المقدّمة
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
إنّ لآيات القرآن الكريم وأحاديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، أثراً عظيماً في تحريك القلوب والأذهان نحو الحقّ والصلاح. ولا يوجد ميدان يرتبط بحياة الإنسان الفرديّة أو الجماعيّة، إلّا وكان له الكتاب والسنّة شاهداً مرشداً، يستطيع المؤمن من خلالهما أن ينير درب حياته في هذه الدنيا، فيأمن مكائدَ الشيطان، ويكون وجوده خيراً لمن حوله من عباد الله.
ومن أهمّ ما ينبغي للإنسان أن يتنبّه إليه في حياته، هو ما يرتبط بعلاقته بالآخرين، من أرحام وجيران وأصدقاء وأخلّاء
7
1
المقدّمة
وعلماء، وما يتعلّق بمسؤوليّته كفردٍ من أفراد المجتمع، بأن يُسهم في تقويته وشدّ أواصر الألفة بين أبنائه، وغير ذلك من المفاهيم الاجتماعيّة الضروريّة لحياة هانئة وآمنة.
جاء هذا الكتاب جامعاً لعددٍ من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، التي تتضمّن تلك المفاهيم الاجتماعيّة بشكلٍ واضح وجليّ، وبقالبٍ سهل وبسيط، وقد وسمناه في "مركز المعارف للتأليف والتحقيق" باسم ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ﴾، إشارةً إلى ضرورة التقاء القلوب، والابتعاد عن التشتّت والفرقة، والتمسّك بإرشادات هذا الدين الحنيف.
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
8
2
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
الموعظة الأولى
سمات المؤمن الاجتماعيّة
هدف الموعظة
بيان أهمّ السمات الأخلاقيّة والسلوكيّة للإنسان في علاقته مع الآخرين، والحثّ على التحلّي بها.
محاور الموعظة
1. الحقوق الإنسانيّة
2. الحقوق المادّيّة
3. الحقوق المعنويّة
4. عدل الخطاب
تصدير الموعظة
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[1].
[1] سورة الإسراء، الآية 70.
9
3
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
في كنف الآية
إنّ للإنسان كرامة عند الله تعالى، لم ينلها غيره من الخلق حتّى الملائكة، وقد خصّه بنعم ومقدّرات عظيمة، يصعب إحصاؤها ومعرفتها، حتّى يستعين بها في مسيرة حياته، ويتقوّى على طاعته، يصفها الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: "فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك، وجدته كالبيت المبنيّ المُعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ، والإنسان كالمملَّك ذلك البيت، والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيّأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه"[1]، ذلك كلّه وُضِع في تصرّف الإنسان وخدمته لاستعماله في سبيل الخير والبناء، لا في طريق الشرّ والشقاء، وممّا رُوِيَ في هذا التكريم الإلهيّ لابن آدم: "لمّا أُسري برسول الله، وحضرت الصلاة، فأذّن وأقام جبرئيل، فقال: يا محمّد، تقدّم، فقال رسول الله: تقدّم
[1] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار h، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج3، ص61.
10
4
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
يا جبرئيل، فقال له: إنّا لا نتقدّم الآدميّين، منذ أُمرنا بالسجود لآدم"[1].
الحقوق الإنسانيّة
إذا عرفنا ما تقدّم، حقّ علينا أن نسأل أنفسنا: كيف نتعامل مع من كرّمه الله بهذا التكريم، ونحن نعيش في مجتمع واحد، نتعارف ونتآلف؟ ما هي الحقوق الواجبة علينا؟
إنّ الحقوق الإنسانيّة التي ينبغي علينا مراعاتها هي في جانبين: مادّيّ ومعنويّ. وطالما أنّ روح المسؤوليّة تعيش بيننا، فإنّ كلّ واحد منّا سيشعر بأنّه جزء من هذا المجتمع، يتكامل مع الآخرين، لا تتحكّم فيه روح الانزواء والتفرّد، بل نلتزم المبادئ الاجتماعيّة التي دعانا إليها الإسلام العزيز، فلا يستعلي أحد على الآخرين ولا يستضعفهم، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس سواء كأسنان المشط"[2].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص404.
[2] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2، ص368.
11
5
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
ومن وصاياه عليه السلام: "وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ، ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"[1].
الحقوق المادّيّة
إنّ التشريعات بيّنت أهمّيّة الحفاظ على توفير الضرورات والحاجات المادّيّة للإنسان، وهدفها أن تسود الأرض عدالة اجتماعيّة، ولا يُهان الإنسان لقاء لقمة عيشه، أو سقف يظلّله مع عائلته، أو دراهم تعينه على شراء دواء، وما شاكل ذلك. من هنا، عُدَّ الممتنع عن دفع الحقوق الماليّة الشرعيّة المتوجّبة عليه متعدّيّاً ومنتهكاً للحقوق الإنسانيّة، ومساهماً في حرمان الآخرين وإبقائهم على الأوضاع السيّئة التي تحيط بهم، بدلاً من قيامه بإعانة الضعيف منهم ومساعدته، لما فيه صلاح دينه ودنياه، عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق كلّهم عيال الله،
[1] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص427، الكتاب 53.
12
6
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله"[1]، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"[2]، لذلك كان للمساعي والخدمات في سبيل المجتمع البشريّ أهمّيّة بالغة في الدين الحنيف. هذا ما يرتبط بالواجبات العامّة، وهي بدورها كما تفرض تأمين الاحتياجات تلزمنا كذلك بالمحافظة وعدم التعرّض للمقدّرات الموجودة لدى الناس على اختلاف أشكالها وأنواعها، وقد أقام الإسلام على ذلك الحدود عند التعدّي، لتستقيم الحياة في الخطّ الذي أراده الله سبحانه لها.
الحقوق المعنويّة
إنّ الدعوة إلى رعاية الحقوق المعنويّة لا تقلّ عن المادّيّة، بل هي آكد وأوجب، سواء في مجالها العامّ الذي يمكن التمثيل له بتوهين أهل بلد معيّن، من خلال إهانتهم ولصق التهم بهم، أو في مجالها الخاصّ كالتعرّض لغيبة المؤمن أو
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج86، ص118.
[2] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص199.
13
7
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
بهتانه وشتمه، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا﴾[1]، وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من آذى مؤمناً، فقد آذاني"[2]، وهنا لا يكون الحقّ المطلوب رعايته عدم التعرّض للآخر بما يكره، بل أن لا يُتعرَّض إليه كذلك في محضرك، إذ يجب عليك أن تصونه وتدفع عنه كلَّ ما يُسقِط حرمته أو يخدشه في نفسه وحريمه وولده، وسائر من يتعلّق به، لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "السامع للغيبة كالمغتاب"[3].
تقسيم اللحظات
وإذا قرأنا سيرة المعصومين عليهم السلام بعين البصيرة، وجدنا العناية الفائقة والملاحظة الدقيقة لصغائر الأمور، التي قد نقضي أعمارنا في الغفلة عنها وعدم الالتفات إليها، حتّى أنّهم عليهم السلام كانوا يقسّمون لحظاتهم في النظر إلى أصحابهم، كما عن
[1] سورة الأحزاب، الآية 58.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص72.
[3] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص29.
14
8
الموعظة الأولى: سمات المؤمن الاجتماعيّة
جدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه كان يقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة[1].
عدل الخطاب
كانوا عليهم السلام يعتنون بالالتزام في أن لا يعلو خطاب الخصم على خصمه، ويرتّبون على ذلك الآثار، كالعزل من القضاء، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه ولّى أبا الأسود الدؤليّ القضاء، ثمّ عزله، فقال له: لِمَ عزلتني وما خنت ولا جنيت؟! فقال: "إنّي رأيت كلامك يعلو كلام خصمك"[2]، فكيف بنا إذا قادتنا رغباتنا ونزعاتنا إلى تحطيم الآخرين وتشويه سمعتهم، وإقناع أنفسنا بأنّه يوجد لذلك مبرّرات شرعيّة، مع حقيقة أنّ الشرع المبين بعيد عن ذلك غاية البعد، فإذا كان الاستعلاء بالكلام في محضر الآخر انتهاكاً خطيراً استحقّ صاحبه العزل من سدّة القضاء، فكيف بإظهار عيوبه والكيد له في غيبته؟!
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص671.
[2] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408ه - 1987م، ط1، ج3، ص197.
15
9
الموعظة الثانية: العزلة المذمومة
الموعظة الثانية
العزلة المذمومة
هدف الموعظة
معرفة أنّ طريق السير والسلوك نحو الله لا يكون بالعزلة واجتناب الناس، بل بالسعي للعيش الهانئ في هذه الحياة الدنيا والاهتمام بقضاياها.
محاور الموعظة
1. مسلك العزلة
2. بين العبادة والحياة الاجتماعيّة
3. السلوك الصحيح لا يُلجئ الآخرين
4. البرنامج السلوكيّ عامّ
تصدير الموعظة
الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِصالِحِ مَنْ مَضى، وَاجْعَلْنِي مِنْ صالِحِ مَنْ بَقِيَ، وَخُذْ بِي سَبِيلَ الصَّالِحِينَ، وَأَعِنِّي عَلى نَفْسِي بِما تُعِينُ بِهِ الصَّالِحِينَ عَلى أّنْفُسِهِمْ، وَاخْتِمْ عَمَلِي بِأَحْسَنِهِ"[1].
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجِّد وسلاح المتعبِّد، نشر مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه، ط1، ج2، ص596.
16
10
الموعظة الثانية: العزلة المذمومة
مسلك العزلة
يوجد انطباع سائد لدى الكثيرين، مفاده أنّ أهل القلوب والسالكين لا يختلطون بالناس، بل يعتكفون في بيوتهم، أو يعتزلون شؤون الحياة الدنيا، ويتفرّغون للقيام بوظائفهم العباديّة ومناسكهم التي تستغرق المساحة الكبرى من حياتهم والوقت الأكبر من أعمارهم.
