الوحي حقيقة إلهية أم صناعة إنسانية

﴿... إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-09

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


المقدّمة

المقدّمة

قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1].

 

القرآن الكريم ورسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قرينان لا يفترقان.

 

القرآن كتاب الهداية الكبرى للبشرية جمعاء، ومعجزة اللَّه الخالدة، وحجّة النبيّ المصطفى وأهمّ الدلائل على نبوته. مأدبة إلهيّة دعي الناس جميعًا إليها ليهتدوا بها وليغتنموا منها النجاة والفوز ولقاء اللَّه تعالى.

 

ولقد كان القرآن الكريم والمنزَل إليه - وهو رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم - منذ أن بدأ نزول القرآن والصدع بالرسالة مقصدًا لسهام أعداء الحياة الحقيقة والإنسانية الشريفة، للنيل منه والغمز فيه والحطّ من شأنه، بل والطعن فيه، كلّ ذلك في محاولة وسعي حثيث منهم لصدّ الناس

 

 


[1] سورة الحاقة، الآيات 38 – 43.

 

7


1

المقدّمة

المقدّمة

قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1].

 

القرآن الكريم ورسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قرينان لا يفترقان.

 

القرآن كتاب الهداية الكبرى للبشرية جمعاء، ومعجزة اللَّه الخالدة، وحجّة النبيّ المصطفى وأهمّ الدلائل على نبوته. مأدبة إلهيّة دعي الناس جميعًا إليها ليهتدوا بها وليغتنموا منها النجاة والفوز ولقاء اللَّه تعالى.

 

ولقد كان القرآن الكريم والمنزَل إليه - وهو رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم - منذ أن بدأ نزول القرآن والصدع بالرسالة مقصدًا لسهام أعداء الحياة الحقيقة والإنسانية الشريفة، للنيل منه والغمز فيه والحطّ من شأنه، بل والطعن فيه، كلّ ذلك في محاولة وسعي حثيث منهم لصدّ الناس

 

 


[1] سورة الحاقة، الآيات 38 – 43.

 

7


1

المقدّمة

والإنسانية والمحبّة، يتحيّنون الفرص، ويدسّون السمّ، ويحرّفون المعنى ويلبِسون الأمور، ويثيرون المغالطات، متوهّمون أن عسى أن ينجحوا في صرف الناس لا سيّما الضعفاء عن القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ولكن لأن القرآن عظيم، والرسول كريم عند ربّه، فقد قيّض اللَّه في كلّ زمان علماء ربّانيين حماة لدينه، ذابين عن حرمة كتابه ونبيّه، فكان منهم ولا زال العمل الدؤوب والجهد النبيل في هذا السبيل، وكان النتاج العلمي الرصين؛ كتبًا ومقالات ومحاضرات ومناظرات و.. وعلى هذا الأساس وفي هذا السبيل كان سعي مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية ليكون له سهم في هذا الجهاد، لينال رضا اللَّه سبحانه وتعالى، مرقومًا اسمه - بما يمثّل - في سجل المدافعين عن كتاب اللَّه ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم فينال شرف الدنيا والآخرة.

 

هذا الكتاب (الوحي النبوي، حقيقة إلهيّة أم صناعة إنسانية) تناول العديد من الشبهات التي تندرج تحت عنوان (الصناعة البشرية للقرآن الكريم)، وهي شبهات - كما سيجد القارئ الكريم - في معظمها قديمة متجدّدة، وقد عرض لها بأسلوب علميّ موضوعي، وتعليمي رصين. وإذ يفخر مركزنا بتقديم هذا الكتاب لمكتبتنا الإسلامية، ولمعاهدنا التعليمية يسأل اللَّه تعالى أن يتقبّل جهد القائمين على إعداد هذا الكتاب بأحسن القبول، وأن يوفقّنا وكل العاملين

 

9


2

المقدّمة

في سبيل اللَّه - ذودًا عن الإسلام المحمّدي الأصيل - للمزيد من العطاء في درب جهاد البيان والتبيين، وأن يعزّ أمّتنا الإسلامية والمجاهدين في سبيله، وأن يمنّ علينا بفرج مولانا صاحب العصر والزمان، إنّه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

 

4 ربيع الأول 1444هـ

الموافق لـ 1/10/2022م

والحمد للَّه ربّ العالمين

 

10


3

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

الدرس الأوّل

مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يُعرِّف معنى الوحي، لغةً واصطلاحًا.

2. يعدّد استعمالات لفظة الوحي في القرآن الكريم.

3. يشرح الشبهات المثارة حول مصدر الوحي الإلهيّ.

 

 

11


4

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

•        مفهوم الوحي

الوحي، لغةً: أصل الوحي الإشارة السريعة ولِتضمّن السرعة قيل أمرٌ وحيٌ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة[1].

 

قال ابن فارس: "و، ح، ي: أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء أو غيره، والوحي: الإشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك حتّى عَلِمَه فهو وحي"[2].

 

ووحي اللَّه إلى أنبيائه قد روعي فيه المعنيان الأصليّان لكلمة الوحي، وهما: الخفاء والسرعة، فهذا معنى المصدر. ويُطلَق الوحي على متعلّقه، وهو ما وقع به الوحي، أي اسم المفعول: وهو ما أنزله اللَّه - تعالى - على أنبيائه، وما عرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابًا، أي: تشريعًا يُكتَب، ومنهم من لم يعطه[3]، قال – سبحانه -: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[4].


 


[1] الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، لا.م، 1404هـ، ط2، ص515.

[2]  ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ج2، ص624.

[3] رضا، محمّد رشيد، الوحي المحمّديّ، مؤسَّسة عزّ الدّين للطباعة والنّشر، لا.م، 1352هـ، ط2، ص82.

[4] سورة النجم، الآية 4.

 

13


5

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

•        استعمالات لفظة "الوحي" في القرآن الكريم

استُعمِلت لفظة "الوحي" بمعانٍ عدّة في القرآن الكريم تتفرّع بمجملها من المعنى الأصليّ، أهمّها:

1. تقدير الخلقة بالسُّنن والقوانين: قال - سبحانه -: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[1].

 

وقوله -سبحانه-: ﴿وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ﴾ المراد به أنّه أودع في كلّ سماء السُّنن والأنظمة الكونيّة، وقدّر عليها دوامها.

 

ومن هذا القسم، قوله -تعالى-: ﴿إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا * وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا * وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا﴾[2]،[3].

 

2. الإلهام الغريزيّ: قال -تعالى-: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ﴾[4]. قال السيّد الطباطبائيّ: "وقوله: ﴿رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ﴾ أي ألهمه من طريق غريزته التي أودعها في بنيته"[5].

 

3. الإشارة السريعة على سبيل الرمز: قال -تعالى- في شأن زكريّا (على نبيّنا وآله وعليه السلام): ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾[6].

 

 


[1] سورة فُصِّلت، الآيتان 11 - 12.

[2] سورة الزلزلة، الآيات 1 - 5.

[3] انظر السبحانيّ، الشيخ جعفر، الإلهيّات إلى هدى الكتاب والسنّة والعقل، بقلم الشيخ حسن مكّي العاملي، مؤسَّسة الإمام الصادق عليه السلام، إيران -قمّ المقدّسة، 1430هـ، لا.ط، ج3، ص125.

[4] سورة النحل، الآية 68.

[5] الطباطبائيّ، العلَّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417هـ‏، ط5، ج12، ص292.

[6] سورة مريم، الآية 11.

 

14


6

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

قال الشيخ الطبرسيّ: "(فأوحى) أي: أشار إليهم بيده"[1].

 

4.الإلهام والإلقاء في الرّوع: قال -تعالى-: ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾[2].

 

وقال -عزَّ وجلَّ- في الحواريّين: ﴿وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّ‍ۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ﴾[3].

 

وقال-سبحانه- في الملائكة: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾[4].

 

5. الوَساوِس الشيطانيّة: قال -تعالى-: ﴿وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ﴾[5]، وقال – سبحانه -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[6].

 

6. الوحي النبويّ أو الاصطلاحيّ: قال -تعالى-: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ﴾[7]، وقال -تعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾[8]، وقال – سبحانه -: ﴿كَذَٰلِكَ يُوحِيٓ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[9]، وقال أيضاً: ﴿إِنَّآ


 


[1] الطبرسيّ، الفضل بن حسن، جوامع الجامع، تحقيق: مؤسَّسة النشر الإسلاميّ، 1418هـ، ط1، ج2، ص445.

[2] سورة القصص، الآية 7.

[3] سورة المائدة، الآية 111.

[4] سورة الأنفال، الآية 12.

[5] سورة الأنعام، الآية 121.

[6] السورة نفسها، الآية 112.

[7] سورة يوسف، الآية 3.

[8] سورة الشورى، الآية 7.

[9] السورة نفسها، الآية 3.

 

15


7

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾[1].

 

وقد غلب استعمال الوحي في هذا القسم، فكلَّما أُطلق الوحي وجُرِّد عن القرينة يتبادر منه ما يُلقى إلى الأنبياء من قِبَل اللَّه تعالى.

 

تعريف الوحي الاصطلاحيّ: لا يعدو الوحي الرساليّ أو الاصطلاحيّ مفهومه اللغويّ بكثير، بعد أن كان إعلامًا خفيًّا، وهو اتّصال غيبيّ بين اللَّه ورسوله، يتحقّق على أنحاء ثلاثة، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[2].

 

 فالصورة الأُولى: إلقاء في القلب ونفث في الروع. والثانية: تكليم من وراء حجاب، بخلق الصوت في الهواء بما يبلغ مسامع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا يُرى شخصُ المتكلّم. والثالثة: إرسال ملك الوحي فيبلّغه إلى النبيّ، إمّا عِيانًا يراه، وإمّا أنَّه لا يراه ولكن يستمع إلى رسالته.

 

 إذًا، فالفارق بين الوحي الرساليّ وسائر الإيحاءات المعروفة، هو جانب مصدره الغيبيّ اتّصالًا بما وراء المادّة. فهو إيحاء من عالم فوق[3].

 

•        أنواع الشبهات حول مصدر الوحي

نعرضها هنا باختصار، وسنتناول كلًّا منها منفردةً بالتّفصيل.

1. شبهة النبوغ: وملخّصها أنّ ما أتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو حصيلة نبوغ وعبقريّة


 


[1] سورة النّساء، الآية 163.

[2] سورة الشورى، الآية 51.

[3] انظر: معرفة، محمّد هادي، تلخيص التمهيد، مؤسَّسة التّمهيد، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، إيران- قمّ المقدّسة، شارع انقلاب، لا.ت، ط3، ج1، ص25.

 

16


8

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

بشريّة، وشأنه في ما أتى به شأن جميع المصلحين من الفلاسفة والحكماء والمفكّرين الذين أفنوا أعمارهم في الدّعوة إلى أخلاق ونُظُم وتشريعات إصلاحيّة متقدّمة في المضمون والمستوى عمّا كانت عليه تشريعات المجتمعات التي عاشوا فيها.

 

هذه الشبهة وإن حاكها المستشرقون بهذا الثوب القشيب غير أنّ جذور هذا القول تمتدّ إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليّون يحسّون بجاذبيّة القرآن وبلاغته الخلّابة، فينسبونه إلى الشعر الّذي كان الحرفة الرائجة عندهم، ويتبارز فيه النوابغ منهم، فكانوا يقولون: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾[1]. ويردّ عليهم القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾[2]، وبقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾[3]،[4].

 

2. شبهة الوهم: وهي قديمة كذلك، ومضمونها أنّ الوحي هو أوهام وتخيّلات حصلت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نتيجة حالة مرضيّة جسديّة أو نفسيّة أو نتيجة شعوذة وكهانة وما شابه ذلك. قال - تعالى - ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[5] ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾[6] ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾[7].

 

3. شبهة الكذب: وهي شبهة قديمة حديثة تبتني على أنّ الوحي من اختلاق النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لأغراض شخصيّة كالجاه والشهرة والمال. قال - تعالى -: ﴿أَمْ يَقُولُونَ


 


[1] سورة الأنبياء، الآية 5.

[2] سورة الحاقة، الآية 41.

[3] سورة يس، الآية 69.

[4] انظر: السبحانيّ، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص132.

[5] سورة الحاقّة، الآية 42.

[6] سورة الحجر، الآية 6.

[7] سورة الطور، الآية 29.

 

 

17


9

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾[1].

 

4. شبهة الاقتباس عن الأديان السابقة والشعر الجاهليّ: وهي شبهة قديمة أخبر عنها القرآن الكريم نفسه ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾[2]، وتكرّرت بأساليب وأشكال مختلفة على ألسنة المستشرقين فعدّوا القرآن الكريم امتدادًا للبيئة الجاهليّة تارة وادّعوا أنّ مصادره من الحنيفيّة الإبراهميّة تارة أو النصرانيّة أو اليهوديّة تارة أخرى.

 

5. شبهة الوحي النفسيّ: خلاصة هذه الشبهة أنّ الوحي من سنخ الإلهام الذي يحصل نتيجة تجلّي الأحوال الروحيّة كالذي يحصل عند المرتاضين أو نتيجة ظهور الشخصيّة الباطنيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما يحصل لدى بعض الأشخاصفي حالات النوم العاديّ أو التنويم المغناطيسيّ.

 

6. شبهة بشريّة ألفاظ القرآن: ويقرّ أصحاب هذا الرأي بسماويّة معارف القرآن الكريم ومعانيه لكنّهم يدّعون أنّ القالب اللفظيّ لهذه المعارف من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وتنسب ريادة هذه النّظريّة إلى المتكلِّم المعروف عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب البصريّ[3]، وظهرت في الكتابات المعاصرة في مؤلّفات شاه وليّ اللَّه دهلويّ والسيّد أمير عليّ الهنديّ.


 


[1] سورة السجدة، الآية 3.

[2] سورة النّحل، الآية 103.

[3] قال الذهبيّ: "رأس المتكلّمين بالبصرة في زمانه، أبو محمّد، عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب القطّان البصريّ صاحب التصانيف في الردّ على المعتزلة، وربّما وافقهم. أخذ عنه الكلام داود الظاهريّ، قاله أبو الطاهر الذهليّ. وقيل: إنّ الحارث المحاسبيّ أخذ علم النظر والجدل عنه أيضًا. وكان يلقَّب كلابًا؛ لأنّه كان يجرّ الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته. وأصحابه هم الكلابيّة، لحق بعضهم أبو الحسن الأشعري، وكان يردّ على الجهميّة. انظر: الذهبي، محمّد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط، تحقيق: حسين الأسد، مؤسَّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1413هـ - 1993م، ط9، ج11، ص174.

 

18


10

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

7. شبهة تاريخيّة القرآن الكريم: ملخّص هذه الشبهة (التي تأثر منظّروها بنظرة الفكر الغربيّ تجاه الكتاب المقدّس بعهديه (القديم والجديد)) أنّ النصّ الدينيّ الإسلاميّ، ومنه القرآن الكريم، هو كائن تاريخيّ وُلد في ظروف تاريخيّة خاصّة من حيث الزمان والمكان فتأثّر بها كما يتأثّر أيّ منتج فكريّ لأيّ مفكّر بظروف بيئته المكانيّة والزمانيّة؛ ولذا، بنى المؤمنون بهذه النظريّة من العرب والمسلمين على ضرورة قراءة القرآن الكريم في إطار زمانه ومكانه وعدم تعميم أحكامه إلى عصرنا الحاضر. وعلى هذا الأساس اعتمدوا قراءات تأويليّة هرمينوطيقيّة[1] للنصّ القرآنيّ نسخوها عن الفكر التأويليّ الغربيّ لمفكّرين غربيّين أمثال "شلايرماخر"[2] و "هايدجر"[3]. وكان من أبرز من نظّر لصناعة الفكر التأويليّ بين المسلمين "محمّد أركون" و "نصر حامد أبو زيد" و "حسن حنفيّ" و "محمّد الجابريّ".

 

8. شبهة التجربة الدينيّة: وهي شبهة أثارها بعض المفكّرين المسلمين الحداثيّين، ومضمونها أنّ تجربة الوحي تجربة مسانخة لتجارب الصوفيّين والعرفاء، وغاية الفرق بينهما أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لا يُبقي هذه التجربة في إطارها الشخصيّ -وهو ذاته المقدّسة- بل ينطلق من هذه التجربة ليغيّر واقع أمّته والعالم. والدّين عبارة عن مجموعة المواجهات والمواقف التدريجيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهو بالنتيجة حاصل التقاء الوحي أو التجربة الدينيّة الباطنيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والظروف والأحداث التاريخيّة. وقد برزت هذه المقولة بشكل واضح لدى الباحث الإيرانيّ عبد الكريم سروش في مقالته "بسط التجربة النبويّة".

 

 


[1] Hermeneuein هو اﻟﻔﻌﻞ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲّ الذي ترجع إليه ﻛﻠﻤﺔ "ﻫﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﺎ" ويعني "يفسّر"، واصطلاحًا تعني الهرمنيوطيقيا علم التأويل. وقد مرّت الكلمة بتطوُّرات دلاليّة كبيرة بدءًا من اختصاصها بتأويل الكتاب المقدّس وليس انتهاءً بفقه اللغة العامّ وملحقاته. انظر: مصطفى، عادل، فهم الفهم - مدخل إلى الهرمنيوطيقيا نظريّة التأويل من أفلاطون إلى جادامر، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م، ط1، ص15، 39.

[2] فريدريك شلايرماخر، فيلسوف ولاهوتي ألماني (1768م - 1834م) يعدّ مؤسِّس الهرمنيوطيقيا العامّة.

[3] مارتن هايدجر (1889م - 1976م)، فيلسوف ألمانيّ يعدّ من مؤسّسي المدرسة التأويليّة الحديثة.

 

19


11

الدرس الأوّل: مفهوم الوحي وأنواع الشبهات حوله

المفاهيم الرئيسة

- الوحي، لغةً: أصل الوحي الإشارة السريعة ولِتضمّن السرعة قيل أمر وحيٌ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة.

 

- استُعملت لفظة "الوحي" بمعانٍ عدّة في القرآن الكريم تتفرّع بمجملها من المعنى الأصليّ، أهمّها: تقدير الخلقة بالسُّنن والقوانين - الإلهام الغريزيّ -الإشارة السريعة على سبيل الرمز - الإلهام والإلقاء في الرّوع -الوساوس الشيطانيّة - الوحي النبويّ أو الاصطلاحيّ.

 

- تعريف الوحي الاصطلاحيّ: هو اتّصال غيبيّ بين اللَّه ورسوله، يتحقّق على أنحاء ثلاثة، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾

 

- أنواع الشبهات حول مصدر الوحي: 1- شبهة النبوغ، 2- شبهة الوهم، 3- شبهة الكذب، 4- شبهة الاقتباس من الأديان السابقة والشعر الجاهليّ، 5- شبهة الوحي النفسيّ، 6- شبهة بشريّة ألفاظ القرآن الكريم، 7- شبهة تاريخيّة القرآن الكريم، 8- شبهة التجربة الدينيّة.

 

20

 


12

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

الدرس الثاني

الشبهة الأولى: النّبوغ

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يحلّل التعريف الكلاميّ للمعجزة.

2. يعرف أوجه إعجاز القرآن الكريم.

3. يتعرّف شبهة كون الوحي الإلهيّ يرجع إلى عبقريّة النبيّ الموحى له والردّ عليها.

 

 

21


13

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

•        تعريف المعجزة

"المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالدَعوى والتحدّي، مع عدم المعارضة، ومطابقة الدعوى"[1].

 

ونكتشفُ من الشرط الأوّل أنّ كلّ ظاهرة يقف الناس العاديّون بالطرائق العاديّة، أو العلماء خاصّة بالطرائق العلميّة، على عللها وأسبابها لا تكون معجزة، لأنّه في هذه الصورة لم يقع أيّ شيء على خلاف العادة والمألوف ليدلّ على مزيّة في الأنبياء.

 

فإنّ مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علّةٌ عاديّةٌ يعرفها جميعُ الناس أو سببٌ علميّ خاصٌ يعرفه علماء ومتخصِّصو ذلك العلم، يمكن أن يقوم بإيجاد أمثالها جمع من الناس، فلا تكون حينئذ معجزة. من ثَمّ فإنّ هذه الأعمال الخارقة للعادة لا تحصل إلّا بإذن إلهيّ خاصّ، ولا تكون بمتناول أولئك الأفراد الذين لا علاقة لهم باللَّه -تعالى-. وعلى هذا فالمعجزة لها ميزتان:

إحداهما: أنّها غير قابلة للتعليم والتعلّم.


 


[1] السبحانيّ، الشيخ جعفر، سيّد المرسلين، تعريب جعفر الهادي، جماعة المدرِّسين، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج1، ص173.

 

 

23


14

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

والأخرى: أنّها لا يمكن أن يتسنّى لقوّة أخرى أن تأتي بأفضل منها أو مثلها، وهو معنى عدم المعارضة.

 

ولا يعني هذا أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أيّة علّة أصلًا، بل هي تستند إلى علّة غير متعارف عليها وغير عاديّة.

 

ويُقصَد بالشرط الثاني (أي كون الإعجاز مقرونًا بالدعوى) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوّة والسفارة من جانب اللّه - تعالى -، ويأتي بالمعجزة دليلًا على صحّة دعواه هذه؛ إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الدينيّ لفظ الكرامة كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا فإذا سألها: من أين لكِ هذا؟

 

قالت: هو من عند اللَّه.

 

ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الإعجاز مقرونًا بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله، وعجزهم عن هذه المعارضة وعدم قدرتهم على الإتيان بمثله مطلقًا؛ إذ في هذه الصورة يتّضح أَنَّ النبيّ يعتمد على قوّة إلهيّة لا متناهية، خارجة عن قدرة البشر العاديّين.

 

وأمّا الشرط الرابع فيعني أنّ الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملًا إعجازيًّا ويستحقّ وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الإلهيّ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما يدّعي أنّه قادر على الإتيان به.

 

فلو قال: سأجعلُ هذه البئر الجافة الفارغة من الماء تفيض بالماء بإشارة إعجازيّة ثمّ يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقًّا وأمّا إذا قال: سأجعل هذا الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ بالإعجاز ولكن جفَّ ماء تلك البئرُ على عكس ما قال لم يكن ذلك إعجازًا، بل كان تكذيبًا المدَّعية.

 

هذه هي خلاصة ما يمكن أن يُقال عن تعريف المعجزة والإعجاز، وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ[1].


 


[1] انظر: السبحانيّ، سيّد المرسلين، مصدر سابق، ج1، ص175-173؛ اليزديّ، محمّدتقيّ، دروس في العقيدة الإسلاميّة، دارالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بيروت - لبنان، 2008م، ط8، ج2، ص259.

 

24


15

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

•        مقدّمة حول إعجاز القرآن الكريم

لقد تحدّى القرآن الكريم - وما زال - المشكّكين بمصدره الإلهيّ أن يأتوا بسورة من مثله ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[1] بعد أن عجزوا عن الإتيان بمثله، بل بعشر سور من مثله. ولو أنّ المتربّصين بدين الإسلام (منذ يومه الأوّل إلى يومنا هذا وابتداء من بلغاء مكّة وليس انتهاء بأعاجم المستشرقين) استطاعوا أن يأتوا ولو بقدر سورة الكوثر لأثبتوا بطلان هذا الدّين ووفّروا على أنفسهم كلّ العناء والأموال والحروب.

 

وكان أوّل ما ظهر من إعجاز القرآن الكريم إعجازه البيانيّ (بالمعنى الأعمّ غير الاصطلاحيّ) الذي عُني بالجانب الشكليّ للآيات والسور، أي القوالب اللفظيّة من حيث استعمال المفردات وفي سياق الجمل والعبارات وتأثير ذلك في البلاغة والنّظم والأسلوب، وهذا الجانب هو الذي برز مع بداية نزول أوائل السّور المكّيّة القصيرة نسبيًّا، التي تتحدّى - بأسلوبها الجديد الذي لم يألفه العرب - مفخرة أهل ذلك الزمان وبضاعتهم الثمينة التي اشتهروا بها، ألا وهي الفصاحة والبلاغة.

 

ومن الأمثلة التي ذُكرت للإعجاز بالنّظم ما ذكره الجرجانيّ في كتابه "دلائل الإعجاز":

"هل تشكّ إذا فكّرت في قوله - تعالى -: ﴿وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[2]، فتجلّى لك فيها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنَّك لم تجدْ ما وجدت من المزيّة الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلّا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلمات بعضها ببعض، وأنّه لم يعرض لها الحسن والشرف إلّا من حيث لاقت الأولى الثانية،


 


[1] سورة البقرة، الآية 23.

[2] سورة هود، الآية 44.

 

25


16

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

والثالثة الرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخرها، وأنّ الفضل تَناتَجَ ما بينها وحصل من مجموعها؟

 

إذا شككت فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أُخِذت من بين أخواتها وأُفرِدت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه، وهي في مكانها من الآية؟

 

قل: ﴿ٱبۡلَعِي﴾ وعُدَّها وحدها، من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك عُدَّ سائر ما يليها.

 

وكيف بالشكّ في ذلك؟ ومعلوم أنّ مبدأ العظمة هو في أن نُوديت الأرض، ثمّ أُمرت، ثمّ كان النداء بـ: "يا" دون "أيّ"، نحو: يا أيّتها الأرض، ثمّ أُمرت، ثمّ إضافة الماء إلى الكاف من دون أن يقال: ابلعي الماء، ثمّ أُتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصّها، ثمّ قيل: ﴿وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ﴾ فجاء الفعل مبنيًّا للمفعول، وتلك الصيغة تدلّ على أنّه لم يَغِضْ إلّا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثمّ تأكيد ذلك وتقريره بقوله - تعالى -: ﴿وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ﴾، ثمّ ذكر فائدة هذه الأمور، وهو ﴿وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ﴾، ثمّ إظهار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثمّ مقابلة "قِيلَ" في الخاتمة بـ: "قِيلَ" في البداية.

 

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملأك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصوُّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلُّقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، أم كلّ ذلك لما بَيْنَ معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب؟"[1].

 

وبمرور الزمن وتقادم الأيّام بدأت تظهر جوانب الإعجاز المرتبطة بالمضمون والمعنى في القرآن الكريم، وذُكر في ذلك عدّة أوجه:


 


[1] الجرجانيّ، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمّد، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: محمود محمّد شاكر، مكتبة الخانجي - مطبعة المدني، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص46-45.

 

26


17

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

1. الإخبار عن المغيّبات: أخبر القرآن الكريم في عدّة من آياته عن أمور مهمّة، تتعلّق بما يأتي من الأنباء والحوادث، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقًا، لم يخالف الواقع في شيء منها. ولا شكّ في أنّ هذا من الإخبار بالغيب، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوّة. فمن الآيات التي أنبأت عن الغيب قوله - تعالى -:

﴿وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[1].

 

وهذه الآية نزلت في وقعة بدر، وقد وعد اللَّه فيها المؤمنين بالنصر على عدوّهم وبقطع دابر الكافرين، والمؤمنون على ما هم عليه من قلّة العدد والعدّة، حتّى إنّ الفارس فيهم كان المقداد، أو هو والزبير بن العوّام والكافرون هم الكثيرون الأقوياء الأشدّاء، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذوو شوكة، وأنّ المؤمنين أشفقوا من قتالهم، ولكن اللَّه يريد أن يحقّ الحقّ بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده، ونصرهم على أعدائهم، وقطع دابر الكافرين.

 

ومنها قوله - تعالى -: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ * إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ * ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ﴾[2].

 

فإنّ هذه الآية الكريمة ﴿إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ﴾ نزلت بمكّة في بدء الدعوة الإسلاميّة، وقد أخرج البزّار والطبرانيّ في سبب نزولها عن أنس بن مالك: أنّها نزلت عند مرور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أناس بمكّة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: "هذا الذي يزعم أنّه نبيّ ومعه جبرائيل"[3]. فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة اللَّه له، وخذلانه للمشركين الذين ناوأوه واستهزأوا بنبوّته، واستخفّوا بأمره.

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 7.

[2] سورة الحجر، الآيات 94 - 96.

[3] السيوطيّ، جلال الدّين أبو عبد الرحمن، أسباب النّزول المسمّى "لباب النّقول في أسباب النّزول"، مؤسَّسة الكتب الثقافيّة، الصنائع، بيروت - لبنان، 2002م، ط1، ص155.

 

27


18

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط شوكة قريش، وانكسار سلطانهم، وانتصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم.

 

ونظير هذه الآية قوله -تعالى -: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[1]، وقوله -تعالى- في رجوع النبيّ إلى مكّة بعد الهجرة: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  ﴾[2]، وقوله – تعالى -: ﴿لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ﴾[3]،[4].

