أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2022-01

النسخة:


الكاتب

معاهد سيدة نساء العالمين (ع)

معاهد سيدة نساء العالمين (ع)


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين مفيض الجود والوجود، وصلِّ اللهمّ على هادي سبيل النجاة والرشاد، المصطفى محمّدٍ وعلى آله الأطهار الميامين.

الكتاب البحثيّ لمعاهد سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) الثقافيّة، كتابٌ سنويٌّ تُصدره وحدة الدراسات والمتون الثقافيّة، يقوم بنشر النتاج العلميّ والمعرفيّ لطالبات المعاهد وفهرسته، اللّواتي أعددن أبحاث التخرّج هذه بعد إتمامهنّ دراسة مرحلة التخصّص؛ لتشجيع الباحثات من طالبات المعاهد وغيرهنّ وخدمتهنّ، وتوفير مرجعٍ علميٍّ جديدٍ للباحثين.

تتناول هذه الأبحاث عناوين متعدّدةٍ في مجالات العلوم الإسلاميّة كافّة التي تُدرّس في معاهد سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) الثقافيّة، وتشمل اختصاصات: الفقه، والتفسير وعلوم القرآن والعقيدة الإسلاميّة وسيرة المعصومين والخطابة الحسينيّة، والأخلاق الإسلاميّة، وقضايا المرأة والأسرة.

 

7


1

المقدّمة

نسأل الله أن نستطيع من خلال هذا المنبر العلميّ، أن نساهم في نشر العلم والمعرفة، وتكريس تبنّي الفكر السليم والمتوازن والمعتدل الذي جاء به الإسلام المحمديّ الأصيل، بعيداً عن أيّ تحريفٍ أو تزويرٍ للحقائق، وأن نواكب العناوين الملحّة والمستجدة في مجتمعاتنا على الأصعدة الثقافيّة والاجتماعيّة والأسريّة وغيرها، في المعالجة والطرح.

 

والله وليّ التوفيق

وحدة الدراسات والمتون الثقافية

 

8


2

المقدّمة

مقدّمة البحث

يجهد الإنسان في هذه الحياة الفانية ليحقّق سعادته وكماله، باحثاً عن السبيل القويم، وذلك عبر التفكّر بآيات الآفاق والأنفس: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾[1]، فيتعرّف ثمّ يعلم علم اليقين بوجود الخالق المبدع الحكيم العادل الذي سخّر له المخلوقات؛ ليكون أفضل من الملائكة إنْ أفلح في عمله، وإنْ أخفق فهو أكثر سوءاً من الشيطان.

إلّا أنّ حياته في هذه الدنيا الغرور قد تتجاذبه فيها حاجاته وطموحاته وأهواؤه وغرائزه، فيتحرّك وفق مصالحه وأغراضه، متذرّعاً بتحقيق وجوده وذاته. وهنا يكون رهن اختياره لأيّ النجدين سيختار: هل سيختار السعادة الحقيقيّة المتمثّلة بالأمن والطمأنينة والسلامة المرتبطة بالله -تعالى- أو سيختار رغد العيش والأمالي فيتملّكه التسويف بطول الأمل؟

 


[1]  القرآن الكريم، سورة فصّلت، الآية 53.

 

9


3

المقدّمة

فالآيات الكريمة من سورة الشمس: ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ آياتٌ صريحةٌ تؤكّد أنّ فلاح الإنسان أو خسرانه مرتبطٌ باختياره. هنا يمكننا طرح التساؤل اللّاحق: ما هو المحرّك لهذا الإنسان؟ وما الذي يدفعه لاختيار مبدأ التزكية أو عدمها؟ وما الذي يمنعه من ارتكاب أيّ رذيلة؟ وما الذي يدفع به إلى القيام في منتصف ليلٍ باردٍ أو حارّ ليصلّي صلاة اللّيل متخلّياً عن لذّة النوم الهانئ؟

كم من أعمارٍ ضاعت، وآمالٍ قصرت، وطاقاتٍ انهدّت، وفرصٍ تاهت، وأمنياتٍ تهاوت نتيجة الضياع وعدم الربط بين الجانب النظريّ والجانب العمليّ للمعرفة الإنسانيّة؛ أي بين الإيمان النظريّ ونتيجته، وهو الإيمان العمليّ، فضاع الهدف الحقيقيّ لوجود الإنسان، وهو بلوغ الكمال بمعرفة الله الواحد الأحد وشريعته، وهي الإسلام الذي هو دين الفطرة، الذي إن أحسن الإنسان اتّباعه بلغ كماله وسعادته الأبديّة وخلوده.

لذا، عملتُ في هذا البحث على أن أُثبت أنّ الدين الإسلاميّ منظومةٌ واحدةٌ مترابطةٌ ومتلازمة، وكلّ بابٍ فيها -أعقيدةً كان، أم أخلاقاً، أم فقهاً، أم سيرة- إنّما هو متمِّمٌ لبعضه بعضاً، وإن كانت العقيدة؛ أي أصول الدين، في مقدّمتهم.

 

10


4

المقدّمة

لذا، سعيت لمعرفة العلاقة القائمة بين أصول الدين المعروفة بمصطلح «العقيدة»، والتي تُعرف بالإيمان أيضاً، وبين السلوك الإنسانيّ فعلاً وقولاً، مع تسليط الضوء على فعل الإنسان وردّة فعله، مع ما يؤمن به أو مع محيطه الخارجيّ. وهل وجود العقائد ذهنيٌّ فقط، لا أثر له على الإنسان؟ وهل العقائد منفصلةٌ عن الأخلاق والفقه والسيرة؟ أم هناك تلازمٌ فيما بينها بحيث تشكّل منظومةً واحدةً كاملةً متكاملة؟ أم كلٌّ منها له وجوده الذاتيّ المنفصل عن الآخر؟ وهل من خلال معرفة الشريعة يصل الإنسان إلى كماله الإنسانيّ المنشود كيفما سار، وبأيّ تعبّدٍ، وبأيّ فريضةٍ التزم بها؟

بعد تعرّف هذه العلاقة، ومن خلال معرفتنا بأنّ الله -تعالى- لم يخلق شيئاً عبثاً ولا لهواً، تبيّن أنّ الإنسان لا يقوم بأيّ فعل، ولا يُقدم على أيّ قول إلّا بدافع عقيدةٍ اعتقد بها، فحثّته على ذلك.

وهنا يبدو الإشكال واضحاً، فهل يجتمع الإيمان مع رذائل الأخلاق وارتكاب المعاصي؟ وهل للإيمان أثرٌ على الفرد نفسه فقط أم على المجتمع أيضاً؟

 

11


5

المقدّمة

وقد افترضت لهذه الإشكاليّة فرضيّاتٍ عدّة، هي:

- الإيمان شيءٌ تفاعليٌّ له أثرٌ على سلوك الإنسان.

- للإيمان آثارٌ دنيويّةٌ وأخرويّةٌ مرتبطةٌ بالإنسان نفسه، وبالإنسان مع غيره أيضاً.

- نقصد بالسلوك الإنسانيّ القول والفعل الظاهر والباطن.

- إنّ أثر الإيمان الحقيقيّ الواقعيّ ليس أثراً آنيّاً أو مرحليّاً.

- إنّ العلاقة بين الإيمان والسلوك علاقة تلازم، فالسلوك هو نتيجة للإيمان.

- السلوك الإنسانيّ هو مظهر للإيمان.

وقد اتّبعت في دراستي المنهج الوصفيّ، الذي يهتمّ بتوصيف حالةٍ أو ظاهرة، بما تتضمّنه من مستوياتٍ تربويّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّةٍ متنوّعة، إذ أساهم في تظهير الصورة الخارجيّة للحالة أو الظاهرة موضوع البحث، وتجميع البيانات الخاصّة بها والكاشفة عن مكوّناتها، وتحليل العوامل المؤثّرة فيها، وصولاً إلى تقديم تفسيرٍ ما لوجود الحالة أو الظاهرة أو الحقيقة وتأثيراتها على مختلف المستويات المجتمعيّة الأخرى.

 

12


6

المقدّمة

وقد واجهتني صعوباتٌ وعواقب أثناء كتابتي للبحث، أبرزها:

- النظر إلى مادّة العقيدة بمعزلٍ عن أنّها جزءٌ من المنظومة الإسلاميّة، وعدم وجود رابطٍ بينها وبين الأخلاق والفقه وباقي مكوّنات المنظومة.

- اعتبار مادّة العقيدة مختصّةً فقط بإيجاد الدليل حول التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد، ولا رابط بينها وبين السلوك الإنسانيّ.

يتألّف البحث من مقدّمة، وأربعة فصول، وخاتمة.

وقد تناولت في المقدّمة الدافع، وأهمّيّة الموضوع، وما الجديد فيه، مع عرضٍ للإشكاليّة وفرضيّاتها والصعوبات التي واجهتني خلال قيامي بالبحث.

أمّا الفصول، فهي:

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان وفيه المعنى اللغويّ والاصطلاحيّ للمفاهيم المستخدمة.

الفصل الثاني: حقيقة السلوك الإنسانيّ وفيه إطلالةٌ على معنى السلوك وأنواعه وخصائصه.

 

13


7

المقدّمة

الفصل الثالث: العلاقة بين الإيمان والسلوك الإنسانيّ وفيه طرحٌ لكيفيّة تحصيل الإيمان.

الفصل الرابع: مظاهر السلوك الإيمانيّ يُظهر تمظهر الإيمان من خلال الوحي القرآنيّ.

أمّا الخاتمة: فهي خلاصة ما توصّلت إليه.

 

 

14

 


8

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

تمهيد
المبحث الأوّل: العقيدة
المبحث الثاني: الإيمان
المبحث الثالث: الأثر
المبحث الرابع: العقيدة والشريعة
المبحث الخامس: علاقة العقيدة بالإيمان والشريعة
الخاتمة

 

15


9

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

تمهيد

سأتناول في هذا الفصل معنى العقيدة والإيمان والأثر لغةً واصطلاحاً، مبيّنةً طرق المعرفة لدى الإنسان، التي ساعدته في بناء المعرفة وصولاً إلى بناء عقيدة، وما لها من أثرٍ على حركة الإنسان.

المبحث الأوّل: معنى العقيدة

1-1 العقيدة في اللّغة

عقد: العين والقاف والدال أصلٌ واحد، يدلّ على شَدٍّ وشِدّةِ وُثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلّها. من ذلك عقْد البناء، والجمع أعقاد وعقود، قال الخليل: ولم أسمع له فعلاً، ولو قيل عقَّد تعقيداً؛ أيّ بنى عقداً لجاز، وعقدتُ الحبل أعقده عقداً وقد انعقد، وتلك هي العقيدة[1].


 


[1]  أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللّغة، ط1، 1422هـ/ 2001م، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت – لبنان ج1، ص654.

 

17


10

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

فالعقد، هو الربط والإبرام، والإحكام، والتوثيق، والشدّ بقوّة، والتماسك، والإثبات، ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحلّ، ويقال: عقده يعقده عقداً، ومنه عقد اليمين والنكاح، قال -تعالى- في محكم كتابه: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ﴾[1].

أمّا العقيدة، فهي مؤنّث العقيد؛ أيّ ما عُقِدَ عليه القلب والضمير، فلا يقبل الشكّ فيه لدى معتقده، وما تديَّن به الإنسان، والعقيدة جمعها عقائد[2].

فتكون العقيدة هي الحكم الذي لا يقبل الشكّ فيه، والعقيدة في الدين ما يقصد به الاعتقاد دون العمل: كعقيدة وجود الله وبعث الرسل، والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به، فهو عقيدة، سواء كان حقّاً أم باطلاً.

أمّا معنى العقيدة اصطلاحاً: هي مجموعةٌ من المفاهيم الثابتة التي تدخل القلب ويجتمع عليها، فلا تتزعزع ولا تضعف بمرور السنين. فهي الأمور التي يجب أن يصدِّق بها القلب، وتطمئنّ إليها النفس حتّى تكون يقيناً ثابتاً لا يمازجها ريب، ولا يخالطها

 


[1] القرآن الكريم، سورة المائدة الآية 89.

[2]  الباشا، محمّد خليل، الكافي المدرسيّ- معجم عربي حديث، ط4، 1999م، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت – لبنان، ص701.

 

18


11

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

شكّ. فهي الإيمان الجازم الذي لا يتطرّق إليه الشكّ، ويجب أن يكون مطابقاً للواقع. فهو لا يقبل شكّاً ولا ظنّاً، فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يُسمّى عقيدة، وسُمّي عقيدة؛ لأنّ الإنسان يعقد عليه قلبه.

فما يوجد في ذهن الإنسان من معلوماتٍ لا يُسمى عقيدةً ما لم يتأكّد منه ويقطع به ويعقد عليه قلبه.

1-2 البحث عن المعتقد

لا يمكن للإنسان أن يؤمن بشيءٍ ما إيماناً صحيحاً على نحو القطع واليقين؛ إلّا إذا علمه علماً تفصيليّاً واضحاً وأقام عليه الدليل. من هنا، كان الإيمان عن تقليدٍ للغير؛ كالآباء والأجداد والأشراف ورجال الدين عقيدةً غير مقبولةٍ عند الله تعالى. وقال -سبحانه- موبّخاً هؤلاء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔا وَلَا يَهۡتَدُونَ﴾[1]. وهذا لا يعني عدم جواز تقليد الآخرين في الأمور الشرعيّة.

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 104.

 

19


12

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

1-3 أصول الدين

ثمّة أسئلةٌ ما زالت تشغل بال الإنسان منذ القِدَم حتّى يومنا هذا، فالإنسان يحبّ بفطرته التي فطره الله عليها أن يعرف من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ ومن جاء به إلى هذا الوجود؟ وما هو الدور المرسوم له؟ وما الغاية من وجوده في هذا الكون؟ من هنا دارت معظم البحوث العقائديّة حول هذه التساؤلات وتفرّغت للإجابة عنها.

