دروس من فكر الإمام الصدر

في العقيدة والتفسير والسيرة


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على الحبيب المصطفى محمّد وآله الطيّبين والطاهرين.

يندُرُ أن يجود الدهر بشخصيّات لامعة تسبق عصرها في ميادين الفكر والعمل معاً، وتجذب بسحر طلّتها وخطابها وحركتها القاصي والداني، ويبقى تعرّفها وتعرّف فكرها ونشاطها وأساليب عملها حاجةً ملحّة لأجيالٍ تأتي من بعدها.

ولا نبالغ إن قلنا إنّ الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر هو أحد أبرز هذه الشخصيّات الفريدة في تاريخنا الحديث، التي لا نزال بحاجة للاطّلاع على فكرها ومنهجها وأساليب تقديمها للخطاب الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، بحيث يصبح هذا الفكر وهذا الخطاب محوراً للتأثير في المجتمع، والتغيير الإيجابيّ فيه، وقيادته باتّجاه الارتقاء والتكامل وتحقيق المقاصد والغايات الإلهيّة الشريفة.

وعلى الرغم من أنّ خطابات الإمام الصدر وكتاباته انطلقت من واقع الحاجات الفكريّة والعمليّة في زمانه، وراعت في أدبيّاتها واستخداماتها روح ذلك العصر وإشكاليّاته وهواجس إنسانه، إلّا أنّ المراجعة المنصِفة لكلماته تقف بنا على حقيقة أنّ فكره وخطابه لا يزال غضّاً طريّاً حتّى يومنا الحاضر، وما زال بالإمكان استثماره وتسييله والاستفادة منه في معالجة الموضوعات والإشكاليّات المعاصرة،

 

14


1

المقدّمة

والإجابة عن تساؤلات إنسان هذا العصر، وتسكين الكثير من هواجسه.

 

وكم نحن بحاجة في زماننا المعاصر إلى خطابٍ وأسلوب طرحٍ للفكر الدينيّ الإسلاميّ، سواء في بيان عقائده أو تفسير كتابه أو معرفة سيرة قادته، يجمع بين العقل والوجدان، والعلم والروحانيّة، فلا يبقى الفكر بذلك معرفة جافّة مقولبة باستدلالات وبراهين جامدة في زاوية العقل، بل يصبح الفكر مع ذلك الخطاب الناضج والموزون قَلَماً يخطّ بأداة العقل على صفحة القلب والوجدان، لينتج لوحةً بانوراميّة رائعة من الفكر الحيّ والمتوهّج المترجم في الخارج عملاً وحركةً اجتماعيّة وسياسيّة نهضويّة رائدة.

 

من واقع هذه الحاجة، توغّلنا في خطابات الإمام الصدر وكلماته وكتاباته في مجال المعارف الدينيّة الإسلاميّة، لنستخرج أهمّ رؤاه وأعمق أفكاره وأفضل أساليب عرضه لهذه المعارف، والتي يمكن الاستفادة المعاصرة منها، فكانت النتيجة هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم، والمقسّم إلى ثلاثة محاور؛ أوّلها في العقيدة، وثانيها في تفسير القرآن، وآخرها في سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، كلٌّ منها يحتوى خمسة دروس، هي زبدة ما يمكن استخلاصه من فكر الإمام الصدر في كلّ محور.

 

وكلّ أملنا أن يكون هذا الكتاب محلّ استفادة النخب الفكريّة وجمهور القرّاء الأعزاّء، وموضع قبول الله عزّ وجلّ، الذي لا يَضيعُ عنده عملُ العامل، والحمد لله ربّ العالمين.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

15


2

الله في المفهوم الإسلاميّ

الله في المفهوم الإسلاميّ

 

تطوّر مفهوم الإنسان عن الله

لا تكاد تجد ثابتاً أيديولوجيّاً وفكريّاً في تاريخ الحضارة الإنسانيّة أوضح مِن الإيمان بالخالق أو المعبود أو الإله العظيم المقتدر الذي يعلو فوق القوى كلّها، ويتحكّم بمصير الكون، ويمكنه أن يستجيب الدعاء ويكشف الهمّ والغمّ ويدفع السوء والأمراض... وقد أبرزَتْ هذه المجتمعات الإنسانيّة -على اختلافها- هذه النزعة الفطريّة نحو التديُّن بأشكال العبادة والتقرّب المختلفة إلى إلهها ومعبودها.

وقد تطوّر فَهْم الإنسان لخالقه عبر التاريخ،ويشرح الإمام الصدر ذلك في قوله: «الإيمان بالله مبدأ الإسلام الأوّل وهدفه الأعلى وخلاصة تعاليمه. والمتتبّع لدراسة تاريخ الأديان يُلاحِظ بوضوحٍ تطوُّر مفهوم الإنسان عن الخالق وتكامله، إذ إنّ الإنسان البدائيّ -بحسب مكتشفات علماء الآثار- كان يؤمن بخالق الكون المحدود الذي كان يعرفه، وكان يُسمّي الخالقَ بالإله الأسمى، مِن غير أن يعرف شيئاً عن صفات الخالق تقريباً. أمّا التوحيد، بالمعنى الواضح، فقد تجلّى عند إبراهيم(عليه السلام) في دعوته. ويبرز إله اليهود بِصورة مَلِك جبّار في كتبهم. ثمّ يتعمّق مفهوم الإنسان عن الله في تعاليم النصارى، إذ يتحوّل إلى الأب؛ بمعنى الخالق والرازق والمحبّ، وهكذا.

وعلينا أن ننتبه إلى حقيقة مهمّة في هذا البحث، هي أنّ تطوّر مفهوم الخالق وتكامله يعني تطوّر إدراك البشر واستيعابهم، تطوُّر المعنى الذي كان يبشّر به الأنبياء (عليهم السلام)، الذين كانوا -جميعاً- رُسُل

 

18


3

الله في المفهوم الإسلاميّ

ربّ واحد يعرفونه حقّ المعرفة، ولكنّ أُممهم، التي كانت في درجات متفاوتة مِن الوعي، ما كانت لتتمكّن مِن إدراك مفاهيم عميقة عالية عن الله. وهذا التفاوت أساسُ تفاوت العقائد والأحكام والتعاليم الدينيّة الأخرى، وهو الذي يُشاهَد في تعاليم أنبياء الله (عليهم السلام)، والذي لا يُعبِّر إلّا عن التفاوت في الشرعة والمنهج اللذَيْن يحتاج المتفاوتون في الإدراك والوعي والظروف إلى تفاوتهما.

إنّ مفهوم الإسلام عن الله يُعَدّ القمّة في إدراك البشر لله، مع العلم أنّ الإسلام -أيضاً- يعدّ اكتِناه الله مُستحيلاً، فيقول: كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق لكم مَردود إليكم»[1].

أسلوب الإسلام في التعريف بالله

يمكن عَدُّ أسلوب الإسلام الأصيل، المعتمِد على كتاب الله وسُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمعصومين (عليهم السلام) الأسلوب الأتمّ والأكمل الذي عن طريقه يمكن للبشريّة أن تَصِل إلى أعلى درجات المعرفة بالله عزّ وجلّ.وَيشرح الإمام الصدر هذا الأسلوب، فيقول: «يحاول الإسلام، بالنسبة إلى إثبات وجود الله ووحدته وصفاته الحسنى، ألّا يخوض غمار الأدلّة الفلسفيّة والكلاميّة والعِلميّة، فلا تجد تقسيم الموجود إلى الوجود والماهيّة، ولا إلى الممكن والواجب والممتنع، ولا اسماً مِن الدَوْر والتسلسل، ولا الأبحاث التجريبيّة المختبريّة؛ لا تجد شيئاً مِن ذلك في القرآن الكريم، بل على العكس، ترى قوله تعالى: ﴿أَفِي ٱللَّهِ شَكّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ﴾[2] وأمثالها؛ إذ يحاول إيقاظ الضمير الإنسانيّ وتنبيه الفطرة البشريّة إلى ما فُطِرَت عليه مِن الإحساس بِوجود الله. ثمّ يُلفت نظر الإنسان بِصورة السؤال والجواب أو الدعوة إلى التفكّر أو العقاب، وتوجيه الفكر إلى

 

 


[1]  الصدر، الإمام المغيّب السيّد موسى، الإسلام القرآنيّ- الذي يضمّ الأديان جميعاً - (موسوعة تضمّ نصوصاً كاملة ومقتطفات المحاضرات، الخطابات، البيانات، المقالات، الحوارات الصحافيّة، أوراق العمل...)، إعداد عليّ عبد الهادي جابر، دار المعارف الحكميّة، بيروت، 2019م، ط1، ج4، ص21 - 22.

[2] سورة إبراهيم، الآية 10.

 

19


4

الله في المفهوم الإسلاميّ

الآفاق والأنفس، وأمثال ذلك ممّا يَصنع الفِكر ويحيط بالإحساس ويملأ القلبَ ويُكسِب الحبّ والعاطفة؛ أي أسلوب «متى غِبتَ حتّى تحتاج إلى دليل»[1]و«يا مَن دلّ على ذاته بِذاته»[2]. ويُعَبّر عن هذه الحقيقة مع بعض نتائجها العلّامة السبزواريّ في منظومته:

يا مَن هو اختفى لِفَرط نوره

الظاهر الباطن في ظهوره[3]

وقد حاول جَمعٌ مِن علماء العصر اتّباع هذا الأسلوب، فَجمعوا الكثير مِن الآيات الكونيّة التي تكتشف نظام العالم ودقّة صنعه وقوّة تنظيمه ووحدة كلّهِ في كُتب هي في متناول الأيدي. كما أنّ الباحثين المتأخّرين استندوا في إثبات الخالق إلى أسلوب حِساب الاحتمالات، والحقيقة أنّه أسلوب لطيف مُقنع، وإنْ كان لا يُعدّ دليلاً منطقيّاً، بِحسب المصطلح.

إذاً، في آيات وجود الله وصفاته وتوحيده، يكفينا نظام الكون ووحدة أجزائه ودقّة صنعه واشتماله على أنظمة تُدرّس في العلوم وتُكشف بواسطة العلماء وأمثال ذلك، حتّى نتأكّد مِن وحدة الله وعِلمه وعَدله وإرادته. أمّا الصفات الأخرى لِذات الخالق، فيمكننا الإيمان بها بأدلّة تقليديّة، مثل حدوث العاجز والمحتاج،فالله غنيّ قويّ، والقويّ لا يحتاج إلى الظلم، ومِثل آيات الكمال، عن طريق قاعدة التضايف، وغير ذلك. ويمكننا الوصول إليها عن طريق الآيات القرآنيّة، إذ إنّها ليست ممّا يَتوقّف عليها صِدق النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصحّة قُرآنه؛ لذا لا يستلزم اتّخاذها مِن القرآن مشكلة استدلاليّة»[4].

 


[1]  ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، إقبال الأعمال، دار الكتب الإسلاميّة، إيران- طهران، 1409هـ.، ط2، ج‏1، ص349.

[2]  المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، مؤسسة الوفاء، لبنان- بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج84، ص339.

[3]  السبزواري، الملا هادي، شرح المنظومة، تعليق آية الله حسن حسن زاده الآملي، تحقيق مسعود طالبي، نشر ناب، إيران- قم، 1413هـ.ش - 1992م، ط1، ج2، ص37.

[4]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص23 - 24.

 

20


5

الله في المفهوم الإسلاميّ

بناءً على المنهج أو الأسلوب الذي تقدّم توضيحه، يمكن أن نذكر تصوّرات الإسلام عن الله عزّ وجلّ ضمن النقاط الآتية:

أوّلاً: الخالق

«هو الخالق لكلّ شيء، لِما يُرى وما لا يُرى، للمادّة وغيرها، لِما في الأرض وما في السماء، للماضي إلى الأزل، للباقي إلى الأبد، للوجود والذوات، لأساس الأشياء وصُوَرها وموادّها وحدودها وخواصّها وأنظمتها وعِلَلها ومعلولاتها؛ هو الخالق في أشمل مدلولاته وأعمقها، كما يصِف الله نفسه في آيات كثيرة، مِنها: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ﴾[1]، ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ١ خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٣ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ﴾[2]»[3].

ثانياً: الواحد الأحد

«هو واحدٌ أحدٌ فَردٌ صمد، لم يَلِد ولم يُولد، ولم يَكُن له كفواً أَحَد. ويؤكّد القرآن الكريم والتعاليم الإسلاميّة توحيد الله ذاتاً وصفة وفعلاً»[4].

ثالثاً: لا مثيل له

«لا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء، فَلا شبيه له ولا نظير، ولا تَصوُّر ولا تركيب، ولا يتمكّن الفِكر البشريّ مِن تصوّره بِصورة محدّدة أو افتراضه بحدود مُعيّنة؛ لا شبيه لِذاته ولا لِصفاته ولا حتّى لوحدته»[5].

 


[1]  سورة الحشر، الآية 24.

[2]  سورة الأعلى، الآيات 1 - 4.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص22.

[4]  المصدر نفسه.

[5]  المصدر نفسه.

 

21


6

المقدّمة

رابعاً: الكامل

«له الأسماء الحسنى، فَهُو الأوّل والآخر والظاهر والباطن والعالِم والقائم بالقِسط والقادر والسميع والبصير والستّار والحكيم والرزّاق والرحمن والغفور والبديع والغنيّ والقريب، رَبّ العالمين؛ هذه الأوصاف مذكورة مَع غيرها في القرآن الكريم. ومِن جانب آخر، نجد تأكيد نَفْي الصفات التي يَشوبها النقص، وتنزيه الله عنها بِصورة مُفصّلة وقاطعة. كما نجد تأكيداً كثيراً على اتّساع هذه الصفات وعمقها وشمولها، مِثل قوله تعالى: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡء﴾[1]، ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡن وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَان وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّة فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰب مُّبِينٍ﴾[2]. وكذلك إيضاح الشمول في القدرة والعدل والرزق، خاصّةً في القُرب من الإنسان، إذ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾[3]، ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ﴾[4]. وكذا في العَظَمة، ففي الصلاة وغيرها تَنزَّهَ الله عن القياس بِقولِ «الله أكبر» -أي أكبر مِن أن يوصف- فقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾[5]»[6].

 


[1] سورة الأعراف، الآية 156.

[2]  سورة يونس، الآية 61.

[3]  سورة البقرة، الآية 186.

[4] سورة ق، الآية 16.

[5] سورة الزمر، الآية 67.

[6]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص22 - 23.

