المرأة في القرآن الكريم

الميزان في تفسير القرآن للعلّامة الطباطبائي قدس سره نموذجاً


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-11

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

المقدّمة

قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

 

للإنسان منزلة خاصة عند الله تعالى، وهو موضع التكريم الإلهي بتسخير كثير من موجودات الكون له، وتحميله أمانة استخلاف الله له في الأرض بكل ما يستتبعه هذا الاستخلاف من مهام ووظائف. وقد حمل الإنسان هذه الأمانة، بعد أن أشفق عن حملها السماوات والأرض والجبال، واستتبع حمل هذه الأمانة لمسؤوليات كثيرة على عاتق الإنسان.
 

وفي التكريم والاستخلاف وحمل الأمانة وتحمل المسؤولية لا فرق بين الرجل والمرأة في كلّ ذلك، فكلاهما مستخلَف وكلاهما مسؤول، وكلاهما معنيّ بتحقيق الغاية الإلهية السامية من خلق الإنسان.

 

ومن جهة أخرى فإنّ هذا لا يلغي ما اقتضته الحكمة الإلهية من خصائص نفسية وجسدية خاصة بكلّ واحد منهما، المستتبع لتوزيع بعض الوظائف بينهما توزيعا عادلا يتناسب مع استعدادات كلّ واحد منهما، وكلّ ذلك بغرض إيجاد التكامل فيما بينهما وغرس الحاجة في كل واحد منهما للآخر. مع التأكيد على اشتراكهما في حقيقة الإنسانية ومعيار التفاضل.
 

قال -عز من قائل-: ﴿إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْقَٰنِتِينَ وَٱلْقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلْخَٰشِعِينَ وَٱلْخَٰشِعَٰتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَٰتِ

 

7

 

 


1

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.

 

هذا الكتاب أخي وأختي القارئ والمتعلّم (المرأة في القرآن الكريم) تناول أطروحة القرآن الكريم لمكانة المرأة ومنزلتها وموقعها في الحياة، كشريكة للرجل في صناعة الحياة الطيبة، وقد اعتمدنا في تقديم هذه الأطروحة - بشكل أساس - على ما ذكره العلامة الطباطبائيe في كتابه القيّم (الميزان في تفسير القرآن)، ليشكّل هذا العمل مساهمة من مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية في إبراز الأطروحة القرآنية لدور الإنسان المستخلَف - رجلا كان أو امرأة - وكلنا أمل أن يكون لهذا العمل الفائدة المرجوة في مجتمعاتنا الإسلامية، وفي نشر الوعي والمعرفة بالإسلام الحنيف، وفي الذبّ عن دين الله وكتابه القرآن المجيد.

 

وما التوفيق إلا بالله

 

                                                                                   والحمد لله رب العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

8


2

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

فلسفة التفاوت والاختلاف

تُعدّ المكانة والمنزلة التي أعطاها الإسلام للمرأة من المظاهر الحضاريّة والراقية فيه، ذلك بوضعه نظامًا دقيقًا تتربّى وتنمو استعداداتها في ظلّه بما يتناسب مع تكوينها كمرأةٍ وأنثى، لا كما يريدها بعض الأشخاص ذكوريّة الأوصاف والدّور والحقوق. إذ لا ريبَ في التفاوت الجسميّ والنّفسيّ بين كلّ من الرجل والمرأة، الأمر الذي تنبثق منه نتائج متفاوتة من جهة وظائف كلٍّ منهما والأحكام المتعلّقة بهما.

 

وهذا التفاوت في التكوين لا يعني التفاوت المطلق الذي لا اشتراك فيه بينهما، كما لا يعني التفاوت في الكرامة والإنسانيّة ومقامات القرب من الله التي يُفترَض بكلٍّ منهما الوصول إليها. فما بين المرأة والرّجل، وفق تعبير السيّد الطباطبائيّ، تساوٍ في عين الإختلاف، أشار إليه في قوله: "وأمّا الأساس الذي بُنيَت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة فالأشياء، ومن جملتها الإنسان، إنَّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خُلقَت له وجُهِّزَت بما يكفيها ويُصلِح لها من الخِلقَة والحياة القيِّمة على سعادة الإنسان، هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقًا تامًّا"[1]، أي أنّ الله -عزّ وجلّ- خلق البشر وفق نظام الفطرة وهو الجبلّة الأولى المتمثِّلة بالميل نحو الكمال المطلَق، ثمّ جعل الموجودات كلّها مهتدية منقادة لما خُلقَت لأجله، فلم يتركها الرحمان وشأنها تَضِلُّ في الأرض وهو ما يُعبّر عنه بالهداية التكوينيّة، كما جهّز كلَّ موجودٍ بحسبه بما يكفيه من أمورٍ يُصلِح بها حالَه فيحيا بسعادة ويتكامل. وكان من جملة


 


[1] الطباطبائيّ، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسَّسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت، ط2، 1390هـ.ق، ج‏2، ص273-274، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

11


3

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

تلك المخلوقات الإنسان الذي تميّز من كثير من غيره من المخلوقات بالهداية التشريعيّة المتمثِّلة بالدين وأحكامه وقوانينه وحدوده.

 

والأساس الذي وُضعَت تلك الأحكام وَفْقَه هو ذاته الفطرة المكتنفة في جبلّة الإنسان، لذا، يكون الدين بكلِّ ما يحويه منسجمًا مع خلقة الإنسان وغايته، ولكي يحصل الإنسان على حياةٍ طيِّبة سعيدة ينبغي أن تتطابق أعماله في حياته تطابقًا تامًّا مع نظام الخلقة، أي الفطرة، أي مع الدين.

 

إذا أردنا أن ننظر إلى تجلِّيات الفطرة ومقتضياتها في عالَم اجتماع الإنسان نجد أنَّها تُنادي بالتساوي، حيث يقول العلَّامة الطباطبائيّ: "والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعيَّة بين الأفراد على أنَّ الجميع إنسان ذو فطرة بشريّة وأن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يُحْبَى بعض ويُضْطَهَد آخرون بإبطال حقوقهم"، فلمّا كان كلُّ البشر يمتلكون الفطرة نفسها كان لازم ذلك أن يتساووا في الحقوق والوظائف، فلا يُرفَع بعضٌ منهم ويُضطَهَد آخرون فيُسلَبوا حقوقَهم لأنَّ ذلك خِلاف الفطرة. لكن، هل الفطرة تنادي بالتساوي المطلق؟!

 

يَستدرك العلَّامة الطباطبائيّ فيقول: "لكن، ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يُبْذَلَ كلُّ مقام اجتماعيّ لكلِّ فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيُّ مثلًا على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرَّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدِّر من الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفسادًا لحالهما معًا.

 

بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ ويفسِّر به معنى‏ التسوية أن يُعطَى كلُّ ذي حقٍّ حقّه وينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنَّما هو في نيل كلِّ ذي حقٍّ خُصوصَ حقِّه من غير أن يُزاحِم حقٌّ حقًّا أو يُهْمَلَ أو يُبْطَلَ حقٌّ بغيًا أو تحكُّمًا ونحو ذلك، يُشير إليه قوله -تعالى-: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[1]، فإنَّ الآية تُصرِّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنَّ وبين الرجال"[2].


 


[1] سورة البقرة، الآية 228.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص273-274، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

 

12

 


4

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

فتلك المساواة التي تنشدها الفطرة ويحكُم بها العدل الاجتماعيّ ليس معناها أنّ أيَّ حقٍّ وأيَّ مقام وأيَّ وظيفة كانت توكل لأيٍّ كان فيتساوى العاقل والسفيه، والضعيف والقويُّ. لماذا؟ لأنّ في ذلك فساد حالهما معًا، بل المساواة التي يقتضيها العدل الاجتماعيّ هي إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقّه وهو عين العدل، والتساوي هنا يتجلّى في نيل كلِّ صاحب حقٍّ حقَّه من دون أن يُؤثِّر ذلك في حقوق الآخرين، وهذا مؤدّى التساوي في عين الاختلاف بين الناس عمومًا وبين النساء والرجال على وجه التحديد كما بيّنته الآية الشريفة.

 

لمزيدٍ من التوضيح يقول العلَّامة الطباطبائيّ في موضعٍ آخر: "قوله -تعالى-: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾، حيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفطرة ولم يتعدّوا طور الخلقة، ومن أحكام الاجتماع المبنيّ على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده وأجزاؤه فيكون ما عليهم مثل ما لهم، إلَّا أنَّ ذلك التساوي إنَّما هومَع حفظ ما للأفراد كلِّها من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميَّته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقويِّ من حيث العمل قوَّته، وللضعيف ضعفه، ثمَّ يبسط التساوي بينها بإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقّه".

 

في بداية هذا القسم يؤُكِّد السيِّد الطباطبائيّ الفكرة التي مرّت بنا، حيث إنّ الإسلام بنى شريعته وَفْقَ الفطرة وأحكامها، فكان "المعروف" المقصود في الآية الشريفة هو الأمر الذي يعرفه الناس عندما تحكم الفطرة حياتهم ولا يتجاوزون أحكامها إلى ما لا ينسجم مع نظام الخلقة. من تلك الأحكام المعروفة بين الناس هو أن يتساوى الأفراد المتماثلون في انطباق الحكم عليهم، لكن بشرط مراعاة الخصوصيَّات، فلا التساوي المطلق ولا الاختلاف المطلق. فبعد مراعاة وملاحظة خصوصيَّات كلِّ فرد يبسط التساوي بين الناس ليُعطى كلّ صاحب حقٍّ حقّه.


ثم يُكمِل العلَّامة رحمه الله في تطبيق ما مرّ من كلام عن المرأة والرجل بحسب الآية، فيقول: "وعلى هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة وعلى المرأة فجعل لها

 

 

13


5

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحياة الاجتماعيَّة في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والإسلام يرى في ذلك أنَّ للرجال عليهنَّ درجة، والدرجة المنزلة. ومن هنا يظهر: قوله -تعالى-: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، قيد متمِّم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: أنَّ النساء أو المطلَّقات قد سوَّى الله بينهنَّ وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهنَّ فجعل لهنَّ مثل ما عليهنَّ من الحكم"[1].

 

فخلق المرأة والرجل وتقسيم الحقوق بينهما لا يعدو كونه تطبيقًا ومصداقًا لكيفيَّة إقرار الإسلام التساوي بين الناس عمومًا، فقد جعل الإسلام للمرأة أحكامًا مثل التي عليها، لكن مع حفظ الخصوصيّات (مع حفظ ما لها في الحياة الاجتماعيَّة في اجتماعها مع الرجل)، حيث يرى الإسلام أنّ للرجال على النساء درجةً في هذا السياق أي لهم منزلةٌ عليهنَّ، لا بمعنى الشأن عند الله أو يستلزم الطبقيَّة. لذا، اعتبر السيِّد الطباطبائيّ أنّ قوله - تعالى -: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، هو قيدٌ متمِّم لما سبق، فيكون معنى الآية: أنَّ جميع النساء (متزوِّجات، مطلَّقات..) هنّ متساويات مع الرجال (مع حفظ خصوصيَّة أنَّ للرجال درجة على النساء) فلهنَّ مثل ما عليهنَّ من الحكم ما يحقِّق العدالة المنسجمة مع الفطرة الإنسانيّة.

 

إنّ هذا التفاوت والاختلاف هو آيةٌ من آيات الله في خلقه لما فيه من الآثار العظيمة، فبِهِ بقاء البشريّة واستمرارها وتكاملها. فالمرأة مظهر العاطفة والإحساس والرّجل مظهر الشدّة والتعقّل. وبهما معًا تُرسم لوحة الوجود التي تتألّف من الجمال والجلال. فليست العلاقة الموجودة بين الرّجل والمرأة علاقة ندّيّةٍ وتصارعٍ وتضادَّ، بل هي علاقة تكاملٍ وافتقار يحتاج فيها كلٌّ منهما إلى الآخر ليسدّ نقصه الخاصَّ ويحتاج فيها المجتمع إليهما ليكتمل ويتكامل.

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص232.

 

14


6

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

وقد عبّر العلَّامة الطباطبائيّ عن مظهرٍ من مظاهر هذه العلاقة التكامليّة وافتقار كلّ من الرّجل والمرأة إلى بعضهما الآخر فقال: "في قوله -تعالى-: ﴿أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾[1]، أي خلق لأجلكم أو لينفعكم من جنسكم قرائن، وذلك أنّ كلَّ واحد من الرجل والمرأة مجهَّز بجهاز التناسل تجهيزًا يتمّ فعله بمقارنة الآخر ويتمّ بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكلُّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، ويحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر حتّى إذا اتّصل به سكن إليه لأنَّ كلّ ناقص مشتاق إلى كماله وكلَّ مفتقر مائل إلى ما يُزيل فقره، وهذا هو الشبق المودع في كلٍّ من هاتين القرينَيْن".

 

"وقوله: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[2]، المودَّة كأنَّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل، فنسبةُ المودَّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثّر نفسيّ عن العظمة والكبرياء والرحمة نوع تأثُّر نفسيّ عن مشاهدة حرمان المحروم من الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ورفع نقصه".

 

يبيّن العلَّامة الطباطبائيّ أنَّ المودَّة المقصودة في الآية الشريفة هي ظهورات الحبّ بين الأزواج ولازمه، فمتى وُجِد الحبُّ الذي هو انفعال وتأثُّر وميل نفسيٌّ تجاه المحبوب لكمالٍ فيه لا بُدَّ أن يظهر في مقام العمل والظاهر، كما هو الحال بين الخشوع الجوانحيّ والخضوع الجوارحيّ. أمّا الرحمة المذكورة في الآية الشريفة فهي التأثُّر والانفعال النفسيُّ نتيجة رؤية الزوج نقائص زوجه وحاجته، فلا ينفر منه بل ينظر إلى زوجه نظر الرحمة ليهمّ إلى إنجائه ومساعدته. وكأنّ الآية الكريمة تخطُّ قوانين الحياة الزوجيَّة بطريقةٍ متلألئةٍ فهي تقول إنَّ الزوج خُلِقَ مكمِّلًا لنقائص زوجه فتحصل السكينة بذلك، ثمَّ لتحصيل تلك السكينة لا بدَّ من أن يتعامل الزوجان مع بعضهما بمودَّةٍ ورحمة. ففي مقابل الكمال المُدْرَك عند الطرف المقابل تأتي المودَّة وهي


 


[1] سورة الروم، الآية 21.

[2] السورة والآية نفسها.

 

15


7

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

إظهار الحبّ له مقابل النقص لديه، تأتي الرحمة لرفع تلك النقائص فتعمّ السكينة.

 

"وقولُهُ: ﴿لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏﴾[1]، لأنَّهم إذا تفكَّروا في الأصول التكوينيّة التي يبعث الإنسان إلى عقَد المجتمع من الذكورة والأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزليّ والمودّة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنيّ ثمّ ما يترتّب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الإنسان في حياتيه الدنيا والأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهيّة في تدبير أمر هذا النوع على ما يُبْهَرُ به عقولَهم وتُدهِش بهِ أحلامَهم"[2].

 

أمّا عن حاجة المجتمع إلى العقل والعاطفة وتكامله بهما من خلال وجود الذكورة والأنوثة، فقال: "بالجملة هذان[3] تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفَّتا الحياة في المجتمع المختلط المركّب من القبيلين"[4].

 

في مقابل هذا الطّرح الإسلاميّ الذي يطرح العلاقة بين الرّجل والمرأة كعلاقة تكامليّة، تُطرَح العلاقة بين الرّجل والمرأة عند الغرب كعلاقةٍ تصارعيّة يَبْرُزُ أحدُ مظاهرها فيما يُنادَى به اليوم في مجتمعاتنا (تَبَعًا للغرب) بمسألةِ تمكين المرأة، وهو مصطلح برّاق تمّ تهذيبه وطرحه بهذا الشّكل واللّباس في عالمنا العربيّ والإسلاميّ بعيدًا عن أصله اللّغويّ والاصطلاحيّ المترجم منه في اللّغة الإنكليزيّة والّذي يعني استقواء المرأة عبر مساواتها المطلَقة بالرّجل.

 

بعيدًا عن هذا السّجال نستعرض الرؤية الإسلاميّة في نظرتها إلى المرأة، وتحديدًا من منبعها الأصيل وهو القرآن الكريم على لسان العالِم والمفسّر الكبير العلَّامة السيّد محمَّد حسين الطباطبائيّ قدس سره الذي يُعدّ من كبار علمائنا الّذين فسّروا واستنبطوا الرؤى والنظريّات القرآنيَّة، وستكون الرّكيزة في ذلك كتابه الميزان في تفسير القرآن.


 


[1] سورة الروم، الآية 21.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص165-167.

[3] العقل والعاطفة.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص217.

 

16


8

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

تمهيد

قبل الدخول في صلب البحث، نستعرض أوّلًا مقدّمةً عن حال المرأة ووضعِها في الأمم غير الإسلاميّة، حيث لم يكن للمرأة قبل الإسلام أو في العصور المقارِنة له عند بقيَّة الأمم تقديرٌ أو إحترام. فكانت المرأة تلقى العَنَتَ في مختلف تفاصيل حياتها، وكان السّائد حرمانها من الحقوق والنّظر إليها كتابعِ للرجل، زمام حياتها بيدِه، وكانت تُعامَل باحتقار ولم يكُن مُعترفًا بها كجزء من المجتمع.

 

يقول العلَّامة الطباطبائيّ: "لا زالت بأجمعها[1] ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان حتّى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، وعليها نبت لحمها وعظمها، وعليها كانت تحيا وتموت. عادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللُّغات المترادفة بعدما وُضِعَت متباينة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء ومن العجب ذلك ولا ترى أمّة من الأمم وحشيِّها ومدنيِّها إلّا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها"[2]، فلأنّ تلك الأمم كانت تنظر إلى المرأة نظرةً دونيَّةً وتعتبر الضعف والهوان والضعة هي طبيعة المرأة، صاروا يستخدمون ألفاظ المرأة والضعف والهوان كأنَّها ألفاظٌ مترادفة، مع أنَّها في أصل اللغة هي متباينة المعاني. فتجد عند كلِّ الأمم المتحضِّرة وغير المتحضِّرة أمثالًا شعبيّةً موضوعةً لبيانِ ضعف المرأة وهوان أمرها، والأمر العجيب أنَّ ذلك لم يكن عند الرجال فحسب، بل عند النساء كذلك، ما يدلّ على تعمّق هذه الثقافة لدى الشعوب.


 


[1] المجتمعات الإنسانيّة.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص268–269، عنوان "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

18


9

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

أمثلة ذلك ما ساقه العلَّامة الطباطبائيّ حيث يقول: "وفي لغاتهم، على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها، أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يُقرَع بها الجبان، ويؤنَّب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذلّ المظلوم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليت إخالُ أدري   أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ؟!

مئات وألوف من النظم والنثر في كلِّ لغة.

 

هذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السيَر والتواريخ من مذاهب الأمم والملل في أمرها، فإنَّ الخصائل الروحيَّة والجهات الوجوديّة في كلِّ أمَّةٍ تتجلّى في لغتها وآدابها.لم يورَث من السابقين ما يعتني بشأنها ويهتمّ بأمرها إلّا بعض ما في التوراة وما وصّى به عيسى بن مريم عليها السلام (النّبيّ عيسى) من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها"[1]. فمن أراد أن يؤنّب أو يستخفّ أو يلوم امرَأً ما، يأتي بلفظة "المرأة" ومترادفاتها لبيان مبتغاه، كما في المثال الذي ذكره العلَّامة. هذه الأمثال والنثر والشعر الذي نجده في طيَّات الكتب كفيلٌ بنقل فهم تلك الشعوب ورؤيتهم حول المرأة، ذلك لأنّ ثقافةَ أمَّةٍ ما وخِصالَها الروحيَّة إنّما تظهر وتتجلّى من خلال لغتها وآدابها، فإذا وجدت تُراثًا كهذا تعرف كيف كانوا ينظرون إلى المرأة وكيف كانوا يتعاملون معها.

سنتعرّض باختصار إلى لمحةٍ وجيزةٍ عن حال المرأة عند الأمم غير العربيّة والعربيّة قبل الإسلام وزمن ظهوره، بالإضافة إلى الأمم المدنيّة الغربيّة بعد الإسلام.

 

حال المرأة عند الأمم غير العربيّة قبل الإسلام وزمن ظهوره

لم يكن حال المرأة غير العربيّة أفضل من تلك العربيّة كما قد يُظنّ. ولتوضيح ذلك نذكر نبذةً عن طبيعة حياتها في المجتمعات المتفاوتة غير العربيّة:


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص268-269، عنوان "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

19


10

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

1. حياة المرأة في الأمم غير المتمدّنة:

على الرّغم من صورة المرأة الإنسانيّة، كانت المرأة عند هذه الأمم تُعدّ دون الإنسان، إذ كانت تعيش حياةً لم تختلف كثيرًا عن حياة الحيوانات التي يسوسها مالكها ويتصرّف فيها كيف يشاء. يقول العلَّامة قدس سره: "كانت حياة النساء في الأمم والقبائل الوحشيّة كالأمم القاطنين بأفريقيا وأستراليا والجزائر المسكونة بالأوقيانوسيَّة وأمريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال، كحياة الحيوانات الأهليَّة من الأنعام وغيرها بالنسبة إلى حياة الإنسان"[1].

 

ثم يقول: "فكما أنَّ الإنسان، لوجود قريحة الاستخدام فيه، يرى لنفسه حقًّا في أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهليَّة ويتصرَّف فيها كيفما شاء وفي أيّ حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودَمِها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها وسفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الأثقال وفي الحرث وفي الصيد وإلى غير ذلك من الأغراض التي لا تُحصى كثرة.

 

وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل ‏والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلّا ما رضِيَ به الإنسان الذي امتلكها ولن يرضى إلَّا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيها نفع في الحياة، وربّما أدَّى ذلك إلى تهكُّمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدَم لو كان هو الناظر في أمر نفسه.

 

وليس لها من حقوق الحياة إلّا ما رآه الإنسان المالك لها حقًّا لنفسِهِ فمن تعدّى إليها لا يؤاخَذ إلّا لأنَّه تعدّى إلى مالكها في ملكِهِ لا إلى الحيوان في نفسه، كلّ ذلك لأنّ الإنسان يرى وجودها تبعًا لوجود نفسه وحياتها فرعًا لحياتِهِ ومكانتها مكانة الطفيليّ"[2].

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص262-263، "حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم محيط نزول القرآن".

[2] المصدر نفسه.

 

20


11

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

فالإنسان يرى أنّه يمتلك حقّ استخدام الحيوانات كيفما يشاء، ومن تفضّله على تلك الحيوانات أن يُطعمَها ويَسوسُ أمرها لكن بما لا يتضارب مع مصالحه، وليس ذلك قبيحًا في شيء، بل بوصفه هو مالكها له أن يفعل ما ذُكر! وإن تمّ التعدِّي من إنسان على حيوان ليس له فلا يُلام المتعدّي، بل يُؤاخَذ فقط لأنّه تعدّى على مُلكٍ ليس له! وكلُّ ذلك لأنّ هؤلاء يرون أنّ الحيوانات موجوداتٌ تابعة لوجودهم وحياتها متفرِّعةٌ على حياتهم فأعطوا لأنفسهم كلَّ تلك الحقوق!

هذا كان بالنسبة إلى الحيوانات، أمّا حال النساء فلم يكن أفضل، بل لعلّه كان أسوأ ممّا مرّ لكونها موجودًا ذا اختيار وعقل في الحقيقة،حيث نجد آباء النساء أو أزواجهنّ يجرّدونهنّ من كامل حقوقهنّ كأنَّهم مالكون لهنّ على الإطلاق، وفي هذا السّياق يقول العلَّامة قدس سره: "كذلك (كما حياة الحيوانات) كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأمم والقبائل حياة تبعيَّة، وكانت النساء مخلوقةً عندهم (لأجل الرجال) وبقولٍ مطلَق: "كانت النساء تابعة الوجود والحياة لهم من غير استقلال في الحياة ولا في حقٍّ فكان آباؤهنّ ما لم يُنكَحن، وبعولتهنَّ بعد النكاح أولياء لهنَّ على الإطلاق"[1].

 

فعلى سبيل المثال: "كان للرجل أن يبيع المرأة ممَّن شاء وكان له أن يهبها لغيره، وكان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له أن يسوسها حتّى بالقتل، وكان له أن يخلِّي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له أن يقتلها ويسترزق بلحمها كالبهيمة وخاصّةً في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحقّ وخاصّة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشراء وأخذ وردّ.

 

كان على المرأة أن تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعًا أوكرهًا، وكان عليها أن لا تستقلّ عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها أن تلي أمور البيت والأولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان عليها أن تتحمَّل من الأشغال أشقّها كحمل الأثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرَف والصناعات أرداها


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص262-263، "حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم محيط نزول القرآن".

 

21


12

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

وسفسافها، وقد بلغ عجيب الأمر إلى حيث إنَّ المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعَت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أيَّامًا يتمرَّض ويُداوي نفسه، هذه كلِّيَّات ماله وعليها، ولكلِّ جيل من هذه الأجيال ‏الوحشيَّة خصائل وخصائص من السنن والآداب القوميَّة باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها، يطَّلع عليه من راجع الكتب المؤلَّفة في هذه الشؤون"[1].

 

2. حياة المرأة في الأمم المتمدِّنة:

إن كانت حياة المرأة في الأمم المتمدّنة قبل الإسلام أقلَّ سوءًا من حياتها في الأمم غير المتمدِّنة، إلّا أنّها في حقيقتها كانت خاليةً من المدنيّة، وذلك لعدم استحواذ المرأة فيها على حقوقها. وكانت حياتها تتفاوت من بيئةٍ إلى أخرى بحيث يمكن تصنيف هذه المجتمعات إلى:

أ. الأمم التي لم تكن تستند إلى كتاب أو قانون:

يُوضِّح العلَّامة الطباطبائيُّ المقصود من هذه الأمم بقولِهِ: "نعني بهم الأمم التي كانت تعيش تحت الرسوم المليَّة المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومِصر القديم وإيران ونحوها"[2].

 

وقد كانت حياة المرأة في هذه الأمم أحسن حالًا من تلك غَيْرِ المتمدّنة، حيث كانت تتمتّع باليسير من الحقوق. يقول قدس سره: "وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالًا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدِّنة، فلم تكن تقتل ويُؤكَل لحمها، ولم تُحرَم من تملُّك المال بالكلِّيَّة بل كانت تتملَّك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم يكُنْ لها أن تتصرَّف فيها بالاستقلال"[3].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص262-263، "حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم محيط نزول القرآن".

[2] المصدر نفسه، ص263.

[3] المصدر نفسه.

 

22


13

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

إلّا أنّ المرأة في هذه الأمم لم تكن تلي من أمرها شيئًا. إذ كما يقول العلَّامة عن أحوالها: "تشترك جميع هؤلاء الأمم: في أنَّ المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرِّيَّة، لا في إرادتها ولا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تُنجِز شيئًا من قِبَلِ نفسها ولا كان لها حقّ المداخلة في الشؤون الاجتماعيَّة من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

 

وكان عليها أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسبٍ وغير ذلك.

 

وكان عليها أن تختصّ بأمور البيت والأولاد، وكان عليها أن تُطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها.

 

وكان للرجل أن يتَّخذ زوجات متعدِّدة من غير تحديد وكان له تطليق من شاء منهنَّ، وكان للزوج الحقّ بأن يتزوَّج بعد موت الزوجة ولا العكس غالبًا وكانت ممنوعة من المعاشرة خارج البيت غالبًا"[1].

 

وقد كان لكلّ أمّةٍ من هذه الأمم خصائصها إمّا إيجابًا بتحسّن أوضاع المرأة فيها قليلًا، أو سلباً بجعلها أشدّ سوءًا. يقول العلَّامة: "ولكلّ أمّة من هذه الأمم مختصّات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع، كما أنَّ تمايز الطبقات في إيران ربَّما أوجبَ تميُّزًا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من أمّ أو بنت أو أخت أو غيرها.

 

كما أنَّه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعًا من شراء نفسها ومملوكيّتها، وكانت هي ممنوعة من الإرث ومن أن تُشارِك الرجال حتّى أبناءَها في التغذّي، وكان للرجال‏ أن يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتّع بها، والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالبًا.

 

كما أنَّ النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهنّ لا يحلّ لهنّ الازدواج بعد توفِّي أزواجهنّ أبدًا، بل إمَّا أن يُحرَقْنَ بالنار مع جسدِ أزواجهنَّ أو يَعِشْنَ مذلَّلات، وهنَّ في أيَّام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكلّ ما لامستها بالبشرة.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص263.

 

23


14

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

يمكن أن يُلخَّص شأنها في هذه الأمم بأنَّها كالبرزخ بين الحيوان والإنسان، يُستفَاد منها استفادة الإنسان المتوسِّط الضعيف الذي لا يحقّ له إلّا أن يمدّ الإنسان المتوسّط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليّه غير أنَّها تحت الولاية والقيمومة دائمًا"[1]. ففي هذه الأمم، كما هو واضح، لم ترقَ المرأة إلى مستوى الإنسان المتوسّط، إلّا أنَّهم تعاملوا معها على أنَّها مخلوقٌ أعلى مرتبةً من الحيوان، لذا سمّاها العلَّامة بالبرزخ بين الحيوان والإنسان. فكانت تتمّ الاستفادة منها بمقدارٍ معيّن بوصفها إنسانًا ضعيفًا، حالها كحال الولد، وهي واقعةٌ دومًا تحت قيوميّة غيرها وولايته وسلطانه. وكانوا يتعاملون معها على أساس العادات الموروثة، وغير ذلك ممّا لا يُرجَعُ فيه إلى كتاب أو قانون وفقًا لقول العلَّامة: "كانت الأمم المذكورة آنفًا أممًا تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصّة على أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرٍ"[2].

 

ب. الأمم التي كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب:

أمّا في الأمم التي كانت تتمتّع بالقانون والكتب، فإنّه لم يكن فيما تحتويه هذه القوانين والكتب ما يُنصف المرأة أو يرفع من شأنها. وهذه الأمم كانت على الشّكل الآتي:

 

· كلدة والآشور:

كان القانون السّائد الّذي يعود إليه الكلدة والآشور هو شريعة حمورابي التي كانت أحكامها تعسُّفيّة بحقّ المرأة. حيث يقول العلَّامة: "أمَّا الكلدة والآشور فقد حكم فيهم شرع "حامورابي" بتبعيّة المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتّى إنَّ الزوجة لو لم تُطِعْ زوجها في شي‏ء من أمور المعاشرة أو استقلَّت بشي‏ءٍ منها كان له أن يُخرِجَها من بيته، أو يتزوَّج عليها ويتعامل معها بعد ذلك معاملة مُلْكِ اليمين محضًا،


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص263-264.

[2] المصدر نفسه، ص264.

 

24

 


15

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له أن يَرفع أمرها إلى القاضي ثمَّ يُغرِقَها في الماء بعد إثبات الجرم"[1].

 

· الرّوم:

كان الرّجل في هذه المجتمعات يتمتّع بنوع من الربوبيّة في منزله، فكان له الحقّ في أن يقوم بما يشاء ولو كان ذلك بيع المرأة أو قتلها. يقول العلَّامة (رضوان الله عليه): "وأمَّا الروم فهي أيضًا من أقدم الأمم وضعًا للقوانين المدنيّة، وُضِع القانون فيها أوَّل ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثمَّ أخذوا في تكميله تدريجيًّا، وهو يُعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصّة به، ولربّ البيت، وهو زوج المرأة وأبو أولادها، نوع ربوبيّة كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدَّمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت"[2].

 

ويقول: "وكان له الاختيار التامّ والمشيّة النافذة في جميع ما يريده ويأمر به على أهل البيت من زوجة وأولاد حتّى القتل لو رأى أنّ الصلاح فيه، ولا يعارضه في ذلك مُعارض، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والأخت أردأ حالًا من الرجال، حتّى الأبناء التابعون محضًا لربِّ البيت، فإنهنّ لم يكنّ أجزاء للاجتماع المدنيّ فلا تسمع لهنَّ شكاية، ولا ينفذ منهنَّ معاملة، ولا تصحُّ منهنَّ في الأمور الاجتماعيَّة مداخلة، لكنَّ الرجال وأعني الإخوة والذكور من الأولاد حتّى الأدعياء (فإنَّ التبنّي وإلحاق الولد بغير أبيه كان معمولًا شائعًا عندهم وكذا في اليونان وإيران والعرب) كان من الجائز أن يأذن لهم ربّ البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقًا لأنفسهم"[3]. فهُم لم يكونوا يرونَ أنّ المرأة جزء من المجتمع لكي يكون لها حقوق، فالولد الذكر في البيت -وإن كان من الأدعياء أي أنَّه متبنًى- كان حاله أفضل وأشرف من وضع النساء، مع كون أولئك الذكور تابعين أيضًا لربّ الأسرة، لكن له أن يهبهم نوعًا من الاستقلال، أمّا النساء فلا استقلال لهنّ على الإطلاق.


 


[1] المصدر نفسه.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص264-265.

[3] المصدر نفسه.

 

25


16

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

بالإضافة إلى ما مرّ، فإنّ النساء أيضًا: "لم يكنّ أجزاء أصيلة في البيت، بل كان أهل البيت هم الرجال، وأمّا النساء فتبَعٌ، فكانت القرابة الاجتماعيَّة الرسميّة المؤثِّرة في التوارث ونحوها مختصّة بما بين الرجال، وأمّا النساء فلا قرابة بينهنَّ أنفسهنَّ كالأمّ مع البنت والأخت مع الأخت، ولا بينهنَّ وبين الرجال كالزوجين أو الأمّ مع الابن أو الأخت مع الأخ أو البنت مع الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسميَّة. نعم، القرابة الطبيعيّة (هي التي يوجبها الاتِّصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، ربَّما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربِّه لها"[1].

 

ومن استحقارهم لأمر المرأة لم يكن الرومان يعتبرونها جزءًا من البيت، بل إنَّهم كانوا يرون أنّ المرأة لا قرابة لها مع أحد من النساء والرجال، لأنَّ لازِم القرابة الاجتماعيَّة الرسميّة أن يكون لها حقٌّ في الإرث والتملّك، وهم ينفون حقَّها فيهما، ولا تنفعها القرابة الطبيعيّة بسبب التوالد في أن يكون لها أيّ حقّ مضاف في رأيهم.

 

"وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيليّة الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدنيّ والبيتيّ). وزِمام حياتها وإرادتها بيد ربّ البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربّها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، فربَّما باعها، وربَّما وهبها، وربَّما أقرضها للتمتَّع، وربَّما أعطاها في حقّ يُراد استيفاؤه منه كدينٍ وخراجٍ ونحوهما، وربَّما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئًا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليّها، لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه، وبيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها وبيد زوجها تطليقها"[2].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص264-265.

[2] المصدر نفسه.

 

26


17

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

· اليونان:

كان المجتمع اليونانيّ قائمًا بالرّجال ولم تكن المرأة تُعامل عند هؤلاء ككائنٍ مستقلّ إلّا عند تجريمها، وذلك بهدف عقابها. يقول العلَّامة قدس سره: "وأمَّا اليونان فالأمر عندهم في تكوّن البيوت وربوبيَّة أربابها. وفيها كان قريب الوضع من وضع الروم. فقد كان الاجتماع المدنيّ وكذا الاجتماع البيتيّ عندهم متقوِّمًا بالرجال، والنساء تبع لهم؛ ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولا فعل إلَّا تحت ولاية الرجال"[1].

 

إلَّا أنّ قانونهم هذا يتناقض مع قانون التجريم الذي طبَّقوه في حقَّ المرأة، حيث يقول العلَّامة رحمه الله: "لكنَّهم جميعًا ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإنّ قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهنَّ بالاستقلال ولا تحكم لهنَّ إلّا بالتبع إذا وافق نفْعَ الرجال، فكانت المرأة عندهم تُعاقَب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تُثاب لحسناتها ولا يُراعَى جانبها إلَّا بالتبع وتحت ولاية الرجل"[2]. وهذا أمر عجيب، ففي الوقت نفسِهِ يحكمون عليها بالتبعيَّة المطلقة للرجل في حال إحسانها وله الحقّ أن ينتفع منها في كلِّ حسناتها، يحكمون باستقلالها وتحمُّلها مسؤوليَّة أفعالها في حال إساءَتها!

 

ويقول العلَّامة: "وهذا بعينه من الشواهد الدالَّة على أنَّ جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزءًا ضعيفًا من المجتمع الإنسانيّ ذات شخصيّة تَبَعيَّة، بل كانت تُعتبر أنَّها كالجراثيم المضرَّة، مفسدة لمزاج الاجتماع مضرَّة بصحَّتِهِ غير أنَّ للمجتمع حاجة ضروريَّة إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يُعتَنى بشأنها، وتُذاق وبال أمرها إذا جَنَتْ أو أَجرَمت، ويحتَلِب الرجال درّها إذا أَحْسَنت أو نَفَعَت، ولا تُترَك على حيال إرادتها صونًا من شرِّها كالعدوّ القويّ الذي يُغلَب فيُؤخَذ أسيرًا مُسْتَرَقًّا يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيِّئة يُؤَاخَذ بها وإِنْ جاءَ بالحسَنةِ لم يُشكَرْ لها"[3].

 

فهم كانوا يعتقدون أنَّها موجودٌ فاسد مفسد، لا يصحّ أن تُتْرَك على رُسلِها ولا يمكن أن


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص265-266.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

 

27

 


18

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

تُعطى حريّتها وإلّا كان الخراب هو مآل أمور المجتمع. لذا، لا بدّ أن تُسترّق وتُقمَع للحاجة إليها وصونًا من شرّها.

 

وهذا الذي سمعته: "أنّ الاجتماع كان متقوِّما عندهم بالرجال وهو الذي ألزمهم أنْ يعتقدوا أنّ الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وأنَّ بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبنِّي والإلحاق بينهم، فإنَّ البيت الذي ليس لربّه ولد ذكر كان محكومًا بالخراب، والنسل مكتوبًا عليه الفناء والانقراض، فاضطّر هؤلاء إلى اتخاذ أبناء صونًا من الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناء لأنفسهم فكانوا أبناء رسمًا يَرِثون ويورثون ويُرتَّب عليهم آثار الأبناء الصُّلبيِّين، وكان الرجل منهم إذا زَعَمَ أنّه عاقر لا يُولَد منه ولد عَمَد إلى بعض أقاربه كأخيه وابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولدًا يدعوه لنفسه، ويقوم ببقاء بيته.

 

وكان الأمر في التزويج والتطليق في اليونان قريبًا منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدُّد الزوجات غيرَ أنَّ الزوجة إذا ازدادت عن الواحدة كانت واحدة منهنًّ زوجة رسميَّة والباقية غير رسميَّة"[1].

 

حال المرأة عند العرب قبل الإسلام

أمّا عند العرب، فقد كانت المرأة مسلوبة الحقوق، تابعةً للرّجل، خادمةً له، وليس لها أيُّ استقلال. يقول السيّد العلَّامة (رضوان الله عليه): "وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارَّة جدبة الأرض[2]، والمعظم من أمَّتهم قبائل بدويَّة بعيدة عن الحضارة والمدنيّة، يعيشون بشنّ الغارات، وهم متَّصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشة والسودان من جانب آخر. لذلك كانت العمدة من رسومهم[3] رسوم التوحُّش، وربَّما وجد خلالها شي‏ء من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحيانًا. كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالًا في الحياة ولا حرمةً ولا شرافةً إلّا حرمة البيت وشرافته"[4].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص265-266.

[2] أرضها يابسة لاحتباس الماء عنها.

[3] عاداتهم وسماتهم.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص266-268.

 

28


19

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

أمّا فيما يخصّ طبيعة العلاقات التي كانت سائدة عند أهل الكتاب من العرب وقاطني تلك المنطقة فيقول العلَّامة (رضوان الله عليه): "أمَّا أهل الكتاب منهم (أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم) فقد كانت مجتمعاتهم تُدار بالأهواء الاستبداديَّة والتحكُّمات الفرديَّة من الملوك والرؤساء والحكّام والعمّال، فكانت مقتسَمة طبعًا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعّالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال، وطبقة محكومة مستعبَدة مستذَلَّة لا أمن لها في مال وعرض ونفس ولا حريَّة إرادة إلَّا ما وافق من يفوقها. وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم وأخذت مجامع قلوب العامَّة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف"[1]، هذا، وقد سرى النمط المتقدّم من الانقسام إلى طبقة حاكمٍ ذي قوَّة مقتدر، وطبقة محكومٍ مستعبَدٍ في جميع العلاقات في المجتمع، حتّى في طبقة المحكومين نفسها، حيث يقول السيِّد العلَّامة: "وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضًا على حسب قوّتها في السطوة والجدَّة فيما بينهم نظير الاقتسام الأوَّل (والناس على دين ملوكهم)، إلى طبقتي الأغنياء المترَفين والضعفاء والعجزة والعبيد، وكذا إلى ربّ البيت ومربوبيه من النساء والأولاد، وكذا إلى الرجال المالكين لحرِّيَّة الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة، والنساء المحرومات من جميع ذلك، التابعات للرجال محضًا الخادمات لهم في ما أرادوه منهنَّ من غير استقلال ولو يسيرًا"[2]. فكان نصيب المرأة من كلِّ ذلك التقسيم والطبقات هو النصيب الأدنى والأدرأ، حيث كانت تابعةً بالكلّيَّة للرجل إلى أيِّ طبقةٍ انتمى، ليست سوى خادمةٍ له في كلِّ ما يريد، لا تتمتَّع بأيِّ نحوٍ من الاستقلال.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص154.