فمن خلال البحث عن مصدر وجود الإنسان ندخل في مسألة الألوهيّة، كذا الرّبوبيّة، والخالقيّة، فنصل إلى العدل، ومنها إلى ضرورة النبوّة والإمامة وصولاً إلى المعاد. ففرضت هذه الأمور نفسها كأصولٍ للدّين، لا بدّ من الإيمان بها عن قطعٍ ويقينٍ وعدم التقليد فيها.

1-4 طرق المعرفة

لكي يؤمن الإنسان بأصول الدين عن قطعٍ ويقين، لا بدّ له من سلوك طريقٍ يُعرِّفهُ إلى هذه الأصول ليعقد قلبه عليها، فكان عليه اتّباع سبيلٍ يهديه إلى المعرفة الحقّة. وأول سبل المعرفة هو اتّباع العقل والحسّ، وقد أشار الله -تعالى- إليهما بقوله: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡئ‍ٔا

 

20


13

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾[1]، وهاتان القدرتان اللّتان تساعدانه هما:

1- القدرة الحسّيّة: وهي قدرةٌ تُمكِّنه من معرفة الأمور الحسّيّة كالمبصرات والمشمومات والمذوقات والمسموعات والمحسوسات.

2- القدرة العقليّة: وهي قدرةٌ تُمكِّنه من معرفة ما لا يدركه الحسّ من المعاني العامّة من خلال معرفة آثارها، وذلك كمعرفة أنّ وراء الباب شخصاً عندما نسمع قرعاً على الباب، فترانا نقطع بوجوده ولو لم نره بأعيننا.

وممّا يُدرك بالقدرة العقليّة وجود المعلول من خلال إدراك علّته، ووجود العلّة من خلال إدراك وجود المعلول. وهكذا الحال في كلّ أثرٍ ومؤثِّر. وهذا النوع الأخير هو الذي يُستخدم كثيراً في المسائل العقائديّة. كما إنّ هناك طرقاً أخرى للمعرفة تتمثّل بالفطرة والوجدان، والوحي، والتاريخ، والكشف. ولا مجال هنا للولوج في تفاصيلها.

 


[1] القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 78.

 

21


14

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

المبحث الثاني: الإيمان

2-1 الإيمان لغةً

أمن: أمنت فأنا آمن، وآمنت غيري إذا أعطيته الأمان، والله -جلّ ثناؤه- المؤمن؛ فقد أعطى عباده الأمان من أن يظلم. وآمنت بالله: صدّقت، والإيمان يعني التصديق[1].

الإيمان: التصديق. وشرعاً التصديق بالقلب والإقرار باللّسان[2].

ففي كتاب الراغب الأصفهانيّ[3]: الإيمان من أمن، الأمان والأمانة بمعنى وقد أمنت، فأنا آمن وآمنت غيري من الأمن والأمان. والأمن ضدّ الخوف، والأمانة ضدّ الخيانة، والإيمان ضدّ الكفر. والإيمان بمعنى التصديق ضدّه الكذب. وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمن والأمان في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارةً اسماً للحالة الذاتيّة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسماً يؤمن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾[4]. فالعقل هو الذي به تتحصّل معرفة التوحيد، وتجري العدالة

 


[1]  أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، مجمل اللّغة، ط1، 1984م، دار الرسالة، ج1، ص102.

[2] إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيّات وحامد عبد القادر ومحمّد علي النجار، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول – تركية، ج1، ص28.

[3]  مفردات الرّاغب الأصفهاني.

[4]  القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 27.

 

22


15

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

والتعلّم، وقد أكّده الله -تعالى-: ﴿فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰت مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾[1]؛ أيّ آمناً من النار، وقيل: من بلايا الدنيا التي تصيب من قال فيهم: ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾[2].

فالإيمان هو إظهار الخضوع والقبول للشريعة، واعتقاده وتصديقه بالقلب، ومن كان على هذه الصفة فهو مؤمنٌ غير مرتابٍ ولا شاكّ. ولا يكون الإيمان دون التصديق بالقلب. والإيمان مولّدٌ للطمأنينة؛ لما يحمل من تصديقٍ قلبيّ.

2-2 الإيمان اصطلاحاً

ويقصد منها الإيمان بالله الواحد القهّار والملائكة والأنبياء ويوم المعاد وعدل الله، وبالتالي الإيمان بأصول الدين.

فمفردة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم، وإنّما تمّ التداول بها في الحوزات والمعاهد التي تُدرّس العلوم الدينيّة، حيث أُطلق على مادّة أصول الدين العقيدة. لكنّ القرآن الكريم استخدم لفظة الإيمان كتعبيرٍ بديلٍ عن العقيدة.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 97.

[2]  القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 55.

 

23


16

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

المبحث الثالث: الأثر

3-1 معنى الأثر

أثر جمعه آثار: علامة أو رسم متخلّف من شيء ما «آثار أقدام»[1].

الأثر: هو الخبر. ما بقي من رسم الشيء[2].

أثر: الهمزة والثاء والرّاء له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، ذكر الشيء، رسم الشيء الباني[3].

اتّضح أنّ لكلّ فعلٍ يقوم به الإنسان أثراً يظهر للعيان، ويؤثّر به، وعلى من حوله في اتّخاذ الطريق الذي سينهجه. كما إنّ أثر أعمال البشر مسجّلةٌ ليحاسبوا عليها، فإنّها هي ميزان الحساب يوم الحساب الأكبر: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَام مُّبِين﴾[4].

 


[1]  المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، المعجم العربيّ الأساسيّ، دار لاروس، 1989م، ص69.

[2]  أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، مجمل اللّغة، ط1، 1984م، دار الرسالة، ج1، ص86.

[3]  أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللّغة، ط1، 1422هـ/ 2001م، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ج1، ص42-43.

[4] القرآن الكريم، سورة يس، الآية 12.

 

24


17

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

المبحث الرابع: العقيدة والشريعة

إنّ العقيدة في الإسلام تقابل الشريعة؛ إذ الإسلام عقيدةٌ وشريعة، والشريعة تعني التكاليف العمليّة التي جاء بها الإسلام في العبادات والمعاملات. أمّا العقيدة فليست أموراً عمليّة، بل أمورٌ علميّة يجب على الإنسان أن يعتقدها في قلبه، وقد أكّدها الله -سبحانه- في كتابه العزيز، أو عن طريق الوحي للنبيّ (صلى الله عليه وآله). وهكذا تكون العقيدة؛ أيّ الإيمان، هي الدافع للقيام بتكاليف الشريعة.

4-1 العقيدة يقينٌ لا يقبل الشكّ

كي تصبح أصول الدين عقيدة، لا بد ّمن أن نُصدِّق بها تصديقاً جازماً لا ريب فيه، فإن كان فيها ريبٌ أو شكٌّ كانت ظنّاً لا عقيدة، قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ يَرۡتَابُواْ
وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ﴾[1]، فالعقيدة الحقّة هي العقيدة التي لا تقبل الشكّ وما دونها يحتاج إلى دليلٍ لإثباتها حتّى لا يشكّك بها.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 15.

 

25


18

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن ليس مطلق عقيدة لا تقبل الشكّ، ما عدا العقيدة الإسلاميّة وأصولها، لأنّ هناك الكثيرين ممّن اعتقدوا أموراً وآمنوا بها وتصرّفوا وفق إيمانهم فضلّتهم عن السبيل المستقيم.

هنا يجب الالتفات إلى أن ليس كلّ المعتقدات غيبيّة، فاللّه غيب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، أمّا الكتب والرسل فقد شاهدها الإنسان وعاينها، ولكنّ المراد هو الإيمان بنسبتها إلى الله-تعالى-، وأنّ الرّسل مبعوثون من عند الله، وأنّ الكتب السماويّة منزّلةٌ من عند الله، وهذا أمر غيبيّ.

4-2 العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة

إنّ العقيدة ليست مختصّةً بالإسلام فقط، بل لا بدّ لكلّ ديانةٍ أو مذهبٍ من عقيدةٍ يُقيم المعتقدون عليها نظام حياتهم، وهذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الجماعات، وكلّ ما اعتقد به الإنسان منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وإلى أن يورث الله الأرض لعباده الصالحين أنتج عقائد، وهي على قسمين:

القسم الأوّل: يُمثِّل العقيدة الصحيحة، وهي تلك العقائد التي جاء بها الرسل الكرام، وهي عقيدةٌ واحدة؛ لأنّها منزّلةٌ من عند

 

26


19

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

العليم الخبير، ولا يُتصوّر أن تختلف من رسولٍ إلى رسول، ومن زمانٍ إلى زمان.

والقسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها، وتعدّدها، وفسادها ناشئٌ من كونها نتاج أفكار البشر، ومن وضع مفكّريهم، ومهما بلغ البشر من عظيم الشأن، فإنّ علمهم يبقى محدوداً مقيّداً بقيود متأثّرين بما حولهم من عاداتٍ وتقاليد وأفكار.

وقد يأتي فساد العقيدة من تحريفها، وتغييرها، وتبديلها، كما هو الحال بالنسبة إلى العقيدة اليهوديّة أو النصرانيّة؛ فإنّهما حُرّفتا منذ عهدٍ بعيد، ففسادهما كان بسبب التحريفات البشريّة...

4-3 أين العقيدة الصحيحة اليوم؟

إنّ العقيدة الصحيحة اليوم لا توجد إلّا في الإسلام؛ لأنّه الدين المحفوظ الذي تكفّل الله بحفظه: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[1].

ومن أراد أن يعرف العقيدة السليمة فإنّه لن يجدها في اليهوديّة، ولا في النصرانيّة، ولا في كلام الفلاسفة، وإنّما يجدها في الإسلام، في أصليه: الكتاب والسنّة، نديّةً طريّةً صافيةً مشرقة،

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الحجر، الآية 9.

 

27


20

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

تقنع العقل بالحجّة والبرهان، وتملأ القلب إيماناً ويقيناً ونوراً وحياة: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِيم﴾[1].

فدين الإسلام دينٌ عالميٌّ شامل، خاطب العقل والفطرة الإنسانيّة، كما إنّه قُدّم للإنسان بالبرهان والدليل ولم يُفرض فرضاً على البشر، فالتوحيد استدلّ عليه ببراهين عدّة؛ كبرهان النظم وبرهان الصِّدّيقين.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الشورى، الآية 52.

 

28


21

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

المبحث الخامس: علاقة العقيدة بالإيمان والشريعة

امتدح الله -سبحانه- في كتابه الكريم الإيمان وأهله في قوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾[1]، والإيمان الذي أثنى الله على أهله ليس هو العقيدة فحسب، ولكنَّ العقيدة تُمثِّل قاعدة الإيمان وأصله، فالإيمان عقيدةٌ تستقرّ في القلب استقراراً يلازمه، ولا ينفكّ عنه، ويعلن صاحبها بلسانه عن العقيدة المستكنة في قلبه، ويُصدّق الاعتقاد والقول بالعمل وفق مقتضى هذه العقيدة. وقال الشيخ شفيق جرادي[2]: «حقيقة الإيمان تكمن في الوصال بين الله والإنسان... بالتالي، الدين هو المصداق الأكمل للإيمان»[3].

فالعقيدة التي تسكن القلب، ولا يكون لها وجودٌ في العلانية، عقيدةٌ خاويةٌ باردة، لا تستحقّ أن تسمّى عقيدة، وقد نرى كثيراً من الناس يعرفون الحقيقة على وجهها، ولكنّهم لا ينصاعون لها، ولا يصوغون حياتهم وفقها، بل قد يعارضون الحقّ الذي استيقنوه ويحاربونه، فهذا إبليس يعرف الحقائق الكبرى معرفةً

 


[1]  القرآن الكريم، سورة المؤمنون، الآية 1.

[2]  الشيخ شفيق جرادي من علماء الطائفة الشيعيّة، وُلد في بيروت أواسط الخمسينيّات من القرن العشرين، له العديد من المؤلّفات الدينيّة والأخلاقيّة، وهو محاضر في عدد من الحوزات الدينيّة في لبنان، ويترأّس معهد المعارف الحكميّة.

[3]  جرادي، شفيق: مجلّة المحجّة «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»، عدد24، شتاء 1432هـ/ 2012م، ص13.

 

 

29

 


22

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

يقينيّة، يعرف الله، ويعرف صدق الرسل والكتب، ولكنّه نذر نفسه لمحاربة الحقّ الذي يعرفه.

إذاً، فالإيمان ليس مجرّد معرفةٍ باردةٍ بالله، أو معرفةٍ يستعلي صاحبها عن الإقرار بها، أو يرفض أن ينصـاع لحكمها، بل هي عقيدةٌ عقد قلب صاحبها عليها، وأعلن عنها بلسانه، وارتضى المنهج الذي صاغه الله متّصلاً بها. فكان الإيمان مُظهراً للعقيدة ومرادفاً لها، كما إنّ الإيمان في الشرع هو معرفةٌ وإعمال الجوارح بهذه المعرفة، فيكون الإيمان معرفةً بالقلب وإقراراً باللسان وعملاً بالأركان. وعليه، لن يُقدم الإنسان على القيام بأيّ تكليفٍ من تكاليف الشريعة الإسلاميّة دون الإيمان بأصول الدين الإسلاميّ.

5-1 شروط الإيمان

إنّ للإيمان شرطين: عقيدةٌ نقيّةٌ راسخةٌ تسكن القلب، وعملٌ يظهر على الجوارح، فإذا فُقِد أحد الركنين، فإنّ الإيمان يزول أو يختلّ؛ إذ الاتّصال بين الطرفين وثيقٌ جدّاً.

فالإيمان هو الشجرة، وجذورها العقيدة التي تغلغلت في قلب صاحبها، والسوق والفروع والثمار هي العمل.

ولا شك ّفي أنّ الجذور إذا خُلعت أو تعفّنت فسدت الشجرة،

 

30


23

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

ويبست، ولم يبقَ لها وجود، وكذلك الإيمان لا يبقى له وجودٌ إذا زالت العقيدة، وكذلك الأعمال إذا تُركت أو تُرك جزءٌ منها، فإنّ الإيمان ينقص أو يزول. وفي هذه النقطة يقول الشيخ شفيق جرادي: «أمّا الإيمان فهو حالةٌ قابلةٌ للزيادة والنقصان، وللتفرّع أو التوزّع بين المؤمن والكافر، وتنتقل إلى الذات حينما تستقرّ في قلبٍ ينفتح على كلّ وارد»[1]؛ لذا كان للإيمان درجاتٌ تعود إلى العمل المتّفق والعقائد، وبحسب قوّة أو درجة الإيمان يأتي العمل كاملاً أو ناقصاً أو باطلاً.