والحقيقة أنّ هذا المنهج لا يتّفق مع الشريعة شكلاً ومضموناً، من منطلق أنّ الله تعالى لم يخلق الخلق ليعيش كلّ واحد منفرداً وعازفاً في صومعة أو زاوية خربة، إنّما كما جاء في التنزيل المبارك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[1].
لذلك، لا يمكن حصر الرسالة الدينيّة في الحياة الفرديّة، بل هي رسالة تحكم تفاصيل العالم كلّه، وتفرض التزامات في شتّى جوانب الحياة، من اجتماع واقتصاد وسياسة وغير ذلك، كما عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين، فليس بمسلم"[2].
[1] سورة الحجرات، الآية 13.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص164.
17
11
الموعظة الثانية: العزلة المذمومة
بين العبادة والحياة الاجتماعيّة
يوجد فرق بين أن يقضي الإنسان تمام عمره معتزلاً مبتعداً عن الحياة اليوميّة، وبين أن يمارس دوره في المجتمع، وإلى جنبه يخصّص وقتاً للاختلاء بخالقه سبحانه في آناء الليل أو أطراف النهار، فيلزم نفسه بالبقاء في مصلّاه بين الطلوعين أو الغروبين، أو في الأسحار لأداء نافلة الليل، ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾[1]، إذ تدلّ الآية الكريمة على أنّ النهار هو للتواصل والتفاعل، سواء في العلاقات أو التجارات أو الصناعات وغير ذلك، ممّا به السبح في المجتمع، ويهدف ذلك إلى عمليّة تنظيم إلهيّ في توزيع الأوقات والإرشاد إلى الأنسب.
السلوك الصحيح لا يُلجئ الآخرين
إنّ المدرسة السلوكيّة الصحيحة في الإسلام لا تبرّر المجاهدات المؤدّيّة إلى إلجاء الآخرين أو قهرهم، فإنّ ذلك ممّا لا يمكن الموافقة عليه، لأنّه يدخل في دائرة المخالفات المنهيّ عنها، ولأجل أن تكون الصورة واضحة نعطي مثالاً:
[1] سورة المزمّل، الآيتان 6 و7.
18
12
الموعظة الثانية: العزلة المذمومة
لو قرّر السالك القاطن في بلد شديد البرودة عدمَ استعمال وسائل التدفئة مع قدرته على ذلك، بغية مجاهدة نفسه وعدم إعطائها سؤلها في أن تنعم بالدفء في الشتاء القارس، فحكم على عائلته وأولاده بأن يتحمّلوا هذا العناء، حيث يعيش الجميع في غرفة واحدة، فإنّ هذا يُعَدُّ خروجاً عن الدين، وليس سلوكاً، لأنّه مصادرة لإرادة الآخرين وإجبار لهم على ما يكرهون، ويندرج تحت الإيذاء المحرّم، وفي التاريخ نماذج كثيرة من أولئك، وقد ابتلي أمير المؤمنين عليه السلام ببعضها، كعاصم بن زياد وغيره، ففي الرواية: قال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: "وما له؟"، قال: لَبِس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال: "عَلَيَّ به"، فلمّا جاء، قال: "يا عُدَيّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رَحِمتَ أهلك وولدك؟! أترى الله أحلَّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟! أأنت أهون على الله من ذلك؟!".
قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!
قال عليه السلام: "ويحك! إنّي لست كأنت، إنّ الله تعالى فرض
19
13
الموعظة الثانية: العزلة المذمومة
على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبيّغ[1] بالفقير فقره"[2].
البرنامج السلوكيّ عامّ
إنّ منهج الإسلام في تربية الإنسان ليس حكراً على فئةٍ دون أخرى من البشر، وإنّما هو من تعاليمه السامية وخطوطه العامّة التي أُرسِل بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للبشريّة كافةً "إنّما بُعِثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق"[3]، فإنّ جادّة السلوك مفتوحة أمام الجميع، لكن مع مراعاة أسسها ولوازم السير عليها والزاد الذي يجب حمله وسلاح المعرفة.
لذلك، من الخطأ بمكان نفي القابليّة لهذا الأمر، وإنّما من خلال المجاهدة والمثابرة تتكشّف الأمور لدى المرء، ويزداد نموّه ويسرع في تقدّمه، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[4].
[1] التبيّغ: الهيجان والغلبة.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص121.
[3] المصدر نفسه، ج16، ص210.
[4] سورة العنكبوت، الآية 69.
20
14
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
الموعظة الثالثة
روح الجماعة
هدف الموعظة
الحثّ على التكاتف وملازمة الجماعة في ميادين الحياة الاجتماعيّة كلّها.
محاور الموعظة
1. الجماعة أساس النجاح
2. الصلاة جماعةً
3. الجهاد جماعةً
4. الدعاء جماعةً
5. صلة الأرحام والجيران
6. لا صدقة وذو رحمٍ محتاج
تصدير الموعظة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمنون متّحدون متآزرون متضافرون، كأنّهم نفس واحدة"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج58، ص150.
21
15
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
الجماعة أساس النجاح
يحثّنا الإسلام على روح التعاون والجماعة في سبل الحياة المرتبطة بشؤون الدين والدنيا، وإنّ نظرة واحدة إلى الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة كافية في معرفة ما لهذا الأمر من أهمّيّة في الشرع المبين، سواء في قيام نظام العيش بما يشتمل عليه من اقتصاد وسياسة واجتماع، أو في مراسم العبادات الإلهيّة، كالحجّ والصلاة ومجالس العزاء والدعاء والجهاد في سبيل الله.
ما من شكّ في أنّ كثيراً من مواطن الضعف التي أصابت المسلمين في حقبات من الزمن، كانت وليدة روح الفرد والانزواء، واتّباع المصالح الشخصيّة على حساب الأهداف العالية للدين الحنيف، وعدم الالتفات إلى الآخرين، وفقدان الإيثار وحمل هموم المستضعفين، مع أنّ المجتمع الذي يريده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام، هو كما يقول الإمام الباقر عليه السلام: "المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمّى"[1]، فما لم يكن
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص234.
22
16
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
المؤمنون كذلك، فإنّ حليفهم الفشل والهزيمة، وليس النصر والنجاح، لأنّه قائم على التعاون وبذل الجهود صفّاً واحداً، لأجل بلوغ ما أرادنا الله تعالى أن نصل إليه، وإلّا خرجنا عن كوننا مسلمين، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين، فليس منهم"[1].
الصلاة جماعةً
تُبيّن بعض الأحاديث المطهّرة إحدى المشاهد التي يحبّها الله تعالى، وهو مشهد صفوف الصلاة جماعةً، والذي يشكّل مصداقاً واحداً من تجسيد مفهومها وعنوانها، بما يتّسع له من ميادين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا الجماعة، فإنّ صفوف أمّتي في الأرض كصفوف الملائكة في السماء، والركعة في جماعة أربع وعشرون ركعة، كلّ ركعة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من عبادة أربعين سنة"[2].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص164.
[2] الصدوق، محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر غفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ، إيران - قمّ، 1403ه، ط1، ج2، ص355.
23
17
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
الجهاد جماعةً
قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[1].
إنّ قوّة المسلمين لا يمكن أن تكون كامنة فيهم وهم متفرّقون، بل تتجّسد في تماسكهم واجتماعهم تحت راية الهدى في قتالهم ضدّ أعداء الله تعالى، بالشكل الذي يحبّه سبحانه، وهو أن يكونوا كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضهم بعضاً.
الدعاء جماعةً
إنّ في اجتماع المؤمنين في مجلس واحد، لأجل قراءة الأدعية المباركة، قيمة مختلفة عن الدعاء الانفراديّ، فإنّ الله تعالى وعدهم بالاستجابة القطعيّة لمسألتهم، جزاء اتّحادهم واجتماعهم، وظلَّ الأنبياء والأوصياء عليهم السلام يوصون بهذا المنهج، ويؤكّدونه حتّى قائم آل محمّد عليه السلام، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع أربعون رجلاً في أمر واحد، إلّا استجاب الله تعالى لهم، حتّى لو دعوا على جبل لأزالوه"[2].
[1] سورة الصفّ، الآية 4.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج90، ص349.
24
18
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
صلة الأرحام والجيران
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صلة الرحم والبرّ ليهوّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردّ الجواب"[1].
وهنا دعوة إلى العيش بروح الجماعة، سواء مع الأرحام الذين تربطنا بهم رابطة النسب أو مع الجيران، ذلك أنّ الحياة التي يهدف إليها الإسلام، هي التي تحمل هذا الجانب الاجتماعيّ شكلاً ومضموناً، بما له من أبعاد مختلفة تنعكس في سائر شؤون الإنسان الداخليّة والخارجيّة، وتساهم في تربية الأبناء وشدّ الأواصر.
لا صدقة وذو رحمٍ محتاج
يُروى أنّ امرأة مات زوجها، فأرادت أن تتصدّق عنه، فصارت تصنع طعاماً ليلة الجمعة، وترسله مع ولدها اليتيم إلى فقير في أحد الأكواخ القريبة. كان الولد يأخذ الطعام إلى ذلك الكوخ، وهو يشعر في الوقت نفسه بجوعٍ شديد، ثمّ
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص157.
