المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشرف الصلاة وأزكى السلام على رسول الرحمة محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إن المركز الإسلامي للتبليغ وحرصاً منه على مواكبة العمل التبليغي لا سيّما لأئمة المساجد قام بخطوة إصدار سلسلة زاد المبلغ التي تعنى بتقديم مادة ثقافية وتبليغية موجهة لعموم الناس إنطلاقاً من دراسات ميدانية واستطلاع لآراء الناس حول أهم المسائل الثقافية الملحّة والهامّة التي ينبغي إعطاؤها أولوية تبليغية في هذه المرحلة.
كما ويحرص المركز على إصدار هذا الكتاب قبل بدايات شهر رمضان المبارك لتتمَّ الإستفادة منه خلال الشهر وذلك لأهمية العمل التبليغي وضرورة توحيد الخطاب الثقافي لا سيّما المسجدي وضرورة محاكاة الناس بأهم المشكلات الثقافية والتربوية في هذا الشهر.
وهذا الكتاب يعمد إلى اختيار الموضوع ويقدّم بعض العناوين الخاصة التي تساعد المبلغ على الإحاطة بالموضوع وعدم الخروج عنه كما يقدّم بعض الأفكار الخاصة حول دلالة بعض
5
1
المقدمة
النصوص مما يسهّل على المبلغ تناول أي موضوع ومعالجة أي فكرة.
وكنّا قد اعتمدنا سابقاً تقسيم الكتاب إلى مجموعة من الأبواب لمعالجة الموضوعات على طريقة الرزم بدل من تناولها بشكل متجزّىء، وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحها وفائدتها، ولذلك حرصنا على ادراج المحاضرات في هذا الكتاب على نفس الطريقة والتي جاءت مقسمةً على خمسة أبواب موزعة على الشكل التالي:
الباب الأول: التفقه في الدين
الباب الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الباب الثالث: في رحاب شهر الله
الباب الرابع: في رحاب النبي والآل
الباب الخامس: من مشاهد يوم القيامة
وفي الختام نسأل الله أن يتقبل أعمال الجميع بأحسن القبول ويجعل ثوابها في ميزان أعمالنا يوم القيامة وأن يحظى هذا الإصدار بقبول الإخوة المبلغين وكلّنا حرص على أهمية تقديم أي ملاحظة تساهم في إنجاح هذه الخطوة أكثر وتفعيلها بشكل يساهم في تطوير هذا الإصدار وتوسعة دائرة الإستفادة منه شاكرين للجميع تعاونهم وتجاوبهم.
المركز الإسلامي للتبليغ
6
2
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
تصدير الموضوع:
مما أوصى به الإمام الباقر عليه السلام لابنه الإمام الصادق عليه السلام: "يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المِصر فلا يسأل أحداً" .
الهدف: إيضاح المعايير العلمية التي ينبغي الإلتفات إليها في طرح موضوع التفقه في الدين وذلك من خلال ما ورد في النصوص الشريفة.
9
3
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
مقدمة
لا شك أن رسالة الإسلام من أكثر الرسالات السماوية التي رفعت شعار العلم والتعلّم ومجّدته واعتبرته أشرف الفضائل على الإطلاق وأكمل المزايا التي يجب على كل مسلم أن يتحلّى بها، فرفع الله مقام العلماء وفضلهم على سواهم من الخلق وفرض لهم حقوقاً كثيرة فهم عنوان مجد الأمة ورمز تقدّمها وازدهارها وأساس حضارتها وتفوقها، وهم الدعاة إلى الله والهادون لعباده إلى سبيل الرشاد.
معايير التفقه
ويمكن من خلال هذه الرواية المتقدمة الوقوف على عدة فوائد تشكّل معايير هامة لموضوع التفقه في الدين.
1- الإكتفاء الثقافي والمراد منه بطبيعة الحال الإستغناء عن الغير وعدم الحاجة إلى سؤال من لا يطمأن إلى معرفتهم أو سؤال تيارات أخرى قد توقعك في متاهات وشبهات.
2- إن هذا الإكتفاء لا يشمل مكاناً دون آخر لقوله عليه السلام
10
4
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
(يكون في المِصر) دون تحديد مِصر عن سواه مما يكشف أن هذا الإكتفاء ينبغي أن يتوفر لدى المسلمين في أي مكان كانوا فيه سواء في أوطانهم أو في بلاد الإغتراب على إختلافها وإختلاف ثقافاتها.
وهذا كاشف أن الشبهات والإستفهامات والإشكالات المطروحة من الغير ينبغي أن يمتلك المسلم القدرة على الإجابة عليها.
3- والأهم أن الإمام الباقر عليه السلام إذ يوصي بأصحابه خيراً فإن الإمام الصادق عليه السلام اعتبر أن أفضل الخير ومنتهاه هو التفقّه في الدين والوصول الى مرحلة الإكتفاء الثقافي لأن خير الدنيا عبارة عن السلوك في طريق الحق وعدم الانحراف عنه وهداية الناس إليه، وخير الآخرة عبارة عن الفوز بالسعادات الأبدية والنزول في ساحة العزة الإلهية، ولا يتصور حصول شيء منهما بدون التفقه في الدين ومعرفة الشريعة على وجه اليقين.
4- إن عدم السؤال لا يشمل فناً من الفنون أو مجالاً خاصاً بل يشمل كافة المجالات التي تقع في طريق ابتلاء المسلم ولذلك عبرت النصوص الشريفة بلفظ التفقه في
11
5
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
الدين أي بكافة أبعاد وجوانب الشريعة سواء الإعتقادية أو العملية أو غيرها.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه العلوم ينبغي أن تنسجم مع الأولويات التي هي مورد حاجة المسلمين وعدم التلهي ببعض المسائل أو القضايا التي ليست مورد حاجتهم كما ورد في الرواية التي ذمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلم الذي لا ينفع من علمه ولا يضرّ من جهله، ففي الرواية أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا؟ فقيل: علاّمة فقال: وما العلاّمة ؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهن فهو فضل1.
وعن علي عليه السلام - في صفة المتقين -: غضوا أبصارهم عما حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2103.
12
6
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
لهم1. ولا ريب أن قوله "ووقفوا" كاشف على عدم تلهّيهم بما لا ينفعهم.
والحديث وإن كان ناظراً إلى الناحية العلمية إلا أن قوله (لا يسأل أحدا) قد يستفاد منها الإستغناء من الناحية المادية أيضاً أي لا يبذلون ماء وجوههم بسؤال الآخرين وطلب المال أو لمساعدة منهم.
الأصالة: أي أن الخير إنما يتحقق إذا أخذت الأمة علمها من الينابيع الأصيلة والأصول التي تتمتع بالوثاقة وجعلها الله مصدراً من مصادر العلم والمعرفة.
ففي الحديث: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال، من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن، من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"2 ، فيجب على المتمسك بدين الحق أن يكون عارفاً عالماٍ بوجوه المصالح والمفساد ذا بصيرة كاملة في التمييز
1- الكافي، ج1، ص22.
2- الكافي، الكليني، ج1،ص7.
13
7
المحاضرة الأوّلى: معايير التفقه في الدين
بين الحق والباطل ليكون ثابتاً راسخاً فيه بحيث لا تغيره رياح فتن المخالفين ولا يحركه صرصر شبهات المعاندين.
وفي نفس السياق فإن نفس هذه المعاني المستفادة نقرأها في روايةٍ عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد اللهعليه السلام: لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا يا بشير، إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم1.
1- شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 2 - ص 33.
14
8
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾1.
الهدف: توضيح معنى التفقه في الدين وبركاته في دار الدنيا وأفضليته على سواه والأثار السيئة لتركه في الدار الآخرة.
1- التوبة 122
15
9
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
مقدمة
قال الشهيد الثاني قدس سره في كتاب منية المريد: إعلم أن الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً، وكفى بذلك جلالة وفخراً، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾1. وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأول منة امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2. فتأمل كيف افتتح الله كتابه الكريم بنعمة الإيجاد، ثم أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة منّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصّه الله تعالى بذلك.
معنى الفقاهة
والفقاهة تعني فهم المرويات ودلالاتها وأبعادها وكيفية
1- الطلاق 12.
2- العلق 1-5.
16
10
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
تطبيقها في ميادين الحياة فقد ورد قوله صلوات الله عليه: "أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا..."1.
بركات التفقه في الدين
1- التوفيق الإلهي لعمل الخير: فالوصول إلى مقام التفقه وصول إلى مقام رفيع عدّته الشريعة علامة العناية الإلهية الخاصة بالإنسان إذ قال عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين"2.
2- الكمال الإنساني: فالتفقه من شأنه أن يرقى بالمرء أعلى درجات الكمال، فقد ورد في الحديث: "لكمال كل الكمال التفقه في الدين..."3 .
3- كرامة الدنيا والآخرة: أي عظيم الشأن في الدارين فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة4.
4- حزن الأرض والسماء على فقده: واستحق المؤمن المتفقه عند فقده أن تندبه ملائكة السماء وسكان الأرض، إذ
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2458.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص841.
3- الكافي، الكليني، ج1،ص33.
4- الكافي، الكليني، ج1،ص39.
17
11
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
قال عليه السلام: "إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله تعالى عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثَلُمَ في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون"1.
5- محبة الله تعالى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحب بغاة العلم"2.
6- التساوي بين علم المرء وقدره: عن علي بن حنظلة قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنّا"3. فالعبرة والمنزلة إنما هي لمقام الرواية عنهم، ويستحقها الناس بمقدار إنشغالهم بالروايةِ عنهم.
7- التفقه روح العبادة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قليل الفقه خيرٌ من كثير العبادة"4. بل تعتبر التفقه ضرورة للعبادة فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "لا عبادة إلا بتفقه"5 .
1- الكافي، الكليني، ج1،ص38.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2065.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص546.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
18
12
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر فيه التفقه عبادة بحد ذاته فيقول: "خير العبادة الفقه"1.
دور المعرفة في الفضيلة
عن الإمام الصادق عليه السلام: "بعضكم أكثر صلاةً من بعض، وبعضكم أكثر حجاً من بعض، وبعضكم أكثر صدقةً من بعض، وبعضكم أكثر صياماً من بعض، وأفضلكم أفضل معرفة"2.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة"3 .
الآثار السيئة لعدم التفقه
واستنكرت الشريعة على أي إنسان عدم تفقهه في الدين معتبرةً أن ذلك سبيل للتيْه والضلال والإبتعاد عن الله.
عن أبي عبد الله عليه السلام: قال له رجل: "جعلت فداك رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه؟ قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه"!؟4.
1- عدم توسم الخير: عن أبي عبد الله عليه السلام: "لا خير فيمن
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص1870.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص1870.
4- الكافي، الكليني، ج1،ص31.
19
13
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
لا يتفقه من أصحابنا يا بشير! إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم"1.
عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا خير في العيش إلا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع"2.
عن علي عليه السلام "ألا وإن طلب العلم أوجبُ عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسّمه عادلٌ بينكم، وضمنه وسيفي لكم"3.
2- الدخول في الحرام: وهذا لازمٌ طبيعي لعدم التفقه فموارد الإبتلاء كثيرة والتقصير في تعلمها يوقع المرء في المعصية، فقد ورد عن علي عليه السلام قوله: "من اتجر بغير علم فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم"4.
3- الوقوع في الشبهات: ولا يخفى أن وقوع المؤمن في شبهةٍ ما قد تحوّل سلوكه إلى تصرفٍ يسلكه الكثير من الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد التجارة فليتفقه
1- الكافي، الكليني، ج1،ص30.
2- الكافي، الكليني، ج5، ص154.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص325.
4- الكافي، الكليني، ج1، ص31.
20
14
المحاضرة الثانية: بركات التفقه ومفاسد تركه
في دينه, ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر، تورط في الشبهات"1.
عدم دخول الإسلام: فالتفقه توأم التدين، ففي رواية علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله يقول في كتابه: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾"2.
الإستهانة به يوم القيامة: ولعل ذلك أسوأ ما يصيب المقصر في التفقه فعن علي عليه السلام: "من لم يتفقه في دين الله، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملا"3.
1- الكافي، الكليني، ج1، ص31
2- الكافي، الكليني، ج1، ص9.
3- أصول الكافي، ج1، ص31.
21
15
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
تصدير الموضوع:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قالت الحواريون لعيسى: يا روح الله! من نجالس؟ قال من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله".
الهدف: التعريف بخصائص العلماء وصفاتهم العلمية والروحية التي يجب الإتصاف بها والأمور التي ينبغي على العالم الإحتراز عنها.
23
16
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
مقدمة
إن الفقه والتفقه في الدين حاز مقاماً إلهياً رفيعاً وعناية ربانية ألبسه الشارع المقدس لباس الوجوب من خلال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"1.
وأسبغ عليه ببيانه الرائع معنىً أخلاقياً رفيعاً إذ قال: "لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا"2، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلنا على الحاجة الكبرى للعلماء الذين ينشرون من علوم أهل بيت العصمة عليهم السلام ويبيّنون أحكام وحي السماء ويزكّون الناس بأفعالهم قبل أقوالهم.
الفقيه في كلام أمير المؤمنين عليه السلام
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في
1- الكافي، الكليني، ج1،ص9.
2- أصول الكافي، ج1، ص31.
24
17
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر"1.
بعض علامات الفقه
1- إصلاح المعيشة: أي تجلي الفقه في مسيرة الإنسان بما يضفي السعادة على حياة المجتمع بشكلٍ عام، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مِنْ فقه الرجل أن يصلح معيشته، وليس من حب الدنيا طلب ما يصلحك"2.
2- عدم الغرور: فالغرور يخرج المرء عن تأثيره، وبالتالي فإن المغرور يوجه ضربة للفقه والفقهاء من حيث لا يشعر، فعن الإمام علي عليه السلام: "إن من الحق أن تتفقهوا، ومن الفقه أن لا تغتروا"3.
3- أصالة الصمت: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فقه الرجل قلة كلامه فيما لا يعنيه"4.
وفي روايةٍ عن هشام بن سالم يبين أن ذلك حقٌ من حقوق الله تعالى، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "ما حق الله على خلقه؟ فقال: أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا
1- أصول الكافي، ج1، ص31
2- ميزان الحكمة، ج2، ص896.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2458.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2458.
25
18
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه"1.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "يا طالب العلم! إن للعالم ثلاث علامات: العلم والحلم والصمت، وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة"2.
شدة الفقيه على إبليس
وهذه المكانة الخاصة للعلماء أي وجودهم على الثغر الذي يقف الشيطان قباله جعل منهم أعداءً حقيقيين للشيطان وأعوانه في الحياة، وجعل رحيل أحدهم مناسبة فرح عند شياطين الإنس والجن، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه"3.
عن الإمام الكاظم عليه السلام: "إذا مات المؤمن... ثَلُمَ في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"4.
1- لكافي، ج1، ص50.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1777.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
4- الكافي، ج1، ص38.
26
19
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
وعن الإمام السجّاد عليه السلام: "متفقه في الدين أشد على الشيطان من عبادة ألف عابد"1.
آفة الفقهاء
1- اتباع السلطان: وهو أسوأ ما يُبتلى به العالم، فيبيع آخرته بدنيا غيره، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: "يا رسول الله ! ما دخولهم في الدنيا ؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم"2.
2- طلب الدنيا: والمراد بالدنيا هنا استخدام العلم للأكل بالحرام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة"3.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كلَّ محب لشئ يحوط ما أحب"4.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أوحى الله إلى داود عليه السلام: "لا تجعل بيني
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2458.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2101.
3- الكافي، ج1، ص46.
4- الكافي، ج1، ص46.
27
20
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدَّك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطَّاع طريق عباديَ المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم"1.
3- طلب الوجاهة والمنصب: فالعالم لا يطلب سوى رضوان الله في الآخرة وأجرها ودرجاتها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾2. فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوء مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها"3.
وعن علي عليه السلام: "آفة العلماء حب الرياسة"4.
4- السفه والغرور: بل وأي رذيلة من الرذائل لا ينبغي أن تتسلَّل إلى قلب العالم بالله، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يكونُ السفه والغرَّة في قلب العالم"5.
5- عدم تهذيب النفس: بمعنى أن العالم ينبغي أن ينشغل
1- الكافي، ج1، ص46.
2- القصص 83.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2080.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
5- الكافي، ج1، ص46.
28
21
المحاضرة الثالثة: فضل العلم والفقهاء
دائماً بتزكية نفسه، فإن تزكية النفس من الأمور التي لا يمكن للمرء أن يغفل عنها يوماً واحداً، عن الإمام علي عليه السلام: "آفة الفقهاء عدم الصيانة"1. أي عدم صيانة أنفسهم، فبدل أن يكون العالم نوراً يضيء للآخرين سبيلَهُم إلى الآخرة يصبح حجاباً يحول دون نفاذ أنوار الآخرين إلى الله.
6- عدم العمل بالعلم: وما أسوأ أن يضع المرء نفسه في مقام الواعظين ولا يعظ نفسه، ويأمر الناس بالبر ولا يفعله، وينهي الناس عن الفاحشة والمعصية ولا ينتهي عنهما، فعن علي عليه السلام: "آفة العلم ترك العمل به، فإن ترك العمل به يضاعف الحجة عليه يوم القيامة فيتحول هذا العلم إلى وبال على صاحبه عند الحساب"2.
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
22
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾1.
الهدف: حثّ الناس على السؤال في طلب العلم وتنبيههم على عدم معذورية من يترك السؤال ويعمل بغير علم.