5-2 العناية بالعمل

وبسبب تعلّق العمل بالإيمان وجب على الإنسان الاعتناء بأفعاله وحركاته وكلماته التي يتفوّه بها، ولا سيّما ما فرضه الله -تعالى- علينا أو حبّب إلينا القيام به، وبترك ما نهى عنه من أعمال؛ لأنّ ذلك جزءٌ من الإيمان، فالعمل المتروك وإن كان قليلاً، يُنقص من الإيمان بذلك المقدار والعكس صحيح. ولكي لا يكون عمل الإنسان ناقصاً فينقص إيمانه، وجب عليه أن يعلم أنّ العقيدة الإسلاميّة لا تقبل التجزئة أبداً؛ لأنّها وحدةٌ مترابطةٌ شديدة الترابط. قال -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن

 


[1]  جرادي، شفيق: مجلّة المحجّة «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»، (م.س)، ص20.

 

31


24

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡض وَنَكۡفُرُ بِبَعۡض وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابا مُّهِينا﴾[1]. والتكذيب بجزئيّةٍ من جزئيّات الأصول الاعتقاديّة ممّا ثبت في الكتاب أو السنّة ثبوتاً قاطعاً يُعدّ كفراً.

5-3 قوّة تأثير الإيمان

يمتاز الإيمان بسلطانٍ قويٍّ قاهرٍ على النفوس، فصاحب الإيمان يرى أنّ عقيدته التي آمن بها تُمثّل الحقيقة الكاملة، فهو بطبيعته يُلزم صاحبه بالخضوع والتسليم، وعدم التناقض، فيخلص صاحب الإيمان لعقيدته إخلاصاً خارقاً للعادة، حتّى لا يبالي بأن يضحّي في سبيلها بالمال والنفس. فالمؤمن يعمل وفق معتقداته، فيسعى لتبيان مقاصده من خلال ما آمن به فيتمظهر إيمانه بسلوكه. فكان للإيمان تأثيران مباشران:

1- على الفرد نفسه: فالإنسان الذي ملأ قلبه الإيمان تراه يعيش حياة المسؤول والمراقب أمام الله سبحانه، فتراه يتأرجح بين الخوف والرجاء، وهنا يقول الشيخ سمير خير الدين[2]: «يولّد هذا إحساساً باليقظة والتنبّه وترك الغفلة. وبالتالي، عندما

 


[1]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآيتان 150–151.

[2] الشيخ سمير خير الدين، باحث إسلاميّ ومدرّس ومشرف ومنسّق في مدرسة الإمام المهديّ (عجل اللله تعالى فرجه).

 

32


25

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

يطبّق القانون يطبّقه؛ لأنّه عبادةٌ يتقرّب بها إلى الله مع شعورٍ إنسانيّ ٍبالخشيّة»[1].

وكلّما كان الإيمان قويّاً في قلب المرء كلّما حثّه على العمل أكثر، فيصبح الإيمان مانعاً للإنسان من التزلزل أو التراجع، بل يصبح هو الدافع لامتلاك الفضائل. وهنا، يقول الشيخ سمير خير الدين: «كلّما زاد الإيمان قويت الفضائل، وكلّما ضعف الإيمان ضعفت الفضائل، وحلّت محلّها الرذائل، فمن غير الأرضيّة العقائديّة لا حياة لها، محوريّة الإيمان في انبثاق الملكات والفضائل»[2].

2- على المجتمع: إنّ إيمان الإنسان المبنيّ على بناءٍ عقائديٍّ صحيحٍ وسليمٍ ستراه ينعكس سلوكاً مع الآخرين كما ينعكس عليه أوّلاً، ويقول الشيخ شفيق جرادي: «تطلع تباشير الإيمان الروحيّ عند منعطفاتٍ حسّاسةٍ من الزمن؛ لتعمل على استعادة القيم والمعنويّات التي أضاعها الناس بما كسبت أيديهم، لتوجّه القلوب نحو المعبود مجدّداً ولتثار إنسانيّة الإنسان وإيمانه الروحيّ، فتدفع نحو بناءاتٍ من الأعمال الصالحات البانية لجسور المحبّة والعيش والعدالة والعزة»[3]

 


[1]  خير الدين، سمير: مجلّة المحجّة «الإيمان والإنسان - مقاربة قرآنيّة»، عدد24، شتاء 1432هـ/ 2012م، ص39.

[2]  المصدر نفسه، ص43.

[3]  جرادي، شفيق: مجلّة المحجّة «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»، (م.س)، ص6.

 

33


26

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

5-4 ضرورة العقيدة

تظهر أهميّة العقيدة وضرورتها في أنّ الأعمال تقوم بها وتصحّ بها إن كانت عقيدةً حقّة، قال -تعالى-: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَر مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰه وَٰحِدۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلا صَٰلِحا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾[1].

فالأعمال لا تُقبل إلّا إذا كانت خالصةً من الشرك؛ لذا، نجد أنّ أوّل ما دعا إليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وكذلك كانت دعوة الأنبياء السابقين (عليهم السلام). وهذا تأكيدٌ على ضرورة الإيمان وأهميّته بالنسبة إلى الإنسان. إلّا أنّ أهميّة الإيمان لا تنحصر بالفرد وحده، وإن كان الالتزام به سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة، بل هو على قدرٍ من الأهميّة على صعيد المجتمع بما يُهيّئ لنا مجتمعا ًتسود فيه العدالة والبرّ والتعاون والمحبّة، مجتمعاً خالياً من الفساد والقهر والظلم.

5-5 دور الإيمان في حركة الإنسان

لا شكّ في أنّ الأشياء بوجودها الواقعيّ لا تحرّك الإنسان ما لم يتحوّل هذا الوجود إلى وجودٍ علميّ، ويأخذ شكل العقيدة

 


[1] القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 110.

 

34


27

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

الراسخة في النفس؛ إذ العقيدة وحدها هي القادرة على تحريك الإنسان وتسكينه.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة الرّاسخة المزروعة داخل النفس البشريّة، أكّد الإسلام الحنيف على ضرورة الإيمان وأهميّته؛ ليتولّد داخل الإنسان محرّكٌ يحرّكه نحو الطاعة والعمل الصالح، ويبعده عن المعصية وارتكاب الشرور. قال -تعالى-: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَد مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ﴾[1].

وبذلك يكون الإيمان الحجر الأساس في حياة الإنسان، فبه يقدم على الدنيا بكلّ ثباتٍ واطمئنان، ويُقدم على العمل الصالح، وبه يحقّق الإنسان سعادته، وتزول همومه، ومن دونه يكون الإنسان مشوّش الأفكار والأحاسيس متذبذباً ومضطرباً. وبما أنّ الإسلام دينٌ عالميٌّ شامل، هذا يدعو أن تتعدّى تشريعاته الفرد، لتصل إلى المجتمع وتنظيمه للوصول إلى مجتمعٍ مثاليّ، يُنشئه الإنسان الكامل.

لذا، راعت التشريعات الإسلاميّة الحياة الاجتماعيّة، وفرضت الكثير من الأحكام الواجبة أو المستحبّة، ممّا يعزّز الروابط

 

 


[1] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 285.

 

35


28

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

الإنسانيّة في المجتمع. على سبيل المثال، صلاة الجماعة في المسجد، وحقّ الجار، إلى صلة الرّحم، والخمس، والزكاة، ومواضيع متعدّدة، قد تبدو للوهلة الأولى فرديّةً يجب على الإنسان القيام بها لينال الثواب، إلّا أنّها مؤثّرةٌ ببيئة الإنسان التي يحيا بها، فتكون العلاقة علاقة تأثّرٍ وتأثير.

فالإنسان محكومٌ بسلسلة علاقات، هي:

- علاقته مع ربّه بما فيها الوحي والأنبياء.

- علاقته مع البشر بما فيها علاقته مع نفسه.

- علاقته مع الطبيعة.

كثيرةٌ هي الأمثال التي يمكن من خلالها أن تظهر علاقة الفرد بما يؤمن به على مجتمعه وبيئته، وتُبيّن الترابط القويّ بين الإيمان والعمل على مستوى الفرد والمجتمع، وهنا أشار الشيخ سمير خير الدين إلى: «أنّ الإيمان نوعٌ من الوجود المشكّك الذي تتفاوت فيه المراتب شدّة وضعفاً وقرباً وبُعداً»[1].

 


[1] خير الدين، سمير: مجلّة المحجة «الإيمان والإنسان مقاربة قرآنيّة»، (م.س)، ص39.

 

36


29

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

الخاتمة

إنّ العقيدة لغةً مأخوذةٌ من العقد بمعنى الرّبط؛ وذلك لأنّ العقيدة هي المعلومات التي ارتبطت بالقلوب وترسّخت في الأنفس. فما يوجد في ذهن الإنسان من معلوماتٍ لا يُسمّى عقيدة ما لم يتأكّد منه ويقطع به ويعقد عليه قلبه. كما يتّضح أنّ الإيمان مرادفٌ للعقيدة، وبالتالي هما إقرارٌ بالقلب لما في العقل. ويقول الشيخ شفيق جرادي: «الإيمان تعبيرٌ يعيشه الوجدان في الوقت الذي تقصر الأذهان عن معناه وتحديده... الإيمان حالٌ منغرسةٌ في أصل جبلّتنا، وتتولّد فينا عند تلاقحنا مع فكرةٍ أو معتقد»[1]، ويقول أيضاً: «فمن الإيمان مركز أمن الأنفس وطمأنتها»[2]. وكذا يؤكّد الشيخ شفيق: «فالتصديق هو الإيمان، وأنّ ما عداه إمّا شروطٌ أو مقدمات»[3].

فالإيمان يستعمل تارة ًاسماً للشريعة التي جاء بها النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، ويوصف به كلّ من دخل في شريعته مقرّاً بالله وبنبوّة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، وطوراً يُستعمل على سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس للحقّ على سبيل التصديق، وذلك باجتماع

 


[1]  جرادي، شفيق: مجلّة المحجّة «الإيمان صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»، (م.س)، ص13.

[2]  المصدر السابق، ص14.

[3] المصدر نفسه، ص16.

 

37


30

الفصل الأوّل: حقيقة العقيدة والإيمان

ثلاثة أشياء: تحقيقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللّسان، وعملٌ بحسب ذلك بالجوارح. ويُقال لكلّ واحدٍ من الاعتقاد والقول الصادق والعمل الصالح: إيمان.

 

 

38


31

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

 

تمهيد
المبحث الأوّل: معنى السلوك
المبحث الثّاني: خصائص السلوك
المبحث الثّالث: أنواع السلوك
المبحث الرّابع: أقسام السلوك
المبحث الخامس: محدّدات السلوك
المبحث السادس: كيف يتوصّل الإنسان إلى أن يجعل سلوكه خيراً؟
الخاتمة

 

39


32

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

تمهيد

بعد أن عرضنا معنى العقيدة والإيمان، سأتناول في هذا الفصل معنى السلوك والمقصود منه، مشيرةً إلى خصائصه وأنواعه، عارضةً لأقسامه ومحدّداته التي تشكّله. وكيف يمكن للإنسان أن يجعل سلوكه خيراً؟

المبحث الأوّل: معنى السلوك

تُستخدم كلمة السلوك اليوم للدلالة على الجانب الأخلاقيّ للإنسان، وهي كلّ فعلٍ أو قولٍ يُقدم عليه الإنسان؛ لذا تعدّدت تعريفاته.

يُعرّف أحمد راجح [1]السلوك بأنّه: «أيّ نشاطٍ يصدر عن الإنسان ذهنيّاً كان أم حركيّاً؛ أيّ أنّه كلّ ما يصدر عن الفرد من استجاباتٍ مختلفةٍ إزاء مواقف يواجهها، إزاء مشكلةٍ يحلّها أو خطرٍ يهدّده، أو مشروعٍ يخطّط له، أو درسٍ يحفظه، أو مقالةٍ يكتبها، أو آلةٍ يصلحها، أو أزمةٍ نفسيّةٍ يكابدها»[2].

 

 


[1] أحمد راجح: من علماء النفس المصريّين، كان يشغل منصب أستاذ علم نفس بكلّيّة الآداب - جامعة الإسكندريّة.

[2]  موقع إلكتروني، «موقع المقاتل»، الثلاثاء 19 تشرين الأول 2010م.

 

41


33

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

ويُعرّفه وليم الخولي[1] بأنّه: «مصطلحٌ يشير إلى وصفٍ موضوعيٍّ لما يصدر عن الكائن الحيّ. فالكلمة قريبةٌ في معناها من كلمة نشاط...، وإنّما يمكن القول: إنّ النشاط أعمّ من السلوك؛ لأنّ النشاط تعبيرٌ عامّ، وليس بالضرورة أن يشير إلى غرضٍ معيّن. أمّا كلمة سلوك فيقتصر استخدامها عادةً على ما يصدر عن الكائن كلّه، لا مجرّد كائنٍ صغيرٍ منه متضمّناً غرضاً أو معنى»[2].

ويرى عزّ الدين جميل عطيّة[3]: «إنّ السلوك كلّ أوجه نشاط الفرد القابلة للملاحظة المباشرة أو غير المباشرة. ومن أمثلة السلوك القابلة للملاحظة: المشي، الكلام، الحركات اللإراديّة التي تصدر عن الفرد. أمّا السلوك القابل للملاحظة غير المباشرة، كالتفكير، والتذكّر والعواطف، فيمكن الاستدلال عليه من كلام الفرد وأفعاله الظاهرة»[4].

 


[1]  مؤلّف الموسوعة المختصرة في علم النفس والطبّ العقليّ.

[2]  موقع إلكتروني، «موقع المقاتل»، الثلاثاء 19 تشرين الأول 2010م.