25
19
الموعظة الثالثة: روح الجماعة
يرجع إلى البيت وينام جائعاً. وهكذا صنعت الأمّ مرّة ثانية (ليلة الجمعة) طعاماً، وأرسلته مع ولدها إلى ذلك الفقير نفسه، قدّم الولد الطعام إليه، ورجع وهو يكابد ألم الجوع، ثمّ نام جائعاً، وفي المرّة الثالثة أخذ الولد الطعام متوجّهاً نحو الكوخ، إلّا أنّ الجوع أضرّ به ضرراً بالغاً، فلم يستطع الصبر، فأكل الطعام ورجع إلى البيت ونام وهو شبعان، فرأت الأمّ زوجها في المنام يقول لها: (لم يصل إليّ الطعام إلّا في هذه الليلة!)، انتبهت الأمّ من نومها متعجّبة، فسألت ولدها: ولدي، إلى مَن كنت تأخذ الطعام ليلة الجمعة الماضية وقبلها، فقد رأيت والدك في المنام يقول: لم يصل إليّ الطعام إلّا في الليلة الماضية؟! فقال الولد: قدّمتُ الطعام إلى الفقير مرّتين، مع ما كنت أشعر به من شدّة الجوع، وأنام جائعاً، إلّا أنّي في الليلة الماضية لم أُطِق ألم الجوع، وقد أضرّ بي كثيراً، لذلك أكلتُ ما في الإناء، فعلمت الأمّ أنّ ولدها اليتيم، كان أولى بأكل ما كانت تتصدّق به على ذلك الفقير في كوخه، وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا صدقة، وذو رحمٍ محتاج"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص58.
26
20
الموعظة الرابعة: الإصلاح والتعاون
الموعظة الرابعة
الإصلاح والتعاون
هدف الموعظة
توضيح أهمّ الصفات التي ينبغي للمؤمنين أن يتحلّوا بها في علاقتهم في ما بينهم.
محاور الموعظة
1. الإصلاح واجب إلهيّ
2. التعاون وصيّة إلهيّة
3. دور التواضع في العلاقات الإنسانيّة
تصدير الموعظة
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ﴾[1].
[1] سورة المائدة، الآية 2.
27
21
الموعظة الرابعة: الإصلاح والتعاون
الرهبانيّة في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى الله في إصلاح الأمّة بنا وأن يبعثنا الله رحمة للضعفاء والعامّة. يا عبد الله، أولئك شيعتنا وأولئك منّا، أولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا"[1].
التعاون وصيّة إلهيّة
إنّ إعانة الآخرين ومؤازرتهم في مواطن الشدائد ونزول المصائب أمر أولاه الإسلام اهتماماً كبيراً، وهو من أعظم شيم أهل الولاية وشمائلهم، سواء في الترابط والتزاور أو في تقديم المساعدات الماليّة أو البدنيّة أو المعنويّة أو سائر أشكال التعاضد والتكافل، ولا سيّما الفقراء والأيتام والمساكين.
عن الإمام الصادق عليه السلام يوصي أحد أصحابه: "أبلغ موالينا السلام، وأوصِهم بتقوى الله العظيم، وأوصِهم أن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ في لقاء بعضهم بعضاً حياة
[1] الطبرسيّ، الشيخ عليّ بن الحسن، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف، 1385ه، ط2، ص128.
29
22
الموعظة الرابعة: الإصلاح والتعاون
لأمرنا"، ثمّ قال: "رحِم الله عبداً أحيا أمرنا!"[1].
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "من مشى في حاجة أخيه المسلم، أظلّه الله بخمسةٍ وسبعين ألف ملك، ولم يرفع قدماً إلّا كتب الله له حسنة، وحطّ عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته، كتب الله عزّ وجلّ له بها أجر حاجٍّ ومعتمر"[2].
دور التواضع في العلاقات الإنسانيّة
من الصفات التي لا بدّ من التحلّي بها في علاقات الناس، التواضع، وهو فضيلة من الفضائل الإسلاميّة العظيمة، التي أشاد أهل البيت عليهم السلام بها، عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبّر وضعاه"[3]، والذي يرتبط بمقامنا هو دور التواضع في عمليّة الإصلاح والعلاقة مع الآخرين، فليس ثمّة شكّ في أنّ بعض الناس يقومون بخدمة الآخرين أو إجابتهم، لكن مع
[1] الصدوق، محمّد بن عليّ بن بابويه، مصادقة الإخوان، تحقيق وتصحيح السيّد عليّ الخراسانيّ الكاظميّ، الكاظميّة - العراق، مكتبة الإمام صاحب الزمان العامّة، 1402ه، ط1، ص34.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص197.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص122.
30
23
الموعظة الرابعة: الإصلاح والتعاون
روح مستعلية وتكبّر زائف من خلال ثقافة الطبقات والميّزات العرفيّة أو العائليّة أو غيرها ممّا لا يقيم له الإسلام وزناً في واجب احترام الآخر، وإنّما المدار على التقوى، فمن هنا لا بدّ من إيضاح هذا الجانب من خلال الآثار التي يتركها في نجاح العلاقات الإنسانيّة أو فشلها، والواقع أنّه لا يمكن التصديق أنّ التواصل والارتباط الوثيق بين الأفراد أو المجتمعات قابل للاستمرار والديمومة، طالما أنّ أحد الطرفين في إصرار وتصميم على الاستعلاء والتكبّر على الآخر.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ، فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ"[1].
وثمّة جوانب أساسيّة في معاشرة الناس أكّدها القرآن الكريم، وما هي إلّا مصاديق ومفردات للتواضع الذي هو ركيزة النجاح في المعاملة معهم أو إصلاح أمورهم أو مدّ يد
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص290، الخطبة 192.
31
24
الموعظة الرابعة: الإصلاح والتعاون
العون لهم، كما في سورة لقمان: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾[1]، ﴿وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِير﴾[2].
[1] سورة لقمان، الآية 18.
[2] سورة لقمان، الآية 19.
32
25
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
الموعظة الخامسة
الأخوّة في الإسلام
هدف الموعظة
بيان معنى الأخوّة وأهمّيّتها في الإسلام، وسبيل التمييز بين الأخوّة الحقيقيّة وغيرها.
محاور الموعظة
1. أهمّيّة الأخوّة
2. معنى الأخوّة
3. ميزان الأخوّة
4. اختيار الأخ
تصدير الموعظة
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[1].
[1] سورة الحجرات، الآية 10.
33
26
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
أهمّيّة الأخوّة
حثّ الإسلام العزيز على العلاقات الإنسانيّة القائمة على أسس الخير والصلاح، والتي يكون عنصر الربط فيها نابعاً من الروح السامية والقلب السليم والعقيدة الصحيحة، لما في تلك العلاقات من تأثير متبادل بين الأطراف، وخصوصاً الأخوّة في الله تعالى التي تترك بصماتها في الحياة الداخليّة والخارجيّة للإنسان، بعيداً عن حدود الاتّصال بالنسب فقط، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ربَّ أخٍ لم تلده أمّك"[1]، والذي يلفت الانتباه هو الموقع المتقدّم الذي حظيت به الأخوّة في أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام بعد القرآن الكريم، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخٍ يستفيده في الله عزّ وجلّ"[2].
جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فائدة الأخوّة في الله تعالى بعد فائدة الإسلام مباشرة، وجعل النظر إلى وجه الأخ عبادة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم:
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص267.
[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، دار الثقافة، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص47.
34
27
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
"النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ، عبادة"[1]، و"من استفاد أخاً في الله عزّ وجلّ، استفاد بيتاً في الجنّة"[2]، كما عن الإمام الرضا عليه السلام.
ومن جانب آخر، فإنّ المؤمن دليل أخيه المؤمن وعينه، عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه، ولا يعده عِدةً فيخلفه"[3].
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ المؤمن ليسكن إلى المؤمن، كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد"[4].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "استكثروا من الإخوان، فإنّ لكلّ مؤمن شفاعة"[5].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج38، ص196.
[2] الصدوق، محمّد بن عليّ بن بابويه، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، نشر دار الشريف الرضيّ للنشر، إيران - قمّ، 1406ه، ط2، ص151.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص166.
[4] الراونديّ الكاشانيّ، فضل الله بن عليّ، النوادر، تحقيق وتصحيح صادقيّ أردستانيّ، دار الكتاب، إيران- قمّ، لا.ت، ط1، ص8.
[5] الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، مصدر سابق، ص46.
35
28
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
معنى الأخوّة
ربّما يكون للوهلة الأولى معنى الأخوّة واضحاً، ويُعَدّ من أصعب الصعوبات توضيح الواضحات، ولكنّ الأمر ليس كذلك حينما تنظر إلى طائفة من الأحاديث المباركة التي رسمت أبعاد المعنى وأسس المبنى وعمق الارتباط بين الاسم والمسمّى، في حدود حثّت الشريعة الغرّاء على المحافظة عليها، وحذّرت من تجاوزها، كالنزاهة عن الخيانة وغيرها، ويكفي شاهداً لهذا المعنى الرفيع ما ورد في سبب تسمية الإخوان والأصدقاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما سمّوا إخواناً لنزاهتهم عن الخيانة، وسمّوا أصدقاء لأنّهم تصادقوا حقوق المودّة"[1].
فلذلك يكون الانحراف عن هذه الجادّة نقضاً لعهد الأخوّة، وخروجاً على مكانتها، وإبطالاً لمعناها.
ميزان الأخوّة
أكّدت الأحاديث الشريفة أنّ الأساس والميزان الذي ينبغي قيام الأخوّة عليه لا بدّ من أن يكون إلهيّاً، وأنّ من كانت
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص180.
36
29
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
أخوّته في غير ذات الله تعالى فهي عداوة، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس إخوان، فمن كانت أخوّته في غير ذات الله فهي عداوة، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۢ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ﴾[1]"[2].
ولذلك لا يجدر بنا أن نُواخي على أساس مصالحنا الدنيويّة ومكاسبنا التجاريّة، وليس غريباً أن ينتهي الأمر بالفراق أو القطيعة حينما تنقضي المصالح وتكون الصحبة مشؤمة ونبوء بالحرمان.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من آخى في الله غَنِم"[3]، و"من آخى للدنيا[4] حُرِم"[5].
وعنه "كلّ مودّة مبنيّة على غير ذات الله ضلال، والاعتماد عليها محال"[6].
[1] سورة الزخرف، الآية 67.
[2] الكراجكيّ، أبو الفتح محمّد بن عليّ بن عثمان، كنز الفوائد، مكتبة المصطفويّ، إيران - قمّ، 1369ش، ط2، ص34.
[3] التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهدي رجائيّ، نشر دار الكتاب الإسلاميّ، إيران- قمّ، 1410ه، ط2، ص579.