 

22


7

الله في المفهوم الإسلاميّ

خامساً: خالق نظام السببيّة

«خالق الكون هو خالق الأسباب والعِلَل بِذاته، وخالق الأنظمة الكونيّة والظواهر الطبيعيّة. لذا،النظام الكونيّ والحركات الطبيعيّة للخلق آيات لله ودلائل عليه أيضاً، لا الشواذّ الكونيّ والعجائب والمعجزات والصدف والظواهر التي لا نعرف أسبابها والتي تثبت قدرته -كما هو متعارف عند الكثيرين- فقط. فالقرآن الكريم يؤكّد في أغلب الآيات والتعاليم أنّ في خَلْق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحار، وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء، ومنامكم بالليل، ونزول الماء من السماء، والنبات ونموّه وخضرته ثمّ يَبَاسِه وتفرّقه، وغير ذلك، لآياتٍ لِقَوم يتفكّرون. أمّا الشواذّ والظواهر الغريبة والعجائب غير المعروف سببها، فلا بدّ لها مِن موجد ونظام، فالله سبحانه جَعل لكلّ شيء قدراً: ﴿قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡء قَدۡرا﴾[1]»[2].

الإيمان بالله والعصر الحديث

«يتّسم العصر الحديث بِتَطوُّر العِلم والصناعة والمكتشفات بِسرعةٍ مُتناهية. فقديماً، كنّا نعيش عشرات السنين على نظريّة أو قاعدة فكريّة أو نظام معيّن أو نوع خاصّ مِن الحياة، أمّا اليوم، فإنّنا نرى في كلّ يوم رأياً واكتشافاً وشكلاً مِن التفكير والفنّ والموضة والدخان والسيّارات... فالعصر الحديث غارق في الحضارة المادّيّة التي حاولَت أن تجعل مِن الحضارة والعلم والصناعة والفنّ والفلسفة بديلاً عن الله. وَلَم تَدَّعِ هذه الحضارة -غالباً- أنّ الله غير موجود، لكنّها تنكّرَت لتأثير الله وما وراء الطبيعة في الحياة المادّيّة، فأخرجَت الإيمان بالله مِن العلاقات بين أبناء المجتمع، وسجنَتْ إلهها في الكنيسة والمسجد،

 

 


[1] سورة الطلاق، الآية 3.

[2]  راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص25 - 26.

 

 

23

 


8

الله في المفهوم الإسلاميّ

وكأنّه لا يُؤثّر في مجتمعها أو اقتصادها... وحاولَت التعويض عن هذه الخسارة بالعِلم والصناعة، مِن باب أنّ الصناعة اليوم تقوم بأعمال مُعجِزة؛ فنحن، في حياتنا العاديّة، لا نشعر بوجود الله، لكنّنا نشعر بوجوده في مرضنا وفقرنا ومساجدنا وكنائسنا. إنّ الحضارة الحديثة تحاول عَزْل الله عن التأثير في الحياة، ما يُؤدّي إلى شعور الإنسان بالقَلَق»[1]. وهذا يَدفعنا إلى بيان آثار الإيمان بالله على حياة الإنسان، وكيفيّة معالجة هذا الإيمان لأمراض القلق والشكوكيّة والعبثيّة التي أنتجَتْها الحضارة المادّيّة في عصرنا الحديث.

أثر الإيمان بالله على الإنسان

يمكن أن نوضّح تأثير الإيمان بالله -بحسب المفهوم الذي سبق- على تكوين شخصيّة الإنسان وأبعادها وأهدافها وسلوكها ضِمن نماذج عديدة، مِنها:

1. أثر الإيمان بوجود الله

يؤكّد الإمام الصدر أنّ وضوح الاعتقاد بوجود خالق للكون يُعطي للعالَم صِفة الحركة والحياة، ويؤكّد أنّه ذو خطّ وهدف. وهذا الإحساس -بِدوره- ينعكس على الإنسان، الذي هو جزء مِن الكونِ ومرتبط به في الأساس، في حال الاستمرار وإلى النهاية. فَحينما يعتقد الإنسان بِقِدَم العالَم وعدم خَلقه، فسوف يجده جامداً ميّتاً لا اتّجاه في سَيره وحركاته، تلعب الصدفة دوراً أساسيّاً فيه. وكذلك، يَشعر الإنسان الملحد أنّه غريب عن الكون بِوجوده كلّهما عدا الجانب الجسديّ، فَهو موجود مُدرِك وحيد في العالم، ضائع منفصل؛ هذا الشعور المرير الذي لا يحسّ به المؤمن بِوجود خالق حَيّ مُدرك يرعاه ويمدّه بعنايته، والغربة هذه، تُشكّل خطراً كبيراً على حياة الإنسان وعطائه وأهدافه[2].

 

 


[1] راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص32.

[2]  راجع: المصدر نفسه، ج4، ص27.

 

24


9

الله في المفهوم الإسلاميّ

2. أثر الإيمان بتنزيه الله

يَعدّ الإمام الصدر أنّ لِتنزيه الله عن التشبيه وعن الإدراك الحسّيّ دورٌ كبير في طموح الإنسان الذي يبلغ اللانهاية، والطموح بُعد الإنسان الوجوديّ. والغيبيّة التي تنبع مِن هذه الصفة الإلهيّة تُثبت اعتماد الإنسان على المطلق الدائم الذي يَرعاه بِعَينه التي لا تنام، والذي يكون معه أينما كان،ما يُحوّله إلى موجود قويّ لا يفهم معنى الضعف أو اليأس؛ ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]. والتنزيه هذا، المُعبَّر عنه في عِلم الكلام بِصفات الجلال، يجعل مِن الهدف الأساس في حياة الخَلْق التقرّب إلى الخالقِ وكَسْب رِضاه، فيجعل الهدف سامياً، ويجتذب الإنسان دائماً، إذ يُحوّله إلى حركة دائمة لا تتوقّف أبداً في مَساعيه الفرديّة أو الجماعيّة[2].

3. أثر الإيمان بتوحيد الله

يرى الإمام الصدر أنّ وحدة الخالق التي تؤدّي إلى وحدة الخَلْقِ تُؤثّر في رَبْط العالَم كلّه بَعضه بِبعضه الآخر، واتّصال الماضي بالحاضر والمستقبل، وتفاعل الموجودات جميعها على مختلف أنواعها ودرجاتها؛ ما يعني تَساوي ذَوات الموجودات، وعَدم القداسة أو النحوسة في شيء، وتَساوي البشر، وتَفَهّم الإنسان لِأخيه الإنسان، تمهيداً للتعاون الذي لا يتمّ إلّا بالتعارف والتفاهم المتقابل. وتظهر هذه المعاني بِوضوح حينما نراجع معنى التوحيد القرآنيّ الذي يَنفي الانتساب والاختصاص بين أيّ شخصٍ وأيّ شيء وأيّ حالٍ وبَين الله، أكان الانتساب سلبيّاً أو إيجابيّاً. وهذا المعنى يفتح أمام الإنسان آفاقاً واسعة في السعي والعمل والعِلم، ويُسهّل له مهمّة إصلاح الأنظمة العامّة والخاصّة وتغييرها أو تعديلها، ومهمّة الخَوض في معرفة الأشياء كلّها، في كلّ زمان ومكان،

 

 


[1] سورة الرعد، الآية 28.

[2] راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص28 - 29.

 

25

 


10

الله في المفهوم الإسلاميّ

ويحافظ على كرامة الإنسان الذي لا يعترف بنقص ذاتيّ فيه أو كمال ذاتيّ في سِواه، ويَحول دون غروره وإحساسه بأنّه -أو غيره- نَسيجٌ وَحدَه، أو مُسدَّد، أو مُلهَم، أو مَصون مِن الخطأ، أو غير محتاج إلى الآخرين في الرأي وفي العمل وفي التجربة وفي العلوم. ومِن جانب آخر، تؤكّد وحدة الخَلْق سَعَة حقل الحياة الإنسانيّة زماناً ومكاناً، واتّساع أهدافها، وتؤكّد أيضاً-بصورة خاصّة- طول عمره وعدم انتهائه بِالموت، إذ إنّ خالق الموت والحياة واحد، فالعالَم لله، وإليه راجع. وإذا أرَدنا أن نبحثَ في تأثيرات الشِرك أو الإيمان بإله الفرد أو القبيلة أو الجنس، أو الأنواع والمآسي التي حصلَت في طريق الإنسان، فَسوف يَطول بنا المقام[1].

4. أثر الإيمان بكمال الله

«صفات الكمال، المُعَبّر عنها في القرآن الكريم بالأسماء الحسنى والأمثال العُليا، تنعكس على الخَلْق الذي لا بُدّ مِن أن يكون على صورة الخالق ومثاله، فتملأ العالم -ومنه الإنسان- جمالاً ورحمةً وعدلاً وحياةً وخيراً، وتبعث على الأمل والإيمان بِنجاح الحقّ والخير، وتجعل الإنسان يُحسن ظنّه بِأخيه الإنسان وبنفسه، وتوحي إليه بحبّه للعالم وبحبّه للإنسان، وتُحدّد له خطّ مسيره في العالم إذا أراد النجاح والخلود، وتوضّح له فَشَله حينما يَسلك سبيل الشرّ»[2].

5. أثر الإيمان بقُرب الله

يقول الإمام الصدر أنّه لا يمكننا أن نَصِف شعورنا وأملنا بالمستقبل حينما نتصوّر موقنين قُربَ الله الكبير إلينا، والذي هو أقرب مِن حبل الوريد، مع أنّ سماءه وأرضه لا يَسَعانه، فهو في قَلب المؤمن، يَسَعه ويُباشِره.

 


[1] راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص27 - 28.

[2]  المصدر نفسه، ج4، ص29.

 

26


11

الله في المفهوم الإسلاميّ

إنّ هذه الثقة المطلقة لا تدعو إلى الغرور، فهي ليست للإنسان ولا مِن عنده، إذ إنّ الغرور يحصل عندما يَثِق الإنسان بنفسه، ما يُدخله في مزالق خَطرة، فَلا يفرّق بين الحقّ والباطل في سلوكه، في حين أنّه يَفقد الثقة الحاصلة مِن الإيمان بالله حينما يَسلك سبيل الباطل[1].

6. أثر الإيمان بخالق نظام السببيّة

بحسب كلام الإمام الصدر، إنّ هذا النوع مِن التوجيه التوحيديّ الموجود في الإسلام حول كَون الله عزّ وجلّ خالق نظام العِلل والأسباب، يُربّي الإنسان المؤمن، ويجعله منطقيّاً يُفكّر بِصورة عِلميّة، ويسلك المسالك الطبيعيّة من دون المغامرات أو انتظار المفاجآت أو الإحساس بسوء الطالع وندرة الرزق أو الشعور بِكونه موجوداً خاصّاً مُتمتّعاً بِعناية خاصّة مِن الله. وهو، بموجب هذا الإيمان، يَسعى إلى الوصول إلى الأهداف، وهو يَعلم أنّ إرادةَ الله السعيُ والعمل، لا الوصول إلى الأمانيّ من دون جهد وتعب وتسبيب للأسباب. ويَشعر أنّ طلب تحقيق الأمانيّ من دون سَعي أمر شاذّ، حتّى لو صَبّه في قالب الدعاء والتضرّع، فهو يطلب نقضاً للقوانين الكونيّة، وقد آلى الله أن يُجري الأمور إلّا بِأسبابها، وربّما يقتضي تحقيق بعض الرغبات تغيير النظام كلّه. أمّا الدعاء عند المؤمن، فهو إمّا استغفار أو تمجيد لله، إكمالاً لمعرفته أو تصعيداً لنفس الإنسان وترفيعاً لأهدافه؛ وهذا موجود في أغلب الأدعية المأثورة. والدعاء بعد ذلك تجسيد للهدف وتحديد لأبعاده، وتسهيل للسعي الكامل الحسّيّ والروحيّ إلى تحقيقه، وصلاة وكمال في حدّ ذاته، إذ إنّه توجُّه إلى الله وتقرُّب إليه، وتكريس لإيمان الإنسان بأنّ الله هو مُسبّب الأسباب وخالق الأنظمة.

 


[1]  راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص29.

 

27


12

الله في المفهوم الإسلاميّ

والمستفاد مِن القرآن الكريم أنّ الدعاء في مَورد واحد يخرق الأنظمة، وهو دعاء المضطرّ: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾[1]، وهو الذي انقطعت الأسباب والوسائل العاديّة مِن أمامه.ولا شكّ في أنّ الدعاء يُبقي أمله ويصون حركته وسَعيه، وهو فوق ذلك مُسبّب لِقضاء حاجاته. وهذا الاستثناء باب معروف في المعلوم، يعترف به علماء العصر، وتُفَسّر به المعجزات، ولكنّ الأدلّة والأبحاث العِلميّة والفلسفيّة لا تنفي أبداً كون الدعاء والتوجُّه البشريّ سبباً مِن أسباب إنجاز الغايات وتحقيق المسبّبات بِصورة مادّيّة أو غيبيّة. وعند هذا الحدّ مِن المعرفة، نتمكّن من الاعتراف بتلبية دعاء المضطرّ من دون أن تخرق قانوناً علميّاً أو نظاماً كونيّاً[2].

 


[1]  سورة النمل، الآية 62.

[2] راجع: الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص25 - 26.

 

28


13

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)
تمهيد

يُضيء لنا الإمام الصدر في كلماته على حقيقة طالما غابَت عن الأذهان، هي أنّ دين الله في الرؤية الإسلاميّة القرآنيّة هو الإسلام ليس إلّا، وَيدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾[1] و﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾[2]. ويُوضِّح الإمام الصدر هذه الحقيقة بِأسلوبه المبدِع، وبيانه العَذْب، ويُقرّبها إلى الأفهام بأمثلته البسيطة، كما يُبيّن جوهر الإسلام ويُعرّفه، كما سنلاحظ في الفِقرات الآتية.

الإسلام دين الله الواحد

يقول الإمام الصدر: «الإسلام هو دِين الله الواحد وَالأنبياء جميعهم؛ مِن آدم(عليه السلام) إلى محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله). فكُلّهم رُسُل ربٍّ واحد، إذ ليس ثمّة أديان مختلفة. ربّما تجدونه شيئاً جديداً، لكنّه الواقع؛ الدين واحد، وَالأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى (عليهم السلام) ومحمّد (صلى الله عليه وآله)، كلّهم رُسُلِ ربٍّ واحد، حَملوا الأمانة مِن إله واحد، وبلّغوا الناس ديناً واحداً، لكنّ الفارق بينهم هو المنهاج والشرائع»[3].

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 19.

[2] سورة آل عمران، الآية 85.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص86.

