المقدّمة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيِّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾1.
سلك الإسلاميّون في تصوير الأطروحة الإسلاميّّة لنظام الحكم والإدارة مسالك عدّة، لم ينطلق بعضها من أسس شرعيّة مستنبَطة من الكتاب والسنّة، وإنَّما كانت مجرّد استحسانات، أو أعراف جرت في بعض الحقب التاريخيّّة، ليس لها ما يشيِّد دعائمها في التشريع الإسلاميّ. ولا تعدو في أفضل الحالات أن تكون خيارات عقلائيّة غير حصريّة لجأ إليها من لجأ، وأعرض عنها من أعرض.
لكن لا يخفى أنَّ أيَّ نظام اجتماعيّ أو سياسيّ أو إداريّ لا يكتسب الصفة الإسلاميّّة إلّا إذا قام في بُعديه التشريعيّ والتنفيذيّ على أساس المبادئ والقيم والأحكام الإسلاميّّة. ولا عبرة بالتسميات والعناوين التي لا تعبِّر عن معنونات ومسمّيات واقعيّة، وإنَّما العبرة بالواقع نفسه.
وقد امتازت الشيعة الإماميّة الإثنا عشريّة ببناء رؤيتها في الإمامة والنظام السياسيّ على أسس شرعيّة، معتمِدة على النّص القرآنيّ والنبويّ الواضح والمتواتر، مستندة في ذلك كلّه إلى العقل القطعيّ.
لكنّ الأمّة - نتيجة الكثير من العوامل الاجتماعيّّة والسياسيّة - ابتُليت
________________________________________
1-سورة النساء : الآية ,59.
9
1
المقدّمة
بحرمانها من بركات الإمامة وفيوضاتها، وذلك عندما غاب الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، هذه الغيبة التي طالت وأدّى ذلك إلى فتح باب البحث عن الأطروحة الإسلاميّّة للحكم والإدارة في عصر الغيبة، فما هو التصوّر الواضح لهذه الأطروحة؟.
إنّها أطروحة ولاية الفقيه التي هي أطروحة كاملة وشاملة لنظام الحكم والإدارة في عصر الغيبة، وهي تقوم على أسس شرعيّة قدّمها الإمام الخمينيّّ الرّاحل قدس سره نظريّاً وعمليّاً في تجربة رائدة استطاعت أن تصمد أمام كلّ التحدّيات، وأن تلبّي متطلّبات الدّولة العصريّة، وتجيب على كلّ الأسئلة، في مجال التشريع والتنفيذ منسجمة مع مبادئ وقيم وأحكام الدّين الإسلاميّ الحنيف.
فما هي ولاية الفقيه؟
وما هي أسسها الفقهيّة؟
وما هي حدود صلاحيّاتها؟
هذه الدراسة المختصرة تحاول الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المهمّة في هذا المجال إن شاء الله تعالى.
مركز نون للتأليف والترجمة
10
2
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
الدرس الاول: ولاية الفقيه والدليل العقلي عليها
أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى ولاية الفقيه.
2- أن يتبيّن أنّ الولاية هي بالأصل لله تعالى يُعطيها لمن يشاء.
3- أن يدرك أنّ الولاية هي لطف من الله تعالى.
4- أن يتعرّف إلى ضرورة الحكومة الإسلاميّّة.
5- أن يتمكّن من إثبات ولاية الفقيه من خلال التوحيد في الربوبيّة التشريعيّّة.
6- أن يتمكّن من إثبات ولاية الفقيه من خلال ضرورة النظام.
11
3
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
تمهيد
وردت كلمة "ولاية" في القرآن الكريم, وفي نصوص أهل البيت عليهم السلام، وفي كلمات العلماء أعلى الله مقامهم, ولها معانٍ عدّة، منها: النصرة والمحبّة والسلطة و...
والولاية التي هي موضوع بحثنا هي بمعنى السلطة، وبالتحديد سلطة الفقيه على الناس في عصر الغيبة الكبرى.
ما هي ولاية الفقيه؟
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾1 ، وهذه الآية تبيّن أنّ الولاية الحقيقيّة هي لله سبحانه وتعالى.
هذه الولاية الإلهيّة تتجسّد بولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم, والتي شرح القرآن الكريم معناها في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾2. وكون النبيّ أولى بالمؤمن من نفسه معناه أنّه أولى به في جميع المسائل الحياتيّة، فهو أولى به في
________________________________________
1- سورة المائدة: الآية 56.
2- سورة الأحزاب: من الآية 6.
13
4
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
المسائل الاجتماعيّّة والقضائيّة والحكوميّة وغيرها... وأنَّ إرادته ورأيه مقدَّمان على إرادة ورأي أيّ مؤمن.
هذه الولاية التي أكّدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وأكّد على استمرارها من بعده في اثني عشر إماماً دلّت الأحاديث المتعدّدة الصادرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على ثبوتها، ومن أهمّها حديث غدير خم وفيه قال صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخذ بيد علي عليه السلام: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟... من كنت مولاه, فهذا عليّ مولاه...."3 .
وهكذا استمرّت الولاية في الأئمّة عليهم السلام حتّى كانت الغيبة الكبرى للإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فانتقلت الولاية إلى الفقيه، الذي شكَّلت ولايته امتداداً لولاية المعصوم؛ ليقوم بسدّ فراغ المسائل السياسيّّة والاجتماعيّّة والقضائيّة وما إلى ذلك.
وهكذا تكون ولاية الفقيه؛ التي نحن بصدد البحث عنها، هي نيابة عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في قيادة الأمّة، وإقامة حكم الله تعالى في الأرض، مستمدّّة منه عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهي جذوة من نوره، وشهاب من قبسه، وفرع من فروع دوحته، لذلك عُرِّفت "ولاية الفقيه" بأنّها "حاكميّة المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة".
الولاية لُطف
من الجدير بالذكر أنَّ جميع الموارد التي شرّع فيها الدّين ولايةً لبعض الناس على بعضهم، راعى فيها مصلحة المُولَّى عليه واللّطف به، ورعاية حاله, ولم ينظر إلى مصلحة الوليّ، ولم يهدف من خلالها أن يمنحه امتيازاً.
فالولاية في نظر الإسلام مسؤوليّّة وتكليف, كيفما كانت وحيثما وقعت. فولاية الأبّ مثلاً على أبنائه الصّغار, لحفظهم ورعايتهم واللّطف بهم. وولاية الأب في
________________________________________
3- الأميني، عبد الحسين، الغدير، دار الكتاب العربي, بيروت، لبنان، ج 1, ص40.
14
5
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
تزويج ابنته البكر؛ لصيانتها وحفظها من الضّياع والاستغلال. وولاية الوقف؛ لرعاية شؤونه ومصالحه والحيلولة دون خرابه وإساءة استعماله. وولاية الحاكم على أموال الغائب والقاصر والسّفيه والمجنون كذلك. وولاية الفقيه؛ لحفظ المصالح العامّة وصيانة المجتمع من الفساد والانحراف والحقوق من الضّياع.
وفي جميع الموارد تُقيّد الولاية برعاية مصالح الجهة المولّى عليها، وليس للوليّّ الحقّ أن يتصرّف على وفق أهوائه ومصالحه ورغباته الخاصّة، حيث تسقط ولايته خارج تلك الحدود، ومنه يتبيّن أنّ الولاية الشرعيّة، أبعد ما تكون عن الاستبداد والتعنّت والدكتاتوريّة.
ولا يظن أحدٌ أنَّ فكرة ولاية الفقيه ابتدعها الإمام الخمينيّّ قدس سره، لأنّه من خلال نظرة تأمليّة بسيطة نجد؛ أنّ هذه الفكرة متأصّلة في الفكر الإسلاميّّ ومتجذّرة في روايات أهل البيت عليهم السلام وكلمات العلماء، وقد رسم المعصومون الأطهار عليهم السلام معالم هذا السبيل وأبرزوا بعضاً من جوانبه, وهو الرجوع إلى من أعمل الفكر والنظر في الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السلام, ويمكن رصد عددٍ من النصوص الواردة عنهم عليهم السلام التي تُرجِع إلى الفقيه السلطة والولاية، فبذور ولاية الفقيه موجودة في صريح أحاديثهم عليهم السلام.
أدلّة الولاية
ُيستدل على ولاية الفقيه في عصر الغيبة بعدّة أدلّة بعضها يحكم به العقل مستقِلاً, وبعضها مستقىً من الروايات والنصوص الشرعيّّة .
دليل العقل
إنَّ مقتضى التوحيد في الربوبيّة التشريعيّّة هو طاعة الله تعالى في جميع الأحكام الإسلاميّّة، وهذه الطّاعة تتمثّل في تطبيق جميع هذه الأحكام ووضعها موضع التنفيذ العمليّ، وهذا الأمر لا يتحقّق دون وجود حكومة إسلاميّة تتبنّى
15
6
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
الإسلام فكراً وعملاً، ويقف على رأسها شخص عالِمٌ بالإسلام، مطبِّق له على نفسه، وقادر على تطبيقه في المجتمع. هذا بنحو الإجمال، أمّا تفصيل الدليل ولوازمه فيحتاج لبيان مقدّمات:
الأولى:الحاجة للقانون
إنَّ من القواعد العقلائيّة الثابتة التي لا تتغيَّر بتغيُّر الاتجاهات والمذاهب والأديان، هي الحاجة الضروريّة لوجود القانون في المجتمع البشريّ.
ذلك أنَّ الإنسان اجتماعيّ بفطرته، وهو بحاجة لتنظيم علاقاته الاجتماعيّّة ومختلف شؤون حياته؛ للحفاظ على مصالح الفرد والمجتمع.
الثانية:القانون يحتاج قيّماً
إنّ أيّ قانون لا يمتلك ضمانة التنفيذ بنفسه، فمجرّد وجود القانون لا يحلّ المشكلة ولا يحقّق الغرض من وجوده، فهو بحاجة إلى قيِّم، يضمن التنفيذ والتطبيق الكامل له، ويُقيم العدل على أساسه، ويُؤيّد ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في جواب الخوارج عندما سمعهم يقولون: "لا حكم إلّا لله"، فقال:عليه السلام "كلمة حقٍّ يراد بها باطل"4 ، نعم، إنَّه لا حكم إلّا لله ولكن هؤلاء يقولون: "لا إمرة إلّا لله، وإنّه لا بدّّ للنّاس من أمير.. الخ"5 .
وعن الفضل بن شاذان عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، أنّه قال في علّة تعيين أولي الأمر والأمر بطاعتهم.
"... فإن قال: فَلِمَ جعل أولي الأمر وأَمَرَ بطاعتهم؟ قيل: لعِلَلٍ كثيرة:
منها: أنَّ الخلق لمّا وقَفوا على حدٍّ محدود وأُمِروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لِما فيه من فسادِهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم, إلّا بأن يُجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدّي والدخول فيما حُظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك، لكان
________________________________________
4- نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ج 4 ص 45.
5- م. ن، ج 1 ص 91.
16
7
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
أحدٌ لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويُقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من المِلل بقوا وعاشوا إلّا بقيِّم ورئيس، لِما لا بدّّ منه في أمر الدّين والدّنيا، فلم يجز في حكمةِ الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنَّه لا بدّّ لهم منه، ولا قوام لهم إلّا به، فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم، ويُقيم لهم جُمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم"6
الثالثة:مواصفات القيّم
لا بدّّ للقيّم الذي يتولّى مهمة ومسؤوليّة تنفيذ وتطبيق القانون أن يتّصف بالصِّفات التالية:
1- العلم التامّ بالقانون, لأنّ العلم بالقانون مقدّمة ضروريّة لتطبيقه.
2- الحصانة الأخلاقيّة, لأنَّ القيمومة على الأمر أمانة عظمى, لا ضمان لأداءها ما لم يكن القيّم في أعلى مستويات العدالة والورع والتقوى.
3- الكفاءة الإداريّّة, لأنّ القيام بهذه المسؤوليّة على أكمل وجه، يتطلّب من المهارات والخُبرات الإداريّّة والاجتماعيّّة والسياسيّّة وغير ذلك ممّا له مدخليّة في الوصول إلى الهدف على أكمل وجه.
النتيجة
عندما نتحدّث عن الحكم الذي يحقّق العدل، فقد أكّد القرآن الكريم أنّ العدل لا يتحقّق إلّا من خلال النظام الإسلاميّّ ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾7 . وإذا كان الكلام عن الحكم الإسلاميّّ، فهذا يعني أنَّ القيّم يجب أن يكون – كتطبيق للصفات السابقة التي حكم العقل بها – حائزاً على الصفات التالية:
________________________________________
6- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 23 ص 32.
7- سورة المائدة: من الآية 45
17
8
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
- عالماً بحكم الإسلام, قادراً على معرفة الحكم الشرعيّّ لكلّ واقعة, وبالتالي يجب أن يكون فقيهاً مجتهداً.
ـ صاحب حصانة أخلاقيّة, بمعنى الالتزام بالحكم الشرعيّ بشكل كامل، وهو تعبير عن مستوى عالٍ من العدالة والتّقوى والورع، يجب توفرها في الوليّ فضلاً عمّا يجب أن يتمتّع به من كفاءات إداريّّة.
وإذا عيّن الله تعالى من يقوم بالأمر, ونصّبه لحمل هذه المسؤوليّة, فهو المتعيّن، ويجب على الناس طاعته والرجوع إليه، فليس هناك أفضل ولا أولى من القيّم، ومن الجهاز الحاكم الذي يعيّنه الله تعالى, لأنَّه المطّلع على سرائر خلقه والخبير بنفوسهم، ولا يختار لهذه المسؤوليّة العظمى والأمانة الكبرى، إلّا من طَهُرَت نفسه وصفت سريرته، وخلصت نيّته، وكمل عقله، فيحمّله الأمانة ويسدّده بالوحي، كما هو الحال بالنسبة إلى الرُسُل وأنبياء الله الكرام عليهم السلام، وآخرهم وخاتمهم الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكما هو الحال بالنسبة إلى الأئمّة الأوصياء المعصومين الذين نصّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الناس بطاعتهم والتمسّك بهم والولاية لهم، وهذا البحث موكول للدراسات الكلاميّة والعقائديّة.
إنَّما البحث في هذه الدروس فيما لو غاب الإمام المعصوم المعيّن، فإن ثبت أنّهم عليهم السلام نصّوا على أحد بعينه فتلزم طاعته والرجوع إليه.
وإن ثبت بوصفه وعلامته فكذلك.
أمّا إذا فرضنا انتفاء النصّ، فهنا يوجد ثلاثة فروض:
1- الإهمال: بترك الحبل على الغارب.
وهذا ينكره العقل ضرورة لأنّه يؤدّي إلى النقص.
2- إفساح المجال أمام أيّ شخص لتوليّ الأمر دون مراعاة الصِّفات والشروط , وهذا أيضاً لا يمكن الإلتزام به؛ لأنّه يؤدّي إلى تعطيل
18
9
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
الأحكام، لأنّ المتولّي غير جامع للشروط، فغير العالم مثلاً لا يستطيع تطبيق الأحكام لعدم معرفته بها.
3- تولّي الفقيه الجامع للشرائط - المتقدّمة - وهذا هو المُتعيّن بعد ملاحظة جميع المقدّمات المذكورة وبعد بطلان الفرضين السابقين.
خلاصة
إنّ مقتضى التوحيد في الربوبيّة التشريعيّّة هو طاعة الله تعالى في جميع الأحكام الإسلاميّّة، وهذه الطاعة تعني تطبيق جميع هذه الأحكام ووضعها موضع التنفيذ العمليّ، وهذا الأمر لا يتمّ دون وجود حكومة إسلاميّة تتبنّى الإسلام فكراً وعملاً، ويقف على رأسها شخص عالم بالإسلام، ومطبّق له على نفسه، وقادر على تطبيقه في المجتمع.
والبحث يقع فيما لو غاب المعصوم عليه السلام, وفُرض انتفاء النّص على شخصٍ بعينه، فهناك ثلاثة فروض:
الإهمال؛ وهذا ما تنكره ضرورة العقل.