[4] وفي نسخة: "في الدنيا".
[5] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص579.
[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص376.
37
30
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
وعنه أيضاً: "من لم تكن مودّته في الله فاحذره، فإنّ مودته لئيمة وصحبته مشؤمة"[1].
اختيار الأخ
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قدّم الاختبار في اتّخاذ الإخوان، فإنّ الاختبار معيار يُفرّق به بين الأخيار والأشرار"[2].
ويقول عليه السلام أيضاً: "قدّم الاختبار وأجِد الاستظهار في اختيار الإخوان، وإلّا ألجأك الاضطرار إلى مقارنة الأشرار"[3].
إذاً، الاختبار ثمّ الاختيار، وذلك حتّى لا يدخل الإنسان في علاقة مشينة، ولا يضع ثقته حيث لا يجب أن توضع، فيأتمن الآخر على أسراره ويطلعه على شؤونه، بالرغم من عدم وضوح حقيقته لديه، وبهذا يقع في مقارنة الأشرار، لأنّه لم يقم العلاقة على نور ومشى في الظلام.
[1] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص652.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص370.
[3] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص503.
38
31
الموعظة الخامسة: الأخوّة في الإسلام
فما هي عناصر هذا الاختبار؟
عن الإمام الصادق عليه السلام: "اختبروا إخوانكم بخصلتين، فإن كانتا فيهم وإلّا فاعزب، ثمّ اعزب، ثمّ اعزب، محافظة على الصلوات في مواقيتها، والبرّ بالإخوان في العسر واليسر"[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص672.
39
32
الموعظة السادسة: الأرحام
الموعظة السادسة
الأرحام
هدف الموعظة
التشجيع على صلة الرحم، وبيان آثارها الدنيويّة والأخرويّة.
محاور الموعظة
1. أهمّية الرحم
2. آثار صلة الرحم
3. آثار قطيعة الرحم
4. صلة القاطع
5. الرحم غير المسلمة
تصدير الموعظة
﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ﴾[1].
[1] سورة النساء، الآية 1.
40
33
الموعظة السادسة: الأرحام
أهمّيّة الرحم
لعلّه من الأمور التي لا تحتاج إلى كثرة تأمّل وتفكير الأهمّيّة الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم وصلة القربى، إلى درجة أنّه يذكر الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، ويدعو إلى صلتهم والقيام بحقوقهم، كما يحذّر من قطيعتهم بلهجة شديدة، يقول سبحانه: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُم﴾[1]. وغير خفيّ على أحد ما يترتّب من الآثار الإيجابيّة على التواصل معهم، وكيف ينعكس ذلك على بناء الأسرة ونشر المودّة بين الأقرباء، من الكبار والصغار، وكذلك ما يترتّب من الآثار السلبيّة على قطيعتهم، وكيف يؤدّي ذلك إلى سوء العلاقة، وربّما ترك عاملاً مؤذياً يرثه الأبناء عن الآباء، ولهذا جاء العطف في الآية المتقدّمة لقطع الأرحام على الإفساد في الأرض.
وممّا يبرز مكانة هذا الواجب الإلهيّ، وإن تطلّب جهداً وقطع مسافات طويلة أو صرف أوقات غير يسيرة، ما جاء عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "أوصي الشاهد من أمّتي والغائب منهم
[1] سورة محمّد، الآية 22.
41
34
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم، وإن كان منه على مسيرة سنةٍ، فإنّ ذلك من الدين"[1].
آثار صلة الرحم
وهي تنقسم إلى قسمين، آثار دنيويّة وآثار أخرويّة.
الآثار الدنيويّة لصلة الرحم
1. طول العمر: عن الإمام الصادق عليه السلام: "الرجل ليصل رحمه، وما بقي من عمره إلّا ثلاث سنين، فيزيد الله تبارك وتعالى في عمره ثلاثين سنة، إنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، وإنّ الرجل ليقطع رحمه، وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيجعلها الله ثلاث سنين، إنّ الله يفعل ما يشاء"[2].
2. تنمية المال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فَتَنْمِي أموالُهم، وتطول أعمارُهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة؟!"[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص151.
[2] الحميريّ القمّيّ، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق وتصحيح ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قمّ، 1413ه، ط1، ص355.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص155.
42
35
الموعظة السادسة: الأرحام
3. دفع البلاء: عن الإمام الباقر عليه السلام: "صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتُنسئ في الأجل"[1].
4. الراحة عند الموت: عن الإمام الهادي عليه السلام في ما كلّم الله تعالى به موسى عليه السلام: "قال موسى: إلهي، فما جزاء من وصل رحمه؟ قال: يا موسى، أنسي له أجله، وأهوّن عليه سكرات الموت، ويناديه خزنة الجنّة: هَلمَّ إلينا، فادخل من أيِّ أبوابها شئت"[2].
5. حسن الخلُق: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "صلة الأرحام تُحسِّن الخلُق، وتُسَمِّحُ الكفّ وتُطيِّب النفس..."[3].
6. العصمة من الذنب: إنّ صلة الرحم من العوامل المساعدة للإنسان على ترك الذنوب والابتعاد عن مظانّ السوء والفحشاء، وهي تشكّل درعاً واقية بسبب الأثر
[1] المصدر نفسه، ج2، ص150.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، كتابچى، إيران - طهران، 1418ه، ط6، ص267.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص151.
43
36
الموعظة السادسة: الأرحام
المترتّب عليها، الحاجز عن الوقوع في الهلاك، عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صلّة الرحم والبّر ليهوّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردّ الجواب"[1].
الآثار الأخرويّة لصلة الرحم
1. يسر الحساب: عن الإمام الصادق عليه السلام: "حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلة الرحم تهوّن الحساب، وتقي ميتة السوء"[2].
2. جواز الصراط: عن الإمام الباقر عليه السلام: "قال أبو ذرّ (رضي الله عنه): سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَقُول: حافّتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فإذا مرّ الوَصول للرحم المُؤَدّي للأمانة نفذ إلى الجنّة، وإذا مرّ الخائن للأمانة القَطوع للرحم لم ينفعه معهما عمل، وتكفّأ به الصراطُ في النار"[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص157.
[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص481.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص152.
44
37
الموعظة السادسة: الأرحام
3. الثواب الجزيل: عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مشى إلى ذي قرابة بنفسه وماله ليصل رحمه أعطاه الله عزّ وجلّ أجر مئة شهيد، وله بكلّ خطوة أربعون ألف حسنة، ويُمحى عنه أربعون ألف سيّئة، ويُرفع له من الدرجات مثل ذلك، وكأنّما عبد الله مئة سنة صابراً محتسباً"[1].
آثار قطيعة الرحم
وهي تنقسم أيضاً إلى قسمين، دنيويّة وأخرويّة.
الآثار الدنيويّة لقطيعة الرحم
1. تعجيل الفناء: روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبته: "أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء"، فقام إليه عبد الله بن الكوّاء اليشكريّ، فقال: يا أمير المؤمنين، أويكون ذنوب تعجّل الفناء؟! فقال عليه السلام: "نعم، ويلك! قطيعة الرحم"[2].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص431.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص347-348.
45
38
الموعظة السادسة: الأرحام
2. تعجيل العقوبة: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب"[1].
3. ضياع الأموال: عن الإمام الباقر عليه السلام: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار"[2].
4. حلول النقمة وارتفاع الرحمة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حلول النقم في قطيعة الرحم"[3].
الآثار الأخروية لقطيعة الرحم
قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ﴾[4].
[1] المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حيّاني - تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقّا، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409ه - 1989م، لا.ط، ج3، ص368.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص348.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص234.
[4] سورة الرعد، الآية 25.
46
39
الموعظة السادسة: الأرحام
صلة القاطع
إنّ صلة القاطع للرحم من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من خطوة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من خطوتين: خطوة يسدّ بها المؤمن صفّاً في سبيل الله، وخطوة إلى ذي رحم قاطع"[1].
الرحم غير المسلمة
هل يُشترط أن تكون الرحم مؤمنة أو مسلمة حتّى يكون الوصل واجباً؟
سأل جهمُ بن حميد الإمامَ الصادق عليه السلام: يكون لي القرابة على غير أمري، ألهم عليّ حقّ؟ قال: "نعم، حقّ الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقّان: حقّ الرحم وحقّ الإسلام"[2].
[1] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ج1، ص50.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص157.
47
40
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
الموعظة السابعة
برّ الوالدين
هدف الموعظة
الحثّ على برّ الوالدين، وبيان فضله وآثاره في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. الوصيّة بالوالدين
2. حقوق الوالدين
3. بين الحقوق والواجبات
4. آثار البرّ بالوالدين
تصدير الموعظة
﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًا﴾[1].
[1] سورة الأحقاف الآية 15.
48
41
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
الوصيّة بالوالدين
جاء الاهتمام القرآني معبّراً عن المرتبة السامية للوالدين، ومؤكّداً التعاملَ معهما بالبرّ والإحسان: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ﴾[1]، ولم يُوصِ الله الوالد بأبنائه كما أوصاهم به، ذلك أنّ الأب يرى أنّ ولده بضعة منه، يحرص على سعادته ولو بحرمان نفسه، ويؤثره ولو بمكابدة الصعاب، عن أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً ولده الإمام الحسن عليه السلام: "وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي"[2].
حقوق الوالدين
1. حقّ الأب
أفاض أهل البيت عليهم السلام في بيان حقوق الأبوين ووجوب شكرهم وطاعتهم، إلّا فيما يغضب الله سبحانه، إذ لا طاعة
[1] سورة الأحقاف، الآية 15.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص391-392، الكتاب 31.
49
42
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
للمخلوق في معصية الخالق، جاء في رسالة الحقوق: "وَأَمَّا حَقُّ أَبِيكَ، فَتَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُكَ، وَأَنَّكَ فَرْعُهُ، وَأَنَّكَ لَوْلَاهُ لَمْ تَكُنْ، فَمَهْمَا رَأَيْتَ فِي نَفْسِكَ مِمَّا يُعْجِبُكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَاكَ أَصْلُ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِيهِ، وَاحْمَدِ اللَّهَ وَاشْكُرْهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه"[1].