 

2. الإعجاز بعدم الاختلاف فيه: يقول العلّامة الطباطبائيّ: "وقد تحدّى أيضًا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال -تعالى-: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾[5]، فإنّ من الضروريّ أنّ النشأة نشأة المادّة والقانون الحاكم فيها قانون التحوّل والتكامل، فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلّا وهو متدرّج الوجود متوجّه من الضعف إلى القوّة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الأفعال والآثار، ومن جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحوّل ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسّل إليها بالفكر والإدراك، فما من واحد منّا إلّا وهو يرى نفسه كلّ يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في أقواله الصادرة عنه في الحين الأوّل، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.

 

وهذا الكتاب جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نجومًا وقرأه على الناس قطعًا قطعًا في مدّة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة؛ في مكّة والمدينة، في


 


[1] سورة الصف، الآية 9.

[2] سورة القصص، الآية 85.

[3] سورة الفتح، الآية 27.

[4] انظر: الخوئيّ، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1975م، ط4، ص70-67؛ وانظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص67.

[5] سورة النساء، الآية 82.

 

28


19

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

الليل والنهار، والحضر والسفر، والحرب والسلم، في يوم العسرة وفي يوم الغلبة، ويوم الأمن ويوم الخوف، ولإلقاء المعارف الإلهيّة وتعليم الأخلاق الفاضلة وتقنين الأحكام الدينيّة في جميع أبواب الحاجة، وليس فيه أدنى اختلاف في النَظم المتشابه، ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ﴾، ولم يقع في المعارف التي ألقاها، والأصول التي أعطاها اختلاف يتناقض بعضها مع بعض، وتنافي شيء منها مع آخر، فالآية تفسّر الآية وبعضه يبيّن بعضه، والجملة تصدّق الجملة كما قال عليّ عليه ال: "ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض"[1]. ولو كان من عند غير اللَّه لاختلف النظم في الحسن والبهاء، والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحّة، ومن حيث الإتقان والمتانة"[2].

 

3. إعجاز القرآن بتحقيق مسائل علميّة كانت مجهولة للبشر في عصر النّزول: اشتمل القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلميّة التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثمّ عُرِفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحقّقين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن اللَّه في الخلق.

 

فمن ذلك قوله -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾[3] وهو تصريح بأنّ السماوات والأرض كانتا مادّة واحدة ففتقها الخالق وخلق منها هذه الأجرام السماويّة التي تظلّهم، وهذه الأرض التي تقلّهم، ولعلّ هذه المادّة هي المبيّنة في قوله -تعالى-: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[4]. وهذا شيء لم يكن يعرفه العرب ولا غيرهم من أهل الأرض.


 


[1] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد الرضيّ بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، بيروت - لبنان، لا.ن، 1387هـ - 1967م، ط1، خطبة 133، ص192.

[2] العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص68.

[3] سورة الأنبياء، الآية 30.

[4] سورة فُصِّلت، الآية 11.

 

29


20

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

وكذلك بناء الحياة البيولوجيّة لكلّ الأشياء من الماء ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ﴾[1].

 

ومنه قوله -تعالى-: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[2] فهو موافق لما ثبت في الهيئة الفلكيّة، مخالف لما كان يقوله المتقدّمون[3].

 

4. إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه: تعرّض القرآن الكريم للجليل والدقيق من المعارف الإلهيّة والفلسفيّة والأخلاق الفاضلة والقوانين الدينيّة الفرعيّة، وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم، وبيان لطريق التشريع السويّ لها، وقد حفظ ذلك كلّه فيه بكلمه وحروفه منذ أربعة عشر قرنًا، ثمّ عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون عن أن تنقض بناء آية من آياته، أو تبطل حكمًا من أحكامه، أو تكذّب خبرًا من أخباره.

 

وقد بيّن -تعالى- بقاءَها جميعًا وانطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور بقوله -تعالى-: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[4]، وقوله -تعالى-: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[5]. وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر -ولا سيّما ممّن نشأ بين أمّة جاهلة لا نصيب لها من المعارف-، ولذلك نجد جُلَّ من ألّف في علم من العلوم النظريّة، لا تمضي على مؤلَّفه مدّة حتّى يتّضح بطلان كثير من آرائه. فإنّ العلوم النظريّة كلّما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحًا، وظهر للمتأخّر خلاف ما أثبته


 


[1] سورة الأنبياء، الآية 30.

[2] سورة يس، الآيات 38 - 40.

[3] انظر: رشيد رضا، محمّد، تفسير المنار، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1971م، لا.ط، ج1، ص176-175.

[4] سورة فصلت، الآية 42.

[5] سورة الحجر، الآية 9.

 

30


21

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

المتقدّم. وقد يطرأ على الواقع تغيير أو تكامل يقتضي تغيير القانون الحاكم عليه، أمّا القرآن فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ ولا يقضي عليه قانون التحوّل والتكامل[1].

 

5. التحدّي بمن أُنزِل عليه القرآن: نشأصلى الله عليه وآله وسلم كأكثر قومه أُمِّيًّا[2]، لا عهد له بالقراءة ولا الكتابة، قال -تعالى-: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[3]. وقد انصرَف في أُمِّيَّته عن اكتساب أيّ شيء من علوم البشر من قومه العرب الأمِّيّين ومن أهل الكتاب، حتّى إنّه لم يكن له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان من شعر، وخطابة، ومفاخرة، ومنافرة؛ إذ كانوا يؤمُّون الأسواق في موسم الحجّ من جميع النواحي وأشهرها عكاظ؛ لإظهار بلاغتهم وبراعتهم. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتّى لم يأت بشيء من شعر أو نثر نحوًا من أربعين سنة، وهو ثلثا عمره، لا يحوز تقدّمًا ولا يرِد عظيمة من عظائم المعالي، ثمّ أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحول العلماء والأحبار والرّهبان من مواضيعَ كثيرة العدد، متباعدة الأغراض من الإلهيّات والمعارف، وبدء الخلق والمعاد، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبليس والجنّ، والفلكيّات، والأرض،


 


[1] انظر: السيد الخوئيّ، البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ص67؛ والعلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص64؛ ورشيد رضا، تفسير المنار، مصدر سابق، ج1، ص174-173.

[2] روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن الإمام الجواد عليه السلام عندما سأله جعفر بن محمّد الصّوفيّ عن علّة تسمية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالأمّيّ، فقال عليه السلام: "ما يقول الناس" قلت يزعمون أنّه إنّما سُمِّي الأميّ لأنّه لم يحسن أن يكتب فقال عليه السلام:كذبوا عليهم لعنة اللَّه أنّى ذلك واللَّه يقول في محكم كتابه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ فكيف كان يُعلّمهم ما لا يحسن، واللَّه لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب باثنتين وسبعين أو قال بثلاثة وسبعين لسانًا وإنّما سمّي الأميّ لأنّه كان من أهل مكّة ومكّة من أمّهات القرى وذلك قول اللَّه -عزَّ وجلَّ- ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ﴾. الصدوق، محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، طبع سنة 1966م، ج1، ص125. ولذا بنى بعض العلماء أنّ معنى الأمّيّة هو عدم تعلّم القراءة والكتابة من بشر، وهو القدر المتيقّن جمعًا بين الروايات والنقول التاريخيّة.

[3] سورة العنكبوت، الآية 48.

 

31


22

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

والتاريخ، وشؤون فريق من الأنبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، والأمثال والاحتجاجات والأخلاقيّات، والحقوق العائليّة، والسياسات المدنيّة، والنُّظُم الاجتماعيّة والحربيّة، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك...فهل يمكن أن يصدر هذا الاحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل أُمّيّ لم يتربّ إلّا في حجر قوم حظّهم من الإنسانيّة على مزاياها التي لا تُحصَى، وكمالاتها التي لا تنتهي، أن يرتزقوا بالغارات والغزوات ونهب الأموال، وأن يئدوا البنات ويقتلوا الأولاد خشية إملاق، ويفتخروا بالآباء وينكحوا الأمَّهات ويتباهوا بالفجور ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل، وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة أذلّاء لكلّ مستذلّ وخطفة لكلّ خاطف، فيومًا لليمن ويومًا للحبشة ويومًا للروم ويومًا للفرس[1].

 

•        تفصيل الشبهة

نجد مصاديق هذه الشبهة في عدّة موارد، منها ما جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة تحت مادّة (اللَّه) الفقرة (ج) حيث يقول المستشرق الأميركيّ دانكن بلاك ماك دانلد[2]: "وقد استطاع محمّد بفضل خياله المتوقّد أنْ يصف اللَّه بصفات واضحة معيّنة، مثل الأوّل والآخر، والظاهر والباطن[3]، وأنّه القيّوم[4]"[5].

 

[1] لاحظ: الشيخ السبحاني، الإلهيّات إلى هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص370-368.

[2] Duncan Black Macdonald 1362هـ - 1943م مستشرق أميركيّ من أشدّ المتعصّبين ضدّ الإسلام، يصدر في كتاباته عن روح تبشيريّة متأصّلة، من أوسع المستشرقين اطّلاعًا على الدين الإسلاميّ، ومن كبار محرّري (دائرة المعارف الإسلاميّة)، ومن كتبه: (تطوّر علم الكلام والفقه والنظريّة الدستوريّة في الإسلام) صدر سنة 1908م.

تعلّم العربيّة والعبريّة والسريانيّة، وله محاضرات ومقالات كثيرة بالانجليزيّة عن الثقافة الإسلاميّة في أكثر نواحيها، ونشر بالانجليزيّة (فهرس المخطوطات العربيّة والتركيّة في مكتبة نيوبري بشيكاغو)، وعُني بكتاب (ألف ليلة وليلة) فجمع منه نسخًا لا توجد عند غيره. (انظر مجلّة المجمع العلميّ 9: 95 و 471، ودليل الأعارب145. عن الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) م2. وعن د. البهيّ، محمّد - الفكر الإسلاميّ الحديث وصِلته بالاستعمار الغربيّ - ص556).

[3] سورة الحديد الآية 3.

[4] سورة البقرة، الآية 256؛ سورة آل عمران، الآية 1.

[5] دائرة المعارف الإسلاميّة، ج2، ص562.

والتاريخ، وشؤون فريق من الأنبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، والأمثال والاحتجاجات والأخلاقيّات، والحقوق العائليّة، والسياسات المدنيّة، والنُّظُم الاجتماعيّة والحربيّة، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك...فهل يمكن أن يصدر هذا الاحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل أُمّيّ لم يتربّ إلّا في حجر قوم حظّهم من الإنسانيّة على مزاياها التي لا تُحصَى، وكمالاتها التي لا تنتهي، أن يرتزقوا بالغارات والغزوات ونهب الأموال، وأن يئدوا البنات ويقتلوا الأولاد خشية إملاق، ويفتخروا بالآباء وينكحوا الأمَّهات ويتباهوا بالفجور ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل، وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة أذلّاء لكلّ مستذلّ وخطفة لكلّ خاطف، فيومًا لليمن ويومًا للحبشة ويومًا للروم ويومًا للفرس[1].

 

•        تفصيل الشبهة

نجد مصاديق هذه الشبهة في عدّة موارد، منها ما جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة تحت مادّة (اللَّه) الفقرة (ج) حيث يقول المستشرق الأميركيّ دانكن بلاك ماك دانلد[2]: "وقد استطاع محمّد بفضل خياله المتوقّد أنْ يصف اللَّه بصفات واضحة معيّنة، مثل الأوّل والآخر، والظاهر والباطن[3]، وأنّه القيّوم[4]"[5].

 


[1] لاحظ: الشيخ السبحاني، الإلهيّات إلى هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص370-368.

[2] Duncan Black Macdonald 1362هـ - 1943م مستشرق أميركيّ من أشدّ المتعصّبين ضدّ الإسلام، يصدر في كتاباته عن روح تبشيريّة متأصّلة، من أوسع المستشرقين اطّلاعًا على الدين الإسلاميّ، ومن كبار محرّري (دائرة المعارف الإسلاميّة)، ومن كتبه: (تطوّر علم الكلام والفقه والنظريّة الدستوريّة في الإسلام) صدر سنة 1908م.

تعلّم العربيّة والعبريّة والسريانيّة، وله محاضرات ومقالات كثيرة بالانجليزيّة عن الثقافة الإسلاميّة في أكثر نواحيها، ونشر بالانجليزيّة (فهرس المخطوطات العربيّة والتركيّة في مكتبة نيوبري بشيكاغو)، وعُني بكتاب (ألف ليلة وليلة) فجمع منه نسخًا لا توجد عند غيره. (انظر مجلّة المجمع العلميّ 9: 95 و 471، ودليل الأعارب145. عن الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) م2. وعن د. البهيّ، محمّد - الفكر الإسلاميّ الحديث وصِلته بالاستعمار الغربيّ - ص556).

[3] سورة الحديد الآية 3.

[4] سورة البقرة، الآية 256؛ سورة آل عمران، الآية 1.

[5] دائرة المعارف الإسلاميّة، ج2، ص562.

 

32


23

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

ويقول العلّامة الطباطبائيّ في توضيح هذه الشبهة: "وقد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة والحقائق الدينيّة على ما وصفته العلوم الطبيعيّة من أصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة، فقد رأوا أنّ الإدراكات الإنسانيّة خواصّ ماديّة مترشّحة من الدماغ وأنّ الغايات الوجوديّة وجميع الكمالات الحقيقيّة استكمالات فرديّة أو اجتماعيّة مادّيّة.

 

فذكروا أنّ النبوّة نوع نبوغ فكريّ وصفاء ذهنيّ يستحضر به الإنسان المسمّى نبيًّا كمال قومه الاجتماعيّ ويريد به أن يخلّصهم من ورطة الوحشيّة والبربريّة إلى ساحة الحضارة والمدنيّة، فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبّقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنّن لهم أصولًا اجتماعيّة وكلّيّات عمليّة يستصلح بها أفعالهم الحيويّة، ثمّ يتمّم ذلك بأحكام وأمور عباديّة ليستحفظ بها خواصّهم الروحيّة؛ لافتقار الجامعة الصالحة والمدنيّة الفاضلة إلى ذلك. ويتفرّع على هذا الافتراض:

أوّلًا: أنَّ النبيّ إنسان متفكّر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعيّ.

 

ثانيًا: أنَّ الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

 

ثالثًا: أنَّ الكتاب السماويّ مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزّهة عن التهوّسات النفسانيّة والأغراض النفسانيّة الشخصيّة.

 

رابعًا: أنَّ الملائكة التي أخبر بها النبيّ قوى طبيعيّة تدبّر أمور الطبيعة أو قوى نفسانيّة تفيض كمالات النفوس عليها، وأنَّ روح القدس مرتبة من الروح الطبيعيّة المادّيّة تترشّح منها هذه الأفكار المقدّسة، وأنّ الشيطان مرتبة من الروح تترشّح منها الأفكار الرديّة، وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع. وعلى هذا الأسلوب فسّروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والكتاب والحساب والجنّة والنار، بما يلائم الأصول المذكورة.

 

33


24

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

خامسًا: أنّ الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحوّلها.

 

سادسًا: أنّ المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامّة من التبدّل بتحوّل الأعصار، أو لحفظ مواقع أئمّة الدين ورؤساء المذهب من السقوط والاضمحلال، إلى غير ذلك ممّا أبدعه قوم وتبعهم آخرون"[1].

 

•        مناقشة الشبهة

يُلاحَظ في هذه النظريّة عدّة أمور:

1. أنَّ تفسير الوحي بالنبوغ والعبقريّة لا يعدو كونه تكذيبًا بشكل مهذّب غير مباشر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفي دعواه نسبة القرآن الكريم إلى اللَّه -تعالى-.

 

2. إنّ النوابغ والعباقرة، وإن خطَوا خطوات جبّارة في مسيرة أممهم، لا بدّ لهم من البناء على المنجزات والاطّلاع على النتائج في العصور السابقة، ولا يمكن بحسب التتبّع والاطّلاع على تاريخ العلوم لعالِم أو مخترع أو غير ذلك أن يحقّق طفرةً علميّة من دون الاستفادة من التراث العلميّ للعصور السابقة.

 

ويظهر، بأدنى نظرة ساذَجة إلى السيرة النبويّة الشريفة، أنّ من قطعيّاتها عدم أخذ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أيّ علم عن أيّ شخص من الخلق. هذا، مع أنّ المتوافر من العلوم في ذلك العصر (عند أهل الكتاب وغيرهم) وفي تلك البيئة خصوصًا، لو قيس بالقرآن الكريم لكان كقياس الثرى بالثريّا، وهو الكتاب الذي بنَظمه ولفظه وحدهما، أظهر فصحاء مكّة وبلغاء العرب كأعاجم أعياء.

 

3. أنَّ النوابغ - وإن علا شأنهم - لا يلبث أن يظهر في أعمالهم وكتاباتهم، مع


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص98-09.

 

34


25

الدرس الثاني: الشبهة الأولى: النّبوغ

تطوّر العلوم وكثرة التدقيق والتحقيق -  ولو بعد فترة من الزمن - مظاهر القصور والاختلاف، وهذه هي السنّة الظاهرة في علوم البشر، ولا يُعاب على أحد منهم في ذلك وإن كان هدف هؤلاء بيان تلك المسائل والعلوم نفسها، لأنّه ممّا لا يسلم منه البشر.

 

والقرآن الكريم -وإن لم يكن يهدف إلى بيان فنّ من الفنون أو علم من العلوم بعينه- قد تعرّض لكثير من المسائل في شتّى العلوم وحفل بالتشريعات وقصص الماضين وأخبارهم ونبوءات المستقبل وأحداثه بنظم ولفظ معجز مع نزوله نجومًا على مدى ثلاث وعشرين سنة. فهل يجتري عاقل (غير مؤيَّد بالغيب) على أن يأتي بكتاب يدّعيه هدًى للعالمين، ثمّ يودعه أخبارًا في الغيب ممّا مضى ويُستقبل، وفيمن خلت من الأمم وفيمن سيقدم منهم، لا بالواحد والاثنين بل في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيّبات المستقبلة، ثمّ لا يتخلّف شيء منها عن صراط الصدق؟

 

وهل يتمكّن إنسان، وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادّيّة، والدار دار التحوّل والتكامل، أن يداخل في كلّ شأن من شؤون العالم الإنسانيّ، ويلقي إلى الدنيا معارف وعلومًا وقوانين وحِكَمًا ومواعظ وأمثالًا وقصصًا في كلّ ما دقّ وجلّ، ثمّ لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال والنقص وهي متدرّجة الوجود متفرّقة الإلقاء وفيها ما ظهر ثمّ تكرّر وفيها فروع متفرّعة على أصولها؟ هذا مع ما نراه من أنّ كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة[1].


 


[1] انظر: العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص63.

 

35


26

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

المفاهيم الرئيسة

- المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالدَعوى والتحدّي مع عدم المعارضة ومطابقة الدعوى.

 

- المعجزة لها ميزتان: 1 - إنّها غير قابلة للتعليم والتعلّم؛ 2 - إنّها لا يتسنّى لقوّة أخرى أن تأتي بأفضل منها أو مثلها، وهو معنى عدم المعارضة.

 

- لقد تحدّى القرآن الكريم - وما زال يتحدّى - المشكّكين بمصدره الإلهيّ أن يأتوا بسورة من مثله ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.

 

- أوّل ما ظهر من إعجاز القرآن الكريم إعجازه البيانيّ الذي عُني بالجانب الشكليّ للآيات والسور، أي القوالب اللفظيّة من حيث استعمال المفردات وفي سياق الجمل والعبارات وتأثير ذلك في البلاغة والنّظم والأسلوب.

 

- اشتمل القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلميّة التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثمّ عُرِفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحقّقين.

 

- ذكر بعضهم أنّ النبوّة نوع من نبوغ فكريّ وصفاء ذهنيّ يستحضر به الإنسان المسمّى نبيًّا كمال قومه الاجتماعيّ، ويريد به أن يخلّصهم من ورطة الوحشيّة والبربريّة لينقلهم إلى ساحة الحضارة والمدنيّة، فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء.

 

- إنّ النوابغ - وإن علا شأنهم - لا يلبث أن يظهر في أعمالهم وكتاباتهم مع تطوّر العلوم وكثرة التدقيق والتحقيق -ولو بعد فترة من الزمن - مظاهر القصور والاختلاف، وهذه هي السنّة الظاهرة في علوم البشر.

 

36


27

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

الدرس الثالث:

الشبهة الثانية: الوهم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يشرح "دليل اللطف" الدالّ على ضرورة بعثة الأنبياء عن اللَّه -تعالى-.

2. يتعرّف بعض المرويّات الإسرائيليّات في نزول الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.

3. يَرُدَّ على شبهة كون الوحي هو نتاج خلل في أحاسيس النبيّ وقواه ومشاعره.

 

37


28

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

•        تمهيد

من الشبهات التي أُثيرت حول الوحي أنّ الوحي هو أوهام وتخيّلات حصلت للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم نتيجة حالة مرضيّة جسديّة أو نفسيّة أو نتيجة شعوذة وكهانة وما شابه ذلك.

 

إنّ توضيح هذه الشبهة يتوقّف على بيان مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: في وجوب بعثة الأنبياء

قد ثبت في محلّه أنّ العقل يدرك أنّ اللَّه -تعالى- حكيم، منزّه عن العبث في فعله، قال - تعالى -: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[1]. وقد ثبت بالاستقراء والتجربة قصور المعرفة البشريّة عن الإحاطة بتفاصيل مصالح الأفعال ومفاسدها في طريق الرجوع إليه – تعالى -. ثمّ إنّ من الثابت من صفاته أيضًا أنّ الحقّ الأوّل - تعالى - تامّ العناية بخلقهِ. فكلّ ما يمكن وقوعه من التكميل لعباده بحسب العَوْد إلى اللَّه فهو واجب، فمن الواجب هداية القابلين للهداية من النّاس بإراءة الطريق الموصل إليه – تعالى - واستعمال التشويق والوعد والوعيد الحقّ في ذلك أو غير ذلك من الطرق ممّا يؤثّر في النّوع الإنسانيّ.


 


[1] سورة المؤمنون، الآية 115.

 

39


29

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

وبالجملة، فمن الواجب وقوع الهداية إلى طريق الكمال من غير أن ينافي اختيار الإنسان. وهذا الذي يسمّيه العلماء في كلماتهم دليلَ اللطف.

 

وحيث إنّ الهداية متوقّفة على اتّصال ما بين الحقّ -تعالى- وخلقه، ولمّا لم يكن ذلك ممكنًا بالنسبة إلى جميع البشر لعدم استعدادهم لتلقّي الوحي، وجب أن يكون هذا الاتّصال وهذه السفارة خاصّة بآحاد من البشر وهم الرُسُل[1].

 

تقرير آخر للشبهة: يظهر من قراءة التجربة البشريّة أنّ الإنسان لم يخلُ، في حين من الأحيان من استخدام أخيه الإنسان ضمن سنّة التوسّل التي يستعملها لسدّ حاجاته الأساسيّة وغير الأساسيّة. وهذا الاستخدام أدّى بحسب الطبع إلى الاجتماع البشريّ والحياة الاجتماعيّة، وهذا الاجتماع أدّى بطبيعة الحال إلى الاختلاف.

 

ومن المعلوم أنّ الإنسان غير متمكّن من تتميم هذه النقيصة (الاختلاف) من قِبَلِ نفسه فإنّ فطرته هي المؤدّية إلى هذه النقيصة، فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعيّة؟

 

وإذا كانت الطبيعة الإنسانيّة هي المؤدّية إلى هذا الاختلاف المعوّق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحريّ به، وهي قاصرة عن تدارك ما أدّت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالإصلاح - لو كان - يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهيّة وهي النبوّة بالوحي[2].

 

المقدّمة الثانية: في عصمة الأنبياء في التبليغ

إنّ ممّا قام عليه الدليل العقليّ ضرورة عصمة الأنبياء عليهم السلام في جميع ما يصدر عنهم، ولاسيّما في تبليغهم للوحي، ولو لم يكن هناك عصمة في تبليغ الرسُل للوحي لكان إرسالهم نقضًا للغرض وهو الهداية إلى الكمال الواجب منه -تعالى- بدليل اللطف المتقدّم، فيجب أيضًا عليه

 

 


[1] انظر: الطباطبائيّ، العلامة محمّد حسين، مجموعة رسائل العلَّامة الطباطبائيّ، رسالة المنامات والنبوّات، تحقيق: الشيخ صباح الربيعيّ، ص423-422، مكتبة فدك لإحياء التراث، قمّ - إيران، ط1.

[2] انظر: العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص134-133.

 

40


30

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

- تعالى - عصمتهم في التبليغ حفظًا لهذا الغرض. قال الحكيم الطوسيّ في التجريد: "ويجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض"[1]. وكلامه وإن كان يعمّ كلّ أنواع العصمة غير أنّ ثبوته في العصمة في التبليغ بشكل أولى.

 

هذا من طريق العقل. أمّا من طريق الشرع فالقرآن الكريم الذي ثبت مصدره الإلهيّ عبر إعجازه يؤكّد هذه الفكرة. قال -تعالى-: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[2]. وهذه الآية تُظهر أنّ اللَّه - سبحانه - إنّما بعث الرسل بالتبشير والإنذار وإنزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبيّنوا للناس الحقّ في الاعتقاد والحقّ في العمل، وبعبارة أخرى بعثهم لهداية الناس إلى حقّ الاعتقاد وحقّ العمل. وهذا هو غرضه - سبحانه - في بعثهم، وقد قال – تعالى -: ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾[3]، فبيّن أنّه لا يضلّ في فعله ولا يخطئ في شأنه، فإذا أراد شيئًا فإنّما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضلّ في سلوكه، كيف لا؟ وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وبتفهيمهم معارف الدين. وقد قال - تعالى - أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[4]، فبيّن أنّ غرضه متحقّقٌ لا محالة، إلى غيرها من الآيات القرآنيّة والنصوص المأثورة عن النبيّ وآله عليهم السلام الدّالة على عصمتهم عليهم السلام[5].


 


[1] العلَّامة الحلّيّ، الحسن بن يوسف بن عليّ المطهّر، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، دار المحجّة البيضاء، لا.ت، لا.ط، ص326.

[2] سورة البقرة، الآية 213.

[3] سورة طه، الآية 52.

[4] سورة الطلاق، الآية 3.

[5] انظر: العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص137-136.

 

41


31

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

•        عرض الشبهة

استغلّ بعض المستشرقين بعض الإسرائيليّات المبثوثة في كتب فريق من المسلمين حول الوحي وبداية نزوله ليخترعوا الشبهات وينفذوا إلى عقول بعض السذّج من المسلمين.

والعمدة في هذه المرويّات روايتان. نذكرهما ثمّ نناقش:

1 - خرافة ورقة بن نوفل: روى هذه الخرافة البخاريّ ومسلم وابن هشام والطبريّ وغيرهم، وهي بزعمهم قصّة بدء نزول الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وإليك الحديث كما ورد في صحيح البخاريّ: "عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ﴾[1] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ


 


[1] سورة العلق، الآيات 1 - 3.

 

42


32

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهليّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا بْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا[1]، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ"[2].

 

2 - أسطورة الغرانيق: أخرج الطبريّ عن محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن زِيَادٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: "لَمَّا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ مَبَاعَدَتِهِمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ، تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يَسُرُّهُ مَعَ حُبِّهِ قَوْمَهُ، وَحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلِينَ لَهُ بَعْضُ مَا قَدْ غَلُظَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، حَتَّى حَدَّثَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَتَمَنَّاهُ وَأَحَبَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ﴾[3]، فلمّا انتهى إلى قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ﴾[4]، أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، لَمَّا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَتَمَنَّى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَوْمَهُ: تلك الغرانيق العلا، وإنّ شفاعتهنّ لتُرتجى، فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ فَرِحُوا، وَسَرَّهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ ما ذكر به آلهتهم، فاصاخوا[5] لَهُ- وَالْمُؤْمِنُونَ مُصَدِّقُونَ


 


[1] الجذع من الرجال: الشابّ الحدث.

[2] البخاريّ، أبو عبد اللَّه محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، الجامع الصحيح، المحقّق: محبّ الدين الخطيب، المكتبة السلفيّة، القاهرة، 1400هـ، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، ط1، ح4، 6216.

[3] سورة النجم، الآيات 1 - 3.

[4] السورة نفسها، الآيتان 19 - 20.

[5] أصاخ له: استمع، أصغى.

 

43


33

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

نَبِيَّهُمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ عَنْ رَبِّهِمْ، وَلا يَتَّهِمُونَهُ عَلَى خَطَإٍ وَلا وَهْمٍ وَلا زَلَلٍ- فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا وَخَتَمَ السُّورَةَ سَجَدَ فِيهَا، فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِ نَبِيِّهِمْ، تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعًا لأَمْرِهِ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ، إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ السُّجُودَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَسَجَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ، وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، يَقُولُونَ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، قَدْ زَعَمَ فِيمَا يَتْلُو: أَنَّهَا الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضَى. وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ، فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ، وَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللَّه -عزَّ وجلَّ-، وقلت ما لم يُقَلْ لك، فحزن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك حزنًا شديدًا وخاف من اللَّه خوفًا كثيرًا، فأنزل اللَّه -تبارك وتعالى- عليه، وكان به رحيمًا، يعزّيه ويخفّف عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكن قبله نبيّ ولا رسول تمنّى كما تمنّى، ولا أحبّ كما أحبّ، إلّا وقد ألقى الشيطانُ في أمنيّته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، فنسخ اللَّه ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، أي فإنّما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل اللَّه -عزَّ وجلَّ-:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...﴾[1]. فأذهب اللَّه -عزَّ وجلَّ- عن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذِكْر آلهتهم "أنّها الغرانيق العلى وأنّ شفاعتهنّ لَتُرتَضَي". يقول اللَّه حين ذِكْر اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى *


 


[1] سورة الحج، الآية 52.