 

30


14

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

تؤكّد آيات قرآنيّة عديدة كلام الإمام الصدر هذا، فتدلّ على أنّ الإسلام دين الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً، مِثل قوله تعالى في وصيّة إبراهيم ويعقوب (عليهما السلام) لأبنائهما: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰها وَٰحِدا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾[1]. وفي جواب الحواريّين لعيسى(عليه السلام) عند اختباره لهم: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾[2]. وكمثل قوله تعالى ردّاً على مُدّعي التهوُّد والتنصُّر، ودعوةً لهم للإذعان إلى الدِين الحقّ الذي هو دين الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ حَنِيفاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٣٥ قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَد مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾[3].

وقد وَرَد هذا التقرير لحقيقة الإسلام نفسه على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأسلوب الأمر بأن يقوله ويعتقد به، إذ قال تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله): ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَد مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾[4].

 

 


[1] سورة البقرة، الآيتان 132 - 133.

[2]  سورة آل عمران، الآية 52.

[3] سورة البقرة، الآيات 135 - 137.

[4] سورة آل عمران، الآية 84.

 

31


15

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

الفرق بين رسائل الأنبياء (عليهم السلام) هو في المستوى والمنهاج

قد يأتي -هُنا- إشكال مَفاده: لو كان دين الله واحداً، وهو الإسلام، فلماذا لم يَكن الكتاب السماويّ الجامع لتعاليم الدين الواحد واحداً لأوّل الأنبياء (عليهم السلام) والرُسل وآخرهم؟ ولماذا اختلفَت التشريعات والقوانين التفصيليّة للأديان السماويّة؟

يرجع هذا الإشكال إلى عدم استيعاب إمكانيّة أن يكون الدين واحداً، في الوقت نفسه الذي يمكن أن تكون شرائعه مختلفة ومتفاوتة تبعاً لِتفاوت مستويات النضج البشريّ وأحوال الإنسان المستهدف بالهداية والإرشاد، وَهذا ما أشار إليه القرآن بِقوله: ﴿لِكُلّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَة وَمِنۡهَاجا﴾[1].

ويحاول الإمام الصدر توضيح هذه الفكرة بِمثال بسيط، فيقول: «أنتم اليوم تدرسون الكيمياء في المدرسة؛ في الصفّ الأوّل يُعطونكم شيئاً مِن الدرس، في الصف الثاني أكثر، في الصفّ الثالث أكثر، في المتوسّط أكثر، في الثانويّة أكثر، وفي الجامعة أكثر. كلّه كيمياء، وكلّه عِلْم واحد، لكنّ الفارق في الكمّيّة والمنهاج. من الطبيعيّ ألّا يطيق طالب الصفّ الأوّل أن يعرف مِن الكيمياء ما يعرفه طالب الجامعة، فَيجب أن يكون بمقدار فَهمه، بمقدار وَعيه، بمقدار استعداده. الأنبياء (عليهم السلام) كانوا كذلك، فَدين الله واحد، وَهُم جميعاً بَلّغوا وبَشّروا به، مِن آدم(عليه السلام) إلى محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، كلٌّ بمستوى عصره، وكلٌّ بِحَسَب مِنهاجٍ خاصّ»[2].

الإسلام أكمل مرحلة من مراحل التديّن

يَصِل الإمام الصدر -انطلاقاً مِن التنظير المتقدّم- إلى بيان مكانة شريعة الإسلام بين الشرائع السماويّة جميعها، وأنّها حقّقَت

 

 


[1] سورة المائدة، الآية 48.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص86.

 

32


16

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

أكمل مرحلة مِن مراحل الدين الإلهيّ الواحد. فالشريعة الإسلامية -بِمضامينها كلّها- حقّقت الإسلام، الذي هو دين الله الواحد، بأعلى نصابه، وبأكمل درجاته ومستوياته. فيقول: «حينما بَلَغَ الدينُ إلى محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، الذي هو رسولنا، بَلَّغ الدين كلّه، فَلم يبقى شيءٌ خافياً. لقد قال كلّ شيء، مِثل الطالب الذي يَدرس ما بعد الجامعة، يُعلّمونه كلّ شيء، ويتّضح له كلّ شيء... وَنحن، وصلْنا إلى أكمل منهاج، نعيش القرون المتأخّرة التي وصل البشر فيها إلى أرقى درجات الفِكر، وَبطبيعة الحال، نعتزّ بِديننا، ونعدّه أكمل مرحلة مِن مراحل التديّن.

إذاً، الإسلام هو التسليم والطاعة لله، وهو دين الله الواحد الذي بَشّر به الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم؛ لا فَرق في حقيقة الدين بين الأنبياء (عليهم السلام) المختلفين، إذ بدأ كلّ نبيٍّ بمقدار مِن المعلومات، وبَشّر بمنهاج معيّن،إلى أن وَصل الأمر إلى محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) الذي بشّر بِالدين كلّه، وَخَتَم الرسالة. وَالإسلام، الدين الواحد، هو رابطة الإنسان مع الله، وَوسيلة سعادة الإنسان الواحدة في الوجود»[1].

الدينُ تعليماتُ الخالقِ لِتنظيمِ حياةِ الإنسان

يتحرّك الإنسان في هذه الدنيا ويُفكّر ويَنشط ويَعمل ويتكلّم ويَصرخ ويُطالب ويُقيم العلاقات... لإشباع حاجاته وتحقيق مصالحه. فما هي المصلحة التي يتوخّاها الإنسان من الاعتقاد الدينيّ؟ وما هي حاجته إلى الدِين؟

تُعَدّ مسألة «وجه الحاجة إلى الدِين في حياة الإنسان» مِن أهمّ مسائل عِلم الكلام الجديد، وفيها نقاشات وآراء كثيرة. إلّا أنّ الإمام الصدر استطاع بِخطابه الشعبيّ الجذّاب، وبيانه السهل الممتنع، أن يوضّح هذه المسألة ويُقرٍّب فَهمها إلى أذهان العامّة، فيقول في أحد

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص86 - 87.

 

 

33

 


17

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

خِطاباته: «أذكر لكم، مثلاً، الإنسان حينما يشتري برّاداً، أو يشتري ماكينة خياطة، أو يشتري سيّارة، فتُعطيه الشركة تعليمات. بالنسبة إلى السيّارة، فهي تحتاج تمرينَ «روداج»، لا تصعد جبلاً، تمشي بِسرعة معيّنة،يُبدَّلُ زيتها كلّ خمسين كيلومتراً، حينما يريد أحدٌ إيقافها يجب عليه أن يَضع رِجله على المكابح، وإذا أراد أن يمشي بِسرعة يجب أن يضغط البنزين، وأمثال ذلك. أمّا بالنسبة إلى البرّاد، فَيُعطى معلومات عن كيفيّة تشغيله، فإذا أرادَ أن يكون بارداً كثيراً يضَعه على الدرجة الفلانيّة، حين تكون الكهرباء ضعيفة لا يُشغَّل، يجب أن يُؤمَّن له «ترانس»، وأمثال ذلك. إذا اشترى الإنسان سيّارة، وقال: لا تهمّني هذه التعليمات، أنا حُرّ، أريد أن آخذ سيّارتي وأصعد بها في أوّل ساعة إلى الجبل. ماذا يحدث؟ تتعطّل السيّارة طبعاً. مَن الذي يخسر؟ أنا أخسر، وسيّارتي تخسر. إذا أردتُ أن أوقف السيّارة، ووَضَعتُ رِجلي على المكابح في الوقت نفسه الذي أضعها فيه على البنزين، بِطبيعة الحال،لن تقفَ السيّارة، بل ستصطدم، وَسيحدث «a(عليه السلام)(عليه السلام)(عليها السلام)(عليهما السلام)ent»، وأمثال ذلك. مَن الذي يخسر؟ أنا.

حسناً. لِماذا تعطيني الشركة هذه التعليمات؟ بِأيّ حقّ؟ لأنّ الشركة تعرف ماذا يوجد في هذه السيّارة؛ الشركة تعرف ماذا صنعَت، وماذا يوجد في باطن هذه الآلة، تَعرِف وتُعرّفني أنّ التركيب يحتاج دراسة واسعة، إذ يفترض على مَن يعرف هذا الشيء أن يعرف الكهرباء والفنّ والعلوم الخاصّة كلّها حتّى يَعرف هذا الشيء. ليس ثمّة مجالاً يُعلّمني الآن هذه المسائل كلّها، بل يُعطيني معلومات عامّة، ففي الوقت الذي تريد أن تشغّل فيه هذه المسجّلة، تضغط هذا الزرّ.

هذا المثل الصغير يُعطينا معلومات عن الدِين؛ فَما هي حقيقة الدِين؟ حقيقة الدين هي تعليمات يُعطيها الله سبحانه وتعالى حتّى نعيش في هذه الآلة الكبيرة، واسمها الكون. فالله سبحانه وتعالى خَلق هذه الأرض، خلق السماء، خلق الشجر والنبات، خلق

 

 

34

 


18

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

الموجودات، خلق كلّ شيء، وهو يعرف كلّ شيء، وحقائق كلّ شيء. وخَلق الإنسان أيضاً، فَيعرف حقيقة الإنسان، ما في قلبه، حاجاته، وسيلة سعادته، كيفيّة نموّه، كيفيّة خفقانه، كيفيّة تعذيبه، وهكذا.

لقد وَضَع الله لعلاقاتنا مع الكون تنظيمات وخطوطاً، فَقال: إذا أردتَ أن تعيش حياةً سعيدة فَامشِ وِفاق هذا الخطّ، مِثل التعليمات التي تعطيها الشركة، فَإذا طبّقت هذه التعليمات استفَدتَ مِن حياتك، نَمَوتَ وسعدتَ، وعشتَ في راحة، وإذا خالفتَها تَكُن كَمَن يُخالف تعليمات الشركة في الاستفادة مِن السيّارة.

إذاً، الدين تنظيمٌ للعلاقات بين الإنسان والعالَم، وَبين الإنسان والكون الذي يعيش فيه. وعلى هذا الأساس، طالما أنّ الإنسان واحد والكون واحد، فَيجب أن يكون دين الله أيضاً واحداً، يكتمل ويتطوّر ويتحسّن بِحسب ارتفاع وَعي الإنسان وشعوره، لأنّه، كما يتصوّر في الحقل العِلميّ، فَيفهم كلّ يوم شيئاً جديدًا مِن هذا العالم، كذلك يَتصوّر في الحقل الدينيّ، فَيَفهم كلّ يوم شيئاً جديداً مِن الدين»[1].

«الدين تنظيمٌ للعلاقات بين الإنسان والحياة؛ ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِن فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ﴾[2]. فإذا كنت تريد أن تعيش حياة مرتاحة سعيدة، فَيجب أن تكون متديّناً»[3].

الإسلام دين العقل

إنّ المشهور بين علمائنا هو ألّا تقليد في العقائد، وإنّما التقليد في الفِقه والأحكام الشرعيّة، إذ يجب على الإنسان أن يُحصّل العقيدة ويؤمن بها إيماناً ناتجاً عن الاقتناع التامّ بِأصولها. فَقَبل التقليد في الفقه والأحكام والفروع للفقهاء والمراجع، يجب تحصيل الإيمان بالأصول

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص88 - 89.

[2]  سورة النحل، الآية 97.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص90.

 

35


19

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

العَقديّة، عن طريق الإبحار في سفينة العقل، وَهو ذلك النبيّ الباطن الذي أودعه الله في نَفْس الإنسان، والذي يُرشده إلى قواعد يقينيّة وقطعيّة يبني على أساسها أفكاره ومعتقداته، وينطلق منها لِيَصل إلى أصول العقائد، كالتوحيد والنبوّة والمعاد.

ويوضّح الإمام الصدر هذه النقطة بِقوله: «للأنبياء كلّهم دين واحد، ولكنّ شرائعهم ومناهجهم تختلف. إذاً، علينا أن نعرف التفاصيل، وَأن نؤمن بالله بِعقولنا، لا بتقاليدنا وتراثنا. نحن وُلِدنا في بيوت المؤمنين –ولله الحمد- فَأخذنا الإيمان كما نأخذ الملابس مِن أبينا وأمّنا. ولكنّ هذا لا يكفي في الدِين، لماذا؟ لأنّ هذا الأخذ الوراثيّ لا يملأ عَقلنا؛ يجب أن يقتنع عقلنا بوجود الله،وَكيف يمكن لِعقلنا أن يقتنع بوجود الله؟ هذا يحتاج دراسة ومطالعة.

في أوّل الخطّ نتحدّث عن قضيّة الإيمان؛ كيف نؤمن بالله؟ هل الله موجود؟ قال لي أبي إنّ الله موجود، وقالت لي أمّي إنّ الله موجود. هل هذا هو الصحيح؟ هل هو خاطئ كما كان خاطئاً في كثير مِن الأشياء؟ آباؤنا وأمّهاتنا لهم أخطاء، ربّما يكونون مخطئين في هذه العمليّة، نحن نفتّش وحدنا لنرى هل إنّ الله موجود أو لا.

قلنا إنّ الإسلام هو الإيمان والطاعة بالعقل، فماذا تعني الطاعة بالعقل؟ نحن نصدّق ونقتنع بِعقولنا أنّ الله موجود. إنّ أوّل ما نُريد أن نصدّقه في هذا الموضوعِ المعاد، الآخرة؛ يعني: هل إنّ الآخرة موجودة أم لا؟ هل إنّ حديث الأنبياء (عليهم السلام) صحيح أم لا؟ هذه المسائل ندرسها بِحَسَب العقل والتفكير والحجج، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى الإيمان القلبيّ، ثمّ إلى الأحكام والإسلام العمليّ، الذي هو إطاعة وتنفيذ أوامر وأداء واجبات واجتناب محرّمات، وأمثال ذلك»[1].

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص89.