أيّ شخصٍ يتولّى الأمر من دون رعاية الصفات والشروط؛ وهذا يؤدّي إلى تعطيل الأحكام.
تولّي الفقيه الجامع للشرائط؛ وهذا هو المتعيّن بعد ملاحظة جميع المقدّمات.
19
10
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
الشيخ المفيد قدس سره (336-413هـ): يقول قدس سره في باب الأمر بالمعروف والجهاد: "فأمّا إقامة الحدود, فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى, وهم أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم السلام, ومن نصَّبوه لذلك من الأمراء والحكّام, وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان"8 .
للمطالعة
السُّنن الإلهيّة في إقامة حكومة العدل
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾9 .
ثلاثة عناصر تشترك في بناء حكومة العدل، وتتكامل من أجل تحقيق هذا الهدف، والإخلال بأيّ واحد منها يُسقط المشروع، ويحرفه عن الهدف المنشود، تلك العناصر هي:
1- المنهج الصحيح, والذي يتمثّل في عقيدتنا بالرسالة الإسلاميّّة فكراً ونظاماً وشريعة.
2- القيادة الصالحة، المعبّر عنها بالولاية التي تمتدّ من ولاية الرسل والأئمّة المعصومين عليهم السلام، حتّى ولاية الفقيه الجامع للشرائط.
3- الأمّة الحاضرة، المتمسِّكة بالمنهج الصحيح والقيادة الصالحة، فإذا غابت الأمّة عن الساحة، وتخلّت عن المنهج الصحيح، وتخلّفت عن ولاة
________________________________________
8- المفيد، محمّد بن محمّد بن النعمان، كتاب المقنعة، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ص 810.
9- سورة البقرة: 251.
20
11
الدرس الأول: ولاية الفقيه والدليل العقليّ عليها
الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، لم تكتمل المعادلة، ولم يتمكّن القادة من إقامة حكومة العدل.
وتاريخنا مليء بالشواهد، فعندما امتنعت الأمّة عن القيام بدورها، وتفرّقت عن الحقّ, وانقادت لأئمّة الجور، حرمت بركات الرسالة الإلهيّة، وبركات القيادة المعصومة، وتوالت عليها المآسي.
وعندما عرفت الأمّة طريقها وتمسّكت بالحقّ، وقامت بالدور المطلوب، ذاقت طعم العدل، وتمكّن القادة من أهل الصلاح أن يوجّهوا المسيرة نحو الهدف، وأنزل الله سبحانه نصره، تلك هي سنّة الله ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾10 .
فلم يكن يمنع أهل البيت عليهم السلام عن القيام بالأمر، وإقامة حكم الإسلام، إلّا تفرّق الناس عنهم، وتخلّيهم عن دورهم وعن تكليفهم، منذ أمير المؤمنين عليه السلام حتّى بقيّة الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. والنصوص الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام، تتضمّن هذا المعنى، وهذا ما يبرز بوضوح في محاوراته عليه السلام مع سدير الصيرفيّ، وبُريد العجليّ، ومأمون الرقيّ، وغيرهم.
فالمسألة إذاً تدور مدار اكتمال الشروط التي بها تجري السنن الإلهيّة، وعلى هذا النهج نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فالمسألة ليست مجرّد توقيت ومجرّد إرادة، فالتوقيت والإرادة الإلهيّة إنّما يأتيان وفق الحكمة، وبعد تحقّق الأسباب، وهو مضمون السنّة الثابتة.
________________________________________
10- سورة الأحزاب: 62.
21
12
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
الدرس الثاني: الدليل النقلي على ولاية الفقيه
أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى النصوص التي تدلّ على ضرورة الحكومة الإسلاميّّة.
2- أن يستدلّ على عدم تخصيص الحكومة بزمن دون آخر.
3- أن يتعرّف إلى الروايات الدالّة على ولاية الفقيه.
4- أن يجيب على الأسئلة المثارة حول مقبولة عمر بن حنظلة.
5- أن يستدلّ بمكاتبة إسحاق بن يعقوب.
23
13
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
تمهيد
تقدّم الدليل العقليّ على ولاية الفقيه، ويمكن الاستدلال على هذه الولاية أيضاً بالدليل النقليّ، وهناك عدّة أدلّة نقليّة نذكر منها:
الدّليل الأوّل: ضرورة وجود نظام إسلاميّ
ويتركّز على ضرورة قيام النظام الإسلاميّ, وذلك بملاحظة أحكام الإسلام, وهذا الدليل يتألّف من مقدّمات ثلاث:
الأولى: إنَّ الشّريعة الإسلاميّّة تتضمّن أحكاماً ترتبط بالفرد، كالوظائف العباديّة من صلاة وصيام وغيرها من العبادات، كما تتضمّن أحكاماً ترتبط بالجماعة وبالنظام العامّ كالحدود والديّات والقضاء والجهاد ونحوها.
الثانية: إنَّ هذه الأحكام – التي تتعلّق بالجماعة – تدلّ على أنَّ الشريعة المقدّسة قد بَنَتْ هذه الأحكام على أساس وجود ولاية الأمر كأمر مفروغ عنه مفروض وجوده شرعاً, حيث عمدت إلى تنظيمها وتقنينها ووضع أهدافها وأحكامها الشرعيّة الخاصّة, وهكذا في ما يرتبط بالنظام العامّ.
الثالثة: هذه الأحكام العامّة ثابتة في كلّ زمان وعلى مرّ العصور، ولو لم يكن الأمر كذلك، كان من اللّازم تقييد تلك الأحكام بزمان معيّن، وهو زمان حكومة المعصوم، ما يعني تعطيل هذه الأحكام الاجتماعيّّة في زمان
25
14
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهذا خلاف الواقع، لأنّ المتسالم عليه بين الفقهاء، والمعروف عند المتشرّعة أنّه لا يمكن تعطيل هذه الأحكام الإلهيّة، بل هي باقية في كلّ عصر إلى يوم القيامة، وهذا ما يستلزم وجود حكومة إسلاميّة تسير على هداها وتطبّقها.
ومن المفيد الإشارة إلى أنّ ولاية الحكّام الجائرين والطغاة الفاسقين ليست هي التي يناط بها تطبيق تلك الأفكار، ولا المأمول منها القيام بها، للنهي عن تولّيهم والركون إليهم، وهذا يكفي في إثبات ولاية الفقيه.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنَّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُعتبر من الأدلّة الواضحة على ضرورة قيام الحكومة الإسلاميّّة, حيث إنَّ هذه الحكومة بكامل سلطاتها تُعتبر المصداق الأكمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبمقتضى أدلّة الأمر بالمعروف يجب علينا تحقيق مصاديقه وعناصره، ومن أوضح هذه المصاديق إقامة أحكام هذا الدين وحدوده وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، ورفع راية الإسلام خفّاقةً عزيزة.
كذلك بمقتضى أدلّة النهي عن المنكر، يجب علينا منع تحقيق مصاديقه وعناصره، من الجور والظلم والفساد في الأرض والخوض في الدماء وتضييع الحقوق وطمس معالم الدين ومنع قيام سلطة الظالمين.
وهذا يستلزم بشكل واضح وبيّن إقامة حكومة إسلاميّة، يكون على رأسها الفقيه الجامع للشرائط، لأنّه الأعرف بتحقيق الأهداف، من إقامة أحكام الدين، وتحقيق العدل، ومنع الظلم والفساد بما يوافق الشريعة الإسلاميّّة.
26
15
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
الدليل الثالث: الروايات الخاصّة
هناك العديد من الروايات والنّصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام، والتي يُمكننا الاستدلال بها على ولاية الفقيه في عصر الغيبة، ومنها:
أوّلاً: مقبولة عمر بن حنظلة:
أ- النصّ:
عن عمر بن حنظلة أنّه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟
قال عليه السلام: "من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل، فإنَّما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المَنهيّ عنه، وما حُكم له به فإنّما يُأخذ سحتاً1 ، وإن كان حقّه ثابتاً له، لأنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يُكفر به، قال الله عزّ وجلّ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾2.
قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟
قال: "ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و عرف حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنَّما بحكم الله استخفَّ، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله"3 .
ب - السند:
هذه الرواية تلقّاها الفقهاء قديماً، وحديثاً بالقبول، لذلك عبّروا عنها بالمقبولة، وهذا يعني اعتمادهم عليها بعد تماميّة الدلالة.
________________________________________
1- السحت: الحرام.
2- سورة النساء: 60.
3- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 101، ص 261.
27
16
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
ج - دلالتها:
إنًّ عبارة "قد جعلته عليكم حاكماًً" تدلّ على أنَّ من اجتمعت فيه الصفات الواردة في النّص "روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا" قد نصّبه الإمام عليه السلام بالنّصب العامّ لمختلف شؤون الحكومة وتولّي الأمر.
ومن تلك الأمور التي تندرج تحت عنوان الحكومة وتولّي الأمر: القضاء والفصل في النزاعات والخصومات، وصلاحيّة تنفيذ الحكم القضائيّ الذي يُصدره؛ وذلك لأنَّ الإمام عليه السلام حرّم ردّ حكم من نصّبه " فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ، وعلينا ردّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله "، وعليه يلزم القبول بحكم الحاكم المنصوب من قِبله عليه السلام، وبالتالي لهذا الحاكم الفقيه الولاية لتنفيذ الحكم القضائيّ الذي أصدره.
أسئلة وردود حول هذه الرواية:
السؤال الأوّل: إنَّ الاستفهام الوارد في الرواية كان عن الحالات التي يحصل فيها النـزاع والتّخاصم، فالرواية خاصّة بمثل هذه الموارد، فهذا النصّ ورد في مورد خاصّ وعليه لا يمكن إثبات ولاية الفقيه من خلاله؟
والجواب: إنَّ المورد وإن كان مورد تنازع، وهو يستدعي نصب القاضي، إلّا أنّ موضوع كلام الإمام عليه السلامفي صدر الرواية كان حول الحكّام الظالمين والجائرين، الذين كانت بيدهم أمور الناس، وليس فقط خصوص القضاء وفصل النّزاعات، فنهى الإمام عليه السلام عن الرجوع إلى هؤلاء الحكّام الظالمين والتحاكم اليهم.
وفي المقابل نصّب الإمام عليه السلام من يحوز صفات محدّدة وجعله منصوباً للحكومة ومتولّياً الحاكميّة "فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماًَ"، ومن جملة صلاحيّاته - كحاكم - القضاء، وفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام القضائيّة، فيظهر بوضوح أنّ الإمام عليه السلام أعطى للفقيه الجامع للشرائط الولاية، بنحو أشمل من منصب القضاء.
28
17
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
السؤال الثاني:قد يقال إنّّ الرواية صادرة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهذا يعني أنّها ناظرة إلى زمان الإمام عليه السلام، فلا يمكن الاعتماد عليها في زمان الغيبة لإثبات الرجوع إلى الفقيه الحاكم؟
وجوابه: إنَّ الذي دعا الإمام الصادق عليه السلام إلى نصب الفقهاء في عصره هو عدم تمكّن جميع الشيعة في أقطار الأرض من الوصول إليه والسؤال منه، وهذا الأمر نفسه – عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه السلام - يدعو للرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة، بل يثبت الرجوع إلى الفقهاء بشكل أولى في زمن الغيبة.
السؤال الثالث: إنَّ النّصب في هذه الرواية كان من قِبل الإمام الصادق عليه السلام، وبعد وفاته عليه السلام ينعزل المنصوب من قِبله، ولكي يبقى من نُصّـب في منصبه نحتاج إلى قيام دليل جديد على نصبه من قِبل الإمام اللّاحق.
ويُجاب عليه: بأنّ النصب يستمرّ حتّى لو توفّي الإمام عليه السلام ما لم يُسقطه الإمام اللّاحق، وحيث لم يُعلم إسقاط النصب وإلغاء الصلاحيّة من قِبل الإمام اللّاحق فالنصب باقٍ ومستمرّ، لا سيّما وأنَّ النصب من قِبل الإمام الصادق عليه السلام لم يكن لشخص باسمه، بل كان لعنوان الفقهاء الذين اجتمعت فيهم شرائط وصفات محدّدة.
ثانياً: مكاتبة إسحاق بن يعقوب:
أ - النصّ:
قال إسحاق بن يعقوب: سألت محمّد بن عثمان العمريّ رحمه الله (سفير الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن يُوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكِلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: "... وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا
29
18
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله ... "4 .
ب - السند:
هذه الرواية عُبِّر عنها بالمكاتبة، وهي كالاستفتاء الخطّي في هذا الزمن، حيث كان الفقهاء يبعثون برسائلهم إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف عبر أحد سفرائه، ويأتي الجواب وعليه ختم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقد أورد هذه المكاتبة أجلّة الفقهاء، واعتمدوا عليها في الاستدلال.
ج - دلالتها:
هذه الرواية أوضح من سابقتها في الدلالة على ولاية الفقيه، لأنَّ الحوادث الواقعة المراد بها هنا: الأمور المستجدّة التي يرجع فيها الناس عادة إلى أئمّتهم ورؤسائهم، وليس الرجوع من أجل معرفة الأحكام فقط، فالرجوع من أجل معرفة الأحكام كان جارياً ومعروفاً، وليس بحاجة إلى استفهام وسؤال، فمن المستبعد جدّاً أن يكون السؤال عن شيء واضح، إنَّما السؤال إلى من يُرْجَع في الأمور المستجدّة والحادثة.
كما أنّ المراد من رواة الحديث ليس مجرّد نقل الرواية والتحديث، وإنّما المراد "بالرواة" هنا الفقهاء الذين يروون الحديث ويطبّقونه ويستنبطون منه الأحكام, لأنّهم القادرون على إعطاء الأحكام في الحوادث الواقعة والمستجدّة والتعاطي معها.
أمّا قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله" يستفاد منه أنَّ معنى الحجّة واحد، وذلك لورودها ضمن سياق واحد, فكما أنّ الأئمّة عليهم السلام حجّة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم، فكذلك الفقهاء هم حجّة في أوامرهم ونواهيهم وأحكامهم باعتبارهم رواةً للأحاديث بالمعنى الذي ذكرناه.
________________________________________
4- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 35، ص 180.
30
19
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
خلاصة
يمكن الإستدلال على ولاية الفقيه بالدليل النقليّ وقد ذُكرت عدّة أدلّة نقليّة عليها:
الدليل الأوّل: ضرورة وجود نظامٍ إسلاميّ، ببيان: أنّ في الإسلام أحكاماً تتعلّق بالجماعة والنظام العامّ، وهي تدلّ على ضرورة وجود وليّّ للأمر يطبّق هذه الأحكام، وهذه الأحكام العامّة مطلقة وغير مقيّدة بزمانٍ دون زمان، وهذا يعني ضرورة وجود حكومة إسلاميّة تسير على هدى هذه الأحكام وتطبّقها.
الدليل الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ الحكومة الإسلاميّّة بكامل سلطاتها تُعتبر المصداق الأكمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدليل الثالث: الروايات الخاصّة؛ كمقبولة عمر بن حنظلة، التي عبّرت "قد جعلته عليكم حاكماً"، ومكاتبة إسحاق بن يعقوب التي عبّرت "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله".
الشيخ الحلبيّ (347-447 هـ): يقول قدس سره في باب القضاء: "تنفيذ الأحكام الشرعيّّة والحُكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمّة عليهم السلام المختصّة بهم دون من عداهم ممّن لم يؤهّلوه لذلك, فإن تعذّر تنفيذها بهم عليهم السلام وبالمأهول لها من قِبَلِهم لأحد الأسباب لم يَجُز لغير شيعتهم تولّي ذلك ولا التحاكم إليه ولا التوصل بحكمه إلى الحقّ ولا تقليده الحكم من الاختيار, ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته, وهي: العلم بالحقّ في الحكم المردود إليه, والتمكّن من إمضائه على
31
20
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
وجهه, واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة، وظهور العدالة والورع والتديّن بالحكم، والقدرة على القيام به، ووضعه في مواضعه... فهو نائب عن وليّ الأمر عليه السلام في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه عليهم السلام لمن كان بصفته في ذلك, ولا يحلّ له القعود عنه"5 .