[2] المصدر نفسه.

 

29


20

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

أمّا تفصيلًا، فيمكن الإشارة إلى بعض ما كانت تتعرَّض له المرأة عند العرب من انتهاكٍ للحقوق:

1. الحرمان من الميراث ووراثة المرأة:

كانت المرأة محرومةً من الإرث. إذ كما يقول العلَّامة: "وكانت[1] لا تورّث النساء"[2].

 

فضلًا عن حرمانها من الإرث، كانت المرأة نفسها من الميراث في حال وفاة زوجها، حيث يقول رحمه الله: "وأمّا النساء فقد كنَّ محرومات من مزايا المجتمع الإنسانيّ لا يملكنَ من أنفسهنَّ إرادة ولا من أعمالهنَّ عملًا ولا يملكن ميراثًا، وأمّا الأولاد فكانوا يُنسبون إلى الآباء لكنَّهم لا يورثون صغارًا ويذهب الكبار بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفَّى، ويُحرَم الصغار ذكورًا وإناثًا والنساء"[3].

 

2. الزواج غير المحدود بعدد:

لم يكن هناك من حدّ لعدد زوجات الرّجل عند العرب "وكانت (العرب) تُجوّز تعدّد الزوجات من غير تحديد بعدد معيَّن كاليهود وكذا في الطلاق"[4].

 

ومن كلامٍ آخر له يُشبه كلامه السّابق، يقول العلَّامة: "ويتزوَّج بهنًّ الرجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود وبعض الوثنيَّة"[5].

 

3. أكل مال المرأة اليتيمة:

من مظاهر انتهاك حقوق المرأة أيضًا الزواج من اليتيمة وأخذ مالها ثمّ تسريحها عبر الطّلاق بعد أن أصبحت مسلوبة المال. وفي ذلك يقول العلَّامة: "غير أنّ المتوفَّى لو تَرَك صغيرًا ورثه لكنًّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم ويأكلون‏ ماله، ولو كان اليتيم بنتًا تزوَّجوها وأكلوا مالها ثمّ طلَّقوها وخلّوا سبيلها فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها


 


[1] (العرب).

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص266-268.

[3] المصدر نفسه، ج‏4، ص152.

[4] المصدر نفسه، ج‏2، ص266-268.

[5] المصدر نفسه، ج‏4، ص152.

 

30


21

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

ينفق عليها. والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلَى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعًا بينهم"[1].

 

وفي السياق ذاته، يقول: "قوله -تعالى-: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾[2]، قد مرَّت الإشارة فيما مرّ إلى أنَّ أهل الجاهليَّة من العرب وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يَكثُرُ فيهم حوادث القتل وكان يكثر فيهم الأيتام، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهنَّ فيتزوجون بهنَّ ويأكلون أموالهنَّ ثمّ لا يقسطون فيهنَّ وربَّما أخرجوهنَّ بعد أكل مالهنَّ فيَصرِنَ عاطلات ذوات مسكنة، لا مال لهنَّ يرتزقن به ولا راغب فيهنَّ فيتزوَّج بهنَّ ويُنفِق عليهنَّ. وقد شدَّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش، وأكَّد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾[3]، وقوله -تعالى-: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾[4]، فأعقب ذلك أنَّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم -كما قيل- وخافوا خوفًا شديدًا حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفًا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقِّهم، ومن أمسك يتيمًا عنده أفرز حظَّه من الطعام والشراب. إذا تأمَّلت في ذلك ثمّ رجعت إلى قوله -تعالى-: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ﴾ "إلخ" وهو واقع عُقيب قوله: ﴿وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ‏﴾ الآية، اتَّضح لك أنّ الآية واقعة موقع الترقِّي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى -والله أعلم-: اتَّقوا أمر اليتامى، ولا تتبدَّلوا خبيث أموالكم من طيِّب أموالهم، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى إنَّكم إن خفتم ألّا تُقسِطوا في اليتيمات منهم ولم


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص153-154.

[2] سورة النساء، الآية 3.

[3] السورة نفسها، الآية 10.

[4] السورة نفسها، الآية 2.

 

31


22

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

تَطِبْ نفوسكم أن تنكحوهنَّ وتتزوَّجوا بهنَّ فدعوهنَّ وانكحوا نساء غيرهنَّ ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع"[1].

 

4. وأد البنات:

فضلًا عمَّا سبق، كان العرب يسومون البنات سوء العذاب بوأدهنّ حيَّاتٍ. وكان لوأد البنات عند العرب سببان؛ الأوّل قلّة الموارد الموجودة وخوف الفقر، يقول العلاّمة: "كان من شقاء أولادهم أنَّ بلادهم الخربة وأراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق[2]، وكانوا يئدون البنات، وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشَّر بالأنثى[3]"[4].

 

أمّا السبب الثّاني -وفقًا للعلّامة، فهو الخوف على العرض- حيث يقول: "في قَوْلِهِ -تعالى-: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ  * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾[5]، الموؤدة البنت التي تُدفَن حيَّة وكانت العرب تئد البنات خوفًا من لحوق العار بهم من أجلهنَّ"[6].

وتفصيل ذلك أنّ العرب: "كانت تئد البنات، ابتدأ بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أُسِرَتْ فيها عدّة من بناتهم، والقصَّة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثمَّ سرت السجيَّة في غيرهم، وكانت العرب تتشاءَمُ إذا وُلِدَتْ للرجل منهم بنت يعدّها عارًا لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به، لكن يسرّه الابن مهما كثر ولو بالإدِّعاء والإلحاق حتّى إنَّهم كانوا يتبنَّوْن الولد لزنا محصنة ارتكبوه، وربَّما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطَّوْلِ منهم في ولد ادعاه كلٌّ لنفسه"[7].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص166-167.

[2] سورة الأنعام، الأ

[3] سورة الزخرف، الآية 17.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص153.

[5] سورة التكوير، الآيتان 8 – 9.

[6] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج20، ص214.

[7] المصدر نفسه، ج2، ص266 – 268.

 

32


23

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

أمّا القصّة فهي كما يذكرها السيّد الطباطبائيّ في آخر كلامه التالي: "في قَوْلِهِ -تعالى-: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ اسوداد الوجه كناية عن الغضب، والكظيم‏ هو الذي يتجرّع الغيظ، والجملة حالية أي ينسبون إلى ربّهم البنات والحال أنهم إذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى فقيل: ولدت لك بنت، اسودَّ وجهه من الغيظ وهو يتجرَّع غيظه. وفي قوله -تعالى-: ﴿يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ﴾ إلى آخر الآية، التواري‏ هو الاستخفاء والتخفِّي مأخوذ من الوراء، والهون‏ الذلّة والخزي، والدسّ الإخفاء.

 

والمعنى: يستخفي هذا المبشَّر بالبنت من القوم من سوء ما بُشِّر به على عقيدته ويتفكّر في أمره: أَيمسك ما بُشِّر به وهي البنت على ذلّة من إمساكه وحفظه أم يُخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل: "إنَّ أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود أنثى جعلها في الحفرة وحثا عليها التراب حتّى تموت تحته، وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهنَّ فيطمع غير الأكفاء فيهنّ".

 

وأوّل ما بدا لهم ذلك أنَّ بني تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فأدخلهنَّ دار الملك واتَّخذ البنات جواري وسرايا ثمّ اصطلحوا بعد برهة واستردّوا السبايا فخُيِّرْنَ في الرجوع إلى أهلهنَّ فامتنعت عدَّة من البنات فأَغضَب ذلك رجال بني تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلّا وأدوها ودفنوها حيَّة ثمَّ تَبِعهُم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات"[1].

 

بعد التعرّض لأهمّ الانتهاكات التي كانت تُرتَكبُ بحقّ المرأة، تجدر الإشارة إلى أنّ التعاطي مع المرأة عند بعض الجماعات العربيّة كان مزدوجًا. فهي من جهةٍ لا تتمتّع بالإستقلاليّة، إلَّا أنّها من الجهة الأخرى يُؤخذ رضاها للزواج ولها مشاركاتها في بعض الأمور الاجتماعيَّة. يقول العلَّامة في ذلك: "وربَّما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصَّةً للبنات في أمر الازدواج فكان يُراعَى فيه رضى المرأة وانتخابها، فيُشبِه ذلك منهم


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج12، ص276-277. (سورة النّحل، الآية 59)

 

33


24

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات. وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركَّبة من معاملة أهل المدنيّة من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الأمور العامَّة الاجتماعيَّة كالحكم والحرب وأمر الازدواج إلَّا استثناء، ومن معاملة أهل التوحُّش والبربريَّة، فلم يكن حرمانهنَّ مستندًا إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القويِّ واستخدامه للضعيف"[1].

 

فكما كان دأب الروم وإيران في أنّ تابعات نساءهم للرجال في كلِّ شيء ولا دور لهنَّ في الاجتماع والحكم وحتَّى في الزواج وغيرها من الأمور، مع وجود بعض الاستثناءات في طبقات الأشراف في إيران، كذلك الحال كان عند العرب. إلَّا أنّ العرب لم يكونوا يتعاملون بهذه الطريقة لوجود تشريع أو كتابٍ أو تقديس وتربيب للرجل مثلًا كما عند الرومان، بل كانوا في ذلك على طبق أهل التوحُّش والأمم البربريَّة في كون معيارهم لذلك هو غلبة القويّ الذي هو الرجل واستخدامه للضعيف الذي هو المرأة في المقام.

 

يقول العلاّمة: "وأمَّا العبادة فكانوا يعبدون جميعًا (رجالًا ونساءً) أصنامًا، وقد أَوْدَعَ هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفًا في الفكرة يُصوِّر لها أوهامًا وخرافات عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة، ضبطتها كتب السِّير والتاريخ"[2].

 

وممّا يُظهر الانحطاط وتردّي الأوضاع الأخلاقيّة عند المرأة قبل الإسلام التفلّت الجنسيّ الذي كان سائدًا، فيقول السيّد قدس سره: "ومع ذلك فقد كنَّ يتبرَّجنَ بالزينة ويَدْعين من أحببن إلى أنفسهنَّ وفشا فيهنَّ الزنا والسِّفاح حتّى في المحصنات المزوَّجات منهنَّ، ومن عجيب بروزهنَّ أنَّهنَّ ربَّما كنَّ يأتينَ بالحجِّ عاريات"[3].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص266-268.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ج‏4، ص152.

 

34


25

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

خلاصة موقعية المرأة في الأمم قبل الإسلام

يُلخّص العلَّامة الطباطبائيّ ما ذكره عن وضع المرأة في مختلف الأمم قبل الإسلام بقوله: "فهذه جُمَلٌ من أحوال المرأة في المجتمع الإنسانيّ من أدواره المختلفة قبل الإسلام وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التامّ، ويُستنتَجُ من جميع ذلك:

أوّلًا: أنَّهم كانوا يرونها إنسانًا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانًا ضعيف الإنسانيّة منحطًّا لا يُؤمَن شرُّه وفساده لو أُطلِق من قيد التبعيَّة، واكتسب الحريَّة في حياته، والنظر الأوَّل (كونها في أفق الحيوان) أنسب لسيرة الأمم الوحشيَّة والثاني (لا يؤمن شرُّه وفساده) لغيرهم.

 

ثانيًا: أنَّهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعيّ أنّها خارجة من هيكل المجتمع المركَّب غير داخلة فيه، وإنَّما هي من شرائطه التي لا غَناء عنها كالمسكن لا غَناء عن الالتجاء إليه، أو أنّها كالأسير المسْترَقّ الذي هو من توابع المجتمع الغالب، يُنتفَع من عمله ولا يُؤمَن كيده على اختلاف المسلكين. (مسلك الشرطيَّة ومسلك الأسر).

 

ثالثًا: أنَّهم كانوا يرون حرمانها في عامّة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلّا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيِّمين بأمرها.

 

ورابعًا: أنَّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف وبعبارةٍ أُخرى قريحة الاستخدام، هذا في الأمم غير المتمدّنة، وأمّا الأمم المتمدّنة فيُضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها أنَّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمنَ شرُّها، وربَّما اختلط الأمر اختلاطًا باختلاف الأمم والأجيال"[1].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص268.

 

35


26

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

حال المرأة في المدنيّة الغربيّة بعد الإسلام (الدول الغربيّة)

أمّا في الغرب حيث التغنّي بحقوق المرأة ومساواتها مع الرّجل، فقد مَنَحَ المرأة بعض الحقوق كتلك الماليّة، وذلك بعد الثورات وتأسيس الجمعيّات النسائيّة والدوليّة. أمّا الإسلام فقد منح المرأة حقوقها ابتداءً من دون ثورات وتحرّكاتٍ من هنا وهناك[1]. والجدير ذكره أنّ الغرب فيما منحه للمرأة من حقوق قد استفاد ممّا جاء به الإسلام، حيث يقول العلَّامة في هذا الخصوص: "لا شكَّ أنَّ الإسلام له التقدُّم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنَّ أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلَّدوا الإسلام وإن أساءوا التقليد والمحاذاة فإنَّ سيرة الإسلام حلقةٌ بارزةٌ مؤثِّرةٌ أتمّ التأثير في سلسلة السِّيَرِ الاجتماعيَّة وهي متوسِّطة متخلّلة، ومن المُحال أن يتَّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها"[2].

 

ويعتقد الغربيّون أنّ المرأة متساوية مع الرّجل في طباعها تساويًا تامًّا، وأنّ ما نراه من اختلاف منشؤه التربية ليس إلّا. ويردّ العلَّامةالطباطبائيّ على ذلك بثلاثة أدلّة يعتمد الأوّل والثّاني منها على ما يلزم من هذا التساوي التامّ المُدّعى للطباع بين المرأة والرجل.

 

الدّليل الأوّل هو لزوم أن نشهد هذه المساواة في الطّباع بينهما ولو بشكل نادر وهو أمرٌ لا تحقّق له في متن الواقع. والثاني هو لزوم أن يفضي هذا التساوي في الطباع إلى التساوي في خلقة الأعضاء. والدّليل الثالث هو عدم إمكانيّة تطبيق هذه المساواة بين الرّجل والمرأة مع كلّ المساعي الغربيّة لتحقيق ذلك.

 

أمّا نصّ العلَّامة فهو الآتي: "وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من


 


[1] ابن قطب، في ظلال القرآن، ج2، ص645.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص276. تحت عنوان "حرية المرأة في المدنية الغربية".

 

36


27

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

التأخُّر الكماليّ[1] بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله. والرأي العامُّ عندهم تقريبًا أنَّ تأخُّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قرونًا لعلَّها تُعادِل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل"[2]. فالرأي العامُّ في الغرب مؤدَّاه أنّ المرأة تتمتّع بطباع كطباع الرجل تمامًا، أي أنّ طبيعتها متساوية مع طبيعة الرجل لا اختلاف أصيلًا بينهما، وإنّما نشأ الاختلاف في طبيعتيهما بسبب سوء التربية الذي تعرّضت له المرأة عبر قرون مديدة تُعادِل عمر الدنيا.

 

ويتوجَّه عليه: "أنَّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوُّنه قضى على تأخّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهرَخلافه ولو في بعض الأحيان، ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل ويؤيِّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة، مع غايةِ عنايتها في تقديم المرأة، ما قدرت بعدُ على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تُقدِّم الرجال وتُؤخِّر النساء"[3].

 

أورد العلَّامة (رضوان الله عليه) فيما مرّ ملاحظاتٍ تنقض ادّعاء الغرب في أصل تساوي طبيعة الرجل وطبيعة المرأة وأنّ اختلافهما لجهةِ التربية لا أمرًا أصيلًا. فبيّن أنّه منذ أن قام المجتمع البشريّ في عهود مضت، فقد قام على أساس الاختلاف بين الجنسين، ولو كانت الطبيعتان متساويتين لكان هذا التساوي ظهر ولو في حقبةٍ من حقبات التاريخ البشريّ ولظهر لنا خلاف ما نراه من تغاير بين الجنسين. ثمَّ لو كان هذا الادِّعاء صحيحًا لكانت أعضاء المرأة الرئيسيَّة تغيّرت خلقتها إلى مثل ما في الرجل


 


[1]  إشارة إلى هذا المقطع: لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإنّ المتوسِّطة من النساء تتأخّر عن المتوسِّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أنّ التعقُّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقُّلية، العلاّمة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج‏2، ص275.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص276-277، "حرية المرأة في المدنية الغربية".

[3] المصدر نفسه.

 

37


28

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

مثلًا، أو بان تطوّرها على الأقلّ، إذ لا يمكن أن يكونا بطبيعةٍ واحدةٍ لكن لكلٍّ منهما جسم مختلف بطريقةٍ عبثيّة، وما يؤيِّد هذه المقولة هو أنَّ المدنيَّة الغربيَّة لم تستطع أن تجد ذاك التساوي المُدّعى بين الجنسين، ولم تأت بأيّ إثباتٍ حسِّيّ على ذلك. أضف إلى ذلك أنَّ الإحصاءات، حتّى في الغرب، تُبيّن تقدّم الرجال على النساء في المواقع التي قدّم الإسلام فيها الرجل على المرأة لفلسفةٍ ستُبيَّن فيما يأتي.

 

وينبغي القول إنّ ما دعا إليه الغرب من مساواة المرأة بالرّجل وما قام به من استغلال لجسدها باسم الحرِّيّة لم يكن تقدّمًا على مستوى إحراز الحقوق للمرأة، بل هو وأدٌ لها بطريقةٍ معاصرة. فقد كانت الأنثى تُوأدفي تُراب الأرض وها هي الآن تُوأَدُ في تراب الشهوات وتُدفَنُ كرامتها وروحها، وها هم ينقلونها مجدّدًا من مستوى الإنسانيّة إلى مستوى الحيوانيّة لكن بطرقٍ أخرى. فكما يقول العلَّامة الطباطبائيّ: "وأمَّا ما الذي أورثَته هذه التسوية في هيكلِ الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسَّر لنا منه في محلِّه إن شاء الله -تعالى-"[1].

 

فالّذي أدّت إليه هذه التّسوية المدّعاة بين الرّجل والمرأة إنّما كان الانحطاط العظيم على مستوى القيم والأخلاق والمشاعر الإنسانيّة، فلا ينفعل الرجل منهم مثلًا لموبقات اقترفتها من ارتبط بها من النساء، ويتعجّب العلَّامة لهذا الوضع المنحطّ فيقول: "وكيف لا تتألّم عواطف الرجل وإحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيِّبًا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال، ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيِّدة ممَّن توفّرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات!! وهل هذا إلَّا أنَّ هذه السيِّئات تكرَّرت بينهم ونزعة الحرِّيَّة تمكَّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والإحساسات ولا تستنكرها النفوس؟"[2]. فلأنَّهم كثيرًا ما نادوا بالحريّةِ الباطلة التي هي في حقيقتها استرقاقٌ للمرأة في سبيل شهواتها وشهوات الرجل، ولأنّ تلك المنكرات من زنا وغيره

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص277، "حرية المرأة في المدنية الغربية".

[2] المصدر نفسه، ج4، ص 185.

 

38


29

الفصل الأول: المرأة في الأمم غير الإسلاميّة

من الفواحش قد كثُرَت واستحكمت في مجتمعاتهم، صارت أمثال هذه الفواحش عادةً مألوفةً لديهم لا يستوحش منها طبع الإنسان ولا يستنكرونها، حتّى إنّ قيمهم معكوسة وعلى طرف النقيض من الفطرة، فترى الرجل يبني (يتزوَّج) بفتاةٍ يلقاها ثيّبًا لا بكرًا، فبدل أن يستنكر ذلك ويأباه بالحدِّ الأدنى، يكون ذلك مصدر فخرٍ له بين أقرانه أنّ زوجته طمع فيها الرجال وقضوا شهوتهم فيها وتنافسوا عليها!!

 

أمّا عن المرأة وَفْقَ الرؤية الإسلاميّة، فقد قدّم السيّد الطباطبائيّ في تفسيره الميزان الرؤية الإسلاميّة للمرأة والتي استنبط أسسها من الآيات القرآنيَّة المباركة، وهذه الرؤية لا تتوافق مع ما كانت عليه الأمم السابقة للإسلام، حيث يقول رحمه الله: "وأمَّا الإسلام - أعني الدين الحنيف النازل به القرآن - فإنَّه أبدع في حقِّها أمرًا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعًا في بناءِ بنية فطريّة عليها كانت الدنيا هدمتها من أوّل يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويَّتها اعتقادًا وما كانت تسير فيها سيرتها عملًا"[1].

 

كما لا تتوافق الرؤية الإسلاميّة للمرأة مع الرؤية الغربيّة الحديثة التي تقوم على المساواة التامّة بين الرّجل والمرأة في الطّباع والحقوق، وهو ما سيتبيّن في السطور اللاَّحقة.

 

ونعثر على الرؤية الإسلاميّة المتعلّقة بالمرأة مبثوثةً في طيّات تفسير الميزان وَفْقًا لتوزّع الآيات المرتبطة بالمرأة. وهذه الرؤية تتوزّع على عدّة أبعاد، تشمل البعد الإنسانيّ والتكوينيّ، البعد الدينيّ، البعد الاجتماعيّ، البعد الأسريّ والبعد الاقتصاديّ والسياسيّ.

 

 


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص269.

 

39


30

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

لا تتساوى المرأة مع الرّجل في جميع تفاصيل البُعد الإنسانيّ والتكوينيّ، إذ هناك ما تتساوى وتتشابه فيه مع الرّجل، وفي المقابل هناك ما تختلف فيه عنه.

 

المساواة مع الرجل

يتساوى كلٌّ من الرّجل والمرأة في:

1. الخَلْق والإيجاد:

يستنتج العلَّامة الطباطبائيّ من الكتاب الكريم الوحدة بين المرأة والرجل من حيث الخَلْق، حيث يقول: "وظاهر الجملة أعني قوله -تعالى-: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾[1] أنَّها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأنَّ هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعًا إلى فردَيْن متماثلَيْن متشابهَيْن، فلفظة من نشوئيَّة والآية في مساق قوله -تعالى-: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[2]، وقوله -تعالى-: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾[3]، وقوله -تعالى-: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾[4]، ونظيرها قوله -تعالى-: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ﴾[5]، فما في بعض التفاسير أنَّ المُراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقَّة منها

 


[1] سورة النساء، الآية 1.

[2] سورة الروم، الآية 21.

[3] سورة النحل، الآية 72.

[4] سورة الشورى، الآية 11.

[5] سورة الذاريات، الآية 49.

 

43


31

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

وخلقها من بعضها وفاقًا لما في بعض الأخبار أنَّ الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه ممَّا لا دليل عليه من الآية"[1]. ومراده رحمه الله أنّ الله - عزَّ وجلّ - خلق النفس الإنسانيّة وزوجها من نوعٍ واحد متماثل، ثمَّ خلق من هذين الفردين المتماثلين، من حيث أصل الخلق، كلَّ الأفراد الآخرين. ودليل ذلك أنّ لفظة "مِنْ" المستخدَمة في الآيات المختلفة هي نشوئيّة وليست تبعيضيَّة، أي ليس المقصود أنَّه -تعالى- خلق الزوجة من بعض الرجل، بل خلقها من منشأ خلقه، وهذا هو المستفاد من العديد من الآيات في كتاب الله -تعالى- التي تحدّثت عن خلق الأزواج.

 

وفي بحثه الروائيّ عن هذا الموضوع، ينقل العلَّامة رواية تنفي خلق حوّاء من ضلع آدم، وهي: "عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام: مِمَّ خلق الله حوّاء؟ فقال عليه السلام: "أيّ شي‏ء يقولون هذا الخَلْق؟ قلت يقولون: إنَّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال: "كذبوا أكان الله يُعجِزُه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلتُ: جُعِلت فداك، من أيِّ شي‏ء خلقها؟ فقال: "أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله -تبارك وتعالى- قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه، وكلتا يديه يمين فخلق منها آدم، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حوّاء"[2].

 

وعند تعليقه على الرواية يقول رحمه الله: "ورواه الصدوق عن عمرو مثله‏، وهناك روايات أخرى تدلّ على أنَّها خُلقَت من خلفِ آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، وهذا المعنى، وإن لم يستلزم في نفسه مُحالًا إلَّا أنَّ الآيات القرآنيَّة خاليةٌ عن الدلالة عليها كما تقدَّم"[3].

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص136.

[2] راجع: العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، إيران – طهران، ط1، 1422هـ، ج1، ص216؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص146-147.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص147.

 

44


32

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

2. الحقيقة الإنسانيّة (الهويّة الإنسانيّة):

يشترك كلّ من الرّجل والمرأة في الوحدة النوعيّة وهي الحقيقة الإنسانيّة. وفي هذا المجال يقول العلَّامة: "وقد بيَّن الله -تعالى- في كتابه أنّ الناس جميعًا (رجالًا ونساءً) فروع أصل واحد إنسانيٍّ وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشريَّة"[1].

 

أمّا تفصيل ذلك فيتبيّن بما يأتي: "أمّا هويَّتها فإنَّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان، وأنّ كلَّ إنسان، ذكرًا أو أنثى فإنَّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر وأنثى، ولا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2]، فجعل -تعالى- كل إنسان مأخوذًا مؤلَّفًا من إنسانين ذكر وأنثى هما معًا وبنسبةٍ واحدةٍ مادّة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكرًا أو أنثى، مجموع المادّة المأخوذة منهما، ولم يقل - تعالى -: مثل ما قاله القائل: وإنَّما أمَّهات الناس أوعية، ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا          بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعد

 

بل جعل - تعالى - كلًّا مخلوقًا مؤلَّفًا من كلّ. فعاد الكلُّ أمثالًا، ولا بيان أتمّ ولا أبلغ من هذا البيان، ثمَّ جعل الفضل في التقوى"[3]. ففي الواقع، إنّ كلَّ إنسان لكي يوجد في هذه النشأة يحتاج عادةً إلى كلا والديه، أمّه وأبيه، في تكوين مادّته وانعقاد نطفته، لا أنَّ أمّه تشكِّل الوعاء الذي يوضع فيه النطفة من الرجل، لذا يُنسب المولود لكلا والديه حقيقةً. وبعد أن بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة ببيانٍ بليغٍ جعل معيار التفاضل بين الجميع هو التقوى.

 

ويشير العلَّامة قدس سره إلى هذا الإتحاد في الحقيقة الإنسانيّة عند تفسيره لآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص255.

[2] سورة الححرات، الآية 13.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص269-270، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

45


33

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

رَقِيبًا﴾[1]، فيقول: "قوله - تعالى -: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ إلى قوله: ﴿وَنِسَاء﴾ يريد دعوتهم إلى تقوى ربِّهم في أمر أنفسهم وهم ناس متَّحدون في الحقيقة الإنسانيّة من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقويّ، حتّى لا يُجحِف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والأحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إيّاها لتسهيل طريق حياتهم، وحفظ وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين"[2]. ولو كانوا مختلفين في حقيقتهم لكانت دعوتهم مجتمعين إلى التقوى لا تخلو من التكليف بما لا يطاق والظلم والعبث، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

ثّم يقول العلَّامة عن هذه الآية المباركة: "فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، وأنَّهم على كثرتهم رجالًا ونساءً إنَّما اشتُقُّوا من أصل واحد وتشعَّبوا من منشإٍ واحدٍ فصاروا كثيرًا على ما هو ظاهر في قوله -تعالى-: وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً"[3].

 

ويُقدّم سماحته كلامًا فلسفيًّا حول هذه الوحدة النوعيّة بين الرّجل والمرأة، حيث يقول: "المشاهدة والتجربة تقضيان أنَّ الرجل والمرأة فردان من نوع جوهريٍّ واحد، وهو الإنسان. فإنَّ جميعَ الآثار المشهودة في صنفِ الرجل مشهودةٌ في صنفِ المرأة من غير فرق، وبروز آثار النوع يوجب تحقُّق موضوعه بلا شكّ. نعم، يختلف الصنف بشدَّة وضعف في بعض الآثار المشتركة، وهو لا يوجب بطلان وجود النوعيّة في الفرد، وبذلك يظهر أنّ الاستكمالات النوعيَّة الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر"[4].

 

والمقصود أنّه ومن خلال التجربة والمعاينة الحسِّيَّة والعقليَّة نستطيع أن نُثبِت أنَّ الرجل والمرأة من نوعٍ جوهريٍّ واحد، وهما مشتركان في الحقيقة التي يُطلَق عليها في


 


[1] سورة النساء، الآية 1.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص134-135.

[3] المصدر نفسه، ص136.

[4] المصدر نفسه، ج‏4، 89، بحث فلسفيّ ومقايسة بين القرآن والتوراة في أمر النساء.

 

 

46


34

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

المنطق والفلسفة "الإنسانيّة" المساوية للحيوانيّة الناطقيّة. فمن خلال المشاهدة نجد أنَّ كلًّا من الرجل والمرأة لهما آثار الحيوانيَّة الناطقيّة من حياة ونطق وفكر... وهذه الآثار المترتِّبة على نوع الإنسان هي دليل على وجود الموضوع أي "نوع الإنسان" فيهما معًا. وعليه فالمرأة إنسان كما هو حال الرجل. هذا، والاختلاف بين أصناف نوع الإنسان بوجود أثر ما بشدَّةٍ في صنف معيّن وضعفه في آخر لا يضرّ في وحدة الحقيقة، وما يمكن لأحد الصنفين من تحصيل لكمال إنسانيّ فهو ممكن للآخر.

 

ثمّ يُقايِس هذه الرؤية القرآنيّة عن هويّة المرأة إلى تلك الموجودة في التوراة وعند الأمم القديمة وبعض الأمم الحديثة، وذلك في قوله: "وإذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين،‏ ففي سفر الجامعة من التوراة"، "درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلًا، ولأعرف الشرَّ أنّه جهالة، والحماقة أنَّها جنون، فوجدت أَمَرَّ من الموت، المرأةَ التي هي شِباك، وقلبها أَشراك، ويداها قيود"، إلى أن قال: "رجلًا واحدًا بين ألف وجدت، أمَّا امرأةً فبين كلِّ أولئك لم أجد".

 

وقد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله -سبحانه-، وكانت تسمَّى في اليونان رجسًا من عمل الشيطان، وكانت ترى الروم وبعض اليونان أنْ ليس لها نفس، مع كون الرجل ذا نفس مجرَّدة إنسانيَّة، وقرَّر مجمع فرنسا (سنة 586 م)، بعد البحث الكثير في أمرها، أنَّها إنسان لكنَّها مخلوقة لخدمة الرجل، وكانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبًا لا تعدّ جزءًا من المجتمع الإنسانيّ، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء والعقائد وآداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم"[1].

 

3. الكرامة والسيادة:

يرفض القرآن الكريم بشدّة ما كان سائدًا عند العرب من اعتبار المرأة عارًا لهم. وفي هذا المقام يقول السيِّد العلَّامة رحمه الله: "وقد ذمَّ الله - سبحانه - الاستهانة بأمر البنات


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص89-90، بحث فلسفيّ ومقايسة بين القرآن والتوراة في أمر النساء.

 

 

47


35

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

بمثل قوله وهو من أبلغ الذمّ: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾[1]، ولم يكن تواريهم إلّا لعدّهم ولادتها عارًا على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنَّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتَّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجَن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مَرَّ وقد بالغ الله - سبحانه - في التشديد عليه حيث قال: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾[2].

 

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسلْ رينها من قلوبهم المربُّون، فتراهم يعدّون الزنا عارًا لازمًا على المرأة وبيتها، وإن تابت دون الزاني وإن أصرّ، مع أنَّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها"[3].

 

ففي تصوّرهم أنَّه إذا جاءت المرأة بأمرٍ مستهجنٍ غير مقبول كالزنا فإنّ عار ذلك يعود على بيتها وأهلها، وإن لم تكن راضية، لا لأجل قبح الزنا بل لأنّها امرأة، فالزنا من الرجل لا يجلب العار على أهله، مع أنّه أتى بالفاحشة! وكان ذلك أحد أسباب وأدها.

 

لم يرفض الإسلام اعتبار المرأة عارًا فحسب، بل كرّم المرأة ورفض جميع مظاهر الإستعباد والإستهانة بها، يقول العلاّمة: "فلم تزل البشريَّة منذ سكنت الأرض وكوَّنت أنواع المجتمعات الهمجيَّة أو الراقية أو ما هي أرقى تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذَلَّة مستعبَدة مقهورة، وليس يعدل هذا الإفراط والتفريط ولا يسوِّي هذا الاختلاف إلّا دين التوحيد.

 

 


[1] سورة النحل، الآية 59.

[2] سورة التكوير، الآية 9.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص271، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

48


36

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

فدين التوحيد هو السنَّة الوحيدة التي تقصر المولويَّة والسيادة على الله -سبحانه- وتسوِّي بين القويّ والضعيف والمتقدِّم والمتأخِّر والكبير والصغير والأبيض والأسود والرجل والمرأة، وتنادي بمثل قوله -تعالى-‏: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[1]، وقوله‏: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[2]"[3].

 

وقد جعل القرآن الكريم ميزان الأكرميّة محصورًا بالتقوى والإيمان وما يتفرّع عنهما، فلا كرامة للرجل على المرأة بما هو رجل. وهو ما خلص إليه العلَّامة في قوله: "ثمّ سوى[4] بينهم[5] جميعًا في العزَّة والكرامة، ثمّ ألغى كلَّ عزّة وكرامة إلَّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقوى والعمل، فقال: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[6]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[7]"[8].

 

ونجد هذا المعنى في كلام آخر له قدس سره، حيث يقول: "قوله -تعالى-: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾[9]، قال في المفردات: تزدري أعينكم أي تستقلُّهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلُّهم وتستهين بهم.

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] سورة آل عمران، الآية 195.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏10، ص143.

[4] الفعل يعود إلى الله.

[5] الرّجال والنّساء.

[6] سورة المنافقون، الآية 8.

[7] سورة الحجرات، الآية 13.

[8] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏6، ص345.

[9] سورة هود، الآية 31.

 

49


37

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

وهذا الفصل من كلامه عليه السلام[1] إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه وبنوا عليه سنَّة الأشرافيَّة وطريقة السيادة، وهو أنّ أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين: الأقوياء والضعفاء، أمَّا الأقوياء فهم أُولوا الطَّوْلِ وأرباب القدرة المعتضدون بالمال والعدَّة، وأمَّا الضعفاء فهم الباقون. والأقوياء هم السادة في المجتمع الإنسانيّ لهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقاد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعيَّة بالنسبة إلى كرسيِّ الحكومة المستبدّة، والعبيد بالنسبة إلى الموالي، والخدم والعَمَلَةِ بالنسبة إلى المخدومين والنساء بالنسبة إلى الرجال، وبالأُخرة كلُّ ضعيف بالنسبة إلى القويِّ المستعلي عليه.

 

بالجملة كان معتقدهم أنَّ الضعيف في المجتمع إنسان منحطّ أو حيوان في صورة إنسان، إنَّما يرد داخل المجتمع ويشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كدّ يمينه لحياته من غير عكس، بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة والعناية.

 

فهذا هو الذي كانوا يرونه وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، وقد ردّ نوح عليه السلام ذلك إليهم بقوله -تعالى-: ﴿وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ﴾[2]، ثمَّ بيَّن خطأهم في معتقدهم بقوله - تعالى -: ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ﴾[3]، أي إنَّ أعينكم إنَّما تزدريهم وتستحقرهم وتستهين أمرهم لما تحسُّ ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هو المِلاك في إحراز الخير ونيل الكرامة بل المِلاك في ذلك - وخاصَّةً الكرامات والمثوبات الإلهيّة- أمر النفس وتحلّيها بحلي الفضيلة والمنقبة المعنويَّة"[4].

 

وفي معرض كلامه قدس سره عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إرساء التوحيد ونفي الشركاء، يؤكّد المفاهيم التي مرّت سابقًا، فيقول: "وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سوَّى بين الناس في إجراء الأحكام

 


[1] نوح عليه السلام.

[2] سورة هود، الآية 31.

[3] السورة والآية نفسها.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق ، ج‏10، ص213-214.

 

50


38

تمهيد: فلسفة التفاوت والاختلاف

والحدود وقارب بين طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، والخادم والمخدوم، والغنيّ والفقير، والرجل والمرأة، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكُّم لأحد على أحد إلّا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه"[1].

 

إشكالات وردود

لم يُفرد السيّد الطباطبائيّ كلامًا خاصًّا يطرح فيه الإشكالين الآتي ذكرهما واللّذين قد يَرِدانِ إلى الذّهن، إنّما يُمكن من خلال بعض كلامه دفعهما. وبالتالي تمّ طرح هذين الإشكالين وما يُناسبهما من الأجوبة الموجودة في كلامه قدس سره.

 

الإشكال الأوَّل

إذا كانت المرأة تتساوى مع الرّجل في الحقيقة الإنسانيّة والكرامة، فما معنى قوله -تعالى-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾؟ أليس في ذلك اعتراف بأفضليَّة الرجل على المرأة وعدم مساواتها به في الفضل والكرامة والحقيقة؟

 

| الجواب الأوَّل |

 

في مقام الإجابة عن هذا الإشكال المُتوهَّم من آية الرجال قوَّامون على النساء، يقول العلَّامة الطباطبائيّ في معنى أفضليَّة الرجل على المرأة الوارد في هذه الآية المباركة ما نصّه: "ومن ذيل الآية يظهر أنّ التفضيل المذكور في قوله -تعالى-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[2]‏ الآية، إنّما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيويّة أعني المعاش أحسن تنظيم، ويصلح به حال المجتمع إصلاحًا جيِّدًا، وليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقيَّة في الإسلام، وهي القربى والزلفى من الله -سبحانه-، فإنَّ الإسلام لا يعبأ بشي‏ء من الزيادات الجسمانيَّة التي لا يُستفَاد منها إلّا للحياة المادِّيَّة وإنَّما هي وسائل يُتوسَّل بها لما عند الله"[3].

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏10، ص289، بناء سيرة النبيّ على التوحيد ونفي الشركاء.

[2] سورة النساء، الاية 34.

[3] المصدر نفسه، ج‏4، ص217.

 

 

51


39

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

يمكن لنا الإستنتاج، ممّا سبق، أنّ السيِّد العلَّامة يميّز، تبعًا للآيات القرآنيّة، بين معنى كلمتي الكرامة والتفاضل. فالمرأة والرجل يتمايزان من حيث الكرامة التي هي منوطة بالتقوى والإيمان حصرًا، ولا دخل للأنوثة والذّكورة فيها. وهذه الكرامة ترتبط بقرب الإنسان من الله وعلوّ مقامه، وبالتالي إليها يرجع الفضل الحقيقيّ. أمَّا مصطلح التفاضل فقد استعمله القرآن الكريم بين الرجل والمرأة وهو ليس له علاقة بمقام الإنسان المعنويّ وعلوِّ مقامه، وقد اعتبره السيّد الطباطبائيّ بمعنى الزيادة فيما يتعلّق ببعض أمور المعاش المرتبطة بعالم الدّنيا، كما مرّ في كلامه. وبالتالي هناك تفاضل بين المرأة والرجل. لكن وفق المصطلح القرآنيّ، لا يعني ذلك الأفضليّة بمعنى الفضل الحقيقيّ والكرامة، بل بمعنى المزيَّة في بعض الأحكام الشرعيّة، وذلك بغرض استقامة الحياة وفق النظام الأتمّ لا عبثًا. فالحياة الدنيا لا يمكن أن تستقيم أو أن تقوم أصلًا لو كان كلُّ البشر حكَّامًا، ولا إذا كانوا محكومين كلُّهم مثلًا، ولا إذا خُلقوا كلُّهم رجالًا أو كلُّهم نساءً والأمر واضح. لازمَ هذا الاجتماع البشريّ إقامة علاقات عادلة تتناسب وفق قدرات كلِّ موجود من الموجودات عامّةً، والأمر بالنسبة إلى الرجال والنساء ليس استثناءً، فبناءً على طبيعة الوجود الأنثويّ وخصائصه وطبيعة الوجود الذكوريّ وخصائصه تمّ تقسيم المهامّ الاجتماعيَّة من حيث العلاقة بينهما ليحصلا ومجتمعهما على أفضل نتيجة... لذا، فالرجال قوّامون على النساء من باب الوظيفة المتعلِّقة بعالم الدنيا وليس من باب الكرامة الإنسانيّة.