 

44


34

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾[1].

 

أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده؟ فلمّا جاءه من اللَّه ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيّه قالت قريش: ندم محمّد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند اللَّه، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قد وقعا في فم كلّ مشرك، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه"[2].

 

•        الردّ على الشبهة

أ. ذكرنا في المقدّمة أنّه يجب على اللَّه - وجوبًا منبعثًا من مقام لُطفه ورأفته بعباده - أن يقرِن تنبيئه إنسانًا بدلائل نيّرة، لا تدَع لمسارب الشكّ مجالًا في نفسه، كما أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، ليكون من الموقِنين[3]، وكما ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾[4]، ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ *  وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾[5].

 

هذا هو مقتضى قاعدة اللطف، وتتلخّص في وجوب تمهيد سبيل الطاعة منه – تعالى - فواجب عليه - تعالى - أن يُمهِّد لعباده جميع ما يقرّبهم إلى الطاعة


 


[1] سورة النجم، الآيات 21 - 26.

[2] الطبريّ، أبو جعفر محمّد بن جرير، تهذيب تاريخ الطبريّ (تاريخ الأمم والملوك)، هذّبه وعلّق عليه: رجب محمود إبراهيم بخيت، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة - مصر، 2017م، ط1، ص54-53-52.

[3] إشارة إلى قوله -تعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام، 75).

[4] سورة طه، الآيتان 11 - 12.

[5] سورة النمل، الآيتان 9 - 10.

 

45


35

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

ويبعّدهم عن المعصية، وهذا الوجوب منبعث من مقام حكمته - تعالى -، إذا كان يريد من عِباده الانقياد، وإلّا كان ثمَّة نقضٌ لغرضه من التكليف، ومن ثَمّ وجب عليه – تعالى - أن يبعث الأنبياء وينزل الشرائع ويجعل للبشر ما يهديهم إلى كمالهم الفرديّ والاجتماعيّ.

 

وفي ضوء هذه القاعدة أيضًا، لا بدّ للنبيّ من أن يتمتّع بصحَّة كاملة في أجهزة إحساسه، وسلامة تامَّة في قوى مشاعره، وفي مقدرته العقليّة، فيكون مستقيمًا في آرائه ونظريّاته، معتدلًا في خُلُقه وسيرته، مستويًا في خِلقته وصورته. وبكلمة جامعة يجب أن يختار اللَّه لرسالته إنسانًا كاملًا في خَلْقه وخُلُقه؛ كي لا يتنفَّر الناس من معاشرته، ويطمئنّوا إلى ما يبلِّغه عن اللَّه، وإلّا كان هناك نقضٌ لغرض التشريع، فالنبيّ معصوم عن الخطأ والنسيان، ولاسيَّما فيما يخصّ تبليغ أحكام الشريعة، وعلى هذا إجماع من المسلمين ومن غيرهم من عقلاء أذعنوا برسالة الأنبياء؛ ولولاه لكان الالتزام بشرائع الدين سفَهًا يأباه العقل.

 

وطبقًا لهذه القاعدة، لا يدع - تعالى - مجالًا لتدليس أهل الزَيغ والباطل، بل إنّه - تعالى - يفضحهم من فورهم ولو كان ذلك المتقوّل رسوله الأمين (حاشاه  صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ * لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ﴾[1]، فالحقّ دائمًا يعلو ولا يُعلى عليه، والحقّ والباطل دائمًا على وضَح الجلاء، لا يكدِّر وجه الحقّ غبار الباطل أبدًا ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾[2]، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا   ءَامَنُواْ * ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ﴾[3]. وهذا إنّما هو نصر واعتلاء مبدئيّ، فالحقّ دائمًا ظاهر منصور، وإنَّ رسالة الأنبياء دائمًا تكون هي الغالبة الظافرة ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا


 


[1]  سورة الحاقّة، الآيات 44 - 46.

[2] سورة الأنبياء، الآية 18.

[3] سورة غافر، الآية 51.

 

 

46


36

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

 ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾[1]. نعم، ﴿إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[2]،[3]. وهذه سيرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، هل يمكن لباحث موضوعيّ أن يجد من خلالها أدنى خلل أو عدم اتّزانٍ -والعياذ باللَّه- في شخصيّته؟! وهذا القرآن الكريم الذي عجز الإنس والجنّ عن الإتيان بمثله هل يظهر فيه -بنظرة علميّة منصفة- أيّ أثرٍ للأوهام أو التخيّلات الزائفة؟!

 

ب. لقد تعهّد اللَّه نبيّه بالرعاية والحِفظ فقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾[4]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدء نزول القرآن يخشى أن يفوته شيء، فكان يساوق جبرائيل فيما يلقي عليه كلمة بكلمة، فنُهي عن ذلك: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[5]، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[6].

 

وأصرح من ذلك كلّه قوله -تعالى- ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[7].

 

وأمّا احتمال تلبيس إبليس ليتدخّل فيما يوحَى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - مثلما زُعم في أسطورة الغرانيق -، فيجعل من تسويلاته الشيطانيّة في صورة وحي، ويُلبسه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليزعم أنّه وحيٌ من اللَّه، فهو أمرٌ مستحيل؛ لأنَّ الشيطان لا يستطيع الاستحواذ على عقليّة رسُل اللَّه وعباده المكرَمين: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ﴾[8]، وهو يُنافي قوله -تعالى-: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا


[1] سورة الصافات، الآيات 171 - 173.

[2] سورة النساء، الآية 76.

[3] انظر: معرفة، تلخيص التمهيد، مصدر سابق، ص50-49-42-41.

[4] سورة الأعلى، الآية 6.

[5] سورة القيامة، الآيات 16 - 19.

[6] سورة طه، الآية 114.

[7] سورة الحجر، الآية 9.

[8] السورة نفسها، الآية 42.

 

47


37

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾[1]. نعم، ﴿إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[2]،[3]. وهذه سيرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، هل يمكن لباحث موضوعيّ أن يجد من خلالها أدنى خلل أو عدم اتّزانٍ -والعياذ باللَّه- في شخصيّته؟! وهذا القرآن الكريم الذي عجز الإنس والجنّ عن الإتيان بمثله هل يظهر فيه -بنظرة علميّة منصفة- أيّ أثرٍ للأوهام أو التخيّلات الزائفة؟!

 

ب. لقد تعهّد اللَّه نبيّه بالرعاية والحِفظ فقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾[4]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدء نزول القرآن يخشى أن يفوته شيء، فكان يساوق جبرائيل فيما يلقي عليه كلمة بكلمة، فنُهي عن ذلك: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[5]، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[6].

 

وأصرح من ذلك كلّه قوله -تعالى- ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[7].

 

وأمّا احتمال تلبيس إبليس ليتدخّل فيما يوحَى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - مثلما زُعم في أسطورة الغرانيق -، فيجعل من تسويلاته الشيطانيّة في صورة وحي، ويُلبسه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليزعم أنّه وحيٌ من اللَّه، فهو أمرٌ مستحيل؛ لأنَّ الشيطان لا يستطيع الاستحواذ على عقليّة رسُل اللَّه وعباده المكرَمين: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ﴾[8]، وهو يُنافي قوله -تعالى-: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا


[1] سورة الصافات، الآيات 171 - 173.

[2] سورة النساء، الآية 76.

[3] انظر: معرفة، تلخيص التمهيد، مصدر سابق، ص50-49-42-41.

[4] سورة الأعلى، الآية 6.

[5] سورة القيامة، الآيات 16 - 19.

[6] سورة طه، الآية 114.

[7] سورة الحجر، الآية 9.

[8] السورة نفسها، الآية 42.

 

47


37

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

 ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾[1]. نعم، ﴿إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[2]،[3]. وهذه سيرة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، هل يمكن لباحث موضوعيّ أن يجد من خلالها أدنى خلل أو عدم اتّزانٍ -والعياذ باللَّه- في شخصيّته؟! وهذا القرآن الكريم الذي عجز الإنس والجنّ عن الإتيان بمثله هل يظهر فيه -بنظرة علميّة منصفة- أيّ أثرٍ للأوهام أو التخيّلات الزائفة؟!

 

ب. لقد تعهّد اللَّه نبيّه بالرعاية والحِفظ فقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾[4]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدء نزول القرآن يخشى أن يفوته شيء، فكان يساوق جبرائيل فيما يلقي عليه كلمة بكلمة، فنُهي عن ذلك: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[5]، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[6].

 

وأصرح من ذلك كلّه قوله -تعالى- ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[7].

 

وأمّا احتمال تلبيس إبليس ليتدخّل فيما يوحَى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - مثلما زُعم في أسطورة الغرانيق -، فيجعل من تسويلاته الشيطانيّة في صورة وحي، ويُلبسه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليزعم أنّه وحيٌ من اللَّه، فهو أمرٌ مستحيل؛ لأنَّ الشيطان لا يستطيع الاستحواذ على عقليّة رسُل اللَّه وعباده المكرَمين: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ﴾[8]، وهو يُنافي قوله -تعالى-: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا

 


[1] سورة الصافات، الآيات 171 - 173.

[2] سورة النساء، الآية 76.

[3] انظر: معرفة، تلخيص التمهيد، مصدر سابق، ص50-49-42-41.

[4] سورة الأعلى، الآية 6.

[5] سورة القيامة، الآيات 16 - 19.

[6] سورة طه، الآية 114.

[7] سورة الحجر، الآية 9.

[8] السورة نفسها، الآية 42.

 

47


38

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾[1]، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[2]، وقد قال- تعالى - حكاية عن الشيطان: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾[3]، وهو يُنافي قاعدة اللطف الآنفة الذكر، ويتناقض وحكمته - تعالى - في بعْث الأنبياء والرسل.

 

ج. إنّ أسانيد الروايتين تثير الشكّ في مضمونهما فضلًا عمّا ذكر من خلل في مضمون الروايتين؛ فرواية الغرانيق لم يتّصل سندها إلى صحابيّ معاصر لفترة البعثة بل أُسنِدَت إلى جماعة من التابعين أقربهم إلى فترة البعثة ابن عبّاس الذي وُلد في السنة الخامسة قبل الهجرة على أبعد التقادير، وفي الثالثة قبل الهجرة على المشهور، فلم يشهد القصّة يقينًا لو صحّ السند إليه. هذا كلّه فضلًا عن ضعف السند إلى هؤلاء التابعين.

 

قال القاضي عيّاض: "هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحَّة، ولا رواه ثقة بسنَدٍ سليم متَّصل، وإنَّما أُولع به وبمِثله المفسِّرون والمؤرِّخون المولَعون بكلِّ غريب، المتلقّفون من الصحُف كلَّ صحيح وسقيم. وصدقَ القاضي بكر بن العلاء المالكيّ حيث قال: لقد بُلي المسلمون ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلَّق بذلك الملحدون، مع ضعف نَقَلَته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته"[4].

 

ثمّ أضاف: "قال أبو بكر البزّار: هذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متّصل يجوز ذكره إلّا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلّا أميّة بن خالد وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنّما يُعرف عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس".


 


[1] سورة الحاقة، الآيتان 44 - 45.

[2] سورة النجم، الآيات 3 - 5.

[3] سورة إبراهيم، الآية 22.

[4] عيّاض، القاضي، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، المكتبة الشيعيّة الالكترونيّة، مؤسَّسة آية اللَّه الميلاني، 1988م، لا.ط، ج2، ص125.

 

48


39

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

وعلّق القاضي عيّاض على كلام البزّار فقال: "فقد بيّن لك أبو بكر رحمه الله أنّه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا وفيه من الضعف ما نبّه إليه مع وقوع الشكّ فيه، كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه.

 

وأمّا حديث الكلبيّ فمّما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوّة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزّار رحمه اللَّه"[1]. هذا ما يختصّ برواية الغرانيق.

 

أمّا أسطورة ورقة بن نوفل فإنّها كذلك يشوبها الإرسال، فعائشة لم تكن قد وُلِدت عام البعثة. والمؤاخذة الأخرى على الرواية هي ورودها عمّن يحسد الهاشميّين ويبغضهم؛ فإنّ عمدة رواتها هم من الزبيريّين وحزبهم، كعروة بن الزبير، الذي اصطنعه معاوية ليضع أخبارًا قبيحة في عليّ.

 

وكإسماعيل بن حكيم - مولى آل الزبير. وكذلك وهب بن كيسان.


 


[1] عيّاض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، مصدر سابق، ج2، ص125.

 

49


40

الدرس الثالث:الشبهة الثانية: الوهم

المفاهيم الرئيسة

 

- من الشبهات التي أُثيرت حول الوحي هي أنّ الوحي أوهام وتخيّلات حصلت للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم نتيجة حالة مرضيّة جسديّة أو نفسيّة أو نتيجة شعوذة وكهانة وما شابه ذلك.

 

- ثبت بالاستقراء والتجربة قصور المعرفة البشريّة عن الإحاطة بتفاصيل مصالح الأفعال ومفاسدها في طريق الرجوع إلى اللَّه -تعالى-، فاقتضت الحكمة لزوم بعثة الأنبياء.

 

- إنّ ممّا قام عليه الدليل العقليّ ضرورة عصمة الأنبياء عليهم السلام في جميع ما يصدر عنهم، ولاسيّما في تبليغهم للوحي. ولو لم يكن هناك عصمة في تبليغ الرسُل للوحي لكان ثمَّة نقضٌ للغرض من إرسالهم، وهو الهداية إلى الكمال.

- استغلّ بعض المستشرقين بعض الإسرائيليّات المبثوثة في كتب فريق من المسلمين حول الوحي وبداية نزوله، ليخترعوا الشبهات وينفذوا إلى عقول بعض السذّج من المسلمين.

 

- يجب على اللَّه - وجوبًا منبعثًا من مقام لُطفه ورأفته بعباده - أن يقرِن تنبيئه إنسانًا بدلائل نيّرة، لا تدَع لمسارب الشكّ مجالًا في نفسه.

 

- لا بدّ للنبيّ من أن يتمتّع بصحَّة كاملة في أجهزة إحساسه، وسلامة تامَّة في قوى مشاعره، وفي مقدرته العقليّة، فيكون مستقيمًا في آرائه ونظريّاته، معتدلًا في خُلُقه وسيرته، مستويًا في خِلقته وصورته.

 

- احتمال تلبيس إبليس ليتدخّل فيما يوحَى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - مثلما زُعم في أسطورة الغرانيق - أمرٌ مستحيل؛ لأنَّ الشيطان لا يستطيع الاستحواذ على عقليّة رسُل اللَّه وعباده المكرَمين.

 

50


41

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

الدرس الرابع:

الشبهة الثالثة: الكذب

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعدّد أهمّ الصفات التي عُرف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته.

2. يعرف شبهة اتّهام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكونه كذّابا مدّعيًا.

3. يردَّ على شبهة اتِّهام الرسول بكونه كذّابًا مدّعيًا.

 

51


42

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

•        مقدّمة لسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشخصيّته

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم من قريش، أعظم قبائل العرب خطرًا، وقوّة، ونفوذًا، التي كان يُنظر إليها من كلّ الناس بعين الإجلال والإكبار، ولا سيّما أنّ البيت الهاشميّ منها، وهو الذي كان يمتاز بالنّزاهة والطّهر، وله السيادة والزعامة، والسؤدد في مكّة، وله الشرف الرفيع الذي لا يدانيه ولا ينازعه فيه أحد.

 

فمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم إذًا ليس بحاجة إلى الشّرف والزّعامة، ليجعل من ادّعاء النبوّة وسيلة للوصول إليها، والحصول عليها. وقد عرضت قريش عليه المال والسلطة والمُلك ليترك هذا الأمر، فلو كان ساعيًا وراء أيٍّ من ذلك لكانت هذه أفضل فرصة، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم أبى[1].

 

وقد كان واضحًا - لو قيست الأمور بالمقاييس العاديّة - أنّ دعواه تلك سوف تجرّ عليه الكثير من المتاعب والمصائب، ويكون بذلك قد فرّط بكلّ ما لديه من رصيد اجتماعيّ في هذا المجال، فاستمراره في دعوته مع وضوح أخطارها عليه يُعتبَر أمرًا غير منطقيّ، لو كان ما يدَّعيه لا واقعيّة له[2].


 


[1] انظر: الحلبيّ، نور الدّين، السّيرة الحلبيّة، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ، لا.ط، ج1، ص488-487.

[2] انظر: مرتضى، السيد جعفر، الصّحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، دار الهادي، 1995م، ط4، ج2، ص212-211.

 

54


43

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

وأمّا سيرته النفسيّة والخُلُقيّة قبل الدعوة فكفى في إشراقها قبل البعثةأنّه كان يدعى "الصادق الأمين"، وكان محلّ ثقة العرب واعتمادهم في فضّ نزاعاتهم؛ فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، وإجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم، وذلك أنّهم لمّا بلغوا في بناء الكعبة - التي هدمها السيل - موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كلُّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتّى تحالفوا واستعدّوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا، تفكّر في مخلّص من هذه الورطة.

 

ثمّ إنّ أبا أميّة بن المغيرة، الذي كان أسنّ قريش كلّها، اقترح عليهم اقتراحًا، فقال: "يا قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه"، ففعلوا، فكان أوّل داخل عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا رأوه قالوا: "هذا الأمين رضينا، هذا محمّد" فلمّا انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هلمّ ثوباً"، فأتي به فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثمّ قال: "لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثمّ ارفعوه جميعاً"، ففعلوا، حتّى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو صلى الله عليه وآله وسلم بيده، ثمّ بنوا عليه كما أرادوا[1].

 

وقد بلغت أمانته مبلغًا فحتّى إنّ قريشًا برغم عداوتها له، ظلّت تترك أماناتها عنده؛ ولذا، ترك عليًّا عليهم السلام في مكّة عند هجرته إلى المدينة ليردّ الأمانات إلى أهلها[2].

 

وقد احتفظ صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخُلُق الرّفيع بعد بعثته وإلى نهاية عمره الشّريف، فبعد غلبته على أعدائه الألدّاء في نصره النهائيّ حين فتح مكّة

 


[1] انظر: ابن هشام، أبا محمّد عبد الملك، سيرة ابن هشام، مطبعة مصطفى البابيّ الحلبيّ، 1955م، ط2، ج1، ص197-196؛ وانظر: الشيخ السبحانيّ، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص456 - 457.

[2] انظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، مصدر سابق، ج1، ص485.

 

55


44

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

ودخول صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يُرفَع عنهم، أخذ رسول اللَّه بباب الكعبة، وقال: "لا إله إلّا اللَّه، أنجز وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَه". ثمّ قال: "ما تظنّون"؟ فأجابت قريش "نظنّ خيراً، أخ كريم". فقال: "فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته: ﴿لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾"[1].[2] وهكذا فإنّ من تتبَّع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته، لا يشكّ في أنّه كان أبعد الناس عن المحاباة والمواربة، وأنّ سرّه وعلانيته كانا سواءً في دقّة الصدق وصرامة الحقّ في جليل الشؤون وحقيرها، وأنّ ذلك كان أخصّ شمائله وأظهر صفاته قبل النبوّة وبعدها، كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه[3].

 

•        عرض الشبهة

بعد أن واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التكذيب من قبل قومه، عادت هذه الشبهة لتظهر في أوساط بعض المستشرقين وبعض الكتّاب المسيحيّين في عصور لاحقة[4]، وتنوّع هؤلاء بين متّهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تفاصيل الوحي وآخر مكذّب له في أصله، فظهر كتّاب أمثال واشنطن إرفنج ليطعنوا في بعض تفاصيل الوحي النبويّ مدّعين أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتلاعب بالوحي من أجل مصالحه الشخصيّة - خصوصًا في المرحلة المدنيّة (بعد أن أقرّ إرفنج بظهور علائم الصدق والإخلاص في المرحلة المكّيّة) - ليسمح لنفسه مثلًا بالاحتفاظ بأكثر من أربع زوجات ويغيّر أحكامه افتتانًا بأشعار كعب بن زهير المادحة[5].


 


[1] سورة يوسف، الآية 92.

[2] انظر: ابن عساكر، أبا القاسم عليّ بن الحسن بن هبة اللَّه بن عبد اللَّه الشافعيّ، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر، 2001م، ج73، ص53؛ وانظر: السبحانيّ، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص457.

[3] انظر: دراز، محمّد عبد اللَّه، النّبأ العظيم -نظرات جديدة في القرآن الكريم، دار طيبة، الرياض - الحجاز، 2000م، ط2، ص19-18.

[4] انظر: رودينسون، ماكسيم، محمّد، الطبعة الثانية، 1968م، ترجم من الفرنسيّة على يد آن كارتر 1971م، ص218.

[5] انظر: Irving, Washington, Mohamet And His Successors,.197.

 

56


45

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

وظهر آخرون كالمستشرق الإنجليزيّ "جورج سيل"[1] في كتابه "مقالة في الإسلام" ليطعنوا في أصل الوحي بقوله: "وممّا لا شكّ فيه، ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أنّ محمّدًا هو في الحقيقة مصنّف القرآن وأوّل واضعيه، وإن كان لا يبعد أنّ غيره أعانه عليه كما اتّهمته العرب.."[2].

 

•        مناقشة الشبهة

يُردّ على هذه الشبهة وعلى أصل كون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واضعًا الوحيَ من عنده، الآتي من النقاط:

1. مرّ في ما أشرنا إليه من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى من عظيم خُلُقه ممّا ينافي كلّ هذه الدعاوى خصوصًا الكذب على اللَّه - تعالى -، فقد كان بُغِّض إليهصلى الله عليه وآله وسلم الوثنيّة وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سِنّه، وحبّب إليه العزلة والتعبّد حتّى لا تأنسَ نفسه بشيء ممّا يتنافسون فيه من الشهوات واللّذَّات البدنيّة، أو منكرات القوّة البهيميّة، كسفك الدماء، والبغي على الناس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل. وقد عرضت عليه قريش يومًا كلّ ما يُلصق به من تُهَم من قبل هؤلاء المستشرقين فقالوا له: "فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنّما تطلب به الشرف فينا، فنحن نُسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملّكناك علينا.." فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ اللَّه بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلّغتكم رسالات ربّي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّي ما جئتكم


 


[1] مستشرق إنجليزيّ ومحامٍ وُلد في عام 1697م بمدينة (كانتربيري) في مقاطعة (كنت) في (إنجلترا)، والمتوفَّى سنة 1736م في (لندن)، والذي عرف عنه ترجمته لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية سنة 1734م.

[2] انظر: سيل، جورج، مقالة في الإسلام ص116 نقلًا عن "المستشرقون والقرآن الكريم"، الدكتور يوسف لقمان، ص333.

 

57


46

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

به، فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللَّه حتّى يحكم اللَّه بيني وبينكم"[1]. وقد سجّل التّاريخ شهادة جعفر بن أبي طالب عليه السلام في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام أمام ملك الحبشة بحضور وفد قريش وعلى رأسه عمرو بن العاص، فقال: "أيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ -تَعَالَى- إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنَّ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ.."[2].

 

وقد مرّ تلقيبه من قبل قريش بـ "الأمين" وهـل يُلقَّـب بهذا اللقب في قومـه مـَن يكـون مدنّـسًا للأعـراض فـيهم، هاتكًا للحرمات، كاشفًا للأستار والعورات، ماجنًا غارقًا في الشهوات والنزوات؟

 

وإذا صحّ ما ادّعاه بعض هؤلاء المستشرقين فلِم لم يشنّع عليه قومه من قريش بذلك وهم أشدُّ الناس خصامًا له ولم يدّخروا جهدًا في حربه وتسفيه دعوته أمام العرب.


 


[1] ابن هشام، سيرة ابن هشام، مصدر سابق، ج1، ص266-265.

[2] ابن الجوزيّ، أبو الفرج عبد الرّحمن بن عليّ بن محمّد، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1992م- 1412هـ، ج2، ص382.

 

58


47

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

وقد كان من عفَّته صلى الله عليه وآله وسلم أنْ سَلَخَ مِنْ سِني شبابه وفراغه خمسًا وعشرين سنة مع زوجته خديجة (رضوان اللَّه عليها)، فتوفّيت وهي أحبّ الناس إليه، وظلّ يذكرها، ويفضِّلها على جميع من تزوّج بهنّ من بعدها.

 

وظلّ طوال عمره ثابتًا على أخلاقه، من الزهد والجود والإيثار، فكان، بعدما أفاء اللَّه عليه من غنائم المشركين واليهود، يؤثر التقشّف، وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيّبات، ونهيه عن تركها؛ تديّنًا.

 

وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة، وأمره بها عند كلّ مسجد، وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار[1] إلخ...

 

2. إنّ نسبة القرآن الكريم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا تتلاءَم والظروف والبيئة التي نشأ فيها، وقد مرّ بعض التفصيل عند الكلام عن إعجاز القرآن الكريم، أمّا هنا فنقول:

أ. لو كان القرآن الكريم من كلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما حار العرب في أمره، ولما اعترف ببلاغته وفصاحته وإلهيّته صناديد هذا الميدان عندهم؛ فهذا الوليد بن المغيرة العدوّ اللدود لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يصف ما سمعه من آيات القرآن الكريم فيقول مقالته المشهورة: "واللَّه ما منكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده منّي، ولا بأشعار الجنّ، واللَّه ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، وواللَّه إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنّه ليعلو ولا يعلى، وإنّه ليحطم ما تحته"[2]. وذاك عتبة بن ربيعة يدلي بشهادته بحقّ القرآن الكريم أمام قومه بعدما أرسلته قريش ليثني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن


 


[1] انظر: رضا، محمّد رشيد، مصدر سابق، ص160-159.

[2] ابن كثير، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، تحقيق: عليّ شيري، دار إحياء التراث العربيّ، لبنان-بيروت، 1408هـ - 1988م، ط1، ج3، ص78.

 

59


48

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

دعوته فسمع بضع آيات من سورة السجدة فقال: "قد سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قطّ، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللَّه ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم"[1].

 

ب. إنّ مقارنة بسيطة بين الحديث النبويّ الشريف والقرآن الكريم تظهر للمنصف البون الشاسع بينهما. ويكفي للمتتبّع الخبير أن يمعن النّظر ببعض الدلالات كالنظم والأسلوب ليظهر له كالشمس في رابعة النهار، أنّ من صدرت عنه هذه الأحاديث على شرفها وفصاحتها، لا يمكن أن يكون مؤلّفًا لمثل القرآن الكريم.

 

ج. لو كان القرآن الكريم من كلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم للزم أن يكون قبل البعثة قارئًا كاتبًا، ليس ذلك فحسب، ولكنْ عالماً بكلّ قضايا المنهج القرآني في: الاعتقاد، والتشريع، والأخلاق، والمعاملات، وأن يكون على معرفة بقصص السابقين بالدقّة المتناهية التي لم يستطع الأعداء إيجاد ثغرة فيها، واللَّه - تعالى - يقول: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[2]، ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[3]، والتّاريخ ينطق بذلك.

 

د. لو كان القرآن من إنشاء النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لما عجز العرب عن معارضته، وفيهم الفصحاء والبلغاء مع أنّه تحدّاهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، وقذف في وجوههم بقوّة بهذا التحدّي، فعجزوا برغم حرصهم على معارضته وتكذيبه[4]. قال – تعالى - ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ


 


[1] ابن هشام، أبو محمّد عبد الملك، سيرة ابن هشام، مصدر سابق، ج1، ص294.

[2] سورة العنكبوت، الآية 48.

[3] سورة يونس، الآية 16.

[4] انظر: جبريل، محمّد السيّد راضي، مصدر القرآن الكريم في رأي المستشرقين (عرض ودراسة ونقد)، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص42-41.

 

60


49

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[1]، وفي موضع آخر يقول: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[2] ﴿فَإِلَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلۡمِ ٱللَّهِ﴾[3]، ثم يسهّل شروط التحدّي فيقول: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[4] ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ﴾[5].

 


[1] سورة الإسراء، الآية 88.

[2] سورة هود، الآية 13.

[3] السورة نفسها، الآية 14.

[4] سورة البقرة، الآية 23.

[5] السورة نفسها، الآية 24.

 

61


50

الدرس الرابع: الشبهة الثالثة: الكذب

المفاهيم الرئيسة

 

- عُرف عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم النفسيّة والخُلُقيّة قبل البعثة، أنّه كان يُدعى "الصادق الأمين" وكان محلّ ثقة العرب واعتمادهم في فضّ نزاعاتهم.