 

 

36


20

الله في المفهوم الإسلاميّ

الإسلام الحقيقيّ والإسلام الجغرافيّ

يُؤكّد الإمام الصدر دعوته السابقة إلى عدم التقليد في العقيدةِ واتّخاذ الدين مجرّد إرث قدّمه الأجداد للآباء والآباء للأبناء، في بيانٍ آخر أطلقَ فيه مصطلح «الإسلام الجغرافي»، مقابلاً بينه وبين الإسلام الحقّ. ويتضّح مقصوده في بيانه: «فَهِمنا أنّ الإسلام لا يعني أن يصلّي أحدهم ويصوم، أو أن يُكتب في هُويّته أنّه مُسلِم؛ الإسلام لا يعني هذه المسائل التقليديّة. هذا الإسلام هو الإسلام الجغرافيّ، أتعرف ما هو الإسلام الجغرافيّ؟ يعني أنّ ثمّة مناطق في الدنيا حارّة وأخرى باردة، ثمّة مناطق مُسلمة وأخرى غير مُسلمة؛ ليس لهذا فضل، ولا يوجد فيه شيء. وَكَما لو قلنا إنّ ثمّة بَشر أبيض وآخر أسود، وَإنسان مُسلم وآخر غير مُسلم؛ الإسلام ليس كذلك. الإسلام مَسلك، الإسلام خَطّ، الإسلام مَبدأ ورسالة، الإسلام طاعة وتسليم لله بالعقول والقلوب والأجساد، وهو دِين الله الواحد الذي بَشّر به الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم، إذ إنّ كلّ نبيٍّ مُصدّق لِما بين يديه مِن الأنبياء (عليهم السلام)، ومبشّر بالرسول الذي يأتي مِن بعده. وَنحن نُصدّق بهم جميعاً، فــ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَد مِّن رُّسُلِهِۦ﴾[1]»[2].

معنى الإسلام وحقيقته

«كيف يمكننا أن نعرف الإسلام بشكلٍ أفضل؟ ثمّة دِينٌ بِاسم الإسلام ومَذهب بِاسم التشيّع هو الطريق إلى الدِين. نحنُ نعيش هذا الدين ولا نعرفه؛ نحن -غالباً- لا نعرف حقيقة الإسلام، نعرف أكثر عن المبادئ الأخرى غير الإسلام، والكثير منّا يعرف الكثير عن المسيحيّة، بِاعتبار أنّ بعضنا درس في المدارس المسيحيّة، وربّما يعرف عن المسيحيّة أكثر ممّا يعرف عن الإسلام.

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 285.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص89 - 90.

 

37


21

الإسلام دين الله وأنبيائه (عليهم السلام)

الإسلام هو التسليم لله؛ يعني أن نَستسلم ونُطيع ونخضع لله ربّ العالمين. الإسلام بِالقلب؛ يعني أنّ عاطفتنا تُصدّق وتشعر أنّ الله موجود، تحبُّه وتُطيعه. الإسلام بالجسد؛ يعني أنّ جِسمنا يُسلّم لله ربّ العالمين، يُطيعه ويخضع للقوانين الإلهيّة. نعدّ الله خالق الكون، ونؤمن بهذا الخالق، ونخضع له بِعقلنا وقلبنا وجسمنا. إذاً، الإسلام يعني التسليم، ولكن التسليم لِمَن؟ لله، وَكيف نُسلّم لله؟ بِعقولنا؛ يعني أن نُفتّش ونَدرس ونقتنع بِأنّ الله موجود. وَبِقلوبنا وعاطفتنا؛ يعني أن نَشعر بأنّ الله هو خيرٌ وَحَقّ، وأنّ مِن مصلحتنا أن نُطيعَه سبحانه وتعالى؛ أي أنْ نُنفّذ أوامره. الإسلام هو التسليم لله بالعقل والقلب والجسد. فَمثلاً، شخص يريد أن يعيش في وطن مثل لبنان... ثمّة حُكمٌ في لبنان، وَهذا الحكم مفيدٌ وخادمٌ للناس:

بِحَسَب جسدنا وجسمنا، نُنفّذ القوانين، نَدفع الضرائب، نَتجنّب المخالفات، وَنقوم بالواجبات.

بِحَسَب عقلنا وقلبنا، وَلاؤنا للوطن، نُحبّه وندافع عنه بِوجودنا وقلوبنا وعقولنا.

إذاً، نستطيع أن نركّز على هذا التحديد وَنُعرّفه: الإسلام هو التسليم لله بالعقل وبالقلب وبالجسد»[1].

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص85 - 86.

 

38


22

المعادُ أُفقُنا الواسع

المعادُ أُفقُنا الواسع


تمهيد

إنّ الإيمان بالمعاد مِن أهمّ أصول العقيدة الإسلاميّة، وَكثيراً ما قَرَنه القرآن الكريم وَحده مع أوّل أصل مِن أصول الإسلام في آيات كثيرة مِنه، وعَدّهما سبيل النجاة والنِعم. مِن هذه الآيات: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾[1] و﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾[2]. فَهذا الأصل يترك أثراً كبيراً وجوهريّاً في حياة الإنسان، ويَضبط شهواته ونزواته أيّما انضباط، ويُوجّه سلوكه نحو ما يَضمن سعادته في الحياة الآخرة؛ لذا كان أحد أهمّ مفاتيح سعادته.

وللإمام الصدر نَظرة مميّزة في تبيان هذا الأصل الاعتقاديّ العظيم، إذ يُبيّن -كما سَنرى في بعض كلماته- وجهاً لافتاً وعصريّاً مِن وجوه ضرورة الاعتقاد بِالآخرة، هو أنّ الإيمان بالمعاد يَفتح الآفاق أمام الإنسان لكي يُشعره بمسؤوليّته وَعظم الأمانة التي حَملها في هذه العالَم.

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 62.

[2]  سورة البقرة، الآية 126.

 

40


23

المعادُ أُفقُنا الواسع

آفاق الحياة الإنسانيّة

يُبيّن الإمام الصدر أنّ للإنسان أفقاً آخر غير أفق الحياة الدنيويّة المحدود والمادّيّ، هو أُفق الحياة الآخرة اللانهائيّ، وَهو الذي يَفرض على الإنسان التزامه الأخلاقيّ في الحياة الدنيا. فَيقول سماحته: «إنّ ضمير الإنسان، في بداية الخَلْق، ربّما وَجّهَهُ إلى الإيمان، لكنّ هذه الدعوة كانت ضعيفة أمام التيّارات المادّيّة والإغراءات والميول، فَعاش مُفكّراً في نفسه بِشكل أنانيّ؛ في جِسمه وطوله وعَرضه وعمره.

عندما يَدعونا الإسلام إلى اليوم الآخر، يعني إلى أن نوسّع الأفق الذي نعيش فيه. عِندما انتقل الإنسان إلى الإطار القَبَليّ، أصبح بُعده الجسمانيّ مئات أو آلاف مِن الأشخاص، بِحَسب حجم القبيلة، وَإمكاناته وأراضيه صارَت أكثر. حَسناً، هل هذا أُفقي الحقيقيّ؟ يقول لك: أَوسَعُ قليلاً. ما هو؟ الوطن؟ أوسَع، القوميّة؟ أوسَع، الأمّة؟ فَينتقل الإنسان إلى مفهوم الإنسانيّة. وَيقول لك آخَر أُفق آخر،كالحياة الآخرة. وَأينما وصلْتَ في التفكير يَقول لك آخر: الأفق غير مُتناهٍ، الله غير مُتناهٍ، وقد اختارَني عبداً وخليفةً له، وحمَّلَني رسالته وأمانته التي لم تتحمّلها الجبال والأرض والسماء؛ ﴿فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا﴾[1]، أنا أتحمّل هذه الأمانة، أمامي اللانهاية. وَمع الأسف، لا يزال أُفق قِسم مِن شعبنا «أنا»... وَبعض الناس أُفقُهم بَيت فلان... يصير الأفق عائلة. لا، وَسِّع تَصِل للوطن، أيضاً وَسِّع، وهكذا. إلى أين تريد أن تَصِل؟ أينما وقفتَ يدعوك الإدراك والبُعد إلى عالَم آخر، فالطموح لا يرقد، وَهُنا تبدو عَظَمة الإنسان، هُنا يلتقي المبدأ والمعاد معاً؛ الحياة الدنيا والحياة الآخرة... البحث عن المعاد تعبيرٌ تربويّ لِتَوسعة الأفق أمام الإنسان المؤمن، لكي يَشعر بِعَظَمته ومسؤوليّته، فثمّة الأفق الآخر واليوم الآخر والدار الآخرة والحياة الآخرة»[2].

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 72.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص107 - 108.

 

41


24

المعادُ أُفقُنا الواسع

وجود الروح دليل وجود الآخرة

مِن أهمّ أدلّتنا التي تُطرح في عِلم الكلام على وجود حياة أخرويّة وعالَم وراء هذا العالم المحسوس وجودُ الروح الإنسانيّة والوجدان النفسيّ الذي يبقى مرافقاً للإنسان مِن مهده إلى لحده، على الرغم مِن تَغيُّر جِلدته وبلاء جسمه وتبدّله على مرّ السنين؛ وهذا يدلّ على أنّ ذلك الوجدان والشعور لا يُنهيه لحد ولا قبر، بل يَستمرّ باستمرار عالَم الوجود.

إنّ إثبات أمر الروح ووجودها أمرٌ وجدانيّ أكثر مِنه استدلاليّاً؛ لذا -غالباً- تكون الأدلّة على إثباته أشبه بمنبّهات أو موقظات للوجدان المغيّب في سكرات الحسّ والمادّة. وَهُنا يُطالعنا الإمام الصدر بمقارباته وتنبيهاته المهمّة حول إثبات الروح، ويَطرح أمثلته التي تهزّ الوجدان هزّاً عنيفاً بِأسلوبه الرائع، فَيقول: «الإنسان، إلى جانب جسده، له شيء آخر هو الروح. تَعرفون أنّ خلايا الإنسان تتغيّر في كلّ لحظة، والثابت عِلميّاً أنّ كلّ 12 سنة تتغيّر خلايا الإنسان. مع ذلك، وحدة الإنسان موجودة منذ الطفولة إلى أن يموت؛ الإنسان واحد. شَبّهتُ الأمرُ مَرّةً بِخَيط المسبحة الذي يحفظ وحدة الإنسان مِن طفولته إلى وفاته، ما يجعل هذه المتغيّرات مُرتبطة، تَدور حول فلك واحد هو الروح التي لا تتغيّر، بل تنمو وتتعلّم ولا تنتهي، لأنّها لا تخضع لِنظام الحركة والمادّة والتطوُّر.

أنا، مثلاً، الآن أغمض عينيّ وأتصوّر بيتي، السجادة، الطاولة، وَوالدي ووالدتي. أين أضعُ هذه الصورة وهي أكبر منّي؟ أو أتصوّر جبال هملايا، المحيطات، البحر الأبيض المتوسّط، الشمس، القمر... كيف يحتوي الشيء الصغير الشيء الكبير؟ فَمِن أبسط قواعد الفلسفة أنّ الظرف لا يمكن أن يكون أصغر مِن المظروف. حتماً، ثمّة وعاء آخر غير هذه الخلايا وهذا الرأس وهذه الأعصاب، هو الروح.

 

42

 

 


25

المعادُ أُفقُنا الواسع

مِثال آخر: أنتم تعرفون أنّ أسرع شيء في العالم هو النور، إذ تَصل سرعته إلى ثلاثمئة ألف كيلومتر في كلّ ثانية، وَنور الشمس يحتاج 13 دقيقة أو 8 دقائق حتّى يصل إليّ. حسناً، أنت تدرك الشمس ولا تحتاج إلى 13 دقيقة أو 8 دقائق. ما هذا الوجود الذي يَصِل الشمس في لحظة؟ هذا طرح جديد في إثبات الروح التي لا تخضع لقوانين المادّة مِن الحيّز والحركة والزمان والمكان.

إذاً، أنا، عندما أموت، ماذا يموت؟ يموت الجسد الذي يفقد تماسكه ويتفتّت في القبر، ويتحوّل إلى تراب، وتذروه الرياح على المزارع، فَيدخل في الفواكه والأشجار والبحار والأسماك والصخور والحديد والبترول... ويتحوّل إلى موجود آخر. وَيبقى جانب آخر مِن وجودي، هو الروح التي تشكّل محور المعاد والحشر»[1].

كيفيّة المعاد الجسمانيّ

لقد كانت مسألة المعاد الجسمانيّ على مرّ التاريخ مِن المسائل التي حيّرَت العقول والألباب، وشغلَت بالَ المؤمنين بالروح ومعادها، فضلاً عن المادّيّين الذين لا يؤمنون بالروح والماورائيّات؛ فأنّى لجسم تَوَذَّرَ وتناثرَت أجزاؤه في التراب أن يعود كما كان، إلى درجة التطابق في البصمة كما يَصِفها القرآن الكريم: ﴿بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ﴾[2]؟ فقد حكى لنا القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته كيف كان أعداء الأنبياء (عليهم السلام) على مرّ التاريخ يُنكرون إمكانيّة عودة الإنسان، ولا سيّما أنّهم كانوا من المادّيّين الذين يُنكرون الروح ويَربطون وجودهم بوجود أجسادهم. مِن هذه الآيات: ﴿بَلۡ قَالُواْ مِثۡلَ مَا قَالَ ٱلۡأَوَّلُونَ ٨١ قَالُوٓاْ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ﴾[3]، ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٦٧ لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص108 - 109.

[2]  سورة القيامة، الآية 4.

[3] سورة المؤمنون، الآيتان 81 - 82.

 

43


26

المعادُ أُفقُنا الواسع

مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[1]، ﴿أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ١٦ أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ﴾[2]، ﴿أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ﴾[3]، ﴿بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِر مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ ٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَاباۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيد﴾[4]، ﴿وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ٤٧ أَوَ ءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ﴾[5].

وقد شغلَتْ هذه المسألة بالَ أعاظم المؤمنين، كنبيّ الله إبراهيم(عليه السلام) حين سأل اللهَ أن يريه كيفيّة إحياء الموتى: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَة مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَل مِّنۡهُنَّ جُزۡءا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيا وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾[6]. وكذلك ينقل لنا القرآن هذا التساؤل عن لسان نبيّ الله عزير(عليه السلام): ﴿أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَام فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَة لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِير﴾[7].

يحاول الإمام الصدر، بإبداعه البيانيّ، أن يقرّب هذه المسألة إلى الفَهم، مُستفيداً مِن الجواب القرآنيّ عن هذه التساؤلات، إذ يقول: «كيف يرجع الجسم؟ ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيم﴾[8]. هل يَرجع وهو تراب انتشر في أرجاء العالم، وتحوّل إلى

 


[1]  سورة النمل، الآيتان 67 - 68.

[2] سورة الصافّات، الآيتان 16 - 17.

[3]  سورة الصافّات، الآية 53.

[4]  سورة ق، الآيتان 2 - 3.

[5]  سورة الواقعة، الآيتان 47 - 48.

[6] سورة البقرة، الآية 260.

[7]  سورة البقرة، الآية 259.

[8]  سورة يس، الآية 78.

 

 

44


27

المعادُ أُفقُنا الواسع

الفواكه والأشجار والبحار والأسماك والصخور والحديد والبترول...؟ ﴿قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةۖ﴾[1].