 

قد نهى الله عن تمنّي كلّ من الرجل والمرأة للمزايا المختصّة عند الآخر: "قوله -تعالى-: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[1]...، وظاهر الآية أنّها مَسُوقةٌ للنهي عن تمنّي فضل وزيادة موجودة ثابتة بين الناس، وأنَّه ناشئٌ عن تلبُّس بعض طائفتي الرجال والنساء بهذا الفضل، وأنَّه ينبغي الإعراض عن التعلُّق بمن له الفضل، والتعلُّق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده - تعالى -، وبهذا يتعيّن أنَّ المراد


 


[1] سورة النساء، الآية 32.

 

52


40

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

بالفضل هو المزيَّة التي رزقها الله تعالى كلًّا من طائفتي الرجال والنساء بتشريع الأحكام التي شُرِّعت في خصوص ما يتعلّق بالطائفتين كلتيهما كمزيَّة الرجال على النساء في عدد الزوجات، وزيادة السهم في الميراث، ومزيَّة النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهنَّ، ووجوب نفقتهنَّ على الرجال"[1]، أي أنّه يجب على كلٍّ من الرجال والنساء عدم تمنّي الفضل الذي حَظيَ به الآخر لفلسفة وحكمة في الخلقة كالمزيَّة التي خصّها -تعالى- بالنساء، كوجوب النفقة أو المزيَّة التي أولاها للرجال كإباحة تعدّد الزوجات، بل عليه التوجُّه إلى صاحب الفضل وأصل الخلق وهو الله -تبارك وتعالى- في تمنِّيه وسؤاله الفضل والخير.

 

| الجواب الثاني |

 

ضمن المجال ذاته يُكرّر السيّد الطباطبائيّ فكرته ويضيف إليها عند الكلام على الاختصاص والتفاوت المال يّبين النساء والرّجال، حيث يُحيل السّبب في ذلك على موقعيّة كلٍّ من الرجل والمرأة في المجتمع. هذا في حال كان سبب الخصوصيّة متعلّقًا بالذكورة والأنوثة. أمّا إن كان خارجًا عنها، فهو يعود إلى تَكَسُّب كلٍّ منهما عن طريق العمل. يقول (رضوان الله عليه): "قوله -تعالى-: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ﴾[2]، ذكر الراغب: أنّ‏ الاكتساب‏ إنَّما يُستعمل فيما استفاده الإنسان لنفسه، والكسب‏ أعمّ ممَّا كان لنفسه أو لغيره، والبيان المتقدّم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينّة للنهي السابق عن التمنّي وبمنزلة التعليل له، أي لا تتمنَّوْا ذلك فإنَّ هذه المزيَّة إنَّما وُجدَت عند من يختصّ بها لأنّه اكتسبها بالنفسيّة التي له أو بعمل بدنه فإنَّ الرجال اختصُّوا بجواز اتِّخاذ أربع نسوة مثلًا وحرّم ذلك على النساء، لأنَّ موقعهم في المجتمع الإنسانيّ موقع يستدعي ذلك من دون موقع النساء، وخُصّوا في الميراث بمثل حظِّ الأنثيين لذلك أيضًا، وكذلك النساء خُصِّصْنَ بنصف سهم الرجال وجعل نفقتهنَّ على الرجال، وخُصِّصْنَ بالمهر لاستدعاء موقعهنَّ ذلك، وكذلك


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص336.

[2] سورة النساء، الآية 32.

 

53


41

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارةٍ أو طريقٍ آخر هو الموجب للاختصاص، وما الله ظلَّامًا للعباد"[1].

 

ومؤدّى كلامه رحمه الله أنّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[2]، حيث نُهِيَ النساء والرجال أن يتمنّى أيٌّ منهم مزيَّة الآخر. لماذا؟ يأتي الجواب من الآية الشريفة، لأنّه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾[3]، فهذا القسم من الآية هو تعليلٌ لما سبقه من نهي. فلا تتمنَّوا مزايا الآخر لأنّه اختُصّ بها بسبب اكتسابه لها. ولقد اكتسبها إمّا بسبب طبيعته وموقعه في المجتمع الإنسانيّ (من ذكورة أو أنوثة)، وإمّا بسبب عملٍ قام به، فحاز تلك المزيَّة واختصّت به.

 

يقول العلاّمة رحمه الله: "ومن هنا يظهر أنّ المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة والاختصاص أعمّ من أن يكون بعمل اختياريّ كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك، لكنَّه ينتهي إلى تلبّس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبُّس الإنسان بذكوريَّة أو أنوثيّة تُوجب له سهمًا ونصيبًا كذا...، وكيف ما كان فمعنى الآية على ما تقدّم من المعنى: ولا تتمنَّوْا الفضل والمزيَّة الماليّ وغير الماليّ الذي خصَّ الله - تعالى - به أحد القبيلين من الرجال والنساء ففضَّل به بعضكم على بعض فإنَّ ذلك الفضل أمر خصَّ به بعضهم لأنَّه أحرزه بنفسيّته في المجتمع الإنسانيّ أو بعمل يده بتجارة ونحوها، وله منه نصيب، وإنَّما يَنالُ كلٌّ نصيبه ممَّا اكتسبه"[4].

 

وفي كلامٍ آخر مشابهٍ لما سبق ذكره، يقول العلَّامة قدس سره: "قال - تعالى -: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[5]، يريد أنَّ الأعمال التي يُهديها كلٌّ من الفريقين إلى المجتمع هي المِلاك لما اختصّ به من الفضل، وأنَّ

 


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص336-337-338، تفسير الآية 32، سورة النساء.

[2] سورة النساء، الآية 32.

[3] السورة والآية نفسها.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص336-337-338، تفسير الآية 32، سورة النساء.

[5] سورة النساء، الآية 32.

 

54


42

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

من هذا الفضل ما تعيَّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلَّا بعمل العامل كائنًا من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله -تعالى- بعده: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ‏﴾[1]، على ما سيجي‏ء بيانه"[2].

 

يشير العلَّامة في موضعٍ آخر إلى مرجع هذه الزيادة وأصلِها، بأنّها زيادة التعقّل عند الرجل على ما هو عند المرأة، وأنّ هذه الزيادة ليست بالفضل والكرامة الحقيقيّة. يقول قدس سره: "فقد تحصّل أنَّ الرجال فُضِّلوا على النساء بروح التعقُّل الذي أوجب تفاوتًا في أمر الإرث وما يشبهه، لكنَّها فضيلة بمعنى الزيادة، وأمَّا الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت"[3].

 

ويتحدّث العلَّامة عن سَبب وعلّة النّهي عن تمنّي الرجل والمرأة لمزايا الآخر؛ وهو تَحَوُّل هذا التمنّي عند تكرّره إلى حسد يَسري عند استقراره في القلوب إلى مقام العمل، وبالتالي يؤدِّي إلى الإفساد في الأرض،حيث يقول قدس سره: "فالنهي عن تمنّي هذه المزيَّة التي اختصّ بها صاحبها إنَّما هو لقطع شجرة الشرّ والفساد من أصلها فإنَّ هذه المزايا ممَّا تتعلَّق به النفس الإنسانيّة لما أودعه الله في النفوس‏ من حبِّها والسعي إليها لعمارة هذه الدار، فيظهر الأمر أوّلًا في صورة التمنِّي فإذا تكرَّر تبدَّل حسدًا مستبطنًا فإذا أُديم عليه فاستقرّ في القلب وسرى إلى مقام العمل والفعل الخارجيّ، ثمَّ إذا انضمّت بعض هذه النفوس إلى بعضها كان ذلك بلوى تُفسد الأرض، وتُهلك الحرث والنسل"[4].


 


[1] سورة النساء، الآية 34.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص271-272، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[3] المصدر نفسه، ج‏4، ص217.

[4] المصدر نفسه، ص336-337، تفسير الآية 32، سورة النساء.

 

55


43

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

من هذا الفضل ما تعيَّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلَّا بعمل العامل كائنًا من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله -تعالى- بعده: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ‏﴾[1]، على ما سيجي‏ء بيانه"[2].

 

يشير العلَّامة في موضعٍ آخر إلى مرجع هذه الزيادة وأصلِها، بأنّها زيادة التعقّل عند الرجل على ما هو عند المرأة، وأنّ هذه الزيادة ليست بالفضل والكرامة الحقيقيّة. يقول قدس سره: "فقد تحصّل أنَّ الرجال فُضِّلوا على النساء بروح التعقُّل الذي أوجب تفاوتًا في أمر الإرث وما يشبهه، لكنَّها فضيلة بمعنى الزيادة، وأمَّا الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت"[3].

 

ويتحدّث العلَّامة عن سَبب وعلّة النّهي عن تمنّي الرجل والمرأة لمزايا الآخر؛ وهو تَحَوُّل هذا التمنّي عند تكرّره إلى حسد يَسري عند استقراره في القلوب إلى مقام العمل، وبالتالي يؤدِّي إلى الإفساد في الأرض،حيث يقول قدس سره: "فالنهي عن تمنّي هذه المزيَّة التي اختصّ بها صاحبها إنَّما هو لقطع شجرة الشرّ والفساد من أصلها فإنَّ هذه المزايا ممَّا تتعلَّق به النفس الإنسانيّة لما أودعه الله في النفوس‏ من حبِّها والسعي إليها لعمارة هذه الدار، فيظهر الأمر أوّلًا في صورة التمنِّي فإذا تكرَّر تبدَّل حسدًا مستبطنًا فإذا أُديم عليه فاستقرّ في القلب وسرى إلى مقام العمل والفعل الخارجيّ، ثمَّ إذا انضمّت بعض هذه النفوس إلى بعضها كان ذلك بلوى تُفسد الأرض، وتُهلك الحرث والنسل"[4].


 


[1] سورة النساء، الآية 34.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص271-272، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[3] المصدر نفسه، ج‏4، ص217.

[4] المصدر نفسه، ص336-337، تفسير الآية 32، سورة النساء.

 

55


43

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

الإشكال الثاني

يستنكر -تعالى- من نسبةَ المشركين البنات إليه، حيث يقول: ﴿وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ * أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾[1]، وهو ما يثير إشكالًا مفاده: أليس في ذلك إشارة مبطّنة منه - تعالى - إلى استحقار البنات؟ وأنّ البنين أفضل منهنّ؟

 

| الجواب |

يُعثَرُ على جواب هذا الإشكال في كلام العلَّامة الطباطبائيّ الآتي: "قولِهِ-تعالى-:

﴿وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ﴾ عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلًا من غير علم فاحترموا لأنفسهم وأساءوا الأدب مجترئين على الله‏ - سبحانه - حيث اختاروا لأنفسهم البنين وكرهوا البنات لكنَّهم نسبوها إلى الله -سبحانه-.

 

فقوله - تعالى -: ﴿وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ‏﴾ هو أخذهم الآلهة دون الله أو بعض الآلهة إناثًا، وقولهم: "إنَّهنَّ بنات الله"، وقد قيل: "إنّ خزاعة وكنانة كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله..."[2].

 

وقوله: ﴿وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ﴾ ظاهر السياق أنَّه معطوف على ﴿لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ‏﴾، والتقدير ويجعلون لهم ما يشتهون، أي يثبتون لله -سبحانه- البنات باعتقاد أنَّ الملائكة بناته ويثبتون لأنفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل البنات ووأدها، والمحصِّلة أنَّهم يرضون لله بما لا يرضون به لأنفسهم.

 

وقولُهُ -تعالى-: ﴿أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ هو حكمهم أنَّ له البنات ولهم البنون لا لهوان البنات وكرامة البنين في الأمر نفسِهِ بل معنى هذا الحكم عندهم أن يكون لله ما يكرهون ولهم ما يحبُّون..."[3].


 


[1] سورة النّحل، من الآية 57 إلى الآية 59.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏12، ص274-275.

[3] المصدر نفسه.

 

56


44

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

ويماثل هذا الإشكالَ، إشكالانِ آخرانِ يُمكن توهّمهما ويتعلَّقان بالآيتين المباركتين:

﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ﴾[1].

 

﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾[2].

 

وما ذكره السيّد عند تفسيره لآية ﴿وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ﴾[3]، والّذي أوردناه في الأسطُر السّابقة كافٍ لدفع هذين الإشكالين وجميع الإشكالات المشابهة.

 

التفاوت عن الرجل

في المقابل، كما ثمّة أمورٌ تتساوى فيها المرأة والرّجل، فإنّ كُلًّا منهما يتفاوت عن الآخر في بعض الخصائص التكوينيّة، وقد ذكر العلَّامة الطباطبائيّ قدس سره منها الآتي:

1. البُنية الجسديَّة:

يعتقد (رضوان الله عليه) بوجود تفاوت في البُنية الجسديّة بين الرّجل والمرأة، ويوضّح هذا التفاوت في قولِهِ الآتي: "لكنَّها المرأة مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف عن الرجال من جهةٍ أخرى، فإنَّ المتوسِّطة من النساء تتأخَّر عن المتوسِّط من الرجال في الخصوصيَّات الكماليَّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فنّ وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنَّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب"[4].

 

حيث يسجّل في علم التشريح اختلافات على مستوى البُنية الجسديَّة بين المرأة والرجل، فنجد مثلًا أنَّ حجم دماغ الرجل أكبر من حجم دماغ الأنثى وكذلك قلبه[5] (دون أن يعني ذلك أنَّه أكثر منها ذكاءً أو محبَّةً ولا العكس!) والاختلافات الظاهريَّة


 


[1] سورة الزّخرف، الآية 16.

[2] سورة النجم، الآية 21.

[3] سورة النحل، الآية 57.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص275–276.

[5] هكذا ذكر رحمه الله، ويمكن التثبّت من ذلك من خلال مراجعة العديد من المصادر العلميّة المتخصّصة في هذا المجال، والتي تحكي صدق ودقّة ما ذكره.

 

57


45

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

من حيث القامة والوزن وغيرها واضحة جليَّة، لكنّ هذه الأمور هي خصوصيّات كماليّة، كما عبَّر العلَّامة، لا تؤثِّر في الاتّحاد الحقيقيّ بينهما في كونهما إنسانًا، وإنَّما هذه الخصوصيَّات هي تبعٌ لوظائف كلٍّ منهما في هذه الحياة الدنيا التي تستلزم بُنية خشنة صلبة للرجل وأخرى لطيفة ناعمة للمرأة، فغاية الأمر هو القول بالاختلاف بين البنيتين الجسديَّتين للمرأة والرجل لأسباب تتَّضح فيما يأتي.

 

2.البُنية الذّهنيّة والعاطفيّة (التعقّل والشدّة في الرجل، والعاطفة في المرأة):

يختصّ الرجل عن المرأة ويتميّز بكون التعقّل فيه أقوى منه ممّا عندها، حيث يقول السيِّد العلَّامة: "وينبغي أن يكون زيادة روح التعقُّل بحسب الطبع في الرجل ومزيَّته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله -سبحانه- في قوله، عزَّ من قائل: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ﴾[1]، دون الزيادة في البأس والشدّة والصلابة"[2]‏. ففي نظر العلَّامة أنَّ الآية الشريفة الحاكية عن الفضل، المقصود فيها هو أنّ روح التعقّل عند نوع الرجال أزيد منه عند نوع النساء، لا أنّ المقصود بالفضل زيادة الرجال على النساء من حيث الشدَّة والصلابة والبأس.. لماذا؟

 

يُكمل العلَّامة فيقول: "فإنَّ الغلظة والخشونة في قبيل الرجال، وإن كانت مزيَّة وجوديَّة يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتَّب عليها في المجتمع الإنسانيّ آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والأعمال الشاقّة وتحمّل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والأهوال - وهذه شؤون ضروريَّة في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطَّبع - لكنَّ النساء أيضًا مجهّزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، ولها آثار هامَّة في أبواب الأُنس والمحبَّة والسكن والرحمة والرأفة، وتحمّل أثقال التناسل والحمل والوضع


 


[1] سورة النساء، الاية 34.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص215.

 

58


46

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت، ولا يصلح شأن الإنسان بالخشونة والغلظة لولا اللِّينة والرقَّة ولا بالغضب لولا الشهوة ولا أمر الدنيا بالدفع لولا الجذب"[1]. وعليه لا تكون تلك الصفات من الغلظة والخشونة هي الفضل المشار إليه بالآية الشريفة، لأنَّه يوجد ما يقابله عند النساء وبهما تكتمل الحياة وتستقيم أمور الاجتماع البشريّ، بل الفضل الذي اعتبره العلَّامة بمعنى الزيادة وليس بمعنى الكرامة؛ هو غلبة روح التعقُّل عند الرجال على ما عند النساء كما مرّ. ثمّ يؤكِّد العلَّامة رحمه الله على هذه المسألة فيقول: "فقد تحصّل من جميع ما قدَّمنا أنَّ الرجال فُضِّلوا على النساء بروح التعقُّل الذي أوجب تفاوتًا في أمر الإرث وما يشبهه، لكنَّها فضيلة بمعنى الزيادة، وأمَّا الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت"[2]‏.

 

هذا وقد تعرّض رضوان الله عليه إلى أمر هامّ جدًّا سبقت الإشارة إليه، وهو العلاقة التكامليّة بين الرّجل والمرأة، وهي بمعنى أنّ الحياة في المجتمع الإنسانيّ لا تستقيم ولا تقوم إلّا بهذا التفاوت في الغلظة وظرافة الإحساسات العاطفيّة الموجودتَيْن بين الرّجل والمرأة، وما يستتبعهما من آثار عمليّة واجتماعيّة، حيث يقول: "وبالجملة هاتان (الخشونة والغلظة، والليونة والرقَّة) تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة، يتعادل بهما كفَّتا الحياة في المجتمع المختلط المركَّب من القبيلين، وحاشاه -سبحانه- أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمِهِ، أم يخافون أن يحيف الله عليهم‏[3]، ولا يظلم ربّك أحدًا[4] وهو القائل: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[5]، وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضيَّة بقوله في الآية: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص215-216.

[2] المصدر نفسه، ص216.

[3] سورة النور، الآية 50.

[4] سورة الكهف، الآية 49.

[5] سورة آل عمران، الآية 195.

 

59


47

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

وقال أيضًا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1]، فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان (وهو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش، وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسُّل إلى القوَّة والشدَّة حتّى ما في المغالبات والغزوات والغارات، ولو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكرّ وآخر يفرّ.

 

لكنَّ الله -سبحانه- خلق النساء وجهَّزهنَّ بما يوجب أن يسكن إليهنَّ الرجال، وجعل بينهم مودّة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودَّة والرحمة، فالنساء هنّ الركن الأوّل والعامل الجوهريّ للاجتماع الإنسانيّ. ومن هنا، ما جعل الإسلام الاجتماع المنزليّ وهو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2]،[3]‏.

 

ويؤكّد السيّد ما سبق في موردٍ آخر بقوله: "ولا ينافي ذلك (كون الرجال والنساء من طبيعة إنسانيّة واحدة) اختصاص كلٍّ من الطائفتين بخصلة تختصُّ بها كاختصاص الرجال بالشدَّة والقوَّة نوعًا، واختصاص النساء بالرقَّة والعاطفة طبعًا فإنَّ الطبيعة الإنسانيّة في حياتها التكوينيّة والاجتماعيَّة جميعًا تحتاج إلى بروز الشدَّة وظهور القوّة كما تحتاج إلى سريان المودَّة والرحمة، والخصلتان جميعًا مظهرًا الجذب والدفع العامَّيْن في المجتمع الإنسانيّ"[4].

 

وفي سياق آخر، يبيِّن العلَّامة الطباطبائيّ أنّ تلك الأمور اللَّازمة لصنف الرجال كالصلابة والشدَّة، والأخرى اللَّازمة لِصنف النساء من الرقَّة واللطافة، هي مواهب


 


[1] سورة الروم، الآية 21.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص217.

[4] المصدر نفسه، ص256.

 

60


48

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

إلهيَّة متناسبة مع طبيعتهم وقرائحهم، وهي تنبثق من تلك الطبيعة التي خُلِقوا عليها، لا أنَّها مسائل اتفاقيّة حدثت بسبب التربية والعوامل الخارجيَّة، فيقول قدس سره: "ولو صحَّ لنا أن نعدَّ الأمور اللَّازمة للنوع غير المنفكَّة عن مجتمعهم وخاصَّة إذا ناسبت أمورًا داخليَّة في البُنية الإنسانيّة من الاتفاقيّات لم يَسَعْ لنا أن نحصل على خلَّة طبيعيّة فطريّة من الخِلال الإنسانيّة العامّة، تميل طباعه إلى المدنيّة والحضارة، وحبّه للعلم، وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك فإنَّ هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بُنية أفراده ما يناسبها من القرائح نَعُدُّها لذلك صفات فطريّة نظير ما نَعُدُّ تقدُّم النساء في الأمور الكماليّة المستظرفة وتأخُّرهنَّ في الأمور التعقُّليَّة والأمور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهنّ، وكذلك تقدّم الرجال وتأخّرهم في عكس ذلك.

 

فلا يبقى بعد ذلك كلّه إلّا انقباضهنَّ من نسبة كمال التعقُّل إلى الرجال وكمال‏ الإحساس والتعطُّف إليهنَّ، وليس في محلّه، فإنّ التعقُّل والإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيَّتان مودعتان في بُنية الإنسان لمآرب إلهيّة حقَّة في حياته، لا مزيّة لإحداهما على الأخرى ولا كرامة إلّا للتقوى. وأمَّا الكمالات الأُخَرُ كائنة ما كانت فإنَّما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه، وإلّا لم تعد إلَّا أوزارًا سيِّئة"[1].

 

فقد بيّن العلَّامة أنّه لو سلَّمنا أنّ الاختلافات الموجودة بين النساء والرجال هي من آثار التربية فحسب ولا منشأ واقعيًّا لها، لكان لازمًا علينا ألّا نقبل بوجود أيّ سجيَّة فطريَّة أصيلة عند الإنسان بشكلٍ عامّ، كمَيْل الإنسان نحو المدنيّة، وحبِّه للعلم والكمال وغيرها.. عندها، علينا القول إنّ كلَّ تلك الأمور أيضًا أمورٌ ناشئة من التربية فحسب. كما أكّد (رضوان الله عليه) أنّ تأخّر النساء عن الرجال في نسبة كمال التعقّل، وتأخّر الرجال عن النساء في نسبة كمال الإحساس يعبّر عن وجود موهبتين إلهيَّتين في بُنية الإنسان أصلًا، لأهداف ومآرب إلهيَّة حقّة لتحقيق الهدف من الخلقة، فلا فضل ولا تفاضل لأحدهما على الأخر! وهاتان المزيَّتان وغيرهما من الكمالات

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص229-231.

 

61


49

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

الإلهيَّة المودعة في الإنسان إنّما تنمو وتربو إذا وقعت في صراط الله المستقيم، وإلَّا كانت وزرًا على صاحبها.

 

علاوةً على ما تقدّم، فإنّ العلَّامة الطباطبائيّ يذهب في بحثه بعيدًا في مقاربته للتفاوت والاشتراك بين الرجال والنساء، فيعتبر أنّ المرأة لا تنقص عن الرجل في إنسانيّتها، وأنّ مفردة الرجال قد تُستخدَم في القرآن الكريم للدلالة على الأفراد التامِّين في إنسانيّتِهِم. وبلحاظِ هذا المعنى تَصْدُقُ هذه المفردة على بعض النساء كصدقها على بعض الرجال. يقول رحمه الله: "ثمّ إنَّ التعبير بمثل قوله: ﴿رِجَالٌ يَعْرِفُونَ‏﴾ إلخ، وخاصّةً بالتنكير، يدلُّ، بحسب عرف اللغة، على اعتناء تامّ بشأن الأفراد المقصودين باللفظ، نظرًا إلى دلالة الرجل، بحسب العادة، على الإنسان القويّ في تعقُّله وإرادته الشديد، في قوامه".

 

وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه -تعالى- من مثل هذا التعبير كقوله -تعالى-:

﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾[1]، وقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾[2]، وقولِهِ: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾[3]، وقولِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ﴾[4] حتَّى في مثل قوله: ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ﴾[5]، وقولِهِ: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾[6]. فالمراد "برجال" في الآية أفراد تامّون في إنسانيّتهم (أي أنَّهم بشرٌ فقط لا يشمل اللفظ الملائكة ولا الجنّ) لا محالة، وإن فرضَ أنَّ فيهم أفرادًا من النساء كان من التغليب"‏[7].


 


[1] سورة النور، الآية 37.

[2] سورة التوبة، الآية 108.

[3] سورة الأحزاب، الآية 23.

[4] سورة يوسف، الآية 109.

[5] سورة ص، الآية 62.

[6] سورة الجن، الآية 6.

[7] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏8، ص123.

 

62


50

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

الميول (حبّ الزينة/ مَيْل الأنثى إلى الذكر)

تختصّ المرأة من دون الرّجل ببعض الميول، وذلك من قبيل:

1. المَيْل الغريزيّ نحو الرّجل:

تميل الأنثى، من الناحية الشهويّة والغريزيّة، إلى الذكر من دون الأنثى، كما يميل الذّكر إلى الأنثى، وذلك بحسب نظام الخلقة. يقول قدس سره: "قولِهِ - تعالى -: ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۚ‏﴾[1]، ﴿وَتَذَرُونَ‏﴾ بمعنى تتركون ولا ماضي له من مادّته.

 

والمتأمّل في خلق الإنسان وانقسام أفراده إلى صنفي الذكر والأنثى وما جُهّز به كلٌّ من الصنفين من الأعضاء والأدوات وما يختصّ به من الخلقة، لا يرتاب في أنَّ غرض الصنع والإيجاد من هذا التصوير المختلف وإلقاء غريزة الشهوة في القبيلين وتفريق أمرهما بالفعل والانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسّل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتّى حين.

 

فالرجل من الإنسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه، لا لرجل مثله. والمرأة من الإنسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها، وما يختصّ به الرجل في خلقته للمرأة وما تختصّ به المرأة في خلقتها للرجل وهذه هي الزوجيَّة الطبيعيّة التي عقدها الصنع والإيجاد بين الرجل والمرأة من الإنسان فجعلهما زوجين"[2]. فالزوجيَّة الطبيعيّة بأن جُعل الذكر والأنثى زوجين جرّاءها هي كون الرجل، من حيث هو رجل بالمعنى الطبيعيّ البيولوجيّ، خُلق على هذا النحو لأجل المرأة، والعكس صحيح، ولأجل هذا الاختلاف الطبيعيّ البيولوجيّ كانا زوجين.

 

بناءً على ما تقدّم، أي توافر أرضيّة طبيعيّة لكون الرجل والمرأة زوجين، صار هناك زواج واقتران بالمعنى الاجتماعيّ، حيث يقول العلَّامة: "ثمّ الأغراض والغايات

 

 


[1] سورة الشعراء، الآية 166.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏15، ص309.

 

63


51

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

الاجتماعيَّة أو الدينيّة سَنَّت بين الناس سنّة النكاح الاجتماعيّ الإعتباريّ الذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين وقسم من التحديد للزوجيَّة الطبيعيّة المذكورة. فالفطرة الإنسانيّة والخلقة الخاصّة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء من دون الرجال وازدواج النساء بالرجال من دون النساء، وأنَّ الازدواج مبنيٌّ على أصل التوالد والتناسل من دون الاشتراك في مُطلق الحياة"[1]. فالعلَّامة يرى أنَّ الفطرة الإنسانيّة هي كفيلة بهداية الإنسان إلى الزواج الطبيعيّ الذي تحدّثنا عنه، من دون الشذوذ بين كلٍّ من الجنسين. بالإضافة إلى تلك الفطرة تأتي الأغراض والغايات الاجتماعيَّة أو الدينيّة لتسنّ النكاح الاجتماعيّ الإعتباريّ الذي يحدّد تلك الزوجيَّة الطبيعيّة، ولمزيدٍ من التوضيح يقول العلَّامة: "ومن هنا يظهر أنَّ الأقرب أن يكون المراد بقوله -تعالى-: ﴿مَا خَلَقَ لَكُمۡ رَبُّكُم‏﴾ العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج واللام للملك الطبيعيّ، وأنَّ قَوْلَه -تعالى-: ﴿مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۚ‏﴾ للتبعيض، والزوجيَّة هي الزوجيَّة الطبيعيّة وإن أمكن أن يُراد بها الزوجيَّة الاجتماعيَّة الإعتباريّة بوجه. وأمَّا تجويز بعضهم أن يُراد بلفظة "ما" النساء ويكون قَوْلُه: ﴿مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۚ‏﴾ بيانًا له فبعيد. وقَوْلُه: ﴿بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٌ عَادُونَ‏﴾ أي متجاوزون خارجون عن الحدّ الذي خطّته لكم الفطرة والخلقة فهو في معنى قَوْله: ﴿أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ﴾[2]. وقد ظهر من جميع ما مرّ أنّ كلامه عليه السلام[3] مبنيٌّ على حجَّة برهانيَّة أُشيرَ إليها"[4].

 

ويذكر العلَّامة الحكمة من إيداع هذا الميل الشهوانيّ عند كلّ من الذكر والأنثى إلى الجنس الآخر، فيقول: "ونعلم أنّ نظام الصنع والإيجاد أراد من النوع الإنسانيّ البقاء النوعيّ ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثمَّ احتيلَ إلى هذا الغرض بتجهيز البُنية الإنسانيّة بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربِّيه ويكوِّنه إنسانًا جديدًا يخلف الإنسان القديم فتمتدّ به سلسلة النوع من غير انقطاع، واحتيلَ إلى تسخير هذا الجهاز للعمل


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏15، ص309-310.

[2] سورة العنكبوت، الآية 29.

[3] أي النبي لوط عليه السلام.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏15، ص309-310.

 

64


52

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

والإنتاج بإيداع القوَّة الشهوانيَّة التي يحنُّ بها أحد القبيلين (الذكر والأنثى) من الأفراد إلى الآخر، وينجذب بها كلٌّ إلى صاحبه بالوقوع عليه والنيل، ثمّ كمَّل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقة"[1].

 

فلمّا خلق الله -عزّ وجلّ- الخلق، أراد استمرار نوع الإنسان ببقاء أفراده، ولهذه الغاية جهّز جنسَيِ البشر بجهاز تناسليّ ملائم للغاية. لكنَّ ذلك ليس كافيًا، فمجرّد وجود الجهاز المناسب لا يعني استمرار السلالة البشريّة، فيُمكِن للإنسان أن لا يُقدِم على الزواج بكلِّ بساطة.. فلكي تتحقّق الغاية الإلهيّة أوجد - عزَّ وجلَّ - تلك القوّة الشهويَّة والميل والرغبة عند الرجال بالنساء وعند النساء بالرجال ليضمن استمرار البشر. ولم يَقِفْ الأمر عند ذلك الحدّ، بل كمّل اللوحة البديعة بالعقل الذي يأبى أن يعمّ الفساد لو تُركت القوَّة الشهويَّة على رِسْلِها.

 

يقول: "فالتجهُّز التكوينيُّ يدعو الإنسان إلى الازدواج طلبًا للنسل من طريق الشهوة، والعقل المودَعُ فيه يضيف إلى ذلك التحرُّز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسدة لسعادة العيش، الهادمة لأساس البيوت، القاطعة للنسل. وهذه المصلحة المركَّبة، أعني مصلحة الاستيلاد والأمن من دبيب الفحشاء، هي المِلاك الغالبيُّ الذي بُني عليه تشريع النكاح في الإسلام"[2].

 

وفي السياق نفسِهِ، يقول العلَّامة في موضعٍ آخر من الميزان: "من المشهود أنَّ في كلٍّ من الزوجين من الإنسان أعني الذكر والأنثى إذا أدرك وصحَّت بُنيته، ميلًا غريزيًّا إلى الآخر، وليس ذلك ممَّا يختصّ بالإنسان، بل ما نجده من عامّة الحيوان أيضًا على هذه الغريزة الطبيعيَّة"؛ أي أنّ السياق الطبيعيَّ للبشر وحتَّى للحيوانات أنَّه متى ما بلغوا عمرًا معيَّنًا فصار مدركًا مثلًا، وكان صحيح البُنية سليمًا غير سقيم، فإنَّ ذلك الميل سيظهر تلقائيًّا وعدم ظهوره يُبيِّن عن مشكلة في الإدراك أو في الجسم.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص270.

[2] المصدر نفسه.

 

65


53

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

ثمّ يقول رحمه الله: "وقد جهَّز، بحسب الأعضاء والقوى، بما يدعوه إلى هذا الاقتراب والتمايل، والتأمُّل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبًا في أنَّ هذه الشهوة الطبيعيّة وسيلة تكوينيَّة إلى التوالد والتناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، وقد جُهِّز بأمور أخرى متمِّمة لهذه البغية الطبيعيّة كحبِّ الولد وتجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذّي طفلها حتّى يستطيع التقام الغذاء الخشن ومضغه وهضمه، فكلُّ ذلك تسخير إلهيٌّ يُتَوسَّل به إلى بقاء النوع.

 

ولذلك نرى أنَّ الحيوان، مع افتقاره إلى الاجتماع والمدنيَّة لسذاجة حياته وقلّة حاجته، يهتدي حينًا بعد حين، بحسب غريزته، إلى الاجتماع الزوجيّ (السِّفاد)، ثمَّ يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفلَ أو الفرخَ ويتكفَّلان أو تتكفَّل الأنثى تغذيته وتربيته حتّى يدرك ويستقلّ بإدارة رحى حياته.

 

ولذلك أيضًا لم يزل الناس، منذ ضبط التاريخ سيرهم وسننهم، تجري فيهم سُنَّة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص والملازمة بين الرجل والمرأة لتُجاب به داعية الغريزة ويُتوسَّل به إلى إنسال الذرِّيَّة، وهو أصل طبيعيٌّ لانعقاد المجتمع الإنسانيّ"[1].

 

وتجدر الإشارة إلى أنّه على الرّغم من وجود الرّغبة والميول الشهوانيَّة عند كلٍّ من الرجل والمرأة تجاه الآخر، إلّا أنّ الميل الشّهوانيّ عند الرّجل أشدّ ممّا هو عند المرأة، وهو ما نستنتجه من كلام العلَّامة في مَعرِض تفسيره للآية المباركة: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَ‍َٔابِ﴾[2]، حيث يقول: "ولنرجع إلى ما كنّا فيه من الكلام في قوله -تعالى-: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ‏﴾ فنقول: الظاهر أنَّ فاعل زيَّن غيرُه -تعالى- وهو الشيطان أو النفس"[3].


 


[1] الميزان في تفسير القرآن، ج‏13، ص86-87، كلام في حرمة الزنا، وبحث قرآنيٌّ اجتماعيّ.

[2] سورة آل عمران، الآية 14.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏3، ص102

 

 

66


54

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

ثم يقول: "وبناءً التعداد في الآية ليس على كثرة حبِّ الشهوات بحسب كثرة المشتهيات؛ أعني متعلّقات الشهوة، بمعنى أنَّ الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج والأولاد والمال، حتَّى يتكلَّف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس والتعبير عن الأولاد بخصوص البنين، والتعبير عن المال بالقناطير المقنطرة إلخ...، بما تكلّف به جمع من المفسِّرين.

 

بل على كون الناس أصنافًا في الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا، فمن هو شهوانيّ لا همّ له إلّا التعشُّق بالنساء وغرامهنَّ والتقرُّب إليهنَّ والأنس بصحبتهنَّ، ويستصحب ذلك أذنابًا من وجوه الفساد ومعاصي الله -سبحانه- كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات وأمور أخرى غيرهما، وهذا ممّا يختصّ بالرجال عادةً، ولا يوجد في النساء إلّا في غاية الشذوذ"[1]. والمقصود أنّ الشيطان أو النفس قد زيّن للناس حُبَّ الشهوات، لكن ليس المقصود من ذلك الميل نحو الزواج والأولاد والمال، وهو الموجود عند كلِّ البشر كتجلٍّ لفطرة حبِّ الكمال المطلق لديهم، وإنَّما المُراد في الآية الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا والذي هو من فعل الشيطان أو النفس الأمَّارة بالسوء. ويؤيِّدها التعداد الحاصل في الآية، فهذا التعداد يتحدّث عن أصناف الناس المولعة بمشتهيات الدنيا، فصنف منهم هو المتعشّق بالنساء وصنف مولع بالبنين...: "ومن هنا، يتأيّد ما تقدّمت الإشارة إليه من أنَّ المراد بحبّ الشهوات التوغُّل والانغمار في حبِّها (وهو المنسوب إلى الشيطان) من دون أصل الحُبِّ المودع في الفطرة (وهو المنسوب إلى الله سبحانه)"[2].

 

2. التعلّق الشّديد بمظاهر الزينة:

ممّا تختصّ به المرأة هو حبّها وتعلّقها الشديد بمظاهر الزّينة. يقول العلَّامة في تفسيره للآية 18 من سورة الزّخرف ما يلي: "قوله -تعالى-: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏3، ص105

[2] المصدر نفسه، ص106.

 

67


55

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ‏﴾،[1] أي أَوَ جعلوا لله -سبحانه- من يُنَشَّأُ في الحِلْية أي يتربَّى على الزينة وهو في المخاصمة والمحاجَّة غير مبين لحجّته لا يقدر على تقرير دعواه؟!

 

وإنَّما ذكر هذين النعتين لأنَّ المرأة بالطبع أقوى عاطفة وشفقة وأضعف تعقُّلًا بالقياس إلى الرجل، وهو بالعكس ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها تعلّقها الشديد بالحِلْية والزينة وضعفها في تقرير الحُجَّة المبنيّ على قوّة التعقُّل"[2]. وقد عبّر العلَّامة، بالطبع تأكيدًا منه، أنَّ هاتين الخصلتين (التعلُّق الشديد بالزينة وضعف الحجَّة لضعف التعقُّل) هما موجودتان في عموم النساء أكثر من الرجال، وهي كذلك بحسب طبعها، وليس معنى ذلك أنَّه يجدر بالمرأة أن تشغف بذلك.

 

صفات المرأة وخصائصها

يغلب على أكثر النّساء بعض الصّفات التي يُعَدُّ وجودها في عموم الرّجال أقلّ. ولا يعني ذلك اتّصاف جميع النساء بها، وعدم اتّصاف الرجال بها بالمرّة، بل إنَّها، بالمقارنة بين الجنسين، يغلب وجودها في النساء أكثر، وهي تحتاج إلى تغيير ومجاهدةٍ منهنَّ للتخلُّص منها:

1. الحسد والعُجْب:

وفقًا للسيّد الطباطبائيّ، فإنّ الحسد والعُجْب من صفات أكثر النساء، حيث يقول: "قوله -تعالى-: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ قصَّة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمَّنها الآية إلى تمام سِتِّ آيات.

 

وكان ذلك مكرًا منها (لامرأة العزيز) على ما في طبع أكثر النساء من الحسد والعُجْب، فإنَّ المرأة تغلبها العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة، وركوز لُطْف الخِلقة وجمال الطبيعة فيها مشغوفة القلب بالزينة والجمال، متعلِّقة الفؤاد برسوم الدلال، ويورث


 


[1] سورة الزّخرف، الآية 18، سياق الآيات 16 – 17 – 18.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏18، ص90.

 

68


56

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

ذلك فيها، وخاصةً في الفتيات، إعجابًا بالنفس وحسدًا للغير"[1]. وقد بيّن رحمه الله سبب اتّصاف أكثر النساء بالحسد والعُجْب، وهو غلبة الرقَّة ولُطْف الخِلقة في وجودهنَّ. فمظهريَّة الجمال في النساء تَطْغَى على الجلال في وجودهنَّ، والجمال بطبعه جاذب يستحوذ على لبّ كلِّ ما يقع في طريقه، فإذا ما اقتصرت المرأة على هذا البعد في وجودها ولم تُحكمه لسلطان العقل والدين استحوذ عليها بطريقة خاطئة. فتمسي أسيرة عواطفها وانفعالاتها غير العقلانيَّة، فيظهر منها سلوكيَّات تحكي الخفّة في العقل خدمةً للنفس وحبّها، عندها تراها معجبةً بما لديها من جمال مزهوَّةً بنفسها، تصرف كثيرًا من اهتمامها على مظهرها وترى كلَّ ذلك من عند نفسها. كما تراها تريد أن تكون مرغوبةً على الدوام، وأن يكون كلُّ شيء في خدمتها يروم وصالها ولا تقبل فيه الشراكة، بل ترى أنَّها المستحقِّة لكلِّ الخير لأنَّها مصدر الجمال، وتشحّ في ذلك على غيرها وما ذلك سوى الحسد. فالمطلوب هو تطويع تلك الطبيعة الجماليَّة وتسييرها وفق ميزان الشرع والعقل لئلَّا يكون ما في طبعها صادًّا لها عن التقرّب إلى ربّها، بل في سبيله.

