مضامين أخلاقيّة لـ«دعاء كميل»

معهد الشهيدة أمّ ياسر


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2022-01

النسخة:


الكاتب

معاهد سيدة نساء العالمين (ع)

معاهد سيدة نساء العالمين (ع)


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، مفيض الجود والوجود، وصلِّ اللهمّ على هادي سبيل النجاة والرشاد، المصطفى محمّدٍ وعلى آله الأطهار الميامين.

الكتاب البحثيّ لمعاهد سيّدة نساء العالمين(عليها السلام) الثقافيّة، كتابٌ سنويٌّ تُصدره وحدة الدراسات والمتون الثقافيّة، يقوم بنشر النتاج العلميّ والمعرفيّ لطالبات المعاهد وفهرسته، اللواتي أعدَدْن أبحاث التخرّج هذه بعد إتمامهنّ دراسة مرحلة التخصّص؛ لتشجيع الباحثات من طالبات المعاهد وغيرهنّ وخدمتهنّ، وتوفير مرجعٍ علميٍّ جديدٍ للباحثين.

تتناول هذه الأبحاث عناوين متعدّدةٍ في مجالات العلوم الإسلاميّة كافّة التي تُدرّس في معاهد سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) الثقافيّة، وتشمل اختصاصات: الفقه، والتفسير وعلوم القرآن والعقيدة الإسلاميّة وسيرة المعصومين والخطابة الحسينيّة، والأخلاق الإسلاميّة، وقضايا المرأة والأسرة.

 

8


1

المقدّمة

نسأل الله أن نستطيع من خلال هذا المنبر العلميّ، أن نساهم في نشر العلم والمعرفة، وتكريس تبنّي الفكر السليم والمتوازن والمعتدل الذي جاء به الإسلام المحمّديّ الأصيل، بعيداً عن أيّ تحريفٍ أو تزويرٍ للحقائق، وأن نواكب العناوين المُلِحّة والمُستجِدّة في مجتمعاتنا على الأصعدة الثقافيّة والاجتماعيّة والأسريّة وغيرها، في المعالجة والطرح.

 

والله وليّ التوفيق

وحدة الدراسات والمتون الثقافيّة

 

9


2

مقدّمة البحث

مقدّمة البحث

الحمد لله سامع الدعاء وسابغ النعماء ومجزل العطاء، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله حبيب إله العالمين وعلى آله الأتقياء القادة الأبرار، وسلّم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد، فهذا البحث يتناول ملامح وشذراتٍ من دعاء رجل الإسلام وبطله الفذّ، الذي امتازت شؤونه بأنّها إلهيّةً مكتنفةً بالرعاية الربانيّة. فقد تولّته عناية الله جلّ جلاله فاصطنعتْه كما تشاء، فأسبغت عليه الألطاف وأفاضت عليه الأنوار، أقامته طريقاً إلى الحقِّ وعنواناً للهدى وسفينةً للنجاة، وبركةً للوجود وسرّاً في الكون، ولم يحظَ أحدٌ من خلق الله بكنه عليٍّ وليّ الله (عليه السلام) إلّا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد تولّى (صلى الله عليه وآله) التعريف بجلائل مقامات الإمام، والإشادة بدوره ورفيع شأنه في الوجود والدين والآخرة، قولاً وعملاً، علانيّةً وسرّاً، فهو عندما سأله الإمام (عليه السلام) أن يدعو له بالمغفرة صلَّى ركعتين، ثمّ رفع يديه للدعاء قائلاً: «اللهمّ بحقِّ عليٍّ عندك اغفر لعليّ» وعندما سأله الإمام عن ذلك قال: «أوَ

 

 

10


3

مقدّمة البحث

أحدٌ أكرم منك عند الله فأستشفع به إليه»[1]. وها أنا أحاول أن أبحر في سفينة نجاة الإمام(عليه السلام) عبر شذراتٍ من المضامين الأخلاقيّة لدعاء كميل؛ وذلك لأمور عدّة:

الأوّل: إنّ الدعاء بشكلٍ عامّ، ودعاء كميل بشكلٍ خاصّ، يُركّز على التوحيد عامّة وعلى الأخلاق خاصّة، لِما للأخلاق من أثرٍ إيجابيّ على شخصيّة الفرد، والفرد جزءٌ من مجتمعٍ متكاملٍ يؤثّر ويتأثّر، ودعاء كميل بما حوى من المضامين الأخلاقيّة -التي لا يمكن حصرها، ولو أمضينا الليالي الطوال والأيّام المضنية في سبيل ذلك- كفيلٌ بأن يرتقي بالفرد والمجتمع إلى أوج كماله الممكن، وكفيلٌ بأن يصل ما يمكن أن ينقطع بين الإنسان وخالقه، وكفيلٌ بأن يقوّي العلاقة بين الخالق والمخلوق.

الثاني: الدعاء أمرٌ فطريٌّ مغروزٌ في فطرة الإنسان، فهو يتوجّه بالمسألة إذا نزلت به البليّة وهزهزته الهزاهز نحو من يقدر أن يكشفها عنه، والكاشف لبليّته هو ربّه فيدعوه ليكشفها ويرفعها؛ لأنّه سبحانه قادرٌ على كلّ شيءٍ، وفي كلّ حال. وقد عرّف الله نفسه لخلقه أنّه مجيب؛ لقوله: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾[2] ووعد الاستجابة وعداً قطعيّاً لكلّ من دعاه بحقيقة الدعاء، وعلى هذا

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج20، ص316.

[2] سورة غافر، الآية 60.

 

11


4

مقدّمة البحث

تجري سنّته تعالى صراطاً مستقيماً لا تخلّف فيه. ومن سنن الله تعالى في الأمم إرسال الرسل إليهم ليذكّروهم بتوحيد الله والتضرّع إليه بإخلاص؛ لعلّهم بحسن اختيارهم تلين قلوبهم، فتُعرض عن التزيّينات الشيطانيّة وعن الإخلاد الى الأسباب الظاهريّة.

وإن لم يفعلوا، واشتغلوا بأعراض الدنيا ونسوا الله، أخذهم الله بغتةً من حيث لا يشعرون؛ ليعودوا إليه تعالى. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَم مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ﴾[1].

الثالث: تسود مجتمعَنا فكرةٌ خاطئة، وهي أنّ الدعاء سلاح المذنب والمبتلى بالشدائد ووسيلته، ولا يحتاجه المعافى الذي يعيش حالة الأمن والرخاء، فأحببت أن أوضّح من خلال هذه الصفحات -بالمنهج النقلي- أنّ المبتلي ليس أحقّ بالدعاء من المعافى؛ لأنّ الدعاء حاله ترجمةٍ وعشقٍ بين عابد ومعبود، وليس هو فقط لطلب الحوائج، أو لدفع مكروه، بل لأجل الشكر والاعتراف بعظمة الخالق، فبالشكر تدوم النعم. ونظراً للعلاقة الوثيقة بين الدعاء والأخلاق، يُعتبر الدعاء منهجاً تربويّاً مهمّاً، أو دستوراً يمنهج السبيل القويم للاتّصال بالله، ويُعلّم الإنسان

 


[1]  سورة الأنعام، الآية 42.

 

12


5

مقدّمة البحث

الأدب ومكارم الأخلاق، ويُبيِّن للإنسان كيف يعيش وماذا يجب أن يفعل، ليبقى على صلةٍ سليمةٍ مع خالقه.

ومن المفاهيم الأخلاقيّة التي تمَّ تناولتها: أهميّة الأخلاق، وأدب الدعاء، وخطر الذنوب والمعاصي على حياة الفرد والمجتمع، ومعنى الشفاعة، وأهميّة الذكر والشكر وآثارها على النفس الإنسانيّة على أنّها علاقةٌ متبادلةٌ بين المخلوق والخالق، والجود والكرم، وأهميّة القناعة والتواضع في السلوك الإنسانيّ، ومن ثمّ تناولت فاقة الإنسان وضعفه، وانتهيت بعرض حال المؤمن المتردّد بين الخوف والرجاء.

وجعلت لكلّ فصلٍ مقدّمةً تسلّط الضوء على المفاهيم المطروحة انطلاقاً من إشكاليّةٍ تحدّد المعروض، ثمّ انتقلت إلى شرح الإشكاليّة بالاستفادة من القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف وأقوال الأئمّة الميامين(عليهم السلام) وأفعالهم، وشروحات وتفاسير فقهائنا العظام.

وقد تضمّن البحث فصلَين وخاتمة، تناولت في الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء؛ لأنّ هذا البحث يدور حولهما، فالأخلاق سرّ بعثة الأنبياء، وسبب بقاء الأمم والمجتمعات وبزوالها تزول المجتمعات والأمم، وقد قال الشاعر:

 

13


6

مقدّمة البحث

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت       فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

والدعاء في حقيقته عبادة، بل له دور الريادة على سائر العبادات، فهو سلاح الأنبياء وترس المؤمن، يوجّه الداعي نحو الأخلاق الربانيّة التي تليق بالتعاطي مع المولى بعد الوقوع في المعاصي والذنوب، ويجسّد حقيقة فقر الإنسان وحاجته إلى الله في الشدّة كما في الرخاء، ويؤكّد على ربط وجوده واستمراره بالله، وتلبية حوائج الإنسان بواسطة الدعاء سرٌّ يحيّر العقول، فتقف عنده عاجزةً عن كلّ تفسير.

تناولت في الفصل الثاني شذراتٍ أخلاقيّةً من دعاء كميل، كأدب الدعاء؛ لأنّه عنصرٌ فعّالٌ في تهذيب النفس وترويضها على الفضائل، ونهيها عن القبائح. ثمّ ذكرت هويّة الدعاء ونسبته إلى أمير المؤمنين(عليه السلام). وبيَّنت شيئاً يسيراً من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ بيَّنت أهميّة الشكر والذكر في حركة الإنسان المؤمن، واتّصالهما بمكارم الأخلاق؛ فإنّ ذكر الله يؤدّي إلى استجابة الدعاء، والاستجابة تُوجب الشكر، وأعلى مراتب الشكر أن يُظهر الإنسان عجزه أمام نعماء الله. ثمّ بيّنتُ أنّ الجود والكرم مظهرٌ من مظاهر رحمته، وأنّ التوسل بهما وسيلةٌ وبابٌ يفتح

 

14


7

مقدّمة البحث

على الغاية، وهي رضى الله تعالى. ثمّ انتقلت من الشقّ الإلهيّ إلى الشقّ الاجتماعيّ، فالإنسان في حركة سيره يحتاج إلى مَلَكة القناعة والتواضع، فهو كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، لا يستطيع العيش وحيداً منفرداً؛ لذلك نجده يسعى لبناء علاقاتٍ مع الآخرين، ونظراً لعدم عصمته، فإنّ فيه خصالاً حسنةً وأخرى سيّئة، وبناءً عليه، فإنّ العلائق الاجتماعيّة سوف تتلوّن بألوان هذه الخصال، فنجد في المجتمع علاقاتٍ صادقةً حسنةً قوامها الصدق والإخلاص، وأخرى غادرةً قوامها المصلحة الخاصّة والأهواء والشهوات كالغيرة والجشع والخيانة والغدر. من هذا المنطلق احتاج الإنسان إلى تأصيل خصال الرضى والقناعة والتواضع في نفسه.

ومن أجل هذا، جعل الإمام هذه الخصال الصالحة مطلباً ملحّاً ورجاءً مأمولاً، ونهجاً يعمّق الثقة بالله، ويحقّق له الرخاء النفسيّ، ويحرّره من استرقاق المادّة، وينفتح من خلاله على عبادةٍ يقبلها ويرضاها الله سبحانه وتعالى. وبما أنّ حقيقة الإنسان هي الضعف، وبما أنّه غير معصوم، فكثيراً ما يقع تحت نير المؤثرات السلبيّة المتحكّمة في إرادته كالنفس الأمّارة بالسوء والشيطان وقلّة الصبر، فكان لا بدّ من أن أتعرّض إلى بيان وجوب الإقرار بدونيّة الإنسان، وضعفه أمام عظمة خالقه وقدرته. وبما أنّ الإنسان غير مطّلعٍ على غيب الله، فقد يعيش حالة خوفٍ كبيرةٍ من أن توجب أعماله

 

15


8

مقدّمة البحث

السيّئة حجب رحمة الله وفيضه عنه فيقع في اليأس المنهيّ عنه، وقد يعيش حالة رجاءٍ مفرطٍ توقعه في الإهمال والتقصير والتمرّد على طاعة الله. لذا، حاولت بيان الحدّ الوسطيّ بين الخوف والرجاء من خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.

وبعد هذا العرض والتحليل، تأتي خاتمة البحث حيث النتائج المهمّة في المواضيع، ثمّ قائمة المصادر والمراجع، وبعدها فهرس البحث.

هذا، وأحبّ أن أورد بعض الآثار الإيجابيّة التي تركها هذا البحث في نفسي، فقد نبّهني نوعاً ما من غفلتي وأرشدني إلى من أتكلّم معه، إلى الله الذي خضع لقدرته كلّ شيءٍ وأحاط علمه بكلّ شيء، وزادني يقيناً بعظمة الخالق تبارك وتعالى وبسعة رحمته والثقة بها، وهذه المعرفة زادتني تعلّقاً بالدعاء، وأرست في نفسي مفهوم الحاجة والفقر والتبعيّة لله عزَّ اسمه، وأولدت في قلبي إحساساً بالمسؤوليّة عن الذنب والتقصير في محاسبة نفسي، والتحفّظ من أهوائها ومن الميل معها.

لقد مكّنني هذا البحث من الاطّلاع على قيمة الدعاء وآفاقة التربويّة الرائعة، وجرّتني فقرات دعاء كميل إلى التعرّف إلى المزيد من ميّزات تلك الشخصيّة الفذّة التي يمتلكها إمامي أمير المؤمنين

 

16


9

مقدّمة البحث

(عليه السلام)، كما أوصلني التأمّل في نتائح الفصول إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين فقرات الدعاء والتربية الأخلاقيّة للإنسان. وآمل أن أكون قد ساهمت ولو قليلاً في بيان تلك العلاقة وتوضيحها.

وأودّ تقديم الشكر، كلّ الشكر، أوّلاً وأخيرا،ً للأوّل والآخر الذي خلقني وهداني ومنحني القدرة على التفكير والتعبير والكتابة. والشكر لساداتي، تلك الأنوار القدسيّة والفيوضات الإلهيّة الذين جعلهم المولى سبحانه رحمةً للعالمين محمّد(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام(عليهم السلام) لما تركوه لنا من تراثٍ دعائيٍّ ضخمٍ يحفظ أجيالنا المتتابعة من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان، ويهديهم للتي هي أحسن وأقوم. ولا يفوتني شكر والدَيّ اللذين أحسنا تربيتي وتوجيهي. وشكرٌ خاصٌّ لكلّ من ساهم في تعليمي وتأديبي في مراحل حياتي كافّة، وبالأخصّ في المرحلة الأخيرة «في معهد الشهيدة أمّ ياسر»، فقد كانوا خير مؤدّبٍ وخير قدوةٍ يُقتدى بها بعد المعصومين(عليهم السلام). وأريد أن أخصّ بالشكر سماحة الشيخ المشرف على بحثي الشيخ «محمّد شقير» لما بذل لي من جهدٍ ومعلوماتٍ وتوجيهات، وشكرٌ مميَّزٌ لصديقتي وقريبتي الحاجّة علا صبّاح التي اهتمّت بمتابعة بحثي هذا وتصحيحه، وشكرٌ خاصٌّ لعائلتي وزوجي وأولادي لدعمهم لي وتحمّلهم انشغالي عنهم طوال فترة إنجازي هذا البحث.

وما توفيقي إلّا بالله العليّ العظيم.

 

 

17


10

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

أوّلاً: تعريف الأخلاق

الأخلاق جمع خُلق، وخلق على وزن أُفق (وبتعبير الراغب في المفردات)، وهو (خلق) بمعنى الهيئة والشكل الذي يراه الإنسان بعينه. والخُلقْ بمعنى القوى والسجايا الذاتيّة للإنسان. لذا يمكن القول، بأنّ الأخلاق هي مجموعة الكمالات المعنويّة والسجايا الباطنيّة للإنسان[1]، وهي دعوةٌ صادقةٌ إلى العمل الصالح، وحثٌّ على الفضائل والسموّ بالنفس عن الصغائر.

وعُرِّفت الأخلاق بأنّها هيئةٌ باطنيّةٌ راسخةٌ في النفس، تصدر عنها الأفعال بيسرٍ ومن غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويّة، فإن كان الصادر عنها جميلاً ومحموداً -عقلاً وشرعاً- سُمّي خُلقاً حسناً، وإن كان الصادر قبيحاً مذموماً -عقلاً وشرعاً- سُمّي خُلقاً سيّئاً. وإنّما اشترط في الأخلاق الرسوخ؛ لأنّ من يصدر عنه بذل المال مثلاً على الندرة

 


[1] ناصر مكارم الشيرازي، الأخلاق في القرآن، ج2، ص14.

 

18


11

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

أوّلاً: تعريف الأخلاق

الأخلاق جمع خُلق، وخلق على وزن أُفق (وبتعبير الراغب في المفردات)، وهو (خلق) بمعنى الهيئة والشكل الذي يراه الإنسان بعينه. والخُلقْ بمعنى القوى والسجايا الذاتيّة للإنسان. لذا يمكن القول، بأنّ الأخلاق هي مجموعة الكمالات المعنويّة والسجايا الباطنيّة للإنسان[1]، وهي دعوةٌ صادقةٌ إلى العمل الصالح، وحثٌّ على الفضائل والسموّ بالنفس عن الصغائر.

وعُرِّفت الأخلاق بأنّها هيئةٌ باطنيّةٌ راسخةٌ في النفس، تصدر عنها الأفعال بيسرٍ ومن غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويّة، فإن كان الصادر عنها جميلاً ومحموداً -عقلاً وشرعاً- سُمّي خُلقاً حسناً، وإن كان الصادر قبيحاً مذموماً -عقلاً وشرعاً- سُمّي خُلقاً سيّئاً. وإنّما اشترط في الأخلاق الرسوخ؛ لأنّ من يصدر عنه بذل المال مثلاً على الندرة

 


[1] ناصر مكارم الشيرازي، الأخلاق في القرآن، ج2، ص14.

 

18


11

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

لحاجةٍ عارضةٍ، لا يُقال: خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوتاً ورسوخاً[1]، وعليه قسّموا الأخلاق إلى قسمين: المَلَكات التي تنبع منها الأعمال والسلوكات الحسنة وتُسمَّى الفضائل، وأخرى تكون مصدراً للأعمال والسلوكات السيّئة وتُسمَّى الرذائل.

يُعتبر حسن الخلق الضابطة والميزان بين الإفراط والتفريط. وقد أرجع علماء الأخلاق حُسن الخلق إلى أربع مَلَكات: الحكمة والشجاعة، والعفّة والعدالة. وتُعتبر العدالة ميزان ضبطٍ بين العقل وقوى النفس. فالعقل هو الناصح والمرشد والمشير والمؤدّب بحسب ما تقتضيه مصلحة الإنسان الفعليّة، وليس بحسب ما يقتضيه هوى النفس. والخُلق منه ما هو نيّةٌ، ومنه ما هو سجيّة. فصاحب السجيّة مجبولٌ لا يستطيع غيره، وصاحب النيّة يصبر على الطاعة صبراً. فمن كان خُلقه الشجاعة، نراه يهبّ لنصرة المظلوم والضعيف والخائف من دون تفكّرٍ ومن غير خوفٍ أو تهور، أمّا صاحب النيّة فإنّه يتفكّر في الفعل ويشجّع نفسه عليه، ويمنّيها ويعدها ومن ثمّ يُقدِم على الفعل بإلزام نفسه به، وهكذا حتّى يصبح الفعل عنده مَلَكة.

 


[1] عبد الله شبر، الأخلاق، ص3 - 10.

 

19

 


12

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

هذا، والخُلق يظهر للآخرين من خلال مجموعة أفعالٍ وأقوالٍ تدلّ على مدى ارتباط الإنسان بعقيدته وبخالقه. وعُرِّفَت الأخلاق الإسلاميّة بأنّها «مجموعة الأقوال والأفعال التي يجب أن تقوم على أصولٍ وقواعد وفضائل وآداب مرتبطةٍ ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة والشريعة الإسلاميّة من خلال القرآن الكريم والسنّة الشريفة. فالأخلاق في الإسلام ليست جزءاً من الدين، بل هي جوهره وروحه»[1].

ثانياً: الأخلاق والسنن الإلهيّة

إنّ القرآن الكريم يولي مسألة تزكية النفس أهميّةً بالغةً، ويعتبرها الهدف الأسمى للإنسان والهدف من بعثة الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[2]، أسند سبحانه فلاح الإنسان وخيبته إلى تزكية النفس، ففيها تكمن القيم الإنسانيّة كلّها، بحيث تكون نجاة الإنسان بها، باعتبار أنّ حسن الخُلق مسألةٌ أساسيّةٌ تنشأ منها جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة وتُبنى عليها. فهي بمثابة القاعدة والركيزة الأساسيّة التي يقوم عليها الدين، بهذا اقتضت سنّة السعادة في الآخرة صلاح الفرد في الدنيا، من حيث

 

 


[1]  هيئة محمّد الأمين، الأخلاق والآداب الإسلاميّة، ص8.

[2]  سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

 

 

20


13

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

التوبة من الذنوب، والإقرار بوحدانيّة الله والإيمان برسله والعمل الصالح، وسنّة العذاب ابتنت على فساد الفرد وإفساده.

وقوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ١١ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ ١٢ فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ١٣ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ﴾[1] إشارةٌ إلى هذه السنن، وقول الرسول(صلى الله عليه وآله): «جعل الله سبحانه مكارم الأخلاق صلةً بينه وبين عباده فحسب أحدكم أن يتمسّك بخلقٍ متّصلٍ بالله»[2]. اختصر النبيّ(صلى الله عليه وآله) المسافة في بيان أهميّة حُسن الخلق ومكانته، فبحسب قوله إنّ للأخلاق الدور الرياديّ في تربية الإنسان المسلم المؤمن، فيبيّن أنّ المتمسّك بالخلق الحسن هو المتّصل بالله، أمّا المبتعد عنها والمتّبع لهواه سيصل إلى اتّباع الرذائل، ولا يمكن أن نجد إسلاماً عند من اتّبع هواه وترك خُلق الأنبياء(عليهم السلام).

هذا، وأثر الأخلاق ليس مقصوراً على الأفراد فحسب، بل يسري إلى الأمم والشعوب، حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رُقيّها أو تخلّفها. وقد زخر القرآن والتاريخ بأحداثٍ وعِبَر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسّخها كان معولاً هدّاماً في تقويض روح الحضارات وانهيار الدول. وإلى ذلك أشار تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ

 

 


[1] سورة الفجر، الآيات 11 - 14.

[2]  ناصر مكارم الشيرازي، الأخلاق في القرآن، ص14.

 

21


14

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرا﴾[1].

ثالثاً: الأخلاق وحكم العقل

من المعلوم أنّ الباطل من قولٍ أو فعلٍ، وكلّ صفةٍ ذميمةٍ إنّما هي أعدامٌ وأوهامٌ غير مستندةٍ إلى الله تعالى، الذي هو الخالق والمفيض للوجود، بخلاف الحسنات؛ لذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كلّ جمالٍ، ومنبع كلّ خيرٍ وسعادة.

والحسنات من الأقوال والأفعال مطابقةٌ لحكم العقل، بخلاف السيّئات؛ لذلك أوصى تعالى باتّباع العقل، ونهى عن كلّ ما يوجب اختلال حكومته، كشرب الخمر والقمار والغشّ واللهو والغرر في المعاملات، والكذب والبهتان والخيانة والفتك وغيرها، ممّا يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم. لذا، جعل الباري من القضاء المحتوم والسنّة الجارية التلازم بين الإحسان والتقوى والشكر في كلّ قوم، وبين توارد النعم والبركات إليهم من عند الله سبحانه وبقائها ومكثها بينهم ما لم يغيّروا[2]، كما يشير في قوله: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ

 

 


[1]  سورة الإسراء، الآية 16.

[2]  العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص316.

 

22


15

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[1]، و﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾[2]، وذلك بحكم التلاؤم والتوافق بين أجزاء هذا النظام، حيث لا معاندة ولا مضادة بين أجزائه، ومقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوعٍ في عافيةٍ ونعمةٍ وكرامةٍ حتّى يبلغ غايته، ما لم ينحرف النوع الإنساني عن مقتضى فطرته الأصليّة، ولا عن الأنواع الأخرى. فيجري الكون على سعادته ونعمته، ولم يعدم رشداً. أمّا إذا انحرف عن ذلك، وشاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون وأوجب ذلك هجرة النعمة واختلال المعيشة، وظهور الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلّهم يرجعون[3]. وبهذا يتّضح لنا مسؤوليّة الإنسان عن أقواله وأفعاله، وارتباطها بالعالم الآخر، وأنّ الإنسان في الدنيا يستطيع أن يرسم آخرته.

فالإنسان عندما ينفتح على المعرفة ويكون لديه خبرةٌ بالأعمال الحسنة والسيّئة، ويعرف حسنات الفضيلة وعواقب الرذيلة، فممّا لا شكّ فيه، أنّ هذه المعرفة ستؤثّر في تربيته، ونحن كثيراً

 


[1]  سورة الأعراف، الآية 96.

[2]  سورة إبراهيم، الآية 7.

[3]  العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص316.