أنا، هذا الموجود الذي انتقل مِن أبي إلى رَحِم أمّي، وتغذّيتُ مِن المآكل والمشارب؛ مِن السكّر، مِن أين السكّر؟ مِن كوبا؟ مِن الماء، مِن أين الماء؟ مِن نهر بيروت؟ مِن جبال تركيا؟ مِن الشاي، مِن أين الشاي؟ مِن سيريلانكا؟ مِن الأرزّ، مِن أين الأرزّ؟ مِن القمح، مِن أين القمح؟ إلى أين ينتهي نَسَب كلّ ذَرّة مِن ذرّات جِسمك؟ كوبا، أميركا، الاتّحاد السوفياتيّ، المحيط الأطلسيّ، العراق، البقاع؟ كيف جمعَ ربّنا هذه الكمّيّات كلّها مِن التراب المختلف في الآفاق -أوّل مرّة- مع المياه المنتشرة في البحار، ثمّ رَتّبها وسوّاها إنساناً؟ لايصعب عليه أن يجمعها مرّة ثانية»[2].

الآخرة «مُكمّل» الدنيا

مِن أهمّ الأدلّة التي تُطرح في عِلم الكلام على وجود المعاد والحياة الآخرة دليلُ العدل الإلهيّ؛ ومَفاده أنّ الظالمين في هذه الدنيا لا يَنالون جزاءهم الحقيقيّ الذي يستحقّونه، كما أنّ الصالحين لا ينالون ثوابهم الواقعيّ كما يستحقّون، فَلا يمكن الوصول إلى الخواتيم العادلة في الحياة الدنيا. لذا، إنّ مقتضى العدالة الإلهيّة أن يكون ثمّة يوم آخر ينال فيه كلّ إنسان ما يستحقّه، بِحَسَب موازين العدل الإلهيّ.

ويُبدع الإمام الصدر في بيان هذا الدليل حين يُسمّي الآخرة بـ «مُكمّل» الدنيا؛ فكأنّه يقول إنّ الدنيا، بما تقدّمه لأصناف البشر، تبدو ناقصة وقاصرة عن إعطاء كلّ فرد ما يستحقّه واقعاً، فَلا بدّ مِن حياة أخرى يستكمل فيها كلّ فرد مسارَ تكامله لِيَصِل إلى جزائه الحقيقيّ وخاتمته التي يستحقّها بإيمانه وعمله. وَنَصُّ كلامه: «لِماذا نقول هذا كلّه؛

 

 


[1]  سورة يس، الآية 79.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص109.

 

45


28

المعادُ أُفقُنا الواسع

إنّ الروح باقية بينما يجمع ربّنا سبحانه وتعالى الجسم ويُرجعه مِن أطراف الأرض كلّها؟ السبب أنّ هذه الدنيا بحاجة إلى مُكمِّل. ما معنى مُكمِّل؟ نعرف أنّ الحياة مبنيّة على الحقّ والعدل، وأنّ الكون مُنظَّمٌ تنظيماً دقيقاً؛ ﴿وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ﴾[1]. هذا العالم دقيق... وَنرى ظالِمين ظَلَموا وتمادوا في ظلمهم، ثمّ ماتوا ولم ينتقِم أحدٌ منهم، أين العدل؟ نَرى مظلومين ظُلِموا وطال الظلم عليهم، ولم ينتقم أحدٌ لهم، أين العدل؟ نرى خدّاماً للبشريّة وراء الستار يخدمون خدمات وخدمات وخدمات للإنسانيّة، ولا يشكرهم أحد. كم مِن الناس يُضحّون في الحروب مِن أجل الإنسانيّة، وَيُدافعون بِوَجه الشرّ، ولا يتفقّد عائلاتهم أحد، أو يقول لهم «شكراً»؟ إذا كان الخَلق كلّه هو الذي نراه اليوم فقط، فَثمّة ظُلم، وهذا لا ينطبق مع مبدأ العدالة. إذاً، لهذا اليوم يومٌ آخر، تَتِمّة؛ الدائن والمديون، الظالم والمظلوم، المضحّي والمضحَّى به، يجب أن يُكملوا حسابهم هناك. فَيجب أن نعتقد بأنّ وراء هذه الحياة حياة آخرة، يوم آخر، يوم الجزاء، يوم المحاسبة»[2].

 

 


[1]  سورة الرحمن، الآيتان 7 - 8.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص109 - 110.

 

46


29

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة
تمهيد

لقد كان القرآن الكريم واضحاً في مطلع سورة البقرة المباركة، حين جعل الإيمان بالغيب العلامة الأولى للمتّقين الذين يستحقّون هدايته: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾[1]. فالإيمان بالغيب هو المدخل الطبيعيّ والأساس لتربية الإنسان على التفاعل مع التعاليم الدينيّة وأَخْذِها على محمل الجدّ، فالاعتقاد بالله وتوحيده، والاعتقاد بأنبيائه (عليهم السلام) ورسله وملائكته وكتبه، والاعتقاد بالمعاد وثوابه وعقابه، والاعتقاد بِأثر الأعمال الخيّرة أو الشرّيرة في الدنيا والآخرة، والتحرّك نحو التزام الأوامر الإلهيّة والتعبُّد بها... وغيرها الكثير مِن العقائد والسلوكيّات، كلّها تحتاج هذا المبدأ، وهو الإيمان بِالغيبِ والشعور بالرقابة الإلهيّة. وتقع مهمّة تقوية إيمان الناس بالغيب على عاتق العلماء الذين هُم ورثة الأنبياء (عليهم السلام)، كما ورد في الأحاديث الشريفة.

انطلاقاً مِن هذا الواجب، كانت للإمام الصدر بيانات وتوجيهات لأفراد مجتمعه نحو هذه الحقائق الإيمانيّة، نتعرّض لِبَعضها في هذا البحث.

 


[1] سورة البقرة، الآيتان 2 - 3.

 

48


30

المعادُ أُفقُنا الواسع

يُبيّن الإمام الصدر أهمّيّة الإيمان بالغيب وموقعه بين العقائد الدينيّة، فيجعله السمَة الأساس التي مِن شأنها أن تفرّق بين الدين وغيره مِن الأيديولوجيّات والعقائد والمعارف، إذ يقول: «الفارق الأساسيّ بين الدين والعِلم، بين الدِين والفلسفة، بين الدين والأخلاق، بين الدين والتجارب الاجتماعيّة والأنظمة والقوانين الوضعيّة، بين الدين وَما هو مِن الإنتاج البشريّ كلّه، هو الإيمان بِالغيب. الدِين له أحكام وقوانين، كما أنّ لكلّ حزب أو مؤسّسة أو دولة -أو حتّى عِلم- قوانينه الخاصّة؛ الفارق بين الدِين وبين كلّ شيء هو الإيمان بالغيب. فمثلاً، الفارق بين الحكومة الدينيّة والحكومات الأخرى؛ أكانت ديمقراطيّة، ديكتاتوريّة، اشتراكيّة، رأسماليّة، جمهوريّة، أو أيّ حكومة، أنّ مصدر السُلطات في الحكم الدينيّ هو الله، تنبثق السلطات فيه مِن الله، بينما في الحكومات الديمقراطيّة،الشعبُ مَصدر السُلطات»[1].

الإيمان بالغيب مصدر الاطمئنان

بعد أن أشَرنا إلى أهمّيّة الإيمان بالغيب وموقعيّته بين العقائد الإسلاميّة، سوف يتبادر إلى الذهن مُباشرةً السؤال عن ملاك أو مناط أو سبب هذه الأهمّيّة، وما هو الأثر الذي يتركه الإيمان بالغيب على حياة الإنسان، أو ما هي القيمة الإنسانيّة المضافة التي يُعطينا إيّاها الإيمان بِالغيب.

يُجيب الإمام الصدر عن هذا التساؤل بأنّ الإيمان بِالغيب يجلب للإنسان الطمأنينة، التي هي مِن أجمل الكيفيّات النفسانيّة، ومِن أكمل أفراد السعادة التي قد يتمتّع بها الإنسان في حياته. ويربط سماحته بين الإيمان بِالغيب والسعادة بِفَذلكةٍ رائعة يقول فيها: «كلّ إنتاجٍ بشريّ متكاملٌ، بِطبيعة الحال، وكلُّ متكاملٍ متطوّرٌ ومتغيّرٌ،

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص117.

 

49


31

المعادُ أُفقُنا الواسع

بِطبيعة الحال، وكلُّ متغيّرٍ متزلزلٌ ومهزوز، فَلا يدعو إلى الاستقرار والطمأنينة، ولا يجلب للإنسان الاطمئنان. إنّ الاطمئنان يحصل -تماماً- بالإيمان بِالمطلق، المطلق فَحَسب؛وَهذا ما يُشير إليه القرآن الكريم: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]. فالاستقرار النفسيّ لا يأتي إلّا عندما يستند الإنسان إلى حائط مُطلق ثابت واقف في الحالات جميعها، وفي مختلف الظروف.

إنّ الاعتماد على المطلق، الذي لا يترك الإنسان في الحالات والأوقات والظروف جميعها، ضرورةٌ أساسيّة لتقوية شخصيّة الإنسان وانطلاقه مِن نقطة ثابتة. بينما يكون الاعتمادُ على العِلم والاستناد إليه نِسبيّاً لا مُطلقاً، لأنّ الاستناد إلى العِلم -كما قلنا- متطوّر ومهزوز،بينما يؤكّد وجود الإيمان بِالغيب في حياة الإنسان استقرارَه فيها»[2].

ويمكن أن نفهمَ مِن بيان الإمام الصدر أنّه عَدَّ الإيمان بالمطلق -وهو الله- مِن مصاديق الإيمان بِالغيب، بل أشرفها، لِشرف متعلّقه، وَهو بارئ الأكوان جميعها. فَلِلغيب مصاديق عديدة، كالقضاء والقدر والمشيئة الإلهيّة وكنه الملائكة وحقيقة الروح... ويُطلق عليها «الغيب» في اللغة والاصطلاح باعتبار كونها ممّا يغيب عن نظر الإنسان وفِكره ووعيه نسبيّاً. وَهل يوجد ما هو أبعد مِن ذات الله وكنهها عن الأبصار والخيالات، في عين كَون وجوده تعالى الحقيقة الأقرب إلى وجدان الإنسان والأعظم في هذا الكون؟

الإيمان بالغيب غير معزول عن الحياة

هل يعني الإيمان بِالغيب والاقتناع بِوجود ما ورائيّات يعجز الإنسان عن إدراكها أن يكون المرء خرافيّاً أو ذا تفكير أسطوريّ ساذجٍ يُؤمن بأيّة فِكرة ميتافيزيقيّة ويعمل لها ويفني عمره كلّه مِن أجلها وفي سبيلها،

 

 


[1] سورة الرعد، الآية 28.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص117 - 118.

 

50


32

المعادُ أُفقُنا الواسع

مهما كانت تلك الفكرة سطحيّة، ومهما كانت تلك العقيدة ساذجة؟ وهل يعني الإيمان بالغيب أن يعتزل الإنسان حياته الدنيويّة المادّيّة ويهملها ولا يعبأ بها كرمى للغيب الذي ينتظره مِن ورائها ويَعِده بأنواع الكرامات والسعادات؟

إنّ النظرة الإسلاميّة لا تتبنّى أيّاً ممّا ورد أعلاه، وإنّما تدعو إلى الإيمان بما يَثبت عن طريق الدليل القطعيّ أو الدليل المنتهي إلى القطع واليقين، لا الإيمان بأيّ غيبٍ كان، وكيفما كان، من دون الرجوع إلى دليله ومُستنده. مِن هنا، نجد أنّ الدين قد حارب -بكلّ ضراوةٍ- الجهل، وذمّ اتّباع الظنّ واللاحجّة وتقليد الآباء والأجداد في العقيدة، وغيرها مِن ألوان الاعتقاد اللامنطقيّ وغير القائم على أُسس متينة. وقد انعكس ذلك التوجيه في ميدان العمل توازناً يطلبه الإسلام في شخصيّة الإنسان المؤمن بين الإيمان بِالغيب والعمل له والاستعداد لليوم الآخر، وبين العمل الجادّ في الدنيا مِن أجل العيش الكريم، بِنحوٍ يضمن له سعادة الدارَيْن معاً.

وَهذه الأفكار يمكن فَهمها واستنتاجها مِن كلام الإمام الصدر الآتي: «الدعوة الإسلاميّة -من الأساس- دعوة للدنيا والآخرة؛ لذا فإنّ القرآن الكريم لا يركّز -إطلاقاً- على الدنيا وحدها، بِعَكس التوراة، إذ لا نجد فيها -مِن أوّلها إلى آخرها- اسمَ الآخرةِ إلّا في موضعَيْن، تَلميحاً، بِحَسَب دراسة أحد الباحثين. ففي القرآن الكريم، أينما ذُكرت الدنيا اقترنَت بها الآخرة: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرا﴾[1] و﴿فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾[2]؛ فَتُذكر دائماً نَتائجُ الدعوة، أحداث الدعوة، والدنيا والآخرة. فَالغَيب والشهود معاً، مِن الأساس، إذ إنّ الغيبَ مقترن بالشهود، والدنيا مُقترنة بِالآخرة؛ هذا هو أصل الدعوة، ثمّ تنفيذُها


 


[1]  سورة النساء، الآية 134.

[2]  سورة النحل، الآية 97.

 

51


33

المعادُ أُفقُنا الواسع

وإجراؤها. (على طول)[1] كان الإسلام يُعطي بُعداً غيبيّاً لكلّ جهد. فَمثلاً، التشجيع على الجهاد ثمّ الاستشهاد؛ فُلان أصبح شهيداً، ماذا يعني الشهيد؟ في منتهى الغيبيّة، كلمة الشهود تُصوِّرُ اقتران الشهود وَالغيب بِبَعضهما. الشهيد يعني شَهد الله، شهد الرحمة، شهد الجنّة. لم يُسَمِّ الإسلامُ المقتولَ «ميّتاً»، بل استعمل كلمة «شهيد» للميّت، انطلاقاً مِن أنّه حيّ، بِأيّة حَياة؟ الحياة الغيبيّة طبعاً. والقرآن يُؤكّد ذلك: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢا بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم﴾[2]. أيّة حياة، إذاً؟ حياة غيبيّة، لا حياة الشهود الذي نشاهده نحن.