 

وفي هذا السّياق تجدر الإشارة إلى أنّ العلَّامة الطباطبائيّ يعتبر غيرة المرأة على زوجها، عند تعدّد زيجاته، حسدًا في حقيقة الأمر وليست بغيرة. فيقول: "وفي الكافي، عن الصادق عليه السلام: في حديث قال: "والغيرة للرجال، ولذلك حرّم على المرأة إلَّا زوجها وأحلّ للرجل أربعًا فإنَّ الله أكرم من أن يبتليهنَّ بالغيرة ويُحِلَّ للرجل معها ثلاثًا".

 

أقول: "ويوضّح ذلك أنَّ‏ الغيرة هي أَحَدُ الأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة، وهي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، ونزوعه إلى الدفاع والانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عِرْض أو جاه ويعتقد كرامته عليه. وهذه الصفة الغريزيَّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيُّ إنسان فرض، فهي من فطريّات الإنسان، والإسلام دين مبنيٌّ على الفطرة، تؤخذ فيه الأمور التي تقضي بها فطرة الإنسان، فتُعدَّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، ويُحذَف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏11، ص144-145.

 

69


57

الفصل الثاني: المرأة في البعد الإنسانيّ والتكوينيّ

والفساد، كما في اقتناء المال والمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك، فإذا فرض أنّ الله - سبحانه - أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثًا أُخَرَ، والدين مبنيٌّ على رعاية حكم الفطرة،كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء وتغيُّرهنَّ على الرجال في أمر الضرائر حسدًا منهنَّ لا غيرة، وسيتّضح مزيد اتضاح في البحث التالي عن تعدّد الزوجات، أنّ هذا الحال حالٌ عَرَضيّ طارٍئٌ عليهنَّ لا غريزيٌّ فطريّ"[1].

 

2. الكيد:

بالإضافة إلى الصّفتين اللّتين سبق ذكرهما، يعتبر السيّد (رضوان الله عليه) الكيدَ صفةً أخرى من الصفات التي اختُصَّ بها نوع النساء أكثر من الرجال. فيقول: "قوله - تعالى -: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ أي فلمَّا رأى العزيز قميص يوسف والحال أنّه مقدود مشقوق من خلف، قال إنَّ الأمر من كيدكنَّ، معاشرَ النساء ﴿إِنَّ كَيۡدَكُنَّ﴾، فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

 

ونسبةُ الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته، للدلالة على أنَّه إنَّما صدر عنها بما أنَّها من النساء، وكيدهنَّ معهود معروف؛ ولذا استعظمه وقال ثانيًا: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ وذلك أنَّ الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهنَّ ما ليس يخفى، وأوتين من أسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهنَّ أن يأخذنَ بمجامع قلوب الرجال ويَسْحَرْنَ أرواحهم بجلوات فتَّانة وأطوار سَحَّارة تسلب أحلامهم، وتصرفهم إلى إرادتهنَّ من حيث لا يشعرون، وهو الكيد وإرادة الإنسان بالسوء"[2]. والظاهر، بحسب كلام العلَّامة، أنَّ الكيد والمكر والخداع الذي يمارس من قبل النساء عمومًا ويؤثِّر في الرجال، إنَّما هو بسبب ضعف الرجال أمام استمالة النساء وركونهم إليهنّ، بحيث تستطيع المرأة أن تتحكَّم بروح رجل يحكم العالم، لا أنَّ المكر والكيد أخلاق مختصّة بالنساء، فالرجال أيضًا فيهم من تلك الأخلاق، لكنْ حيث كان السبيل لكيد النساء أيسر، كان الكيد فيهنّ أكبر، وكان كيدهنّ أعظم.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص175-176.

[2] المصدر نفسه، ج‏11، ص143.

 

70


58

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

المساواة مع الرجل

ليس هناك من تفاضل بين الرّجل والمرأة في البعد الدّيني، وهو ما أطلق عليه السيّد الطباطبائيّ عبارة كرامة الدّين. إذ يقول: "قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾[1]، الإسلام لا يفرق بين الرجال والنساء في التلبُّس بكرامة الدين، وقد أشار - سبحانه - إلى ذلك إجمالًا في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2]، ثمَّ صرَّح به في مثل قوله: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾[3]، ثمّ صرَّح به تفصيلًا في هذه الآية"[4].‏

 

فالأكرم وصاحب الرّتبة الأعلى هو الأتقى، ولا علاقة لذلك بالذّكورة والأنوثة. وبالتالي يتساوى كلّ من الرجل والمرأة دينيًّا فيما لو قاما بالمقدّمات الإيمانيّة ذاتها. وقد تحدّث العلَّامة عن بعض مصاديق المساواة بين الرجل والمرأة في الكرامة الدينيّة، فكانت على الشّكل الآتي:

1. المساواة مع الرجل في توجُّه التكليف إليهما:

يتوجّه الأمر والتكليف بتقوى الله إلى كلّ من الرجل والمرأة على السواء. وهذه التقوى تتمثّل بالإيمان بالله والإمتثال لأوامره واجتناب نواهيه. يقول السيّد الطباطبائيّ

 

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 35.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

[3] سورة آل عمران، الآية 195.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص313.

 

 

73


59

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

عند تفسيره لآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾[1]: "قوله – تعالى -: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾، الخطاب يشمل الناس جميعًا من مؤمنٍ وكافرٍ وذكرٍ وأنثى وحاضرٍ وغائبٍ وموجودٍ بالفعل ومن سيوجد منهم، وذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكلِّ لاتحاد الجميع بالنوع.

 

وهو أمر الناس أن يتّقوا ربّهم فيتّقيه الكافر بالإيمان والمؤمن بالتجنُّب عن مخالفة أوامره ونواهيه في الفروع، وقد علّل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الإنذار"[2].

 

وعلى الرّغم من المساواة بين الرّجل والمرأة بتوجّه التكليف إليهما، إلّا أنّ المرأة تتميّز من الرّجل بتشرّفها بتوجّه التكليف إليها في وقتٍ مُبكِّر عمّا هو عند الرّجل.

 

ومن ضمن التكاليف المتوجّهة إليهما هو الأمر لهما بإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. يقول العلَّامة: "قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[3]، يشهد السياق على أنَّ المراد بالقضاء هو القضاء التشريعيُّ دون التكوينيّ، فقضاء الله - تعالى - حكمه التشريعيُّ في شي‏ء ممَّا يرجع إلى أعمال العباد، أو تصرّفه في شأن من شؤونهم بوساطة رسول من رسله، وقضاء رسوله هو الثاني من القسمين، وهو التصرُّف في شأن من شؤون الناس بالولاية التي جعلها الله - تعالى - له بمثل قولِهِ: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ﴾"[4]. فالقضاء التكوينيّ لا مورد فيه للاختيار حتَّى يُقال للمرء: عليك أن تنفّذ إرادة الله ورسوله، بل هو نافذ متحقِّق بصدور إرادة المولى، أمَّا القضاء التشريعيُّ أي أحكام شريعة الله - عزّ وجلّ -


 


[1] سورة الحج، الآية 1.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏14، ص338-339.

[3] سورة الأحزاب، الآية 36.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص321-322.

 

74


60

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

فيُتصوّر فيها المخالفة، كترك الصلاة من المكلَّف مثلًا.. لذا جاءت الآية لتقول للمؤمنين كافّةً رجالًا ونساءً إنَّه لا ينبغي أن يكون لكم الخيرة عندما يقضي الله - تبارك وتعالى - عبر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في أمرٍ من أموركم، وهذا السلوك هو من مصاديق الولاية لله والرسول، كما لا يخفى.

 

ويقول العلّامة: "فقضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم قضاء منه بولايته وقضاء من الله - سبحانه - لأنَّه الجاعل لولايته المنفِّذ أمره، ويشهد سياق قولِهِ: ﴿إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا﴾ حيث جعل الأمر الواحد متعلِّقًا بقضاء الله ورسوله معًا، على أنَّ المراد بالقضاء التصرُّف في شُؤون الناس من دون الجعل التشريعيّ المختصّ بالله.

 

وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾، أي ما صحَّ ولا يحقُّ لأحد من المؤمنين والمؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاءوا وقَوْلُه: ﴿إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا﴾ ظرف لنفي الاختيار.

 

وضميرًا الجمع في قوله: ﴿لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ﴾ للمؤمن والمؤمنة، المراد بهما جميع المؤمنين والمؤمنات لوقوعهما في حيّز النفي ووضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل: ﴿مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ﴾ ولم يُقَلْ: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشأ توهُّم الخيرة وهو انتساب الأمر إليهم.

 

والمعنى: ليس لأحد من المؤمنين والمؤمنات، إذا قضى الله ورسوله بالتصرُّف في‏ أمر من أمورهم، أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم وكونه أمرًا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله ورسوله، بل عليهم أن يتَّبعوا إرادة الله ورسوله"[1].

 

2. المساواة مع الرجل في جملة الأحكام الشرعيّة:

يتساوى ويشترك كلّ من الرّجل والمرأة في جزء كبير من الأحكام الشرعيّة، اختصرها (رضوان الله عليه) بقولِهِ: "أمّا الأحكام المشتركة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العباديَّة والحقوق الاجتماعيَّة، فلها أن تستقلّ فيما يستقلُّ به الرجل من غير فرق في


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص321-322.

 

 

75


61

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

 

إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلّم ولا اقتناء حقّ ولا دفاع عن حقّ وغير ذلك إلّا في موارد يقتضي طباعها ذلك"[1].

 

وبعبارة أخرى، تشترك المرأة مع الرّجل في مُجمل الأحكام الشرعيّة، باستثناء بعض الأحكام التي لا تتلاءَم مع طبعها أو طبيعتها الأنثويّة كواجب التصدِّي والدفاع والقتال مع وجود الرجال مثلًا..

 

3. المساواة مع الرّجل في بلوغ الكمالات المعنويَّة:

يتساوى كلّ من الرجل والمرأة في قابليَّة وصولهما إلى الكمالات المعنويّة. يقول العلَّامة: "فإنَّ جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق.. وبذلك يظهر أنّ الاستكمالات النوعيّة الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، ومنها الاستكمالات المعنويّة الحاصلة بالإيمان والطاعات والقربات، وبذلك يظهر لك أنّ أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله -سبحانه-: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[2].

 

وكمثال لهذه المقامات المعنويّة، مَقَامَا التّسليم والإيمان اللَّذَيْنِ يمكن لكلّ من الرجل والمرأة بلوغهما. يقول (رضوان الله عليه): "﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ يَرۡتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ﴾[3]، يفيد أوّلًا أنَّ الإسلام هو تسليم الدين بحسب العمل وظاهر الجوارح، والإيمان أمر قلبيّ. وثانيًا أنَّ الإيمان الذي هو أمر قلبيّ اعتقاد وإذعان باطنيّ بحيث يترتَّب عليه العمل بالجوارح.

 

فالإسلام هو التسليم العمليّ للدين بإتيان عامَّة التكاليف، والمسلمون والمسلمات هم المسلمون لذلك والإيمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتّب عليه العمل

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، من ص272، ماذا أبدعه الإسلام في أمرها.

[2] المصدر نفسه، ج‏4، ص89.

[3] سورة الحجرات، الآية 15.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص314.

 

76


62

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

بالجوارح، والمؤمنون والمؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتَّب عليه العمل بالجوارح، فكلُّ مؤمن مسلم ولا العكس"[1].

 

وقد أورد العلَّامة في مورد آخر روايةً يُمكن لها أن تكون شاهدًا على عدم التفاوت بين الرّجل والمرأة في المقام المعنويّ، وهي: "وفي المجمع، روى ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة (الذين هم سكّان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل) فينزل جبرائيل ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمنًا ولا مؤمنة إلّا سلَّم عليه إلَّا مدمن الخمر وآكل لحم الخنزير، والمتضمِّخ[2] بالزعفران"[3].

 

ووجه الاستدلال في هذه الرواية أنّ الملائكة في ليلة القدر تسلّم على كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، وهذا الأمر من الكمالات المعنويّة والتّشريف الذي يناله المؤمنون من النّساء والرّجال.

 

4. المساواة مع الرجل في الولاية الإيمانيّة:

يتمتّع المؤمنون بولاية إيمانيّة خاصّة بين بعضهم بما في ذلك المرأة والرجل، ومن هذه الولاية الإيمانيّة تتفرّع الولاية في خصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكلٍّ من الرجل والمرأة على الآخر.

 

يقول العلَّامة (رضوان الله عليه): "قوله -تعالى-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ إلى آخر الآية. ثمَّ وصف الله - سبحانه - حال المؤمنين عامَّة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ ليدلّ بذلك على أنَّهم مع كثرتهم وتفرُّقهم من حيث العدد ومن الذكورة والأنوثة ذوو كينونة واحدة متَّفقة لا تشعُّب فيها، ولذلك يتولَّى بعضهم أمر بعض ويدبِّره.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص314.

[2] تضمَّخ بالطيب تلطَّخ به.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏20، ص335.

 

77


63

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

ولذلك كان يأمر بعضهم بعضًا بالمعروف وينهى بعضهم بعضًا عن المنكر، فلِولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصدّيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم أنفسهم"[1]. فتلك الولاية لبعض مجتمع المؤمنين على بعض تسري في جميع أبعاض المجتمع، أي أفراد ذلك المجتمع. وبموجبها يأمر أفراد المجتمع بعضهم بعضًا بالمعروف وينهون عن المنكر بلا فرق بين الرجال والنساء، حيث يمكن للنساء أن يَأْمُرْنَ الرجال بالمعروف وينهَيْنَهم عن المنكر، وكذا الحال من الرجال تجاه النساء، كما هو واضح.

 

5. المساواة مع الرجل في قبول الإيمان والأعمال الصالحة:

على خلاف معتقدات بعض الأقوام التي كانت تؤمن بأنّ الله لا يقبل من المرأة عملًا وأنّها لا تتمتّع بالمزايا الدينيّة، يُصرّح السيّد الطباطبائيّ بأنّه ليس هناك تمايزٌ بين الرّجل والمرأة عند الله -تعالى- في قبول الإيمان والأعمال، حيث يقول: "قوله -تعالى-: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ إلى آخر الآية. وعدٌ جميل للمؤمنين إن عملوا عملًا صالحًا وبشرى للإناث أنّ الله لا يفرِّق بينهنَّ وبين الذكور في قبول إيمانهنَّ ولا أثر عملهنَّ الصالح الذي هو الإحياء بحياة طيِّبة والأجر بأحسن العمل، على الرغم ممّا بنى عليه أكثر الوثنيَّة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى من حرمان المرأة من كلِّ مزيَّة دينيَّة أو جلِّها وحطِّ مرتبتها من مرتبة الرجل ووضعها وضعًا لا يقبل الرفع البتَّة.

 

فقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ حكم كلّيّ من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحًا أي مَنْ كان، وقد قيّده بكونه مؤمنًا وهو في معنى الاشتراط، فإنَّ العمل ممَّن ليس مؤمنًا حابط لا يترتَّب عليه أثر، كما قال -تعالى-: ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ﴾[2]، وقال: ﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏9، ص338.

[2] سورة المائدة، الآية 5.

 

 

78


64

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1]"‏[2].

 

وعليه فالإيمان شرط واقعيٌّ لترتّب أثر الأعمال الصالحة عليها لا الذكورة والأنوثة، فمتى ما وُجد الإيمان صار للعمل الصالح أثره الحسن سواء صدر عن ذكر أو أنثى.

 

وحول ذلك يقول السيّد قدس سره عند تفسيره لآية: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾[3]، "وقال -تعالى-: ﴿مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ‏﴾ فعمّم الحكم للذكر والأنثى من غير فرق أصلاً خلافًا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيّين أنَّ النساء لا عمل لهنَّ ولا ثواب لحسناتهنَّ، وما كان يظهر من اليهوديّة والنصرانيّة أنّ الكرامة والعزَّة للرجال، وأنَّ النساء ذليلات عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الأجر والمثوبة، والعرب لا تعدو فيهنَّ هذه العقائد فسوّى الله -تعالى- بين القبيلين بقولِهِ:‏ ﴿مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ‏﴾.

 

ولعلّ هذا هو السرّ في تعقيب قولِهِ:‏ ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ﴾ بقوله‏ ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ لتدلّ الجملة الأولى على أنَّ النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال -تعالى-: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[4]"[5].

 

وبالإضافة إلى ما سبق، يقول السيّد الطباطبائيّ أيضًا في هذا المضمار: "وقال -تعالى-: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[6]، فصرَّح بأنَّ السعي غير خائب والعمل غير مُضيَّع عند الله، وعلَّل ذلك بقولِهِ: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾،‏ فعبَّر صريحًا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ


 


[1] سورة هود، الآية 16.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏12، ص341.

[3] سورة النساء، الآية 124.

[4] سورة آل عمران، الآية 195.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏5، ص88.

[6] سورة آل عمران، الآية 195.

 

 

79


65

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

وَأُنثَى﴾‏، وهو أنَّ الرجل والمرأة جميعًا من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسِّنْخ.

 

ثمَّ، بيَّن بذلك أنَّ عمل كلِّ واحد من هذين الصنفين غير مضيَّع عند الله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كلُّ نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنَّ عليهنَّ سيِّئاتهنَّ، وللرجال حسناتهنَّ من منافع وجودهنَّ، وسيجي‏ء لهذا الكلام مزيد من التوضيح.

 

وفي معنى الآية السابقة وأوضح منها قوله - تعالى -: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1]، وقوله -تعالى-: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[2]، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾[3]"[4].

 

ويؤكّد السيِّد فكرة التساوي بين الرجل والمرأة في قبول الأعمال مرّةً أخرى في آخر ما أورده ضمن السّياق الآتي، حيث يقول: "في قوله -تعالى-: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ إلى آخر الآية. أي إنَّ الذي يصيبه ويعيش به في الآخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنّما الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء.

 

من عمل في الدنيا سيِّئة ذات صفة المساءة فلا يُجزَى في الآخرة إلّا مثلها ممّا يسوؤه، ومَنْ عَمل صالحًا من ذكر أو أنثى من غير فرق بينهما في ذلك، والحال أنَّه مؤمن فأولئك يدخلون الجنَّة يُرزَقون فيها بغير حساب...، وفيه إشارة إلى المساواة بين الذكر والأنثى في قبول العمل وتقييد العمل الصالح"[5].

 

وقد ذكر العلَّامة مجموعة من الآيات التي تَدُلُّ على هذا المطلب، فقال: "قال


 


[1] سورة النحل، الآية 97.

[2] سورة المؤمن، الآية 40.

[3] سورة النساء، الآية 124.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص270، ماذا أبدعه الإسلام في أمرها.

[5] المصدر نفسه، ج‏17، ص332.

 

80


66

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

- تعالى -: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾[1]، وقال -تعالى-: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ﴾[2] وقال -تعالى-: ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾[3]، وقال: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[4]، ثمّ جمع الجميع في بيان واحد، فقال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ﴾[5]، وقال‏: ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[6] إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي تأخذ الفرد من الإنسان جزءًا تامًّا كاملًا من المجتمع، ويعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أيّ فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضُرّ، من غير أن يستثني صغيرًا أو كبيرًا، أو ذكرًا أو أنثى"[7].

 

فاستفاد العلَّامة من مثل عبارات "عامل" و"نفس" والتي تفيد الإطلاق، شمول العبارتين العامل من الذّكر والأنثى. وكلّ ما تقدّم من آيات خير دليل وشاهد على أصل قيمة المساواة التي يتعامل الإسلام وفقها مع البشر، وأنّه يعتبر المرأة فردًا تامًّا ونفسًا كاملةً مستقلَّةً لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت من غير غبنٍ في شيء.

 

6. المساواة مع الرجل في دخول الجنّة وتكفير السيِّئات:

ليست الجنّة حكرًا على الذّكور ولا تكفير السيّئات خاصًّا بهم، فالرّجل والمرأة في ذلك سواء. يقول السيّد قدس سره عند تفسيره للآية الخامسة من سورة الفتح: "قوله -تعالى-: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[8] إلى‏ آخر الآية.

 

وضمّ المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهُّم اختصاص الجنّة وتكفير السيِّئات

 

 


[1] سورة النساء، الآية 31.

[2] سورة البقرة، الآية 234.

[3] السورة نفسها، الآية 228.

[4] سورة آل عمران، الآية 195.

[5] سورة البقرة، الآية 286.

[6] سورة الأنعام، الآية 164.

[7] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏6، ص345.

[8] سورة الفتح، الآية 5.

 

81


67

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، والجهاد والفتح واقعان على أيديهم فصرّح باسم المؤمنات لدفع التوهُّم كما قيل.

 

وضمير: ﴿خَٰلِدِينَ﴾، و: ﴿وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡۚ‏﴾ للمؤمنين والمؤمنات جميعًا على التغليب.

 

وفي قولِهِ: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ بيان لكون ذلك سعادة حقيقيَّة لا ريب فيها، لكونه عند الله كذلك وهو يقول الحقّ"[1]. والمقصود أنَّ سياق الآية لمَّا كان حول الجهاد الذي هو تكليف الرجال بدوًا وعادةً ما يتحقَّق الفتح والانتصارات على أيدي الرجال، وقد تحدّث المولى - جلَّ وعلا - عن الجنّة وتكفير السيِّئات، أردف القول ونبّه إلى أنّ ما ورد ليس مختصًّا بالرجال من المؤمنين، بل هو خطاب للمؤمنين والمؤمنات. فلربَّما فُهِمَ أنّ الجنّة وتكفير السيِّئات مُختصَّانِ بالرجال بسبب جهادهم، ولكي يدفع هذا التوهُّم أتى - عزّ وجلّ - بذكر المؤمنات ليؤكِّد أنَّ ثواب الجنَّة وتكفير السيِّئات هُما للمؤمنات أيضًا.

 

ولا يتساوى الرّجل والمرأة في دخول الجنّة وتكفير السيِّئات فحسب، بل إنّ المؤمنين والمؤمنات، يوم القيامة، يسيرون بأنوارهم ويُبَشّرون معًا بالجنّة من غير تمايز بينهما. يقول قدس سره: "في قولِهِ – تعالى -: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ﴾، "اليوم" ظرف لقولِهِ: ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏﴾، والمراد به يوم القيامة، والخطاب في "تَرَى‏" للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو لكلِّ سامع يصحُّ خطابه، والظاهر أنّ الباء في ﴿وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ﴾ بمعنى في.

 

والمعنى: لمن أقرض الله قرضًا حسنًا أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله أو كلُّ من يصحُّ منه الرؤية في المؤمنين بالله ورسوله والمؤمنات يسعى نورهم أمامهم وفي أيمانهم، واليمين هو الجهة التي منها سعادتهم.


 


[1]العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏18، ص262-263.

 

82


68

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

وقَوْلِهِ: ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حكاية ما يُقال للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة، والقائل الملائكة بأمر من الله، والتقدير يقال لهم: ﴿بُشۡرَىٰكُمُ‏﴾ إلخ، والمراد بالبشرى ما يبشّر به وهو الجنَّة والباقي ظاهر.

وقولُه: ﴿ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ‏﴾ كلام الله – سبحانه - والإشارة إلى ما ذُكِر من سعي النور والبشرى أو من تمام قول الملائكة، والإشارة إلى الجنَّات والخلود فيها"[1].

 

7. المساواة مع الرجل في الأوصاف الإيمانيّة (أو الكمالات الإيمانيّة):

تتلبّس وتتساوى المرأة المؤمنة مع الرّجل في جملة من الأوصاف والكمالات الإيمانيّة التي يُمكن لها التحلّي بها والتي استعملها القرآن الكريم في صيغتي التّذكير والتأنيث. وهذه الأوصاف الآتي ذكرها تشتمل على الأبعاد القلبيّة والعمليّة، والفرديّة والاجتماعيَّة. من هذه الأوصاف:

أ. الطّيبة:

الطيّبون والطيّبات من المؤمنين على السّواء مبرّؤون من تهمة الإفك، مُستحقّون للحياة الطيّبة في الدنيا، وللمغفرة والأجر الحسَن في الآخرة. يقول السيّد الطباطبائيّ: "قوله -تعالى-: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ﴾ إلخ ذيل الآية ﴿أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ﴾، دليل على أنَّ المراد بالخبيثات والخبيثين والطيِّبات والطيِّبين نساء ورجال متلبِّسون بالخباثة والطيِّب، فالآية من تمام آيات الإفك متَّصلة بها مشاركة لها في سياقها، وهي عامّة لا مخصّص لها من جهة اللفظ البتّة.

 

فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مُبَّرئين ممَّا يقولون على ما تدلّ عليه الآيات‏ السابقة، هو المعنى الذي يقتضيه تلبُّسهم بالإيمان والإحصان؛ فالمؤمنون والمؤمنات مع الإحصان، طيِّبون وطيِّبات، يختصُّ كلٌّ من الفريقين بصاحبه، وهم


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏19، ص155.

 

83


69

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

بحكم الإيمان والإحصان مصونون مبرَّأون شرعًا من الرمي بغير بيِّنة، محكومون من جهة إيمانهم بأنَّ لهم مغفرة كما قال -تعالى-: ﴿وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ﴾[1] ولهم رزق كريم، وهو الحياة الطيِّبة في الدنيا، والأجر الحسن في الآخرة، كما قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[2]"[3].

 

ب. القنوت والصّدق:

تصل المرأة، كما الرّجل، إلى مقام الطّاعة والخضوع بين يدي الله وهو ما يُعرَفُ بالقنوت. كما ويصل كلٌّ منهما إلى مرتبة الصّادقين. يقول العلَّامة: "وقولِهِ: ﴿وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ﴾ القنوت، على ما قيل، لزوم الطاعة مع الخضوع وقولِهِ: ﴿وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ‏﴾ الصدق‏ مطابقة ما يخبر به الإنسان أو يظهره، للواقع. فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم"[4].

 

ج. الصّبر والخشوع:

تتّصف المرأة المؤمنة كما الرجل المؤمن بالصّبر والخشوع، وفي ذلك يقول (رضوان الله عليه): "وقولِهِ: ﴿وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ‏﴾ فهم متلبِّسون بالصبر عند المصيبة والنائبة وبالصبر على الطاعة وبالصبر عن المعصية، وقولِهِ: ﴿وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ﴾ الخشوع‏ تذلُّل باطنيٌّ بالقلب كما أنّ الخضوع تذلُّل ظاهريٌّ بالجوارح"[5].

 

ومن المعلوم أنّ الصّبر أساس الإيمان وأنّ الخشوع من المظاهر الإيمانيَّة الكبرى التي تبدأ بالقلب وتظهر على الجوارح والأركان.


 


[1] سورة الأحقاف، الآية 31.

[2] سورة النحل، الآية 97.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏15، ص95-96.

[4] المصدر نفسه، ج‏16، ص314، سورة الأحزاب، تفسير الآية 35.

[5] المصدر نفسه.

 

84


70

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

د. التصدّق والصوم:

يُضاف إلى ما سبق مُداومة المرأة المؤمنة كما الرّجل من أهل الإيمان، على التصدّق عبر الإنفاق في سبيل الله من صدقات واجبة وصدقات مستحبّة. كذلك الأمر فيما يتعلّق بالصوم الواجب والمستحبّ منه. يقول (رضوان الله عليه): "وقولِهِ: ﴿وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ﴾ والصدقة إنفاق المال في سبيل الله، ومنه الزكاة الواجبة، وقولِهِ: ﴿وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ﴾ بالصوم الواجب والمندوب"[1]. ووصف المرأة، بل تكرار التأكيد على ذكر الإناث في كلِّ وصفٍ ذكره الباري -جلّ وعلا- يُعلي من شأنهنّ ويبيّن تمام مساواتهنّ أمام الله – تعالى - بَدْءًا بالإيمان وصولًا إلى تفاصيل شرعيَّة كالتصدّق، فخطاب القرآن هو للرجال والنساء على حدٍّ سواء.

 

هـ. حفظ الفروج وذكر الله:

يتّصف الرجال والنساء من أهل الإيمان بحفظ الفروج والذّكر الكثير لله. يقول العلَّامة في ذلك: "وقولِهِ: ﴿وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ﴾[2]، أي لفروجهنَّ وذلك بالتجنُّب عن غير ما أحلّ الله لهم، وقولِهِ: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾، أي الله كثيرًا حذف لظهوره، وهم الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم وجَنانهم ويشمل الصلاة والحجّ"[3].

 

فأهل الإيمان من النساء والرّجال حافظون لفروجهم عن العلاقات المحرّمة من زنا ولواط وسحاق وغيرها، مُقتصرون على ما أحلّ الله لهم. إذ إنَّهم يديرون شهواتهم وفق ما يريده الله لا ما تهواه أنفسهم. فهم أحرار غير خاضعين لشهواتهم. وهم أهل الذّكر الكثير بما تعنيه هذه العبارة من الحضور لله في قلوبهم وعلى ألسنتهم وفي أعمالهم بما يُحقّق الحضور العمليَّ لله عندهم، بحيث يراقبون به أعمالهم ويمتثلون لإرادة الله فيما يوجبه عليهم من حجّ وصوم...


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص314، سورة الأحزاب، تفسير الآية 35.

[2] سورة الأحزاب، الآية 35.

[3] العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج16، ص314.

 

85


71

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

8. المساواة مع الرجل في الأوصاف المخالفة للإيمان:

كما تتساوى المرأة مع الرّجل في الأوصاف الإيمانيّة، كذلك يمكن أن يتّصف كلٌّ منهما ببعض الأوصاف المُخالفة للإيمان، وذلك من قبيل:

أ. الخُبث:

كما قد يتّصف الرّجل بالخبث، كذلك هو الحال في المرأة. وقد وقع الخلاف بين المفسّرين حول المراد من الخبث والطيبة في هذه الآية. هل الطيبة والخبث هما عامَّان بحيث يشملان ما طاب وخبث في مثلّث الأقوال والعقائد والأفعال أم أنّهما يتعلّقان بخصوص الشّرف والعفّة وعدمهما؟[1].

 

يتبنّى السيّد الطباطبائيّ الرأي الأوَّل وهو ما يُستفاد من كلامه عند تفسيره لقوله -تعالى-: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ﴾[2]، حيث يعتبر أنّ الآية عامّة لا مُخصّص لها. أمّا نصّ قوله فهو الآتي: "قَوْلُه -تعالى-: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ﴾ إلخ ذيل الآية ﴿أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ﴾ دليل على أنَّ المُراد بالخبيثات والخبيثين والطيِّبات والطيِّبين نساء ورجال متلبِّسون بالخباثة والطيب، فالآية من تمام آيات الإفك متَّصلة بها مشاركة لها في سياقها، وهي عامَّة لا مخصَّص لها من جهة اللفظ البتَّة.

 

والمراد بالخبث في الخبيثين والخبيثات، وهم غير المؤمنين، هو الحال المستقذَرة التي يوجبها لهم تلبُّسهم بالكفر، وقد خُصَّت خبيثاتُهم بخبيثيهم وخبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة والمسانخة وليسوا بمبرَّئين عن التلبّس بالفحشاء، نعم هذا ليس حكمًا بالتلبُّس"[3]. فلأجل تلبُّسهم وتلبُّسهنَّ بالكفر هم خبيثون وخبيثات، فلا براءة لهم

 

 


[1] يُراجع: صادقى، محمد، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة، فرهنگ اسلامى، قم، 1406هـ.ق.، ط2، ج 21، ص88–91؛ مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ترجمة وتلخیص محمد علي آذرشب، مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام، قم المقدّسة، 1421هـ.ق.، ط1، ج11، ص64.

[2] سورة النّور، الآية 26.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏15، ص95–96.

 

86


72

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

ولهنّ عن القيام بالفحشاء، لأنَّها من مصاديق ذات الخبث، مع أنّ الخبث بحسب الآية ورأي العلَّامة رحمه الله لا يقتصر على الأفعال من فحشاء وما خالف العفّة، بل إنّ دائرة الخبث تشمل العقائد الخبيثة كالكفر والأفعال الخبيثة كالزنى والأقوال الخبيثة كالقول الفاحش، فكلّه من سنخيّة واحدة، ودليل العلَّامة هو أنّ الآية مطلَقة غير مقيَّدة بنوعٍ معيَّنٍ من الخبث.

 

ومن مصاديق "الخبيثون للخبيثات" ما ذُكر في الآية المباركة: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[1]. وقد ذكر العلَّامة في تفسيرها ما يأتي: "والمحصَّل من معناها بتفسير من السنّة من طرق أئمَّة أهل البيت عليهم السلام أنَّ ‏الزاني إذا اشتُهِر منه الزنا وأُقيمَ عليه الحدّ ولم تتبيّن منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية والمشركة، والزانية إذا اشتُهِرَ منها الزنا وأُقيمَ عليها الحدّ ولم يتبيّن منها التوبة يحرم أن ينكحها إلَّا زانٍ أو مشرك"[2].

 

ب. النّفاق:

تشمل حركة النفاق في المجتمع كُلًّا من الرّجل والمرأة اللّذين يمارسان تأثيرهما الاجتماعيَّ السّلبيَّ على حدّ سواء، فضلًا عن اشتراكهما في الصّفات والأعمال التي يمارسونها. فللمرأة دورها الّذي لا يُستهَان به في حركة النّفاق الخطيرة والّتي تعمل على تخريب الحالة الإيمانيّة في المجتمع الإسلاميّ وتقويضِها، لذا ورد ذكر المنافقات جنبًا إلى جنب مع المنافقين.

 

يقول العلَّامة: "ولعلَّه ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سَبْقٍ لذكرهنَّ[3] للدلالة على كمال الاتِّحاد والاتِّفاق بينهم في نفسيّتهم، وليكون تلويحًا على أنَّ من النساء أيضًا أجزاء مؤثِّرة في هذا المجتمع النفاقيّ الفاسد المفسد.

 

 


[1] سورة النّور، الآية 3.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج15، ص79-80.

[3] (عدم سبق ذكرهنّ في الآيات السابقة).               

 

87


73

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

فمعنى الآية: لا ينبغي أن يُستغرَبَ أخذُ بعض المنافقين إذا تُرِكَ البعضُ الآخر، لأنَّ المنافقين والمنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسيَّة يُوَحِّد كثرتهم فيرجع بعضهم إلى بعض، فيشركهم في الأوصاف والأعمال وما يُجازون به بوعد من الله - تعالى -.

 

فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويمسكون عن الإنفاق في سبيل الله، وبعبارة أخرى نسوا الله - تعالى - بالإعراض عن ذكره، لأنَّهم فاسقون خارجون عن زيّ العبوديَّة فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربِّهم"[1].

 

فصفات هؤلاء المنافقين والمنافقات وعلاماتُهُم قد فصّلتها الآية المباركة التي قام السيّد العلَّامة بتفسيرها في الكلام السّابق، وهي: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[2]. وهذه الصّفات والعلامات كما ذكرها السيّد هي دعوة الناس إلى فعل المنكرات وترغيبهم بها، ونهيهم عن الأعمال الصالحة، والبخل وعدم الإنفاق في سبيل اللّه - عزَّ وجلَّ -. وبذلك يظهر جليًّا خطر المنافقين على المجتمع الإسلاميّ ومحاولاتهم وسعيهم وطريقتهم في إفساده.

 

9. المساواة مع الرجل في الوعد بالمغفرة والأجر الكريم:

ومن جملة ما تتساوى به المرأة مع الرّجل في خصوص البعد الدينيّ هو الوعد الإلهيّ لها بالمغفرة والأجر الكبير. يقول السيّد الطباطبائيّ ضمن البيان العامّ للآيات التي تضمّ الآية 35 من سورة الأحزاب ما يأتي: "يَعِدُ[3] مُطْلَقَ الصالحين من الرجال والنساء وعدًا بالمغفرة والأجر العظيم"[4].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏9، ص336، سورة التوبة، تفسير الآية 67.

[2] سورة التوبة، الآية 67.

[3] الفاعل هو الله.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص305.

 

88


74

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

ونصّ الآية 35 من سورة الأحزاب هو: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[1].

 

أمّا الرواية التي يوردها سماحته ضمن البحث الروائيّ لمجموعة الآيات التي تدخل في سياقها الآية السابقة، مقاتل بن حيّان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع‏ زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: "هل نزل فينا شي‏ء من القرآن؟"، قلن: لا. فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: "يا رسول الله، إنَّ النساء لفي خيبة وخسار.

 

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "وممَّ ذلك؟"، فقالت: "لأنهنَّ لا يُذْكَرْنَ بخير كما يُذْكَرُ الرجال، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ﴾..."[2]،[3].

 

10. المساواة مع الرجل في العقاب والوعد بالعذاب:

كما تتساوى المرأة مع الرّجل في الثواب والأجر، كذلك تتساوى معه في العقاب عند استحقاقه. يقول السيّد الطباطبائيّ: "قَوْلُه - تعالى -: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾، المُراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيويّة كما يدلُّ عليه قوله الآتي: ﴿وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلخ. والمراد بالناس جميعهم فإنَّ الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذِّبون بآيات الله، والمراد بما كسبوا: المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب، وقد قال في نظيره الآية من سورة النحل‏: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾[4]"[5].


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 35.

[2] الطبرسي، الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415هـ - 1995م، ط1، ج8، ص158.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص319-320.

[4] سورة النحل، الآية 61.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏17، ص59

 

 

89


75

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

فالمقصود في الآية، بحسب العلَّامة، أنّ الله - تبارك وتعالى - لو أراد أن يُؤاخِذ ويُحاسِب الناس من ذكور وإناث في الدنيا ويُنيلهم تبعات ما كسبوا لما بقي منهم باقية على وجه البسيطة، ولو أراد الحديث عن بعض الناس فقط لخصّص كما سبق من آيات حيث تحدّث عن الماكرين، لكنَّ الآية تُخاطب الناس بأجمعهم من دون تخصيص أو تقييد.

 

"والمراد بالدابة كلُّ مَنْ يدبّ في الأرض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير، واحتُمل أن يكون المراد كلَّ ما يدبُّ في الأرض من حيوان وإهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنَّما هو لكونها مخلوقة للإنسان، كما قال -تعالى-‏: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾[1]"[2].

 

وكما وعد الله المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة ودخول الجنّة، كذلك وعد المنافقين والمنافقات بجهنّم والعذاب المقيم. يقول قدس سره: "ثمَّ ذكر ما وعدهم على ذلك، فقال: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾[3]، من الجزاء لا يتعدّى فيهم إلى غيرها ﴿وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ‏﴾ وأبعدهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ ثابت لا يزول عنهم البتَّة"[4].

 

وهكذا، فقد وعد الله المنافقين بالخلود في جهنّم وعقّب بأنّ جهنّم تكفي هؤلاء. كما لعنهم أي أبعدهم عن ساحة رحمته، وأكّد مجدَّدًا أنّ لهم العذاب الدائم الذي لا يزول.

 

وقد ذكرت الآيات المباركة حال المنافقين والمنافقات يوم القيامة حيث يستغيثون بالمؤمنين والمؤمنات. يقول العلَّامة في توصيف حالهم: "قَوْلُه -تعالى-: ﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ‏﴾[5]، استئناف في معنى جواب السؤال كأنَّه قيل: "فماذا يفعل المنافقون


 


[1] سورة البقرة، الآية 29.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏17، ص59.

[3] سورة التوبة، الآية 68.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏9، ص336، سورة التوبة، تفسير الآية 68.

[5] سورة الحديد، الآية 14.

 

90


76

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

 والمنافقات بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب من ظاهره؟"، فقيل: "ينادونهم"، إلخ.

 

والمعنى: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات بقولهم: ﴿أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ‏﴾ يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين والمؤمنات في ظاهر الدين، والآية،كما ترى، تُفيد أنَّ المنافقين والمنافقات يستنصرون المؤمنين والمؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسِّلين بأنَّهم كانوا معهم في الدنيا، ثمَّ تُفيد أنَّ المؤمنين والمؤمنات يجيبون بأنَّهم كانوا معهم، لكنَّ قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم‏ ويتربَّصون ويرتابون وتغرّهم الأمانيُّ ويغرُّهم بالله الغرور، وهذه الصفات الخبيثة آفات القلوب، فكانت القلوب غير سليمة ولا ينفع يوم القيامة إلّا القلب السليم. قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1].

 

قولُه - تعالى -: ﴿ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تتمَّة كلام المؤمنين والمؤمنات يخاطبون به المنافقين والمنافقات ويُضيفون إليهم الكفَّار وهم المعلنون لكفرهم أنَّهم رهناء أعمالهم كما قال -تعالى-: ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ﴾[2]"[3].