 

23


16

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

ما نرى أشخاصاً سيّئي الخلق انقلبوا عنها، واتّجهوا نحو الفضائل؛ لإدراكهم قبح تلك الفعال وآثارها وعواقبها السلبيّة على حياتهم في الدنيا والآخرة. وبهذا يتّضح لنا أهميّة الخلق الحسن وضرورة الاتّصاف به، وكذلك إذ لولا الأخلاق لما فهم الناس الدين، ولما استقامت دنياهم، كما قال الشاعر:

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت         فإن هَمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقد يبتلى الإنسان بالمعاصي والسيّئات، فتفسد أخلاقه في غفلةٍ منه، فماذا يفعل المبتلى؟ وكيف ينظر الله وملائكته إليه؟

والله يبتلي عبده ليختبر مدى إيمانه وارتباطه به، فالمؤمن المؤمن يرجع إلى ربّه ويلجأ إليه راجياً مغفرته، يدعوه بقلبٍ جريحٍ ودمعةٍ حرّى لتخليصه ممّا ابتلاه به، فكان لا بدَّ من الدعاء والمناجاة والتضرّع الصادق الذي يُعبِّر المؤمن من خلاله عن رجوعه إلى الله سبحانه، إلى الخير، وإلى السلام، وإلى الأمان والطمأنينة. فما هو الدعاء؟ وما هي حيثيّاته؟

رابعاً: تعريف الدعاء

الدعاء دورةٌ تربويّةٌ كاملةٌ تُنشئ الإنسان المؤمن على العقائد

 

24


17

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

والأخلاق، وتحقّق الهدف من الخلق ومن بعثة الأنبياء(عليهم السلام). الدعاء سلاح الأنبياء، وترس المؤمن، والخطاب المباشر بين العبد وربّه، فهو حالةٌ معنويّةٌ ساميةٌ، وهو سرٌّ من أسرار غيب الله تعالى، وهو كما عرّفه «أحمد بن فهد الحلّيّ» النداء والاستدعاء. يقول: دعوت فلاناً، إذ ناديته وصحت به. واصطلاحاً، هو طلب الأدنى للفعل من الأعلى، على جهة الخضوع والاستكانة[1].

ويقول الطباطبائيّ: «إنّ الدعاء في الله سبحانه تكوينيٌّ وتشريعيّ. تكوينيّ: باعتبار أنّه إيجاد ما يريده لشيءٍ، كأنّه يدعوه إلى ما يريد ﴿يَوۡمَ يَدۡعُوكُمۡ فَتَسۡتَجِيبُونَ بِحَمۡدِهِۦ﴾[2]، وتشريعيّ: باعتبار أنّه تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته»[3].

لا شكّ في أنّ الدعاء من المفاهيم الأساسيّة التي لا يستغني عنها إنسان؛ لأنّ الدعاء في الحقيقة نعمةٌ أفاضها تعالى على عباده، لا بل هي من أعظم النعم الإلهيّة؛ إذ به فتح لعباده طريقاً إلى رحمته ومغفرته ونيل رضاه. ومن أكبر النعم جريان ذكره تعالى على ألسنة العباد، يدعونه ويناجونه، ويسبّحونه وينزّهونه، ويسألونه من فضله وكرمه. فالدعاء يفتح قلب الداعي وعقله

 


[1]  أحمد بن فهد الحلّي، عدّة الداعي، ص20.

[2]  سورة الإسراء، الآية 52.

[3]  العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج10، ص36.

 

25


18

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

على علاقةٍ وطيدةٍ مع ربّه، فتتجلّى فيه المعرفة الواضحة بالله، فيلجأ إليه، يدعوه ويعتمد عليه باعتبار أنّه تعالى القدرة والعظمة القادرة على غلبة الأسباب والعلل الظاهرة. وطلب الدعاء إنّما هو لإرشاد المؤمن وهدايته إلى وسيلةٍ لتلبية حاجةٍ ضروريّةٍ لديه، فيتحرّك في سبيل سدّ تلك الحاجة، بأن ينصّب نفسه في مقام العبوديّة والمملوكيّة، والاتّصال بمولاه بالتبعيّة والذلّة، ليعطفه بمولويّته وربوبيّته إلى نفسه ساعة يشاء من دون القيود الزمانيّة أو المكانيّة. والدعاء هو الركن القويم والنبع الفيّاض، يلجأ إليه العاصي ليغسل ذنوبه، والمحتاج لسدّ حاجاته، والعاشق للالتذاذ بمناجاتٍ معشوقة ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ﴾[1].

خامساً: الدعاء في الحقيقة عبادة

الدعاء يحقّق رغبةً فطريّةً عند الإنسان، فهو يوجّهه نحو قوّةٍ قادرةٍ قاهرةٍ تُشعره بالأمان والاطمئنان وهو استجابةٌ لأمره تعالى، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[2]، فهذه الآية المباركة تؤكّد على أنّ الدعاء في الحقيقة عبادة بدليل أنّه سبحانه قال أوّلاً: ﴿ٱدۡعُونِيٓ﴾ ثمّ أتبعها بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي﴾ 


 


[1]  سورة البقرة، الآية 115.

[2]  سورة غافر، الآية 60.

 

26


19

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

فجعل الدعاء عبادةً، وأنزله منزلتها؛ حيث إنّ الآية تشتمل على الوعيد بالنار للمستكبرين على الدعاء، والمعروف أنّ الوعيد بالنار إنّما يكون على ترك العبادة أصلاً، لا على ترك قسمٍ من أقسامها.

ومن البديهيّ أنّ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم ودعاؤهم، كما لا تضرّه معصية المتمرّدين والمستكبرين، وإنّما فرض عبادته وطلب دعاءه؛ لينتفع الناس من خصائصه وآثاره العظيمة الموجبة لتكاملهم وليزيدهم من فضله وإحسانه؛ فالدعاء يؤدّي إلى حالةٍ روحيّةٍ ساميةٍ يتحرّر معها الداعي من كلّ عبوديّةٍ سوى العبوديّة لله، ومن الخضوع لأحدٍ سوى الله، فإنّه يؤدّي إلى صفاء الذكر وخشوع القلب ورقّة التضرّع، فيكون ذلك جلاءً للقلب ومفتاحاً للكشف وسبباً لتواتر أنواع اللّطف الإلهيّ. وبهذا الشعور ينقطع الداعي إلى ربّه قاطعاً رجاءه عمّن سواه، فيتوجّه نحوه تعالى في الرخاء شاكراً لنعمائه، وسائلاً إدامتها عليه، وتقريبه منه وإبعاده عن سخطه، وفي الشدّة طالباً عونه ورفع الشدّة عنه.

وعليه، فالدعاء حالةٌ إيمانيّةٌ تحرّك مشاعر الإنسان نحو ربّه، وتشعره بأنّه مستندٌ إلى ركنٍ قويّ، وأنّه ليس وحيداً في هذه الحياة، وأنّ الله معه يُعينه ويُسدّد خطاه، وأنّ عليه في المقابل

 

 

27

 


20

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

أن يكون مع الله سبحانه ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ﴾[1]، وهذا الشعور يدفعه إلى تقوية إيمانه، والتعلّق بمولاه أكثر، والارتباط بإخوانه المؤمنين وتضامنه وتفاعله معهم أكثر. وهذا التكاتف والتضامن يؤدّي إلى تقوية شوكة المؤمنين وعزّتهم، وبهذا يكون الدعاء قد أرسى في وجدان الإنسان مفهوم التوحيد والعبادة.

وبما أنّ الدعاء والعبادة يشتركان في حقيقةٍ واحدة، وهي إظهار الخضوع والخشوع لله تعالى وبما أنّهما مفهومان لا يتحقّقان إلّا بشعورٍ ووعيٍ وإدراك، فقد وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدعاء بقوله: «الدعاء مخ العبادة ولا يهلك مع الدعاء أحد»[2].

في الحقيقة، الدعاء والعبادة لا يتمّان إلّا إذا كان قلب الإنسان طاهراً من موبقات الشرك، نظيفاً عن الأغيار؛ لأنّه مركز العبادة وعرش الرحمن، ولا ينبغي إسكان غير الرحمن على عرشه، من هذا المنطلق كان الدعاء مخّ العبادة. وقد فسّر الإمام الصادق (عليه السلام) هذا الحديث بتشبيه الدعاء بالإنسان ونظر بينهما، فكما إنّ الإنسان الذي لا مخّ له إنسانٌ أجوف لا فائدة منه، فكذلك العبادة التي لا تشتمل على الدعاء، عبادةٌ جوفاء لا تأثير لها[3].

 


[1]  سورة محمّد، الآية 7.

[2]  محمّد الريشهري، منتخب ميزان الحكمة، باب الدعاء، ح2089، ص180.

[3]  عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء الصباح، ص27.

 

28


21

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

بيَّن أحد العلماء المعاصرين، أنّ الدعاء هو المموّن للعبادة بالشرط الجوهريّ لتكون عبادةً واعية، وقال: إنّ المخّ هو شرط الوعي والإدراك والتدبّر الذاتيّ، ومركز الانفعالات والأحاسيس. وتشبيه الدعاء بالمخّ يفترض أن يمنح الدعاء العبادة حضورها الواعي لذاتها، ولجوهر مفهومها الحقّ ولجذورها الأصليّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، وأصل ذلك كلّه الوعي بعبوديّة الإنسان وتبعيّته، وبربوبيّة الخالق وعظمته. ولعلّني في هذا السياق أستطيع إدراج جزءٍ من وصيّة الإمام عليّ (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) حيث يقول: «واعلم أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله فيعطيك، وهو رحيمٌ كريم، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه. ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه»[1].

ومن هنا نستنتج أنّ الله تعالى أذن بالدعاء وتكفّل الإجابة، وما الإجابة إلّا مفاتيح خزائن ملكوت الدنيا والآخرة، وهذه الخزائن هي خزائن موجودات الله عزّ وجلّ في صورها ومراتبها كلّها. فالدعاء بقدر ما يفتح قلب الإنسان وعقله على علاقة وثيقةٍ بالله، بقدر ما يفتح عقله وقلبه على علاقةٍ ومعرفةٍ بموجودات

 

 


[1]  السيد محمّد حسين فضل اللّه، في رحاب دعاء كميل، ص7.

 

29


22

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

ومخلوقات الله تعالى ما ظهر منها وما بطن، ليغرف ويعبّ من جوهرها وأسرارها.

أحبّ أن أختتم بما رواه السيّد القائد عن الإمام الخمينيّ (قدس سره)  قال: «سألته مرّةً عن الأدعية المعروفة التي يأنس ويعتقد بها، فأجابني بعد تأمّل: دعاء كميل والمناجاة الشعبانية؛ عندما تراجع هذين الدعاءَين... تشاهد في هذا الدعاء وهذه المناجاة حالة استغفارٍ وإنابةٍ واستغاثةٍ وتضرّعٍ لله بشكلٍ عاشق. إنّ دعاء كميل هو مناجاة مع الله المتعال، وهو يرسم علاقة المحبّة والعشق بين العبد والمعبود، وهذا هو الأمر الذي يُضيء ويشرق منه القلب والروح»[1]. وممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام(قدس سره)  قد أُجيب بمفاتيح خزائن الله، مفاتيح حقّقت له انتصاراً ساحقاً على الظلم والطاغوت وأعانته على إقامة دولة الحقّ. فما هو ذلك الدعاء الذي يحقّق أمثال هذه الأمور؟ وهل الدعاء المطلوب من العاصي والمبتلى فقط؟!

سادساً: الدعاء وسيلة كلّ إنسان

والحقّ يقال، إنّ الدعاء وسيلة كلّ إنسان مهما علت مرتبته عند الله أو دنت، فكلّ إنسانٍ بحاجةٍ لأن يُعين أو يُعان؛

 

 


[1]  بقية اللّه، عدد 193، ص14.

 

 

30


23

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

فبالدعاء يتقرّب المؤمن من ربّه أكثر، ويتمسّك بحبل الأخلاق والتقوى أكثر، فهو يرجو ربّه أن لا يحيد عن الصراط المستقيم، وأن لا تفسد أخلاقه، وكما يدعوه المتّقي، يدعوه العاصي أيضا؛ً ليرجع إليه وليقبل توبته ويغفر ذنبه، فيكون لسان حاله كما في الصحيفة السجّاديّة: «اللهمّ إنّه يحجبني عن مسألتك خلالٌ ثلاث، ويحدوني عليها خلّةٌ واحدة. يحجبني أمرٌ أُمرت به فأبطأت عنه، ونهيٌ نهيتني عنه فأسرعت إليه، ونعمةٌ أنعمت عليّ فقصّرت في شكرها، ويحدوني على مسألتك تفضّلك على من أقبل بوجهه إليك»[1].

الدعاء، حالة ترجمةٍ لعشق بين طرفَين، ويظهر ذلك من قول نبيّ الله موسى (عليه السلام): ﴿وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ﴾[2]. وقوله هذا، يوحي بأنّه إنسانٌ صادقٌ متعلّقٌ بالله عزّ وجلّ إلى أبعد الحدود، فسعى إلى ميثاق ربّه، وقد غلب عليه الشوق والحنين والفرح قاصراً نظره على قرب مشاهدة الجمال والجلال، غير ملتفتٍ إلى قومه أو إلى أيّ شيءٍ آخر دنيويّ.

 


[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص204. في رحاب دعاء كميل، ص10.

[2] سورة طه، الآية 84.

 

31


24

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

وبعد هذا وذاك، فالدعاء اختيار المؤمن واستجلاءٌ لأبعاد إيمانه، وهو معجزةٌ إلهيّةٌ تحدّت الوسائل والأسباب كلّها التي جعلها الله في الأشياء، لا على سبيل الانحصار. فما أسرع ما تتحطّم قدرات الإنسان، وعلمه وتقديراته واختراعاته أمام كلمات الدعاء وحصول المعجزة، كما حصل لكثيرٍ من الناس، فكم شفي مريضٌ وقف الطب عاجزاً بقدراته وإمكاناته كلّها عن مدّ يد العون له، وإذا بدعوةٍ بسيطةٍ يزول المرض وكأنّه لم يكن[1]. وبهذا يتّضح لنا أهمية الدعاء، بل يتّضح أنّ الدعاء هو كلّ شيءٍ في حياة الإنسان.

فما دام واقع الإنسان الفقر والحاجة إلى خالقه، وما دامت الأسباب ليست تحت سيطرته، فالدعاء هو وسيلته الوحيدة إلى ربّه، والقوّة التي يقوى بها على النفس الأمّارة بالسوء، وعلى وساوس الشيطان والمصاعب والأهواء والرغبات: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ﴾[2].

 


[1] مدرسة الدعاء، ص62.

[2] سورة الفرقان، الآية 77.

 

32


25

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

* أدب الإمام(عليه السلام) مع ربّه

«اللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِقُوَّتِكَ الَّتِي قَهرْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتِي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيْءٍ، وَبِعَظَمَتِكَ الَّتِي مَلأتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِسُلْطانِكَ الَّذِي عَلا كُلَّ شَيْءٍ».

أوّلاً: هويّة دعاء كميل

مناسبة إملاء دعاء كميل، كما يرويه كميل وتذكره الأحاديث المعتبرة: إنّ كميل بن زياد كان جالساً مع أمير المؤمنين(عليه السلام) في مسجد البصرة ومعه جماعةٌ من أصحابه، فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ﴾[1]، قال(عليه السلام): «هي ليلة النصف من شعبان، والذي نفس عليّ بيده، إنّه ما من

 


[1] سورة الدخان، الآية 4.

 

34


26

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عبدٍ إلّا وجميع ما يجري عليه من خيرٍ وشرٍّ مقسومٌ له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة، في مثل تلك الليلة المقبلة. وما من عبدٍ يحييها ويدعو بدعاء الخضر(عليه السلام) إلّا أُجيب له». فلمّا انصرف طرقته ليلاً، فقال(عليه السلام): «ما جاء بك يا كميل؟» قلت: يا أمير المؤمنين دعاء الخضر(عليه السلام). «اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء فادعُ به كلّ ليلة جمعة، أو في الشهر مرّة، أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّة، تكفَ وتُنصر وترزق ولن تُعدم المغفرة. يا كميل، أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك بما سألت»، ثمّ قال: اكتب: «اللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ...» إلى آخر الدعاء[1].

علّق السيد محمّد حسين فضل الله على الرواية شارحاً، فقال: إنّ هذا الدعاء مشهورٌ نسبته إلى الإمام عليّ(عليه السلام)، حيث لا يشكّ أحد بصدوره عنه(عليه السلام) وبأنّه ألقاه على كميل بن زياد النخعيّ. وإذا كان الإمام(عليه السلام) قد نسب هذا الدعاء إلى الخضر(عليه السلام) فإنّ مضمون هذه النسبة يبقى متراوحاً بين احتمالين أساسيّين:

الأوّل: أن تكون النسبة هي حفظٌ لمضمون الدعاء دون ألفاظه وتعابيره؛ أيّ أن تكون صياغة مضمونه هي للإمام عليّ(عليه السلام).

 

 


[1] ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج2، ص321 - 338، عن محمّد حسين فضل الله، في رحاب دعاء كميل، ص10 - 11.

 

34


27

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الثاني: أن تكون النسبة كاملة؛ أيّ باللفظ والمعنى معاً.

وفي مطلق الأحوال، يبقى المؤكّد في هذا كلّه، أنّ هذا الدعاء هو من إملاء الإمام عليّ(عليه السلام) على كميل بن زياد. فمن هو كميل بن زياد؟

تباينت مواقف المؤرّخين في نسبة كميل إلى الإمام عليّ وولده الحسن(عليهما السلام). أمّا المترجمون لسيرته فقد أجمعوا على أنّه كان رجلاً دكيناً وكان له إدراك، وكان شريفاً مطاعاً في قومه، وكان من أجلّاء علماء وقته، وعقلاء زمانه، ونُسّاك عصره، وكان من رؤساء الشيعة، وذكر في جملة عبّاد أهل الكوفة[1]. وقد كان لكميل نهايةٌ مأساويّة، كان الإمام(عليه السلام) قد حدّثه عنها، وعلى يد من تكون. وبحسب المؤرّخين فإنّ كميلاً قُتل صابراً محتسباً على يد الحجّاج، وكان عمره حوالي سبعين عاماً، وله قبرٌ معروف في أحد الأحياء الجديدة يُطلق عليه اسم «حيّ الحنّانة» بالقرب من الحنّانة، الجامع المعروف عند النجفيّين.

ثانياً: آداب الدعاء

أ. تعريف الأدب: الأدب هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع

 

 


[1] الزركلي، الأعلام، ج 6، ص 9، عن محمّد حسين فضل الله في رحاب دعاء كميل (12).

 

36


28

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عليه الفعل المشروع، إمّا في الدين وإمّا في المجتمع، عند العامّة والخاصّة، كأدب الدعاء، وأدب ملاقاة الأصدقاء. وإن شئت قلت: هو طرافة الفعل.

ولا يكون الأدب إلّا في الأمور المشروعة غير الممنوعة، فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب، كما ولا يتحقّق الأدب في الأفعال الاختياريّة. والحسن، وإن كان بحسب أصل معناه هو الموافقة لغرض الحياة ممّا لا تختلف فيه نظره المجتمعات، لكنّه بحسب اختلاف الأقوام والأمم والأديان والمذاهب وحتّى في المجتمعات الصغيرة والمنزليّة وغيرها. ولمّا كان الحسن من مقوّمات معنى الأدب، وكان مختلفاً بحسب المقاصد الخاصّة في المجتمعات المختلفة، أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعيّة الإنسانيّة؛ فالأدب في كلّ مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيّات أخلاق ذلك المجتمع العامّة، التي رتّبتها فيهم مقاصدهم في الحياة وركّزتها في نفوسهم عوامل اجتماعيّة، وعوامل مختلفة أُخر طبيعيّة أو اتفاقيّة.

وليست الآداب هي الأخلاق؛ فالأخلاق هي الملكات الراسخة الروحيّة التي تتلبّس بها النفوس، وأمّا الآداب، فهي هيئاتٌ حسنةٌ مختلفةٌ تتلبّس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان[1]، ولمّا كان الأدب

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان ج6، ص256.

 

 

37

 


29

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عليه الفعل المشروع، إمّا في الدين وإمّا في المجتمع، عند العامّة والخاصّة، كأدب الدعاء، وأدب ملاقاة الأصدقاء. وإن شئت قلت: هو طرافة الفعل.

ولا يكون الأدب إلّا في الأمور المشروعة غير الممنوعة، فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب، كما ولا يتحقّق الأدب في الأفعال الاختياريّة. والحسن، وإن كان بحسب أصل معناه هو الموافقة لغرض الحياة ممّا لا تختلف فيه نظره المجتمعات، لكنّه بحسب اختلاف الأقوام والأمم والأديان والمذاهب وحتّى في المجتمعات الصغيرة والمنزليّة وغيرها. ولمّا كان الحسن من مقوّمات معنى الأدب، وكان مختلفاً بحسب المقاصد الخاصّة في المجتمعات المختلفة، أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعيّة الإنسانيّة؛ فالأدب في كلّ مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيّات أخلاق ذلك المجتمع العامّة، التي رتّبتها فيهم مقاصدهم في الحياة وركّزتها في نفوسهم عوامل اجتماعيّة، وعوامل مختلفة أُخر طبيعيّة أو اتفاقيّة.

وليست الآداب هي الأخلاق؛ فالأخلاق هي الملكات الراسخة الروحيّة التي تتلبّس بها النفوس، وأمّا الآداب، فهي هيئاتٌ حسنةٌ مختلفةٌ تتلبّس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان[1]، ولمّا كان الأدب

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان ج6، ص256.

 

 

37

 


29

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

يتبع في خصوصيّة الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهيّ الذي أدّب الله سبحانه به أنبياءه ورسله(عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينيّة التي تُحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبوديّة على اختلاف الأديان الحقّة بحسب كثرة موادّها وقلّتها، وبحسب مراتبها في الكمال والرقيّ[1]. ولمّا كان الأدب هو الهيئات الحسنة التي تتلبّس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان، فلا بدّ من أن يعلم الداعي من يدعو، وكيف يدعو؟ ولماذا يدعو؟

ب. أدب الدعاء: كما إنّ للعبودية والعبادة مظهراً يتمثّل بالدعاء، كذلك لغير الدعاء من سائر العبادات، كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغيرها. وكما لهذه العبادات أدبيّاتٌ تتجلّى من خلالها، فكذلك للدعاء أدبيّاتٌ خاصّةٌ يتجلّى ويتحقّق من خلالها، سواءٌ كان الدعاء بداعي الامتثال لأمره تعالى ﴿ٱدۡعُونِيٓ﴾ أو كان بداعي الرغبة والشوق والعشق. ولمّا كان الدعاء معراج المؤمن، والحبل الممتدّ بين الأرض والسماء، وصلة الوصل بين العبد وربّه، يتعرّض لجميع شؤون العبد الحياتيّة، فقد أوسعه المعصومون (عليهم السلام) أدباً ينظّم للداعي خطواته وتوجّهه نحو ربّه.

 

 


[1] المصدر نفسه، ص257.

 

 

38


30

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الأدب، محبوبٌ مرغوبٌ لذاته، ولأهمّيّته في الصلة والارتباط مع الله ومع الناس، ولعلاقة الأدب باللّغة ارتأيت أن أعرّج على معنى الأدب. وبما أنّ الدعاء يعكس فقر الإنسان وفاقته في أصله وجوهره، ويوثّق ارتباطه بسيّده ومولاه، ويوجّهه إليه طالباً منه الصفح والمغفرة، فكان لا بدّ للعبد من الإنابة والتجلّل برداء العبوديّة، والتوجّه إلى ساحة قدسه تعالى بقلبٍ خاشعٍ وجوارح خاضعة، شاعراً بفقره ومعتقداً غنى مولاه، متلمّساً منه الفيض والرحمة الموعودة، وذلك بالآداب الإسلاميّة التي رسمها له المعصوم (عليه السلام) وسوّرها بسور الولاية الإلهيّة. ومن تلك الآداب ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلّا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاءٌ إلّا من عند الله، فإذا علم الله ذلك من قلبه، لم يسأله شيئاً إلّا أعطاه»[1].

والمتأمّل في دعاء كميل، يجد أنّ كلّ فقرةٍ من فقراته تحكي عبوديّة الإنسان المتأدّب بالآداب الإلهيّة. ولكي نعلم أهمّيّة دعاء كميل، فنتأدّب بآدابه، لا بدّ من أن نعرف الداعي، وهل هو من المنارات التي يُطمئنّ إليها ويُستنار بنوره؟

 


[1] أحمد بن فهد الحلّيّ، عدّة الداعي، ص166.

 

39


31

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

ج. ملامح من شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام): قبل الغوص في أدب الإمام (عليه السلام) واستخراج لآلئه، أودّ أن ألتفت لفتةً خجولة، قاصرةً نحو الإمام الشامخ، لعلّ لفتتي هذه تُزيل غشاوة بصري، فيلامس رذاذ فيض الإمام(عليه السلام) بصيرتي فيزيدها هدىً من فيض ﴿وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ﴾[1] وخير التفاتة، تلك المقتبسة من كلام الخالق تبارك وتعالى ومن حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكلام أحد الأدباء:

ففي قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾[2]: «الآية الكريمة واضحة الدلالة في أنّنا أمام علياء الشخصيّة الفريدة للإمام (عليه السلام)، فهي تتفجّر روعةً وعظمةً وجلالاً وإعجازاً ليس له نظير، حيث نرى فيه السمات الرائعة والخصال السامقة، فحياته مليئةٌ بالمآثر والأمجاد، وهو صاحب الدور الإيجابيّ الكبير والفاعل في دفع حركة الإسلام التاريخيّ نحو العزّة والمجد»[3]. وفيه (عليه السلام) قال جورج جرداق: «عليٌّ عظيمٌ من عظماء البشريّة، أنبتته أرضٌ عربيّة ولكنّها ما استأثرت به، فجّر ينابيع مواهبه للإسلام ولكنّه

 


[1] سورة الرعد، الآية 7.

[2] سورة يونس، الآية 35.

[3] بقيّة الله، عدد 86، ص36.

 

40


32

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ما كان للإسلام وحده، كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيّته، وحرارة إيمانه وسموّ دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبّده للحقّ أينما تجلّى له الحقّ. وهذه البطولات ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعاً غنيّاً نعود إليه اليوم، وفي كلّ يوم، كلّما اشتدَّ بنا الوجد إلى بناء حياةٍ صالحة، فاضلة»[1]. هذا، ويكفيه عزّاً وفخراً وجلالاً أنّ ربّ العالمين قد نصّبه للناس إماماً وأمر باتباعه، فكانت ولايته (عليه السلام) اكتمالاً للدين وإتماماً للنعمة بقوله عزّ وجلّ: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي﴾[2].

أمّا في قول الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد ورد عنه قوله: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريّا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»[3]. وبهذا الحديث، نجد بأنّ فضائل الأنبياء (عليهم السلام) قد جُمعت في شخص الإمام (عليه السلام)، وفيه قال الشاعر: «جُمعت في صفاتك الأضداد فلهذا عزّت لك الأنداد».

وبهذا الغيض من الفيض، يتّضح لنا ليس فقط أنّ الإمام (عليه السلام) 

 


[1] جورج جرداق، من مقدمة ميخائيل نعيمة، علي وصوت العدالة.