للمطالعة
ولاية الفقيه ولاية الله وحاكميّته
يصطلح القرآن الكريم على كلّ ولاية لغير الله بالطاغوت. ويؤكِّد أنَّ من لا يخضع لولاية الله وحاكميّته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميّته، فما هو الطاغوت؟
الطاغوت مشتقّ من مادّة الطغيان، والطغيان هو التعدّي والخروج عن الحدود الطبيعيّة والفطريّة للإنسان، فلو خرج الإنسان - الذي خُلق ليصل إلى كماله الممكن - عن هذا الهدف فهو طاغوت.
والطاغوت قد يكون ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه، ويدعوهم إلى الكسل والتواني والخمول وطلب العافية، ويعمل على منعهم من طاعة أمر الله ويدعوهم إلى ارتكاب المعصية، ولذلك يجب على الإنسان أن يعيش وفقاً لرسالة الله ودينه، وأن يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة ليجعل وجوده مثمراً ومنتجاً، وكلّ دافع يتنافى مع جديّة الإنسان وجهاده وكدحه فهو الطاغوت.
قد يتوهّم بعض الناس أنَّ الطاغوت إسماً لصنم معيّن، صحيح أنّه قد يكون إسماً لصنم، ولكنّه يتجلّى بأشكال متعدّدة، فقد يكون الإنسان نفسه صنماً، وقد يطلق على ثروته وماله، وقد يطلق على حياته المتراخية والمترفة، وكذلك
________________________________________
5- الحلبيّ، أبو الصلاح، كتاب الكافيّ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ(ع) العامّة، أصفهان، ص 421.
32
21
الدرس الثاني: الدليل النقليّ على ولاية الفقيه
أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كلّ ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضّة أو النّظام الاجتماعيّّ أو القانون. وعليه ليس الطاغوت اسماً لشيء محدّد خاصّ. والذي يُستنبط من القرآن الكريم أنَّ الطاغوت مقامٌ فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبّارين والرّهبان. وهذا بحث غير بحثنا ولسنا بصدد الحديث عنه، وعلى هذا فكلّ من يخرج عن ولاية الله وحاكميّته فلا بدَّّ أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان.
الخامنئي, علي , الإمامة والولاية, 92-93(بتصرف)
33
22
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيات
أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى الصفات الأساس التي يجب توفّرها في القائد.
2- أن يستدلّ على هذه الصفات من خلال النصوص الشرعيّة.
3- أن يعالج التفاوت في الصفات بين الأشخاص.
4- أن يحدّد محلّ الخلاف في صلاحيّات الوليّ.
5- أن يستدلّ على الولاية العامّة للفقيه.
35
23
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
صفات الوليّّ في عصر الغيبة
تقتضي الأدلّة المتقدّمة على ولاية الفقيه، أن يتوفّر في وليّّ الأمر من الشّروط والأوصاف ما يحقّق الهدف المنشود لإقامة النظام الإسلاميّ وحكومته العادلة، ولعلّ دليل العقل يقضي بأن تكون الولاية والحاكميّة للأفضل والأولى، باعتبار ما يملك من مؤهّلات وكفاءات.
ومع ذلك فالنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام بيّنت الشروط بدقّة, ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة محاور أساس كما تقدّم:
الأوّل: الفقاهة أو العلم الواسع الشامل لجميع ما يُبتلى به الوليّ في شؤون الحكم، ويقتضي ذلك أن يكون الفقيه:
1- مجتهداً: أي قادراً على استنباط الأحكام الشرعيّة من مصادرها الأصليّة، حيث إنّه ما من واقعة إلّا ولله فيها حكم, فلا بدّّ أن يكون الفقيه قادراً على استنباط الأحكام من مصادرها في كافّة المجالات الخاصّة والعامّة.
2- عارفاً بأمور زمانه: حيث تُعتبر المعرفة بأمور الزمان أمراً ضروريّاً في عمليّة الاستنباط، حيث لا بدّ للفقيه أن يعرف الموضوع معرفة تامّة
37
24
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
حتّى يُطبّق الحكم عليه، وإلّا كان اجتهاده ناقصاً. فالأحكام تتغيّر بتغيّر الموضوعات.
الثاني: الحصانة الأخلاقيّة، وتعني:
أ- العدالة: وهي ملكة نفسانيّة بمستوى عالٍ، تدفع إلى فعل الواجب وترك الحرام.
ب- التّقوى والورع: وهو عدم الانكباب على الدنيا جاهاً أو مالاً.
وقد اشتُرِطت هذه الصّفات ليكون أميناً على الأمر بعيداً عن الأهواء والمطامع الدنيويّة, لأنّ المسؤوليّة كبرى, وهي مزلّة الأقدام ومظنّة السقوط في شباك الهوى وزينة الدنيا. وقد اشترطوا العدالة في من يُستأمن على أبسط الأموال, فكيف بمن يُستأمن على الأموال والأنفس والأعراض ونظام الملّة وزمام الدين.
روي عن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، أنَّه قال: "لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: وَرَعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحِلمٌ يملك به غضبه، وحُسْنُ الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم"1 .
وروي عن الإمام الحسين عليه السلام: "ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله"2 .
الثالث: الكفاءة الإداريّّة أو القدرة على الأمر، وهذا يتطلّب خبرةً إداريّةً عاليةً ووعياً سياسيّّاً واسعاً، وضبطاً ودقّة، ويتطلّب أيضاً شجاعة وثباتاً، وكلّ ذلك من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ومع ذلك فقد تمّ الاستدلال عليه بعدّة نصوص:
منها: قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "أحقُّ الناس بهذا الأمر
________________________________________
1- الكلينيّّ، الكافي، دار الكتب الإسلاميّّة,آخونديّ، الطبعة الخامسة، ج 1، ص407، ابن بابويه، عليّ، فقه الرضا، مؤسسة أهل البيت عليهم السلام، ج 1 ص 407.
2- المفيد كتاب الارشاد، مؤسسة آل البيت عليهم السلاملتحقيق التراث، الطبعة الثانية 4141، ج2، ص 39.
38
25
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
أقواهم عليه"3 ولا يكون أقوى إلّا بالصفات التي ذكرنا.
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أن يكون الوليّ على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين: البخيل فتكون أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيُهلك الأمّة"4 .
ومنها: ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس..."5 .
وهذه العلامات وإن كانت للإمام المعصوم عليه السلام، إلّا أنَّه يُفهم منها اعتبار الأعلميّة والأفضليّة لمن يقوم مقامه عند غيبته.
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقام. وإذا كان بعضها يريد إثبات إمامة الأئمّة المعصومين عليهم السلام من خلال تعداد صفاتهم وإبطال إمامة أئمّة الجور الذين عاصروهم، فإنَّ الصّفات هذه شرط في الولاية مطلقاً، والأئمّة عليهم السلام هم أبرز مصاديقها بل وأكملها.
الكسر والانكسار في الصفات
نتيجة تفاوت الفقهاء بالصفات المتوفّرة, فقد نجد من هو أكثر ورعاً وتقوى وأقلُّ فقاهة، أو أكثر فقاهةً وأقلُّ كفاءة في السياسة والتدبير وإدارة الدولة، أو أكثر فقاهة في بعض أبواب الفقه، كالأبواب الخاصّة بالعبادات، ولكنَّه أقلُّ فقاهة في الأبواب المرتبطة بالقضاء والجهاد والسياسات. وحينئذٍ، فلمن تكون الولاية أهي للأفقه أم للأتقى أم للأقدر على الأمر؟!.
________________________________________
3- نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام، خطبة 173، ج 2، ص 86.
4- م.ن، ج 2 ص 14.
5- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 25 ص 116.
39
26
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
في هذه الحالة لا بدّ من إجراء حالة توازن بين الصّفات، وملاحظة ما هو أكثر مساساً بالموقع والمسؤوليّة الكبرى الملقاة على عاتقه. وهو ما يُطلق عليه اسم الكسر والانكسار في الشروط، وهو أمر متعارف في كافّة الوظائف والمسؤوليّات عند اختيار الأنسب لها.
خاصّة أنَّنا لا يمكننا التنازل عن أيَّة صفة من هذه الصفات لمصلحة الأخرى، وإنّما الكلام في التنازل عن الأكمل والأفضل في صفة معيَّنة، لصالح الأكمل والأفضل في صفة أخرى، فالتفاضل يقع بين مستويات انطباق الصّفات لا بين الصفات نفسها.
صلاحيّات الوليّ الفقيه
بعد أن تمّ إثبات أصل الولاية للوليّّ الفقيه، وتقدّم أنّ إجماع العلماء قائم على ثبوت أصل الولاية، وقع الخلاف في حدود هذه الولاية ودائرة صلاحيّات الوليّّ، والمعروف بين الفقهاء قولان:
أ- القول بالولاية الخاصّة
وهي تعني الولاية في الأمور الحسبيّة؛ وهي عند الفقهاء ولاية القضاء وإقامة الحدود وحفظ الأوقاف ومال الغائب والقاصر والتصرّف بسهم الإمام| في الخمس وأمثال ذلك ممّا يقع في دائرة ولاية المعصوم، ولا تقام في الأصل إلّا بإذنه، لكن الذي ثبت هو أنّ الشريعة المقدّسة والأئمّة المعصومين عليهم السلام لا يرضون بتركها في عصر الغيبة وتضييعها.
ودليل هذا القول: أصالة عدم ولاية أحد على أحد إلّا ما خرج بالدليل، فإنّه بعد عدم تماميّة الدليل على الولاية العامّة ـ الآتي شرحها ـ عند أصحاب هذا القول، تبقى الأمور الحسبيّة ـ السابقة الذكر ـ بنظرهم هي القدر المتيقّن من ثبوت الولاية.
وقد رُدّ هذا القول: بأنّ معنى الأمور الحسبيّة أوسع ممّا تصوّره أصحاب هذا
40
27
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
القول، لأنّ إقامة الحكومة الإسلاميّّة التي تُحيي الشريعة الإسلاميّّة، وتحفظ أحكامها، وتحمي مصالح الدين، وأمور المسلمين، وتمنع الظلم والفساد، تُعتبر من أهمّ الأمور الحسبيّة التي لا يرضى الله سبحانه، ولا رسوله ولا الأئمّة المعصومون عليهم السلام، بتركها والتخلّي عنها، وعليه فإنّ مفهوم الأمور الحسبيّة ومعناها يشمل دائرة الولاية العامّة أيضاً.
ب- القول بالولاية العامّة
ومعنى الولاية العامّة هي أنّ للوليّّ الفقيه إقامة الحكومة الإسلاميّّة بكلّ ما تشمله من التصرّفات، ولا ينحصر بالأمور الحسبيّة السابقة، بل تشمل إضافة إلى ذلك التصرّف بالأموال العامّة والنفوس، كالجهاد.
الدليل على الولاية العامّة
إنَّ الروايات جعلت للفقيه ولاية بما هو نائب عن الإمام المعصوم الحاكم المفترض الطاعة، بنحو واسع الصلاحيّة يشمل كلّ ما ثبت للإمام المعصوم الحاكم، وذلك لأنَّ الروايات والنصوص الشرعيّّة لم تخصّص نيابة الفقيه عن المعصوم الحاكم بصلاحيّات دون أخرى، بل أثبتتها للفقيه دون قيد، فتكون مطلقة وشاملة، ونافذة في دائرة كلّ ما كان للمعصوم الحاكم، إلّا ما خرج بالدليل، كما إذا علمنا أنَّ الحكم بالجهاد الابتدائيّ - مثلاً - ثابت للمعصوم عليه السلام بما هو معصوم لا بما هو حاكم، فالولاية لا تثبت للفقيه حينئذٍ في هذه الجزئيّة.
ولذا كان للفقيه كلّ ما كان للمعصوم فيما يرجع إلى إقامة الحكومة وما تستلزم من تصرّفات بالأموال والأنفس وغير ذلك ممّا كان ثابتاً للمعصوم عليه السلام من حيث هو قائد وحاكم.
41
28
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
خلاصة
تقتضي الأدلّة المتقدّمة على ولاية الفقيه أن يتوفّر في وليّ الأمر من الشروط والأوصاف، ما يحقّق الهدف المنشود لإقامة حكومة العدل والنظام الإسلاميّّ. ولعلّ دليل العقل يقضي بأن تكون الولاية والحاكميّة للأفضل والأولى باعتبار ما يملك من مؤهّلات وكفاءات.
والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام بيّنت الشروط بدقّة، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة محاور أساس:
الأوّل: الفقاهة أو العلم الواسع الشامل لجميع ما يبتلى به الوليّ في شؤون الحكم وهذا يقتضي أن يكون:
مجتهداً: أي قادراً على استنباط الأحكام الشرعيّة من مصادرها الأصليّة.
عارفاً بأمور زمانه: حيث إنَّ معرفة أمور الزمان تُعتبر أمراً ضروريّاً في عمليّة الاستنباط.
الثاني: الحصانة الأخلاقيّة وتعني:
أ- العدالة: وهي ملكة نفسانيّة بمستوى عالٍ تدفع إلى فعل الواجب وترك الحرام.
ب- الورع: وهو عدم الانكباب على الدنيا جاهاً أو مالاً.
الثالث: الكفاءة الإداريّّة أو القدرة على الأمر، وهذا يتطلّب خبرة إداريّّة عالية ووعياً سياسيّاً واسعاً، وضبطاً ودقّة، ويتطلّب أيضاً شجاعة وثباتاً.
42
29
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
المحقّق الكركي (868-940هـ): المعروف بالمحقّق الثاني يقول قدس سره:"اتفق أصحابنا (رضوان الله) عليهم على أنَّ الفقيه العدل الإماميّ الجامع لشرائط الفتوى, المعبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعيّّة نائب من قبل أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل – وربّما استَثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقاً – فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه, وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحقّ إن احتيج إليه, ويلي أموال الغُيَّاب والأطفال والسُّفهاء والمفلسين, ويتصرّف على المحجور عليهم, إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام"6
للمطالعة
الولاية الاعتباريّة
عندما نُثبت نفس الولاية التي كانت للرسول صلى الله عليه آله وسلم والأئمّة عليهم السلام للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمنَّ أحد أنّ مقام الفقهاء هو نفس مقام الأئمّة عليهم السلام والنبيّ صلى الله عليه آله وسلم، لأنَّ كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنَّما عن الوظيفة. فالولاية؛ أي الحكومة وإدارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدّس هي وظيفة هامّة، ولكنَّها لا تجعل للإنسان مقاماً وشأناً غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الإنسان العادي. وبعبارة أخرى فالولاية التي هي محلّ البحث، أي الحكومة والإدارة والتنفيذ ليست امتيازاً، خلافاً لما يتصوّره الكثيرون، وإنّما هي وظيفة خطيرة.
________________________________________
6- الكركيّ، عليّ بن الحسين، رسائل الكركيّ، مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّّ، قمّ، ج1، ص 142.
43
30
الدرس الثالث: الصفات والصلاحيـّات
فالقيّم على الأمّة لا يختلف عن القيّم على الصّغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأنَّ الإمام عليه السلام قد عيَّن شخصاً لأجل "حضانة" الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم صلى الله عليه آله وسلم والإمام والفقيه. فمن الأمور التي هي ضمن ولاية الفقيه تنفيذ الحدود (أي تطبيق القانون الجزائيّ للإسلام) فهل هناك اختلاف في تنفيذ الحدود بين الرسول الأكرم صلى الله عليه آله وسلم والإمام والفقيه؟ أم أنَّه لأنَّ الفقيه أدنى رتبة، فيجب أن تكون السياط التي يجلدها أقلّ عدداً؟!.
الخمينيّ، روح الله الموسويّ، الحكومة الإسلاميّّة، ص 81-82
44
31
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
أهداف الدرس
1. يستدلّ الطالب إلى وحدة الولاية بالأدلّة العقلائيّة.
