا في هذه القاعدة لوجدنا صداها في المجتمع. فكثيرٌ من الأشخاص لا يلتفتون إلى رضا الله، ويجعلون أكبر همّهم تحصيل رضا الناس. وقد ينال الإنسان رضا بعض الأشخاص وإيمانهم به؛ ولكنّ هذا الرضا لن يدوم إلى الأبد؛ وذلك لأنّ الناس في نهاية المطاف يكتشفون ويفهمون ويتحوّلون من الرضا إلى عدم الرضا. ونحن نتحدّث عن المجتمعات الإسلاميّة، لا تذهبوا إلى محلٍّ آخر.

 

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"[1].

 

 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 107.

 

599


531

تفسير سورة براءة

 

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿99﴾

 

600


532

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

تتحدّث هذه المجموعة من الآيات عن فئة من المنافقين والمختلّفين عن الجهاد، وهم المنافقون الذين يسكنون البادية، ويُطلق عليهم اسم الأعراب في القرآن الكريم. وفي هذه الآيات الثلاث عرض لمجموعة من خصال هذه الجماعة البشريّة وخصائصها.

 

فضاء نزول الآيات

قبل الدخول في المباحث اللاحقة المرتبطة بتفسير هذه الآيات، لا بدّ من التساؤل عن الحكمة التي لأجلها فتح الله حسابًا جديدًا لهذه الجماعة من الناس، ولماذا ذكرهم باسمهم وميّزهم عن سائر المنافقين.

 

زمان نزول هذه الآيات حوالي السنة الثامنة للهجرة، تحقّقت على يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتوحات عظيمة تركت صدًى واسعًا في شبه الجزيرة العربيّة، وهذه الانتصارات الكبرى هي: فتح مكّة والطائف. وبعدهما حصل التفات المسلمين إلى الروم الشرقيّة وعودتهم من هذه الحرب منتصرين. وبالتالي فإنّ الدولة الإسلاميّة في تلك اللحظة كانت مختلفةً عمّا كانت عليه قبل ثلاث سنوات.

 

وقت نزول هذه الآيات كان الإسلام صاحب نفوذ، وكانت المدن الكبرى في الجزيرة العربيّة مثل مكّة والمدينة والطائف تحت سلطة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى حدٍّ كبيرٍ. وقد أدّى ذلك إلى أن يشعر العرب الذين كانوا يسكنون في تلك الأكناف -مهما كان الدين الذي يعتنقونه- بأنّ عليهم مهادنة الإسلام

 

602

 

 


533

تفسير سورة براءة

 

 منهم حمل عبء الرسالة على عواتقهم في تلك الفترة وما بعدها، وقد تلقّى هؤلاء تعاليم الإسلام من النبيّ صلى الله عليه ومسايرته، وحتّى لو لم يقصدهم داعية ليدعوهم إلى الإسلام، كان بعضهم يشعر بأنّ عليه اعتناق الإسلام. ومن هنا تنقل كتب السيرة والتاريخ أنّ القبائل العربيّة كانت تأتي وفوداً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتعلن إسلامها بين يديه، وذلك في السنتين الثامنة والتاسعة للهجرة. وبغضّ النظر عن صدق إيمان هؤلاء أو عدم صدقه، ولكنّ هذا الوفود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعني الإذعان لسلطة الإسلام والدخول تحت رايته.

 

وبناءً عليه، نزلت هذه الآيات في جوٍّ كانت القبائل العربيّة تأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من خارج مكّة والمدينة والطائف، وكثيرٌ من هؤلاء من أهل البادية وسكّان الصحراء، وربّما لا نبالغ إذا قلنا إنّ عدد حديثي الإسلام هؤلاء كان أكبر من عدد المسلمين الذين أسلموا قبل تلك الفترة. وبالتالي كانوا يشكّلون عدديًّا ثقلًا مهمًّا في المجتمع الإسلاميّ.

 

ومن جهة، كانت السمة الغالبة على الأعراب بحسب القرآن الكريم هي سمة عدم عمق الإيمان: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾[1]. فهذه الآية تكشف عن عدم تجذّر الإيمان في قلوب الأعراب وما صدر عنهم هو الإسلام فقط، وكلمة إسلام هنا تعني التسليم والإذعان. والإسلام لا يقبل التسليم الجسديّ؛ بل يطالب بالتسليم الفكريّ والروحيّ، الأمر الذي لم يكن متوافرًا عند الأعراب في ذلك الزمان. وعليه كان المجال الحيويّ الذي يسرح فيه الإسلام في تلك الفترة التاريخيّة مسرحًا فيه عددٌ كبيرٌ من الأشخاص من غير ذوي الإيمان العميق، وهم الأعراب مع ما يحملون من قسوة وشدّة.

 

ومن جهة أخرى، كانت تقطن المدينة حول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جماعة أسلمت مبكّرًا ولها في الإسلام قدمٌ راسخةٌ، وهم صادقو الإسلام عميقو الإيمان، ويتوقّع وآله وسلم وترسّخت في نفوسهم.

 

 


[1] سورة الحجرات: الآية 14.

 

 

603


534

تفسير سورة براءة

وهذه حالة عامّة تنطبق على جميع المجتمعات البشريّة التي تتأسّس على الفكر والعقيدة، فئة منها تمثّل النواة المخلصة التي تحمل أعباء المجتمع على أكتافها، وتحمل همّ رسالته في عقلها وفكرها، وتحرص على أن لا تنحرف المسيرة أو تتعرّض تعاليم الرسالة للتحريف. ومن الطبيعي أنّ هذا المستوى من الإحساس بالمسؤوليّة ليس موجودًا عند جميع الناس، بل هو عند النخبة المؤمنة وحدها.

 

وعلى الرغم من أنّ الجميع مسؤول ولا يحقّ لأحد أن يخلي عاتقه من المسؤوليّة، ولكنّ طبيعة الأمور تقتضي مثل هذا. ففي داخل الأسرة لا يتساوى جميع أعضاء الأسرة في تحمّلهم مسؤوليّة الحضن الأسريّ الذي يحتويهم، فالشابّ مثلًا لا يتساوى مع الطفل في إحساسه بالمسؤوليّة.

 

ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ مدينة الرسول كانت بيئة لجماعتين من الناس، إحداهما جماعة قدامى المؤمنين، والجماعة الأخرى هي جماعة حديثي الإسلام، ومن الطبيعيّ أنّ من يتوقّع منها حفظ الرسالة وحمايتها، وتحمّل أعبائها هي الفئة الأقدم إسلامًا.

 

وهذه الآيات وما قبلها وما بعدها، تهدف إلى توعية المؤمنين الأصليّين وأهل الإيمان الحقيقيّ، بالبيئة التي يعيشون فيها وبأهل المجتمع الذي يحتضنهم؛ ليكونوا على قدر المسؤوليّة فيعرفوا زمانهم ومكانهم ويعرفوا معاصريهم ومواطنيهم. ومن هنا، تحدّثت الآيات السابقة عن المنافقين أو ضعاف الإيمان؛ ليعرف الراسخون في الدين كيف يتعاملون مع هذه الجماعة. وفي هذه الآيات يكتمل المشهد بالحديث عن جماعة أخرى هي جماعة الأعراب.

 

والهدف الأساس من هذه الآيات التعريف بخصائص الأعراب الذين كانوا -كما قلنا- جماعةً كبيرة العدد تسكن في البادية حول المدينة، ومن الطبيعيّ أن تعرف النخبة الإيمانيّة خصائص هذه الجماعة وصفاتها كي تتقن التعامل معها.

 

 

604

 


535

تفسير سورة براءة

ويعطينا القرآن الكريم في هذه الآيات درسًا في علم الاجتماع، وعلم النفس، والإناسة (الأنثروبولوجيا). مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتابًا في علم الاجتماع ولا في غيره من العلوم، فهو كتابُ هداية فحسب. وإذا كانت فيه التفاتات اجتماعيّة أو نفسيّة أو غيرها، فهي وسائل لتحقيق هدف الهداية. وما يكشف عنه القرآن في علوم أو معارف يهدف أوّلًا وبالذات إلى الهداية وتحقيق الحياة الطيّبة للإنسان.

 

ذكر أوصاف أهل البادية

ثمّة آيات تمدح الأعراب وأخرى تذمّهم، والهدف من هذه الآيات هو الوصف والبيان ليعرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون كيف يتعاملون مع هذه الفئة الإنسانيّة، وليس القرآن بصدد الذمّ أو تشويه سمعة هؤلاء الناس.

 

عندما تريد إطلاع شخصٍ على أوضاع جماعة بشريّة، يجب عليك أن تبيّن له خصائصها السلبيّة والإيجابيّة. وهذه الآيات في هذا السياق تمامًا، فليس الهدف منها تشويه صورة الأعراب ولا تحسينها، وإنّما تهدف إلى توصيف أوضاعهم النفسيّة والروحيّة، ليتمكّن مربّيهم من تخليص نفوسهم من الشوائب بالتربية الإسلاميّة.

 

إذًا الآيّة الأولى كأنّها بصدد خطاب المسلمين الحقيقيّين لتدعوهم إلى الالتفات وتثير انتباههم إلى خصائص سكّان البادية. وتعرّفهم إلى أمراضهم الروحيّة ليتمكّنوا من تربيتهم ومعالجة آفاتهم. وبهذا البيان تظهر الصلة بين هذه الآيات وما قبلها، على الرغم من أنّ المفسّرين لم يتوقّفوا عند هذه النقطة ولم يلفتوا إليها.

 

الخاصّية الأولى لأهل البادية: تفوّقهم في الكفر والنفاق

الخاصيّة الأولى التي تكشف عنها الآية من خصائص الأعراب أنّهم

 

605

 


536

تفسير سورة براءة

أشدّ وأرسخ قدمًا من أهل المدن في النفاق إن كانوا منافقين وفي الكفر إن كانوا كافرين: "الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا".

 

انغلاق المجتمعات القرويّة وضيق أفقها، يساعدان على نموّ التطرّف ويساعدان على إثارة العصبيّات والتنازع، والتحاسد بين الناس. ومن عادة أهل القرى التمسّك بالتقاليد أكثر من أهل المدن. ويظهر هذا الأمر حتّى في اللهجة، فإذا أردت أن تعرف أصول لهجة معيّنة عليك أن تذهب إلى القرى لتتعرّف على هذه اللهجة في صفائها وأصولها الأوّلية. وذلك أنّ أهل المدن ونتيجة الاختلاط بعدد كبير من الناس تتغيّر لهجتهم. وكذلك أيضًا نجد أنّ عبادة الأصنام في القرى بقيت مدّة أطول من بقائها في المدن.

 

والقرينة المساعدة على فهم هذا المطلب من الآية الجملة اللاحقة حيث يقول تعالى: "وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ"، وتفيد هذه الجملة أنّ الظروف الطبيعيّة التي كان يعيشها الأعراب في تلك الفترة حالت دون تلقّيهم التعاليم الإسلاميّة كما تلقّاها أهل المدينة. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ فالموجات الثقافيّة تضرب في المدن أوّلاً وتصل تردّداتها إلى الأماكن البعيدة أضعف.

 

فالمسلم الذي يعيش في المدينة في جوار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويمكنه في أيّ ساعة شاء أن يسأل عمّا أشكل عليه ويتعرّف إلى مفهوم أو تعليم من تعاليم الدين، من الطبيعيّ، أن يكون هذا المسلم أوسع أفقًا وأرسخ قدمًا في تعاليم الدين من الشخص الذي يسكن في البادية بعيدًا عن وهج النبوّة وألقها، أو وصله ذلك بواسطة الدعاة الذين كانوا يذهبون لتعليم الناس خارج المدينة.

 

بعض الآداب توجد إثر الحضور في الاجتماعات الكبرى، وهذه الآداب والاعتباريّات الحسنة قد لا توجد في القرى. فإذا قرع سمع البعيدين عن المدينة أمرٌ لم يقبلوا الإذعان له بسهولة. والآية لا تتحدّث عن أصل وجود النفاق والكفّار بين الأعراب، بل تتحدّث عن شدّة نفاقهم وشدّة كفر الكافرين منهم. والأمر ينطبق على الإيمان أيضًا، فالمؤمن البدويّ أشدّ ثباتًا

 

 

606

 


537

تفسير سورة براءة

في الإيمان من المؤمن المدنيّ. وليس بالضرورة أن يكون هذا أمرًا حسنًا، فقد يكون في بعض الحالات جمودًا وتحجّرًا يحول بين الإنسان وقبول الأفكار الجديدة أو القدرة على الاستماع والتفاعل معها. فإذا سمعوا فكرة جديدة لم يستسيغوها بسهولة، وإذا قبلوها عضّوا عليها بالنواجذ. وربّما كان أحد أسباب هذا الأمر هو الظلم الذي يتعرّضون له.

 

وهذه الآية تبيّن الروح الحاكمة على المجتمع البدويّ في تلك الفترة الزمانيّة، وتثير الوعي في المسلمين بهذه الخصائص ليعرفوا كيف يتعاملون مع أصحابها. وحيث إنّ هؤلاء تعرّضوا للظلم الثقافيّ والعلميّ ولم يحظوا بما حظي به أهل المدن، كان فكر هؤلاء قابلًا للتطوير والتربية؛ ولكنّهم لم ينالوا قسطهم من ذلك وبقوا كما هم، فكان جديرًا بهم ومن الطبيعيّ لهم أن لا يعلموا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

"وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ": الله تعالى حكيم وعليم بأحوال الأعراب، وهو يزوّدك من معين حكمته وعلمه بمسائل ويهديك إلى حلول ناجعة، ويبيّن لكم أيّها المسلمون ما تحتاجون إليه، ويشرّع الحكم المناسب للموضوعات والقضايا التي تواجهكم.

وهذه الجملة أيضًا فيها إشارة إلى تلك الأوضاع التي كانت مقارنة لأحداث معركة تبوك، فقد كان الأعراب فئتين: إحداهما فئة الأعراب الأغنياء الذين كانوا يشعرون أنّ ما ينفقونه على الحرب هو غرمٌ وخسارة يتكبّدونها، والفئة الثانية هي أولئك الذين يرون أنّ ما ينفقونه في سبيل الله هو ربحٌ ومغنمٌ ومنشأ بركة. والعلم والحكمة فيهما إشارة إلى هذه النقطة وسيأتي مزيد توضيح لها.

 

الخاصّية الثانية للأعراب: اعتقادهم بأنّ الصدقة خسارة

تشير الآية الثانية إلى خاصّية نفسيّة وروحيّة أخرى من خصائص الأعراب. وهذه الخصلة الروحيّة منشأها البعد والاغتراب عن الفكر

 

607

 

 


538

تفسير سورة براءة

الإسلاميّ وأمواجه الثقافيّة. كان يعتقد بعض الأعراب بأنّ ما ينفقونه من صدقة هو "مغرمٌ" أيّ خسارة. وبالتالي كانوا يتمنّون السوء للمسلمين؛ كي لا يأتي بين الفينة والفينة من يطلب منهم الصدقة وإيتاء الزكاة. وسيغمرهم الفرح والسرور لو أنّ المسلمين عادوا مهزومين من الحرب، أو أنّ آفةً مّا تضرب المدينة فيرتاحون منها ومن أهلها.

 

"وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا": تكشف لنا هذه الآية عن فئة من الأعراب تعتقد أنّ الإنفاق في سبيل الله خسارة وغرامة يتحمّلونها للمسلمين، ويرون أنّهم مجبرون على دفعها للعاملين على الزكاة عندما يأتون إلى مضارب خيامهم فيطلبون منهم إيتاء الزكاة وإنفاق بعض أموالهم في سبيل الله.

 

ولعلّهم كانوا مصيبين، فدافع الزكاة إذا لم يكن يتوقّع من الله الأجر والثواب، ولم يكن مقتنعًا بوجوب دفع الزكاة، مثل هذا الشخص لن تكون الزكاة بالنسبة إليه إلّا غرامةً. وفي المقابل من يرى أنّ الزكاة واجب شرعيّ تُسدّ به ثغرة في الاجتماع الإنسانيّ، ووسيلة من وسائل رفع احتياجات المجتمع الإسلاميّ، مثل هذا الشخص سوف تكون الزكاة بالنسبة إليه غنمية ومكسبًا في الدنيا والآخرة.

 

توقّع الأعراب نزول البلايا على المسلمين

"وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ": الدوائر جمع دائرة وهي صروف الزمان التي تأتي مرّة بالخير ومرّة بالشرّ. أو فلنقل هي البلايا التي تنزل بالإنسان فتنقلب أحواله من حال إلى حال. وسبب هذا التربّص والانتظار أنّ المسلمين بالنسبة إلى هذه الفئة من الأعراب نذير خسارة لمقدار من أموالهم بين فترة وأخرى، فكانوا يتمنّون لو أنّ أحوالهم تنقلب ويرتاحون من التكاليف الماليّة التي يضعونها عليهم. وفي المقابل يجب على المسلمين أن يبيّنوا فلسفة الإنفاق والهدف منه؛ ولا شيء يرفع مشكلة الجهل أفضل من بيان العلّة

 

608

 


539

تفسير سورة براءة

والسبب الذي شُرِّعت بعض الأحكام من أجله.

 

"عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ": في هذه العبارة احتمالان، أحدهما أن تكون جملة خبريّة، بأن يكون المراد الإخبار عن مآل أمور الأعراب وما سوف يصيبهم ولو بعد حين. والاحتمال الثاني أن تكون جملة إنشائيّة دعائيّة يدعو الله فيها على الأعراب بأن يؤول أمرهم إلى السوء.

 

والنتيجة المترتّبة على كلا الاحتمالين واحدةٌ. فالمخبر-بناءً على الإخبار- هو الله، والداعي -بناءً على الدعاء- هو الله تعالى. وما يخبر الله به سيقع حتمًا، وما يدعو الله بحصوله سوف يحصل قطعًا. فالأحكام التكوينيّة الإلهيّة لا تتخلّف. وبالتالي، بحسب هذه العبارة من الآية ستكون عاقبة الأعراب عاقبة سوء.

 

وبناءً على هذا، على الأعراب المنافقين الذين ينتظرون أو يتمنّون البلاء وسوء الأحوال للمسلمين، أن يعلموا أنّ العاقبة السيّئة سوف تكون من نصيبهم؛ وذلك لأنّ الإسلام على حقّ، والحقّ دائمًا يسير إلى الأمام، وجبهة الباطل مهما طال بها الزمن مآلها إلى الانحدار والضعف.

 

مضافًا إلى هذا، فإنّ قوّة شوكة الإسلام ستؤدّي إلى مزيد من السلطة الإسلاميّة والمطالبة بالزكاة، أو جرّهم إلى المواجهة العسكريّة سواء مع المسلمين أم في مواجهتهم، وسوف يكون ذلك كلّه مصيبة تحلّ بهم.

 

أضف إلى ذلك كلّه أنّ هؤلاء الأعراب يعيشون في بيئة مشحونة بالنفاق وقيمه، والعيش في مثل هذه البيئة يأتي لأهلها بالمصائب والآلام من كلّ حدبٍ وصوبٍ. وعليه لن تدور دائرة السوء إلّا عليهم.

 

"وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ": يخبر الله في هذه العبارة عن سمعه وعلمه بما يدور في أندية الأعراب وما تلوكه ألسنتهم ضدّ المسلمين، وكذلك ما يضمرونه في نفوسهم. تأمّلوا إلى أيّ درجة يترك علم الله بهذه الأمور راحةً في نفوس

 

 

609


540

تفسير سورة براءة

المسلمين. نعم، إنّ معرفة المسلمين بأنّ الأعراب الذين يتظاهرون بالإيمان يضمرون السوء لهم، وأنّهم ينتظرون العدوّ المهاجم حتّى يتعاونوا معه ضدّ المسلمين، أشبه بماء الحياة بالنسبة للمسلمين في ذلك الزمان الذي كان الماء حاجة ضروريّة للحياة وما زال.

 

الخاصّية الثالثة للأعراب: وجود الصالحين بينهم

يبيّن الله لنا في الآية الثالثة أنّ الفئة التي تقدّم الحديث عنها ليست هي الفئة الوحيدة بين الأعراب. بل إنّ بين الأعراب أشخاصًا صادقين صحيحي النيّة مخلصين لله ورسوله، ويعتقدون أنّ ما يُنفق في سبيل الله هو ربحٌ وغنيمة، وهو وسيلة تقرّبهم إلى الله عز وجل وتجعلهم ينالون صلاة الرسول ودعاءه لهم: "وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ".

 

لاحظوا أنّ هذه الآيات الثلاث بيّنت للمسلمين خصائص مهمّة من خصائص الأعراب وخصالهم، ولو أنّ المسلمين غفلوا عن هذه الخصائص لانتهى الأمر إلى ضررهم وخسرانهم. ولكنّ علمهم بهذه الخصائص ساعدهم على تقدير الوضع واتّخاذ المواقف المناسبة. نعم، القرآن كتاب هداية وإرشاد للناس، ينير الدروب للإنسان الذي يستضيء بنوره في الدنيا والآخرة.

 

الإنفاق بابٌ من أبواب التقرّب إلى الله

"قُرُبَاتٍ": جمع قُربة. والقربة من القرب. وهو إمّا أن يكون في الزمان أو المكان أو الرتبة. وعلى جميع هذه الاحتمالات تفيد الآية معنًى صحيحًا ومفهومًا. والأنسب في تفسيرها بالنظر إلى ما بعدها (عند الله)، أن يكون معناها التقرّب إلى الله بمعنى تحقّق الطاعة بهذا الإنفاق، ما يؤدّي إلى علوّ

 

610


541

تفسير سورة براءة

المرتبة والمقام عنده تعالى.

 

يرى عددٌ من المفسّرين أنّ عبارة "صَلَوَاتِ الرَّسُولِ" معطوفة على القربات، وبالتالي يكون المعنى أنّ بعض الأعراب يعتقدون أنّ الإنفاق سبب للقرب وسبب لنيل صلوات الرسول. وسوف يأتي في تفسير الآية 103 أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو ويصلي ويسلّم على الذين يؤدّون زكاة أموالهم أو ينفقون بعضًا منها في سبيل الله. ودعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستجابٌ من دون شكّ. وفي المقابل يرى مفسّرون آخرون أنّ كلمة صلوات معطوفة على "مَا يُنفِقُ"، وفسّروا الآية بأنّ الأعراب كانوا يعتقدون أنّ ما ينفقونه يقرّبهم من الله، وصلوات الرسول كذلك تقرّبهم.

 

"أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ": تصادق هذه العبارة في الآية على معتقد الأعراب وتؤكّد أنّ الإنفاق بابٌ من أبواب القرب إلى الله.

"سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ": هذه العبارة وعدٌ لهؤلاء الأعراب بالرحمة الإلهيّة. والمراد من الرحمة هنا الرحمة الخاصّة؛ وذلك لأنّ الرحمة العامّة تنال جميع الخلق ولا يُستثنى منها أحدٌ من مخلوقاته عزّ وجلّ. وهذه الرحمة الخاصّة هي هداية في الدنيا، وعيش في مجتمع أفضل في حالة من الأمن والسلام والحياة الطيّبة. وفي الآخرة هي جنّة الله ورضوانه والنعم التي قرّرها الله سبحانه للمؤمنين.

 

"إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ": تختتم الآية بهذه العبارة المبشّرة، بأنّ الله يغضي عن الأخطاء والزلّات التي قد يقع فيها الإنسان، وإذا ابتُلي الإنسان في مسيرته بخلل أو أصاب عمله خلأٌ فإنّ الله يغطّي ذلك الخلل ويسدّ ذلك الخلأ برحمته.

 

611

 

 


542

تفسير سورة براءة

 

 

 

وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾

 

 

612


543

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

بعد بيان الآيات السابقة حالَ الأعراب، تأتي هذه الآية وما يليها لتلقيَ الضوء على مجتمع المسلمين بهدف تعريفهم بأوضاعهم الاجتماعيّة والفئات التي ينقسمون إليها. وتقسّم هذه الآية المسلمين إلى أربع فئات:

الفئة الأولى: هي فئة السابقين؛ أيّ الفئة التي سبقت غيرها في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفراد هذه الفئة تحمّلوا الكثير من العذاب وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وقت الغربة وقلّة الناصر، وأنزل بهم أعداء الإسلام صنوف العذاب.

 

الفئة الثانية: هي فئة المنافقين الذين تحوّل النفاق إلى جزءٍ من طبيعتهم.

 

الفئة الثالثة: وأعضاء هذه الجماعة ليسوا من أهل النفاق، ولم يقسِموا على العداء للإسلام ومحاولة ضربه؛ ولكنّهم يراوحون بين العمل الصالح والعمل السيّئ. فبعض صفحات حياتهم مشرقة وبعضها الآخر مظلمةٌ ومخجلة.

 

الفئة الرابعة: هم المتروكون لأمر الله تعالى.

 

اختلاف القراءة

تُقرأ عبارة «وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ» بطريقتين: في أولاهما تُعطف كلمة «الأنصار» على المهاجرين؛ وبناءً على هذه القراءة يشمل وصف «السابقون» المهاجرين والأنصار. وتنسجم هذه القراءة مع قواعد اللغة العربيّة، وتفيد الآية على هذه القراءة أنّ المهاجرين والأنصار هم فئةٌ واحدةٌ تشترك في شرف السبق إلى الإيمان.

 

 

613


544

تفسير سورة براءة

وفي القراءة الثانية يُفصل بين المهاجرين والأنصار، وتُعطف كلمة «الأنصار» على «السابقون الأوّلون» وليس على المهاجرين. وبمقتضى هذه القراءة يكون المهاجرون هم الفئة السابقة إلى الإيمان، ويأتي الأنصار بعدهم. وهذه القراءة شاذّة، والقراءة الأولى أرجح منها.

 

الفئة الأولى: السابقون

في هذه الآية التي تتحدّث عن النواة الأولى لمجتمع المسلمين أيّ السابقين من المهاجرين والأنصار، مطالب عدّة تستحق التوقّف عندها والالتفات إليها. المطلب الأول: من هم السابقون الأوّلون؟ والثاني: ما هو ملاك السبق إلى الإيمان ومعياره؟ وأمّا الثالث: وهو مطلب مهمّ لفهم الآية، وهو هل الآية عامّة يمجّد الله فيها جميع السابقين إلى الإسلام بغضّ النظر عن ظروفهم وأوضاعهم؟ أم أنّ التمجيد في الآية مرتبطٌ بظروف السابقين وأوضاعهم ولا تشمل السابقين جميعًا؟

 

المقصود من السابقين

يطرح المفسّرون احتمالات عدّة في المقصود من السابقين في الآية. يرى بعضهم أنّ السابقين هم الذين صلّوا إلى القبلتين؛ حيث أسلموا وصلّوا إلى جهة بيت المقدس قبل تحويل القبلة لاحقًا إلى الكعبة الشريفة. ومن المعلوم تاريخيًّا أنّ هذه الخصوصية لا تنطبق على جميع المسلمين، فبعض المسلمين لم يدركوا القبلة الأولى. وبالتالي من أدرك القبلة الأولى يكون من السابقين إلى الإسلام.

 

ويرى بعضٌ آخر أنّ السابقين هم الذين شهدوا معركة بدرٍ. وبناءً على هذا الاحتمال لا ينطبق وصف السابقين على الذين أسلموا بعد معركة بدرٍ الكبرى.

 

615

 


545

تفسير سورة براءة

ويرى آخرون أنّ السابقين هم الذين أدركوا "بيعة الرضوان"، وهم الذين أسلموا في السنة السادسة للهجرة، وذلك عندما خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكّة ووصل إلى الحديبية، ووقّع الصلح مع المشركين ولم يدخل مكّة، واجتمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع عددٍ من المسلمين تحت شجرةٍ وأخذ البيعة منهم. وقد نزل قرآنٌ في هذه الحادثة وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾[1]، وبالنظر إلى هذه الآية أُطلِق على هذه البيعة اسمان، هما: «بيعة الرضوان» و«بيعة الشجرة». ووفق هذا التفسير يكون كلّ من آمن بعد هذه البيعة من التابعين واللاحقين وليس من السابقين.

 

وثمّة احتمالاتٌ أخرى لا داعي لاستعراضها كلّها. وعلى الرغم من عدم ورود رواية عن أحد المعصومين عليهم السلام تبيّن المقصود من السابقين بأعيانهم وأشخاصهم؛ ولكن سياق الآية يفيد أنّ المراد من الآية المعنى اللغويّ للسبق في مقابل اللحوق، أو السابق في مقابل التابع، والأوّل في مقابل الآخر.