[2] سورة المائدة، الآية 3.

[3] محمّد الريشهري، منتخب ميزان الحكمة، باب الإمام عليc، ص38، ح 439.

 

41


33

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

من المنارات التي يُهتدى بها، بل إنّه من أفضلها وأتقاها وأورعها وأشجعها، فهو جبلٌ أشمّ شامخٌ من القيم والمفاهيم الأخلاقيّة والعرفانيّة والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

ها هو ذا الجبل الأشمّ يقف بين يدَي بارئه وقوف عبدٍ مسكينٍ مستكينٍ ذليلٍ خاشعٍ خاضعٍ لعظمته، يدعوه دعاء الغريق المقبل على الهلاك، ويناجيه مناجاة العاشق الولهان. يمتطي الدعاء معراجاً إلى ساحة قدسه. يتقلّب بين أسماء العظمة والقدرة والسلطة والعلم، مسبِّحاً ومنزِّهاً مولاه، مستغيثاً بنوره وقدسيّته تعالى، مبتغياً رضاه والأنس بمحضره، متعبِّداً لربٍّ يعلم أنّه أهلٌ للعبادة، «وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»[1] ناسياً دنياه وما فيها، لا بل مطلِّقها بالثلاثة؛ لأنّها بنظره دار عبرة، واحتياجاتها أمورٌ شكليّةٌ تافهةٌ لا يقف عندها ولا يطلبها إلّا من كانت عبادته عبادة تاجر. إنّ مرتبة «وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» جدّاً شريفة؛ فهي عشق محادثة الباري والذوبان بمناجاته، وهذه لذّةٌ لا تُقاس بها أيّ لذّةٍ مادّيّة، عبَّر عنها الإمام (عليه السلام) بقوله: «فَهَبْنِي يا إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ؟».

 

 


[1] ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج‏1، ص404.

 

42


34

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ولا شكّ في أنّ مرتبة التجّار الدينيّة مرتبةٌ مهمّة، إلّا أنّها لا تعطي الإنسان امتيازاً إلهيّاً؛ فالامتياز لا يكون إلّا لمَن يدعو في الرخاء كما يدعو في الشدّة، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ(رضوان الله تعالى عليه): «ألا أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله عزّ وجلّ بهنّ؟ قال: بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدّة»[1].

د. الدعاء توكّلٌ لا تواكل: على الداعي أن يجعل من الدعاء أحد أدبيّات يوميّاته، فيكون للدعاء حيويّةٌ بحياة الإنسان، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) الكثير من الأدعية التي تُقرأ في كلّ وقت، كما وهناك أدعيةٌ اهتمّت بكلّ حركةٍ وكلّ عملٍ يقوم به الإنسان، وبما أنّ الله سبحانه قد وعد إجابة الدعاء، فلكي لا يلتزم الداعي بيته ويتّكل على الدعاء تاركاً طلب الرزق، والكدّ على العيال، والتوكّل على الله. وقد صوّب المعصومون (عليهم السلام) أنظار الناس إلى ضرورة اقتران الدعاء بالعمل، وإلى وأنّ الداعي بلا عملٍ كالرامي بلا وتر. وهذا ما بيَّنه رسول البشريّة (صلى الله عليه وآله) بقوله: «إنّ أصنافاً من أمّتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم. وعدّ من هؤلاء رجلاً يقعد في بيته،

 


[1] الطبرسي، مكارم الأخلاق، عن الفيض الكاشاني، سلسلة المحجّة البيضاء، كتاب اللسان، باب الدعاء، ص2.

 

 

43


35

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ويقول: ربِّ ارزقني. ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول الله عزّ وجلّ: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والتصرّف في الأرض بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتّباع أمري ولكي لا تكون كلّاً على أهلك»[1].

الله سبحانه وتعالى يُوفّق ويُسدّد مَن تسلَّح بالدعاء، وسعى في طلب رزقه ورزق عياله، كما يُوفّق ويسدّد أيضاً كلّ من يسعى لإحقاق الحقّ، وإقامة العدل في المجتمع. وأبرز مثالٍ على وجوب اقتران الدعاء بالعمل، فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد كُسرت رُباعيّته وشُجّ رأسه الشريف، ولم يجلس في البيت للدعاء تاركاً أمر التبليغ، وقد كان في مقدوره (صلى الله عليه وآله) قلبَ الموازين بدعاءٍ صغيرٍ لا يستغرق سوى دقائق قليلةٍ ولا يُكلّفه الكثير من العناء والتعب، ولكنّه حمل الأذى وكان دائماً يدعو ربّه بقوله: «اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»[2] فجمع بين العمل والدعاء، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وآله) للأعرابيّ: «اعقل وتوكّل»[3].

وعليه، فالدعاء سلاحٌ فعّالٌ في يد المؤمن الفاعل العامل في الأسرة والمجتمع والعالم، ولا يكون كذلك في يد المتخاذل المتّكل

 

 


[1] بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص18.

[2] ورام، مجموعة ورام، ج‏1، ص99.

[3] الاحسائي، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج‏1، ص75.

 

44


36

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

على غيره، الكلّ على أهله وعلى الناس. إنّ غاية الأدب مع الله سبحانه حال الدعاء من الأمور الأساس في حركة الإنسان وقبول الدعاء، فينبغي للداعي عدم استعجال الجواب والإلحاح، فمتى تُكثِر من قرع الباب يُفتح لك.

ه. أدب المؤمن مع ربّه: أمّا الجواب على سؤال: لماذا ندعو فلا يُستجاب لنا، والله تعالى قال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾[1]؛ فلأن للدعاء آداباً وشرائط على الداعي التقيّد بها عندما يتوجّه للدعاء، وأستشهد من تلك الآداب والشرائط بمثلَين فقط: الأوّل أخلاقيّ، والثاني عقائديّ.

الأوّل: على الداعي أن يتوجّه بكلّه إلى الله؛ أيّ أن يدعو ربّه بلسانه وقلبه، بجوارحه وبجوانحه، فليس من الأدب أن يخاطب أحدنا الآخر وهو غير متلفتٍ إليه أو فكره شاردٌ وقلبه منشغلٌ بسواه، فهذا يُعدّ من سوء الأدب على صعيد الإنسان، فكيف بمخاطبة ربّ الأرباب، ومالك الأنام؟ فلكي يكون هناك تأثيرٌ وتأثّر، يجب أن لا يقتصر الدعاء على الألفاظ، بحيث يصبح لقلقة لسانٍ، وإلّا حلّت بالداعي حالةٌ من الملل واليأس، فما يخرج من القلب يصل إلى الله مباشرة، وما هذا إلّا لأنّ القلب هو القاعدة لما يصدر عن الإنسان.

 


[1] سورة البقرة، الآية 186.

 

45


37

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

فالقلب هو منشأ التجلّيات الروحيّة والنفسيّة من رغبةٍ، وحبٍّ، وتمنٍّ، وانفعالٍ، وفيه تنبعث إشعاعات الحرارة والحركة في كيان الإنسان، وهو الذي يمرض فتسيطر عليه المَلَكات الخبيثة، وهو الذي يزكّى فتحل فيه المَلَكات الحسنة، فهو محطّ نظر الله، والله سبحانه لا ينظر إلى صور عباده، بل ينظر إلى قلوبهم. وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ الله لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوته فأقبل بقلبك، ثمّ استيقن الإجابة»[1].

الثاني: ويُظهره نفس حديث الإمام الصادق(عليه السلام) وقوله: ثمّ استيقن الإجابة، فهذا الحديث يظهر وجوب تيقّن الإجابة، فيقول: «إلهي أدعوك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني»[2] ويقول: «وليس من صفاتك يا سيّدي أن تأمر بالسؤال وتمنع العطيّة»[3].

فإذا لم يتيقَّن الداعي الإجابة، كان كمن يُشكّك في صدقيّة الله عزّ وجلّ وأنّ الله تعالى يُخلف وعده، وهذا الأمر هو سوء الظنّ بالله، بل إنّ سوء الظنّ بالشخص الآخر يُعتبر من سوء الخُلُق، فكيف بسوء الظنّ بالله سبحانه؟ فليس هو سوء خُلُقٍ

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص473، ح1.

[2] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج‏3، ص122.

[3] الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج‏2، ص583.

 

46


38

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وحسب، بل هو دليلٌ على تزلزل عقائد الإنسان وعدم ثباتها، فكيف أتعاطى مع الصادق وأشكّ بالإجابة !؟

فإذا حقّق الداعي شروط الدعاء، ولم يُستجب له! فقد يعود السبب إلى أمور عدّة أضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) عليها في وصيّته لابنه الحسن (عليه السلام) فقال: «وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لأجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الأمِلِ، وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجلاً أَوْ آجِلاً، أوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ...»[1]. يقول المعصوم (عليه السلام) في دعاء الافتتاح: «لعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور...»[2]. لذا، على الداعي أن لا يقنط من رحمة الله؛ لأنّ القنوط منهيٌّ عنه في القرآن الكريم: ﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ﴾[3]، هذا وقد يكون عدم الإجابة هو أنّ نفس الداعي لم تصل بعد إلى مرحلةٍ تؤهّلها للإجابة، بمعنى أنّ فطرة ذلك الداعي قد غطّتها الذنوب فحجبت عنها نور المبدع، ومنعت الدعاء من الصعود إليه.

 


[1] عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص34.

[2] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج‏3، ص89.

[3] سورة الزمر، الآية 53.

 

47


39

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

و. توسّل الإمام (عليه السلام) بأسماء الله الحسنى: وقد بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) في مطلع الدعاء كيفيّة طلب مغفرة الذنوب من الواحد الأحد، فأشار إلى مسألةٍ غايةٍ في الأهمّيّة، وهي كيفيّة تأدّب العبد مع ربّه بآداب العبوديّة، فقد افتتح الدعاء إلى الله بقوله (عليه السلام): «اللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ». فالإسلام يحثّ على بدء الأعمال كلّها بذكر اسم الله؛ للتبرّك والإعلان بأنّه صادرٌ عن الإيمان بالله. وإلى هذا الأدب أشار الإمام الصادق(عليه السلام) قائلاً: «إنّ في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ المسألة بعد المدحة، فإذا دعوت فمجّده، قيل: كيف نمجّده؟ قال: تقول: يا مَن هو أقرب إليّ من حبل الوريد، ويا مَن يحول بين المرء وقلبه، ويا مَن هو بالمنظر الأعلى، يا مَن ليس كمثله شيء»[1].

وقد يقول قائل: لماذا هذا التكلّف في المدح والله تعالى قال: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾، ولم يقيّد الإجابة بالمدحة وغيرها؟ إنّ ذكر اسم الله قبل البدء بأيّ عملٍ كان هو اعترافٌ مسبقٌ بعظمة الخالق وضعف المخلوق، واعترافٌ بقدره الله وسلطانه وجبروته ورحمته التي تصيب كلّ شيء. فاسم الله دواءٌ لكلّ داء، وذكره شفاء. يقول الإمام (عليه السلام) في خاتمة دعائه: «يا مَنْ إِسْمُهُ دَواءٌ،

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص484.

 

48


40

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وَذِكْرُهُ شِفاءٌ، وَطاعَتُهُ غِنىً»، وقد ورد في الآية الكريمة: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]، ولا يطمئن فؤاد الإمام (عليه السلام) إلّا بذكر ربّه ودعائه ومناجاته.

وهذا النوع من الأدب مع الله سبحانه ليس كلفة، وخصوصاً أنّ الداعي يقف بين يدي العزيز المقتدر، يخاطب من بيده مقاليد السماوات والأرض، والقادر على عقابه في الدنيا قبل الآخرة، ويطمح أن يحلم عنه، ويعفو عن تطاوله «يا مَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتِي، يا عَلِيماً بِضُرِّي وَمَسْكَنَتِي، يا خَبِيراً بَفَقْرِي وَفاقَتِي» بعد أن ينادي الإمام (عليه السلام) باسم الله، يُعقّب مقسماً عليه تعالى برحمته التي وسعت كلّ شيء؛ لكي يعطفه إلى نفسه من خلال الفضل والإحسان والمغفرة «إِرْحَمْ مَنْ رَأسُ مالِهِ الرَّجاءُ وَسِلاحُهُ البُكاءُ». وقد أخبر -جلّ اسمه- عن هذه الرحمة بقوله: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءۚ﴾[2].

ولا شكّ في أنّ الإنسان يحتاج إلى الرحمة الإلهيّة في كلّ ثانيةٍ من حياته؛ لذا عمَّت الرحمة الكافر والمؤمن حتّى أنّ عنق إبليس يشرئبّ لها يوم القيامة. ثمّ يتوسّل الإمام (عليه السلام) بقوّة الله

 


[1] سورة الرعد، الآية 28.

[2] سورة الأعراف، الآية 156.

 

49


41

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

التي قهرت كلّ شيء، وبوجهه الباقي بعد فناء كلّ شيء. وكأنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يدخل إلى هذه الصفات الإلهيّة من باب الرحمة الواسعة؛ كي لا تكون تلك القوّة والعزّة والسلطان تعبيراً عن الغضب والنقمة، بل لتكون اعترافاً من الإمام بخضوعه لله وإيمانه به، وفقره إليه، وأيضاً لتكون مدخلاً إلى رضى الله تعالى وتسامحه ورحمته، فهو سبحانه المالك لكلّ قدرة، والمصدر لكلّ عزّة، عظيمٌ في نفسه، وما من شيء إلّا مملوءٌ بعظمة الله، ومقهورٌ لقدرة الله وسلطته، فبيده تعالى أزمّة كلّ قادرٍ وكلّ سلطانٍ وكلّ عظيم، وكلّ قدرةٍ أو سلطةٍ أو عظمةٍ أو عزّةٍ لا تستمدّ شروطها وأسبابها وأهدافها ومواصفات القيّمين عليها من الله سبحانه هي سلطةٌ جاحدةٌ وكافرة، والخضوع لها جحودٌ لحقّ الله تعالى وكفرٌ به، وفي دعاء الإمام السجّاد (عليه السلام) ما يبرز هذه الأمور: «فكم قد رأيت يا إلهي من أُناسٍ طلبوا العزّ بغيرك فذُلُّوا وراموا الثروة من سواك فافتقروا»[1].

بعد أن سأل الإمام (عليه السلام) ربّه بأسمائه الكريمة وصفاته التي تجعل في القلب إشراقاً وتملؤه نوراً، أكمل توسّله واستغاثته ممجّداً ربّه، مُنزّهاً إيّاه عن كلّ عيبٍ ونقصٍ بقوله: «يَا نوُرُ يَا قُدُّوسُ»، والقدّوس هو المنزَّه عن العيوب والنقائص، وعن كلّ شريك؛ لأنّ

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، ص134.

 

50


42

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الشريك نقصٌ لشريكه و﴿ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾[1] فلا يكون نورٌ من دونه تعالى وبلا إفاضةٍ منه، فالكائنات كلّها رشحاتٌ من نوره، ونور الله سبحانه قائمٌ بنفسه، مظهرٌ لغيره. وقد خصّنا تعالى بنور الخلق، وبنور النبوّة، ونور الإمامة الذي هو قبسٌ من نوره تعالى ليكون نورهم فرقاناً نهتدي به إلى الحقّ ونبتعد به عن الباطل، ومنارةً نقتبس منها الأخلاق الفاضلة والعقائد الحقّة والتشريعات الصحيحة، وهذا مؤيّدٌ في الكتاب الكريم بقوله تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُور وَكِتَٰب مُّبِين﴾[2]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما خلق الله خلقاً أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي، ولمّا عُرج بي إلى السماء نوديت: يا محمّد، فقلت: لبّيك ربّ وسعديك، تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمّد، أنت عبدي وأنا ربّك، فإيّاي فاعبد، وعليّ فتوكّل، فإنّك نوري في عبادي ورسولي إلى خلقي وحجّتي على بريّتي، لك ولمن اتّبعك خلقت جنّتي، ولمن خالفك خلقت ناري»[3].

 


[1] سورة النور، الآية 35.

[2] سورة المائدة، الآية 15.

[3] حسن الشيرازي، كلمة الله، ص89.

 

51

 


43

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

من هنا نرى الإمام (عليه السلام) الذي هو تلميذ الرسول (صلى الله عليه وآله) وربيبه، ينشأ على هدى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فيعترف ويقرّ إقراراً صادقاً بربوبيّة الله، وبتبعيّته له، وفقره إليه؛ فالإنسان رأس ماله الرجاء وسلاحه البكاء والدعاء، وطاعة الله عنده غنى.

وبما إنّ أفضل الأدب وأشرف الأدب يجب أن يكون مع الخالق سبحانه فهو صاحب الفضل العظيم والمنّ الجسيم في خلق الأشياء وهدايتها لما فيه مصلحتها ولما فيه مفسدتها، فيعلم الداعي أنّ الله عزّ وجلّ واحدٌ أحدٌ لا شريك ولا عديل له، قادرٌ مقتدر، عليمٌ حليم، غفورٌ رحيم، فيتوجّه إليه متلبّساً بآداب العبوديّة، بجوارحه وجوانحه متضرّعاً، شاكياً خوفه ورجاءه إليه تعالى، طالباً منه حوائجه، قاصراً آماله وتطلّعاته عليه. فإذا لم يُستجب دعاؤه فلا بدّ من أن يكون المانع سببه كثرة الذنوب والمعاصي. ولذا، يتدرّج الإمام (عليه السلام) في دعائه إلى طلب الغفران من الله بأن يغفر له ذنوبه ومعاصيه، كأنّه إنسانٌ غير معصوم، وإن كان الإمام معصوماً أصلاً. والإنسان غير المعصوم تكثر ذنوبه ومعاصيه إلى حدّ هتك العصمة وإنزال النقمة والبلاء عليه، فماذا يقول الإمام (عليه السلام) في هذا المجال؟ وماذا يرجو انطلاقاً من دعاء كميل؟

 

 

52


44

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

المغفرة وآثارها

«اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الّذنُوبَ الّتي تُنْزِلُ البَلاَء، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ كُلَّ ذَنْبٍ أذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُها».

يبدأ الإمام (عليه السلام) دعاء كميل بذكر الله وصفاته وآلائه كمدخلٍ مدحيٍّ اعترافيٍّ بغنى الله وفقر العبد، لينتقل إلى طلب المغفرة بقوله (عليه السلام): «اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ» التي تكرّرت خمس مرّات؛ وذلك للتأكيد على حاجته إلى مغفرة الله له، وإلّا لكان ذكر «اغْفِرْ لِيَ» مرّةً واحدةً وعطف المطلوب على بعض. وقد أفرغ لكلّ نوعٍ من المرجوّات حيّزاً خاصّاً قائماً بذاته، لما لذلك من أثرٍ في نفسه وعمق اعترافٍ بمعاصيه تارة،ً وكثرة ذنوبه طوراً. وبالرغم من أنّ الإمام (عليه السلام) معصوم، إلّا أنّه يقرّ بالدونيّة أمام عظمة الخالق؛ فالكمال لله وحده، ولما له أيضاً من أثرٍ خاصّ في جلب رضى

 

 

54


45

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الخالق والوصول من وراء ذلك إلى الغاية المنشودة له من العفو والمغفرة عمّا صدر منه مطلقاً.

انطلاقاً من اعتراف الإمام (عليه السلام) بعظمة الخالق، والاعتراف بأنّه إنسانٌ ضعيفٌ أمام مغريات الحياة، وكأنّه (عليه السلام) غير معصوم، أو معرَّضٌ للوقوع في الخطأ وارتكاب المعاصي التي تُعرَف بالذنوب، يتوجّه (عليه السلام) إلى ربّه العظيم ليغفر له هذه الذنوب فماذا تعني المغفرة؟

ثالثاً: حقيقة المغفرة

أ. تعريف المغفرة: المغفرة من غفر، وغفر الشيء؛ أيّ ستره، والغفّار من أسماء الله تعالى. والمغفرة لا تختصّ بما بعد الموت أو بيوم القيامة، فلله أن يبسط مغفرته على كلّ من شاء حتّى على الظالم حين يكون ظالماً، فيغفر له مظلمته إن اقتضت الحكمة ذلك، وله أن يعاقب. قال تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[1]، فلو التجأ أيّ واحدٍ من الناس إلى رحمة الله، وسأله المغفرة، كان له أن يغفر، سواءٌ في ذلك الكافر والمؤمن، كما إنّه سبحانه يغفر المعاصي الكبيرة والصغيرة.. وظلم الناس لا يستوجب أن يغضب الله فيترك الاتّصاف بالمغفرة في أصلها فلا يغفر لأحد[2].


 


[1] سورة المائدة، الآية 118.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص303.

 

54


46

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الخالق والوصول من وراء ذلك إلى الغاية المنشودة له من العفو والمغفرة عمّا صدر منه مطلقاً.

انطلاقاً من اعتراف الإمام (عليه السلام) بعظمة الخالق، والاعتراف بأنّه إنسانٌ ضعيفٌ أمام مغريات الحياة، وكأنّه (عليه السلام) غير معصوم، أو معرَّضٌ للوقوع في الخطأ وارتكاب المعاصي التي تُعرَف بالذنوب، يتوجّه (عليه السلام) إلى ربّه العظيم ليغفر له هذه الذنوب فماذا تعني المغفرة؟

ثالثاً: حقيقة المغفرة

أ. تعريف المغفرة: المغفرة من غفر، وغفر الشيء؛ أيّ ستره، والغفّار من أسماء الله تعالى. والمغفرة لا تختصّ بما بعد الموت أو بيوم القيامة، فلله أن يبسط مغفرته على كلّ من شاء حتّى على الظالم حين يكون ظالماً، فيغفر له مظلمته إن اقتضت الحكمة ذلك، وله أن يعاقب. قال تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[1]، فلو التجأ أيّ واحدٍ من الناس إلى رحمة الله، وسأله المغفرة، كان له أن يغفر، سواءٌ في ذلك الكافر والمؤمن، كما إنّه سبحانه يغفر المعاصي الكبيرة والصغيرة.. وظلم الناس لا يستوجب أن يغضب الله فيترك الاتّصاف بالمغفرة في أصلها فلا يغفر لأحد[2].

 


[1] سورة المائدة، الآية 118.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص303.

 

55

 


47

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

والمغفرة لا تختصّ بالله تعالى، بل يصحّ إطلاقها على غيره بما لها من معنى، كما قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ﴾[1]، وقال: ﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾[2] وبهذه الآية أمر المولى نبيّه أن يعفو عنهم، فلا يرتّب الأثر على معصيتهم من مؤاخذةٍ أو عتابٍ وإعراضٍ ونحوه، وعليه «فالمغفرة هي من قبيل إزالة المانع ورفع المنافي والمضادّ، هذا وقد عدّ الله سبحانه الإيمان والدار الآخرة حياة، وآثار الإيمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم نوراً، وعدّ الشرك موتاً، والمعاصي ظلمات، وجعل المغفرة إزالةً للموت والظلمة. فالمغفرة حكمٌ فطريٌّ مبنيٌّ على أنّ العقاب حقّ للمعصيّ على العاصي، وليس من الواجب إعمال حقّ العقاب دائماً، كذلك لا يجوز تركه دائماً»[3].

لذا، كانت المغفرة كوكباً درّيّاً يشرق بالتوبة في ظلمة القلب، فيبعث في حناياه نور الحياة من جديد، فهي نور الأمل الذي يحوِّل فكر الإنسان عن القنوط والإياس، كما ويحوِّل القلب الآثم المظلم إلى قلبٍ يسكنه الأمل بغدٍ مشرق، ممّا يزوّد الإنسان بقدراتٍ دفاعيّةٍ جديدةٍ في مقابل النفس الأمّارة والشيطان.

 


[1] سورة الجاثية، الآية 14.

[2] سورة آل عمران، الآية 159.

[3] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج6، ص363.

 

56


48

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لذا، نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأل ربّه المغفرة بلسانٍ صادقٍ يقول: «اللّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً، وَلا لِقَبائِحِي ساتِراً، وَلا لِشَيءٍ مِنْ عَمَلِيَ القَبِيحِ بِالحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَكَ». هو ربيب الرسالة، سيف الله المختار، إمام الثقلين يطلب المغفرة تلو المغفرة، ويستشفع إلى الله بالله لغفرانها، ويطلب منه اللجوء إليه؛ لعلمه بأنّ الذنوب تثقل حركة الإنسان، وتمنعه من الانعتاق من أغلال النفس الأمّارة، وتوقعه في فخّ الشيطان المتربّص بالمؤمن، الذي لا ينفكّ يزيّن له المعصية حتّى يوقعه فيها، فإذا فعل، بذل قصارى جهده لإيقاعه في سلسلة التسويف والآمال ومكر الدنيا وخداعها؛ حتّى ينسيه التوبة والاستغفار، ولا يزال كذلك حتّى يوقعه في ظلمات اليأس من رحمة الله تبارك وتعالى. فالإمام (عليه السلام) يخاف من ذنوبه التي لو كانت للأبرار لكانت حسنات، وخوفه هذا يدفعه إلى أعلى مرتبةٍ ممكنةٍ من نكران الذات، وهو يريد أن يقول، إنّ الخوف من الله سبحانه يجب أن يكون كبيراً وكبيراً جدّاً، بحيث يستشعر الإنسان معه أنّ كلّ مخالفةٍ يؤدّيها لا ينفع في صلاحها وغفرانها سوى الله؛ لأنّه تعالى هو القاضي، وهو المدّعي في آنٍ واحد، وكأنّ الإمام (عليه السلام) ينظر إلى الله بوصفه القاضي تارةً، فيتوسّل إليه راجياً أن يُخفّف عنه الحكم، و بوصفه الخصم طوراً، فيتوسّل إليه أن يسحب دعواه ويبطلها، بحيث لا

 

 

57


49

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

يبقى عليه شيءٌ يُحاسَب عليه، فيستريح ويطمئن قلبه[1]. فما هي تلك الذنوب التي تخيف الإمام (عليه السلام) إلى هذا الحدّ؟

تلعب الذنوب والمعاصي دوراً كبيراً في دمار المجتمعات البشريّة؛ لأنّ الذنوب تعاملٌ خاطئٌ مع الأشياء والأشخاص والقضايا فيما حول الإنسان، وكلّ تعاملٍ خاطئٍ لا بدّ من أن يؤدّي إلى نتائج خاطئةٍ توصل إلى إفساد المجتمع، واضطراب أحواله، وبالتالي تستنزل غضب الربّ وانتقامه الرهيب، فما هي حقيقة الذنوب؟

ب. حقيقة الذنب: الذنب في اللغة -على ما يستفاد من موارد استعمالاته- هو العمل الذي له تبعةٌ سيّئةٌ كيفما كان. وإنّ من الذنوب والمعاصي ما هو من أسباب هلاك الأُمم وسقوط حضارتها؛ كظهور الفساد الاقتصاديّ، أمثال النقص والتطفيف في المكيال والميزان، أيضاً بطران النعمة؛ أيّ الطغيان عند النعمة وعدم القيام بالشكر عليها، وكذلك الاختلاف والتفرقة ممّا يوجب هلاك الأُمم.