1- الكهف 66.
31
23
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
مقدمة
لقد سنَّ القرآن الكريم سنّة السؤال في طلب العلم من خلال حديثه لنا كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه فقد وردت كلمة "يسألونك" عدة مرات في القرآن الكريم عن الروح والأنفال والأهلَّة والساعة وسوى ذلك، والتي يحدِّثُنا الله تعالى عن إجابات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على أسئلة السائلين، بل أكثر من ذلك نجد أن الإمام علياً عليه السلام لا ينتظر أصحابه حتى يسألوه بل هو يبادرهم أن يسألوا عن أمور دينهم ودنياهم بقوله المشهور: "سلوني قبل أن تفقدوني". وفي ذلك تعليم للأمة على طلب العلم بالسؤال قبل فوات الأوان.
حثّت الشريعة على طلب العلم كما حثَّت العلماء على بذل العلم لطالبه معتبرةً أن ذلك عهدٌ عهده الله إلى الجاهل بطلب العلم وعهد عهده الله على العالم أن يبذل العلم، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قرأت في كتاب عليّ عليه السلام: إنَّ الله لم يأخذ على الجهَّال عهداً بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم"1. والعهد أمر
1- الكافي، ج1، ص47.
32
24
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
آكد من الوجوب وتركه من أشد الموبقات عند الله تعالى.
الحثُّ على التعلم:
وكثيرةٌ هي الروايات التي حثت على طلب العلم، لكن نورد بعضها للتبرك وللوقوف على بعض العناوين لما لها من دلالةٍ خاصة.
التضحية في سبيل طلب العلم: عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "لو يعلم الناس ما في العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللُّجج"1.
الصبر على طلب العلم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلِّ الجهل أبدا"2.
عدم الخجل في طلب العلم: عن الإمام علي عليه السلام: ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشئ أن يتعلمه3 .
الأجر والثواب في طلب العلم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكلِّ قدم عبادة سنة"4.
1- أصول الكافي، ج1، ص35.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2070.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2078.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2078.
33
25
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
الحثُّ على التعلم بالسؤال
وفي موضوع طلب العلم بالسؤال أكّدت الشريعة الإسلامية على جملة أمور:
ضرورة السؤال: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه"1.
وسئل أبو الحسن عليه السلام: "هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه ؟ فقال: لا"2.
وفي الرواية دلالة واضحة على عدم معذوريتهم لعدم سؤالهم وأنهم سيُسألون لماذا لم تسألوا عما كنتم جاهلون به.
هلاك من لا يسأل: والمراد به هلاك الأمة أكثر منه هلاك الأفراد، وهلاك الأمة يعني سقوطها وتخلفها وعدم قدرتها على مواكبة التقدم، لأن الهلاك يعني تبعيتها لغيرها، فعن أبي عبد الله عليه السلام لحمران بن أعين في شئ سأله: "إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون"3.
وإنما سيهلكون لأنهم سيبقون أسارى لجهلهم، والجهل مقدمة الهلاك.
1- أصول الكافي، ج1، ص30.
2- أصول الكافي، ج1، ص30.
3- أصول الكافي، ج1، ص40.
34
26
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
السؤال مفتاح العلم: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة"1.
والحديث هنا يصوّر العلم على أنه في مكان من غير الميسور تناوله والوصول إليه إلا عبر السؤال والإستفهام.
طلب العلم من أهله: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم. ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية"2.
وهنا إشارة واضحة إلى ضرورة تحديد الجهة التي تأخذ عنها وتتلمذ على يديها، وبعد تحديدها لا ينبغي التقدم عليها أو عدم الإذعان لها فلعل الإمام يتناول الموضوع وفق ظروف وحيثيات لم يطّلع عليها السائل.
تخصيص وقت للسؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفٍّ لرجل لا يفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه، فيتعاهده ويسأل عن دينه"3.
وعن لقمان عليه السلام - لابنه وهو يعظه -: "يا بني! اجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك في طلب العلم، فإنك لن
1- أصول الكافي، ج1، ص40.
2- أصول الكافي، ج1، ص40.
3- أصول الكافي، ج1، ص40.
35
27
المحاضرة الرابعة: السؤال في طلب العلم
تجد لك تضييعاً مثل تركه"1.
فالوقت الذي يعتبر أكبر غنيمة عند الإنسان نرى أن الشريعة توجه الإنسان لتخصيص جزءٍ منه لطلب العلم، ومعنى ذلك أن على المسلم أن يتفقه في دينه ويطلب العلم بنفسه فإن عجز عن فهم مسألة أو أشكل عليه أمر من الأمور فعليه أن يخصص وقتاً لاستيضاحه، وليس بالضرورة أن الرواية تطلب من المسلم أن يسأل عن كل شيء فلعل هناك أموراً يستطيع أن يكسبها بالقراءة والمطالعة وارتياد المساجد وما أشبه ذلك.
1- أصول الكافي، ج2، ص1111.
36
28
المحاضرة الخامسة: العلم والعمل
تصدير الموضوع:
عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1، قال: "يعني بالعلماء من صدَّق فعلُه قولَه، ومن لم يصدِّق فعلُه قولَه فليس بعالم"2.
الهدف: التأكيد على أن البُعد الحقيقي للعلم ليس البُعد المعرفي فحسب بل العلم الحقيقي هو الذي ينعكس على سلوك العالم وحياته العملية.
1- فاطر 28.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2091.
37
29
المحاضرة الخامسة: العلم والعمل
مقدمة
إن أقل ما يقال عن ارتباط العلم بالعمل أنه يدّعم الفكرة العلمية ويقدِّمها للناس بالسلوك، بل إن تقديمها بالسلوك قبل النظرية أمرٌ في غاية الأهمية، ومن هنا شدَّد أهل بيت العصمة عليهم السلام على أن نكون دعاةً بغير ألسنتا بل بالسلوك العمليّ والتطبيقيّ، وبالتالي فإن تقديم الفكرة بعيداً عن السلوك العملي من شأنه أن يوهن هذه الفكرة ويبطلها عند المتلقِّي لأننا نرى بوجداننا أن الإنسان يتلقَّى من السلوك أكثر مما يتلقى بالعقل.
العلم بالرعاية لا بالرواية: أي بالعمل به لا بمجرد نقله وبيانه، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن رواة الكتاب كثير، وإن رعاته قليل، وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية، والجهال يحزنهم حفظ الرواية، فراعٍ يرعى حياته، وراعٍ يرعى هلكته، فعند ذلك اختلف الراعيان، و تغاير الفريقان"1.
الإمام علي عليه السلام: "يا حملة القرآن اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل بما علم، ووافق عمله علمه"2.
1- أصول الكافي، ج1، ص49.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2093.
38
30
المحاضرة الخامسة: العلم والعمل
مراحل طلب العلم
عن عبد الله بن ميمون القدَّاح، عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما العلم؟ قال: الانصات، قال: ثم مَه؟ قال: الاستماع، قال: ثم مه؟ قال: الحفظ، قال: ثم مَه ؟ قال: العمل به، قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: نشره"1.
ومن هنا نرى أن مرحلة التصدي لنشر العلم تأتي بعد مرحلة العمل به، وبالتالي فإن العمل بالعلم شرط أساسي قبل الوصول إلى مرحلة نشره.
مفاسد العمل بغير علم
الإبتعاد عن الصراط السوي: فالعلم هو النور الذي يضيء للمرء موطئ قدمه، فعن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا"2.
الإفساد: إذ لعل المرء بعمله يسنّ للآخرين سنّة خاطئة فيلحقه وزره ووزر من عمل بها بعده، فعن أبي عبد الله عليه السلام
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2083.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2092.
39
31
المحاضرة الخامسة: العلم والعمل
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"1.
درجة العالم العامل بعلمه
1- الرفعة والعظمة عند الله: ولا يخفى ما للعظماء عند الله من مقامٍ رفيع، عن حفص بن غيَّاث قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "من تعلم العلم وعمل به وعلم لله دعي في ملكوت السماوات عظيما فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم لله"2.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة عالما فقيها3.
2- كمال الدين: أي تمام التدين والإلتزام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به"4.
3- قبول الأعمال: أي ترتب الأثر في الآخرة من جزيل الثواب ورفيع الدرجات، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يقبل
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2093.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2087.
3- أصول الكافي، ج1، ص49.
4- أصول الكافي، ج1، ص30.
40
32
المحاضرة السادسة: تذاكر العلم
تصدير الموضوع:
عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "رحم الله عبداً أحيا العلم قال: قلت: وما إحياؤه؟ قال: أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع"1.
الهدف:
حث الناس على إقامة الجلسات واللقاءات العلمية والمشاركة فيها وتذاكر العلوم النافعة لهم لا سيما علوم أهل بيت العصمة عليهم السلام.
1- أصول الكافي، ج1، ص41.
43
34
المحاضرة السادسة: تذاكر العلم
مقدمة
إن العلم من الفضائل التي تزكو على التذاكر والتباحث وسبر أغوار هذا البحر اللامتناهي من المعرفة واستخراج اللألىء التي تغني نفس الإنسان وروحه في الدنيا وترفعه عظيم الدرجات في الآخرة، بدل إضاعة وقته في أمور عبثية ولهوية لا تنفعه في دنياه ولا تنجيه في آخرته، ومن هنا كان من الضروري على كل مسلم أن ينظم وقته بالطريقة التي يخصص فيها وقتاً أساسياً لتذاكر العلم والتباحث به.
فضيلة تذاكر العلم
إحياء القلوب: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا فإنَّ الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث"1.
وفي الحديث دعوة مهمة لا ينبغي التهاون فيها، وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل يقول: تذاكر العلم بين عبادي مما تحيى
1- أصول الكافي، ج1، ص41.
44
35
المحاضرة السادسة: تذاكر العلم
عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري"1.
بركة مجالس تذاكر العلم: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لفضيل: "تجلسون؟؟ وتحدثون؟" قال: نعم، جعلت فداك. قال: "إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا - أو ذكرنا عنده - فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر"2.
وهنا إشارة إلى ضرورة أن تُذكر مظلوميتهم وسلبهم حقوقهم التي فرضها الله لهم.
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، قال: "سمعته يقول لخيثمة: يا خيثمة اقرئ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يشهد أحياؤهم جنائز موتاهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقياهم حياة أمرنا. قال: ثم رفع يده عليه السلام فقال: رحم الله من أحيا أمرنا"3.
وعنه عليه السلام يحثّ الناس على عدم التهاون في إحياء مجالس العلم بذكر فضائلهم ومناقبهم:
1- أصول الكافي، ج1، ص41.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص399.
3- عيون اخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج2، ص275.
45
36
المحاضرة السادسة: تذاكر العلم
"حدِّثوا عنا ولا حرج، رحم الله من أحيا أمرنا"1.
التسبيح: بل لعله أهم مصاديق التسبيح ومفردات ذكر الله تعالى، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة....."2.
أفضل من قيام الليل: فقيام الليل يترك أثره على الإنسان القائم بينما تذاكر العلم يترك أثره عليه وعلى الآخرين، فعن الإمام الباقرعليه السلام: "تذاكر العلم ساعة خير من قيام ليلة"3.
محرمات تذاكر العلم
الإفتاء بغير علم: فمقام التصدي لهذا الأمر له رهبته وخطره الذي لا ينبغي أن يقاربه إلا من اطمئن من نفسه المعرفة، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة، ملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه"4.
عن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا
1- بحار الانوار، ج2، ص151.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2078.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2068.
4- أصول الكافي، ج1، ص42.
46
37
المحاضرة السادسة: تذاكر العلم
فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض"1.
إدخال الشك في قلب السائل: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري ولا يقل: الله أعلم، فيوقع في قلب صاحبه شكاً وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتهمه السائل"2.
ولعل الحديث ناظر إلى الإجابات الغامضة والملتبسة التي لا تشفي غليل السائل ولا تقدم الشريعة بطريقة واضحة.
عدم قول ما لا يعلم: عن زرارة بن أعين قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون"3.
وتوعَّدت الشريعة هؤلاء المتصدين بغير علم، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "يا حفص يُغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل ان يغفر للعالم ذنب واحد"4.
إذ أن قول الجاهل غالباً مما لا يؤخذ به بخلافه من العالم فإن قوله يشكل مستنداً ومرجعية للآخرين.
1- أصول الكافي، ج1، ص42.
2- أصول الكافي، ج1، ص43.
3- أصول الكافي، ج1، ص43.
4- أصول الكافي، ج1، ص47.
47
38
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾1.
الهدف: الحثّ على ممارسة هذه الفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان مساوىء تركها والتخلّي عنها.
1- ال عمران 110.
51
39
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مقدمة
لعل أهمَّ مؤشرات الخير في الأمة مدى قيامها كأمة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أن تحسس المنكر ليس تحسساً فردياً وإنما هو هم جماعي، ونشر المعروف ليس رغبة شخصية وإنما هو طموح عام للأمة، فالأمة التي تحافظ على هذه الفريضة هي وحدها الأمة التي يُتوسم منها الخير والصلاح، وبالتالي فإن تخلِّيها عن هذه الفريضة وإسقاطها لهذه الراية كفيلٌ بإخراجها عن جادَّة الخير والصلاح إلى مهاوي الشر والفساد والرذيلة.
ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.
وقال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾2 .
1- ال عمران 104.
2- لقمان 17.
52
40
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي كلتا الآيتين يظهر وجوب الأمر من الله بضرورة إقامة هذه الفريضة.
وقال تعالى مؤكّداً أن هذه الفريضة هي سمة مجتمع أهل الإيمان: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾1.
ويرفع الإمام الباقر عليه السلام من مقام هذه الفريضة ومحييها بقوله: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله عز وجل، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله عز وجل"2.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين أن القرب والبعد من الله نقيض القرب والبعد عن أهل الفسق والفجور فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "تقربوا إلى الله تعالى ببغض أهل المعاصي، وألقوهم بوجوه مكفهِّرة، والتمسوا رضا الله بسخطهم، وتقرَّبوا إلى الله بالتباعد منهم"3.
وعن غياث بن إبراهيم قال: كانَ أبو عبد الله عليه السلام إذا مر بجماعة يختصمون لا يجوزهم حتى يقول ثلاثا: "اتقّوا الله" يرفع بها صوته4.
1- التوبة 71.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص59.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1953.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص59.
53
41
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
آثار ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر
1- تسلط الأشرار: فالأمة التي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر من الطبيعي أن يتسلل أشرارها إلى رأس السلطة فيها، دون رادع ٍ أو معارض، ففي روايةٍ عن أبي الحسن عليه السلام: "لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليُستعملَنَّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"1.
2- العذاب الإلهي: والظاهر من الروايات أنها تتحدث عن عذاب ٍ يعمُّ الأمة في الدنيا، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تركت أمتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله جل اسمه"2.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليعمَّنَّكم عذاب الله"3.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن النَّاس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"4.
2- فقدان البركة والرحمة: فالبركة والرحمة مرتبطتان بالتزام
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص56.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1945.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1945.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1945.
54
42
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تعالى، وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام ذلك بقوله: "إذا رأى المنكر فلم ينكره وهو يقدر عليه فقد أحب أن يعصى الله، ومن أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة"1.
الموت الحقيقي: أي أن تارك هذه الفريضة لا معنى لوجوده وحياته التي لا يمارس فيها دوراً شرعياً، فعن الإمام علي عليه السلام: "من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت بين الأحياء"2.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص108.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1951.
56
43
المحاضرة الأولى: عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الخلق بالسنن الإلهية، وأما مع التخلي عنها فمن الطبيعي أن ترتفعا من الأرض، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ويل لمن لا يدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"2.
3- الإضرار بالمجتمع: لأن فعل المعصية إذا لم يجابه سيشجع الآخرين على ارتكابه، بل سيتحول شيئاً فشيئاً إلى سلوك عام يستسيغه الجميع فيقع الجميع في المعصية، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المعصية إذا عمل بها العبد سرا لم تضر إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرت العامة"3.
العداوة مع الله: لأن الإنسان الذي لا يغضبه فعل المنكر لا يملك حسّأً شرعياً وهمّاً إلهيّاً في تطبيق حكم الله
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1945.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3،، ص1940.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1947.
55
44
المحاضرة الثانية: مقام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحقرَنَّ أحدُكم نفسَه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقِّر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أنَّ عليه مقالا، ثم لا يقول فيهِ، فيقولُ الله عزَّ وجلَ يومَ القيامةِ: ما منعَكَ أن تقولَ في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس! فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى"1.
الهدف: إيضاح البعد العبادي لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب بها من خلال بيان أبعادها في الدنيا والآخرة.
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1952.
57
45
المحاضرة الثانية: مقام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مقدمة
حثَّت الشريعة على عدم التهاون في أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأي ذريعةٍ أو سبب، بل إن مناخ الروايات يشير إلى ضمانةٍ إلهيةٍ يتكفل بها الله تعالى أن لا يصيب محي هذ الفريضة أي ضرر في ماله أو عمره مهما بلغ حجم التحدي أو المواجهة مع تاركي المعروف وفاعلي المنكر، فعن الإمام علي عليه السلام: "وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر"1.
مقام الفريضة في الشريعة
تحتل هذه الفريضة مكانة خاصّة في الشريعة، بل ترقى إلى كونها محور هذه الشريعة وركيزتها الأساس، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: قوام الشريعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود2.
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1944.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1940.
58
46
المحاضرة الثانية: مقام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وعنه عليه السلام: "الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق"1.