 

وإذا أخذنا هذا المعنى بالاعتبار يكون السبق واللحوق نسبيًّا، فكلّ من تقدّم في الإسلام على غيره يكون من السابقين، ومن أسلم بعده يكون من المتأخّرين، وهكذا إلى يوم القيامة، فأهل كلّ عصر سابقون لأهل العصر اللاحق لهم. وعليه، نكون نحن من السابقين بالقياس إلى من يأتي بعدنا.

 

ولكنّ الآية لا تتحدّث عن كلّ سابق ولاحق؛ لأنّها تتحدّث عن السبق والتأخّر بين المهاجرين والأنصار. ومن هنا يحسن التوقّف وبذل الجهد العلميّ والتفسيريّ، لتحديد المقصود من السابقين من بين المهاجرين والأنصار.

 

المهاجرون هم الذين أسلموا في مكّة وهاجروا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو قبله أو


 


[1] سورة الفتح: الآية 18.

 

616


546

تفسير سورة براءة

بعده إلى المدينة. والأنصار هم أهل المدينة (يثرب) الذين أسلموا ونصروا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واستقبلوا المهاجرين في دورهم وأرضهم. والسابقون هم الذين بكّروا في الإسلام وآمنوا بتعاليمه وفكره في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقدّموا على غيرهم. وينبغي البحث لتحديد أيّ الصحابة هم الذين ينطبق عليهم هذا الوصف.

 

قضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا وعشرين سنةً من عمره الشريف في الدعوة إلى الإسلام، ثلاث عشرة سنة منها قضاها في مكّة، ومن الطبيعيّ أنّ هذه الفترة لم يكن المسلمون منقسمين بعد إلى مهاجرين وأنصار. وبالتالي، تكون الآية بصدد الحديث عن الفترة التي حصل فيها هذا الانقسام، وهي بلا شكّ مرحلة وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة محاطاً بالمهاجرين والأنصار؛ لذا ينبغي البحث في هذه المرحلة لمعرفة المقصودين بهذا التمجيد والوصف بالسبق إلى الإسلام بين هاتين الفئتين للمجتمع الإسلاميّ.

 

ملاك السبق ومعياره

"الأوّلون" و"السابقون" من المهاجرين هم الذين هاجروا في فترة ضعف الإسلام؛ حيث كان المشركون من أهل مكّة يجبرون الضعفاء من المسلمين على مغادرة مكّة والرحيل عنها. أمّا بعد استقرار الإسلام في المدينة واعتناق عددٍ غفيرٍ من الناس من ضعفاء القوم الإسلام في أطراف المدينة أو غيرها من المناطق، والتحاقهم بالمدينة التي كانت هي النواة المركزيّة للدولة الإسلاميّة الناشئة، في مثل هذه الفترة لم تعد الهجرة عملًا شاقًّا؛ بل ربّما كان في الهجرة نيلٌ لبعض المصالح واغتنام لبعض المكاسب. وعلى الرغم من أنّ الإسلام كان يتقوّى بكلّ من أسلم، فإنّ التحاق هؤلاء المتأخّرين بالإسلام لم يكن في حسابات المصالح والقوى معادلًا لإسلام من أسلم في فترة مبكّرة.

 

وبناءً عليه، تعدّ الهجرة عملًا مهمًّا عندما تكون إجباريّة، أو عندما تكون

 

 

617


547

تفسير سورة براءة

جرمًا في نظر الأعداء. أمّا بعد استقرار الإسلام في المدينة وتحوّل المدينة إلى حاضرةٍ ودولة فتيّة يقودها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلم تعد الهجرة عملًا خطيرًا. وفي ظلّ هذه الأوضاع المستجدّة بدأنا نلاحظ التحاق قبائل القطيف وغسّان بالإسلام وانضواءهم تحت لوائه في المدينة.

 

وعليه، فإنّ الآية تتحدّث عن أولئك الذي قدّموا خدمة جلّى للإسلام، وأقدموا على مخاطرة كبيرة، وارتكبوا جرمًا خطيرًا في نظر المشركين، عندما أسلموا واعتنقوا الديانة الجديدة وتركوا دين الآباء والأجداد، في فترة ضعف الإسلام، حين كان المسلمون قلّة يحيط بها المشركون من كلّ جانب، في تلك الفترة كانت الهجرة تعني مغادرة جبهة الشرك والانشقاق عنها، والالتحاق بجبهة الإسلام. وقد استمرّ الأمر على هذه الحال إلى حوالى السنة الثالثة والرابعة للهجرة.

 

وبعد معركة بدرٍ وأحد، وبعد غلبة المسلمين على اليهود وإخضاعهم لحكم الدولة الإسلاميّة وإلحاقهم بها، لم تعد الهجرة عملًا خطيرًا؛ وبالتالي فإنّ من هاجر في السنة الرابعة وما بعدها لم يكن قد أقدم على عملٍ صعبٍ وخطيرٍ ليستحقّ التمجيد والثناء الخاصّ عليه. وهجرة بعض هؤلاء ربّما تشبه هجرة أهل الأرياف إلى المدينة، والهجرة من أطراف الدولة إلى مركزها. وعلى هذا، يبدو لنا أنّ الآية تتحدّث عن أولئك الذين هاجروا إلى المدينة في السنوات الأولى من هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيّ إلى حوالى السنة الرابعة.

 

عموم الآية لجميع الأزمنة

ثمّة رواية ينقلها العيّاشي في تفسيره، وينقلها عنه عددٌ من المفسّرين؛ ولكنّ بعضهم اعتمد مفادها في تفسيره للآية، وهذا يعدّ أمراً لافتاً. وإذا أخذنا هذه الرواية في الاعتبار يكون معنى الآية عامًّا وشاملًا؛ حيث يصبح مفاد الآية هو الدعوة إلى المسارعة والسبق بين المسلمين، على حدّ ما ورد في

 

618

 


548

تفسير سورة براءة

قوله تعالى في سورة الواقعة: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾[1]. وكأنّ هذه الآية تدعو المؤمنين إلى السبق في الخير مهما كان ليكون السابقون أقرب إلى رحمة الله. والرواية هي: عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبد الله عليه السلام، "قال: إنّ الله عز وجل سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان، قلت: أخبرني عمّا ندب الله المؤمن من الاستباق إلى الإيمان؛ قال: قول الله: ﴿سابقوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض أُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله﴾، وقال: ﴿السابقون السابقون أولئك المقربون﴾ وقال: ﴿السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾، فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم ثمّ ثنّى بالأنصار ثمّ ثلّث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده"[2].

 

ولا يتحقّق مفهوم المسابقة والدعوة إليها إلّا إذا عمّمنا معنى الآية، وإلّا مع عدم التعميم فلا يمكن لمن أسلم في السنوات الأخيرة من حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يشترك في مثل هذه المسابقة التي بدأ غيره فيها قبل سنوات عدّة. وهذا ينطبق على المهاجرين والأنصار.

 

ويتّفق المفسّرون على أنّ حرف الجرّ "من" في عبارة "من المهاجرين والأنصار"، يدور أمره بين البيان والتبعيض، وبناءً على التبعيض يكون المراد من السابقين هو بعض المهاجرين أو بعض الأنصار. وبالنظر إلى زمان النزول، تكون الآية في مقام الحكاية والإخبار عن أمرٍ وقع وانقضى؛ حيث هاجر عددٌ من المسلمين إلى المدينة والتحقوا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونصره فيها عددٌ من الأشخاص سمّوا بالأنصار وسبقوا غيرهم إلى هذا الشرف. وعلى هذا المعنى لا يمكن استفادة الدعوة إلى المسابقة من الآية.

 

بينما تفيد الرواية أنّ الله -في هذه الآية وغيرها من الآيات- يدعو


 


[1] سورة الواقعة: الآيتان 10-11.

[2] تفسير العيّاشي، ج 2، ص 105.

 

 

619


549

تفسير سورة براءة

المسلمين إلى السبق في الإيمان. ومن لوازم هذا المعنى الأخير أن لا يكون المراد من الآية أفرادًا بأشخاصهم وأعيانهم؛ بل يكون معنى الآية عامًّا شاملًا لكلّ زمانٍ، وتكون الدعوة مفتوحةً لجميع الخلق ليكونوا سبّاقين إلى الخير، ويكون معنى هذه الآية قريبًا من معنى قوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾[1].

 

وإذا أردنا أن نوجّه معنى الآية في هذا الاتّجاه، ينبغي أن يكون الاسم الموصول "الذين" في الآية معطوفًا على المهاجرين والأنصار. بينما المعنى الذي يتبنّاه المفسّرون حتّى الآن مبنيٌّ على عطف "الذين" على "السابقون الأوّلون..".، وعليه، تخبر الآية عن عددٍ من السابقين بين المهاجرين والأنصار والتابعين. وبناءً على وجهة نظر تفسيريّةٍ أخرى، يكون المراد من السابقين عشرة أشخاص من المهاجرين، وشخصين من الأنصار، وثلاثة أشخاص من التابعين.

 

ويرى آخرون أنّ الآية تتضمّن الحديث عن طبقتين، الطبقة الأولى هي طبقة المهاجرين والأنصار، والطبقة الثانية هي طبقة التابعين. ونحن لا نرى أنّ الآية بصدد تصنيف المجتمع الإسلاميّ إلى طبقات. ونتيجة هذا الفهم تعميم معنى الآية لتشمل الحديث عن السبق في جميع العصور والمراحل التاريخيّة، فكلّ من سبق غيره إلى الإيمان ونصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة دينه هو من السابقين، وممّن ينال رضى الله تعالى.

 

"وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ": تحكي هذه العبارة من الآية عن جماعة من الناس ساروا بسيرة من سبقهم من المهاجرين والأنصار ولم يبدّلوا المسار، بل اختاروا اقتفاء أثر من سبقهم إلى الإيمان ونصرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وتثني هذه العبارة على حسن اتّباع هذه الفئة من المسلمين أثر من سبقهم إلى الإسلام.

 

"رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ": رضى الله عز وجل هو رحمته في الدنيا والآخرة.


 


[1] سورة الحديد: الآية 21.

 

620


550

تفسير سورة براءة

ويجدر الالتفات إلى أنّ رضانا يتضمّن معنى الانفعال والتأثّر، الأمر الذي لا معنى له في حقّ الله سبحانه وتعالى. ورضى المسلمين عن الله معناه قبولهم بقوانينه وأحكامه، وقبولهم بما يفعله الله عز وجل بهم، فهم في حالة تسليم له عزّ وجلّ. فما يقرّره الله في حقّهم لا يعترضون عليه، فإذا شرّع الله حكم الجهاد، استجابوا لدعوته، وإذا أوجب عليهم الزكاة أدّوا زكاة مالهم راغبين غير كارهين، وإذا عيّن الله لهم إمامًا وقائدًا رضوا به كذلك. فهم راضون نفسًا وملتزمون عملًا.

 

ولعلّ هذا التفسير للآية أرجح من غيره، خاصّة بالنظر إلى رواية العيّاشي، وما تفيده من تعميم لمفاد الآية وشمولها لجميع العصور والمراحل التاريخيّة. وعليه، يكون الوعد بالرضا الإلهيّ، والإخبار عن رضى المؤمنين شاملًا وعامًّا لجميع السابقين إلى فعل الخير سواء كان أصل الإيمان أم تفاصيله ومقتضياته في مقام العمل.

 

اختلاق كرامات لبعض الصحابة

يتوقّف عددٌ من مفسّري أهل السنّة -ومنهم "رشيد رضا" صاحب تفسير "المنار" المعروف بمواقفه التي فيها شيءٌ من التعصّب- عند جملة "رضي الله عنهم"، ويحاولون أن يستنبطوا منها كرامة لجميع الصحابة الأوائل. ولكنّ هؤلاء المفسّرين أغفلوا القسم الثاني من العبارة الذي يتحدّث عن رضا المسلمين عن الله. وعدّوا الآية إخبارًا إلهيًّا عن الرضى عن الصحابة الأوائل، وعدّوا ذلك فضيلةً لهذه الطبقة من المسلمين ودليلًا على فضل الخلفاء جميعًا. وعليه، تكون الآية وعدًا لجميع الصحابة الأوائل بالجنّة. وحمل بعض هؤلاء على الشيعة لموقفهم الخاصّ من بعض الصحابة[1].


 


[1] تفسير المنار، ج 11، ص 16.

 

 

621


551

تفسير سورة براءة

وبما أنّ بعض علماء أهل السنّة قد طرحوا هذه الفكرة، فلا بدّ لنا من التعرّض لها؛ لبيان المعنى الصحيح الذي ينبغي استفادته من الآية، وعدم تعميم الرضا لجميع الصحابة، خاصّة أنّ الآية نفسها تحدّد المعنى وتضيّق دائرة الرضا الإلهيّة في حدود من رضي عن الله وقبل أوامره وأفعاله.

 

فعندما نرى أنّ بعض الصحابة أخطأوا، لا يبقى لنا مجال لحملهم على الصواب والإحسان؛ لأنّ بعض ما صدر عن الصحابة يقع في جهة عدم الرضى بالتشريع الإلهيّ في مقام العمل. ولا نريد الدخول في المناقشات السنيّة الشيعيّة؛ وليس هدفنا سوى فهم الآية بطريقةٍ صحيحة، ولا ندخل في هذا الجدال من باب التعصّب، بل نرغب في تصحيح فهم الآية والتعمّق في تفسير كتاب الله تعالى، وليس بيننا وبين أحد عداوة شخصيّة سواء كان رشيد رضا أم غيره.

 

وللاطّلاع على خيانة بعض الصحابة، ينبغي التأمّل في الآية والتدقيق في مفادها، وهذا بحثٌ فكريٌّ. فالآية لا تخبرنا عن أنّ من كان من المهاجرين والأنصار هو في أمانٍ مهما فعل ومهما ارتكب بقية عمره. هذا الفهم غير صحيح، فقد كشف لنا التاريخ عن تورّط أبي لبابة في خيانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فهل يصحّ تجاهل الخيانة والأخطاء؟ وهل بقي الصحابة الذين هاجروا أو نصروا إلى آخر العمر على حالتهم الأولى التي كانوا عليها عندما دخلوا في الإسلام؟

 

وفي تقديرنا أنّ أهل السنّة أخطأوا في فهم هذه الآية كما أخطأوا في فهم الحديث المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والذي يقول فيه: "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم". وربط بعضهم بين الحديث والآية ليكون أحدهما قرينة على تفسير الآخر. واستفادوا من النصّين إعطاء ضمانة للصحابة الأوائل بالرضا الإلهيّ عنهم وبرضاهم عن الله.

 

وبتعميم الآية لجميع الصحابة وتأبيدها في حقّهم يكون الحديث مؤيّدًا للتفسير الذي ارتضوه للآية؛ والحال أنّ الحديث لا يمكن الموافقة عليه، ولا قبول معناه؛ لعدم انسجامه مع العقل. وذلك أنّ طريق الهداية إمّا أن

 

622


552

تفسير سورة براءة

يكون واحدًا وإمّا متعددًا، ولا يمكن تعدّد سبيل الله والطريق إليه.

 

وإذا كان طريق الهداية إلى الله واحدًا، فمن الممكن أن يختلف أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختلفوا فعلًا. أحد أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو عليّ عليه السلام اختلف مع عددٍ من الصحابة ومنهم الخلفاء، ورفع صوته بالاعتراض عليهم وتردّدت أصداء اعتراضه حتّى وصلت إلينا. وآخرون من الصحابة اعترضوا على صحابيّ آخر كان يخطب في المسجد أو يعظ. وبالتالي ثمّة اختلافاتٌ ونزاعات نشبت بين الصحابة.

 

فكيف تصحّ والحال هذه الدعوة إلى الاقتداء بأيٍّ منهم؟ وتعليل ذلك بأنّ الاقتداء بأيٍّ منهم يفضي إلى الاهتداء؟! نحن نعتقد أنّ هذا الكلام لا يصحّ؛ لأنّ الصحابة اختلفوا بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان الحقّ واحدًا وطريق الهداية واحدًا، فلا ينبغي الاعتقاد بأنّهم جميعًا على حقّ، وأنّ الاقتداء بهم يفضي إلى الهداية.

 

وعليه، ينبغي إنكار صدور هذا الكلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن أن يصدر كلامٌ غير مطابق للواقع عن لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ألم يطرد النبيّ واحدًا من الصحابة من المدينة؟ ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة. فهل الاقتداء به يوجب الاهتداء؟ ومع هذه الإشكالات المتعدّدة التي تواجه هذا الحديث يعجب المرء كيف يرويه فضلاء أهل السنّة في كتبهم من دون أن يقطّب أحدهم حاجبيه مفكّرًا في دلالاته. إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع حكم العقل! وممّا يثير العجب أن يُجعل هذا الحديث مؤيّدًا لتفسير الآية بطريقة وحملها على معنى منسجمٍ مع مفاده؛ ليكون معنى الآية الإعلان عن الرضا الدائم والأبديّ والمتبادل بين الله عز وجل و الصحابة جميعًا.

 

ولتوضيح أنّ هذا الحديث غير الشريف لا تؤيّده الآية ولا يؤيّدها، ينبغي توضيح معنى الآية. فالآية تقول: لقد رضي الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، وهم من جهتهم رضوا عنه تعالى. معنى الرضا الإلهيّ واضحٌ ومفهومٌ. ولكن ما معنى رضاهم عن الله؟

 

 

623

 


553

تفسير سورة براءة

"رَضُواْ عَنْهُ" معناه أنّ ما صدر ويصدر عن الله في مقامي التشريع والتكوين من موجبات سرورهم. وبعبارةٍ أخرى لا اعتراض لهم على أيّ حكمٍ يصدر عن الله عز وجل لا في مقام التشريع ولا في مقام التكوين، ولا يظنّون في أيّ حكمٍ من الأحكام أنّه عبثٌ أو لا مبرّر له. هذا في مقام النظر، وأمّا في مقام العمل فهم يؤدّون ما يطلبه الله منهم بشوقٍ وسرور ولا يؤدّون عملًا من الأعمال ونفوسهم كارهةٌ له.

 

وبناءً على ما تقدّم، لا نرى صحّة تفسير الآية بأنّ رضا السابقين الأوّلين عن الله بدخولهم الجنّة ورضاهم بها، وكذلك لا نرى صحّة تفسير العبارة بأنّهم سعداء وراضون عن النعم التي أنعمها الله عليهم؛ وذلك لأنّه ليس في هذا الرضا فضيلة ولا منقبة، فمن لا يرضى عن الله إذا أنعم عليه بالجنّة أو غيرها من النعم. هذه ردّة فعل طبيعيّة تصدر عن جميع البشر.

 

إنّ معنى الرضا في الآية هو التسليم الكامل لله تعالى. التسليم في مقابل دين الله وأحكامه، وهذه فضيلة وصفة جيّدة؛ ومن هنا سُمِّي النبيّ إبراهيم عليه السلام ووصف بالمسلم، وهو رئيس الموحّدين إلى ما قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا التسليم هو الأمر الذي وصف بأنّه أحسن العمل في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[1]. عندما يستسلم الإنسان لله ويسلّم له قولًا وعملًا وقلبًا وقالبًا، يرضى الله عنه، والرضا الإلهيّ يظهر في فعل الله بالعبد، مغفرةً وأجرًا وثوابًا.

 

والآن، وبعد تفسير الرضا بهذا المعنى. نجدّد طرح السؤال عن الأشخاص الذين رضي الله عنهم؟ ولا ضرورة تقتضي بتفحّص سيرة الصحابة واحدًا واحدًا لنعرف هل هو من الذين رضي الله عنهم أو لا. ومحلّ الاختلاف بيننا وبين إخواننا من أهل السنّة هو في عددٍ من الصحابة الذين نعتقد أنّ الآية لا تنطبق عليهم. وانظروا في التاريخ لتعرفوا ما فعل بعض الصحابة ليتبيّن لكم أنّ بعض أفعالهم لا يجعلهم ينالون رضا الله!


 


[1] سورة فصّلت: الآية 33.

 

 

624


554

تفسير سورة براءة

مخالفة أهل السنّة للأصول الإسلاميّة المسلّمة

والدليل الآخر الذي يثبت عدم صحّة تفسير أهل السنّة للآية، وهو يثبت عدم صحّة حديث "أصحابي كالنجوم.." هو مخالفة هذا الفهم "للقواعد الإسلاميّة المسلّمة"، وهذه القواعد هي التي تحدّد للمسلمين تكاليفهم وتبيّنها لهم.

 

فإن عدّنا الآية دليلًا على طهارة وبراءة جميع الصحابة بغضّ النظر عن سلوكهم وتصرّفهم، يؤدّي إلى تجاهلنا مبدأ من المبادئ المسلّمة في الإسلام، وهو أنّ رضا الله والجنّة مرهونان بالإيمان والعمل الصالح، وهو من المبادئ التي لا نقاش فيها بين أحدٍ من المسلمين.

 

وكذلك تفيد آيات كثيرة في القرآن الكريم أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الإيمان بجميع أحكام الله وتعاليمه، وبعض الصحابة لم يبلغوا هذا المستوى من الإيمان. ولا يصحّ أن يُعطى الرجل شهادة الإيمان والصلاح فقط لأنّه آمن بالله وتعاليمه في فترة من حياته، مهما فعل في ما بقي من عمره.

 

وأهل السنّة يريدون أن يقولوا بما أنّ الله أعلن عن رضاه عن الصحابة فهم في أمانٍ، وليفعلوا ما يحلو لهم ولو كان مخالفًا للإسلام. ولهم أن يقولوا نحن راضون عن الله وهو راضٍ عنّا وهذا الرضا يبقى ما بقي هؤلاء الأشخاص فإنّه مغفور لهم ما يفعلون!

 

وهذا الكلام يتنافى مع المبدأ المشار إليه ولا ينسجم معه. عثمان ومعاوية وأبو سفيان من الصحابة، وعليّ عليه السلام وأبو ذرّ وعمّار وسلمان من الصحابة أيضًا؛ ولكن بين الطرفين اختلافٌ عميقٌ؛ بحيث يشكّل كلّ طرف منهم تيّارًا مختلفًا عن الآخر. وعليه فإنّ قولهم: "الصحابة محسنهم ومسيئهم في الجنّة" كذبٌ واضحٌ!.

 

"وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ": تخبر هذه العبارة عمّا أعدّه الله تعالى للذين رضي عنهم ورضوا عنه من جنّات تجري من تحتها الأنهار وهم خالدون فيها. وهذا هو الفوز العظيم والفلاح.

 

 

625

 


555

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

أشارت الآية السابقة إلى الفئات الطيّبة المحيطة برسول الله عز وجل في مجتمع المدينة. وهذه الآية تتصدّى للتعريف بالفئات الاجتماعيّة التي تقع في الجهة المقابلة من سكّان المدن وأهل البادية المحيطين بالمدينة المنوّرة. ومن صفات هذه الجماعات أنّها تدرّبت على النفاق حتّى صار طبيعة ثانوية لهم، وهم قادرون على إخفاء ما في ضمائرهم إلى حدّ أنّ النبيّ لا يعلمهم من دون مساعدة الوحي. ويبدو أنّ هؤلاء هم صنفٌ آخر من المنافقين يختلفون عن المنافقين الذين تحدّثت عنهم آيات سابقة.

 

الفئة الثانية: المنافقون المجهولون

"وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ": تحدّد هذه العبارة من الآية مكان هؤلاء المنافقين الذين سوف تشير إليهم، فهم ينقسمون إلى قسمين: جماعةٌ منهم تجاور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وجماعةٌ أخرى منتشرةٌ بين الأعراب في البادية.

 

وهذه الآية تتحدّث عن صنفٍ آخر من المنافقين يختلف عمّن سبق الحديث عنهم في الآيات السابقة، ويتميّز هؤلاء بسمتين لا توجدان في الأصناف السابقة. السمة الأولى أنّهم مردوا على النفاق، و"مردوا" أيّ تمرّنوا وتدرّبوا على النفاق وصاروا أهل خبرة خاصّة فيه. فهم أصحاب دربة ومحترفو نفاق، حتّى صار النفاق طبيعةً ثانويّةً لهم كما أشرنا آنفًا. والسمة الثانية من سماتهم أنّهم مجهولون حتّى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، "لاَ تَعْلَمُهُمْ"، بينما

 

 

627

 


556

تفسير سورة براءة

المنافقون كانوا مكشوفين للنبيّ؛ بل حتّى إنّ بعض الصحابة الكبار كانوا يعرفونهم بأشخاصهم، ومن يعلمهم هو الله تعالى، ويمكن أن يكشف أمرهم لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

"نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ": خطاب هذه العبارة خطاب تهديد للمنافقين؛ وذلك أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ومن هنا، قد يبدو الحديث عن علم الله بهم مستأنفًا وبيانًا لأمر بيّن؛ ولكنّ الآية لا تهدف إلى الإخبار عن علم الله، بل تهدف إلى لفت نظر المنافقين إلى علم الله بهم. وكأنّ الله يريد أن يَسمَعَ هؤلاء المنافقون ويلتفتوا إلى أنّ محاولاتهم إخفاء أنفسهم لا تنجح مع الله تعالى، ولا ينفعهم التخفّي واحتراف النفاق.

 

"سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ": تكشف هذه العبارة عن عذابٍ سوف يحيق بهؤلاء المنافقين مرّتين، ثمّ بعد ذلك ينزل بهم العذاب العظيم. وهذا العذاب الأخير هو عذاب يوم القيامة. ومن هنا، يبدو أنّ العذاب مرّتين هو عذاب ما قبل القيامة؛ أيّ في الدنيا.

 

ويمكن -وقد طُرح هذا كاحتمال في تفسير الآية- أنّ الله سوف يعذّبهم في الدنيا بغلبة المسلمين عليهم وانكشاف حالهم لهم، فيأخذون منهم الأسرى أو يقتلونهم، والمرّة الثانية هي العذاب عند الموت أو يوم القيامة؛ لكنّ القوانين الإسلاميّة ليس فيها القتل بجرم النفاق، وبالتالي لا يمكننا الموافقة على هذا الاحتمال، وقد تقدّم توضيح هذا المطلب في تفسير قوله تعالى: "جاهد الكفّار والمنافقين.."[1]...

 

واحتمل بعض المفسّرين أنّ أحد العذابين هو عذاب الذلّ في الدنيا، وذلك أنّ المنافق عندما يُعلم نفاقه، سوف يُنظر إليه في المجتمع الإسلاميّ نظرة احتقار. فمعيار الاحترام وميزانه بين المسلمين هو الإيمان، وإذا وضع المنافق على هذا الميزان فلن يستحقّ شيئًا من الاحترام. وهذا الاحتمال أيضًا لا


 


[1] سورة التوبة: الآية 73.

 

628


557

تفسير سورة براءة

ينسجم مع عبارة "لاَ تَعْلَمُهُمْ"، فإذا كان نفاق هؤلاء مجهولاً وغير مكشوف للنبيّ فضلاً عن المسلمين فكيف يخسر هؤلاء احترامهم بين المسلمين؟

 

وأحد الاحتمالات المقبولة التي طرحت في تفسير العذاب أنّه عذاب أداء الزكاة أو عذاب المشاركة في الجهاد. فالمنافق الذي لا يؤمن بالله، ولا يعتقد أنّ الزكاة ذخيرةٌ لآخرته، ولا يعتقد بالحساب ولا بيوم القيامة، من الطبيعيّ أن يكون أداء الزكاة عذابًا له. فعندما يأتي العاملون على الزكاة ليأخذوها منه ويصرفوها في شؤون المجتمع الإسلاميّ الذي لا يشعر بالانتماء إليه، سوف يكون ذلك للنفاق عذابًا وأيّ عذاب!

 

والعذاب الثاني بحسب هذا الاحتمال هو دعوة المنافق إلى الجهاد، فإذا تخلّف عن الجهاد انكشف نفاقه، وبالتالي هو مضطرٌّ للخروج مكرهًا، وأيّ عذاب في الدنيا أصعب من أن يعرّض الإنسان نفسه لخطر الموت في معركة لا يؤمن بأهدافها؟ بل يرغب في تحقّق عكس ما تهدف إليه!