[3]  مؤلّف السيكولوجيّة الساذجة في تفسير الناس للسلوك والمواقف.

[4] موقع إلكتروني، «موقع المقاتل»، الثلاثاء 19 تشرين أول 2010م.

 

41


34

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

ويُعرّفه جابر عبد الحميد وعلاء كفافي: «بأنّه أفعال الفرد السيكولوجيّة وردود الأفعال والتفاعلات استجابةً منه للمثيرات الخارجيّة والداخليّة، ويتضمّن ذلك الأنشطة التي تلاحظ ملاحظةً موضوعيّة، أو الأنشطة التي تلاحظ ملاحظةً استنباطيّة (بالتأمّل الذّاتيّ)، وكذلك العمليّات اللاشعوريّة»[1].

فالسلوك نشاطٌ يصدر عن الكائن الحيّ نتيجةً لتفاعله مع ظروفٍ بيئيّة، لمحاولة تعديلها وتغييرها. وما النشاط الذي يصدر عن الكائن الحيّ إلّا مجموعةٌ من الاستجابات التي يقوم بها للردّ على مثيراتٍ ومنبّهاتٍ معيّنة؛ لذا تأتي الاستجابات على الشكل الآتي: حركيّة، لفظيّة، فسيولوجيّة، انفعاليّة، معرفيّة أو الكفّ عن النشاط؛ لذا، يشمل السلوك:

1- كلّ ما يفعله الإنسان أو يقوله.

2- كلّ ما يصدر عنه من نشاطٍ عقليّ.

3- كلّ ما يستشعره من تأثيراتٍ وجدانيّة.

 

 


[1]  المصدر نفسه.

 

43


35

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

المبحث الثاني: خصائص السلوك

إنّ للسّلوك خصائص كثيرة، منها:

1- أنّه نشاطٌ كلّيٌّ حركيّ يتضمّن جانباً معرفيّاً ووجدانيّاً وحركيّاً، يتفاوت من موقفٍ لآخر. وهذا معناه، أنّ السلوك يصدر عن الإنسان كوحدةٍ جسميّةٍ ونفسيّةٍ متكاملةٍ لا تتجزّأ.

2- يتميّز السلوك بأنّه موجّهٌ في اتّجاهٍ معيّنٍ دون آخر، وأنّ له مقداراً كما يبدو من شدّة السلوك أو مدى استمراره. وأنّه يتميّز بالدقّة كما تظهر في الوقت المستغرق نفسه لأداء السلوك ونقص عدد الأخطاء التي تصدر عن الفرد قبل صدور الاستجابة الصحيحة.

3- يوصف السلوك بأنّه ديناميكيّ؛ أيّ يتغيّر من وقتٍ لآخر وبسرعة، بناءً على ما يتعرّض له الفرد من مثيراتٍ ومنبّهاتٍ موقفيّة.

4- يتحدّد السلوك بعوامل متعدّدة، منها: عوامل مستمدّة من الوراثة، وعوامل مستمدّة من تاريخ حياة الفرد وما مرّ به من خبرات، وعوامل مستمدّة من حاجات الفرد وبنية شخصيته، وعوامل مستمدّة من البيئة التي يعيش فيها.

 

44


36

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

5 - يتميّز السلوك بالمرونة؛ أيّ أنّه قابلٌ للتعديل، رغم وجوده كوحدةٍ جسميّةٍ ونفسيّةٍ متكاملةٍ لا تتجزّأ، قال -تعالى-: ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1].

6- السلوك محصّلة فعلٍ وردّ فعل.

7- نمائيّة السلوك؛ أيّ إنّ للسلوك هدفاً يسعى لبلوغه عبر إشباع حاجات الكائن الحيّ، وكذلك حاجته إلى التقدير الاجتماعيّ وإلى الشعور بالأمن والطمأنينة، وإلى حلّ ما يعترضه من مشكلاتٍ أو مواجهة ما يعانيه من صراعاتٍ داخليّةٍ بين دوافعه، أو خارجيّةٍ ضدّ الظروف الّتي تعترض طريق تحقيق إشباع حاجاته.

8- السلوك مركزي ّالتنظيم؛ إذ تنظّمه ذات الفرد.

9- السلوك يتغيّر ويتبدّل وذلك تبعاً لنموّ الفرد.

10- السلوك توافقيّ: حيث يحاول الفرد إيجاد التوازن بين سلوكه وبيئته ومعتقداته، فترى السلوك يختلّ بحال عدم وجود هذا التوازن.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الشمس، الآيات 7 إلى 10.

 

45


37

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

11- يرتقي السلوك في الأفعال المنعكسة والتي غالباً ما تكون لا إراديّةً وقهريّةً جبريّة، وهو غير قابلٍ للتعديل إلّا في حدودٍ ضيّقةٍ جدّاً إلى الأفعال الإراديّة. ويرتقي السلوك الحركيّ من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها، وكلّما نجح الفرد في الاستدلال على الأشياء برموزها زادت قدرته على الفهم والاستبصار والاستدلال، والتبصّر بعواقب الأمور. كذلك يرتقي السلوك المعرفيّ من الإحساس إلى التصوّر الذهنيّ، إلى أن يكون الفرد قادراً على تصوّر المعاني الكلّيّة، وتعقّل المعاني المجرّدة وتنظيمها في التفكير[1].

 


[1]  الموقع الإلكتروني، «موقع المقاتل»، الثلاثاء 19 تشرين الأول 2010م.

 

46


38

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

المبحث الثالث: أنواع السلوك

2-3-1 طبيعة السلوك الإنسانيّ

إنّ الإنسان مخلوقٌ من طينٍ وروح؛ لذا هو مزدوج الاستعدادات. فهو مزوّدٌ باستعداداتٍ متساويةٍ للخير والشر، والهدى والضلال، وإنّه قادرٌ على التمييز بين ما هو خير، وما هو شرّ على وجه الإجمال غالباً. قال -تعالى-: ﴿وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ﴾[1] وبجانب هذه الاستعدادات الفطريّة الكامنة، فإنّ هناك قوّةً واعيةً مدركةً مغروسةٌ في البشر، فمن استخدمها في تزكية نفسه وتطهيرها من الشرّ أفلح، ومن أخمد هذه القوّة خاب وخسر.

2-3-2 أنواع السلوك الإنسانيّ

إنّ السلوك هو عمل الإنسان الإراديّ المتّجه نحو غايةٍ معيّنةٍ مقصودة، يهدف من خلاله الإنسان إلى تحقيق مطالبه واحتياجاته الجسديّة أو النفسيّة أو الفكريّة. يتنوّع السلوك الإنسانيّ بتنوع النظرة التي تُحدّده، فنجد:

1- السلوك الحركيّ.

2- السلوك المعرفيّ.

 

 


[1] القرآن الكريم، سورة البلد، الآية 10.

 

47


39

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

3- السلوك الوجدانيّ.

4- السلوك الإراديّ واللإراديّ.

5- السلوك الفطريّ والمكتسب.

6- السلوك الفوريّ والمرجأ.

7- السلوك الإحجاميّ والإقداميّ.

8- السلوك الفرديّ والجماعيّ.

9- السلوك السويّ والشاذّ.

 

48


40

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

المبحث الرابع: أقسام السلوك الإنسانيّ

يمكن تقسيم السلوك الإنساني إلى أنواع عدّة، منها:

1- السلوك الممدوح، بمعنى السلوك الأخلاقيّ، على سبيل المثال: الكرم، والشجاعة، ومساعدة الفقراء، والدفاع عن الحقّ، وإزهاق الباطل، ونصرة المظلوم...وكلّ ما يصحّ أن يطلق عليه أنّه فضيلةٌ أو قيمة.

2- السلوك غير الممدوح، بمعنى السلوك غير الأخلاقي، على سبيل المثال: البخل، والظلم، وكلّ ما يطلق عليه رذيلة.

3- سلوك إراديّ، إلّا أنّه غير متعلّقٍ بالأخلاق، وهو بدوره ذو شقّين:

أ- على سبيل المثال: استجابةً لغريزة الجسد؛ كالأكل المباح عن جوع، والشرب المباح عن ظمأ، فهذا لا علاقة له بميزان الأخلاق إيجاباً أو سلباً. هذا العمل لا دافع أخلاقيّاً مباشر للقيام به، إلّا أنّ له نتيجةً مؤثّرةً في أخلاقيّات الإنسان.

ب- على سبيل المثال: الشراهة في الأكل، والإقدام على الأكل دون الإحساس بالجوع. وكذلك إنّ لهذا العمل نتيجةً مؤثّرةً سلباً على الإنسان.

 

49


41

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

ويتّضح هنا، أنّ استجابة الإنسان لغرائزه قد تكون نتيجتها حميدةٌ أو غير حميدة، فما يؤمن به الإنسان يحركه لاتّخاذ السلوك المناسب لما يؤمن.

 

50


42

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

المبحث الخامس: محدّدات السلوك

يُعدّ السلوك محصّلةً لتفاعل عوامل عدّة، منها:

1- العوامل الجبليّة – الوراثيّة.

2- الحالة الفسيولوجيّة.

3- الخبرات السابقة المتعلّمة.

4- المؤثّرات البيئيّة المحيطة بالفرد.

لذا، يُرجع السلوك إلى العوامل الشخصيّة والنفسيّة والمعتقدات والبيئة، التي كانت سبباً لاتّخاذ أيّ سلوكٍ يقوم به الفرد، كما يُرجع إلى العوامل الموقفيّة التي أثارت السلوك.

 

51


43

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

المبحث السادس: كيف يتوصّل الإنسان لجعل سلوكه خيّراً؟

إنّ الإيمان النابع من الإسلام المحمّديّ الأصيل يؤسّس لقاعدةٍ فكريّةٍ يبني عليها أفكاره ومعتقدته، بحيث يُميّز بها الحقّ من الباطل، والصواب من الخطأ، متحكّماً بالميول والأهواء بما يتّفق مع إيمانه ساعياً سعياً دؤوباً إلى ليكون ذاك الإنسان الكامل المستخلف في الأرض.

فالسلوك فعلٌ يستجيب له الكائن الحيّ لدافعٍ داخليّ، غريزةٍ أو حاجةٍ عضويّة، استجابةً معيّنةً واضحةً للعيان، وتكون عضليّةً أوعقليّة، أو الاثنين معاً .وسواء ميّزنا السلوك الظاهر والصريح- وهو الذي يمكن ملاحظته وتسجيله- من السلوك المضمر أو المستتر-وهو الذي يصعب على الآخرين ملاحظته؛ لأنّه ربّما اشتمل على مشاعر أو أفكار، ولكنّه قد يستنتج من السلوك الظاهر للأفراد- فإنّ السلوك يبقى هو هو: «تصرّفٌ أو فعلٌ أو تصرّفاتُ قوليّةٌ يقوم بها الإنسان إشباعاً لجوعه أو غريزة، وذلك نتيجةً لمشاهدة واقعٍ محسوسٍ أمامه، أونتيجةٍ لتفكيره بواقعٍ غير مشاهد».

وهذا هو الفرق بين السلوك الإنسانيّ والسلوك الحيوانيّ، فإنّ

 

52


44

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

سلوك الحيوان فطريٌّ فقط، بينما سلوك الإنسان موجَّهٌ بتوجيهٍ داخليّ (مجموعة المفاهيم أو الأفكار التي صدّق وآمن بها)، ولذلك تميّز الإنسان عن الحيوان بأنّه كائنٌ حيٌّ مفكّر.

 

53


45

الفصل الثاني: السلوك الإنسانيّ

الخاتمة

السلوك هو أيّ نشاطٍ يصدر عن الإنسان ذهنيّاً كان أم حركيّاً، فهو كلّ ما يصدر عن الفرد من استجاباتٍ مختلفة، وبالتالي هو أوجه نشاط الفرد كلّها القابلة للملاحظة المباشرة أو غير المباشرة؛ لذا هو يشمل كلّ ما يفعله أو يقوله الإنسان، أو كلّ ما يصدر عنه من نشاطٍ عقليٍّ أو ما يستشعره من تأثيراتٍ وجدانيّة.

ويتميّز السلوك بأنّه يصدر عن الإنسان كوحدةٍ جسميّةٍ ونفسيّةٍ متكاملةٍ لا تتجزّأ. وهو ديناميكيّ، وتحدّده عوامل عدّة، منها: الوراثة والبيئة وغيرهما. كما يتميّز بأنّه منظّم، وينمو ويتبدّل مع نموّ الفرد، وهو قابلٌ للتعديل.

 

54


46

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

 

تمهيد
المبحث الأوّل: أهمّيّة الأفكار والمعتقدات
المبحث الثاني: الحاجة إلى منهج لتصفية الأفكار
المبحث الثالث: بناء الفكر الإنسانيّ
المبحث الرابع: العلم والإيمان
المبحث الخامس: علاقة الإيمان بالأخلاق
الخاتمة

 

55


47

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

تمهيد

إنّ المفاهيم أو المعتقدات هي التي تُنظِّم السلوك الإنسانيّ وتوجّهه، فلا بدّ عندئذٍ من مراقبة العمل وتوجيهه للارتقاء والتحوّل من الخطأ إلى الصواب، فيتحوّل السلوك الإنسانيّ إلى الصواب، وقد جرى التصديق بهما بناءً على قاعدةٍ فكريّةٍ لدى الإنسان، وهي كلّها مبنيّةٌ على هذه القاعدة الفكريّة ونابعةٌ منها؛ إذ لا بدّ من أن ينصبّ العمل عليها-أيّ القاعدة الفكريّة- وهي العقيدة التي تحدّد الفكر عن الحياة. ومن هنا يمكننا القول، إنّنا وصلنا إلى ترتيب أولويّات التغيير لدى الإنسان.