 

- ظهر كتّاب أمثال "واشنطن إرفنج" ليطعنوا في بعض تفاصيل الوحي النبويّ مدّعين أنّ النبيّصلى الله عليه وآله وسلم يتلاعب بالوحي من أجل مصالحه الشخصيّة - خصوصًا في المرحلة المدنيّة.

 

- وظهر آخرون كالمستشرق الإنجليزيّ "جورج سيل" في كتابه "مقالة في الإسلام" ليطعنوا في أصل الوحي بقوله: "وممّا لا شكّ فيه، ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أنّ محمّدًا هو في الحقيقة مصنّف القرآن وأوّل واضعيه، وإن كان لا يبعد أنّ غيره أعانه عليه كما اتّهمته العرب..".

 

- ذُكر في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى من عظيم خُلُقه ممّا ينافي كلّ هذه الدعاوى خصوصًا الكذب على اللَّه -تعالى-.

 

- عرضت عليه قريش يومًا كلّ ما يُلصق به من تهم من قبل هؤلاء المستشرقين فقالوا له: "فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنّما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا...".

 

- لو كان القرآن الكريم من كلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما حار العرب في أمره، ولما اعترف ببلاغته وفصاحته ومصدره الإلهيّ صناديد هذا الميدان عندهم.

 

62

 


51

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

الدرس الخامس:

الشبهة الرابعة: الاقتباس (1)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف الشبهة القائلة إنّ الوحي مقتبس من الشعر الجاهليّ.

2. يشرح الشبهة المدّعية اقتباس الوحي من الأديان السماويّة السابقة للإسلام.

3. يجيب عن الشبهتين السابقتين.

 

63


52

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

الدرس الخامس:

الشبهة الرابعة: الاقتباس (1)

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف الشبهة القائلة إنّ الوحي مقتبس من الشعر الجاهليّ.

2. يشرح الشبهة المدّعية اقتباس الوحي من الأديان السماويّة السابقة للإسلام.

3. يجيب عن الشبهتين السابقتين.

 

63


53

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

•        تمهيد

من الشبهات التي تمسّك بها بعض الناس شبهة اقتباس القرآن الكريم عن الأديان السابقة والشعر الجاهليّ، وهذه الشبهة قديمة وقد ذكرها القرآن الكريم، وتكرّرت على ألسنة بعض المستشرقين.

 

•        عرض الشبهة

اتّخذ المستشرقون العاجزون أمام الإعجاز القرآنيّ طُرقًا كثيرة ملتوية للتهرّب من الاعتراف بالمصدر الإلهيّ للوحي المحمّديّ، فنسجوا مصادر مزعومة للقرآن الكريم تنوّعت بين الشعر الجاهليّ والأديان السماويّة والوثنيّة، ونعرض أهمّ هذه الدعاوى في ما يأتي:

1. دعوى الاقتباس من الشعر الجاهليّ

أ. أشهر دعاوى الاقتباس من الشعر الجاهليّ هي دعوى الاقتباس من شعر ينسب إلى امرئ القيس الكنديّ ومنه:

دنت الساعة وانشقَّ القمر      عن غزالٍ صاد قلبي ونفر

أحورُ قد حِرتُ في أوصافه      ناعس الطرف بعينيه حوَر

مرّ يوم العيد في زينته            فرماني فتعاطى فعقر

 

 

65


54

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

بسهامٍ من لحاظٍ فاتكٍ            فتركني كهشيم المحتظر

وإذا ما غاب عنّي ساعة           كانت الساعة أدهى وأمرّ

كُتب الحُسن على وجنته          بسحيق المسك سطرًا مختصر

عادةُ الأقمارِ تسري في الدجى     فرأيتُ الليل يسري بالقمر

بالضحى والليل من طرّته فَرْقُه     ذا النور كم شيء زهر

قلت إذ شقّ العِذار خدّه          دنت الساعة وانشقّ القمر[1]

 

 

والآيات الكريمة التي زُعم اقتباسها من هذا الشعر هي:

﴿ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ﴾[2].

﴿فَنَادَوۡاْ صَاحِبَهُمۡ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ﴾[3].

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾[4].

﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾[5].

﴿وَٱلضُّحَىٰ * وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ﴾[6].

 

ب. الحنيفيّ: هناك أبيات تُنسَب إلى أميّة بن أبي الصلت فيها تقارب مضمونيٌّ كبير وشكليّ مع ما ورد في بعض سور القرآن الكريم بشأن القيامة وأوصافها وغيرها من المواضيع ممّا جعل هذه الأبيات مادةً دسمة للمستشرقين لدعم دعوى بشريّة مصدر القرآن الكريم، وسنذكر قسمًا من هذه الأبيات في ما يأتي:

 


[1] تسدال، ويليام سنكلير، مصادر الإسلام، الفصل الثاني ص12-11، نسخة إلكترونيّة عن موقع http://www.muhammadanism.org/.

[2] سورة القمر، الآية 1.

[3] السورة نفسها، الآية 29.

[4] السورة نفسها، الآية 31.

[5] السورة نفسها، الآية 46.

[6] سورة الضحى، الآيتان 1 - 2.

 

66


55

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

ويوم موعدهم أن يُحشروا زُمَرًا         يوم التغابن إذ لا ينفع الحذَرُ

مستوسِقين مع الداعي كأنّهم         رِجْل الجراد زفَّته الريح تَنتشِر

وأبرزوا بصعيد مستوٍ جُرُز             وأنزل العرش والميزان والزبر

وحوسِبوا بالذي لم يُحصِه أحد         منهم، وفي مِثل ذاك اليوم معتبَر

فمنهمو فرِحٌ راضٍ بمبعَثه              وآخرون عصَوا، مأواهم السَّقرُ

يقول خُزَّانها: ما كان عندكمُ؟        ألم يكن جاءكم من ربِّكم نُذُرُ؟

قالوا: بلى، فأطعنا سادةً بَطِروا        وغرَّنا طولُ هذا العيش والعُمُرُ

قالوا: امكُثوا في عذاب اللَّه، ما لكمُ   إلّا السلاسل والأغلال والسُّعَر

فذاك محبسهم لا يبرَحون به           طول المقام، وإن ضجُّوا وإن صَبروا

وآخرون على الأعراف قد طمعوا      بجنّة حفَّها الرُّمان والخُضَرُ

يُسقَون فيها بكأس لذَّة أُنُف          صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا سَكَرُ

مِزاجها سلسبيل ماؤها غَدِقٌ           عذبُ المذاقة لا مِلح ولا كَدَرُ

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهِلها      ولا البصير كأعمى ما له بَصرُ

 

يقول المستشرق بروي[1] في هذه الشبهة تحت مادّة (أميّة بن أبي الصلت) من دائرة المعارف الإسلاميّة: "والآراء الدينيّة في كلام أُميّة مطابقة لما جاء في القرآن إلى حدٍّ كبير، ويكاد الاتّفاق يقع كلمةً كلمة في كثير من الأقوال، ولهذا طبعًا أُثيرت مسألة اعتماد أحد القولين على الآخر. فيذهب (هيوار) إلى أنّ أشعار أُميّة بن أبي الصلت - التي تتضمّن قصصًا من قصص التوراة مذكورة عند المقدسيّ في (كتاب البدء)، وهو الكتاب الذي نُسبَ خطأ إلى البلخيّ - هي من المصادر الصحيحة التي استمدَّ منها القرآن رأسًا... ويُمكن أنْ نعلّل مشابهة قصائد أُميّة لما


 


[1] (H.H Brau) أحد كتّاب دائرة المعارف الإسلاميّة، لم نجد له ترجمة.

 

67


56

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

جاء في القرآن بحقيقة لا تَحتمل شكًّا هي: أنّه في أيّام البعثة المحمّديّة، وقبلها بقليل من الزمان، انتشرت نزعات فكريّة شبيهةٌ بآراء الحنيفيّة، واستهوت الكثيرين من أهل الحضر، وخصوصًا في مكّة والطائف، وكانت تُغذّيها وتنشّطها تفاسير اليهود للتوراة، وأساطير المسيحيّين، ممّا كان معروفًا ومتداولًا في تلك البقاع وجنوبيّ الجزيرة في جهات متفرّقة منعزلة... ومحمّد وأُميّة وغيرهما من الرجال المتديّنين، كزيد بن عمرو وورقة ومسلمة، اقتبسوا جميعًا من مصادر واحدة، سواء أكانت مدوّنة كما يرى (شولتهس)[1] أم مرويّة كما يذهب إليه (نولدكه)"[2].

 

وأمّا الآيات التي زُعم اقتباسها من هذه الأبيات فنذكر بعضًا منها:

﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾[3].

 

﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾[4].

 

﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[5].

 

﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠﴾[6].

 

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا


 


[1] Friedrich Schulthess، (م1922 - 1868) هو مستشرق سويْسري من آثاره نشر ديوان حاتم بن عبد اللَّه بن الطائيّ، وفي ميدان الدراسات السريانيّة: "نموذج من رواية سريانيّة لحياة القديس أنطون" وهي رسالة الدكتوراه الأولى ونشر ترجمة سريانيّة لـ "كليلة ودمنة" وترجمها إلى الألمانيّة.

[2] دائرة المعارف الإسلاميّة، مادّة أميّة بن أبي الصلت، الجزء الثاني، ص662-660.

[3] سورة القمر، الآيتان 7-8.

[4] سورة الكهف، الآية 8.

[5] سورة الزمر، الآية 71.

[6] سورة الأحزاب، الآية 67.

 

68


57

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾[1].

 

﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾[2].

 

﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾[3].

 

﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾[4].

 

﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[5].

 

﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[6].

 

2. دعوى الاقتباس من الأديان الآتية

أ. الصابئة والزرادشتيّة: زعم القسّ البريطاني ويليام سنكلير تيسدل[7] (بعد أن نقل كلامًا لأبي الفداء من كتابه "المختصر في أخبار البشر") أنّ المسلمين أخذوا من قدماء الصابئين الصيام والصلوات الخمس وغيرها من الفرائض[8].

 

ويستمرّ سنكلير في هذيانه ليدّعي أنّه ثبت أنّ كثيرًا ممّا ورد في القرآن


 


[1]  سورة الأنعام، الآية 130.

[2] سورة الإنسان، الآية 4.

[3] سورة الأعراف، الآية 46.

[4] سورة الإنسان، الآية 18.

[5] سورة الرعد، الآية 16.

[6] سورة الزمر، الآية 9.

[7] ويليام سنكلير تيسدل 1859م - 1928م، كان كاهنًا ولغويًّا ومؤرِّخًا وعالمًا في فقه اللغة. شغل منصب أمين الجمعيّة التبشيريّة لكنيسة إنجلترا في أصفهان، إيران.

[8] انظر: تسدال، ويليام سنكلير، مصادر الإسلام، مصدر سابق، ص14.

 

69


58

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

والأحاديث يطابق مطابقة غريبة ما ورد في كتب الزرادشتيّة ثمّ يستنتج أنّ هذه الكتب كانت مصدرًا من مصادر الديانة الإسلاميّة[1].

 

ب. السامريّة: يقول غاستر[2]، وهو أحد واضعي دائرة المعارف الإسلاميّة حسب الظاهر: "... على أنّني لا أتردّد في القول بأنّ مقارنة أُصول العقيدة السامريّة بأُصول العقيدة الإسلاميّة، سيُبيّن أنّ السامرة قد أثّروا أثراً عميقاً في تكييف الدين الذي جاء به محمّد وإظهاره في الصورة التي تجلّى بها. وكان السامرة أبعد من أنْ يتأثّروا بمحمّد، ولكنّ السامرة أنفسهم هُم الذين أثّروا فيه"[3].

 

ج. اليهوديّة: يقول هوروفيتس[4]"في القرآن إلى جانب مثل هذه الإشارات البيّنة إلى التوراة، قصص وأحكام استقاها منها وردّدها في مواضع كثيرة، دون أنْ يذكر المصدر الذي نقل عنه، وقد ساق أغلب هذا القَصص في صيغته الهجاديّة[5] وحوّر بعضه بحيث يُلائم أغراض محمّد الخاصّة"[6].

 

د. المسيحيّة: يقول كارادي فو[7] "... وأُسلوب محمّد في استعمال هذه

 

 


[1] تسدال، ويليام سنكلير، مصادر الإسلام، مصدر سابق، ص64-65.

[2] الظاهر أنّه موسى غاستر17 سبتمبر 1856 - 5 مارس 1939 مكان رومانيًّا، وباحثًا بريطانيًّا لاحقًا، وحاكم الجماعة اليهوديّة الإسبانيّة والبرتغاليّة، ولغويًّا رومانيًّا وعبريًّا. كان موسى غاستر صهيونيًّا نشطًا في رومانيا وكذلك في إنجلترا، حيث ساعد في عام 1899 في تأسيس الاتحاد الصهيونيّ الإنجليزيّ.

[3] دائرة المعارف الإسلاميّة، مادّة السامرة، ج11، ص96-91.

[4] الظاهر أنّه جوزف هوروفيتس 26 يوليو 1874 - 5 فبراير 1931 كان مستشرقًا يهوديًّا ألمانيًّا. عمل في الهند، في الفترة من 1907 إلى 1915، في كلّيّة محمّدان الأنجلو-الشرقيّة في أليغرا (فيما بعد جامعة أليغرا مسلم)، وقام بتدريس اللغة العربيّة بناءً على طلب من المنسّق الحكوميّ الهنديّ للنقوش الإسلاميّة. منذ تأسيس الجامعة العبريّة في القدس كان هوروفيتس عضوًا في مجلس أمنائها. أسّس هناك قسم الدراسات الشرقيّة، وكان مديرها. وركّز دراساته في البداية في الأدب التاريخيّ العربيّ، ثمّ نشر مجموعة من الشعر العربيّ السابق. كان عمله الرئيس تعليقًا على القرآن، لكنّه لم يكتمل. قام بالردّ على نظريّة جولدزيهر التي تفيد بأنّ الحديث النبويّ الشريف جرى تدوينه بدءًا من أواخر القرن الثاني الهجريّ، فأثبت بأنّ بدايات تدوين الحديث بدأت من الربع الأوّل للقرن الثاني الهجريّ.

[5] هكذا وردت في الأصل، وليس لهذه الكلمة معنى في معاجم اللّغة، إلّا أنْ تكون مشتقّة خطأً من كلمة (تهجّد) ولا صحّة لهذا الاشتقاق لا لفظًا ولا معنًى يلائم الجملة.

[6] دائرة المعارف الإسلاميّة، مادّة التوراة، ج6، ص1-2.

[7] البارون كرّا دي فو 1953-1867م، مستشرق فرنسيّ معروف من المعهد الكاثوليكيّ بباريس، درس العربية ودرّسها في المعهد المذكور، وألّف في الرياضيّات والفلسفة وحقّق عددًا من المصادر. ومن أشهر مؤلّفاته ما كتبه عن ابن سينا 1900 والغزاليّ 1902 ومفكرو الإسلام في خمسة أجزاء.

 

70


59

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

الكلمة يذكّرنا تمامًا بأُسلوب وعّاظ النصارى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾[1].

 

وجاء في القرآن أيضًا: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾[2]، ونحن نستدلّ من هذه الآيات أنّ محمّدًا لم يدّعِ أنّه أتى بجديد وهو يلقي بمواعظ من هذا القبيل"[3].

 

هـ. الوثنيّة الجاهليّة: يقول المستشرق الهولندي فنسنك[4]: "لم تكن نظرة النبيّ إلى الحجّ واحدة على الدوام، فلا بدّ أنّه اشترك كثيرًا في مناسكه وهو حدث، أمّا بعد دعوته فقد كانت عنايته قليلة أوّل الأمر بالحجّ، فلم يرد ذكر الحجّ في السور القديمة، ولا يبدو من المصادر الأُخرى أنّ النبيّ اتّخذ خطّة محدّدة حيال هذه العادة الوثنيّة الأصل"[5].

 

•        مناقشة الشبهة

1. مناقشة عامّة

أ. أصبح من الواضح بعد عرض نبذة من السيرة الشريفة أنّ من قطعيّاتها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلقّ علمًا من بشر ولم يُعرَف عنه قراءة أو كتابة على مدى أربعين عامًا من عمره الشريف قبل البعثة، والقرآن الكريم نفسه يؤكّد هذه الحقيقة الواضحة ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ


 


[1] سورة البقرة، الآية 86.

[2] سورة الأعلى، الآيات 16 - 19.

[3] دائرة المعارف الإسلاميّة، مادة دنيا، ج9، ص301.

[4] أرند جان فِنْسِنْك 1299 - 1358ه‍ / 1882 - 1939م، تتلمذ على يد المستشرقين: هوتسما ودي خويه وسنوك هورخرونيه وسخاو. حصل على الدكتوراه عن بحثه محمّد واليهود في المدينة عام 1908م. بدأ في عمل معجم مفهرس لألفاظ الحديث الشريف مستعينًا بعدد كبير من الباحثين وتمويل من أكاديميّة العلوم في أمستردام ومؤسّسات هولنديّة وأوروبيّة أخرى. وأصدر كتابًا في فهرسة الحديث ترجمه محّمد فؤاد عبد الباقي بعنوان مفتاح كنوز السنّة. أشرف على طباعة كتابات سنوك هورخرونيه في ستّة مجلّدات. له مؤلّفات عديدة منها: كتاب في العقيدة الإسلاميّة نشأتها وتطوُّرها التاريخيّ.

[5] دائرة المعارف الإسلاميّة، مادّة الجاهليّة، ج7، ص301.

 

71


60

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[1]. ولو لم تكن هذه الحقيقة بهذا النحو من الوضوح لما أمكن للقرآن الكريم التحدّي بها، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عاش غالبيّة عمره الشريف في مكّة بين ظهراني قريش وهم أعرف الناس بنشأته وسيرته. وقد أظهرت قريش بعد البعثة صنوفًا من العداوة والمكائد لوأد الدين الجديد في المهد، فلو لاح لهم شبح دليل على دراسته أو تتلمذه صلى الله عليه وآله وسلم عند أحد قبل البعثة لما ادّخروا هذا الجهد البسيط - وقد بذلوا من قبل الغالي والنفيس - في تكذيب معجزة هذا الدين الجديد.

 

ب. إنّ أغلب هذه المزاعم حول مصادر القرآن الكريم أو الوحي النبويّ قد وقعت في خطأ منهجيّ فادح وهو نسبة مصدر الوحي إلى الاقتباس من العهد القديم أو الجديد أو غير ذلك من المصادر بسبب وجود نقاط مشتركة بين القرآن وتلك المصادر لا لشيء آخر. وهذا التشابه - لو سلّمنا به - فضلًا عن أنّه ليس مصحّحًا للقطع بصحّة زعم الاقتباس، هو متساوٍ في نسبة الاحتمال تجاه الزعم المذكور والفرضيّة الأخرى التي تفيد بأنّ هذه المصادر ترجع إلى مصدر واحد وهو المصدر الإلهيّ خصوصًا في دعاوى الاقتباس من العهدين.

 

ج. إنّ نظرة واحدة فاحصة للقرآن الكريم ثمّ إلى تلك المصادر المزعومة تُوضح بلا شكّ عدم وجود مجال للمقارنة في اللفظ والنظم والمضمون بين تلك المعجزة الإلهيّة الخالدة وبين تلك الكتب المليئة بالمتناقضات والآراء الشخصيّة، ونسبة النقص والحوادث إلى الذات الإلهيّة، ونسبة الفواحش إلى أنبياء اللَّه العظام عليهم السلام، وغير ذلك ممّا يدلّ بوضوح على تلاعب الأيادي البشريّة بتلك النصوص.


 


[1] سورة العنكبوت، الآية 48.

 

72


61

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

المفاهيم الرئيسة

- اتّخذ المستشرقون العاجزون أمام الإعجاز القرآنيّ طرقًا كثيرة ملتوية للتهرّب من الاعتراف بالمصدر الإلهيّ للوحي المحمّديّ فنسجوا مصادر مزعومة للقرآن الكريم تنوّعت بين الشعر الجاهليّ والأديان السماويّة والوثنيّة...

 

- أشهر دعاوى الاقتباس من الشعر الجاهليّ هي دعوى الاقتباس من شعر ينسب إلى امرئ القيس الكِنديّ.

 

- زعم القسّ البريطانيّ ويليام سنكلير تيسدل أنّ المسلمين أخذوا من قدماء الصابئين الصيام والصلوات الخمس وغيرها من الفرائض.

 

- من الواضح من قطعيّات السيرة الشريفة أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلقّ علمًا من بشر، ولم يُعرَف عنه قراءة أو كتابة على مدى أربعين عامًا من عمره الشريف قبل البعثة، والقرآن الكريم نفسه يؤكّد هذه الحقيقة الواضحة.

 

- إنّ أغلب المزاعم حول مصادر القرآن الكريم أو الوحي النبويّ، قد وقعت في خطأ منهجيّ فادح وهو نسبة مصدر الوحي إلى الاقتباس من العهد القديم أو الجديد أو غير ذلك من المصادر بسبب وجود نقاط مشتركة بين القرآن وتلك المصادر، لا لشيء آخر.

 

- هناك فرضيّة أخرى تفيد أنّ هذه المصادر ترجع إلى مصدر واحد وهو المصدر الإلهيّ.

 

- إنّ نظرة واحدة فاحصة إلى القرآن الكريم ثمّ إلى تلك المصادر المزعومة له، تُوضح بلا شكّ عدم وجود مجال للمقارنة في اللفظ والنظم والمضمون، بين تلك المعجزة الإلهيّة الخالدة وبين تلك الكتب المليئة بالمتناقضات والآراء الشخصيّة، ونسبة النقص والحوادث إلى الذات الإلهيّة، ونسبة الفواحش إلى أنبياء اللَّه العظام.

 

73


62

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

الدرس السادس:

الشبهة الرابعة: الاقتباس (2)

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يقرأ المناقشة التفصيليّة لشبهة اقتباس الوحي من الشعر الجاهليّ.

2. يحلّل المناقشة التفصيليّة لشبهة اقتباس الوحي من الشعر الحنيفيّ.

3. يشرح مناقشة شبهة كون الوحي اقتباسًا من الأديان السابقة للإسلام.

 

75


63

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

•        المناقشة التفصيليّة

 

1. الشعر المنسوب إلى امرئ القيس

أ. إنّ قريشًا أفصح العرب وأحفظهم للشعر، وهم نقلة الشعر ورواته وأعلمهم بأساليبه ومداخله ومخارجه، وسورة القمر مكّيّة ألقاها النبيّصلى الله عليه وآله وسلم على مسامعهم، وكانوا حينها أشدّ الناس عداوةً له وحرصًا على تكذيبه وخنق دعوته. ومع ذلك لم يدّعوا هذا الادّعاء ولا قريبًا منه، بل شهدوا بنقيضه تمامًا على لسان الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة، فكيف يُعقل أنّ هؤلاء لم يكونوا يعرفون شعر امرئ القيس أحد أشهر شعراء الجاهليّة، حتّى يأتي بعد أربعة عشر قرنًا رجل غربيّ لينبّئهم بمصادر الشعر وأسراره؟!

 

ب. إنّ الناقد الخبير بالشعر الجاهليّ وأساليبه وأوزانه يدرك بوضوح أنّ هذه الأبيات الركيكة في الأسلوب والنظم، السخيفة في المعنى أبعد ما تكون عن الشعر الجاهليّ. وفي هذا الصدد يقول أحد نقّاد هذا الفنّ عبّاس محمود العقّاد: "وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربيّة قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم، أنّهم يحسبون أنَّ علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات وصبًا واصبًا، لينكروا نسبتها إلى الجاهليّة، ولا يلهمهم الذوق الأدبيّ إلى أنَّ نظرة واحدة كافية لليقين بدحض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهليّة"[1].


 


[1] العقّاد، عبّاس، اللغة الشاعرة، دار المحرّر للنشر والتوزيع، لا.ت، لا.ط، ص73.

 

77


64

الدرس الخامس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(1)

ج. لم يأت هؤلاء المدّعون بدليل واحد يثبت نسبة هذه الأبيات إلى امرئ القيس، فهي لم ترد في ديوانه على اختلاف طبعاته، ونسخه ورواياته، بل على العكس من ذلك فإنّ أسلوب القصيدة ونظمها ومعانيها تدلُّ على انتفاء هذه النسبة كما ذكرنا. ولا يسَعُ المقام هنا لتفصيل ذلك.

 

2. الشعر المنسوب إلى أميّة بن أبي الصلت

أ. إنّ كثيرًا من نقّاد الأدب (من ضمنهم بعض المستشرقين) يرون أنّ شعر أميّة منحول عليه. وإليك ما قاله المستشرق الألمانيّ كارل بروكلمان[1] في أميّة هذا: "أميّة بن أبي الصلت، شاعر ثقيف.

 

أكثر ما رُوي من شعره منحول عليه، ما عدا مرثيَّته لقتلى بدر التي منع النبيّ إنشادها. وزعم كليمن هوار أنّ شعره كان من مصادر القرآن. وهذا غير صحيح، ولكنّ الحقّ ما ذكره تور اندريه وهو أنّ الأشعار التي نظر إليها هوار إنّما هي نظمٌ جَمَعَ القَصّاصُ فيه ما استخرجه المفسّرون من موادّ القصص القرآنيّ. وينبغي أن تكون هذه الأشعار قد نُحِلت لأميّة في عهد مبكّر لا يتجاوز القرن الأوّل للهجرة،

 

 


[1] كارل بروكلمان (1285 - 1375هـ، 1868 - 1956م) مستشرق ألمانيّ يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث، عالم بتاريخ الأدب العربيّ. وُلِد في(رستوك) بـ (ألمانيا) ونال شهادة (الدكتوراه) في الفلسفة واللاهوت، وأخذ العربيّة واللغات السامية عن(نولدكه) وآخرين. درّس في عدّة جامعات ألمانيّة، وكانت ذاكرته قويّة يكاد يحفظ كلّ ما يقرأ. ودرّس العربيّة في معهد اللغات الشرقيّة بـ (برلين) عام 1900م، وتنقّل في التدريس، وتقاعد سنة 1935م.

عمل في الجامعة متعاقدًا سنة 1937م، ثمّ كان سنة 1945م أمينًا لمكتبة الجمعيّة الألمانيّة للمستشرقين، وأمضى أعوامهُ الأخيرة في مدينة(هالة)، وكان من أعضاء المجمع العلميّ العربيّ في دمشق، وكثير من المجامع والجمعيّات العلميّة في ألمانيا وغيرها.

صنف بالألمانيّة (تاريخ الأدب العربيّ) في مجلّدين، وأتبعهما بملحق في ثلاثة مجلّدات، وكلّفته جامعة الدول العربيّة أنْ يُدخل الملحق في الأصل، وينقلها إلى العربيّة، ولبروكلمان (تاريخ الشعوب الإسلاميّة) ترجم إلى العربيّة في بيروت وطبع بها في خمسة أجزاء صغيرة، وفهرسان لخزانتي برسلاو وهامبورغ، يُعرِّفان بمخطوطاتهما العربيّة، وكتاب في (نحو اللغة العربيّة) بالألمانيّة، و(معجم للغة السريانيّة) و(قواعد السريانيّة)، و(ترجمة ديوان لغات الترك) للكاشغري، إلى الألمانيّة، وكلّها مطبوعة.

وممّا نشر بالعربيّة قسمٌ كبيرٌ من (عيون الأخبار) لابن قتيبة، ورسالة (تلقيح مفهوم أهل الآثار) لابن الجوزيّ، وجزء من (طبقات ابن سعد)، ورسالة (ما تلحن فيه العوامُّ) للكسائيّ، وقد أشارت لبعض أخطائه التاريخيّة والعلميّة مجلّة (الإسلام)التي تصدر بالإنجليزيّة في كراتشي- باكستان ص141من العدد الأوّل 9 -مايو- سنة 1958م.

 

78


65

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

أنّ الأصمعيّ سمّاه شاعر الآخرة كما سمّى عنترة شاعر الحرب، وعمر بن أبي ربيعة شاعر العشق"[1].

 

ويشكّك الدكتور طه حسين في خلفيّة نسبة هذه الأبيات إلى أميّة بن أبي الصلت فيقول: "والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنّهم يشكّـون في صحّة السيرة نفسها ويتجاوز بعضهم الشكّ إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرًا تاريخيًّا صحيحًا، وإنّما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعًا: طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلميّ الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها. هم يقفون هذا الموقف العلميّ من السيرة ويغلون في هذا الموقف؛ ولكنّهم يقفون من أميّة بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئنّ مع أنّ أخبار أميّة ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحّة من أخبار السيرة. فما سرّ هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون النحو الآخر؟ أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يَبرأوا من هذا التعصُّب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات؟"[2].

 

ويؤكِّد الدكتور عمر فروخ أنّ القِسم الأوفر من شعر أميّة قد ضاع، وأنّه لم يثبُت له على سبيل القطع سوى قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين، وأنّ كثيرًا من الشعر الدينيّ المنسوب إلى ذلك الشاعر هو شعر ضعيف النَّسج لا رونق له[3].