 

ومن الاحتمالات أيضًا أن يُعذّب هؤلاء المنافقون بإيمان أبنائهم نتيجة تأثّرهم بالدعوة الإسلاميّة بعد وصول أصدائها وتردّداتها إليهم، ومغادرتهم نفاق آبائهم وتخلّيهم عنهم وعن أفكارهم. وربّما يشارك الأبناء في الجهاد في جبهة المسلمين وصفوفهم فيستشهدون. فيرى المنافق أنّه ربّى ابنه لغايةٍ أخرى فيجده ضحّى بنفسه من أجل قضيّة لا يؤمن الأب المنافق بها. فأيّ عذاب تعرّض له عبد الله بن أُبيّ المنافق إذا تناهى إلى علمه أنّ ابنه استجاز النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في قتله؟

 

والعذاب الثاني قبل يوم القيامة هو عذاب القبر والبرزخ، وبعده تهدّد الآية المنافقين بعذاب الآخرة، وهو العذاب الموصوف بأنّه عذابٌ عظيمٌ.

 

629

 


558

تفسير سورة براءة

 

 

 

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا

عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿102﴾

 

 

631


559

تفسير سورة براءة

شأن النزول

اختلف المفسّرون في سبب نزول الآية. يرى بعضهم أنّها نزلت في قضيّة الأشخاص الثلاثة الذين تخلّفوا عن معركة تبوك، وقد ورد بيان قصّتهم في تفسير الآية 118 من سورة التوبة. وحاصل أمرهم أنّهم بعد تخلّفهم عن الجهاد، وعندما تُليت عليهم الآيات التي تبيّن حال المتخلّفين عن الجهاد وفداحة ما ارتكبوه، عمدوا إلى ربط أنفسهم بعمود المسجد. ويرى آخرون أنّ الآية نزلت في قضيّة أبي لبابة[1].

 

ولا يهمّنا حسم الموقف من سبب النزول؛ لأنّنا ذكرنا أكثر من مرّة أنّ سبب النزول لا يخصّص الآية ولا يحصر حكمها أو مفادها بالواقعة أو الشخص الذين نزلت فيه. فلو ربط القرآن بالوقائع والأشخاص الذين نزل فيهم، لكان سينتهي ويموت بموتهم. بل إنّ الآية عندما تُربط بشخصٍ ربطًا تامًّا تفقد قيمتها حتّى في حياة أبي لبابة وهؤلاء الثلاثة المشار إليهم أعلاه.

 

وعلى العموم، سبب النزول هو مجرّد ذريعة ومناسبة. وهذه الآية مفادها عامٌّ يصلح للانطباق على كلّ من توافر فيه ما تتحدّث عنه الآية من مواصفات. وموضوع الآية هو أولئك الذين خلطوا المعاصي بالعمل الصالح؛ ولكنّهم اعترفوا بما اقترفوا وتابوا إلى الله وتاب الله عليهم.

 

الفئة الثالثة: فئة الخالطين بين الحسن والقبيح

هذه الفئة ليست من المنافقين، كما إنّها ليست من السابقين الأوّلين


 


[1] انظر: الواحدي، أسباب النزول، ص 263.

 

633


560

تفسير سورة براءة

أيضًا. فهؤلاء سجّلوا في صحائف أعمالهم بعض الأعمال الصالحة؛ ولكنّهم في الوقت نفسه تورّطوا في المعاصي طاعةً لأهواء النفس وسيرًا معها. والميزة الإيجابيّة في هؤلاء أنّهم اعترفوا بذنوبهم: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا". وهؤلاء لهم حكمٌ خاصٌّ وتقويمٌ مختلف عند الله تعالى.

 

ويُعلم من الآية أنّ هؤلاء يعلمون أنّ ما ارتكبوه ذنبٌ. وكذلك تفيد الآية إيمانهم بوجود الله تعالى. فمن لا يؤمن بالله ولا يعتقد أنّ ما صدر عنه معصيةٌ لا يعترف بجريرته؛ فالمنافق لا يرى فراره من الجهاد ذنبًا؛ بل يعتقد أنّه أقدم على الخيار الأصلح.

 

"خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا": تنبئ هذه العبارة عن إقدام هؤلاء على صنفين من الأعمال. ولو أنّ الآية قالت: بآخر سيّئًا لأفادت معنى مختلفًا. وعدم ذكر حرف الجرّ الباء له وجه لطيفٌ؛ لأنّ خلط شيء بشيء معناه المزج بينهما؛ بحيث لا يمكن التفكيك بينهما، كخلط الخلّ بالماء فلا يمكن الفصل بينهما. أمّا العطف بالواو فيفيد معنى مختلفًا وهو الإقدام على صنفين من الأعمال، فبعض أعمالهم حَسَنٌ وبعضها الآخر سيّئ، ولم يمزجوا الحسن بالقبيح.

 

فهؤلاء مثلًا لا يصلّون وفي حال الصلاة يضربون يتيمًا، أو لا يصلّون في مكانٍ مغصوب ليكون ما يصدر عنهم في المثالين ذا وجهين أحدهما حسن والآخر قبيحٌ. فهذان المثالان هما خلط للعمل الصالح بالعمل السيّئ.

 

وبناءً عليه، لا تفيد الآية الخلط؛ لأنّ الخلط بهذه الطريقة يسقط حسن العمل الحسن ويفقده حسنه؛ بل تفيد الآية كما قلنا صدور صنفين من الأعمال عنهم يمتاز صالحها عن قبيحها. مثلًا هم يصلّون، ولكن يقعون في الغيبة أحيانًا، وقد يشتركون في الجهاد، ولكن تصدر عنهم أعمالٌ أخرى قبيحة.

 

"عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ": تثير هذه العبارة الأمل في نفوسهم بأنّ الله قد يقبل توبتهم إن هم تابوا. وكلمة عسى للترجّي في اللغة العربيّة. ولكن

 

634

 


561

تفسير سورة براءة

عندما تُستعمل في حقّ الله عز وجل تفيد معنًى آخر. فهذه الجملة لا ينشئها الله عز وجل للحديث عن نفسه حتّى لا يكون فيها محلٌّ للتردّد والاحتمال؛ بل الهدف منها بيان حالهم بعد استماعهم هذه الآية من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. يريد الله عز وجل أن يثير في نفوسهم الأمل بالتوبة؛ كي لا يُخيّم اليأس على نفوسهم فيتقاعسوا عن التوبة. وذلك أنّ اليأس في حدّ ذاته صفةٌ قبيحة ومن كبائر الذنوب. والهدف من استخدام فعل الترجّي "عسى" إثارة الاحتمالين في نفوس هؤلاء الخالطين؛ وإلّا فإنّ الأمر من جهة الله -سبحانه- معلومٌ له: إمّا أن يتوب، وإمّا أن لا يفتح باب التوبة.

 

تفيد عبارة "يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" عادةً معنى قولنا: يقبل توبتهم. ولكنّنا نرى أن لا ضرورة تلزم بتفسير العبارة بهذا المعنى المباشر؛ بل للعبارة معنًى آخر وهو أنّ الإنسان عندما يرتكب ذنبًا يبتعد عن الله وتكبر الهوّة بينه وبين الله. وقد شُبِّه هذا البعد المعنويّ بالبعد الماديّ، كما لو أنّ طرفين يبتعد أحدهما عن الآخر. فعندما يبتعد (أ) عن (ب) يبتعد هذا الأخير أيضًا.

 

والقرب والبعد المعنويّ على هذا النحو، فعندما يرتكب الإنسان المعصية يبتعد عن الله تعالى، وبالتالي يبتعد الله عنه بمقدار ما ابتعد. وعندما يتوب ويرجع، فقد وعد الله بالتوبة أيضًا والرجوع وحذف المسافة الفاصلة التي طرأت بالمعصية بينه وبين العبد. إذًا ثمّة تلازمٌ بين توبة العبد وتوبة الله على العبد. وبالتالي، من الصحيح أن يُقال تاب العبد وتاب الله. هذا، وتوبة الله عز وجل تكون بقبول توبة العبد وتقريبه منه عزّ وجلّ.

 

"إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ": تؤكّد هذه العبارة هاتين الصفتين من صفات الله عز وجل وهما المغفرة والرحمة. والمغفرة تعني تغطية الله مكامن الخلل وسدّ الفجوات التي تطرأ على النفس الإنسانيّة بارتكاب الذنوب والمعاصي. وصيغة "رحيم" كصفة من صفات الله تعني في سياقاتٍ عدّة الرحمة الخاصّة الدائمة لله عز وجل بعباده.

 

 

635

 


562

تفسير سورة براءة

 

 

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ

إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾

 

 

637


563

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

أكثر المفسّرين الذين رووا سبب نزول الآية السابقة، أضافوا أنّ الثلاثة المذكورين الذين تخلّفوا عن معركة تبوك، جاؤوا بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدّق بها عنّا، واستغفر لنا. وورد هذا الخبر أيضًا في حقّ أبي لبابة على وجه التحديد، ولكنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم قال له: يجزيك الثلث، ولم يقبل منه كلّ ماله. ومن هنا حمل بعض المفسرين الآية على هذا المعنى.

 

ومن يقرأ هذه الآية والآية السابقة يلاحظ الترابط بين الآيتين؛ بحيث يكون المراد من هذه الآية تكميل قصّة الأشخاص الذين تحدّثت عنهم الآية السابقة التي ختمت بالإشارة إلى رحمة الله ومغفرته، وهذه الآية تدعو النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يأخذ شيئًا من أموالهم ليكون صدقةً عنهم يصرفها في مصالح المجتمع الإسلاميّ ويدعو لهم بالمغفرة.

 

وعلى الرغم من السياق، فقد ورد في بعض الأخبار عن المعصوم عليه السلام أنّ حكم الآية عامٌّ، وأنّ الصدقة المذكورة في هذه الآية هي الزكاة الواجبة. وتنبئ هذه الأخبار عن انطباق حكم الآية على جميع المؤمنين، ولا تخصّص بالأشخاص الذين ذُكِروا في قضيّة التخلّف عن معركة تبوك.

 

ولو صحّ ما ذُكِر في سبب نزول هذه الآية وأنّها نزلت في حقّ الأشخاص المذكورين، فلا موجب لقصر دلالة الآية عليهم؛ بل نحكم بتوسعة الآية من المعترفين بذنوبهم، إلى جميع الناس الذين تجب عليهم الزكاة. وبالتالي، تدلّ الآية على وجوب الزكاة على جميع المسلمين، وأخذها من المعترفين

 

 

638

 


564

تفسير سورة براءة

بذنبهم مصداق لهذا الواجب العامّ.

 

وقد قلنا ونكرّر هنا، أنّ المورد لا يُخصّص الوارد، ولا مبرّر لقصر الآية على المورد الذي نزلت فيه. فكلّ من اجتمعت فيه شروط وجوب الزكاة، يجب عليه أداؤها.

 

آثار الصدقة

يخاطب الله بعبارة: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً" النبيَّصلى الله عليه وآله وسلم ويدعوه إلى أخذ الزكاة ممّن وجبت عليه. وكلمة "أموال" وردت بصيغة الجمع لتشير إلى وجوب أداء الزكاة من أصناف شتّى. ومن المعلوم أنّ الزكاة في الشريعة الإسلاميّة تجب في تسعة أصنافٍ من المال.

 

وإذا قلنا إنّ الزكاة لا تنحصر في الأعيان التسعة التي تُذكر في الفقه، وهي القمح والشعير والتمر والزبيب، والبقر والغنم والإبل، والذهب والفضّة، وإنّه يجوز للإمام أن يوسّع دائرة ما تجب فيه الزكاة إلى غير الأصناف، عندها تتّسع دائرة الأموال لتشمل كلّ ما له ماليّة.

 

أمّا إذا قلنا إنّ الزكاة كانت واجبة في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّه أخذ الزكاة من غير هذه الأصناف التسعة في حياته، فعندها تصير كلمة "أموال" عامّة أيضًا تشمل كلّ مالٍ فرض النبيّصلى الله عليه وآله وسلم الزكاة فيه.

 

"صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا": تدعو الآية النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى أخذ الصدقة من الأموال ليتطهّر المأخوذ منهم ويزكوا. واختُلف في المقصود من الفعل "تطهّرهم"، فقد جعله بعض المفسّرين بصيغة الغائب المؤنّث والفاعل هو الصدقة؛ أيّ لتطهّرهم الصدقة، وثمّة من جعل الفعل بصيغة المخاطب المذكّر والفاعل هو النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أيّ لتطهّرهم أنتَ.

 

وهذا الاحتمالان لا يردان في الفعل الثاني في العبارة؛ أيّ في "تزكّيهم بها"؛ وذلك لأنّ الضمير في "بها" يعود على الصدقة، والفعل بصيغة المخاطب

 

 

639


565

تفسير سورة براءة

المذكّر، والفاعل هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. بينما في الفعل "تطهّرهم" يمكن طرح الاحتمالين، ويبدو لنا أنّ وحدة السياق تقضي بجعل الفاعل في الفعلين هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليكون معنى الآية: خذ يا أيّها النبيّ الصدقة من أموالهم لتكون أنتَ من يطهّرهم ويزكّيهم.

 

وقد ذكرت الآية خاصّتين للصدقة التي يُعبّر بها عن الزكاة الواجبة أحيانًا في القرآن الكريم، الخاصّة الأولى هي التطهير، والثانية هي التزكية. وقد تحدّثنا عن الزكاة سابقًا[1]. وربّما نعود إلى البحث في فلسفة الزكاة لاحقًا والآثار المترتّبة عليها والحكمة الداعية إلى تشريعها. ونصرف الكلام في هذه المناسبة إلى البحث عن آثار الصدقة.

 

تطهير الإنسان بالصدقة

معنى التطهير واضح، فهو النظافة من الأدران والأوساخ. ويقول بعض المفسّرين إنّ المراد من الآية رفع معيقات التكامل؛ أيّ رفع بعض الأمور ليقدر الإنسان بعد ذلك على السير في رحلة التكامل والرشد. ومثال ذلك الشجرة التي تنمو بطريقةٍ عشوائيّة ما يدعو البستانيّ إلى التدخّل لقطع بعض أغصانها الزائدة التي نمت بطريقةٍ فوضويّة. وبعبارةٍ أخرى: ليس المراد من التطهير في الآية أيّ تطهير، بل التطهير الذي يكون مقدّمةً للتكامل.

 

وفي رأينا أنّ تفسير التطهير بمعناه الأوّل المذكور أعلاه صحيحٌ أيضًا.

 

يقتضي طبع الإنسان ويأبى عادةً التنازل عن الأموال التي حصّلها بجهده وكدّ يمينه، وصارت جزءًا من حياته. يأبى التنازل عن هذه الأموال وصرفها على الآخرين. والطمع والبخل والحرص وغير ذلك من الصفات النفسانيّة المرتبطة بالمال ذُكِرت في القرآن لمعالجة هذه الظاهرة النفسيّة الناجمة


 


[1] في تفسير الآيات 58 إلى 60.

 

640


566

تفسير سورة براءة

عن الاعتقاد بأنّ مال الإنسان ينبغي أن ينفق عليه هو وحده. والإنسان عادةً يعتقد بأنّ أمواله جزءٌ من حياته وينبغي أن تُسخّر في خدمته.

 

إذا أردنا بناء مجتمع يكون أرضًا صالحة للتكامل والتعالي والتحلّي بالفضائل الأخلاقيّة، بحيث يتابع الجميع فيه هدفًا واحدًا، ويبنون معًا حياة جديدة مقرونة بالرفاه والراحة لجميع أفراد هذه المجتمع، فإنّ الشرط الأساس لبناء مثل هذا المجتمع هو التنازل المتبادل بين الناس. وأن لا يعتقد كلّ فردٍ بحقّ حصريٍّ في ما يملك، ليكون كدودة القزّ التي تخنق نفسها بخيوطها. بل على كلّ فردٍ أن يؤمن بشراكته مع بني نوعه حتّى لو كانوا مختلفين عنه ومن خارج الدائرة الشخصيّة التي ينتمي إليها. وبالتالي، على الإنسان أن يعتقد بأنّ الآخرين يشاركونه أمواله ووجوده، وعندما تتعارض المصالح الشخصيّة مع المصلحة العامّة على الإنسان أن يقدّم المصلحة العامّة على الشخصيّة.

 

ومن هنا، نلاحظ أنّ القرآن الكريم يدين البخل الذي هو صفة لها جذور في الأنانيّة: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].

 

يسعى الإسلام إلى استئصال البخل وغيره من الصفات الناجمة عن الأنانيّة والإفراط في حبّ النفس من المجتمع، ويسعى لتربية الإنسان بطريقة تجعله لا يطلب لنفسه فقط، ولا يريد الخير لها وحدها، ويربّيه على إرادة الخير للإنسانيّة، وهي البيئة المشتركة بين الفرد وسائر الأفراد، وما الفرد إلّا قطعة من هذا النسيج الواسع المترابط. فلا ينبغي بحسب التربية الإسلاميّة، أن يحسب الإنسان نفسه المحور الذي تدور الإنسانيّة كلّها حوله.

 

وبحسب الرؤية الإسلاميّة فإنّ جميع الصفات التي تنبت جذورها في الأنانية وعبادة الذات، والتي تدعو إلى أن لا يفكّر الإنسان سوى في نفسه، هي صفات دنيئة ورذيلة، ومن هنا تُسمّى وتُصنّف هذه الصفات في دائرة


 


[1] سورة الحشر: الآية 9.

 

641


567

تفسير سورة براءة

ما يُعرف في المنظومة الأخلاقيّة الإسلاميّة بـ"الرذائل الأخلاقيّة".

 

بعض الاتّجاهات والمذاهب مثل الاتّجاه الرأسمالي تؤسّس منظومتها القيميّة على قاعدة الأنانيّة، وتجعل الفرد هو الأساس، وتراعي أوضاعه في الدرجة الأولى. وبحسب هذه الاتّجاهات فإنّ هذه الصفات هي فضائل أخلاقيّة ولا يُنظر إليها على أنّها رذائل.

 

في المجتمعات الماديّة كلّما كان الإنسان أحرص على جمع المال وأكثر بخلًا به، كان أعلى درجة في السلّم الاجتماعيّ؛ بينما العكس هو الصحيح في الإسلام، فالفرد الأرقى والأعلى قيمةً هو الفرد الأكثر عطاءً وتنازلًا. وقد ورد هذا المعنى في عدد من الأخبار، والرواية الواردة عن المعصومين عليهم السلام ومن ذلك: "خير الناس أنفعهم للناس"[1]، و"أحبّ الناس إلى الله أنفعهم لعياله"[2]. فهذان الحديثان وأمثالهما يفيدان أنّ معيار الخيريّة والحبّ عند الله هو التنازل ونفع الآخرين.

 

والإسلام لا يتجاهل الفرد، بل يلاحظ في تشريعاته الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. ويريد للفرد أن يشرك الآخرين في ما عنده، وينفعهم بما وصل إلى يده من مال وغيره؛ ليصرف في مصالح الجماعة، ويكون الآخرون جزءًا من اهتمامات الفرد. ومن هنا، نجد أنّ الله عز وجل ذكر الفقراء في مستحقّي الزكاة، وجعل لهم سهمًا وحصّة من الزكاة، وذكر إلى جانبهم سهمًا خاصًّا تحت عنوان "في سبيل الله" على الرغم من دخول الفقراء ومحاربة الفقر تحت عنوان "سبيل الله"، ولعلّ السبب هو تربية الإنسان على الاهتمام بالمجتمع؛ لأنّ "سبيل الله" هو المصالح العامّة. وبعبارة أخرى: هو مصالح المجتمع: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[3].


 


[1]  الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 21.

[2] وسائل الشيعة، ج 16، ص 341.

[3] سورة التوبة: الآية 60.

 

 

642


568

تفسير سورة براءة

حلول الرذائل في قلب الإنسان، يفضي إلى كدورة مرآة الروح وذهاب شفافيّتها وخرابها. وبالتالي، لا بدّ من عاملٍ يؤدّي إلى رفع هذا الكدر عن مرآة النفس برفع أسبابه. وإذا صحّ وصف الزكاة بأنّها عاملٌ ذو تأثير، تكون الزكاة هي هذا العامل المطلوب منه رفع موجبات الكدر وتطهير النفس من هذه الرذائل.

 

وواحدة من أهمّ خواصّ الصدقة أنّها تطهّر الإنسان من الرذائل الأخلاقيّة التي تنبت في بيئة الأنانيّة وحبّ الذات. ودافع الزكاة هو المستفيد الأوّل من عمله قبل أن يستفيد المجتمع. وذلك في اللحظة التي يعمل الإنسان على قطع تعلّقه بالمال وينفقه في سبيل الله.

 

تزكية الإنسان بالصدقة

"وَتُزَكِّيهِم": الزكاة في اللغة تعني النماء والنموّ. وهذا المعنى ملحوظٌ في الزكاة الواجبة. ومعنى الآية: يا أيّها النبيّ، خذ من أموالهم صدقةً تكون سببًا لرشدهم ونموّهم.

 

وإذا نظرنا إلى موضوع الصدقات بعين اجتماعيّة، نكتشف أنّ نموّ أعضاء المجتمع وأفراده وتطوّرهم يتحقّق بواسطة تنازل بعض الأشخاص عن بعض ما يملكون وتقديمه للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم أو من يقوم مقامه ليتولّى صرفه وإنفاقه في مصالح المجتمع العامّة.

 

تعبير "تُزَكِّيهِم" لا يشير إلى زكاة المال ونموّه؛ بل إلى زكاة صاحبه؛ وذلك أنّه من المعلوم نقص المال بأخذ مقدار منه، حتّى لو صرف هذا المال في سبيل الله، على الأقلّ بحسب ظاهر الحال.

 

محطّ نظر الآية هو تألّق دافعي الزكاة ونورانيّتهم. وتلألؤ الإنسان يتحقّق بزيادة صفاته الإنسانيّة وفضائله الأخلاقيّة، وكلّما زادت خصاله الحسنة ارتقى في سلّم التكامل. والإنسان تتأصّل إنسانيّته بزيادة مكارم الأخلاق

 

643

 


569

تفسير سورة براءة

عنده؛ ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"[1]. ومكارم الأخلاق لا تنمو ولا تزيد إلّا في بيئة اجتماعيّة تأسّست على الإسلام وقواعده.

 

والهمّ الأوّل للأنبياء هو تكميل الأخلاق؛ ولكنّهم سعوا قبل ذلك إلى تأسيس مجتمع إلهيّ ودينيّ يكون بيئةً صالحة لتكميل الأخلاق وتكاملها. وبناءً عليه، فإنّ نبيّنا الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم يشترك مع سائر الأنبياء في هذا الهدف وهو "تكميل مكارم الأخلاق وتتميمها"؛ أيّ إيصال الإنسان إلى أوج الإنسانيّة وتحليته بالصفات الأخلاقيّة الحسنة.

 

ولا شكّ في أنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو الهدف من خلق الإنسان، فقد خُلق الإنسان ليتكامل. وقوله تعالى: "ليعبدون"[2] في القرآن وتفسيرها على لسان المعصومين بالمعرفة، سببه أنّ التكامل لا يتحقّق إلّا بمعرفة الله وعبادته. وعندما تكون العبادة هدفًا للخلق وغاية له؛ إذًا يجب على الإنسان السير في هذا الصراط للوصول إلى ذلك الهدف.

 

ومن الأمور التي تدفع الإنسان في هذا الاتّجاه وتحثّ خطاه ليصل إلى الهدف في أسرع وقتٍ ممكن، تنازله عن ماله وإشراك الآخرين فيه، والصدقة من مصاديق هذا الإشراك. وعلى هذا يكون معنى الآية: "بأخذ الصدقة من أموالهم يتكاملون وتنمو نفوسهم وأرواحهم"، وبالتالي لا يصحّ منهم التكاسل أو الانزعاج من أداء الصدقات ودفعها.

 

"وَصَلِّ عَلَيْهِمْ": ادعُ لهم وسلّم عليهم. كلمة "صلاة" في اللغة تعني الدعاء. وبحسب هذه الآية النبيّصلى الله عليه وآله وسلم مطالب بأن يدعو لدافع الزكاة، كأن يقول: بارك الله في أموالك.

 

"إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ": فإنّ صلاتك عليهم توجب سكينتهم وهدوء

 

 


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 392.

[2] ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (سورة الذاريات: الآية 56)

 

 

644


570

تفسير سورة براءة

نفوسهم. تضطرب النفس وتقلق عندما يتنازل الإنسان عن جزءٍ من ماله، وهذا من نتائج حبّ الإنسان لماله. ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إذا كان حبّ الذات هو المحرّك الأوّل والدافع الأساس من دوافع الإنسان، فإنّ حبّه للمال يقع في المرتبة الثانية. وقد يصل الأمر ببعض الناس إلى التنازل عن السلطة، بل في بعض الحالات عن الأولاد والتضحية بهم بهدف حفظ المال وحمايته من الضياع. فحبّ الإنسان للمال عظيمٌ وقويّ. وهذا الدافع هو الذي أوقع بعدد من الأشخاص، فجعلهم يهملون أداء واجباتهم أو يقصّرون فيه بهدف حماية أموالهم. وأعتى الطبقات الاجتماعيّة التي واجهت الأنبياء كانت طبقة المترفين وأصحاب الثروات؛ فهؤلاء غارقون في النعمة والترف، والأوضاع القائمة آنذاك كانت مساعدةً لهم على جمع المال ومراكمته، فعندما يأتي النبيّ يتوقّعون منه تغيير الظروف الاجتماعيّة التي يستفيدون منها لجمع المال وادّخاره. ويؤدّي ذلك إلى وقوفهم في وجهه دفاعًا عن الوضع القائم المناسب لهم في تحقيق غايتهم الأثيرة وهي جمع المال. فحبّ المال هو الذي يدعو الكثيرين إلى الوقوف في مواجهة الأنبياء وأتباعهم.

 

والآية توصي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لهم لتسكن نفوسهم المضطربة، وليثير الأمل في نفوسهم بأنّ الله سوف يقبل هذه الأموال، وبالتالي لن تذهب سدًى؛ وليكون ذلك عاملًا مساعدًا لهم على تكرار التجربة مرّة ثانيةً.

 

"وَاللّهُ سَمِيعٌ": يسمع الله ما يدور بينكم من كلام، فهو يسمع نجوى الشاكرين، كما يسمع همسهم وتحسّرهم على ما ذهب من أموالهم بإيتاء الصدقات.

 

"عَلِيمٌ": يعلم دقائق الأمور وحكمة الأفعال[1].


 


[1]  لم نجد تفسير الآيتين: 104 و 105.

 

645


571

تفسير سورة براءة

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿106﴾

 

 

646


572

تفسير سورة براءة

الفئة الرابعة: هم الموكولون لأمر الله

كشفت هذه الآيات عن عددٍ من الفئات التي كانت تقطن المدينة وأطرافها. وصدرت في هذه الآيات أحكامٌ على الفئات المتقدّمة. وهذه الآية تشير إلى بعض المنافقين وتصفهم بأنّهم مرجون لأمر الله تعالى. وهؤلاء بحسب الظاهر شخصيّات من المنافقين كانت تحيط بالنبيّصلى الله عليه وآله وسلم إبّان أحداث تبوك. ولا تخبرنا الآية بالكثير عنهم، وتكتفي بهذه الإشارة المجملة إليهم؛ ولكن وردت تفاصيل عنهم في الأخبار والروايات.

 

هذه الفئة أمرها موكول إلى الله تعالى، ولا نعلم ماذا سيفعل الله بهم. ولعلّ مستقبل أمرهم مرهونٌ بأعمالهم اللاحقة، أمّا عند نزول الآية فلم يكن بحسب الظاهر لهم وضعٌ محسوم ومحدّد، فهل سيعذّبهم الله كما حكم على من سبقهم بالعذاب لأنّ الإيمان لم يستولِ على قلوبهم؟ أمّ أنّ الإيمان سوف يستوطن في قلوبهم لاحقًا، ولذلك سوف تشملهم الرحمة الإلهيّة؟

"وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه": من الجماعات التي تحيط بك جماعةٌ أمرها مرجًى لله تعالى، وحتّى الآن لم يحسم وضع هذه الفئة، ولم يُعرف حتّى حينه بأيّ صفٍ من الصفوف السابقة سوف يلتحقون.

 

"إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ": يحتمل في حقّ هذه الفئة احتمالان: العذاب الإلهيّ وقبول التوبة. ومن يعلم مصير هؤلاء ومواقعهم النهائيّة هو الله المتّصف بالعلم والحكمة. وبالتالي، سوف يرسم مصيرهم على ضوء الحكمة الإلهيّة.