 

وفي السياق والمشهديّة ذاتها، تُظهر الآيات المباركة مقام المؤمنين والمنافقين من الجنسين، بحيث تُظهِر بلوغ كلّ من الرّجال والنساء إلى مقامات ودرجات متساوية تعاليًا وتسافلًا.

 

يقول قدس سره: "قوله -تعالى-: ﴿يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ﴾، والسياق يُفيد أنّهم اليوم في ظلمة أحاط بهم سُرادقها وقد أُلجِئوا إلى المسير نحو دارهم التي يخلدون فيها، غير أنَّ المؤمنين والمؤمنات يسيرون بنورهم الذي يسعى بين‏ أيديهم وبأيمانهم فيبصرون الطريق ويهتدون إلى مقاماتهم، وأمَّا المنافقون والمنافقات فهم مغشيُّون بالظلمة لا يهتدون سبيلًا وهم مع المؤمنين

 


[1] سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89.

[2] سورة المدثر، الآية 38.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏19، ص158-159.

 

91


77

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

كما كانوا في الدنيا معهم ومعدودون منهم فيسبق المؤمنون والمؤمنات إلى الجنّة ويتأخّر عنهم المنافقون والمنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين والمؤمنات أن ينتظروهم حتّى يلحقوا بهم ويأخذوا قبسًا من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم"[1].

 

التفاوت عن الرّجل

في المقابل، تتفاوت المرأة عن الرّجل في بعض الأحكام الشرعيّة التفصيليّة ووحي النبوَّة، وهو ما لا يُخرجها عن التساوي مع الرّجل في الكرامة الدينيّة:

1. التفاوت عن الرّجل في بعض الأحكام الشرعيّة:

تشترك المرأة مع الرّجل في الكثير من الأحكام الشرعيّة وتتفاوت معه في قسمٍ منها. وأهمّ الأحكام التي تتفاوت فيها عن الرّجل، وفق السيّد العلَّامة هي الآتي: "وأمَّا الأحكام المختصَّة أنَّها لا تتولَّى الحكومة والقضاء، ولا تتولَّى القتال بمعنى المقارعة، لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر، كمداواة الجرحى مثلًا، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها الحجاب وسَتْرُ مواضع الزينة، وعليها أن تُطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتُّع منها، وتدرك ما فاتها بأنَّ نفقتها في الحياة على الرجل (الأب أو الزوج)، وأنَّ عليه أن يحميَها ويُدافعَ عنها منتهى ما يستطيعه، وأنَّ لها حقَّ تربية الولد وحضانته.

 

وقد سهَّل الله لها أنَّها محميَّة النفس والعرض حتَّى عن سوء الذكر، وأنَّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنَّها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال"[2].

 

فإذًا تتفاوت المرأة عن الرّجل في الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالحكومة، القضاء، الجهاد في سبيل الله، الإرث، السّتر والحجاب، وجوب الطّاعة للزوج فيما يتعلّق بحقوقه، حضانة الأطفال، الحيض والنّفاس...


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏19، ص155-156.

[2] المصدر نفسه، ج‏2، ص272.

 

92


78

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

وهذا التفاوت في الأحكام هو تبعٌ لما يتفاوتان به من جهة التكوين والأدوار الموكلة إلى كلّ منهما والمترتّبة على تركيب كلٍّ منهما. يُعلّل قدس سره التفاوت بمناسبة تلك الأحكام لتكوين النساء، فيقول: "وشاركن الرجال في أمور واختصصن عنهم بأمور واختصّ الرجال بأمور، كلُّ ذلك عن مراعاة تامَّة لقِوام وجودهنَّ وتركيب بناهنَّ، ثمَّ سهَّل عليهنَّ في أمور شقَّ فيها على الرجال كأمر النفقة وحضور معارك القتال ونحو ذلك"[1].

 

2. التفاوت عن الرّجل في وحي النبوَّة:

يُمكن للمرأة أن يُوحى إليها، إلّا أنّ خصوص وحي النبوَّة لا يشملها، إذ المرأة لا تكون نبيًّا. يقول السيّد الطباطبائيّ: "وقَوْلُه: ﴿إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ﴾[2]، المراد به الإلهام وهو نوع من القذف في القلب في يقظةٍ أو نوم، والوحي في كلامِهِ -تعالى- لا ينحصر في وحي النبوَّة كما قال -تعالى-: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ﴾[3]، وأمَّا وحي النبوَّة فالنساء لا يتنبَّأن‏ ولا يوحى إليهنَّ، بذلك قال -تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾[4]"[5].

 

فالوحي، بمعناه العامّ، هو الإلهام الرحمانيّ والذي يمكن أن يحصل للذَّكَرِ والأنثى وحتَّى الحيوان... أمّا النوع الخاصّ من الوحي المسمّى بوحي النبوَّة فهو لا يحصل إلَّا للرجال، فهذا النوع من الوحي يحمل معه مَهَمَّةً توكل للذي أُوحي إليه كالتصدِّي لهداية المجتمع وتحمّل الصعاب في ذلك، أو إقامة الحكومة الإلهيّة وتطبيق الشريعة.. وهذه المهمَّة لا تتناسب مع التكوين الأنثويّ وطبيعة خلقة المرأة ومهامِّها في الحياة الدنيا، لذا لا يتنزّل عليها مثل ذلك الوحي، لا لنقصٍ فيها ولا إجحافٍ في حقِّها، والعياذ بالله، بل انسجامًا مع النظام الأصلح الحاكم في الكون.

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏6، ص344.

[2] سورة طه، الآية 38.

[3] سورة النحل، الآية 68.

[4] سورة يوسف، الآية 109.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏14، ص149-150، سورة طه، تفسير الآية 38.

 

93


79

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

فإذًا يستدلُّ العلَّامة بالحصر الوارد في قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾[1]، على كون الوحي الرّسالي مُختصًّا بالرّجال. وعند تفسيره لهذه الآية يقول: "فقَوْلُه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ﴾ تطبيق لدعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على دعوة من قبله من الرسل. ولعلَّ توصيفهم بأنَّهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنَّهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم ومعروفين عندهم بالمعاشرة والمخالطة ولم يكونوا ملائكة ولا من غير أنفسهم، ويُؤيِّد ذلك توصيفهم بأنَّهم كانوا رجالًا فإنَّ الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخِدْر"[2].

 

فكون المرأة لا يُوحى إليها بوحي النبوَّة، لا يعني عدم إمكانيّة وصولها إلى مقامات معنويّة أخرى غير النبوَّة كمقام التّحديث الذي أفرده السيّد الطباطبائيّ ضمن عنوان بحث روائيّ في معنى المحدَّث‏. وهو مقامٌ معنويٌّ عالٍ جدًّا، حيث يقول: "عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: "فما الرسول والنبيُّ والمحدَّث؟" قال: "الرسول الذي يظهر الملك فيكلِّمُه، والنبيُّ يرى في المنام، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرسالة لواحد، والمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة..."[3].

 

وعن محمَّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله عليه السلام فقال: "إنّه يسمع الصوت ولا يرى الصورة. فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملَك؟".

 

قال عليه السلام: "إنَّه يعطَى السكينة والوقار حتَّى يعلم أنَّه ملَك"[4].

 

وأمَّا التحديث فهو سماع صوت الملَك، غير أنَّه بسمع القلب دون سمع الحسّ، وليس من قبيل الخطور الذهنيّ الذي لا يسمَّى سمع صوت إلّا بنحو من المجاز البعيد؛ ولذلك ترى أنَّ الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب، وتسمِّيه مع


 


[1] سورة يوسف، الآية 109.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق ، ج‏11، ص 278، سورة يوسف، شرح الآية 109.

[3] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص177.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص271.

 

94


80

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

فإذًا يستدلُّ العلَّامة بالحصر الوارد في قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾[1]، على كون الوحي الرّسالي مُختصًّا بالرّجال. وعند تفسيره لهذه الآية يقول: "فقَوْلُه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ﴾ تطبيق لدعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على دعوة من قبله من الرسل. ولعلَّ توصيفهم بأنَّهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنَّهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم ومعروفين عندهم بالمعاشرة والمخالطة ولم يكونوا ملائكة ولا من غير أنفسهم، ويُؤيِّد ذلك توصيفهم بأنَّهم كانوا رجالًا فإنَّ الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخِدْر"[2].

 

فكون المرأة لا يُوحى إليها بوحي النبوَّة، لا يعني عدم إمكانيّة وصولها إلى مقامات معنويّة أخرى غير النبوَّة كمقام التّحديث الذي أفرده السيّد الطباطبائيّ ضمن عنوان بحث روائيّ في معنى المحدَّث‏. وهو مقامٌ معنويٌّ عالٍ جدًّا، حيث يقول: "عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: "فما الرسول والنبيُّ والمحدَّث؟" قال: "الرسول الذي يظهر الملك فيكلِّمُه، والنبيُّ يرى في المنام، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرسالة لواحد، والمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة..."[3].

 

وعن محمَّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله عليه السلام فقال: "إنّه يسمع الصوت ولا يرى الصورة. فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملَك؟".

 

قال عليه السلام: "إنَّه يعطَى السكينة والوقار حتَّى يعلم أنَّه ملَك"[4].

 

وأمَّا التحديث فهو سماع صوت الملَك، غير أنَّه بسمع القلب دون سمع الحسّ، وليس من قبيل الخطور الذهنيّ الذي لا يسمَّى سمع صوت إلّا بنحو من المجاز البعيد؛ ولذلك ترى أنَّ الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب، وتسمِّيه مع


 


[1] سورة يوسف، الآية 109.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق ، ج‏11، ص 278، سورة يوسف، شرح الآية 109.

[3] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص177.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص271.

 

94


81

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

ذلك تحديثًا وتكليمًا، فالمحدَّث يسمع صوت الملَك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير ما نسمعه، ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادّة، غير أنَّه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملَك غيرُه؛ ولذا كان أمرًا قلبيًّا.

 

وأمَّا علمه بأنَّ ما حُدِّث به من كلام الملَك لا من نزغة الشيطان، فذلك بتأييد من الله -سبحانه- وتسديد، كما يشير إليه في رواية محمَّد بن مسلم المتقدِّمة: أنَّه يُعطَى السكينة والوقار حتَّى يَعلَم أنَّه ملَك؛ وذلك أنَّ النزغة الشيطانيَّة إمَّا باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن؛ فظاهر أنّه ليس من حديث الملائكة المكرَّمين الذين لا يعصون الله، وإمّا باطل في صورة حقّ وسيستتبع باطلًا، فالنور الإلهيُّ الذي يُلازِم العبد المؤمن يبيِّن حاله، قال -تعالى-: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾[1]، والنزغة والوسوسة مع ذلك كلّه لا تخلو من اضطراب في النفس وتزلزل في القلب، كما أنّ ذكر الله وحديثه لا ينفكّ عن الوقار وطمأنينة الباطن، قال -تعالى-: ﴿ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ﴾[2]، وقال: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[3]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[4]. فالسكينة والطمأنينة عند ما يُلقَى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاءً رحمانيًّا، كما أنَّ الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاءً شيطانًا، ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفَّة ونحوُها.

 

وأمَّا ما في الروايات من أنَّ المحدَّث يسمع الصوت ولا يعاين الملَك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيَيْن؛ بمعنى أنَّ المِلاك في كون الإنسان محدَّثًا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية، فإن اتَّفق أنْ شاهد الملَك حينما يسمع الصوت فليس ذلك لأنَّه محدَّث، وذلك لأنَّ الآيات صريحة في رؤية بعض المحدَّثين للملائكة حين


 


[1] سورة الأنعام، الآية 22.

[2] سورة آل عمران، الآية 175.

[3] سورة الرعد، الآية 28.

[4] سورة الأعراف، الآية 201.

 

95


82

الفصل الثالث: المرأة في البُعدِ الدينيّ

التحديث، كقوله -تعالى- في مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾[1]، وقوله -تعالى- في زوجة إبراهيم في قصّة البشارة: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ﴾، إلى أن قال: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾[2]"[3].

 

"وهاهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفيَّة معاينة حقيقة الملك في نفسه من دون مثاله الذي يتمثّل به، فإنّ الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال، كما هو ظاهر. (حيث يمكن للمحدَّث أن يرى الجسم المثاليَّ للملك، من دون حقيقته، فالآيات الشريفة بيّنت أنَّ مريم عليها السلام وسارة عليها السلام رأتا الملائكة ولا تُثبت تلك الآيات أنَّ مريم وسارة اطَّلعتا على أزيد من مثال الملائكة).

 

وهاهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم، وهو أنَّ المنفيَّ من المعاينة الوحيُ التشريعيُّ بأن يظهر للمحدَّث فيلقي إليه حكمًا شرعيًّا وذلك صون من الله لمقام المشرِّعين من أنبيائه ورسله ولا يخلو عن بعد"[4]. والمعنى، من هذا الوجه أنّ، المحدَّث يمتنع عليه أن يُعايِن الوحي بمعنى التشريع والرسالة، فهو يسمع الوحي، ويُمكِن أن يعاينه فيراه لكن لا يمكن أن يُلقي ذاك الوحيُ بحكمٍ شرعيٍّ للمحدَّث، فذلك لمقام الرسل.

 


 


[1] سورة مريم، الآيات 17 - 19.

[2] سورة هود، الآيات 71 - 73.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏3، ص219-222.

[4] المصدر نفسه.

 

96


83

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

تمهيد

فيما يخصّ البُعدَ الاجتماعيَّ تتساوى المرأة مع الرّجل في الكثير من التفاصيل، كما تختلف معه في بعض الأمور. يقدّم السيّد الطباطبائيّ فلسفة ذلك في قوله: "وقد بيَّن الله - تعالى - في كتابه أنَّ الناس جميعًا (رجالًا ونساءً) فروعُ أصل واحد إنسانيٍّ، وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشريَّة، والمجتمع في تكوُّنه محتاج‏ إلى هؤلاء، كما هو محتاج إلى أولئك على حدٍّ سواء، كما قال - تعالى -: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[1]".

 

ولا يُنافي ذلك اختصاص كلٍّ من الطائفتين بخصلة تختصّ به كاختصاص الرجال بالشدَّة والقوَّة نوعًا، واختصاص النساء بالرقَّة والعاطفة طبعًا، فإنَّ الطبيعة الإنسانيّة في حياتها التكوينيّة والاجتماعيَّة جميعها تحتاج إلى بروز الشدَّة وظهور القوَّة، كما تحتاج إلى سريان المودَّة والرحمة، والخصلتان جميعًا مظهرا الجذب والدفع العامَّيْن في المجتمع الإنسانيّ"[2].

 

وفي سياقٍ آخر، يتفضّل العلَّامة بكلامٍ مشابهٍ لما ذُكِرَ آنفًا، يُفهم منه العلاقة بين تكوين المرأة والأحكام التشريعيَّة المتعلّقة بها، حيث يقول: "فهما[3] سواء فيما يراه الإسلام ويُحِقُّه القرآن، والله يُحِقُّ الحقَّ بكلماته، غير أنَّه قرَّر فيها[4] خصلتين ميَّزها بهما الصنع الإلهيُّ، إحداهما أنَّها بمنزلة الحَرْث في تكوّن النوع ونمائه، فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصُّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحَرْث، وتمتاز بذلك من الرجل.


 


[1] سورة النساء، الآية 25.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص255-256.

[3] المرأة والرّجل.

[4] المرأة.

 

99


84

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

والثانية أنَّ وجودها مبنيٌّ على لطافة البُنية ورقَّة الشعور؛ ولذلك أيضًا تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعيَّة المحوَّلة إليها.

 

فهذا وزنها الاجتماعيُّ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تُنحَل جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختصّ به أحدهما في الإسلام"[1].

 

المساواة مع الرّجل (المساواة الاجتماعيَّة)

من النّاحية الاجتماعيَّة تتساوى المرأة مع الرّجل في جملة من الأمور:

1. المساواة الطبقيّة بين الرجل والمرأة (أو المساواة في المكانة الاجتماعيَّة):

لا طبقيّة إجتماعيّة في الإسلام بين كافّة مكوّنات المجتمع، ومنها الرّجل والمرأة. وفي ذلك يقول العلَّامة الطباطبائيّ: "أقسام الاجتماعات، على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع، لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤدٍّ إلى الفساد؛ فإنَّ اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدِّي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها. لكنَّ المجتمع الإسلاميّ مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدُّمَ فيها لبعضهم على بعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة، وإنَّما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانيّة ولا تسكت عنه إنَّما هو في التقوى وأمره إلى الله - سبحانه - لا إلى الناس، قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2]، وقال - تعالى -: ﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ﴾[3]، فالحاكم والمحكوم، والأمير والمأمور، والرئيس والمرؤوس، والحرّ والعبد، والرجل والمرأة، والغنيُّ والفقير، والصغير والكبير، في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينيّ في حقِّهم، ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعيَّة على ما تدلُّ عليه السيرة النبويّة، على سائرها السلام والتحيَّة"[4].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص271، ماذا أبدعه الإسلام في أمرها.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

[3] سورة البقرة، الآية 148.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص124.

 

100


85

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

فيتساوى الرجل والمرأة في الإسلام لجهة المكانة الاجتماعيَّة، فليس للرّجل مكانة أسمى من تلك التي للمرأة. يقول (رضوان الله عليه): "وأمَّا النساء فقد وَضعَ لهنَّ من المكانة في المجتمع واعتبر لهنَّ من الزنة الاجتماعيَّة ما لا يجوز، عند العقل السليم، التخطِّي عنه ولو بخطوة، فصرنَ بذلك أحد شِقَّيِ المجتمع الإنسانيّ وقد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، وأُعطينَ زمام الازدواج والمال وقد كنّ محرومات أو غير مستقلَّات في ذلك"[1].

 

والمساواة في الطبقيّة الاجتماعيَّة لا تعني عدم وجود خصوصيَّات إجتماعيَّة خاصّة بكلّ من الرّجل والمرأة. وعن ذلك يقول السيّد العلَّامة: "وهذا كما عَرَفْتَ لا يُنافِي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميَّته مِن مزايا، كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهنَّ على الرجال وغير ذلك، وكحرمان الصبيان غير البالغين من نفوذِ الإقرار والمعاملات وعدم توجّه التكاليف إليهم ونحو ذلك، فجميع ذلك خصوصيّاتُ أحكامٍ تَعْرِضُ للطبقات وأشخاص المجتمع من حيث اختلافُ أوزانهم في المجتمع، بعد اشتراكهم جميعًا في أصل الوزن الإنسانيّ الاجتماعيّ الذي مِلاكُه أنَّ الجميع إنسان ذو فكر وإرادة"[2].

 

فأفراد الإنسان الذين يشكِّلون المجتمع مختلفون من حيث المكانة الاجتماعيَّة التي يَشْغَلونها، ومن جهة المهمَّة أو الوظيفة الاجتماعيَّة التي يتحرَّكون بموجبها في المجتمع، لذا، من الطبيعيِّ أن تختصّ فئة بمزايا غير موجودة عند غيرها، ذلك مع التسليم بأصل المساواة أمام الله - عزَّ وجلَّ -.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏6، ص344.

[2] سورة البقرة، الآية 234.

 

101


86

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

2. المساواة مع الرجل في الحريّة الاجتماعيَّة:

يتساوى كلّ من الرّجل والمرأة في الإرادة والإختيار والعمل، وهذه الأمور تنتمي إلى عنوان جامع هو الحريَّة الاجتماعيَّة. يقول العلَّامة (رضوان الله عليه): "ثمَّ إنَّ اشتراك القبيلين، أعني الرجال والنساء، في أصول المواهب الوجوديَّة، أعني الفكر والإرادة المولِّدتين للاختيار، يستدعي اشتراكها مع الرجل في حريَّة الفكر والإرادة، أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرُّف في جميع شؤون حياتها الفرديَّة والاجتماعيَّة عدا ما منع عنه مانع. وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحريَّة على أتمّ الوجوه،كما سمِعْتَ، فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله -سبحانه- مستقلَّة بنفسها منفكَّة الإرادة والعمل عن‏ الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يُسمَح لها بهِ في الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال -تعالى-: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ﴾[1]"[2].

 

وضمن بحث علميّ أقامه السيّد عن المرأة، بعنوان "المرأة في الإسلام"، يتحدّث أيضًا عن حريّة المرأة الاجتماعيَّة، فيقول: "وأمَّا وزنها الاجتماعيّ: فإنَّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنَّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البُنية الإنسانيَّة في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال -تعالى-: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[3]، فلها أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجها، كما للرجل ذلك من غير فرق، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ‏﴾[4].

 

وضمن تفسير العلَّامة لآية ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾، فسّر سماحته المعاشرة بالمعروف للنساء، بإيلاء الحريّة الاجتماعيَّة لهنّ، فقال: "في قوله - تعالى -: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾ إلى آخر الآية، المعروف‏ هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من

 

 


[1] سورة البقرة الآية 234.

[2] العلّامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص 272 – 275 ،"ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[3] سورة آل عمران، الآية 195.

[4] العلّامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق ج2 ص "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

102


87

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

غير أن ينكروه ويجهلوه، وحيث قيَّد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهنَّ المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.

 

والمعاشرة التي يعرفها الرجال ويتعارفونها بينهم أنَّ الواحد منهم جزء مقوِّم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنسانيّ لغرض التعاون والتعاضد العموميّ النوعيّ، فيتوجَّه على كلٍّ منهم من التكليف أنيسعى بما فيوسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع، فيقتني ما ينتفع به، فيُعطي ما يستغني عنه ويَأخُذ ما يحتاج إليه، فلو عومِل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة، وليس إلّا أن يُضطهَد بإبطال استقلاله في الجزئيَّة فيؤخذ تابعًا يُنتَفَع به ولا ينتفع هو بشي‏ء يحاذيه، وهذا هو الاستثناء"[1].

 

ويقول: "فالطائفتان متعادلتان وزنًا وأثرًا كما أنَّ أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البُنية المكوِّنة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة من قوَّة وضعف، وعلم وجهل، وكياسة وبلادة، وصغر وكبر، ورئاسة ومرؤوسيَّة، ومخدوميَّة وخادميّة، وشرف وخِسَّة، وغير ذلك.

 

فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسِّط الجاري على سنّة الفطرة من غير انحراف، وقد قوَّم الإسلام أود الاجتماع الإنسانيّ وأقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذي نعبِّر عنه بالحريِّة الاجتماعيَّة، وحريَّة النساء كالرجال، وحقيقتها أنَّ الإنسان، بما هو إنسان ذو فكر وإرادة، له أن يختار ما ينفعه على ما يضرُّه مستقلًّا في اختياره، ثمَّ إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ما لم يُزاحِمْ سعادة المجتمع الإنسانيّ مستقلًّا في ذلك من غير أن يُمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار... ولا تختصّ هذه المختصَّات بشريعة الإسلام المقدَّسة بل توجَد في جميع القوانين‏[2] المدنيَّة، بل في جميع السنن الإنسانيَّة حتّى الهمجيَّة قليلًا أو كثيرًا


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، من ص272-275، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[2] المصدر نفسه، ج‏4، ص255.

 

103


88

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

على اختلافها، والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله - تعالى -: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾ على ما تبيَّن".

 

وعليه، فالآية تأمر الرجال بمعاشرة النساء بالمعروف كمعاشرة بعضهم بعضًا، ذلك لأنهنَّ أجزاء كاملة في المجتمع كما الرجال بالتمام، لهنّ كامل الفكر والإرادة والإختيار، لذا، ينبغي أن يتمَّ التعامل معهنّ في المجتمع وفق إنسانيَّتهنَّ تلك.

 

فللمرأة أن تقتني ما تنتفع به وتَعطي ما تستغني عنه وتأخذ ما تحتاج إليه... فأصل المعاملة الاجتماعيَّة في الإسلام هو الاستقلال في إدارة الشؤون إلّا عند الاستثناء.

 

ثمَّ يقول رحمه الله: "وأمَّا قَوْلُه - تعالى -: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

 

فقد كان المجتمع الإنسانيُّ يومئذٍ (عصر نزول القرآن) لا يُوقف النساء في موقفها الإنسانيّ الواقعيّ، ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوّم، بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذٍ بين ما يَعُدُّهنَّ طفيليَّات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، وما يَعُدُّهنَّ إنسانًا ناقصًا في الإنسانيّة كالصبيان والمجانين، إلّا أنّهنَّ لا يبلغنَ الإنسانيَّة أبدًا، فيجب أن يعِشنَ تحت الإتباع والاستيلاء دائمًا، ولعلَّ قوله - تعالى -: ﴿فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ﴾‏، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهنَّ من دون نكاحهنَّ، إشارة إلى ذلك"[1].

 

وممّا يمكن إدراجه أيضًا تحت الحريّة الاجتماعيَّة للمرأة، فقد فصّل فيه العلَّامة العنوانين الآتيتين:

أ. حقّ المرأة في العلم والعمل:

فيما يتعلّق بورود المرأة لساحات العلم والعمل، يقول سماحته: "وأمَّا غيرها[2] من الجهات كجهات التعليم والتعلُّم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممَّا لا يُنافِي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف، فلم تمنعهنَّ السنَّة ذلك. والسيرة النبويّة تمضي


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص255-257.

[2] الحكومة والقضاء والحرب.

 

104


89

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

كثيرًا منها، والكتاب أيضًا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقِّهنَّ، فإنَّ ذلك لازمُ ما أُعطين من حريَّة الإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة، إذ لا معنى لإخراجهنَّ من تحت ولاية الرجال، وجعل المُلْك لهنَّ بحِيالهنَّ، ثمَّ النهي عن قيامهنَّ بإصلاح ما ملكته أيديهنَّ بأيِّ نحو من الإصلاح، وكذا لا معنى لجعل حقّ الدعوى أو الشهادة لهنَّ، ثمَّ المنع من حضورهنَّ عند الوالي أو القاضي، وهكذا. اللَّهمَّ إلَّا فيما يُزاحِم حقّ الزوج فإنَّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، والحفظ في الغيبة، ولا يمضي لها من شؤونها الجائزة ما يُزاحِم ذلك"[1].

 

وقد فصّل العلَّامة فيما يجب على المرأة من العلم والعمل، وفيما لا يجب عليها ويكون ورودها فيه فضلًا بالنّسبة إليها، فقال: "والمتحصّل من جميع ذلك أنَّها لا يجب عليها في جانب العلم إلَّا العلم بأصول المعارف والعلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمَّا في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتَّع به منها، وأمَّا تنظيم الحياة الفرديَّة بعملٍ أو كسبٍ بحرفةٍ أو صناعةٍ، وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت، وكذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العامّ كتعلُّم العلوم واتِّخاذ الصناعات والحرف المفيدة للعامّة والنافعة في الاجتماعات، مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شي‏ء من‏ ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد كلّها من علمٍ أو كسبٍ، أو شغلٍ أو تربيةٍ، ونحو ذلك، فضلًا لها تتفاضل به، وفخرًا لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام، بل ندب إلى التفاخر بينهنَّ، مع أنَّ الرجال نُهوا عن التفاخر في غير حال الحرب"[2].

 

فما يرمي إليه العلَّامة هو تعيين التكليف الفرديّ على كلّ النساء، لجهة العلم والعمل والمفروض عليها بالعنوان الأوَّليِّ، أي أنَّه يجب على كلّ النساء، بغضّ النظر عن أيِّ لحاظ سوى أنَّهنَّ نساء مسلمات، أن يتعلَّمنَ أصول المعارف الدينيّة وأن يتعلَّمنَ الأحكام التي هي مورد ابتلاءٍ لهنَّ، وكذا القوانين والأحكام التي تُنظِّم علاقتها بزوجها،


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص346-347.

[2] المصدر نفسه ، ج‏2، من ص272-273، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

105


90

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

هذا كلّه واجبٌ عينيّ على كلّ أنثى. أمَّا ما زاد عن ذلك في إطار العلم والعمل فهو ليس مفروضًا على النساء فرضًا أوَّليًّا، ولها حريّة الاختيار فيما ترغب من علم وعمل نافع. نعم، لا يخلو الأمر من تفصيل، ففي أحيانٍ كثيرةٍ تُمسي بعض المهن والعلوم تكليفًا كفائيًّا على نوع النساء لا بدَّ من إيجاده في المجتمع، كوجود طبيبة نسائيَّة مثلًا.. وفي مرَّاتٍ أخرى يغدو العلم والعمل مفروضَيْنِ على النساء بالعنوان الثانويّ. فصحيح أنَّبعض العلوم والأعمال ليست فرضًا على النساء، لكن يمكن أن تُصبِحَ مفروضةً عليها بالعنوان الثانويِّ لما يترتَّب عليها من جلبٍ لمصلحةٍ أو درءٍ لمفسدةٍ سواءٌ عليها أو على مجتمعها الذي تنتمي إليه.

 

ب. حقُّ المرأة في الزواج بعد وفاة زوجها:

ومن مصاديق الحريَّة الاجتماعيَّة التي وهبها الإسلام للمرأة، هو إعطاء الحريّة في الزواج وعدمه للمتوفّى زوجُها بعد أن كانت الأعراف تمنعها من ذلك. وفي هذا السياق يقول العلَّامة: "قوله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾[1]، التوفِّي‏ هو الإماتة، وفي قوله -تعالى-: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[2]‏ المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدَّة، وقَوْلُه: فَلا جُناحَ‏ "إلخ" كناية عن إعطاء الاختيار لهنَّ في أفعالهنَّ، فإن اخترنَ لأنفسهنَّ الازدواج فلهنَّ ذلك، وليس لقرابة الميت منعهنَّ عن شي‏ء من ذلك استناداً إلى بعض العادات المبنيَّة على الجهالة والعمى أو الشُّحِّ والحسد، فإنَّ لهنَّ حقًّا في ذلك معروفًا في الشرع، وليس لأحدٍ أن ينهى عن المعروف.

 

وقد كانت الأمم على أهواءٍ شتَّى في المتوفَّى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحيَّة مع زوجها الميْت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن


 


[1] سورة البقرة، الآية 234.

[2] السورة والآية نفسها.

 

106


91

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهليّ، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض المِلَل الراقية، وبين من يعتقد أنَّ للزوج المتوفَّى حقًّا على الزوجة في الكفّ عن الازدواج حينًا من غير تعيين للمدَّة، كلّ ذلك لما يجدونه من أنفسهم أنَّ الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبنيّ على أساس الأُنس والأُلفة، وللحبّ حرمة يجب رعايتها، وهذا وإن كان معنى قائمًا بالطرفين، ومرتبطًا بالزوج والزوجة معًا فكلٌّ منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أنَّ هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياة والاحتجاب والعفَّة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه‏ الأقوام المختلفة في المتوفَّى عنها زوجها، وقد عيَّن الإسلام هذا التربُّص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر وعشرًا"[1].

 

ج. المساواة مع الرّجل في الأمر بالعفّة:

يتوجّه الأمر بغضّ البصر وحفظ الفرج إلى كلّ من الرّجل والمرأة. وحيث إنَّ الأمر توجّه إلى كلّ منهما، فهذا يعني أنّ عفَّة الرّجل هي بدورها في غاية الأهميّة وأنّ عفّة الفرج وغضّ البصر ليسا حكرًا على المرأة. ومن الآثار الاجتماعيَّة للعفّة استقرار الأُسَرِ وحفظها، وسلامة المجتمع من الفواحش وتَصدُّع القيم.

 

أمّا الأمر لكلّ من الرجل والمرأة بغضّ البصر وحفظ الفروج فقد شرحه السيّد قدس سره بقولِهِ: "قَوْلُه -تعالى-: ﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ‏﴾[2] الغضّ إطباق الجفن على الجفن...، فقَوْلُه:

﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ‏﴾ لمَّا كان ﴿يَغُضُّواْ﴾ مترتِّبًا على‏ قولِهِ: ﴿قُل‏﴾ ترتُّب جواب الشرط عليه، دلَّ ذلك على كون القول بمعنى الأمر، والمعنى؛ مُرْهُم يغضّوا من


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق ، ج‏2، ص242-243.

[2] سورة النور، الآية 30.

 

 

107


92

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

أبصارهم، والتقدير مُرْهُم بالغضّ إنَّك إن تأمرهم به يغضُّوا، والآية أمر بغضّ الأبصار وإن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيِّ والأجنبيَّة لمكان الإطلاق.

 

وقَوْلُه: ﴿وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ‏﴾ أي ومُرْهُم يحفظوا فروجهم، والفرجة والفرج‏ الشقّ بين الشيئين، وكنَّى به عن السوأة، وعلى ذلك جرى استعمال القرآن الملي‏ء أدبًا وخُلُقًا ثمَّكَثرَ استعماله فيها حتّى صار كالنصّ كما ذكره الراغب.

 

والمقابلة بين قولِهِ -تعالى-: ﴿يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ‏﴾ و﴿وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ‏﴾ تُعطي أنّ المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا واللواطة كما قيل، وقد ورد في الرواية عن الصادق عليه السلام: "أنَّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا، إلّا هذه الآية فهي من النظر".

 

والكلام في قولِهِ -تعالى-: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[1]، نظير ما مرّ في قوله: ﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ‏﴾، فلا يجوز لهنَّ النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ويجب عليهنَّ ستر العورة عن الأجنبيِّ والأجنبيَّة"[2].

 

التّفاوت عن الرّجل

أمّا ما تتفاوت به المرأة اجتماعيًّا عن الرّجل، فهو:

1. التفاوت عن الرجل في الأمر بشدّة الإرفاق بها:

يتميّز الإسلام بعنايته الخاصّة وإرفاقه بالنساء، وهو أمر تتفاوت به المرأة عن الرجل. يقول السيّد الطباطبائيّ: "إنَّ النساء مختصَّات في الإسلام من مزيدِ الإرفاق بالنسبةِ إلى الرجال بما لا يوجد نحوُه في سائر السنن الاجتماعيَّة قديمها وحديثها"[3].


 


[1] سورة النور، الآية 31.

[2] العلّامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 15، ص 110 – 111.

[3] المصدر نفسه، ج6، ص 345.

 

108


93

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

ومن مظاهر الرفق الخاصّ بالنساء، الرفق بنساء العدوّ، حيث حرّم الإسلام قتلهنّ وأوصى بالإحسان إليهنّ، هنّ وأصناف أخرى من الناس. يقول العلَّامة: "فالإسلام لا يقاتل عبطةً واختيارًا وإنَّما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطرارًا ولا يأخذ منه إلّا بالوسائل الشريفة؛ فيحرّم في الحرب والسلم التخريب والإحراق والسمّ وقطع الماء عن الأعداء كما يحرِّم قتل النساء والأطفال وقتل الأسرى، ويوصي بالرفق بهم والإحسان إليهم، مهما كانوا من العداء والبغضاء للمسلمين...، كلّ تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شي‏ء منها مع الأعداء في كلِّ ما كان له من المعارك والحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها الدول المتمدِّنة في هذا العصر الذي يسمُّونه عصر النور. نعم أباح عصر النور قتل النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والتبييت ليلًا والهجوم ليلًا بالسلاح والقنابل على العُزَّل والمدنيِّين الآمنين، وأباح القتل بالجملة"[1].

 

وقد أشار سماحته أيضًا إلى حرمة قتل نساء العدوّ في معرض تفسيره لآية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾[2]، حيث قال: "وقَوْلُهُ - تعالى -: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾[3] تعليم وتذكير وفيه حثّ على الاتَّصاف بصفة التقوى يترتَّب عليه من الفائدة: أوّلًا: الوعد الجميل بالنصر الإلهيّ والغلبة والظفر، فإنَّ حزب الله هم الغالبون.

 

وثانيًا: منعهم أن يتعدّوا حدود الله في الحروب والمغازي بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة، فأرسل إليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن ذلك وقتل رجالًا من بني جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وتبرَّأ إلى‏ الله من فعله ثلاثًا[4]"[5].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص164-165.

[2] سورة البقرة، الآية 208.

[3] السورة نفسها، الآية 194.

[4] القصتان الأوليان مذكورتان في كتب السير و المغازي و الثالثة تقدَّمت في تفسير الآية سابقًا.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏9، ص270-271.

 

109


94

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

وقد قامت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الإرفاق بالنّساء والتوصية بهنّ. يقول العلَّامة: "والسنّة النبويَّة تؤيِّد ما ذكرناه، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طُرَفًا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع ابنته سيِّدة النساء فاطمة عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه، وما وصّى به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمَّة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت عليّ وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهنَّ على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء"[1].

 

2. التفاوت عن الرجل في إقامة الشهادة:

وممّا تتفاوت به المرأة عن الرجل في البعد الاجتماعيّ اعتبار شهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد، وقد أشار العلَّامة إلى ذلك وقدّم تعليلًا لهذه المسألة، فقال: "أيضًا لا يعبأ بعض الأمم الهمجيّة بشهادة النسوان لمَّا لم يعدّوا المرأة جزءًا من المجتمع، وعلى ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعيَّة في الأمم القديمة كالروم واليونان وغيرهم. وقد اعتبر الإسلام في عامَّة الموارد، غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال -تعالى-: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾[2]، فأفاد أنَّ ما بيَّنته الآية واعتبرته من أحكام الشهادة ومنها ضمّ الواحد إلى آخر ليكونا اثنين أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع الريب.

 

ثمَّ لمَّا كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع، وبعبارةٍ أخرى، في اعتباره الواحد الذي يتكوَّن منه المجتمع الإنسانيّ يعدّ المرأة جزءًا مشمولًا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حقّ إقامة الشهادات، إلَّا أنَّه لمّا اعتبر في المجتمع الذي كوَّنه أن يكون مبنيًّا

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص272-273، "اذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[2] سورة البقرة، الآية 282.

 

 

110


95

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

على التعقُّل دون العواطف، والمرأة إنسان عاطفيّ أعطاها من الحقّ والوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قَوْلُه -تعالى- في الآية السابقة: ﴿أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ﴾..."[1].

 

3. التفاوت عن الرجل في الوظائف والتدابير الاجتماعيَّة:

وهو بحثٌ لطيف، تكلّم فيه السيّد الطباطبائيّ ضمن محورين:

أ. علّة تفاوت الوظائف والتدابير الاجتماعيَّة بينهما:

إنّ التفاوت التكوينيّ الموجود بين المرأة والرّجل يوجب اختلاف الوظائف بينهما؛ ولذا يقول السيّد الطباطبائيّ: "واستوجب ذلك أنَّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنَّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقَّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل، كما أنَّ التعقُّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيَّة كما أنَّ حياة الرجل حياة تعقُّليَّة.

 

ولذلك فرَّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامَّة الاجتماعيَّة التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين، أعني التعقُّل، والإحساس"[2].

 

ب. الوظائف والتدابير الاجتماعيَّة المتفاوتة بينهما:

يُحدّد العلَّامة الطباطبائيّ إختلاف الرّجل والمرأة في الوظائف والتدابير الاجتماعيَّة على الشكل الآتي:

· الحكومة والقضاء والحرب للرجال:

يعتقد السيّد الطباطبائيّ بوجود قيمومة عامّة لصنف الرّجال على صنف النّساء، وهي أعمّ من قيمومة الرّجل على زوجته. وتتجلّى هذه القيمومة فيما يُحتاج فيه إلى البأس والشدّة من قبيل الحكومة والقضاء والحرب. حيث يقول: "قَوْلُه - تعالى -:


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏6، ص204.

[2] المصدر نفسه، ج‏2، ص275.

 

111


96

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ القيِّم‏ هو الذي يقوم بأمر غيره، والقوَّام والقيَّام مبالغة منه.

 

والمراد بما فضّل الله بعضهم على بعض هو ما يَفْضُلُ ويزيد فيه الرجال، بحسب الطبع، على النساء، وهو زيادة قوَّة التعقُّل فيهم، وما يتفرَّع عليه من شدَّة البأس والقوَّة والطاقة على الشدائِدِ من الأعمالِ ونحوها، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنَّ ونفقاتهنَّ.

 

وعموم هذه العلَّة يُعطي أنَّ الحكم المبنيَّ عليها، أعني قَوْلَهُ -تعالى-: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ غير مقصور على الأزواج بأن يختصّ القواميَّة بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامَّة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعًا، فالجهات العامَّة الاجتماعيَّة التي ترتبط بفضل الرجال، كجهتي الحكومة والقضاء مثلًا اللَّتين يتوقَّف عليهما حياة المجتمع، إنَّما يقومان بالتعقُّل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، وكذا الدفاع الحربيّ الذي يرتبط بالشدَّة وقوَّة التعقُّل، كلّ ذلك ممّا يقوم به الرجال على النساء. وعلى هذا فقَوْلُه -تعالى-: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ ذو إطلاق تامّ"[1].