إذاً أوّل ما يجب أن يُبدأ به هو العقيدة، بأن تُعطى العقيدة للإنسان بطريقة بحثٍ عقلي ّتستند إلى البديهيّات التي لا يختلف عليها عاقلان؛ حتّى يقتنع عقله ويمتلئ قلبه طمأنينة. وبقدر ما تكون هذه الثوابت راسخة، تكون العقيدة كذلك. وحينذاك، يكون لدى الإنسان الفكر الأساس الذي يستطيع أن يبني أفكاره الأساسيّة عليه، وبالتالي يستمد ّمنه النظم التي تعالج حياته

 

57


48

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

وتنظّم سلوكه وسلوك من يعيش معه على هذه الأرض. فمن خلال هذه العقيدة وعلى أساسها، تتكوّن المفاهيم لدى الإنسان. إن كانت هذه المفاهيم صحيحةً أنتجت سلوكاً صحيحاً، وإن كانت خاطئةً أنتجت سلوكاً خاطئاً. والحقيقة، أنّ المفاهيم التي يكوّنها الإنسان، وبالتالي سلوكه، تكون صحيحةً بقدر ما تكون العقيدة -التي كوّن هذا الإنسان مفاهيمه على أساسها- صحيحة، وتكون خاطئةً كذلك أيضاً، وإنّما نعرف صحّة السلوك أو المفاهيم من مدى صحّة الفكر الكلّي ّالذي نبعت منه هذه المفاهيم، وهو العقيدة.

فالمفاهيم هي حكمٌ على واقعٍ معيّن، تتمّ نتيجةً لربط هذا الواقع بالمعلومات والحقائق الموجودة أصلاً لدى الإنسان. وحتّى تكون هذه المفاهيم صحيحة، لا بدّ من الدقّة في عقل الواقع وربطه بالحقائق المناسبة، وهي الأفكار الكلّيّة النابعة من العقيدة.

فإنّ نتيجة تلك العمليّة الفكريّة؛ أيّ الحكم على الواقع بالقبول أو الرفض، أو بالصّحّة أوالخطأ، هي التي تُعيّن للإنسان الميول نحو هذا الواقع من إقبالٍ أو إعراض، ومن حبٍّ أو بغض.

 

58


49

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الأوّل: أهميّة الأفكار والمعتقدات

تتأثّر الأفكار والمعتقدات بشكلٍ كبيرٍ في صياغة الإنسان، نكتفي بالإشارة إلى بُعدين أساسيّين لهما علاقةٌ بالجانب الفرديّ لهذا التأثير.

البُعد الأوّل: دور الأفكار في صياغة السلوك

يُشير المختصّون في مجال علم البرمجة اللّغوية العصبيّة «إنّها مجموعة طرقٍ وأساليب تعتمد على مبادئ نفسيّة، تهدف لحلّ بعض الأزمات النفسيّة ومساعدة الأشخاص على تحقيق نجاحاتٍ وإنجازاتٍ أفضل في حياتهم. تتميّز هذه المدرسة النفسيّة بأنّ متقن أساليبها لا يحتاج معالجاً خارجيّاً، فهي يمكن أن تكون وسيلة علاجٍ نفسيٍّ سلوكيٍّ ذاتيّ، تحاول أن تحدّد خطّةً واضحةً للنّجاح، ثمّ استخدام أساليب نفسيّةٍ لتعزيز السلوك الأنجع، ومحاولة تفكيك المعتقدات القديمة التي تشخّص على أنّها معيقةٌ لتطوّر الفرد، ومن هنا جاءت تسميتها بالبرمجة؛ أيّ أنّها تعيد برمجة العقل عن طريق اللسان –اللّغة»[1]، والوضعيّة التي تؤثِّر سلباً أو إيجاباً على الدافعيّة السلوكيّة تُعرف بالحالة، والمركّبات الثلاثة للحالة هي:

 


[1]  موقع إلكتروني، «ويكيبيديا»، 22-10-2010م.

 

59


50

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

1- التفكير.

2- الشعور.

3- السلوك.

فالأفكار حينما تُعزّز بالمشاعر تنتج سلوكاً.

البُعد الثاني: علاقة المعتقدات بالجزاء الأخرويّ والدنيويّ

قال -تعالى-: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ لَهُمۡ عَذَاب شَدِيدۖ وَمَكۡرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾[1]. تشير الآية الكريمة بوضوحٍ إلى أنّ الصاعد إلى الله هو الاعتقاد[2]، كما إنّ الغاية من العمل إنّما هي تثبيت الاعتقاد.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة فاطر، الآية 10.

[2]  السيّد كمال الحيدري، فلسفة الدين، ص28.

 

60


51

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الثاني: الحاجة إلى منهجٍ لتصفية الأفكار

لا يختلف اثنان على أنّ الطريق لإثبات صحّة الأفكار والمزاعم هو إقامة الدليل والبرهان العقليّ عليها، أمّا في ما يختصّ بإنتاج الأفكار والمعتقدات، فيُختَلف في المنهج، فالبعض ذهب إلى أنّ البرهان العقليّ فقط هو القادر على الكشف عن حقائق الأمور، وهذا ما ذهب إليه جملةٌ من الفلاسفة والمفكّرين، أمّا البعض الآخر زعم بأنّ الوصول إلى الحقائق لا يتحقّق إلّا عن طريق القلب والمشاهدة القلبيّة كالمتصوّفة، وصنفٌ ثالثٌ جمع بين العقل والقلب. ولكن تبقى الحاجة إلى منهجٍ يُبقي على الأفكار والمبادىء الحقّة.

 

60


52

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الثاني: الحاجة إلى منهجٍ لتصفية الأفكار

لا يختلف اثنان على أنّ الطريق لإثبات صحّة الأفكار والمزاعم هو إقامة الدليل والبرهان العقليّ عليها، أمّا في ما يختصّ بإنتاج الأفكار والمعتقدات، فيُختَلف في المنهج، فالبعض ذهب إلى أنّ البرهان العقليّ فقط هو القادر على الكشف عن حقائق الأمور، وهذا ما ذهب إليه جملةٌ من الفلاسفة والمفكّرين، أمّا البعض الآخر زعم بأنّ الوصول إلى الحقائق لا يتحقّق إلّا عن طريق القلب والمشاهدة القلبيّة كالمتصوّفة، وصنفٌ ثالثٌ جمع بين العقل والقلب. ولكن تبقى الحاجة إلى منهجٍ يُبقي على الأفكار والمبادىء الحقّة.

 

60


53

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الثاني: الحاجة إلى منهجٍ لتصفية الأفكار

لا يختلف اثنان على أنّ الطريق لإثبات صحّة الأفكار والمزاعم هو إقامة الدليل والبرهان العقليّ عليها، أمّا في ما يختصّ بإنتاج الأفكار والمعتقدات، فيُختَلف في المنهج، فالبعض ذهب إلى أنّ البرهان العقليّ فقط هو القادر على الكشف عن حقائق الأمور، وهذا ما ذهب إليه جملةٌ من الفلاسفة والمفكّرين، أمّا البعض الآخر زعم بأنّ الوصول إلى الحقائق لا يتحقّق إلّا عن طريق القلب والمشاهدة القلبيّة كالمتصوّفة، وصنفٌ ثالثٌ جمع بين العقل والقلب. ولكن تبقى الحاجة إلى منهجٍ يُبقي على الأفكار والمبادىء الحقّة.

 

61


54

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الثالث: بناء الفكر الإنسانيّ

للعقل مكانةٌ كبيرةٌ في الدين الإسلاميّ، فهو أصلٌ في التوصّل إلى الاعتقاد الصحيح، وهو دليلٌ من أدلّة الاجتهاد، قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «... ولكلِّ شيء دعامة، ودعامة الدين العقل»[1].

ومن جانبٍ آخر، يشكّل العقل دعامة الإنسان المؤمن، قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «من كان له عقلٌ كان له دين، ومن كان له دينٌ دخل الجنّة»[2].

وقد بلغت النصوص، التي تتناول التنبيه إلى دور العقل المئات، ومن خلال نظرةٍ عامّةٍ إلى هذه النصوص نكتشف أنّ مشروع الإسلام في إعطاء العقل دوره الحقيقيّ قد جاء على مرحلتين؛ فهو يبتدىء بتحرير العقل، ثمّ ينتقل إلى توجيه طاقاته.

3-3-1 تحرير العقل

هذه الخطوة الأُولى من خطوات المشروع الإسلاميّ المذكور، نكتشفها في النصوص التي توجّهت إلى نبذ القيود التي تقيّد العقل وتحدُّ من نشاطه الحقيقيّ، وتقوده إلى أخطاء خطيرةٍ بسبب ذلك؛ لذا، لا بدّ من نبذ التقليد الأعمى بداية، وأمثلته في

 


[1]  المحجّة البيضاء، المحقّق الكاشاني، كتاب العلم، مؤسّسة الأعلميّ، ط2، ج1، ص172.

[2]  أُصول الكافي، ج1، ص11، كتاب العقل والجهل.

 

62


55

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

القرآن الكريم كثيرةٌ جدّاً، نقرؤها في سور متعدّدة، منها: ﴿بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّة وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ﴾[1].

3-3-2 توجيه طاقة العقل

بعد أن حرّرت العقيدة الإسلاميّة العقل من القيود التي تأسره، أطلقته إلى الأمام، ووجَّهت طاقاته من خلال التدبّر في الكون والحياة، من أجل بناءٍ متكاملٍ ديناً ودنيا.. ويمكننا أن نشير إلى مجموعةٍ من آيات الذكر الحكيم التي توجّه العقل إلى آفاق رحيبةٍ متعدّدة، منها:

أوّلاً: التدبّر في آيات الله -تعالى- في الآفاق وفي الأنفس.

ثانياً: النظر في سنن التاريخ.

ثالثاً: النظر في حكمة التشريع، والغرض من ذلك ترسيخ قناعة المسلم بتشريعه وصوابيّته، وبيان صلاحيّته للتطبيق في كلِّ زمان ومكان؛ من أجل أن تنقشع عن فكر المسلم غيوم الشبهات التي يثيرها أعداء العقيدة من حوله.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الزخرف، الآية 22.

 

63


56

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

رابعاً: توجيه العقل إلى النظر، والتثبّت في الرأي، واستقلاليّة التفكير والقرار.

قال الله -تعالى-: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ﴾[1]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تكونوا إمّعة، تقولون: إنْ أحسنَ الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسنَ الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا»[2]، فهذه دعوةٌ واضحةٌ لإعمال العقل والفكر، وقد بيَّن الله -تعالى- قبح عدم الاستناد إلى البرهان بقوله -تعالى-: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا
أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾[3].

من المسلّم به أنّ الدين الإسلامي يحثّ بقوّةٍ على كسب العلم والمعرفة، ومن يتأمّل سور القرآن الكريم يجد ذلك يتكرّر كثيراً تصريحاً أو تلميحاً: ﴿أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدا وَقَآئِما يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[4].

 


[1] القرآن الكريم، سورة محمّد، الآية 24.

[2]  ميزان الحكمة، ج8، ص254؛ عن الترغيب والترهيب، ج3، ص341.

[3]  القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 111.

[4]  القرآن الكريم، سورة الزمر، الآية 9.

 

64


57

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

وهذه المعرفة تولّد الأفكار التي تتحوّل إلى قيم، وبالتالي إلى سلوكٍ ينتهجه الإنسان وفقاً لإيمانه، وعظمة القيمة أنّها نتاج اجتماع الإيمان والسلوك الإنسانيّ. وبعد استقرار السلوك لدى الإنسان سينفتح عليه الغيب، وسيتفرّغ لإرضاء الله -سبحانه وتعالى- وبناء المجتمع مكان خلافة الله على الأرض. وهذا كلّه يكون بشريطة ثبات الإيمان في الإنسان.

 

 

65


58

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الرابع: العلم والاِيمان

إنّ العقيدة تربط العلم بالإيمان، فالعلم بدون إيمانٍ كغرسٍ بلا ثمر، والعلم يدعو إلى الإيمان، والإيمان بدوره يحثّ على العلم، والفصل بينهما يؤدّي إلى عواقب لا تحمد عقباها. يقول الشهيد مرتضى مطهّري[1]: «قد أثبتت التجارب التأريخيّة، أنّ فصل العلم عن الإيمان قد أدّى إلى أضرار لا يمكن تعويضها، يجب معرفة الإيمان على ضوء العلم، والإيمان يبتعد عن الخرافات في نور العلم، وبفصل العلم عن الإيمان يتحوّل الإيمان إلى الجمود والتعصّب الأعمى والدوران بشدّةٍ حول نفسه، وعدم الوصول إلى مكان، والمكان الفارغ من العلم والمعرفة ينقلب فيه المؤمنون الجهلة إلى آلةٍ بيد كبار المنافقين، والذي رأينا ونرى نماذج منهم في خوارج صدر الإسلام، والأدوار التي تلت بصور مختلفة. والعلم بلا إيمان سراجٌ في منتصف الليل بيد لصٍّ لسرقة أفضل البضائع، ولهذا فإنّ الإنسان العالم بلا إيمان اليوم، لا يختلف عن الجاهل بلا إيمان في الأمس أقلّ الاختلاف، من حيث طبيعة الأساليب والأفعال وماهيتها»[2].

 


[1]  هو كاتب ومفكّر إيراني، ومن دعائم الثورة في إيران.

[2]  الإنسان والإيمان، للشهيد مطهري، طبع وزارة الإرشاد الإسلاميّ، ج1، ص15.

 

66


59

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

وعليه، فالعلم بحاجة إلى الإيمان كحاجة الجسد إلى روح؛ لأنّ العلم وحده عاجزٌ بطبيعته عن بناء الإنسان الكامل؛ فالتربية العلميّة الخالصة تبني نصف إنسان لا إنساناً كاملاً، وتصنع إنساناً قد يكون قويّاً وقادراً، ولكنّه ليس فاضلاً بالضرورة، هي تصنع إنساناً ذا بُعدٍ واحد، وهو البُعد الماديّ، أمّا الإيمان فإنّه يصوغ الشخصيّة في مختلف الأبعاد، فالإيمان والمعرفة هما أساس الكمالات النفسيّة والحركة نحو مقام القرب الإلهيّ، فلأجل هذا القرب يجهد الإنسان لاجتياز صراط التكامل المستقيم إذا ما آمن بهذا القرب.