 

وفي الجزء الأخير من الآية اكتفى الله عز وجل بالإشارة إلى علمه وحكمته. ولم

 

 

647

 

 


573

تفسير سورة براءة

يتحدّد مصيرهم، وهل هو العذاب أم التوبة وقبولها. وتلفت الآية إلى علم الله عز وجل بأحوالهم، وإلى حكمته في حكمه عليهم.

 

ويُستنبط من هذه الآية أنّه لا ينبغي الاستعجال بالحكم على الناس، فإذا انتقل شخصٌ ما من ضفّة العداء للإسلام والتحق بجبهته وأعلن وضع نفسه في خدمة هذا الدين، لا يجوز الاستعجال في الحكم عليه لا سلبًا ولا إيجابًا، ولا يجوز تعييره بماضيه؛ بل ينبغي الصبر عليه حتّى يستبين أمره. فإذا ترسّخ الإيمان في قلبه فعلى المجتمع الإسلاميّ أن يتعامل معه باحترام، وينبغي تجاهل ماضيه وتناسيه، وإلّا فلا.

 

شأن النزول

ورد في عددٍ من الأخبار أنّ الآية تتحدّث عن أولئك الثلاثة الذين تخلّفوا عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج إلى تبوك، وقد فعلوا ذلك طلبًا للعافية والراحة. ولكن بعد عودة النبيّ من غزوته تابوا، وسوف تأتي تفاصيل حكايتهم في تفسير الآية 118 من هذه السورة. وهذه الروايات لا يمكن الجزم بها، وأكثرها ورد في كتب أهل السنّة ومصادرهم، وما ورد في كتب الشيعة لا ينتهي سنده إلى المعصوم، فضلاً عن أنّ ربط هذه الآية بهؤلاء الثلاثة لا ينسجم مع سياق الآيات.

 

وثمّة روايات تبيّن أنّ هؤلاء جماعة من الناس كانوا يقفون في بداية حياتهم في صفوف المعارضة للإسلام، وقد اشترك بعضهم في محاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في غزوتي بدر وأحد؛ بل إنّ بعضهم آذى النبيّ بالتعرّض له مباشرةً أو لبعض المقرّبين منه، كما في حالة "وحشيّ" الذي تصدّى لقتل الحمزة، ثمّ ما لبث أن دخل هؤلاء في الإسلام، وإسلام بعضهم لم يتجاوز حدّ التصريح بقول: "لا إله إلّا الله".

 

ومن الواضح أنّ الدولة المنتصرة تجذب المؤيّدين ويسارع الكثيرون إلى

 

 

648

 


574

تفسير سورة براءة

الالتحاق بصفوفها، وإسلام هذا الصنف من الناس لا يعادل إسلام من لم ينجذب الإسلام في أوقات قوّته. فطالبو الراحة هؤلاء "مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ" ومصيرهم متروك لله عز وجل فهو الذي سوف ينيلهم ما يستحقّون. فإمّا أن تكون عاقبتهم خيرًا ويحسن إسلامهم ويترسّخ، وإمّا أن لا يحسن إسلامهم ولا يترتّب على بقائهم في أحضان المجتمع الإسلاميّ سوى الضرر والأذى. هذا ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا التردّد ليس تردّدًا في علم الله تعالى؛ فحقيقة الحال واضحةٌ لله تعالى؛ ولكن لا بدّ من الانتظار والصبر إلى أن تتّضح مواقف هؤلاء ويأخذوا مواقعهم النهائيّة. ويُظنّ أنّ من هذه الفئة الاجتماعيّة معاوية وأبوه. والروايات التي تتضمّن هذه الإشارة هي أقرب إلى سياق الآيات.

 

 

 

649


575

تفسير سورة براءة

 

 

وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿107﴾ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴿108﴾ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿109﴾ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿110﴾

 

 

 

651


576

تفسير سورة براءة

شأن النزول

نزلت هذه الآيات الأربع في قصّة المسجد المعروف بمسجد ضرار. وقصّة هذا المسجد هي واقعةٌ تاريخيّة فيها الكثير من الدروس والعبر. فالمسجد في الإسلام له قداسةٌ خاصّة، وقد ورد في الشريعة عددٌ من الأحكام المرتبطة به، ومن ذلك وجوب المحافظة على طهارته، وإذا تنجّس لأيّ سببٍ من الأسباب تجب المبادرة إلى إزالة النجاسة عنه وتطهيره، وتطهيره مقدّم على الصلاة فيجوز للمصلّي أن يقطع صلاته ليبادر إلى التطهير، ثمّ يصلّي بعد ذلك أو يكمل صلاته إن لم تنقطع. ومن ذلك أيضًا تحريم دخوله على الجنب والحائض. والمسجد محلٌّ لعبادة الله عز وجل والتقرّب منه، وكان محلًّا للحلّ والفصل في القضايا الاجتماعيّة، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام يجلسان في المسجد للنظر في قضايا الناس وحلّها.

 

ورد في بعض الأخبار أنّ بعض الأشخاص وقفوا مسجدًا، وجعلوا له إمامًا يؤمّ المصلّين فيه، وبحسب الظاهر كانت الأمور فيه تدور وفق ما تقرّره الشريعة، ومع ذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإحراقه وتحويل أرضه إلى مزبلة؛ ليفهم الناس أنّ هذا المكان ليس له أحكام المسجد ولا احترامه. وقد نزلت هذه الآيات الأربع في تفصيل هذه القصّة الغريبة، وإن كانت تبدو في ظاهرها قضيّة عاديّة، ولسان هذه الآيات حادٌّ فيه شيءٌ من الشدّة. وفي الآيات تفصيل الموقف من المسجد نفسه ومن أصحابه الذين بنوه.

 

ويبدو لنا أنّ القرآن لا يهدف إلى الإخبار التاريخيّ عن هذه الواقعة؛ لأنّ القرآن لا يتحدّث عن تفاصيل الوقائع التاريخية عادةً ولا يهتمّ ببيانها في حدّ ذاتها. فكثير من الأحداث التي وقعت لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم لم يرد ذكرها

 

 

653

 


577

تفسير سورة براءة

في القرآن، حتّى بالإشارة الخاطفة. فكلّ إشارة تاريخيّة ترد في القرآن يكون المراد من عرضها العبرة. ومن هنا، يُفهم من اهتمام القرآن الكريم بذكر تفاصيل هذه القصّة، أنّ وراء الأكمة ما وراءها.

 

ولمّا لم يكن الهدف من بناء هذا المسجد عبادة الله وتوحيد صفوف المسلمين وتعزيز الإيمان في نفوسهم، فقد أمر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم بإحراقه. ونحن نستفيد من هذه الآيات أنّ مسجد ضرار لم يكن مجرّد واقعةٍ تاريخيّة؛ بل في هذه الآيات دروس أخرى يريد الله عز وجل تعليمنا إيّاها. وبالتالي، فإنّ الأحكام التي تتضمّنها هذه الآيات عن هذا المسجد صالحةٌ للتعميم. والدرس المستفاد من هذه الآيات أنّ كلّ ما يتلبّس بحسب الظاهر بلبوس الإسلام؛ ولكنّه في واقع حاله وجوهره يصبّ في الاتّجاه المعاكس لما يريده الله ورسوله، فالحكم عليه ينبغي أن يكون وفق واقعه وجوهره لا قشوره وظواهره. وبالتالي، يجب علينا تبعًا لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم الحكم على القشر الظاهريّ أيضًا بأنّه ليس من الإسلام ولا له.

 

قصّة مسجد ضرار

تبدأ قصّة هذا المسجد من شخصٍ اسمه "أبو عامر" من الخزرج، وقد كان هذا الرجل ميّالًا إلى النصرانيّة قبل دخول الإسلام إلى المدينة، ويبدو أنّه تنصّر وكان راهبًا، وكانت له معرفةٌ بالتوراة والإنجيل. وخلاصة الأمر أنّه كان مطروحًا بين قومه كقدّيس وواحدٍ من العبّاد، وكان يحظى باهتمام قومه وعنايتهم. وبعد دخول الإسلام إلى المدينة وهجرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إليها، كان هذا الرجل من أشدّ الناس عداوةً للنبيّ.

 

قد يحسب الإنسان نفسه في بعض الأحيان متوجّهًا إلى الله، ولكنّ واقع حاله هو التوجّه والالتفات إلى هوى نفسه، وقد يكون في واقع حاله شيطانًا يظنّ نفسه إنسانًا. والنفس قادرةٌ على تزيين القبيح للإنسان بحيث تظهر له الأمور على غير حالها، وتخفي عليه ما فيها من وجوه القبح، فيشتبه الأمر

 

 

654


578

تفسير سورة براءة

على الإنسان، ولا بدّ من الاستعاذة بالله من هذه الأمور والحالات.

 

لعلّ أبا عامرٍ كان يحسب نفسه قدّيسًا معنويًّا. وعندما شرّف النبيّصلى الله عليه وآله وسلم المدينة بدخوله إليها، ضاقت المدينة عليه ولم يعد يشعر بقدرته على متابعة الحياة فيها. فجمع عددًا من أصحابه وخرجوا من المدينة ودعا أصحابه إلى بناء المسجد، وتعهّد بالحصول على الدعم من الروم أو غيرهم للتخلّص من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ورد في بعض الأخبار أنّه استعان بالمشركين وشارك في حروبهم ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. واللافت أنّ "حنظلة" المعروف بغسيل الملائكة، وهو الشابّ المضحّي الذي ترك عروسه وخرج للجهاد فاستشهد فتولّت الملائكة غسله، هو ابن هذا الرجل. وهذا ما كنّا نشير إليه عندما نذكر أنّ أحد وجوه العذاب التي تصيب المنافقين هو عذابهم بإيمان أبنائهم وانفصالهم الفكريّ عنهم. ولم يُرَ أبو عامر في معركة أحد، فقد سافر إلى بلاد الروم الشرقيّة للحصول على الدعم منهم لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وكان يراسل أصحابه ومنهم "عبد الله بن أبيّ"، ويطلب منهم متابعة العمل، ويتعهّد لهم بالحصول على الدعم من الروم لإخراج النبيّ من المدينة. ويبدو أنّ المنافقين كانوا الطابور الخامس الذي يعمل لمصلحته، إلى أن استجدّت الوقائع المرتبطة بمعركة تبوك، فتوقّع المنافقون أنّ نهاية المشروع النبويّ قد اقتربت وساعة القضاء على دعوة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أزفت، فبنوا المسجد ليكون قاعدةً لهم للاجتماع وللتخطيط والتنفيذ، وليكون وسيلةً للتفريق بين المسلمين.

 

وقد بنى هؤلاء المنافقون مسجدهم مقابل مسجد "قبا" ليغطّوا حضورهم فيه بصلاة الجماعة، ويجتمعوا في هذا المكان ويخطّطوا لمستقبلهم؛ بحيث إذا سألهم سائل أين كنتم؟ ولماذا غبتم عن الجماعة؟ يقولون: كنّا نصلّي جماعة في المسجد المقابل. المهم أنّ المسجد كان مجرّد قاعدةٍ ومقرّ لهم.

 

ورد في بعض الأخبار أنّ العلة التي دعت إلى بناء هذا المسجد هي الحسد. وذلك أنّ حيًّا من أهل يثرب بنوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول

 

 

655

 


579

تفسير سورة براءة

الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم بنو عمّهم وبنوا مسجدًا مقابل مسجدهم[1]. وفي رأينا أنّ هذا التبرير لبناء المنافقين مسجدًا خاصًّا بهم، لا يصحّ؛ وذلك أوّلًا: لأنّ مسجد قباء بُني في السنوات الأولى للهجرة، أمّا مسجد ضرار فقد بُني في السنة الثامنة أو التاسعة للهجرة.

 

وثانيًا: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يواجه الحسد بهذه الطريقة. فهو طبيب الأرواح والنفوس، وهو قادرٌ على معالجة حسدهم وإطفاء ناره. وبالتالي لا نرى هذا التبرير صحيحًا.

 

العلّة الأساس لبناء هذا المسجد هي تحريض أبي عامر الراهب الذي تحدّثنا عنه، حيث دعا إلى بناء هذا المسجد ليكون مقرًّا للتخطيط لمؤامرات المنافقين ومتابعة تنفيذ هذه الخطط.

 

وقد خطّط المنافقون لخداع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في طريق رحلته إلى تبوك، بأن يُدعى للصلاة فيه، فإذا صلّى فيه نال هذا المسجد الاعتراف النبويّ واستفاد بُناته من المشروعيّة التي نالوها من صلاة النبيّ فيه. ولكن عندما دعوا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم للصلاة قال لهم: "إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلّينا لكم فيه".

 

ولمّا انصرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك نزلت الآيات السابقة، التي تدعو المسلمين إلى تبديل موقفهم من المنافقين بعد عودتهم من تبوك. وذلك بالتوقّف عن مداراتهم والجهر بعداوتهم ومجاهدتهم وإعلان المضادّة لهم. وقبل وصول النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى مسجد ضرار نزل قوله تعالى: "لا تقم فيه أبدًا...". وتبرّر الآية النهي عن الصلاة في هذا المسجد بأنّه مسجدٌ لم يُبنَ على التقوى. وعلى ضوء هذا التوجيه الإلهيّ أمر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم بإحراق مسجد ضرار وتحويله إلى مزبلة.


 


[1] انظر: مجمع البيان، ج 5، ص 125.

 

656


580

تفسير سورة براءة

الإضرار والكفر والتفرقة، بغطاء مسجديّ

"وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا": تحكي لنا هذه العبارة عن هذه الجماعة التي أرادت من بنائها لهذا المسجد الإضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، واتّخاذه قاعدةً لانتظار من كان من قبل في حالة حرب مع الله ورسوله.

 

ثمّة قولان في الصلة بين هذه الآية والآية التي قبلها. أحدهما: أنّ الواو في أوّل الآية حرف عطفٍ، يعطف الجملة على ما قبلها. والقول الثاني، أنّ الواو للاستئناف، وبالتالي تكون الجملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، ويكون الاسم الموصول "الذين" مبتدأ، ثمّ بناءً على هذا الرأي طرح التساؤل عن الخبر، فقال بعضٌ إنّه جملة "لا تقم فيه أبدًا"، وقال آخرون الخبر مقدّرٌ.

 

والصحيح هو حمل الواو على الاستئناف، ولا نرى صحّة عطف هذه الجملة على ما قبلها، وأمّا الخبر فإمّا أن يكون محذوفاً يعرف بالتقدير، وإمّا أن يكون جملة "لا تقم فيه أبدًا".

 

أهداف المنافقين ودوافعهم لبناء المسجد أمور أربعة، هي:

الأوّل: الإضرار بالمسلمين،

الثاني: الكفر والمقصود ترويج الكفر وإشاعته بين الناس،

الثالث: التفريق بين صفوف المسلمين،

الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبلُ؛ أيّ انتظار أعداء الله ورسوله.

وهذه الأهداف الأربعة تقع في الجهة المقابلة تمامًا للأهداف الحقيقة لبناء المساجد في الإسلام.

 

"إِرْصَادًا": الإرصاد هو الترقّب والانتظار، وكلمة "مرصد" من هذه المادّة، وتستعمل في هذا المعنى، وذلك أنّ المرصد مكانٌ مخصّص لمراقبة

 

 

657


581

تفسير سورة براءة

 النجوم والكواكب. ومن معاني الإرصاد في اللغة الإرقاب بدقّة. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى جميع المساجد ليُسمِع المسلمين أمر الله وحكمه فيها، ولهذا فإنّ المساجد كلّها "إرصاد لأمر الله"، أمّا مسجد المنافقين فهو "إِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ".

 

ولم يكن عند المنافقين من الجرأة ما يكفي ليصرّحوا عن دوافعهم وراء بناء هذا المسجد. وهذه هي طبيعة المنافق، فهو يضمر شيئًا ويظهر شيئًا آخر غيره. ولا يكتفي المنافقون بكتمان دوافعهم وأهدافهم من بناء المسجد؛ بل يحاولون إقناع المسلمين بحسن نيّتهم، فيقولون: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى".

 

و"إن" في قوله تعالى: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى" للنفي، ومعنى العبارة هو: لا غاية لنا من بناء هذا المسجد ولا هدف سوى بناء مسجد أحسن من مسجد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في قباء.

 

"وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ": هذه العبارة شهادة من الله عليهم بأنّهم كاذبون في إخبارهم عن نواياهم.

 

وتكليف النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تجاه هذه الدسيسة هو عدم القيام في هذا المسجد أبدًا، والمقصود من القيام هو القيام للصلاة. ويستخدم هذا التعبير في القرآن للحديث عن الصلاة، فكما يُقال صلّى يُقال أقام الصلاة أو قام.

 

"...لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ": تشرح هذه الآية سبب النهي عن الصلاة في مسجد ضرار، وذلك أنّ المسجد الذي تأسّس على تقوى الله من أوّل يوم أحقّ بأن يُصلّى فيه من هذا المسجد الذي بُني على قواعد النفاق. وذلك المسجد الذي بُني على التقوى يصلّي فيه رجالٌ يحبّون التطهّر، وبالتالي أوّل مسجد قباء تقوى وعاقبته طهارة. فأولئك الذين يصلّون في مسجد قباء يحبّون أن تكون قلوبهم وفكرهم وأرواحهم طاهرة، ويحبّون أن يزيلوا هذه الخبائث من وجودهم.

 

 

658

 


582

تفسير سورة براءة

 النجوم والكواكب. ومن معاني الإرصاد في اللغة الإرقاب بدقّة. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى جميع المساجد ليُسمِع المسلمين أمر الله وحكمه فيها، ولهذا فإنّ المساجد كلّها "إرصاد لأمر الله"، أمّا مسجد المنافقين فهو "إِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ".

 

ولم يكن عند المنافقين من الجرأة ما يكفي ليصرّحوا عن دوافعهم وراء بناء هذا المسجد. وهذه هي طبيعة المنافق، فهو يضمر شيئًا ويظهر شيئًا آخر غيره. ولا يكتفي المنافقون بكتمان دوافعهم وأهدافهم من بناء المسجد؛ بل يحاولون إقناع المسلمين بحسن نيّتهم، فيقولون: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى".

 

و"إن" في قوله تعالى: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى" للنفي، ومعنى العبارة هو: لا غاية لنا من بناء هذا المسجد ولا هدف سوى بناء مسجد أحسن من مسجد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في قباء.

 

"وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ": هذه العبارة شهادة من الله عليهم بأنّهم كاذبون في إخبارهم عن نواياهم.

 

وتكليف النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تجاه هذه الدسيسة هو عدم القيام في هذا المسجد أبدًا، والمقصود من القيام هو القيام للصلاة. ويستخدم هذا التعبير في القرآن للحديث عن الصلاة، فكما يُقال صلّى يُقال أقام الصلاة أو قام.

 

"...لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ": تشرح هذه الآية سبب النهي عن الصلاة في مسجد ضرار، وذلك أنّ المسجد الذي تأسّس على تقوى الله من أوّل يوم أحقّ بأن يُصلّى فيه من هذا المسجد الذي بُني على قواعد النفاق. وذلك المسجد الذي بُني على التقوى يصلّي فيه رجالٌ يحبّون التطهّر، وبالتالي أوّل مسجد قباء تقوى وعاقبته طهارة. فأولئك الذين يصلّون في مسجد قباء يحبّون أن تكون قلوبهم وفكرهم وأرواحهم طاهرة، ويحبّون أن يزيلوا هذه الخبائث من وجودهم.

 

 

658


583

تفسير سورة براءة

 النجوم والكواكب. ومن معاني الإرصاد في اللغة الإرقاب بدقّة. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى جميع المساجد ليُسمِع المسلمين أمر الله وحكمه فيها، ولهذا فإنّ المساجد كلّها "إرصاد لأمر الله"، أمّا مسجد المنافقين فهو "إِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ".

 

ولم يكن عند المنافقين من الجرأة ما يكفي ليصرّحوا عن دوافعهم وراء بناء هذا المسجد. وهذه هي طبيعة المنافق، فهو يضمر شيئًا ويظهر شيئًا آخر غيره. ولا يكتفي المنافقون بكتمان دوافعهم وأهدافهم من بناء المسجد؛ بل يحاولون إقناع المسلمين بحسن نيّتهم، فيقولون: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى".

 

و"إن" في قوله تعالى: "وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى" للنفي، ومعنى العبارة هو: لا غاية لنا من بناء هذا المسجد ولا هدف سوى بناء مسجد أحسن من مسجد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في قباء.

 

"وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ": هذه العبارة شهادة من الله عليهم بأنّهم كاذبون في إخبارهم عن نواياهم.

 

وتكليف النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تجاه هذه الدسيسة هو عدم القيام في هذا المسجد أبدًا، والمقصود من القيام هو القيام للصلاة. ويستخدم هذا التعبير في القرآن للحديث عن الصلاة، فكما يُقال صلّى يُقال أقام الصلاة أو قام.

 

"...لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ": تشرح هذه الآية سبب النهي عن الصلاة في مسجد ضرار، وذلك أنّ المسجد الذي تأسّس على تقوى الله من أوّل يوم أحقّ بأن يُصلّى فيه من هذا المسجد الذي بُني على قواعد النفاق. وذلك المسجد الذي بُني على التقوى يصلّي فيه رجالٌ يحبّون التطهّر، وبالتالي أوّل مسجد قباء تقوى وعاقبته طهارة. فأولئك الذين يصلّون في مسجد قباء يحبّون أن تكون قلوبهم وفكرهم وأرواحهم طاهرة، ويحبّون أن يزيلوا هذه الخبائث من وجودهم.

 

 

658


583

تفسير سورة براءة

"وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ": يعبّر الله عز وجل في هذه الجملة عن محبّته للأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا من أهل الطهارة.

والمطلب العامّ الذي يُستفاد من الآية هو أنّ الإنسان إذا أراد أن يصلّي في مسجدٍ عليه أن يختار مسجدًا بناه أهله على أساس التقوى وقواعدها.

 

فلسفة الأحكام الإسلاميّة وحكمها

كلّ أمر في الإسلام له غاية وشُرِّع من أجل هدفٍ، فالصلاة مثلًا شُرِّعت بهدف التقرّب من الله: "الصلاة قربان كلّ تقيّ"

 

[1]. ومن آثار الصلاة نهيها عن الفحشاء والمنكر: "إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"[2]. فلهذه الأسباب وغيرها أمر الله بالصلاة. وقد ورد في الأخبار عن الإمام عليٍّ عليه السلام وغيره من الأئمة عليهم السلام تعليل عددٍ من الواجبات والمحرّمات في الإسلام. في بعض الأحيان نقدر على اكتشاف العلّة التي من أجلها شُرِّع الحكم، وفي حالات أخرى لا نعلم العلّة، وليس من الضروريّ أن نعلم علّة جميع التشريعات الإسلاميّة. مع أنّ العلم الحديث مضافًا إلى بيانات الأئمة عليهم السلام ساعد ويساعد على اكتشاف بعض العلل، فكلّما تقدّمت الإنسانيّة إلى الأمام اتّضحت لها غايات التشريعات الإسلاميّة وعللها، كما تنكشف خرافات بعض الأديان الأخرى. ومن هنا نحن نعتقد أنّ البشريّة في هذا العصر هي أقرب إلى الإسلام من البشريّة في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأنّ العلماء في أقطار الأرض يشرحون في دراساتهم وأبحاثهم أحكام القرآن ويفهمونها، وإن شاء الله سوف يأتي يومٌ يفهم فيه الناس جميعًا الإسلام ويعتنقونه.

 

وعلى أي حال، كلّ تشريعٍ من تشريعات الإسلام له علّة وغاية ربّما لا تكون معلومةً لنا في هذه الأيّام. وبعضها علله معروفة لنا ومكشوفة،


 


[1] الكافي، ج 3، ص 265.

[2] سورة العنكبوت: الآية 45.

 

659


584

تفسير سورة براءة

فإذا عجزنا عن فهم السبب الكامن وراء تشريع مّا، لا يصحّ لنا نفي هذا التشريع وإنكاره، فكثير من الأمور لم نكن نعرفها ثمّ تعرّفنا إليها واكتشفناها. وينبغي أن نقبل هذا المعتقد على نحو الإجمال وهو أن لا حكم في الشريعة ليس وراءه هدفٌ وغاية. فلا يشرّع الله حكمًا من دون غاية.

 

وكنموذج فقد أشار الله عز وجل في القرآن الكريم إلى غايات الحجّ فقال: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه﴾[1]. وفق هذه الآية الحجّ واجب مقدّسٌ في الإسلام شرّعه الله من أجل المنافع المترتّبة عليه، ومن هذه المنافع اجتماع المسلمين واتّحادهم، هذه هي المنافع الظاهريّة للحج. ولنفرض أنّ الحجّ صار منشأً لترتّب آثار معاكسة لهذه الآثار ومفاسد مضادّة لتلك المصالح؛ فهل يبقى الحجّ واجبًا؟ هذه قضيّة تستحقّ العناية والتفكير.

 

وعلى العموم، في الإسلام أمور شرّعها الله عز وجل من أجل مصالح وغايات حسنة تترتّب عليها؛ ولكن سوء اختيار بعض الأشخاص وخبث سريرتهم واستغلالهم السلبيّ لهذه التشريعات يحرّف هذه التشريعات ويحوّرها، فتصيّر هذه التعاليم الإسلام وسيلةً لهؤلاء المغرضين للوصول إلى أهداف خبيثة. مثلًا قد تُستغلّ صلاة الجماعة التي شُرِّعت من أجل جمع كلمة المسلمين، تُستغلّ للتفرقة بينهم. والكلام عينه يُقال على المسجد، فهو في الإسلام وسيلةٌ لشدّ قلوب الناس وفكرهم إلى الله تعالى، وقد يُستغلّ ليكون وسيلة لإلهاء الناس عن الله وتوجيههم في اتّجاه آخر. أو الأدعية المأثورة التي وردت عن الأئمة عليهم السلام فهي من أجل ربط الناس بالله تعالى، وعمارة القلوب، وتبيين الحقائق الدينيّة وغير ذلك من الأهداف والغايات التي تترتّب عليها؛ ولكن قد يُساء استغلالها وتستخدم لغايات أخرى. ففي مثل هذه الحالات ما العمل؟


 


[1] سورة الحج: الآية 28.

 

660


585

تفسير سورة براءة

مسجد ضرار قالب من دون مضمون

الآيات التي نحن بصدد البحث في تفسيرها، والتي نزلت في قصّة مسجد ضرار، هي نموذج كامل لهذا المبدأ الذي أشرنا إليه أعلاه، وذلك لأنّ المسجد يُبنى في الإسلام من أجل الإيمان، وثانيًا هو واسطة لتحقيق وحدة المسلمين وتقريب بعضهم من بعض؛ ليقف أحدهم إلى جانب الآخر وليتعارفوا ويأنس بعضهم ببعض، ويشعروا بالانتماء المشترك؛ وثالثًا: من أهداف المسجد توحيد صفوف المسلمين؛ ورابعًا: هو محلٌّ للاجتماع من أجل العبادة وانتظار أحكام الله وتلقّيها في جميع المسائل الفرديّة والاجتماعيّة. أمّا هذا المسجد (مسجد ضرار) فقد تحوّل بواسطة مجموعة من المنافقين إلى وسيلة لتحقيق مآرب معاكسة ومضادّة لكلّ هذه المصالح المرتقبة من المسجد.

 

فقد أراد المنافقون تحويل المسجد من مكانٍ للإيمان بالله إلى مكان لنشر الكفر، وحوّلوه من محلّ لتوحيد صفوف المسلمين ووحدتهم إلى محلٍّ للتفرقة بينهم. كما حرّفوا دوره من مكان لتحقيق مصالح المجتمع ومنافعه إلى محلٍّ للإضرار بالمجتمع الإسلاميّ. والمسجد الذي كان مرصدًا لترقّب أحكام الله وتشريعاته، حوّلوه إلى مرصدٍ لانتظار شخصٍ قديم العداء لله ورسوله: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ".

وبناءً على هذا، إذا فُقدت الروح الحقيقيّة من هذا المحلّ، فليس فيه من حقيقة المسجد ومفهومه شيءٌ؛ ولذلك أمر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بإحراقه.