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تختلفوا، فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»[2]. وقد علّق أحد العلماء على هذا القول، قائلاً:

 


[1] محمّد حسين فضل الله، في رحاب دعاء كميل، ص94 - 95.

[2] الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج1، ص764.

 

58


50

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

إنّ العذاب في التفرقة يشمل خسران الدنيا والآخرة، أمّا عذاب الدنيا فإنّ المتفرّقين المختلفين الذين اتّبعوا أهواءهم يكون بَأسهم بينهم شديداً، فيشقى بعضهم ببعض، ثمّ يُبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء، فتذيقهم الخزي والنكال وتسلبهم عزّة الاستقلال. أمّا عذاب الآخرة، فقد بيَّن الله في كتابه أنّه أشدّ من عذاب الدنيا وأبقى[1]، وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾[2] إنّ للذنوب تأثيراً في القلب بالقسوة والظلمة. وبالظلم والقسوة يستعدّ القلب للاحتجاب والبعد عن الله تعالى. إنّ من الذنوب والمعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة، ومنها ما يحبط بعض الحسنات، ومنها ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره، ومنها ما ينقل سيّئات الغير إلى فاعلها، ومنها ما يوجب تضاعف العذاب. كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾[3]، وقوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ﴾[4] هذا والعقل لا يأبى مثلاً التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتّب على عمله من مضارّ ومفاسد اجتماعيّة، كأن يؤاخذ من سنَّ سُنّةً سيّئةً بجميع المخالفات الجارية

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج2، ص183.

[2] سورة المائدة، الآية 92.

[3] سورة البقرة، الآية 57.

[4] سورة فاطر، الآية 43.

 

59


51

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

على وفق سُنّته، ذلك كلّه باقتضاءٍ من المصالح الموجودة، قال تعالى: ﴿وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡس مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ﴾[1]، فهذه الآية تشعر بأنّ توفية كلّ نفسٍ ما عملت، إنّما على حسب ما يعلمه الله، ويحاسبه من أفعالهم، لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم ولا عقل[2].

ثمّ إنّ الذنوب تنقسم إلى ذنوبٍ كبيرةٍ وذنوبٍ صغيرة، والكبائر معنًى إضافيّ، لا يتحقّق إلّا بالقياس إلى الصغائر، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ﴾[3]. إنّ السيّئات في الآية هي الصغائر؛ لما فيها من دلالة المقابلة، وكبر المعصية يتحقّق بدرجة النهي عنها إذا قيست إلى النهي المتعلّق بغيرها. وارتكاب الذنب مهما صغر يعدّ مصداقاً من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه. وقيل: إنّ الكبيرة هي كلّ ما توعّد الله عليه في الآخرة عقاباً ووضع له في الدنيا حدّاً. وإنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة؛ لقول النبي ّ(صلى الله عليه وآله): «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار».

 

 


[1] سورة الزمر، الآيتان 69 - 70.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج2، ص178.

[3] سورة النساء، الآية 31.

 

 

60

 


52

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

والإصرار على الذنب يُخرج المؤمن عن شأنه الذي له إلى شأنٍ آخر، وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر له؛ لأنّ الذنب إنّما يُغفر إمّا بتوبةٍ أو بشفاعةٍ متوقّفةٍ على دينٍ مرضيّ، ولا توبة مع إصرار ولا دين مرضيّ[1].

وعليه، فالذنب هو كلّ تخلّفٍ عن العمل بالأحكام العمليّة والسنن المحترمة، التي حُفظ الإنسان والمجتمع الإنسانيّ بالعمل بها تهديه إلى سعادته.

ثم إنّ للذنوب مراتب مختلفة، وليس من اللازم أن يكون كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ متعلّقاً بأمرٍ أو نهي؛ فالمعصوم (عليه السلام) معصومٌ عن الخطأ والذنب والمعصية، ومع هذا نجد الإمام (عليه السلام) يستغفر لذنبه، وتفسيره على ما حكاه الشيخ البهائيّ (رحمه الله): إنّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) تكون أوقاتهم مستغرقةً بذكر الله، وقلوبهم مشغولةٌ به، وخواطرهم متعلّقةٌ بالملأ الأعلى، وهم أبداً في المراقبة، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) «اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تره فإنّه يراك»[2]، فهم أبداً متوجّهون إليه، مقبلون بكلّيّتهم عليه، فمتى يتخطّى تلك المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرّغ إلى النكاح، وغيره من

 


[1] انظر: العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج4، ص336 - 338.

[2] الشيخ الاحسائي، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج‏1، ص405.

 

61


53

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

المباحات عدّوه ذنباً، واعتقدوه خطيئةً فاستغفروا منه. ألا ترى أنّ بعض أبناء الدنيا لو قعد يأكل ويشرب وينكح، وهو يعلم أنّه بمرأى من سيّده ومسمع لكان ملوماً عند الناس، ومقصّراً فيما يجب عليه من خدمة سيّده ومالكه، فما ظنّك بسيّد السادات ومالك الأملاك، وإلى هذا أشار الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: «إنّه ليران على قلبي وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة»[1]، وقوله (صلى الله عليه وآله): «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»[2].

والإمام(عليه السلام) الذي هو ربيب القرآن وتلميذه، وحافظٌ لآلائه كلّها، لا بدّ من أن ينطق بلسانه ما يفسّر معناه؛ لذلك قال: «اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ». والإمام (عليه السلام) أراد أن يتواضع أمام جبروت الخالق، فهو يقرّ بأنّ لا كمال إلّا الله، ومهما كان له من عصمة، إلّا أنّه يبقى دون الألوهيّة، وإن كان فوق البشر من حيث العصمة، وتلك هي قمّة الأخلاق والأدب الدينيّ الأسمى الذي يعلو بالإنسان ويسمو بأخلاقيّاته فيكون قدوةً حسنة، ومثالاً أعلى لأهله وصحبه وإخوانه ومريديه.

بعد بيان الإمام (عليه السلام) لحقيقة الإله وعظمته، ينتقل إلى تعليمنا كيفيّة الإقرار بالمعاصي وتعداد الذنوب الكثيرة، وما يترتّب

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج‏2، ص254.

[2] نفس المصدر.

 

62

 


54

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عليها من ويلات. وقد ورد في الأخبار أنّ كلّ نوعٍ من الذنوب يجلب نوعاً من المصائب، فبعضها تهتك العصم، وبعضها يُنزل النقم، وأخرى تحبس الدعاء، وغيرها يقطع الرجاء، وتُنزل البلاء. فما هي مقتضيات تلك الذنوب؟

ج. مقتضيات الذنوب: عند استيقاظ الإنسان من غفلته والتفاته إلى عظم ما كسبت يداه، فإنّ أفضل ما يمكن أن يُقدِم عليه هو الندم والإنابة والاستغفار، فالإنسان بالندم والاستغفار يحصل على خير الدنيا، وغفران الذنوب، وزيادة الحسنات. ولو نظرنا إلى هذه الذنوب، لوجدنا أنّها جميعها نتيجة معصية أمر، والإتيان بمنكر.

فالذنوب التي تهتك العصم: هي تلك التي تكون سبباً في زوال مناعة العبد من الوقوع في الموبقات والرذائل، فقد جعل المولى العقل رادعاً من الوقوع في الموبقات، فعند مخالفة طريق الهداية تنعدم تلك المناعة. وفي الخبر الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الذنوب التي تهتك العصم، هي: الخمر، والميسر، وفعل ما يضحك الناس من المزاح واللهو، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب»[1].

 

 


[1] أنظر: عزّ الدين، بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص123.

 

63


55

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أمّا الذنوب التي تُنزل النقم: فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما نقض قومٌ العهد إلّا سلّط عليهم عدوّهم، وما ظهرت الفاحشة إلّا وقد فشا فيهم الموت، وما شاع فيهم الكذب والحكم بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر، وما منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر، وما طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين»[1].

أمّا الذنوب التي تُغيّر النعم: فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «هي أمثال: ترك شكر المنعم، وقطع الرحم، وتأخير الصلاة عن وقتها، وترك إغاثة الملهوف والمظلوم». وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «إنّ اليمين الكاذبة وقطع صلة الرحم تذران الديار براقع من أهلها»[2].

أمّا الذنوب التي تُنزل البلاء: فكما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «هي ترك إغاثة الملهوفين، وترك معونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[3].

وأمّا الذنوب التي تحبس الدعاء: فهي بمعنى أنّ الله سبحانه مطّلعٌ على الخفايا والسرائر، فمن كان خبيث السريرة وسيّئ النيّة، فإنّ مخالفته هذه تشكّل حجاباً على القلب يمنع من وصول النور

 

 


[1] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج19، ص253.

[2] الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ص258، عن بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص126.

[3] أسرار العارفين، ص42، عن عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص132.

 

64


56

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الإلهيّ إليه، وبمقتضى ترتيب الأثر على سوء النيّة أعرض المولى سبحانه عن سماع كلّ دعوةٍ له.

وأيضاً من المضامين الأخلاقيّة لدعاء كميل، طلب الإمام غفران الذنوب التي تقطع الرجاء، وهي: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والثقة بغير الله، والتكذيب بوعيد الله؛ فهذه الذنوب تقطع العلاقة بين الله وعبيده. ولم يقتصر الإمام على هذه الذنوب العظام، بل تجاوزها في سؤال المغفرة ليشمل كلّ ذنبٍ أذنبه وكلّ خطيئةٍ أخطأها[1]. وفي ذلك استشعارٌ عميقٌ لرحمة الله تعالى وجوده وإحسانه. إنّ العبد إذا أذنب ذنباً فيعلم بأنّ ربّه هو مصدر الكرم والغفران، يغفر الذنوب جميعاً ويعفو عن السيّئات برحمته، ثمّ يبدّلها حسناتٍ بكرمه، فيتوقّد لديه أملٌ كبيرٌ برحمة الله وعطفه، فيدفعه عامل الرجاء إلى الاستزادة من هذا الفيض، فيطمع ويطمح أن يتوب عليه، وأن يغفر له جميع ذنوبه وأخطائه، ولا يقتصر على بعضها دون البعض الآخر، كيف لا؟ وهو الرحمن الرحيم، أرحم الراحمين. والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أكّد على هذه الرحمة وسبقها بقوله: «الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها»[2].

 

 


[1] والخطيئة هي الذنب عن غير عمد، ويمكن أن تكون مطلق الذنب، وهي أعم من الإثم؛ لأنّ الإثم لا يكون إلّا عن عمد، عن أضواء على دعاء كميل، ص136.

[2]  الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج1، ص 251؛ عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص135.

 

64


57

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لذا، عندما يقف الداعي بين يدي ربّه، عليه أن يستحضر خطيئاته وذنوبه كلّها، ذنباً تلو الآخر وخطيئةً بعد الأخرى، ويرجو الله أن يغفرها له ويعاهده على عدم تكرار ذلك الذنب، ففي الحديث: «إنّ العبد إن أذنب فاستغفرّ، يقول الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أنّ له ربّاً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب، اشهدوا أنّي قد غفرت له»[1]. إنّ المتأمّل في هذه الذنوب، وبُعدها عن معالي الأخلاق السامية، يرى مفاسدها التي تضعضع المجتمع وتُصرفه عن التعلّق بالله وحجبه عن رحمته تعالى ولطفه وكرمه، فهي كالسوس ينخر كيانه فلا خير يُرتجى من أبنائه، كيف لا؟ وهم ينقضون العهود ويقطعون الأرحام، ولا يلتزمون بأمورهم الدينيّة والتجاريّة والاجتماعيّة، وبغياب الضابط العقليّ والشرعيّ والدينيّ يتفلّت مجتمعهم من القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ما يجعله يسبح في الفوضى ويعوم في الفساد. وهذه الخصال الرديئة وانتشارها توجب تعجيل العقوبة، ولتخفيفها أو لرفعها يتوسّل الداعي مستغيثاً إلى الله بأوليائه الصالحين.

ويقول الإمام (عليه السلام): «وَاسْتَشفِعُ بِكَ إِلى نَفْسِكَ»، فما هي الشفاعة؟ وكيف يراها الإمام (عليه السلام)؟

 


[1] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، ج12، ص183.

 

66


58

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الشفاعة والذكر والشكر

«اللّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِذِكْرِكَ، وَأسْتَشفِعُ بِكَ إِلى نَفْسِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِجوُدِكَ أَنْ تُدْنِيَنِي مِنْ قُرْبِكَ، وَأَنْ تُوزِعَنِي شُكْرَكَ، وأَنْ تُلْهِمَنِي ذِكْرَكَ».

إنّ الإنسان ليتسافل لسوء سريرته وفساد أعماله وعقوقه وشروره إلى مرتبةٍ يختم الله معها على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوةً فلا يبصر الحقّ؛ وذلك لأنّه أصبح جرثومة فسادٍ لا يطهّره إلّا نار جهنّم ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡراۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدا﴾[1]. ولكنّ الله لم يقفل باب رحمته نهائيّاً أمام عباده المذنبون، فكفل لهم المغفرة بوساطة أحد أنبيائه أو أوليائه. فما هي الشفاعة؟ ولمن تكون وكيف تكون؟

 


[1] سورة الكهف، الآية 57.

 

 

68


59

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

رابعاً: حقيقة الشفاعة

أ. تعريف الشفاعة: الشفاعة مصدر شفع. وشفع لي شفاعة: طلب لي، وسأل. والشفيع: من يطلب الشفاعة، والتي هي طلب العفو من الله عزّ وجلّ عن المذنب. وحيث ينضمّ الشفيع إلى المذنب في الرجاء، فمعناه: تقوية جانب من طُلبت الشفاعة له، وبذلك يحصل على ما لم يحصل عليه لو كان وحده[1]. بعد استعراض أمير المؤمنين (عليه السلام) للذنوب، يتوجّه إلى الأخلاق الربّانيّة متوسّلاً بها للخلاص من المعاصي، وللانتقال إلى حال العابد المطيع لربّه طالباً اللجوء إليه، يقول (عليه السلام): «وَاسْتَشفِعُ بِكَ إِلى نَفْسِكَ» جاعلاً الله تعالى شفيعه عند الله نفسه؛ أيّ إنّي أجعلك يا ربّ شفيعاً لشفاعة نفسي الخاطئة الجانية إلى ذاتك المقدّسة، في العاجلة والآجلة يوم لا يشفع الشافعون إلّا بإذنك وهو يوم ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾[2]. وفي هذا المعنى قال بعض الحكماء: «من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه»[3].

 


[1] لسان العرب، مادة شفع، عن أضواء على دعاء كميل، ص323.

[2] سورة الأنبياء، الآية 28.

[3] الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج1، ص250.

 

69


60

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ويؤكّد الإمام (عليه السلام) هذا المعنى، فلم يتّخذ شفيعاً آخر؛ لأنّه (عليه السلام) لا يرى لأحدٍ قوّةً أو عظمةً أو قدرةً يستشفع بها أمام قوّة الله وعظمته، وهو (عليه السلام) القائل في نهج البلاغة: «فاجعلوا طاعة الله... شفيعاً لدرك طلبتكم»[1]. يريد الإمام (عليه السلام) القول، بأنّ طاعة الله والانقياد الكامل له هو الشفيع لما يريده العبد من مولاه من طلباتٍ دنيويّةٍ وأخرويّة. ولا يرى الإمام (عليه السلام) غير الله تعالى شفيعاً له؛ لعظم الذنوب التي ذكرها، فكلّ ذنبٍ على حدةٍ يكفي للخلود في النار. وهذا الأمر لا يعني نفي الشفاعة مطلقاً، فقد وردت الآيات الكثيرة التي تثبت الشفاعة وتنسبها تارةً إلى الأنبياء والأولياء وطوراً للملائكة والمؤمنين، فهم يشفعون للمذنبين، ولكن بإذن الله تعالى ورضاه وهذا ما بيَّنه قوله تعالى: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ﴾[2]، وقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: «يشفع النبيّون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار: بقيت شفاعتي»[3].

 

 


[1] نهج البلاغة، ص313، عن أضواء على دعاء كميل، ص330.

[2]  سورة البقرة، الآية 255.

[3]  صحيح البخاري، ج8، ص182، عن عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص33.

 

70


61

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وعليه، فالشفاعة كالمغفرة، تقع لأصحاب الكبائر إذا ماتوا بلا توبةٍ باتّفاق العلماء، وبما أنّ الله سبحانه يعلم السرّ وما أخفى، مطّلعٌ على أسرار عباده وعلانيّتهم، يعلم ذنوبهم وطاعتهم، وبما أنّ الداعي يجد أنّ ذنوبه قد أحاطت به، ولا يجد قدرةً تخلّصه ممّا هو فيه إلّا الله نفسه، بحلمه وجوده وكرمه، كان لا بدّ من اللجوء إلى ذات الله المقدّسة والتوسّل إليه بتلك الصفات؛ علّه يرحمه ويغفر له. والتشفّع لله بالله قمّة من قمم العبوديّة لله والإقرار برحمته ولطفه وعدله ورأفته، فهو الرحيم الرحوم اللطيف العادل الرؤوف، ولا تنافٍ بين التشفّع إليه تعالى عند نفسه وبين قول الإمام (عليه السلام): «ولا يخفّف عن أهله»؛ لأنّ المراد من قوله أنّ هؤلاء المُخلّدين في النار هم ممّن لم يرتضي الله بالتشفّع في حقهّم لشدّة ذنوبهم وعظم جرمهم. وبعد التشفّع إليه، يرتقي الإمام (عليه السلام) ليطلب القرب منه تعالى بقوله: «وأَنْ تُلْهِمَنِي ذِكْرَكَ»، المقصود هو القرب المعنويّ لا المكانيّ؛ لاستحالة ذلك، وإلّا استلزم منه تحديده تعالى بالمكان، وبالطبع إنّ ذاته المقدّسة لا تتّصف بالقرب والبعد الماديّين، فله تعالى إحاطةٌ قيّوميّةٌ وسعةٌ وجوديّةٌ تعُمُّ جميع دائرة الوجود وسلسلة الموجودات كافّة. وذكر الله يُعدّ من العوامل المهمّة في تهذيب النفوس وتشذيب الأخلاق وبناء الروح، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من عمّر قلبه بدوام

 

 

71


62

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الذكر حسنت أفعاله في السرّ والجهر»[1]، فما هو الذكر الذي يعمر القلب ويُحسّن الفعال؟

حقيقة الذكر

ب. الذكر وآثاره: يقول الراغب في المفردات: «إنّ للذكر معنيّين: الأوّل، ثمرة حضور الشيء في الذهن، والثاني، بمعنى حفظ المعارف والاعتقادات الحقّة في الباطن والروح. واصطلاحاً، هو الاتّصال بالله عن طريق استحضار أسمائه وصفاته المقدّسة في قلب الداعي وعلى لسانه»[2]. وعليه، فالمراد بقرب الله تعالى من العبد هو قرب نعمه وألطافه ومنِّه وإحسانه وفيض مواهبه على الإنسان.

إنّ التربية الإسلاميّة حبّبت للمسلم حين يمارس شهواته وأعماله ذكر الله؛ لكي يشعر بأنّ الله عالمٌ محيطٌ به وبجميع مخلوقاته، وأنّه هو الحيّ القيّوم به تقوم الأشياء، وهو معها وقبلها وبعدها، وحيثما أرسل الإنسان نظره يرى أثراً من آثاره ونعمةً من نعمائه وعظمةً من عظمته، فيعلم بأنّ الله محيطٌ به، ملمٌّ بأحواله، مطّلعٌ على أموره، فيتولّد في نفسه هيبة الله وعظمة الله وحبّ

 

 


[1] الشيرازي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج1، ص306.

[2] بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص137.

 

 

72


63

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الله، وهذا الشعور يدفعه إلى أن يذكر الله أكثر، وكلّما ذكره أكثر كلّما شعر بحاجته إليه أكثر، وكلما استحضر وجوده في كيانه ووجدانه أكثر. وهذا الشعور والاستحضار الدائم لوجود الله هو السلاح والنور المخترق لظلمات النفس والعبور بها إلى جادّة السلام والكمال الإلهيّ، فهو الطمأنينة التي خلقها الله وغرسها في قلب الإنسان لتتولّى إنقاذه في حالات الزلل والتوتّر وتوجّهه إلى الفضائل الأخلاقيّة. وعليه، فالذكر من أفضل العبادات، وأكبر الحسنات في عمليّة التصدّي للتحدّيات النفسيّة الصعبة، والحماية من الوساوس الشيطانيّة.

فمن المعروف، أنّ قلب الإنسان لا يخرج عن أحد أمرين: إمّا أن يكون مركزاً لذكر الله يُغذّى بنوره ويطرد منه الظلمات والشيطان، فيكون مصداق قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]، وإمّا أن يكون مرتعاً للشيطان ووساوسه يوجّهه حيث يشاء. وكلّما انغمس في الشهوات كلّما ازداد من الشيطان قرباً وعن الله بُعداً، وكلّما بَعُد عن الله كلّما كان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[2]. وبهذا يظهر بأنّ ذكر الله سبحانه هو الأساس والميزان في القرب والبُعد منه تعالى.

 

 


[1] سورة الرعد، الآية 28.

[2] سورة الفرقان، الآية 44.

 

 

73


64

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ونستنتج من ذلك كلّه، أنّ الذكر الحقيقيّ، هو الذكر الذي يترك أثره الإيجابيّ في أعماق روح الإنسان، ويُفعِّل اتّجاهاته الفكريّة والعمليّة في خطّ التقوى والالتزام الدينيّ، فهو المطر الذي ينزل على أرض القلب، فتنبت براعم الفضائل وتزهر ملكات الأخلاق الربّانيّة. وفيه قال أعاظم علماء الأخلاق: «ليس هو لقلقة لسان أو مجرّد الحمد والتسبيح والتهليل والتكبير في دائرة الألفاظ والكلمات، بل هو التوجّه الحقيقيّ لله تعالى والإذعان لقدرته والإحساس بوجوده تعالى حيثما كان الإنسان». وفي هذا الصدد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يُحرم عليه، خاف الله عزّ وجلّ عنده وتركه»[1]. وعليه، فالذكر هو الإحساس الوجدانيّ بحضور الله تعالى في أجواء القلب، ثمّ جريان ذكر الله على اللسان، وعندما ينبع الذكر من القلب يجري على اللسان ينبئ عن حالةٍ إيمانيّةٍ باطنيّةٍ داخل الإنسان.

قيل: ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب يسقط في القلب، فما هي فوائد الذكر؟ ومتى يكون مفيداً؟

 

 


[1]  ناصر الشيرازي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج1، ص 308.

 

 

74


65

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ج. فوائد ذكر الله: لذكر الله فوائد على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمّة، أوّلها العلاقة المتبادلة ما بين فعل الإنسان وإقبال الله تبارك وتعالى عليه. والله تعالى وضّح كيفيّة هذه العلاقة، فقال ﴿فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ﴾[1]، وبيانه: أنّ العبادة قد جُعلت من أجل ذكر الله، وذكر الله يمثّل عامل الطمأنينة ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾. لذا، كلّما ذُكر الله كلّما اطمأنت نفسه، وكلّما اطمأنّت نفسه كلّما عاش حالة القرب من الله تعالى والرضى بما قسّم له أكثر. فإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة الروحيّة، فإنّه لن يميل إلى الذنوب أبداً، بل لن يفكّر بها؛ لأنّه يعلم أنّها الحاجز له عن رؤية الله جلّ جلاله. وبهذا يكون الذكر قد حقّق فائدةً إيجابيّةً إضافيّة، هي تهذيب النفس من الرذائل. من هنا، كان الذكر علاقةً متبادلة، ولكي يكون الإنسان محطّ نظر الله فيستحقّ عنايته، عليه أن يعيش في جميع الأحوال حالة ذكر لله عزّ وجلّ، وهذا الأمر يقتضي الالتزام بأوامره تعالى والانتهاء عن نواهيه، فحضور القلب دائماً أو أكثر الأوقات أمرٌ مقدَّمٌ على العبادات، بل به تُشرّف سائر العبادات وغاية ثمرتها.

 


[1] سورة البقرة، الآية 152.

 

75


66

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وفي الحديث أنّ نبيّ الله موسى (عليه السلام) سأل ربّه، فقال: «ربّي علّمني وأدّبني كيف أناديك، في السرّ أم أرفع صوتي؟» فقال تعالى: «أنا جليس من ذكرني»[1].

وهذا الحديث يشير إلى عظمة الذكر وأهميّته في حركة الحياة الإنسانيّة، فعدا عن أنّه يخرق حجب الأنانيّة، فهو يمنح الإنسان وعياً في أجواء السلوك إلى الله تعالى ويحفظه من الأخطار التي تهدّد سعادته، ويرسم له معالم مسيرته الحياتيّة الدنيويّة والأخرويّة. أما الناسي لذكر الله، فالله سبحانه ينساه من فضله، وينزل به غضبه، يقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ﴾[2]؛ فالنفس الإنسانيّة إذا تلوّثت بالمعاصي وتراكمت على صفحة القلب لم يعد يرى الله تعالى بصفاءٍ ونقاء، ويشعر الإنسان أنّه بعيد عن الله، فيتعدّى حدود الله، وتعدّي حدود الله يعني الاستدعاء لعذاب الله، وفيه قال تعالى: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَة ضَنكا﴾[3].

ولا يكتفي الإمام (عليه السلام) بطلب ذكر الله من الله في أوّل دعائه، بل هو يلحّ في ذلك، في أوّله وفي وسطه وفي ختامه، فيقول (عليه السلام): 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، كتاب الدعاء، حديث 3، ص4.

[2] سورة طه، الآية 126.

[3]  سورة طه، الآية 124.