 

وكما أشار السيّد (رضوان الله عليه) إلى أنّ القوَّاميّة للرجل على المرأة ترتبط بما فيه حاجة إلى القوّة والبأس، وبالتّالي تكون هذه القيمومة محدّدة وليست مطلقة تسري على كافّة أمور المرأة الاجتماعيَّة. ولذا يقول السيّد: "قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنَّما تتعلَّق بالجهات العامَّة المشتركة بينهما، المرتبطة بزيادة تعقّل الرجل وشدَّتِهِ في البأس، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب، من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفرديَّة وعمل نفسها، بأن تريد ما أحبَّت وتفعل ما شاءت، من غير أن يحقّ للرجل أن يُعارِضَها في شي‏ءٍ من ذلك في غير المنكر، فلا جُناحَ عليهم فيما فعلنَ في أنفسهنَّ بالمعروف"[2].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص338.

[2] المصدر نفسه، ص344.

 

 

112


97

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

ويعتبر العلَّامة قدس سره أنّ التأمّل في الأمور الاجتماعيَّة الكبيرة التي تحتاج إلى تغليب العقل كالحكومة والقضاء والحرب كافٍ للحدس والإذعان بتسليمها إلى الرّجال من دون النّساء، حيث يقول: "والباحث المتأمِّل يحدس من هذا المقدار أنَّ من الواجب أن يفوِّض زمام الأمور الكلِّيَّة والجهات العامَّة الاجتماعيَّة التي ينبغي أن تدبِّرها قوَّة التعقُّل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانيَّة كجهاتِ الحكومة والقضاء والحرب إلى مَن يمتاز بمزيدِ العقلِ ويضعف فيه حكم العواطف، وهو قبيل الرجال دون النساء"[1].

 

ثمّ يستشهد العلَّامة على صحّة رأيه بالسُنّة النبويّة الشريفة، فيُكمل قائلًا: "وهو كذلك، قال الله - تعالى -: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾، والسنّة النبويَّة التي هي ترجمان البيانات القرآنيّة بيَّنت ذلك كذلك، وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك أيَّام حياته فلم يولّ امرأة على قومٍ، ولا أعطى امرأة منصب القضاء، ولا دعاهنَّ إلى غزاة، بمعنى دعوتهنَّ إلى أن يقاتلنَ"[2].

 

وما ذُكر من اختصاص الرّجال بالقتال والحرب، لا ينفي حضور المرأة في تلك السّاحات لتقديم المدد والدّعم بما يتناسب وينسجم مع أصل خلقتها. يقول قدس سره: "ولا تتولَّى القتال بمعنى المقارعة، لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلًا"[3].

 

بالإضافة إلى ما سبق، ينقض السيّد الطباطبائيّ النظريَّة التي تحيل تأخّر النساء عن الرجال في الحكومة والقضاء والقتال على عدم صلاح التربية لهنّ منذ أقدم العصور الإنسانيّة، فيقول: "وقد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامَّة الاجتماعيَّة كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والإحساس ووضع زمامها في يدها، النتائج المرَّة التي يذوقها المجتمع البشريّ إثر غلبة الإحساس على التعقّل في عصرنا الحاضر، وأَنْتَ بالتأمُّل في الحروب العالميَّة الكبرى التي هي من هدايا المدنيَّة


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص347.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ج‏2، من ص272، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

 

 

113


98

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

الحاضرة، وفي الأوضاع العامَّة الحاكمة على الدنيا، وعَرْض هذه الحوادث على العقل والإحساس العاطفيّ، تقف على تشخيص ما منه الإغراء وما إليه النصح، والله الهادي.

 

على أنَّ المِلل المتمدِّنة من الغربيِّين لم يألوا جهدًا ولم يقصِّروا حرصًا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صفّ واحد، وإخراج ما فيهنَّ من استعداد الكمال من القوَّة إلى الفعل، وأنت مع ذلك، إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوَّادها (وهي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة، القضاء القتال) لم تجد فيه شيئًا يعتدّ به من أسماء النساء ولا عددًا يقبل المقايسة إلى المئات والألوف من الرجال، وهذا في نفسه أصدق شاهد على أنَّ طباع النساء لا تقبل الرشد، والنماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها، بحسب الطبع، إلّا للتعقّل، وكلَّما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبةً وخسرانًا.

 

وهذا وأمثالُهُ من أقطع الأجوبة للنظريَّة المشهورة القائلة إنَّ السبب الوحيد في تأخّر النساء عن الرجال في المجتمع الإنسانيّ هو ضعف التربية الصالحة فيهنَّ منذ أقدم عهودِ الإنسانيّة، ولو دامت عليهنَّ التربية الصالحة الجيِّدة، مع ما فيهنَّ من الإحساسات والعواطف الرقيقة، لَلَحِقْنَ الرجال أو تقدَّمنَ عليهم في جهاتِ الكمال.

 

وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب؛ فإنَّ اختصاصهنّ بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهنَّ هو الموجب لتأخُّرهنَّ فيما يحتاج من الأمور إلى قوَّة التعقّل وتسلّطه على العواطف الروحيَّة الرقيقة كالحكومة والقضاء، وتقدّم من يزيد عليهنَّ في ذلك، وهُمُ الرجال. فإنَّ التجارب القطعيَّة تفيد أنّ من اختصّ بقوّة صفة من الصفات الروحيّة فإنّما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب، ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا منهنَّ في نيل الكمال فيها، وأن تنجح تربيتهنَّ فيما يُناسِب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطبّ والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الأطفال وتمريض المرضى وأبواب الزينة ونحو ذلك، ويتساوى القبيلان فيما سِوَى ذلك.

 

 

114


99

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

على أنَّ تأخُّرهنَّ فيما ذُكِر من الأمور، لو كان مستندًا إلى الاتِّفاق والصدفة، كما ذكر، لانتقضَ في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الإنسانيّ، وقد خمَّنوها بملايين من السنين، كما أنَّ تأخّر الرجال فيما يختصّ من الأمور المختصَّة بالنساء كذلك"[1].

 

وفي المقابل، لمّا اختصّ به الرّجال من أمور الحكومة والقضاء والحرب، اختصّت النّساء بأمور أخرى كالتربية، والرعاية، والتمريض، وغيرها ممّا تتفوّق فيه على الرّجل. وهو ما ذكره العلَّامة في القول السّابق. كما ذكر اختصاص المرأة بتدبير المنزل في قولِهِ: "فخَصَّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل والحياة التعقُّليَّة، إنَّما هي للرجل من دون المرأة، وخصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث"[2].

 

· التفاوت عن الرجل في السّتر والحجاب:

بالنّظر إلى ما تتميّز به المرأة من الرّجل من جمالٍ فاتنٍ وقدرةٍ على الإغواءِ للرّجل، إختُصّت المرأة بالحجاب ومزيدٍ من السّتر. وكلّما ازداد جمالها، ازداد الانجذاب إليها. يقول العلَّامة الطباطبائيّ عند كلامِهِ عن تمثّل الدنيا لأمير المؤمنين عليه السلام بصورة امرأةٍ حسناء: "فظَهر ممّا قدّمناه أنّ التمثُّل هو ظهور الشي‏ء للإنسان بصورةٍ يألفُها الإنسان وتُناسِب الغرض الذي لأجله الظهور... كظهور الدنيا لعليّ عليه السلام في صورة امرأةٍ حسناءٍ لتغرّه لمَّا أنَّ الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء واللذائذ النفسانيَّة أقوى سببًا يُتوسَّل به للأخذ بمجامع القلب والغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة"[3].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص229-230.

[2] المصدر نفسه، ج‏2، ص275.

[3] المصدر نفسه، ج‏14، ص40.

 

 

115


100

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

فكان الأمر إلى نساء النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناته ونساء المؤمنين بالسّتر. يقول العلَّامة: "قوله -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ﴾[1]، الجلابيب‏ جمع جلباب وهو ثوب تشتمل به المرأة فيغطِّي جميع بدنها أو الخمار الذي تغطِّي به رأسَها ووجهَها. وقَوْلُهُ -تعالى-: ﴿يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ‏﴾ أي يتستَّرنَ بها فلا تظهر جيوبُهنَّ وصدورهنَّ للناظرين[2].

 

ثمّ يستنتج العلَّامة من ذيل الآية علّة الأمر بالسّتر، إذ يقول: "وقوله -تعالى-: ﴿ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ﴾؛ أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن‏ يُعرفْنَ أنّهنَّ أهل الستر والصلاح، فلا يؤذَيْن أي لا يؤذيهنَّ أهل الفسق بالتعرُّض لهنَّ"[3].

 

وبالتالي لا يتعدّى الرجال حدودهم معهنّ في كلامٍ أو فعل. كما أنّ الحجاب هو الوسيلة الثانية، إلى جنبِ المنعِ من الإختلاطِ، في منعِ تفشّي الزّنا في المجتمع وانتشار الفساد فيه. يقول (رضوان الله عليه): "وهذا كما أنّ الإسلام سدّ باب الزّنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، والمنع عن اختلاط الرّجال بالنّساء والنّساء بالرّجال، ولولا ذلك لم ينجح النّهي عن الزّنا في الحجز بين الإنسان وبين هذا الفعل الشّنيع"[4].

 

أي أنَّه لو منع الإسلام عن الزنا ولم يوجد المقدِّمات والبيئة السليمة التي يُرعى فيها هذا الحكم، لما كان التحريم فقط حاجزًا عن الزنا. فالإسلام العزيز الحكيم حرّم الزنا ولضمانِ تطبيقِ هذا الحكم فرض الحجاب ومنع الاختلاط ورسم حدوده بدقّة حفاظًا على المجتمع والأفراد.

 

وفي السّياق عينه، يقول العلَّامة في معرض حديثه عن حكم عدم الجواز للرجل نكاح النساء من محارمه: "هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرَّمات من المبهمات وغيرها في باب النكاح إلّا المحصنات من النساء على ما عرفت. وتأثير هذا


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 59.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص339.

[3] المصدر نفسه، ص339-340.

[4] المصدر نفسه، ج‏4، ص315.

 

116


101

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

الحكم في المنع عن فشو الزنا وتسرُّبه في المجتمع المنزليّ كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا وسريان الفساد في المجتمع المدنيّ على ما عرفت"[1].

 

والمقصود أنَّ حكم تحريم نكاح المحارم يوجِدُ حاجزًا عن تسرّب الزنا وإفشائه في الأُسَر والعائلات، تمامًا كما حال حكم الحجاب على المرأة الذي يمنع من ظهور الزنا وسريانه في المجتمع.

 

· التفاوت عن الرجل في تعدّد الأزواج:

من الطبيعيّ أن لا يتساوى الرّجل والمرأة في تعدّد الأزواج. وللسيّد الطباطبائيّ في هذا المجال بحثٌ مُوسّع تناول فيه موضوع تعدّد الزوجات على عدّة مستويات:

- تاريخ تعدّد الزوجات:

قدّم السيِّد الطباطبائيّ لبحث تعدّد الزّوجات في الإسلام، بالحديث أوّلًا عن تاريخ تعدّد الزّوجات، فقال: "وأمَّا الإنسان فاتِّخاذ الزوجات المتعدِّدة كان سنّة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان، فإنَّهم كانوا ربَّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خِدْنًا يصاحبونها، بل وكان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب، فكان الرجل منهم ربَّما تزوَّج العَشْرَ والعشرين وأزيد، وقد ذكروا أنَّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

 

وأغلب ما كان يقع تعددّ الزوجات إنَّما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من سكَّان القرى والجبال، فإنَّ لربّ البيت منهم حاجةً شديدةً إلى الجمع وكثرة الأعضاء، فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليُهوَّن لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلةً يتوسّلون بها إلى الترؤُّس والسؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثُّر الأقرباء بالمصاهرة.

 

وما ذكره بعض العلماء أنَّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل وأهل القرى، إنَّما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص315.

 

117


102

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك، فهو وإن كان حقًّا في الجملة، إلَّا أنَّ التأمُّل في صفاتهم الروحيَّة يُعطي أنَّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمِّيَّة عندهم، وما ذكرناه هو الذي يتعلَّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلًا، وبالذات كما أنَّ شيوع الادِّعاء والتبنِّي أيضًا بينهم سابقًا كان من فروع هذا الغرض.

 

على أنَّه كان، في هذه الأمم، عامل أساسيٌّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم وهو زيادة عدَّة النساء على الرجال بما لا يُتسامَح فيه، فإنَّ هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات"[1].

 

- رأي الإسلام في تعدّد الزّوجات والإشكاليات الواردة:

بعد عرض نبذة عن تاريخ تعدّد الزّوجات، بيّن السيّد الطباطبائيّ نظر الإسلام فيه، فقال: "والإسلام شرَّع الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنَّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجِّهة إلى التعدُّد، على ما سنشير إليه، قال الله -تعالى-: ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ‏﴾[2]"[3].

 

وقد عرض السيّد الطباطبائيّ عددًا من الإشكالات المتوجّهة إلى نظام تعدّد الزّوجات في الإسلام ممّن يُعارضون هذا التعدّد بقوله: "وقد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلًا: أنَّه يضع آثارًا سيِّئة في المجتمع فإنَّه يقرع قلوب النساء في عواطفهنَّ ويخيِّب آمالهنَّ ويُسَكِّنُ فورة الحبِّ في قلوبهنَّ، فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام، فيهملنَ أمر البيت ويتثاقلنَ في تربية الأولاد ويقابلنَ الرجال بمثل ما أساءوا إليهنَّ، فيُشاع الزنا والسِّفاح والخيانة في المال والعرض، فلا يلبث المجتمع حتَّى ينحطّ في أقرب وقت.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص182-183.

[2] سورة البقرة، الآية 228.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص183-184.

 

118


103

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

وثانيًا: أنَّ التعدُّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة، فإنَّ الإحصاء في الأمم والأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة والإناث متساويان عددًا تقريبًا، فالذي هيَّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

 

وثالثًا: أنَّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيبًا للرجال في الشَّرَهِ والشهوة، وتقوية لهذه القوَّة في المجتمع.

 

ورابعًا: أنَّ في ذلك حطًّا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنَّ بواحدٍ من الرجال، وهو تقويم جائر حتَّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوَّى فيه بين امرأتين ورجل، كما في الإرث والشهادة وغيرهما، ولازمه تجويز التزوُّج باثنتين منهنَّ لا أَزيَد، ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه. وهذه الإشكالات ممَّا اعترض بها النصارى على الإسلام، أومن يوافقهم من المدنيِّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع"[1].

 

كما طرح هؤلاء إشكالًا آخر هو الأقوى، ومفاده، وفق العلَّامة الطباطبائيِّ، الآتي: "وأقوى ما تشبَّث به مخالفو سنّة التعدُّد من علماء الغرب وَزوَّقوه في أعين الناظرين، ما هو مشهود في بيوت المسلمين، تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة ضرَّتان أو ضرائر، فإنّ هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرَّتان من أوَّل يوم حلَّتا البيت حتَّى تأخذا في التحاسد، حتَّى إنَّهم سَمَّوْا الحسد بداء الضرائر، وعندئذٍ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جُبِلت عليها النساء من الحبِّ ولين الجانب والرقَّة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودَّة والرحمة والإخلاص، بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلّق به، إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليوميّ وتألّم الروح والجسم من مشاقّ الأعمال والجهد في المكسب، معركة قتال يُستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه، لا يؤمَن فيه من شي‏ء لشي‏ء، ويتكدَّر


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص183-184.

 

119


104

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

فيه صفو العيش وترتحل لذَّة الحياة، ويحلّ محلّها الضرب والشتم والسبّ واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة، واختلاف الأولاد وتشاجرهم، وربَّما انجرَّ الأمر إلى همّ الزوجة بإهلاك الزوج، وقتل بعض الأولاد بعضًا أو أباهم، وتتبدَّل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت. أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة والظلم والبغي والفحشاء وانسلاب الأمن والوثوق وخاصَّةً إذا أُضيفَ إلى ذلك جواز الطلاق، فإباحة تعدّد الزوجات والطلاق يُنشئان في المجتمع رجالًا ذوَّاقين مترفين لا همّ لهم إلّا اتِّباع الشهوات والحرص والتولّع على أخذ هذه وترك تلك، ورفع واحدة ووضع أخرى، وليس فيه إلّا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء، وبذلك‏ يُفسَد النصف الآخر. هذا محصَّل ما ذكروه"[1].

 

الإجابة عن هذه الإشكالات

قدّم السيّد العلَّامة أجوبة عدّة عن الإشكالات الأربعة الأولى التي تمّ طرحها وتوجيهها إلى حكم جواز تعدّد الزوجات في الإسلام، فقال: "والجواب عن الأوَّل ما تقدَّم غير مرَّة في المباحث المتقدِّمة مِن أنّ الإسلام وضع بُنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقُّليَّة دون الحياة الإحساسيَّة، فالمتَّبع عنده هو الصلاح العقليُّ في السنن الاجتماعيَّة دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف، وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الإلهيّة والغرائز الطبيعيّة، فإنَّ من المسلَّم في الأبحاث النفسيَّة أنّ الصفات الروحيَّة والعواطف والإحساسات الباطنة تختلف كمًّا وكيفًا باختلاف التربية والعادة، كما أنَّ كثيرًا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيِّين مثلًا مذمومة عند الغربيِّين وبالعكس، وكلّ أمَّةٍ تختلف مع غيرها في بعضها. والتربية الدينيّة في الإسلام تُقيِّم المرأة الإسلاميَّة مقامًا لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها. نعم، المرأة الغربيِّة حيث اعتادت منذ قرون


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص190-191.

 

120


105

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

على الوحدة ولقَّنت بذلك جيلًا بعد جيل، استحكم في روحها عاطفة نفسانيَّة تضادُّ التعدّد. ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاع بين الرجال والنساء في الأمم المتمدِّنة اليوم.

 

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلِّ من هووها وهوتهم من نسائهم من محارمَ وغيرها، ومن بِكْرٍ أوثيِّبٍ ومن ذاتِ بعلٍ أوغيرها، حتَّى إنَّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلِّ ألف منهم بواحدٍ قد سَلِمَ من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء!؟ ولم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعًا قلَّ ما يَسْلَمَ منه فرد حتَّى بلغ الأمر مبلغًا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سُنَّةً قانونيّة وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميَّة، وأمَّا النساء، وخاصَّةً الأبكار وغير ذواتِ البعلِ من الفتيات، فالأمر فيهنَّ أغرب وأفظع.

 

فليتَ شعري، كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرَّجنَ ولا تنكسر قلوبهنَّ ولا تتألَّم عواطفهنَّ حين يشاهدنَ كلَّ هذه الفضائح من رجالهنَّ؟ وكيف لا تتألّم عواطف الرجل وإحساساته حين يبني بفتاة ثمَّ يجدها ثيِّبًا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال، ثمَّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنَّ السيِّدة ممَّن توفَّرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات!! وهل هذا إلَّا أنَّ هذه السيِّئات تكرَّرت بينهم، ونزعة الحريَّة تمكَّنت من أنفسهم حتَّى صارت عادةً عريقةً مألوفةً لا تمتنع منها العواطف والإحساسات ولا تستنكرها النفوس؟ فليس إلَّا أنَّ السنن الجارية تُميل العواطف والإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.

 

وأمَّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنَّ في تدبير البيت وتثاقلهنَّ في تربية الأولاد وشيوع الزنا والخيانة، فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك؛ فإنَّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدَّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته، بل كان الأمر بالعكس.

 

121

 


106

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

على أنَّ هذه النساء اللاتي يُتَزوَّج بهنَّ على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلاميّ وسائر المجتمعات التي ترى ذلك، أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة، إنَّما يُتزوَّج بهنَّ عن رضاءٍ ورغبةٍ منهنَّ، وهنَّ من نساءِ هذه المجتمعات، ولم يسترققهنَّ الرجال من مجتمعات أخرى، ولا جلبوهنَّ للنكاح من غير هذه الدنيا، وإنَّما رغبنَ في مثل هذا الازدواج لعللٍ اجتماعيَّةٍ، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، ولا قلوبهنَّ تتألَّم منها، بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيَّة الأولى، أعني أنَّ المرأة إذا توحَّدت للرجل لا تحبّ أن تَرِدَّ عليها وعلى بيتها أخرى؛ لخوفها أن تُميل عنها بعلها، أو تترأَّس عليها غيرها، أو يختلف الأولاد ونحو ذلك، فعدم الرضاء والتألّم فيما كان إنَّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحُّد بالبعل) لا غريزة طبيعيَّة"[1].

 

فالنساء اللواتي يقترنُ الزوج بهنّ بعد الزوجة الأولى هنّ نساء من المجتمع ولسن إماء من مجتمعات مختلفة، أي أنَّهنَّ تربية هذه المجتمعات، وهنَّ قَبلْن بأن يكنّ زوجات لرجلٍ متزوِّجٍ، وعليه فأصل طبيعة المرأة لا يأبى التعدُّد. أمّا التألُّم من تعدُّد الزوجات فغالبًا ما يكون من ردَّة فعل الزوجة الأولى بسبب حالة عرضيَّة غير أصيلة في طبع النساء، وهي التفرّد بالزوج أو التوحُّد بالبعل، كما أسماها العلَّامة.

 

"والجواب عن الثاني أنَّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختلّ من وجوه:

منها أنَّ أمر الازدواج لا يتَّكي على هذا الذي ذكروه فحسب، بل هناك عوامل وشرائط أخرى لهذا الأمر، فأوّلًا الرشد الفكريُّ والتهيُّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منهما إلى الرجال، فالنساء وخاصَّةً في المناطق الحارَّة إذا جزنَ التسع صلحنَ للنكاح، والرجال لا يتهيَّأُون لذلك غالبًا قبل الستّ عشرةَ من السنين (وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح).


 


[1]  العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص186.

 

122


107

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

ومن الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الأمم المتمدِّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلَّا أنَّ الطبيعة هيَّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

 

ولازم هذه الخاصَّة أنْ لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (والفرض تساوي عدد الذكور والإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشرَة من الرجال وهي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الأولى المفروضة، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهي مواليد السنة الأولى إلى السابعة، ولو اعتبرنا مواليد خَمْسٍ وعشرين سنة وهي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة والعشرين على الصلوح من الرجال مواليد عَشْر سنين ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلِّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

 

وثانيًا: أنَّ الإحصاء، كما ذكروه، يبيِّن أنَّ النساء أطول عمرًا من الرجال، ولازمه أن[1] تُهيِّئ سنة الوفاة والموت عددًا من النساء ليس بحذائهنَّ رجال‏[2].

 

ثالثًا: أنَّ خاصَّة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء، فالأغلب على النساء أن يَيْأَسْنَ من الحمل في سنّ الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، وربَّما بقي قابليَّة التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعيّ وهو مائة سنة، فيكون عمر صلاحيَّة الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبًا ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريبًا، وإذا ضُمّ هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أنَّ الطبيعة والخلقة أباحت


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص185-186.

[2] ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء 11 ديماه سنة 1335 شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل "100" مولودة من البنات "105" من البنين، ومع ذلك فإن الإناث يربو عددهنَّ على عدد الذكور بما يعادل "1765000" نسمة، ونفوس المملكة "40 مليونا تقريبا" والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض ويهلك بها "5 در صد" الزائد منهم إلي سنة "19" من الولادة.

ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين حتى إذا بلغوا سني 60 - 65 لم يبق تجاه كل "1500000" من الإناث إلَّا "750000" من الذكور.

 

123


108

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

للرجال التعدِّي من الزوجة الواحدة إلى غيرها، فلا معنى لتهيئة قوَّة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محلّ شأنه ذلك فإنَّ ذلك ممَّا تأباه سنَّة العلَل والأسباب الجارية.

 

رابعًا: أنَّ الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تَحلّ بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس، كما تقدَّم أنَّه كان أقوى العوامل لشيوع تعدّد الزوجات في القبائل؛ فهذه الأرامل والنساء العُزَّل لا محيص لهنَّ عن قَبول التعدّد أو الزنا أو خيبة القوَّة المودعة في طبائعهنَّ وبطلانها.

 

وممَّا يؤيِّد هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربيّ قبل عدّة أشهُر من كتابة هذه الأوراق، فقد أظهرت جمعيَّة النساء العُزَّل تحرُّجها من فقدان البعولة، وسألت الحكومة أن يُسمح لهنَّ بُسنَّة تعدّد الزوجات الإسلاميّة حتَّى يتزوّج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أنَّ الحكومة لم تجبهنَّ في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.

 

ومنها: أنَّ الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعيّة بين الرجال والنساء في العدد مع‏[1] الغضّ عمَّا تقدّم إنَّما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوَّج كلّ رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء، لكنَّ الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك، ولا يسع ذلك بالطبع إلا بعضهم دون جميعهم، والإسلام لم يشرِّعْ تعدّد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال، بل إنَّما أباح ذلك لمن استطاع أن يُقيمَ القسط منهم، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجًا ولا فسادًا أن سيَّر هذه السنَّة بين المسلمين، وكذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجًا من قحط النساء وإعوازهنَّ على الرجال، بل والعكس من ذلك أعدّ تحريم التعدّد في البلاد التي فيها ذلك ألوفًا من النساء حُرمنَ الأزواج والاجتماع المنزلي واكتفينَ بالزنا.

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص187.

 

124


109

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

ومنها: أنَّ الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنَّما يستقيم لو لم يصلحْ هذا الحكم ولم يُعَدَّل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهَّمة، فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدّد أن يقيمَ العدل في معاشرتهنَّ بالمعروف وفي القسم والفراش، وفرض عليهم نفقتهنَّ، ثمَّ نفقة أولادهنّ، ولا يتيسّر الإنفاق على أربع نسوة مثلًا ومن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك، إلَّا لبعض أولي الطول والسعة من الناس لا لجميعهم.

 

على أنَّ هناك طرقًا دينيَّةً شرعيَّةً يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والإغماض عن التكثير"[1].

 

ويعني العلَّامة بذلك أنَّ للمرأة أن تشترط على زوجها في عقد زواجها ما شاءت من الشروط ومن جملتها أن لا يتزوّج عليها مطلقًا أو لا يتزوّج عليها من دون رضاها...

 

والجواب عن الثالث: أنَّه مبنيّ على عدم التدبُّر في نحو التربية الإسلاميّة ومقاصد هذه الشريعة، فإنَّ التربية الدينيّة للنساء في المجتمع الإسلاميّ الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمِّي المرأة وشهوة النكاح فيها أقلّ منها في الرجل (على الرغم ممَّا شاع أنَّ شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدلّ عليه بتولُّعها المفرط بالزينة والجمال طبعًا) وهذا أمر لا يكاد يشكّ فيه رجال المسلمين ممَّن تزوّج بالنساء الناشئات على التربية الدينيّة، فشهوة النكاح في المتوسِّط من الرجال تُعادل ما في أكثر من امرأةٍ واحدةٍ، بل والإمرأتين والثلاث.

 

ومن جهةٍ أُخرى، من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تُختزَن الشهوة في الرجل ولا يُحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدِّي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربَّما اعتذرت فيما يقرب من ثلث‏ أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيّامِ العادة وبعض أيّام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك، والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزيَّة هو لازم ما تكرّر منها في المباحث

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص184 إلى 190.

 

125


110

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

 السابقة من هذا الكتاب، أنَّ الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقُّليّة دون الحياة الإحساسيّة، فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء وخواطر السوء، كحال التعزّب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

 

ومن جهةٍ أُخرى، من أهمّ المقاصد عند شارع الإسلام تكثّر نسل المسلمين وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد.

 

فهذه الجهات وأمثالها هي التي اهتمّ بها الإسلام في تشريع تعدّد الزوجات، من دون ترويج أمر الشهوة، وترغيب الناس في الانكباب عليها. ولو أنصف هؤلاء المستشكلون، كانت هذه السنن الاجتماعيَّة المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتّع الماديّ أولى بالرمي بترويج الفحشاء، والترغيب في الشره، من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينيّة.

 

على أنَّ في تجويز تعدّد الزوجات تسكينًا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان، فكلُّ محروم حريص، ولا هَمَّ للممنوع المحبوس إلَّا أن يهتك حجاب المنع والحبس، فالمسلم، وإن كان ذا زوجة واحدة، فإنَّه على سكنٍ وطيبِ نفسٍ من أنَّه ليس بممنوعٍ عن التوسُّع في قضاءِ شهوته لو تحرَّجت نفسه يومًا إليه، وهذا نوع تسكين لطيش النفس، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرَّمة.

 

وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيِّين حيث قال: "لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين المِلَلِ المسيحيَّةِ عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدّد الزوجات"‏[1].

 

والجواب عن الرابع أنَّه ممنوع، فقد بيَّن في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق‏[2] المرأة في الإسلام: أنَّه لم يحترم النساء ولم يراعِ حقوقهن َّكلّ المراعاة أيّ‏ سنّة من السنن الدينيّة أوالدنيويَّة من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهنَّ الإسلام وسنزيد في ذلك وضوحًا.

 

 


[1] رسالة المستر جان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد و القرآن ترجمة الفاضل السعيدي بالفارسية.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص260.

 

126


111

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

وأمَّا تجويز تعدّد الزوجات للرجل فليس بمبنيّ على ما ذُكرَ من إبطال الوزن الاجتماعيّ وإماتة حقوقهنَّ والاستخفاف بموقفهنَّ في الحياة، وإنَّما هو مبنيّ على جهاتٍ من المصالحِ، تقدَّم بيانُ بعضها.

 

وقد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلاميّ وما في منعه من المفاسد الاجتماعيَّة والمحاذير الحيويَّة جمع من باحثي الغرب من الرجال والنساء، من أراده فَلْيرجِعْ إلى مظانِّه"[1].

 

أمَّا الإشكال الأقوى، كما وصفه العلَّامة، فقد قدّم له الجواب الآتي: "وهو حقّ غير أنَّه إنَّما يُرَدُّ على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتَّى يُؤخَذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربِّي الناس بالتعاليم الدينيّة الشريفة، بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده، هي طبقة الحكَّام والولاة على المسلمين، والناس على دين ملوكهم، ولو اشتغلنا بقصّ بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته منذ أن تبدَّلت الحكومة الدينيّة بالملك والسلطنة المستبدّة، تقدَّمنا تأليفًا مُستقلًّا. وبالجملةِ لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضَّمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والأولاد وإن كان على كلِّ نفس ما اكتسبت من إثم؛ وذلك أنَّ سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جوّ مجتمعهم في سبيل شرِّهم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكلِّ هذه الشقوة المبيدة.

 

وأمَّا الإسلام فلم يشرِّع تعدّد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كلِّ رجل، وإنَّما نظر في طبيعة الأفراد وما ربَّما يعرضهم من العوارض الحادثة، واعتبر الصلاح


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص184 إلى 190.

 

127


112

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

القاطع في ذلك (كما مرّ تفصيله)، ثمَّ استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح عند ذلك التعدُّد حفظًا لمصلحةِ المجتمعِ الإنسانيّ، وقيَّده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة، وهو وثوق الرجل بأنَّه سيقسط بينهنَّ ويعدل، فمن وثِقَ من نفسه بذلك وَوُفِّق له فهو الذي أباح له الدين تعدّد الزوجات، وأمَّا هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلّا ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلَّا أنَّها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذّته فلا شأن للإسلام فيهم، ولا يجوز لهم إلّا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه[1].

 

وبجملةِ القوانين الإسلاميّة والأحكام التي فيها، تُخالف، بحسب المبنى والمشرب، سائر القوانين الاجتماعيَّة الدائرة بين الناس، فإنَّ القوانين الاجتماعيَّة التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدّل بتبدُّل المصالح، لكنَّ القوانين الإسلاميّة لا تحتمل الاختلاف والتبدّل من واجب أو حرام أو مستحبّ أو مكروه أو مباح، غير أنَّ الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكلّ تصرّف له أن يتصرّف به أو يدعه، فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرّف في ذلك كأنَّ المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكِّرة المريدة.

 

فلو كان للإسلام والٍ أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدّد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغيَّر الحكم الإلهيّ بإباحته، وإنَّما هو عزيمة إجرائيَّة عامَّة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدّد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم، بل لأنَّه حكم إباحيٌّ له أن يعزم على تركه"[2].

 

- علَّة تحريم زواج المرأة بأكثر من رجلٍ واحد:

أمّا السبب الذي ذكره السيّد الطباطبائيّ لتحريم زواج المرأة بأكثر من رجل فكان


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص191.

[2] المصدر نفسه.

 

129


113

الفصل الرابع: المرأة في البُعدِ الاجتماعيّ

- التفاوت عن الرّجل باعتدادها بعد الطلاق أو موت الزوج:

لا يعتدّ الرّجل بعد طلاق زوجته أو موتها كما هو الحال عند المرأة. وقد ذكر السيّد الطباطبائيّ سبب اعتداد المرأة بعد الطلاق قائلًا: "قوله - تعالى -: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾، أصل‏ الطلاق‏ التخلية عن وثاق وتقييد ثمّاستُعير لتخلية المرأة عن حبالة النكاح وقيد الزوجيَّة، ثمَّ صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

 

والتربُّص‏ هو الانتظار والحبس، وقد قيَّد بقولِهِ - تعالى -: ﴿بِأَنفُسِهِنَّ﴾، ليدلّ على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدَّة أعني عدَّة الطلاق، وهو حبس المرأة نفسها عن الازدواج تحذُّرًا من اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدَّة الإشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفُّظ عن اختلاط المياه وفساد الأنساب، ولا يلزم اطِّراد الحكمة في جميع الموارد، فإنَّ القوانين والأحكام إنَّما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامَّة، فقَوْلُه - تعالى - ﴿يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾‏ بمنزلة قولنا: يعتددن احترازًا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهنَّ، والجملة خبر أُريدَ به الإنشاء تأكيدًا"[1].

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص230.

 

130


114

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

تمهيد

إنّ البُعد الأٌسْرٍيَّ في حياة المرأة يُعدّ من أهمِّ أبعاد حياتها وشخصيّتها لما لها من حضور كبير ودور عظيم فيه، ويُمكن جمع ما أفاض به العلَّامةالطباطبائيّ في هذا الموضوع تحت عناوين أربعة، نوردها على الشكل الآتي:

التناسل وتربية الأولاد غاية تشكيل الأسرة

إنّ أصل وضع الزّواج والغاية منه وفقًا لرأي السيّد الطباطبائيّ هما التناسل وإبقاء النّوع، ويُقابل هذا الرأي القوانين الحديثة التي تُرجِعه إلى الإجتماع والتعاون الحيويّ. يقول السيّد الطباطبائيّ: "عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعيَّة، والبشر، منذ أوّل تكوّنه وتكثّره حتَّى اليوم، لم يخلُ عن هذا العمل الاجتماعيّ، وقد عرفت أنَّ هذه الأعمال لا بدَّ لها من أصل طبيعيّ ترجع إليه ابتداءً أو بالأُخرة.

 

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقه الفحولة والإناث إذ من البيِّن أنَّ هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة هوتجهيز دقيق يستوعب جميع الذكور والإناث ولم يوضَعْ هباءً باطلًا، ومن البيِّن عند كلّ من أجاد التأمّل أنَّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلّا الإناث وكذا العكس، وأنَّ هذا التجهيز لا غاية له إلَّا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الأحكام المتعلِّقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك، أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفَّة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدَّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

 

133

 


115

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

وأمَّا القوانين الأُخرى الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلديّ ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرِّضة لشي‏ءٍ ممَّا تعرَّض له الإسلام من أحكام العِفَّة ونحو ذلك.

 

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعيَّة، على ما سنبيِّن إن شاء الله العزيز[1] لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلًا"[2].

 

وتحت عنوان "النكاح من مقاصد الطبيعة"، أكّد السيّد الطباطبائيّ أنّ غاية الخلقة من زواج الذّكر والأنثى عند الإنسان وتشكيلهما للأسرة هو الإيلاد وتربية الأولاد، وأنّ ما سوى ذلك هو مقدّمات وفوائد مترتّبة على الزّواج. إذ يقول: "أصل التواصل بين الرجل والمرأة ممَّا تبيِّنه ‏الطبيعة الإنسانيّة، بل الحيوانيَّة بأبلغِ بيانِها، والإسلام دين الفطرة فهو مجوِّزه لا محالة.

 

وأمر الإيلاد والإفراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع، هو السبب الوحيد والعامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة؛ ولهذا ترى أنَّ الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معًا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها، وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائِهِ وحفظِهِ

 

 


[1] يُراجع: العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص277-278، حيث قال رحمه الله: "فإن غاية ما نجده‏ في الإنسان من الداعي الطبيعيّ إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعًا إلّا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصة المتعلِّق كلُّ واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال. وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا، وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيويّ انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعيّ للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه. ولو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعيَّة بشي‏ء أصلا إلّا الأحكام العامّة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعية، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والإناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحا في محل يناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح".

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص277-278، بحث علميّ آخر في النكاح و الطلاق.

 

 

134


116

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

إلى معاونةِ الذكور، يختار لهذا الشأن الازدواج، وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه فيتواصلان عندئذٍ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها وهكذا إلى آخر مدَّة تربية الأولاد ثمَّ ينفصلان إن انفصلا، ثمَّ يتجدّد الازدواج وهكذا.

 

فعامل النكاح والازدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد وأمَّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويَّة كالكسب وجمع المال وتدبير الأكل والشرب والأثاث وإدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة، وإنَّما هي أمور مقدميَّة أو فوائد مترتِّبة"[1].

 

ومن هنا يظهر أنَّ الحريَّة والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها، تكاد تكون السنّة الجارية بين الملل المتمدِّنة اليوم، وكذا الزنا وخاصَّةً زنا المحصنة منه.

 

وكذا، تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين، وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

 

وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليَّة على ما هو المتداول اليوم بين الملَل الراقية، ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامَّة المعدَّة للرضاع والتربية، كلُّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة، وقد جُهِّزَ الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة، على ما مرَّت الإشارة إليه.

 

نعم، الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الأم إيَّاه وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيَّة فيه إلى الازدواج والمصاحبة والاختصاص، فهذا النوع من الحيوان له حريّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل"[2].


 


[1]  العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص178-179-180، بحث علمي في فصول ثلاثة عن النكاح والزواج وتعدد الزوجات.

[2] المصدر نفسه.

 

135


117

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ويضيف العلَّامة رحمه الله: "وإيَّاك أن تتوهَّم أنَّ الخروج عن سنّة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والرويَّة مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعُّم، فإنَّ ذلك من أعظم الخبط، لأنَّ هذه البنيات الطبيعيّة التي منها البنية الإنسانيّة مركَّبات مؤلَّفة من أجزاء كثيرة تستوجب وُقوعَ كلّ في موقعِهِ الخاصّ على شرائِطِهِ المخصوصةِ به وضعًا، هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة، وهو المناسب لكمال النوع، كالمعاجين والمركَّبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصَّة، ولو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج وانحراف لَسَقَطَ الأثر.

 

فالإنسان، مثلًا، موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركَّبة تركيبًا خاصًّا يستتبع أوصافًا داخليَّةً وخواصَّ روحيَّة تستعقب أفعالًا وأعمالًا فإذا حوَّل بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافًا وتغيُّرًا في صفاتِهِ وخواصِّهِ الروحيَّةِ، وانحرف بذلك جميع الخواصّ والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبَطُل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة"[1].

 

ولذا، يخلُص السيّد رحمه الله إلى أنّ الخلل في الزّواج وتربية الأولاد هو أقوى العوامل التي تُهدّد الإنسانيّة وتورث المصائب العامّة، حيث يقول: "وإذا بحثنا في المصائب العامَّة التي تستوعب اليوم الإنسانيّة وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة، وتهدّد الإنسانيّة بالسقوط والانهدام، وجدنا أنَّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكُّن الخرق والقسوة والشدَّة والشره من نفوس الجوامع البشريَّة، وأعظم أسبابه وعللِه الحريَّة والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيَّة وتربية الأولاد، فإنَّ سنَّة الاجتماع المنزليّ وتربية الأولاد اليوم تُميت قرائح الرأفة والرحمة والعفَّة والحياة والتواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش"[2].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص178-179-180، بحث علمي في فصول ثلاثة عن النكاح والزواج وتعدد الزوجات.

[2] المصدر نفسه، ص180، بحث علمي في فصول ثلاثة عن النكاح والزواج وتعدد الزوجات.

 

136


118

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ويشير العلَّامة إلى فائدة إجتماعيَّة من فوائد تكوين الأسرة وهي تأمين التعاون والتعاضد الذي يبتني عليه المجتمع الإنسانيّ وذلك عن طريق إعانة الأولاد والحفدة على قضاء حوائج الوالدين والأجداد ودفع المكاره عنهم، حيث يقول: "في قوله -تعالى-: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾[1]، قال في المفردات: قال الله -تعالى-‏: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ جَمْع حافد وهو المتحرِّك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أوأجانب. قال المفسِّرون: هم الأسباط ونحوهم، وذلك أنَّ خدمتهم أصدق - إلى أن قال - قال الأصمعيّ: "أصل الحفد مداركة الخطو".