وعليه، فإنّ للعقيدة الإسلاميّة فضلاً كبيراً على مناهج التربية التي تسعى لبناء الإنسان، لتأكيدها على دور الإيمان والعلم معاً في بناء شخصيّته، وبفصل العلم عن الإيمان يغدو الإنسان كإبرة مغناطيس تتأرجح بين الشمال والجنوب، وعليه فهو بحاجةٍ ماسّة إلى قوّة تتمكّن من إيجاد ثورةٍ في ضميره، وتمنحه اتّجاهاً أخلاقيّاً يحقّق إنسانيّته، وهذا عملٌ لا يتمكّن منه العلم بمعزل عن الدين.

فالإيمان الصادق يصنع الأعاجيب، ومتى استقرّ في القلب ظهرت آثاره واضحةً في المعاملة والسلوك، والإسلام عقيدةٌ متحرّكةٌ لا تطيق السلبيّة؛ إذ إنّها بمجرّد تحقّقها في عالم الشعور، تتحرّك

 

67

 

 


60

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

لتحقّق مدلولها في الخارج وتترّجم نفسها إلى حركةٍ وإلى عملٍ في عالم الواقع. ويفرّق الشيخ سمير خير الدين بين العلم والإيمان، قائلاً: «فالعلم يغاير الإيمان، وهو من حظّ العقل، والإيمان من حظّ القلب، فلغة العقل هي البراهين والاستدلالات، بينما القلب حياته الحبّ والإيمان، فقد يعلم العقل بالأصول عن طريق البرهان لكنّ القلب لم يؤمن بذلك... ويترتّب على التغاير بين العقل والقلب الأثر الملازم مع كلٍّ منهما... فثقافة الإيمان ترسم أصوله، وتشخّص فصوله، وتحدّد معالمه ومساره، وآثاره، وعوامل زيادته ونقصانه، وكيفيّة حفظه، وحصنه وطريقة نقله والدعوة إليه، فثقافة الإيمان هي حصانة الإيمان»[1].

 


[1]  خير الدين، سمير: مجلّة المحجّة «الإيمان والإنسان مقاربة قرآنيّة»، (م.س)، ص34-35.

 

68


61

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الخامس: علاقة الإيمان بالأخلاق

قد يتساءل البعض قائلاً: ما علاقة الإيمان بالأخلاق؟ ألا يمكن أن يكون للناس أخلاقاً طيّبةً بلا إيمان؟ فقد وجدت الأخلاق الحميدة عند عرب الجاهليّة، وفي المجتمعات غير المسلمة أحياناً، ولكن هذا سببه أنّ النفس تحتجز رصيدها الخلقيّ بحكم العادة والتقليد، وقد أبقته في وعيها منفصلاً عن الإيمان على أنّه شيءٌ ينبغي في ذاته أن يقوم، ولكنّ النتيجة الحتميّة واحدةٌ في النهاية، إنّه ما دام الإيمان منحرفاً فلا بدّ من أن تنحرف الأخلاق أخيراً، وما دامت الأخلاق قد انفصلت عن الإيمان فلا بدّ من أن تموت.

إنّ سعي الإنسان لامتلاك الفضائل والقيّم ليُحقّق مرضاة ربّه، ذلك أنّ هدف المؤمن الأوّل من أعماله كلّها هو ابتغاء وجه الله جلّ وعلا، فقد أمره -سبحانه وتعالى- بذلك، ووعده بالجزاء الأوفى على أعماله الخيّرة يوم القيامة، قال تعالى: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّة شَرّا يَرَهُۥ﴾[1].

فسوء الخلق دليلٌ على ضعف الإيمان، فالأخلاق مقرونةٌ بالإيمان الحقيقيّ، وعلامة هذه الحقيقة هي العمل، وبالتالي يكون العمل الصالح معياراً لقياس الإيمان.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الزلزلة، الآية 7-8.

 

69


62

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

المبحث الخامس: علاقة الإيمان بالأخلاق

قد يتساءل البعض قائلاً: ما علاقة الإيمان بالأخلاق؟ ألا يمكن أن يكون للناس أخلاقاً طيّبةً بلا إيمان؟ فقد وجدت الأخلاق الحميدة عند عرب الجاهليّة، وفي المجتمعات غير المسلمة أحياناً، ولكن هذا سببه أنّ النفس تحتجز رصيدها الخلقيّ بحكم العادة والتقليد، وقد أبقته في وعيها منفصلاً عن الإيمان على أنّه شيءٌ ينبغي في ذاته أن يقوم، ولكنّ النتيجة الحتميّة واحدةٌ في النهاية، إنّه ما دام الإيمان منحرفاً فلا بدّ من أن تنحرف الأخلاق أخيراً، وما دامت الأخلاق قد انفصلت عن الإيمان فلا بدّ من أن تموت.

إنّ سعي الإنسان لامتلاك الفضائل والقيّم ليُحقّق مرضاة ربّه، ذلك أنّ هدف المؤمن الأوّل من أعماله كلّها هو ابتغاء وجه الله جلّ وعلا، فقد أمره -سبحانه وتعالى- بذلك، ووعده بالجزاء الأوفى على أعماله الخيّرة يوم القيامة، قال تعالى: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّة شَرّا يَرَهُۥ﴾[1].

فسوء الخلق دليلٌ على ضعف الإيمان، فالأخلاق مقرونةٌ بالإيمان الحقيقيّ، وعلامة هذه الحقيقة هي العمل، وبالتالي يكون العمل الصالح معياراً لقياس الإيمان.

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الزلزلة، الآية 7-8.

 

69


62

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

فانهيار الأخلاق مردّه إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، وإنّه لخطرٌ عظيمٌ ينذر بالشرور والفوضى والظلم، ومن هنا يلزم التنبّه لهذا الخطر، وأن يعلم الناس حقيقة ما هم فيه، وأنّ الإيمان الصادق لا يعني حفظ بعض المتون في العقيدة أو حتّى تعلُّمها إذا لم يتمثّل الفرد أخلاقيّاتها.

فلا بد ّمن أن يتحوّل الإيمان إلى واقعٍ عمليّ، في الحياة وعلى صعيد التعامل بين الأنام، تأسّياً برسول الله (صلى الله عليه وآله)وأهل بيته (عليهم السلام) الذين تحوّلوا إلى نماذج فريدةٍ لاتّباعها سلوكاً وإخلاصاً وطهراً.

فكلّ ما يقوم به الفرد من حركاتٍ وأفعال، وما يصدر عنه من أقوال، وما يشعر به من انفعالاتٍ وعواطف وميولٍ ونزعات، وما يخطر له من أفكارٍ وخيالاتٍ ما هو إلّا نتاج إيمانه.

وبما أنّ الإنسان مخلوقٌ قابلٌ للتربية والتأديب، فهو قادرٌ على العودة إذا ما اختار الطريق الخاطىء؛ لأنّ باب الإنابة مفتوحٌ دوماً.

وبما أنّ العقل هو ملاك التفاضل بين الإنسان وباقي المخلوقات، كانت التقوى ملاك التفاضل بين الناس أنفسهم، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ

 

70

 

 


63

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾[1].

نصل إلى القول، مثلما يؤثّر الإيمان على سلوك الإنسان، وكذا الأعمال الصادرة عن الإنسان لها أثرها الكونيّ، كما لها أثرها على الإنسان والمجتمع، وقد أشار القرآن الكريم لهذا الأثر الكونيّ:
﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[2].

وتمتدّ مؤثريّة الإيمان لمرحلةٍ يُؤثّر فيها على تقدّم وتخلّف الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِير مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلا﴾[3]. من هنا يظهر أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين الإيمان والأخلاق، وعلاقتهما تتعدّى الإنسان لتصل إلى المجتمع والكون والأمم.

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 13.

[2] القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 96.

[3] القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 70.

 

71


64

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

الخاتمة

اتّضح أنّ الأفكار والمعتقدات تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ في صياغة الإنسان، نكتفي بالإشارة إلى بُعدين أساسيّين لهما علاقةٌ بالجانب الفرديّ لهذا التأثير، هما:

- البُعد الأوّل: دور الأفكار في صياغة السلوك.

- البُعد الثاني: علاقة المعتقدات بالجزاء الأخرويّ والدنيويّ.

كما يحتاج الإنسان دوماً إلى منهجٍ لتصفية أفكاره ليبني فكراً بنّاءً، وهذا لا يكون إلّا عن طريق تحرير العقل وتوجيه طاقاته من خلال التفكّر والتدبّر والدليل والبرهان وقراءة التاريخ والسيرة جيّداً، لاستخلاص العبر وكسب العلم والمعرفة، ليولّد عندئذٍ عقائده التي ستبني شخصيّته، وعلى أساسها سينتج سلوكه.

والعلم مرتبطٌ بالإيمان؛ حيث لا ينتج سلوكٌ إلّا بوجود الإيمان بما علمه وعرفه. وليس العلم فقط مرتبطاً بالإيمان، كذلك الأخلاق لها ارتباطٌ وثيقٌ به، بحيث تتمظهر على الفرد وتنتشر في المجتمع بقدر الإيمان بها.

 

72


65

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

 

من وحي القرآن الكريم


تمهيد


المبحث: أثر الإيمان على سلوكيّات الإنسان من وحي القرآن الكريم


الخاتمة

 

73

 

 

 


66

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

قال -تعالى- في محكم كتابه: بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿ وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1].

إنّ فلاح الإنسان هو نتيجة تقوى الإنسان، حيث يقوم بتزكية نفسه، وتنميتها إنماءً صالحاً بتحليتها بالتقوى وتطهيرها من الفجور؛ ليتجنّب بذلك الخيبة والحرمان من الراحة والسعادة الدنيويّة، والتي -بالتالي- تكتمل في سعادة الآخرة، التي هي دار القرار والبقاء والخلود.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: ما الذي يدفع الإنسان للإقدام على جهاد النفس الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالجهاد الأكبر؟

وبذلك تكون التقوى والفجور نتيجةً لفعل الإنسان المختار، حيث يقول الله -تعالى- في محكم كتابه: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[2].

 


[1] القرآن الكريم، سورة الشمس، الآيات 7 إلى 10.

[2] القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 3.

 

75


67

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

تمهيد

عندما يقوم الإنسان برسم أهدافه، فالأصل أن تقوم هذه الأهداف على مبادىء، وعندما يحدّد سلوكه وحركته، فإنّ ذلك يقوم على أساس الأهداف. ومن الطبيعيّ، أنّ الكلام عن السلوك التفصيليّ والأهداف العامّة ترجع إلى أصلها وجذورها؛ أيّ المبادىء التي يمكن أن تكون ذات منشأ توحيديّ أو شركيّ[1].

«إنّ المنهج التوحيديّ هو: حركة الإنسان التدريجيّة التصاعديّة على الصراط المستقيم من خلال ولاية المعصوم، والتزام الشريعة بشقّيها العباديّ والأخلاقيّ من أجل بلوغ المثل الأعلى، وهو معرفة الله وبه يتحقّق الكمال. ولهذا المنهج انعكاساته وتجلّياته العقائديّة والسلوكيّة»[2].

 


[1]  نعيم، بلال، معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، دار الهادي، ط1، 2006م، ص21.

[2]  المصدر نفسه، ص15.

 

77


68

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

أمّا المنهج الشركيّ: «الشرك هو حركة الإنسان التسافليّة في الضلالة والظّلمات، من خلال ولاية الطاغوت وطاعته واتّباع الهوى في طريق مثل السوء»[1].

الفارق بين الأمرين هو أنّ الموحِّد حركته تصاعديّة، وعندما يقوم بعملٍ يتماهى مع الشرك أو فيه نسبةٌ منه، فإنّه يفقد بعضاً من رصيده ويتراجع قليلاً من دون أن يتسافل رأساً على عقب، في حين أنّ المشرك عندما يقوم بعملٍ توحيديّ، فإنّه إن كان ناوياً لهذا الفعل؛ أيّ قاصداً الوجهة التوحيديّة، والقربة من الله أو ما يساوقه من نيّة، كالعمل الوجدانيّ الإنسانيّ المناسب للفطرة مع قصد ذلك، فإنّ هذا الفعل التوحيديّ يرفع المشرك من الحضيض من دون أن يحوِّله إلى موحِّد[2].

 


[1]  المصدر نفسه، ص17.

[2]  المصدر نفسه، ص22.

 

78


69

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

المبحث الأوّل: أثر الإيمان على سلوكيّات الإنسان من وحي القرآن الكريم

لقد تبيّن معنا أنّ أيّ سلوكٍ سواءٌ أكان عملاً أو قولاً، وسواءٌ أكان فعلاً أو ردّ فعل، فكلّه مردّه إلى ما آمن به الإنسان واعتقد به.

لذا، سأعرض بعض النماذج لسلوكيّات الإنسان، سواء المؤمن بالعقيدة الحقّة وطبّق ما آمن به أو انحرف عن العقيدة الحقّة فاتّخذ سلوكاً منحرفاً وكلّها من وحي القرآن الكريم؛ لأنّنا نؤمن بأنّه كلام الله المنزل إلينا، وهو مصدر من مصادر المعرفة، التي إن أخذ بها الإنسان نجا.

4-1-1 السلوك العباديّ

إنّ المرتكز الأساس للإيمان هو التوحيد، ومنها يتفرّع:

أ- الالتزام بشريعة الله وولاية من افترض الله طاعته.

ب- الإيمان بالآخرة؛ أيّ الإيمان بالغيب ممّا يؤدّي إلى الخشية من الله سبحانه، وعدم الإيمان به سينعكس سلوكاً غير أخلاقيّ ولا إنسانيّ؛ لأنّ الرادع عن الظلم والعدوان والرذيلة هو خوف المعاد والحساب، قال تعالى: ﴿هُدى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ﴾[1].

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة النمل، الآيتان 2-3.

 

79


70

الفصل الثالث: علاقة الإيمان بالسلوك

ج-الإيمان بالعدل الإلهيّ؛ فمع عدمه ينتشر الظلم.

د-الصلاة: إنّ الموحِّد هو من يصلّي الفريضة بنيّة التقرّب إلى الله؛ لكونها أحد أهمّ عناصر الزاد على الطريق المستقيم[1]، بل سيقوم بالصلاة المستحبّة وقلبه مليءٌ بالسعادة، أمّا غير الموحِّد: ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلا﴾[2]، وقال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ﴾[3].