 

76


67

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

«وأن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة» ويختم الذكر بقوله (عليه السلام): «اللهمّ اجعل لساني بذكرك لهجاً، وقلبي بحبّك متيّماً»؛ كأنّ الإمام (عليه السلام) يقول: يا ربّ أريد أن أتقرّب إليك ووسيلتي لكي أكون قريباً منك هي ذكري لك، فأنا لا أريد أن أنساك؛ لأنّ نسيانك يؤدّي إلى الابتعاد عنك. لذا على الإنسان أن يستحضر الله في كلّ ما يخصّ وجوده، حتّى يمتلئ هذا الوجود بحضور الله، فلا يغفل عنه تعالى ولا ينساه؛ لأنّ الله أعظم من كلّ شيءٍ وأجلّ من كلّ شيء، وإلّا كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة.

يقول الإمام الخمينيّ(قدس سره): «من الواضح أنّ الإنسان عندما ينكشف عليه يوم القيامة والنتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنه، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعم كثيرة ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والندامة، فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله، وفي الحديث القدسيّ: قال الله عزّ وجلّ لعيسى (عليه السلام): «يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، واذكرني في ملئك أذكرك في ملأ الآدميين، يا عيسى، ألِن لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات، واعلم أنّ سروري أنّ تبصبص[1] إليّ وكن في ذلك حيّاً ولا تكن

 

 


[1] التبصبص: هو حركة ذنب الكلب نتيجة الخوف أو الطمع. وهذا كناية عن شدّة الالتماس والمسكنة. (كن في ذلك حيّاً ولا تكن ميّتاً) بمعنى انتباه القلب وحضوره.

 

77


68

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ميّتاً»[1]. «وعدم الذكر يؤدّي إلى الغفلة التي تضاعف كدورة القلب، وتمكّن النفس والشيطان من التحكّم في الإنسان، وتسبّب زيادة المفاسد على مرّ الأيّام. والتذكّر للحقّ -جلّ شأنه- يبعث على صفاء النفس ونقائها، ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر ويخرج حبّ الدنيا من القلب، ويجعل الهموم همّاً واحداً، والقلب نظيفاً طاهراً جاهزاً لاستقبال صاحبه، وهو الحقّ تعالى»[2].

من هنا كان تضرّع الإمام (عليه السلام) وتقرّبه إلى الله سبحانه بذكره؛ كي يغفر له ذنوبه وينقله من حال العاصي المذنب إلى حال العابد المطيع لسيّده ومولاه، القانع بحكمه، الراضي بقسمته بتواضع المحتاج الفقير إلى رحمة الله بكلّ ما فيها من عظمةٍ وجبروت.

لذا، فعلى المؤمن أن يجعل جميع أوقاته عامرةً بذكر الله عزّ وجلّ، ليكون الذكر عاصماً له عن الذنوب، ودافعاً له في درجات الكمال الإنسانيّ الممكن. وذكر الله الدائم يجعل القلب عامراً بحبّه مفعماً بالإيمان به، مرتدعاً عن المعاصي التي نهى عنها، مُشيحاً عن المحرّمات، ناهجاً النهج الحلال الذي أمر به، فيعمل المعروف وينهى عن المنكر عملاً بقوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص502.

[2] جمعية المعارف الإسلاميّة، الأخلاق من الأربعون حديثاً، ص16.

 

 

78


69

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾[1]، وهؤلاء هم أصحاب النفوس الكبيرة.

ومن خصائص النفوس الكريمة، تقدير النعم والألطاف وشكر المنعِم، وكلّما تعاظمت النعم كانت أحقّ بالتقدير وأجدر بالشكر الجزيل، حتّى تتسامى إلى النعم الإلهيّة التي يقصر الإنسان عن تقييمها وشكرها. والشكر من المفاهيم التي لا تحتاج إلى توضيحٍ وبيان، إلّا أنّ مفهوم الشكر عند العرفاء له طعمٌ خاصٌّ وقد يكون بعيداً نوعاً ما عمّا نعرفه، فهو حالة تقابل بها النعمة. فما هو الشكر؟ وكيف يتمّ؟ وما هي غايته؟

حقيقة الشكر

أ. تعريف الشكر وآثاره: الشكر هو عرفان نعمة المنعم، وشكره عليها، واستعمالها في مرضاته. «وحقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى إنعام المنعم»[2].

والشكر خلّةٌ مثاليّةٌ من خلال الكمال، فهو انجذاب العبد نحو ساحة المعبود بحيث تسمو نفسه وتعلو في مدراج الكمال، فمن لا شكر له لا سموّ له. ولا يقوى على الشكر الحقيقيّ إلّا

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 110.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج16، ص220.

 

 

79


70

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

القليلون. لذا، قال تعالى: ﴿وَقَلِيل مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾[1]. والشكر من موجبات ازدياد النعم واستدامتها، يقدّسها العقل والشرع، ويحتّمها الضمير والوجدان إزاء المحسنين من الناس. فكيف بالمنعم الأكبر الذي لا تُحصى نعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه؟

«فإذا كانت النعم لا تُحصى، فهي غير متناهيةٍ والإنسان متناهٍ. فكيف يؤدّي المتناهي حقّ اللامتناهي؟ غير أنّ الله لجليل لطفه وعظيم رحمته يتقبّل منّا القليل من الشكر، ويزيدنا به تقرّباً وكمالاً بمنِّه»[2]. من أجل ذلك، حثّت الشريعة على التحلّي به في نصوصٍ عديدةٍ من الآيات والروايات، وقال تعالى: ﴿وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ﴾[3]، و﴿وَمَن يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ﴾[4] وهذه الآية تشير إلى أنَّ منفعة الشكر إنّما تعود على الشاكر نفسه، وأنّ الشكر لا يجدي المولى عزّ وجلّ لغناه المطلق عن الخلق، فيتّضح عود الشكر على الشاكرين بالنفع؛ لإعرابه عن تقديرهم للنعم الإلهيّة واستعمالها في طاعة الله ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم. قال تعالى: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ

 

 


[1] سورة سبأ، الآية 13.

[2]  أحمد أمين، التكامل في الإسلام، ج2، ص592.

[3] سورة البقرة، الآية 152.

[4]  سورة لقمان، الآية 12.

 

81


71

الفصل الأوّل: حقيقة الأخلاق والدعاء

وقد يكون الشكر بالقلب، ويتحقّق الشكر القلبيّ عندما يعيش الإنسان حالة الخشوع والخضوع لله تعالى، بأن يشعر في نفسه بأنّه مقصّرٌ في حقّ الله تبارك وتعالى، فلا بدّ من أن يعظّمه ويمجّده بالقلب، وأن يدفعه هذا الخشوع إلى حالة العزم على الشكر بالفعل؛ ذلك أنّه متى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر سرى إيحاؤها إلى الجوارح، فغدت تعرب عن شكرها للمولى عزّ وجلّ بانقيادها واستجابتها لطاعته.

من أجل ذلك، اختلفت صور الشكر، وتنوعت أساليبه، فكان لكلّ جارحة من جوارح الإنسان شكر خاصّ، وشكر الجوارح بشكلٍ عامٍّ هو استعمالها في طاعة الله والتحرّج بها عن معاصيه، كاستعمال العين مثلاً في مجالات التبصّر والاعتبار وغضّها عن المحارم، وهكذا سائر الجوارح[1]. فيجدر الشكر على كلّ نعمةٍ من نعم الله تعالى بما يلائمها من صور الشكر ومظاهره.

ب. الشكر منبع الحكمة: أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام): «يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»[2].

 

 


[1]  مهديّ الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص115.

[2] الفيض الكاشاني، الوافي، ج3، ص68، عن مهديّ الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص115.

 

 

82


72

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

هذا، وكلّما ازداد الإنسان شكراً زاده الله نعماً، وهو القائل: ﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ﴾[1]، فهذه الزيادة ليست نعماً مادّيّةً فحسب، بل أيضاً من المعارف الإلهيّة والوصول إلى حكمة الوجود. فالحكمة الإلهيّة تتجلّى في شكر العبد لله، فكلّما كان العبد أكثر شكراً لله تجلّت له الحكمة الإلهيّة في هذا الكون أكثر فأكثر، وهو القائل: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ﴾[2]؛ فإن كانت المعارف والحكمة الإلهيّة تتجلّى في شكر العبد، فكلّما كان العبد أشكر لله تجلّت لديه المعارف والحكمة الإلهيّة أكثر. ومن لم يتذوّق معرفة الله بخشوعٍ وخضوعٍ وبكاءٍ في جوف الليل وأطراف النهار، بكاءٍ على ما سبق من ذنوب، وبكاء فرحٍ بهذا الاتّصال اللاصوتيّ، وهذا الحبّ الإلهيّ لم يتذوّق الحياة الحقيقيّة، ولم يعلم سرّ وجوده في دار الدنيا[3].

ثمّ إنّ الله تعالى لِما للشكر من أهمّيّةٍ بالغة، قرن الشكر بالذكر، وهذا ما قام به وليد الكعبة (عليه السلام)، فإنّنا نجده في القسم الأوّل من الدعاء بعد طلب منحه القرب منه، يبادر متوسّلاً

 


[1] سورة إبراهيم، الآية 7.

[2] سورة لقمان، الآية 12.

[3] أحمد الأمين، التكامل في الإسلام، ص595 - 598.

 

83


73

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لطلب إلهامه وذكره وشكره، قائلاً: «وأن توزعني شكرك وأن تلهمني ذكرك»، ثمّ يعقّب (عليه السلام) معتذراً نادماً منكسراً مستقيلاً مستغفراً منيباً على كرم الله وبرّه به أن لا يعذّبه بالنار بعد أن وجده، وبعدما انطوى عليه قلبه من حبّه ولهج به لسانه من ذكره وشكره. وفي الختام يدعو الله قائلاً: «واجعل لساني بذكرك لهجاً، وقلبي بحبّك متيّماً ومنَّ عليَّ بحسن إجابتك».

فهذا الإمام الذي يعرف الله حقّ معرفته، بشهادة الرسول  (صلى الله عليه وآله): «يا عليّ ما عرف الله إلّا أنا وأنت»[1]. الإمام المعصوم، يشكر الله على ما وهبه من نعم فهو إمام المتّقين، وابن عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، وزوج البتول(عليها السلام)، وأبو السبطين(عليهما السلام) سيّدي شباب أهل الجنّة، والمتعارف عليه بين العامّة أنّه لا يحتاج إلى طلب مغفرة، أو إتيان شكر، ومع ذلك يستغفر ربّه ويشكره وفي ذلك نموذج الإنسان المؤمن والقدوة الحسنة لكلّ متّقٍ وورع، شاكرٍ للنعمة غير كافرٍ بها.

فالإمام (عليه السلام) بقوله: «أن توزعني شكرك» يكون قد سأل الله سبحانه بعذب كلامه الوارد في كتابه الكريم بقوله: ﴿رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ﴾[2]، يطلب من الله

 


[1]  الحلّيّ، مختصر البصائر، ص336.

[2] سورة النمل، الآية 19، سورة الأحقاف، الآية 15.

 

84


74

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أن يوفّقه لشكر النعم وأن لا يكون كافراً بها، وكفران النعم من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ومن دلائل الجهل بقيم النعم وأقدارها وضرورة شكرها. وحاشا للإمام (عليه السلام) أن يكون كذلك، فالإمام (عليه السلام) يريد للمؤمن أن يتحلّى بالشكر، بأن يتفكّر فيما أغدقه الله عليه من صنوف النعم وألوان الرعاية واللطف، وأن لا يتطلّع إلى ما أُترف به المترفون والمنعمون من وسائل العيش وزخارف الحياة الدنيا، وأن ينظر إلى البؤساء والمعوّزين ومن هو دونه في مستوى المعيشة، يقول (عليه السلام) في نهج البلاغة: «وأكثِر أن تنظر إلى من فضّلت عليه في الرزق، فإنّ ذلك من أبواب الشكر»[1].

كما ويريد الإمام (عليه السلام) أن يشكر المؤمن ربّه في كلّ بليّةٍ أو مصيبةٍ أصيب بها في الدنيا؛ ذلك لأنّ الله كان باستطاعته أن يبتليه بأشدّ منها، كأن تصيبه مصيبةٌ في الدين. فقد قال نبيّ الله عيسى (عليه السلام): «اللهمّ لا تجعل مصيبتي في ديني»[2]. ولا ريب، أنّ كلّ مصيبةٍ إنّما هي عقوبةٌ لذنبٍ سابق، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً فأصابته شدّةٌ أو بلاءٌ في الدنيا

 


[1]  نهج البلاغة، ص460، الكتاب 69.

[2]  الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج3، ص270.

 

85


75

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

فالله أكرم من أن يعذّبه ثانياً»[1]. وعليه، فليشكر العبد ربّه على تعجيل العقوبة، وعدم إرجائها إلى يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم. وعن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام): «شكر النعم اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله ربّ العالمين»[2].

هذا ويجب الالتفات، إلى أنّ الشكر والحمد ليس كافياً في مقابل نعمائه تعالى، بل يجب أن نشكر أيضاً الأشخاص الذين كانوا وسيلةً لهذه المواهب، فنشوّقهم إلى الخدمة أكثر في هذا السبيل. فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول تعالى: لم تشكرني إن لم تشكره. ثمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس»[3].

إنّ أحياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه إلى مستحقّيه، وتقديرهم وحمدهم وثناءهم على خدمتهم، هو طريقٌ لتحقيق الأهداف الاجتماعيّة بعملهم ومعرفتهم وإيثارهم واستشهادهم، فهو عاملٌ مهمٌّ في حركة المجتمع ورقيّه. ففي المجتمع الفاقد

 


[1] المصدر نفسه، ج3، ص219.

[2] أحمد أمين، التكامل في الإسلام، ص598.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص99، ح30، عن الكشكول القرآنيّ، ص370.

 

86


76

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

للشكر والتقدير، نجد القليل جدّاً ممّن يريد الخدمة والعكس صحيح[1]. ولمّا كان الإمام (عليه السلام) عالماً بلطف الله ورحمته كمظهرٍ من مظاهر جوده وكرمه، كان لا بدّ من أن يشير إلى ذلك متوسّلاً الوصول إلى غايته، وهي رضى الله، فما هو الجود والكرم؟ وكيف يراه الإمام (عليه السلام) وسيلةً تقرّب إلى الله تعالى؟

 

 


[1]  الكشكول القرآني، ص370.

 

87


77

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الجود والكرم

«واسألك بجودك وكرمك»

لا يسعد المجتمع ولا يتذوّق حلاوة الطمأنينة والسلام ومفاهيم الدعة والرخاء، إلّا باستشعار أفراده روح التعاطف والتراحم، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس في سرّاء الحياة وضرّائها، وبذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً. وللتعاطف صورٌ تشعّ روعةً وبهاء، وأكثرها جمالاً وجلالاً عطف الموسرين وجودهم على البؤساء والمعوزين، بما يخفّف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان. فما هي حقيقة الجود والكرم؟ وما هي آثارهما؟

خامساً: حقيقة الجود والكرم

أ. تعريف الجود: هو بذل الشيء عن طيب قلبٍ من غير غرض، وهذا وإن كان حقيقةً إلّا أنّه لا يتصوّر في غير حقّ الله سبحانه؛ إذ ما من إنسانٍ يبذل الشيء إلّا لغرض. والجود حدٌّ وسطٌ بين الإقتار والإسراف، وبين البسط والقبض، وهو تقدير

 

88


78

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

البذل والإمساك بقدر الواجب اللائق[1]. قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَاما﴾[2]. فالجود بمعنى السخاء، وهو بمعنى الكرم، وقيل: الجواد الذي لا يبخل بعطائه والجواد من أسماء الله تعالى[3]، ولكن أحياناً يُستفاد من كلمات العلماء: أنّ الجود مرحلةٌ أعلى من السخاء.

أمّا الكرم فهو ضدّ البخل، وهو بذل المال والطعام أو أيّ نفعٍ مشروعٍ عن طيب نفس، وهو من أشرف السجايا وأعزّ المواهب، ومن فضله أن كلّ نفيسٍ جليلٍ يوصف بالكرم ويعزى إليه[4]، قال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَان كَرِيم﴾[5] ﴿وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم﴾[6]. وعليه يمكن القول، إنّ الجود والكرم من الفضائل الأخلاقيّة المهمّة، فهما من علائم الإيمان وقوّة الشخصيّة وسموّ المكانة الاجتماعيّة[7]، وقد حثّ القرآن الكريم على الكرم وشوّق وأثنى على الكرماء بقوله: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَة مِّاْئَةُ حَبَّةۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾[8].

 

 


[1] الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج2، ص110.

[2]  سورة الفرقان، الآية 67.

[3] بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص14.

[4]  مهديّ الصدر، أخلاق أهل البيتh، ص54.

[5]  سورة الواقعة، الآية 77.

[6]  سورة الدخان، الآية 26.

[7]  الشيخ الشيرازيّ، الأخلاق في القرآن، ج2، ص366.

[8]  سورة البقرة، الآية 261.

 

89


79

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

يقول الشيخ ناصر الشيرازيّ في كتابه الأخلاق في القرآن: «لو أخذنا بظاهر الآية بدون تأويلٍ وتقديرٍ للمفهوم، فالآية الشريفة تدلّ على أنّ روح المنفق والمحسن تنمو أو تشتدّ إلى درجةٍ كبيرةٍ بعمليّة البذل والإنفاق، كما إنّ أمواله تتضاعف وتتكاثر أضعافاً عدّة بسبب الإنفاق، وكذلك يتصاعد الإنسان الكريم في مدارج الكمال بسرعةٍ كبيرة، وحتّى إنّ الخطوات الصغيرة في هذا السبيل تترتّب عليها آثارٌ عظيمةٌ ونتائج كبيرة». وفي الروايات أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان كلّما جاءه سائلٌ وأعطاه من ماله، فإنّه (عليه السلام) يُقبّل يد السائل، فلمّا سُئل عن ذلك قال (عليه السلام): «لأنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد العبد»[1].

إنّ الجود والإنفاق في سبيل الله بأيّ شكلٍ كان هو مطلوبٌ ومحبوب، وهو يورث الإنسان الأمن من عذاب الله ويزيل الهمّ والحزن من قلبه، فالأشخاص الكرماء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأنّ الله تعالى قد ضمن رزقهم وسعادتهم فلا يحزنون على ما بذلوه في سبيل الله؛ لأنّهم يعلمون أنّ ما ينتظرهم من فضل الله تعالى أكثر وأكثر ممّا بذلوه في هذه الحياة الدنيا[2]. جعل الله تعالى حدّاً للجود والكرم، وضمّن كتابه الكريم الأمر بضرورة

 


[1]  الشيخ الشيرازيّ، الأخلاق في القرآن، ج2، ص369.

[2]  مصدر سابق، ص368 - 369.

 

90


80

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الاعتدال في البذل والعطاء والابتعاد عن الإفراط والتفريط، مصوّراً لنا صياغة للسخاء والكرم التي هي الحدّ الوسط بين البخل والإسراف. فما هو حدّ الجود والكرم؟

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُوما مَّحۡسُورًا﴾[1]، وأشار السيّد الطباطبائيّ في ميزانه إلى أنّ: «جعل اليد مغلولةً إلى العنق كنايةٌ عن الإمساك، كمن يعطي ولا يهب شيئاً لبخله وشحّ نفسه، وبسط اليد كلّ البسط كنايةٌ عن إنفاق الإنسان كلّ ما في وجده، بحيث لا يُبقي شيئاً كمن يبسط يده كلّ البسط، بحيث لا يستقرّ عليها شيء، ففي الكلام نهيٌ بالغٌ عن التفريط والإفراط في الإنفاق»[2].

ومع تحقّق «الجود والكرم» يستشعر المُعْوزون إزاء الكرماء مشاعر الوئام والود،ّ ممّا يُسعد المجتمع ويُشيع فيه التجاوب والتلاحم والرخاء، ومع عدم تحقّقه، يشقى المجتمع وتسوده نوازع الحسد والحقد والبغضاء. ومن أجل ذلك، دعت الشريعة السمحاء إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين، واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام. وتتفاوت فضيلة الكرم بتفاوت مواطنه

 


[1] سورة الإسراء، الآية 29.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج13، ص82.

 

91


81

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ومجالاته، فأسمى فضائل الكرم وأشرف بواعثه ومجالاته ما كان استجابةً لأمر الله تعالى وتنفيذاً لشرعه وفرائضه المقدّسة، كالزكاة والخمس ونحوهما، وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلاميّة. وأفضل مصاديق البرّ والسخاء بعد ذلك عيال الرجل وأهل بيته، فإنّهم -فضلاً عن وجوب الإنفاق عليهم وضرورته شرعاً وعرفاً- أولى بالمعروف والإحسان. وقد يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعيّ، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على الأباعد الغرباء طلباً للسمعه والمباهاة، ويتّصفون بالشحّ على أهلهم وعوائلهم، وذلك من لؤم النفس وغياب الوعي. فقد ورد في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: «ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلّا يتمنّوا موته»[1]، وهكذا يجدر بالكريم تقديم الأقرب الأفضل من مستحقّي الصلة والنوال.

ب. آثار الجود والكرم: الكريم الجواد، هو الذي إذا قصده شخصٌ بحاجةٍ لأيّ أمر، كان يحسن استقباله ووفادته، هذا إذا كانت هاتان الصفتان في الإنسان، فكيف إذا كانت في الله تعالى؟ فقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «السخاء خلق الله الأعظم»[2]، وفي الحقيقة إنّ جميع أشكال السخاء والكرم في

 


[1]  الفيض الكاشاني، الوافي، ج6، ص61، عن مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص56.

[2] الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص1276.

 

92


82

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عالم الوجود ما هي إلّا تجلّياتٌ للكرم الإلهيّ الواسع؛ لأنّ كلّ ما لدينا من أنواع النعم والمواهب فهو من نعمه تعالى وكرمه، وكلّ كرمٍ هو فرعٌ من ذلك الأصل اللامتناهي.

لذا، نجد أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يقسم على الله سبحانه بجوده وكرمه أن يدنيه من قربه؛ لأنّ من شيم الكريم أن لا يردّ سائلاً عن بابه، فبعيدٌ على مَن كان الكرم من صفاته أن يردّ طلب الداعي. أليس هو الله الذي وصف نفسه بالكرم عندما عاتب الإنسان على تقصيره وتجاوزه، فقال ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ﴾[1] وقد قيل لأحدهم: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه، فقال: ما غرّك بي، فبماذا تجيب؟ فقال لأجبته: «غرّني كرم الكريم»[2]. وإلى هذه الحقيقة، أشار الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء السحر بقوله: «فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين إليَّ...، بل لأنّك يا ربِّ خير الساترين... وأكرم الأكرمين»[3].

بخطًى ثابتةٍ يتقدّم الداعي نحو باب رحمة ربّه، نحو كرمه ولطفه ويصل به المطاف إلى رحاب الله، فيمدّ يد الرجاء ليطرق

 

 


[1]  سورة الانفطار، الآية 6.

[2]  عزّ الدين، بحر العلوم، أضواء على دعاء الصباح، ص138.

[3]  الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج‏2، ص584.

 

93

 


83

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

بها باب مغفرته وكرمه بمطارق الدعاء والضراعة والخشوع، يقول كما في دعاء الصباح: «إلهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي، وهربت إليك لاجئاً من فرط أهوائي»[1] ليعلّمنا كيف نقرع ذلك الباب مستعطفين، فيقول: «إلهي لا تغلق على موحّديك أبواب رحمتك، ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك...»[2] ويكمل في الصحيفة السجّاديّة قائلاً: «إلى سعة عفوك مددت يدي، وبذيل كرمك أعلقت كفّي، فلا تولني الحرمان ولا تبتلني بالخيبة والخسران، يا سميع الدعاء، يا أرحم الراحمين»[3].

بهذه الفقرات أراد الإمام (عليه السلام) لفت نظر المؤمن إلى أنّ الله سبحانه هو الجواد الكريم، الذي لا يردّ سائلاً عن بابه مهما عظمت خطيئته، بل يحقّق له مسألته ويجيبه على طلبته ولا يردّه خائباً. وبهذا المبدأ الإلهيّ الكريم، وبهذه النعم تأدّب الإمام وأدّب أولاده وأحفاده، وبهذا المبدأ وهذه النعماء يؤدّب الأئمّة (عليهم السلام) أشياعهم وأتباعهم؛ ليكونوا كرماء وأجواد، وعلى خلقٍ حسن. فلو لم يحصل الإنسان على نعم الله ومواهبه، فليس بإمكانه بذل شيءٍ منها أوّلاً، ولانعدمت الإنسانيّة ثانياً.

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج‏84، ص340.

[2]  المصدر نفسه، ج91، ص144.

[3]  المصدر نفسه، ج91، ص149. الإمام زين العابدين c، الصحيفة السجّاديّة، فقرات من مناجاة المتوسلين.

 

94


84

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

فكرم الله وجوده منبعٌ لجود الإنسان وكرمه، وقناعة الإنسان بجود الله وكرمه يجعله يميل إلى أن يكون كريماً جواداً، عاكساً لصفات الله وموزّعاً منها على من حوله مقتنعاً راضياً، دون منّةٍ أو غرور، كما النهر يوزّع ما يستمدّ من منبعه على ما حوله فتُنبت الأرض، وبجود نباتها توزّع على مَن عليها. وهكذا يتعلّم الإنسان الكرم والجود من الله الكريم الجواد جلّ وعلا. والجود والكرم لا ينبثقان عن الإنسان إلّا عن قناعةٍ ورضى بما قدّر الله له، فإذا قنع بما وهبه الله وبما أمره من عملٍ بالمعروف، عبر البذل والعطاء، استطاع أن ينال رضى الله.

من هنا، ينتقل الإمام (عليه السلام) في دعائه إلى قوله: «واجعلني بقسمك راضياً قانعاً»، فما هي القناعة؟ وكيف يفهمها الإمام (عليه السلام)؟ وماذا يرجو من ربّه لينال رضاه؟

 

95


85

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

القناعة والتواضع

«وَتَجْعَلَنِي بِقِسَمِكَ راضِياً قانِعاً، وَفِي جَمِيعِ الأحْوالِ مُتَواضِعاً».