 

ويرى الدكتور شوقي ضيف أنّ المعاني التي يتضمَّنها الشعر المنسوب إلى أميّة مستمدَّة من القرآن بصورة واضحة وأسلوبها ضعيف ركيك يدلّ على أنّها


 


[1] بروكلمان، كارل، تاريخ الأدب العربيّ، الجزء الأوّل، ص113، نقله إلى العربيّة الدكتور عبد الحليم النجّار، الطبعة الخامسة، دار المعارف، جامعة الدول العربيّة، المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، لا.ت، لا.ط.

[2] حسين، طه، في الأدب الجاهليّ، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة والنشر، القاهرة - مصر، لا.ت، لا.ط، ص121.

[3] انظر فرّوخ، عمر، تاريخ الأدب العربيّ، الجزء الأوّل، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان ، نيسان1981، ط4، ص217-216.

 

79


66

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

نُحِلت عليه في فترة متأخّرة عن الجاهليّة، وأنّ "هوار" لو كان له علم بالعربيّة وبأساليب الجاهليّين لعرف أنّه وقع على أشعار منحولة ولما تورّط في مثل هذا الخطأ البيّن[1].

 

ب. لِم افترض صاحب الشبهة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اقتبس عن أميّة وليس العكس؟ معَ أنّ كلّ المؤشّرات الأدبيّة تدلّ على أنّ القصيدة المنسوبة إلى أميّة كتبت في وقت متأخّر عن نزول القرآن الكريم، وأميّة شاعر مخضرم معاصر للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم.

 

ج. كيف خفي على قريش وأميّة هذا الاقتباس البيّن المدّعى، ودواعي الخصومة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موجودة؟ فقريش على ما عرفت من عداوته، وأميّة كان حاسدًا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كافرًا به، لأنّه كان يتوقّع أنّه هو (أُميَّة) النبيّ الموعود، ولمقتل عتبة وشيبة ابني ربيعة أبناء خاله[2] في بدر[3]. والطائف تبعد عن مكّة اثني عشر فرسخًا (نحو 36 ميلًا) وقد زارها النبيُّصلى الله عليه وآله وسلم ودعا أهلها إلى الإسلام قبل الهجرة، فلو حصل هذا الاقتباس للقرآن الكريم من شاعر ثقيف المشهور فكيف خفي على قريش وثقيف وأميّة نفسه؟ إلّا أنْ يكون "هوار" وأمثاله أعرف بشعر ثقيف من هؤلاء.

 

د. إنّ كثيرًا من أصول العقائد وقصص الأنبياء فيها كثير من المشتركات بين الإسلام وأهل الكتاب، وأميّة عُرف عنه اختلاطه بهم وأخذه عنهم[4] فلا يبعد حصول نوع من الشبه في هذه الأمور المذكورة غير ما عرضنا ممّا يتّضح نقله عن القرآن الكريم.


 


[1] انظر ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربيّ - العصر الجاهليّ، دار المعارف، القاهرة - مصر، ط24، ص396.

[2] أمّ أميّة هي رقيّة بنت عبد شمس بنت عبد مناف.

[3] انظر الحديثيّ، بهجت عبد الغفور، أميّة بن أبي الصلت - حياته وشعره، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، 2009م، ص66-65-64.

[4] الحديثيّ، بهجت عبد الغفور، أميّة بن أبي الصلت - حياته وشعره، مصدر سابق، ص56 إلى 62.

 

80


67

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

يقول الدكتور طه حسين: "ولكنّ في شعر أميّة بن أبي الصلت أخبارًا وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصّيْح. ويرى الأستاذ (هوار) أنّ ورود هذه الأخبار في شعر أميّة، مخالِفَةً بعض المخالفة لما جاء في القرآن، دليل على صحّة هذا الشعر من جهة، وعلى أنّ النبيّ قد استقى من أخباره، من جهة أخرى.

 

ولستُ أدري قيمة هذا النحو من البحث. فمن الذي زعم أنّ ما جاء في القرآن من الأخبار كان كلّه مجهولًا قبل أن يجيء به القرآن؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أنّ كثيرًا من القصص القرآنيّ كان معروفًا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبيّ، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبيّ من المتّصلين بأهل الكتاب؟"[1].

 

3. الجاهليّة والوثنيّة

أ. إنّ الجزيرة العربيّة عمومًا ومكّة خصوصًا منبت دعوة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام، وقريش هم ذريّة إسماعيل عليه السلام وسادة العرب، ولا شكّ في أنّه قد بقيت فيهم آثار من شعائر حنيفيّة إبراهيم عليه السلام وعلى رأسها الحجّ، وعليه فلا غرو إن أقرّهم الإسلام عليها وخلّصها ممّا اختلط فيها من مظاهر الشرك والوثنيّة كالأصنام وغيرها. وليس ذلك اقتباسًا من الجاهليّة، بل حفاظ على أصول هذه الشعائر وهي شرائع الأنبياء السابقين  عليه السلام. قال – تعالى -: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾[2].

 

ب. إنّ الإسلام، وإن أقرّ بعض العادات والتقاليد (إمّا من باب كونها من بقايا

 


[1] حسين، طه، في الأدب الجاهليّ، مصدر سابق، ص122.

[2] سورة الحج، الآية 78.

 

81


68

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

الشرائع السابقة كالحجّ ونحوه، أو من باب ملاءَمتها لحكم الفطرة، والكلّ يرجع عنده في العاقبة إلى أحكام الفطرة) أحدث الإسلام تحوّلًا ضخمًا في النظام التشريعيّ والأخلاقيّ المتخلّف الذي كان يسود الجزيرة العربيّة حينها، فنهى عن أفظع عادة لدى هذا المجتمع وهي وأد البنات، وشَرَّعَ منحهنّ حصّة من الميراث، ومنع إعضالهنّ وحرمانهنّ من المهور، ومنع جعل مهر إحداهنّ الزواج بالأخرى المسمّى بنكاح الشغار، وحرّم الزواج بزوجة الأب بعد وفاته، وساوى بين النّاس في الإيمان ونهى عن العصبيّة والتفاخر بالأحساب والأنساب، وحرّم الربا والغشّ والتطفيف في الوزن. وقبل ذلك كلّه وبعده دعا إلى التوحيد الخالص للَّه - تعالى - والتوكّل عليه في كلّ الأمور، وأزال عبادة الأوثان ومنع من اللجوء إلى الكهّان والسحرة وأضرابهم من المشعوذين والمنجّمين حتّى عدّ من يلجأ إليهم في أمر من أمور الغيب كافرًا بما أُنزِلَ على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ج. وهو في ذلك كلّه بنى أحكامه على الفطرة ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾[1]، وشادَ بنيان الشريعة السمحاء على اليسر ﴿يُرِيدُ   بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾[2] ونفي الحرج ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ...﴾[3] وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى واليتامى وأداء الأمانات إلى أهلها ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾[4] ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ


 


[1] سورة الروم، الآية 30.

[2] سورة البقرة، الآية 185.

[3] سورة النور، الآية 61.

[4] سورة النحل، الآية 90.

 

82


69

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[1].

 

وفوق كلّ ذلك فقد صرّح القرآن الكريم بأنّه يرفض كلّ عادة منشؤها الصرف هو الجاهليّة ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[2].

 

فليت شعري من أيِّ جاهليّة استقى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أحكامه ولم يبقِ من بنيانها التشريعيّ الضحل حجرًا على حجر؟!

 

4. الأديان التي ترجع إلى أصل سماويّ

أ. لم يقدّم هؤلاء المستشرقون كعادتهم أيّ دليل علميّ على هذا الاقتباس سوى زعمهم المتكرّر بوجود التشابه، وقد أسلفنا أنّ ذلك غير كاف منهجيًّا لإثبات الدعوى، ولا سيّما مع القرائن الأخرى التي تُبعِد، إن لم تنفِ، احتمال الاقتباس كأُمِّيّة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وغيرها.

 

ب. ذكرنا في ما سبق وجوهًا من إعجاز القرآن الكريم وتحدّيه الباقي والمستمرّ للجميع بمن فيهم أهل الكتاب في ذلك العصر أن يأتوا ولو بسورة من مثله، مع توفّر الدواعي للمعارضة لدى قريش وأهل الكتاب أنفسهم في المدينة وغيرها سواء اليهود الذين نقل القرآن الكريم جانبًا من أقوالهم وردّ عليها، أو النصارى. فلو صحّ اقتباس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كتبهم لكانوا هم أعلم بذلك وأعرف من متنصّرة هذا العصر ولعارضوه بذلك وأبطلوا دينه بدل معارضتهم له بأمور أخرى أقلّ أهمِّيّة.

 

ومن أمثلة احتجاجاتهم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله - تعالى - ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ

 


[1] سورة النساء، الآية 58.

[2] سورة المائدة، الآية 50.

 

83


70

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾[1].

 

ج. أين هذا المعلّم الذي تتلمذ على يديه النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وأخذ عنه علوم الأوّلين والآخرين؟ هل يكون بحيرا الراهب الذي رآه مرّة أو مرّتين مع عمّه أبي طالب في طريقه إلى الشام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينها دون سنّ البلوغ؟

 

أيكون هو ورقة بن نوفل المتنصّرالذي زُعم إنباؤه للنبيّ بماهيّة الوحي؟ وما قدرُ علم ورقة هذا حتّى يأتي بما عجز عنه كلّ كتبة العهدين القديم والجديد من قبله ومن بعده، ويودع النبيَّصلى الله عليه وآله وسلم أخبارَ الماضين ومواعظ الأنبياء السابقين، وملاحم الغيب الآتية في المستقبل، ودقائق علوم الطبيعة وحقائق الكون، وأشراط الساعة ومواقفها، والجنّة والنار..؟! وكيف خفي على علماء أهل الكتاب في ذلك الزمان الذين جادلوا النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في كلّ صغيرة وكبيرة هذا العالم النِّحرير الذي يسمَّى ورقة فلم يُعرف بفضل أو علم ولم يذع صيته بين علماء أهل الكتاب الكبار في ذلك الزمان ولا بين عوامّهم؟! ثمّ كيف تردّد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إليه مدّة كافية لتكون تعاليمه المزعومة جزءًا أساسيًّا من الدين والقرآن ثمّ لا تفطن قريش إلى ذلك وتواجه به النبيّصلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة؟ وكيف خفي على قريش معالم اعتقادات ورقة وتعاليمه التي يُزعم وجودها في القرآن الكريم وفي الأحاديث وهو أحدهم ويعيش بين ظهرانيهم؟!

 

د. إنّ من يقارن بين ما نصّ عليه العهدان وغير ذلك ممّا بقي أو يُنسَب إلى أهل الكتاب من كتب ووثائق تاريخيّة يجد البون الشاسع بينها وبين القرآن الكريم في أمور مفصليّة ومهمّة كالتوحيد والتجسيم والتشبيه وعصمة الأنبياء وغيرها من المواضيع. ولنأخذ الأنبياء وكتبهم مثالًا للمقارنة بين موقف القرآن الكريم وموقف التوراة والإنجيل الرائج منهم:


 


[1] سورة النساء، الآية 153.

 

84


71

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

1. نموذج من نظرة القرآن الكريم تجاه الأنبياء وكتبهم:

- الإيمان بكلّ رسل اللَّه: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[1].

 

- تصديق القرآن وهيمنته على كتب اللَّه - تعالى - النازلة على الأنبياء السابقين: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[2].

 

- أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بأنبياء اللَّه -تعالى- ممّا يدلّ على عصمتهم[3]:

﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ﴾[4].

 

- حصول بعضهم على درجة الإمامة: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[5].

 

- السلام عليهم: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾[6]، ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[7]، ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾[8]، ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾[9].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 285.

[2] سورة المائدة، الآية 48.

[3] لقوله – تعالى - ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾ (سورة الزمر، الآية 37)، ولكون المعصية ضلالًا كما في قوله - تعالى - في الشيطان ﴿وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ﴾ (سورة يس، الآية 62).

[4] سورة الأنعام، الآية 90.

[5] سورة الأنبياء، الآية 73.

[6] سورة الصافّات، الآية 79.

[7] سورة إبراهيم، الآية 109.

[8] سورة الصافّات، الآية 120.

[9] السورة نفسها، الآية 181.

 

85


72

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

2. نموذج من نظرة العهدين إلى الأنبياء:

- هارون عليه السلام يصنع العجل لبني إسرائيل: "ولمّا رأى الشعب أنّ موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها. فنزع كلّ الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون. فأخذ ذلك من أيديهم وصوَّره بالأزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا فقالوا هذه آلهتُكِ يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلمّا نظر هارون بنى مذبحاً أمامه ونادى هارون وقال غدًا عيد للربّ.

 

فبكَّروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدّموا ذبائح سلامة (سالمة) وجلس الشعب للأكل والشرب ثمّ قاموا للعب"[1].

 

- نبيّ اللَّه لوط عليه السلام يزني بابنتَيْهِ - والعياذ باللَّه -: "وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ، وَابْنَتَاهُ مَعَهُ، لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ. وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: "أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً". فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلَا بِقِيَامِهَا. وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: "إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أيضاً فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً". فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أيضاً، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا، فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْنًا

 

 


[1] سفر الخروج، الفصل الثاني والثلاثون، الآيات 1 - 6.

 

86


73

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

وَدَعَتِ اسْمَهُ "مُوآبَ"، وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. وَالصَّغِيرَةُ أيضاً وَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ "بِنْ عَمِّي"، وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ"[1].

 

- المسيح عليه السلام يعترض على اللَّه – تعالى -: ذكر إنجيل مرقس أنّ عيسى عليه السلام صرخ بصوت عالٍ وهو على الصليب قائلًا: "ألوي.. ألوي.. لما شبقتني"[2] وهي كلمات آراميّة معناها "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" وقد وردت هذه العبارة في متّى على هذه الصورة "إيلي إيلي لما شبقتني؟"[3] وهي في معناها كالعبارة السابقة.

 

هـ. إنّ موقف القرآن الكريم من أهل الكتاب هو موقف المصحّح لما حرّفوا، الكاشف لما كتموا، فهو موقف المواجهة لكثير من تعاليمهم وليس الرضوخ أمام انحرافاتهم عمّا أنزل اللَّه -تعالى- لذا، فكيف يمكن أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم اقتبس من قصصهم وتعاليمهم ومواعظهم وهو يناقشهم في صحّة نسبة هذه الأمور إلى اللَّه -تعالى- ويحتجّ عليهم بما يكتمون ممّا أنزل اللَّه -تعالى-؟وإليك نماذج من ذلك:

﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[4]، ﴿أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ ٱللَّهُۗ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾[5].

 

﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[6].


 


[1] سفر التكوين، الفصل التاسع عشر، الفاصلة 30 إلى 38.

[2] مرقس، الإصحاح الخامس عشر، الفقرة 34.

[3] متّى، 46-27.

[4] سورة آل عمران، الآية 65.

[5] سورة البقرة، الآية 140.

[6] سورة آل عمران، الآية 93.

 

87


74

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[1].

 

﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[2].

 

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾[3].

 

و. تبيّن من النقطتين السابقتين أنّ موقف القرآن والإسلام من الديانات والكتب السماويّة الرائجة هو التصديق بأصلها الصحيح والتصحيح والتبيين لما حرّف وأخفي منها؛ لذا، يكون من الطبيعيّ أن يشترك القرآن الكريم مع هذه الكتب في أصول مبادئ وتعاليم وقصص لم تطلها يد التحربف، كما يكون من الطبيعيّ أن يتميّز منها بما حُرّف وأُخفي من أصولها.


 


[1] سورة البقرة، الآية 113.

[2] سورة المائدة، الآية 17.

[3] سورة النساء، الآية 171.

 

88


75

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[1].

 

﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[2].

 

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾[3].

 

و. تبيّن من النقطتين السابقتين أنّ موقف القرآن والإسلام من الديانات والكتب السماويّة الرائجة هو التصديق بأصلها الصحيح والتصحيح والتبيين لما حرّف وأخفي منها؛ لذا، يكون من الطبيعيّ أن يشترك القرآن الكريم مع هذه الكتب في أصول مبادئ وتعاليم وقصص لم تطلها يد التحربف، كما يكون من الطبيعيّ أن يتميّز منها بما حُرّف وأُخفي من أصولها.


 


[1] سورة البقرة، الآية 113.

[2] سورة المائدة، الآية 17.

[3] سورة النساء، الآية 171.

 

88


76

الدرس السادس: الشبهة الرابعة: الاقتباس(2)

المفاهيم الرئيسة

- إنّ قريشًا أفصح العرب وأحفظهم للشعر وهم نقلة الشعر ورواته وأعلمهم بأساليبه ومداخله ومخارجه، وسورة القمر مكيّة ألقاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على مسامعهم، وكانوا حينها أشدّ الناس عدواةً له وحرصًا على تكذيبه وخنق دعوته، ومع ذلك لم يدّعوا هذا الادّعاء.

 

- لم يأت هؤلاء المدّعون بدليل واحد يثبت نسبة هذه الأبيات إلى امرئ القيس، فهي لم ترد في ديوانه على اختلاف طبعاته، ونسخه ورواياته.

 

- لم يقدّم هؤلاء المستشرقون كعادتهم أيّ دليل علميّ على هذا الاقتباس سوى زعمهم المتكرّر بوجود التشابه، وقد أسلفنا أنّ ذلك غير كافٍ منهجيًّا لإثبات الدعوى.

 

- ذكرنا في ما سبق وجوهًا من إعجاز القرآن الكريم وتحدّيه الباقي والمستمرّ للجميع بمن فيهم أهل الكتاب في ذلك العصر أن يأتوا ولو بسورة من مثله، مع توفّر الدواعي للمعارضة لدى قريش وأهل الكتاب أنفسهم في المدينة وغيرها.

 

- إنّ من يقارن بين ما نصّ عليه العهدان وغير ذلك ممّا بقي أو يُنسَب إلى أهل الكتاب من كتب ووثائق تاريخيّة، يجد البون الشاسع بينها وبين القرآن الكريم في أمور مفصليّة ومهمّة كالتوحيد والتجسيم والتشبيه وعصمة الأنبياء وغيرها من المواضيع.

 

- من الطبيعيّ أن يشترك القرآن الكريم مع هذه الكتب في أصول مبادئ وتعاليم وقصص لم تطلها يد التحربف، كما يكون من الطبيعيّ أن يتميّز منها بما حُرّف وأُخفِي من أصولها.

 

89


77

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

الدرس السابع:

الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف دعوى درمنغام كون الوحي حديثًا نفسيًّا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

2. يشرح دعوى أنّ الوحي هو نتيجة ظهور الشخصيّة الباطنيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

3. يجيب عن الدعوَيَيْنِ السابقتين بشكل مفصّل.

 

91

 


78

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

•        عرض الشبهة

لقد عُرضت نظريّة الوحي النفسيّ بوجهين:

الوجه الأوّل: تجلّي الأحوال الروحيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

وهو ما فصّله إميل درمنغام[1] في كتابه "حياة محمّد"، ونذكر ملخّصه في ما يأتي:

قال درمنغام فى كفالة أبي طالب لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة جدّه: "إنّه لم يكن غنيًّا فلم يُتَحْ له تعليم الصبيّ الذي بقي أُمِّيًّا طوال حياته.. ولكنّه كان يصطحبه وإياه في التجارة فيسير والقوافل خلال الصحراء، يقطع هذه الأبعاد المتنائية، وتحدّق عيناه الجميلتان بمدين ووادي القرى وديار ثمود، وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب والبادية عن هذه المنازل وحديثها وماضي نبئها، ويقال إنّه فى إحدى هذه الرحلات إلى الشام التقى الراهب بحيرا فى جوار مدينة بصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء كتبه، وفي الشام عرف محمّد أحبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم، وانتظار الوقيعة بهم"[2].


 


[1] إميل ديرمنغام، المولود في باريس في 3 يناير 1892 وتوفّي في ساموا سور سين في 15 مارس 1971، صحفيّ فرنسيّ ومسؤول أرشيف وأمين مكتبة. بعد الحصول على شهادة في الأدب، انضمّ إميل ديرمنخيم إلى كلّيّةِ الحقوق، حيث تخرّج منها عام 1913 بعد أن دافع عن أطروحة عن كلود دانيبول. في أكتوبر 1913، غادر لأداء خدمته العسكريّة، ولكن عُيّن تأجيله بعد فترة وجيزة. في عام 1914، في بداية الحرب العالميّة الأولى، تمَّ استدعاؤُه للخدمة الإضافيّة حتّى سبتمبر 1917. ثمّ جرى تعيينه في وزارة الشؤون الخارجيّة كملحق في الخدمة الصحفيّة، ثمّ أصبح رئيس التحرير حتّى اختفاء هذه الصحيفة في عام 1938. في عام 1942، عُيّن أمينًا للمكتبات في الحكومة العامّة الجزائرية L’Information سكرتير التحرير.

[2] انظر: درمنغام، إميل، الشخصيّة المحمّديّة - السيرة والمسيرة، ترجمة عادل زعيتر، الشعاع للنشر والتوزيع، شارع الجزائر - المعادي - مصر، ط3، 2005م، ص53-50. وانظر: رضا، محمد رشيد، الوحي المحمّديّ، مصدر سابق، ص132-131.

 

93


79

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

وقال ملمّحًا إلى استمداد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن الكريم من أساقفة النصارى: "... وإلى عُكاظ جاء الشابّ محمّد مع أبي بكر ذات يوم فسمعا أسقف نجران الشهير قسّ بن ساعدة يتكلّم. ظلّ قسّبن ساعدة ذو اللحية البيضاء خطيبَ الصحراء العظيم وحَكَم العربِ زمنًا طويلًا، ففي عكاظ خطب قسّ الناس ذات مرّة راكبًا جملًا أورق فاستشهد بالسماء والبحر والليل والخيل والنجوم (كما يكون، بعد حين، في بعض سور القرآن الأولى التي نرى بينها وبين ما قاله قسّ بن ساعدة في خطبته الشعريّة شبهاً لافتاً للنظر، حتّى في الكلمات)..."[1].

 

ثمّ يصرّح بكون الوحي من نفس النبيّصلى الله عليه وآله وسلم: "وينظر محمّد طلوع النجوم الأولى، فما أكثر ما تأمّل في هذه النجوم الليليّة من شُرف مكّة أو من باب خيمة أقيمت بالقرب من بئر! وما أكثر ما أُعجب بنظام النجوم المنسجم الثابت الذي يدير مجراها! وتكون هذه النجوم في ليالي صيف الصحراء من الكثرة وشدّة النور ما يخيّل إلى الإنسان أنّه يسمع صوتاً للمعانها كما يسمع صوتُ نارِ موْقدٍ كبير.

 

والحقّ أنّ في السماء لآيات لأولي الأبصار، والحقّ أنّ العالم حافل بالأسرار وأنّ العالم سرّ بنفسه، أفلا يكفيه أن يفتح عينيه وأذنيه ليرى ويسمع؟ ليرى حقًّا، وليسمع كلامًا لا يعبَّر عنه، ويلوح له أنّه يسمع شيئاً مع ذلك، وهل يتطلّب سماع أصوات ما وراء النجوم غير قلب نقيّ ونفس صادقة وروح مستعدّة؟"[2].

 

ثمّ قال في أمر البعثة: "فلمّا كانت سنة 610 كان الاضطراب النفسيّ الذي يعانيه محمّد على أشدّه، فصار لا يحتمل أن ينقصه وينقص قومه بعض ما هو جوهريّ، وأن ينسى الناس الأمر الضروريّ، وأن يتمسّك كلّ إنسان بصنم قبيلته وصنم عشيرته، وأن يخشى الناس الجنّ والغيلان والأشباح، وأن يهملوا الحقيقة العليا التي بلغ من نسيانهم لها ما فيه موت الروح مع عدم إنكارهم لها على ما


 


[1] رشيد رضا، الوحي المحمّدي، مصدر سابق، ص56.

[2] المصدر نفسه، ص72.

 

94


80

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

يحتمل، فمحمّد كان قلبه قد خلص من جميع هذه السفاسف وتحرّر من جميع القوى التابعة لقوّة غيرها ومن أيّ كائن صادر عن الكائن الواحد الذي أصبح يعرفه الآن، وهو الذي علم من نصارى الشام أو مكّة وجود دين موحى به، وأدرك أنّ شعوباً كانت مؤتمنة على الحقّ وفق الأوامر الإلهيّة كما بلّغها إيّاها أناس موحى إليهم وأنّ الناس كما (كذا)[1] ضلّوا أرسل اللَّه إليهم رسولًا ليدعوهم إلى الصراط المستقيم، إلى طريق الحقّ الثابتة، وأنّ دين الأنبياء واحد في كلِّ زمن، وأنّ الناس كلّما حرّفوه وأفسدوه أوحى اللَّه إلى رجل لكي يقوّمه، وأنّ العرب غائصون في الضلال المبين، أفلا يحقّ له، والأمر كما ترى، أن يرجو تجلّي رحمة اللَّه له من جديد وأن تكون في عونه؟

 

أخذ محمّد يزيد رغبة عن الاجتماع بالناس، وصار يجد في عزلته في غار حراء ما تقرّ به عينه، فيقضي الأسابيع فيه، وعيه زاد قليلاً، وأصبح له بالصوم والسهر وإنعام النظر في الفكرة الواحدة ما تهيم به روحه، وأضحى لا يُفرِّق جيّداً بين تعاقب الليل والنهار، وبين اليقظة والمنام، وغدا يقضي طويل الساعات جاثياً في الظلام أو مستلقياً.. وكان كلّما سار خُيِّل إليه أنّ أصواتًا تخرج من الحجارة، فإذا ما تعثّر بحجر ارتدّ، والحجارة كثيرة تحت وهج الشمس والحجارة تُحيِّيه بـ"رسول اللَّه"[2].

 

ويستمرّ درمنغام في إطلاق العنان لخياله الخصب مستلهمًا من خرافة ورقة بن نوفل، فيذكر كيف هدّأت خديجة (رضوان اللَّه عليها) من روع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، واختبرت كون النازل عليه ملاكًا لا شيطانًا عبر كشف خمارها والاستعانة بابن عمّها المتنصّر ورقة بن نوفل[3].


 


[1] كذا في المصدر، والصحيح (كلّما).

[2] انظر: درمنغام، الشخصيّة المحمّديّة - السيرة والمسيرة، مصدر سابق، ص76-75.

[3] المصدر نفسه، ص80-77.

 

95


81

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

ولكون مقدّمات درمنغام مطويّة في كلامه يدسّها دسّ السمّ في العسل، سنذكر خلاصة ترتيبها والنتيجة المستخلصة منها، وهي كالآتي:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبيّ الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه باللَّه وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة، وتقاليد وراثيّة رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلّى في ذهنه، ويُحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة، فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشادًا إلهيًّا نازلًا عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه مَلَكٌ من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الّذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء، فكلُّ ما يُخْبر به النبيّ أنّه كلام أُلقِيَ في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده.

 

وقد توصَّل إلى الوحي بالانقطاع إلى عبادة اللَّه - تعالى -، والتوجّه إليه في خلوته بغارِ حِراء، وقَوِيَ هنالك إيمانُه، وسَما وِجدانُه، فاتّسع محيطُ تفكُّرِهِ، وتضاعف نور بصيرتِه، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السماوات والأرض، الدالّة على وحدانيَّة مبدع الوجود، وسرّ النظام الساري في كلِّ موجود، بما صار به أهلًا لهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وما زال يفكّر ويتأمَّل، وينفعل ويتململ، ويتقلّب بين الآلام والآمال، حتّى أيقن أنّه النبيّ المنتظر الّذي يبعثه اللَّه لهداية البشر. فتجلّى له هذا الاعتقاد في الرؤى المناميّة، ثمّ قوي حتّى صار يتمثّل له الملك، يلقّنه الوحي في اليقظة.

 

وأمّا المعلومات الّتي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدّة من اختلاطه بأحبار اليهود ورهبان النصارى أثناء أسفاره. ولكنّ تلك المعلومات لم تكن كلّها مقبولة فى عقله؛ لما عرض للنصرانيّة من الوثنيّة بألوهيّة المسيح وأمّه وغير ذلك، وبما حدث فيها من البدع.

 

96


82

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

وبكلمة مختصرة: إنّ معلوماته وأفكاره وآماله، ولّدت له إلهامًا، فاض من عقله الباطن، أو نفسه الخفيّة بالروحانيّة العالية على مخيّلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره، فرأى الملك ماثلًا له، وعلى سمعه، فوعى ذلك على أنّه معلومات نازلة من السماء، وأنّه خطاب الخالق -عزَّ وجلَّ-، بوساطة الناموس الأكبر، وملك الوحي، جبرائيل روح القُدس[1].