2. يتبنّى وحدة الولاية بالنصوص الشرعيّة.
45
32
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
تمهيد
لقد مهَّد الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف لغيبته وانقطاعه عن الناس بما عُرف بالغيبة الصّغرى، والتي نصَّ فيها على أشخاص بأسمائهم وجعلهم وكلاءه ونوابه وسفراءه، إليهم يرجع الناس في مسائلهم وهم بدورهم يرجعون إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، أمّا بعد وفاة السفير الرابع فقد جعل الإمام الولاية من بعده - بما دلّت عليه الروايات المتقدّمة - لأشخاص يحملون صفات معيَّنةً محدّدة تقدّم ذكرها أيضاً، ولم ينصّ عليها لشخص واحد بعينه، وعند توفّر الشروط في واحد من الفقهاء يتعيّن تلقائيّاً.
لكن لو فرضنا تعدّد الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط المتقدّمة، فهل تكون الولاية لكلّ واحد منهم أو لمجموعهم أو لأحدهم فقط؟ ولعلّ هذا الموضوع هو من أهمّ الأبحاث التي تختصّ بولاية الفقيه في العصر الحاضر.
وحدة ولاية الفقيه
قبل الدخول في صلب الموضوع ينبغي الإشارة إلى أنَّ البحث عن وحدة الولاية وتعدّدها سيكون بحسب القاعدة الأوليّة، أي ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الظروف الطبيعيّة, بعيداً عن الظروف القاهرة التي تفرض التعدّد أو تفرض الوحدة. فإذا كانت القاعدة الأوليّة تقتضي وحدة الولاية، ومنعت الظروف من
47
33
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
توحيدها وفرضت التعدّد، فعندئذٍ لا مانع منه، كما هو كلّ حكم أوّليّ تقتضي الضرورة رفع اليد عنه، وهو أولى من ترك الأمور كليّاً. كما أنَّ القاعدة الأوّليّة لو فرضت التعدّد، وكان الظرف يقتضي الوحدة فإنَّه لا مانع منها عندئذٍ.
كما أنّه لا شكّ بأنَّ وحدة ولاية الفقيه غالباً ما تكون هي الخيار الأفضل للأمَّة، لكنَّ البحث لن يكون في الأفضل، بل في الأصل ومقتضى القاعدة. وليس البحث أيضاً بلحاظ شخص استثنائيّ، أو زمن استثنائيّ، يُلزمنا بالوحدة أو بالتعدّد كما يحدث أحياناً، وإنَّما بقطع النظر عن الأشخاص والخصوصيّات الزمانيّة والمكانيّة.
أدلّة وحدة ولاية الأمر
إنَّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة، وفيما يلي نعرض الأدلّة على ذلك:
حكم العقلاء:
إنَّ ما يحكم به العقلاء في جميع الأمم والشعوب والأديان أنَّ وجود رأس واحد لهذه الجماعة هو أمر لازم لصالح الجماعة, وأنَّ تعدّد القادة سوف يؤدّي إلى الإخلال بسير الأمّة نحو الرّقي والكمال المادّيّ والمعنويّ، وسوف يفرض الإنقسام على الناس ويتيح الفرصة لتفكّك الجماعة, واذا كان المسلمون أمّة واحدة، تحمل هدفاً واحداً وعقيدة واحدة ومصادر مسيرتها في الحياة واحدة, فلا بدّ وأن يكون الشخص الذي يسير بها واحداً.
روح الشريعة:
فإنَّ الشريعة الإسلاميّّة في كلِّ أحكامها السياسيّّة والاجتماعيّّة والأمنيّة والعسكريّة تفرض أن تكون الأمّة الإسلاميّّة أمّة واحدة، تفرض الوطن الإسلاميّ وطناً واحداً، وليس فيها ما يفرض تعدّد الكيانات والأمم الإسلاميّّة، وممّا يساعد على ذلك ما كان عليه المسلمون من تصدّي إمامٍ أو خليفة واحد في زمانه
48
34
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
حتى لو كان معه عدد آخر من الأئمّة عليهم السلام، وهذا أمر مرتكز في أذهان عامّة المسلمين، وقد بقي هذا الأمر حيّاً يعيش في ذاكرتهم في مختلف العصور، حتّى جاء الاستعمار الحديث بثقافة الكيانات المتعدّدة، وقسّم الأمم والأوطان، لأهداف سياسيّّة معروفة..
النصوص الصريحة:
لقد دلّت النصوص صراحة على وحدة القيادة في العالم الإسلاميّ، ونكتفي في هذا المبحث بذكر روايتين فقط:
1- الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام "ما لكم وللرئاسات إنَّما للمسلمين رأس واحد"1 .
2- عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام: "فإن قيل فلِمَ لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل لعلل منها: أنَّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والإثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنَّا لم نجد اثنين إلّا مختلفي الهمّ والإرادة, فإذا كانا اثنين ثمَّ اختلف همُّهما وإرادتهما وكان كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه, فيكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد. ثمَّ لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلّا وهو عاصٍ للآخر، فتعمّ المعصية أهل الأرض.."2 .
________________________________________
1- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء,الطبعة الثانية المصحّحة، ج 69 ص 215.
2- م. ن، ج 6 ص 61.
49
35
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
خلاصة
إنّ البحث عن وحدة الولاية وتعدّدها سيكون بحسب القاعدة الأوّليّة، أي ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الظروف الطبيعيّة، وما هو مقتضى القاعدة، بعيداً عن الظروف القاهرة التي تفرض التعدّد أو تفرض الوحدة.
إنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة ودليل ذلك:
أوّلاً: إنّ ما يحكم به العقلاء في جميع الأمم والشعوب والأديان أنّ وجود رأس واحد لهذه الجماعة هو أمر لازم لصالح الجماعة، وأنّ تعدّد القادة سوف يؤدّي إلى الإخلال بسير الأمّة نحو الرقي والكمال الماديّ والمعنويّ.
ثانياً: إنّ الشريعة الإسلاميّّة في كلّ أحكامها السياسيّّة والاجتماعيّّة والأمنيّة والعسكريّة تفرض أن تكون الأمّة الإسلاميّّة أمّة واحدة.
ثالثاً: النصوص الصريحة التي دلّت على وحدة القيادة في العالم الإسلاميّ.
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
الشهيد الثاني (911-966 هـ): يقول قدس سره: "فالفقيه في حال الغيبة وإن كان منصوباً للمصالح العامّة لا يجوز له مباشرة أمر الجهاد بالمعنى الأوّل"3.
والشهيد الثاني هنا يثبت الولاية للفقيه, ويستثني منها الجهاد الإبتدائيّ.
________________________________________
3- الشهيد الثاني، زين الدين بن عليّ العامليّ، مسالك الأفهام، مؤسسة المعارف الإسلاميّّة، قمّ، إيران، ج3، ص9.
50
36
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
للمطالعة
وحدة الأمّة الإسلاميّّة
من أهمّ المفردات التي تَميّز بها خطّ الإمام الخمينيّ قدس سره وأخذت حيّزاً مهمّاً من تفكيره وأسلوب عمله هي مسألة "وحدة الأمّة الإسلاميّّة" التي كان طرحها من جانبه كجزء لا يتجزّأ من "شموليّة الطرح الإسلاميّ" الذي يتنافى مع التمزّق والتفتيت الذي تعيشه الأمّة في واقعها.
ولا شكّ أنَّ وحدة الأمّة هي الأصل الثابت الذي لا محيص عنه.
قال تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾4 .
وقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾5 .
وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "بحكم الإسلام يجب أن يكون المسلمون يداً واحدة وكذلك التكليف الآن هو أن يكون لجميع المسلمين وحدة كلمة".
ومن الواضح أنَّ هذا الطرح الوحدويّ للأمّة كان شعاراً كما كان هدفاً مباشراً لجهاد الإمام وكفاحه الطويل وفي هذا المجال يقول: "إنَّ هدفنا هو الإسلام ووحدة كلمة المسلمين في كلّ أرجاء العالم، والإتحاد مع الدول الإسلاميّّة كلّها".
ومن هنا، لم يكن الاختلاف المتحقّق بين المسلمين سبباً لتثبيط عزيمة الإمام قدس سره بل عمل على تجاوز واقع التجزئة الذي تعيشه الأمّة، وحاربه بكلّ ما أُوتي من قوّة، من أجل تصحيح مسيرة هذه الأمّة العظيمة وإعادة وحدة الكلمة إليها، تحت راية التوحيد لله التي تقتضي وحدة المسلمين جميعاً.
ولهذا نجد أنَّ الإمام قدس سره يعلن عن الاستعداد التامّ للعمل مع جميع
________________________________________
4- سورة الأنبياء: 92.
5- سورة آل عمران: 103.
51
37
الدرس الرابع: وحدة ولاية الأمر في عصر الغيبة
المخلصين على قاعدة "وحدة الأمّة" وفي هذا الصدد يقول:"إنَّني أمدُّ يد الأخوَّة إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة باعتبارهم أخوة أعزَّاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخطّطات المشؤومة".
كما يعتبر الإمام رحمه الله أنَّ قيام الدولة الإسلاميّّة في إيران هو وسيلة من وسائل توحيد الأمّة نظراً للإمكانات التي تتوفّر لها ويقول: "نحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمّة الإسلاميّّة وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلّا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلاميّّة، وهذه بدورها سوف تتكلّل أعمالها بالنجاح".
ويرى الإمام رحمه الله أنَّ وحدة الأمّة هي الطريق لتحريرها وإعادة العزّة والكرامة والحريّة والاستقلال لها وقطع أيدي المستعمرين والأعداء عنها، وفي هذا المجال يقول: "إذا كان المليار مسلم منسجمين مع بعضهم البعض فمن يستطيع أن يكسرهم؟" ويقول: "إنَّكم أيّها المسلمون، وما تملكون من الثروات الماديّة التي لا تُقدَّر، وأهمّ منها الثروة الإلهيّة والمعنويّة التي هي الإسلام، تستطيعون أن تكونوا قوّة لا تستطيع القوى الكبرى معها أن تتسلّط عليكم، ولن تكونوا معرّضين من اليمين واليسار لهجومهم وسرقة كلّ ما تملكون"، ويقول أيضاً: "إذا تعامل المسلمون وفق الأوامر الإسلاميّّة وحافظوا على وحدة الكلمة، وتركوا الاختلاف والتنازع الذي هو أساس هزيمتهم، فإنّهم تحت راية لا إله إلّا الله سوف يُصانون من اعتداءات أعداء الإسلام وناهبي العالم، وسوف يقطعون أيدي الشرق والغرب عن بلاد المسلمين".
من أنوار العشق الخمينيّ قدس سره، ص 38 - 39
52
38
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
الدرس الخامس: صور تعدد الولي
أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى فرضيّات تعدّد الوليّ.
2- أن يناقش فرضيّات التعدّد و يُثبت بطلانها.
53
39
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
تمهيد
بعد أن تقدّم في الدرس السابق الأدلّة العقلائية والنصوص الصريحة الدالة على وحدة الولي، وأن القاعدة الأوليّة هي الوحدة، من الضروريّ جدّاً أن نذكر الرأي المقابل للقول بالوحدة وهو التعدّد، وبعد توضيح هذا الرأي بكلّ صوره واحتمالاته، نتعرّض لكل احتمال وما يترتّب عليه من مفاسد ومشاكل ولوازم باطلة أو لا يمكن الإلتزام بها، يتعيّن عندها ويتأكد ما أثبتناه من قاعدة وهو القول بالوحدة، لأنّه لا بديل آخر، إمّا الوحدة وإمّا التعدّد.
نبدأ بذكر احتمالات تعدّد الوليّ, لنرى مبرراتها الشرعيّة ولوازمها العلميّة والعمليّة، بمعنى أنّه ماذا يترتّب من مفاسدٍ ومشاكل لو فرضنا تعدّد الولاية؟ لكي يبقى الخيار الثاني - وهو وحدة الولاية - هو الأفضل والأسلم. ويمكن تصوّر التعدّد من خلال الصور التالية:
الأولى: ثبوت الولاية الفعليّة لكلّ فقيه تتوفّر فيه الشروط، بحيث يكون لكلّ فقيه ولاية مستقلّة عن ولاية الباقين، مهما كثر عددهم.
هذا الاحتمال لا يمكن اللجوء إليه، لأنَّه يلزم منه الاختلاف والفساد، وانعدام النظام، بينما المفروض أنَّ ولاية الأمر إنَّما شرِّعت لحفظ النّظام، وإدارة شؤون الناس، وحفظ الحقوق، وإقامة الدين، فهي لدفع الفساد لا لإحداثه، فهذا الاحتمال ساقط قطعاً.
55
40
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
الثانية: ثبوت الولاية الفعليّة للمجموع لا للجميع، أي ثبوت ولاية واحدة لمجموع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط حال اجتماعهم، دون أن يكون لكلّ فقيه ولاية مستقلّة على حدة. ومعنى هذا الاحتمال أن يكون ما أجمعوا عليه (جميعاً ومعاً) حجّة على الناس ملزماً لهم، فلا بدّ من اجتماعهم وإجماعهم على رأي واحد لتحصل القرارات الملزمة في النّظام.
وهذا الاحتمال أيضاً لا يمكن المصير إليه ولا الالتزام به لعدّة وجوه:
أ- لا يدلّ عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلّة ولاية الفقيه النقليّّة فضلاً عن الدّليل العقليّ.
ب- إنّ آليّة تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر، وإن تيسّر نادراً فهو لا ينفع في المواقع التي تحتاج إلى متابعات يوميّة وإصدار الأوامر والنواهي والتعليمات كلّما اقتضى الشأن ذلك.
الثالثة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، وتكون فعليّة الولاية لواحدٍ فقط في الدائرة الواحدة؛ بمعنى صلاحيّة كلّ واحد منهم للولاية، وأهليّته لها، فإذا تعدّد الفقهاء في الدائرة الواحدة لا تكون الولاية الفعليّة إلّا لواحد منهم، وإذا تعدّدوا وكانت الدوائر متعدّدة يكون كلّ واحد منهم وليّاً بالفعل في دائرته الخاصّة.
وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدّد ولاية الفقيه، حيث يدَّعي أصحابه أنَّه لا يلزم منه الفساد الذي اقتضاه الاحتمال الأوّل، ولن يكون هناك تعارض بين أولياء الأمور الذين يعمل كلّ واحد منهم في دائرة مستقلّة عن الأخرى، واستدلّوا على ذلك بأنّ الأدلّة السابقة الشرعيّّة مطلقة؛ بمعنى أنّها تنطبق على كلّ فقيه جامع للشّرائط، وهي غير مختصّة بفقيه واحد، إلاّ في الحالات التي يلزم من ثبوت الولاية لكلّ واحدٍ(التعدّد في الدائرة الواحدة)الفساد، وتبقى سائر الحالات على حالها.
56
41
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
وهو ما يصوّره هذا الاحتمال، بالضبط كما هو الأمر في القضاء، فإنَّ مقبولة عمر بن حنظلة التي يُستدلّ بها على ولاية الفقيه، قد استدلَّ بها الكثير من الفقهاء على ولاية القضاء، وهي ذاتها لم تمنع من تعدّد القضاة حتّى في البلد الواحد، ما لم يلزم منه الفساد، فلذا منعوا أن ينظر اثنان من القضاة في قضيّة واحدة ممّا يفتح الاحتمال على الاختلاف في الحكم وتكوين النزاع.
مناقشة فرضيّة التعدّد الأخيرة
إلّا أنَّ هذا الاحتمال الأبرز للتعدّد أيضاً مما لا ينبغي اللجوء إليه ولا الالتزام به وذلك لعدّة أمور:
1ـ هل يصحّ التمسّك بالإطلاق؟
إنّنا عندما نريد استفادة الإطلاق من الكلام الوارد من المعصوم - كما فعل أصحاب القول بالتعدّد في استدلالهم - لا بدّ وأن يكون الكلام قد ورد لبيان جعل الولاية للجميع فعلاً، أي نصب كلّ فقيه للولاية، ولكنَّ الرّوايات لم تكن بصدد بيان ذلك، بل أرادت بيان الصّفات المعتبرة التي ينبغي توفّرها في الوليّ.