هـ-الخمس والزكاة: إنّ مفهوم الزكاة أعمّ من الإنفاق، فالمقصود منه منظومة إنفاقٍ متكاملة، تطال كلّ طاقةٍ وإمكانيّةٍ وجهدٍ يمتلكها الإنسان، وعليه أن يبذلها في سبيل الله، ولخدمة عياله ولإقامة الدين وبناء المجتمع، وصلاح البشر والتقدّم في الحياة[4]. قال تعالى: ﴿وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ﴾[5].

 

 


[1]  معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، ص29.

[2]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 142.

[3]  القرآن الكريم، سورة المدثر، الآيتان 42- 43.

[4] معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، ص29.

[5] القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 156.

 

80


71

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

و-الحجّ: ترك الحج مع الاستطاعة ودون عذر، دليلٌ على أنّ الفرد لا يتحرّك في المسار التوحيديّ.

ز-الصوم: حيث ربط الله -تعالى- الإيمان بهذه الفريضة، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[1].

ح-الجهاد: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة»[2]. لذا، بتنا نعرف الآن لما هناك دولٌ تستسلم لـ«إسرائيل» وذلك نتيجةً لعدم اعتقادها بأهميّة الجهاد ووعد الله لهم بالنصر ولو كانوا فئةً قليلة.

4-1-2 السلوك القضائيّ

«إنّ أيّ حكمٍ يصدر من الإنسان لا بدّ من أن يصدر بلحاظ مقدّماتٍ معرفيّةٍ ونفسيّةٍ واعتقاديّةٍ تشكّل المحدّدات الأساسيّة للحكم، وعلى أساسها يتمّ إطلاق الأحكام الإيجابيّة أو السلبيّة التفاعليّة أو الحياديّة، العادلة أو الظالمة»[3]. قال تعالى: ﴿إِنَّآ

 


[1]  القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 183.

[2] نهج البلاغة، خطبة الجهاد.

[3] معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، ص41.

 

81


72

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيما﴾[1].

وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى ضرورة اتّباع البيّنة، والابتعاد عن الظنّ وهوى النفس، رابطاً إيّاها بالإيمان في قوله:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَة فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ﴾[2]، وأيضاً: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولا﴾[3].

4-1-3 السلوك الماليّ

أ-الربا: وقد أكّد الله -سبحانه وتعالى- على ضرورة ترك الربا وتجنّبه، وربط الابتعاد عن الربا بالإيمان، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ
فَأۡذَنُواْ بِحَرۡب مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ﴾[4].

 


[1]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 105.

[2] القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 6.

[3]  القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 36.

[4] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآيتان 278 و279.

 

82


73

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

ب-أكل أموال الناس بالباطل: قال -تعالى-: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنا وَظُلۡما فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَاراۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾[1]. وكذلك أكل مال اليتيم، وأكل مال السحت.

ج-الإنفاق: هناك سبلٌ عدّة للإنفاق، تارةً يكون في سبيل الله، وطوراً يكون رياء الناس، قال -تعالى-: ﴿وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينا فَسَآءَ قَرِينا﴾[2]، ومن أخطر سبل الإنفاق هو الإنفاق بغية الصدّ عن سبيل الله، قال -تعالى-: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيل مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾[3].

4-1-4 السلوك السياسيّ

«هناك مبادىء أساسيّةٌ في الإسلام تحكم وتُنظِّم علاقة جماعة المسلمين بعضهم مع بعض، وكذلك بينهم وبين الأمم والجماعات الأخرى بما يؤسّس للسلم أو الحرب أو المهادنة تبعاً لطبيعة الجهة، وكذلك لطبيعة الظروف والحيثيّات الزمانيّة والمكانيّة، التي تفرض وجود حاكٍم يُشخّص الظروف ويتعاطى معها بلحاظ

 


[1]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 30.

[2]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 38.

[3] القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 26.

 

83


74

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

وقائعها، التي يمكن على ضوئها التغيير والتبديل والتعديل في الآليّات السياسيّة والعسكريّة المتّبعة... ومن العناوين التي تشكّل محدّداتٍ سلوكيّةً للفرد أو للجماعة»[1]:

أ-الولاية: تقول الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[2].

ب-وحدة المسلمين أو التفرقة فيما بينهم: «وبما أنّ الإسلام دينٌ واحدٌ يوجّه البشر نحو معبودٍ واحدٍ من خلال كتابٍ واحدٍ منزلٍ على نبيٍّ واحد، لأجل ذلك كلّه كانت أمّة الإسلام واحدةً لا تتجزّأ، وقد ربط -سبحانه- وحدة الإسلام بوحدانيّته»[3]، فقال -جلّ وعلا-: ﴿إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّة وَٰحِدَة وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾[4]، وقد حضّ الإسلام على التوحّد والاعتصام بحبل الله وعدم التفرقة والتشتّت، فقال -سبحانه-: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآء فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَة مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ

 


[1]  معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، 2006م، ص63.

[2]  القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 51.

[3]  معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، ص66-67.

[4]  القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 92.

 

84


75

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾[1]. وإذا قام أحدٌ ببثّ التفرقة لعقيدةٍ فاسدةٍ عنده، أو تبعاً لهوى نفسه، فإنّ الله بريءٌ منه؛ إذ يقول: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ﴾[2].

بل كان الحثّ دوماً على التعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، واتّخاذ مسلك التعاون على البرّ أو خلافه مرهونٌ بما يؤمن به الإنسان. وكذلك مواجهة الظلم والظالمين، فالتحرّك واتّخاذ السلوك القويم يكون نابعاً ممّا عقد المرء قلبه عليه، فتراه يثور ويقاتل ليقتلع الفساد من جذوره مصلحاً المجتمع الفاسد ملتزماً بالفريضة الإلهيّة، ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[3].

4-1-5 السلوك الأخلاقيّ

وهو ذو شقّين، الشقّ الأوّل يتناول علاقة الإنسان بربّه، أمّا الشقّ الثاني فهو حول علاقة الإنسان بالناس:

 


[1]  القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 103.

[2]  القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 159.

[3] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 110.

 

85


76

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

4-1-5-1 علاقة الإنسان بربّه

أ-الإخلاص والرياء: عندما يوقن الإنسان بوجود إلهٍ واحدٍ مالك الملك، مطّلعٍ على ما في الصدور ويعلم خائنة الأعين، ويعتقد أنّ العمل الخالص لله فقط يصعد إليه، وأنّ أيّ ذرّة رياءٍ ترافق عملاً قام به الإنسان تجعله هباءً منثوراً، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، يعقد النيّة والعزم على أن تكون أعماله كلّها خالصةً للواحد القهّار، فتراه يبدأ بجهاد نفسه، ويراقبها ويحاسبها ليطرد من أعماله الرياء الذي يحرق الأعمال كما تفعل النار بالخشب، ويعود ذلك لإيمان الإنسان بيوم المعاد أيضاً، ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَر مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰه وَٰحِدۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلا صَٰلِحا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾[1].

ب-الزهد وحبّ الدنيا: إنّ هذه الدنيا دار ممرٍّ ومزرعة الآخرة، وهي فانية، أمّا الآخرة فهي الحيوان (الحياة الحقيقيّة)، وهي خالدة. والمطلوب أخذ كلّ ما يعيننا على الآخرة من هذه الدنيا وعدم التعلّق بزخارفها الزائلة، فكان الحثّ على الزّهد بمعنى أن لا يتملّك الإنسان أيّ شيءٍ فانٍ من هذه الدنيا، فيشغله عن الله.

 


[1] القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 110.

 

86


77

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

ج-الصدق والكذب: يقول الله -سبحانه-: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِ‍َٔايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾[1].

4-1-5-2 علاقة الإنسان بالناس

وهو ما يصطلح عليه بالسلوك الاجتماعيّ؛ لأنّه عبارةٌ عن تعاطي الإنسان مع عائلته وأهله، وهو نابعٌ من مقدار إيمانه بما أمر أو نهى عنه الله سبحانه:

أ- برّ الوالدين أو عقوقهم: لقد أوصى الله -تعالى- بهما، حتّى إنّه ربط عبادته -سبحانه- بالإحسان إليهما، ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡن وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ﴾[2].

ب- صلة الرحم أو قطيعتها: إنّ صلة الرحم حلقةٌ أساسيّةٌ في المنظومة الاجتماعيّة، وقد أكّد الشارع على أهميّتها، وعلى آثارها الإيجابيّة والسلبيّة في الدنيا والآخرة بما تشمله من تواصل، وتعاطف، وتزاور، وتآزر، وتعاون، وتحابب فيما بينهم. ﴿ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ ٢٠ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ﴾[3].

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 21.

[2]  القرآن الكريم، سورة لقمان، الآية 14.

[3] القرآن الكريم، سورة الرعد، الآيتان 20-21.

 

87


78

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

ج- اليتيم ورعايته: إنّ اليتم ظاهرةٌ طبيعيّة، وأيّ خللٍ بالأسرة سيؤدّي إلى تفكّكها، وقد تكون سبباً لانتشار الفاحشة. لذا، كان الأمر الإلهيّ بضرورة رعاية الأيتام معنويّاً وماديّاً، حتّى لا يعيشوا حالة العوز الماديّ أو الاضطراب النفسيّ والوحدة، فتكون البذرة الأولى لانهيار المجتمع المثالي ّالذي نسعى لبنائه.

وقد حثّ القرآن الكريم على ذلك، وأظهر أهميّته في غير مكان؛ إذ قال -تعالى-: ﴿فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ﴾[1]، و﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ
وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالا فَخُورًا﴾[2]، كما حذّر من مغبّة سوء معاملة اليتيم بقوله: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾[3]، و﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَاراۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرا﴾[4].

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الضحى، الآية 9.

[2]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 36.

[3] القرآن الكريم، سورة الماعون، الآيتان 1 - 2.

[4]  القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 10.

 

88


79

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

د- إطعام المساكين أو عدمه: «إنّ سلوك الإطعام يمثّل جزءاً من منظومة العدالة الاجتماعيّة... وهو معيارٌ من معايير حالة التديّن... فبه يرفع الفقر والعوز والضعف والاستضعاف...»[1]. وقد أولى القرآن الكريم هذه المسألة عنايةً كبيرة: ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرًا﴾[2].

هـ- أداء الأمانة أو خيانتها: إنّ أداء الأمانة مصداقٌ للخير ولصلاح المجتمع الذي مبدأ صلاحه نابعٌ من صلاح الفرد فيه. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾[3].

و- العدل في المكيال والميزان أو الخسران بهما: وهي المتعلّقة بالبيع والشراء، ويفترض الإنصاف بالمكيال والميزان، وعدم الغشّ وعدم التطفيف بهما؛ لأنّه قد ينجم عن هذا السلوك آثارٌ تدميريّةٌ للمجتمع، ولبناء اقتصاده وعلاقاته الاجتماعيّة.

قال -تعالى- في محكم كتابه العزيز: ﴿وَيۡل لِّلۡمُطَفِّفِينَ ١ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ ٢ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ ٣ أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ ٤ لِيَوۡمٍ عَظِيم﴾[4].

 


[1]  معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، (م.س)، ص100.

[2]  القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 8.

[3]  القرآن الكريم، سورة الأنفال، الآية 27.

[4]  القرآن الكريم، سورة المطففين، الآيات 1-2-3-4-5.

 

89


80

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

بالتالي، يتّضح أنّ سلوك الإنسان نابعٌ ممّا يؤمن به، وعلى أساس إيمانه سيسلك طريقه القويم المؤدّي للفلاح في الآخرة، وهو الطريق المنسجم مع أصول الدين، وعلى رأسها التوحيد، حينها يعبر هذا الموحّد على الصراط المستقيم، وهذا ما نطلبه كلّ يومٍ في صلواتنا: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾[1] بعد أن نكون قد أكّدنا على ارتباطنا بالله -سبحانه-: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾[2]. وقد يسلك الإنسان طريقاً آخر، طريق الشقاء في الدنيا والآخرة.

أيّ طريقٍ سلكها الإنسان، وأيّ سلوكٍ ناتجٍ من سلوك أحد الطريقَين، فهو ينعكس على الفرد والمجتمع تلقائيّاً؛ لأنّ الإنسان لا يعيش وحيداً في هذه الدنيا، بل هو فردٌ في منظومةٍ اجتماعيّةٍ واحدة، يؤثّر بها ويتأثّر بها...

 


[1]  القرآن الكريم، سورة الفاتحة، الآية 6.

[2]  القرآن الكريم، سورة الفاتحة، الآية 5.

 

90


81

الفصل الرابع: أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ

الخاتمة

عندما يقوم الإنسان برسم أهدافه فالأصل أن تقوم هذه الأهداف على مبادئ، وعندما يُحدِّد سلوكه وحركته فإنّ ذلك يقوم على أساس الأهداف، ومن الطبيعيّ أنّ الكلام عن السلوك التفصيليّ والأهداف العامّة ترجع إلى أصلها وجذورها؛ أي المبادئ التي يمكن أن تكون ذات منشأٍ توحيديٍّ أو شركيّ.

ولقد تبيَّن معنا أنّ أيّ سلوك، سواء أكان عملاً أو قولاً، فعلاً أو ردّ فعل، فمردّ ذلك كلّه إلى ما آمن به الإنسان، واعتقد به. لذا، نجد الأثر في السلوك العباديّ، والسلوك القضائيّ، والسلوك الماليّ، والسلوك السياسيّ، والسلوك الأخلاقيّ.

ولقد بيّنّا ذلك عبر عرض آياتٍ من القرآن الكريم، تظهر مدى تأثير الإيمان في اتّخاذ الإنسان السلوك الموافق لما يعتقده.

 

 

91

 


82

خاتمة

خاتمة

إنّ الإسلام يقوم على أساسٍ من العقيدة الربانيّة، وتأثيره في القناعات والسلوك كبير، وهو من أعظم حاجات الإنسان المسلم في مراحل نموّه كافّة. من هنا تبدأ صلة المسلم بالفكر الإسلاميّ من طفولته، وتستمرّ هذه الصلة وتتصاعد بتصاعد وعيه، وهو بحاجةٍ دائمةٍ إلى ما يُلبّي شغفه للعلم، وشوقه للصلة بربّه، ورغبته في تطوير سلوكه. وهو يتوقّع أن يجد في كلّ مرحلةٍ ما لا يجده في المراحل السابقة.