 

المصاحف على الرماح في مقابل القرآن الناطق

ومن النماذج ما حصل في صدر الإسلام عندما رُفِعت المصاحف على رؤوس الرماح، في مواجهة الإمام عليٍّ عليه السلام في معركة صفّين. فالقرآن له في

 

 

661


586

تفسير سورة براءة

الإسلام أحكام تشريفيّة ظاهريّة خاصّة. كوجوب احترامه، وحسن تقبيله؛ ولكنّ معاوية في معركة صفّين استغلّ هذه الأحكام ورفع المصاحف في مواجهة الإمام عليّ عليه السلام الذي هو تجسيد للقرآن. ومن هنا، ورد أنّه عليه السلام أمر برمي هذه المصاحف بالسهام؛ وذلك لأنّ المصحف هو حكمٌ بين المسلمين، وهو وسيلةٌ تقودهم إلى الهداية، وهو قانون يرسم لهم الحدود التي لا يجوز تعدّيها. وورد في تفاصيل أخبار وقعة صفّين من بداياتها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من يذهب بهذا المصحف إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه؟" فأقبل فتًى اسمه سعيد فقال: أنا صاحبه. ثمّ أعادها فسكت الناس وأقبل الفتى، فقال: أنا صاحبه. فقال عليّ: دونك. فقبضه بيده ثمّ أتى معاوية فقرأه عليهم ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه"[1].

 

وبناءً على هذه الرواية يُعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد الاستفادة من القرآن بالطريقة المثلى، وعرضه على معاوية وأصحابه؛ لأنّهم كانوا يقدّمون أنفسهم من أهل المعرفة بالقرآن، ولكنّ الإمام عليه السلام كان يعلم من أوّل الأمر أنّهم مسلمون جاهلون. نستجير بالله من الجهل! ماذا فعل هؤلاء الجهلة والمعاندون، بل الكفّار، بمن حمل إليهم القرآن ليعرضه عليهم؟ ما فعلوه هو قتل حامل القرآن وتقطيعه مع المصحف الذي يحمله!

 

والتفسير المنطقيّ لتصرّفهم هذا هو أنّهم لا ينزلون على حكم القرآن، وبهذا يعترفون عمليًّا بعدم الإذعان للقرآن والقبول به، وقد ثبت بهذا التصرّف أنّهم لا يتعاملون مع القرآن بوصفه كتاب هداية ولا يسلّمون له؛ ولكن عندما بدأت إرهاصات الهزيمة تلوح أمام نواظرهم، رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وأرادوا الاحتماء بها، وفق مخطّط مرسوم مسبقًا.

 

أيّها المسلم الواعي! أنت تعلم أنّ معاوية لم ينزل على حكم القرآن بالأمس، ورأيت كيف قتل حامل القرآن؛ فهو إذًا لا يقبل القرآن ولا يرضى به حكمًا. ولم يتغيّر شيء من ذلك عند رفعه المصاحف على رؤوس


 


[1] وقعة صفين، ص 224-245.

 

662


587

تفسير سورة براءة

 الرماح، وما هذا العمل سوى خدعة تسمح لمعاوية بالبقاء أيّامًا إضافيّة ليتابع سعيه لتحقيق أهدافه التي كان يسعى نحوها. وعليه، يكون القرآن قد استُعمل هنا بطريقة معاكسة لما ينبغي لأهدافه وغاياته. وهنا تعالت أصوات المتظاهرين بالقداسة الحمقى وبدأوا بالهتاف، لا نرى في مواجهتنا سوى المصاحف، فكيف نقاتل القرآن؟!

 

أيّها الجهلة! عليّ عليه السلام هو القرآن الناطق. لقد رأيتم قرآن معاوية. عليّ عليه السلام هو نسخة عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم الذي وُصف بأنّه: "كان خلقه القرآن"[1]، وأخلاق عليّعليه السلام هي تطبيقٌ عمليٌّ للقرآن. فلو ارتفع القرآن من الوجود فإنّ عليًّا يمكنه كتابته حرفًا بحرف، وأن يقرأه علينا من جديد، ويرينا تطبيقه العمليّ. ويا أيّها المتظاهر بالقداسة والورع، عندما ترى عليًّا عليه السلام وهو تجسيد حيٌّ للقرآن وكمال الدين ولبّه وتطبيق القرآن العمليّ في ميدان الحكم والدولة وإدارة المجتمع في جهة، ثمّ ترى القرآن المدوّن في مصاحف مرفوعًا على الرماح، ويُستخدم كصورة وشكل خالٍ من المضمون والمحتوى في الجهة الأخرى، عندما ترى هذا المشهد يرقّ قلبك للمصحف المرفوع على رؤوس الرماح؟!

 

وما نرمي إليه هو أنّنا نستفيد من الآية قاعدة عامّة وهي أنّه كلّما رأينا شعيرةً من شعائر الإسلام خاليةً من المحتوى واللبّ، تُستغلّ لتحقيق مآرب وغايات غير المآرب والغايات التي شُرِّعت من أجلها، علينا إدانة هذا التصرّف وإذلاله.

وتنطبق هذه القاعدة على المسجد. فالمسجد الذي يُستفاد منه لدعم دولة الإسلام ولتحقيق العدالة الاجتماعيّة هو المسجد؛ أمّا المسجد الذي تذبح فيه العدالة فليس بمسجدٍ؛ لذا لا بدّ من إدانته وإظهار حقيقته وهدمه. والسبب الذي يؤدّي إلى التضحية بالباطن لأجل الظاهر، والذي من أجله يُضحّى بالروح كرمى لعيون الجسد، السبب هو جهل الناس.


 


[1]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 340.

 

 

663


588

تفسير سورة براءة

وكلّما كان الناس واعين سواء كان ذلك في صدر الإسلام أم في أي زمانٍ آخر، لم يسمحوا برجحان كفّة الظاهر على حساب الباطن، ولم يسمحوا بالتضحية بالروح من أجل الشكل والجسد، ولا يرضون بأن يتحوّل القرآن الذي هو كتاب هداية إلى وسيلة للإضلال. فما يؤدّي إلى هذه الأخطاء هو الجهل وانعدام الوعي عند الناس.

 

لو كانت الأكثريّة من المشاركين في معركة صفّين في جبهة عليّ عليه السلام واعيةً لهذا الخطر وملتفتةً إليه، فهل كانت الأمور انتهت إلى التحكيم؟ وهل كان معاوية يبقى أميرًا على المسلمين؟ يقينًا؛ لا. ولكن لمّا كانت الأكثريّة غير واعية، ولمّا حافظوا على احترامهم لتلك المصاحف التي رفعها معاوية، فإنّهم أجبروا عليًّا عليه السلام على دعوة مالك الأشتر إلى التراجع والكفّ عن القتال. وعندما رجع مالك طُلب من أمير المؤمنين عليه السلام أن يختار ممثّلاً عنه وطلب من معاوية أن ينتدب ممثّلًا ليتفق الطرفان على مصير المسلمين!

 

ومن هو معاوية حتّى يُؤذن له بتقرير مصير المسلمين؟! وعندما أراد عليّ عليه السلام اختيار مندوبه للتحكيم ضُيِّقت عليه الخيارات ورفضوا من اختارهم إلى أن ألزموه باختيار أبي موسى الأشعريّ، وهو مغرضٌ أو جاهل. سبب هذا كلّه هو الجهل وعدم الوعي.

 

لفتة للمبلّغين والدعاة

أنتم يا أهل التبليغ والدعوة إلى الإسلام، يجب عليكم توعية الناس على هذه الأمور. عليكم أن تتحسّسوا الجهل المطبق عند بعض الناس. وتقع على عواتقكم مسؤوليّة توعيتهم وإيقاظهم من هجعتهم، ولفت نظرهم إلى أحكام الإسلام المقدّسة. عندما تذهبون إلى التبليغ بهذه الروحيّة سوف يكون ذهابكم من أجل الله. ولا أحسب أنّ أحدًا منكم يرغب أو ينبغي له أن يذهب ليصرف بعض الوقت ويتحدّث إلى الناس قليلًا، بل هدفكم هو الإحساس بالمسؤوليّة.

 

 

664

 


589

تفسير سورة براءة

ولا أحسب أيضًا أنّ أحدًا منكم يفكر في الذهاب إلى التبليغ من أجل أن يصعد إلى المنبر ويستحسن الناس خطابته.

 

بل ينبغي أن يكون الهدف من خطابتكم رضا الله تعالى. واشعروا بأنّ في ذمّتكم رسالةً عليكم إيصالها إلى الناس، وهي تبيين حقائق الإسلام للناس. تحرّكوا على ضوء هذا الإحساس بالمسؤوليّة؛ وحيث شعرتم بأنّ المجال مفتوح لكم لأداء هذه الرسالة استقرّوا وابقوا حتّى إنجاز المهمّة. من ينشط في مجال التبليغ والدعوة بهذه الروحيّة، سوف يكون سعيه من أجل الله وفي سبيله، وسوف يحقّق ما يبتغي، وسوف يكون في سعيه منفعة الناس وفائدتهم.

 

وآية "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"، والآية التي تليها وهما في سياق الإخبار عن قصة مسجد ضرار، تعرضان علينا نمطين من الحياة، أحدهما الحياة على قاعدة التقوى، والثاني الحياة على أساس الميول والأهواء النفسيّة والشخصيّة. وبالمقارنة بين هذين النمطين يخرج لنا القرآن حكمًا عامًّا وكليًّا، وهو أنّ الحياة التي تؤسّس على قواعد التقوى هي حياة مستقرّةٌ وثابتةٌ. أمّا الحياة التي تُبنى على غير هذه القواعد فهي حياة باطلة وآيلة إلى الزوال والفناء؛ وذلك لأنّ مسار العالم ومسيرته قائمٌ على أساس الحقّ. فالحقّ باقٍ، والباطل إلى زوال لأنّ مساره معاكس للمسار الطبيعيّ للعالم، وما كان كذلك لا يدوم ولا يبقى.

 

وقد عرض القرآن هذه الحقيقة علينا بأسلوب المقارنة، وطرح علينا هذا السؤال: أيّهما خيرٌ من الآخر، البناء المتقن والمحكم الذي أُسِّس على التقوى، أم البناء الذي أُقيم على أرضٍ غير مستقرّة ولا ثابتة؟

 

والبناء الذي أُسّس على قواعد غير إيمانيّة أشبه ببيتٍ بُني على رمال متراكمة إلى جانب مجرى نهر، ومثل هذا البيت لن يستقرّ طويلًا. والنقطة الثانية هي، أنّه لو نظرنا إلى القضيّة بعين المصلحة، إذا وضع أمامنا خياران لنمط الحياة وشكلها، أحدهما قائم على أساس التقوى والالتفات إلى الله

 

 

665


590

تفسير سورة براءة

تعالى، والآخر قائم على الميول الشخصيّة والأهواء النفسية، فأيّ هذين النموذجين نرجّح على الآخر؟

 

في الشكل الأوّل ليس الهدف هو الإنسان نفسه؛ بل الهدف هو الله، أمّا في الشكل الثاني فالمنطلق والهدف هما المنافع الشخصيّة.

 

بحسب التقويم العاميّ قد يبدو للكثيرين أنّ النموذج الثاني هو الأفضل. وبعض الناس في عصر النبيّصلى الله عليه وآله وسلم كانوا يميلون إلى هذا النموذج. أمّا بحسب المنطق النبويّ فالنموذج الأوّل هو الأفضل. وقد استطاع النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تربية عددٍ من الأشخاص على اختيار النموذج الذي ينسجم مع الرؤية النبويّة. والآية تفيد هذا المطلب وهو أنّ النموذج الأوّل سوف يُكتب له البقاء حتّى في هذه الدنيا، وإذا لم يثمر في هذا الجيل فسوف تظهر آثاره في الأجيال القادمة، ولا مشكلة في ذلك فحياة الإنسان لا تنتهي في هذه الدنيا، ولا ضير أن يعمل الإنسان عملًا تقطف ثماره الأجيال القادمة. أمّا النموذج الثاني فهو من أجل هذه الدنيا وحدها، ولا ينال صاحبه والعامل من أجله أيّ شيء بعد انتقاله إلى عالم الآخرة.

 

وهذه الحقيقة صوّرها الله عز وجل لنا في مثال البيت الذي يُبنى على ضفّة نهر، فمثل هذا البيت معرّضٌ للسقوط والانهدام في أيّ لحظة: "عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ".

 

"وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ": تكشف لنا هذه العبارة عن الموقف الإلهيّ من الظالمين، وكأنّها تقول لهم: لا تحسبوا أنّ مسجدكم هذا سوف تترتّب عليه منفعة للمسلمين، فمثل هذه المساجد لا تستحق الاحترام، ولا مشكلة في حرقها وتحويلها إلى مزبلة. وقد ورد في أخبارنا ورواياتنا أنّ القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف عندما يظهر سوف يهدم عددًا من المساجد؛[1] لأنّ تلك المساجد هياكل لا روح فيها، وإذا وجدت فيها روح فهي روح تخالف روح المسجد.


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 385.

 

 

666


591

تفسير سورة براءة

الاختلاف بين المؤمن والمنافق

والآية اللاحقة في سياق الحديث عن قصّة مسجد ضرار تبيّن لنا وجهًا من وجوه الفرق والاختلاف بين المؤمن والمنافق. وقد تعرّفنا في الآيات السابقة والأبحاث التي عرضناها إلى عدد من وجوه الاختلاف بين المؤمنين والمنافقين. فالمنافق هو الشخص الذي يتظاهر بأنّه يسير في سبيل الله، وهو في واقع حاله غير ذلك. ولا فرق بينه وبين الكافر سوى أنّ الكافر لا يدّعي الإيمان والعمل بإرادة الله. أمّا المؤمن فهو الذي يتحرّك وفق بوصلة الهداية الإلهيّة.

 

والفرق الأساس الآخر هو أنّ المؤمن الذي يسير في سبيل الله ويعمل وفق هدايته، تخلو مسيرته من الاضطراب وتتّسم بسمة الاستقرار والثبات؛ لأنّ صراط الله منسجمٌ مع الفطرة والطبيعة الإنسانيّة، ومسار المؤمن مطابقٌ لمسار الواقع والفطرة. ومن هنا يقول تعالى في وصف النبيّ والمؤمنين: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[1]. فهم معتقدون ومنسجمون مع معتقدهم ويعملون بما يؤمنون به، أمّا المنافق فمشكلته هي فقدانه لهذا الوضوح والصراحة التي تتسم بها حياة المؤمن.

 

ومن هنا، تخبر الآية عن القلق والاضطراب الذي عشّش في قلوب الذين بنوا مسجد ضرار: "لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ". فهم بنوا هذا المسجد لأسباب عدّة منها التفريق بين المسلمين، ودائما يساورهم القلق حول قدرتهم على تحقيق الأهداف التي يسعون من أجلها، ويتساءلون على الدوام هل اكتشف النبيّصلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون خطّتهم وأهدافهم؟

 

"الريبة" من الريب؛ ولكن الريب مصدر والريبة اسم مصدر. والفارق بين الريبة والشك هو أنّ الريب يقترن بالقلق مضافاً إلى عدم اليقين.

 

"إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ": سوف يبقون على حالة الريبة هذه إلّا إذا انقطعت العلاقة بين قلوبهم وميولهم التي تحرّكهم.


 


[1] سورة البقرة: الآية 285.

 

667


592

تفسير سورة براءة

إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ

فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ

فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ

وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾

 

669


593

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

موضوع هذه الآيات هو الحديث عن أهميّة الجهاد في سبيل الله وفضله. ولعلّ وجه التناسب بين هاتين الآيتين والآيات السابقة؛ بل والآيات الأولى من هذه السورة الشريفة، هو أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن الجهاد بصور شتّى، وهاتان الآيتان تتضمّنان الحديث عن فضل الجهاد وأهميّته.

 

وربّما يكون وجه التناسب أيضًا أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن المنافقين والأشخاص الذين يريدون الإخلال بأوضاعهم وأحوالهم، وهذه الآيات تكشف عن أحوال المؤمنين المخلصين.

 

الحثّ على الجهاد

الداعي والهدف المحوري لهذه الآيات هو الحثّ والحضّ على الجهاد في سبيل الله، ونفهم من عددٍ من الآيات والروايات أنّ الجهاد ليس تشريعًا خاصًّا بالإسلام، وهذه الآية شاهدٌ على هذه الفكرة.

 

فجميع الأمم التي تأسّست على يد نبيّ من الأنبياء، شُرّع لها الجهاد. ولا توجد أمّة ليس في شريعتها الجهاد؛ وذلك لأنّ كلّ دينٍ جديد يُعرض على الناس، سوف يهدّد بالضرورة حياة بعض الطبقات أو الفئات الاجتماعيّة، فينهضون لمقارعته والمنع من انتشاره واستقراره. ولا يواجه هؤلاء المتضرّرون الأديان فحسب؛ بل هم يستشعرون الخطر من كلّ كلام جديد، ويتلمّسون فيه خطرًا على مصالحهم، وبالتالي ينبرون لمهاجمته ومحاربته.

 

والأنبياء رسل فكرٍ جديد، يريدون تأسيس المجتمع على قواعد فكريّة

 

 

671

 


594

تفسير سورة براءة

مختلفة عن القواعد السائدة، فمن الطبيعيّ أن يكون هؤلاء المتضرّرون أعداءً لهم. فكيف يتصرّف هذا الدين الجديد في مواجهة هذه الفئات؟ أليس عليه أن يزيح هؤلاء من طريقه؟ من الطبيعيّ أنّه لا بدّ من ذلك؛ ولهذا نجد أنّ جميع الأديان -ومنها الإسلام- دعت إلى الجهاد في سبيل الله لإزاحة هذه العوائق.

 

الجهاد عملٌ صعبٌ وفيه المشقة؛ لأنّ الجهاد قد يؤدّي إلى فقدان الإنسان روحه وهي أعزّ ما يملك. ومن هنا لم يكن من السهل على الناس تلبية داعي الجهاد وتعريض أنفسهم لخطر الموت ببساطة وسهولة. فليست التضحية بالنفس من الأمور المعتادة عند أكثر الناس. وبالتالي، على الدين الذي يريد دعوة الناس إلى الجهاد، أن يؤسّس له قاعدة فكريّة، ويعدّ هؤلاء المخاطبين لتحمّل المصاعب التي تترتّب على أداء واجب الجهاد. ولكن كيف؟ بطريقتين، إحداهما للخواصّ والأخرى للعوام.

 

الاستدلال المناسب لفهم الخواص حاصله: ألم يُخلق الإنسان من أجل أن يتكامل؟ أليس الدين هو منهج التكامل وطريقه؟ ألا يتوقّف ذلك على تأسيس دولة الدين؟ ألا تحتاج دولة الدين إلى الجهاد والمجاهدة؟ بناءً على جواب هذه الأسئلة بما أنّك أيّها المخاطب إنسانٌ مدعوٌّ إلى التكامل فأنت إنسانٌ مسؤول وعليك أن تؤدّي مسؤوليّتك وهي الجهاد.

 

أمّا عامّةُ الناسِ العاجزون عن إدراك كنه الأمور وعمقها، فلا بدّ من اعتماد أسلوب آخر لتحريضهم على الجهاد. وليست هذه الوسيلة ذات طبيعة استدلاليّة؛ بل هي عرضٌ للفكرة وتصويرها بصورة المعاملة والصفقة، أحد العوضين فيها هو العوض المعروض على الإنسان في جميع الأديان وهو الجنّة. ويقول الله لهؤلاء: أيّها المؤمنون! يريد الله لكم الدخول في هذه المعاملة فهل أنتم مستعدّون؟

 

وهذه المعاملة كأيّ معاملةٍ أخرى لها ستّة أركان: البائع والمشتري والعين والثمن ومحلّ التسليم ووثيقة المعاملة. البائع في هذه الصفقة هم المؤمنون، والمشتري هو الله، والعين هي المال أو النفس، والعوض هو الجنّة، ووثيقة

 

 

672


595

تفسير سورة براءة

المعاملة هي التوراة والإنجيل والقرآن، ومحلّ التسليم هو ميدان الجهاد وساحة الحرب: "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ". في هذه الآية يعرض الله على المؤمنين تقديم أموالهم وأنفسهم لينالوا الجنّة، ويجب عليهم الحضور في ميادين القتال سواء قُتِلوا أم لم يخرجوا من القتال سالمين.

 

المؤمن في الاصطلاح القرآني والحديثيّ هو "المسلم النموذجيّ" وقد ظهر هذا المصنع العظيم الذي هو الإسلام لصناعة المؤمنين. وهذا المعنى من المؤمن هو المقصود في هذه الآية. وعندما نتتبّع شروط المؤمن في الآيات نرى فيه علامة "اشترى". اشترى فعلٌ ماضٍ، فهذه الصيغة تدلّ على وقوع هذه الصفقة في زمنٍ سابقٍ، ولا تفيد أنّ الله سيشتري. وبالتالي، إذا لم يسلّم المؤمن ماله أو نفسه فيكون قد أخلّ بعهده وخان طرف المعاملة الآخر وهو الله تعالى.

 

وقد يحسب بعض الناس أنّه يكفي للإنسان أن يقدّم نفسه أو ماله في سبيل الله كيفما اتّفق، ويمكن للإنسان أن ينال الجنّة في مقابل أيّ عمل عباديّ أو ماليّ يؤدّيه. وهذا التصوّر غير صحيح؛ وذلك لأنّ الوعد القطعيّ بالجنّة في مقابل الجهاد الذي يتوقّع فيه القتل في سبيل الله: "فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ". وكأنّ الله يريد أن يرفع هذه الشبهة؛ ولذلك بيّن محلّ الصفقة؛ كي لا يقع أحد في هذا الالتباس.

 

ويُشمّ من بعض كلام المرحوم الطبرسيّ في تفسيره لهذه الآية مثل هذا الاشتباه[1]. ومن دواعي العجب أنّ هذا المفسّر يُفهم من أوّل كلامه أنّ الآية نزلت في الجهاد، ثمّ في آخر كلامه يقول ما يوحي بهذا الفهم المشار إليه أعلاه. وكأنّه يفهم من الآية أنّ الوعد بالجنّة هو وعدٌ في مقابل أيّ عبادة ماليّة أو بدنيّة يؤدّيها المؤمنون.


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 129.

 

673


596

تفسير سورة براءة

المؤمنون يقاتلون؛ ولكن ليس أيّ قتال، بل القتال في سبيل الله: "يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ". تقييد القتال بكونه في سبيل الله، ينفي أيّ لونٍ آخر من القتال، فمن يقاتل من أجل عصبيّة أو غيرة شخصيّة أو قوميّة، لا يكون قتاله في سبيل الله بحسب هذه الآية.

 

"فِي سَبِيلِ اللّهِ": القتال في سبيل الله ليس مجرّد معنًى كليٍّ ونيّة وقصد؛ بل له مصاديق هي كلّ ما شرّعه ربّ العالمين من أحكام ومقرّرات طلب من المؤمنين الإتيان بها، وكلّ ما عدّه الله عز وجل أمرًا لازمًا لتكامل الإنسان ورقيّه الروحيّ والمعنويّ، وكلّ جهدٍ تنتفع به البشرية. ومن يعدّ الإسلام مصنعًا للبشر ويعلن الاستعداد للقتال والموت من أجله، يكن عمله في سبيل الله. وشاهد هذا المدّعى فتاوى الفقهاء التي تفيد جواز الإنفاق من الزكاة على المصالح العامّة.

 

وإذا قاتل إنسانٌ من أجل رفع الغبن عن فئة محرومة من الرفاه والعيش الكريم، ولم يكن منطلقًا من عواطفه الشخصيّة أو الأسريّة أو القوميّة، ولم يكن منطلقًا من حسد أو طمع، يكون قتاله في سبيل الله، وعمله مستحسنًا عند الله.

 

"فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ": تفيد هذه العبارة أنّ القتل في بعض الحالات قد يكون في سبيل الله. ولم تذكر الآية من هو الذي يجوز قتله؛ والسبب هو أنّ من يجوز قتله ليس شخصًا أو جماعة بعينها كالمشركين أو الكفّار أو غيرهم، وكلّ من وقف في عكس سبيل الله وسدّ دروب التكامل في وجه الناس، يستحقّ القتل، بغضّ النظر عن انتمائه الدينيّ أو عنوانه القوميّ أو الاجتماعيّ الذي يتغنّون به، فالمسلم قد يجوز قتله إذا تحوّل إلى عائق يحول بين الناس وتكاملهم، من أمثال هؤلاء معاوية بن أبي سفيان.

 

كان معاوية أشبه بشوكة في الطريق إلى الله. وكان حاجبًا يسعى لحجب الحقّ ومنع الناس من رؤيته. وكان مانعًا ومعيقًا عن تحقيق العدل الإسلاميّ على يد عليّ عليه السلام. وبحكم هذه الآية انطلاقًا من دلالتها أعلن أمير المؤمنين عليه السلام

 

674

 


597

تفسير سورة براءة

الحرب عليه، وعزم على اقتلاعه من درب السائرين إلى الله.

 

إذًا تنطبق الآية على كلّ من تحوّل إلى مانع يحول دون تحقيق الأهداف والغايات الإسلاميّة، ويعمل في الوجهة المخالفة للإسلام. وقد أفتى بعض فقهاء المسلمين بجواز قتل المسلمين إذا تترّس بهم الكفّار، وحوّلوهم إلى درع يحتمون بها للصدّ عن سبيل الله. وتبرير ذلك أنّ الكفّار يستغلّون المسلمين بأسرهم واتخاذهم دروعًا بشريّة[1]. ولا ينبغي أن ينالوا ما يريدون، فلا بدّ من الضرب ومتابعة المسار.

 

"وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ": يؤكّد الله عز وجل في هذه الجملة وعده المقاتلين بالجنّة في كتبه السماوية الثلاثة. ولا شكّ في أنّ الله لا يخلف وعده، فمن يخلف وعده قد يخلفه بسبب العجز عن الوفاء به، وهذا غير متصوّر في حقّ الله تعالى. وفي هذه العبارة أشكال من التأكيد على الوفاء بهذا الوعد، فألحقت كلمة الوعد بالجارّ والمجرور عليه، وكذلك أكّد الوعد بكونه حقًّا. والهدف من هذا التشديد والتأكيد هو تثبيت هذا الوعد في ذهن المخاطب.

 

وقد وعد الله الشهداء بالجنة في أكثر من آية في كتاب الله. وبشهادة قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[2]، يُعلم أنّ الجهاد ليس من التعاليم الخاصّة بالإسلام؛ بل تفيد الآية أنّ الله شرّع الجهاد في التوراة والإنجيل.

 

ويستفيد المرحوم الطبرسيّ من الآية أنّ أهل كلّ ملّة أُمِروا بالقتال وُعدوا عليه بالجنّة[3]. ولكنّ الاستفادة الأدقّ هي أنّ الجهاد والوعد عليه بالجنة موجود فعلًا في التوراة والإنجيل.


 


[1] المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 11.

[2] سورة آل عمران: الآية 146.

[3] مجمع البيان، ج 5، ص 130.

 

 

675


598

تفسير سورة براءة

"وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ": تسأل هذه العبارة عمّن هو أوفى بالعهد من الله؟ وينبغي أن يكون الجواب: لا أحد أوفى عهدًا ووعدًا من الله.

 

"فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ": البشر هو السرور الذي تظهر علاماته على الوجه. تدعو الآية المؤمنين الذين أجابوا داعي الله إلى الجهاد، إلى البشر والسرور بالصفقة التي دخلوا فيها مع الله.

 

"وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ": الفوز هو النجاة والغنيمة. وتختم هذه الآية بوصف ما يناله المجاهدون بأنّه فوزٌ عظيم.

 

لا شكّ في أنّ الآية اللاحقة وهي قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، مرتبطةٌ بالآيات السابقة، فهي تخبر عن صفات المجاهدين الذين يقاتلون في سبيل الله. ولكن اختُلِف في كيفيّة الربط اللفظيّ بينها وبين ما تقدّم، وطرح أكثر من قولٍ في هذا المجال. ثمّة من رأى أنّ هذه الصفات المذكورة في الآية هي صفاتٌ لفاعل الفعل "يقاتلون" في الآية السابقة، وفي المقابل طرح آخرون تفسيرًا آخر للربط، وهو أنّ الجملة مستأنفة ولكنّها تصف من تقدّم، من دون أن يكون لها علاقة إعرابيّة بالآية السابقة.