2ـ كيف نفهم كلام المعصوم عليه السلام؟
إننَّا إذا أردنا أن نفهم كلام المعصوم لا بدَّّ وأن نفهمه ضمن القرائن العامّة التي يعيشها الناس في عصر الإمام عندما صدر منه الكلام, ومن القرائن العامّة ملاحظة المرتكزات الثابتة في أذهان الناس منذ صدر الإسلام حتّى العصور القريبة الماضية، وهي التي تتضمّن وحدة الوليّ والقائد ومن بيده الأمر وإليه يرجع الناس في أمورهم العامّة، وهذا يمنع من شمول الأدلّة الشرعيّة السابقة - التي استدلّوا بها - لكلّ فقيه بمفرده، وهذا يعني عدم ثبوت التعدّد بنحو فعليٍّ لكلّ فقيه.
3ـ هل يصحّ تقسيم الأمّة إلى دوائر؟
إنَّ تقسيم الأمّة والبلاد الإسلاميّّة إلى دوائر متعدّدة، يخالف ظاهر كلِّ الأدلّة الشرعيّة التي كانت تنظر إلى الأمّة الإسلاميّّة كوحدة غير مجزّأة، ولم يلحظ
57
42
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
في شيء من الخطابات الشرعيّة أنَّها فرضت أن تكون الأمّة وحدات متعدّدة، وقد تقدّم.
4ـ ما هي حدود التجزئة؟
لو سلّمنا وقبلنا القول بالتعدّد، فإنّنا لا نعرف المعيار الذي على أساسه تقسّم الأرض إلى دوائر، فإنَّ تعدّد الدوائر لن يقف عند حدٍّ معيّن، فإنَّ التجزئة إذا حصلت فلن تتوقف حتّى في إطار المدينة الواحدة التي يمكن جعلها أكثر من دائرة، كما هو الحال في الدوائر البلديّة والإداريّّة، وهذا بالنسبة إلى ولاية الأمر غاية في الفساد، يُقطع بعدم رضا الشريعة وصاحبها، والالتزام بتقسيمات محدودة لا معنى له، ولا يمكن تحديد ضابطته، فهل نعتمد أساس الجغرافيا والتجزئة الطبيعيّة أو الأساس اللغويّ أو القوميّ أو غير ذلك؟! وكلّ هذه الأسس لا يعترف بها الشرع كمنطلقات للفرز والتقسيم.
5ـ مَن يحكم في قضايا الأمّة؟
إنّ الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمّة، وتعني الإسلام ككلّ، مَن الذي سيبتُّ بها على فرض التعدّد؟! فلو دهم المسلمين عدوّ، فالأدلّة الشرعيّة تفرض وجوب الدفاع على كلِّ الأمّة دون فرق بين القريب والبعيد، فعندئذٍ كيف تكون الولاية ولمَن وعلى مَن؟! ومَن الذي يشخّص المصلحة والموقف ويُصدر الأمر؟!
وهكذا يظهر أنَّ احتمال التعدّد هذا يلزم منه الفساد ويترتّب عليه مشاكل لا تقبلها الشريعة المقدّسة، كما هو الحال في الاحتمال الأوّل، لا كما ادّعى أصحاب هذا الاحتمال.
6ـ هل يصحّ قياس الولاية على القضاء؟
القياس على القضاء غير صحيح، لوجود الفارق الكبير بين الأمرين، فإنّ قضايا القضاء شخصيّة خاصّة, وقضايا الولاية عامّة غير شخصيّة، فإذا أمكن
58
43
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
التعدّد في القضاء عند تعدّد القضايا وانتفاء الترابط بينها، فإنّ الأمر ليس كذلك في قضايا ولاية الأمر المترابطة والشاملة والتي تتعلّق في الغالب بالأمّة كل الأمّة الإسلامية بلا حدود جغرافية أو غيرها...، وعليه فإنّ التعدّد فيها يؤدّي إلى الخلل والفساد، وبالتالي لا يصحّ هذا القياس.
الرأي الصحيح
وعليه فإنَّ الاحتمالات المتقدّمة التي فرضت التعدّد لا مجال لقبول شيء منها ولا الالتزام بها، ولا بدَّّ من المصير إلى القول بوحدة ولاية الأمر وهو ما دلّت عليه الأدلّة كما تقدّم ولا يلزم منه أيّ خلل أو فساد، هذا إن لم نقل ببركات وخيرات الوحدة التي ظهرت جليّة في هذه الآونة.
فالنتيجة أنَّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكلّ الأمّة الإسلاميّّة مهما اتسعت, حتّى لو بلغت العالم أجمع.
وعليه فإذا تعدَّد الفقهاء الذين لهم الأهليّة والشأنيّة لولاية الأمر يكون الأولى والمتعيّن هو أعلمهم وأقدرهم وأتقاهم، وهذا ما يرجع في شأن تعيينه العلمي، والكشف عنه إلى أهل الخبرة، - وسيأتي درس مستقل عن دور أهل الخبرة - فإذا تصدّى للأمر وجب على الأمّة نصرته وطاعته والالتزام بولايته.
59
44
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
خلاصة
إنّ احتمالات تعدّد الوليّ، لا يمكن الاعتماد على مبرّراتها الشرعيّة ولوازمها العلميّة، ويمكن تصوّر التعدّد بعدّة صور:
الأولى: ثبوت الولاية الفعليّة لكلّ فقيه تتوفّر فيه الشروط، وهذا يلزم منه الاختلاف والفساد.
الثانية: ثبوت الولاية الفعليّة للمجموع لا للجميع، وهذا لا يدل عليه دليل، ولا يمكن استنباطه من أدلّة ولاية الفقيه النقليّة فضلاً عن الدليل العقليّ، أضف إلى أنّ آليّة تحصيل القرارات الملزمة تنحصر في اجتماعهم، وهو أمر لا يتيسّر.
الثالثة: ثبوت الولاية للأكثرية حضوراً وآراءً، وهذا لا دليل عليه.
الرابعة: ثبوت شأنيّة الولاية لجميع الفقهاء الذين تتوفّر فيهم الشروط، إلّا أن الولاية الفعليّة لا تكون إلّا لواحد منهم فقط في كلّ دائرة من دوائر الأمّة الإسلاميّّة، وهذا الاحتمال هو الأشهر عند القائلين بتعدّد ولاية الفقيه.
إلّا أنّ هذا الاحتمال أيضاً لا ينبغي المصير إليه ولا الالتزام به لعدّة أمور:
1- إن الروايات ليست بصدد بيان جعل الولاية للجميع حتّى يُتمسّك بإطلاقها، وإنّما وردت لبيان الصفات المعتبرة في الفقيه.
2- إنّ تقسيم الأمّة والبلاد الاسلاميّة إلى دوائر متعدّدة يخالف ظاهر كلّ الأدلّة الشرعيّة التي كانت تنظر إلى الأمّة الإسلاميّّة كوحدة غير مجزّأة.
3- إنّ تعدّد الدوائر سوف لن يقف عند حدٍّ معيّن.
4- الكثير من القضايا التي هي بحجم الأمّة، وتعني الإسلام ككلّ، من الذي سيبتّ بها على فرض التعدّد؟!
فالنتيجة إنّ القول بالتعدّد يؤدي إلى لوازم فاسدة، فضلاً عن أنّه لا دليل عليه، وأنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي وحدة ولاية الفقيه لكلِّ الأمّة الإسلاميّّة مهما اتسعت، حتّى لو بلغت العالم أجمع.
60
45
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
المحقّق النراقيّّ (متوفى 1244هـ): يقول قدس سره "إنَّ كليَّة ما للفقيه العادل توليّه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كلّ ما كان للنبيّ والإمام ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية وكان لهم, فللفقيه أيضاً ذلك, إلّا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نصّ أو غيرهما, وثانيهما أنَّ كلّ فعل متعلِّق بأمور العباد في دينهم ودنياهم ولا بدَّّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه..."1.
وبذلك يكون المحقّق النراقيّ هو أوّل من ظهر في كلماته اصطلاح "ولاية الفقيه".
للمطالعة
مقتطفات من مقابلة أجراها مراسل صحيفة (استريت تايمز) السنغافوريّة، مع الإمام الخمينيّ قدس سره، بتاريخ 16 صفر 1399 هـ. ق. في باريس، نوفل لوشاتو، حول الأوضاع العامّة في إيران قبل وبعد انتصار الثورة:
سؤال: إن لم أكن مخطئاً في فهمي فأنتم ومؤيدوكم تريدون ذهاب (الشاه) ولا ترون لإيران مستقبلًا سوى الصورة الكاملة للدولة الإلهيّة أي الجمهوريّة الإسلاميّة التي تدار من قبل قائد دينيّ، هل تقولون بشكل مثاليّ أنّكم يجب أن تكونوا البديل عن (الشاه) في رأس الدولة وأن تُدار إيران بشكل أكثر إنسانيّة وأن تتمّ هدايتها من خلال الأسس الإسلاميّة؟
جواب: أنا وسائر رجال الدين لا نحتلّ منصباً في الدولة، فواجب رجال الدين هو إرشاد الحكومات، لكنّ ما نريده هو عزل الشاه، وتبديل هذا النظام الفاسد بدولة العدل الإسلاميّة، وسيكون النصر حليفنا.
________________________________________
1- النراقيّ، أحمد بن محمّد مهديّ، عوائد الأيّام، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلاميّ، ص 188-189.
61
46
الدرس الخامس: صور تعدّد الوليّ
سؤال: هل المعارضة التي تُبدونها؛ نموذج لحكومة اشتراكيّة في إيران، أو أنّ حكومتكم لها مرجعيّة إنسانيّة على أساس الأصول الدينيّة؟
جواب: إنّ حكومتنا هي الحكومة الإسلاميّة التي ستنفّذ القوانين الإسلاميّة الّتي تصنع الإنسان وتوصله إلى قمّة إنسانيّته، وهي قادرة على تلبية حاجاته الماديّة أيضاً.
سؤال: إذا افترضنا أنّكم تسلّمتم قيادة الدولة، فكيف تتوقّعون أن تكون علاقاتكم بالغرب؟
جواب: مهمّتي في الدولة القادمة هي الإرشاد، ولا فرق عندي بين الشرق والغرب، فالأساس هو مصالح الشعب الإيرانيّ التي تجب رعايتها على أحسن وجه، فإذا التزم الغرب والشرق بمبدأ الاحترام المتبادل في معاملتهما للشعب الإيرانيّ عاملناهما على هذا الأساس أيضاً.
62
47
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
الدرس السادس : الولاية ومرجعية التقليد
أهداف الدرس
1- أن يتبيّن أدلّة وجوب التقليد.
2- أن يقارن بين شروط المرجعيَّة وشروط الولاية.
3- أن يستظهر إمكانية الجمع بين المرجعيّة والولاية.
63
48
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
التقليد
هو عبارة عن رجوع المكلَّف إلى الفقيه الجامع للشّرائط لمعرفة حكمه الشرعيّّ. وهناك عدّة أدلّة على وجوب التّقليد نذكر منها:
النصوص الشرعيّّة:
أ - قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لعلَّهم يحذرون ﴾1 .
فهذه الآية الكريمة تدلّ على وجوب أن تذهب فرقة من المؤمنين للتخصّص والتفقّه بالدين، حتّى إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم، وهذا الوجوب يلازمه أنّ على المؤمنين الآخرين أن يستمعوا لهم ويطيعوهم في مجالسهم، وهو معنى رجوع الناس إلى المتخصّصين بالفقه، ولولا ذلك لما كان هناك معنى لأن يأمر المولى بالتفقّه ثمّ لا يجب على الناس اتباعهم وإطاعتهم.
ب - الرواية عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام:
" فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم "2 .
________________________________________
1- سورة التوبة: 122.
2- الحرّ العامليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 هـ.ق.، ج 27 ص 131.
65
49
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
السيرة العقلائيّة:
إنّ سيرة العقلاء قائمة على قاعدة رجوع الجاهل إلى العالم، وذلك في مختلف مجالات الحياة، فنجد المريض يرجع إلى الطبيب المتخصّص، وكلّ محتاج في مجال ما يرجع إلى المتخصّص في نفس المجال وهكذا. وباعتبار أنَّنا مخاطبون بالتكاليف، فقد حدّدت أحكام التقليد إذا كنَّا لا نملك القدرة على استنباط الأحكام من مصادرها - لأن كلَّ واحد منّا له مجاله الخاصّ به، وغير متخصّصين في الفقه - فما علينا إلَّا الرجوع إلى الفقهاء المأمونين ليرشدونا إلى أحكام الشريعة. ومن هنا نشأت وظيفة الإفتاء التي تناط بمراجع التقليد.
شروط مرجعيّة التقليد
ليس كل من نال درجة رفيعة من العلم في المجال الفقهي يمكن للناس الرجوع إليه في أمر دينهم وآخرتهم، بل لا بدّ لمن يصل إلى مقام مرجعية التقليد أن تتوفّر فيه شروطاً متعدّدة نذكر أهمّها:
1- الإجتهاد، وبعبارة أخرى الفقاهة، وهي القدرة على استنباط الحكم الشرعيّ من مصادره الرئيسة.
2- العدالة والورع، ليُطَمأَنَّ إلى فتاوى الفقيه أنَّه يُخبر عن حقيقة ما توصّل إليه اجتهاده.
3- الضّبط، ومعناه أن لا يكون الفقيه مبتلى بكثرة النسيان والسهو والاشتباه.
فإنَّ فتوى الفقيه عند توفّر هذه الصِّفات تكون حجّة على مقلِّديه، ولا بدَّّ من مراعاة الأعلميّة فيما لو اختلف الفقهاء في الفتوى.
تعريف ولاية الفقيه
هي ولاية وحاكميّة الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف
66
50
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
حيث ينوب الوليّ الفقيه عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في قيادة الأمّة وإقامة حكم الله على الأرض.
شروط الولاية
إنّ الشروط اللّازمة في الوليّّ هي الشروط ذاتها اللّازمة في مرجعيّة التقليد المتقدّمة، يُضاف إليها شرط القدرة على القيام بالأمر الذي يتطلّب مستوى من المعرفة السياسيّة والخبرة الاجتماعيّّة والإداريّّة، التي تشكّل بمجموعها شروط ولاية الأمر في عصر الغيبة، وهذا يعني أنَّ صلاحيّة شخص لولاية الأمر تتوقّف على شروط أزيد من شروط مرجعيّة التقليد.
المرجعيّة والولاية بين التعدّد والوحدة
قد يحصل أحياناً أن يكون وليّ الأمر هو عينه مرجعاً للتقليد كما هو بالنسبة إلى الإمام الخمينيّ الراحل والسيّد علي الخامنائي القائد.
وقد يحصل في حالات أخرى التّفريق بين المرجعيّة والولاية عندما لا يكون وليّ الأمر هو الأعلم في عالم الفقاهة، لكنَّه الأصلح والأقدر على القيام بالأمر، فيكون متعيّناً لولاية الأمر، بينما تكون مرجعيّة التقليد لغيره على أساس أنَّه الأعلم في مجال الاستنباط.
الأمور الحسبيّة
إنَّ الإمام المعصوم عليه السلام هو المرجع في المجالين معاً، وفي عصر الغيبة عندما لم يكن هناك دولة إسلاميّة، أي لم يكن الفقيه مبسوط اليد، انحصرت وظيفة الفقهاء بشؤون الإفتاء، لكن لم يخلُ الأمر من ممارسة الولاية على مستوى محدود وفي مجال ضيّق من قبيل تصريف شؤون الأيتام والقاصرين والأوقاف والتصرّف بأموال الإمام المعصوم عليه السلام التي ترد من الخمس والأنفال، ويُطلق
67
51
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
على مثل هذه الموارد اسم الأمور الحسبيّة، وأحياناً تمتدّ إلى ممارسة القضاء والفصل بين المتنازعين في الخصومات.