مِثال آخر: شِعار المسلمين؛ ففي بداية الإسلام، كانوا يحاربون ويَقولون: ﴿هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ﴾[3]، ما هما؟ إمّا أن ننتصر فَيكون لنا النصر والدنيا والعالَم والحكم والملك والسيطرة والمال، وإمّا أن نُقتل فتكون لنا الحسنى الآخرة يعني أن نَدخل الجنّة، فإذا قَتَلْنا فَلنا النصر والحسنى، وإذا قُتلنا فَلنا النصر والحسنى. هذا طريق لا يدخل فيه الفشل والهزيمة، بل النصر المطلق؛ هذا هو الأسلوب الإسلاميّ. كانوا يخاطبون الأعداءَ الكفّارَ: أنتم أمام حالتَيْن؛ إمّا أن تقتلونا وتنتصروا علينا فَتدخلوا النار وَتفشلوا، وإمّا أن نقتلكم فتُهزَموا. أمامكم النار أو الهزيمة، وأمامنا الجنّة أو النصر.

اتّخذت الغيبيّة طابعاً تجريديّاً، فَأصبح الكلام المعروف أنّ الدين لله والوطن للجميع، وردّدناه مِن دون تفهّم لموضوع هذه الكلمة؛ فَالدين بيني وبين الله يعني أنّ الغيبيّة معزولة عن الحياة، مع أنّ الغيبيّة في الإسلام منطلق الحياة الآخرة. ما هي الآخرة؟ الآخرة -في مفهومها الإسلاميّ- هي النتيجة الحتميّة للتفاعل بين الإنسان والحياة.

 

 


[1]  تعبير عامّيّ بمعنى «دائماً».

[2] سورة آل عمران، الآيتان 169 - 170.

[3] سورة التوبة، الآية 52.

 

52


34

المعادُ أُفقُنا الواسع

ماذا تعني «الدنيا مزرعة الآخرة»[1]؟ تعني أنّ ما عَمِلتَه هُنا سوف تَراه هُناك.

 

لا تجوز سيطرة النزعة المادّيّة على الشؤون جميعها. فَلْننظر إلى كلّ ظاهرة وحلّ لمشكلة عن طريق المفاهيم الحياتيّة الصحيحة التي تربط الدنيا بِالآخرة»[2].

 

 


[1]  الأحسائيّ، ابن أبي جمهور محمّد بن زين الدين، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، دار سيد الشهداء للنشر، إيران- قم، 1403هـ - 1983م، ط1، ج‏1، ص267.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص118 - 119.

 

 

53


35

الشرور والابتلاءات

الشرور والابتلاءات


تمهيد

تُعَدّ مسألة الشرور والابتلاءات؛ أي وجود الشرور والنقائص والمصاعب والمتاعب التي تُنغّص عيش الإنسان وتُسبّب له الآلام والأحزان، مِن أهمّ الإشكاليّات على مرّ التاريخ الإنسانيّ، والتي ازداد البحث والتداول فيها في عصرنا الحاضر، إذ أدَّتْ بِبَعض الأشخاص إلى السقوط في دَرك الإلحاد والكفر نتيجة الشبهات التي تنشأ مِن هذه القضيّة. فَتَعود التساؤلات حولها إلى الواجهة، وتتصدّر النقاشات عند كلّ حدث مأساويّ أو كارثة طبيعيّة تحدث في العالَم يَقضي ضحيّتها الآلاف أو عشرات الآلاف أو مئات الآلاف والملايين مِن الناس، كالزلازل والأوبئة والبراكين والعواصف والفيضانات، إذ إنّ الإنسان يبقى مذهولاً أمام هول هذه الكوارث، وتتفتّح عنده الأسئلة الكثيرة عن الغاية مِن وجودها، ومدى انسجامها مع رحمة الله ورأفته، وهل أنّها عقاب أم ابتلاء.

وقد تعرّض الإمام الصدر في مقتطفاتٍ مِن مقارباته الفكريّة لِهذه المسألة.

الكوارث الطبيعيّة دافع لتكامل الإنسان

يقول الإمام الصدر حول الغاية مِن وجود الكوارث الطبيعيّة: «الهدف مِن الكوارث الطبيعيّة إكمال الإنسان، فهي سِياط على كاهل الإنسان وأكتافه، حتّى يركض ويسعى مُجِدّاً نحو الخير أكثر وأكثر.

 

54


36

الشرور والابتلاءات

في أوّل الخَلْق، وُجِد المرض مِن أجل أن يُفتّش الإنسان عن علاج، فَكان يُفتّش وَيُحرّك تفكيره؛ اتّجهَ أوّلاً نحو الأساطير، فاستغلّه المشعوِذون، فَأخطأ وَوَقع، ثمّ قامَ وَمشى. هذا كلّه كان محاولة لِكَشف علاج المرض، فاضطرّ إلى أن يقتحم غوامض الكون ومجاهله، وحينما بَدأ يقتحم أسرار الكون اكتشفها، فَاستغلّها، فتطوَّر، فَسَيطر، وهكذا تَقدَّم. فَوجود المرض أو الحاجة، إذاً، كان السبب الرئيس في دَفْع الإنسان نحو التفكير،ثمّ المعرفة. البَرد أيضاً كان دافعاً آخر، والحرّ كذلك، وَالعدوّ؛كلّها دوافع وأسباب أحاطَتْ بالإنسان مِن كلّ جانب، كَسِياطٍ تَضرب كاهله حتّى يركض ويُفتّش ويُعالج مَشاكله.

قد تقولون: حسناً. ما ضَرَّ لَو خُلِق الإنسان في الجنّة، منذ البداية، في مرج أخضر، (لا في بَرد ولا في حرّ، يعيش مرتاح ومبسوط). وَالجواب: إنَّ الإنسان خُلِق لكي يَعرف الغاية مِن الخَلق،وَهي المعرفة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[1]، وَالمعرفة الحقيقيّة لن تتحقّق إذا كان الإنسان معزولاً ومَصوناً مِن المشاكل والحاجات.

إنّ الكوارث الطبيعيّة إنذار وحَثٌّ للإنسان حتّى يُفكّر، فيعرف القوى الكونيّة، ويَعرف أسباب الزلازل وكيفيّة التغلُّب عليها، فَيخترع آلات لمعرفتها –ويُسمّونها سيسموغراف S(عليها السلام)smographe- ويبني أبنيته على الطريقة اليابانيّة، بِحيث لا تُهدم أو تَتحطّم أو تقتل الإنسان»[2].

ما ذنب ضحايا الكوارث؟

«قد تقول: ما ذنب الذين قُتلوا؟ نقول لكم: إنّ الله سيُعوِّضهم إذا كانت نيّاتهم حسنة ويستحقّون التعويض، لأنّهم ضحايا البشريّة كلّها، فَهؤلاء ماتوا في سبيل الأفضل؛ تماماً كما لَو كان عندك كوخ وتريد أن تبني قصراً، فَتهدم الكوخ لِتَبني القصر، فَقَد ضيّعتَ مَبلغاً

 

 


[1]  سورة الذاريات، الآية 56.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص71 - 72.

 

55


37

المعادُ أُفقُنا الواسع

مِن المال في سبيل الأفضل. هذا شيء طبيعيّ. ولكنّ الله -الذي لا يَظلم مثقال ذرّة- يُعوّض هؤلاء الضحايا، فَيُعطيهم أجرهم يوم القيامة بِغَير حِساب.

فالكوارث الطبيعيّة والمشاكل البشريّة والأمراض والعوارض المختلفة، إذاً، دوافع لِحَثِّ الإنسان على السّير نحو الكمال ومَعرفة الكون، والضحايا لهم تعويضهم وأجرهم حتّى يَرضوا عن ربّهم»[1].

فلسفة الابتلاء

قال تعالى: ﴿الٓمٓ ١ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٤ مَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَأٓت وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٥ وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[2].

«في القرآن الكريم مواضيع عديدة حول قضيّة الابتلاء والاختبار والامتحان والافتتان، فَما معنى هذه الكلمات بالنسبة إلى الله ربّ العالمين، خالِق الإنسان، وَهو أقرب إليه مِن حبل الوريد، وَيَعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟

يَصدر الامتحان مِن الإنسان لكي يعرف حقيقة إنسان آخر أو مِقدار نشاطِ طالبٍ أو شخصٍ أو رياضيّ. أمّا الله سبحانه وتعالى، الذي يعرف حقائق الكون وَما في نفوس الناس ومُستقبلهم، فَما معنى اختباره الإنسان؟

إنّ الله تعالى يترك للإنسان مجالاً، لا لِيَختبره ويعرف الحقيقة، بل لِتَنمو كفاءاته. فإذا استغلّ الإنسان الفرصة واغتنم المناسبة، فَظَلَم

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص72 - 73.

[2]  سورة العنكبوت، الآيات 1 - 6.

 

56


38

الشرور والابتلاءات

وكَفر وانحرف، انكشفتْ حقيقته، لأنّ الإنسان المنحرف إذا وَجَد مجالاً للانحراف نَما انحرافه، وَكذلك الإنسان الصالح الذي يجد مجالاً لإبراز كفاءاته الصالحة وتضحيته وشجاعته وكرمه. فَنُموّ الإنسان ليس كاشفاً لحقيقته، بل الحقيقة أنّ نموَّهُ رسالتُه في الحياة، كما البِذرة عندما يتهيّأ لها المناخ الملائم فَتتحوّل إلى نبات، فإذا كانت بِذرة شوكٍ تحوّلتْ إلى شوك، وإذا كانت بِذرة وردٍ تحوّلتْ إلى وَرد؛ هذا هو تكوين المناخ وإعطاء الفُرصة، أو -بِحَسَب التعبير القرآنيّ- الإملاء والاستمهال وإعطاء الفُرص. فَالإنسان، بِملء إرادته واختياره، يتمكّن مِن أن يتحوّل إلى بِذرة شوكٍ أو إلى بِذرة وَرد، وَالعالَم فُرصة أمام كلّ إنسان لكي ينمو وتنمو استعداداته في طريق الخير أو الشرّ؛ كلّ إنسان يُعطى فُرصة مناسبةً لِيَتحوّل وَيجد المجال لِنُموّ استعداداته. العالَم مزرعة لِكَشف حقيقة الإنسان أو -بِتعبير أدقّ- لِتنمية هذه الحقيقة، وهذا الابتلاء فُرصة إلهيّة لكلّ موجود»[1].

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج4، ص187 - 188.

 

 

57


39

القرآن الكريمُ نَصٌّ ثابت لِأحوالٍ مُتغيّرة

القرآن الكريمُ نَصٌّ ثابت لِأحوالٍ مُتغيّرة
تمهيد

إنّ أيّ مُفكّر إسلاميّ لا يَستحقّ أن يُطلَق عليه هذا اللقب بِحقٍّ إنْ لم يَكن عنده إلمامٌ نِسبيّ بِعلوم القرآن الكريم وتفسيره، نظراً للمكانة التي يحتلّها القرآن في الإسلام، فَهو كلام الله، وكتاب الإسلام الأوّل، المحفوظ مِن التزوير والتحريف، يتناقله المسلمون بِألفاظه كما نزلَتْ مِن عند ربّ العِزّة، ويُرتّلونه في صلواتهم وأذكارهم آناء الليل وأطراف النهار، وفيه تبيان ما يحتاجه الإنسان كلّه مِن الأصول والقواعد لحياة ملؤها السعادة والرضى في الدنيا والآخرة.

وقد كان لِمُفكِّرنا العظيم، الإمام الصدر، لَمَسات بيانيّة ساحرة وأفكار لامعة أنتجها ذهنه الوقّاد في مجال علوم القرآن وتفسيره، نَقِف في هذا البحث وما يَليه عند محطّات مِنها. ونبدأ هذا الفصل بتبيان كيفيّة معالجته إشكاليّةً باتَتْ معروفة في الأوساط العِلميّة بالثابت والمتغيّر في الدِين، وإحدى أهمّ متفرّعات هذه المسألة كيفيّةُ معالجة إشكاليّة وجود نَصٍّ ثابت -كالقرآن الكريم- يُعالج حالاتٍ وظروفاً وموضوعاتٍ مُتغيّرة عَبر الحقب والأزمان. وتتّضح -أثناء معالجة هذه الإشكاليّة- معالم مَنهج الإمام الصدر في فَهم القرآن الكريم وتَفسيره.

مَفاد إشكاليّة الثابت والمتغيّر

في ظلّ التجربة المعاصرة للدول والأنظمة السياسيّة والحكوميّة والاقتصاديّة في مجال التقنين والمأسَسة، والتي تستدعي تغييرات

 

60


40

القرآن الكريمُ نَصٌّ ثابت لِأحوالٍ مُتغيّرة

سريعة ومتواترة زمنيّاً في الدساتير والقوانين، مِن أجل الالتحاق بِركب التقدُّم السريع الذي شهدته البشريّة في أواخر القرن العشرين وبَعده، بَرَزَتْ إشكاليّة في ساحة الفِكر الإسلاميّ شَغلَتْ كثيراً مِن العلماء والمفكّرين، هي كيفيّة الموائمة بين الالتزام بِتطبيق نَصٍّ دينيّ ثابت –وَأهمّ مصاديقه القرآن- وبين مواكبة التغيُّر الهائل الذي حَدث في البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والسكّانيّة وغيرها مِن البنى التي قَلَبها عصر التقنيّة رأساً على عَقب. فَهذا التغيُّر المتسارع في ظروف الناس وأحوالهم ونمط عيشهم يَستدعي تغييراً وتبديلاً في القوانين والأنظمة.

فإذا كان مِن غَير المعقول العَمل بِدساتير وأنظمة تَرجع إلى العصور الوسطى أو عصور الملكيّة والإقطاع، فَمِن باب أولى كيفَ يُعقل التمسُّك بِدستور أو نظام مضى عليه ما يَزيد عن 1400 سنة؟ وبِحَسَب بيان الإمام الصدر للإشكاليّة: «القرآن الكريم كلام الله بِألفاظه ومعانيه وترتيب سُوَره وآياته. وهذا المبدأ هو سبب خلود الإسلام دون سائر الأديان، وهو الجواب عن مشكلة التطوُّر، وهي مشكلة شائعة ومستعصية تعتمد على استحالة توجيه نصوص معيّنة لمجتمعات مُتطوّرة وعلاقات متغيّرة وظروف حياتيّة تتباين في الفترات التاريخيّة المختلفة. فالأوضاع الاجتماعيّة والعلاقات المختلفة القائمة في هذا العصر تختلف تمام الاختلاف عن الأوضاع والعلاقات التي كانت في عهد ظهور الإسلام، فكيف يمكن لقوانين ونصوص واحدة أن تُنظّم هذه الأمور في الحالتَين معاً؟»[1].

الجواب عن الإشكاليّة

قدَّم الإمام الصدر بِبيانه السهل الممتنع محاولة مهمّة للجواب عن هذه الإشكاليّة، مرتكزاً في ذلك على نقاط عديدة، نوردها فيما يأتي:

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص31.