2. حقّ الأمّ
وممّا قاله عليه السلام في حقّ الأم: "فَحَقُّ أُمِّكَ، فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ فَرِحَةً مُوَابِلَةً[2]، مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُهَا وَأَلَمُهَا وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا، حَتَّى دَفَعَتْهَا عَنْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ وَأَخْرَجَتْكَ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِيَ، وَتَكْسُوَكَ وَتَعْرَى، وَتُرْوِيَكَ وَتَظْمَأَ، وَتُظِلَّكَ وَتَضْحَى، وَتُنَعِّمَكَ بِبُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذَكَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحَجْرُهَا لَكَ حِوَاءً[3]، وَثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَكَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ
[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص263.
[2] وابله: واظبه.
[3] الحواء: ما يحتوي به الشيء، من حوى الشيء إذا أحاط به من جهاته.
50
43
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
حَرَّ الدُّنْيَا وَبَرْدَهَا لَكَ وَدُونَكَ، فَتَشْكُرُهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ"[1].
إنّ هذا البيان ليترك الأثر البليغ في النفس الإنسانيّة ممّا لا يحوجنا إلى التعليق عليه والتذييل.
بين الحقوق والواجبات
قد يفرض المنطق أنّ من له حقّ على أحدٍ ما، إنّما يثبت له من حقّه بقدر ما يؤدّي إلى الطرف الآخر من حقوق ويقوم له بما عليه من واجبات، وهذا المنطق لا يجوز تطبيقه في العلاقة مع الأبوين بحال، ونحن إذا عرفنا ما لهما من حقوق لا بدّ من بيان ما علينا من واجبات، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه لو افترضنا أنّ الأبوين تعدّيا وقصّرا في واجبك فإنّ حقّهما عليك عظيم لا يسقطه شيء، وكبير لا يعادله شيء، نذكر من هذه الواجبات:
1. الحبّ: وهو عاطفة فطريّة أوجدتها القدرة الربّانيّة في قلب الولد يجب تنميتها، وكلّما ازداد إدراك المرء وشعوره بذلك كان كاشفاً عن نموّه.
[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص263.
51
44
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
2. الشكر: بلا مَنٍّ ولا ضجر، بل بالعطف والصبر، والمراد به البرّ بهما لا حسن القول معهما فقط، كما هو بَيِّن في قوله سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[1].
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد في سبيل الله"[2].
3. الطاعة: وهي مقرونة بطاعة الله سبحانه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رضا الربّ في رضا الوالد، وسخط الربّ في سخط الوالد"[3].
4. الاحترام: وإنّما يكون ذلك حاكياً عّما في السريرة لهما من الشأن والمكانة بطريق الفعل والدعاء وغيرهما، عن الصدّيقة الطاهرة عليها السلام: "ما استطعتُ أن أكلّم رسولَ
[1] سورة الإسراء، الآيتان 23-24.
[2] الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربيّ، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص44.
[3] الترمذيّ، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج3، ص207.
52
45
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
الله صلى الله عليه وآله وسلم من هيبته"[1]، مع أنّها أحبّ الخلق إليه وروحه التي بين جنبيه.
وفي الصحيفة السجّاديّة: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وأَبَرُّهُمَا بِرَّ الأُمِّ الرَّؤُوفِ، واجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وبِرِّي بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ حَتَّى أُوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا، وأُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا..."[2]، وبهذا يتّضح واجب الدعاء لهما.
آثار البر بالوالدين
1. طول العمر: عن الإمام الباقر عليه السلام: "برّ الوالدين وصلة الرحم، يزيدان في الأجل"[3].
2. زيادة الرزق: عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أهلَ بيتٍ ليكونون بررة، فتنمو أموالهم، وإنّهم لفجّار!"[4].
[1] ابن شهرآشوب المازندرانيّ، محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، نشر علامة، إيران - قمّ، 1421ه، ط1، ج3، ص341.
[2] الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص116.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص83.
[4] المصدر نفسه، ج71،ص82.
53
46
الموعظة السابعة: برّ الوالدين
3. كفّارة للذنب: عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ما من عملٍ قبيحٍ إلّا قد عمِلتُه، فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل من والديكَ أحدٌ حَيٌّ؟ قال: أبي، قال: فاذهب فَبَرَّهُ، قال: فلمّا ولَّى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كانت أمُّه!"[1].
4. جُنَّة يوم الحساب: عن إبراهيم بن شعيب، قال: قلتُ لأبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام): إنّ أبي قد كَبُر جدّاً وضعُف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة، فقال عليه السلام: "إنِ استطعت أن تليَ ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنّه جُنّة لك غداً"[2].
5. تحت ظلّ العرش: رأى النبيّ موسى عليه السلام رجلاً تحت ظلّ العرش، فقال: "يا ربِّ، من هذا الذي أدنيته حتّى جعلته تحت ظلّ العرش؟! فقال الله تبارك وتعالى: يا موسى، هذا لم يكن يعقّ والديه..."[3].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص82.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص162.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج13، ص353.
54
47
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
الموعظة الثامنة
إخوان الصدق
هدف الموعظة
إيضاح السمات والصفات التي ينبغي أن يكون عليها الإخوة في الله.
محاور الموعظة
1. خير الإخوان
2. خير الجلساء
3. إخوان الصدق
4. مصاحبة العلماء
5. مصاحبة الحكماء
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين عليه السلام: "وعليك بإخوان الصدق، فأكثر من اكتسابهم، فإنّهم عدّة عند الرخاء وجنّة عند البلاء"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص187.
55
48
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
خير الإخوان
ثمّة سمات وصفات إذا ما توفّرت فيمن يتّخذه المرء صاحباً وصديقاً، فحينها يكون مصداقاً قويّاً من مصاديق الأخوّة الحقيقيّة، ومن تلك السمات:
1. المحبّ في الله
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "خير الإخوان من كانت في الله مودّته"[1]، وعنه عليه السلام: "خير الإخوان من لم تكن على الدنيا أخوّته"[2].
2. المواسي لك
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "خير إخوانك من واساك، وخيرٌ منه من كفاك، وإن احتاج إليك أعفاك"[3]، وفي حديث آخر: "خير إخوانك من واساك بخيره، وخير منه من أغناك عن غيره"[4].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص240.
[2] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص818.
[3] المصدر نفسه، ص356.
[4] المصدر نفسه، ص358.
56
49
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
3. الداعي إلى الله تعالى
والمراد منه من كانت دعوته بالعمل مضافاً إلى القول، كما عبّرت عن ذلك النصوص الشريفة، إذ ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "خير إخوانك من دعاك إلى صدق المقال بصدق مقاله، وندبك إلى أفضل الأعمال بحسن أعماله"[1] و"خير إخوانك من سارع إلى الخير وجذبك إليه، وأمرك بالبرّ وأعانك عليه"[2].
4. المعين على الطاعة
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "المعين على الطاعة خير الأصحاب"[3]، وعنه أيضاً: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه"[4].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص239.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ص45.
[4] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، محمّد بن زين الدين، عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تحقيق وتصحيح مجتبى العراقيّ، دار سيّد الشهداء للنشر، إيران - قمّ، 1405ه، ط1، ج1، ص284.
57
50
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
وفي ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما سُئل عن أفضل الأصحاب: "من إذا ذكرت أعانك، وإذا نسيت ذكّرك"[1].
إذ تكون الوظيفة الأولى في حالة الذكر بأنّ الله تعالى حاضر وناظر وهي المعاونة قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ﴾[2]، وتكون الوظيفة الثانية في حالة النسيان والغفلة هي التذكير والتوعية للمسؤوليّة الإلهيّة الملقاة على عاتقه.
خير الجلساء
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينما سُئل: أيّ الجلساء خير؟ فقال: "من ذكّركم بالله رؤيته، وزادكم في علمكم منطقه، وذكَّركم بالآخرة عمله"[3].
إنّ الأمور المذكورة تساهم مساهمة حقيقيّة في بناء الشخصيّة الإيمانيّة، ومصدرها الخير الذي هو عليه في الحال والمنطق
[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص35.
[2] سورة المائدة، الآية 2.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص186.
58
51
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
والعمل، إذ تكون الثمرة من هذه المجالسة مكسباً معنويّاً، سواء في ذكر الله أو زيادة العلم أو تذكّر الآخرة، وليس غريباً أنّ المؤمن إذا فقد أخاه وجليسه الذي يمتاز بهذه المواصفات أن لا يحبّ البقاء بعده، وهذا دليل أنّه من الخيرة والصفوة، ويشعر أنّ الذي فقده هو بعضه كما يقول أحد الشعراء:
ومِن محنِ الدنيا بقاؤك بعدَ مَنْ إذا رحلوا أبقوكَ دونَ مشابِهِ
فوجهٌ إذا ما غابَ تبكيهِ ساعةً ووجهٌ تَملّ العمرَ عندَ غيابِهِ
وتَدفنُ فيه بالثرى إنْ دفنتَهُ وجودَك إنَّ المرءَ بعضُ صِحابِهِ
إخوان الصدق
وهم الذين ينبغي معاشرتهم، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وعليك بإخوان الصدق، فأكثر من اكتسابهم، فإنّهم عدّة عند الرخاء وجنّة عند البلاء"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص187.
59
52
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
وعن الإمام الحسن عليه السلام في وصيّته لجنادة في مرضه الذي توفّي فيه: "فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ حولك، وإن مددت يدك بفضلٍ مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سَكَتَّ عنه ابتدأك، وإن نزلت إحدى الملمّات به ساءك"[1].