 

وفي المجمع: وأصل‏ الحفد الإسراع في العمل -إلى أن قال- ومنه قيل للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة. انتهى. والمراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين لمكان قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم﴾. لذا، فسَّر بعضهم قَوْلَهُ: "بَنِينَ وحَفَدَةً بصغار الأولاد وكبارهم، وبعضهم بالبنين والأسباط وهم بنو البنين.

 

المعنى؛ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا تألفونها وتأنسون بها، وجعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين وحفدة وأعوانًا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن أنفسكم المكاره، ورزقكم من الطيِّبات وهي ما تستطيبونه من أمتعة الحياة وتنالونه بلا علاج وعمل كالماء والثمرات، أو بعلاجٍ وعملٍ كالأطعمة والملابس ونحوها، و"مِنْ" في‏ ﴿مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ﴾ للتبعيض وهو ظاهر.

 

ثمَّ وبَّخهم بقولِهِ -تعالى-: ﴿أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ﴾ وهي الأصنام والأوثان، ومن ذلك القولُ بالبنات لله، والأحكام التي يشرِّعها لهم أئمَّتهم أئمَّة الضلال‏ ﴿يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ﴾، والنعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم وجعل البنين والحفدة من أزواجهم، فإنَّ ذلك من أعظم النعم وأجلاها لكونِهِ أساسًا تكوينيًّا يبتني عليه المجتمع البشريّ، ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الأفراد، وينتظم به لهم أمر تشريك الأعمال والمساعي فيتيسَّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والآخرة.

 

 


[1] سورة النحل، الآية 72.

 

137


119

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ولو أنَّ الإنسان قطع هذا الرابط التكوينيَّ الذي أنعم الله -تعالى- به عليه وهجر هذا السبب الجميل، وإن توسَّل بأيّ وسيلة غيره لَتلاشى جمعه وتشتَّت شمله وفي ذلك هلاك الإنسانيّة"[1].

 

التفاوت عن الرّجل في القيمومة

فضلًا عن القيمومة العامّة للرجل على المرأة التي أُشير إليها ضمن كلام السيّد الطباطبائيّ تحت عنوان الحكومة والقضاء والحرب، هناك قيمومة خاصّة للرّجل على المرأة في الحياة الأسريّة. وغالبًا ما يُنظَر إلى قيمومة الرّجل على أنَّها تسلُّط واستعلاء وقهر للمرأة، وهو ما قد تمّ ترويجه لأسباب تتعلّق بالإساءة إلى الإسلام، ولأسبابٍ أخرى تعود إلى سوء الفهم للقيمومة ولسوء تطبيقها من بعض الرّجال. إذ القيمومة في حقيقتها رعاية للمرأة وتقديم الحماية لها، وترجع قيمومة الرَّجل على المرأة وفقًا للعلّامة الطباطبائيّ إلى سببين:

1. طبيعة إستيلاء الذكور على الإناث:

وفي ذلك يقول العلَّامة: "ثمَّ إنَّ التأمُّل في سفاد الحيوانات يُعطي أنَّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب، فإنَّا نرى أنَّ الذكر منها كأنَّه يرى نفسه مالكًا للبضع مُتسَلِّطًا على الأنثى، ولذلك ما ترى أنَّ الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الإناث من غير العكس، فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، وكذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنَّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، وليس إلَّا أنَّها ترى بالغريزة أنَّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والإناث كالقابل الخاضع، وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذُّه طبعها، فإنَّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذَّة، وأمَّا نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنَّه عائد إلى قوّة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏12، ص297-298.

 

 

138


120

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

وهذا المعنى، أعني لزوم الشدَّة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الإناث، ممَّا يوجِد الاعتقاد به قليلًا أو كثيرًا عند جميع الأمم حتَّى سرى إلى مختلف اللغات فسُمِّيَ كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذَّكَر، وكلُّ ليِّن سهل الانفعال بالأنثى، يُقال: "حديد ذكَر وسيف ذكَر ونبت ذكَر ومكان ذكر"، وهكذا".

 

وهذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوِّعة في الجملة، وإن كان ربَّما لم يَخْلُ من الاختلاف زيادة ونقيصة. وقد اعتبره الإسلام في تشريعه، قال الله -تعالى-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[1] فشرَّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها"[2].

 

2. زيادة التعقّل عند الرّجل:

يقول العلَّامة في خصوص السبب الآخر لقوَّاميّة الرّجل على المرأة، الآتي: "قوله -تعالى-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، والمراد بما فضَّل الله بعضهم على بعض هو ما يفضّل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، وهو زيادة قوَّة التعقّل فيهم، وما يتفرّع عليه من شدّة البأس والقوّة والطاقة على الشدائد من الأعمال ونحوها، فإنَّ حياة النساء حياة إحساسيَّة عاطفيَّة مبنيَّة على الرقَّةِ واللطافةِ، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنَّ ونفقاتهنَّ"[3].

 

وقد مرّ الكلام حول هذا الموضوع، فزيادة نسبة التعقّل عند الرجال -بحسب طبعهم بما تقتضيه الحكمة في خلق الكون- يوجد قيمومة من قبيل الرجال على قبيل النساء، فيما يُحتاج للتعقّل أكثر، أمَّا في الحياة الزوجيّة فإنَّ إنفاق الرجال على النساء يوجِد تلك القيُّوميَّة الخاصَّة بين الرجل وزوجته إضافةً إلى قيُّوميَّته العامَّة.


 


[1] سورة النساء، الآية 34.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص182، تحت عنوان استيلاء الذكور على الإناث.

[3] المصدر نفسه، ص343.

 

139


121

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ومن الروايات التي أتى العلَّامة على ذكرها في مسألة قيُّوميَّة الرّجل على المرأة في الحياة الأسريَّة، الرواية الآتية: "وفيه، أيضًا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا عنده قال: "فقال رجل لامرأته: أمرُكِ بيدِكِ"، قال: أنَّى يكون هذا والله - تعالى - يقول: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾؟ ليس هذا بشي‏ء"[1].

 

3. حدود قيُّمومة وطاعة المرأة لزوجها:

يتفرّع عن قيُّمومة الرّجل على المرأة وجوب طاعة المرأة لزوجها في أمور معيّنة. وقد حدّد السيّد الطباطبائيّ دائرة الطّاعة هذه بقوله: "قوله -تعالى-: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ﴾، المراد بالصلاح معناه اللغويّ، وهو ما يُعبَّر عنه بلياقة النفس. والقنوت‏ هو دوام الطاعة والخضوع.

 

ومقابلتها لقولِهِ - تعالى -: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ إلخ، تفيد أنَّ المراد بالصالحات الزوجات الصالحات، وأنَّ هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مُطْلقًا، وأنَّ قَوْلَهُ: قانِتاتٌ حافِظاتٌ‏ الذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف، أي ليقنتنَ وليحفظنَ، حكم مربوط بشؤون الزوجيَّة والمعاشرة المنزليَّة، وهذا مع ذلك حكم يتّبع في سعته وضيقه علّته؛ أعني قيُّمومة الرجل على المرأة قيُّمومة زوجيَّة، فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجيّة.

 

وبعبارةٍ أخرى، كما أنَّ قيُّمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنَّما تتعلّق بالجهات العامّة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقّل الرجل وشدّته في البأس وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب، من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفرديَّة وعمل نفسها، بأن تريد ما أحبَّت وتفعل ما شاءت، من غير أن يحقّ للرجل أن يعارضها في شي‏ء من ذلك في غير المنكر، فلا جناح عليهم فيما فعلنَ في أنفسهنَّ بالمعروف كذلك قيُّمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تُنفَّذَ للمرأة في ما تملكه إرادة ولا تصرُّف، ولا أن لا تستقلّ المرأة في حفظ حقوقها الفرديَّة والاجتماعيَّة،


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص348-349، بحث روائي.

 

 

140


122

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

والدفاع عنها، والتوسُّل إليها بالمقدِّمات الموصلة إليها، بل معناها أنَّ الرجل إذا كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كلِّ ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور، وأن تحفظه في الغيب، فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره، وأنتمتِّع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتّع منها بذلك، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، وسلَّطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزليَّة.

 

فقَوْلُه: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ،‏ أي ينبغي أن يتَّخذنَ لأنفسهنَّ وصف الصلاح، وإذا كنَّ صالحات فهنَّ لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتنَ ويطِعنَ أزواجهنَّ إطاعةً دائمةً فيما أرادوا منهنَّ ممَّا له مساس بالتمتُّع، ويجب عليهنَّ أن يحفظنَ جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

 

وأمَّا قَوْلُه -تعالى-: ﴿بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ﴾ فالظاهر أنّ ما مصدريَّة، والباء للآلة والمعنى: أنهنَّ قانتات لأزواجهنَّ حافظات للغيب بما حفظ الله - تعالى - لهم من الحقوق حيث شرَّع لهم القيُّمومة، وأوجب عليهنَّ الإطاعة وحفظ الغيب لهم"[1].

 

4. نشوز المرأة:

لا بدّ أوّلًا من توضيح مُختصر للمقصود من النشوز. تُعتَبر المرأة ناشزة عندما تخرج عن طاعة الزّوج فيما يتعلّق بحقوقه الخاصّة، بحيث يشمل ذلك عدّة موارد على اختلافٍ يسير في المسألة بين الفقهاء، يكون القدر المتّفق عليه بينهم هو عدم تمكين المرأة للرجل من حقّه الخاصّ. وقد وجّه البعض أصابع الإتِّهام إلى الإسلام بكونه ينتهك حقوق المرأة ويُعنّفها، وذلك انطلاقًا من الحكم بجواز ضربها عندما تكون ناشزًا وهذا الحكم صرّحت به الآية الكريمة: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[2].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص344-345.

[2] سورة النساء، الآية 34.

 

141


123

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

فهل ظلَمَ الإسلام المرأة بتعنيفها والأمر بضربها عندما تصدر عنها هفوةٌ تتعلّق بحقّ الزوج وعدم تمكينه؟

 

يشير السيّد الطباطبائيّ إلى ثلاث مراحل للتعامل مع المرأة الناشزة، تسبقها حالة الوعظ وذلك قبل نشوزها، أي عندما تلوح أمارات النّشوز عند المرأة. فيكون هناك تذكير من الزوج للمرأة بحقِّه عليها مع ما تحمله الموعظة من أسلوب ٍ حسن. أمّا فيما لو اتّصفت المرأة بالنّشوز فيأتي دور العلاجات الثلاثة والتي تُؤدّى بشكل تدريجيّ. يقول العلَّامة: "فيقولِهِ - تعالى -: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾، النشوز العصيان والاستكبار عن الطاعة، والمراد بخوف النشوز ظهور آياته وعلائمه، ولعلَّ التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاثة المذكورة، فإنَّ الوعظ، كما أنَّ له محلًّا مع تحقُّق العصيان، كذلك له محلٌّ مع بدو آثار العصيان وعلائمه"[1].

 

"والأمور الثلاثة، أعني ما يدلّ عليه قَوْلُه -تعالى-: ﴿فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ﴾ وإن ذُكِرَت معًا وعُطِف بعضها على بعض بالواو، فهي أمور مترتِّبة تدريجيَّة: فالموعظة، فإن لم تنجح فالهجرة، فإن لم تنفع فالضرب، ويدلّ على كون المراد بها التدرّج فيها، أنَّها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدَّة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو"[2].

 

فالمرحلة الأولى في العلاج هي الوعظ. فإن لم تستجب وبقيت على موقفها، تأتِ المرحلة الثانية وهي الهجر في المضاجع. ولهذا الهجر تفسيره الخاصّ عند السيّد الطباطبائيّ حيث يكون هجرًا مع حفظ المضاجعة مع المرأة لا بتركها. وهي إستفادة لطيفة تراعي البنية الشّعورية عند المرأة. يقول السيّد: "وظاهر قولِهِ: ﴿وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها، وإن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنَّه بعيد، وربَّما تأيَّد المعنى الأوَّل


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص345.

[2] المصدر نفسه.

 

142


124

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

بإتيان المضاجع بلفظ الجمع، فإنَّ المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرًا"[1].

 

فالعلَّامة يميل إلى تفسير الآية بأنَّ العلاج الثاني للنشوز، إن لم يفلح الوعظ، هو إظهار الزوج لعدم رضاه عن زوجته في مضجعه أي فراشه كأن يستدبر ونحوه... لا أن يترك الفراش بالكلّيَّة. وإن كانت الآية تحتمل الوجهين، لكنَّ العلَّامة مال إلى المعنى الأوّل بشاهد استعمال القرآن لفظ "المضاجع" بصيغة الجمع، فلو أراد أن يطلب من الزوج ترك المضجع بالكلّيّة لما كان هناك حاجة للجمع، لكنَّ استعمال صيغة الجمع تُظهِر تكرار الإضجاع فليس هناك هجران بالكلّيّة.

 

ثمّ يأتي الضرب كعلاج أخير بعد استنفاد الطّرق الأخرى واستمرار الممانعة من قبل المرأة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الضرب قد حدّد الفقهاء ضوابطه التي منها أن لا يكون للتشفّي والانتقام، وأن لا يُسبّب احمرار البشرة ولا اسودادها، وأن يكون خفيفًا، ومع الحكم بالديَة في حال حصول الاحمرار. فهل يُطلَقُ على هذا الضّرب الذي يجب أن لا يُسبّب احمراراً عنفًا؟!! طبعًا لا، وبالتالي لا يكون اصطلاح الضّرب الذي تطرحه الآية المباركة هو نفسه الضّرب السّائد في ثقافة مجتمعنا. كما ويكون لهذا المعنى ولهذا الحصر للضرب في هذا الظّرف المحدّد المتعلّق بتمكين المرأة نفسها وتحديدًا بعد استنفاد الوسائل الأخرى، في وقتٍ كان المجتمع العربيُّ وغيره من المجتمعات، يمتهن ضرب المرأة، إنجازًا يُسجّل للإسلام الّذي نهى عن ضرب المرأة عندما تمتثل وتمكّن نفسها لزوجها. يقول العلَّامة قدس سره: "قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ﴾، أي لا تتَّخذوا عليهنَّ علَّة تعتلون بها في إيذائهنَّ مع إطاعتهنَّ لكم. ثمّ علَّل هذا النهي بقولِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وهو إيذان لهم بأنَّ مقام ربّهم عليٌّ كبير، فلا يَغُرَّنَّهم ما يجدونه من القوَّة والشدَّة في أنفسهم فيظلموهنَّ بالاستعلاء والاستكبار عليهنَّ"[2].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص345.

[2] المصدر نفسه.

 

143


125

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

5. إلحاق الأبناء بالآباء فرع قيمومة الرّجل:

يُلحق الأولاد بالأب دون الأمّ لجهة الإعتبار الاجتماعيّ دون التكوينيّ. يقول السيّد (رضوان الله عليه): "قَوْلُهُ -تعالى: ﴿وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ﴾، الوالدات هنَّ الأمَّهات، وإنَّما عدل عن الأمّهات إلى الوالدات لأنَّ الأمّ أعمّ من الوالدة، كما أنَّ الأب أعمّ من الوالد والابن أعمّ من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، وأمَّا تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإنَّ الولَدَ لمّا كان مولودًا للوالد ملحقًا به في معظم أحكام حياته، لا في جميعها، كما سيجي‏ء بيانُه في آية التحريم من سورة النساء، إن شاء الله -تعالى- كان عليه أن يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة أمّه التي ترضعه، ونفقتها[1].

 

وجملة الأمر في الولد أنَّ التكوين يُلحِقه بالوالدين معًا لاستناده في وجوده إليهما معًا، والاعتبار الاجتماعيّ فيه مختلف بين الأمم: فبعض الأمم يلحقه بالوالدة، وبعضهم بالوالد، والآية تقرّر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: الْمَوْلُودِ لَهُ‏ كما تقدَّم"[2].

 

ويعود السّبب في لحوق الأبناء بالآباء من الجهة الاجتماعيَّة، إلى كون الأب هو صاحب القيمومة والمسؤول عن النفقة وتربية الأولاد وغير ذلك من الأمور، وإلّا فإنّ الولد يُلحَقُ بالأمّ من جهة النسب. يقول العلَّامة: "رابطة النسب... وللمجتمعات الإنسانيّة المترقِّية وغير المترقِّية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين الاجتماعيَّة في الجملة: في نكاح وإرث وغير ذلك، وهم مع ذلك لا يزالون يتصرَّفون في هذه الرابطة النسبيَّة توسعةً وتضييقًا بحسب المصالح المنبعثة من خصوصيَّات مجتمعهم، كما سمعت في المباحث السابقة أنَّ أغلب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسمًا وكانوا يرون قرابة الدَّعيِّ وبنوَّته، وكما أنَّ الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب والمسلم، ويُلحق الولد للفراش وغير ذلك.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص239.

[2] المصدر نفسه، ص240.

 

144


126

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ولمَّا اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهنَّ من الشركة التامَّة في الأموال، والحريَّة التامّة في الإرادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة، وصار بذلك الابن والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسميّ، وكذلك الأب والأمّ، والأخ والأخت، والجدّ والجدَّة، والعمّ والعمَّة، والخال والخالة، صار عمود النسب الرسميّ متنزَّلًا من ناحيةِ البنات كما كان يتنزَّل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابنًا للإنسان كبنوَّة ابن الابن وهكذا ما نزل، وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين للإنسان على حدٍّ سواء، وعلى ذلك جرت الأحكام في المناكح والمواريث، وقد عرفت فيما تقدّم أنَّ آية التحريم‏ ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ﴾ الآية دالَّة على ذلك.

 

وأمَّا مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمّهات، فهي على أنَّها ليست مسألة لفظيَّة لغويَّة ليست من فروع النسب حتّى يستلزم لحوق الابن والبنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأمّ، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، وتربية الأولاد ونحوها.

 

وبالجملةِ، فالأمّ تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، ومن آثاره البارزة في الإسلام الميراث وحرمة النكاح. نعم، هناك أحكام ومسائل أُخرى لها ملاكات خاصَّة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم أولي القربى من السادات وكلٌّ تتبَّع مِلاكها الخاصّ بها"[1].

 

دور المرأة في أسرتها

للمرأة عدّة أدوار محوريّة تؤدّيها ضمن الأسرة. وهذه الأدوار تتناسب مع طبيعة خلقها وتكوينها. أهمّها:

1. حفظ النسل:

من أدوار المرأة والتي بها يكون حفظ عالم خلقة الإنسان ببقاء نوعه، الإنجاب. يقول السيّد (رضوان الله عليه):


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص311-312، بحث علميّ كلام في معنى الابن شرعًا.

 

145


127

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

"قَوْلُهُ - تعالى -: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾‏، الحرث‏ مصدر بمعنى الزراعة، ويُطلَق كالزراعة على الأرض التي يُعمَل فيها الحرث والزراعة، فمحصَّل معنى الآية: أنَّ نسبة النساء إلى المجتمع الإنسانيّ نسبة الحرث إلى الإنسان، فكما أنَّ الحرث يُحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يُتغذَّى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها، كذلك النساء يُحتاج إليهنَّ النوع في بقاء النسل ودوام النوع، لأنَّ الله - سبحانه - جعل تكوّن الإنسان وتصوّر مادَّته بصورته في طباع أرحامهنَّ، ثمَّ جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادَّة الأصليَّة مائلة منعطفة إليهنَّ، وجعل بين الفريقين مودَّة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكوينيّ من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع، فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أومحلّ دون محلّ إذا كان ممَّا يؤدِّي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرًا آخر واجبًا في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله -تعالى-‏ ﴿وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ﴾"[1].

 

يبيِّن العلَّامة رحمه الله أنّه لمّا كانت النساء لنوع الإنسان بمنزلة الحرث للإنسان، وهي محلّ حاجة البشر لبقاء نوع الإنسان.. وقد قدّم الله - عزَّ وجلّ - كلّ المقدِّمات التكوينيّة لتؤهِّل الناس للبقاء من ميل الرجال إلى النساء وغيرها.. فإنَّه لا معنى ولا حكمة لأن يتقيَّد فعل إتيان الرجال للنساء ما لم يزاحم واجبًا لا يجوز إهماله.. لذا قال عزّ من قائل: ﴿فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ﴾‏.

 

وكما ذُكر سابقًا، فإنّ الغاية من الزّواج هي الإنجاب وتربية الأولاد. يقول رحمه الله: "الإسلام... وضع عقد هذا الاجتماع[2] على أساس التوالد والتربية، ومن الأحاديث النبويَّة المشهورة قولُه صلى الله عليه وآله وله: "تناكحوا تناسلوا تكثروا"[3].

 

 


[1]  العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص212-213.

[2] الزّوجيّة.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص181-182، بحث علمي في فصول ثلاثة عن النكاح والزواج وتعدد الزوجات.

 

146


128

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

2. تأمين السكن النفسيّ للرجل:

جهّز الله المرأة بما يمكّنها من أن تكون سكنًا وأمنًا للرجل. يقول السيّد الطباطبائيّ: "لكنَّ الله -سبحانه- خلق النساء وجهَّزهنَّ بما يوجِب أن يسكن إليهنَّ الرجال، وجعل بينهم مودَّة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودَّة والرحمة، فالنساء هنَّ الركن الأوّل والعامل الجوهريّ للاجتماع الإنسانيّ.

 

ومن هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزليَّ، وهو الازدواج، هو الأصل في هذا الباب، قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾[1]، فبدأ بأمر ازدواج الذكر والأنثى‏ وظهور التناسل بذلك، ثمَّ بنى عليه الاجتماع الكبير المتكوِّن من الشعوب والقبائل"[2].

 

وفي السياق نفسه، يقول سماحته أيضًا: "ثمَّ إنَّ هناك غرائز إنسانيَّة تنعطف إلى محبَّة الأولاد، وتقبّل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيًا ببقاء نسله، وتذعن بكون المرأة سكنًا للرجل وبالعكس"[3].

 

أمّا الرواية التي أتى على ذكرها السيّد الطباطبائيّ والتي ترتبط بهذا الدّور الهامّ للمرأة، فقد ذكرها ضمن البحث الروائيّ لجملة من الآيات كان منها آية ﴿فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيۡلَ سَكَنٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ حُسۡبَانٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ﴾[4]، ونصّها الآتي: "وفي تفسير العيّاشي، في قولِهِ -تعالى- ﴿وَجَعَلَ ٱلَّيۡلَ سَكَنٗا﴾ عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: "إنّ الله جعل الليل سكنًا وجعل النساء سكنًا، ومن السنّة التزويج بالليل، وإطعام الطعام"[5]،[6].

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص217.

[3] المصدر نفسه، ص313

[4] سورة الأنعام، الآية 96.

[5] العياشي، تفسير العياشي، مصدر سابق، ج1، ص371.

[6] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏7، ص308.

 

147


129

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

3. تربية الأولاد وإشباعهم عاطفيًّا:

إنّ ما تتمتّع به المرأة في تكوينها من لينٍ وغلبةٍ للعاطفة، فضلًا عمّا جُهّزت به جسديًّا من أسباب وقدرةٍ على الحمل والإرضاع، يُؤمّن لها الإستعداد لتربية الأولاد وإشباعهم عاطفيًّا على أحسن وجه. يقول السيّد الطباطبائيّ: "النكاح والازدواج من السنن الاجتماعيَّة التي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانيّة، أيَّ مجتمع كان، على ما بِيدِنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، وهو في نفسه دليل على كونه سنّة فطريَّة"[1].

 

فالأمور الفطريَّة يستدلّون عليها عادةً بكونها عابرة للأمم والقبائل والحضارات، موجودةٌ عند الجميع، وهي مستمرَّة وإن طرأَ عليها بعض العوارض الناشزة، والزواج بين الذكور والإناث أمرٌ على هذا المنوال.

 

يقول العلاّمة: "على أنَّ من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والأنثى مجهَّزَيْن، بحسب البنية الجسمانيَّة، بوسائل التناسل والتوالد كما ذكرناه مرارًا، والطائفتان (الذكر والأنثى) في ابتغاء ذلك شرع سواء، وإن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع والعواطف الفطريَّة الملائمة لتربية الأولاد"[2].

 

وفضلًا عن كون تربية الأولاد وحضانتهم وظيفةً من وظائف المرأة، فإنَّها أيضًا تُعتبر حقًّا من حقوقها. يقول السيّد قدس سره: "وأنَّ لها حقّ تربية الولد وحضانته"[3].

 

حقوق المرأة في أسرتها

كما أنّ على المرأة أدوارًا هامّة تؤدّيها في أسرتها وتتناغم مع بنيتها التكوينيّة والنفسيّة التي جعلها الله فيها. كذلك لها حقوق تتمتّع بها ضمن هذا النطاق الأسريّ. ومن هذه الحقوق التي أشار إليها السيّد الطباطبائيّ ضمن تفسيره الميزان ما يأتي:

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص312-313.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه،ج‏2، ص272.

 

148


130

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

 

1. معاشرة الرّجل لها بالمعروف:

في بيانٍ أورده السيّد الطباطبائيّ عند تفسيره للآية الآتية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[1]، يقول: "رجوع إلى أمر النساء بذكر بعضٍ آخَر ممَّا يتعلَّق بهنَّ والآيات مع ذلك مشتملة على قولِهِ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فإنه أصل قرآنيّ لحياة المرأة الاجتماعيَّة"[2].

 

فالعِشرة بالمعروف هي أساس لحياة المرأة الاجتماعيَّة، وقد تقدّم توضيح هذا المطلب تحت عنوان المساواة مع الرّجل في الحريّة الاجتماعيَّة.

 

أمّا الروايات التي نقلها سماحته في هذا المجال، أي الأمر للرجال بحسن معاشرة النساء، فهي كثيرة. حيث نقل الروايات الآتية: "ورواه أيضًا في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن كثير، عن الصادق عليه السلام عن عليّ عليه أفضل السلام: "إنَّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة"[3].

 

وما رُوِيَ في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّما المرأة لعبة من اتَّخذها فلا يضيِّعها"[4]، وقد كان يتعجّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تعانَق المرأة بيدٍ ضُرِبَت بها، ففي الكافي، أيضًا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَيَضرِبُ‏ أحدكم المرأة ثمَّ يظلّ معانقها؟!"[5].

 

ثمّ علّق السيّد بعد نقلِهِ لتلك الروايات بالقول: "وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، ومن التأمّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها"[6].

 


[1] سورة النساء، الآية 19.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص253-254.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص510.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ص509.

[6] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص350-351

 

149


131

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

 

1. معاشرة الرّجل لها بالمعروف:

في بيانٍ أورده السيّد الطباطبائيّ عند تفسيره للآية الآتية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[1]، يقول: "رجوع إلى أمر النساء بذكر بعضٍ آخَر ممَّا يتعلَّق بهنَّ والآيات مع ذلك مشتملة على قولِهِ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فإنه أصل قرآنيّ لحياة المرأة الاجتماعيَّة"[2].

 

فالعِشرة بالمعروف هي أساس لحياة المرأة الاجتماعيَّة، وقد تقدّم توضيح هذا المطلب تحت عنوان المساواة مع الرّجل في الحريّة الاجتماعيَّة.

 

أمّا الروايات التي نقلها سماحته في هذا المجال، أي الأمر للرجال بحسن معاشرة النساء، فهي كثيرة. حيث نقل الروايات الآتية: "ورواه أيضًا في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن كثير، عن الصادق عليه السلام عن عليّ عليه أفضل السلام: "إنَّ المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة"[3].

 

وما رُوِيَ في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّما المرأة لعبة من اتَّخذها فلا يضيِّعها"[4]، وقد كان يتعجّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تعانَق المرأة بيدٍ ضُرِبَت بها، ففي الكافي، أيضًا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَيَضرِبُ‏ أحدكم المرأة ثمَّ يظلّ معانقها؟!"[5].

 

ثمّ علّق السيّد بعد نقلِهِ لتلك الروايات بالقول: "وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، ومن التأمّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها"[6].

 


[1] سورة النساء، الآية 19.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص253-254.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص510.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ص509.

[6] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص350-351

 

149


131

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

كما نقل الروايات الآتية:

رُوِيَ أنَّ آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وآله وسلم هو توصيتهنَّ لجامعة الرجال قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلِّفوهم ما لا يطيقون، الله الله‏ في النساء فإنَّهنَّ عوان في أيديكم..."[1].

 

وفي الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: "ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتّقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة، أيتمه ثمَّ أوصى به، وابتلاه وابتلى به"[2].

 

وفي الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن جابر أنَّ رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال: "اتَّقوا الله في النساء فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله -تعالى-، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله -تعالى-، وإنّ لكم عليهنَّ أن لا يوطئنَ فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلنَ ذلك فاضربوهنَّ ضربًا غير مبرح، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف"[3].

 

"في الفقيه، روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ قال:... إنّ أكرمكم أشدّكم إكرامًا لحلائلهم"[4].

 

فيظهر ممّا تقدّم منهج الإسلام الحنيف في تعامله مع المرأة، وكيف يجلّ قدرها ويحترم كيانها ويوصي بها بشدّة ويحرص على تكريمها، ولا يخفى لما لهذه التوجيهات والسلوكيَّات من أثر في المرأة، مثال الجمال في المجتمع الإنسانيّ، وفي المجتمع ككلّ.


 


[1] راجع: الغزالي، محمد بن حمد، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، لا.ط، لا.ت، ج4، ص135؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص197-198.

[2] راجع: السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ط، لا.ت، ج2، ص124؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص205.

[3] جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، مصدر سابق، ج1، ص226؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص259.

[4] راجع: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏16، ص340-341، ضمن بحث روائي.

 

150


132

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

ففي المجتمع الذي تكرّم فيه المرأة وتُحفظ سوف تُغرس فيها قيم العزّة والكبرياء والرأفة والرحمة، وهي أمور ستنعكس على كلِّ تصرُّفاتها مع أسرتها وعائلتها وزوجها وأولادها.. وبالتالي عندما تصلح نساء أمّةٍ ما تصلح تلك الأمّة...

 

2. تأمين الحماية لها:

من مقتضيات الحياة الزوجيَّة بين الرجل والمرأة أن يؤمّن الرّجل لها الحماية اللَّازمة نظرًا لما يتمتّع به من قوّة وشدّة. لذا يقول السيّد (رضوان الله عليه) فيما يرتبط بهذا الأمر: "وأنَّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه"[1].

 

3. التقدير والشكر من الأبناء:

أوصى الله -عزّ وجلّ- الأبناء بوالدَيْهم، وهذا لا يختصّ بالأمّ دون الأب، بل يشملهما معًا. يقول السيّد الطباطبائيّ: "قَوْلُه -تعالى-: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ﴾ إلى آخر الآية، الوصيَّة، على ما ذكره الراغب هو التقدّم إلى الغير بِما يعمل به مقترناً بوعظِ، والتوصيةِ تفعيل من الوصيَّة، قال -تعالى-: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ بَنِيهِ﴾[2]، فمفعوله الثاني الذي يتعدّى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلَّق بهما، وهوالإحسان إليهما.

 

وعلى هذا، فتقدير الكلام: ووصَّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانًا.

 

وكيف كان، فَبِرُّ الوالدين والإحسان إليهما من الأحكام العامَّة المشرَّعة في جميع‏ الشرائع، كما تقدّم في تفسير قولِهِ -تعالى-: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[3]، ولذلك قال: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ‏﴾ فعمَّمه لكلّ إنسان[4].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق،ج‏2، ص272.

[2] سورة البقرة، الآية 132.

[3] سورة الأنعام، الآية 151.

[4] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏18، ص200-201.

 

151


133

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

إلَّا أنّ الآية المباركة الّتي سبق للسيّد الطباطبائيّ تفسيرها أُتبعت بذكر خاصّ لما تقاسيه الأمّ في الحمل والوضع. يقول السيّد قدس سره في تفسيره للآية الّتي تليها: "ثمَّ عَقِبَه – سبحانه - بالإشارة إلى ما قاسته أمّه في حمله ووضعه وفصاله إشعارًا بملاكِ الحكم وتهييجًا لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾[1]، أي حملته أمّه حملًا ذا كُره،أي مشقّة، وذلك لما في حمله من الثقل، ووضعته وضعًا ذا كُره، وذلك لما عنده من ألم الطلق"[2].

 

ومن هنا كانت الوصيّة بالأمّ أشدّ من تلك التي للأب. لذا، يقول السيّد (رضوان الله عليه): "شكر الوالدين كوجوب الشكر لله، بل هو من شكره -تعالى- لانتهائه إلى وصيّته وأمره -تعالى-، فشكرهما عبادة له -تعالى- وعبادته شكر.

 

وقَوْلُه: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، ذكر بعض ما تحمَّلته أمّه من المحنة والأذى في حمله وتربيته ليكون داعيًا له إلى شكرهما وخاصَّةً الأمّ"[3]. بالإضافة إلى ما سبق، للمرأة حقوق ماليّة في أسرتها، سيأتي ذكرها ضمن الحقوق الاقتصاديَّة للمرأة في الفصل الأخير.


 


[1] سورة الأحقاف، الآية 15,

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏18، ص201.

[3] المصدر نفسه، ج‏16، ص216.

 

152


134

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

تمهيد

لكلّ من الإقتصاد والسياسة إرتباطهما الوثيق ببعضهما الآخر حيث يُعتبرُ البُعد الإقتصاديُّ مرآةً من المرائي التي تعكس البُعد السياسيّ. وبالتالي تُشكّل مشاركة المرأة ومنحها الحقوق في البعد الإقتصاديّ نجاحًا ورافدًا لتطوّر البعد السياسيّ في الدولة.

 

نتناول ما أولاه الإسلام للمرأة في البعد الإقتصاديّ ثمّ نعرّج بعدها على ما منحه لها في البُعد السياسيّ.

 

البعد الاقتصاديّ

يُعدّ البعد الإقتصاديّ من جملة ما كرّم به الإسلام المرأة وعزّزها. ويُمكن تقسيم حقوق المرأة الاقتصاديَّة التي منحها لها الإسلام إلى عدّة أقسام:

أوّلًا– الميراث

يُعتبر بحث الإرث من المباحث الهامّة جدًّا والّتي سبر أغوارها السيّد الطباطبائيّ وأجاد في استخراج منظومتها. وما يخدم منه في مجال المرأة تمّ تنظيمه تحت العناوين الآتية:

1. ميراث المرأة تاريخيًّا:

استعرض السيِّد الطباطبائيّ تعامل الأمم السابقة الهمجيّة والمتمدّنة مع مسألة توريث المرأة تاريخيًّا. وقد كان السائد في تلك الأمم حرمان المرأة من الإرث. فقدّم ذلك تحت عنوانين الأوّل هو "تحوّل الإرث تدريجيًّا" كان فيه كلامه مُجملًا، أورد تحته ما يأتي: "لم

 

155


135

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

تزلْ هذه السنّة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانيّة تتحوّل من حال إلى حال وتلعب بها يد التطوُّر والتكامل منذ أوّل ظهورها، غير أنَّ الأمم الهمجيَّة لمّا لم تستقرَّ على حال منتظم تعسّر الحصول في تواريخهم على تحوُّله المنتظم حصولًا يفيد وثوقًا به.

 

والقدر المتيقّن من أمرهم أنَّهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الإرث، وإنَّما كان يختصّ بالأقوياء وليس إلَّا لأنّهم كانوا يعامَلون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة الحيوان المسخَّر، والسلع والأمتعة التي ليس لها إلَّا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان وما في يدِهِ أو تستفيد من الحقوق الاجتماعيَّة التي لا تتجاوز النوع الإنسانيّ.

 

ومع ذلك، كان يختلف مصداق القويّ في هذا الباب برهةً بعد برهة، فتارةً مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، وتارةً رئيس البيت، وتارةً أخرى أشجع القوم وأشدّهم بأسًا، وكان ذلك يوجِب طبعًا تغيّر سنّة الإرث تغيُّرًا جوهريًّا"[1].

 

أمّا العنوان الثاني فهو "الوراثة بين الأمم المتمدّنة"، فصّل فيه العلَّامة موضوع الإرث ذاكرًا الحال الذي كانت عليه العديد من الأمم. وقد أورد تحته الكلام الآتي: "من خواصّ الروم أنَّهم كانوا يرون للبيت في نفسِهِ استقلالًا مدنيًّا يفصله عن المجتمع العامّ ويصونه عن نفوذ الحكومة العامَّة في جلّ ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعيَّة، فكان يستقلّ في الأمر والنهي والجزاء والسياسة ونحو ذلك.

 

وكان ربّ البيت هو معبودًا لأهله من زوجة وأولاد وعبيد، وكان هو المالك من بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت، وكان هو الوليّ عليهم، القيِّم بأمرهم باختياره المطلق، النافذ فيهم، وكان هو يعبد ربّ البيت السابق من أسلافه.

 

وإذا كان هناك مال يرثه ربُّ البيت، كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن ربّ البيت اكتسابًا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صُداقًا وأذِنَ لها ربّ البيت أو بعض الأقارب، فإنَّما كان يرثه ربّ البيت لأنّه مقتضى ربوبيَّته وملكه المطلق للبيت وأهله.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص223. ‏

 

156


136

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

وإذا مات ربّ البيت فإنَّما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممَّن في وسعه ذلك وورثه الأبناء، فإن انفصلوا وأسَّسوا بيوتًا جديدة كانوا أربابها، وإن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الربّ الجديد (أخيهم مثلًا) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته وولايته المطلقة.

 

وكذا، كان يرثه الأدعياء لأنَّ الادِّعاء والتبنِّي كان دائرًا عندهم كما بين العرب في الجاهليَّة"[1].

 

ثمّ يضيف رحمه الله: "وأمَّا النساء كالزوجة والبنت والأمّ فلم يكنَّ يرثنَ لئَلَّا ينتقل مال البيت بانتقالهنَّ إلى بيوت أخرى بالازدواج، فإنَّهم ما كانوا يرونَ جواز انتقال الثروة من بيتٍ إلى آخر.

 

وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنّة في بيوت الروم، مع سنَّتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أنَّ القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعيّة وهي الاشتراك في الدم، وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في غيرهم، والثاني القرابة الرسميَّة وهي القانونيَّة ولازمها الإرث وعدمه والنفقة والولاية وغير ذلك، فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعيَّة ورسميَّة معًا بالنسبة إلى ربّ البيت ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم، وكانت النساء جميعًا ذواتِ قرابةٍ طبيعيَّةٍ لا رسميَّة، فكانت المرأة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم. هذه سنّة الروم القديم.

 

وأمَّا اليونان فكان وضعهم القديم في تشكّل البيوت قريبًا من وضع الروم القديم، وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، ويحرم النساء جميعًا من زوجة وبنت وأخت، ويحرم صغار الأولاد وغيرهم، غير أنَّهم كالروميّين ربَّما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم ومن أحبّوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم بحيلٍ متفرِّقةٍ تسهِّل الطريق لإمتاعهنَّ بشي‏ءٍ من الميراث قليل أو كثير بوصيَّةٍ أو نحوها وسيجي‏ء الكلام في أمرِ الوصيَّة.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص207.

 

157


137

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

وأمَّا الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقًا، وحرمان ضعفاء الأولاد أوبقائهم تحت الولاية والقيمومة قريبًا ممَّا تقدَّم من سنّة الروم واليونان.

 

وأمَّا الفرس فإنَّهم كانوا يرونَ نكاح المحارم وتعدّد الزوجات، كما تقدّم ويرونَ التبنِّي، وكانت أحبّ النساء إلى الزوج ربَّما قامت مقام الابن بالادِّعاء وترث كما يرث الابن والدَّعيّ بالسويَّة وكانت تحرم بقيَّة الزوجات، والبنت المزوَّجة لا ترث حذرًا من انتقال المال إلى خارج البيت، والتي لم تتزوّج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوَّجة محرومات، وكانت الزَّوْجة الكبيرة والابن والدعيّ والبنت غير المزوَّجة بعد مرزوقين.

 

وأمَّا العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقًا والصغار من البنين ويمتّعون أرشد الأولاد ممَّن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.

 

هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها وتعرَّض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها. من أراد الاطِّلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.

 

وقد تلخَّص من جميع ما مرّ أنّ السنّة كانت قد استقرّت في الدنيا يومئذٍ على حرمان النساء بعنوان أنَّهنَّ زوجة أو أمٌّ أو بنت أو أخت إلَّا بعناوين أخرى مختلفة، وعلى حرمان الصغار والأيتام إلَّا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة"[1].