وعنه عليه السلام: "فرض الله... والأمر بالمعروف مصلحة للعوام"2.
مقام محي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مقام خليفة الله: وكأنَّ القيام بهذه الفريضة من شأنه استبطان كافة الفضائل الأخرى، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة رسوله"3.
كمال الأعمال: وكأنَّ الله لا يكتمل رضاه على عبده إلا بعد قيامه بهذه الفريضة وإحيائه لهذه السنّة، فعن علي عليه السلام - في وصيته لمحمد بن الحنفية -: وأمر بالمعروف تكن من أهله، فإن استتمام الأمور عند الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر4.
كمال الإيمان: فالإيمان الذي لا يقترن بهذه الفريضة إيمانٌ ناقص، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ينبغي
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1941.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1430.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1940.
4- وسائل الشعة، الحر العاملي، ج 16، ص150.
59
47
المحاضرة الثانية: مقام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لنفس مؤمنة ترى من يعصي الله فلا تنكر عليه"1.
مخالفة القول للعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن أكبر المفاسد الشخصية والإجتماعية التي قد يبتلى بها الإنسان أن يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو لا يأتمر بمعروف ولا ينتهي عن منكر، فيرى القذى في عين غيره ولا يرى الخشبة في عينه فينصب نفسه إماماً على الخلق وهو أحوج الناس إلى الموعظة والتذكير.
وقد حذرت الشريعة هؤلاء من مغبة وفساد ما يقدمون عليه مبيِّنة الكثير من تبعات ذلك وضرره وآثاره السيئة والتي منها:
1- المقت الإلهي: أي الكراهة الشديدة التي توجب النفور والإعراض، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾2.
وقال تعالى معترضاً على هؤلاء ومتهماً إياهم في عقولهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾3.
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1941.
2- الصف 3.
3- البقرة 44.
60
48
المحاضرة الثانية: مقام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2- علامة النفاق: لأن النفاق ليس سوى مخالفة الباطن للظاهر، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي"1.
وعن الإمام علي عليه السلام: أظهر الناس نفاقا: "من أمر بالطاعة ولم يعمل بها، ونهى عن المعصية ولم ينتهِ عنها"2.
3- الغواية والضلال: وأي ضلالةٍ أشد من أن يسلك الإنسان طريقاً ويدعو الناس إلى غيره، فعن الإمام علي عليه السلام: "كفى بالمرء غواية أن يأمر الناس بما لا يأتمر به، وينهاهم عما لا ينتهي عنه"3.
4- اللعنة الإلهية: فعن الإمام علي عليه السلام: "لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به"4.
ولا يخفى أن اللعنة الإلهية تعني العذاب الأبدي في النار.
1- الكافي، ج2، ص296.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1949.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1949.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1949.
61
49
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
تصدير الموضوع:
قال تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها"1.
الهدف:
إلفات النظر إلى أن الأسرة هي أهم بيئة وأفضل مكان لتعلم ونشر ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1- طه، 132.
63
50
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
مقدمة
إن مراعاة الأحكام والآداب الشرعية داخل المنزل والتشديد عليها من أهم الأمور التربوية التي ينبغي أن ينشأ عليها أولادنا داخل حضن الأسرة، مما يجعل هذه الأحكام سلوكاً عادياً وطبيعياً عند الأولاد، ينكرون الخروج عنه ويرفضون عدم التقيد به، كما أن الإستهتار عن هذه الأحكام وعدم مراعاتها تجعل أولادنا يستخفون بها ولا يراعون تطبيقها، فما هو واضح أن سلوك الأهل داخل البيت يبقى مثلاً أعلى للأولاد في بداية أعمارهم وهي اللبنة الأولى التي تبنى شخصيتهم عليها.
مسؤولية الأهل تجاه أبنائهم
لا يخفى ما لدور الأهل من أهميةٍ خطيرة وأساسية في توجيه أبنائهم وهدايتهم، ومن هنا فقد بيّنت الشريعة أدق التفاصيل التي ينبغي على الأهل مراعاتها مع أبنائهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾1.
1- التحريم، 6.
64
51
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة".
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الزموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، فإن أولادكم هدية إليكم"1.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال حب نبيكم وحب أهل بيته وعلى قراءة القرآن"2.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال علموا أولادكم القرآن فانه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو القرآن3.
مما وعظ لقمان لابنه
في سورة لقمان وردت عدة آيات في بيان وصايا لقمان لابنه, هذه الآيات تشكل مجموعه من الارشادات والوصايا المختلفة الجوانب، فمنها اجتماعية وادارية وأخلاقية وغير ذلك، مما تعتبر رعايتها والاهتمام بها من الامور المهمة في حياة كل فرد, بل وتلقي ضوءاً ساطعاً أمامنا على طبيعة الأمور التي ينبغي أن يحرص الأهل على تربية أولادهم وتنشئتهم
1- شرح رسالة الحقوق، ص582.
2- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج24، ص608.
3- من فضائل القران، ص24.
65
52
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
عليها، ومن جملتها انه قال مما ورد في القرآن الكريم:
التحذير من الشرك: فالشرك أخطر الذنوب وأبعدها عن المغفرة الإلهية، ولا تستقيم معها عبادة أو طاعة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾1.
الصلاة: باعتبارها عمود الدين وأساس العلاقة مع الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾.
وعن الإمامُ الصادق عليه السلام: "قالَ لُقمانُ لِابنِهِ:... يا بُنَيَّ، وإذا جاءَ وَقتُ صَلاةٍ فَلا تُؤَخِّرها لِشَي ءٍ، وصَلِّها واستَرِح مِنها فَإِنَّها دَينٌ"2.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾3. فلعل في التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر، إلا أنه يؤكد أن ذلك مما يقوي إرادة الإنسان
1- لقمان 13.
2- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج14، ص58.
3- لقمان 17.
66
53
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
وينمي شخصيته الإيمانية.
عدم التكبر: قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور*ٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾1. فالتواضع سمة الصالحين التي ينبغي أن تبقى ملازمة لهم بل علامة فارقة في سلوكهم وتصرفاتهم بشكلٍ عام.
فائدة أخرى: التربية على الإيمان باليوم الآخر وبالحساب وبالرقابة والدقة الإلهية في الحساب.
عدم استصغار ذنب وعدم التجروء على الصغائر: فمن لا يلتفت إلى صغائر الأمور لا يلتفت إلى كبائرها، قال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾2.
ومما ورد فيما وعظ لقمان لابنه قوله: "يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعا"3.
1- لقمان 18.
2- لقمان 16.
3-بحار الانوار، المجلسي، ج13، ص422.
67
54
المحاضرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة
التعرف على أصناف الناس: وكما يبيّن لقمان لابنه معالم العلاقة مع الله، فإنه كذلك يبيّن له أسس العلاقة مع الناس والمجتمع، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال في حديثٍ طويل نقتطع منه ما وعظ لقمان إبنه مما يفيد في معاشرة الناس: "قال لقمان لابنه: يا بني لكل شئ علامة يعرف بها ويشهد عليها، إلى قوله: وللمتكلف ثلاث علامات، ينازع من فوقه، ويقول ما لا يعلم، ويتعاطى ما لا ينال. وللمنافق ثلاث علامات، يخالف لسانه قلبه، وفعله قوله، وعلانيته سريرته، وللغافل ثلاث علامات: اللهو، والسهو، والنسيان"1.
وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم، واللمرائي ثلاث علامات، يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرض في كل أمر للمحمدة2 .
وورد أن لقمان قال لإبنه: "يا بني، اتخذ الف صديق والف قليل ولا تتخذ عدوا واحدا والواحد كثير"3.
وقال له: "إياك والحسد، فانه يتبين فيك، ولا يتبين فيمن تحسده"4.
1- تفسير نور الثقلين، الحويزي، ج4، ص473.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1020.
3- وسائل الشيعة، ج12، ص16.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1458.
68
55
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"1.
الهدف:
التعريف بأهم الأحكام الشرعية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان بعض دلالاتها التي ينبغي تعلمها ومعرفتها.2
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1950.
2- هذه المحاضرة مقتبسة عن آراء المراجع في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
69
56
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
مقدمة
يقول أحد العلماء: إن من أعظم أفراد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها، خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالاخلاق الكريمة، وينزهها عن الاخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر خصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة فإن لكل مقام مقالا، ولكل داء دواءاً، وطب النفوس والعقول أشد من طب الابدان بمراتب كثيرة، وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تشخيص دائرة المكلفين بهذه الفريضة
لا يختص وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم، والعدول والفساق، والسلطان والرعية، والاغنياء والفقراء.
70
57
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
الثالث: أن لا يكون فعله عبثياً أو لاهياً بل لا بد أن يكون الفاعل مصرا على ترك المعروف، وارتكاب المنكر، وإلا فإذا كانت امارة على الاقلاع، وترك الاصرار لم يجب شئ، بل لا يبعد عدم الوجوب بمجرد احتمال ذلك.
ومن هنا فمن ترك واجبا، أو فعل حراما ولم يعلم أنه مصر على ترك الواجب، أو فعل الحرام، أو أنه منصرف عن ذلك أو نادم عليه لم يجب عليه شئ.
الرابع: أن يكون المعروف والمنكر منجزا في حق الفاعل، فإن كان معذورا في فعله المنكر، أو تركه المعروف، لاعتقاد أن ما فعله مباح وليس بحرام، أو أن ما تركه ليس بواجب، وكان معذورا في ذلك للاشتباه في الموضوع، أو الحكم اجتهادا، أو تقليدا لم يجب شئ.
الخامس: أن لا يلزم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس، أو في العرض، أو في المال، على الآمر، أو على غيره من المسلمين، فإذا لزم الضرر عليه، أو على غيره من المسلمين لم يجب.
وتشخيص الضرر يحتاج إلى دقة فقد يستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرراً إلا أنه قد يحرز تأثير الامر أو النهي، وبالتالي ينجز منفعةً أكبر، فإنه والحال هذه لابد من
72
59
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
رعاية الاهمية، فقد يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر أيضا، فضلا عن الظن به أو احتماله.
وقد يكون المنكر المرتكب أو المعروف المتروك من الأهمية والخطورة بحيث لا يرضى الشارع بحدوثه أو تركه حتى مع تحمل الضرر.
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من الطبيعي أن لا يكون للامر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة واحدة بل هناك مراتب عدة تختص كل منها بظروفها الخاصة وهي من الأدنى إلى الأعلى والأشد على الشكل التالي:
الاولى: الانكار بالقلب: وهو أدنى المراتب التي لا ينبغي التهاون بها، وهو بمعنى إظهار كراهة المنكر، أو ترك المعروف إما بإظهار الانزعاج من الفاعل، أو الاعراض والصد عنه، أو ترك الكلام معه، أو نحو ذلك من فعل أو ترك يدل على كراهة ما وقع منه.
الثانية: الانكار باللسان والقول: وهذه المرتبة أشد وأبلغ من الأولى وذلك بأن يعظه، وينصحه، ويذكر له ما أعد الله سبحانه للعاصين من العقاب الاليم والعذاب في
73
60
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
الجحيم، أو يذكر له ما أعده الله تعالى للمطيعين من الثواب الجسيم والفوز في جنات النعيم.
الثالثة: الانكار باليد: وذلك بالضرب المؤلم الرادع عن المعصية وقد تشتد هذه المرتبة إلى ما هو أشد من الضرب بحسب المنكر الذي يقترفه.
ولا يخفى أن لكل واحدة من هذه المراتب رتبتها ودرجتها، والمشهور الترتب بين هذه المراتب، فإن كان اظهار الانكار القلبي كافيا في الزجر اقتصر عليه، وإلا أنكر باللسان، فإن لم يكف ذلك أنكره بيده، ولكن الظاهر أن القسمين الاولين في مرتبة واحدة فيختار الآمر أو الناهي ما يحتمل التأثير منهما، وقد يلزمه الجمع بينهما.
وأما القسم الثالث فهو مترتب على عدم تأثير الاولين، والاحوط في هذا القسم الترتيب بين مراتبه فلا ينتقل إلى الاشد إلا إذا لم يكف الاخف.
ونذكر على سبيل المثال بعض النماذج التي هي محل ابتلاء في بعض مجتمعاتنا، كأن لا يؤتى بالصلاة على وجهها الصحيح، كعدم صحة القراءة والاذكار الواجبة، أولا يتوضأوا وضوءا صحيحا أولا يطهروا أبدانهم ولباسهم من النجاسة على
74
61
المحاضرة الرابعة: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)
الوجه الصحيح، حينئذٍ وجب أمرهم بالمعروف على الترتيب المتقدم، حتى يأتوا بها على وجهها، وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة، والعدوان من بعضهم على بعض، أوعلى غيرهم، أو غير ذلك من المحرمات، فإنه يجب أن ينهاهم عن المنكر حتى ينتهوا عن المعصية.
75
62
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
تصدير الموضوع:
فَكَمْ يا اِلهي مِنْ كُرْبَة قَدْ فَرَّجْتَها وَهُمُوم قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَة قَدْ اَقَلْتَها، وَرَحْمَة قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاء قَدْ فَكَكْتَها1 .
الهدف:
ترسيخ مفهوم الرحمة بين الناس سواء على صعيد ارتباطهم بالله أو على مستوى علاقة الخلق بعضهم ببعض.
1- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص578.
79
63
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
مقدمة
يؤكّد الله تعالى أنّ العنوان الأساس الّذي ينبغي أن يتصوّر الإنسان به ربَّه هو عنوان الرّحمة، فهو الرّحمن الرّحيم الّذي كان الوجود كلّه مظهراً من مظاهر رحمته، ليشعر الإنسان ـ دائماً ـ بقربه من الله، من خلال رحمته التي وسعت كلّ شيء، وبأنّ رحمة الله قريبةٌ من جراحه لتضمّدها، ومن آلامه لتخفّفها، ومن همومه لتكشفها، ومن جوعه لتُشبعه، ومن عطشه لترويه، ومن ذنوبه لتغفرها، ومن طموحاته لتحقّقها، ومن خطواته لتسدّدها، ومن مسيرته لتصوّبها. وهكذا تقترب رحمة الله من صلاة الإنسان لترفعها، ومن دعائه لتسمعه وتجيبه، ومن عمله لتتقبّله.
تعريف الرحمة
الرحمة انفعال خاص يعرض على القلب عند مشاهدة النقص أو الحاجة، فيندفع الإنسان إلى رفع ذلك دون لقاء أو عوض، فعندما يشاهد الإنسان يتيماً يرتجف من البرد أو فقيراً أضناه الجوع، أو مظلوماً يتلوى تحت سياط الظالمين، تعرضه حالة الرقة، فيندفع لتغيير هذا الواقع، وهذه هي الرحمة.
80
64
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
الله هو الرحمن الرحيم
"الرحمن" هو ذو الرحمة الشاملة، فتعم المؤمنين والكافرين والمحسنين والمسيئين وكل موجود في هذه الحياة الدنيا، بينما "الرحيم" هو ذو الرحمة الدائمة، وذلك ما يختص بالمؤمنين وحدهم، ومن هنا قسموا الرحمة إلى رحمة "رحمانية" تعم الجميع ورحمة "رحيمية" تختص بالمؤمنين فقط.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة"1.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عيسى عليه السلام قال: "الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة"2.
ونجد في بعض الآيات تلميحاً إلى هذه الحقيقة، فقد قال سبحانه: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾3، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾5، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾6.
1- بحار الأنوار - ج 79 - ص 229.
2- مواهب الرحمن - ج 1 - ص 23 14
3- لأحزاب، 43.
4- التوبة، 117.
5- مريم، 75.
6- طه، 5.
81
65
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
معيار الرحمة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم، قالوا: كلّنا رحيم، قال: لا، حتى ترحم العامة"1.
وهذا الحديث يبيِّن لنا ضابطة الرحمة التي بتحلي الإنسان بها يكون رحيماً وإلا فلا، وهي
أن يكون رحيماً بعباد الله.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء"2.
وعن علي عليه السلام: "عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم من دونه"3.
تجلي الرحمة الإلهية
1- رحمته في الكائنات: قال تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)4.
2- رحمته في الخلق: ويستعرض دعاء الإفتتاح بعض مفردات هذه الرحمة: "اَللّـهُمَّ اِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبي، وَتَجاوُزَكَ عَنْ خَطيـئَتي، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمي وَسِتْرَكَ عَنْ قَبيحِ عَمَلي،
1- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1044.
2- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1044.
3- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1044.
4- الروم، 50.
82
66
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
وَحِلْمَكَ عَنْ كَثيرِ جُرْمي، عِنْدَ ما كانَ مِنْ خَطئي وَعَمْدي، اَطْمَعَني في اَنْ اَسْأَلَكَ ما لا اَسْتَوْجِبُهُ مِنْكَ، الَّذي رَزَقْتَني مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَرَيْتَني مَنْ قُدْرَتِكَ، وَعَرَّفْتَني مِنْ اِجابَتِكَ".
ونقرأ في الدعاء: "يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة"1.
3- تجلي الرحمة يوم القيامة: وهي أهم وأبرز تجليات الرحمة التي يتوسمها الإنسان، فيأمل أن يحاسبه الله برحمته لا بعدله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما أنه لا ينجي إلا عملٌ مع رحمة".
تجلي الرحمة في عباده
ولأهمية هذا الصفة الإلهية يريد الله أن يراها متجليةً في عباده فيرحم بعضهم بعضاً وتُنشر الرحمة بين الناس. قال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾2.