 

مناقشة الوجه الأوّل:

ويمكن التعليق على مقدّمات درمنغام ونتيجتها بنقاط عدّة، نذكر منها:

1. أنّ هذه النظريّة ، كما سابقاتها التي تليها، تنطلق من نقطة مفترضة مسبّقًا، وهي أنّ الوحي المحمّديّ ظاهرة بشريّة يجب تفسيرُها وفق منطق العلم التجريبيّ؛ لذا، فإنّها ومن موقف متحيّز تجاه ظاهرة الوحي ترفض دعوى أنّ الوحي ذو مصدر إلهيّ.

 

2. اعتمدت هذه النظريّة على مقدّمات تاريخيّة باطلة جزمًا وأخرى تبرّع بها درمنغام من مخيّلته مع جهل فاضحو إيهام وتلميحات للقارئ لتوجيهه في الاتجاه الذي يريد. فأمّا الباطلة جزماً فمنها خرافة ورقة بن نوفل التي اعتمد فيها على رواية البخاريّالتي يُشمّ منها رائحة العداء لآل محمّد كما أوضحناه خلال مناقشة الرواية سابقًا[2]. وأمّا ما تبرّع به من مخيّلته الشاعريّة فمنه قصّة لقاء أحبار الروم في الشام التي لم يرد فيها نصّ تاريخيّ ضعيف أو قويّ، وقصّة سماع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبار عاد وثمود من أعراب البادية في الطريق إلى الشام مع عمّه أبي طالب.

 

وتراه حينًا آخر يلمّح إلى القارئ ، بخبث، أنّ خبر غلبة الروم على الفرس (الذي نصّت عليه سورة الروم وكان من إخبارات القرآن الكريم الغيبيّة ومن الشواهد


 


[1] انظر: الشيخ السبحانيّ، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، مصدر سابق، ج3، ص137-136.

[2] انظر: شبهة "الوهم" من هذا المتن، ص7.

 

97


83

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

على إعجازه) استقاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أحبار الروم النصارى في الشام. وهذا مردود بدلائل التاريخ والعقل، فأمّا التاريخ فإنّه يحدّثنا بأنّ ظهور الفرس على الروم كان فى سنة 610 م، وذلك بعد رحلة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الأخيرة إلى الشام بأربع عشرة سنة وقبل بدء الوحى بسنة. ثمّ إنّ التاريخ أنبأنا أنّ دولة الروم كانت مختلّة معتلّة فى ذلك العهد بحيث لم يكن أحد يرجو أن تعود لها الكرّة والغلب على الفرس.

 

وأمّا العقل فإنّه يحكم بأنّ مثل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فى سُمُوِّ إدراكه المتّفَق عليه حتّى بين المستشرقين أنفسهم، لا يمكن أن يجزم بأنّ الغلب سيعود للروم على الفرس خلال بضع سنين، لا من قِبَلِ الرأي ولا من الوحي النفسيّ المستمدّ من الأخبار غير الموثوق بها، وقد صحّ أنّ انتصار الروم وقع سنة 622م، وكان وحي التبليغ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سنة 614م، فإذا فرضنا أنّ سورة الروم نزلت فى هذه السنة يكون النصر قد حصل بعد ثماني سنين، وإن كان فى السنة الثانية تكون المدّة سبع سنين، وهو المعتمد فى التفسير، والبِضْعُ (كناية عن قليل) يُطلَق على ما بين الثلاث والتسع[1].

 

3. هذه المصادر المفترضة للقرآن الكريم لا تكفي لكاتب متمرّس ليكتب كتيّبًا لا شأن له ناهيك عن أن يوحي رجل أمّي من عقله الباطن إلى نفسه كتابًا كالقرآن الكريم.

 

أفيصدّق عاقل أنّ لقاءات معدودة لرجلٍ أمّيٍّ وأحبارٍ مَجهولي القيمة العلميّة جرت خُلسةً خلال أسفاره، وبضع قصص سمعها من أعراب البادية كافية لتكون مادّةً كتابيّة للقرآن الكريم الذي يحتوي على دقائق علوم التوحيد وأخبار الغيب من القيامة والجنّة والنار والملائكة والرسل وكتبهم وأقوامهم، وتفصيلات الشرائع، وإخبارات عن الملاحم والفتن وما يجري فيها، ومحاججة لأهل الكتاب في اعتقاداتهم وكتبهم وشرائعهم...؟!


 


[1] انظر: رضا، الوحي المحمّديّ، مصدر سابق، ص152-151.

 

98


84

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

4. إنّ القرآن الكريم نفسه يذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليعلم من قبل نفسه شيئًا من أخبار النبيّين والصالحين، فهذا قوله - تعالى - في سورة القصص صريحًا في ذلك ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[1]، وقوله - تعالى - كذلك ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[2]، وكذلك قوله – تعالى - ﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ﴾[3].

 

فهذه الآيات تُظهِر بوضوح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن على علم بتلك الأخبار من مصدر غير الغيب، وبضمّ ما عُلم من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم من الصدق وعدم الكذب لا يبقى مصدر لتلك الأخبار غير الوحي الإلهيّ.

 

5. إنّ الظواهر النفسانيّة كظاهرة الوحي النفسيّ المزعومة هي تفاعلات نفسيّة مع المؤثِّرات الخارجيّة، فلا يمكن توقّع الانسجام وعدم الاختلاف في القرآن الكريم في الأسلوب والمضمون (وهو الذي نزَّل نجومًا طوال ثلاثة وعشرين عامًا في الحلّ والسفر والحرب والسلم..) إذا كان ترشّحات من العقل الباطن.

 

6. يَرُدُّ على مقدّمات درمنغام جميع ما أوردناه على شبهة الاقتباس من أنّها لو صحّت لكانت قريشٌ أعلم بتلك الأنباء وأولى بتعيير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتعلّمه عند أهل الكتاب، وموقف القرآن الكريم المختلف عن العهدين في أغلب القضايا

 


[1] سورة القصص، الآيات 44 - 45 - 46.

[2] سورة آل عمران، الآية 44.

[3] سورة يوسف، الآية 102.

 

99


85

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

التاريخيّة، ومنها نسبة القرآن الكريم صناعة عجل بني إسرائيل إلى السامريّ، بينما نسبتها التوراة الرائجة إلى هارون (على نبيّنا وآله وعليه السلام) وغير ذلك من الإيرادات شاهد على أنّ النبيّ لم يتعلّم عند أحدٍ من أهل الكتاب.

 

الوجه الثاني: الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم

وهو قريب من الوجه الأوّل حيث يزعم أصحابه أنّ الوحي نتيجة ظهور الشخصيّة الباطنة للنبيّصلى الله عليه وآله وسلم.

 

وتوضيح هذه النظريّة: أنّ لكلّ إنسان شخصيّتين:

- الشخصيّة الظاهرة العاديّة، وهي الّتي تخضع للحواسّ الخمس وتعمل بها.

- الشخصيّة الباطنيّة، وهي الّتي تعمل عندما تتعطّل الحواسّ ويتعطّل الشعورُ الظاهريّ.

 

وهذه الشخصيّة هي الّتي تحرّك جميع أعضاء الجسم الإنسانيّ الّتي لا تخضع لإرادته كالكبد والقلب والمعدة وغيرها كما أنَّها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيّبة في الظروف الحرجة.

 

ثمّ قالوا: وهذه الشخصيّة الباطنيّة قد أصبحت مدركة بالحسّ فإنّ المنوَّم مغناطيسيًّا يظهر بمظهر من له عقلٌ راجح وفكر ثاقب ونظر بعيد ويقوم بما لا يقوم به في حالته العاديّة.

 

وقد انتهى هؤلاء المادّيّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى: أنّ شخصيّة الإنسان الباطنيّة أرقى من شخصيّته العاديّة، وأنّ ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جدًّا، وما قد يتمتّع به من روح قويّة هو من مظاهر هذه الشخصيّة وفاعليّتها.

 

ثمّ قالوا: إنّ هذه الشخصيّة هي الّتي تنفث في روح الأنبياء ما يعدّونه وحيًا من اللَّه، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

 

100


86

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الأسلوب التجريبيّ لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلّغه كلامًا عن اللَّه، بل يكون في تجلّي روح الإنسان عليه بوساطة شخصيّته الباطنة فتعلّمه ما لم يكن يعلم وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمّته[1].

 

مناقشة الوجه الثاني:

يَرُدُّ على هذا الوجه - إضافة إلى ما ورد على مقدّمات درمنغام- الآتي من النقاط:

1. إنّ التسليم بصحّة نظريّة ظهور الشخصيّة الباطنيّة وتحقّقها عند بعض البشر، لا يعني بالضرورة أنّ ظاهرة الوحي أحد مصاديقها، فليس الأمر دائرًا بين أن يكون الوحي من سنخ ظهور الشخصيّة الباطنيّة أو لا يكون له تفسير آخر، بل يمكن أن تكون نظريّة ظهور الشخصيّة الباطنة صحيحة عند تحقّق شروطها عند بعض الناس، ويكون للوحي تفسيره الغيبيّ.

 

2. إنَّ تجلّي الشخصيّة قلّما يحدث في الأشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الأغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة؛ لأنّ نافذة (اللَّاوعي) عند غيرهم من الأَصِحَّاء تنسدّ بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليوميّة وهمومها، ولا يبقى للشخصيّة الباطنيّة مجال للنشاط والفاعليّة، ولكنّ الأمر على العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقلّ اهتمامهم بالحياة اليوميّة فيترك (الوعيُ) مكانه لللَّاوعي، وتترك الشخصيّة الظاهريّة المعطّلة مكانها للشخصيّة الباطنيّة.

 

وخلاصة القول أنّ تجلّي الشخصيّة الباطنيّة في الحياة الإنسانيّة قضيّة نادرة جدًّا، وهي لا تحدث إلّا في ظروف خاصّة مثل: المنامات والأحلام وغيرها من


 


[1] انظر: الشيخ السبحانيّ، سيّد المرسلين، مصدر سابق، ص329-328.

 

101


87

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

التحوّلات الحياتيّة الّتي تقلّل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجّهَه إلى الشخصيّة الباطنيّة.

 

ولكنّ هذه الحالة وهذه الشرائط (أي الغفلة عن هموم الحياة اليوميّة الخارجيّة) لم تحصل للأنبياء وحدهم.

 

102

 


88

الدرس السابع: الشبهة الخامسة: الوحي النفسيّ

المفاهيم الرئيسة

- ذهب بعض الباحثين - درمنغام - إلى كون الوحي الإلهيّ هو تجلٍّ لروحيّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- يستمرّ درمنغام في إطلاق العنان لخياله الخصب مستلهمًا من خرافة ورقة بن نوفل، فيذكر كيف هدّأت خديجة (رضوان اللَّه عليها) من روع النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، واختبرت كون النازل عليه ملاكًا لا شيطانًا.

 

- إنّ هذه النظريّة تنطلق من نقطة مفترضة مسبَّقًا وهي أنّ الوحي المحمّديّ ظاهرة بشريّة يجب تفسيرها وفق منطق العلم التجريبيّ، لذا فإنّها ومن موقف متحيّز تجاه ظاهرة الوحي ترفض دعوى أنّ الوحي ذو مصدر إلهيّ.

 

- اعتمدت هذه النظريّة على مقدّمات تاريخيّة باطلة جزمًا وأخرى تبرّع بها درمنغام من مخيّلته مع جهل فاضح وإيهام وتلميحات للقارئ لتوجيهه في الاتّجاه الذي يريد.

 

- إنّ المصادر المفترضة للقرآن الكريم لا تكفي لكاتب متمرّس ليكتب كتيّبًا، ناهيك عن أن يوحي رجل أمّيّ من عقله الباطن إلى نفسه كتابًا كالقرآن الكريم.

 

- إنّ القرآن الكريم يذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليعلم من قِبَلِ نفسه شيئًا من أخبار النبيّين والصالحين.

 

- يزعم بعضهمأنّ الوحي نتيجة ظهور الشخصيّة الباطنيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- إنَّ تجلّي الشخصيّة قلّما يحدث في الأشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الأغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة.

 

103


89

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

الدرس الثامن

الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف شبهة بشريّة ألفاظ القرآن الكريم.

2. يُبيِّن أنّ النظريّة تستلزم إنكار وجود الروح الأمين، أو جبرائيل الوساطة في نزول الوحي.

3. يبيّن تناقض الشبهة مع ظاهر الآيات القرآنيّة، وإجماع المسلمين، وحكم العقل بكون القرآن معجزًا.

 

105

 


90

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

•        تمهيد

من الشبهات التي أثارها بعض الدارسين حول الوحي الإلهيّ إقرارهم بسماويّة معارف القرآن الكريم ومعانيه، ولكنّهم يدّعون أنّ القالب اللفظيّ لهذه المعارف والمعاني هو من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

•        عرض الشبهة

سبق أن ذكرنا أنّ هذه النظريّة نُسبت إلى المتكلّم المعروف عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب البصريّ، ونُسب تبنّيها، في عصرنا، إلىشاه وليّ اللَّه دهلويّ والسيّد أمير عليّ الهنديّ[1]، ومن أبرز من عبّر عنها بصراحة هو السير سيِّد أحمد خان الهنديّ حيث يقول: "لا بدّ أن نعرف أنّ العلاقة بين اللَّه وشخص النبيّ تنطلق من ملكة النبوّة القدسيّة، وهي الناموس الأكبر، وما يصطلح عليه الشرع بجبرائيل.

 

أجل، إنّ القلب الطاهر للنبيّ مرآة تعكس الحقّ، ومظهر للتجلّيات الربَّانيّة، وذلك القلب النورانيّ هو "القاصد" الذي يحمل الرسائل إلى اللَّه، ويتلقّى منه. وهذا هو الشيء المجسّد الذي يخرج كلمات اللَّه وأصواتها، وهو الأذن التي تسمع كلام اللَّه الخالي من الحرف والصوت. من قلبه الذي هو عرش إلهيّ ينطلق


 


[1] انظر: كلانتري، إبراهيم، نظريّة وحيانيّة ألفاظ القرآن الكريم - أدلّة وبراهين، مجلّة نصوص معاصرة، ، مؤسَّسة دلتا، الحدث - لبنان، السنة الرابعة، 1429هـ - 2008م، العددان الخامس عشر والسادس عشر، ص110.

 

107


91

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

بالآية جبرائيل، بل صريح في آية أخرى أنّ الملك النازل بالوحي هو جبرائيل، قال -تعالى- ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾[1]، فهل يستطيع أحمد خان وأمثاله تفسير جبريل هنا بقلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيُؤَوِّلُ تفسيره: أنّ من كان عدوًّا لقلبك فقد نزّل قلبُك الوحي على قلبك؟!!!

 

ب. إنّ اللجوء إلى مثل هذه التأويلات البعيدة عن ظواهر الآيات والروايات والمناقضة لإجماع المسلمين ليس عليه دليل أوّلًا، ولا موجب له ثانيًا؛ فإنّ ظاهر الآيات لا يناقض بديهة عقليّة ولا مسلّمة شرعيّة حتّى يحتار أحمد خان في تأويله فيأوي إلى هذه التخيّلات التي ألبسها لباسًا صوفيًّا عرفانيًّا.

 

ج. يعلنُ القرآنُ صراحةً في بعض آياته أنّه كلام اللَّه - تعالى -. قال -تعالى-:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾[2]، وهكذا ورد التعبير بكلام اللَّه من سورة البقرة ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[3]، وفي سورة الفتح ﴿سَيَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُۖ فَسَيَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾[4].

 

وإنّما يصحّ إسناد الكلام إلى متكلّم خاصّ إذا كان هو العامل في تنظيم كلماته وتنسيق أسلوبه التعبيريّ الخاصّ. أمّا إذا لقّنَ بعض المفاهيم لشخص،

 


[1] سورة البقرة، الآيتان 97 - 98.

[2] سورة التوبة، الآية 6.

[3] سورة البقرة، الآية 75.

[4] سورة الفتح، الآية 15.

 

109


92

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

ثمّ صبَّ الشخصُ تلك المفاهيم في قوالب لفظيّةٍ عمد إلى اختيارها بنفسه، فعندها سيُنسَب الكلام إلى هذا الشخص[1].

 

د. ذكرنا في الكلام عن إعجاز القرآن الكريم أنّ إعجازه البيانيّ هو أوّل ما ظهر من إعجازه، وهو الذي تعقّلته العرب حينها من ذلك، والحقّ أنّه جزء أساسيّ من إعجاز القرآن الكريم، فلو كانت ألفاظ القرآن الكريم من صياغة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم لما عجزت قريش عن الإتيان بمثله. وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأمر في قوله – تعالى -: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[2]. هذا، فضلًا عن أنّ الآيات التي تفيد عجز البشر عن الإتيان بمثله لم تستثن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من شمولها، قال -تعالى-: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[3].

 

هـ. هناك آيات كثيرة تدلُّ بوضوح على سماويّة ألفاظ القرآن وتركيبة نصّه العربيّ، ومنها:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[4].

 

﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾[5].

 

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[6].


 


[1] انظر: الشيخ معرفة، تلخيص التمهيد، مصدر سابق، ج1، ص132.

[2] سورة يونس، الآية 16.

[3] سورة الإسراء، الآية 88.

[4] سورة الزخرف، الآيتان 3 - 4.

[5] سورة الأحقاف، الآية 12.

[6] سورة يوسف، الآية 2.

 

110


93

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

يُلاحَظ أنّ هذه الآيات تنسب تركيبة القرآن وألفاظه العربيّة إلى اللَّه - سبحانه وتعالى- صراحة، ومن الواضح أنّ (اللسان) و (العربيّة) لا علاقة لهما بالمضمون أبدًا، إذ هما من أوصاف الألفاظ والبنية الظاهريّة للنصّ[1].

 

وهناك آيات تنفي بشريّة القرآن الكريم ككلام أو قول، أو تنقل قول الكفّار في نسبة البشريّة إليه من هذه الجهة في سياق الاستنكار، منها قوله – تعالى - ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[2] وآيات اُخر تأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة والتلاوة والترتيل والقول، منها: ﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾[3]، ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾[4]، ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾[5]، ﴿أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾[6].

 

ومن الواضح جدًّا أنّ (الترتيل) و(القراءة) و(إلقاء القول) تعود بأجمعها إلى الألفاظ والعبارات، ولا يمكن أن تكون لها أيّة نسبةٍ مع محتوى الكلام ومضمونه. ومن خلال التمعّن والتدقيق في الآيات المتقدّمة، وكثيرٍ من الآيات التي تبيّن كيفيّة نزول الوحي على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لا يبقى أيُّ مجالٍ للتردّد في القول إنّ ألفاظ القرآن وتركيبته الظاهريّة وأسلوبه البيانيّ كمضمونه ومحتواه السامي ومعارفه الساطعة، قد نزلَتْ من عند اللَّه - سبحانه - على سفير الوحي والرّسالة، وأنّ دور جبرائيل والنبيّ الأكرم لم يكن سوى الوساطة في تلقّي هذا الوحي، وإبلاغه إلى الناس[7].


 


[1]  انظر: كلانتري، نظريّة وحيانيّة ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، ص106.

[2] سورة المدّثِّر، الآيتان 24 - 25.

[3] سورة الكهف، الآية 27.

[4] سورة العلق، الآية 1.

[5] سورة الإخلاص، الآية 1.

[6] سورة المزّمِّل، الآية 4.

[7] كلانتري، نظريّة وحيانيّة ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، ص107.

 

111


94

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

و. تطرّقنا من قبل إلى الاختلاف الواضح والصريح بين الحديث النبويّ الشريف والقرآن الكريم في الأسلوب والصياغة وغير ذلك. وهذا بنفسه دليل كافٍ للمنصف ليعرف أنّ ألفاظ القرآن الكريم ليست من عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

قال الزرقانيّ: "ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبيّ الإسلام ويعرفون مقدرته الكلاميّة من قبل أن يوحى إليه، فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول إنّ هذا القرآن كلام محمَّد، وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه الصلاة والسلام"[1].

 


[1] الزرقانيّ، محمّد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، حقّقه وعلّق عليه فوّاز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربيّ، بيروت - لبنان، ط1، 1415هـ - 1995م، ج2، ص264.

 

112


95

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

المفاهيم الرئيسة

- أثار بعض الدارسين شبهة حول الوحي الإلهيّ مع إقرارهم بسماويّة القرآن الكريم ومعارفه ومعانيه، حيث يدّعون أنّ القالب اللفظيّ لهذه المعارف والمعاني هي من صياغة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم.

 

- نُسبت هذه الشبهة إلى المتكلّم المعروف عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب البصريّ، ونُسب تبنّيها في عصرنا إلى شاه وليّ اللَّه دهلويّ والسيّد أمير عليّ الهنديّ، ومن أبرز من عبّر عنها بصراحة السيّد أحمد خان الهنديّ.

 

- حاصل هذه الشبهة أنّ قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يتلقّى الحقائق الإلهيّة، بما هي معانٍ عظيمة، إلّا أنّها خالية من الحروف والأصوات، لكنّه - أي هذا القلب - يترجم هذه الحقائق بألفاظ تسمعها الأذن الظاهريّة للنبيّ، فيتوهّم أنّ أحدًا يقف قباله ويلقيها عليه، والحال أنّ قلبه هو الذي يناجيه بها.

 

- إنّ هذه الشبهة في إنكارها وساطة الملك بين اللَّه - تعالى - ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم في الوحي مخالفة لظاهر القرآن الكريم وإجماع المسلمين منذ الصدر الأوّل.

 

- يعلنُ القرآنُ صراحةً في بعض آياته أنّه كلام اللَّه تعالى. قال تعالى:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.

 

- لو كانت ألفاظ القرآن الكريم من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما عجزت قريش عن الإتيان بمثله.

 

 

130


96

الدرس الثامن: الشبهة السادسة: بشريّة ألفاظ القرآن

المفاهيم الرئيسة

- أثار بعض الدارسين شبهة حول الوحي الإلهيّ مع إقرارهم بسماويّة القرآن الكريم ومعارفه ومعانيه، حيث يدّعون أنّ القالب اللفظيّ لهذه المعارف والمعاني هي من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- نُسبت هذه الشبهة إلى المتكلّم المعروف عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب البصريّ، ونُسب تبنّيها في عصرنا إلى شاه وليّ اللَّه دهلويّ والسيّد أمير عليّ الهنديّ، ومن أبرز من عبّر عنها بصراحة السيّد أحمد خان الهنديّ.

 

- حاصل هذه الشبهة أنّ قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يتلقّى الحقائق الإلهيّة، بما هي معانٍ عظيمة، إلّا أنّها خالية من الحروف والأصوات، لكنّه - أي هذا القلب - يترجم هذه الحقائق بألفاظ تسمعها الأذن الظاهريّة للنبيّ، فيتوهّم أنّ أحدًا يقف قباله ويلقيها عليه، والحال أنّ قلبه هو الذي يناجيه بها.

 

- إنّ هذه الشبهة في إنكارها وساطة الملك بين اللَّه - تعالى - ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم في الوحي مخالفة لظاهر القرآن الكريم وإجماع المسلمين منذ الصدر الأوّل.

 

- يعلنُ القرآنُ صراحةً في بعض آياته أنّه كلام اللَّه تعالى. قال تعالى:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.

 

- لو كانت ألفاظ القرآن الكريم من صياغة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما عجزت قريش عن الإتيان بمثله.

 

 

113


96

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

الدرس التاسع

الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يعرف علم الهرمنيوطيقيا.

2. يحلّل شبهة كون القرآن الكريم نصًّا خاضعًا في تأليفه للظروف التي ظهر فيها.

 

115

 


97

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

•        عرض الشبهة

 

مقدّمة

القراءة التأويليّة الغربيّة، أو عمليّة تفسير النصوص تسمّى بـ "الهرمنيوطيقيا". وهذا المصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللَّاهوتيّة "الثيولوجيا"، ليشير إلى مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن يتّبعها المفسّر لفهم وتأويل النصّ الدينيّ "الكتاب المقدّس"، ويعود قدم المصطلح، للدلالة على هذا المعنى، إلى عام 1645م، وذلك في كتاب لدانهاور[1]، ولا يزال هذا المصطلح مستمرًّا حتّى يومنا هذا خاصّة في الأوساط البروتستانتيّة. وقد ألّف هذا الكتاب بسبب التحوّل في منح الحقّ في التفسير من الكنيسة إلى الفرد، فكان الفرد في حاجة إلى علم أو منهج يتضمّن القواعد المهمّة في تفسير الكتاب المقدّس. وقد اتّسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال اللّاهوت إلى دوائر أكثر اتّساعًا تشمل العلوم الإنسانيّة كافّة[2].


 


[1] لاهوتيّ مسيحيّ أرثوذكسي، ولد في 1603م، وتوفّي في 1666م.

[2] انظر جادامير، هانس غيورغ، فلسفة التأويل، الأصول والمبادئ والأهداف، ترجمة محمّد شوقي الزين، الدار العربيّة للعلوم، المركز الثقافيّ العربيّ، ط2، 1427هـ - 2006م، ص61 وما بعدها.

 

117


98

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

يرجع سهم السبق في هذا الانتقال للمفكّر اللاهوتيّ الألمانيّ شلايرماخر[1]، الذي انتقل بـ "الهرمنيوطيقيا" من حصرها بالدراسات اللّاهوتيّة إلى علم مستقلّ يعالج فهم النصوص وفق قوانين مضبوطة للفهم والتأويل.

 

قامت تأويليّة شلايرماخر على ثنائيّة فهم المدلول اللغويّ والخلفيّة النفسيّة للكاتب، وجاء بعده ويلهلم دلتاي[2] ليقيم هرمنيوطيقيّته على ثلاثة محاور، هي: المؤلّف، التاريخيّة، والفهم. يمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة "الهرمنيوطيقيا" الرومانسيّة أو الكلاسيكيّة.

 

نشأ بعد ذلك نوع آخر من "الهرمنيوطيقيا" على أساس فلسفيّ متأثّر بالنّزعة الوجوديّة[3]، وبعكس المرحلة السابقة التي كان البحث فيها عن منهج لفهم النصّ، تميّز البحث في هذه المرحلة بالبحث عن معنى الفهم وحقيقته. وسمّيت هذه المرحلة بمرحلة "الهرمنيوطيقيا" الفلسفيّة.

 

لا شكّ في أنّ أبرز أعلام هذه المرحلة ورائدها هو الفيلسوف الألمانيّ هايدجر. ﻻﺗﺸير الهرمنيوطيقيا في مرحلته إلى علم تأويل النصوص، ولا إلى منهج للعلوم الروحيّة الإنسانيّة (كالذي عند دلتاي)، وإنّما تشير إلى تبيان فينومينولوجيّ[4] للوجود الإنسانيّ ذاته. يشير تحليل هايدجر إلى أنّ "الفهم" و "التأويل" هما طريقتان، أو أسلوبان لوجود الإنسان وليس كلّ منهما فعلًا من أفعاله.


 


[1] انظر: ص9 من هذا المتن.

[2] فيلهلم دلتاي (1833-1911)، فيلسوف وطبيب نفسانيّ وعالم اجتماع ألمانيّ، يعدّ الممثّل الرئيس للفلسفة بوست-هيغليّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. سعى إلى استخدام فئات كانط التصاعديّة في ميادين علوم الروح، أي العلوم الإنسانيّة، وفي العلوم التاريخيّة من خلال نقد العقل التاريخيّ، فاتحًا بهذا الطريق أمام "فلسفة رؤى العالم". وإنّ أحد ثوابت فكر دلتاي هو الوعي لتاريخيّة الموجود البشريّ، الذي يتحدّد وجوده بالميلاد والموت، ومن هنا كان عالم الإنسان هو عالم التاريخ.

[3] الوجوديّة هي المدرسة الفلسفيّة التي تتّخذ من الإنسان موضوعًا لها، ليس من خلال التفكير وحسب بل من خلال الفعل والشعور، أي إنّها ترتبط بالإنسان باعتباره فردًا حيًّا.

[4] العلم الذي يدرس الظواهر. والمقصود بالظواهر التي تدرسها الفينومينولوجيا ظواهر الوعي، أي ظهور موضوعات وأشياء العالم الخارجيّ في الوعي. وبذلك تكون الفينومينولوجيا هي دراسة الوعي من جهة طريقة إدراكه للظواهر وكيفيّة حضورها عنده.

 

118


99

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

جاء بعد هايدجر جادامر[1]، فكانت هرمنيوطيقيّته متأثّرة بفلسفة هايدجر الوجوديّة، إذ أعطى النصّ هويّة مستقلّة عن المؤلّف، ثمّ تقدّم جاداﻣﺮ بالهرمنيوطيقيا خطوة أخرى إلى الأمام، إلى المرحلة "اللغويّة"، فيدفع بأطروحته التي تفيد أنّ "الوجود الذي يمكنه فهمه هو اللغة"! فالهرمنيوطيقيا هي التقاء الوجود من خلال اللغة. وينتهي المطاف بجادامر إلى أن يؤكّد الصبغة اللغويّة للواقع الإنسانيّ نفسه.