 

الصفة الأولى التي وردت في الآية هي "التَّائِبُونَ" جمع تائب، والتوبة هي العودة، فالإنسان عندما ينحرف عن صراط الحقّ يبتعد عن الله وعندما يتراجع يتوب ويعود إليه تعالى.

 

"الْعَابِدُونَ": جمع عابد، وهو اسم فاعل من العبادة، وقد ورد في الخبر أنّ العابدين هم: الذين لا يعبدون إلّا الله ولا يشركون به شيئًا من طاغوت أو غيره[1].

 

"الْحَامِدُونَ": هم الذين يحمدون الله عز وجل وحده. وهذه الصفة تكشف عن


 


[1] الكافي، ج 5، ص 15.

 

 

676


599

تفسير سورة براءة

أنّ هؤلاء يذكرون منّ الله عليهم عند كلّ فتح أو نصر يصيبونه فيحمدون الله  عليه. وقد ورد هذا المعنى في سورة النصر حيث يقول تعالى: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ... فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾، فلا يستولي الغرور عليهم في أوقات العزّة والانتصار.

 

"السَّائِحُونَ": السياحة هي السير في الأرض والانتقال من مكان إلى مكان. وهي بحسب المعنى اللغويّ الحركة بمعناها العامّ والواسع. والسياحة الممدوحة هي الانتقال من مكان إلى آخر طلبًا للعلم، أو هجرة للإسهام في تأسيس المجتمع الإسلاميّ، أو سفرًا للجهاد وإعلاء كلمة الله، أو بهدف التأمّل والنظر في آيات الله في الآفاق.

 

والمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو الحراك الدائم، وعدم الجمود، والبقاء على حالٍ واحدة، بل هم يسيرون إلى الأمام دائمًا. ومن المعاني المتضمّنة في المصداق الأخير المذكور أعلاه، السياحة في النفس والسفر إلى أعماق القلب والفكر.

 

ومن مصاديق السفر أو السياحة في النفس، أن يعمل الإنسان على تقويه روحه وشدّ عزيمته يومًا بعد يوم. ومن الأساليب التي تساعد على تقوية الإرادة وشدّ العزيمة الصوم. وكأنّ الصوم يدخل الإنسان في سياحة نفسيّة داخليّة، وقد ورد في بعض الأخبار تفسير السياحة في الآية بالصوم: "السائحون هم الصائمون"[1].

 

"الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ": الركوع والسجود هما فعلان من أفعال الصلاة. فهاتان الصفتان تشيران إلى محافظة هؤلاء المجاهدين على الصلاة. وقد ورد هذا المعنى في الروايات التفسيريّة. وإذا أردنا أن نوسّع معنى الآية ونعمّمه، يمكننا القول إنّ هؤلاء خاضعون خاشعون لله تعالى، وليس بالضرورة أن يحصر المعنى في الانحناء للركوع، أو الهوي إلى الأرض للسجود على نحو ما يفعل الإنسان في صلاته.


 


[1] الكافي، ج 5، ص 15.

 

677


600

تفسير سورة براءة

"الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ": الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المفاهيم التي تقع على حدود الجهاد، وهي قريبة منه، من دون أن تعنيه بالتمام والكمال.

 

"وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ": هؤلاء حرّاس حدود الله تعالى. وهذه الصفة أعمّ من الصفات التي تقدّمت. وهي تدلّ على أولئك الذين يقفون على حدود الله ولا يتجاوزونها ولا يسمحون لأحد بتجاوزها. ويمكن تشبيه الدين ببقعة جغرافيّة لها حدود، وحفظ الدين في وسط هذه البقعة وداخلها أمرٌ سهلٌ من بعض الجهات، لكنّ الصعب هو حفظ حدوده وثغوره؛ وذلك لأنّ بعض الأعداء الذين يريدون طمس الدين يكمنون على الحدود. وحارس الحدود هو الشخص الذي يتولّى الدفاع عن الدين ويحرس حدوده. ومصداق الحافظين لحدود الله في عصر صدر الإسلام هو النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وسائر المؤمنين الصادقين. وشياطين العالم كانت تكمن لهذا الدين على الحدود من أوّل الأمر. ومن هؤلاء الطواغيت وبعض الأحبار والرهبان، فهم على الدوام يسعون ويبغون اختراق الحدود وكسرها. وحارس حدود الله هو أيضاً من يعانق الأخطار ويفدي الدين بنفسه.

 

 

678

 

 


601

تفسير سورة براءة

 

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى

مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿113﴾ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ

إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿114﴾

 

 

679


602

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

أشرنا في بداية تفسيرنا لهذه السورة من سور القرآن الكريم، إلى أنّها سورةٌ مشحونةٌ بالمواقف التي يجب على المسلمين اتّخاذها تجاه الجماعات والأفراد التي بينها وبين المسلمين تواصلٌ، سواءٌ كانت هذه الجماعات من الكفّار والمشركين، أم المنافقين، وضعيفي الإيمان من المؤمنين، أوالمؤمنين فيما بينهم. وتهدف هذه السورة إلى تسليح الأمّة المسلمة بسلاح الوعي الفكريّ لمواجهة الآخرين عند إرادة اتّخاذ الموقف منهم.

 

معظم الآيات السابقة محورها الأساس هو المنافقون. لكنّ آية "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى.."[1]. التي تدور حول الجهاد، بيّنت الموقف الخاصّ في مواجهة المخالفين على تنوّعهم، وفي الحقيقة هي، بالاصطلاح المعاصر، تكتيك للتعامل مع المعارضين، لتمتين وتعميق فلسفة الجهاد وأرضيّته العقديّة، بهدف تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله.

 

والآيتان محلّ البحث تقعان في سياق ما سبقهما، وتدعوان إلى اصطفاف المؤمنين في مواجهة المشركين وغيرهم من أهل الاصطفافات الأخرى.

 

وثمّة مسألةٌ أخرى حظيت بعناية هاتين الآيتين وهي نفي العلاقة الفكريّة والعقديّة بالمشركين. فرّب مسلمٍ يقف في جبهة الإسلام ولا يصطفّ مع الكفّار؛ ولكنّ بينه وبين المشركين علاقة روحيّة أو عاطفيّة مع جبهة الكفر. وتهدف هاتان الآيتان إلى اقتلاع جذور الروابط العاطفيّة مع الكفّار، وتريد من المسلم أن ينفصل عاطفيًّا وروحيًّا عن الكفّار كما ينفصل عنهم جبهويًّا


 


[1] سورة التوبة: الآية 111.

 

 

681


603

تفسير سورة براءة

وفكريًّا وعقديًّا. وفي الآيتين موضوعات أخرى مهمّة في حدّ ذاتها، ولكنّها تقع على هامش الموضوع الأصليّ.

 

وفق هاتين الآيتين لا يحقّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا للمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين. وهذا الأمر من الأمور المهمّة؛ وذلك أنّ الإسلام الذي يولي عناية خاصّة واهتمامًا وافرًا للقرابة والرحم، عندما يصل الأمر إلى المشركين يطلب من المسلمين الانفصال عنهم حتّى على مستوى العواطف، ولا يقبل التعبير عن هذه العواطف حتّى بالاستغفار.

 

التوافر على الهوية شرط تشكّل الأمة

يؤكّد القرآن الكريم في موارد عدّة أنّ المجتمع الإسلاميّ ينتسب إلى إبراهيم عليه السلام، ويلفت نظر المسلمين بأشكال شتّى إلى أنّهم ليسوا حفنة من الناس ولدت فجأة في ذلك العصر، بل أنتم أمّة تمتد جذورها في التاريخ لتصل إلى النبيّ إبراهيمعليه السلام[1]. ومن آثار هذا التأكيد إعطاء المسلمين هويّة خاصّة تحول دون انجذابهم إلى سائر الأمم.

 

وعلى العموم، كلّ مذهب أو اتجاه فكريٍّ يريد تأسيس أمّة يحتاج إلى البحث عن جذور. حتّى الاستعمار يسعى من أجل تعميق نفوذه في المجتمعات والبلدان الضعيفة إلى إضفاء صبغةٍ تاريخيّة على نفسه، وإقناع المستعمَرين بأنّهم أمم لا تاريخ ولا هويّة لها.

 

ورد في سورة مريم الحديث عن استغفار إبراهيم لآزر المشرك، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾[2]. أمّا في هذه السورة فقد ورد النهي عن الاستغفار للمشركين، بلسان أنّ هذا الأمر


 


[1] الاستشهاد المتكرّر بإبراهيم عليه السلام والإشارة إلى أنّه مؤسّس دين التوحيد، لا يقصد منه أنّ الأنبياء السابقين على إبراهيم لم يكونوا على دين التوحيد؛ ولعلّ السبب هو الدور الذي أدّاه إبراهيم في الحضارة الإنسانيّة في العالم. }

[2] سورة مريم: الآية 47.

 

682


604

تفسير سورة براءة

لا ينبغي للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ". وقد أشرنا آنفًا إلى أنّ الله عز وجل يعدّ المسلمين أتباعًا لإبراهيم عليه السلام وعلى ملّته، فقد يحلو لأحدهم أن يستغفر للمشركين من أقاربه بحجّة العمل بسير إبراهيم عليه السلام واستغفاره لأبيه بحسب الآية من سورة مريم، فتواجهه هذه الآية الناهية. ويثير هذا الموقف سؤالًا في أذهان المسلمين وغيرهم، كيف يفعل إبراهيم ما يحرّمه الإسلام على أتباعه؟!

 

تجيب الآية نفسها عن السؤال بقوله عزّ وجلّ: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ". وبناءً عليه فإنّ المسألة بالنسبة إلى النبيّ إبراهيم عليه السلام مرتبطةٌ بوعدٍ سوف يأتي توضيحه، أمّا بالنسبة إلى المسلمين، وبعد أن تبيّن لهم أنّ المشركين من أهل النار نتيجة إصرارهم على الشرك، فلا معنى للاستغفار لهم؛ حتّى لو كانوا أقارب وأهلين: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ".

 

علوّ الأخوّة الدينيّة على العلاقات الأسريّة

ورد في سبب نزول الآية أنّ أحد المؤمنين -وفي بعض الأخبار أنّه أمير المؤمنين عليه السلام- دخل المسجد فوجد مسلمًا يصلّي، ودعا لآبائه وأجداده عقب صلاته وطلب المغفرة لهم، فوصل الخبر إلى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآيات للنهي عن هذا العمل[1].

 

لا نرى ضرورة أن يكون لهذه الآيات سببُ نزولٍ محدد، وثمّة آيات كثيرة لم يرد في سبب نزولها أيّ خبر، وربّما لم تكن هي في حدّ ذاتها مرتبطة بواقعة محدّدة. وما يدعونا إلى الشكّ في ربط هذه الآية بهذه الواقعة المذكورة، أنّه يبعد على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين حتّى لو كانوا من


 


[1] الطبريّ، جامع البيان، ج 11، ص 60.

 

 

683


605

تفسير سورة براءة

ذوي قرابتهم. فقد كان الاصطفاف واضحًا، والصفوف ممتازٌ بعضها عن بعضها الآخر في تلك الفترة من تاريخ الإسلام.

 

ولعلّ الآية تريد أن تبيّن للمسلمين أنّهم والمشركين يوم القيامة فئتان تمتاز إحداهما عن الأخرى، وبالتالي، تدعوهم إلى التمايز والانفصال عنهم في الدنيا أيضًا. ويُحتمل أيضًا، أنّ الآية تريد أن تقول للمسلمين ما دمتم تعرفون عاقبة المشركين فلا تضيّعوا أوقاتكم بالدعاء وطلب المغفرة لهم.

 

وعلى الرغم من طرحنا هذين الاحتمالين فإنّنا نقوّي الاحتمال الأوّل؛ لأنّ الآخرة هي استمرار للدنيا: "الدنيا مزرعة الآخرة"[1].

 

بحثٌ تاريخيُّ وأدبيُّ في كلمة "أب"

فاعل الفعل "وعدها" في قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ"، هو الأب، وليس إبراهيم عليه السلام. وذلك أنّ آزر وعد النبيّ إبراهيم عليه السلام بترك عبادة الأصنام، فوعده بالاستغفار له؛ ولكن لمّا تبيّن له إصراره على الشرك وأنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه.

 

الأب في اللغة هو الوالد؛ ولكن يرى علماء الكلام من الإماميّة لزوم طهارة آباء الأنبياء وأمّهاتهم من رجس الشرك؛ فلذلك رأوا أنّه لا بدّ من تأويل كلمة أب في هذه الآية وتفسيرها بغير معناها الظاهر. وفي اللغة العربيّة ما يساعد على ذلك؛ حيث إنّ هذه الكلمة تستعمل ولو مجازًا في العم والمربّي. وبالتالي قالوا إنّ آزر ليس أبًا للنبيّ إبراهيم عليه السلام بل هو عمّه. وإذا أراد العرب إفادة معنى الأب الحقيقيّ ينصّون عليه باستعمال كلمة "والد". وعليه يمكننا تبرير هذا التفسير بأنّ كلمة "أب" ليست صريحةً في معنى الوالد.


 


[1] عوالي اللآلي، ج 1، ص 267.

 

684


606

تفسير سورة براءة

وقد أثبت مفسّرنا المحقّق المعاصر العالي القدر[1]، بواسطة التأمّل في عددٍ من آيات القرآن الكريم، أنّ كلمة "أبيه" في هذه الآية لا تفيد معنى الوالد. وأثبت ذلك بالاستناد إلى آية أخرى في كتاب الله هي قوله تعالى على لسان إبراهيم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾[2]. ويُفهم من هذه الآية أنّ هذا الشخص الذي يستغفر له النبيّ إبراهيم عليه السلام في أواخر عمره هو شخصٌ آخر غير ذلك الذي تشير إليه الآية الناهية. فاستغفار النبيّ إبراهيم عليه السلام في هذه الآية لنفسه ولوالديه يدلّ على أنّ آزر لم يكن والده، وإلّا فلا معنى للاستغفار له بعد التبرّؤ منه. ولا يعنينا أن نعرف من هو آزر هذا، ولا يتوقّف فهم الآية على معرفة قرابته بإبراهيم عليه السلام.

 

وكأنّ هذا الرجل وعد النبيّ إبراهيم عليه السلام بالتوبة والتراجع عن عبادة الأصنام بعد حوار دار بين الطرفين، فبنى إبراهيم على ذلك الوعد ووعده بالاستغفار والدعاء، فلمّا تبيّن عدم التزام ذلك الرجل بما وعد وإصراره على الشرك، تبرّأ منه بدل الدعاء له.

 

و"الغفران" هو ترميم الخلل وملء الفراغات والفجوات التي تعاني منها نفس المشرك والمنافق وروحهما. وقد سأل إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يرمّم نفس هذا المشرك الخربة، ويملأ ما فيها من فجوات ويصلح وجوه الخلل فيها.

 

وهذا هو شأن الأنبياء، وطبع النبوّة ومقتضاها؛ أيّ الاستغفار وطلب الصلاح لكلّ من بقيت جذوة الأمل بصلاح حاله مشتعلة. ولكن عندما يرى النبيّ أنّ هذه الروح لا أمل فيها، وأنّ صاحبها سدّ على نفسه كلّ أبواب الاهتداء، يتراجع النبيّ ولا يبقى مصرًّا على الاستغفار لمن أقفل على نفسه نوافذ المغفرة. واستغفار النبيّ إبراهيم عليه السلام من هذا الباب.

 

"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ": تكشف هذه


 


[1] الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 167-170.

[2] سورة إبراهيم: الآية 41.

 

 

685


607

تفسير سورة براءة

العبارة عن وجود دوافع غير إنسانيّة والتزام بمسار معاكس لمسار الفطرة عند هذا الرجل، ولأجل هذا لم يؤمن، ولهذا تبرّأ منه إبراهيم عليه السلام لأنّه "أوّاه" أيّ ذو طبيعة وفطرة تقتضي الالتفات الدائم إلى الله تعالى، يطلب منه عزّ وجلّ ما كان ينبغي طلبه، ويتبرّأ من كلّ ما هو مخالفٌ لإرادته تعالى. و"حليم" أيّ لا يحكم من دون تأمّل ولا يتسرّع في أحكامه.

 

التقابل الدائم بين جبهتي الكفر والإيمان

بيّنت الآية 113 التقابل الدائم بين جبهتي الكفر والإيمان؛ أي إنّ الآية تفيد وجود جبهتين متقابلتين على الدوام، إحداهما جبهة المسلمين والأخرى جبهة الكفّار. وأولئك المعارضون للإسلام والإيمان، إلى أيّ دينٍ أو إقليم انتموا هم في جبهة الكفر؛ ولهذا تكون العلاقة بينهم وبين جبهة الإسلام والإيمان علاقة تقابلٍ وتضادٍّ. وأولئك الذين لا يعارضون جبهة الإسلام ولا يعملون على ضربها، لا يصنّفون في جبهة الكفر حتّى لو كانوا كفّارًا غير مسلمين. يقول القرآن الكريم: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[1]. وتكمل الآية اللاحقة لتبيّن أنّ النهي مقصور على أولئك الذي شهروا سيف العداء للإسلام والمسلمين وأخرجوهم من ديارهم، فهؤلاء وحدهم ينهى الله المسلمين عن التواصل معهم وعن مودّتهم: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[2].

 

وبالنظر إلى هذا التقابل لا بدّ من التمايز والانفصال بين الطرفين؛ كي لا تتداخل الجبهتان وتختلطا. وعندما يقع الاختلاط ويأخذ أحد الأشخاص


 


[1] سورة الممتحنة: الآية 8.

[2] سورة الممتحنة: الآية 9.

 

 

686


608

تفسير سورة براءة

شيئاً من هذه الجبهة وشيئاً أو أشياء من الجبهة الأخرى، تتحقّق الحالة التي نسمّيها بالنفاق. وبالتالي كلّ من أعلن إسلامه يُصنّف في جبهة الإسلام، ومن لم يحدّد موقفه بالكامل فهو منافقٌ وفي جبهة الكفر؛ لأنّ المنافق جزءٌ من جبهة الكفر.

 

وقد ورد في الروايات عن المعصومين عليهم السلام ما يفيد هذا المعنى: "الساكت أخو الراضي، ومن لم يكن معنا كان علينا"[1]. وهذا يعني أنّ كلّ شكلٍ من أشكال الركون للكفر حتّى لو كان على شكل النفاق، أو الولاء الاقتصاديّ، أو الفكريّ، أو الروحيّ والعاطفيّ، يدخل صاحبه في جبهة الكفر.

 

وقد بيّن القرآن الكريم في سورة الممتحنة هذا الأمر بدرجة عالية الوضوح. حيث يكشف الله تعالى عن القاعدة والمبدأ الذي يجعل من إبراهيمعليه السلام أسوةً في علاقات التبرّي والتولّي. وقاعدة الولاء والبراء في تعاليم النبيّ إبراهيم عليه السلام تقوم على الرابطة الدينيّة لا على رابطة القربى والدم: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾[2].

 

وبحسب المصطلح المعتمد في الآيات والروايات، عندما يُستعمل الكفر في مقابل الإيمان لا يقصد منه إنكار وجود الله؛ بل يقصد منه الإشارة إلى الاصطفاف في مقابل الإسلام وأتباعه. وذلك أنّ المؤمن لا يمكن أن يقاتل المؤمن؛ عليه لا بدّ من وضوح الرؤية وامتياز الصفوف، فحرب أمير المؤمنين عليه السلام مع الناكثين كانت حربًا مع أئمّة الكفر.

 

عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة، أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أمّ الطويل، وجبير بن مطعم"[3]. يُروى أنّ يحيى


 


[1] بحار الأنوار، ج 74، ص 421.

[2] سورة الممتحنة: الآية 4.

[3] بحار الأنوار، ج 46، ص 142.

 

687

 


609

تفسير سورة براءة

كان يأتي إلى مسجد المدينة ويقرأ قوله تعالى مخاطبًا به المسلمين: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء﴾[1]. وهذا هو عين كلام النبيّ إبراهيم عليه السلام وأتباعه، فيحيى إذًا هو من البقيّة الباقية من أتباع إبراهيم.

 

وهذه الرواية وأمثالها تعلّمنا أنّ من يصطفّ في مقابل الإسلام، هو من أهل جبهة الكفر حتّى لو كان مؤمنًا بالله تعالى. ومثل هؤلاء ينطبق عليهم مفهوم الكفر بحسب الاصطلاح القرآنيّ.

 

وبناءً على ما تقدّم، نستخرج من الآيات محلّ البحث أصلًا من الأصول الإسلاميّة ومبدأً، وهو أنّ على المسلمين أن يقطعوا كلّ أشكال التواصل بينهم وبين الكافرين، وأن لا يرتبطوا بهم بأيّ رابطة؛ حتّى لو كانت هذه العلاقة أو الرابطة علاقةً عاطفيّة؛ لأنّ هذه العلاقة هي الخطوة الأولى التي تودي بالمسلم في جبهة الكفر[2].

 


[1] سورة الممتحنة: الآية 4.

[2] لم نعثر على تفسير الآيتين 115 و 116.

 

688


610

تفسير سورة براءة

لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ

مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿117﴾

وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ

وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾

 

690


611

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات

نزلت هاتان الآيتان بمناسبة ذات صلة بمعركة تبوك. وفي خلال بيان الواقعة التي هي موضوع الآيتين ثمّة نقاطٌ وقضايا مهمّة تُستفاد منهما.

 

نوعان من التخلّف عن تبوك

ثمّة نوعان من التخلّف عن معركة تبوك؛ فبعد أن جهّز النبيّصلى الله عليه وآله وسلم جيشه في طقس المدينة وحرارة الصحراء الحارقة، وانطلق به إلى تبوك، طرأت على بعض المسلمين في الطريق إلى تبوك مشكلات أدّت إلى بعض التردّد عندهم. ما دفع عددًا من المقاتلين إلى التفكير في التوقّف عن متابعة السير؛ بل ربّما دفع بعضهم إلى اختيار العودة على أعقابهم إلى المدينة.

 

والشكل الآخر من أشكال التخلّف عن هذه المعركة، هو أنّ بعض الأشخاص آثروا العافية من أوّل الأمر وفضّلوا البقاء في المدينة، ولم يستجيبوا لدعوة الجهاد. وعندما رجع النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وجيشه من المعركة، اكتشفوا حجم الخسارة التي أوقعوا أنفسهم فيها. فانتبهوا من كبوتهم وتابوا إلى الله تعالى، وقبل الله توبتهم. والآية الأولى تتحدّث عن الشكل الأول، والثانية عن الثاني.

 

توبة الله وتوبة العبد

"التوبة" في اللغة الرجوع. وتوبة الله تعني التفات الله إلى العبد ونظره إليه. وتوبة العبد تعني رجوع العبد إلى الله تعالى.

 

 

692

 


612

تفسير سورة براءة

ولله في التوبة الواحدة للعبد توبتان، وقد كشف بعض المحقّقين عن أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله؛ وذلك أنّه ينظر بلطفه إلى العبد فيتجلّى هذا اللطف في صورة التوفيق للتوبة. وهذا من تجلّيات الرحمة والرأفة الإلهيّة بالإنسان أن يعيده إلى خط الله بعد انحرافه عنه. وعندما يتراجع العبد عن الانحراف يقبل الله توبته، وهذه هي التوبة الثانية لله تعالى. إذًا، توبة الله تعالى تتحقّق بإظهار الله العطف والرأفة بالعبد فينجذب إلى العودة إلى صراط الله تعالى ويستجدّ في نفسه النشاط والشوق إلى الاستقامة بعد الانحراف.

 

وفي ما يرتبط بقوله تعالى: "لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ"، لا بدّ من تفسير التوبة بمعنى آخر غير المعنى الاصطلاحيّ المعروف للتوبة؛ وذلك لأنّه لم يصدر عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ذنبٌ يستدعي التوبة بهذا المعنى وقبول الله تعالى إيّاها. ونحن نرى أنّ هذه التوبة معناها "التوفيق للثبات والاستقامة".

 

بعض أهل السنّة يرون أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن يجتهد ويخطئ في اجتهاده، وبالتالي تكون التوبة هي التراجع عن ذاك الخطأ أو الاشتباه. أمّا بحسب رؤيتنا واعتقادنا في النبيّصلى الله عليه وآله وسلم فإنّنا لا نقبل عليه الاجتهاد والخطأ؛ بل كلّ ما يصدر عنه وحيٌ من الله.

 

والصفة المذكورة للمهاجرين والأنصار صفةٌ تعليميّة لنا. فالهجرة في حدّ ذاتها وكذلك النصرة ليست عنوانًا ملازمًا بالضرورة للقيمة والاعتبار. وفي هذه الآية يبيّن الله لنا أنّ المعيار في احترام الهجرة والنصرة هو الاتّباع في حالة العسرة والشدّة: "اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ". فبعد ارتفاع العسرة والشدّة كثيرون أعلنوا إسلامهم ونصروا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وهاجروا إليه، وليس هذا من موجبات الفخر؛ فما هو من موجبات الفخار أن يكون الإنسان من المهاجرين والأنصار الأوائل. فنصرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في وقتٍ يضعف فيه الإنسان عن المقاومة ليست فضيلةً كافية لتعطي صاحبها مقامًا خاصًّا.

 

"سَاعَةِ الْعُسْرَةِ": يمكن تطبيق هذه الساعة على ظروف عدّة مرّ فيها

 

 

693

 


613

تفسير سورة براءة

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تلك الظروف والأوضاع حين كان يهمّ بالخروج إلى تبوك؛ فالظروف المحيطة بهذا الخروج كانت خاصّة ومميّزة وفيها الكثير من الدروس التي تكشف لنا عن عناصر امتحان القدرة على الثبات واختباره، وتكشف مدى استعدادنا للقتال والوقوف إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

إبّان المسير إلى تبوك كانت الأوضاع صعبة إلى درجةٍ كبيرة، وكان المسلمون يعانون الضيق إلى درجة صعوبة تأمين المأكل، وقد روي أنّهم كانوا يتبادلون التمرة فيمصّها أحدهم شيئًا من الوقت ثمّ يعطيها لأخيه ليكمل، وهكذا إلى أن لا يبقى منها سوى النواة.

 

وبهذا يُعلم أنّ الإنسان يمكن أن يبقى على قيد الحياة بأقلّ مقدار من الطعام. فالإنسان يمكنه المحافظة على حياته بحبّةٍ من التمر؛ لكن بشرط صحّة العزم على الثبات. ولعلّ بعض ذلك التمر نخره الدود، بحيث لا يأكله الإنسان في الحالات الاعتياديّة؛ ولكن في ظروف الحرب والضيق لا مناص عن التقوّت بهذا النوع من الطعام.

 

ومن ناحية الماء، كذلك كان يعاني الجيش الإسلاميّ من قلّة الماء، فلم يكن عندهم من الماء ما يكفيهم للشرب. يُضاف إلى ذلك قلّة وسائل السفر كالحيوانات لركوب ظهورها؛ ولذلك ورد أنّهم كانوا يتناوبون على مركبٍ واحدٍ. في مثل هذه الظروف أعلن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد وأوجبه على المسلمين، وهذا يكشف عن أنّ الجهاد لا يتوقّف على أعلى درجات العدّة وأكثر العديد، كما يتصوّر بعض الناس ويصوّرون. فالإنسان عنده من الطاقة ما يكفي لتحمّل هذه المشكلات والتفوّق عليها.

 

والمسألة الأخرى هي إمكان استفادة الأبعاد التربويّة من فعل النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في قضيّة معركة تبوك. فقد كان متاحًا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تأخير النفر عشرة أيّام مثلًا ليكتمل العدد ويزيد المجاهدون عمّا كانوا عليه حين خرج بهم إلى تبوك؛ وذلك أنّه قادرًا على الانتظار حتّى يجمع أهل المدينة أمرهم؛ وذلك لأنّ جيش الروم لم يكن قريبًا إلى ذلك الحدّ من المدينة، بحيث يصلون إليها

 

 

694

 


614

تفسير سورة براءة

قبل انطلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليهم. ومن هذا كلّه يُعلم أنّ وراء هذا الإصرار والاستعجال النبويّ حكمةً كامنةً. وهي وجوب تقوية الإنسان عزيمته.