وقد تجلت هذه الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ وصفه القرآن
1- مفاتيح الجنان - الدعاء الثامن من الأدعية العامة لشهر رجب
2- الفتح، 29.
83
67
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
الكريم بقوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾1.
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾2.
موجبات الرحمة الإلهية
تعرَّض القرآن الكريم لبعض الموارد التي يستدرُّ الإنسان الرحمة الإلهية والتي منها:
1- طاعة الله والرسول: قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾3.
2- التقوى: قال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾4.
3- القيام بالواجبات: قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾5.
4- الإستغفار: قال تعالى: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾6
5- نشر الرحمة: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أحب أن يرحمني
1- التوبة 128.
2-الأنبياء، 107.
3- آل عمران، 132.
4- الأنعام، 155.
5- النور، 56.
6- النمل، 46.
84
68
المحاضرة الأولى: الرحمة الإلهية
ربي، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إرحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله"1.
6- الصبر عند الشدائد: قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾2
1- كنز العمال، خ 44154.
2- البقرة، 155-157.
85
69
المحاضرة الثانية: تجليات النعم الإلهية
تصدير الموضوع:
مما ورد في دعاء الإفتتاح: "فَكَمْ يا اِلهي مِنْ كُرْبَة قَدْ فَرَّجْتَها وَهُمُوم قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَة قَدْ اَقَلْتَها، وَرَحْمَة قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاء قَدْ فَكَكْتَها"1.
الهدف:
تعزيز العلاقة بالله تعالى من خلال إلفات النظر إلى النعم اللامتناهية التي تحيط بالإنسان والتي كثيراً ما يغفل عنها.
1- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص578.
87
70
المحاضرة الثانية: تجليات النعم الإلهية
مقدمة
أكّد القرآن الكريم أن العطاء الإلهي شمل كل حاجات الإنسان ورغباته، بل وكل ما سأله وطمح إليه بطريقةٍ مشروعة إلى الحد الذي بات من غير المقدور تعداد هذه النعم الإلهية وإحصائها، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1. ويقول في آية أخرى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾2. هذه النعم التي ما زال الإنسان يظلم نفسه إذ يجحدها ويكفر بها.
مظاهر النعم الإلهية
وتتجلى هذه النعم الإلهية بعدة مظاهر في حياة الإنسان، هذه التجليات التي من الطبيعي أن تبقى نصب عينه ومورد شكره لله تعالى، وأهمها:
1- طاعة الله وعبادته: قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ
1- النحل 18.
2- ابراهيم 34
88
71
المحاضرة الثانية: تجليات النعم الإلهية
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾1.
وقال تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾2. والصراط المستقيم هو الإلتزام بعبادة الله لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾3.
2- وجود الإمام المعصوم: وأي نعمة أكبر من وجود نور الولي بين الناس، يستنيرون بعلمه وهداه ويرشدهم سواء السبيل، إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾4. وقد ورد في التفسير عن الإمام الكاظم عليه السلام: "النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب"5.
3- التقوى: أي نعمة الإرتباط بالله الذي يمنع الإنسان من الوقوع في المعصية، وهذه النعمة أهم من نعمة وفرة
1- النساء 69.
2- الفاتحة 5.
3- يس 61.
4- لقمان 20.
5- كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص368.
89
72
المحاضرة الثانية: تجليات النعم الإلهية
المال أو سلامة البدن على أهميتهما، فعن الإمام علي عليه السلام: "إن من النِّعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحَّة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب"1.
4- العافية: أي عافية الدين والدنيا والآخرة، وعافية الإنسان في أهله ووطنه، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق"2.
وعن علي عليه السلام: "إني تذوقت كل الحلاوات فلم أجد أحلى من العافية، وتذوقت كل المرارات فلم أجد أمر من الحاجة إلى الناس"3.
وفي الدعاء: "ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان"4.
5- الرزق: فالله تعالى أنعم على الإنسان من خلال ما أودع هذا الكون من مختلف سبل الرزق ودلّه على حلالها في تشريعاته ليكفل له طيب المأكل وحلاله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾5.
1- نهج البلاغة، ج4، ص94.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2022.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2022.
4- نهج البلاغةـ ج1، ص191.
5- فاطر 3.
90
73
المحاضرة الثانية: تجليات النعم الإلهية
6- الوحي الإلهي: وهو من أكبر النعم التي يعيشها المرء في حياته إن راعى الإلتزام لقواعد التشريع الإلهي، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾1.
7- الإلفة والتآخي بين المؤمنين: وهذه النعمة الإلهية التي نقلت الناس من قبائل متناحرة إلى أمّة رسمت للبشرية كافة سبيل الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾2.
التحدّث بنعمة الله
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
والمراد هنا ليس خصوص الحديث عن النعم التي تصيب المرء في حياته - وإن كان من الواجب على المرء التحدث بها - بل يتعداه إلى كل النعم التي تحيط بهذا الوجود والتي يستحيل على المرء إحصاؤها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
1- البقرة 231.
2- ال عمران 103.
91
74
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
تصدير الموضوع:
"وَيُعَظِّمُ الْنِّعْمَةَ عَلَىَّ فَلا اُجازيهِ، فَكَمْ مِنْ مَوْهِبَة هَنيئَة قَدْ اَعْطاني، وَعَظيمَة مَخُوفَة قَدْ كَفاني، وَبَهْجَة مُونِقَة قَدْ اَراني"1.
الهدف:
التنبيه إل ضرورة المراقبة الدائمة للنعم التي تحيط بالإنسان وكيفية التعاطي معها وعدم الوقوع في الإستدراج والغفلة.
1- مصباح المتهجد، ص579.
93
75
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
مقدمة
من الطبيعي أن على الإنسان المراقب لنفسه وسلوكه تجاه كافة قضايا الحياة أن يتبصر جيداً بالنعم الإلهية التي يغدقها الله تعالى عليه، فيراقب حاله حين ورود النعمة، ويراقب نفسه في كيفية التعاطي مع هذه النعم إيجاباً أو سلباً، ويراقب إنقطاع هذه النعم وزوالها عنه أو استمرارها وعدم إنقطاعها، لأن في ذلك قراءة دقيقة لحال الإنسان وقربه أو بعده من الله ودرجته التي هو عليها.
معنى الإستدراج
قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾1.
ويعرّف الإمام الحسين عليه السلام الإستدراج بقوله: "الاستدراج من الله سبحانه لعبده أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر"2.
وبنفس المعنى عنه عليه السلام - لما سئل عن الاستدراج: "هو العبد يذنب الذنب، فيملى له ويُجدِّد له عندها النعم،
1- ال عمران 178.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص3316.
94
76
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم"1.
فمن هنا وجب على المرء أن يراقب نفسه جيداً كيف يتعاطى مع سيل النعم التي يفيضها الله عليه، ويحذر عاقبة عمله إن لم يحسن التعامل مع هذه النعم، فعن الإمام علي عليه السلام: "يا بن آدم ! إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره"2.
الغفلة عن النعم
فالنعمة من الله في جوهرها إمتحان إلهي لإيمان المرء ليرى الله حسن صنيع الإنسان مع نعمائه أو غفلته عنها، فعن الإمام علي عليه السلام: "من كان في النعمة جهل قدر البلية"3.
ويحذرنا عليه السلام من هذه الغفلة التي قد تصل إلى حد السكر، أي إلى الحد الذي لا يبقى معه أثر لعمل العقل فيقول عليه السلام: "اتقوا سكرات النعمة، واحذروا بوائق النقمة"4.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين لنا النعم التي قلّما يلتفت إليها المرء فيدعوه إلى الإلتفات إليه
1- ميزان الحكمة، ج4، ص3316.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص3315.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص3311.
4- نهج البلاغة، ج2، ص37.
95
77
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
المرء فيدعوه الى الالتفات اليها قائلاً: "نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس: الفراغ والصحة"1.
ومن هنا فإننا نقرأ مع الإمام علي عليه السلام دعائه: "نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة"2.
وإنما تتحول هذه النعمة ندامةً بعد الموت لأنها تشهد على صاحبها أنه ضيّعها ولم يحسن صحبتها، فعن الإمام علي عليه السلام: "أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها"3.
كفران النعم
1- الغفلة عن العون الإلهي: أو بكلمةٍ أصح عدم الرجوع إلى الله إلا في ساعات الشدّة والمحنة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4.
1- ميزان الحكمة، ج4، ص3311.
2- نهج البلاغة، ج1، ص111.
3- وسائل الشيعة، ج16، ص328.
4- يونس 12.
96
78
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
2- تبدل الإيمان بالكفر: فالله إذا رأى من عبده تبدل حسناته بالسيئات وتبدل طاعته بمعصيته فإن الله يرحم هذا العبد بزوال النعمة عنه حتى لا ترهقه النعم بكثرة الذنوب والإبتعاد عن الله تعالى، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1.
3- بذلها في المعصية: وأقل الواجب أن لا يعمد المرء إلى هذه النعمة فيتصرف بها في الحرام ناسياً الرحمة الإلهية التي أفاضت عليه هذه النعم، فعن الإمام الصادق عليه السلام: إن أردت أن يختم بخير عملك حتى تقبض وأنت في أفضل الأعمال، فعظم لله حقه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه2
عن الإمام علي عليه السلام: "أقل ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه"3.
4- قصر النظر على النعم المادية: دون الإلتفات إلى حاجات الناس ومعاناتهم أو دون النظر إلى ما ينفع المجتمع بشكلٍ عام، والإقتصار في بذلها على الملذات الخاصة والآنية،
1- الانفال 53.
2- عيون اخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج1، ص7.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1484.
97
79
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم ير الله عز وجل عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو ملبس فقد قصر عمله ودنا عذابه"1.
ما يوجب بقاء النعم
الإيمان والتقوى: قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾3.
وعن علي عليه السلام: "استتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته"4.
بذل النعم للناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله عباداً اختصهم بالنعم، يقرها فيهم ما بذلوها للناس، فإذا منعوها
1- الكافي، ج2، ص316.
2- الاعراف 96.
3- المائدة 66.
4- نهج البلاغة، ج2، ص128.
98
80
المحاضرة الثالثة : حسن التعامل مع النعم الإلهية
حولها منهم إلى غيرهم"1.
عنه عليه السلام: "من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال والفناء"2.
شكر النعم: قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾3.
وما أروع هذه المعادلة التي يعلمنا الله إياها، فكلّما شكر المرء ربه على نعمائه كلّما زاد الله في عطائه، ويبقى هذا العطاء دافقاً ما دام المرء شاكراً. وعن الإمام الهادي عليه السلام:
"إِلقَوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها، واعلموا أن النفس أقبل شئ لما أعطيت، وأمنع شئ لما منعت"4.
التواضع: وهو مما يزين الإنسان الذي منحه الله النعمة ويزيد من جماله الروحي بين يدي ربه عندما لا تخرجه النعمة إلى البطر والتخلي عن مكارم الأخلاق، فعن الإمام علي عليه السلام: "بالتواضع تتم النعمة"5.
1- ميزان الحكمة، ج4، ص3313.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص3313.
3- ابراهيم 7.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص3312.
5- ميزان الحكمة، ج4، ص3318.
99
81
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
تصدير الموضوع:
وقال تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
الهدف:
عرض بعض الآيات التي تعرض لها الله تعالى في كتابه للفت نظر الإنسان إليها وإلى الله تعالى من خلالها.
101
82
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
مقدمة
إن الله - وتفضلاً منه ورحمة - أودع هذا الكون ما لا يعد ولا يحصى من الآيات والتي أحاطت بالإنسان من كل جانب، وذلك لتبقى علاقة الإنسان بربه قويه وصلته به أكيدة وتذكره له لا يهدأ، وأشار القرآن الكريم إلى كثيرٍ من الآيات التي قلّما يلتفت إليها الإنسان في مسيرة حياته، فجاء هذا النداء الإلهي لينبهه من غفلته ويوقظه من سباته ويرده إلى الجادة التي أرادها الله له.
الآفاق والأنفس: قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1.
الفلك والأنهار: قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ﴾2. وتسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم. وعليه فالله تعالى جعل آياته في خدمة الإنسان كي لا يغيب الله تعالى عن قلبه أبداً.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾3.
1- فصلت، 53.
2- ابراهيم 32.
3- الشورى، 32.
102
83
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
الكواكب والليل والنهار: قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾1.
قوله تعالى: ﴿َمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾2. فماذا لو كانت الحياة كلها ليل أو كلها نهار، ألا تصبح حياة الإنسان جحيماً يتمنى الموت معها.
مراحل خلق الإنسان: قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾3.
وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾4. وهذه المراحل من أشد آيات الله تعقيداً، فالإنسان إلى يومنا هذا لم يكتشف كافة أسرار نشوؤه وتطوره وتكامله.
الحياة بعد الموت: قال تعالى: ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا
1- النحل 12.
2- الروم، 23.
3- غافر 67.
4- الروم، 20.
103
84
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾1.. وقال تعالى: ﴿وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾3.
البرق والمطر: قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾4. وهذه الآية كذلك مسخرةً لخدمة الإنسان.
السكن إلى الأزواج: قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
والآية هذه تلبي حاجة ضرورية ونزعة فطرية فطر الله الإنسان عليها، وهي حاجته إلى السكينة والراحة والإستقرار النفسي.
1- الحديد 17.
2- الرعد 4.
3- فصلت، 39.
4- الروم، 24.
5- الروم، 21.
104
85
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾1.
الخروج إلى الحشر: قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ﴾3.
الرياح: قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾4.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾5. ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾6.
ضعف الإنسان وعجزه: قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن
1- الروم، 22.
2- الروم، 25.
3- الشورى 29.
4- الروم 46.
5- فصلت، 37.
6- فصلت، 38.
105
86
المحاضرة الرابعة: آيات الله في الوجود
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير* وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾1. ومن هنا نجد أن الله أسبغ في هذا الوجود آياته وأفاض على الإنسان من هذه لآيات ما يعينه ودلّه عليها وذكّره بها كي لا يغفل عنها حتى تبقى صلته به وثيقة وعلاقته به محكمة راسخة.
1- الشورى، 30-31.
106
87
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1.
الهدف:
الإطلالة على مفهوم الشفاعة من خلال بعض الآيات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وبيان المعنى الشرعي لها.
1- البقرة، 254.
107
88
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
مقدمة
كثيرةٌ هي الآيات التي تحدثت عن الشفاعة في القرآن الكريم سواءً إثباتاً أو نفياً أو مقيدةً مما يكشف أن هناك معنىً دقيقاً جامعاً لهذه الآيات ويشكل تفسيراً موحداً لهذه الإستعمالات المتفاوتة في الظاهر المتحدة في المعنى والدلالة، هذا التفسير الذي من الضروري على كل مسلم فهمه والإعتقاد به والإيمان بتأثيراته على حياته سواء في الدار الدنيا أو في الدار الآخرة.
تعريف الشفاعة:
عُرِّفت الشفاعة بأنها "السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقعت الجناية في حقه"1.
آيات الشفاعة
ويمكن تصنيف ايات الشفاعة الى ثلاثة اصناف: آيات انكار الشفاعة، آيات انكار شفاعة غير الله وآيات اثبات الشفاعة.
1- راجع التعريفات للجرجاني، ص56.
108
89
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
1- آيات انكار الشفاعة: وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾1.
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾3.
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ *وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾4.
وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾5.
2- انكار شفاعة غير الله: ثمة آيات في القرآن الكريم تنكر كل شفيع سوى الله:
قال تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾6
1- الدخان، 41.
2- الإنفطار، 19.
3- الأنعام، 94.
4- الروم، 12-13.
5- البقرة، 48.
6- الانعام 70.
109
90
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ...﴾1
يقول القرآن إِن قول هؤلا يكون صحيحا لو أَن الأَصنام كانت قادرة على أن تنفع او تضر وهي ليست كذلك بالطبع.
قال تعالى:...﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾2.
قال تعالى: ﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ﴾3.
قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾4.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾5.
فالشفاعة لله جميعا وليس المالك الحقيقي لكل شي سوى الله، له القدرة الكاملة والملك والسلطان على جميع السموات والارض.
1- يونس 18.
2- الزمر، 43.
3- يس، 23.
4- الأنعام، 51.
5- السجدة، 4.
110
91
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
3- آيات اثبات الشفاعة: بالاضافة الى الشفاعة الالهية، يشير القرآن الكريم الى شفاعة غيره، فهو يقول:
قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾1.
وقال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾2.
وقال تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)3.
يقول العلامة الطباطبائي: ان قوله: "فما لنا من شافعين"، اشارة الى ان هناك شافعين في ذلك اليوم، والا فليس ثمة ما يقتضي ذكر الشافع وبلفظ الجمع، وكان الأَولى أَن يقول: لا شافع لنا، بمثلما قال: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين"، ويقول ايضا: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إِلا من شهد بالحق و هم يعلمون"4 .
وقال تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾5 .
وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ
1- يونس، 3.
2- البقرة، 255.
3- الشعراء، 101.
4- الزخرف، 86.
5- مريم، 78.
111
92
المحاضرة الخامسة: الشفاعة في القران الكريم
لَهُ قَوْلًا﴾1.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾3.
النتيجة هي ان شفاعة غير الله موجودة يوم القيامة، ولكنها لا تكون الا بعد ان ياذن الله بذلك لأنه المالك الحقيقي لهذه الشفاعة وهو الذي يمنحها لمن يشاء من عباده.
1- طه، 109.
2- سبأ، 23.
3- النجم، 26.