 

لذا، فإنّ الإسلام عندما ورَّث المرأة، كان ذلك منه في زمنٍ حُرِمت فيه المرأة من الإرث. يقول العلَّامة: "قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ﴾[2]، وأمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ﴾ ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهليَّة من منع توريث النساء"[3].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص224-225-226.

[2] سورة النساء، الآية 11.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص207.

 

158


138

الفصل الخامس: المرأة في البُعْدِ الأُسرِيّ

2. تفاوت المرأة عن الرّجل في نصيبها من الإرث:

إنَّ تفاوت الإرث بين المرأة والرّجل من المسائل التي فتحت باب الجدل واسعًا وأثارت الضّجيج حولها باعتبارها ظلمًا للمرأة وانتقاصًا من حقّها. وقد أجادَ السيّد الطباطبائيّ في معالجته لهذه المسألة. ويُمكن إفراد كلامه في هذا المجال إلى عدّة عناوين:

أ. زيادة سهم الرّجل على سهم المرأة:

لا تتساوى المرأة مع الرّجل في نصيبها من الإرث، حيث الغالب هو زيادة سهم الرّجل عن مثله في الأنثى. يقول السيّد الطباطبائيّ: "ومن المستفاد من سياق الآيات وذكر الفرائض أنَّه – تعالى - يرجِّح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المِثْلَيْنِ على المِثْل أو ما يقرِّب من ذلك مهما أمكن"[1].

 

ب. إستثناء الأمّ من نقصان سهم المرأة عن الرّجل:

يُعتبر سهم الأمّ من الإرث هو السهم الوحيد الذي يكون فيه للمرأة أكثر ممَّا للرجل أو ما يساويه. والرّجل في هذه الحال هو زوجها والأب لأولادها. يقول السيّد الطباطبائيّ في معرض تفسيره لمجموعة الآيات (11 إلى 14) من سورة النساء، ما يأتي: "ومنها أنَّ التأمّل في سهام الرجال والنساء في الإرث يفيد أنَّ سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملةِ إلَّا في الأبوين فإنَّ سهم الأمّ قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة، ولعلّ تغليب جانب الأمّ على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمسَّ رحمًا بولدها ومقاساتها كلَّ شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته، قال -تعالى-: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾[2]، وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حدّ المساواة أو الزيادة، تغليب لجانبها قطعًا"[3].

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص222، سورة النساء، ضمن البحث الروائيّ الذي عقده عند تفسير الآيتين 11 - 12.

[2]  سورة الأحقاف، الآية 15.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص214، كلام في الإرث على وجه كلّيّ‏.

 

 

159

 


139

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

ج. علّة زيادة سهم الرجل على سهم المرأة:

يعزو السيِّد الطباطبائيّ سبب زيادة سهم الرجل على سهم المرأة في الإرث إلى زيادة التعقّل عند الرّجل، فيقول ضمن السّياق نفسِهِ السابق: "وأمَّا كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتُبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلًا وكون الإنفاق اللَّازم على عهدته، قال -تعالى-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾[1]، والقوَّام‏ من القيام وهو إدارة المعاش، والمراد بالفضل‏ هو الزيادة في التعقّل، فإنَّ حياته حياة تعقُّليَّة وحياة المرأة إحساسيَّة عاطفيَّة، وإعطاء زمام المال يدًا عاقلة مدبِّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدًا ذات إحساس عاطفيّ، وهذا الإعطاء والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء، فيغلب تدبير التعقُّل على تدبير الإحساس والعواطف، فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة[2].

 

فقد تحصَّل من جميع ما قدَّمنا أنَّ الرجال فُضِّلوا على النساء بروح التعقّل الذي أوجب تفاوتًا في أمر الإرث وما يشبهه، لكنَّها فضيلة بمعنى الزيادة، وأمَّا الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت"[3].

 

وفي السياق نفسِهِ من التعليل، يقول سماحته أيضًا: "ثمَّ إنَّه بعد ذلك عمد إلى الإرث وعنده في ذلك أصلان جوهريَّان: وأصل اختلاف الذكر والأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقّل والإحساسات، فالرجل، بحسب طبعِهِ، إنسان التعقّل كما أنَّ المرأة مظهر العواطف والإحساسات اللطيفة الرقيقة، وهذا الفرق مؤثِّر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك، وصرفه في الحوائج، وهذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقةٍ

 

 


[1] سورة النساء، الآية 34.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص215، سورة النساء، تفسير الآيات، 11 - 14.

[3] المصدر نفسه.

 

160


140

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

واحدةٍ كالابن والبنت، والأخ والأخت في الجملة على ما سنبيّنه، ثمَّ استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر والأنثى في غير الأمّ والكلالة المتقرِّبة بالأمّ بأنَّ للذكر مثل حظِّ الأنثيين"[1].

 

أمّا الروايات التي نقلها السيّد قدس سره في خصوص سبب زيادة سهم الرجل على سهم المرأة في الإرث، فهي: "وفي المعاني، بإسناده إلى محمَّد بن سنان: أنَّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله، علَّة إعطاء النساء نصف ما يُعطى الرجال من الميراث: لأنَّ المرأة إذا تزوَّجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفَّر على الرجال، وعلّة أخرى في إعطاء الذكر ضِعْفَ ما تعطى الأنثى، لأنَّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعوِّلها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعوِّل الرجل ولا تُؤخَذ بنفقته إن احتاج فوفَّر على الرجال لذلك، وذلك قول الله -عزَّ وجلّ-: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾[2]"[3].

 

وفي الكافي، بإسناده عن الأحول قال: "قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهمًا واحدًا ويأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله عليه السلام فقال: "إنَّ المرأة ليس عليها جهاد، ولا نفقة، ولا معقلة، فإنَّما ذلك على الرجال؛ فلذلك جعل للمرأة سهمًا واحدًا، وللرجل سهمين"[4].

 

وبعد ذكر هاتين الروايتين يُعلّق السيّد قدس سره بقوله: "أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وقد مرّ دلالة الكتاب أيضًا على ذلك"[5].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص227-228، "ماذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف"‏.

[2] سورة النساء، الاية 34.

[3] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، علل الشرائع، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، لا.ط، 1385هـ - 1966م، ج2، ص570.

[4] راجع: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص85؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص222، ضمن عنوان بحث روائي، سورة النساء، الآيات 11 – 14.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص222.

 

161


141

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

د. الامتياز الذي وهبه الإسلام للمرأة في الإرث:

إنّ ما يظهر للوهلة الأولى من كون سهم الرجل ضعفي سهم الأنثى، يُفضي إلى أنّ النصيب الأكبر من المال والثروة هو للرجل. ولكن عند التأمّل يتبيّن العكس. يقول السيّد الطباطبائيّ: "وإعطاء زمام المال يدًا عاقلة مدبّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدًا ذات إحساس عاطفيّ، وقد تُدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله - سبحانه - الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، وعندها الثلث الذي تتملّكه وبيدها أمر ملكه ومصرفه.

 

وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أنَّ الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف، فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها، وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها، وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقّل على روح الإحساس والعواطف في الرجل، والتدبير الماليّ بالحفظ والتبديل والإنتاج والاسترباح أنسب وأمسّ بروح التعقُّل، وغلبة العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة على روح التعقّل في المرأة، وذلك بالمصرف أمسّ وألصق، فهذا هو السرّ في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث والنفقات بين الرجال والنساء"[1].

 

لقد دفع الإسلام بهذا التشريع عن كاهل النساء قضايا حفظ المال واسترباحه وانتاجه وتملّكه... أكثر من الرجل، ثمَّ أعطاها الحقّ في الانتفاع به وصرفه بالوجوه المطلوبة، وهذا من فنون التدبير المنزليّ الذي ينبغي أن تتقنه المرأة. والمرأة واجبة النفقة على الدوام إمَّا من أبيها أو من زوجها، هذا مع أنَّها تتملَّك مالها بالكسب والإرث ونحوه.. فأيُّ إرفاقٍ يمكن أن يكون في حقِّها أكثر ممّا أرفق بها شرعنا الحنيف!

 

ويقول السيّد (رضوان الله عليه) ما يقارب المعنى السّابق والّذي نصّه: "والسهام الستَّة المفروضة في الإسلام (النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن) وإن

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص215، بحث روائي‏، عند تفسيره سورة النساء، الآيات 11 الى 14.

 

162


142

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

اختلفت، وكذا المال الذي ينتهي إلى أحد الورَّاث وإن تخلَّف عن فريضته غالبًا بالردّ أو النقص الوارد، وكذا الأب والأمُّ وكلالة الأمّ وإن تخلَّفت فرائضهم عن قاعدة ﴿لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ﴾؛ ولذلك يعسُر البحث الكلّيُّ الجامع في باب الإرث إلَّا أنَّ الجميع، بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للَّاحق، يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولِّدة وهم الآباء والأمَّهات للطبقة المتولّدة وهم الأولاد، والفريضة الإسلاميّة في كلٍّ من القبيلين، أعني الأزواج والأولاد للذكر مثل حظِّ الأنثيين.

 

ويُنتِج هذا النظر الكلّيُّ أنَّ الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين، فللأنثى ثلث وللذكر ثلثان، هذا من حيث التملّك، لكنَّه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة، فإنَّه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف ويُعطي للمرأة استقلال الإرادة والعمل فيما تملِكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، وهذه الجهات الثلاث تُنتج أنَّ للمرأة أن تتصرّف في ثلثي ثروة الدنيا (الثلث الذي تُملِكُهُ ونصف الثلثين اللَّذَيْن يملكهما الرجل) وليس في قبال تصرّف الرجل إلّا الثلث[1].

 

وأمَّا النساء فإنَّهنَّ، بحسب النظر العامّ، يملكنَ ثلث ثروة الدنيا ويتصرَّفنَ في ثلثيها، بما تقدّم من البيان، وهنَّ حرّات مستقلّات فيما يملكنَ لا يدخلنَ تحت قيمومة دائمة ولا مؤقَّتة، ولا جُناح على الرجال فيما فعلنَ في أنفسهنَّ بالمعروف"[2].

 

ووفقًا لسماحة السيّد، فإنّ سبب المنّ على النساء بالتمتّع بصرف ثلثي ثروة الدنيا يعود إلى خصوصيَّة غلبة الإحساس فيهنّ، حيث يقول: "وجبرَ ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثمَّ تُعطي المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها، أي للانتفاع بنصف ما في يده، فيرجع بالحقيقة إلى أنَّ ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكًا وعينًا وثلثيها للنساء انتفاعًا فالتدبير الغالب إنَّما هو


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص228، "ماذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف"‏.

[2] المصدر نفسه، ص229، "علام استقر حال النساء و اليتامى في الإسلام".

 

163


143

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

للرجال لغلبةِ تعقُّلهم، والانتفاع والتمتّع الغالب للنساء لغلبةِ إحساسهنَّ، ثمَّ تمَّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة، مرَّت الإشارة إليها"[1].

 

إشكال وردّ

قد يُشكَلُ على التّشريع الإسلاميّ بأنّ وجوب نفقة المرأة على الرّجل يَتسبَّبُ في تكاسلها، وهو ما ينعكس سلبًا على المجتمع عندما تتّصف نساؤه بذلك. يقول قدس سره: "فإن قلت: ما ذُكِرَ من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإنَّ ارتفاع الحاجة الضروريَّة إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمّل مشاقّ الأعمال والأشغال، فتنمو على ذلك نماءً رديًّا وتنبت نباتًا سيّئًا غير صالح لتكاملِ الاجتماع، وقد أيَّدت التجربة ذلك"[2].

 

يجيب العلَّامة عن هذا الإشكال بقولِهِ: "قلت: وضع القوانين المُصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتًا حسنًا أمر آخر، والذي أُصيبَ به الإسلام في مدّة سَيْرِهِ الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقُوَّام المجاهدين، فارتدّت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقَّفت التربية ثمَّ رجعت القهقَرَى. ومن أوضح ما أفادتهُ التجريبُ القطعيُّ أنَّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهةٍ يسيرةٍ لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيِّمين بأمورهم تربيةً صالحةً يجتمع فيها العلم والعمل"[3]. فليس التشريع هو من يولِّد نساءً أو رجالًا كسالى عطّالين، بل التربية السيِّئة والتطبيق الخاطئ للإسلام من قِبَلِ المسلمين.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص275.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ص276.

 

 

164

 


144

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

3. تأثُّر قوانين الإرث الحديثة بقوانين الإسلام في إرث النساء:

يعتقد السيّد الطباطبائيّ بوجود رابطة بين قوانين الإرث الحديثة وقانون الإرث الإسلاميّ فيما يتعلّق بإرث النساء، وذلك باستخدام الواضعين للقوانين الحديثة لقانون الإرث الإسلاميّ كمادّة فكريّة أخذوا عنها، وإن لم يكن هناك تطابق بين هذين النوعين من القوانين. وقد تحدّث (رضوان الله عليه) عن هذا الأمر تحت عنوان قوانين الإرث الحديثة، فقال: "هذه القوانين والسُّنن، وإن خالفت قانون الإرث الإسلاميّ كمًّا وكيفًا، على ما سيمرّ بك إجمالها، غير أنَّها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسُّنّة الإسلاميّة في الإرث، فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهنَّ من الفرق؟

 

فقد كان الإسلام يُظهر أمرًا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قُرِعَتْ أسماع الناس بمثلِهِ، ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الأوَّلين، وأمَّا هذه القوانين فإنَّها أُبديت وكلّف بها أمم حينما كانت استقرّت سُنّة الإسلام في الإرث بين الأمم الإسلاميّة في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس، توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون. ومن البديهيَّات في أبحاث النفس أنَّ وقوع أمر من الأمور في الخارج ثمَّ ثبوتها واستقرارها، نِعْمَ العون في وقوع ما يشابهها. وكلُّ سُنَّة سابقة من السُّنن الاجتماعيَّة مادَّة فكريَّة للسُّنن اللَّاحقة المجانسة، بل الأُولى هي المادَّة المتحوّلة إلى الثانية، فليس لباحث اجتماعيٍّ أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدّمها من الإرث الإسلاميّ وتحوّله إليها تحوُّلًا عادلًا أو جائرًا"[1].

 

ثمّ يقول قدس سره: "وبالجملةِ، فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربيَّة، وإن اختلفت في بعض الخصوصيَّات، غير أنَّها كالمطَّبقة على تساوي الرجال والنساء في سهم الإرث، فالبنات والبنون سواء، والأمَّهات والآباء سواء في السهام وهكذا.

 

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص231-232، ضمن عنوان "قوانين الإرث الحديثة".

 

165


145

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

وقد رُتِّبَت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو:

الطبقة الأولى: البنون والبنات.

الطبقة الثانية: الآباء والأمّهات والإخوة والأخوات.

الطبقة الثالثة: الأجداد والجدَّات.

الطبقة الرابعة: الأعمام والعمَّات والأخوال والخالات.

 

وقد أخرجوا علقة الزوجيَّة من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبَّة والعلقة القلبيَّة، ولا يهمّنا التعرُّض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات، من أرادها فليرجع إلى محلّها.

 

والذي يهمّنا هو التأمُّل في نتيجة هذه السُّنّة الجارية، وهي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العامّ الذي تقدّم. غير أنَّهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حقّ لها في تصرّف ماليّ في شي‏ء من أموالها الموروثة إلَّا بإذن زوجها، وعاد بذلك المال منصفًا بين الرجل والمرأة ملكًا، وتحت ولاية الرجل تدبيرًا وإدارة! وهناك جمعيَّات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال وإخراجهنَّ من تحت قيمومة الرجال في أموالهنَّ، ولو وُفِّقوا لِما يريدون لكانت الرجال والنساء مُتساوِين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرُّف"[1].

 

ثانيًا: النّفقات الواجبة للمرأة من الزوج

للمرأة على الزّوج حقوق ماليّة تتلخّص بأمرين:

1. الصّداق:

للمرأة على الرّجل الذي يريد الزواج منها تقديم الصّداق لها، وهوما يُعرَف بالمهر. يقول السيّد الطباطبائيّ: "قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ﴾ الصدقة بضمّ الدال وفتحها والصداق هو المهر، والنحلة هي العطيَّة من غير مثامنة.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص231-232، ضمن عنوان "قوانين الإرث الحديثة".

 

166


146

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

وفي إضافة الصدقات إلى ضمير "هنَّ" دلالة على أنَّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيٌّ على المتداول بين الناس في سُنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهرًا لهن َّكأنَّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنَّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل، على ما سيأتي في البحث العلميّ الآتي، وهو الخطبة، كما أنَّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته. وكيف كان، ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

 

ولعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلًا حتَّى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قولِهِ -تعالى-: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، والدلالة على أنَّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ"[1].

 

وهذا الحقّ (المهر) ليس محفوظًا فقط ضمن العلقة الزوجيّة، بل يتعدّاها إلى ما بعد الطّلاق فيما لوحصل، إذ لم يرضَ الإسلام بظلم الرجل لزوجته، عندما يريد طلاقها بسلبها إيّاه أو حتّى سلبها جزءًا يسيرًا منه. يقول السيّد الطباطبائيّ عند تفسيره للآية المباركة: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾[2]، ما نصّه: "قَوْلُه -تعالى-: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ إلى آخر الآية، الاستبدال‏ استفعال بمعنى طلب البدل، وكأنَّه بمعنى إقامة زوج، مقام زوج، أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال، ولذلك جمع بين قوله‏: ﴿أَرَدتُّمُ﴾ وبين قوله: ﴿ٱسۡتِبۡدَالَ﴾‏ إلخ... مع كون الاستبدال مشتملًا على معنى الإرادة والطلب. وعلى هذا، فالمعنى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ‏﴾ أن تقيموا زوجًا مقام أخرى بالاستبدال.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص169.

[2] سورة النساء، الآية 20.

 

167


147

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

والبهتان‏ ما بهت الإنسان أي جعله مُتحيِّرًا، ويغلب استعماله في الكذب من القول، وهو في الأصل مصدر، وقد استُعمِل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر، وهو في الآية حال من الأخذ، وكذا قَوْلُهُ: إِثْمًا، والاستفهام إنكاريّ.

 

المعنى إن أردتم أن تطلِّقوا بعض أزواجكم وتتزوّجوا بأخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئًا وإن كان ما آتيتموها مالًا كثيرًا، وما تأخذونه قليلًا جدًّا"[1].

 

ثمّ يأتي التعليل وإظهار سبب ذلك في الآية اللَّاحقة ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾[2]، حيث يقول السيّد قدس سره في تفسير هذه الآية المباركة: "قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجُّب، والإفضاء هو الاتصال بالمماسَّة، وأصلُهُ الفضاء بمعنى السعة.

 

ولمَّا كان هذا الأخذ إنَّما هو بالبغي والظلم، ومورده مورد الاتصال والاتحاد، أوجب ذلك صحَّة التعجُّب حيث إنَّ الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء والاقتراب كشخص واحد، ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضًا.

 

وأمَّا قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ فالظاهر أنَّ المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه، ومن لوازمها الصداق الذي يسمَّى عند النكاح وتستحقّه المرأة من الرجل"[3].

 

2. النفقة:

أيضًا من الحقوق الماليّة للمرأة التي فيها إكرام وعزّة لها، النفقة عليها من قِبَل الزّوج. يقول السيّد الطباطبائيّ: "﴿وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص257.

[2] سورة النساء، الآية 21.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص258.

 

168


148

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

عَلِيمًا﴾[1]، يريد أنَّ الأعمال التي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وأنَّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، وعليها أنْ تُطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها، وتدورك ما فاتها بأنَّ نفقتها في الحياة على الرجل الأب أو الزوج"[2].

 

أمّا الروايات التي ذكرها السيّد قدس سره والتي تشير إلى وجوب النفقة على الزّوج، فهي نفسها الروايات التي فيها تعليل زيادة سهم الرّجل على سهم المرأة. وقد ذُكرت تحت عنوان "علّة زيادة سهم الرجل على سهم المرأة" الّذي سبق ذكره.

 

ثالثًا: التكسّب بالعمل

لم يُهمل السيِّد الطباطبائيّ حقّ المرأة في العمل والإنتاج في عمليّة استنباطه من الآيات المباركة. وقد أشبعت الأبواق الإعلاميّة الغربيّة وغير الغربيّة هذا الموضوع ذكرًا خصوصًا عند الحديث عن التمكين الإقتصاديّ للمرأة، وقد تطرّق السيّد الطباطبائيّ إلى هذا الحقّ قائلًا: "ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجها كما للرجل ذلك من غير فرق، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ﴾"[3].

 

كما أشار العلَّامة إلى هذا الحقّ في مكانٍ آخر من الميزان في قولِهِ: "قَوْلُهُ-تعالى-:

﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَۚ﴾[4]. كذلك النساء خُصِّصْنَ بنصف سهم الرجال.. وكذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة أوطريق آخر، وما الله يريد ظلماً للعباد"[5].


 


[1] سورة النساء، الآية 32.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص272.

[3] المصدر نفسه، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[4] سورة النساء، الآية 32.

[5] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص336-337-338، سورة النساء، تفسير الآية 32.

 

169


149

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

وإلى جانب الإستقلال الإقتصاديّ والماليّ الّذي تتمتّع به المرأة، يساهم هذا الحقّ في منحها دورًا اقتصاديًّا تساهم به في الإنتاج والتنمية الاقتصاديَّة في مجتمعها مع مراعاة نُكتَتَيْن يمكن استنتاجهما من الرؤية العامّة التي أسلفنا ذكرها عند العلَّامة الطباطبائيّ في البُعدين التكوينيّ والأسريّ. وهما:

1. مراعاة ميادين العمل التي تتناسب مع تكوينها الفيزيولوجيّ والنّفسيّ.

2. إعطاء الأولويّة للأسرة.

 

ما أسلفنا ذكره هوما منحه الإسلام للمرأة في البعد الإقتصاديّ باختصار، أمّا ما منحه لها في البعد السياسيّ فهو ما سنتعرّض له باختصار فيما يأتي.

 

البُعد السياسيّ                          

للسياسة أهميّتها الكبيرة في الإسلام. وكما يقول الإمام الخمينيُّ قدس سره إنّ كلّ بُعد من أبعاد الإسلام هو سياسيّ[1]. فمِنَ العبادات مثلًا الحجّ وصلاة الجمعة، ومن الأخلاق الإسلاميّة الأخوّة. وتتأكّد الأهميّة السياسيّة في عصرنا الرّاهن الذي تكثر فيه التحدِّيات من هذا النّوع.

 

وبما أنّ المرأة تُعتبَر نصف المجتمع، يكون استبعادها عن المشاركة وصناعة القرار السياسيّ على أهمّيَّته، استبعادًا لنصف المجتمع. وهنا يواجهنا السؤال الآتي: هل أشرك الإسلام المرأة في صناعة القرار السياسيّ فيكون بذلك قد أشرك المجتمع ككلّ ولم يقتصر على فئة دون أخرى، أم أنّه استبعد المرأة في هذا الموضوع، فيكون بذلك قد استبعد نصف المجتمع من عمليَّة صناعة القرار السياسيّ؟

 

في مقام الجواب نقول: لم يرضَ الإسلام للمرأة التصدّي لأمر الولاية، وذلك لما تقتضيه طبيعة المرأة وتركيبتها النفسيّة والفيزيولوجيَّة. إلَّا أنّه لم يُغفل مشاركتها

 


[1] يُراجع: صحيفة الإمام الخميني، الخطاب في ذكرى استشهاد الإمام الصادق عليه السلام والذكرى السنويّة لحادثة المدرسة الفيضيّة والتي ألقاها في جمع من النّساء العاملات في مجمّع طيبة التعليمي في مدينة لنجرود، بتاريخ 26 شهريور 1358هـ.ش.- 25 شوّال 1399هـ. ق.

 

170


150

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

السياسيّة وضرورتها. ومن مظاهر المشاركة السياسيّة التي حصلت في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت بيعة النّساء له صلى الله عليه وآله وسلم، إذ البيعة موقف سياسيّ تختار فيه المرأة قيادتها. فكان للمرأة حضورها السياسيُّ الفاعل. وهذا إن دلّ على شيء، إنَّما يدلّ على مشاركة المرأة للرّجل في قضايا الشّأن العامّ والأمور الكبرى. وقد ورد الكلام عن بيعة النساء المؤمنات للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى الآيات المباركة والتي تتضمّن بين طيَّاتها شرحًا لعقيدة النّبيِّ الإلهيّة ولبرنامجه ونظامه الاجتماعيّ لتكون البيعة مبنيّة على الوعي والمعرفة. وبذلك يکون القرآن الکريم قد أسّس لحقّ المرأة السياسيّ واستقلاليّتها وعدم تبعيّتها للرّجل في الأمور السياسيّة. يقول العلَّامة (رضوان الله عليه): "قَوْلُهُ -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ﴾[1] إلخ، تتضمّن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شرطت عليهنَّ في ﴿عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ﴾ إلخ، أمورًا منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال والنساء كالتحرُّز من الشرك ومن معصية الرسول في معروف، ومنها ما هو أمسّ بهنَّ من حيث إنَّ تدبير المنزل بحسب الطبع، إليهنَّ، وهنَّ السبيل إلى حفظ عفَّة البيت والحصول على الأنسال وطهارة مواليدهم، وهي التجنّب من السرقة والزنا وقتل الأولاد وإلحاق غير أولاد أزواجهنَّ بهم، وإن كانت هذه الأمور بوجهٍ من المشتركات..."[2].

 

أمّا الطّريقة التي أُخذت فيها هذه البيعة من النّساء فكانت لافِتةً للتوجّه، إذ أدخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يده المباركة في قدحٍ فيه ماء وأخرجها ثمّ طلب من النّساء أن يُدخلنَ أيديهنّ في ذلك الماء. ينقل السيّد الطباطبائيّ في هذا المِضمار الرواية الآتية: "وفي الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكَّة بايع الرجال ثمَّ جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله - عزّ وجلّ -: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ﴾ إلى آخر الآية.


 


[1] سورة الممتحنة، الآية 12.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏19، ص242-243.

 

171


151

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

قالت هند: أمَّا الولد فقد ربَّيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا، وقالت أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت عند عكرمة بن أبي جهل: "يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟" قال: "لا تلطمنَ خدًّا، ولا تخمشنَّ وجهًا، ولا تنتفنَ شعرًا، ولا تشقُقْنَ جيبًا، ولا تسوِّدْنَ ثوبًا، ولا تدعينَ بويلٍ، فبايعهنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا".

 

فقالت: "يا رسول الله كيف نبايعك؟" قال: "إنّني لا أصافح النساء" فدعا بقدحٍ من ماء فأدخل يده ثمَّ أخرجها فقال: "أدخلن أيديكنَّ في هذا الماء"[1].

 

أقول: والروايات مستفيضة في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنَّة"[2].

 

ولا يعني رفض تولّي المرأة للولاية السياسيّة عدم وجود نساء تميّزن وربّما فُقْنَ الرّجال في السياسة كملكة سبأ التي يروي القرآن الكريم قصّتها والتي رجَّح عقلها على الرجال الذين كانت تسوسهم بدءًا من المشورة والإستماع لرأي من تسوسهم، خروجًا بذلك عن الإستبداد. وعندما مال الرجال إلى الحرب والسلاح حيث ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾[3]، ارتأت هي بذكائها سبيلًا آخر أشدّ حنكةً وذكاءً وهو طريق اللين والإختبار لسليمان عليه السلام نَأْيًا بذلك عن الحرب فـ ﴿قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ﴾[4]. ثمّ عملت بما رأت فيه الصلاح بعد قولها ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾[5]. فكان رأيها أصوب من آراء رجال قومها. وكان الختام إذعانها للحقّ الذي جرى على لسانها بعد أن زيّن قلبها عندما قالت: ﴿وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[6].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص527.

[2] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏19، ص246.

[3] سورة النّمل‏، الآية 33.

[4] السورة نفسها، الآية 34.

[5] السورة نفسها، الآية 35.

[6] السورة نفسها، الآية 44.

 

172


152

الفصل السادس: المرأة في البُعدِ الاقتصاديِّ والسياسيّ

إلَّا أنّ مثيلات ملكة سبأ نادرات من بين النّساء، إذ الأصل في المرأة أنّ العاطفة المودعة في كيانها تجعل منها كائنًا رقيقًا يُطلب منها التمتّع بالبصيرة السياسيّة والمشاركة لكنّها لا تقوم للولاية والحكم. والأحكام لا تلحق الفئة النادرة، بل الغالبة. يستدلّ السيّد الطباطبائيّ بالسيرة الجارية على مرّ العصور من نُدرة النساء اللّواتي برعنَ في عالم السياسة، حيث يقول: "وأنت مع ذلك إذا نظرتَ في فهرس نوابغ السياسةِ ولم تجد فيه شيئًا يُعتدّ به من أسماء النساء ولا عددًا يقبل المقايسة إلى المئات والألوف من الرجال. وهذا في نفسِهِ أصدق شاهد على أنَّ طِباع النساء لا تقبل الرشد والنماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها، بحسب الطبع، إلَّا للتعقّل، وكلَّما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبةً وخسرانًا"[1].


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص229-230. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا هو مختار العلَّامة الطباطبائيّ في مسألة قيام المرأة بدور الرئاسة السياسيّة، ولعل لبعض الأعلام نظرًا آخر في هذه المسألة، ولكننا حيث اعتمدنا في هذه الدراسة على ما ذكره العلَّامة في تفسيره الميزان اقتصرنا على نقل نظره فقط.

 

 

173


153

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

خاتمة العلاّمة الطباطبائي قدس سره

أورد السيّد الطباطبائيّ روايةً جامعةً قام بعد ذلك بشرحها وتحليلها، إذ استخلص منها استنتاجات عديدة في مختلف المجالات التي تهمّ المرأة. وهي أيضًا تُعدّ خلاصةً لمُجمَل ما سبق.

 

والرواية التي ذكرها السيّد الطباطبائيّ هي: "وفي الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن أسماء بنت يزيد الأنصاريَّة أنَّها أتت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أصحابه فقالت: "بأبي أنت وأمِّي، إنِّي وافدة النساء إليك، واعلم، نفسي لك الفداء أنَّه ما من امرأةٍ كائنةٍ في شرقٍ ولا غربٍ سمعَت بمخرجي هذا إلّا وهي على مثل رأيي.

 

إنّ الله بعثك بالحقّ إلى الرجال والنساء فآمنّا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنَّا معشرَ النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، ومقضيُّ شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنَّكم معاشرَ الرجال فُضِّلتُم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحجّ بعد الحجّ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإنَّ الرجل منكم إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا أو مرابطًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربّينا لكم أموالكم‏[1]، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثمّ قال: "هل سمعتم مقالة امرأة قطّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟" فقالوا: يا رسول الله، ما ظننَّا أنَّ امرأةً تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها ثمَّ قال لها: "انصرفي أيَّتها المرأة وأعلِمِي من خَلْفَكِ من النساء: أنَّ حُسن تبعُّلِ إحداكنَّ لزوجها،


 


[1] أولادكم.

 

176


154

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

 وطلبها مرضاته، واتِّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة وهي تهلّل وتكبّر استبشارًا"[1].

 

ثمّ يُعلّق السيّد الطباطبائيّ قائلًا: "أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة مرويَّة في جوامع الحديث من طرق الشيعة وأهل السنَّة، ومن أجمل ما رُويَ فيه ما رواه في الكافي، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه السلام: "جهاد المرأة حسن التبعلّ"[2]، ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى، مع اشتماله على أساس ما بُنيَ عليه التشريع، ما في نهج البلاغة"[3].

 

أمّا تحليله للرّواية فكان تحليلًا جامعًا شاملًا، كان أهمّ ما عرّج عليه: حريَّة المعتقد عند المرأة، إختلاف الأدوار بينها وبين الرجل، وعدم مدخليّة هذا التنوّع في الأدوار بالأفضليَّة، حيث قال: "ولنرجع إلى ما كنَّا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصاريَّة فنقول: يظهر من التأمُّل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتكليمهنَّ إيَّاه فيما يرجع إلى شرائع الدين، ومختلف ما قرّره الإسلام في حقهنَّ، أنَّهنَّ على احتجابهنَّ واختصاصهنَّ بالأمور المنزليَّة من شؤون الحياة، غالبًا لم يكنَّ ممنوعات من المراودة إلى وليّ الأمر، والسعي في حلٍّ ما ربَّما كان يشكِّل عليهنَّ، وهذه حريَّة الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلاميّة في آخر سورة آل عمران.

 

ويُستفاد منه ومن نظائره أيضًا أوّلًا أنَّ الطريقة المَرْضية في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخليَّة وتربية الأولاد، وهذه وإن كانت سُنّة مسنونة غير مفروضة، لكنَّ الترغيب والتحريض الندبيَّ والظرف ظرف الدين، والجوج والتقوى وابتغاء مرضاة الله، وإيثار مثوبة الآخرة على عَرَض الدنيا، والتربية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفَّة والحياء ومحبَّة الأولاد والتعلُّق بالحياة المنزليَّة كانت تحفظ هذه السنَّة.


 


[1] راجع: جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، ج153؛ العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص350.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص9.

[3] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص350.

 

177


155

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

وكان الاشتغال بهذه الشؤون والاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهنَّ يشغلهنَّ عن الورود في مجامع الرجال، واختلاطهنَّ بهم في حدود ما أباح الله – تعالى - لهنَّ، ويشهد بذلك بقاء هذه السنَّة بين المسلمين على ساقها قرونًا كثيرةً بعد ذلك حتّى نَفَذَ فيهنَّ الاسترسال الغربيّ المسمَّى بحريّة النساء في المجتمع فجرَّت إليهنَّ وإليهم هلاك الأخلاق، وفساد الحياة وهم لا يشعرون، وسوف يعلمون، ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتح الله - تعالى - عليهم بركات من السماء، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كذَّبوا فأُخِذوا.

 

وثانيًا: أنَّ من السنّة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية.

 

وثالثًا: أنّ الإسلام لم يهملْ أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقيَّة، كما أنَّه جعل حُسْنَ التبعُّل مثلًا جهادًا للمرأة، وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا، وظرفنا هذا الظرف الحيويّ الفاسد قدْر لكنَّ الظرف‏ الإسلاميَّ الذي يقوِّم الأمور بقيمها الحقيقيَّة، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المَرْضية عند الله -سبحانه-، وهو يقدّرها حقّ قدرها، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي نُدِبَ إليه، وللزومه الطريق الذي خُطَّ له، من القيمة ما تتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة وتتوازن أعمالها، فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج، على ما فيه من الفضل، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيَّة، وكذا لا فخار لوالٍ يدير رحى المجتمع الحيويّ، ولا لقاضٍ يتَّكئ على مسند القضاء، وهما منصبان ليس للمتقلّد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ إلَّا تحمّل أثقال الولاية والقضاء، والتعرُّض لمهالك ومخاطر تُهدِّدُهما حينًا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلّا ربّ العالمين ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ﴾[1]، فأيّ فخرٍ لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، وخطّ له خطًّا وأشار إليه بلزومه وسلوكه؟!


 


[1] سورة الفجر، الآية 14.

 

178


156

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

فهذه المفاخر إنَّما يحييها ويُقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربّي أجزاءَهُ على ما يندب إليه من غير تناقض، واختلاف الشؤون الاجتماعيَّة والأعمال الإنسانيّة بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها ممَّا لا يسع أحدًا إنكاره.

 

هوذا الجنديّ الذي يُلقِي بنفسه في أخطر المهالك، وهو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيدًا، وهو زعمه أن سيُذكَرَ اسمه في فهرس من فدَّى بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كلِّ ذي فخر في عين مَنْ يعتقد بأنَّ الموت فوت وبطلان، وليس إلَّا بغية وهميَّة، وكرامة خرافيَّة، وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات ويعظِّم قدرهنَّ بذلك الناس تعظيمًا لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطينَ من أنفسهنَّ للملإ دهرًا طويلًا في المجتمعات الإنسانيّة أعظم ما يسقط به قدر النساء، وأشنع ما يعيّرن به، فليس ذلك كلّه إلَّا أنَّ الظرف من ظروف الحياة يعيِّن ما يعيِّنه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويعظِّم الحقير، ويهوِّن الخطير، فليس من المستبعد أن يعظِّم الإسلام أمورًا نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة، أو يحقِّر أمورًا نستعظمها ونتنافس فيها، فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلَّا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الأولى‏"[1].

 

وللسيّد الطباطبائيّ عن التدارك بإعطاء بعض الميّزات والذي يُقابل ما تُحرَم منه المرأة كلام مشابه، وذلك في ثنايا البحث العلميّ الذي أورده عن الإرث، حيث يقول: "فالمرأة في الإسلام ذات شخصيَّة تساوي شخصيَّة الرجل في حريَّة الإرادة والعمل من جميع الجهات، ولا تفارق حالها حال الرجل إلَّا في ما تقتضيه صفتها الروحيَّة الخاصَّة المخالفة لصفة الرجل الروحيَّة، وهي أنَّ لها حياة إحساسيَّة وحياة الرجل تعقُّليَّة، فاعتبر للرجل زيادة في الملك العامّ ليفوق تدبير التعقّل في الدنيا على تدبير الإحساس والعاطفة، وتُدُورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرُّف، وشرَّعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتُدورك ذلك بالصُّداق، وحُرِمت القضاء والحكومة


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص351-352.

 

 

179


157

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

والمباشرة للقتال لكونها أمورًا يجب بناؤها على التعقّل دون الإحساس، وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهنَّ والدفاع عن حريمهنَّ على الرجال، ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والإنفاق عليها وعلى الأولاد وعلى الوالدين، ولها حقّ حضانة الأولاد من غير إيجاب، وقد عدَّل جميع هذه الأحكام بأمورٍ أخرى دعين إليها كالتحجّب وقلَّة مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الأولاد"[1].

 

الخلاصة

إنّ المرأة كما الرّجل تُعَدُّ من بدائع خلق الله - تعالى - ﴿ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ﴾[2]، فما خلقه - تعالى - ليس بحسنٍ وجميل، بل هو الأحسن، وليس في الإمكان أفضل ممّا كان.

 

وبملاحظةِ هذا المبدأ على المرأة الحفاظ على ما يقتضيه منها هذا التكوين من صفات وخصوصيّات نفسيّة وجسديّة وأدوار أُنيطَت بها، وذلك بعدم الخروج عن صراط أنوثتها ورقّتها التي أودعها الله فيها، والسّعي للتشبّه بالرّجال ومزاحمتهم في الأعمال الخاصّة بهم. فليس ذلك إلَّا خروجًا عن الفطرة التي فَطَرَ الله عليها المرأة وتشويهًا لأنوثتها، وهو ما توعّد الشيطان بالعمل عليه بقولِهِ - تعالى -: ﴿وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ﴾[3]. ومن مصاديق هذا التغيير، دعوة المرأة إلى الانحراف عن أصل تكوينها وهو ما نشهده في أيّامنا على المستوى العالميّ من محاولات حثيثة في هذا المجال. وبالتالي على كلّ امرأةٍ وعي الهدف من خلقها، ووعي تركيبها التكوينيّ والتشريعات التي خصّها الله بها، لتُدرك أنّ جميع ذلك منّةٌ وعطاء وليس بتوهينٍ وانتقاص. وهو ما سعينا إلى تكريسه وإبرازه من خلال كلام العلَّامة الطباطبائيّ في تفسيره الميزان.


 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏4، ص229، سورة النساء، عند عقده بحثًا علميًّا بعد تفسير الآيتَيْن 11 - 12.

[2] السجدة، الآية 7.

[3] سورة النساء، الآية 119.

 

180


158

الخاتمة: استنتاج بمنزلة الخلاصة لما تقدم

وفي نهاية هذا البحث نشير مُجدّدًا إلى فكرةٍ هامَّةٍ أُشير إليها بين صفحاتِهِ، وهي كون مَنَاط التفاضل الحقيقيّ بين الرجل والمرأة هو التقوى. وهو ما يُمكن فيه للمرأة أن تفوق الرّجال. يقول السيّد الطباطبائيّ: "وإذا كان لكلٍّ منهما ما عمل ولا كرامة إلَّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخُلُق الحَسَن، والصبر، والحِلْم، فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علمًا، أو الرزينة عقلًا، أو الحسنة خُلُقًا أكرم ذاتًا وأسمى درجة ممَّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة"[1].

 

ولربّما يكون التنافس بين الرّجل والمرأة في مراتب التّقوى هو وحده التنافس السويّ وغير السَّقيم. فإذا انتقل التنافس إلى هذا الميدان، فمرحى بِهِ وأنعِم: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾[2].

 


[1] العلَّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج‏2، ص270، "ماذا أبدعه الإسلام في أمرها".

[2] سورة المطفّفين، الآية 26.

 

181


159
المرأة في القرآن الكريم