 

فكرة التدريب وتقوية الإرادة ليست مقصورةً على الجهاد؛ بل هذا الأمر موجود في سائر العبادات أيضًا. والإرادة من السمات الخاصّة بالإنسان؛ ولهذا يستغلّ الإسلام كلّ فرصةٍ لتقوية هذه السمة وتمتينها في الإنسان، بما يساعده على نيل كماله المنشود. وفي المجتمع الإسلاميّ ينبغي أن يُعمل على استثمار كلّ شيء في سبيل تطوير إمكانيّات الإنسان، ومن هذه الإمكانيّات قوّة الإرادة. ومن هنا، أصرّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم على خروج الجيش إلى تبوك على الرغم من حالة الضيق التي كانوا يعانون منها، ولم ينتظر ارتفاع تلك الحالة والخروج بعد ذلك.

 

"مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ": في هذه الآية يخبرنا الله عز وجل عن أنّ قلوب بعض الأشخاص كادت تزيع، والزيغ في اللغة هو الميل عن الحقّ والانحراف عنه. فقلب المؤمن له وجهة محدّدة تبعًا لبوصلة الإيمان؛ ولكن تطرأ على القلب بعض الطوارئ تدفع هذا القلب إلى التحوّل نحو جهةٍ أخرى، وهذا ما يُسمّى في المصطلح القرآنيّ بالزيغ. وفي الطريق إلى تبوك كادت قلوب بعض المؤمنين أن تزيغ وتنحرف، نتيجة التردّد الذي عصف بها. ولكنّ اللطف الإلهيّ أدركهم، وأعاد إلى قلوبهم وهج الإيمان ما ساعدهم على الثبات ومتابعة المسار.

 

المقصود من التوفيق الإلهيّ

التوفيق في اللغة له معانٍ عدّة أحدها النجاح أو المساعدة على النجاح، وبالتالي توفير أسباب حصول الأهداف والغايات. ومثال ذلك في القضيّة محلّ البحث أنّه عند بدايات التزلزل في قلوب المؤمنين نزلت الآية وأعادت حرارة الإيمان إلى تلك القلوب من جديد. وهذا أحد معاني "تَّابَ الله".

 

 

 

695

 


615

تفسير سورة براءة

"ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ": ثمّ وفّقهم الله بتوبته عليهم. "ثمّ" في اللغة العربية للعطف مع التراخي، وبيان أنّ شيئًا حصل بعد شيء مع فاصل زمنيّ، وهو المدّة الفاصلة بين تنبّههم وتوبتهم. إذًا تكرار الإشارة إلى التوبة الإلهيّة سببه وجود توفيقين، أحدهما تنبيههم وإعادة حرارة الإيمان إلى قلوبهم، والثاني توفيقهم للتوبة وقبول الله عز وجل منهم.

 

شروط قبول التوبة

البحث في التوبة يحتاج إلى مجال أوسع، ولكن نقول على نحو الإجمال والإيجاز-وقد ورد هذا المعنى في الأخبار والروايات- التوبة من العبد أمرٌ عمليٌّ، وليست أمرًا ذهنيًّا فقط. فلا يتوب الإنسان ما لم يعزم على عدم تكرار المعصية مرّة أخرى. ومن الأمور المساعدة على التوبة الندم والعزم على تصحيح وجبر ما مضى.

 

والشرط الآخر المطلوب في التوبة هو تصحيح الإنسان الانحراف الذي طرأ على علاقته بجماعة المسلمين. وهذا في حال بقيت فرصة التوبة قائمة. ففي التوبة احتمالان، أحدهما أن تكون الفرصة ضاعت ووقت التوبة قد انتهى. والاحتمال الثاني هو أن يكون باب التوبة مفتوحًا على الدوام. ولو كان الاحتمال الأوّل صحيحاً؛ لفسد الكثير من أمور الإنسان؛ وذلك أنّ الإنسان كثيرًا ما يقع في المعصية، ثمّ يستيقظ بعد ذلك ويريد العودة إلى الله، وتصحيح حالة الانحراف التي طرأت عليه. وكون الله توّابًا من معانيه أنّ الله عز وجل سخّر الكثير من الأمور لمساعدة الإنسان على التوبة. فالمتردّدون في الطريق إلى تبوك سخّر الله لهم الكثير من العوامل المساعدة على التوبة، ومن تلك العوامل الجيش الذي كانوا يريدون نصرته.

 

"إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ": صفتا الرأفة والرحمة من الصفات الإلهيّة، ومن معانيهما في هذا السياق أو من تجلّياتهما تهيئة الأسباب المساعدة على التوبة.

 

 

696

 


616

تفسير سورة براءة

وضع المتخلّفين عن تبوك

"وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ": لقد تاب الله عز وجل على الثلاثة الذين تخلّفوا عن السير إلى تبوك، كما تاب على من أشير إليهم في الآية السابقة. وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة، وهلال بن أميّة. عندما عاد النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك، قال هؤلاء الثلاثة بجرأة نذهب إلى رسول الله ونقبّل يده وهو راضٍ عنّا؛ ولكن عندما ذهبوا إليه وزاروه لم يكلّمهم، كما امتنع سائر الناس عن مخاطبتهم والتحدّث معهم. فاضطرّوا للعودة إلى بيوتهم، فواجهتهم مشكلة مقاطعة نسائهم وأولادهم. وظلّوا على هذه الحال أيّامًا حتّى ضاقت عليهم الدنيا. فأكبر العذاب الشعور بالطرد والإخراج من الجماعة التي ينتمي الإنسان إليها. ففكّروا بالخروج من المدينة، وخطر في بالهم أنّه ما دام الناس قد مُنعوا من الحديث معهم، فيجب عليهم أيضًا الامتناع عن الحديث فيما بينهم، وقد كانت هذه الشرارة الأولى للتوبة عند هؤلاء الثلاثة حيث بدأوا بمعاقبة أنفسهم.

 

والإنسان الذي يعيش على الأنس عندما يشعر بأنّه وحيد مطرود، وغير مرغوب فيه في المجتمع، تؤول الحياة في نظره إلى شيء لا يمكن تحمّله. وعندما يشعر الإنسان بحفرة في كيانه ووجوده هذا الشعور هو الخطوة الأولى في مسار التوبة. وقد حفر التخلّف عن الجهاد عميقًا في نفوس هؤلاء الثلاثة، وهي حفرة أشبه بجرح في بدنٍ الإنسان يتوقّف علاجه على استراحة ومداواة. وقد عمل هؤلاء الثلاثة على معالجة هذا الجرح الروحي بالتضرّع إلى الله عز وجل والطلب منه أن يرمّم هذا الخلل الذي أصابهم.

 

"حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ": الأرض على الرغم من سعتها ورحابتها ضاقت عليهم ولم تعد تتّسع لهم.

"وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ": ولم تضق الأرض عليهم فحسب، بل ضاقت عليهم أنفسهم؛ بحيث لم يعد يشعر أحدهم أنّ في وجوده متّسعًا له.

 

 

697

 


617

تفسير سورة براءة

"وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ": ضيق الأرض وضيق أنفسهم أشعرهم أنّ الملجأ الوحيد الباقي لهم هو الله تعالى.

 

"ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ": بعدما اكتشفوا أنّ الله هو الملجأ الوحيد والملاذ الأخير المتاح لهم، أنالهم الله توفيق التوبة، فتابوا وتاب عليهم، فالله هو التوّاب، و"التوّاب" صيغة مبالغة من تائب أيّ كثير التوبة.

 

 

697


618

تفسير سورة براءة

 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ

وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا

يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾

وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿121﴾

 

699

 


619

تفسير سورة براءة

 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ

وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا

يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾

وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿121﴾

 

699

 


619

تفسير سورة براءة

تناسب الآيات:

تكلّمت الآيات السابقة على المتخلّفين عن الجهاد، وعن توبة بعضهم وقبول الله عز وجل توبتهم.

 

وهذه المجموعة من الآيات الآية الأولى منها تتوجّه بالخطاب إلى المؤمنين جميعًا، وتحدّد لهم قاعدة للتموضع وقاعدةً للسلوك، فقاعدة السلوك هي الأمر بالتقوى، وقاعدة التموضع هي الكون مع الصادقين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ". والهدف هو إعداد جميع المؤمنين لمواجهة الصعوبات، وليأخذوا مواقعهم ويحدّدوا مواقفهم من الآخرين على أساس هذين المبدأين.

 

معنى التقوى:

التقوى هي حالة الالتفات إلى الله عز وجل وتجنّب نواهيه والالتزام بأوامره تعالى، وذلك يوجب أن صون الإنسان ووقايته من التورّط في مخالفة التعاليم الإلهيّة، ويجنّبه كذلك السير وفق ميول النفس وأهوائها. والثبات على صلاح العمل. وهذه هي الحالة التي يكتسبها المتّقون.

 

ومن الطبيعي أنّ من يكتسب حالة التقوى، لن يتورّط في التخلّف عن الأمر الإلهيّ بالجهاد. وبالتالي يمكن القول إنّ التقوى هي أساس ومنطلق جميع الطاعات والحصن الحامي من الوقوع في المعاصي على أنواعها.

 

وحيث إنّ معاشرة غير أهل التقوى قد تترك أثرها في الإنسان وتضعف حصانته، وتعيق الإنسان عن التمييز بين الحلال والحرام، فإنّ الآية تأمر

 

701

 


620

تفسير سورة براءة

المؤمنين بانتقاء الرفقة، وملازمة أهل الصدق.

 

وقد اختلف المفسّرون في المعنى الظاهريّ لهذه الآية. وإذا استطعنا بيان المعنى الظاهريّ يسهل علينا تلمّس تأويلها.

 

الصادقون ومصاديقهم

من الواضح أنّه لا يُقصد من الصادقين في الآية الأشخاص الذين يتجنّبون الكذب في إخباراتهم؛ فربّ صادقٍ يوردنا موارد الهلكة ويضلّنا عن سبيل الله، على الرغم من اعترافهم بأنّهم أهل ضلالة وصدقهم في تقويم أنفسهم وإخبارهم عنها. فمثل هؤلاء لا توصينا الآية بملازمتهم والكون معهم. ومن المؤكّد أنّ الله لا يوصينا بمعاشرة أهل الضلالة إذا كانوا صدقوا القول ولم يخفوا أو يكذبوا في الإخبار عن ضلالهم.

 

فالآية تأمر بأن يكون الإنسان مع الصادقين، والصادقون -حسب ما نفهم- هم الذين يقولون الحقّ والذين يتطابق قولهم مع عملهم، وبالتالي يتّبعون الحقّ في سلوكهم وممارستهم. وهؤلاء هم المعنى المقابل للذين يختلف قولهم عن فعلهم، كما في حالة الأحبار حيث يصفهم الله تعالى بقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾[1]. إذاً، الصادق في الآية هو من كان في طريق الحقّ، يقول الحقّ والعدل ويعمل به، ويطابق قوله فعلَه.

 

ويُحتمل في قوله تعالى: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" أربعة احتمالات، الأوّل منها: هو دعوة المؤمنين إلى يكونوا من الصادقين، وقد ورد هذا المعنى في قراءة أخرى، كما ورد هذا التفسير في رواية أيضًا[2].

 

والاحتمال الثاني: هو الدعوة إلى أن يكونوا معهم وتابعين لهم. وبالتالي تدعو الآية المؤمنين إلى اتّباع من تتوافر فيهم صفة الصدق بالمعنى المقصود في الآية. وهذا المعنى يُستفاد من كلمة "مع". وهذا يشبه قولنا: أنا مع فلان

 

 


[1] سورة الجمعة: الآية 5.

[2] مجمع البيان، ج 5، ص 139.

 

 

702


621

تفسير سورة براءة

في العقيدة؛ أيّ أنا أتّبعه في العقيدة.

 

والاحتمال الثالث: أن يكون المراد الدعوة إلى نصرة الصادقين وتأييدهم. وبعبارةٍ أخرى كأنّ الآية تقول: ادعموا وساعدوا الصادقين في المجتمع بأعمالكم. وهذا المعنى ينسجم مع ما تفيده كلمة "مع". وفي القرآن استعمالات أخرى تفيد هذا المعنى كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[1]. ومن الواضح أنّ معنى هذه العبارة هو أنّ الله يؤيّد المؤمنين ويدعمهم، لا أنّه يتّبعهم أو هو واحدٌ منهم.

 

والاحتمالان الأخيران يقعان في فضاء المعنى الظاهريّ للآية.

 

والاحتمال الرابع الذي يتراءى إلى ذهننا هو أن يكون المراد من الصادقين جماعةٌ ممتازة من الناس، يريد الله أن يشير إليهم بصفة من صفاتهم، ويدعو المؤمنين ليكونوا تابعين لهم وسائرين على نهجهم؛ وذلك لأنّ الله مطّلعٌ على ما سيحدث بعد رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وعالم بالفرق والجماعات التي سوف تتكتّل وتتشكّل بعد وفاته وتدعو الناس إليها، وعالمٌ بالجماعات الأخرى والشخصيّات البارزة في المجتمع الإسلاميّ التي تدعو الناس إلى الله وتشدّهم إلى صراطه.

 

وبناءً على هذا الاحتمال، يكون معنى الآية: أيّها المؤمنون، إذا أردتم الحصانة من الضلال بعد وفاة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم انظروا لأنفسكم واختاروا الصادقين لتكونوا معهم وتابعين لهم أو مساندين وداعمين.

 

وإذا قبلنا هذا الاحتمال، علينا التحرّي والبحث عن هؤلاء الناس لمعرفتهم بأشخاصهم وأعيانهم، بواسطة القرآن أو غيره من الوسائل الصالحة لتشخيصهم لنا، من الشخصيات التي كانت في صدر الإسلام سواء كان ذلك في حياة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أم بعد وفاته.

 

يقول القرآن الكريم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ


 


[1] سورة الأنفال: الآية 19.

 

 

703


622

تفسير سورة براءة

عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾[1]. يُستفاد من هذه الآية أنّ الصادقين هم جماعة من الناس وفوا بعهدهم لله عز وجل إلى أن تجرّعوا كأس الموت. ومن هذا يُعلم أنّ هذا الطريق محفوفٌ بالمخاطر التي ترتقي في شدّتها إلى الموت. ويُعلم أيضًا أنّ الصادقين هم أشخاصٌ نذروا أنفسهم ووقفوها لله تعالى، ورهنوا أعمارهم وكلّ ما يملكون في سبيل الله، وأعلنوا الاستعداد للتضحية والالتزام بالعهود حتّى لو كان ذلك سوف يذيقهم كأس الردى.

 

وفي آيةٍ أخرى يطبّق مفهوم الصادقين على المهاجرين الأوائل، كما في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[2]. ولا يقصد من هذه الآية الإشارة إلى مجرّد الاتّصاف بالهجرة والتلبّس بها، بل هذا التعبير من باب تعليق الحكم على الوصف على الرغم من عدم كفاية الوصف في حدّ ذاته أو كونه هو المراد وحده. بل المراد هو الأشخاص المستعدّون للهجرة في سبيل الله، مهما كانت الأثمان، والمستعدّون لترك الأوطان ومغادرتها إلى مكانٍ غريب يكون مهجرًا لهم.

 

والهجرة على أقسام ومعانٍ، أحد معاني الهجرة الانتقال من مكان إلى مكانٍ، وثمّة معنًى آخر وهو الهجرة من مجتمع لا يعرف الله ولا يراه، إلى الله لبناء مجتمعٍ جديدٍ قائمٍ على التوحيد ومعرفة الله.

 

وفي آيةٍ أخرى يوصف معيار الصدق بأنّه الإيمان بالله ورسله، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾[3].

 

وقد ورد في عددٍ من الروايات تطبيق مفهوم الصادقين على عليّ عليه السلام وعلى سائر الأئمّة عليهم السلام.


 


[1] سورة الأحزاب: الآية 23.

[2] سورة الحشر: الآية 8.

[3] سورة الحديد: الآية 19.

 

704


623

تفسير سورة براءة

المنع من التخلّف عن أوامر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

"مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ": تعلن هذه الآية أنّه ليس من حقّ أهل المدينة ولا من حقّ الأعراب الذين يسكنون أطرافها وحولها، أن يتخلّفوا عن ركب النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد.

 

ولمّا كانت هذه السورة في آيات سابقة تكلّمت على تخلّف بعض الناس المعاصرين للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم عن الجهاد والاستجابة لدعوة النبيّ إليه، تصدّت هذه الآية لبيان حكم التخلّف وهو التحريم، وكأنّ حكم التخلّف لم يكن حتّى ذلك التاريخ صادرًا أو معلومًا.

 

من خصائص أحكام الإسلام والقرآن أنّها تعمل على تجفيف منابع المخالفات والمعاصي. وعندما يشرّع القرآن حكمًا ويلزم به المسلمين، لا يكتفي بتشريعه ويترك حبل تطبيق ذلك التشريع على غاربه؛ بل يشرّع إلى جانب الحكم الضمانات التنفيذيّة له. فعندما يحرّم الإسلام السرقة، يعمل قبل ذلك أو مقارنًا لهذا التحريم على رفع الفقر الذي هو أحد دواعي السرقة أو ذرائعها على الأقلّ.

 

ووجوب الجهاد حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى أرضيّة نفسيّة مساعدة على الالتزام به. ومن هنا، نجد أنّ القرآن يعمل على حثّ المسلمين على الجهاد، وتقوية عزائمهم عليه وشدّ هممهم نحوه، وبعد الاستعداد النفسيّ والروحيّ تسهل على الإنسان التضحية، وبذل النفس في سبيل الله.

 

ولمّا كان حبّ النفس غريزة نفسيّة تعيق المؤمن وغير المؤمن عن الحركة في الحرّ والسير إلى الأعداء للدخول في المواجهة معهم، وربّ مسلمٍ يضنّ بنفسه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يستسهل التضحية بنفسه في هذا السبيل. ومن هنا، نجد أنّ الآية تعلن بوضوح وصراحة أنّه لا ينبغي للمسلم أن يحفظ روحه ويرجّحها على روح النبيّصلى الله عليه وآله وسلم "وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ". ولا يحسن بالمسلم أن يرى أنّ دمه أغلى من دم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونفسه أعزّ من نفسه. وعليه، تقع هذه الآية في عداد الآيات التي تربّي المؤمنين نفسيًّا

 

 

705


624

تفسير سورة براءة

وروحيًّا وتهدف إلى استئصال الأسباب النفسيّة التي تدعو إلى التخلّف عن الجهاد، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[1]. وبهذا الأسلوب يعمل القرآن على تعديل عواطف المسلمين تجاه أهليهم وأبنائهم وأموال تجارتهم ومساكنهم، وغير ذلك من العواطف التي تدعو إلى التخلّف عن الجهاد.

 

وعليه، كلّما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة العدوّ، وجب على المسلمين أن يضعوا أرواحهم على أكفّهم بين يديه، ويفدوه بأنفسهم.

 

وتكمل الآية بطريقةٍ مثيرة للأمل في النفوس، لتبيّن فضل الجهاد وقيمته فتقول: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ". وتطمئن الآية المسلمين بأنّ كلّ خطوة يخطونها في الجهاد، سواء كان ذلك بوصولهم إلى مكان يثير غيظ الكفّار، أم كان نيلاً من عدوٍّ من أعدائهم، سوف يسجّله الله عملًا صالحًا في ديوان أعمالهم؛ لأنّ الله لا يضيع أجر المحسنين.

 

والآية اللاحقة تكمل ما بيّنته الآية التي سبقتها، وتشير إلى بعض أعمال المجاهدين في سبيل الله وتبيّن ثواب هذه الأعمال: "وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ"، فكلّ شيء محفوظ ومدوّن عند الله تعالى، والإنفاق مفهوم يشمل كلّ ما يبذله الإنسان لسدّ ثغرة في المجتمع الإسلاميّ، مالًا كان أو نفسًا.

 

"لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ": هذه العبارة أشبه بالدليل لما تقدّم في الآيات السابقة، تبيّن علّة تدوين الأعمال وكتابتها. وقد فُسِّرت الآية بطريقتين، إحداهما: أنّ الله سيعطي هؤلاء المحسنين أحسن ممّا صدر


 


[1] سورة التوبة: الآية 24.

 

 

706


625

تفسير سورة براءة

عنهم. والتفسير الثاني هو: إنّ الله سيجزي هؤلاء المحسنين على أحسن ما صدر عنهم من أعمال. وبناءً على التفسير الثاني، تكون كلمة "أحسن" صفة للعمل وليس للجزاء الإلهيّ. ووفق هذا المعنى الذي نراه الأرجح، يكون المقصود من الآية أنّ هذه الأعمال التي ذُكِرت في الآية هي أحسن ما أدّاه المؤمنون أو يمكن أن يؤدّوه. وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى ترجيح هذا الاحتمال التفسيريّ.

 

وذهب بعض المفسّرين إلى قصر هذه الآية على زمان النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل المدينة وأطرافها. ولا يبدو لنا إمكان الموافقة على هذا الحصر؛ وذلك لأنّه لا مزية فيه تدعو إلى قبوله والموافقة عليه. ونحن نميل إلى أنّ حكم الآية عامٌّ يشمل جميع الناس في جميع العصور.

 

والمطلب الآخر هو كشف الآية عن تسجيل الله أقلّ الأعمال التي تصدر عن المجاهدين، حتّى تلك التي لا تترتّب عليها آثارها المطلوبة منها. فتخبرنا الآية عن أنّ السير في الصحراء يُحفظ للمجاهدين ويسجّل في ديوان حسناتهم، حتّى لو لم يؤدِّ إلى فتح بلاد الكفّار. ويكفي في الوعد الإلهيّ بالثواب أن يسعى المؤمن في سبيل الله، مهما كان التجسيد الواقعيّ لهذا السعي، سواء كان سيرًا في الصحراء أم إنفاقًا لمقدار يسير من المال، سواء كانت نهايته الهزيمة أم النصر والفتح. وبناءً عليه، ليس بين الآية تكرار في عبارتي: "يَقْطَعُونَ وَادِيًا"، و"وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّار"؛ وذلك أنّ العبارة الأولى تفيد السفر والانتقال، والعبارة الثانية تفيد الفتح والظفر وتحدّي العدوّ في أرضه.

 

والحاصل أنّ على المسلمين أن يعلموا أن ما يريده الله هو العمل، وليس الوصول إلى النتيجة. وربّ شخصٍ يترك العمل ليأسه من النتيجة، بينما تبيّن الآية أنّ المهم عند الله هو العمل وليس النتيجة التي ينتهي إليها.

 

 

707

 


626

تفسير سورة براءة

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ

 لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿122﴾

 

 

709


627

تفسير سورة براءة

وجوب التفقّه في الدين

هذه الآية من الآيات المتداولة في أبحاث علم أصول الفقه. ويستند إليها عددٌ من الأصوليّين لإثبات حجّية خبر الواحد. وفي الحوارات غير التخصّصية يُستشهد بها للدلالة على وجوب التفقّه في الدين، ووجوب الإنذار والتبليغ والدعوة إلى الدين. وهي من الآيات التي وقع الاختلاف الكثير في مفادها وتفسيرها.

 

وثمّة زاويتان في الآية تستحقّان التوقّف والمعالجة، إحداهما تحديد المراد من "التفقّه في الدين" وما هي الفائدة المترتّبة عليه، والزاوية الثانية البحث في المعنى الظاهريّ للآية لمعرفة المعنى المستفاد من مجموع الآية، وتحديد من هم الذين يجب عليهم التفقّه في الدين وعليهم أن ينفروا وينذروا.

 

بيان معنى "التفقّه"

وسوف نبحث في معنى التفقّه في مراحل ثلاث، نبحث أوّلًا عن المعنى اللغويّ للفقه والتفقّه، ثمّ ندلف إلى بيان المعنى الاصطلاحيّ، وبعد ذلك ننتقل لتحديد المقصود من التفقّه في الآية، وهل هو المعنى اللغويّ أم المعنى الاصطلاحيّ.

 

جرت عادة المرحوم الطبرسيّ على تحديد المعاني اللغويّة لمفردات الآيات قبل الخوض في تفسيرها، وبما أنّ خبرته اللغويّة تدعو إلى الثقة به والاطمئنان إلى رأيه ننقل كلامه وننطلق منه في تفسير الآية. يقول الطبرسي: "الفقه

 

 

711

 


628

تفسير سورة براءة

العلم بالشيء"[1]. ويتابع قائلًا: "وفي حديث سلمان أنّه قال لامرأة: فقهتِ؛ أيّ علمتِ وفهمتِ"[2]. ويرى رحمه الله أنّ التفقّه من باب التفعّل من الفقه؛ أيّ هو تعلّم الفقه. الفقه إذًا -بحسب الشيخ الطبرسي- هو العلم، والفقيه هو الذي يعلم ويفهم.

 

أمّا الراغب الأصفهاني فإنّه يضيّق معنى الفقه ويرى أنّه: "التوصّل إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، فهو أخصّ من العلم"[3].

 

والمقصود من هذه العبارة أنّ الفقه لا يطلق على كلّ علمٍ، بل هو الوصول إلى المجهول بالاستناد إلى المعلوم، كما في حالة الاستفادة من القياس لاستخراج نتيجته من الجمع بين كبرى القياس وصغراه. ومثال ذلك: علمنا بأنّ العالم متغيّر، وعلمنا بأنّ كلّ متغيّر حادث، ينتج عنه العلم بأنّ "العالم حادثٌ". فهذا هو الفقه بحسب الراغب، أمّا العلم بالمقدّمتين الأولى والثانية فليس فقهًا، إلّا إذا كان مستنتجًا بالطريقة ذاتها.

 

ويرى المرحوم الطريحي أنّ الفقه يعني الفهم والعلم، ويقول: "فقهت الكلام إذا فهمته"[4]، و"فقه الرجل إذا علم". فهو يفسّر الفقه بالفهم في العبارة الأولى، وبالعلم في العبارة الثانية.

 

ويُستفاد من كلمات هؤلاء الأعلام الثلاثة أنّ الفقه يعني الفهم والعلم، أمّا متعلّق هذا الفهم فهو أمرٌ غير محدّد عندهم ولا معلوم.

 

هذا ويُفهم من كلام الشيخ الطبرسي أن التفقّه هو "العلم بالفقه" أيّ علم الفقه بالمعنى الاصطلاحيّ، ويبدو لنا أنّ هذا التقييد لا مبرّر له؛ ولا ينسجم مع أوّل كلامه، وذلك أنّه يعرّف الفقه بأنّه الفهم والعلم، ولا معنى لكون التفقّه تعلّم الفهم، فالفهم أمرٌ لا يمكن تعلّمه. وما يمكن تعلّمه هو


 


[1] مجمع البيان، ج 5، ص 143.

[2] المصدر نفسه.

[3] مفردات ألفاظ القرآن، ص 242.

[4] مجمع البحرين، ج 3، ص 421.

 

712


629

تفسير سورة براءة

الفنّ بمعنى العلم الخاصّ كفنّ الفقه أو فنّ النحو وما شابه.

 

ويبدو لنا أنّ الشيخ الطبرسي أصاب في تعريفه الفقه؛ ولكنّه حين أراد تعريف التفقّه خطر في ذهنه المعنى الاصطلاحيّ لكلمة "فقه"، وهذا غير صحيح. والصحيح هو تحديد المعنى اللغويّ، وعلى ضوئه يمكننا تحديد المعنى الذي تدلّ عليه كلمة التفقّه المشتقّة من المعنى اللغويّ نفسه.

 

الفرق بين الفقه والتفقّه

بين الفقه والتفقّه فرقٌ واضحٌ في اللغة؛ وذلك لأنّ الفقه يعني الفهم، والتفقّه هو التلبّس بالفقه والفهم. ولكنّ المعنى اللغويّ ليس مرادًا للآية ولا مقصودًا. ولا غرو في ذلك، فمن خصائص اللغة القرآنيّة إضفاء معنًى جديدٍ على بعض الكلمات، واستعمالها بطريقة تختلف عن المعنى اللغويّ. وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، فالجهاد والصلاة لهما في اللغة معانٍ مختلفة عن المعنى المقصود منهما في القرآن الكريم؛ حيث أضفى عليهما القرآن معنًى جديدًا يختلف بعض الشيء عن المعنى اللغويّ.

 

كلّ مذهبٍ أو اتّجاه جديد، ينبغي له أن يستخدم الألفاظ في معانٍ جديدةٍ ليدخل إلى أذهان أتباعه مفاهيم جديدة. وقد سار القرآن على هذا المنهج في موارد عدّة؛ ولأجل هذا لا نرى ضرورة الاعتماد على المعنى اللغويّ في تفسير كلمة فقه في هذه الآية. بل نعود إلى القرآن لنتتبّع موارد استعمال هذه الكلمة إن كانت قد استُعملت، وعلى ضوء تتبّع هذه الموارد نصل إلى المعنى الجديد المقصود في القرآن الكريم، أو نكتشف أنّها استُعمِلت في القرآن في معناها اللغويّ.