112
93
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾1.
الهدف:
بيان أنواع الشفاعة والشفعاء والذين يستحقون الشفاعة وبعض شرائطها كما ورد في النصوص الشريفة.
1- الزمر، 44.
113
94
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
مقدمة
لا شك أن الشفاعة ليست أمراً عشوائياً يحظى به بعض الناس عن طريق الصدفة أو الخطأ أو ما شاكل، بل هي من المفاهيم الدقيقة التي تحدثت عنها النصوص وبيّنت أنواعها وصفات الشفعاء وأحوالهم والأمور التي تشفع للمرء كما بيّنت خصائص المشفوع لهم وشرائط سريان هذه الشفاعة وقبولها عند الله، لما لهذا المفهوم من علاقة مباشرة بالعدل والرحمة والمغفرة الإلهية، والتي لا يمكن تصورها في ذات الله جزافاً.
أنواع الشفاعة: تقسم الشفاعة الصحيحة الى نوعين: الشفاعة التكوينية، والشفاعة التشريعية.
1- الشفاعة التكوينية: ثمة آيات من القرآن الكريم تحكي عن هذا النوع من الشفاعة:
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾1.
ان المقصود بالشفيع في الآية هو العلل والاسباب الطبيعية.
1- السجدة، 4.
114
95
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
فما من علة أَو سبب يمكن أن يكون مؤثرا من دون إِرادة الله الحكيمة ومن دون الإستعانة بقدرته غيرالمتناهية.
2- الشفاعة التشريعية: إن الله تعالى، على علّو مقامه، قد تفضل علينا بتشريع الدين لنا وإرسال الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين في إبلاغ دينه ليتم الحجة علينا. لذلك فهذه الأسباب والوسطاء هي وسائل للشفاعة، كما جاء في الآيات التاليات:
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾1.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾3.
قال تعالى: ﴿َوَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾4.
هذه الآيات تشير الى موضوع الشفاعة
1- طه، 109.
2- الزخرف، 86.
3- سبأ، 23.
4- النجم، 26.
115
96
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
وتشفع عدد من عباد الله بشرط ان يأذن الله لهم.
والشفاعة التشريعية على قسمين اثنين:
الاول: تلك الشفاعة التي يحصل اثرها في هذه الدنيا، كقول أبناء يعقوب لأبيهم: ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا... * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ﴾1. . مما يستتبع غفران الله تعالى، او التقرب من أعتابه.
إن القرآن الكريم يعد من الشفعاء في الدنيا، لأَن شفاعته تؤدى الى هداية الشخص والتوسط له في بلوغ مراتب اعلى: قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾2. .
الثاني: تلك الشفاعة التي تتحقق في الآخرة. إِن الاعمال التي يرتكبها الإِنسان في الدنيا، والعلائق المعنوية التي تربط بين الناس في هذه الدنيا، تظهر ظهوراً عينياً في الدار الآخرة. اذا ما قام امرؤ بهداية شخص ما أَو بتضليله، تظهر هذه العلاقة ظهورا عيانيا يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾3.
إن حملة العرش يعلمون أن رحمة الله واسعة، فيسألونه أن
1- يوسف، 97-98.
2- الإسراء، 9.
3- الإسراء، 71.
116
97
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
يسبغَ بعض رحمته، التي تشمل غفران الذنوب والوقاية من النار، على من يستحقونها من عباده:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾1.
المحرومون من الشفاعة
المستخفّون بالدين: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا﴾2.
والآية تشير الى حال الكافرين الذين يجعلون الدين وسيلة للهو واللعب، ويغترون بالحياة الدنيا. وتلك هي حال اهل النار الذين، قال تعالى: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾3.
إِن الإِنغماس في اللهو واللعب في الحياة يمنع المرء من التفكير في الآخرة.
1- المؤمن، 7.
2- الأعراف، 51-52.
3- المدثر، 40-48.
117
98
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
المجرمون: قال تعالى: ﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * َمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾1.
الظالمون: يقول تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾2.
الشفعاء في النصوص
عن علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله تعالى فيشفعون الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"3.
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة"4.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: "الشفعاء خمسة القرآن والرحم والأمانة ونبيّكم وأهل بيته"5.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد فإذا وقف بين يدي الله عز ذكره قيل للعبد انطلق إلى الجنّة وقيل للعالم قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم"6.
1- الشعراء، 99-101.
2- المؤمن، 18.
3- الخصال، الصدوق، ص156.
4- الخصال، الصدوق، ص624.
5- مكيال المكارم، الميررا الاصفهاني، ج1، ص313.
6- علل الشرائع، الصدوق، ج2/ ص294.
118
99
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
وقد جاء في أحاديث أخرى أن شهر رمضان يشفع وكذا بعض الأعمال تتجسد يوم القيامة كإدخال السرور على قلب المؤمن وغيرها وتشفع للإنسان في عرصات وظلمات القيامة ومن الشفعاء السقط كما جاء في الروايات يقف على باب الجنة فيقال له ادخل فيقول لا حتى يدخل أبواي.
شفاعة رسول الله
فكما أن هناك شفاعة عامة كذلك هناك شفاعة خاصة لبعض الأمة كما جاء في بشارة المصطفى، إلا أن هذه الشفاعة مشروطة بالإعتقاد بها، فعن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي"1.
وورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾، هي الشفاعة2.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من أمتي فيشفّعني الله فيهم"3.
1- الامالي، الصدوق، ص56.
2- مغني المحتاج، ج1،ص 141.
3- الامالي، الصدوق، ص270.
119
100
المحاضرة السادسة: أنواع الشفاعة وشرائطها
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"1.
وعن الإمام الباقر في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ "الشفاعة والله الشفاعة، والله الشفاعة"2.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة المكرم لذريتي والقاضي لهم حوائجهم والساعي في أمورهم ما اضطروا إليه والمحب لهم بقلبه ولسانه"3.
1- بحار الانوار، ج8، ص 30.
2- تفسير الميران، الطباطبائي، ج1، ص176.
3- الامالي، الطوسي، ص279.
120
101
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾1.
الهدف:
بيان مصاديق التعامل بأذى التي ينبغي على المؤمن الإحتراز عنها في تعامله مع إخوانه المؤمنين بل وعموم الناس.
1- الاحزاب 58.
121
102
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
مقدمة
حرصت الشريعة على إظهار المؤمن بصورة المتسامح الودود الذي لا يضمر ضغينة أو حقداً على أي من المخلوقات أو الأشياء، وأن يتميز بشخصيةٍ إنسانيةٍ رقيقة لا تتجرأ على الإقدام على أي أمرٍ من شأنه أن يدخل الأذى أو الإهانة على أخيه، بل يتصرف من خلال احترامه لنفسه واحترامه للآخرين ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "فازوا والله الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر"1.
وسنستعرض بعض مفردات الأذى التي ورد النهي عنها في النصوص المقدسة:
1- الإيذاء
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من آذى مؤمنا فقد آذاني"2. ودلالة الحديث في اعتبار أن كرامة المؤمن وعزته من كرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضحة، وبالتالي فإن الإستخفاف بها استهتار بكرامة
1- ميزان الحكمة، ج1، ص66.
2- مستند الشيعة، المحقق النراقي، ج14، ص159.
122
103
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعدٍ على الذات المقدسة ولذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: قال الله عز وجل: "ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن"1.
2- الترويع
بمعنى التخويف وإدخال الرعب إلى قلب الآخر، فعن الإمام علي عليه السلام: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما"2 . ولا يخفى أن الترويع هنا ليس ناظراً إلى حالات شهر السلاح والتهديد بالقتل مثلاً فإن ذلك له حكمه الخاص كما سيأتي.
3- نظرة إخافة
ومن مفردات الأذى التي قد تصدر عن المؤمن أحياناً دون أن يوليها اهتماماً نظرة الإخافة للغير والتي توعد الله عليها بالعذاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله"3.
4- الإهانة
كاستعمال الألفاظ الجارحة أو بعض الكلمات النابية التي ينبغي للمؤمن الترفع عنها، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله
1- الكافي، ج2، ص350.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص66.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص66.
123
104
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
تبارك وتعالى يقول: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي".
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أذل الناس من أهان الناس"1. لأن الذي يهين الناس لا يشعر بإنسانيتهم وبالتالي فهو لا يشعر بإنسانية نفسه ويكفيه ذلك ذلاً.
5- الإحزان
وذلك بتفويت أمر يفرح المؤمن أو التعرض له أو لمحبيه بالإساءة أو ما شابه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحزن مؤمنا ثم أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفارته ولم يؤجر عليه"2.
6- تحقير المؤمن
وذلك من خلال التعالي عليه وتصغيره والحط من شأنه فقد ورد أن لقمان عليه السلام قال لابنه: "يا بني لا تحقرن أحدا بخلقان ثيابه، فإن ربك وربه واحد"3.
ويعلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحكم بقوله: "لا يزرأَنّ أحدكم بأحد من خلق الله فإنه لا يدري أيهم ولي الله"4.
1- الامالي، الشيخ الصدوق، ص73.
2- الكافي، ج2، ص548.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
4- وسائل الشيعة، ج15، ص313.
124
105
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من حقر مؤمنا مسكينا لم يزل الله، له حاقرا ماقتا حتى يرجع عن محقرته إياه"1.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسب ابن آدم من الشر أن يحقر أخاه المسلم"2.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تحقرن أحدا من المسلمين، فإن صغيرهم عند الله كبير"3.
7- إذلال المؤمن
بالحط من شأنه أو فضحه فيما خفي عن الآخرين أو التضييق عليه وما شابه، فعن علي عليه السلام: "قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن"4.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استذل مؤمنا أو مؤمنة، أو حقره لفقره أو قلة ذات يده، شهّره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه"5.
8- سباب المؤمن
قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ
1- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
4- الكافي، ج2، ص350.
5- روضة الواعظين، النيسابوري، ص454.
125
106
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام لما رآى رجلين يتسابان: "البادي أظلم ووزره، ووزر صاحبه عليه ما لم يعتدِ المظلوم"2.
وفي رواية عن عياض بن حماد: قلت: "يا رسول الله! صلى الله عليك، الرجل من قومي يسبني وهو دوني فهل علي بأس أن أنتصر منه؟ فقال: المتسابان شيطانان يتعاويان ويتهاتران"3.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب والديه؟ ! قال: يسب الرجل فيسب أباه وأمه"4.
وللسباب مصاديق كثيرة منها:
سبّ المؤمن: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر وأكل لحمه من معصية الله"5.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة"6.
1- الانعام 108.
2- الكافي، ج2، ص322.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1237.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1237.
5- الكافي، ج2، ص360.
6- ميزان الحكمة، ج2، ص1236.
126
107
المحاضرة السابعة: أذى المؤمنين (1)
سبّ الأعداء: عن الإمام علي عليه السلام لما سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام: "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم"1.
سب الأشياء والمخلوقات والأزمنة: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسبوا الرياح فإنها مأمورة، ولا تسبوا الجبال ولا الساعات ولا الأيام ولا الليالي فتأثموا وترجع عليكم"2.
سبّ الناس: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسبوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم"3.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص1236.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1236.
3- الكافي، ج2، ص360.
127
108
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
تصدير الموضوع:
في المروي عن أهل بيت العصمة عليهم السلام إن المحارب هو كل من شهر السلاح وأخاف الطريق، سواء كان في المصر أو خارج المصر1.
الهدف:
تكملة مصاديق التعامل بأذى التي ينبغي على المؤمن لإحتراز عنها في تعامله مع إخوانه المؤمنين بل وعموم الناس.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص573.
129
109
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
مقدمة
إن أذى الناس لا سيما المؤمنين منهم من أشد الأمراض الأخلاقية والخصال السيئة التي قد تصيب أي إنسان، وذلك لأن هذا الخلق السيء لا يرتدُّ سلباً على خصوص الفرد نفسه بل له إنعكاساته العامة التي تصيب المجتمع وتعمل فيه تفسخاً وتمزيقاً فتسلب منه روح التضامن وتنزع منه الإلفة والمحبة ليحل مكانها البغض والشحناء، وهذا مما يضاعف الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
1- السخرية
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1.
واعتبر القرآن الكريم أن السخرية والإستهزاء من الصفات الملازمة لأهل النفاق، قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ
1- الحجرات 11.
130
110
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ﴾1.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بن مسعود ! إنهم ليعيبون على من يقتدي بسنتي فرائض الله، قال الله تعالى: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾"2.
ويكفي من آثار السخرية ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يطمعن المستهزئ بالناس في صدق المودة"3.
2- التعيير
وهو من أشد أنواع الأذى حتى أن الله توعد صاحبه بالعار في الدنيا قبل الآخرة لما يشتمل على التوهين وإظهار المؤمن بأقبح صورة أو قل بسلب صورة الإيمان عنه، فعن نبي الله الخضر عليه السلام في وصيته لموسى عليه السلام: يا بن عمران! لا تعيرن أحدا بخطيئة، وابك على خطيئتك4.
وليكن نصب أعيننا إذا رأى أحدنا زلةً من أخيه أن الله قد يبتلينا بما ابتلى به أخانا المؤمن فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
1- البقرة 14.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1247.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1247.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
131
111
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
"من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله"1.
وعن الإمام علي عليه السلام: "من عير بشئ بلي به"2.
واعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن التعيير كمن يرتكب الخطيئة من جديد فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عير مؤمنا بشئ لم يمت حتى يركبه"3.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى ابتلى أيوب عليه السلام بلا ذنب، فصبر حتى عير، وإن الأنبياء لا يصبرون على التعيير"4.
ومن أروع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إذا زنت خادم أحدكم فليجلدها الحد ولا يعيرها5.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن عيرك أخوك المسلم بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، يكون لك أجرا وعليه إثم"6.
3- التوبيخ
وهو استخدام عبارة قاسية ومشينة أو نعت الآخر بأوصاف
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
6- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
132
112
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
6- شهر السلاح
وهذا اللون من أذى الآخرين يشتد حكمه عند الله تعالى كونه مظهراً من مظاهر الفساد وهو ما ينافي حقيقة التدين والإلتزام، وإنما شدد القرآن الكريم في العقوبة على مثل هذه التصرفات لأنها في الواقع تفقد المجتمع أمنه وأمانه وتهدد سلمه واستقراره وتنشر القلق والتوتر في نفوس الناس، ولا يخفى ما لذلك من تبعات وآثار نفسية واجتماعية كبرى لا يمكن للشارع السكوت عنها أو التسامح فيها. قال تعالى: ﴿إِنَّمَاَ جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾1.
عنه عليه السلام: "من حمل السلاح بالليل فهو محارب، إلا أن يكون رجلا ليس من أهل الريبة"2.
قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَ..﴾: "من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل وظهر عليه وقدر......"3.
1- المائدة 33.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص120.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص574.
134
113
المحاضرة الثامنة: أذى المؤمنين (2)
وما أحوج مجتمعاتنا اليوم للترقي عن هذه التصرفات اللامسؤولة التي تزيد من تخلف المجتمع وبقائه في الحضيض.
7- الإضرار بأملاك الغير
ويختلف الحكم هنا باختلاف حجم الضرر الذي يلحقه بأملاك الغير، وقد يكبر الجرم إلى اعتبار صاحبه مفسداً في الأرض، ويحكم عليه بأشد العقوبات، فعن الإمام علي عليه السلام وقد قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم، فاحترقت واحترق متاعهم: يغرم قيمة الدار وما فيها، ثم يقتل1.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص572.
135
114
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾1.
الهدف:
حثّ الناس على جعل صفة الصدق من أبرز السمات التي لا ينبغي أن تفارق شخصية الإنسان المؤمن.
1- التوبة 119.
137
115
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
مقدمة
مدحت الشريعة فضيلة الصدق مدحاً بالغاً فقد ورد في مضامين الأحاديث أنه أقوى دعائم الإيمان وعز الإنسان وأخو العدل وزينة الحديث ورأس الدين وأمانة اللسان وحلية الإيمان ، وتحدثنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن السمة الأبرز التي اشتهر بها قبل النبوة والتي كانت إحدى أكبر ركائز الجذب في شخصيته هي صدق الحديث وهذا الأمر إنما يدل على استبطان هذه الفضيلة للكثير من مكارم الأخلاق التي يتمتع بها الإنسان الصادق.
مقام الصدق
ويكفي في مقام الصدق أن الله أشار إلى هذه الصفة في ذاته وأكّد على اتصاف أنبيائه ورسله وأوليائه بها، فقد قال تعالى مبيناً هذه الصفة في نفسه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾1.
1- النساء 122.
138
116
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
ويشير الإمام الصادق عليه السلام أنها صفة ملازمة للأنبياء فيقول: "إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث، وأداء الأمانة"1.
وأما اتصاف الأئمة الأطهار بها فيكفي ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام مستغرباً أن تنحرف الأمة عن جادة الصواب ويستنكر عليها جموحها إلى التيه والضلال فيقول: "كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم ! وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق"2.
ويرفع علي عليه السلام مقام الصدق إلى مقام الولاية في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ﴾، قال عليه السلام: "الصدق ولايتنا أهل البيت"3.
ولعله إلى ذلك أشارت الآيات التي التي تحدثت عن مقام الصدق الذي يطلبه الإنسان من الله، قال تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾4 ، أو يمنحه الله للإنسان كما قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾5.
1- الكافي، ج2، ص104.
2- نهج البلاغة، ج1، ص154.
3- الأمالي للطوسي، ج1، ص414.
4- الشعراء 84.
5- مريم 50.