 

اعتقد جادامر أنّه ﻣﻦ المحال وجود تفسير لا فروض مسبّقة؛ وعليه فإنّ فكرة وجود "تفسير صحيح" واحد بوصفه صحيحًا في ذاته هي غاية حمقاء وأمر محال. وكلّ نصٍّ يصل إلينا لا نستطيع أن ننظر إليه خارج نطاق تاريخيّتنا، وهذا يعني أنّ "المعنى" ليس له خاصّيّة ثابتة بل هو دائمًا "لنا".

 

استمرّ الاتّجاه العامّ في فنّ التأويل هذا بالتحرّر من كلّ قيود القراءة التقليديّة وضوابطها حتّى وصل على يدي بول ريكور[2] ورولان بارت[3] إلى منحدر سحيق أدّى إلى عزل مؤلّف النصّ كُلِّيًّا عن موقعه وترويج شعار: "موت المؤلّف".

 

ﻟﻘﺩ ﺃعطى نقّاد المدرسة البنيويّة[4] ﻭبما بعدها ﻟﻠﻘﺎﺭﺉ السلطة الكاملة ﻓﻲ


 


[1] هانز جورج جادامر، فيلسوف ألمانيّ ولد في ماربورغ، 11 فبراير 1900، اشتهر بعمله الشهير "الحقيقة والمنهج". توفِّي في هايدلبرغ، 13 مارس 2002.

[2] بول ريكور فيلسوف فرنسيّ وعالم إنسانيّات معاصر ولد في فالينس، شارنت، 27 فبراير 1913م، وتوفِّي في شاتيناي مالابري، 20 مايو 2005م، أشهر كتبه "الزمان والسرد".

[3] رولان بارت (عاش 12 نوفمبر 1915-25 مارس 1980) منظّر أدبيّ وفيلسوف وناقد فرنسيّ وأحد روّاد علم الإشارات. تنوّعت أعماله لتغطِّي عدّة مجالات وقد أثّر في تطوُّر مدارس نظريّة في كلّ من البنيويّة، علم الإشارات والوجوديّة والنظريّة الاجتماعيّة والماركسيّة وما بعد البنيويّة.

[4] يرى (ليونارد جاكسون) أنّ البنيويّة هي "القيام بدراسة ظواهر مختلفة كالمجتمعات، والعقول، واللغات، والأساطير، بوصف كلّ منها نظامًا تامًّا، أو كُلًّا مترابطًا، أي بوصفها بنيات، فتجري دراستها من حيث أنساق ترابطها الداخليّة، لا من حيث هي مجوعات من الوحدات أو العناصر المنعزلة، ولا من حيث تعاقبها التاريخيّ".

والبنيويّة مذهب من المذاهب التي سيطرت على المعرفة الإنسانيّة في الفكر الغربيّ، مؤدّاه الاهتمام أوّلًا بالنظام العامّ لفكرة أو لعدّة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكوّنة له. ويُعرف أحيانًا باسم البنائيّة، أو التركيبيّة.

ثمّ جاءت التفكيكيّة، وهي كالبنيويّة تنظر إلى داخل النصّ لا خارجه، لكنّها تقوم بدراسة النصّ دراسة تقليديّة لإثبات معانيه الصريحة، ثمّ تقوم بتقويض ما وصلت إليه من نتائج في قراءة معاكسة، وهذه القراءة التفكيكيّة تخضع بدورها لفراءة تفكيكيّة مشابهة وهكذا... التفكيكيّة مصطلح قدَّمه الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا في كتابه "علم الكتابة"، ويمكن القول: إنّ التفكيكيّة منهجٌ فلسفيّ، يرى أنّه لا يوجد تفسير واحد للمعنى في النصّ، بل تفسيرات غير محدودة.

 

119


100

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

تأويل ﺍﻟﻨـﺼﻭﺹ بما يتجاوز ﻓﻲ بعض الأحيان ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ الدلاليّة للنصّ، وجعلوا "موت المؤلّف" شرطًا لولادة القراءة. يقول ريكور: "تصبح العلاقة مع الكتاب تامّة وثابتة بشكل ما عندما يموت الكاتب"[1] ويقول بارت: "لقد أصبحنا نعلم أنّ الكتابة لا يمكن أن تنفتح على المستقبل إلّا بقلب الأسطورة التي تدعمها: فميلاد القارئ رهن بموت المؤلّف"[2].

 

وترجع فكرة "موت المؤلّف" إلى جذور فلسفيّة وفكريّة ترتبط بالظروف الموضوعيّة التي عاشتها أوروبّا بعد ثورتها على الكنيسة، فقد أعلن الفيلسوف الوجوديّ نيتشه[3] مقولة "موت الإله" ووجدت هذه المقولة صدًى واسعًا في أوساط النقّاد الأوروبيّين الذين يتوقون إلى تدمير الاتّجاه الغيبيّ في تفسير النصوص، وإفساح الطريق أمام ظهور الإنسان بكلّ مقدراته البشريّة التي يدركها العقل، وما عدا ذلك فهو ميّت.

 

إنّ فكرة "موت المؤلّف" تعني انتهاء عالم الميتافيزيقيا، أي ما وراء النصّ، وطرح النصّ كعالم مستقلّ بنفسه لا يعتمد على شيء خارجه.

 

حاول بعد ذلك المفكّر الأميركيّ هيرش[4] إعادة الاعتبار للمؤلّف والنصّ عبر التفرقة بين معنى النصّ ومغزاه، فالمعنى ثابت مستقرّ يشكّل هويّة النصّ، والمغزى متحوّل متجدّد بحسب التغيّر الزمنيّ، واختلاف طبيعة القراءة والتلقّي.

 

وبعد هذا السرد يتبيّن لنا كيف انتقل مفهوم الهرمنيوطيقيا الغربيّة، من التركيز في المؤلّف إلى التركيز في بنية النّص، ثمّ التركيز في المتلقّي، حتّى جعلت كلّ متلقّ يفسّر النصوص حسب ثقافته وتجربته في الحياة. وفتحت هذه النّظريّات والقراءات المجال إلى التأويل لا إلى نهاية، بحيث يصبح تأويل كلّ نصّ بعدد قرّائه.


 


[1] ريكور، بول، من النصّ إلى الفعل - أبحاث التأويل، ترجمة: محمّد برادة - حسّان بورقية، ص106، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة، الطبعة الأولى، 2001م.

[2] بارت، رولان، درس السيميولوجيا، ترجمة: عبد السلام بنعيد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة 1993م، ص87.

[3] كان لعمله تأثير عميق في الفلسفة الغربيّة وتاريخ الفكر الحديث.

[4] إريك دونالد هيرش جونيورولد في 22 مارس 1928، هو مدرِّس أمريكيّ وناقد أدبيّ أكاديميّ.

 

120


101

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

ونحن إذا تأملنا في الفكرة الأساسيّة لدى أغلب الفلاسفة الذين ذكرناهم آنفًا نتبيّن بوضوح أنّ الفكرة الأساسيّة الشائعة لديهم والمتّفق عليها أنّ النصّ خاضع لأفق القارئ، ومدى قدرته على استنطاقه، ومدى قدرته على الاستدعاء من خلاله. إنّ مهمّة القارئ مع النصّ هي أن يتمكّن من إبداع نصوص إلى جانب النصّ الأصليّ، ولا يهمّ أن تكون ذات صلة بمقاصد المؤلّف الأوّل أو مراميه، المهمّ أن يتمكّن القارئ من ربط استيحاءاته واستدعاءاته وإبداعاته بالنصّ بأيّ شكل من الأشكال، أو بأيّ رمز من الرموز أو بأيّ علامة من العلامات[1].

 

- مفهوم التاريخيّة: المراد بالتاريخيّة هو خضوع النصّ لأثر الزمان والمكان لمؤلّفه والمخاطب به. ونتيجة لهذه القاعدة تغدو قراءة أيّ نصّ وفهمه خاضعة لنسبيّة ترتكز على المجموع من تاريخيّة النصّ وتاريخيّة القارئ أي فهم القارئ التاريخيّ الخاضع أيضًا لظروفه الزمانيّة والمكانيّة.

 

وعلى هذا الأساس لا يعود هناك وجود لقراءة دائميّة هي المطابقة للواقع، ويحلّ محلّها قراءات تأويليّة تُسقِط القدسيّة عن أيّ نصّ، ولا وجود فيها للفهم المستقلّ وغير التاريخيّ؛ ولهذا نالت جميع القراءات عند أصحاب هذه النظريّة مرتبة الرسميّة، وأنكروا إمكان المقايسة بين الأفهام والقضايا في الحقل المعرفيّ الواحد، وترجيح بعضها على بعض، فلا يوجد لديهم شيء اسمه (صدق) أو (حقّ) أو (معتبر) أو (باطل)[2].


 


[1] انظر الطعّان، أحمد إدريس، العلمانيّون والقرآن، تقديم د. نور الدين العتر و د. محمّد عمارة، دار ابن حزم للنّشر والتوزيع، الرياض، ط1، 1428هـ - 2007م، ص675 إلى 693، وانظر مصطفى عادل، فهم الفهم، مصدر سابق، ص121 إلى 171 وانظر الريسوني، قطب، النصّ القرآنيّ من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة المغربيّة، ط1، 1431هـ - 2010م، ص256 إلى 263، وانظر العفّ، عبد الخالق، موت المؤلّف - منهج إجرائي؟ أم إشكاليّة عقائديّة؟، مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المجلّد السادس عشر - العدد الثاني ص53، غزّة - فلسطين وانظر المسقري، يحيى مصلح عليّ، الوحي القرآنيّ في منظور القراءة الحداثيّة، ص35 إلى 48، رسالة للحصول على درجة الماجيستير من كليّة الشريعة والدراسات الإسلاميّة - جامعة قطر، 1438هـ 2017م.

[2] انظر مصطفى، فهم الفهم، مصدر سابق، ص9 إلى 14.

 

121


102

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

- تاريخيّة النصّ القرآنيّ: طبّق الحداثويّون العرب النظريّات التأويليّة الغربيّة على القرآن الكريم فأصبح القرآن بنظرهم نصًّا خاضعًا في تأليفه للظروف التي ظهر فيها قبيل بداية القرن الهجريّ الأوّل. يقول نصر حامد أبو زيد[1]: "ليست النصوص الدينيّة نصوصًا مفارقة لبنية الثقافة التي تشكّلت في إطارها بأيّ حال من الأحوال. والمصدر الإلهيّ لتلك النصوص لا يلغي إطلاقًا حقيقة كونها نصوصًا لغويّة بكلّ ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التاريخيّ والاجتماعيّ"[2].

 

وهو في اﻟوقت الذي يزعم فيه أنّه ﻳرى أنّ مصدر النصوص إلهيّ ، غير أﻧّﻪ ﻳرى أﻧّﻬﺎ، ﺑﺧﺿوﻋﻬﺎ ﻟﻘواﻧﻳن الثقاﻓﺔ اﻹﻧﺳﺎنيّة، ﻗد تأنسنت ﻣﻧذ تجسّدت ﻓﻲ التاريخ واﻟﻠﻐﺔ وتوجّهت بمنطوﻗﻬﺎ ومدلوﻟﻬﺎ إﻟﻰ البشر ﻓﻲ واﻗﻊ تاريخيّ محدّد، إنّها محكومة بجدليّة الثبات والتغيّر، فالنصوص عنده ثابتة في المنطوق متحرّكة متغيّرة في المفهوم. وهو إذ قرّر أنّ اﻟﻘرآن ﻓﻲ محصّلته النهائيّّة منتج ثقافيّ مفارق لمصدره اﻹﻟﻬﻲّ، ﻓﻬو ﻳﺧﺿﻊ -شأنه شأن أيّ منتج ثقافيّ - للمناهج الحديثة في قراءة النصوص كالهرمنيوطيقيا والسيموطيقيا*[3].

 

أمّا محمّد أركون[4] فيقول: "كان الفكر الدينيّ كذلك مبنيًّا على مفهوم دين


 

[1] نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010) أكاديميّ مصريّ، وباحث متخصّص في الدراسات الإسلاميّة ومتخصّص في فقه اللغة العربيّة والعلوم الإنسانيّة.

[2] حامد أبو زيد، نصر، النصّ، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء - المغرب/ بيروت - لبنان، ط1 1995م، ص92.

[3] انظر محمّد كربيّة، كريمة، منهج نصر حامد أﺑﻲ زيد في قراءة النصّ الدينيّ، المجلّة الأردنيّة للعلوم الاجتماعيّة، العدد 1، 2017م، المجلّد 10، ص4 * السيموطيقيا: العلم الذي موضوعه دراسة أنساق وأنظمة العلامات.

[4] محمّد أركون (1928 - 14 سبتمبر 2010م) مفكّر وباحث أكاديميّ ومؤرّخ جزائريّ. وُلد سنة 1928 بقرية "توريرت ميمون"، وهي قرية مُعلَّقة على سفح جبل جرجرة في منطقة القبائل الكبرى بدولة الجزائر، وهو من أسرة بسيطة تقطن في أسفل القرية، ويذكر أركون أنّه ظلّ لا يعرف إلّا اللغة الفرنسيّة واللغة الأمازيغيّة، ولم يتعلّم العربيّة إلّا بعد خروجه من منطقة القبائل والتحاقه بالمدرسة الثانويّة في "وهران" من جهة غرب الجزائر، حيث انتقل بين ثانويّتين وهما "ارديون ولاموسيير" وفيهما أمضى دراسته الثانوية. ثمّ التحق محمّد أركون بجامعة الجزائر، حيث حصل سنة 1952 على شهادة ليسانس في اللغة والأدب العربيّ، كما حصل على دبلوم الدراسات العليا حول "الجانب الإصلاحيّ في أعمال طه حسين"، كما اشتغل في تلك الفترة بالتدريس بثانوية "الحراش" بالجزائر.

وبعد انتقال أُركون الى فرنسا وفي سنة (1975م) سجل بحثًا ميدانيًّا لدراسة الممارسة الدينيّة في منطقة القبائل، ولكنّ اندلاع الثورة والعمليّات العسكريّة بمنطقة جرجرة نسفت هذا المشروع فنصحه المستشرق الفرنسيّ "ريجيس بلاشير" في السوربونّ بتسجيل مشروع بحث حول "نزعة الأنسنه في الفكر العربيّ" وهو البحث الذي نال به شهادة الدكتوراه. وبعد ذلك انتسب أركون إلى الجامعة الفرنسيّة وهي جامعة السوربون في باريس كأستاذ لتأريخ الفكر عمومًا والفكر الإسلاميّ خصوصًا منذ حصوله على درجة الدكتوراه من الجامعة ذاتها سنة 1968م، ثمّ أستاذ زائر في العديد من الجامعات الأوربيّة والأمريكيّة المختلفة. عمل باحثًا مرافقًا في برلين سنة 1986 - 1988م. ومنذ عام 1993م شغل منصب عضو مجلس إدارة معاهد الدراسات الإسلاميّة في لندن. ثمّ تقاعد وتوفِّي في سنة 2010م ودفن في الدار البيضاء في "مقبرة الشهداء".

 

122


103

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

الحقّ الذي يقدّم للنّاس حقيقة مطلقة، ثابتة، أزليّة، متعالية على مختلف أنواع الحقيقة النسبيّة المتحوّلة الخاضعة للتاريخيّة وقوانين الكون والفساد. ثمّ جاءت الحداثة وألحّت على تاريخيّة الحقيقة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الميتافيزيقيا الكلاسيكيّة تشبّثت بمفهوم الحقيقة المطلقة المتعالية حتّى بعد ظهور فلسفة التفكيك للمعنى.."[1].

 

ويتحدّث أركون عن هدفه بصراحة من هذا المنهج النقديّ، فيقول: "نحن نريد للقرآن المتوسَّل إليه من كلّ جهة والمقروء والمشروح من قبل كلّ الفاعلين الاجتماعيّين (المسلمين) مهما يكن مستواهم الثقافيّ وكفاءتهم العقائديّة، أن يصبح موضوعًا للتساؤلات النقديّة والتحرِّيات الجديدة المتعلّقة بمكانته اللغويّة والتاريخيّة والإنثروبولوجيّة والثيولوجيّة والفلسفيّة"[2].


 


[1] أركون، محمّد، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينيّ، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت - لبنان، آذار 2005م، ط2، ص10.

[2]  أركون، محمّد، الفكر الإسلاميّ - قراءة علميّة، ترجمة: هاشم صالح، الناشر مركز الإنماء القوميّ، رأس بيروت - المنارة، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء - المغرب/بيروت - لبنان، لا.ط، ص246.

 

123


104

الدرس التاسع: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (1)

المفاهيم الرئيسة

- الهرمنيوطيقيا مصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللّاهوتيّة ليشير إلى مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن يتّبعها المفسّر لفهم وتأويل النصّ الدينيّ "الكتاب المقدّس".

 

- المراد بالتاريخيّة هو خضوع النصّ لأثر الزمان والمكان لمؤلّفه والمخاطَب به. ونتيجة لهذه القاعدة تغدو قراءة أيّ نصّ وفهمه خاضعَيْن لنسبيّة ترتكز على المجموع من تاريخيّة النصّ وتاريخيّة القارئ، أي فهم القارئ التاريخيّ الخاضع أيضًا لظروفه الزمانيّة والمكانيّة.

 

- إنّ القواعد والأسس الفلسفيّة لهذه النظريّات التأويليّة التي يراد تطبيقها على القرآن الكريم تنطلق من موقف مقابل تمامًا للقرآن الكريم؛ فبعضها مبنيّ على الفلسفة الوجوديّة وبعضها على المادِّيّة الديالكتيكيّة، والآخر على فلسفة الشكّ، وكثير منها مبنيّ على مزيج من هذه الرؤى.

 

- تورّط الحداثيّون العرب بمغالطة منهجيّة في دراسة النصّ القرآنيّ، فانطلقوا من فروض مسبّقة في البحث القرآنيّ، فوسموا الاتّجاه الغيبيّ أو فرضيّة المصدر الغيبيّ في تفسير القرآن الكريم بـ(اغتيال العقل) و(الدوغمائيّة) وغيرها من الألفاظ والمصطلحات المنقولة.

 

 

124

 

 


105

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

الدرس العاشر

الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف إلى أبرز نتائج القراءة الهرمنيوطيقيّة التأويليّة.

2. يناقش شبهة تاريخيّة النصّ القرآنيّ.

3. يلخّص مقولة الحداثيِّين العرب في منهجيّة دراسة النصّ القرآنيّ.

 

125


106

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

•        نتائج القراءة الهرمنيوطيقيّة التأويليّة

إنّ القراءة الهرمنيوطيقيّة التأويليّة تترتّب عليها نتائج، أبرزها:

أ. نسبيّة الحقيقة: إنّ المباني الفلسفيّة للقراءة الهرمنيوطيقيّة، كما مرّ في ما سبق، مبنيّة على عدم وجود حقيقة مجرّدة عن إدراك القارئ. والأمر نفسه يمكن أن يُقال في نتائج الأسس التي تُبنى عليها هذه القراءة.

 

كلام جادامر السابق عن أنّ المعنى ليس له خاصِّيّة ثابتة بل هو دائمًا "لنا" يبيّن أحد الثوابت التي تنتجها نظريّات التأويل الغربيّة، ألا وهي "نسبيّة الحقيقة".

 

كذلك، فإنّ بعض النتائج الأخرى كتاريخيّة الفهم تؤول بالنتيجة إلى نسبيّة الفهم والحقيقة كما لا يخفى.

 

ب. تاريخيّة الفهم: "انعدام البراءة في القراءة" و"التناصّ"[1] هي مظاهر للتاريخيّة، فاستحالة وجود تفسير للقارئ بمعزل عن تاريخيّته وكون النصّ نتيجة لثقافات متعدّدة لا يؤدّي إلّا إلى هذه النتيجة.

 

 


[1] التناصّ: مصطلح يراد به أنّ النصّ ليس بنية مغلقة ومنعزلة ومنكفئة على نفسها، ولكنّها تحمل بصمات وآثار نصوص سابقة ومبدعين آخرين ساهمت في تشكيله.

 

127


107

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

ج. فوضى الفهم ولا نهائيّة التأويلات: إنّ الحكم بموت المؤلّف، وتأليه المتلقّي، وانتفاء القصديّة، والقطيعة مع المعنى، وإسقاط التلوينات الخياليّة لـ (الأنا) القارئ على (الآخر) المقروء، يفضي إلى نتيجة حتميّة لا مفرّ منها، وهي أنّ النصّ أُفُقٌ مفتوحٌ على تأويلات لا متناهية، وقراءات متعدّدة بتعدّد القرّاء[1].

 

د. استحالة المعرفة اليقينيّة: في ظلّ الأسس المذكورة للهرمنيوطيقيا ونتائجها فإنّ توقّع تحصيل قراءة تبلغ حدّ اليقين المطابق للواقع يغدو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.

 

•        مناقشة الشبهة

يحتاج تفصيل الكلام في المناهج التأويليّة الحديثة إلى سعةٍ لا يتحمّلها هذا المختصر؛ لذا سنقتصر في مناقشة الشبهة على نقاط معدودة:

1. إنّ القواعد والأسس الفلسفيّة لهذه النظريّات التأويليّة التي يُراد تطبيقها على القرآن الكريم تنطلق من موقف مقابل تمامًا للقرآن الكريم في نظرته للواقع (بشقّيه: الغيب والشهادة) والإدراك، فهذه القراءات بعضها مبنيّ على الفلسفة الوجوديّة، وبعضها على المادّيّة الديالكتيكيّة، والآخر على فلسفة الشكّ، وكثير منها مبنيّ على مزيج من هذه الرؤى.

 

ونتائج هذه الفلسفات هي العبثيّة ونسبيّة المعرفة واستحالة يقينيّتها، بينما يبني القرآن الكريم صرح معرفته على الإيمان بالغيب ويجعله أُولَى صفات المتّقين ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾[2] وإطلاق الحقيقة ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ

 

 


[1] انظر الريسوني، قطب، النصّ القرآنيّ - من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر، مصدر سابق، ص266.

[2] سورة البقرة، الآيتان 2 - 3.

 

128


108

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾[1] وهدفيّة الحياة بالرجوع إليه - تعالى - ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[2]، وهو ما يؤكّده البرهان العقليّ القطعيّ.

 

وفي ضوء هذا، فإنّ هذه النظريّات التأويليّة لا تصلح لقراءة القرآن الكريم وتفسيرهِ مادامت لا تؤمن بمصدره الغيبيّ الإلهيّ.

 

2. تورّط الحداثيّون العرب بمغالطة منهجيّة في دراسة النصّ القرآنيّ فانطلقوا من فروض مسبّقة في البحث القرآنيّ، فوسموا الاتّجاه الغيبيّ أو فرضيّة المصدر الغيبيّ في تفسير القرآن الكريم بـ(اغتيال العقل) و(الدوغمائيّة) وغيرها من الألفاظ والمصطلحات المنقولة. وهم برفضهم المسبّق للبحث في فرضيّة الغيب مصدرًا للنصّ القرآنيّ، ينطلقون كأترابهم المستشرقين، من موقع تحيّز علميّ في البحث التفسيريّ في القرآن الكريم، والنتائج التي يصلون إليها مقرّرة سلفًا في فروضهم ومقدّماتهم التي طرحوها طرح المسلّمات.

 

هذا، فضلًا عن الإسقاطات الأيديولوجيّة من مصطلحات ومضامين اعتمدوها في فهم النصوص بعد أن استوردوها معلّبة من مدارس غربيّة وشرقيّة غريبة عن فكر الإسلام والقرآن. يقول محمّد شحرور[3] في تفسير (التسبيح): "إنّ صراع المتناقضين داخليًّا، الموجودين في كلّ شيء يؤدّي إلى تغيّر شكل كلّ شيء باستمرار، ويتجلّى في هلاك ذلك الشيء وظهور شكل آخر، وفي هذا الصراع يكمن السرّ في التطوّر والتغيّر المستمرّ في هذا الكون ما دام قائمًا، هذا ما يسمّى بالحركة الداخليّة الجدليّة، التي أطلق القرآن عليها مصطلح التسبيح


 


[1] سورة يونس، الآية 32.

[2] سورة المؤمنون، الآية 115.

[3] محمّد شحرور (مواليد دمشق 1938) أحد أساتذة الهندسة المدنيّة في جامعة دمشق ومؤلّف ومنظّر لما أطلق عليه القراءة المعاصرة للقرآن.

 

129


109

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

﴿وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ﴾[1]، وقوله -تعالى-: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ﴾[2] والتسبيح جاء من سَبَحَ، وهو الحركة المستمرّة "كالعوم في الماء"، كقوله -تعالى- عن كلّ شيء: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[3]. هذا الصراع يؤدّي الى التغيّر في الأشياء، وينتج منها "أنّ الموت حقّ"، واللَّه حيٌّ باقٍ. هكذا نفهم معنى الآية: ﴿وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾[4] وسيبقى هذا القانون سائدًا حتّى يهلك هذا الكون المادّيّ "عند النفخة الأولى في الصور "الساعة" لينشأ على أنقاضه كون آخر جديد مؤلّف من مادّة ذات خصائص جديدة "عند النفخة الثانية في الصور التي تؤدّي إلى البعث". وفي ضوء ذلك تتّضح مقولة "البعث حقّ"[5].

 

وأنت ترى أنّ الكاتب أسقط مفهوم صراع المتناقضات أو الديالكتيك بعد أن استقدمه من الماركسيّة، ثمّ حاول تفسير الآيات في ضوئه بما لا يساعد عليه فهم عرفيّ ولا معنى لغويّ.

 

3. إنّ الهرمنيوطيقيا اختُرِعت في الأصل لقراءة النصوص الأدبيّة والشعريّة، ولا يخفى ما فيها ممّا تقدّم بعضه من عدم القصد إلى فهم مقصود الكاتب، بل فتح الباب أمام التفسيرات والتأويلات "الإبداعيّة". نعم في الغرب مَنْ حاول قراءة الكتاب المقدّس من خلالها، ولكنّ ذلك حصل بعد أن انهارت قداسة الكتاب المقدّس عندهم عقب عصر النهضة بما حمله من رياح الشكّ والإلحاد.


 


[1] سورة الإسراء، الآية 44.

[2] سورة الجمعة، الآية 1.

[3] سورة الأنبياء، الآية 33.

[4] سورة القصص، الآية 88.

[5] شحرور، محمّد، الكتاب والقرآن - رؤية جديدة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق - سوريّا، لا.ت، لا.ط، ص223.

 

130


110

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

أمّا القرآن الكريم فهو لمن يؤمن به ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ﴾[1] مصدر العقائد والتشريع الأساس الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ﴾[2] والقول الفصل الذي ليس فيه هزل، فهو كتاب تنضح آياته بالقداسة من كلّ جوانبها، وقياسه إلى نصوص الشعر والنثر المفتوحة على "اللعب" و "العبث" بالمعاني (لو سُلّم بصحّة هذا المنهج فيها) قياس مع الفارق.

 

ولو طُبّقت هذه القراءات التأويليّة المنفلتة من أيّ عاقل فلن يكون لدينا ثمّة قرآن ولا سنّة، ولا فقه ولا تفسير، ولن يبقى أيّ مَعلم يدلّ على أنّ ما بأيدينا يمتّ بصلة إلى ما جاء به محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا تقرّر إقحام هذه الاجتهادات البشريّة في تفسير الدين فسنكون قد وضعنا مفاتيحه بأيدينا، وسنحاول عند ظهور ايّة نظريّة أو قانون تفسير الدين بما يلائم ذلك متذرّعين بمقتضيات العصر ومتطلّباته. وعلى الإسلام السلام إذا غدا هذا هو الإسلام وأهله. ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾[3].

 

4. لو طُبِّق المنهج ذاته الذي يسوّق له الحداثيّون بخلفيّاته الفلسفيّة على كتبهم ونصوصهم لغدت هذه النصوص فوضى معرفيّة لا تدلّ على شيء من مقاصدهم في ترويج التراث التأويليّ، ولو نظرنا إلى نصوصهم نظرة نسبيّة تاريخيّة وفتحنا باب "اللعب الحرّ" (كما يحلو للتفكيكيّين تسميته) لدلّت على خلاف مقاصدهم.

 

وبعبارة أخرى يلزم من صحّة كلامهم فساده؛ إذ لو طبّقت هذه المعايير لغدا منهجهم الداعي إلى هذه النوعيّة من القراءة أيضًا نسبيًّا وتاريخيًّا وغير يقينيّ،


 


[1] سورة البقرة، الآية 2.

[2] سورة فصلت، الآية 42.

[3] سورة المؤمنون، الآية 71.

 

131


111

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

وعليه، فهو غير قابلٍ للتطبيق على النصوص الأخرى كمنهج ذي معنى ثابت لا يتغيّر بمرور الزمن. اللهمّ إلّا أن يكون لكلامهم من القداسة والترفّع عن التاريخيّة والنسبيّة ما ليس لكتاب اللَّه - تعالى -﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[1].