 

وقد استُعمِلت مادة "فقه" في القرآن في عشرين آية، منها قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ﴾[1].

 

ففي هذه الآية يقول قوم


 


[1] سورة هود: الآية 91.

 

 

713


630

تفسير سورة براءة

شعيب الكافرون: يا شعيب، نحن لا نفهم ولا ندرك ما تقول. وليس المراد أنّهم لا يفهمون معنى الكلمات التي تصدر عن شعيب؛ وذلك لأنّه يتحدّث بلغتهم؛ بل مرادهم إنّنا لا ندرك مرامي ما تقول.

 

والمورد الثاني هو قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[1]. تفيد هذه الآية أنّ كلّ شيء يسبّح بحمد الله تعالى؛ ولكنّ الناس لا يدركون هذا التسبيح ولا يفهمونه.

 

والمورد الثالث هو قوله تعال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[2]. وفي هذه الآية يطلب النبي موسىعليه السلام أن يحلّ الله عقدة لسانه ليفهم المخاطبون كلامه. وبالنظر في هذه الموارد الثلاثة نكتشف أنّ كلمة "فقه" استُعمِلت في القرآن في المعنى اللغويّ، وأنّ القرآن لم يضفِ على هذه الكلمة معنًى جديدًا.

 

"التفقّه" في الآية معناه كسب الفهم والحصول عليه. وفي آية النفر استُعملت كلمة التفقّه في معنى جديد يختلف عن المعنى المقصود من كلمة فقه في القرآن الكريم، والذي هو عين المعنى اللغويّ لمادة "فقه".

 

الفقه في المصطلح الشرعيّ

كلمة فقه في اصطلاح الشرع والمتشرّعة تدلّ على معنى مختلف عن المعنى اللغويّ، وهو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعية بالاستناد إلى أدلّتها التفصيليّة؛ أيّ الكتاب والسنّة والعقل والإجماع. ولكنّ هذا المعنى استجدّ بعد عصر الرسالة وفترة صدر الإسلام وانقضاء زمان الوحي؛ بل وبعد انقضاء عصر حضور الأئمة المعصومين عليهم السلام. والمعنى الجديد هو العلم الخاصّ الذي يُقصد عندما يُقال مثلًا: الشيخ الطوسي هو أوّل من صنّف في الفقه. وبناءً عليه، فإنّ كلمة فقه لها معنيان على الأقلّ، أحدهما


 


[1] سورة الإسراء: الآية 44.

[2] سورة طه: الآيتان 27-28.

 

 

714


631

تفسير سورة براءة

المعنى الاصطلاحيّ الجديد، والآخر هو المعنى القرآنيّ الذي يعادل الفهم والعلم.

 

المقصود من التفقّه في الدين

والآن يحسن بنا تحديد المعنى المقصود من التفقّه في عبارة "ليتفقّهوا في الدين"، فالتفقّه في هذه العبارة مقيّدٌ بكونه في الدين. وهذا يبرّر التساؤل عن المعنى المراد من الكلمة.

 

نحن نجزم أن ليس المراد من التفقه في الدين تعلّم الأحكام الشرعيّة؛ بل المراد "تحصيل الفهم والعلم في مجال الدين والأمور الدينيّة". ولكن ما هو المنظور في هذه الدعوة؟ هل المراد هو الفهم المرتبط بالمسائل الفرعيّة من الدين؟

 

يتوقّف الجواب عن هذا السؤال على معرفة ما هو الدين؟ وما هي العناصر التي يتألّف منها؟

 

في رأينا أنّ الدين هو المركّب الذي أتى به رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم من الله تعالى. وهو مؤلّف من عناصر أو أجزاء عدّة. وينبغي معرفة العناصر أو الأجزاء الأهمّ في الدين حتّى ندرك ما هو موضوع التوصية بالتفقّه والفهم في هذه الآية.

 

جميع المدارس والمذاهب الإلهيّة وغير الإلهيّة تتألّف من أقسامٍ عدّة تعرضها على الإنسان ليدير حياته بواسطتها وعلى ضوئها.

 

القسم الأوّل هو الرؤية والنظرة التي يتبنّاها الدين أو المذهب تجاه الإنسان والعالم، وجزءٌ منها يقوم على أرضيّة فلسفيّة، وهو ما يعبّر عنه بـ"الرؤية الكونيّة". فالاتّجاه أو المدرسة الفكريّة التي تدّعي صلاحيّتها لإدارة حياة الإنسان عليها أن تنطلق من رؤية محدّدة إلى الإنسان والعالم.

 

كلّ مذهبٍ عليه أن يبدأ ببيان نظرته إلى الوجود ويحدّد موقفه من

 

 

715

 

 


632

تفسير سورة براءة

السؤال عن: كيفيّة وجود العالم؟ وعن موقع الإنسان في العالم. وعليه أن يجيب عن عددٍ من الأسئلة، منها: هل وجد الإنسان صدفةً أم أنّ مقدّمات معيّنة اجتمعت فأدّت إلى إيجاد الإنسان؟ وهل وُجِد الإنسان من أجل العالم أم أنّ العالم نفسه وُجِد من أجل الإنسان؟ وهل الإنسان موجودٌ حيوانيٌّ كالفيل والفهد أم أنّه كائنٌ ممتازٌ عن سائر الحيوانات؟

 

يهتمّ صاحب الاتّجاه الماديّ بمعالجة هذه القضايا، وينتهي في معالجته إيّاها إلى أنّ لهذا العالم روابط وعلاقات داخليّة، ولا صلة له بعالم آخر فوق المادّة أو خارج إطارها. ويكتفي المادّيّون بطرح الفرضيّات للجواب عن عددٍ من الأسئلة المطروحة أعلاه، بالنظر إلى عجزهم عن تفسير وجود هذا العالم وتبريره.

 

وفي مقابل الإجابة الماديّة، يقدّم الإلهيون تفسيرًا مختلفًا ينطلق من أساس مفاده الأوّل علاقة هذا العالم بعالمٍ وراء حدود المادّة، ووجود أعلى وأرقى من وجودها. ومن هنا، فإنّ الأنبياء الذين هم سفراء ذلك الوجود غير الماديّ يعرضون علينا القضيّة الأمّ والأساس، وعليها يبنون سائر تعاليمهم، وهذه القضيّة هي قضيّة وجود إله واحد هو الذي خلق هذا العالم.

هذه المسائل هي المبادئ الأوّليّة التي يجب على أيّ مذهب أو اتّجاه فكريّ أن ينطلق منها ليبني عليها سائر أفكاره التفصيليّة التابعة لها أو المتفرّعة منها. والاسم الذي يمكن إطلاقه على هذه القضايا على الأقلّ من وجهة نظر دينيّة، هو اسم "أصول الدين".

 

وللمزيد من التوضيح فإنّ الرؤية أو النظرة التوحيديّة إلى العالم تقوم على أنّ العالم وجد بيد خالقٍ قادر له صفات لا حدّ ولا نهاية لها، وهذا الخالق لا يمكن أن يكون متعدّدًا. وفي ما يرتبط بالإنسان فإنّ هذه الرؤية تقضي بأنّه خُلِق من أجل هدفٍ وغاية لا تسمح له قدراته بالوصول إليها وتحقيقها من دون الاعتماد على هداية الأنبياء الذين يأخذون بيده ليوصلوه

 

 

716

 


633

تفسير سورة براءة

إلى حيث ينبغي له أن يصل. وهذا الإنسان مؤلّف من جسم ماديّ وروح أسمى من المادّة، ولا يعني موته وتحلّل جسمه واختلاطه بتراب الأرض أنّ وجوده الإنسانيّ قد انتهى؛ بل هو باقٍ ببقاء روحه. وهذا ما يُسمّى بأصل المعاد.

 

وتقضي الرؤية التوحيديّة أيضًا بأنّ على الإنسان ليصل إلى كماله أن يختار نموذجًا له ويضعه نصب عينيه. وهذا النموذج هو خلفاء الأنبياء وهم الأئمّة المعصومون الذين يتابعون مسيرة الأنبياء ويأخذون بيد الإنسان ليكمل مسيرته التكامليّة بعد انتقال الأنبياء إلى الرفيق الأعلى. وهذا يعني أنّ مبدأ الإمامة جزءٌ من الرؤية الكونيّة الدينيّة.

 

وصفوة القول إنّ أصول الدين الخمسة هي ما يُعبّر عنه بالرؤية الكونيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الرؤيّة الكونيّة لا تختصر في هذه الأصول الخمسة وحدها؛ بل هي أوسع وأكثر تفصيلًا، وما أصول الدين سوى المبادئ الكبرى والأساسية فيها.

القسم الثاني من الدين هو الفلسفة العمليّة للدين، وهو مجموعة التعاليم الكبرى التي تُشتقّ منها القوانين والتوصيات العمليّة لإدارة الحياة الاجتماعيّة. وهي ما يمكن تسميته، بالأيديولوجيا. مثلاً: قد يقضي مذهبٌ أو اتّجاه فكريٌّ بأنّ إدارة الحياة الاجتماعيّة للإنسان يجب أن تُبنى على المساواة في توزيع الثروة بين الناس. وفي المقابل ثمّة مذهبٌ أو اتجاه فكريّ آخر يقضي بعدم ضرورة أو عدم صحة المساواة، وهو ما يراه أرسطو كمثال. وهو ما يؤمن به فلاسفة وحكماء آخرون. وربّ مذهبٍ يرى أنّ غير الماديّات لها دور في تحقيق الرفاه الاجتماعيّ وتأمينه.

 

والقسم الثالث من الدين هو التوصيات العملية المباشرة والمشتقّة من المبادئ الفكريّة السابقة (الأيديولوجيا). ومن أمثلة هذا القسم من التوصيات إباحة الإسلام البيع وتحريمه الربا، انطلاقًا من نظرة مبدئيّة إلى

 

 

717

 


634

تفسير سورة براءة

الثروة وكيفيّة توزيعها: ﴿أحل الله البيع وحرّم الربا﴾[1]. ومن ذلك أيضًا تحريم الاحتكار، وإيجاب الصلاة والحج.

 

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ كلّ دين يتألّف من ثلاثة أقسام، هي: الرؤية الكونيّة، والمبادئ الفكريّة، والتوصيات العملية التفصيليّة. فإذا أراد الإنسان أن يتعرّف إلى الوجوديّة إلى أيّ مساحة من هذه المساحات يذهب؟ هل ييمّم شطر قانون المرافعات والمحاكمات؟ أم يوجّه نظره إلى ساحة أخرى وهي ساحة النظرة إلى الإنسان والوجود؟

 

وهل يمكن التعرّف إلى المسيحيّة بواسطة النظر في الصلاة عند المسيحيّين؟ وهل تعرّفنا الصلاة إلى نمط التفكير الكليّ والعام في المسيحيّة؟ والأمر عينه في ما يرتبط بالإسلام؛ أيّ إذا أردنا أن نتعرّف إلى الإسلام هل نبني معرفتنا به على توصياته المتعلّقة بالتيمّم والوضوء؟ أن يجب الانطلاق أوّلًا من أصول الدين؟

 

ولا شكّ في أنّ الدين لا يمكن التعرّف إليه انطلاقًا من فروعه. فالفروع والقوانين التفصيليّة ليست سوى جزءٍ من الدين. وما يعطي صورة أوضح وأكثر شموليّة عن الدين هو أصوله ومبادئه الكبرى. فبعد معرفة الأصول يمكن أن نولّي الوجه شطر الفروع والتفاصيل.

 

وسيلة التعرّف الدقيقة إلى الإسلام هي أصول الدين؛ أيّ التوحيد والنبوّة والنظرة إلى الإنسان، والهدف من الخلق. وبمعرفة الموقف من هذه القضايا الكبرى تعرف سائر الأديان والاتّجاهات الفكريّة. فالتفقّه هو فهم المعارف الأصلية للدين، وليس التعاليم الفرعيّة. ولدينا على هذا المدّعى شواهد وأدلّة. فآيات القرآن والأخبار الواردة عن المعصومين تثبت هذه الدعوى، وهي دعوى أنّ الأصول هي الأساس وهي التي ينبغي الانطلاق منها، في رحلة معرفة الدين. فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ولينذروا قومهم إلى رجعوا


 


[1] سورة البقرة: الآية 275.

 

 

718


635

تفسير سورة براءة

إليهم لعلّهم يحذرون﴾، تفيد هذه الآية أنّ النفر والهجرة للتعلّم هدفها الإنذار والتحذير. وهنا نسأل هل يحصل الإنذار والحذر المترتّب عليه بتعليم كيفيّة الصلاة؟ أم يحصل بلفت نظر الناس إلى التوحيد والمعاد والنبوّة؟

 

والدليل الثاني الذي نستند إليه لإثبات هذه الدعوى هو الروايات الواردة عن المعصومين في الكتب الحديثيّة من قبيل نهج البلاغة ونور الثقلين[1] وغيرهما. فقد بيّنت روايات عدّة مفهوم التفقّه بطريقة لا تنسجم مع تعلّم الأحكام والتعاليم الفرعيّة.

 

البحث الروائيّ

1- عن أبي بصير، قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: تفقّهوا فإنّه من لم يتفقّه منكم فإنّه أعرابيّ، إنّ الله يقول في كتابه: ﴿ليتفقّهوا في الدين وينذروا قومهم﴾"[2].

 

يبرّر الإمام الباقرعليه السلام في هذه الرواية دعوته إلى التفقّه بأنّ ترك التفقّه يجعل الإنسان أعرابيًّا بعيدًا عن المعرفة. ويستشهد بالآية.

 

2- عن المفضّل بن عمر، قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعرابًا، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملًا"[3]. يُستفاد من هذه الرواية عن الإمام عليه السلام أنّ الشخص الذي لا تتوافر له المعرفة يكون، تلقائيًّا، أعرابيًّا.

 

بالنظر إلى هذه الأخبار نفهم أنّ "التفقّه في الدين" هو فهم التعاليم الأصوليّة والكبرى من الدين، وفقه الدين هو معرفة المبادئ والأصول، وليس معرفة الأحكام الفرعيّة.


 


[1] انظر: نور الثقلين، ج 2، ص 282.

[2] تفسير العيّاشي، ج 2، ص 118.

[3] الكافي، ج 1، ص 31.

 

719


636

تفسير سورة براءة

3- عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا"[1].

 

4- عن أبي عبد الله عليه السلام قال له رجلٌ: جُعلت فداك! رجلٌ عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه؛ فقال: وكيف تفقّه هذا في دينه؟[2] وهذه الرواية على الرغم من إرسالها، إلّا أنّ سندها ليس بذاك السيِّئ.

 

تفيد هذه الرواية أنّ التفقّه في الدين أمرٌ مطلوب ومندوب إليه. ولا يكفي أن يعتقد الإنسان، بل لا بدّ له من المعاشرة والاختلاط بالشيعة والناس الصالحين.

 

5- يروي صفوان عن الإمام الرضا عليه السلام تعريفًا مختلفًا للفقه يفتح لنا أفقًا جديدًا. يقول الإمام عليه السلام بحسب هذه الرواية: "إنّ من علامات الفقه الحلم والصمت"[3].

 

الحلم هو سعة الصدر. ففي بعض الأحيان يواجه الإنسان مواقف تجعله حيرانَ يعجز عن اتّخاذ الموقف المناسب. سواء كانت هذه المواقف شبهات فكريّة أم غيرها. ويُعلّمنا هذا الحديث أنّ الشبهات التي يواجهها الإنسان هي وقائع لا بدّ من التعامل معها كغيرها من الوقائع، فلا ينبغي للإنسان أن يتيه عند أوّل معضلة يواجهها.

 

والصمت من الصفات المهمّة أيضًا، وربّما يظنّ بعض الناس أنّ الصمت هو مجرّد السكوت. والحال أنّ السكوت في حدّ ذاته لا ميزة له وليس بالضرورة أن يكون عملًا مستحبًّا. نحن نفهم من الصمت أن يقدّر الإنسان حجم كلامه ومتى يسكت ومتى يتكلّم. وبين هذا المعنى والسكوت اختلافٌ كبير وبونٌ شاسعٌ.

 

 


[1] المصدر نفسه.        

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ج 1، ص 36.

 

719


637

تفسير سورة براءة

وقد سُئل الإمام السجاد عليه السلام عن الكلام والسكوت أيّهما أفضل؟ فقال عليه السلام: "لكلّ واحدٍ منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت"[1].

 

ما أكثر الذين لا يعرفون كيف يتكلّمون وبأيّ طريقة! ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ هذا الخبر الذي نقلناه عن الإمام الرضا عليه السلام يفيد أنّ الفقه هو الصمت والحلم. ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع الفقه بمعناه الاصطلاحيّ. وثمّة عددٌ من الفقهاء بهذا المعنى، لا يتحلّون بالحلم. كما إنّه لا تلازم بين الصمت والفقه بالمعنى الاصطلاحيّ المعروف. والفقه المتلازم مع هاتين العلامتين: الحلم والصمت، هو معرفة الدين في أصوله الكبرى.

 

6- عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: "لا يكون الرجل فقيهًا حتّى لا يبالي أيّ ثوبيه ابتذل وممّا سدّ فورة الجوع"[2].

 

يعرّف هذا الحديث الفقيه بطريقة مجازيّة كنائيّة. فالفقيه بحسب هذا الحديث هو الشخص الذي لا يهتمّ بلباسه. وهذا كناية لا يقصد منها معناها الحرفيّ، أيّ الدعوة إلى عدم الالتفات إلى نظافة الثياب أو مظهرها بحيث تسبّب للإنسان هتكًا ومهانةً.

 

والسمة الثانية التي تذكر من علامات الفقيه في هذه الرواية هي عدم المبالاة بالطريقة التي يطفئ الإنسان بها ألم جوعه. فبعض الناس يولي اهتمامًا كبيرًا للطعام والمأكل، ولكنّ الفقيه، بحسب هذه الرواية، هو من لا يبالي كثيرًا بطعامه. ويُفهم من هذا الحديث أوّلًا أن الفقيه هو الشخص الذي يأكل ليسدّ جوعه؛ ولا يأكل لأهداف وأغراض أخرى. وثانيًا: يكتفي بما يتيسّر ولا يتخير لنفسه الطعام الخاصّ.

 

فهل هاتان الصفتان تنسجمان مع الفقه بالمعنى الاصطلاحيّ؟ لا؛ فربّ


 


[1]  الاحتجاج، ج 2، ص 315.

[2] الخصال، ج 1، ص 40؛ وسائل الشيعة، ج 5، ص 52.

 

 

721


638

تفسير سورة براءة

شخصٍ متفقّه يعرف الكثير من الأحكام التفصيليّة، ولا تكون فيه هاتان الصفتان. الفقيه إذًا، بحسب هذه الأحاديث هو الشخص الذي تتوافر له المعرفة بالدين بالمعنى الكبرويّ والشامل.

 

 

722


639

تفسير سورة براءة

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ

وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿123﴾

 

 

724


640

تفسير سورة براءة

حكم بسيط ولكن مثير للعجب

تبيّن هذه الآية حكمًا على درجة من الأهميّة وهو من الأحكام الأساسية. ومن عجائب القرآن أنّه يبيّن حكمًا بهذه الأهميّة بطريقة بسيطة وسهلة. تدعو الآية المؤمنين الذين قبلوا الفكر الإسلاميّ وتبنّوه إلى مقاتلة الكفار القريبين.

 

ومن الواضح أنّ الآية لا تهدف إلى بيان أصل تشريع الجهاد؛ لأنّ هذا الحكم تقدّم الحديث عنه سابقًا. وهذه الآية تخاطب المسلم الذي يعرف أنّ قتال الكفّار واجبٌ عليه؛ ولكنّه لا يعرف أيّ نوع وصنفٍ من الكفّار يجب قتاله.

 

فهذه الآية تحدّد للمسلمين الاستراتيجيّة الواجب اتّباعها في القتال، وتقول لهم إذا كان ولا بدّ من القتال والجهاد، فعليكم أن تبدأوا من الكفّار القريبين الذين يحيطون بالمدينة، ويجاورونكم فيها.

 

وهذا الحكم من الأحكام البسيطة؛ وذلك لأنّ العقيدة القتاليّة لأيّ مجتمع يجب أن تقوم على الجهاد مع القريب قبل التصدّي لقتال البعيد. ووجه هذا المبدأ ومستنده واضحٌ. ولكن في الوقت نفسه هذه الطريقة في الإدارة الاجتماعية القرآنيّة مثيرةٌ للتعجّب، وهي طريقة تبيّن القضايا المهمّة والخطيرة في سياق الحديث عن أمرٍ بسيط.

 

بحسب هذا الحكم يجب على المسلمين أن يفتحوا الدنيا ويدعوا الناس إلى الإسلام. وهذه هي الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، فالإسلام دينٌ عالميٌّ يقوم على الدعوة إلى نفسه.

 

 

726


641

تفسير سورة براءة

كيف تخاطب هذه الآية المجتمع الإسلاميّ وبأيّ طريقة؟ وما هي مرامي هذا الخطاب؟ هل تدعو الآية المسلمين إلى قتال الكفّار المجاورين للمدينة؟ وإذا انهزم المسلمون في مواجهتهم عليهم أن يسلّموا ويكفّوا عنهم؟ لا شكّ في أن ليس هذا هو المراد؛ بل المراد هو الإصرار على الجهاد والقتال إلى أن يذوب الكفّار في المجتمع الإسلاميّ ويتحوّلوا إلى الإسلام.

 

فإذا فرض أنّ المسلمين قاتلوا اليهود وأدخلوهم في الإسلام، فهل تنتهي المهمّة؟ وتتحوّل هذه الآية إلى آية لا دلالة عمليّة لها، ويكتفي المسلمون بقراءتها كجزء من الوحي القرآنيّ؟ أبدًا ليس الأمر على هذا النحو. بل الآية تقول للمسلمين عليكم متابعة الجهاد ودعوة جيرانكم الجدد إلى الإسلام وهكذا...

 

متى ينتهي هذا الخطاب؟ لا ينتهي هذا الخطاب ولا تتوقّف الدعوة إلى الجهاد، إلّا عندما تخلو الأرض من الكفّار. وعليه فإنّ الآية بصدد بيان الرسالة العالميّة للإسلام. وهي تأمر المسلمين بالاستعداد الدائم للتمدّد لينتشر التوحيد في العالم كلّه.

 

"وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً": يفسّر بعض الناس الغلظة بمعنى قسوة القلب؛ فهل يدعونا القرآن إلى أن نكون قساة القلوب في تعاملنا مع الكفّار؟

 

ليس في القرآن أيّ دعوة إلى قسوة القلب، ولا في الإسلام توصية بهذا الأسلوب؛ وذلك لأنّ القرآن في مواضع أخرى يوصي بالرحمة والرأفة في التعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا مشركين، وهكذا كانت سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. يدعو الله نبيّه إلى إعطاء الجوار وحماية المشرك الذي يلجأ إليه ليسمع كلام الله، ثمّ إذا لم يؤمن لا يجوز التعرّض له؛ بل لا بدّ من رعاية جواره حتّى يبلغ مكانًا آمنًا: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾[1]. وبالنظر إلى هذه الآية لا ينبغي


 


[1] سورة التوبة: الآية 6.

 

727


642

تفسير سورة براءة

تفسير الغلظة بقسوة القلب. فعندما تتجاور ثقافتان سوف يحصل بينهما تثاقفٌ وتبادلٌ للعادات والتقاليد.

 

والأمّة الأقوى والأعلى يدًا تسعى دائمًا إلى التأثير في الأمّة الأضعف، وتسعى كي تحمي نفسها من التأثّر. وانظروا إلى الواقع المعاصر؛ حيث يُعمل على نشر اللغة الإنكليزيّة وترويجها. وهذا هو مقتضى العادة والسيرة الثقافيّة؛ فعندما تشعر أمّةٌ ما بأنّها الأقوى والأعلى يدًا تحاول ترويج ثقافتها ولغتها وفرضها على الأمم الأضعف. والأمم الضعيفة تجد نفسها شيئًا فشيئًا أسيرة الأقوى وأسيرة ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، وهذا ما حصل في التجربة الهنديّة؛ حيث ذابت الثقافة الهنديّة واضمحلّت إثر الضغط الثقافيّ للاستعمار. ومن هنا، منع الإسلام وحرّم التشبّه بالكفّار؛ بل ورد في بعض الأخبار أنّ تشبّه الإنسان بقوم يجعله واحدًا منهم: "من تشبّه بقومٍ فهو منهم"[1]. فعندما نقبل فكر الكفّار وثقافتهم، ينتشر الكفر بالتدريج في المجتمع الإسلاميّ، ويؤدّي ذلك إلى تهديد كيان الإسلام وزوال سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

عندما يتجاور المجتمع الإسلاميّ مع بيئةٍ اجتماعيّةٍ كافرة، يحصل التأثّر والتأثير بشكلٍ قهريّ، فإذا اعتُمد التساهل والمرونة في التعامل مع هذا التأثّر وحصلت الموافقة على استيراد ثقافة المجتمع الآخر وتقاليده إلى المجتمع الإسلاميّ، سوف يتحوّل التأثر الثقافي إلى تبعية اقتصاديّة وسياسيّة تهدّد المجتمع الإسلاميّ بالاضمحلال والانهيار. وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم على عدم جواز الاستخفاف في هذا المجال، ودعوته إلى قتال الذين يلوننا من الكفّار نجد أنّ المجتمعات الإسلاميّة ليس فقط لم تتقدّم؛ بل هي في حال تقهقر وتراجع. وعليه يجب على المسلمين الحذر والانتباه إلى الموقف الذي يأخذونه من الكفّار المجاورين.

 

والجملة الثانية في الآية وهي قوله تعالى: "وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً" تلفت


 


[1] نهج الفصاحة، ص 737.

 

 

728


643

تفسير سورة براءة

نظرنا إلى هذه النقطة، وهي عدم الاستخفاف في مقام التعاطي مع الآخرين، فهي تنهى عن الخضوع للكفّار والتأثّر بهم. وهذا هو المقصود من الغلظة في الآية، فليس المراد الدعوة إلى اعتماد القسوة في التعامل؛ بل المراد هو المناعة تجاه الذوبان في الكفّار والخضوع لسلطتهم الثقافيّة.

 

وبهذا البيان اتّضح أنّ الجملة الأولى في الآية تبيّن حكمًا مهمًّا بصورة بسيطة، والجملة الثانية تتحدّث عن مقدّمات ذلك الحكم.

 

"وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ": تخبر هذه الآية أنّ الله مع المتّقين يساعدهم ويساندهم. بعد أن بيّنت الجملة الأولى وجوب نشر الإسلام في الأرض، وكشفت الجملة الثانية عن وجوب التحلّي بالمناعة الفكريّة والثقافيّة كي لا يذوب المجتمع الإسلاميّ وينحلّ في غيره من المجتمعات. تأتي هذه الجملة لتبيّن الطريقة التي تجب إدارة المجتمع الإسلاميّ على أساسها كي يبقى مصونًا من الذوبان والانحلال. وهذه الطريقة هي التقوى. وذلك عندما يكون الهمّ الأساس لجميع أفراد المجتمع الإسلاميّ قادةً وشعبًا، احترام قواعد الدين وعدم انتهاكها ولو بمقدار شعرة. وهذه هي التقوى، نعم التقوى هي احترام حدود الأوامر والنواهي الإلهيّة وعدم تخطّيها وتجاوزها.

 

وعليه، فإنّ معنى هذه الجملة الثالثة في الآية هو: إنّ الله مع المتّقين يساعدهم ويأخذ بأيديهم لينشروا الإسلام في الأرض، ولتعلو كلمة الدين وتستولي على المعمورة كلّها. أمّا إذا نسي المسلمون أصول دينهم فإنّ الغلظة والمناعة الثقافيّة سوف تضعف عندهم...

 

في رأينا أنّ هذه الآية هي الآية الأكثر اشتمالاً على المعاني وعلى أعمقها، بين آيات سورة التوبة[1].


 


[1] الآية 123 من هذه السورة هي آخر ما توافر من تقريرات تفسيره دام ظلّه.

انقسام المسلمين في صدر الإسلام إلى فئات أربع.

 

 

729


644
تفسير سورة براءة