139
117
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
بركات الصدق
أقرب الأعمال إلى الله: عن جابر بن سمرة عن أبيه قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، ما أقرب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة"1.
1- علامة المتقين: عن علي عليه السلام: "إن لاهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وقلة الفخر والبخل وصلة الأرحام.. "2.
2- باب إلى الجنة: لأن الصدق يحجب المرء عن اقتراف المعاصي ويلزمه جادة التقوى والصلاح، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالصدق، فإنّه باب من أبواب الجنّة"3.
3- تأييد الله: وهذا من خفي الألطاف التي قلّما يتحسسها الإنسان في يوميّاته، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "ألا فاصدقوا، فإن الله مع من صدق"4.
4- زكاة الأعمال: لأن الإنسان بصدقه يصبح أسوةً وقدوةً لغيره في نشر الصدق بين الناس، فعن الإمام
1- امتاع الاسماع، المقريزي، ج11، ص142.
2- الخصال، الشيخ الصدوق، ص483.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
140
118
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
الصادق عليه السلام: "من صدق لسانه زكى عمله"1.
5- نجاة الإنسان: فكثيراً ما يهلك المرء عدم صدقه فيوقعه في المهالك، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صدق الله نجا"2.
6- علامة اختبار الإيمان: عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"3.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"4.
7- الصدق خير من المال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيها الناس: إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عترته (عشيرته)، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم... ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يرثه غيره"5.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص104.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص104.
5- نهج البلاغة، ج1، ص62.
141
119
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
مقام الصادقين
1- أكرم الناس: عن الإمام علي عليه السلام لما سئل عن أكرم الناس: قال عليه السلام "من صدق في المواطن"1. أي ثبت وصمد في الحرب.
2- خير من الصدق: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أحسن من الصدق قائله، وخير من الخير فاعله"2. لأن فاعل الخير ينشر الخير دائماً ويسنّ سنّة نشر الخير.
3- زينة المؤمن: الإمام الباقر عليه السلام: "تزين لله عز وجل بالصدق في الأعمال"3. أي إخلاص النية لله تعالى.
الوفاء قرين الصدق
وقال عليه السلام: "خير مفاتيح الاُمور الصدق، وخير خواتيمها الوفاء"4.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود،
1- الامالي، الشيخ الصدوق، ص479.
2- وسائل الشيعة، ج16، ص292.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1573.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص844.
142
120
المحاضرة التاسعة: مقام الصدق والصادقين
ولا في الصدق إلا مع الوفاء ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة ولا في الوطن إلا مع الامن والمسرة"1.
ومن خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: "إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه وما يغدر من علم كيف المرجع"2.
1- من يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص369.
2- نهج البلاغة، ج1، ص92.
143
121
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾1.
الهدف: بيان ما لفضيلة الصدق ورذيلة الكذب من تأثيرات مهمة وخطيرة على حياة الإنسان الشخصية والإجتماعية.
1- الأحزاب، 23.
145
122
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
مقدمة
إن الصدق هو علامة وفضيلة المؤمن البارزة، إذ تراه يصدق مع نفسه، ويصدق مع ربه، ويصدق مع الناس.. والصدق بالنسبة إليه جزءٌ لا يتجزّأ من صميم وجوده وكيانه، فلا يعيش الازدواجية والنفاق والثنائية, فما يقوله هو ما يؤمن به، وما يفعله هو ما يؤمن به، وما يؤمن به يقوله ويفعله. وليست هناك أيّة مسافة بينه وبين الواقع الخارجي. فما يقوله للآخرين هو نفسه الذي يقوله لربه، وما يفعله هو الذي يرتاح إليه ضميره في الدنيا، ولن يخجل منه لدى لقائه ربَّه في يوم القيامة. فتراه يعيش في داخله حالةً رائعة من الإِستواء والإِستقرار والتوازن والاطمئنان.
بين الصدق والكذب
1- أثرهما على الشخص نفسه: فالصدق يجعل علاقة الإنسان بالآخرين أكثر راحةً واستقراراً كما أن الكذب يربك حياة المرء ويقلقها فيصبح الآخر مرآةً يرى نفسه فيها، فعن
146
123
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أشد الناس تصديقاً للناس أصدقهم حديثاً، وإن أشد الناس تكذيباً أكذبهم حديثاً"1.
2- إرتباطهما بحقيقة الإيمان: الإمام علي عليه السلام: "الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك"2.
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، قال: "أربع من كن فيه كمل إيمانه، و إن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك، وهي الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق"3.
3- تأثيرهما على عاقبة المرء: الإمام علي عليه السلام: "الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة ومهانة".
وعنه عليه السلام: "الصدق ينجيك وإن خفته، الكذب يرديك وإن أمنته"4.
وهذه الأحاديث تشير إلى عاقبة المرء في الدنيا كما هو ظاهرها.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص1573.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
3- الأمالي للطوسي، ص48.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
147
124
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
4- أثرهما على الأعمال: فالصدق يضفي جمالاً على أي عمل مهما رآه الآخرون قبيحاً، والكذب يسلب أي عملٍ جماله مهما رآه الآخرون جميلاً، فعن الإمام علي عليه السلام: "الصدق صلاح كل شئ، الكذب فساد كل شئ"1.
5- أثرهما النفسي على الإنسان: فالصدق صفة أساسية في راحة الإنسان المؤمن، وهي تشمل جميع أبعاد حياته تقريباً، وهو إذا ما عاش هذه الحالة الإيجابية عاش راحة نفسية. في حين إن المدمن على الكذب من شأنه الخوف من ذياع حقيقته ونفاقه الخفيين، فلا يجد لنفسه راحة أو استقرار.
عن الإمام علي عليه السلام: "إن الصادق لمكرم جليل، وإن الكاذب لمهان ذليل"2.
وعنه عليه السلام: الصدق أمانة، الكذب خيانة3.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدق مبارك، والكذب مشؤوم"4.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص1572.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1573.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1573.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1573.
148
125
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
أثرهما على آخرة الإنسان: عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الصدق برّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ العبد ليتحرّى الصدق حتى يكتب عند اللّه صدّيق, وإنّ الكذب فجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ العبد ليتحرّى الكذب حتى يكتب كذاباً"1.
مستثنيات الصدق
وحدد الشارع بعض العناوين التي يمكن للمرء أن لا يصدق بها لترتب بعض المفاسد على صدقه أو ترتب بعض المصالح الأهم من الكذب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث يقبح فيهن الصدق: النميمة، وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه، وتكذيبك الرجل عن الخبر"2.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أيُّما مسلم سُئِل عن مسلم فصدق وأدخل على ذلك المسلم مضرة كتب من الكاذبين، ومن سئل عن مسلم فكذب فأدخل على ذلك المسلم منفعة كتب عند الله من الصادقين"3.
1- رسائل ومقالات، الشيخ السبحاني، ص122.
2- وسائل الشيعة، ج12، ص252.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1574.
149
126
المحاضرة العاشرة:الصدق والكذب وآثارهما على حياة الإنسان
استماع الكذب
وإنما كانت من صفات المؤمنين في الجنة لأنهم كانوا لا يسمعون كذباً في الدنيا، قال تعالى: ﴿لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام لما سئل عن القصاص أيحل الاستماع لهم؟ قال: "لا"، وقال عليه السلام: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس"2.
ولذلك نقرأ إعراض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكاذب فقد ورد في الحديث: "ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الكذب وما إطّلع منه على شيءٍ من أصحابه فيبخل له من نفسه (أي يعرض عنه) حتى يعلم أنه أحدث توبة"3.
1- النبأ 35.
2- الكافي، ج6، ص424.
3- الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص378.
150
127
المحاضرة الأولى: حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾1
الهدف:
التعريف بالحقوق التي فرضها علينا الإسلام تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والتي يعتبر عدم التحلي بها خروجاً عن الدين.
1- الاحزاب 6.
153
128
المحاضرة الأولى: حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مقدمة
عند الحديث عن حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الموضوع ليس ناظراً إلى الإعجاب بشخصه أو جميل أخلاقه أو التغني بإنجازاته أو أن نختزن لهذا الإنسان العظيم الإحترام والتقدير، بل إِن حق النبي أمرٌ أبعد من ذلك ويرتبط بعلاقة الإنسان بربه وخالقه التي يمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح هذه العلاقة وسبيلها ونورها التي من دونه لا يمكن للإنسان أن يهتدي معالم الطريق الأكمل إلى الله تعالى.
طاعته: وهي من الأمور التي ورد التأكيد عليها في كتاب الله، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾1. فطاعته سبيل إلى طاعة الله تعالى.
وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
1- النساء، 80.
2- الحشر، 7.
154
129
المحاضرة الأولى: حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾1 وهذه الآية واضحة في أن التسليم لقضاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه شرط في تحقق الإيمان، وليس للمسلم خيار بعد رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾2. فشرط الإيمان ليس مجرد القبول بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما عدم الإحساس بأي حرجٍ أو ضيق تجاه حكمه.
محبته: ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مسألة المحبة ترتبط إرتباطاً مباشراً بمشاعر المرء وأحاسيسه التي أراد الله سبحانه أن تبقى نقية طاهرة تساهم في سلامة الفطرة ومنشأ لسلامة السلوك والفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبني فقد أحب الله ومن أبغضني فقد أبغض الله"3.
وفي حديثٍ آخر: "أخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيد الحسن والحسين
1- الأحزاب، 36.
2- النساء 65.
3- كشف الغطاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج1، ص17.
155
130
المحاضرة الأولى: حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: مَنْ أحبّني وأحبّ هذين، وأباهما، وأُمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة"1.
الصلاة عليه: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾2.
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على محمد وأله، فإنها تهدم الذنوب هدما"3.
وفي الروايات ما يؤكد ما للصلاة على النبي من أثرٍ بالغ في قبول الأعمال واستجابة الدعاء وإزالة الهموم وتنوير القلب واستحبابها المطلق في الذكر بشكلٍ عام.
مودة أهل بيته: قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾4. وما أروع هذا التفاني من رسول الله وأهل بيته عندما يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجر الرسالة أمراً لمصلحة العباد وسعادتهم وهو لا يرد بأي خير على الأئمة أنفسهم بل يستلزم منهم جهداً ومشقةً وجهاداً وإنما نفعه وخيره
1- كشف الغطاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج1، ص17.
2- الأحزاب، 56.
3- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج8، ص471.
4- الشورى، 23.
156
131
المحاضرة الأولى: حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كله على الرسالة وعلو كلمة المسلمين في الأرض.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يُسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت"1.
1- خاتمة المستدرك، الميرزا النوري، ج3، ص246.
157
132
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
تصدير الموضوع:
عن علي عليه السلام: "حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل فحقٌ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دُعوا"1.
الهدف: التعريف بطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بالأئمة الأطهار وواجباتنا تجاههم كأوصياء النبي على الأمة.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص124.
159
133
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
مقدمة
سئل الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾1 فقال عليه السلام: "الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام، والمقتصد العارف بحق الإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الإمام"2.
فضلهم: وقد ورد في مضامين الأحاديث أن الإمامة تمام الدين وأسّ الإسلام وأصل كل خير وهي نظام الأمة وسبيل الله والنور الذي تقتدي به الأمة.
ومن فضلهم معرفة دورهم الريادي في حفظ الرسالة وتلقيهم مختلف أنواع المعاناة والعذابات في سبيل صيانتها وإيصالها إلى كل الأجيال وفي كل الأمكنة والأزمنة.
معرفتهم:عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"3. وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنما يعرف الله
1- فاطر 32.
2- معاني الاخبار، الشيخ الصدوق، ص105.
3- الغدير، الشيخ الاميني، ج10، ص16.
160
134
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت"1.
بل ورد عن إمامنا الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى "كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها" قال عليه السلام: "الذي لا يعرف الإمام"2. فالذي لا يعرف إمام زمانه ويرتبط به ويأخذ عنه تكليفه سيبقى يتخبط في متاهات التيه والضلال، بل وتؤكد الآية أنه لن يهتدي إلى السبيل الذي يخرجه من هذا التخبط ما لم يرتبط بإمامه.
موالاتهم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ألا وإن أئمتكم وفدكم الى الله، فانظروا من توفدون"3.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويدخل الجنّة التي وعدني ربي وهي جنّة الخلد فليتولَ علياً وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة".
طاعتهم: وهي أمرٌ من الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾4.
1- الكافي، ج1، ص187.
2- الكافي، ج1، ص185.
3- المراجعات، ص21.
4- النساء، 59.
161
135
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
عن الإمام الصادق عليه السلام: "نحن قومٌ فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بما لا يُعذر الناس بجهالته"1.
وهنا دلالةٌ واضحة أن الناس لا يُعذرون بموالاة غيرهم ولا تبرأ ذممهم عند الله تعالى، بل ما أحوجنا اليوم إلى التمسك بطاعتهم والإقتداء بتعاليمهم.
أداء حقهم في المال: فهو واجب وقد أشار إليه الله تعالى بقوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾2.
عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: "أصلحك الله ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم"3. ونفهم من هذا الحديث أن أي تفريط أو تضييع أو تصرف بشيء من التهاون وعدم مراعاة الضوابط الشرعية من شأنه أن يُدخل الإنسان النار.
نشر فضائلهم: وهو مقام سامٍ لا يرقى إليه أحد في الخلق لعلو درجتهم عمّا تدركه عقول الناس أو تحيطه قلوبهم، ونشر فضائلهم كافٍ لإقتداء الناس بهم وسبيل الناس إلى الولاية،
1- الكافي، ج1، ص186.
2- الأنفال، 41.
3- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج12، ص425.
162
136
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
بل لعلَّ حالة التشويه والتضليل التي مورست بحقهم هي التي صرفت عقول الناس وقلوبهم، ولذلك فإن من أوجب الواجبات هو تعريف الناس بمنازل أهل البيت وكراماتهم وسعة علومهم وقراءة تجاربهم على مختلف الأصعدة وتقديمهم للناس بصورتهم الحقيقية التي تسكن إليها قلوب الناس في كافة الأرض.
عن أبي عبدالله عليه السلام: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"1.
زيارة مشاهدهم: ولا تخفى الزيارات المختلفة التي تتضمنها كتب الأدعية والزيارات والتي منها ما هو خاص بإمام دون آخر ومنها ما يُخاطب كافة الأئمة، كما منها ما يُقرأ في المناسبات ومنها في أيام محددة وسوى ذلك من زيارات كثيرة، فعن الوشا سمعت الرضا عليه السلام يقول: "إنَّ لكلِّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنَّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءَهم يوم القيامة"2.
وعن زيد الشحَّام قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام ما لمن زار
1- الانتصار، العاملي، ج9، ص33.
2- الكافي، ج4، ص567.
163
137
المحاضرة الثانية: حق الأئمة عليهم السلام
واحداً منكم؟ قال عليه السلام: "كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.
وذكر الشيخ المفيد: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم بذلك حالاً بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفةٍ من لطائف الله تعالى، وتبلغهم المناجاة عن بعد كما ورد في الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة2.
1- وسائل الشيعة، ج14، ص572.
2- أوائل المقالات
164
138
المحاضرة الثالثة: علي عليه السلام في دعاء الإفتتاح
تصدير الموضوع:
"اللهم صلِّ على عليٍّ أمير المؤمنين و وصيِّ رسول رب العالمين عبدك و وليّك وأخي رسولك و حجّتك على خلقك وآيتك الكبرى و النبأ العظيم...".
الهدف:
الإستدلال على الصفات والألقاب التي وردت بحق علي عليه السلام في دعاء الإفتتاح من خلال الأحاديث وأنها ليست أمراً عرفياً أو شعبياً.
165
139
المحاضرة الثالثة: علي عليه السلام في دعاء الإفتتاح
مقدمة
إن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: "يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا "..... سيبقى التحدي الأكبر في فهم أبعاد وجوانب شخصية علي عليه السلام إلى يوم القيامة، وإِن كلَّ ما كتب وقيل وتناوله الباحثون بالدراسات والأبحاث لم ولن يكشف النقاب كاملاً عن هذه الشخصية التي حيّرت العالم وسيبقى الله ورسوله وحدهما اللذان يعرفان هذه الشخصية كما سيبقى الله وعلي عليه السلام وحدهما يعرفان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم,كما سيبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وحدهما يعرفان الله تبارك وتعالى.
وفيما يلي سنقف فقط عند هذه الصفات التي وردت في دعاء الإفتتاح، وإلا فإن الحديث عن صفات وألقاب علي عليه السلام ومعانيها ودلالاتها يحتاج لأبحاث طويلة.
اللهم صلِّ على عليٍّ أمير المؤمنين: وهذه الصفة تستلزم كونه أرفع مقاماً من بقية المؤمنين، عن بريدة الأسلمى قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسلِّم على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين ونحن سبعة وأنا أصغر القوم يومئذٍ"1.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص138.
166
140
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
تصدير الموضوع:
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَضْعَةٌ مِنّي وَهِيَ قَلْبِيْ وَهِيَ روُحِي التي بَيْنَ جَنْبِيّ"1.
الهدف:
التعريف بمكانة السيدة الزهراء عليها السلام من خلال تبيان بعض الخصائص التي اختصت بها سيدة نساء العالمين عن سواها.
1- الامالي، الصدوق، ص175.