فصلاح دنيا المرء يؤدّي إلى صلاح آخرته، وصلاح آخرته مشروطٌ بصلاح دنياه. وهذا يعني أنّ الإيمان بالآخرة يؤدّي إلى صلاح الدنيا. ففي الوقت الذي يكفر فيه الإنسان بالآخرة، فإنّه يفقد مسوّغ وجوده في الدنيا، ولا يجد نفسه بعد ذلك ملزماً بالقوانين والقيم والأخلاق، فتصبح المصلحة الفرديّة هي المحرّك والمسوّغ والقيمة والمبدأ. وواقع المجتمعات الماديّة يثبت ذلك؛ فالفلسفة النفعيّة هي الفلسفة الّتي يقوم على أساسها واقع هذه المجتمعات.

 

93


83

خاتمة

وهنا يأتي دور العقيدة التي مصدرها الشريعة المرنة، كونها تفتح باب الاجتهاد، ولا تقتصر المرونة على قابليّة الاجتهاد، بل نجد أنّ تقسيم الأحكام الشرعيّة إلى واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، فيه مرونةٌ ورحمةٌ بالإنسان.

وقد تميّز الإسلام عن باقي الأديان بأنّ خطابه موجّهٌ إلى البشر كافّة، مبيّناً لهم طريق السعادة وكيفيّة السير عليه، وطريق الشقاء وجزاءه وكيفيّة تجنّب الوقوع فيه.

فكان الإسلام عقيدةً وشريعة، أمّا العقيدة فهي الجانب النظري ّالتصديقيّ، وأمّا الشريعة فهي الجانب العمليّ التطبيقيّ. ويُلخّص ذلك قوله -تعالى-: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾[1]. وبما أنّ العقيدة هي الجانب النظري ّالتصديقيّ من الدين، فإنّ هذا يعني أنّها المقدّمة الضروريّة والأساس والمنبع الذي يصدر عنه الجانب العملي ّالتطبيقيّ. إنّ الله -سبحانه وتعالى- جعل الإيمان هو الأساس للعمل بالشريعة، فمن دونها لا يُقبل الإنسان على أيّ تكليفٍ إلهيّ.

والعقيدة اصطلاحٌ اجتهاديٌّ لم يرد في القرآن ولا في السنّة، بل وردت بلفظة الإيمان في القرآن الكريم. فكان الإيمان المعتبر هو

 

 


[1]  القرآن الكريم، سورة العصر، الآية 3.

 

94


84

خاتمة

تصديقٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان. وهذا يدلّ على أنّ صحّة الإيمان تكون بتصديقٍ قلبيّ، وإقرارٍ باللسان، وعملٍ بالجوارح. وبما أنّ وجود الإيمان مشكّك؛ أيّ بدرجاتٍ متفاوتة، كان الناس أصنافاً عدّة هي:

1- المؤمن: يُصدّق بقلبه ويُقر بلسانه.

2- الجاحد: يُصدّق بقلبه ويُنكر بلسانه. وحكمه الكُفر، في الدنيا والآخرة.

3- المنافق: ينكر بقلبه ويُصدّق بلسانه. ويُحكم عليه بالإسلام دنيويّاً، وإن كان في حقيقته كافراً، ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ﴾[1].

4- الكافر: يُنكر بقلبه وبلسانه، وحكمه الكفر، في الدنيا والآخرة.

هذا التصنيف كان نتيجة أثر الإيمان على سلوك الإنسان. فبما أنّ الإيمان هو الجانب التصديقيّ، ولا يطّلع عليه إلّا الله وحده، وبما أنّ البشر لا يطّلعون على حقيقة القلوب، فإنّهم يَحكُمون على إيمانيّة الشخص من خلال سلوكه الذي هو تمظهرٌ للإيمان. وبما أنّ للإيمان درجاتٌ متفاوتةٌ قوّةً وضعفاً، وهذا أمرٌ ملحوظٌ

 


[1] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 145.

 

95


85

خاتمة

بين الناس، إذ كلّما زاد الإيمان صلُح العمل، وكلّما صَلُح العمل زاد الإيمان، وهكذا حتى يصل الإنسان إلى أعلى الدرجات، فيكون من المقرّبين. فالإيمان: هو التصديق، ولكنّه التصديق الذي معه أَمْن. والإيمان بالدين يُحقّق الأمن الفرديّ والجماعيّ، والدنيويّ والأخرويّ. وأنّى لغير المؤمن أن يحسّ بالأمن! وهذا الإيمان يحتاج إلى المعرفة والعلم الناتجين عن العقل والحسّ والوحيّ.

لذا، عندما نراقب سلوك الناس يُلفت انتباهنا أنّ سلوك الأفراد يختلف باختلاف المواقف؛ فالمجرم يبادر إلى الجريمة في حال القوّة والأمن من العقوبة، ولا يسهل عليه في هذه الحال أن يسيطر على دوافعه. وفي المقابل، إذا كان هذا الشخص ضعيفاً ويخشى وقوع العقوبة، نجده يُصعّد من قوته الداخليّة فيضبط نفسه ويتكلّف السلوك الإيجابيّ. ولاحظ سلوك الزوج مع زوجته التي يحبّها، ثمّ لاحظ سلوكه معها لو كان يُبغضها. لاحظ سلوك الناس في حال الخوف الشديد، ثمّ لاحظ سلوكهم في حال الأمن والرفاه. نعم، هناك قوّةٌ هائلةٌ داخل كلّ إنسان تساعده على الانضباط، وهي تجعلنا قادرين على السيطرة على غرائزنا وشهواتنا ودوافعنا، بصرف النظر عن دور المجتمع أو الوراثة. وهذا إن دلّ، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ إنسانٍ يحتاج إلى أن يضبط نوازعه ودوافعه ويسيطر عليها، وهذا لا يكون إلّا من خلال الإيمان الذي بدأ

 

96


86

خاتمة

بالعلم والمعرفة، واستقرّ بالقلب وتمظهر سلوكاً.

فالإيمان الصادق يصنع الأعاجيب، فمتى استقرّ في القلب ظهرت آثاره واضحةً في المعاملة والسلوك، والإسلام عقيدةٌ متحرّكةٌ لا تطيق السلبيّة؛ إذ إنّها بمجرّد تحقّقها في عالم الشعور، تتحرّك لتحقّق مدلولها في الخارج، وتترجم نفسها إلى حركةٍ وإلى عملٍ في عالم الواقع.

وإذا تمكّنت العقيدة من نفس الإنسان، تبرّأ من المشركين وما هم عليه من عقائد وأفعالٍ وسلوك، وإذا تربّى على التربية الإيمانيّة ستجد إنساناً أفضل من الملائكة، يتمتّع بالأخلاق الفاضلة التي لا تتغيّر من فردٍ إلى فرد، بل هي قيمٌ ثابتةٌ تزداد ثباتاً كلّما ارتقى الإنسان بإنسانيّته، فتراه يحتضن جميع الفضائل والأعمال الخيرة لصالح الفرد والمجتمع في جميع الميادين. وعندها يظهر أنّ سوء الخلق دليلٌ على ضعف الإيمان؛ وذلك بسبب ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطا ًقويّاً.

فكانت علامة الإيمان العمل به، فمعيار صدق الإيمان هو الإتيان بالعمل الصالح. فترى أثر الإيمان ينطبع على الجوارح والجوانح والأعمال، فكما أنّ الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب والهواء؛ لأنّه إذا فقدهما يموت، فكذلك لا يستغني عن

 

97


87

خاتمة

الإيمان، فبفقدانه يخسر دنياه وآخرته، والإنسان بلا إيمانٍ يُصبح كالحيوان يهيم في شهواته كما تهيم بهيمة الأنعام في الأعشاب.

ويتمّ تكامل المجتمع بتلك الصورة نفسها التي يتمّ فيها تكامل إنسانيّة الإنسان، فبما أنّه اجتماعيٌّ فهو لن يتمكّن لوحده من سدّ حاجاته، ويجب أن يساهم الجميع في الواجبات والحقوق والفوائد والحياة، ويقوم بينهم نوعٌ من «توزيع العمل» بين الأفراد يحكمها وجود الله، حتّى لا يتحوّل المجتمع إلى غابةٍ ويصبح القانون الحاكم هو قانون الغاب.

إنّ الإنسان ذو مَلَكاتٍ متفاعلةٍ ومتداخلة، وهو أُوجد في هذه الدنيا لديه قابليّاتٌ واستعداداتٌ نفسيّةٌ وذهنيّةٌ وجسديّةٌ قابلةٌ للتّكامل أو التسافل، هو موضوع السلوك. فعليه العمل وفق المعرفة الضروريّة لتحصيل كماله. وهذا العلم لوحده لا يكفي، فكم من واحدٍ يعلم أنّ الله واحدٌ وقد حذّره من الشرك به، إلّا أنّنا نراه يجعل إلهه هواه، وكم من فردٍ يعلم أنّ هناك يوم حسابٍ وجنّةً وناراً، إلّا أنّنا نراه يعقّ والديه أو يكذّب، أو يقطع رحمه، أو يأكل أموال الناس سحتاً، أو يجهد على تفرقة المسلمين أو يتولّى الطواغيت أو... فهل نفعه العلم هنا؟!

 

98


88

خاتمة

يجب أن يتحوّل العلم والمعرفة إلى إيمانٍ وعقيدةٍ راسخين في القلب والعقل؛ لتتحوّل دوافعه -أيّ الإنسان- إلى دوافع إيمانيّةٍ تدفعه إلى سلوك الصراط المستقيم. وعلى الإنسان أنّ يعي أنّه خليفة الله على الأرض، فيكون عليه العمل والكدّ ليحظى بهذا المقام الذي خصّه الله -سبحانه- به دون سائر مخلوقاته.

إذاً، يكون للإيمان بأصول الدين – العقيدة - أثرٌ على سلوك الإنسان بكلّ أبعاده الماديّة والمعنويّة، والذي بدوره سينعكس على الأسرة لتشكّل مجتمعاً متأثراً بسلوكه.

إذا كنّا نعتبر أنفسنا من الممهّدين للإمام المهدي|، بات واضحاً كيف سنعمل في مسيرتنا التمهيديّة لظهوره| وظهور الحقّ على يديه الشريفتين، وإقامة الحكومة الإسلاميّة العادلة، ولن يعود غريباً ومستهجناً، إذا ما سمعنا بالخيرات والنعم التي تظهر بظهوره الشريف، فذلك كلّه يعود إلى أثر الإيمان على سلوك الإنسان، الذي ينعكس خيراً ونعماً عليه وعلى المجتمع والكون والطبيعة.

وفي الختام، يبقى السؤال: كيف علينا أن نعلّم أنفسنا والناس لجعل هذا الإيمان سلوكاً؟

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

99


89

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

نهج البلاغة.

1- الأمين، إبراهيم. تزكية النفس وتهذيبها، الطبعة الخامسة 1425هـ 2005م، دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع - لبنان.

2- أوبير، رونيه. ترجمة عبد الدايم عبد الله. التربية العامّة، الطبعة السادسة 1983، دار العلم للملاين – بيروت.

3- نعيم، بلال. معايير السلوك وفق منهجي التوحيد والشرك، الطبعة الأولى 2006، دار الهادي – بيروت.

4- دستغيب، عبد الحسين. الإيمان1-2، ترجمة لجنة الهدى، الطبعة الثانية 1430هـ2009م، دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع - لبنان.

5- الدوري، عدنان. أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجراميّ،

 

101


90

المصادر والمراجع

الكتاب الأوّل.

6- ذبيان، زياد نجيب. في التربية وعلم النفس، الطبعة الأولى أيلول 1980، دار الفكر اللّبناني – بيروت.

7- ربيع، حامد. مقدّمة في العلوم السلوكية حول عمليّة البناء الفكريّة لأصول علم الحركة الاجتماعيّة، الطبعة الثانية دمشق 1981، دار الجليل.

8- الرشيدي، بشير صالح. نظريّة الاختيار وتطبيقاتها في علم النفس رؤية تحليليّة لمدرسة وليم جلاسر المعاصرة، الطبعة الأولى 1999.

9- السبحانيّ، جعفر. العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، نقله إلى العربيّة جعفر الهادي، دار التعارف للمطبوعات – لبنان.

10- سليمان، حسين حسن. السلوك الإنسانيّ والبيئة الاجتماعيّة بين النظريّة والتطبيق، الطبعة الأولى 1425 هـ 2005م، مجد المؤسّسة للدراسات والنشر والتوزيع.

11- عبّود، شلتاغ. منهج الإمام السجّاد (عليه السلام) في التوحيد والسلوك والتربية، الطبعة الأولى 2002، دار الهادي – بيروت.

 

102


91

المصادر والمراجع

12- ماضي، علي. النفس البشريّة تكوينها واضطرابها وعلاجها، دار النهضة العربيّة – بيروت.

13- مدن، يوسف. العلاج النفسيّ وتعديل السلوك الإنسانيّ بطريقة الأضداد، دار الهادي – بيروت.

14- المطهري، مرتضى. محاضرات في الدين والاجتماع، الطبعة الأولى، 1420هـ/ 2000م، الدار الإسلاميّة، بيروت - لبنان.

* دوريات

1- جمعيّة التعليم الدينيّ الإسلاميّ إدارة الدراسات والتوثيق، القيم والسلوك إشكاليّات النظريّة والتطبيق - أبحاث ومناقشات وتوصيات مؤتمر القيم والسلوك، عام 2006م.

2- مجلّة المحجّة الصادرة عن معهد المعارف الحكميّة، العدد 24، شتاء 1432هـ/ 2012م.

* مواقع إلكترونيّة

1- موقع المقاتل 19/10/2010م.

2- ويكيبيديا 22/10/2010م.

 

103


92
أثر الإيمان على السلوك الإنسانيّ