هذه الشؤون لم تكن تتطلّب الكثير من الخبرة، ولذا كان الفقهاء يتصدّون لها من دون رعاية الأَولى والأعرف، نعم في مجال صرف سهم الإمام عليه السلام من الخمس كان كثير منهم يشترط دفعه إلى الأعلم والأعرف بمصارفه.
أمّا بعد قيام الجمهوريّة الإسلاميّّة في إيران وبسط يد الفقيه وتمكّنه من ممارسة ولاية الأمر على أوسع وجه فإنَّ التمييز بين وظيفة الإفتاء ووظيفة ولاية الأمر بات أمراً ضروريّاً، وإن كان اجتماعهما في شخص هو الأرجح.
خلاصة
إنّ مرجعيّة التقليد تعني رجوع المكلَّف إلى الفقيه الجامع للشرائط لمعرفة حكمه الشرعيّّ، والدليل على ذلك النصوص الشرعيّّة.
شروط مرجعيّة التقليد:
الاجتهاد، وبعبارة أخرى الفقاهة.
العدالة والورع، ليُطمأن إلى فتاواه أنّه يخبر عن حقيقة ما توصّل إليه اجتهاده.
الضبط، ومعناه أن لا يكون الفقيه مبتلى بكثرة النسيان والسهو والاشتباه.
أمّا الشروط اللّازمة في الوليّّ فهي نفس الشروط اللّازمة في مرجعيّة التقليد المتقدّمة، يُضاف إليها شرط القدرة على القيام بالأمر التي تتطلّب مستوى من المعرفة السياسيّّة والخبرة الاجتماعيّّة والإداريّّة.
وقد يحصل أحيانا أن يكون وليّ الأمر هو عينه مرجعاً للتقليد، وقد يحصل في حالات أخرى التفريق عندما لا يكون وليّ الأمر هو الأعلم في عالم الفقاهة، لكنّه الأصلح والأقدر على القيام بالأمر فيكون متعيّناً لولاية الأمر.
68
52
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
المحقّق النجفيّّ(متوفى 1266 هـ): يقول قدس سره: " لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلِّقة بشيعتهم معطَّلة, فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك, بل كأنَّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً, ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً, ولا تأمّل المراد من قولهم: إنِّي جعلته عليهم حاكماً وقاضياً وحجّة وخليفة ونحو ذلك ممّا يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم..."3 .
للمطالعة
ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام:
"إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصُراح، وبأكل الحرام وبالرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات. وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم. وعرفوهم بأنّهم يُقارفون المحرّمات، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمّهم الله لمّا قلّدوا من قد عرفوا، ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
________________________________________
3- الجواهريّ، محمّد حسن النجفيّ، جواهر الكلام، دار الكتب الإسلاميّّة، طهران، ج 12، ص 397.
69
53
الدرس السادس:الولاية ومرجعيـّة التقليد
وكذلك عوامّ أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة والتكالب على حُطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصّبون عليه إن كان لإصلاح أمره مستحقّا، وبالترفّق بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّاً. فمن قلّد من عوامنا من مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه. وذلك لا يكون إلّا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا، فهم يحرّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير مواضعها ووجوهها لقلّة معرفتهم وآخرين يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عَرَضِ الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم".
تفسير الإمام العسكري عليه السلام، ص 299
70
54
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
الدرس السابع: شؤون المرجعية وشؤون الولاية
أهداف الدرس
1- أن يميّز الطالب بين شؤون المرجعيّة وشؤون الولاية.
2- أن يحدِّد مجال فتاوى المرجع الذي يقلَّد فيه وحدوده.
3- أن يحلّ إشكاليّة فرضيّة اختلاف المرجع والوليّ في الرأي.
71
55
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
تمهيد
تقدّم في الدرس السابق أنّ هناك أموراً يتصدى لها الفقهاء لأنّه لا يرضى الشارع بتركها دون وليّ ودون متصدٍّ، يُصطلح عليها بالأمور الحسبيّة، وأنّ للمرجع شروطاً لا بدّ أن يتحلّى بها، كما أنّ للولي الفقيه نفس هذه الشروط ويضاف عليها شرطاً مهمّاً وهو القدرة على القيام بالأمر، وتقدّم أنّه يمكن أن تتحد الولاية والمرجعية، وقد تختلف، وفي مثل هذه الحالة ربَّما يحصل هناك بعض الإرباك لمن يفصل بين مرجع التقليد ووليّ الأمر، باعتبار أنَّ الفقيه الذي يقلّده قد يختلف مع وليّ الأمر في الفتوى على مستوى الحكم الكلّي، وقد يكونان متفقين في الحكم الكلّي، إلّا أنَّ التطبيق وتشخيص الموضوع عند أحدهما مغاير لما هو عند الآخر، لاختلاف النظر ومعايير التشخيص، ففي هذه الحالة هل يجب على المكلّف إطاعة وليِّّ الأمر أو إنّ عليه إطاعة مرجع التقليد؟
وقبل بيان الجواب والحلّ على هذه المشكلة نذكر كمقدمة الأمور التالية:
فتاوى الفقهاء ودور المكلّف
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعيّ الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد) من مصادره الأصليّة، وقد يكون استنباطه مصيباً للحكم الواقعيّ، وقد لا يكون مصيباً، إلّا أنَّه في هذه الحالة معذورٌ إذا كان قد بذل جهده وأعمل وسعه في الوصول إلى الحكم الواقعيّ.
73
56
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
إذاً ما يُصدره الفقيه هو ما يسمّى بالفتوى، وميزتها أنَّها تصدر من الفقيه من ناحية مراجعته للأدلّة الشرعيّة، ولا تكون وظيفة الفقيه تحديد الموضوعات الموجودة في الخارج، ومن أيِّ نوع هي.
إنَّ الفقيه يبحث في الأدلّة عن حكم المسائل التي يُفترض أن يُبتلى بها المكلّف، ويُعطي النتيجة التي يتوصّل إليها للمكلَّف، ومن هنا يقع على المكلَّف تحديد ما يُبتَلى به وما الذي ينطبق عليه.
مثلاً الفقيه يفتي بحرمة اللعب بآلات القمار، وأمّا كون الورق أو الشطرنج من آلات القمار فهذا من شأن المكلَّف تشخيصه. نعم هناك بعض الموضوعات التي لا بدّّ فيها من الرجوع للفقيه لمعرفة حدودها. وهي الموضوعات الشرعيّة أي التي حُدِّدت من قبل الشريعة إمّا لأنّها مبتكرة منها أو لكونها لُوحظت عند أخذ الحكم بخصوصيّات معيّنة، ومثال ذلك الغناء المحرّم والغناء المباح. نعم تشخيص كونه يُطرب أو كونه يختصّ بمجالس أهل الفسوق فهذا ممّا لا يرجع فيه إلى الفقيه.
وخلاصة الكلام؛ إن على الفقيه وضع الأحكام الكليّة وعلى المكلّف تشخيص الموضوعات الخارجيّة.
الأحكام الولائيّة
أمّا ولاية الأمر فتُعطي الفقيه الوليّ مجالاً جديداً من الأحكام التي يُمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه وليّاً للأمر، نسمِّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائيّة، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامّة التي تتعلّق بالنّظام وشؤون المجتمع والأمّة والدّولة وأمثال ذلك، هذا النوع من الموضوعات والعناوين يُرجع في تحديده والبتِّ به إلى وليِّ الأمر، فهو الذي يحدِّد الضّرورات والمصالح والمفاسد ذات الطابع العامّ، وهو الذي يحدِّد موضوعات الأحكام فيما يرتبط
74
57
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
بالجهاد والمصالحة والمعاهدات والأصلح من الأنظمة، وكذلك ما يرتبط بالقضاء وفضّ النزاعات وأمثال ذلك.
فالحكم الولائيّ هو حكم يُنشئه الوليُّّ من موقع كونه وليّاً للأمر، انطلاقاً من تشخيصه للمصالح العامّة والعناوين ذات الطابع العامّ على أساس حفظ النظام وتدبير شؤون الدّولة.
فالفقيه قد يُصدر فتوى من موقع فقاهته وكونه مرجعاً للتقليد، وقد يُصدر أمراً من موقع حاكميّته على الأمّة، وإلزام الفتوى للمكلّف مبنيٌّ على قواعد التقليد وأحكامه المعروفة، أمّا إلزام الأمر الولائيّ فهو قائم على أساس ولاية الفقيه.
ولا تتعارض غالباً فتاوى مرجع التقليد مع الأوامر الولائيّة, وذلك لأنَّ مرتبة الأحكام الولائيّة أو الأوامر الولائيّة لا تقع في نفس مرتبة الفتوى الصادرة عن المرجعيّة. ولو حصل التعارض أحياناً فلا شكَّ أنَّ الأمر الولائيّ يتقدّم على الفتوى ويعطّلها فيُلزم به الجميع.
أمثلة الأحكام الولائيّة:
الأمر بالجهاد أو الصلح مع العدوّ:
إنَّ الفقيه من موقع فقاهته يُفتي بوجوب الجهاد إذا توفّرت مجموعة من الشرائط، وجواز الصلح إذا توفّرت شروط أخرى، لكنَّ تشخيص الشرائط وأنَّها متوفّرة أو غير متوفّرة فهي من شؤون الوليّ الذي بناءً عليها يُصدر أمراً بالجهاد أو وقف الحرب أو الصلح وأمثال ذلك, ولو تصدَّى مرجع التقليد لتشخيص الموضوع لا يكون تشخيصه حجّة على الناس مع وجود الوليِّّ الفقيه.
الأنظمة والقوانين العامّة:
وهي تلك الأنظمة التي تحدُّ من صلاحيات الأفراد الاقتصاديّة والسياسيّّة وربّما تحدُّ من حريّتهم في الحركة والسفر والانتقال.
75
58
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
حفظ النظام:
إنّ حفظ النظام وتطبيقاته وخياراته وكيفيّة حفظه تُعتبر أيضاً من شؤون الوليّّ، و لا يدخل في وظيفة المرجع.
المصالح العامّة:
وهي الأحكام والأوامر التي يُصدرها الوليّ في موارد يرى أنَّها تحقّق حالة أفضل للمسلمين عامّة أو لسمعة الإسلام وربّما كانت هذه المصلحة معنويّة، كما حصل عندما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنع أكل لحوم الحُمر الأهليّة لا لقساوتها، كما يقولون، بل لكي لا تقلَّ وسائل النقل وبتعبير الرواية: لكي لا يخفَّ الظّهر. وكمنع بيع الحاضر للبادي، ومنع تلقّي الرُكبان، ومنع البيع في السوق بأقل من السّعر المتعارف، وكالأمر بالخضاب لأنَّ فيه إظهار عنصر الشّباب وهو تعبير عن القوّة في فترة كانوا بحاجة لذلك.
فقد ورد في مسائل عليّ بن جعفر لأخيه الكاظم عليه السلام قال: وسألته عن لحوم الحُمر الأهليّة، قال: "نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما نهى عنها لأنَّهم يعملون عليها، فكره أن يفنوها"1 .
وعن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في غزوة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين"2 .
مهما يكن فإنَّ أوامر الوليّ، أي الأحكام الصادرة من موقع الولاية، ملزمة ولا يجوز مخالفتها حتّى لمن يقلّد غير الوليّ، بل حتّى للمرجع نفسه. نعم في مجال الاختلاف بالفتوى دون أن يكون هناك أمر ولائيّ بمضمون الفتوى يكون تكليف المقلِّد الالتزام بفتوى مرجع التقليد.
ومن هذا البيان ظهر أنَّ الوليَّّ الفقيه واجب الطاعة على غير مقلِّديه حتّى لو خالف فتوى مرجع التقليد.
________________________________________
1- الحرّ العامليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 2 ص 89.
2- م. ن.
76
59
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
خلاصة
الفتوى عبارة عن الحكم الشرعيّ الذي يستنبطه الفقيه (المجتهد) من مصادره الأصليّة، أمّا ولاية الأمر فتعطي الفقيه الوليّّ مجالاً جديداً من الأحكام التي يمكن للفقيه إصدارها من موقع كونه وليّاً للأمر، نسمّي هذه الأحكام بالأوامر والأحكام الولائيّة، وهي ترتبط بالموضوعات والعناوين العامّة التي تتعلق بالنّظام وشؤون المجتمع والأمّة والدّولة.
والفقيه يقوم بوضع الأحكام الكليّة وأمّا المكلّف فعليه تشخيص الموضوعات، أمّا الوليّ الفقيه فله مجالات متعدّدة يقوم بالحكم فيها من موقع ولايته رعاية لمصالح المسلمين، ومن هنا فإنّ حكمه الولائي نافذ على جميع المسلمين حتّى على غير مقلّديه.
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
الشيخ الأنصاري(1214-1281 هـ): يقول قدس سره: "وعلى أيِّ تقدير, فقد ظهر ممّا ذكرنا أنَّ ما دلَّت عليه هذه الأدلّة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعيّة إيجادها في الخارج مفروغاً عنها... "3 .
________________________________________
3- الأنصاريّ، مرتضى بن محمّد أمين، المكاسب، المؤتمر العالميّ بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاريّ، ج3، ص 557.
77
60
الدرس السابع: شؤون المرجعيـّة وشؤون الولاية
للمطالعة
لا يكفي الاجتهاد المصطلح لقيادة المجتمع الإسلاميّ
يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً في الحكومة الإسلاميّّة، وتقتضي طبيعة الثّورة والنّظام أيضاً أن تُطرح الآراء الاجتهاديّة الفقهيّة في المجالات المختلفة بشكل حرّ ومفتوح، حتّى ولو كانت مخالفة لبعضها البعض، ولا يحقُّ لأحد - ولا يمكنه - أن يمنعها، ولكنّ الشيء المهمّ هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع حتّى يتمكّن النظام الإسلاميّ من التخطيط لصالح المسلمين، ومن الضروريّ له وحدة الرأي والعمل، ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتّى ولو وُجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عامّ للرأيّ الصائب في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ والقدرة على اتخاذ القرار... فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعيّّة والحكوميّة ولا يمكنه التصدّي لاستلام زمام المجتمع.
الخمينيّ، روح الله الموسويّ، منهجيّة الثورة الإسلاميّّة، ص 163
78
61
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
الدرس الثامن: آلية الكشف أو تعيين الولي
أهداف الدرس
1- أن يميّز الطالب بين نوعين من معرفة الوليّ.
2- أن يدرك دور مجلس الفقهاء ووظيفته.
3- أن يعدّد صفات أهل الخبرة.
79
62
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
التعيين والكشف
قبل الدخول في صلب البحث يجدر التعرّض لاصطلاحين مهمّين، يساعدان كثيراً على فهم المطلوب، وهما:
1- التعيين: ونقصد به التنصيب الإلهي من قبل الله سبحانه، فإنّ الولاية هي في الأصل لله سبحانه وتعالى، وقد أعطاها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو للإمام المعصوم، إمام بعد إمام "عليهم جميعاً صلوات الله"، ومن الإمام عليه السلام إلى الولي الفقيه، لذلك يكون الولي منصّباً أو معيّناً من المعصوم عليه السلام، والرادّ عليه رادّ على المعصوم عليه السلام والرادّ على المعصوم رادّ على الله سبحانه.
2- الكشف: بعد وجود الولي الفقيه الممنوح الولاية من الله عبر المعصوم عليه السلام يقوم مجلس الخبراء بالكشف عنه للناس، وقد يعبّر عن ذلك أحياناً بالتعيين، وعليه يكون المراد هو هذا، أي التعيين العلمي أي الكشف، أو التشخيص.
الوليّ بين التصدّي والجهالة
إنّ عمليّة تعيين الفقيه، وتولّيه الأمر وقيادة الأمّة، لا تتمّ إلّا بتوفّر مواصفات
81
63
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
محدّدة، تتعلّق بشأنيّته، وهذا ما دلّت عليه الأبحاث المتقدّمة في أدلّة ولاية الفقيه والتي تفيد التعيين الوصفيّ، وإنَّ فعليَّة الولاية مع تعدّد الجامع للصّفات ليست للجميع، بل لواحد منهم فقط، وهو الأعلم والأورع والأقدر على القيام بالأمر، أي الأكثر خبرة وكفاءة في إدارة البلاد وسياسة العباد.