171
141
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
مقدمة
لعل من أبرز المظاهر الإعجازية في شخصية السيدة الزهراء تضمن هذه الشخصية على الكثير من الخصائص والميزات التي لم تتوفر في أي إنسانٍ آخر على صغرسنها وارتحالها عن الحياة الدنيا وهي لم تبلغ العشرين من عمرها، إلا أن الإنسان في الواقع لا يُقاس عمره بعدد السنين التي أمضاها في هذه الحياة بل بحجم الإنجازات الإلهية التي أنجزها ومدى ثباته على التكليف الذي رسمه الله تعالى.
1- يغضب الله لغضبها: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "لفاطِمَة إِنّ اللّهَ يَغْضِبُ لِغَضَبَكِ"1.
2- سرور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وألمه في سرورها وألمها: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَضْعَةٌ مِنّي يُؤْلِمُنِي ما يُؤلِمُها وَيَسَرُّنِي ما يَسُرُّها"2.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَضْعَةُ مِنّي فَمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَنِي"3.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص150.
2- كشف الغمة، ج1، ص 373.
3- ارشاد الاذهان، العلامة الحلي، ج1، ص142.
172
142
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَضْعَةٌ مِنّي يُؤْذيِني ما آذاها وَيَنَصُبَني ما أنَصَبَها"1.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَضْعَةٌ مِنّي مَنْ آْذاهَا فَقَدْ آذانِي"2.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة مضْغَةٌ مِنّي يَقْبِضُني ما قَبَضَها وَيَبْسُطُني ما بَسَطَها"3.
3- علاقتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة أَنْتِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتي لُحُوقاً بِي"4. وهذا كاشف عن مدى العلاقة التي تربطها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما جعل هذا الخبر منه يفرحها، وإلا فإن المنطق لا يقتضي أن يخبر أحدٌ ابنته أنها أول الناس لحوقاً به فيظهر الفرح عليها.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة بَهْجَةُ قَلْبِي وَابْناها ثَمْرَةُ فُؤادِي"5.
4- سيدة نساء العالمين: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين"6.
1- الغدير، الاميني، ج7، ص232.
2- الامالي، الصدوق، ص165.
3- مسند احمد، احمد بن حنبل، ج4، ص323.
4- الامالي، الصدوق، ص692.
5- البحار، ج23، ص110.
6- الامالي، الصدوق، ص78.
173
143
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين"1.
5- جلالها يوم القيامة: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كانَ يَوْمُ القيامَةِ نادى مُنادٍ: يا أَهْلَ الجَمْعِ غُضُّوا أَبْصارَكُمْ حَتى تَمُرَّ فاطِمَة"2.
6- رائحتها من الجنة: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كُنْتُ إذا اشْتَقْتُ إِلى رائِحَةِ الجنَّةِ شَمَمْتُ رَقَبَةَ فاطِمَة"3.
7- زواجها بأمرٍ من الله: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عَلِيّ إِنَّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ فاطِمَة"4.
8- أولادها عصبة الرسول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كُلُّ بَنِي انثى عصبتهم لابيهم، ما خلا وُلدَ فاطِمَة فإني أنا عصبتهم"5.
9- أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أَحَبُّ أَهْلِي إِليَّ فاطِمَة"6.
1- الامالي، الصدوق، ص575.
2- كشف الغمة، ابن ابي فتح الاردبيلي، ج2، ص78.
3- الامالي، الصدوق، ص546.
4- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص147.
5- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج25، ص288.
6- الغدير، الشيخ الاميني، ج3، ص24.
174
144
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
10- سيّدَةُ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ فاطِمَة: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "سيّدَةُ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ فاطِمَة"1.
أكمل النساء: قال رســـول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كَمُلَ مِنَ الرِّجال كَثِيرُ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النساءِ إِلاّ أَرْبَع: مَرْيـــم وَآسِيَة وَخَديجـــَة وَفاطِمـــَة"2.
11- أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الجَنَّةَ فاطِمَة: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الجَنَّةَ فاطِمَة"3.
12- المهدي من نسلها: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "المَهْدِيِ مِنْ عِتْرَتي مِنْ وُلدِ فاطِمَة"4.
13- حرمة النار عليها وعلى ذريتها ومن أحبهم: قال رســـول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ اللّهَ عَزَّوَجَلَّ فَطـــَمَ ابْنَتِي فاطِمَـــة ووُلدَهـــا وَمَنْ أَحَبًّهُمْ مِنَ النّارِ فَلِذلِكَ سُمّيَتْ فاطِمَة"5.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة إِنّ اللّهَ غَيْرُ مُعَذِّبِكِ وَلا أَحَدٍ مِنْ وُلْدِكِ"6.
1- الامالي، الصدوق، ص178.
2- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج25، ص194.
3- ينابيع المودة لذي القربى، القندوزي، ج2، ص 322.
4- شرح اصول الكافي، ج11، ص 368.
5- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج10، ص21.
6- الغدير، الشيخ الاميني، ج2، ص176.
175
145
المحاضرة الرابعة: السيدة الزهراء عليها السلام
14- ميزتها عن النساء: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة خُلِقَتْ حورِيَّةٌ فِيْ صورة إنسيّة"1.
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة حَوْراءُ آدَميّةَ لَم تَحضْ وَلَمْ تَطْمِث"2.
15- وحدها كفوء علي عليه السلام: قال الإمام الصادق عليه السلام: "لولا أن أمير المؤمنين تزوجها لما كان لها كفو على وجه الأرض إلى يوم القيامة آدم فمن دونه"3.
1- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج10، ص312.
2- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج10، ص16.
3- المناقب، ج3، ص357.
176
146
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
تصدير الموضوع:
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطِمَة لَيْسَتْ كَنِساءِ الآدَميّين"1.
الهدف:
استكمال بعض الخصائص التي امتازت بها السيدة الزهراء عليها السلام وبيان بعص الألقاب الخاصة لها.
1- شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج10، ص7.
177
147
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
مقدمة
إن شخصية السيدة الزهراء عليها السلام من الشخصيات التي ما زالت الكثير من دلالات حياتها غامضة وما زالت قراءة سيرتها تحتاج للكثير من البحث لاختزان هذه السيرة على رصيدٍٍ كبير من المواقف والدروس والعبر التي من شأنها أن تضع حلولاً لمشاكل العالم وأزماته لا سيما الإجتماعية منها والأسرية فضلاً عن الجوانب السياسية والجهادية التي ما زالت مغمورة، فحياتها منهج حياة وسيرتها مثلٌ للإقتداء والتأسي.
وسنذكر بدايةً بعض الصفات والألقاب التي اشتهرت بها.
1- الطاهرة: وهذه الصفة شهد بها كتاب الله تعالى فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أُنْزِلَتْ آيَةُ التطْهِيرِ فِيْ خَمْسَةٍ فِيَّ، وَفِيْ عَليٍّ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَفاطِمَة".
فهي طاهرة مطهرة عن كل دنس أو رجس سواءً كان مادياً أم معنوياً.
2- الصدّيقة: وتعني هذه الصفة المبالغة في الصدق وذلك لأنها لم تكذب قط، فكانت أصدق الناس قولاً ومنطقاً وحديثاً، فكانت بذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
178
148
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
3- الزهراء: سميت بذلك لأن نورها كان يزهر لأهل السماء وفي المحراب كما ورد في الحديث الشريف وهذا دليل ظهور بركاتها أينما حلّت، ولذلك سميّت "المباركة" كذلك.
4- بضعة المصطفى: والأحاديث المروية عن رسول الله والتي تبدأ بقوله "فاطمة بضعة مني" كثيرة ومتواترة. والمراد ليس بضعته نسباً فحسب بل نهجاً وكمالاً وإلا لقال صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بضعة مني هي لحمي ودمي ولم يقل هي نفسي وروحي التي بين جنبي. ولذلك أكملت الأحاديث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم "من آذاها فقد آذاني أو من أغضبها فقد أغضبني.....".
5- البتول: لأنها تبتلت عن دماء النساء، فلم تكن ترى دماً كما بقية النساء. وهذا كاشف أن آية التطهير قد طهرتها طهارة مادية بالإضافة الى الطهارة المعنوية، وهناك معنىً آخر وهو الإنقطاع إلى الله والتبتل إليه.
179
6- الحوراء الإنسية: وهو الاسم الذي سمَّاها به أبوها المصطفى صلوات الله عليه وآله معللاً له بقوله: "لمَّا تزوجتُ خديجة، عرج بي إلى السماء فانطلق بي جبرائيل عليه السلام إلى شجرة
149
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
طوبى يستظل بظلها فتناول جبرائيل من ثمرها فناولنيه ، فأكلت فصارت نطفة في صلبي، فواقعت خديجة، فَوَلَدَت فاطمة، فإذا اشتقت إلى الجنة شممتها ففاطمة حوراء إنسية".
7- المحدِّثة: وسمِّيِت بهذا الاسم لدورها في نشر تعاليم الإسلام وأحاديث أبيها الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا سيَّما للنساء المؤمنات، فقد ورد أن الإمام الباقر عليه السلام سئل بعض المسائل فأجاب وأردف: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بذلك فاطمة، وكانت تأمر بذلك المؤمنات". وورد أيضاً في سِّر هذا الاسم أنها سلام الله عليها كانت بكرامة من الله تعالى تحدِّث أمها خديجة الكبرى وتؤنسها وهي في بطنها، ففي الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قاطعت نساء قريش السيدة خديجة رضوان الله عليها سمعها تتحدث ولا أحد معها فسألها من تحدِّثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدِّثني ويؤنسني. فقال صلى الله عليه وآله وسلم لها: "يا خديجة، هذا جبرائيل يخبرني أنها أنثى وأنها النسلة الطاهرة الميمونة وان الله سيجعل نسلي منها".
8- الزكيَّة الزاكية: وهذه الصفة إشارة إلى صفاء نفسها ونقاء
180
150
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
سريرتها وسلامة قلبها فسميت كذلك لأنها كانت أزكى وأطهر أنثى عرفتها البشرية.
9- الشهيدة: ففي زيارتها: "السلام عليك أيتها الصدِّيقة الشهيِدة".
10- أم أبيها: وهذه الصفة وردت لها في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونستكشف منها أنها أعلى صفة يمكن أن تصل إليه البنت في حياتها، وهذه دلالة على منتهى العطاء بلا حدود وبلا مقابل ومنتهى الرقة والحنان.
عبادتها: فكانت كما ورد في سيرتها تصلي وتُطيل القيام حتى تتورَّم قدماها، وكانت إذا قامت إلى الصلاة تتغيَّر معالمها من خشية الله. وقد شهد بتزكية نفسها القريب والبعيد فعن الحسن البصري: "لم يكن في الأمة أعبد من فاطمة عليها السلام"1. ومن قصص عبادتها لله تعالى والتي لم تكن فيها تنسى المؤمنين ما ورد عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أنه قال: "رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتُها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها"، فقلت لها: "يا
1- المناقب، ج3، ص119.
181
151
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
أماه، لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟! فقالت: "يا بني الجار ثم الدار"1 .
مهر الزهراء عليها السلام: وهذا الأمر من أبلغ عبر الزهراء عليها السلام ففي الرواية أنه حين وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القبول من كلا الطرفين، سأل عليَّاً عليه السلام: هل عندك شيء؟ وكان لا يملك غير سيفه ودرعه وناضحه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فأمَّا سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه حلَّك في سفرك، ولكنِّي رضيتُ منه بالدرع"2.
فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع له منها أربعمائة درهم، فكان هذا مهر فاطمة. ولمَّا جاء عليُّ عليه السلام بالدراهم، وضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره أن يجعل ثلثي الدراهم في الطيب، والثلث الآخر في المتاع، ففعل.
جهاز الزهراء وأثاث بيتها: جهزّت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان لها غير سرير من جريد النخل، وسادة من آدم حشوها ليف، ومنخل ومنشفة، ورحى للطحن، وجرّتان وقميص،
1- وسائل الشيعة، ج4، ص1150.
2- يحار الانوار، ج43، ص127.
182
152
المحاضرة الخامسة: صفات وألقاب السيدة الزهراء عليها السلام
وخمار لغطاء الرأس، وثوب له زغب، وعباءة قصيرة بيضاء، وجلد كبش..
أمَّا عليٌّ عليه السلام قد رشَّ أرض الدار برمل ناعم، ونصب في البيت خشبة من الحائط إلى الحائط، لتعليق الثياب، إذ لا خزانة ولا صندوق لثياب العروس.
عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "لقد تزوَّجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها".
183
153
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
تصدير الموضوع:
مما ورد في دعاء الإفتتاح: اَللّـهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِىِّ اَمْرِكَ الْقائِمِ الْمُؤَمَّلِ، وَالْعَدْلِ الْمُنْتَظَرِ، وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبينَ، وَاَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يا رَبَّ الْعالَمينَ1.
الهدف:
التعريف بالمحددات الضرورية التي تعتبر أساس العلاقة مع الإمام المنتظر والتي لا يُعتبر الإنسان مؤدياً لحق إمامه من دونها.
1- بحار الاوار، ج99، ص228.
185
154
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
مقدمة
إن الإرتباط بصاحب العصر والزمان في عصر الغيبة له خصائصه وواجباته التي يحرم على المسلم أن يحيد عنها وذلك لكونه إمام العصر الذي نعيش فيه ونحيا ببركة هذا الوجود المبارك لهذا الإمام العظيم، فارتباطنا به يضفي على حياتنا أكثر من البعد العقائدي الذي يربطنا بغيره من الأئمة بل يوجب علينا أن نحدد موقفنا تجاه كافة مجريات الأحداث التي تحيط بنا ونحدد المسار الذي ينبغي أن نسلكه بما يمهد للمهدي دولته ويعجل له سلطانه الذي وعد الله به.
التعرف عليه: وقد بيّن دعاء الإفتتاح الكثير من دوره ومهمته وألقى الضوء على جوانب مختلفة يمكن من خلالها التعرف عليه، فمما ورد مثلاً قوله: "اَللّـهُمَّ اجْعَلْهُ الدّاعِيَ اِلى كِتابِكَ، وَالْقائِمَ بِدينِكَ، اِسْتَخْلِفْهُ في الاَْرْضِ كَما اسْتَخْلَفْتَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دينَهُ الَّذي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ، اَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ اَمْناً يَعْبُدكَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئاً، اَللّـهُمَّ اَعِزَّهُ وَاَعْزِزْ بِهِ، وَانْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ، وَانْصُرْهُ نَصْراً عَزيزاً، وَاْفتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسيراً، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ
186
155
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
سُلْطاناً نَصيراً، اَللّـهُمَّ اَظْهِرْ بِهِ دينَكَ، وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، حَتّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَىْء مِنَ الْحَقِّ، مَخافَةَ اَحَد مِنَ الْخَلْقِ"1.
الثبات على بيعته: فإن أصل البيعة للإمام الزمان ضرورة يخرج المرء من دونها من الإسلام فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولا بيعة عليه مات ميتةٍ جاهلية"2.
وعن أبي جعفر الثاني أي الإمام الجواد عليه السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "للقائم منَّا غيبةٌ أمدها طويل،كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقسُ قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة، ثم قال عليه السلام: إن القائم منَّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه"3.
وهذه البيعة من الضروري تجديدها حتى لا يغيب عن المرء استحقاقات آثار هذه البيعة كما هو الوارد في دعاء العهد المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وفيه: "اللهم إني أجدِّد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهدا وعقدا وبيعة
1- مصباح المتهجد، ص93.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص120.
3- بحار الأنوار، ج51، ص110.
187
156
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبدا... اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذَّابِّين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه والممتثلين لأوامره والمحامين عنه والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه..."1.
أداء حقه من المال: والمقصود الحقوق المالية التي تجب على المكلف كالخمس والزكاة.، وقد بيّن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف ضرورة أداء هذه الحقوق في أحد تواقيعه المباركة حيث يقول: "ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين، أنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمنا من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المضلة ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسرا بذلك لأولاه وآخرته"2.
وعن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام: "لا تدعوا صِلة آل محمَّد من أموالكم، من كان غنياً فعلى قدرِ غناه، ومن كان فقيراً فعلى قدرِ فقره، ومن أراد أن يقضي الله أهمَّ الحوائج إليه
1- بحار الأنوار، ج53، ص95.
2- الإحتجاج، ج2، ص325.
188
157
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
فليصِلْ آل محمَّد وشيعتَهُم بأحوجِ ما يكون إليه من ماله"1. فصلتهم واجبةٌ على الغني والفقير كلٌ بحسب وضعه وإمكاناته، ومن لا يصلهم يخسر دنياه وآخرته.
الإنتظار الإيجابي: الذي ورد في النصوص المباركة أنه أفضل العبادة في عصر الغيبة، والمراد أن يكون المرء مساهماً في تعجيل الفرج من خلال صيانة نفسه وتجهيزها للحظة المرتقبة التي لا يغفل قلبه عنها ولا تحيد عينه أفقها، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في بركة هذا الإنتظار: "ليعدّنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله تعالى إذا علم ذلك من نيته رجوت أن ينسىء في عمره حتى يدركه فيكون من أعوانه وأنصاره"2.
التخلق بمكارم الأخلاق: وهو من أرقى ما يصون المرء به نفسه أن يرفّعها عن كل ما يسيء إليها ويدنسها ويجنح بها عن سواء السبيل، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ لنا دولةً يجيء الله بها إذا شاء". ثم قال عليه السلام: "من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات
1- بحار الأنوار، ج93، ص216.
2- معجم أحاديث الإمام المهدي، ج4، ص6.
189
158
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة"1.