 

 

61

 


41

المعادُ أُفقُنا الواسع

1. شروط عمليّة التفسير

بَيّن الإمام الصدر -بِدايةً- أنّ عمليّة فَهم أيّ كلام لا بُدّ مِن تَوَفُّر شَرطَيْن أساسيَّيْن فيها، ثمّ طَبّق ذلك على القرآن الكريم، لِيَستنتج ميزة أسلوب تفسير القرآن عن غيره مِن الكتب، فَقال: «إنّ لِلمفهوم مِن الكلام -أيّ كلام- وإدراك المقصود مِنه شَرطَيْن؛ الشرط الأوّل الالتزام بِدلالة اللفظ -مِن حقيقةٍ ومجازٍ- على أنواعه، بِالدلالات الإلزاميّة والإشارات والتنبيهات، وغير ذلك مِن أبعاد الدلالة. والشرط الثاني أَخْذ مستوى وعيِ المتكلّم وثقافته بِعَين الاعتبار، فَلا يمكن تحميل الكلام مفهوماً يَفوق مَعرفة المتكلّم ودرجة انتباهه. لذا، نجدُ أنّ كلاماً واحداً صادراً مِن الطفل أو الإنسان العاديّ يختلف فَهمَه عن الكلام نفسه إذا صدر مِن إنسان واعٍ أو عالِمٍ كبير أو مسؤولٍ يَقِظ. ونجدُ أنّ اهتمام المعنيّين يَكون دائماً بِدقائق كلمات المسؤولين وقيودها كلّها، وما وَرَد مِن تقديم أو تأخير، أو تعريف أو غيره؛ وما التفاسير والأبحاث حول نصوص الاتّفاقيّات ومداليلها، وَفَهم القوانين والمراسيم وأبعادها، إلّا شاهد صِدق على أنّ مستوى معرفة صاحب الكلام وانتباهه إطارٌ لِفَهم كلامه وشرطٌ أساسيّ لإدراك مَقصوده ومَرامه. أمّا الرمزيّة في التعبير، واستعمال الكلمات كإشاراتٍ لِمَعانٍ أخرى، فَلا يمكن الاعتماد عليها إلّا مع اتّفاق مُسبَق بين المتكلّم والمخاطَب، كما تُستعمل في المخاطبات السرّيّة المتعارفة.

بناءً عليه، فإنّ صدور القرآن الكريم، بِألفاظه الموجودة لدينا، يجعله ذا طابع مميَّز، يختلف عن الكتب والكلمات والنصوص جميعها، بِفَهم معانيه وتفسير كلماته، حتّى عن الكتب المقدّسة الأخرى، لأنّ عِلْم الله لا حدَّ له، أعطى لكلّ شيء قدراً وصِفةً وميزةً وخاصِّيّة مُعيّنة؛ لا يعزُبُ عن علمه ﴿مِّثۡقَالِ ذَرَّة فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ

 

 

62


42

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ﴾[1]، وَلا يشغلُهُ شيء عن شيء، فهو ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾[2].

وهذا يعني أنّ فَهم القرآن الكريم وتفسيره -إذا رُوعي فيه الشرط الأوّل- ليس حِكراً على المفسّرين الأوائل (رضوان الله عليهم)، بل يحقّ لنا أن نَفهم القرآن بِتعمّق أكثر وبخبرة مُتجدّدة، مع الاستعانة بمعلوماتنا وتجاربنا المتزايدة في الحقول المختلفة، إذا التزَمْنا بالمصطلحات القرآنيّة وَرَدّ المتشابهات إلى المُحكمات وَعدم تحميل الكلمات معاني لا ترتبط بها»[3].

2. مناط جِدة القرآن ومواكبته العصور

إنّ أحدَ أهمّ مَناشئ إشكاليّة الثابت والمتغيّر ضَعفُ قدرة العقل البشريّ عن تَصوُّر كلامٍ أو مُستندٍ لفظيّ مكتوب قادرٍ على معالجة الوقائع التي تُحقّق كمال الإنسان وسعادته، بالمستوى نفسه للمتلقّي الأوّل لهذا الكلام وَمَن جاء بَعده مِن البشر، والذين قد تَفصل بينهم آلاف السنين. في حين أنّ هذا الأمر مِن أَهوَن ما يكون على الله تعالى، إذ أنزل القرآنَ على نبيّه (صلى الله عليه وآله)، وثبّتَ لنا بالحجج والبراهين صِدق ما وصل إلينا مِنه، كلمة بكلمة، وحرفاً بِحرف. وقد نَصّ الكتاب العزيز على أنّه تفصيلٌ لكلّ شيء، وأنّ فيه ما يكفل سعادة البشر وتكاملهم لَو اتّبعوه إلى يوم القيامة. فالمناط في جِدَة القرآن الكريم وبقائه غضّاً طريّاً عبر العصور، وإمكان استفادة الإنسان مِنه في كلّ زمان ومكان، هو كونه صادراً عن الكمال المطلق المحيط عِلماً بإنسان كلّ زمان ومكان، والذي أرادَ أن يُوصل هدايته لهذا الإنسان في أيّ زمن أو مكان كان عبر هذا الكلام، وَهو القرآن. وَقد أشار إلى ذلك الإمام الصدر في كلماته، فَقال: «إنّ التأمّل في القرآن والتعمّق فيه وتجديد

 

 


[1] سورة يونس، الآية 61.

[2] سورة الأعلى، الآيتان 2 - 3.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص31 - 32.

 

63


43

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

دراسته يجعل أمام الإنسان المسلِم مَعانٍ جديدة وصحيحة مختلِفةٍ عن التفاسير السابقة المستخرَجة مِنه، ولا مانع مِن الأخذ بها والعمل عليها، فَلا تَناقُض بينها وبين المعاني السابقة لِلمفسّرين الأوائل بَعد أن كان المتكلّم هو الله، وبعد أن أمكن فَهْم المعاني جميعها مِن القرآن. وَهذه ميزة خاصّة بالقرآن الكريم -كلام الله- لأنّ الكلام، إذا صَدر عن أيّ مُتكلّم، فإنّه لا يمكن أن تُفهم مِنه مَعانٍ تتجاوز حدود ثقافة عَصر المتكلّم والمعلومات المتوافرة لديه؛ هذا هو الحدّ بين كلام الخالِق والمخلوق، اللهمّ إلّا المخلوق الذي لا يَنطق عن الهوى، بل يَتحدّث عن وحيٍ يُوحى إليه»[1].

3. نماذج كيفيّة الاستفادة المعاصرة مِن القرآن

مِن ميّزات فِكر الإمام الصدر أنّه لا يكتفي بالتنظير وطرح الرؤى والأفكار المجرّدة، ولا يُطيل فيها، بل يَعمد مباشرة إلى تطبيقها وطرح الأمثلة والنماذج العمليّة التي تُؤيّد تلك الأفكار والطروحات. ونَجد هذه الميزة جليّة في كلامه هُنا، إذ ينتقل، مِن بعد تنظيره لحلّ إشكاليّة الثابت والمتغيّر، إلى طرح نماذج حيّة مِن كيفيّة استفادة الإنسان المعاصر مِن القرآن الكريم؛ فَيتناول بعض الآيات القرآنيّة لِيُبيّن تفسيرها المأثور الوارد في كتب المفسّرين الأوائل والقدماء، ثمّ يُبيّن إمكانيّة تفسيرها تفسيراً معاصراً وتطبيقها على مصاديق حاضرة، بِنَحوٍ لا يتنافى مع التفسير المأثور، ويمكّن المسلِمَ مِن الاستفادة الحيّة مِن هداية القرآن الكريم في زمننا الحاضر. وفيما يأتي بَعض هذه النماذج التفسيريّة التي طرحها الإمام الصدر:

أ. النموذج الأوّل: في الإنفاق

يتوقّف الإمام الصدر عند قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص33.

 

64


44

المعادُ أُفقُنا الواسع

ٱللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾[1] لِيوضّح لنا كيفيّة الاستفادة المعاصرة مِن هذه الآية، فَيقول: «يقول أكثر المفسّرين، إنّ جزاء الإنفاق يُوفّى إلى المنفِق يوم القيامة، حيث يَجِد الإنسان جَزاء عَمله من دون ظُلمٍ أو حرمانٍ أو سَهوٍ في الحساب، وهذا معنى قرآنيّ صحيح يَنسجم مع آيات قرآنيّة أخرى. ويمكن تفسيرها بصورة أخرى على ضوء علومنا وتجاربنا الاجتماعيّة، فنقول: الإنفاق إنعاش للعائلات الفقيرة والفئات التي لا تملك وسائل كافية للحياة الكريمة، فَهو يؤدّي إلى تأمين هذه الحياة لها، وتوفير الصحّة والتغذية والتعليم والتربية لأولادها؛ ما يعني مشاركة عناصر جديدة في بناء المجتمع ورفع مستواه. والمستفيد مِن المجتمع ومستواه الرفيع هو المُنفِقُ والمُنفَقُ عليه مِن دون تفاوت، بل إنّ المُنفِق مُستفيد مِن المجتمع الأرقى -بِحَسَب حياته ونشاطاته الواسعة- أكثر مِن المُنفَق عليه، وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة، وبمادّته قَبل معناه.

أمّا تَركُ الإنفاق فَمَعناه إهمال مجموعات مِن المواطنين وَتَرْكهم يتخبّطون في فَقرهم ومرضهم وجهلهم، فَلا يشاركون في بناء مجتمعهم؛ ما يؤدّي إلى حرمان المجتمع مِن طاقاتهم، وعدم بُلوغه المستوى المطلوب. ثمّ إنّ هذا الوضع يجعلهم مُعرَّضين للأمراض التي لا تقف عند أولاد الفقراء، بل تتجاوزهم إلى المواطنين جميعهم. والأمراض الأخلاقيّة والمسلكيّة الناتجة عن الفقر أيضاً تشمل الجميع.وأكثر مِن ذلك، فَالعقد النفسيّة التي تتكوَّن في مثل هذا الوضع، والمشاعر السلبيّة التي تنبتُ في هذه المجتمعات غير العادلة، تُعرّضها للهزّات والانفجارات التي لا ترحم ولا تعدل، وتهدر مِن ثروات المجتمع بصورة لا واعيةٍ الكثيرَ الكثير.

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 272.

 

65


45

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

والآن نَتلو الآية الكريمة مرّة أخرى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾[1]، فَنَجد معنى آخر لعبارة ﴿يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ﴾ ولعبارة ﴿وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾، وهو معنى لا يخرج عن المدلول الاستعماليّ للكلام، بل ينسجم مع مواضيع أخرى مِن كتاب الله، مِن جملتها الآية الكريمة: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾[2]، إذ إنّ الجملة الثانية نتيجة حتميّة للجملة الأولى، وتأكيدُ أنّ عدم الإنفاق يُعرِّض للهلاك الجماعيّ، لِما يترتّب عليه مِن المشكلات الأخلاقيّة والاجتماعيّة. وإذا عَدَّيْنا ذلك مفهوماً شاملاً للإنفاق، فإنّه يشمل الإنفاق بالنفس أيضاً، كما يؤكّدُ وُرود الآية الكريمة في سياق آيات الجهاد، فَيُصبح المعنى مبدأً إسلاميّاً عامّاً، وهو أنّ المطلوب مِن الإنسان أن يُقدّم مِن ماله وفكره وطاقاته ونفسه في سبيل الله، ومِن سُبُل الله خِدمةُ خَلقه الذين هُم كلّهم عِياله، فَيكون الإنسان -بذلك-قد قدّم بِصورة مُشرّفة لله سبحانه وتعالى،وَهو خير مَن يُعطَى له. أمّا إذا امتنع عن هذا البذل وهذا الشرف، فَقَد تعرّضَ للهلاك، فَيُؤخَذ ماله أو طاقته أو فِكره أو نفسه بِصورة أخرى، وهي صورة انفجار المجتمع أو سيطرة الأعداء أو غير ذلك. فَتَلازُم الإنفاق وعدم الهلاك هُنا مِثل تلازُم الإنفاق وعدم الظُلم هناك»[3].

ب. النموذج الثاني: في الآيات الكونيّة

في هذا النموذج يتوقّف الإمام الصدر عند عدد مِن الآيات القرآنيّة التي تتناول الآيات الكونيّةِ وشيئاً مِن الإعجاز العِلميّ للقرآن، ويُبيّن أبعاد هذه الآيات التربويّة العابرة للعصور، فَيقول: «﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾[4]. لِنَقف عند عبارة ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ ونتذكّر ما

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 272.

[2]  سورة البقرة، الآية 195.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص33 - 34.

[4]  سورة الذاريات، الآية 47.

 

 

66


46

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

يقوله الأدب العربيّ مِن دلالتها على الاستمرار والتجدُّد، مُضافاً إلى التأكيد القاطع، ثمّ نُلاحظ ما وَصل العِلم إليه مِن امتداد العالَم وتَوسُّعه، وتجدُّد كُرات سماويّة بِاستمرار، وتجمُّد الأبخرة السديميّة لخَلْقِ كُرات جديدة. لِنَقف عند هذا المعنى الجديد ونتأمّل، فَنرى انطباق لَفظِ الآية الكريمة تماماً عليه، مِن دون أن نتردّدَ في إمكانيّة قَصْدِ المتكلّم لهذا المعنى، بعد أن صدر الكلام مِن الله تعالى الذي يقول: ﴿وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦ﴾[1]. ولِنَستمرّ في قراءة هذه الآيات المعجزات: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ﴾[2]، فَجمال الصورة يكتمل مع إدراك حركة الأرض التي تجعلها قريبة وشبيهة بالمهد أو بالمهاد. ثمّ تأتي الآية الثالثة: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾[3]؛ شمول الأزواج لكلّ شيء، حتّى الجمادات والنباتات والطاقات، وحتّى الذرّات... هذه الحقيقة الكونيّة التي عَرفها الإنسان مؤخّراً -أي شمول الأزواج لِكلّ شيء- أنسَبُ للآية الكونيّة مِن المعنى الذي كان يفهمه الإنسان المطّلع على الأزواج في الحيوانات وبعض النباتات فَقَط. وَمع وُرود عبارة ﴿لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾، التي هي بمنزلة العِلّة والغاية مِن هذا العرض، والتي تتّضح أكثر بقراءة الآية التي تليها: ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِير مُّبِين﴾[4]، علينا أن نُضيفَ أنّ القرآن الكريم يستعرض هذه الآيات الكونيّة وغيرها لِغايات تربويّة، لا لأغراض عِلميّة؛ فالقرآن كتاب هداية ودين وتربية، وليس كتاباً للفيزياء أو الكيمياء أو علوم الطبيعة.