مصاحبة العلماء
أكّدت الروايات المباركة مصاحبتهم ومجالستهم، لأنّهم قادة الركب الربّانيّ الذين يأخذون بيد المرء إلى العالم العلويّ، ويصلون به إلى حيث أراد الله سبحانه، من خلال بثّ معارفهم وممارسة دورهم في الهداية والتربية والدفاع عن مبادئ الدين وصيانة الشريعة من أن تدخلها البدع والانحرافات، وممّا ورد في ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عجبتُ لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب، كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء، الذين
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص139.
60
53
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
يغتنم فضائلهم وتهديه علومهم وتزيّنه صحبتهم"[1].
وما في وصيّة لقمان لابنه: "يا بنيّ، جالِس العلماء وزاحِمْهم بركبتيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يُحيي القلوب بنور الحكمة، كما يُحيي الأرض بوابل السماء"[2].
وعليه، يكون في مقابل ذلك ترك مجالستهم موجباً للخذلان من الله تعالى، لأنّ الابتعاد عنهم معناه الابتعاد عن المدرسة الإلهيّة التي أمر المولى سبحانه بالتربّي في كنفها وتحت ظلالها، وهذا ما جاء صريحاً في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام: "أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء، فخذلتني"[3].
مصاحبة الحكماء
ثمّة روايات أكدّت مصاحبة الحكماء ومجالسة الحلماء، لما في هذين الصنفين من الناس من مواصفات عالية تترك آثارها في الجنبة العلميّة وكذلك العمليّة، عن أمير المؤمنين عليه السلام:
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص330.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص204.
[3] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجِّد وسلاح المتعبِّد، مصدر سابق، ج2، ص588.
61
54
الموعظة الثامنة: إخوان الصدق
"صاحب الحكماء وجالس الحلماء وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى"[1]، وفي رواية أخرى: "أكثر الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب"[2].
مخالطة كرام الناس
إذ ذكرت جملة من الروايات أنّها موجبة للسعادة ومبعدة للشقاوة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أسعد الناس من خالط كرام الناس"[3].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص301.
[2] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص201.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص21.
62
55
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
الموعظة التاسعة
أصدقاء السوء
هدف الموعظة
التحذير من مصاحبة أهل السوء.
محاور الموعظة
أصدقاء السوء: الأحمق الكذّاب، القاطع لرحمه، صاحب اللهو...
تصدير الموعظة
الإمام الصادق عليه السلام: "أمرني والدي بثلاثٍ ونهاني عن ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بنيَّ، من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتّهم، ومن لا يملك لسانه يندم"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص191.
63
56
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
حذّرت الشريعة الإسلاميّة من مصادقة بعض أصناف الناس ومصاحبتهم، ممّن تكون العلاقة معهم مجلبة للمفاسد الدنيويّة حيناً والأخرويّة حيناً آخر، ومن ذلك ما يأتي:
الأحمق الكذّاب
عن الإمام الصادق عليه السلام في وصيّة ورقة بن نوفل للسيّدة خديجة عليه السلام: "إيّاك وصحبة الأحمق الكذّاب! فإنّه يريد نفعك فيضرّك، ويقرّب منك البعيد، ويبعّد منك القريب، إن ائتمنته خانك، وإن ائتمنك أهانك، وإن حدّثك كذّبك، وإن حدّثته كذّبك، وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً"[1].
إنّ هذه الأخطار الأخلاقيّة والعواقب السيّئة من قبيل الإضرار والخيانة والإهانة والتكذيب كافية للردع عن معاشرته ومعرفة أنّ مصير العلاقة معه الفشل، لأنّها تكون هدّامة ومؤدّية إلى الانحطاط.
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص302.
64
57
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
صاحب الغاية الدنيويّة
وهو الذي يصحبك ليستفيد منك مالاً أو جاهاً أو غير ذلك من الأطماع التي لا تجعل الصحبة قائمة على أساس التقوى، وسرعان ما يتخلّى عن تلك العلاقة حينما يصل إلى هدفه.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذر أن تؤاخي من أرادك لطمعٍ أو خوفٍ أو ميلٍ، أو للأكل والشرب، واطلب مؤاخاة الأتقياء، ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم"[1].
وقد صوّر أحد الشعراء ذلك، فقال:
إذا قـلَّ مـالي فما خِـلٌّ يصـادقني وفـي الزيـادةِ كــلُّ الناسِ خِـلاّنـي
كم من عدوٍّ لأجلِ المالِ صادقني وكـم صديـقٍ لفقـدِ المـالِ عـاداني
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص282.
65
58
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
الضَّال المُضلّ
يقول تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾[1].
الفاجر
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تصحب الفاجر، فيعلّمك من فجوره"[2].
البخيل
ربّما كان التحذير منه لأجل أنّ المرء يأخذ من أخلاق أصحابه ويتأثّر بهم، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"[3].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "وإيّاك ومصاحبة البخيل! فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه"[4].
[1] سورة الفرقان، الآيتان 28-29.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص191.
[3] المصدر نفسه، ج71، ص192.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص377.
66
59
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
الفاسق
عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال لولده الإمام الباقر عليه السلام: "يا بنيّ، انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق..."، إلى أن قال عليه السلام: "وإيّاك ومصاحبة الفاسق! فإنّه بايعك بأكلة، أو أقلّ من ذلك"[1].
القاطع لرحمه
وذلك لما رُوي عنهم عليهم السلام: "وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه! فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاثة مواضع: قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُم﴾[2]، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ َآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ﴾[3]، وَقَالَ فِي البقرةِ: ﴿ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾[4]"[5].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص376-377.
[2] سورة محمّد، الآية 22.
[3] سورة الرعد، الآية 25.
[4] سورة البقرة، الآية 27.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص377.
67
60
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
الشرّير
عن الإمام الجواد عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة الشرّير! فإنّه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره"[1].
صاحب اللهو
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك! فإنّه يخذلك ويُوبِقك"[2].
الجبان
عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تصادِق ولا تؤاخِ أربعة: الأحمق والبخيل والجبان والكذّاب... وأمّا الجبان، فإنّه يهرب عنك وعن والديه"[3].
ناشر المثالب[4]
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تؤاخِ من يستر مناقبك وينشر مثالبك"[5].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص198.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص98.
[3] الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، مصدر سابق، ص80.
[4] المثالب: العيوب.
[5] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص519.
68
61
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
رهين المداراة
الذي لا يمكن استمرار الصداقة معه على قواعدها السليمة من دون الخضوع إلى كثير من التكلّف والتجمّل، كسريعي الغضب والانفعال، وإذا ما غضبوا لا يغفرون، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لك بأخٍ من احتجت إلى مداراته"[1].
مجهول الموارد والمصادر
عن الإمام الحسن عليه السلام: "لا تؤاخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره، فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة، فآخِه على إقالة العثرة والمواساة في العُسرة"[2].
صاحب البدعة
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تصحبوا أهلَ البدع ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المرء على دين خليله وقرينه"[3].
[1] المصدر نفسه، ص411.
[2] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص233.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص375.
69
62
الموعظة التاسعة: أصدقاء السوء
النمّام / الخائن / الظلوم
عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمَّ إليك سينمُّ عليك"[1].
متتبّع العيوب
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك ومعاشرة متتّبعي عيوب الناس! فإنّه لم يسلَم مصاحبهم منهم"[2].
[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص316.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص97.
70
63
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
الموعظة العاشرة
حقوق الجار
هدف الموعظة
بيان حرمة الجار وحقوقه، وفضل حسن الجوار وآثاره.
محاور الموعظة
1. حرمة الجار
2. حدّ الجار
3. اختيار الجار
4. حقوق الجار
5. آثار حسن الجوار
تصدير الموعظة
﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾[1].
[1] سورة النساء، الآية 36.
71
64
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
حرمة الجار
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمّه"[1].
حظي الجار في الإسلام بمكانة لم يحظَ بها في الأديان الأخرى، انطلاقاً من حبّ التعارف والتعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان، إذ لم تُحصَر حقوقه في حدود الوحدة الدينيّة، بل تعدّتها في السعة والشمول والحثّ والاهتمام بما لم تصل إليه في موارد أخرى، وما ذلك إلّا لمضمون سمائيّ يترجم التعاليم الإلهيّة في خطوط الحياة العامّة، ويحدّد الأسس التي ينتمي إلى رحمها الأمثل والأكمل من التعامل، فكانت الدعوة من الله سبحانه كما في الآية والوصيّة من جبريل، كما عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيُورِّثه"[2]، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "والله الله فِي جِيرانِكُمْ! فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ..."[3]، وهو في لحظات
[1] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392ه - 1972م، ط6، ص126.
[2] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص259.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص422، الكتاب 47.
72
65
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
عروج روحه إلى الملكوت الأعلى مهتمّاً ومشدّداً في الحفاظ على هذه الوصيّة الأساسية.
حدّ الجار
ربّما تسأل عن الحدّ المكانيّ الذي تنتهي معه حقوق الجوار، بحيث إنّ الذي يتجاوزه لا يُحسب جاراً، والجواب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعون داراً، جارٌ"[1]، ولأمير المؤمنين عليه السلام: "حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها"[2]، وعلى ذلك يصبح المحيطون بدارك شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بما اشتملت عليه مساحة الأربعين لهم حقوق الجار عليك.
اختيار الجار
إنّ جار السوء أعظم الضرّاء وأشدّ البلاء، فمن هنا وجب التأنّي في الاختيار، لما يترتّب على ذلك من الآثار على المستويَين الاجتماعيّ والنفسيّ، وهذا هو المعنى المراد بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "سَل عن الجار قبل الدار"[3].
[1] العينيّ، عمدة القاري، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج12، ص76.
[2] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ج2، ص544.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص284.
73
66
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
الجيران ثلاثة
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ، حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، الْكَافِرُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ"[1].
حقوق الجار
الأوّل: حفظه غائباً، ومعنى ذلك أن لا يتعرّض له بالغيبة والنميمة، مستغلّاً غيابه للنيل منه والاعتداء على كرامته، مريداً بذلك تشويه سمعته أمام الآخرين وقتله من الناحية المعنويّة.