عدم الإنجراف مع التيارات المنحرفة: ورد في وظيفة الأنام "فانتبه إلى نفسك"، ولا تقل: وعلى فرض أنّي أتوب ولكن الناس لا يتوبون فيستمر الإمام عليه السلام في غيبته فذنوب الجميع تؤدي إلى غيبته وتأخّر ظهوره! فأقول: إن كان جميع الخلق سبباً لتأخير ظهوره عليه السلام فالتفت إلى نفسك فلا تكنْ شريكاً معهم في ذلك.
إظهار العلماء لعلمهم في غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف: فإنه من الطبيعي في عصر الغيبة أن يكون للعلماء دور أساس في توجيه الناس وهدايتهم وتزكيتهم، بل لعلهم أكثر الناس مسؤوليةً عن حماية الناس وتحصينهم والحؤول دون إنجرافهم في متاهات الضلالة، فهم أيتام آل محمد الذين غاب عنهم أبوهم الروحي والمعنوي، وفي رواية أخرى عن الإمام العسكري عليه السلام: "لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك
1- بحار الأنوار، ج52، ص140.
190
159
المحاضرة السادسة: حق إمام العصر
إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل"1.
1- بحار الأنوار، ج2، ص6.
191
160
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
مقدمة
كثيرة هي الآيات التي تحدثت عن أهوال يوم القيامة وأحوال أهل الإيمان وأهل الشرك فيه وصفاتهم وما يجري عليهم، والقرآن الكريم إذ تعرض لهذه الآيات إنما أراد أن يشدد على التوازن في حالتي الخوف والرجاء أو اليأس والأمل فيكون ذلك مدعاة لأهل الإيمان في تثبيت إيمانهم وحافزاً لأهل المعاصي للتوبة والرجوع إلى الله.
أصناف الناس يوم القيامة
ويبين القرآن الكريم أن الناس يوم القيامة ثلاث فئات، قال تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾1.
وقال تعالى مبيّناً حال أصحاب المشئمة: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ﴾2. فيصاب الكافر بالخيبة والحسرة والخسران يوم لن ينفعه ذلك ولن
1- الواقعة 7-10.
2- الحاقة 26,25.
196
162
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
ينجيه من عذاب النار.
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾1. أي يصير المؤمنون أصحاب اليمين و المشركون أصحاب الشمال فيتفرقون تفرقا لا يجتمعون بعده.
وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾2. فوعدهم بالأمن والسلام نافياً عنهم أي خوفٍ أو قلقٍ أو وجل.
بعض أحوال الناس يوم القيامة
1- أصناف الوجوه: قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾3.
قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾4.
قال تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾5.
1- الروم 14.
2- الواقعة 90-91.
3- عبس، 3839.
4- القيامة، 22 إلى 25.
5- عبس 40-42.
197
163
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾1.
2- الذلة ونكس الرؤوس: قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾2.
وهذه الآية تشير إلى كون الإنسان في ذلك اليوم يُساق بغير إرادته، فيتبع الإجراءات التي لا يقوى على مخالفتها أو نقاشها أو الإمتناع عنها.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُر ٍ*خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾3.
3- الخوف والرعب: قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾4. وأي مشهدٍ أشد من أن تغفل المرضعة عن
1- الغاشية 2-5.
2- المعارج 43، 44.
3- القمر 6-8.
4- الحج 2-3.
198
164
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
رضيعها الذي هو ألصق شيء بها، أو أن تجهض الحامل فتضع حملها، والأشد أنك ترى الناس أشبه بالسكارى أي الذين لا يعون ما يجري حولهم لشدة ما أصابهم من الخوف والرعب.
إلا أن هذا الخوف والرعب لا يشمل أهل التقوى والإيمان الذين عملوا لتلك الساعة، قال تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾1.
4- السكون والترقب: قال تعالى: ﴿َوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾2. فلم يعد علو الصوت وارتفاعه والتطاول على الآخرين كما في الدنيا يجدي نفعا، فالصوت الحاكم يومئذٍ هو صوت الله.
5- التسليم لحكم الله: قال تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾3.
فلا مكان لاستجداء الرحمة أو طلب العفو أو توسم الشفاعة أو استدرار المغفرة أو
1- الأنبياء، 103.
2- طه، 108.
3- طه 111.
199
165
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
التلطف بالحساب إلا من الله سبحانه، ولذلك عنت الوجوه له وحده.
6- الشعور بمجيء الساعة فجأة: وإنما يشعر الإنسان بمجيئها فجأة لعدم استعداده لها وغفلته عنها، فالإنسان لا يتفاجأ بأعظم المصائب وأشدها إذا كان مستعداً لها وملتفتاً إليها، ويتفاجأ بأبسط الأمور إذا لم يكن مستعداً لذلك. قال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾1.
وقال تعالى حاكياً استغرابهم مجيء الساعة سريعاً: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾2.
يوم الحشر: فيوم القيامة يوم يحشر فيه الخلائق أجمعون من الأولين والآخرين ليوم الحساب. قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾3.
1- محمد، 18.
2- النازعات، 42 إلى 46.
3- ق، 44.
200
166
المحاضرة الأولى: أحوال النّاس يوم القيامة
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾1.
وتصف الآيات الناس يوم الحشر بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾2.
1- المعارج، 43.
2- القارعة، 4.
201
167
المحاضرة الثانية: قوانين يوم الحساب
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾1.
الهدف:
التعريف ببعض القواعد التي كانت تخدم الإنسان في دار الدنيا إلا أنها لن تنفعه يوم العدل الإلهي.
1- البقرة 48.
203
168
المحاضرة الثانية: قوانين يوم الحساب
مقدمة
إن من تجليات الرحمة الإلهية على الإنسان تعريفه بالقوانين العادلة ليوم الحساب وتذكيره الدائم بها وذلك لاختلافها عن طبيعة القوانين التي يدأب الإنسان على تسيير أموره بها في الحياة الدنيا، فيأتي القرآن ليذكره بها ويجعلها نصب عينيه فلا يغفل عنها فيدخل في عالم الحساب وهو يحسب أنه أحسن صنعا فإذا به أمام هشيم تذروه الرياح وزبد لا يسمن ولا يغني من جوع.
إن الآية المتقدمة تشير إلى أربعة أمور أساسية من الأمور التي اعتاد المرء على تسيير شؤون حياته في الحياة الدنيا من خلالها، إلا أن أياً من هذه القواعد التي تخالف موازين العدل الإلهي لن تنفع من اعتاد عليها وتوهم أن كل الأزمات تحل وفقها، ومن هنا أهمية أن يربي الإنسان نفسه على القواعد المرعية الإجراء في الدار الآخرة.
عدم جزاء نفس عن نفس: قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾1.
1- عبس 34.
204
169
المحاضرة الثانية: قوانين يوم الحساب
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾1.
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾2. وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا﴾3.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾4.
فتبين هذه الآية أن على الإنسان أن لا يتعلق بمتاع الدنيا ولا بالروابط المادية ولا بالاصدقاء والشفعاء، اذ ان الإِنسان اذا ما فارقت روحه بدنه انفصمت كل عراه المادية بجسمه، وعندئذ ينتبه الى ان الاستقلالية التي قال بها للعلل المادية كانتباطلة، ويدرك أَن ليس معه من شفعائه احد وييأَس منهم.
عدم جزاء الشفاعة غير الحقة: وبطبيعة الحال فإن المراد بالشفاعة هنا هي الشفاعة الباطلة التي لا يرتضيها الله، لأن الشفاعة مقام استحقاقي يبلغه المرء بسعيه وعمله وليست
1- الانعام 164.
2- الدخان، 41.
3- الإنفطار، 19.
4- الأنعام، 94.
205
170
المحاضرة الثانية: قوانين يوم الحساب
وساطة شخصية لا تقوم على أسس وقواعد ومعايير واضحة.
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ﴾1. فهؤلاء الكفار يائسون من الرحمة الإلهية بما ارتكبوا من اعمال، وقانطون من شفاعة الآلهة التي اشركوها مع الله..
عدم قبول الإفتداء: وهذا من أكثر الأمور رواجاً ونفعاً في دار الدنيا حيث نجد أن الإنسان يفتدي الكثير من القضايا ويدرأ خطرها أو يجلب بعض المنافع من خلال ماله أو علاقاته أو منصبه أو قبيلته أو سوى ذلك من الأمور التي تفيده والتي يؤكد الله تعالى أن لا مكان لها في الدار الآخرة وأمام موازين العدل الإلهي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾2.
وقال تعالى: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾3.
1- الروم، 12-13.
2- المائدة 36.
3- المعارج 11.
206
171
المحاضرة الثانية: قوانين يوم الحساب
عدم التأييد الإلهي: أي لن يبدل الله سننه وآياته يوم القيامة فينتصر لهؤلاء الكفار فيسامحهم ويعفو عنم، بل ستأخذ هذه السنن مجراها الذي بيّنه الله تعالى في كتبه وعبر الأنبياء والرسل التي بعثها إلى الخلق.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1.
تشير هذه الآية الى عدم وجود تجارة ولا صداقة ولا شفاعة في يوم القيامة، و ذلك لان جميع المذنبين الآثمين اعداء بعضهم بعضا، و قيل ان كلَّ فرد في ذلك اليوم يكون مشغولا بنفسه وبمصيره. وهناك آيات اخرى تؤكد عدم و جود الناصر والمعين يومئذ.
1- البقرة، 254.
207
172
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾1.
الهدف: إعطاء لمحة تفيد في تجاوز بعض محطات وعقبات الحساب يوم القيامة وتقديم فهمٍ دقيقٍ بعيداً عن الأفهام الخاطئة.
1- الاعراف 8.
209
173
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
مقدمة
لا شك أن إحدى أهم مشاهد يوم القيامة ومفرادته هو أنه يوم للحساب والجزاء، ومن هنا تحدث عنه القرآن الكريم عن مراحل وعقبات وآليات الجزاء بالتفصييل وشددت على ذلك الآيات الشريفة وبينت الكثير من التفاصيل التي ينبغي على المرء فهمها والإعتقاد بها بل والإستعداد لها قبل فوات الأوان، فإن الإنسان ما لم يكن حاضراً عنده تفاصيل ذلك اليوم فإنه لن يتمكن من الإستعداد له.
1- الميزان
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾1.
وفي الرواية عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزوجل ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ قال: هم الأنبياء والأوصياء2.
1- الأنبياء، 47.
2- البحار، ج7، ص249.
210
174
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
ومن أبرز ميزات هذا الميزان أمران أساسيان:
الدقة في الحساب: قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾1. فالإنسان يرى أعماله على كل حال سواء شملته الرحمة الإلهية فيما بعد أم لا، ومن هنا ضرورة الإلتفات إلى صغائر الذنوب واجتنابها، وضرورة عدم استضغار أي عملٍ صالح وفعلٍ من أفعال الخير.
وزن الحق: قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾2.
وورد في تفسير هذه الآية أن الله لم يقل "من ثقلت موازينه شراً" في مقابل "من ثقلت موازينه شراً" لأن الوزن لمّا كان هو الحق والعدل فإنه لا يوزن إلا الأفعال الحسنة، وأما الأفعال السيئة فلا يوزنها أصلاً، ولذلك قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
1- الزلزلة 7.
2- الأعراف، 8و9.
211
175
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾1.
2- صحائف الأعمال
قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾2.
رؤية الأعمال: قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾3، وقال تعالى: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4. وهذه الآية استدل بها العلماء على تجسد الأعمال يوم القيامة وأن الإنسان يرى عمله أمامه ويجزى به، فعبّر الله بقوله ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ وليس جزاء أعمالهم وقال ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾ وليس بما كنتم تعملون.
ويؤكد على حضور الأعمال قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾5.
1- الكهف، 105.
2- الإسراء، 13-14.
3- الزلزلة 5.
4- النمل 90.
5- ال عمران 30.
212
176
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
إحصاء كافة الأعمال: قال تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾1.
نسيان الإنسان لأعماله: قال تعالى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾2. وإذ يعبّر الله تعالى بقوله "نسوه" لأن الإنسان بطبعه ينسى الأمور التي لا يوليها اهتماماً في حياته، ولمّا كان هؤلاء من الذين لا يقيمون وزناً لتعاليم السماء فغفلوا عنها ونسوها.
قال تعالى: ﴿َالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا﴾3. ومعنى أن الله ينساهم عدم شمولهم بالرحمة الإلهية، ولذلك استحقوا العقاب، قال تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾4.
3- الصراط
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أثبتكم قدماً على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي"5. ولعل هذا الحديث ناظر إلى أن الصراط مهمته النظر في الأمور الإعتقادية
1- الكهف 49.
2- المجادلة 6.
3- الاعراف 51.
4- السجدة 14.
5- فضائل الشيعة، الشيخ الصدوق، ص5.
213
177
المحاضرة الثالثة: من محطات يوم القيامة (1)
ومدى رسوخها وتجذرها في قلب الإنسان.
ومن هنا كانت الدقة المتناهية في الصراط: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف"1. لما هو واضح أن الأمور الإعتقادية ليست مبنية على التسامح فلا مجال للإيمان بعصمة الأنبياء أو الإعتقاد بالمعاد أو الرسالة أو الرسول أو أي أمرٍ آخر إيماناً إجمالياً بلا دليل أو برهان.
ولذلك نجد أن أي خلل في هذه القضايا من شأنه أن يزلزل قدم المرء على الصراط فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "الناس يمرون على الصراط طبقات:...... فمنهم من يمر مرّ البرق، ومنهم من يمر مرّ عدو الفرس، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً"2.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص161.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص161.
214
178
المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾1.
الهدف: تكملة شرح بعض محطات الحساب يوم القيامة لا سيما ما يرتبط بشهادة الأنبياء والمساءلة وشهادة الجوارح.
1- البروج، 2-3.
215
179
المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)
مقدمة
إن الشهادات التي يواجه بها الإنسان يوم القيامة تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك الشهادات التي تؤدى في الدنيا والتي غالباً ما تقوم على إدراك الحواس ومعاينة الأشياء على فرض صدق هذه الشهادات، وأما يوم القيامة فتتحول الجوارح نفسها إلى شهود وتنطق بما عملت وتشهد الأنبياء على أعمالنا عن طريق الإحاطة العلمية بما فعل الإنسان، وكلّ ذلك ليؤكد مدى جدية تلك المحكمة وعدالة الأحكام التي تصدرها.
شهادة الأنبياء
والمراد من الشهادة مدى مطابقة أعمال الخلق لتعاليم الأنبياء ومدى تصديقهم واعتقادهم بما أمروا به أو نهوا عنه. وقال تعالى: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء﴾1.
وقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾2. وهذه الآية تعطي لرسول الله مقاماً
1- الزمر، 69.
2- النساء، 41.
216
180
المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)
سامياً ليس على الأمة الإسلامية فحسب، بل هو الشاهد على كافة الأمم السابقة واللاحقة وعلى كافة البشر حتى الأنبياء والأوصياء والأولياء. والقرأن الكريم يؤكد اجتماع الناس كلهم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾1.
وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾2.
وهذه الآية تبين أمرين أساسيين:
الأول: أن الأمة الإسلامية هي الأمة الشاهدة على الناس كافة وذلك لمقامها الوسط الذي جعلها الله عليه، فهي شاهدة على أعمالهم وسلوكهم وعقائدهم وأخلاقهم في الدنيا وشاهدة على ذلك في الآخرة.
الثاني: شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كافة الخلائق والأمم لأنه شاهد على هذه الأمة الشاهدة.
ولا يخفى أن المراد بكون الأمة أمة شهيدة معناها قدرة هذا الدين على تربية وصناعة الإنسان الشاهد في الدنيا والآخرة وأما لو إنحرف الإنسان عن هذه الوسطية فلن يكون له هذا المقام.
1- الواقعة، 49-50.
2- البقرة، 143.
217
181
المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)
السؤال
قال تعالى: ﴿َقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾1. والسؤال من أهم مشاهد يوم القيامة لأن الله وإن كان عالماً بإجابات المرء ومطلع على خفايا ضميره ومكنونات باطنه، لكن الله يأبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها ويجيب الإنسان عن كافة أعماله ومعتقداته حتى يتبين له عدالة الجزاء الإلهي واستحقاقه لهذا الجزاء.
وهذا المشهد يؤكده الله تعالى بقوله : ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾2. هذه الآية التي ورد فيها عدة تأكيدات لتبين جدية المساءلة يوم القيامة.
والسؤال يوم القيامة لا يستهدف طلب الإعتذار أو استعتاب المرء، فهذا لا يجدي نفعاً بل السؤال يستهدف استصدار الحكم الإلهي، ولذلك قال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾3.
ويبين في آيةٍ أخرى قرار العذاب بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾4.
1- الصافات 24.
2- الأعراف، 6
3- الروم 57.
4- غافر 52.
218
182
المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)
شهادة الجوارح
وهي أصدق الشهادات بحق الإنسان، لأنها الشهادة التي لا يستطيع إنكارها لأنها منه وذاته، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1.
وقال تعالى: ﴿َحَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾2.
وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾3.
وقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ* وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾4. وهم لا ينطقون لأن جوارحهم تحكي أعمالهم، كما أن يوم القيامة ليس يوماً للإعتذار عما بدر من الإنسان، وتعبير القرآن غاية في الدقة، فالقرآن لم يقل أنهم يعتذرون فلا يُقبل عذرهم بل قال أنهم غير مأذونٍ لهم في الإعتذار أصلاً.
1- النور 24.
2- فصلت، 20-21.
3- يس، 65.
4- المرسلات، 3536.
219
183