لكن كيف تتحقّق هذه الفعليّة وتدخل في مجال الممارسة؟ وكيف يتمّ تشخيص الفقيه الأولى بالقيام بالأمر والكشف عنه؟
عندما يكون الفقيه معروفاً ومشهوراً عند الناس بكفاءته وصفاته، ومتعيّناً عندهم، فالمسألة محلولة، لأنَّه يجب عليه التصدّي للأمر وإقامة الحكم الإسلاميّ, وإحياء دين الله تعالى في جميع أبعاده, وقيادة الأمّة لحفظ نظامها وحقوقها وإقامة العدل فيها، وعلى الأمّة معاونته ومعاضدته ونصرته وتأييده والالتزام بقيادته.
لكنَّ القضية عندما لا يكون معروفاً عندهم بشخصه ولا متعيّناً لديهم، مع تعدّد أصحاب الشأنيّة، والأهليّة، فكيف يتعرّف الناس إليه وكيف يتعيّن عندهم ومتى يجب عليه التصدّي؟
لحلّ هذه الإشكاليّة لا بدَّّ من اللجوء لأهل الخبرة في تشخيص الأجدر بالولاية، والأكثر خبرة وأهليّة للقيام بالأمر، فإذا توصّلوا لمعرفته شهدوا بذلك وقاموا بتعريفه للأمّة، وعندها يشخّص عليه التصدّي، ووجب على الأمَّة طاعته والالتزام بولايته.
من هم أهل الخبرة؟
الخبير هو من يمتلك القدرة على توظيف خبرته بشكل يتناسب مع الموضوع الذي يُراد تشخيصه، فالخبير في تشخيص الولي هو إمّا مجتهدٌ وإمّا بلغ درجة قريبة من مرتبة الاجتهاد ولذلك هو يتمتّع بالأمور التاليّة:
1- القدرة على تشخيص الأعلم في استنباط الأحكام الشرعيّة من مصادرها الأصليّة.
82
64
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
2- القدرة على التمييز بين مراتب العدالة والورع والتقوى عند الفقهاء المطروحين للولاية.
3- القدرة على تقييم المهارات الإداريّّة عند الفقهاء، ومستويات قدرتهم على القيام بالأمر، بما يحتاجه ذلك من خصوصيّات ومؤهّلات.
وباختصار؛ أهل الخبرة هنا هم القادرون على تشخيص ومعرفة الأقدر والأكثر أهليَّة في مجموع الصّفات اللّازمة لولاية الأمر، فلا يكفي مجرّد القدرة على معرفة الأعلم في الاستنباط دون غيره، أو تشخيص الأورع والأعدل دون التفات إلى الجوانب الإداريّّة والسياسيّّة، بل لا بدَّّ من توخّي الدقّة في اعتماد أهل الخبرة من ذوي العدالة والاطلاع الواسع والمعرفة الشاملة لأمور زمانهم, ليمكن الركون إلى نتائج دراستهم والاعتماد على تشخيصهم وشهادتهم.
تنبيه
وينبغي الالتفات إلى أنَّ قضيّة التعرّف إلى الفقيه الأجدر بالولاية هي أكثر دقّة وصعوبة من قضيّة التعرّف على مرجع التقليد الأعلم، ذلك أنَّ التعاطي في قضية مرجعيّة التقليد كان يدور في دائرة الهمّ الخاصّ والفرديّ غالباً، وهي على أهميّتها تبقى انعكاساتها في مجال محدود نسبيّاً، بينما ولاية الأمر وما يترتّب على تصدّيها للشأن العامّ والخطير، فإنّه لا يجوز أن تبقى في إطار الهمّ الفرديّ، فهي من مسؤوليّة الأمَّة، كلِّ الأمَّة، فلا يُكتفى بها بشاهدين عادلين من ذوي الخبرة، قد يصيبان وقد يخطئان في التشخيص، وربما عارضهما غيرهما من أهل الخبرة. من هنا نشأت فكرة مجلس الخبراء.
مجلس الخبراء
لم تنشأ فكرة مجلس الخبراء من فراغ، أو من أجل احتكار السلطة وقطع الطريق على بعض الطامحين، بل هي فكرة جاءت استجابة لحاجة فعليّة لا غنى
83
65
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
عنها, لتعريف الأمّة على الفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر دفعاً لمحاذير عدّة أهمّها:
1- الفوضى التي يمكن أن تنشأ نتيجة لعدم تسمية أهل الخبرة، وسبب عدم معرفة الأمَّة للوليّ.
2- الفراغ الذي يحدث عند رحيل الفقيه، واحتياج الأمَّة إلى وقت أطول للتعرّف على آراء الخبراء المتفرّقين والمشتّتين حسب الفرض.
3- إمكانيّة استغلال هذا الواقع من قبل الطامحين والمغرضين؛ للتأثير على الناس والإخلال بالموازين الصالحة لتشخيص الأولى والأرجح.
وعليه لا يجوز ترك أمر بهذه الأهميّة للصّدف والأهواء. فضلاً عن انسجام هذه الفكرة مع النصوص الواردة في بيان تكليف الناس عند مضيّ إمام حجّة وقيام حجّة من بعده، من أنّ عليهم أنْ يبعثوا من ثقاتهم من ينظر لهم في الأمر، ويتعرّف إلى الذي صارت الوصيّة إليه، ثمّ يرجع إلى قومه بذلك.
ففي صحيحة يعقوب بن شعيب قال: "قلت لأبي عبدالله عليه السلام:إذا حدث على الإمام حدثٌ كيف يصنع الناس؟ قال عليه السلام: أين قول الله عزّ وجلّ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ﴾1. قال عليه السلام: هم في عذر ما داموا في الطّلب؛ وهؤلاء الذين ينتظروهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم"2 .
ثمّ إنَّ اختيار الناس للخبراء يدخل في إطار تحمّل الأمّة مسؤوليّتها، وإقرارها بخبرويّة الخبراء، وهو بالتالي يختصر المسافات ويتيح فرصة الالتقاء بأسرع وقت، والتباحث والاتفاق على الوليّ المتعيّن، وتجنّب البلاد والعباد مخاطر الفوضى والاضطّراب التي يتركها خلوّ الموقع من صاحبه الأولى به.
________________________________________
1- سورة التوبة: 123.
2- الكلينيّ، الكافي، دار الكتب الاسلامية، آخوندي، الطبعة الخامسة، ج1، ص378، الحديث الأوّل.
84
66
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
مجلس الخبراء في الجمهوريّة الإسلاميّّة
نَصّ دستور الجمهوريّة الإسلاميّّة في إيران على أنَّ الخبراء المنتخبين من قبل الشعب يبحثون ويتشاورون بشأن الأشخاص الذين لهم صلاحيّة القيادة، فإذا وجدوا واحداً يملك امتيازاً خاصّاً للقيادة فإنَّهم يعلنونه قائداً.
ومن الواضح أنَّ دور الخبراء هو الكشف عن الفقيه الأجدر والأقدر، وهم لا يقومون بالتعيين إلّا بمعناه العلميّ، فهم ليسوا مصدر ولايته وليسوا هم الذين ينصِّبونه، كما يظهر من خلال عبارة "فإنَّهم يعرّفونه للشعب" وهذا هو الدوّر الشرعيّ الذي ورد في بيانه الكثير من التصريحات على لسان الإمام الخمينيّ الراحل (رضوان الله عليه)، وغيره من الشخصيّات النافذة التي شاركت في صياغة الدستور.
مِمّن الولاية؟
يقول إمام الأمّة رحمه الله:
"ليست ولاية الفقيه أمراً أوجده مجلس الخبراء، إنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي أوجد ولاية الفقيه وهي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...".
ويقول الشيخ جواديّ الآمليّ دام ظله في كتابه الحكومة الإسلاميّّة:
"إنَّ أعضاء مجلس الخبراء يشخِّصون نصب الفقيه الجامع أو عزله، وليسوا سبباً في النّصب أو العزل، إنَّ القائد الإسلاميّ لا يُنصَّب ولا يُعزل أبداً من طريق الناس أو الخبراء".
فهم مندوبو الأمّة ووكلاؤها في البحث والتعرّف على من له الولاية، وليسوا من يمنحها للوليّ, وهذه نقطة دقيقة في أصل فهم مبحث وحقيقة ولاية الفقيه.
ردود على إشكالات حول مجلس الخبراء
يطرح بعض الناس السؤال التالي: لماذا يكون رأي مجلس الخبراء المنتخب
85
67
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
من قبل الناس في إيران ملزماً للناس خارج إيران، مع أنَّهم لم يشاركوا في اختيار الخبراء؟
وبعبارة ثانية يقال: إنَّ مجلس الخبراء عندما يختار الوليَّّ الفقيه فهو يختاره ضمن دائرة الجمهوريّة الإسلاميّّة، ولا يختاره من سائر الدول الإسلامية، فلماذا يُفرض وليّاً على جميع المسلمين مع أنّه لم يؤخذ رأي واستشارة سائر المسلمين خارج الجمهورية الاسلامية؟
والجواب
أوّلاً: إنَّ دور الخبراء كما قدَّمنا ليس منح الولاية، وإنَّما الكشف عن الأعلم والأورع والأقدر، وهذا الدور يحتاج إلى الخبرة ولا مدخليّة للجنسيّة والانتماء القوميّ والإقليميّ فيه مطلقاً، فيكفي في تحقيقه العدد الموجود فعلاً, وإن كانوا من داخل الجمهوريّة الإسلاميّّة.
ثانياً:إنَّ الخبراء يُفترض بهم أن يكونوا على اطلاع تامّ بأحوال الأشخاص الذين يدور حولهم البحث ليتمّ تشخيص الأعلم والأقدر من بينهم والعدد الموجود داخل الجمهوريّة الإسلاميّّة من الخبراء يفي بالمهمّة الملقاة على عاتقهم من الكشف وتشخيص الوليّ بالشكل المطلوب.
إستنتاج
_ لقد اتضح مما تقدم أن دور مجلس الخبراء هو الكشف عن الولي ,وليس دورهم تعيينه أو انتخابه.
_ إن من يشخص مجلس الخبراء أنه الأقدر والأجدر يصبح وليا لكل المسلمين في العالم على قاعدة وحدة الولاية المتقدم بحثها.
86
68
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
خلاصة
عندما لا يكون الفقيه معروفاً عند الناس بشخصه ولا متعيّناً لديهم، ومع تعدّد أصحاب الشأنيّة، والأهليّة، كيف يتعرّف الناس إليه؟ وكيف يتعيّن عندهم؟ ومتى يجب عليه التصدّي؟
والجواب أنّه لا بدّّ من الإلتجاء لأهل الخبرة في تشخيص الأجدر بالولاية، والأكثر خبرة وأهليّة للقيام بالأمر، فإذا توصّلوا لمعرفته شهدوا بذلك وقاموا بتعريفه للأمّة، عندها يتعيّن عليه التصدّي، ووجب على الأمّة طاعته والالتزام بولايته.
وينبغي على أهل الخبرة التحلّي بالأمور التالية:
- القدرة على تشخيص الأعلم في استنباط الأحكام الشرعيّّة من مصادرها الأصليّة.
- القدرة على التمييز بين مراتب العدالة والورع والتقوى عند الفقهاء المطروحين للولاية.
- القدرة على تقييم المهارات الإداريّّة عند الفقهاء، ومستويات قدرتهم على القيام بالأمر.
إنّ فكرة مجلس الخبراء جاءت استجابة لحاجة فعليّة؛ لتعريف الأمّة على الفقيه الأعرف والأعدل والأقدر على القيام بالأمر دفعاً لمحاذير عدّة أهمّها:
- الفوضى.
- الفراغ الذي يحدث عند رحيل الفقيه.
- إمكانيّة استغلال هذا الواقع من قبل الطامحين والمغرضين.
فلا يجوز ترك الأمر للصُّدف والأهواء.
كما أنّ الفكرة تأتي منسجمةً مع النصوص الواردة في بيان تكليف الناس عند مضيّ إمامٍ حجّةٍ وقيام حجّةٍ من بعده.
87
69
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
س: لماذا يكون رأي مجلس الخبراء المنتخب من قبل الناس في إيران ملزماً للناس خارج إيران، مع أنّهم لم يشاركوا في اختيار الخبراء؟
والجواب من جهات:
1- إنّ دور الخبراء كما قدّمنا ليس منح الولاية، وإنّما هو الكشف عن الأعلم والأورع والأقدر، وهذا الدور يحتاج إلى الخبرة ولا مدخليّة للجنسيّة والانتماء القوميّ والاقليميّ فيه مطلقاً.
2- إنّ الخبراء يُفترض بهم أن يكونوا على اطلاع تامّ بأحوال الأشخاص الذين يدور حولهم البحث ليتمّ تشخيص الأعلم والأقدر من بينهم.
3- إنّ مجلس الخبراء لا يعيّن الوليّ لخصوص الجمهوريّة الإسلاميّّة كما يُتوهّم
ولاية الفقيه في كلمات العلماء
لشيخ رضا الهمدانيّ (1240-1322هـ): يقول قدس سره: " لكنَّ الذي يظهر بالتدبّر... إقامة الفقيه المتمسّك برواياتهم مقامه؛ بإرجاع عوام الشيعة إليه في كلّ ما يكون الإمام مرجعاً فيه كي لا يبقى شيعته متحيّرين في أزمنة الغيبة..."3 .
________________________________________
3- الهمداني , رضا، مصباح الفقيه، منشورات مكتبة الصدر, طهران، ج 3, ص 160.
88
70
الدرس الثامن: آليـّة الكشف أو تعيين الوليّ
للمطالعة
الحكومة الإسلاميّّة هي حكومة مشروطة
الحكومة الإسلاميّّة لا تشبه أَشكال الحكومات الموجودة، فليست هي حكومة استبداديّة يستبدّ فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم، ويتصرّف بهم كما يحلو له، فيقتل من شاء، ويُنعم على من شاء، ويهدي أموال وأملاك الشعب إلى من شاء. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسائر الخلفاء لم يكن لهم مثل هذه الصلاحيّات، فحكومة الإسلام ليست استبداديّة ولا مطلقة؛ بل مشروطة، ولكن ليست مشروطة بالمعنى الفعليّ المتعارف، وهو تبعيّة سنّ القوانين بناءً لآراء الأشخاص والأكثريّة، وإنّما هي مشروطة بمعنى أنَّ القائمين بالأمر يتقيّدون بمجموعة الشروط والقواعد المبيّنة في القرآن والسنّة، وهي نفس أحكام الإسلام وقوانينه التي يجب مراعاتها وإجراؤها. من هنا كانت الحكومة الإسلاميّّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس، ويكمن الفرق الأساس بين الحكومة الإسلاميّّة والحكومات المشروطة، الملكيّة منها والجمهوريّة، في أنّ ممثّلي الشعب أو ممثّلي الملك في تلك الأنظمة... هم الذين يشرّعون، في حين تنحصر سلطة التشريع في الإسلام بالله عزّ وجلّ، فالشارع المقدّس في الإسلام هو المشرّع الوحيد، وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يجري وينفّذ أيّ قانون غير حكم الشارع. لهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعيّ الذي هو أحد المجموعات الثلاث للحكومة مجلساً آخر للتخطيط، يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها تحت ظلّ الإسلام, وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات لجميع الناس.
الخمينيّ, روح الله الموسويّ, منهجيّة الثورة الإسلاميّّة, ص 163
89
71
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
الدرس التاسع: الأمة وولاية الأمر
أهداف الدرس
1- يحدّد الطالب دور الأمّة في تعيين الوليّ.
2- يتعرّف إلى السّنن الإلهيّة في إقامة حكومة العدل.
3- يتعرّف إلى حقّ الراعي وحقّ الرعيّة.
91
72
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
تمهيد
تحدّثنا في الدروس السابقة عن الوليّ الفقيه، في مواصفاته وممارساته الفعليّة لصلاحيّاته، ما يطرح تساؤلات عن دور الأمّة ومدى ملازمة سلطة الوليّ الفقيه للديكتاتوريّة بالطريقة المتقدّمة.