الإنسان مدنيٌّ اجتماعيّ بالطبع، وهذه المدنية تستلزم التعامل والاندماج مع غيره من الناس، ومقتضاه أن يتأثّر بهم ويؤثّر عليهم إيجاباً أو سلباً. ومن الطبيعيّ، أن يكون هذا الفعل والانفعال موجباً لتغيّر نفسيّة الإنسان من حالٍ إلى حال، ولكي يأمن الإنسان الانحراف النفسيّ جرّاء هذا الاحتكاك والاندماج، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يوجّهه -من خلال هذه الفقرة من الدعاء- إلى التمسّك بمعالي الأخلاق في مواجهة النفس الأمّارة بالسوء والشيطان الوسواس، فيصف خلالاً ثلاثاً إذا تحلّى الداعي بهنّ لم يجرفه تيّار الهوى. فما هي تلك الخلال التي تخلق حاجزاً ودرعاً بين المعاصي والنفس الإنسانيّة؟

يقول الإمام(عليه السلام): «وَتَجْعَلَنِي بِقِسَمِكَ راضِياً قانِعاً، وَفِي جَمِيعِ الأحْوالِ مُتَواضِعاً».

 

 

96

 


86

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

سادساً: حقيقة القناعة

فالإمام (عليه السلام) من خلال هذه الفقرة الدعائيّة يرجع الإنسان إلى حجمه الطبيعيّ؛ أيّ إلى عبوديّته، ويذكّره بأن يرضى بما قسم الله له من رزق، فلا يكره ذلك سواءٌ أحبَّ ذلك أم لم يحبّه، فليس للعبد أن يعترض على فعل المالك، لا بل عليه أن لا يحبّ ما يكره مولاه وإن وافق هوًى في نفسه. وهذا ما لا يتحقّق إلّا إذا رضي بقضاء سيّده ومولاه، وقنع بما قسم له من الأرزاق. والعلم والمعرفة والعزّة والذلّة والصحّة والمرض جميعها بقدرته وحوله وتقديره وقضائه وعلمه ومشيئته وإمضائه.

يقول تعالى: ﴿نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡض دَرَجَٰت﴾[1] فالله تعالى إذا أعطى إنساناً فليس هذا معناه أنّه احترامٌ له، وإذا ابتلى إنساناً فليس ذلك إهانةً له، بل إنّ المسألة تسير وفق نظامٍ كونيٍّ دقيق، فلا بدّ للمؤمن من أن يعتقد دائماً بأنّ الله لا يقسم له إلّا ما فيه خيره ومصلحته، وأنّ الله هو العليم الحكيم لا يتصرّف إلّا عن علمٍ وحكمة، فهو تعالى يعلم ما ينسجم مع المصالح الحقيقيّة للعبد من حين ولادته إلى حين وفاته. لذا، على الإنسان أن يرضى بحكم الله وأن يقنع بما

 

 


[1]  سورة الزخرف، الآية 32.

 

 

97


87

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

قسم له، فما هي القناعة؟ وكيف يراها الإمام (عليه السلام)؟

أ. تعريف القناعة: القناعة هي الرضى بالقسم والاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة من المال وغيره من أمور الدنيا، فهي صفةٌ فاضلة، ووسيلةٌ توصل الإنسان إلى سعادته الأبديّة. والقانع، هو الراضي بما معه وبما يُعطى من غير سؤال، فيعيش مرتاح البال، متفرّغاً لأمر الدين وسلوك طريق الآخرة. فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «كن قنعاً تكن أشكر الناس»[1].

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من لم يقنعه اليسير، لم ينفعه الكثير»[2]. وعليه، فالقناعة تُعرب عن عزّة النفس وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. وفي فضيلة القناعة قال الإمام الباقر(عليه السلام): «من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس»[3]، إنّما صار القانع من أغنى الناس؛ لأنّ حقيقة الغنى هي عدم الحاجة إلى الناس، والقانع راضٍ مكتفٍ بما رزقه الله، لا يحتاج ولا يسأل سوى الله، وعن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «القناعة كنزٌ لا يفنى»[4]. ومن لم يتحلَّ بهذه الصفة الكريمة، فإنّه يتجاوز برغباته الذاتيّة حالة التوازن

 

 


[1]  هيئة محمّد الأمين، الأخلاق الإسلاميّة، ص379؛ الفيض الكاشانيّ، الوافي، ج3، ص79؛ عن مهديّ الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص49.

[2]  العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص71.

[3]  هيئة محمّد الأمين، الأخلاق الإسلاميّة، ص379.

[4]  الفتال النيشابوري‏، روضة الواعظين و بصيرة المتعظين، ج‏2، ص456.

 

 

98


88

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الواقعيّ لما يحتاجه ويريده، فيطمع في المزيد، وهذا ما يقوده إلى أن ينحرف عن بعض مبادئه، أو إلى أن يتنازل عن كرامته في سبيل الحصول على مادّيّاتٍ لا يحتاجها فعليّاً، وهذا ما يجعله يعيش الهمّ الكبير والغمّ المتزايد والسعي الدائم للحصول على ما يريده بأيّ وسيلة، بعيداً عن الخطّ المستقيم والتوازن الأخلاقيّ، بعكس القانع، فإنّه يكتفي بما لديه، ويعمل على تصغير حاجاته وتحديد رغباته وتحجيم مطامعه... ثمّ يعمل على تطوير قدراته، وتنمية كفاءاته، وتحسين ظروفه فيبقى في جهادٍ مستمرٍّ مستعيناً بالله العليّ العظيم، مستزيداً من النتائج الإيجابيّة الكفيلة بتحقيق ما يرجو من لطف الله وعونه وكرمه.

بهذا يتّضح، أنّ القناعة ليست حالة جمودٍ في الإنسان، أو حالة انحطاط الهمّة والاستسلام للأمر الواقع، وفقدان الإرادة للخروج منها بتبديل ظروفه، وتغيير أوضاعه، بل القناعة تعني تحديد الحاجة في مستوى الإمكانات، بحيث يحقّق الإنسان لنفسه الهدوء العقليّ لإيجاد الجوّ الملائم لدراسة الواقع فيما يملكه من القدرات المحدودة؛ للحصول على فرص جديدة لنتائج مستقبليّةٍ واقعيّة، ليبدأ التخطيط في عمليّة التنمية والتطوير على أساس النموّ الطبيعيّ للأشياء. «وبهذه الخلّة لا يسمح الإنسان لحاجاته

 

99


89

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أن تضغط على مبادئه ومواقفه لنزوة استعجال وحالة انفعال»[1].

ب. آثار القناعة: للقناعة أثرٌ بالغٌ على حياة الإنسان، وتحقيق رخائه النفسيّ والجسديّ. فالقناعة تحرّره من عبوديّة المادّة، واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق وهوانهما المذلّ، وتربّي في الإنسان روح العزّة والكرامة والإباء والعفّة والترفّع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام. فمن المعلوم، أنّ من قنع بالقليل من الزاد في سفره إلى الله أمن من الكدّ، وتكلّف السعي والطلب، ومن الوقوع في الشبهات والمحرّمات، وصان دينه وإيمانه. فالقانع العارف يعلم أنّ مقسِّم الأرزاق حكيمٌ عليم، قد قدّر لكلّ فردٍ من خلقه رزقاً مقسوماً معيناً معلوماً، وفي أوقاتٍ خاصّةٍ لا يُقدّم ولا يؤخّر طرفة عين. وأنّ النفس لا تموت حتّى تستكمل رزقها. وقد ورد في كشكول البهائيّ: «أنّ عثمان بن عفّان أرسل مع عبدٍ له كيساً من الدراهم إلى أبي ذرّ، وقال له: إن قَبِل هذا فأنت حرّ، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذرّ، وألحَّ عليه في قبوله، فلم يقبل، فقال له: اقبله فإنّ فيه عتقي، فقال: نعم ولكن فيه رقّي»[2]. بهذا الردّ عبّر أبو ذرّ عن ثقته بالله، ومدى ارتباطه به، وبعده عن بهرجة الحياة الدنيا المبعدة عن القيم الأخلاقيّة، المقرّبة من الأمراض

 

 


[1]  اقتباس، محمّد حسين فضل الله، آفاق الروح، ج1، ص207 - 209.

[2] سفينة البحار، عن مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص50.

 

100


90

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

النفسانيّة. وفي وصف القانع، قال أبو فراس الحمدانيّ:

إنّ الغنيّ هو الغنيّ بنفسه         ولو أنّه عاري المناكب حافِ

ما كلّ ما فوق البسيطة كافياً        فإذا قنعت فكلّ شيءٍ كافِ

هذه هي القناعة التي حدّدها القرآن الكريم بقوله عزّ القائل: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾[1] والتي اختارها أمير المؤمنين (عليه السلام) رادعاً أمام نزوات الإنسان وأهوائه، وعقّبها بالتواضع؛ ليتذكّر الإنسان دائماً وأبداً فقره وضعفه وحاجته، فلا يتكبّر في حال وصل إلى منزلةٍ رفيعة في الوسط الاجتماعيّ، أو حصل على ثروةٍ ماليّةٍ أو غير ذلك من المنح الإلهيّة التي يحصل عليها الإنسان في حياته، ولا ينسى الأحوال الأخرى التي مرّ بها أو التي يمرّ بها الآخرون، وبهذا يُبصّر الإمام (عليه السلام) الإنسان وينبّهه بشكلٍ غير مباشر إلى ضرورة المحافظة على خطّ القناعة والسلوك المناسب له، فلا يغترّ بملكٍ أو جاهٍ أو

 


[1] سورة طه، الآية 131.

 

101


91

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

منفعة، ولا ينسى أنّ التواضع من سمات القناعة، وأنّه حسنٌ بذاته، وبما له من آثارٍ إيجابيّةٍ في تزكية النفس وتحبيبها إلى الله وإلى الناس. فالتواضع والقناعة وسيلتان يتوسّلهما الإنسان لنيل رضى الله؛ لذا كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: «اللهمّ لا ترفعني بين الناس درجةً إلّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها». وقد ذمّ القرآن الكريم التكبُّر المنافي للتواضع، فقال: ﴿وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولا﴾[1].

وقد عطف الإمام التواضع على القناعة عطفاً بغرض تلازمهما قائلاً: «واجعلني في جميع الأحوال متواضعاً». ولا بدّ لنا، في هذا المقام، من شرح ماهيّة التواضع الذي يتوسّله الإمام (عليه السلام) تحقيقاً لرضى الخالق واستحقاق كرمه وعفوه.

تعريف التواضع

ج. حقيقة التواضع: التواضع ضد التكبّر، وهو التذلّل والتخاشع، ويعني احترام الناس وعدم الترفّع عليهم. وهو خلقٌ كريمٌ وخلّةٌ جذّابةٌ تستهوي القلوب، وتستثير الإعجاب والتقدير. وقد عرّف الإمام الصادق (عليه السلام) التواضع، فقال: «من التواضع 

 


[1] سورة الإسراء، الآية 37.

 

102


92

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تُسلِّم على من تلقى، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً، ولا تحبّ أن تحمد على التقوى»[1]. والتواضع يؤثّر إيجابيّاً في علاقة الإنسان بخالقه؛ لأنّه يمثّل روح العبادة، ومفتاح قبول الأعمال والطاعات. ففي الحديث الشريف أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوماً مخاطباً أصحابه: «ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال (صلى الله عليه وآله): التواضع»[2]، وفي حديثٍ آخر له (صلى الله عليه وآله): «عليكم بالتواضع فإنّه من أعظم العبادة»[3]. ولا يخفى أنّ حقيقة العبادة هي غاية الخضوع أمام الله تعالى. فالشخص الذي ذاق حلاوة الخضوع والتواضع مقابل حقيقة الألوهيّة والذّات المقدّسة، فإنّه سيتحلّى أيضاً بالتواضع مع الخلق.

وفي التواضع قال الشاعر:

تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ           على صفحات الماء وهو رفيعُ

ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه           إلى طبقات الجوّ وهو وضيعُ

 

 


[1] مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص41.

[2] تنبيه الخواطر، عن الشيرازي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج2، ص61.

[3]  المصدر نفسه.

 

103


93

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وقال آخر:

ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ          والفارغات رؤوسهنّ شوامخُ

أيّ إنّ الإنسان العامل، الكامل العقل والايمان يتواضع أمام الآخرين، أمّا الفارغ العقل من الإيمان، فإنّه يختال ويشمخ برأسه.

ثمّ إنّ التواضع من أهمّ عناصر المحبّة لجلب الناس وكسب عواطفهم، والإنسان لا يستغني عن معاشرة الآخرين؛ لذلك يكون التواضع من العوامل التي تقرّب الفرد إلى الآخرين، وتحبّبه إلى نفوسهم، فتكون كلمته مقبولةً عندهم ورأيه ذا تأثيرٍ عليهم، فيستطيع المتواضع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وبهذا يتّضح لنا السبب الذي حدا بأمير المؤمنين (عليه السلام) التوسّل والتضرّع إلى الله كيما يجعله في جميع أحواله متواضعاً، فهو (عليه السلام) إنّما أراد بالتواضع تهيئة الأرضيّة اللازمة والمساعدة على نشر كلمة الله وربط الناس به. وقد أشاد أهل البيت (عليهم السلام) بشرف هذا الخلق، وشوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة وسيرتهم المثاليّة، وكانوا روّاداً فيه ومناراتٍ للخلق الرفيع.

والجدير بالذكر، أنّ التواضع الممدوح هو المتّسم بالقصد

 

104


94

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داعٍ إلى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعثٌ على الكبر والأنانيّة. وعلى العاقل أن يختار النهج الأوسط المبرأ من الخسّة والأنانية؛ حتّى لا يكون التواضع مجلبةً للاحتقار ومدعاةً للاستهانة بالذات.

د. حدُّ التواضع وآثاره: وضّح الإمام الرضا (عليه السلام) حدّ التواضع فقال: «التواضع درجات، يعرف المرء قدر نفسه، فينزلها منزلتها بقلبٍ سليم. لا يُحبّ أن يأتي إلى أحدٍ إلّا مثل ما يؤتى إليه. إن رأى سيّئةً ردّها بالحسنة»[1]. وأحسن التواضع كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالاً على الله»[2]. وأحياناً، يتصوّر الإنسان أنّ التواضع يقلّل من قيمة الشخص ويُصغّره في نظر الآخرين، لكن هذا التصوّر خاطئٌ ومخالفٌ للواقع؛ إذ إنّنا نرى أنّ المتواضعين في المجتمع يتمتّعون بالاحترام البالغ من قِبَل الآخرين، وتواضعهم لا يزيدهم إلّا احتراماً وعزّةً في نفوس الناس، هذا ولا يحسن التواضع للأنانيّين، والمتعالين على الناس في زهوهم وصلفهم. فالتواضع والحالة هذه، مدعاةٌ للذلّة والهوان وتشجيعٌ على

 

 


[1] الفيض الكاشاني، في سلسلة المحجّة البيضاء، كتاب المهلكات الكبرى.

[2] مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص42.

 

105


95

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الأنانيّة والتكبّر، مثله كمثل «تواضع العالِم للإسكافيّ إذا دخل عليه فتنحّى له عن مجلسه وأجلسه فيه، ثمّ تقدّم وسوّى له نعله وغدا إلى الباب خلفه، فهذا العمل ليس تواضعاً إنّما هو تخاسسٌ وتذلّل، وهذا غير محمود، وينبغي للعالِم أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله. أمّا تواضعه للعاميّ، فيكون بالقيام له والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته، وأن لا يرى نفسه خيراً منه، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره، فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره وخاتمته»[1].

وخير مثالٍ يقتدى به مثال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تواضعه: قال ضرّار-أحد أصحاب الإمام(عليه السلام)- واصفاً إيّاه: «كان فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، يأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا، وقربه منّا، لا نكاد نُكلِّمه هيبةً له، يُعظّم أهل الدين، ويُقرِّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله».

والتواضع لا ينقص من قدر ومنصب الكبير بعلمه أو دينه، فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحمل التمر والمالح في ثوبه ويقول:

 

 


[1]  الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، كتاب المهلكات الكبرى، ص314.

 

 

106


96

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لا ينقص الكامل من كماله          ما جرّ من نفعٍ إلى عياله[1]

ولأهمّيّة التواضع لم يكتفِ القرآن الكريم بذمّ التكبُّر والاستكبار في مجمل السلوك الأخلاقيّ للإنسان، بل أكّد على النقطة المقابلة له؛ أيّ التواضع، والانعطاف عليه بعباراتٍ مختلفة، فقال: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنا﴾[2] والهون مصدرٌ بمعنى الهدوء والليونة والتواضع؛ أيّ أنّهم يعيشون التواضع والهدوء إلى درجة عين التواضع.

ولا يخفى أنّ المقصود بالآية الكريمة ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب، بل نفي أنواع التكبّر والأنانيّة والسلوكيّات السلبيّة النابعة كلّها من حالة التكبّر، التي تتجلّى في أعمال الإنسان وأفعاله الأخرى. وقوله عزّ القائل: ﴿وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[3] كنايةٌ عن التواضع المقرون بالمحبّة والحنان. وقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحۡمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ﴾[4]. وعندما يؤمر نبيّ الإسلام

 

 


[1] الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، كتاب المسؤوليّات الاجتماعيّة، ص208.

[2] سورة الفرقان، الآية 63.

[3] سورة الشعراء، الآية 215.

[4] سورة آل عمران، الآية 159.

 

107

 


97

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

بالتواضع وإظهار المحبّة للمؤمنين، فهذا دليلٌ على أنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاق تجاه بعضهم البعض واضح؛ لأنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قدوةٌ وأسوةٌ لجميع أفراد الأمّة الإسلاميّة.

وعليه، يتّضح أن أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) أراد من خلال هذه الفقرة توجيه الداعي إلى أن يتحلّى بالصبر والرضى والقناعة في ما قسّم الله له من الأرزاق؛ لئلّا يعكس شعور عدم الرضى بتأثيره السلبيّ على تصرّفاته وتعامله مع الناس والمجتمع، فيفشل في أداء دوره في الحياة من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ لأنّ «الدنيا مزرعة الآخرة»[1]، ومن خلال الدنيا يرث الفردوس يوم القيامة. فعن نبيّ الله عيسى (عليه السلام) أنّه قال: «طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا! هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة»[2].

وبهذا يتّضح أنّ المسألة ليست مسألة ما يسدّ به حاجات الجسد فحسب، بل أيضاً ما يلبي به حاجات الروح، وما يهيّئ به هدوء النفس وتحليتها بالقيم الأخلاقيّة العالية. وبمقدار ما يكون الإنسان عبداً يستمدّ ثقته من الله بمقدار ما يكون متكاملاً صالحاً. فالإيمان يقتضي منه أن يتحرّك في خطّ الثقة بالله وحكمته في عطائه

 


[1] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، ج4، ص14، علم الأخلاق، الأربعون حديثاً، ص157.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج15، ص149، عن الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج1، ص395.

 

108


98

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ومنعه، وأن يتعمّق في الرضى بكلّ ما قضى الله وقدّر، والتسليم في جميع الأمور إليه تعالى. وهذا ما لا يتحقّق بدون التواضع في كلّ حال؛ لأنّ التواضع عبادةٌ كما تقدّم؛ لذا يتوسّل الإمام إلى الله تعالى أن يوفّقه إلى التواضع؛ لتكون الحياة فرصة عملٍ ومسؤوليّة، ومنطلقاً لرضاه تعالى. وبما أنّ الإنسان غير معصوم، فقد يضعف عن تحقيق ذلك كلّه لتأثير المؤثرات السلبيّة المتحكّمة في إرادته، كالنفس الأمّارة والشيطان، فيحتاج إلى لطف الله ورحمته وكرمه وتسديده؛ ليمتلك القوّة والوعي على السير في الطريق المستقيم الذي يُحقّق له الوصول إلى الغاية والهدف.

ولمّا كان الإمام (عليه السلام) عالماً بلطف الله ورحمته كمظهرٍ من مظاهر جوده وكرمه، كان لا بدّ من أن يشير إلى ذلك متوسّلاً رضى الله الجواد الكريم، يقول: «وَأَسْأَلُكَ بِجوُدِكَ أَنْ تُدْنِيَنِي مِنْ قُرْبِكَ، وَأَنْ تُوزِعَنِي شُكْرَكَ»؛ وكأنّ الإمام (عليه السلام) يقول: أسألك يا ربِّ أن تقرّبني منك لأصل إلى حالة التواضع التي ترضاها يا ربّ، ومنها إلى ما أرجوه من القناعة والشكر، فلا أشعر معها بالتكبّر أو الغرور عندما أدرك أو أتحسّس رضاك في ممارساتي اليوميّة -وحاشا للإمام أن يشعر بذلك- فيبقى نظري منصبّاً على فقري وفاقتي وحاجتي إليك يا مبدعي، وعلى رحمتك وألطافك... فما هي حقيقة فقر الإنسان وحاجته أمام الله تعالى؟

 

109

 


99

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الفاقة والحاجة

«اللّهُمَّ وَأَسأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ، وَأَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشَّدائِدِ حاجَتَهُ».

خلق الله الناس، وجعلهم شعوباً وقبائل، وجعلهم درجاتٍ منهم الفقراء ومنهم الأغنياء، منهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وقسّم بينهم معايشهم؛ وذلك لاستمرار التواصل والتراحم بينهم، ولإيصالهم إلى مستوى التقوى والإيمان برضى الله. ولولا حاجة الناس لبعضهم، لما تواصلوا ولما تراحموا. ولولا حاجة الإنسان إلى رضى ربّه لما خضع له، ولما دعاه ورجاه. وكلّما اشتدّت حاجة الإنسان لأخيه الإنسان، وكلّما فقد المعين الإنسانيّ يلجأ إلى ربّه سائلاً سؤال من اشتدّت فاقته، وعظم بلاؤه إيماناً منه بأنّ ربّه لا يردّ سائلاً ولا يخيب راجياً. وأحياناً، يشعر الإنسان بفقد المعين وعدم القدرة على مجاراة الآخرين، بسبب كفرهم وتقاعسهم عن تقوى الله، فيلجأ إلى ربّه سائلاً شاكياً متوسّلاً. وهذا شأن الإمام عليّ (عليه السلام)، حيث قال: «وَأَسأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ». فما هي حقيقة الفاقة؟

 

 

110


100

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

سابعاً: حقيقة الفاقة

أ. تعريف الفاقة: الفاقة هي الفقر والحاجة[1]، يقول السيّد السبزواريّ في شرحه: «إنّ الفاقة والخصاصة والإملاق والمسكنة والمتربة، جميعها بمعنى واحد: هو الافتقار. يقال: فلان اشتدّت فاقته؛ أيّ: بلغت فاقته وحاجته إلى النهاية، بحيث لا يتصوّر فوقها حاجة وفاقة»[2]. ولا شكّ في أنّ كلّ موجودٍ -سوى الله- هو فقيرٌ ومحتاجٌ إلى الوجود، ولا مانح للوجود سوى الله الغنيّ المطلق، وإلى هذا أشار المولى سبحانه بقوله: ﴿وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ﴾[3]. وفقر الإنسان إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأنّ حاجاته لا حصر لها، ومن جملة حاجاته ما يتوصّل إليه بالمال، فكلّ فاقدٍ للمال يُسمّى فقيراً، لكن يوجد فئةٌ من الناس يستوي عندها وجود المال وفَقده؛ إذ يرى الأموال في خزانة الله لا في يده، فلا فرق عنده في أن يكون المال في يده أو في يد غيره، ويُسمّى صاحب هذه الحالة مستغنياً؛ لأنه غنيٌّ عن فقد المال ووجوده، فكان أقرب إلى الغنيّ الذي هو وصف الله، والعبد وإن استغنى عن المال وجوداً وعدماً لا يستغني عن أمور أخرى

 


[1]  أقرب الموارد، مادّة شرد، نقلاً عن عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص153.

[2] السبزواري، شرح دعاء كميل، ص153.

[3] سورة محمّد، الآية 38.

 

110


101

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

سابعاً: حقيقة الفاقة

أ. تعريف الفاقة: الفاقة هي الفقر والحاجة[1]، يقول السيّد السبزواريّ في شرحه: «إنّ الفاقة والخصاصة والإملاق والمسكنة والمتربة، جميعها بمعنى واحد: هو الافتقار. يقال: فلان اشتدّت فاقته؛ أيّ: بلغت فاقته وحاجته إلى النهاية، بحيث لا يتصوّر فوقها حاجة وفاقة»[2]. ولا شكّ في أنّ كلّ موجودٍ -سوى الله- هو فقيرٌ ومحتاجٌ إلى الوجود، ولا مانح للوجود سوى الله الغنيّ المطلق، وإلى هذا أشار المولى سبحانه بقوله: ﴿وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ﴾[3]. وفقر الإنسان إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأنّ حاجاته لا حصر لها، ومن جملة حاجاته ما يتوصّل إليه بالمال، فكلّ فاقدٍ للمال يُسمّى فقيراً، لكن يوجد فئةٌ من الناس يستوي عندها وجود المال وفَقده؛ إذ يرى الأموال في خزانة الله لا في يده، فلا فرق عنده في أن يكون المال في يده أو في يد غيره، ويُسمّى صاحب هذه الحالة مستغنياً؛ لأنه غنيٌّ عن فقد المال ووجوده، فكان أقرب إلى الغنيّ الذي هو وصف الله، والعبد وإن استغنى عن المال وجوداً وعدماً لا يستغني عن أمور أخرى

 


[1]  أقرب الموارد، مادّة شرد، نقلاً عن عزّ الدين بحر العلوم، أضواء على دعاء كميل، ص153.

[2] السبزواري، شرح دعاء كميل، ص153.

[3] سورة محمّد، الآية 38.

 

111


102

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

هو بأمسّ الحاجة إليها، كالمدد والتوفيق والتسديد من الله، وغيرها من الكمالات.

ويمكن القول، إنّه لا وجه لتسمية المستغني فقيراً، وإن سُمّي فقيراً فلمعرفته بأنّه محتاجٌ إلى الله في أموره جميعها ومن بينها المال. ومن عرف بأنّه فقيرٌ إلى الله في أموره كلّها كان أحقّ باسم الفقر. ومن هنا يتّضح لنا معنى قول الإمام(عليه السلام): «أعوذ بك من الفقر»[1]، وقوله: «كاد الفقر أن يكون كفراً»[2]، وهذا لا يناقض قوله: «وأحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»[3]؛ لأنّ المسكنة هنا تعني فقط عدم امتلاك المال، الذي يدفع بصاحبه إلى المعاصي والاغترار بالدنيا ونسيان الآخرة، ولا يتناقض وقوله: «وَأَسأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ»؛ لأنّ الفاقة هنا هي الحاجة إلى رضى الله والتقرّب منه بنكران ملذّات الحياة الفانية.