الثاني: إكرامه شاهداً، أي من حقّه حالة حضوره إكرامه وتوقيره واحترامه وتقديره على أحسن الوجوه التي تقضي بها ثوابت العلاقة السليمة وسبل الحياة الكريمة.
[1] الفتّال النيشابوريّ، محمّد بن أحمد، روضة الواعظين وبصيرة المتّعظين، منشورات الرضيّ، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ج2، ص389.
74
67
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
الثالث: نصرته إذا كان مظلوماً، حيث لا يشرع السكوت عن ظلامته، بل لا بدّ من رفعها عنه وعدم ضياع حقّه في حضرتك، سواء كان مظلوماً في شأنٍ دينيّ أو شأنٍ دنيويّ، فإنّ الواجب معونته وردّ غيبته.
الرابع: أن لا يتّبع عورته، وهي صفة رذيلة، حذّر الإسلام منها، ويتأكّد هذا في الجار، حيث إنّ القرب والجوار يشكّلان منفذاً للاطّلاع على بعض الخصائص والأسرار البيتيّة أو العائليّة التي لا يتيّسر للبعيد معرفتها، فمن القبح بمكان السعي وراء معرفة عيوبه، وأقبح من ذلك إذاعتها لتعييره بها.
الخامس: أن يستر عليه، وهذا ما بات واضحاً من خلال معرفة الحقّ الرابع، فإنّ ذلك ثابت له، سواء كان العلم ناتجاً عن التتبّع المذموم أو من خلال الصدفة والاتّفاق.
السادس: أن ينصحه، ويكون ذلك لزاماً مع تحقّق أمرين، الأوّل: أن يقبل النصيحة ولا ينفر، والثاني: أن تكون بينك وبينه، إذ إنّها تمثّل في السرّ زيناً له، بينما في العلن وأمام الملأ تصبح شيناً عليه.
75
68
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
السابع: إعانته عند الشدّة، فإنّ من حقّ الجار أن لا يترك جاره عند المصائب والنائبات، بل أن يقف إلى جانبه مؤازراً ومواسياً ومعيناً له بالنفس والمال وما وقع تحت قدرته.
الثامن: أن يعفو عنه، لأنّ العيش الكريم والإباء والترفّع على خطّ واحد فيما لو صدرت منه إساءة أو زلّة، وما أكثر ما يقع ذلك بين الجيران! خصوصاً في المرافق العامّة المشتركة بينهم، كمواقف السيّارات أو مداخل الأبنية وما شاكلها، فإنّ المطلوب هو الصفح والحلم، وهو الأقرب للتقوى ودوام حسن الجوار.
التاسع: أن يعوده إذا مرض، لقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إن مرضَ عُدتَه..."[1]، وتوجد قصّة لطيفة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في زيارته لغلام يهوديّ مرض، فقد رُوي عن أنس، قال: كان غلام يهوديّ يخدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمرض، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلِم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِع أبا القاسمصلى الله عليه وآله وسلم، فأسلَم، فخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار"[2].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج79، ص94.
[2] البخاريّ، أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل، صحيح البخاريّ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401ه - 1981م، لا.ط، ج2، ص97.
76
69
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
العاشر: أن يشيّعه إذا مات، ويدلّ على ذلك ما ورد عموماً في تشييع الجنازة، والجار من باب أولى، وخصوصاً ما عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تعداد حقوقه: "وإن مات، تَبِعت جنازته"[1].
وثمّة حقوق تفصيليّة اشتمل عليها حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ما تقدّم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرِضْهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ عُدْتَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ تَبِعْتَ جَنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وإِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَأَهْدِهَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرّاً، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وُلْدُكَ يَغِيضُ بِهَا وُلْدَهُ، وَلَا تُؤْذِهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا"[2].
إنّ ذكر هذا المنهج في التعاطي، ما هو إلّا للحرص على راحة الجار والعناية الفائقة به، حتّى أثناء القيام بالحاجات الشخصيّة، كطهي الطعام وغيره، رعايةً لإبقاء المودّة حتّى بين الصغار الذين هم بذور الخير التي ستثمر غداً في ربوع هذه
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج79، ص94.
[2] المصدر نفسه، ج79، ص93-94.
77
70
الموعظة العاشرة: حقوق الجار
العلاقة الحميمة، بل الواجب تفقّده لقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع"[1].
آثار حسن الجوار
1. زيادة الرزق: عن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الجوار يزيد في الرزق"[2].
2. زيادة العمر: كما عنه عليه السلام: "حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار"[3].
3. عمران الديار: عنه عليه السلام في الحديث السابق نفسه: "... ويزيد في الأعمار"[4].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص191.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص666.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص667.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص667.
78
71
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
الموعظة الحادية عشرة
العلماء
هدف الموعظة
بيان منزلة العلماء وضرورة اتّباعهم، وحقوقهم على الناس.
محاور الموعظة
1. منزلة العلماء
2. أهمّيّة اتّباع العلماء
3. حقوق العلماء
تصدير الموعظة
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[1].
[1] سورة الزمر، الآية 9.
79
72
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
منزلة العلماء
أوضح الذكر الحكيم المنزلة الرفيعة والمكانة العظيمة للعلماء في العديد من آياته، مبيّناً ما لهم من الشأن، إذ يمتلكون خصائص ربّانيّة وميّزات إلهيّة، هي حصيلة الملكات الفاضلة التي حازوا عليها، وهم حملة أشرف العلوم وورثة الأنبياء والحماة عن دين الله تعالى من أن تدخله البدع والانحرافات. وإنّ حفظ المعنويّات الإسلاميّة من الانقراض والعقائد الدينيّة من الانتقاض كانت بفضلهم بعد الله، وإنّ ثبات المجاهدين وصبر الصابرين إنّما كان حصاد غذائهم الروحيّ وزرعهم النورانيّ، إذ حرصوا على مدى العقود، وعلى الرغم من اضطهاد الظالمين والولاة لهم، على أداء الرسالة كما أرادها صاحبها، محققّين الأهداف وغير مبالين ولا خائفين، فحفل تاريخهم بأشجع المواقف وأصدق المعارف مع التضحيات الكبرى، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة جمع الله عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد، ووُضعت الموازين، فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء"[1]،
[1] ابن إدريس الحلّيّ، الشيخ أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد، مستطرفات السرائر، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1411هـ، ط2، ص220.
80
73
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
وربّما كان ذلك لوقوع تلقّي العلم منهم في سلسلة الأسباب الممهّدة والمساعدة على الشهادة، ولأنّهم الأدّلاء على الله، كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام[1]، وهم ليسوا حاجة فقط، بل ضرورة تشكّل صمّام الأمان في هذا الوجود، كما يعبر عن ذلك الإمام الخمينيّ قدس سره قائلاً: "لولا وجود هؤلاء العلماء لانمحى الإسلام، فأولئك هم خبراء الإسلام، ولقد صانوا الإسلام حتّى الآن ويجب أن يبقوا ليبقى الإسلام مصون"[2].
أهمّيّة اتّباع العلماء
إنّ ما يبرز هذه الأهمّيّة، مضافاً إلى ما تقدّم، أنّها ذات أثر في كلا العالمين، ومحلّ تأكيد وتشديد في وصايا الأنبياء والأولياء عليهم السلام، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "واعلموا أنّ صحبة العالم واتّباعه دين يدان الله به، وطاعته مكسبة للحسنات، ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة في حياتهم"[3].
[1] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص504.
[2] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ قدس سره)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج15، ص150.
[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص141.
81
74
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
وإنّما كان ذلك لأنّ العلماء مظهر الإسلام الذي يحكي عن جوهره الحقيقيّ، فينطق الصواب ويفصل الخطاب، بمثابة ربّان السفينة المبحرة وسط الأمواج الهائجة إلى شاطئ الأمان الإلهيّ.
حقوق العلماء
ثمّة جملة من الآداب والحقوق لا بدّ من مراعاتها مع العالم، ولا يجدر بنا الانحراف عن جادّتها، وهي على قسمين:
الأوّل: ما ينبغي فعله
1. مجالستهم
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلّا ناداه ربّه عزّ وجلّ: جلست إلى حبيبي. وعزّتي وجلالي، لأسكننّك الجنّة معه، ولا أبالي"[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص198.
82
75
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
وممّا جاء في وصيّة لقمان لولده: "يا بنيّ، جالِس العلماء وزاحِمْهم بركبتيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يُحيي القلوب بنور الحكمة، كما يُحيي الأرض بوابل السماء"[1].
فيتّضح أنّ إحياء القلوب بنور الحكمة والمعرفة التي من يؤتاها فقد أوتي خيراً كثيراً، إنّما هو على أيديهم وبواسطتهم، فالعازف من مجالستهم سائق لقلبه نحو الموت.
2. زيارتهم
إذ إنّ الله تعالى قد رتّب على ذلك ثواباً كبيراً، مضافاً إلى الاستفادة العاجلة، مصرّحاً بأنّ زيارتهم أحبّ إليه من الحجّ والعمرة، فقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافاً حول البيت، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة، ورفع الله تعالى له سبعين درجة، وأنزل الله عليه الرحمة، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له"[2].
[1] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، مصدر سابق، ج1، ص11.
[2] ابن فهد الحلّيّ، أحمد بن محمّد، عدة الداعي ونجاح الساعي، تحقيق وتصحيح أحمد موحّدي القمّيّ، نشر دار الكتب الإسلاميّ، 1407ه، ط1، ص75.
83
76
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
3. توقيرهم وإكبارهم
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من وقّر عالماً، فقد وقّر ربه"[1]، وفي رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ سائسك بالعلم، فالتعظيم له والتوقير لمجلسه"[2].