ويُطرح التساؤل التالي:
حول دور الأمّة في علاقتها بالفقيه، في إدارة شؤونها، وفي تطلّعها إلى قضاياها ومصيرها:
ألا يلزم من سلطة الوليّ الفقيه بالطريقة المتقدّمة التحكّم والدكتاتوريّة؟
ألا يقتضي سلب الأمّة سلطتها على نفسها وصلاحيّاتها في اختيار حكّامها اتهامها بالقصور وعدم الرّشد؟
في هذا السياق تأتي الإجابات عن التساؤلات الواردة وفق ما يلي:
إنَّ هذه النقطة أُثيرت بعد الثورة الإسلاميّّة، وحاول الكارهون لقيام جمهوريّة إسلاميّة على أساس نظريّة ولاية الفقيه أن يشوّهوا هذا الطرح؛ من خلال دعوى التلازم بين ولاية الفقيه وبين الدكتاتوريّة، ولعلّها كانت من أخطر وسائل التشويه التي استُعمِلت في حينها، وهذا ما دفع الإمام الخمينيّ قدس سره على إجراء التصويت الشّعبيّ على مبدأ قيام الجمهوريّة الإسلاميّّة.
وعليه فإنّ مبدأ ولاية الفقيه وفق هذا الطرح، والذي عمل على إشتراك
93
73
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
الشعب في اختيار نوعيّة نظامه، واحترام الإمام لهذا الاختيار، إنّما يجعل من هذا المبدأ متنافياً مع الدكتاتوريّة والتحكّم والاستبداد، بل على العكس من ذلك نجد أنّه انطلق لمحاربة التسلّط والاستبداد والدكتاتوريّة، وهذا ما يؤكّده الإمام في أطروحة ولاية الفقيه، ولكنّ الإمام الخمينيّ قدس سره وبمنطلقاته الفكريّة النابعة من صلب الإسلام، استطاع أن يحبط هذه المؤامرات، بل أكثر من ذلك يمكننا القول: إنّ ولاية الفقيه تشكّل الضمانة من انحراف الحكّام وتسلّطهم واستبدادهم واتباعهم لأهوائهم، والحماية لحقوق الأمّة وحريّاتها.
دور الأمّة
والأمّة في أطروحة ولاية الفقيه تساهم مساهمة فاعلة، وتؤدّي دوراً مهمّاً وأساسيّاً في إقامة حكومة العدل وترسيخ دعائمها، ما يجعل دورها مكمّلاً لدور الوليّ. بل هي كذلك في عصر الإمام المعصوم عليه السلام أيضاً، ألم نقرأ في التاريخ عن الأمم الذين تخلّوا عن مسؤوليّاتهم وقصّروا عن القيام بدورهم، ما أدّى إلى إخفاق أئمّة الحقّ وتسلّط أئمّة الضّلال.
إذاً.. هناك جملة من المسؤوليّات تقع على عاتق الأمّة تجاه ولاة الأمر، لا تتحقّق الأهداف الساميّة للدين الإسلاميّ من دون القيام بها، هذه المسؤوليّات في عصر الغيبة ما يلي:
الأوّل: البحث عن الفقيه الأولى بالقيام بالأمر، والتدقيق في المواصفات والشّروط التي تتناسب مع خطورة المسؤوليّة وعظم الأمانة، والحذر من الوقوع ضحيّة السّياسات الإعلاميّة التي تزوّر الحقائق وتسلّط الأضواء على غير المؤهّلين لهذا المنصب الهامّ والمحوريّ.
ولا شكّ في أنّ هذه المسؤوليّة تستدعي الاعتماد على الثقاة والمأمونين من أهل الخبرة، الذين لا يغشّون أمّتهم ولا يخونون أمانتهم. وأهل الخبرة هم الأقدر على التمييز بين القدرات المتفاوتة للفقهاء، وتشخيص الأقدر على
94
74
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
القيام بالأمر، وتحمّل مسؤوليّة قيادة الأمّة، وإذا قصّرت الأمّة بهذا الدّور، ولم تدرك حساسيّة هذا الموقع وخطورته، فأعطت قيادتها لمن ليس أهلاً لذلك، أو أساءت اختيار أهل الخبرة، فتمسّكت بمن يغشّها، ويساوم عليها، فإنّها ستدفع الثمن غالياً، وربّما وصلت الأمور إلى كارثة، كما حصل في الحقبات التاريخيّّة المتعدّدة من عمر الأمّة.
الثاني: مسؤوليّة الأمّة في التّمهيد لوليّ الأمر ليمارس ولايته، أي تمكينه من القيام بالأمر عبر الانقياد التامّ، وبذل الطاعة والنصرة، حيث يؤدّي التقصير في هذا المجال إلى إضعاف الوليّ وتعطيل دور الولاية، فيستغل الطامعون وطلّاب الدّنيا - وهم موجودون في كلّ زمان- ذلك ليتسلّطوا على رقاب الناس وأرواحهم وكراماتهم.
وقد أدّى تقصير الأمّة تجاه ولاة أمرها، من الأئمّة المعصومين عليه السلام، إلى حرمانهم من كثير من بركات الإمامة العظمى لعدّة قرون، وفي عصرنا الحاضر وجدنا أن تحمّل الأمّة لهذا الجانب من مسؤوليّاتها هو الذي دفع بالإسلام إلى ساحة التطبيق، ومكّن الإمام الخمينيّ قدس سره من إعادة الإسلام إلى واجهة الحكم والسياسة، ولا زلنا نعيش بركاته، وسيستمرّ هذا الأمر دون شكّ تصاعداً وترسيخاً إذا ما استمرّت الأمّة بالقيام بدورها كاملاً.
الثالث: النصيحة والتسديد وبذل المشورة لولاة الأمر عندما يكونون بحاجة إليها، عملاً بالوصيّة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالنصيحة لأئمّة المسلمين بُغية إنجاح دور القائد وتسديده.
الرابع: الأمّة مسؤولة إلى جانب الوليّ عن تنفيذ المشروع الإسلاميّ، وبناء صرح حكومة العدل الإلهيّة، ورفع راية التوحيد، فكلّ فرد من أفراد الأمّة يقع على عاتقه قسط من هذه المسؤوليّة، ودور مُعيّن، عليه أن يؤدّيه ويُخلص في أدائه لتكتمل المسيرة.
ممّا تقدّم يظهر أنّ الأمّة تتحمّل مسؤوليّة كبرى، وتحتاج إلى الوعي واليقظة
95
75
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
والفاعليّة والحضور الدائم في السّاحة، والالتزام الدقيق بالأدوار الحسّاسة المهمّة المتقدّمة.
ومنه يظهر أيضاً أنّ ولاية الفقيه تكون أقدر على الوصول إلى الأهداف، مع رشد الأمّة ووعيها وحضورها في الميادين السياسيّّة والجهاديّة، لا كما يتصوّر أو يتوهّم بعض قاصري النظر، من أنّ هذه الأطروحة تعني عدم بلوغ الأمّة رشدها، فالأمر عكس ذلك تماماً، ولذا كان الإمام الخمينيّ يؤكّد على دور الأمّة وتعبئتها وضرورة حضورها الدّائم والمستمر في الساحة، وهذا ما جعلها تشكّل ثقلاً وقوّة وضمانة لاستمرار الثّورة وسلامتها.
السّنن الإلهيّة في إقامة حكومة العدل
السنّة الإلهيّة هي القانون الإلهيّ الذي أجراه الله على خلقه مهما تبدّلت الأمم واختلفت الشعوب بحيث تترتّب النتائج على تحقّق أسباب خاصّة، وذلك لقوله تعالى:
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾1.
ولكي نبني حكومة العدل، ينبغي توفّر عناصر ثلاثة تتكامل من أجل تحقيق هذا الهدف، والإخلال بأيّ واحد منها يُسقط المشروع، ويحرفه عن الهدف المنشود، تلك العناصر هي:
أوّلاً: المنهج الصحيح: والذي يتمثّل في عقيدتنا بالرسالة الإسلاميّّة، بفكرها ونظامها وشريعتها .
ثانياً: القيادة الصالحة: المعبَّر عنها بالولاية التي تمتدّ من ولاية الرّسل والأئمّة المعصومين عليه السلام، حتّى ولاية الفقيه الجامع للشّرائط.
ثالثاً: الأمّة الحاضرة: المتمسّكة بالمنهج الصّحيح والقيادة الصّالحة: فإذا غابت الأمّة عن الساحة، وتخلّت عن المنهج الصّحيح، وتخلّفت عن ولاة
________________________________________
1- سورة البقرة: 152.
96
76
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم والانقياد لهم، لم تكتمل المعادلة، ولم يتمكّن القادة من إقامة حكومة العدل.
وتاريخنا يُثبت ذلك، في جانبيه السلبيّ والإيجابيّ. فعندما امتنعت الأمّة عن القيام بدورها، وتفرّقت عن الحقّ، وانقادت لأئمّة الجَور، حُرِمت بركات الرسالة الإلهيّة، وبركات القيادة المعصومة، وتوالت المآسي عليها. وعندما عرفت الأمّة طريقها وتمسّكت بالحقّ، وقامت بالدّور المطلوب، ذاقت طعم العدل، وتمكّن القادة من أهل الصلاح أن يوجّهوا المسيرة نحو الهدف، وأنزل الله سبحانه نصره، فأعزّ دينه.
تلك هي السّنن الإلهيّة الثابتة ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾.
فأهل البيت عليه السلام لم يمنعهم من القيام بالأمر وإقامة حكم الإسلام إلّا تفرّق الناس عنهم، وتخلّيهم عن دورهم وعن تكليفهم، منذ أمير المؤمنين عليه السلام حتّى بقيّة الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. وهذا ما تفيد عنه النصوص الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام، التي تتناول هذا المعنى، ومحاوراته عليه السلام مع سدير الصيرفيّ، وبريد العجليّ، ومأمون الرقيّ، وغيرهم صريحة في ذلك.
فالمسألة إذن تدور مدار اكتمال الشروط التي بها تجري السنن الإلهيّة، وعلى هذا النهج نهضة المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وليست المسألة مجرّد توقيت ومجرّد إرادة، فالتوقيت والإرادة الإلهيّة يأتيان وفق الحكمة، وبعد تحقّق الأسباب، وهو مضمون السنّة الثابتة.
وفقنا الله لطاعته والتزام أمره ونهيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام
خطب عليه السلام في صفّين، فبيّن حقّ الوالي على الرعيّة وحقّ الرعيّة على الوالي، وممّا قال:
"أمّا بعد.. فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ
97
77
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
من الحقّ مثل الذي لي عليكم" إلى أن قال: ".. فليست تصلح الرعيّة إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعيّة، فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها عَزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السّنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.. وإذا غلبت الرعيّة واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين، وتركت محاجّ السّنن، فعُمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثر علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهنالك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد.."2 .
خلاصة
سؤالٌ يُطرح: ألا يلزم من سلطة الوليّ الفقيه وولاته بالطريقة المتقدّمة التحكّم والدكتاتوريّة؟
الجواب: إنّ مبدأ ولاية الفقيه لا يستلزم الدكتاتوريّة بمعنى التحكّم والاستبداد، بل جاء ليحارب التسلّط والاستبداد والدكتاتوريّة، والأمّة في أطروحة ولاية الفقيه تساهم مساهمة فاعلة وتؤدّي دوراً مهمّاً وأساسيّاً في إقامة حكومة العدل وترسيخ دعائمها، ما يجعل دورها مكمّلاً لدور الوليّ.
وهناك جملة من المسؤوليّات تقع على عاتق الأمّة تجاه ولاة الأمر:
البحث عن الفقيه الأولى بالقيام بالأمر.
تمهيد لوليّ الأمر ليمارس ولايته، أي تمكينه من القيام بالأمر عبر الانقياد التامّ، وبذل الطاعة والنصرة.
ـ النصيحة والتسديد وبذل المشورة لولاة الأمر عندما يكونون بحاجة إليها.
ـ مسؤوليّّة تنفيذ المشروع الإسلاميّ وبناء صرح حكومة العدل الإلهيّة ورفع راية التوحيد.
________________________________________
2- نهج البلاغة, خ 612.
98
78
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
ولاية الفقيه في كلام العلماء
الإمام الخمينيّ قدس سره يقول: "ولاية الفقيه من المواضيع التي يُوجب تصوّرها التصديق بها, فهي لا تحتاج لأيّة برهنة, وذلك بمعنى أنَّ كلَّ من أدرك العقائد والأحكام الإسلاميّّة – ولو إجمالاً – وبمجرّد أن يصل إلى ولاية الفقيه ويتصوّرها فسيصدّق بها فوراً وسيجدها ضرورة وبديهيّة..."3 .
ولم يكتفِ الإمام الخميني قدس سره بإقامة الأدلّة على ولاية الفقيه، بل نجده قد أقام صرح الحكم الإسلاميّ، وشيَّد أركانه، وأسسَّه على مبدأ ولاية الفقيه.
للمطالعة
المستضعفون في المجتمع
مستضعفو الأرض هم أولئك الذين ليس لهم أيّ تأثير أو رأي في التيّارات الاجتماعيّّة وفي المناهج التي تُسيّرها. كما إنّهم لا يملكون إرادة في حركتهم الاجتماعيّّة، ولا يعلمون ماذا يجري، ولا لماذا يجري، وأين يجري؟ لا يعلمون أين هم وإلى أين يسيرون، لا يعلمون نقطة الشروع في حركتهم ولا نقطة الانتهاء.
لا يعرفون من هو الذي يقودهم في هذا التحرّك، ولا يعرفون كيف يقفون، ولو توقّفوا فهم لا يعلمون ماذا يفعلون بعد هذا التوقّف، لا يعرفون هذا أساساً ولا يلتفتون إليه ولا يثير انتباههم.
ومن غير أن نشبّههم تشبيهاً حقيقيّاً نقول إنّهم كالحصان الذي شُدّت عيناه بعصابة، فهو يحسب أنّه يمشي في طريق طويل، بينما هو يدور ويدور حول نقطة معيّنة. فلو قدّر لهذا الحيوان أن يفهم، لأوحى لنفسه أنّه قريب من باريس.
ولكنّه عندما يقرب وقت الغروب تفتح العصابة من عينيه ليرى نفسه في
________________________________________
3- الخمينيّ, روح الله الموسويّ، الحكومة الإسلاميّّة، ص 17.
99
79
الدرس التاسع: الأمـّة وولاية الأمر
ذات المكان الذي كان فيه أوّل الصباح، فهو لا يدري أين ذهب، ولا يعلم إلى أين يتحرّك، وطبيعي أنّ هذا مثال للمجتمع الذي لا يحكمه نظام عادل، بل يُديره نظام لا يؤمن بأيّ قيمة للإنسان وإرادته وكرامته.
لا ينطبق هذا الكلام على مجتمع يقوده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يخاطبه القرآن ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾4
فمع أنّه نبيّ ومعصوم، لا يحتاج إلى مشورة الناس، يأتيه الأمر بأن يشاور المسلمين ليشعرهم بعزّتهم وكرامتهم وقيمتهم وشخصيّتهم.
مثل هذا المجتمع ليس فيه من لا يعي ولا يفهم ما يجري، خلافاً للمجتمعات التي يتسلّط فيها نظام فرديّ، أو نظام استبداديّ ظالم أو نظام جاهليّ، فإنّ أكثر أفرادها مستضعف، وهؤلاء يقولون كنّا مستضعفين في الأرض، نُقادُ ولا ندري إلى أين، كانوا يأخذوننا هنا وهناك، لقد جعلونا نرتكب السوء ونفعل القبيح ونحن لا نعلم. هذا هو تبرير المستضعفين لكنّ الملائكة يجيبون:﴿قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾5 .
الإمام الخامنئيّ دام ظله، الإمامة والولاية، 124-125
________________________________________
4- سورة الشورى: الآية 159.
5- سورة النساء: الآية 97.
100
80