ب. تأثير الفقر على الإنسان: قد يتحمّل الإنسان الفقر كمشكلةٍ صعبةٍ في حياته لتأثيرها السلبيّ على أوضاعه في حركة احتياجاته، ولكنّ الفقر إلى أقرانه يزيدها صعوبة، باعتبار

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص526.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص307.

[3]  انظر: شرح الأسماء، ص463؛ نقلاً عن السبزواري، شرح دعاء كميل، ص890.

 

112


103

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

هو بأمسّ الحاجة إليها، كالمدد والتوفيق والتسديد من الله، وغيرها من الكمالات.

ويمكن القول، إنّه لا وجه لتسمية المستغني فقيراً، وإن سُمّي فقيراً فلمعرفته بأنّه محتاجٌ إلى الله في أموره جميعها ومن بينها المال. ومن عرف بأنّه فقيرٌ إلى الله في أموره كلّها كان أحقّ باسم الفقر. ومن هنا يتّضح لنا معنى قول الإمام(عليه السلام): «أعوذ بك من الفقر»[1]، وقوله: «كاد الفقر أن يكون كفراً»[2]، وهذا لا يناقض قوله: «وأحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»[3]؛ لأنّ المسكنة هنا تعني فقط عدم امتلاك المال، الذي يدفع بصاحبه إلى المعاصي والاغترار بالدنيا ونسيان الآخرة، ولا يتناقض وقوله: «وَأَسأَلُكَ سُؤالَ مَنْ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ»؛ لأنّ الفاقة هنا هي الحاجة إلى رضى الله والتقرّب منه بنكران ملذّات الحياة الفانية.

ب. تأثير الفقر على الإنسان: قد يتحمّل الإنسان الفقر كمشكلةٍ صعبةٍ في حياته لتأثيرها السلبيّ على أوضاعه في حركة احتياجاته، ولكنّ الفقر إلى أقرانه يزيدها صعوبة، باعتبار

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص526.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص307.

[3]  انظر: شرح الأسماء، ص463؛ نقلاً عن السبزواري، شرح دعاء كميل، ص890.

 

112

 


104

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أنّ ذلك الاحتياج يجعله ذليلاً أمامهم، أسيراً لهم، فيعيش الاضطهاد النفسيّ الذي هو أكثر صعوبةً وتأثيراً من الاضطهاد المادّيّ، وهذا الشعور يخفّ أو يختفي إذا كان المعطي يعيش حالةً روحيّةً عاليةً مع الله. وفي المجتمع أمثال قادتنا الأبرار(عليهم السلام)، فإنّهم كانوا يتصرّفون مع طلّاب الحوائج بنحوٍ يُجنّبهم ذُلّ السؤال، كأنْ يعطوا السائل معتذرين له، أو يعطونه من خلف الباب، أو يلقون عليه مسألةً ما في مقابل ما يطلب، أو ما شابه ذلك... ولا ننسى أنّ ما يحتاجه الإنسان من أخيه فمصدره ممّا قد أعطاه الله له، وممّا ملكه من نِعَم. ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَة فَمِنَ ٱللَّهِۖ﴾[1].

فالإمام (عليه السلام) من خلال هذا التضرّع يريد أن يُبيّن حالته النفسيّة التي من خلالها توجّه إلى ربّه، يسأله أن يعفو عنه ويرحمه ويسامحه، فهو يسأله سؤال من اشتدّ فقره إليه، فعناصر الحياة كلّها التي يحتاجها الإنسان والنظم الحياتيّة كلّها وانتظامها بيد الله تعالى، والإنسان يحتاج إلى الله في كلّ ذرّةٍ من ذرّات جسده، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات حياته، وحاجة الإنسان إلى ربّه تختلف عن حاجته إلى أخيه الإنسان؛ لأنّه تعالى مقوّم جميع المخلوقات وقيّومها. لهذا استعمل الإمام كلمة فاقة؛ لأنّ فاقة

 


[1]  سورة النحل، الآية 53.

 

113


105

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الإنسان وفقره وحاجته إلى الله تعالى هو الفقر المطلق، فكلّ مخلوقٍ يحتاج إلى الله تعالى، إمّا بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

من هنا أحبّ أن نأنس ببعض المعاني التي تصبّ في نفس المطلب، من مناجاة الراجين، وقول إمامنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي تربّى في مدرسة الإمام (عليه السلام) ونهل من معينها وتخلّق بأخلاقها: «يا من كلّ هاربٍ إليه يلتجي، وكلّ طالبٍ إليه يرتجي، يا خير مرجوٍّ ويا أكرم مدعوّ»[1].

وأيضاً كلامه (عليه السلام) في دعاءٍ آخر، حيث يقول: «اللهمّ ولي إليك حاجةٌ قد قصُرَ عنها جُهدي، وتقطّعت دونها حيلي، وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك، ولا يستغني في طلباته عنك، ثمّ انتبهت بتذكيرك لي من غفلتي، ونكصت بتسديدك لي عن عثرتي، وقلت سبحان ربّي كيف يسأل محتاجٌ محتاجاً؟ وأنّى يرغب مُعدمٌ إلى مُعدمٍ، فقصدتك يا إلهي بالرغبة وأوفدت عليك رجائي بالثقة»[2].

الإنسان المؤمن يجب أن يفكّر في أنّه مفتقرٌ إلى الله باستمرار؛ ليقوده تفكيره إلى الشعور بالفقر والحاجة الحقيقيّة إلى الله

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج91، ص144.

[2] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجّاديّة، ص70.

 

114


106

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

تعالى، فلا يكون مثل قارون حينما قيل له: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ...٧٧ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ﴾[1]، وهذا يعتبر اغتراراً بالفاني، وإيثاراً للحياة الدنيا، ونسياناً للباقي الدائم، فالآخرة خيرٌ وأبقى. ويقول تعالى: ﴿بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡر وَأَبۡقَىٰٓ﴾[2].

ج. الاعتراف بعجز الإنسان: والقرآن الكريم يتحدّث عن قارون واحد، في حين أنّ المجتمعات المدنيّة مكتظّةٌ بأمثال قارون وفرعون والنمرود، وما ذلك إلّا لغفلتهم عن معنى حاجتهم إلى الله تعالى، وأنّ الله تعالى غنيٌّ حميدٌ لا يحتاج إلى أحد مطلقاً[3]، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡق جَدِيد ١٦ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيز﴾[4]. إنّ الداعي لله، المريد وجهه إن أراد صفاته الفعليّة كرحمته ورضاه وإنعامه وفضله، فإنّما يريد أن تشمله تلك الصفات، وتغمره فيتلبّس بها تلبّساً فيكون مرحوماً ومرضيّاً عنه ومنعّماً بنعمته، وإن أراد صفاته تعالى غير الفعليّة كعلمه وقدرته وكبريائه

 


[1]  سورة القصص، الآيتان 77 - 78.

[2] سورة الأعلى، الآيتان 16 - 17.

[3] اقتباس عن السيّد محمّد حسين فضل الله، في رحاب دعاء كميل، ص117 - 118.

[4]  سورة فاطر، الآيتان 16 - 17.

 

115


107

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وعظمته وغناه، فإنّما يريد أن يتقرّب إليه بهذه الصفات العليا، فهو يريد أن يضع نفسه موضعاً تقتضيه الصفة الإلهيّة، كأن يقف موقف الذلّة والحقارة والفقر والفاقة قبال عزّته وكبريائه وعظمته وغناه تعالى موقف العاجز الضعيف تجاه علمه وقدرته وقوّته. وتوجّه الإمام(عليه السلام) إلى الله سبحانه من خلال الصفات الفعليّة طالباً أن تشمله الرحمة الإلهيّة، ومريداً التلبّس بها كما أراد صفاته الثبوتيّة للتلذّذ بذكره تعالى وللتقرّب إليه، وأراد (عليه السلام) من خلال هذا الدعاء بيان ضرورة اعتراف الداعي بالدونيّة والعبوديّة لربٍّ لا يمكن الفرار من حكمه وحكومته، لربٍّ ستر عليه ذنوبه ولم يُعجِّل له العقوبة والمجازاة، لا عجزاً منه تعالى عن العقاب، بل لأنّه سبحانه حليمٌ مع غلبة أمره، رحيمٌ مع كونه قاهراً، قادراً، وقويّاً، سبقت رحمته غضبه، فكان ذلك ستراً من قادرٍ قاهرٍ ظاهرٍ أمره لمخلوقاته، أمره قضاءٌ وحكمة، ورضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمٍ ويعفو بحلم...

إذا تأمّلنا قول الإمام (عليه السلام) نجده يجسّد ضعف الإنسان ودونيّته أمام عظمة خالقه وخضوعه له، فهو لا يستغني عن رزقه ولا يخرج عن دائرة ولايته وتدبيره، وكأنّ الإمام (عليه السلام) أراد القول: إنّك يا ربّ تملك نفسي فهي خلقك وملكك، وهي

 

116


108

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

منك وإليك، ولم يكن خلقك لها من موقع الحاجة؛ لأنّك غنيٌّ حميد، بل كان خلقك لها مظهراً من مظاهر قدرتك على أن تخلق مثلها في خصائصها الجسديّة والروحيّة، ليعرف الخلق أنّك الله القادر على كلّ شيء، ليكون ذلك سبيلاً إلى توحيدهم لك وعبادتهم إيّاك من موقع إدراك أسرار عظمتك ومواقع قدرتك، ولسنا يا ربّ نعلم كنه عظمتك، إلّا أنّا نعلم أنّك حيٌّ قيّومٌ لا تأخذك سنةٌ ولا نوم.

وكأنّ الإمام (عليه السلام) يكمل قائلاً: اللهمّ وهذه ذنوبي قد أثقلتني بتبعاتها، وأتعبتني بنتائجها، وحملتني هموم التفكير فيها، والإحساس بالقلق الحائر على المستقبل، فجعلتني فقيراً محتاجاً، أتوسّل إليك يا ربّ أن تحملها عنّي، وتغفرها لي بلطفك وعفوك ورحمتك لأتخفّف منها، ولأقف بين يديك أبتهل إليك بأن تعينني على الوقوف في مواقع طاعتك، فلا تضعف عزيمتي ولا تهتزّ إرادتي، بل تنطلق نفسي في آفاق رضوانك وتتحرّك نحو ساحة قربك[1]. «وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ المُخْلِصِينَ، وَأَخافَكَ مَخافَةَ المُوقِنِينَ، وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ».

 


[1]  السيّد محمّد حسين فضل الله، آفاق الروح، ج2، ص284، بتصرّف.

 

117


109

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وهنا تتجلّى فاقة الإنسان وحاجته إلى المغفرة والرحمة، كما يتجلّى الاعتراف بقصور الإنسان عن تحقيق الغاية المثلى والهدف الأسمى من الحياة، فلا قدرة عنده للوصول إلّا بمعونة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الاعتراف تواضعٌ وقناعةٌ بما قسم له من دنياه، ورادعٌ عن الاغترار بالنفس، ودعوةٌ إلى التفكّر والتأمّل في هذه الذات الإنسانيّة القاصرة. ولو رجعنا إلى دعاء السحر الصغير لوجدنا المعصوم(عليه السلام) يطلب من الله أن يرحمه رحمةً لا يعذّبه بعدها أبداً، ويسأله رزقاً حلالاً لا يفقره إلى أحد بعده، وأن يزيده بذلك شكراً وإلى الله فاقةً وفقراً.

«لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك» بعد أن حصر الإمام (عليه السلام) غفران الذنوب، وستر القبائح، وتبديل السيّئات بالحسنات في الله وحده، أراد أن يعمّم توحيده لله عزّ وجلّ فنادى بشعائر الألوهيّة منزّهاً إيّاه عن النقص والحاجة والعيب (عن الولد والزوجة والشريك). وإذا كانت هذه حقيقة التنزيه، فلا ريب أنّ كلّ كائنٍ أيضاً ينزّه الله، ويشهد لخالقه بالغنى والكمال كما يشهد بنفس وجوده على فقره وحاجته وضعفه ووهنه وخضوعه لنواميس خالقه وقوانينه لا يحيد عنها قيد أنملة»[1].

 


[1]  السيّد محمّد حسين فضلا لله، في رحاب دعاء كميل، ص137.

 

118


110

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

وهكذا يعيش الإنسان في حركته الحياتيّة، ملتفتاً فيها إلى عزّ الربوبية، ملتزماً بأوامره، منتهياً عند نواهيه، لتكون يوميّاته معراجاً إلى ساحة قدسه ينعم فيها بفيوضات القرب الإلهيّ، عاملاً بقول الإمام عليّ (عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»[1].

ولكن قد يضعف الإنسان أحياناً، فيرتكب الذنوب والمعاصي متعدّياً على حدود الله وعلى حقوق الناس. فما هو الضعف الإنسانيّ الذي يجعل المؤمن يزهد بآخرته، على الرغم من أنّ الله سبحانه قد أحاطه بسور الحدود الإلهيّة والضوابط الشرعيّة والحواجز الأمنيّة؟ وكيف يقرّ الإنسان بضعفه بين يدي ربّه؟

يحبّ الله لعبده الإيمان ويكره له الكفر والفسوق؛ لذلك أراد الله سبحانه للإنسان أن يستقبل صباحه ومساءه بالحمد والتسبيح لينفتح تصوّره على عظمة الخالق، فيما يوحي به تسبيحه وحمده من صفاته المحمودة. لذا، جاءت الآيات الكريمة لتقول: ﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ ٱلۡغُرُوبِ﴾[2]، ﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَآيِٕ


 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏3، ص156.

[2]  سورة ق، الآية 39.

 

 

119


111

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ﴾[1]، وأضافت إلى ذلك عمق الزمن اليوميّ، قائلة: ﴿وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ﴾[2] حتّى يكون الزمن في حركته وعياً لله في عظمته وحمده، فيكون التسبيح والحمد حزاماً روحيّاً يحيط بوجود الإنسان في يومه وليلته، فلا يذهب بعيداً في انحرافه حتّى يشدّه ذلك الحزام إلى الاستقامة من جديد في عمليّة جذب روحيّ يعيده إلى الله تعالى ليؤكّد له شهادة إيمانه وتوحيده[3].

د. منشأ ضعف الإنسان: إنّ ضعف الإنسان ينشأ عن ضعف إيمانه بالله عزّ وجلّ، وهذا ما يجعله يتغافل عن الأوامر والتشريعات الإلهيّة، فلو أنّ الإنسان كان يعيش وجود الله دائماً في واقعه وقلبه، يراه حاضراً ناظراً إلى سلوكيّاته وأفعاله، ويرى محكمة العدل الإلهيّة يوم القيامة بعين البصيرة، فإنّه لن يتجرّأ على كسر طوق الأوامر الإلهيّة، وتجاوز التشريعات الدينيّة، والتلوّث بالشهوات والمفاسد الأخلاقيّة؛ لأنّ ضُعف الإيمان يُضعف التوجّه إلى المبدأ والمعاد، فتتوافر حينئذٍ الأرضيّة اللازمة لطغيان الشهوات، عندها يتحرّك الإنسان لإشباع تلك الشهوات متحرّراً

 

 


[1]  سورة طه، الآية 30.

[2]  سورة ق، الآية 40.

[3]  السيّد محمّد حسين فضل الله، آفاق الروح، ج1، ص138.

 

120


112

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

من قيود الدين والأخلاق، فيقع الإفساد والفساد، فيتحقّق معنى قوله تعالى: ﴿بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥ يَسۡ‍َٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾[1].

الآية الكريمة تشير إلى أنّ الإنسان الذي يقع تحت سيطرة رغباته وشواغل حياته ينسى ذكر الله تعالى وشكره على نعمه، فيبتعد عن ساحة محبّته، وقد تطبق عليه الغفلة الروحيّة فيتحرّر من القيود الشرعيّة والأخلاقيّة في سبيل إشباع رغباته من دون خوفٍ من يوم القيامة. لذا، يسأل سؤال اللامبالي والمنكر ليوم القيامة، بقوله: ﴿أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ وهذا قمّة الضعف بوجهيه المادّيّ والروحيّ. إنّ نقاط ضعف الإنسان إذا تحكّمت به تسلبه قوّته وإرادته، وتبعده عن عقله ما يجعله يتقلّب بين الذنوب، فلا يجد نفسه ولا يحسّ بالسعادة، ولا يشعر بالرضى، ولا يرى فيها سوى الخطايا التي تمسك بزمام نفسه وتقوده إلى غاياتها، وهو خاضعٌ لها لا يملك أن يريد، أو لا يريد، قد استحوذ الشيطان على عقله وقلبه يزيّن له القبيح ويقبح له الجميل، يعده ويمنّيه ويؤمنه من عقاب ربّه، ويبعده عن ثوابه ليغرق في لجج الدنيا لا يفكّر بآخرته، ويعينه على ذلك طول الأمل فإنّه ينسيه الاستغفار، ويزيده خضوعاً لأصحاب الجاه، فيتنازل لأهل الدنيا أكثر، بحيث

 


[1]  سورة القيامة، الآيتان 5 - 6.

 

121


113

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

يسحق حرّيّته وعزّته وكرامته ودينه ليحصل على رضاهم، ولكنّه لا يحصل إلّا على المزيد من الانحطاط والتسافل والضعف والهوان؛ لأنّ الإنسان الضعيف الذي لا يحترم نفسه لا يحصل على احترام الآخرين، والذي تهون عليه نفسه التي كرّمها الله لا يملك إمكانات الارتفاع إلى مواطن العزّة والسموّ، وفي الحديث القدسيّ: «ما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني، إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوقٍ يعتصم بي دون أحد من خلقي، إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته»[1].

ه. الإقرار بضعف الإنسان: يمكن القول، إنّ ضعف الإنسان وقلّة حيائه مرتبطٌ ببعده عن الله تقرّباً إلى عبيده. وعندما يلتفت الإنسان إلى بعده عن الله سبحانه وكثرة آثامه وذنوبه، وضعفه عن حمل نتائجها وتبعاتها، فإنّه يجري عمليّةً حسابيّةً ذهنيّةً دقيقةً بحثاً عمّن يمكنه حمل تبعات ذنوبه وتخفيف عقوباتها أو غفرانها له، وتخليصه من العقاب جزاءً ما جنت يداه، فإذا به يجد جميع معارفه وأصحابه وأصحاب العزّة والجاه مخلوقين مساكين عاجزين مثله، محتاجين إلى الله في امتداد أعمارهم لا يملكون لأنفسهم حياةً ولا موتاً، خاضعين

 

 


[1]  حسن الشيرازي، كلمة الله، باب الاعتصام بالله، ص76، ح2.

 

122


114

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لإرادة الله، واقعين تحت سيطرته، لاحول لهم ولا قوة إلّا بالله تعالى. وهذه النتيجة الحسابيّة المؤلمة تسبّب له صدمة، ويسقط في يده، ويعلم أن لا عاصم له من أمر الله، وأنّه لا ملجأ من الله إلّا الله، ولا مهرب منه إلّا إليه، وأنّه قد غبن نفسه وخسر آخرته خسراناً مبيناً. فيقرّ بضعفه، ويسأل سؤال المقصّر المسرف على نفسه سؤال الضعيف الفقير، الذي لا يجد لذنوبه غافراً إلّا الله، ويعلم أنّه قد جحد حقّ الله بالطلب والسؤال من غير الغنيّ المطلق الذي لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه، الكريم الذي وسع الوجود بكرمه، مالك الملك بيده العزّة والنعم والملك، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء، بيده الخير وهو على كلّ شيءٍ قدير. فينطلق إلى ربّه متضرّعاً مبتهلاً أن يبدّل الواقع السيّئ الذي يعيشه بأحسن منه. وينادي ربّه بقلبٍ جريحٍ ونفس منكسرةٍ مقرّاً بضعفه ومسكنته وقلّة حيلته، مستعطفاً ربّه بلسان العبد المذنب الآبق المسكين المستكين الواقف بين يدي سيّده وقوف المستحي من سيّده، يقول مبتهلاً معترفاً كما في دعاء السحر:

«سَيِّدِي أَنا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَيْتَهُ، وَأَنا الجاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتُهُ...، وَالضَّعِيفُ الَّذِي قَوَّيْتَهُ...، وَأَنا الطَّرِيدُ الَّذِي آوَيْتَهُ، أَنا يا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الخَلاءِ وَلَمْ أُراقِبْكَ فِي المَلاءِ...، فَالآنَ مِنْ

 

123


115

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي وَمِنْ أَيْدِي الخُصَماءِ غَداً مَنْ يُخَلِّصُنِي وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟»[1].

ويستطرد حفيده (عليه السلام) في دعاء التوبة: «سبحانك لا أيأس منك وقد فتحت لي باب التوبة إليك، بل أقول مقال العبد الذليل الظالم لنفسه، المستخفّ بحرمة ربّه، الذي عظمت ذنوبه، فجلَّت وأدبرت أيّامه، فولّت حتّى إذا رأى مدّة العمل قد انقطعت وغاية العمر قد انتهت وأيقن أنّه لا محيص له منك ولا مهرب له عنك... تلاقاك بالإنابة وأخلص لك التوبة يدعوك بيا أرحم الراحمين»[2]. وهذا معناه، إليك أتوب يا ربّ من تنقّلي بين الخطايا ظنّاً منّي بأنّ الصواب في هذا والخير في ذلك، فانتهى بي الأمر إلى التفريط بالمصير المتمثل برضاك ومحبّتك، وضيّعت أكثر من فرصةٍ وقصّرت في أكثر من مسؤوليّة، وأنا يا ربّ كما ترى صفر اليدين من كلّ خيرٍ أمرت به قد امتلأت نفسي بمشاعر الضعف والخوف والحياء منك والسخط على نفسي. تشدّني إليك يا ربّ الرغبة بالعفو وتوقفني الرهبة منك، فأنت الغفور الرحيم، رحمتك وسعت كلّ شيءٍ وسبقت غضبك. وما أنا يا ربّ؟ وما خطري؟ فلتسعني رحمتك، يا ربّ لا أجد لذنوبي غافراً

 


[1]  الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج‏2، ص 589.

[2] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، ص64.

 

124


116

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ولا لقبائحي ساتراً ولا لشيءٍ من عملي القبيح بالحسن مبدّلاً غيرك لا إله إلّا أنت، فأعطني يا رب من عفوك بمقدار رجائي، وعُدْ عليّ بما تعود به على المذنبين من رحمتك.

وقول الإمام (عليه السلام): «وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلهِي بَعْدَ تَقْصِيرِي وَإِسْرافِي عَلى نَفْسِي مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقِيلاً» يصوّر لنا عملية اللجوء الكامل إلى مصدر اللطف والعطاء والغفران، كما ويوحي كلام الإمام (عليه السلام) أنّه بدون اللجوء إلى الله سيجني الإنسان الخسران والخذلان، وقد بيَّن هذا المعنى في دعاء الصباح بقوله: «إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمَن السالك بي إليك في واضح الطريق»[1]. ولم يكتفِ الإمام(عليه السلام) بهذا التصوير الرائع للضعف الإنسانيّ أمام عظمة الخالق وقدرته، بل أراد أن يُبيّن لمن العذاب ولمن يكون النعيم ببيانٍ رائع، وهو في الآية الكريمة: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنا كَمَن كَانَ فَاسِقاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ﴾[2].

فبعد أن وضع هذه القاعدة، وجعلها منطلقاً للسير والسلوك السليم، نجده يبدأ بعملية جلاء الذنوب والتوبة منها وطلب الصفح عنها في ليلته، بل في ساعته من ذنوبه كلّها، مستغفراً منيباً معتذراً، ليبدأ مع ربّه صفحةً جديدةً قوامها فعل الخير

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج84، ص340.

[2]  سورة السجدة، الآية 18.

 

125


117

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

والإحسان والبر والشكر، وأن يعمر أوقاته ليلاً ونهاراً بذكر الله قولاً وعملاً خالصاً لوجه تعالى ولخدمة دينه وشرعه، وذلك كلّه بسرعة المبادرين المسلِّمين زمام أنفسهم وأمورهم إلى بارئهم؛ ليعينهم على استغلال ما بقي من فرصة العمر ليصل إلى حالة ملء القلب بحبّ الله والهيام به، فيقول(عليه السلام): «يا سَيِّدِي يا مَنْ عَلَيْهِ مُعَوَّلِي، يا مَنْ إِلَيْهِ شَكَوْتُ أَحْوالِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، قَوِّ عَلى خَدْمَتِكَ جَوارِحِي وَاشْدُدْ عَلى العَزِيمَةِ جَوانِحِي... حَتَّى أَسْرَحَ إِلَيْكَ فِي مَيادِينِ السابِقِينَ، وأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي البارِزِينَ، وَأَشْتاقَ إِلى قُرْبِكَ فِي المُشْتاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ المُخْلِصِينَ، وَأَخافَكَ مَخافَةَ المُوقِنِينَ، وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ».

في هذه الفقرة من الدعاء يُبيّن الإمام (عليه السلام) كيف ينفتح الإنسان المذنب على ربّه خاشعاً باكياً مقرّاً بضعفه، معلناً عن رغبته في طلب غفران سيّئاته، متذلّلاً بين يدي مولاه. والمتأمّل لهذه الفقرة، يجد أنّ الإمام (عليه السلام) رغم تذلّله وخشوعه وخضوعه، وإقراره بالتوحيد والتنزيه والتمجيد، يبقى في نفسه شيءٌ من الخوف، الخوف من أن لا يخافه مخافة الموقنين.

إنّ إقرار الإنسان بضعفه وعجزه عن تجنّب الأخطاء درجةٌ أولى من درجات الارتقاء إلى الإيمان واليقين، ولا يرتقي الإنسان

 

 

126


118

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

ولا يصلح حاله إلّا إذا كان خائفاً من الزلل والخط، راجياً مغفرة الله راغباً في الصلاح والإيمان والغفران. وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن الخوف والرجاء وحال الإنسان الخائف من الخطأ، الراجي لمغفرة الله والتقرّب منه كمظهرٍ أخلاقيٍّ يصل بالإنسان إلى الإيمان السليم.