لعلّ من أكثر المشكلات التي نمارسها مع العلماء، التعاطي معهم كالآخرين، وربّما نتجرّأ أكثر اعتماداً على رحابة الصدر أو قوّة التحمّل، أو التواضع الذي يتحلّى به العالم، إذ إنّه رأى الحكمة، وما ذلك إلّا لجهلنا بأنّ الله تعالى رفعهم، إذ يقول سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[3]، أو لعلمنا وعدم مراعاتنا لهذا الحقّ، مع أنّها عبادة يصحّ التقرّب بها إلى الله سبحانه، كما عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر إلى وجه العالم عبادة"[4]، و"خير لك من عتق ألف رقبة"[5].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص439.
[2] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص260.
[3] سورة المجادلة، الآية 11.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص195.
[5] المصدر نفسه، ج1، ص204.
84
77
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
4. تخصيصهم بالتحيّة
وإنّما كان ذلك لأنّ الإسلام خصّهم وقدّمهم، وأمرنا أن نعاملهم على وفق الموقع والمقام الذي دفعهم به، غير منتقصين لقدرهم مقدار ذرّة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من حقّ العالم عليك أن تسلّم على القوم عامّة وتخصّه بالتحيّة"[1].
5. حسن الإصغاء إليهم
إنّ عدم مراعاة هذا الأمر يحوج العالم إلى كلامه، أو يوقع السامع حين التعلّم في بعض الشبهات لفوات بعض فقرات الكلام، إذ لم يكن مقبلاً عليه بكلّيّته وعقله، لذا جاء في حقّه: "وَحُسْنُ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْمَعُونَةُ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَا لَا غِنَى بِكَ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ، بِأَنْ تُفَرِّغَ لَهُ عَقْلَكَ وَتُحَضِّرَهُ فَهْمَك"[2].
6. الحزن على فقدهم
وهو بمنزلة فقد الأب الحقيقيّ الذي يرعى شؤونه ويهتدي
[1] النوويّ، أبو زكريا يحيى بن شرف الدمشقيّ، المجموع، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج1، ص36.
[2] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص260.
85
78
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
بهديه، بل أعظم منه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "موت العالم مصيبة لا تُجبر، وثلمة لا تُسدّ، وهو نجم طُمِس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم"[1].
الثاني: ما ينبغي تركه
1. التخلّي عنهم
وهو سبب لبلاءات عظيمة وللخذلان من الله تعالى، كما في الدعاء: "أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء، فخذلتني"[2]، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "سيأتي زمان على أمّتي يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم عن الذئب، ابتلاهم الله تعالى بثلاثة أشياء، الأوّل: يرفع البركة من أموالهم، الثاني: سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً، الثالث: يخرجون من الدنيا بلا إيمان"[3].
[1] الهيثمي، الحافظ نور الدين عليّ بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1408ه - 1988م، لا.ط، ج1، ص201.
[2] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجِّد وسلاح المتعبِّد، مصدر سابق، ج2، ص588.
[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص376.
86
79
الموعظة الحادية عشرة: العلماء
2. النقد الهدّام
من خلال تتبّع ثغراتهم وإحصاء عيوبهم أو ادّعاء أكاذيب ليس لها صلة بواقعهم، لا لأجل تصحيح المسار ولا إصلاح الأمر، إنّما بغية التحطيم، وغالباً ما يكون من أهل الجهل تفاعلاً مع بعض المؤثّرات التي يتلاعب بها الهوى، وانسجاماً مع المصالح الخاصّة، ويُبدي الإمام الخمينيّ قدس سره استياءه من ذلك قائلاً: "كلّ من يرى كتاب جواهر الكلام يدرك مدى جهود المجتهدين الذين يتطاول اليوم عليهم عدد من روّاد الأزقّة، ليحدّدوا لهم تكليفهم".
3. انتهاك مجالسهم
وهو ما يتمّ ببعض التصرّفات التي تتنافى وشخصيّة المؤمن، مع أنّ أدب الحديث ممّا يجب الالتزام به في غيابهم فضلاً عن حضورهم، ألا ترى الإمام الخمينيّ قدس سره، وهو إمام الأمّة، حينما يتحدّث عن أستاذه يقول: "روحي فداه".
87
80
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
الموعظة الثانية عشرة
عوامل التربية السليمة
هدف الموعظة
بيان العوامل الأساسيّة في تكوين شخصيّة الولد، وأبرز حقوقه التي ينبغي مراعاتها.
محاور الموعظة
1. العوامل الثلاثة لشخصيّة الولد
2. حقوق الولد في جوانبها الثلاثة
3. إرشادات تربويّة أبويّة
تصدير الموعظة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾[1].
[1] سورة التحريم، الآية 6.
88
81
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
العوامل الثلاثة لشخصيّة الولد
اعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيويّ ومصيره الأخرويّ، إن هم قصّروا في تربيته وإعداده، وقد ذكر العلماء أنّ شخصيّة الولد تتأثّر في نموّها بعوامل ثلاثة: الوراثة والبيئة والتربية.
1. عامل الوراثة
إنّ مسؤوليّة الآباء عن أبنائهم تبدأ في مرحلة سابقة على ولادتهم، فما يتمتّع به الآباء من أخلاق ومعتقدات له تأثير على ما سيكون عليه الأبناء في تكوينهم النفسيّ والعقليّ، فضلاً عن الجسديّ، سلباً أو إيجاباً.
وقد أطلق العلماء على الوسائل الناقلة للموروثات اسم "الجينات"، فيما عبّرت عنه النصوص الشرعيّة باسم "العرق"، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "انظر في أيّ شيء تضع ولدك، فإنّ العرق دسّاس"[1]، أي إنّ أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء.
[1] الأبشيهيّ، المستطرف في كلّ فنّ مستظرف، دار ومكتبة الهلال، لا.ت، لا.ط، ج2، ص776.
89
82
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
2. عامل البيئة
حثّ الإسلام على تربية الأبناء على القيم الفضلى من خلال توفير المناخ البيئيّ الأمثل، والذي تسود فيه قيم العدل والحقّ والمساواة، وتزول فيه قيم الظلم والباطل والأنانيّة.
وقد قام علم الاجتماع على حقيقة أنّ الحياة الاجتماعيّة هي حياة تأثّر وتأثير وتفاعل متبادل بين أبناء المجتمع، وأنّ الأصدقاء والزملاء والأقارب والجيران... يساهمون مع الأهل في بناء شخصيّة الطفل وتكوينها إلى حدّ كبير.
لذلك، جاءت النصوص مؤكّدة مصاحبة الأخيار ومخالطة أهل الفضل والدين، ومجالسة العلماء...
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشرّ تَبِنْ عنهم"[1].
ويقول عليه السلام أيضاً: "خير من صاحبت ذوو العلم والحلم"[2].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص402، الكتاب 31.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص238.
91
83
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
وعن النبيّ "قال عيسى بن مريم عليه السلام للحواريّين: "تحبّبوا إلى الله وتقرّبوا إليه"، قالوا: يا روح الله، بماذا نتحبّب إلى الله ونتقرّب؟ قال: "ببغض أهل المعاصي، والتمسوا رضا الله بسخطهم"، قالوا: يا روح الله، من نجالس إذاً؟ قال: "من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله"[1].
3. عامل التربية
أوصى الإسلام الأهل بتربية الأبناء على الأسس الصحيحة والسليمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾[2].
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه لما نزلت الآية السابقة، قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: "اعملوا الخير، وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة الله..."[3].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص147.
[2] سورة التحريم، الآية 6.
[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص201.
92
84
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
وعن الإمام عليّ عليه السلام أيضاً في تفسير الآية: "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم"[1].
حقوق الولد في جوانبها الثلاثة
في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام: "وَأَمَّا حَقُ وَلَدِكَ، فَتَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْكَ، وَمُضَافٌ إِلَيْكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّكَ مَسْئُولٌ عَمَّا وُلِّيتَهُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْمَعُونَةِ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ فِيكَ[2] وَفِي نَفْسِهِ فَمُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَمُعَاقَبٌ..."[3].
1. الجانب التكوينيّ
تبدأ مسؤوليّة الأب من حين اختيار الزوجة المناسبة، وهو عامل تكوينيّ للولد خارج عن الجانب التربويّ.
[1] السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص244.
[2] فيهما (على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقَب على الإساءة إليه).
[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص263.
93
85
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فانكحوا الأكفّاء، وأنكحوا إليهم"[1]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ"[2].
2. الجانب الاقتصاديّ
وتمتدّ مسؤوليّة الأب إلى تأمين حاجات الأبناء الاقتصاديّة ومراعاة ما ينبغي رعايته في نفقة العيال، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إنّ أرضاكم عند الله، أسبغكم على عياله"[3]، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من دخل السوق فاشترى تحفة، فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قومٍ محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور..."[4].
[1] النيسابوريّ، أبو عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحَين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشليّ، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص163.
[2] السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1401ه - 1981م، ط1، ج1، ص503.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص69.
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص577.
94
86
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
3. الجانب التربويّ
من الخطأ أن يعتقد الآباء أنّ مهمّتهم تقتصر على تحمّل الأعباء الاقتصاديّة فقط، فيهملون الجوانب التربويّة الأخرى، من تأديبٍ وتربيةٍ ومصاحبةٍ ومراقبةٍ لأبنائهم.
في وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: "وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ"[1]، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، يغفر لكم"[2]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كانت له ابنة فأدّبها وأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، فأوسع عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له منعة وستراً من النار"[3].
إرشادات تربويّة أبويّة
كشف القرآن الكريم عن النموذج الصالح للتربية الحسنة على لسان لقمان الحكيم:
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص393، الكتاب 31.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج101، ص95.
[3] الهيثميّ، مجمع الزوائد، مصدر سابق، ج8، ص158.
95
87
الموعظة الثانية عشرة: عوامل التربية السليمة
﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ﴾:
1. ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾
2. ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
3. ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾
4. ﴿يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ﴾
5. ﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾
6. ﴿وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾
7. ﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾
8. ﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾
9. ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾
10. ﴿وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ﴾
11. ﴿وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ﴾[1].
[1] سورة لقمان، الآيات 13-19.
96
88