 

5. لقد جعل اللَّه -تعالى- ميزانًا معصومًا لتفسير كتابه وعيّن سبيلًا للاهتداء إلى صراط نجاته على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يترك أبناء الأمّة حيارى كي يلجأوا إلى منظّري الحداثة ليأخذوا عنهم معالم دينهم. وهذا الميزان كفّته الأولى في القرآن الكريم نفسه ومنه حكومة الآيات المحكمة على المتشابهة، قال - تعالى -: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾[2]، ومنه تفسير بعض آيات الكتاب لبعضها الآخر، فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "كِتَابُ اللَّه تُبْصِرُونَ بِه وتَنْطِقُونَ بِه وتَسْمَعُونَ بِه ويَنْطِقُ بَعْضُه بِبَعْضٍ ويَشْهَدُ بَعْضُه عَلَى بَعْضٍ..."[3].

 

والكفّة الأخرى هي العترة الطاهرة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عدل الكتاب الذي لا يفترق عنه حتّى يردا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحوض. وقد عيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا المرجع للأمّة في غير مناسبة ذكرت في أحاديث شتّى لعلّ أشهرها حديث الثقلين المتواتر "..إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تَمَسَّكم بهما لن تضلّوا بعدي أبدًا كتابَ اللَّه وعترتي أهلَ بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوضَ.."[4].


 


[1] سورة الصافات، الآية 180.

[2] سورة آل عمران، الآية 7.

[3] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص192.

[4] لمعرفة تواتر الحديث انظر: اللكهنويّ، حامد حسين، خلاصة عبقات الأنوار، تلخيص وتحقيق: السيّد عليّ الحسينيّ الميلانيّ، مؤسَّسة البعثة، خيام -قمّ، 1405هـ، لا.ط.

 

132


112

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

6. إنّ خطابات القرآن الكريم والسنّة الشريفة تبطل التاريخيّة، فبعض هذه الخطابات موجّه للناس والمؤمنين جميعًا ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ من دون تقييد بزمان معيّن، وبعضها الآخر نصّ على أنّ الدين بمعارفه وشريعته لكلّ زمان ومكان. ومن الآيات قوله -تعالى-: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1]، فالآية تدلّ على كون دينه - تعالى - موافقًا لأحكام الفطرة ووجهتها شريعةً وعقيدةً، وكيف لا يكون ذلك والخالق والمشرّع واحد؟ ومن المعلوم أنّ الفطرة واحدة في جميع البشر في كلّ زمان ومكان.

 

ومنها قوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[2].

 

ومن السنّة يغني عن البحث حديث الثقلين المتواتر عند المسلمين جميعًا، وهو يدلّ صراحة على وجوب التمسّك بالقرآن والعترة (المفسّرة للقرآن والسنّة) لنفي الضلالة عن الأمّة أبدًا، مؤكّدًا عدم افتراقهما إلى ورود حوض النبيّصلى الله عليه وآله وسلم.

 

7. ذكرنا من قبلُ دليل وجوب بعثة الأنبياء المعتمِدَ على قاعدة اللطف، فلو سلّمنا بتاريخيّة الشريعة الخاتمة للزم أحد محذورَيْن! الأوّل انتفاء خاتميّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المعلومة من ضرورة الشرع، والثاني لزوم العبث على اللَّه -تعالى-، فإنّ بقاء نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم مع تفسيرها بحسب ميول أهل كلّ عصر وتطوّر علومه، لغوٌ وعبَثٌ كما قرَّرنا في النقطة الثالثة.

 

 


[1] سورة الروم، الآية 30.

[2] سورة المائدة، الآية 3.

 

133


113

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

8. إنّ الوحي ينزل بطبيعة الحال منسجمًا مع الواقع الحضاريّ للمجتمع، وموافقًا للغة التي يتخاطب بها أفراده، فيكون تابعًا لها، غير أنّ هذه التبعيّة شكليّة وظاهريّة، وليست جوهريّة على نحو يُلزِمُ تاريخيّة الوحي.

 

إنّ هذه التبعيّة من قبيل تبعيّة العلم للمعلوم؛ فالعلم بالشيء كما هو مطابق له، غير أنّ العلم لا تتغيّر طبيعته بتغيّر خصائص المعلوم من قبيل الجوهر والعرض، كما قُرّر في محلّه من أبحاث الوجود الذهنيّ في الفلسفة الإسلاميّة[1].

 

والحال كذلك في علاقة الوحي بلغته، فإنّ لغة الوحي وظرفه التاريخي يُؤثِّرانِ في كيفيّة ظهور مضامين القرآن في عالم الشهادة تأثيرًا عَرضيًّا كنزول آية بسبب حادثة حصلت في وقت معيّن؛ فإنّ مضمون الآية لا يتأثّر بسبب نزولها، وقد ثبت في محلّه من علم الأصول أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأنّ المورد لا يخصّص الوارد، كأن يضرب اللَّه - تعالى - مثلًا ليوصل إلى الأفهام حقيقة من الحقائق التي يعسر إدراكها على غير العالِم ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ﴾[2].

 

 


[1] انظر: المنتظريّ، حسين، مقالة: القرآن والوحي، دراسة فلسفيّة ودينيّة، مجلّة نصوص معاصرة، ص88.

[2] سورة العنكبوت، الآية 43.

 

134


114

الدرس العاشر: الشبهة السابعة: تاريخيّة النصّ القرآنيّ (2)

المفاهيم الرئيسة

- إنّ المباني الفلسفيّة للقراءة الهرمنيوطيقيّة، كما مرّ في ما سبق، مبنيّة على عدم وجود حقيقة مجرّدة عن إدراك القارئ. والأمر نفسه يمكن أن يُقال في نتائج الأسس التي تُبنى عليها هذه القراءة.

 

- في ظلّ الأسس المذكورة للهرمنيوطيقيا ونتائجها فإنّ توقّع تحصيل قراءة تبلغ حدّ اليقين المطابق للواقع يغدو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.

 

- ولو طُبّقت هذه القراءات التأويليّة المنفلتة من أيّ عقال فلن يكون لدينا ثمّة قرآن ولا سنّة، ولا فقه ولا تفسير، ولن يبقى أيّ مَعلم يدلّ على أنّ ما بأيدينا يمتّ بصلة إلى ما جاء به محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- تورّط الحداثيّون العرب بمغالطة منهجيّة في دراسة النصّ القرآنيّ، فانطلقوا من فروض مسبّقة في البحث القرآنيّ، فوسموا الاتّجاه الغيبيّ أو فرضيّة المصدر الغيبيّ في تفسير القرآن الكريم بـ (اغتيال العقل) و(الدوغمائيّة).

 

- إنّ خطابات القرآن الكريم والسنّة الشريفة تبطل التاريخيّة، فبعض هذه الخطابات موجّه للنّاس والمؤمنين جميعًا ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ...﴾ من دون تقييد بزمان معيّن، وبعضها الآخر نصّ على أنّ الدين بمعارفه وشريعته لكلّ زمان ومكان.

 

- إنّ الهرمنيوطيقيا وُجِدت في الأصل لقراءة النصوص الأدبيّة والشعريّة، ولا يخفى ما فيها ممّا قد تقدّم بعضه من عدم القصد إلى فهم مقصود الكاتب، بل فتح الباب أمام التفسيرات والتأويلات الإبداعيّة.

 

 

135


115

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

الدرس الحادي عشر

الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية الدرس أن:

1. يتعرّف إلى نظريّة التجربة الدينيّة.

2. يحلّل شبهة كون الوحي تجربة دينيّة.

3. يردّ على شبهة كون الوحي تجربة دينيّة.

 

 

137


116

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

•        مفهوم التجربة الدينيّة

يبدو أنّ أوّل من استخدم مصطلح التجربة الدينيّة هو الفيلسوف ويليام جيمز[1]، وينسب آخرون ذلك إلى الفيلسوف الألمانيّ شلايرماخر.

 

هناك اختلاف جوهريّ في طبيعة التجربة الدينيّة، والاتّجاهات الرئيسة في ذلك، اثنان هما:

أ. التجربة الدينيّة هي نوع من الأحاسيس: لقد ادّعى شلايرماخر في كتابه المعروف (الإيمان والمسيحيّة) أنّ التجربة الدينيّة ليست من سنخ التجربة العقليّة والمعرفيّة، وإنّما هي إحساس الاعتماد المطلق والشامل على مبدأ أو قدرة مغايرة للعالم. فهذه التجربة هي تجربة شهوديّة وأصليّة قائمة بنفسها ومستقلّة عن المفاهيم والتصوّرات والاعتقادات والأعمال.

 

ب. التجربة الدينيّة هي الإدراكات الحسّيّة: ذهب إلى هذه النظريّة الفيلسوف المعاصر ويليام آلستون[2]، فهو كان يعتقد أنّ التجربة الدينيّة


 


[1] فيلسوف أمريكيّ (11 يناير 1842 - 26 أغسطس 1910) ومن روّاد علم النفس الحديث وأحد أفراد جمعيّة الأبحاث النفسيّة. كتب كتبًا مؤثِّرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربويّ، وعلم النفس الدينيّ والتصوّف، والفلسفة البراغماتيّة.

[2] وليام باين ألستون (29 نوفمبر 1921 - 13 سبتمبر 2009) فيلسوف أمريكيّ. قدّم مساهمات مؤثّرة في فلسفة اللغة، ونظريّة المعرفة، والفلسفة المسيحيّة. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو ودرّس في جامعة ميشيغان وجامعة روتجرز وجامعة إلينوي وجامعة سيراكيوز.

 

139


117

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

 تقوم على الأركان الثلاثة للتجربة الحسّيّة: المُدرِك، المُدرَك، والحادثة (ظهور هذه التجربة). أمّا المُدرِك في التجربة الدينيّة فهو الشخص الذي يتوجّه بها إلى اللَّه - تعالى -، وأمّا المُدرَك فهو اللَّه - تعالى - أو شيء ما وراء الطبيعة، وأمّا ظهور هذه التجربة فهو تجلّي اللَّه - تعالى - أو الشيء المذكور في قلب صاحب هذه التجربة، وهذه العمليّة تسمّى التجربة الدينيّة[1].

 

•        عرض الشبهة: التجربة الدينيّة عند المفكّرين المسلمين

التجربة الدينيّة عند محمّد إقبال[2]: كان محمّد إقبال أوّل المفكّرين المسلمين تنظيرًا لفكرة التجربة الدينيّة في الوحي، فهو لم يرَ فرقًا في الماهيّة بين التجربة الصوفيّة أو العرفانيّة الشهوديّة وبين النبوّة. والفرق الذي يجعل النبيّ نبيًّا ، برأيه، هو في الحالة النفسيّة التي يتمتّع بها النبيّ، التي تتجلّى في رغبته في أن يرى رياضته الدينيّة قد تحوّلت إلى قوى عالميّة حيّة. وهو يعدّ عودة النبيّ من "مقام الشهود" امتحانًا عمليًّا لقيمة رياضته، بينما يمثّل "مقام الشهود" للصوفيّ غاية تُقصَد لذاتها[3].

 

التجربة الدينيّة عند محمّد مجتهد شبستري: يطرح شبستري تعريفه للإيمان على أساس "التجربة الدينيّة" فيقول: "الإيمان في هذا التعريف الذي أطرحه ليس عقيدة، كالاعتقاد مثلًا بأنّ لهذا العالم خالقًا وإلهًا. ولا هو يقين، ولا هو علم أو فلسفة. إذن، ما هو الإيمان؟ الإيمان "عمل". جوهر هذا


 


[1] وانظر: حليميّ، فدا حسين، الوحي بين النبوغ الذاتيّ والتسديد الإلهيّ المباشر، مؤسَّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة، قمّ - إيران، ط1، 1431هـ، ص143-142-141.

[2] ولد في سيالكوت ـإحدى مدن البنجاب الغربيّة- في الثالث من ذي القعدة 1294هـ الموافق 9 تشرين الثاني نوفمبر 1877م. رحل إقبال إلى أوروبّا وحصل على درجة الدكتواره من جامعة ميونخ في ألمانيا. كان وثيق الصلة بأحداث المجتمع الهنديّ حتّى أصبح رئيسًا لحزب العصبة الإسلاميّة في الهند ثمّ العضو البارز في مؤتمر اللَّه أباد التاريخيّ حيث نادى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس، ورأى تأسيس دولة إسلاميّة اقترح لها اسم باكستان، توفِّي إقبال 1938 بعد أن اشتهر بشعره وفلسفته.

[3] انظر: إقبال، محمّد، تجديد الفكر الدينيّ في الإسلام، ترجمة عبّاس محمود، دار الهداية، ط2، 1421هـ - 2000م، ص147.

 

140


118

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

العمل وأساسه هو أنّ الإنسان بانجذابه إلى اللَّه يفقد ذاته المحدودة أمام اللَّه ليصل إلى ذاته الحقيقيّة، أي الذات التي يجب أن يكونها"[1].

 

ويقول في مقالة أخرى: "ويتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإيمان الذي يعني مواجهة المطلق من موقع العشق، لا يتحقّق في واقع الإنسان إلّا إذا تحرّر من الوقوع في أسر الجزميّة، أي أن يتحرّر الإنسان من الخضوع للثوابت والجوازم والرواسب العقائديّة، لا التصديق المنطقيّ والعقلانيّ بقضيّة دينيّة وأصل اعتقاديّ وحسب"[2].

 

التجربة الدينيّة عند عبد الكريم سروش: يدّعي سروش أنّ "الوحي والرسالة تابعان لشخصيّة النبيّ" ويصف تجربة الوحي للنبيّ بقوله: "إذن فالمقوّم لشخصيّة الأنبياء ونبوّتهم هو الوحي فقط. أو "التجربة الدينيّة" في الاصطلاح الجديد. وفي هذه التجربة يرى النبيّ وكأنّ شخصاً يحضر عنده ويحدّثه في أذنه وقلبه بمضمون الرسالة السماويّة ويكلّفه بإبلاغ التعاليم والأوامر الإلهيّة للناس.."، ثمّ يردّد سروش مقولات محمّد إقبال في شأن الفرق بين النبوّة والتجارب الدينيّة فيقول: "إنّ الفرق بين الأنبياء وغيرهم من أصحاب التجربة الدينيّة هو أنّ الأنبياء لا يبقون أسرى تجربتهم الشخصيّة ولا يشغلهم التنعّم بها عن أداء دورهم الإنسانيّ، بل إنّهم، بسبب حلول هذه التجربة في عمق ذواتهم، يشعرون بوظيفة جديدة، ويتحوّل النبيّ عندها إلى إنسان جديد يسعى لبناء عالم جديد وإنسان جديد"[3].


 


[1] شبستري، محمّد مجتهد، مقالة: الإيمان والتجربة الدينيّة، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، السنة السادسة عشرة، العدد 51 - 52، صيف وخريف 1433هـ - 2012م، ص154.

[2] شبستري، محمّد مجتهد، نقد القراءة الرسميّة للدين، ترجمة: أحمد القبانجي، مؤسَّسة الانتشار العربيّ، بيروت - لبنان، 2013م، ط1، ص405.

[3] سروش، عبد الكريم، بسط التجربة النبويّة، ترجمة: أحمد القبانجي، دار الفكر الجديد، العراق، 2006م، ص10-9-3.

 

141


119

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

•        نتائج نظريّة التجربة الدينيّة

1. أخطر النتائج المترتّبة على هذه النظرة إلى الوحي هي فتح باب تضييق وتوسيع الوحي بحسب تجارب من يأتي بعد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم من أصحاب التجارب الدينيّة المسانخة (وفق هذه النظرة) للوحي النبويّ؛ ولذا لم تكن تسمية كتاب سروش بـ "بسط التجربة النبويّة" آتيةً من فراغ، بل هو ناظرٌ إلى هذه القابليّة في الوحي.هو وإن ادّعى لاحقًا أنّ الفرق بين النبيّ وغيره هو في كون النبيّ مأمورًا بالتبليغ لغيره من دون العارف والصوفيّ، غير أنّ ذلك يخالف حصره جوهر النبوّة بوحي مسانخ لتجارب العرفاء باستعمال لفظ "فقط" الدالّ على حصر النبوّة عنده بهذا النوع من الوحي، هذا أوّلًا. وثانيًا، هذا القيد الجديد المدّعى لا يلغي حُجِّيّة تجربة العارف على نفسه من دون الآخرين، وإن خالفت ما أتى به وحي النبيّ. وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من الشرع من انتفاء حُجِّيّة كلّ ما خالف الوحي التشريعيّ. يقول سروش: ".. ومن هنا لا بدّ من استمرار التجارب النبويّة الباطنيّة والخارجيّة في غيبة النبيّ من موقع تعميق الدين واتّساعه وإثراء تعاليمه السماويّة.. ولا ينبغي أن نتصوّر أنّ هؤلاء العظام ليسوا سوى شارحين للتجربة الأولى، ودورهم ليس بأكثر من تكرار تلك التجربة. فالغزاليّ جاء بكشوفات دينيّة جديدة وهكذا المولويّ، ومُحيي الدين بن عربيّ، والسهرورديّ، وصدر الدين الشيرازيّ، والفخر الرازيّ وآخرون. وأساسًا فإنّ الدين الإسلاميّ تكامل ونما بهذه الصورة.. فهؤلاء الأولياء لم يكونوا شارحين وحسب، بل مارسوا طبيعة الكشف وساهموا في إثراء التجربة"[1].

 

ويظهر ممّا سبق أنّ مفهوم خاتميّة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم للنبوّات قد فُرّغ من مضمونه بناء على هذه الرؤية.


 


[1] سروش، بسط التجربة النبويّة، مصدر سابق، ص34-33-31.

 

142


120

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

2. النتيجة التي لا تقلّ خطورة عن الأولى هي بشريّة وتاريخيّة الوحي، فالوحي إذا كان ناتجًا من امتزاج الجزء الإلهيّ منه بشخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وشخصيّة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم جزء من حقبة تاريخيّة ذات طابع اجتماعيّ وثقافيّ معيّن، فالنتيجة التي لا محيص عنها عندها هي بشريّة الوحي وتاريخيَّتُه. يقول سروش: ".. وهذا يعني بشريّة وتاريخيّة الدين لا غير. فالنبيّ أيضاً إنسان وتجربته الدينيّة بشريّة وجميع من حوله هم من البشر، ومن خلال مواجهة هذه العناصر الإنسانيّة والبشريّة تولّد الدين البشريّ بالتدريجفي أوساط البشر وبين أجواء بشريّة فكان يمثّل استجابة لحالات واقعيّة لأولئك الأفراد..."[1].

 

•        مناقشة الشبهة

إنّ مضمون نسبة الوحي إلى مقولة التجربة الدينيّة البشريّة ليس مضمونًا جديدًا في سياق الشبهات التاريخيّة حول الوحي. هذه المقولة هي عينها نسبة الشعر أو النبوغ إلى الوحي ولكن بلبوس صوفيّ عرفانيّ مزركش بعبارات الشهود والفناء الجاذبة. وهي من جهة أخرى تظهر بلبوس شبهة تاريخيّة الوحي فتطرح ضرورة التخلّي عن ضرورات الدين العقديّة والفقهيّة بدعاوى مثل وجود "قشر" و"لبّ" في المعرفة الدينيّة.

 

سنكتفي هنا بذكر بضع نقاط في توضيح بعض مكامن الخلل في هذه الرؤية:

أ. إنّ الركيزة الأساس في هذه النظريّة هي دعوى المسانخة بين تجربة الوحي والكشف العرفانيّ. وهذه الدعوى لم يورد أصحابها لها دليلًا من عقل أو نقل خصوصًا أنّ مفهوم التجربة الدينيّة مفهوم يلفّه الغموض وليس له حدود واضحة متّفق عليها عند جميع الباحثين.

 

ب. لو اتفق الباحثون على حدود واضحة لمفهوم التجربة الدينيّة على أساس

 

 


[1] سروش، بسط التجربة النبويّة، مصدر سابق، ص27-26.

 

143


121

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

عدم المشاحّة في الاصطلاح وسلّمنا شمول المفهوم حينها للوحي، فإنّ ذلك لا يجعل مصاديق هذا المفهوم متساوية من كلّ جهة، لأنّ انطباق مفهوم التجربة الدينيّة على المكاشفة والوحي يفيد بوجود جهة اشتراك بين مصاديقهما صحّحت هذا الانطباق، لكنّ هذا لا يلغي الفروق العظيمة بين المصاديق التي قد تكون ذات مراتب مشكّكة، بينها آلاف الفراسخ الوجوديّة.

 

ج. هناك فروق عديدة جوهريّة بين الوحي والمكاشفات العرفانيّة. وسنكتفي بذكر فرقين منها:

الأول: العصمة: إنّ الوحي النازل على الأنبياء يتميّز بحفظه من قبل اللَّه - تعالى - قبل التبليغ وأثناءَه، بل بعده في بعض[1] الأحيان. قال -تعالى-: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾[2]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[3].

 

أمّا العرفاء والمتصوّفة - إن صحّت طرقهم وسَلِمَت من الشوائب - فليست لهم هذه الضمانة الإلهيّة، لذا، فإنّ العارف يحتاج إلى ميزان يقيس به صدق كشفه أوّلًا ويفسّر كشفه وفقه ثانيًا. يقول الشيخ جوادي آملي أحد أساتذة هذا الفنّ المرموقين: ".. فحين يشاهد (العارف) أمرًا يبحث عن معيار يقيس به مشهوداته، لأنّ كثيرًا من العرفاء اختلفوا في الشهود في ما بينهم ويختلفون، بل أحيانًا يظهر أنّ مشهود العارف كان خطأ، ولهذا يحتاج إلى معيار يميّز به مشهوداته الصحيحة والربّانيّة عن المشهودات الباطلة والشيطانيّة"[4].


 


[1] كما هو الحال مع القرآن الكريم حيث تعهّد -تعالى- بحفظه في مرحلة ما بعد التبليغ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر، 9).

[2] سورة الجن، الآيات 26 - 27 - 28.

[3] سورة الحجر، الآية 9.

[4] جوادي آملي، عبد اللَّه، حقيقة الدين، نقله إلى العربيّة: عادل الغريب، مؤسَّسة العرفان الثقافيّة، 1436هـ - 2015م، ط1، ص219.

 

144


122

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

الثاني: عدم الاختلاف بين النبوّات: وهذا الفارق ينتج من الفارق الأوّل وهو العصمة، فلكون المصدر بين الأنبياء واحدًا صافيًا من الشوائب والعوامل الفرديّة والشخصيّة تكون مضامين نبوّات الأنبياء واحدة تُصدِّق اللَّاحقةُ السابقةَ وتبشّر السابقة باللَّاحقة. قال -تعالى-: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾[1]، ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[2]، ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾[3]، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[4].

 

د. لا ينبغي أن يُتّخَذ مفهوم "بشريّة" النبيّصلى الله عليه وآله وسلم ذريعة للقدح في العصمة في التبليغ وغيرها، فمجرّد كون الموجود بشرًا لا يلزم منه النسبيّة في الفهم والإدراك كما تروّج بعض الفلسفات المادّيّة، فإدراك الإنسان العاديّ للعلوم الحصوليّة، وإن توقّف على المادّة في مقدّماته، غير أنّ حقيقته مجرّدة عنها، وليست امتزاجَ المؤثّرات الخارجيّة بالجهاز العصبيّ للمدرِك حتّى يكون الإدراك هو حصيلة جمعهما معًا. وحصول الخطأ في هذه العلوم في مرحلة الحكم لا في مرحلة الإدراك.


 


[1] سورة المائدة، الآية 48.

[2] سورة الصف، الآية 6.

[3] سورة الشورى، الآية 13.

[4] سورة الروم، الآية 30.

 

145


123

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

هذا في العلوم الحصوليّة للإنسان العاديّ، فكيف بالعلوم الحضوريّة التي لا معنى للخطأ فيها؛ لحضور المعلوم نفسِه عند العالم؟ وكيف بهذه العلوم عند المعصوم الذي يلازم عصمته أنّ كشفه تامّ عن الواقع، وأنّ الصورة الحصوليّة - بعد انقطاع المعصوم عن مبدأ الوحي، أو قل المفاهيم المطابقة للحقيقة المجرّدة النازلة على المعصوم بالكشف المعنويّ[1] ثمّ الصوريّ[2]- محفوظة بسبب نزول الوحي نفسه وهو المبدأ الغيبيّ المفيض، قال - تعالى - ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾[3].

 

وهذا فرق آخر بين العارف والنبيّ حيث إنّ كشف النبيّ المتعلّق بالوحي (إن صحّ الاصطلاح عليه بذلك) تامّ معصوم نازل من المبدأ الأعلى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

هـ. يؤكّد القرآن الكريم أنّ اللَّه - تعالى - هو الذي ينزل الوحي التشريعيّ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[4]، ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾[5]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا﴾[6]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[7]، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ


 


[1] قال السيّد حيدر الآملي: "وأمّا الكشف المعنويّ المجرّد من صور الحقائق، الحاصل من تجلِّيات الاسم "العليم" والاسم "الحكيم"، فهو ظهور المعاني العينيّة والحقائق الغيبيّة. وله أيضًا مراتب أوّلها ظهور المعاني في القوّة المفكِّرة من غير استعمال المقدّمات وترتيب القياسات، بل بأن ينتقل الذهن من المطالب إلى مباديها، ويسمّى بالحدس ثمّ (ظهور المعاني) في القوّة العاقلة المستعملة للمفكَّرة، وهي قوّة روحانيّة غير حالَّة في الجسم، ويسمّى بالنور القُدُس، والحدس من لوامع أنوارها. وذلك لأنّ القوّة المفكِّرة جسمانيّة، فتصير حجابًا للنور الكاشف عن المعاني الغيبيّة..." (جامع الأنوار ونبع الأسرار، ص470).

[2] عرّف القيصريّ الكشف الصوريّ بأنّه: "وهو ما يحصل -للسالك- في عالم المثال عن طريق الحواسّ الخمس..." (القيصريّ، داوود، شرح فصوص الحِكَم، مصدر مذكور، ص107). فالسالك خلال سيره العرفانيّ أوّل حجاب يخترقه إنّما هو حجاب عالم المادّة والحسّ، ليظهر أمامه الحقائق الأولى ألا وهي حقائق عالم المثال والبرزخ، والذي يقع في مرتبة وسطى ما بين عالم المادّة وعالم التجرّد، وهذا الظهور يسمّى بـ (الكشف الصوريّ).

[3] سورة الأعلى، الآية 6.

[4] سورة الشورى، الآية 3.

[5] سورة النساء، الآية 163.

[6] سورة الإنسان، الآية 23.

[7] سورة الحجر، الآية 9.

 

146


124

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1].

 

كيف يشكّ شخص يفهم العربيّة في مضامين هذه الآيات ثمّ يدّعي أنّ الوحي تجربة ذاتيّة يخوضها النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تسانخ تجارب الصوفيّة والعرفاء من حيث الحاجة إلى الرياضات والتأمّلات ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[2].

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 52.

[2] سورة البقرة، الآية 90.

 

147


125

الدرس الحادي عشر: الشبهة الثامنة: التجربة الدينيّة

المفاهيم الرئيسة

- إنّ أوّل من استخدم مصطلح التجربة الدينيّة هو الفيلسوف ويليام جيمز، وينسب آخرون ذلك إلى الفيلسوف الألمانيّ شلايرماخر.

 

- الاتّجاهات الرئيسة في التجربة الدينيّة اثنان هما: أ) التجربة الدينيّة هي نوع من الأحاسيس. ب) التجربة الدينيّة هي الإدراكات الحسِّيّة.

 

- يُعدّ محمّد إقبال أوّل المفكّرين المسلمين تنظيرًا لفكرة التجربة الدينيّة في الوحي، فهو لم يرَ فرقًا في الماهيّة بين التجربة الصوفيّة أو العرفانيّة الشهوديّة وبين النبوّة.

 

- يدّعي سروش أنّ "الوحي والرسالة تابعان لشخصيّة النبيّ" ويصف تجربة الوحي للنبيّ بقوله: "إذن فالمقوّم لشخصيّة ونبوّة الأنبياء هو الوحي فقط". أو "التجربة الدينيّة" في الاصطلاح الجديد.

 

- أخطر النتائج المترتّبة على هذه النظرة إلى الوحي هي فتح باب تضييق الوحي وتوسيعه بحسب تجارب من يأتي بعد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم من أصحاب التجارب الدينيّة المسانخة (وفق هذه النظرة) للوحي النبويّ.

 

- إن الفرق بين النبيّ وغيره بحسب هذه النظريّة هو في كون النبيّ مأمورًا بالتبليغ لغيره دون العارف والصوفيّ.

 

- مفهوم خاتميّة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم للنبوّات قد فُرّغ من مضمونه بناء على هذه الرؤية.

 

- إنّ مضمون نسبة الوحي إلى مقولة التجربة الدينيّة البشريّة ليس مضمونًا جديدًا في سياق الشبهات التاريخيّة حول الوحي. وهذه المقولة هي عينها نسبة الشعر أو النبوغ إلى الوحي ولكن بلبوس صوفيّ عرفانيّ مزركش بعبارات الشهود والفناء الجاذبة.

 

148


126
الوحي حقيقة إلهية أم صناعة إنسانية