 

 

127


119

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الإنسان بين الخوف والرجاء

«أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النّارِ وَرَجائِي عَفْوُكَ؟»

إنّ الإنسان الذي يعرف الله تعالى ويصل إلى الرجاء يكون محاطاً برحمة الله وعطاياه، ويقوم بحقّ العبوديّة والطاعة لله تعالى؛ لأنّ العبادة والطاعة من الأمور الفطريّة التي يقوم بها القلب السليم، وفي الوقت نفسه يجد نفسه غير معتمد على أعماله وعباداته تلك، بل لا يعتبرها شيئاً يستحقّ الذكر، ويكون اعتماده واتّكاله على رحمة الله تعالى وفضله وعطائه، ففي قلبه رجاء كبير برحمة الله وعفوه، وخوف كبير من أن لا تشمله تلك الرحمة، فيقع عليه العقاب والعذاب الأليم، فما هو الرجاء؟ وما هو الخوف؟ وما هو منشؤهما؟

ثامناً: حقيقة الخوف والرجاء

أ. تعريف الرجاء: الرجاء هو الأمل والشعور بالارتياح من عدم حصولٍ مكروه، وتوقّع الشيء المحبوب، ولا معنى للرجاء بدون

 

128

 


120

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

العمل، فمن رجا شيئاً طلبه وسعى إليه، فمن رجا الجنّة سعى إليها بالإيمان الصادق والعمل الصالح، والاعتقاد الراسخ بسعة رحمة الله وعظمته.

والخوف هو التألّم من توقّع حصول مكروه، والخشية والوجل والرهبة والهيبة كلّها من أنواع الخوف[1]. قال تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفا وَطَمَعا﴾[2]؛ أيّ إذا كان الخوف والخشية إنّما هو الخوف من شرٍّ متوقّع، ولا شرّ عنده سبحانه، فحقيقة الخوف من الله هو خوف الإنسان من أعماله السيّئة التي توجب إمساك الرحمة وانقطاع الخير المفاض من عنده، والنفس الإنسانيّة إذا عمرت بذكر الله سبحانه التفتت أوّلاً إلى ما أحاط بها من سمات القصور والتقصير، فأخذتها القشعريرة في الجلد والوجل في القلب، ثمّ التفتت ثانيةً إلى ربّها الذي هو غاية طلب فطرتها، فسكنت إليه، واطمأنت بذكره ووصف آلائه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأياديه التي لا تجازى[3].

وهناك خوفٌ ممدوح، وهو الخوف من الله تعالى، والخوف من ارتكاب الذنوب، والخوف من التقصير في أمور الدين. وهذا

 

 


[1]  محمّد هيئة الأمين، الأخلاق والآداب، باب الرجاء والخوف، ص460.

[2]  سورة السجدة، الآية 16.

[3]  العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص357.

 

 

129


121

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

العمل، فمن رجا شيئاً طلبه وسعى إليه، فمن رجا الجنّة سعى إليها بالإيمان الصادق والعمل الصالح، والاعتقاد الراسخ بسعة رحمة الله وعظمته.

والخوف هو التألّم من توقّع حصول مكروه، والخشية والوجل والرهبة والهيبة كلّها من أنواع الخوف[1]. قال تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفا وَطَمَعا﴾[2]؛ أيّ إذا كان الخوف والخشية إنّما هو الخوف من شرٍّ متوقّع، ولا شرّ عنده سبحانه، فحقيقة الخوف من الله هو خوف الإنسان من أعماله السيّئة التي توجب إمساك الرحمة وانقطاع الخير المفاض من عنده، والنفس الإنسانيّة إذا عمرت بذكر الله سبحانه التفتت أوّلاً إلى ما أحاط بها من سمات القصور والتقصير، فأخذتها القشعريرة في الجلد والوجل في القلب، ثمّ التفتت ثانيةً إلى ربّها الذي هو غاية طلب فطرتها، فسكنت إليه، واطمأنت بذكره ووصف آلائه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأياديه التي لا تجازى[3].

وهناك خوفٌ ممدوح، وهو الخوف من الله تعالى، والخوف من ارتكاب الذنوب، والخوف من التقصير في أمور الدين. وهذا

 

 


[1]  محمّد هيئة الأمين، الأخلاق والآداب، باب الرجاء والخوف، ص460.

[2]  سورة السجدة، الآية 16.

[3]  العلّامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، ج11، ص357.

 

 

129


121

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الخوف يدعو الإنسان إلى السعي في طاعة الله واجتناب معاصيه، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لو تعلمون قدر رحمة الله لاتّكلتم عليها وما عملتم إلّا قليلاً، ولو تعلمون قدر غضب الله لظننتم بأن لا تنجوا»[1].

ويُعرِّف السيّد مهدي الصدر الخوف من الله تعالى: «هو تألّم النفس خشيةً من عقاب الله من جرّاء عصيانه ومخالفته، وهو من خصائص الأولياء وسمات المتّقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القويّ عن الشرور والآثام. بيدَ أنّ الخوف كسائر السجايا الكريمة لا تستحقّ الإكبار والثناء، إلّا إذا اتّسمت بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط؛ لأنّ الإفراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها يباباً من نضارة الرجاء ورونقه، ويدع البهيج ويدع الخائف آيساً موغلاً في الغواية والضلال، ومرهقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتّى يشقيها وينهكها. والتفريط فيه باعثٌ على الإهمال والتقصير والتمرّد على طاعة الله تعالى واتّباع دستوره»[2].

ويمكن القول، إنّه لولا خوف الإنسان من الله ومن عقابه، لما عبده ولما رجاه، فالرجاء ينتج عند الخوف، فعندما يخشى

 

 


[1]  المتقي الهنديّ، كنز العمّال، عن الأخلاق والآداب الإسلاميّة، باب الرجاء والخوف، ص461.

[2]  مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص123 - 124.

 

 

130


122

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الإنسان أمراً يرجو الخلاص منه، عندها يحتاج إلى من يتوجّه إليه ليخلّصه ممّا ابتلي به من خوفٍ وهلع، فيتوجّه إلى من يجده أهلاً للثقة، الثقة بقدرته تعالى على تنجيته ممّا هو فيه، فإلى من يلجأ؟ من هو القادر على ذلك غير الله تعالى؟ الله هو المرجوّ الأوّل والأخير لقدرته وعظمته وجبروته.

وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير وتتفجّر الطاقات الروحية للعمل الهادف البنّاء. كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): «ارج الله رجاءً لا يُجرئك على معاصيه، وخف الله خوفاً لا يُؤيسك من رحمته»[1]. ويذكر السيّد مهدي الصدر، إنّ مشاعر الخشية والخوف تصقل النفس وتسمو بها إلى أوج ملائكيّ؛ لأنّ من غلب عقله شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، وإنّ الخائف من الله تعالى يستسهل عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم حلاوة المعاصي والآثام خشية من سخط الله وخوفاً من عقابه[2].

وقد جاء في وصيّة لقمان لولده: «خفِ الله عزَّ وجلَّ خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج10، ح2، ص188، نقلاً عن: مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، ص125.

[2]  مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ص124.

 

131


123

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

لرحمك»[1]، «وجاء في الأحاديث، إنّ الحقّ تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورةٍ يطمع حتّى الشيطان بالمغفرة منه، وإنّ الحقّ سبحانه لم ينظر إلى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه نظرة لطف ولم يبعث إلى هذا العالم رحمته إلّا بمقدار ذرّة بالنسبة إلى العوالم الأخرى، وهذه الذرّة قد بعثت على إحاطة النعم الإلهيّة بالجميع من جميع جوانبهم! فكيف إذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته ودار ضيافته وموضع رحمته»[2].

ب. منشأ الخوف والرجاء: ينشأ الخوف من نظرة الإنسان إلى ذاته المحتاجة المقرّة بفقرها وفاقتها وعجزها، فالإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ولا يملك بذاته شيئاً، إنّما يملك ممّا قد ملّكه الله سبحانه من ملكه، فلا الطاعات ولا العبادات من ذاتيّاته، بل اقتدر عليها بالقدرة التي أنعم الله بها عليه، وبواسطة الأعضاء التي منحها الله له، وحتّى إنّ وجوده منوطٌ باستمرار النعم الإلهيّة عليه، ومعصية جميع الخلق لا تضرّ بملكه تعالى شيئاً، وكذا طاعة المطيعين لا تزيد في ملكه عزّ وجلّ شيئاً.

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج‏2، ص67.

[2]  الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، الحديث الرابع عشر، ص219.

 

132


124

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

عندما يشعر الإنسان غير المعصوم أصلاً بالخوف الشديد لقبح أعماله وتقصيره، فماذا يقول إذا كان المعصوم يقول: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسا قَمۡطَرِيرا﴾[1].

ويقول في دعاء السحر: «وقد أفنيت بالآمال والتسويف عمري، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالاً منّي... سيدي عليك معوَّلي ومعتمدي ورجائي وتوكُّلي... ولك خالص رجائي وخوفي... فإنّما أسألك لقديم الرجاء فيك... فيا عظيم رجائي لا تخيّبني إذا اشتدّت فاقتي... إلى جودك وكرمك أرفع بصري... فإنّك العارف بفقري... اللهمّ حقِّق رجائي وآمن خوفي...»[2].

والرجاء ينشأ من علم الإنسان برحمة الله وكماله وسعة لطفه وعنايته، فيرى أنّ الله تعالى قد أنعم عليه بجميع النعم التي تحيط به ابتداءً من غير سؤال، وأنّه تعالى قد سخَّر له جميع الموجودات من غير استحقاقٍ منه، فيطمع بالغفران والجنان، وبالأخصّ عندما يعلم بأنّه تعالى لا يحاسب العباد بعدله وإنّما يحاسبهم برحمته، وأنّه لسعة رحمته يوم القيامة تتطاول لها عنق إبليس. هذا والفرق بين الخوف الرجاء كالفرق بين شخصين،

 

 


[1] سورة الإنسان، الآية 10.

[2]  الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج‏2، ص591.

 

132


125

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

أحدهما جلس ينتظر الزرع، ويرجو الحصاد الوفير دون أن يبذر الأرض أو يهتمّ بإصلاحها وإروائها، فإنّ مثل هذا الانتظار لا يمكن تسميته رجاء، بل هو حماقةٌ وبله! لأنّه لم يعمل وينتظر رحمة ربّه ويرجو رضوانه. فهو كمن يرجو المسبَّب دون أن يُعِدَّ الأسباب. والثاني، شخص هيّأ الأرض وبذر البذر فيها، ورعاها بالسقي والمداراة، ورجا منها النتائج الطيّبة. فالأوّل لا يحصد إلّا الخسران، أمّا الثاني فله موسمٌ يرجو أن يكون صالحاً. وقد قيل للإمام الصادق (عليه السلام): قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال (عليه السلام): «هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني، كذبوا ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيءٍ هرب منه»[1].

ج. توازن الخوف والرجاء: الإنسان عندما يدرك قصوره في النهوض بالعبوديّة لله ويرى صعوبة طريق الآخرة وضيقها يصاب بالخوف. وعندما يرى كيف أنّ هناك أشخاصاً كانت بداياتهم حسنة ثمّ انقلبوا، وكانت عاقبة أمرهم الموت دون إيمانٍ أو عملٍ صالح، كشمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد مثلاً، يصاب بالهلع. وحيث إنّ الله حاضرٌ في قلب المؤمن

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ص68. نقلاً عن الإمام الخمينيّ g، الأربعون حديثاً، الحديث الرابع عشر، ص220.

 

134


126

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

الراجي بجميع صفاته فتتجلّى أسماء الجلالة والجمال في قلبه بصورةٍ متعادلة، لا يترجّح كلّ من الخوف والرجاء على الآخر، فقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران، نور خيفةٍ ونور رجاء. لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا»[1].

وعليه، فالخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في آفاق طاعة الله، والفوز بشرف رضاه وكرمه ونعمائه؛ إذ هما الباعث على الطاعة رغبة، كما يبعث على الخوف عليها رهبةً وفزعاً. وبديهيٌّ أن تكون طاعة المطيع رغبةً ورجاءً أفضل منها رهبةً وخوفاً؛ لذلك كانت تباشير الرجاء وافرةً وبواعثه جمّةً وآياته مشرقة. ومن هنا كانت الدعوة لعبادة الرحمن تتراوح بين الترغيب تارةً والترهيب طوراً.

لم يتخلّف دعاء كميل عن موازنة الخوف والرجاء، فإنّنا نجد الإمام (عليه السلام) قد وازى بينهما في فقرات الدعاء، فقال: «وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً نادماً منكسراً... اللهمّ فاقبل عذري وارحم شدّة ضرّي... يا إلهي وسيدي، أتُراك معذّبي بنارك بعد توحيدك وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك».

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح1، ص94.

 

135


127

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

بعد أن بيَّن الإمام (عليه السلام) من خلال هذه الفقرة، كيف يجب أن تكون حالة الداعي النفسيّة والجسديّة بين يدي ربّه، بالنظر إلى ذنوبه والخوف منها ومن العقاب المترتّب عليها تارةً، وبالنظر إلى حلم الله وعفوه ومغفرته وكرمه تارةً أخرى؛ لأنّ مَنْ صفاته الجود والعفو والكرم واللطف والشفقة وهو أكرم وأجلّ من أن يعذّب ضعيفاً انطوى قلبه على حبّه وتوحيده وعدم الشرك به، خصوصاً بعد أن لهج لسانه بذكره ومدحه والثناء عليه تعالى. وبما أنّ ذنوب الإنسان متناهيةٌ، وبما أنّ جود الله وعفوه ورحمته لا متناهٍ، فلا بدّ للامتناهي من أن يشمل المتناهي بعفوه وكرمه ورحمته، فكلّ مذنبٍ شقيٍّ يطمع بكرم الله ورحمته ﴿إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوف رَّحِيم﴾[1].

 

 


[1]  سورة الحج، الآية 65.

 

 

136


128

الخاتمة

الخاتمة

بعد هذا السرد نخلص إلى أمورٍ عدّة:

أوّلاً: إنّ الإنسان يعيش معركةً ضدّ شهواته، ومعركةً ضدّ الشيطان، ومعركةً ضدّ الظالمين. لذا، فهو يحتاج إلى سلاحٍ فعّالٍ للمواجهة والتحصّن، والدعاء هو السلاح المطلوب؛ لأنّه يفجّر طاقات صبر الإنسان أمام البلاء وأمام الصعاب، ويخفّف وقعها، فهو المنّة الكبرى والرحمة الواسعة، ومظهرٌ حيٌّ للتواصل الدائم بين المالك والمملوك: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا﴾[1].

فالدعاء، عبادةٌ متحرّكةٌ يمارسها الإنسان بشكلٍ عفويٍّ أو مدروسٍ عند حدوث أيّ مشكلةٍ أو طروء أيّ حاجةٍ لا يرى فيها لنفسه شأناً، فيلجأ إلى صاحب الشأن فيها، إلى الملجأ والملاذ الآمن إلى الله تعالى، فهو يجيب الدعاء ويرفع البلاء ويطمئن القلوب،

 


[1] سورة الفرقان، الآية 77.

 

138


129

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

فيشكو إليه شهواته، الشهوات التي تسبّب جميع الانحطاطات الفرديّة والاجتماعيّة، والتي هي علّة ضعف الشعوب والأمم، وزوال حكوماتها وعروشها، وزوال أيّ أمّةٍ يرجع سببه إلى الإفراط في الشهوات.

ثانياً: بعد التأمّل في فقرات دعاء كميل، نجد أنّ كلّ ما طلبه أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين (عليه السلام) من الله تعالى هو القدرة على تصحيح السير والسلوك نحو الله، باعتماده مكارم الأخلاق التي هي سرّ بعثة الأنبياء (عليهم السلام) وعنوان دين محمّد (صلى الله عليه وآله) ورسالته، فقد طلب الإمام (عليه السلام) العون من الله سبحانه وتعالى على ترك هوى النفس الأمّارة بالسوء، وعلى ترك ما نهى المولى سبحانه عنه من مفاسد وذنوب وخطايا؛ ليستطيع أن يحقّق ما أراده الله تعالى للإنسان. فقد أراد له عزّ وجلّ أن يكون عزيزاً أمام الناس، ذليلاً بين يديه، منقطعاً إليه في حوائجه، وهذا ما لا يتحقّق إلّا إذا عرف الإنسان نفسه، فمن عرف نفسه عرف ربّه. ومن توصّل إلى هذه المعرفة، علم أنّه عبدٌ مملوكٌ لله يعيش في ملكه، يأكل من رزقه، ولا يخرج عن إرادته، وأنّه ضعيفٌ فقيرٌ لا يملك لنفسه حياةً ولا موتاً ولا نشوراً. ومن كانت حقيقته الفقر، لا بدّ من أن يشعر بالذلّ أمام القوّة والعظمة والسلطة، التي أفاضت عليه الوجود والحياة. والدعاء يعدُّ النفس لأن تعيش

 

139


130

الخاتمة

واقعها مع الله سبحانه، تتقلّب في واقع الفقر والفاقة والذلّ أمام الله عزّ وجلّ. ولا شكّ في أنّ معرفة النفس والذلّ أمام الله يجعل الداعي عزيزاً أمام الناس، يأنف عن التذلّل لمخلوقٍ فقيرٍ محتاجٍ مثله مهما عظم شأنه في المجتمع، فبقدر ما يكون الداعي ذليلاً أمام الله منقطعاً إليه واثقاً به، بقدر ما يكون عزيزاً أمام الناس مستغنياً عن مسألتهم وفضلهم.

من هنا، كان الدعاء ترس المؤمن وحبل السرّة الذي يربطه ويشدّه إلى مصدر الطاقة والسلطة والعظمة. وقد صرّح القرآن الكريم بهذه الحقائق، كما صرّح بأهميّة البناء الروحيّ بتنمية النفس بالأخلاق الحسنة تحت مظلّة العقيدة الدينيّة السليمة؛ لأنّها تشكّل عامل البقاء والثبات أمام هوى النفس ومغريات الحياة، وأمام قوى الاستكبار والطاغوت، كما إنّها تشكّل عامل تحقّق إرادة الله في خلقه. وموضوع الدعاء، وإن طال وتشعّبت أطرافه، فإنّه يخلص إلى أنّ الإمام لا يملك إلّا الدعاء كسلاحٍ في وجه المعاصي أوّلاً، وكدواءٍ شافٍ من الآفات كلّها ثانياً، كون الدعاء ذكراً لله تعالى، وذكر الله يطهّر القلب من أدرانه، ويُفَعّل طاقات الإنسان واتّجاهاته الفكريّة والعمليّة في خطّ التقوى والالتزام.

ثالثاً: إنّ الدعاء المستجاب هو ذاك الذي يفتح قلب الإنسان

 

140


131

الخاتمة

على منهج الحقّ، ويكون سبباً في فكّ قيود الشرّ، وتحطيم الظلم، وحلّ عقد الذلّ والاستعباد؛ لأنّ المولى سبحانه أراد من الإنسان إقامة العدل في المجتمعات بمحاربة الفساد، وزرع الخير وترسيخ الحبّ في القلوب، ومساعدة الفقراء والمحتاجين. وما أروع الدعاء النابع من عمق الروح، فينساب طهوراً مطهّراً للجوارح من الخيانة والفحش والكذب والسفاهة، وللجوانح من الغشّ والرذائل. ما أروع الدعاء الصادر من صميم القلب سوراً وسياجاً صائناً للنفس عن كلّ ما حرم الله تعالى، حاجزاً عن الخضوع أمام جميع أشكال الظلم والجور والطغيان. ما أجمل أن يكون الدعاء ابتهال توبةٍ وتضرّع رجاء، رجاء أن يكون القلب عرشاً للرحمن.

وكلّما ازداد الداعي وعياً للدعاء كلّما انضبط أكثر في إطار ما يريده مولاه؛ لأنّ الدعاء يربّي النفس على الخشية من الله وطاعته في السرّ والعلن، وهذا ما يجعله ملتزماً بالسلوك الإيمانيّ من غير حاجةٍ إلى رقابة أحد. وإذا انفتح القلب على الله، عظم الله تعالى في ذلك القلب، وصغر كلّ ما دونه تعالى.

رابعاً: الدعاء ذكر لله، والذكر يوجب استجابة الدعاء، والاستجابة توجب الشكر، وشكر الخالق لا يتحقّق إلّا بشكر المخلوقين، وشكر المخلوقين يؤدّي إلى إحياء روح الشكر في

 

141


132

الفصل الثاني: مضامين أخلاقيّةٌ من دعاء كميل

المجتمع، وبهذا الإحياء تتحقّق الأهداف الإلهيّة الاجتماعيّة، ما يقود المجتمع إلى تكامله ورقيّه، فذكره تعالى شفاءٌ وشكره غنًى يصبّ في دائرة القناعة بما قسّم الله تعالى من أرزاقٍ وأعمارٍ وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة.

والقناعة تحقّق الرخاء النفسيّ والجسديّ، حيث يتحرّر الإنسان من عبوديّة المادّة واسترقاق الحرص والطمع، فالداعي إذا نظر إلى الحياة من منظار القناعة، فإنّه لن يرتعد ولن ينحني أمام أيّ سلطةٍ سوى سلطة الله تعالى، وستكون قيمة الإنسان بإنسانيّته لا بما يملك من مال أو جاه. هذا، والقناعة لا تتحقّق سوى بالتواضع أمام عظمة الخالق وقدرته، والتسليم له تعالى والتوكّل عليه. وتتجلّى أيضاً بالتواضع لخلق الله تعالى، فالتواضع بابٌ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمتواضع بما يملك من محبّة واحترام في قلوب الآخرين يستطيع نشر أحكام الله وأوامره ونواهيه.

خامساً: نلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) قد أورد في دعاء كميل، مكارم وفضائل يطلب بعضها البعض، فالذكر والشكر والقناعة والتواضع إذا تلبّس بها الفرد الذي هو نواة المجتمع صلح حاله، وبصلاح حال الفرد تصلح الأمّة والمجتمع، وبصلاح المجتمع يتحقّق الأمن

 

142


133

الخاتمة

أين القرّاء لدعاء كميل من أدبيّاته وأخلاقيّاته، إلّا ما رحم ربّي؟! حبّذا لو امتلكنا قبساً من تلك الأخلاقيّات، ومن تلك الأنوار المطهّرة! حبّذا لو استطعنا امتلاك ذرّةٍ من ذلك القبس النورانيّ الذي عنده علم الكتاب! فعلي ّ(عليه السلام) معدن الفضائل، وجوهر الكمالات تتعانق في ذاته غرر الصفات، وتتسابق إلى عنصره درر المَلَكات. ولئن تفرّقت في الأماثل المكارم، وتوزّعت بينهم المعالي، وتقمّص كلّ بمنفعة، فالإمام سيّد الكلّ والجامع لما تفرَّق وتوزَّع، وفيه قال الشاعر:

ما فرَّق الله شيئاً في بريّته          من الفضائل إلّا عندك اجتمعا

 

 

144


134

الخاتمة

فهرس المصادر

1. القرآن الكريم.

2. السيّد فضل الله محمّد حسين، في رحاب دعاء كميل، ط3، دار الملاك، بيروت لبنان، 2000م.

3. السيّد فضل الله محمّد حسين، آفاق الروح، ط1، دار الملاك، بيروت - لبنان، 2000م.

4. السبزاوي عبد الأعلى، شرح دعاء كميل، ط1، مؤسّسة الهداية، بيروت - لبنان، 2004م.

5. الشيخ الشيرازي ناصر مكارم، الأخلاق في القرآن، ط1، الأميرة للطباعة، بيروت - لبنان، 2005م.

6. الشيخ الشيرازي ناصر مكارم، الكشكول القرآنيّ، ط1، دار ومكتبة الجوادين، بيروت - لبنان، 2005م.

7. بحر العلوم عزّ الدين، أضواء على دعاء كميل، ط2، دار الزهراء، بيروت- لبنان، 1986م.

 

146

 

 


135

فهرس المصادر

8. بحر العلوم عزّ الدين، أضواء على دعاء الصباح، ط1، دار الزهراء، بيروت - لبنان، 1983م.

9. العلّامة مكرم ابن الفضل جمال الدين محمّد - ابن منظور الأفريقيّ المصريّ، دار الصادق، بيروت - لبنان.

10. السيّد الطباطبائيّ محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ط1 (منقحّة)، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1997م.

11. الشيخ الحلّي أحمد بن فهده، عدّة الداعي، ط2، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم- إيران، 1425ه.

12. الشيخ النراقي محمّد مهدي، جامع السعادات، ط7، مؤسّسة الأعلى للمطبوعات، بيروت - لبنان، 2002م.

13. السيّد شبر عبد الله، الأخلاق، ط5، دار المرتضى، بيروت- لبنان، 1988م.

14. السيّد الريشهريّ محمّد، تلخيص السيّد حميد الحسينيّ، منتخب ميزان الحكمة، مكتبة العروة الوثقى، بيروت - لبنان، 1421ه.

15. مكّيّ عليّ السيّد حسين يوسف، مدرسة الدعاء - إثبات العقيدة من الدعاء، ط1، 2007م.

 

147

 

 


136

فهرس المصادر

16. المحدّث ثقة الإسلام الكلينيّ الرازي محمّد بن يعقوب، الكافي، ط1، دار الأسوة للطباعة والنشر، طهران- إيران، 1418ه.

17. جرداق جورج، عليّ وصوت العدالة، ط1 (منقّحة)، دار المهدي، بيروت- لبنان، 2003 - 2004 م.

18. المؤلّف الأمين هيئة محمّد، الأخلاق والآداب الإسلاميّة، ط3، دار المحجّة البيضاء، بيروت- لبنان، 2005م.

19. مجلّة بقيّة الله، دار المعارف، بيروت- لبنان.

20. العلّامة الفيض الكاشاني، سلسلة المحجّة البيضاء، ط1، دار المحجّة البيضاء، 2005م.

21. الشيرازيّ حسن، كلمه الله، ط1، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت- لبنان، 2004م.

22. أمين أحمد، التكامل في الإسلام، ط2، دار المعرفة، بيروت- لبنان، 1986م.

23. السيّد الصدر مهديّ، أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)، ط1، مؤسّسة النعمان، بيروت - لبنان، 1992م.

24. سلسلة العلوم والمعارف الإسلاميّة، الأخلاق من الأربعون حديثاً، ط1، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت- لبنان، 2002م.

 

148


137

فهرس المصادر

25. الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، 1991م.

26. الشيخ المعلّم محسن عليّ، عليّ إمام الدين والدولة، ط1، دار الهادي، بيروت- لبنان، 2006م.

 

149


138
مضامين أخلاقيّة لـ«دعاء كميل»