فالمقصود مِن هذه الآيات وأمثالها الكثيرة، إذاً، دعوةُ الإنسان إلى التدبّر والتأمّل في الكَون وظواهره وغرائبه لِغايات تربويّة، ولِمزيد مِن المعرفة بالله وآثاره في الحياة. وهي، مِن جانب آخر، تضع مسلكاً

 

 


[1]  سورة الزمر، الآية 67.

[2]  سورة الذاريات، الآية 48.

[3]  سورة الذاريات، الآية 49.

[4]  سورة الذاريات، الآية 50.

 

67

 


47

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

صحيحاً أمام الإنسان الذي يتصدّى للعِلم واكتشاف الحقائق الكونيّة؛ ذلك المسلك الذي يجعل كلَّ حقيقة في موضعها، ويعتمد على أنّ هذه المستكشَفات كلمات في كتاب الله الواحد -كتاب الكون- فَيزداد مَعرفةً بالله وخشيةً منه وتواضعاً له، فَلا يَتحوّل إلى طاغية مغرور»[1].

ج. النموذج الثالث: في التفسير المصداقيّ

ثمّة نمطٌ مِن التفسير الوارد في الروايات المتضافرة عن أهل البيت (عليهم السلام) يَصطلح عليه أرباب علوم القرآن بالتفسير المصداقيّ، وغالباً ما يكون تفسيراً بالمصداق الأكمل للمفاهيم القرآنيّة، مع بقاء المفهوم على عمومه الشامل للأفراد الأخرى. هذا النمط مِن التفسير، الذي علّمه أهل البيت (عليهم السلام) لشيعتهم، مِن شأنه أن يَفتح آفاقاً مُتجدِّدة على الدوام للمسلمين في فَهْم القرآن وتَطبيقه في حياتهم المعاصرة، ويُبقيه غضّاً طريّاً مدى الأزمان والأحقاب. ويَصطلح عليه -أيضاً- أهلُ التفسير بالجريِ والانطباق؛ بمعنى أنّ مفاهيم القرآن غير مقتصرة على المصاديق التي كانت في عصر النزول، بل إنّ مفاهيمه تجري وتنطبق على المصاديق الأخرى حتّى يوم القيامة.

ومِن هذا الباب يَضرب لنا الإمام الصدر مثالاً ناصعاً، إذ يقول تعقيباً على الآية الكريمة: ﴿وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ﴾[2]: «في التفسير، القسطاس المستقيم هو عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). وَليس المقصد مِن الآية الكريمة هو عليّ(عليه السلام) فقط، بل نريد أن نفتح أمام المسلمين القارئين للقرآن باباً جديداً للتفكُّر. فَيا أيّها المؤمنون، القرآن كلام الله، لا حدَّ لِعمقه، وله مَعانٍ كثيرة، كلّما تعمّقتَ في القرآن فَهمتَ منه مَعاني أكثر وأشمل وأوسع. فالقِسطاس، مَثلاً، ليسَ الميزان العاديّ فَحَسب، وإنْ كان القسطاس يَشمل الميزان العاديّ، ولكنّه يَشمل غيره. وتوضيح ذلك أنّ الميزان ما يوزن به الشيء؛ فإن كان سُكّراً أو

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص34 - 36.

[2] سورة الشعراء، الآية 182.

 

68

 


48

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

خبزاً فَيوزن بالميزان العاديّ، وإن كان قماشاً فَيُقاس بالأمتار، وإن كان حرارة فَيوزن بميزان الحرارة، وإن كان سرعة سيّارةٍ فَيُقاس بالسرعة، وإن كان كهرباء فميزانها «كونتر» الميزانيّة، وهكذا؛ لِكلّ شيء ميزان. وميزان الإنسان هو عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). فإذا أردتَ أن تعرف هل أنّك موزون، أو خفيف أو ثقيل، أو مُستقيم أو مُنحرف، فَزِنْ نفسك بِعليّ ابن أبي طالب(عليه السلام)، فَهو الذي يقول إنّ أصحابي وجماعتي يُعرَفون بميزتَيْن: المحافظة على أوقات الصلاة، ومواساة إخوانهم المؤمنين. إذاً، ذِكر عليّ(عليه السلام) مِن باب المثل للقِسطاس، وليس مِن باب الحصر.

وهذا الأسلوب اتّبعه أئمّتنا (عليهم السلام) تعميقاً لِفِكر المسلمين، ومحاولةً لإدراك أشياء جديدة من القرآن. لذا، نَجد أنّ الإمامَيْن الباقر والصادق (عليهما السلام)، اللذَيْن كانا يَعيشان وقت التيّارات الفكريّة والعقائديّة والسياسيّة والعلميّة في المجتمع الإسلاميّ، كانا يحاولان دائماً أن يُبيّنا الأحكام والحلول وحلّ الشبهات، ثمّ يقولان إنّ هذا وأشباهه يُعرفون مِن كتاب الله، وهذا واضح في تفاسيرهما بِكثرة.

في باب النعيم: ﴿ثُمَّ لَتُسۡ‍َٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ﴾[1]؛ النعيم: النعمة، وما هي أكمل النعَم وأفضلها في نَصّ القرآن؟ نَفهم مِن الآية الكريمة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينا﴾[2]؛ أتممتُ عليكم نعمتي، إذاً، النعمة التامّة الكاملة وِلاية عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). فَهَل يمكن أن يشملَ النعيمُ الخبزَ واللحمَ والراحةَ والصحّة، ولا يَشمل الهدايةَ والولاية وكمالَ النعمة وتمامَ الدين؟ إذاً، النعيم -بِحَسب التفسير- هو أكمل النعَم، مَشمول بالآية ومدلول مِنها مِن دون تردُّد»[3].

 

 


[1] سورة التكاثر، الآية 8.

[2]  سورة المائدة، الآية 3.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص38 - 39.

 

69


49

الشرور والابتلاءات

القرآن والتطوُّر

يستخلص الإمام الصدر ممّا تقدّم الآليّةَ التي يستطيع معها القرآن أن يُواكب العصور، بما فيها مِن تطوُّرات وتغيُّرات على الصعد المختلفة، ويُوضّح -فيما سننقله عنه- حقيقةً أخرى مهمّة، هي بيان معنى التطوُّر. فكثيراً ما تتناقل الألسن والخطابات الرسميّة والشعبيّة والأكاديميّة هذه الكلمة مِن دون وعيٍ لحقيقة معناها أو إدراكٍ لِمَغزاها. ويشتبه على بَعضهم الأمر، إذ يحصر معنى التطوُّر بما يَشهده العالَم المعاصر والحديث مِن تقدُّم على مستوى التقانة والتكنولوجيا ونتائج الأبحاث التجريبيّة. مِن هنا، يوضّح الإمام الصدر هذا المصطلح في بُعده الإنسانيّ والإسلاميّ المستند إلى الرؤية القرآنيّة، لِيَصل إلى حلّ إشكاليّة مواكبة القرآن للتطوُّر -عن طريق بيان معنى التطوُّر الذي لا يتنافى مع الرجوع إلى القرآن، بل يَنسجم معه غاية الانسجام- هِيَ أنّ القرآن صانع التطوُّر.

يقول الإمام الصدر: «نَصِل إلى أنّ حقائقَ القرآن وتعاليمَه وعلومَه بحارٌ لا تنضب، ونتأكّد مِن أنّ في القرآن توجُّهات غير متناهية تُزوِّد الإنسان المسلِم بِنُظم حياته -إذا أراد تنظيمها- حتّى الخلود، ونَصِل إلى حلّ واضحٍ وشامل لمشكلة التطوّر التي أثرناها في بداية الحديث. فَلْنُفكّر في معنى التطوّر، ونتساءل: ما هو التطوّر؟ إنّ التطوّر ليس دخول عنصر جديد في حياة الإنسان، ولا غياب عنصر عن مسرح الحياة البشريّة، ولكنّه التفاعل المستمرّ بين الإنسان والكون. إنّ الإنسان -مُنذ أن خُلِق- وَقف أمام الموجودات الكونيّة مُتأمّلاً ومُتفكّراً فيها، فَاستكشفَ موجوداً أو طاقة، ثمّ سَيطر على ما استكشفه واستثمره، فَغَيَّر -بذلك- حياته ومحيطه؛ وهذه خطوة في طريق التطوّر الطويل، تتلوها خطوات.

قَرأ الإنسان سطراً مِن كتاب الكون، فَعرف النار وَاستثمرها، فَجعل مِن ليله نهاراً، ومِن بَرده دِفئاً، ومِن نَيِّئِهِ مطبوخاً، ومِن سلاحه وسيلةً

 

70

 

 


50

الشرور والابتلاءات

أمضى، ثمّ استمرّ إلى أن وَصَل إلى معرفة النفط والذَرّة والجاذبيّة وغير ذلك، فَاستثمرها كلّها، فَتغيّر وتَطوّر، وَغيَّر وطَوّر؛ هذا هو فهرس كتاب التطوّر، وتحديد دقيق للحقيقة الأزليّة الأبديّة التي يحياها الإنسان: تفاعلٌ بين الإنسان والكون ليس إلّا، فَلا وجود جديداً، ولا انعدام موجود قديم.

وَإذا وَضعنا عاملاً آخر، هو القرآن، إلى جانب هذَيْن العاملَيْن البَطلَيْن في مسرح الحياة؛ أي الإنسان والكون، وتَذكّرنا ما وَرد في هذا البحث، وَصلنا إلى حلّ المشكلة، وبرزَت بوضوح الصورة الكاملة التي أرادَ الله أن تُرسم على الأرض: إنسان مخلوق وَحَوله موجودات كونيّة بينه وبينها علاقات وارتباطات، يُريد أن يعرف الخطّ الصحيح في حياته وفي ممارسة علاقاته مع الكون ومع بَني نوعه، فَيَجد أمامه الدِين -كتاب الله- يُوجّهه، فَيتفاعل ويَتطوّر، وَيَجد نفسه أمام علاقات جديدة، ثمّ يرجع إلى كتاب الله ويَهتدي بالتعاليم الإلهيّة، وهكذا.

والعوامل الثلاثة تَستمرّ مُقترِنة ومُقارَنة، والقرآن الكريم يُنظّم العلاقات المتطوّرة بين العاملَيْن الآخرَيْن بِصورة متطوّرة، حتّى الخلود. هذه الخطّة الإلهيّة المرسومة للإنسان، تُفصح عنها سورة الرحمن، التي تجعل في الترتيب تعليمَ القرآن قبلَ خَلْقِ الإنسان في قولها: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ﴾[1]، لكي يجدَ الإنسان حياته أمام الكون -من أوّل مَوقف- هادياً وموجّهاً وسبيلاً.

ماذا تطلب الأُمَّة التي عاشت فترة قليلة مع القرآن، ثمّ جمّدته واستعمَلَته بصورة شكليّة، وفي طقوس سطحيّة فقط، ثمّ تطوّرَتْ مع الكون، وخضعَتْ للتطوّر الذي يحصل مِن تفاعل الآخرين مع الكون بمعزل عن القرآن؟ وبِماذا عساها تَستفيد مِن القرآن الذي عزلَتْه عن

 

 


[1] سورة الرحمن، الآيات 1 - 3.

 

 

71


51

الشرور والابتلاءات

مركز القيادة والتوجيه؟ وَنحن الآن، إذا خضَعْنا كُلّيّاً للتطوّر الاجتماعيّ العالَميّ، وَاستسلَمنا مِن دون أن نُطوّر حياتنا ومفاهيمنا عن ديننا ومقاييسنا الإسلاميّة، بِحَسَب الأوضاع الحياتيّة التي حصلَتْ، وكُنَا بِمعزلٍ عن توجيه القرآن الكريم، فَقَد خُنّا أمانَتنا، وذُبْنا، وفَقَدنا كلّ شيء؛ لَيس المطلوب رَفض التطوّر والاستفادة مِن المكاسب الإنسانيّة القائمة، ولكنّ المطلوب ألّا نفقد ذاتيّتنا وأصالتنا، وأن نجعل الإنتاجات البشريّة الحديثة في إطارنا الأصيل، وأن نُزيّنها بمقاييسنا، فنرفض ونختار ونبني مِن جديد أُمّةً أصيلة، بما لِكلمة الأصيل مِن أبعاد فكريّة وتاريخيّة وعَمَليّة.

إنّ القرآن صانع التطوّر، وقد جرّبته البشريّة قروناً عديدة؛ إنّه مُطوِّر. أمّا التطوُّر المفروض مِن الخارج -أي مِن صُنع الآخرين- فإنّه استسلامٌ مرفوض، وليس كمالاً، بل إنّه فناء، وأيّ فناء!»[1].

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص36 - 37.

 

 

72


52

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)
تمهيد

لقد كان التفسير الترتيبيّ نمط التفسير السائد الذي عرفه المسلمون وعلماء التفسير مُنذ الصدر الأوّل حتّى عصور مُتأخّرة، إذ بدأتْ بواكير ما يُعرف بالتفسير الموضوعيّ للقرآن تبرز في المجاميع والموسوعات الحاوية للآثار والأخبار، بِحَسب التصنيف الموضوعيّ، ثمّ تطوَّر بعد الإشباع النسبيّ الذي نعمَتْ به مُصنّفات الفقه الموضوعيّ، لِيَبرز في العصر الحديث التفسير الموضوعيّ للقرآن، وتتطوَّر الدراسات والأبحاث فيه.

والتفسير الترتيبيّ –بعبارةٍ بسيطة- تفسير القرآن الكريم بالترتيب؛ أي بدءاً مِن سورة الفاتحة وانتهاءً بِسورة الناس، أو أَخْذ مَقطع مُعيَّن مِن الآيات، أو سورة مُعيّنة، وتفسير آياتها بالترتيب؛ فيكون المتحكِّم في سَيْر التفسير ترتيب الآيات فَحَسب، بِغضّ النظر عن موضوعاتها.

ومِن المهمّ جدّاً في هذا البحث أن نتوقّف عند نموذج مِن الفكر التفسيريّ الترتيبيّ عند الإمام الصدر، إذ نَجده يتعرّض في محاضرات عديدة له إلى تفسير سورة الرحمن المباركة، وَنكتفي منها بالمقطع الآتي الذي تناوله سماحته بالتفسير:

 

 

74

 

 


53

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ ٣ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ ٤ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان ٥ وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ ٦ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ﴾[1].

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيمُ

التربية بِالحبّ

كما أستاذه المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائيّ g، يتناول الإمام الصدر -بدايةً- المعالم العامّة والمواضيع الأساسيّة المطروحة والغاية المشتركة للسورة القرآنيّة عند البدء بِتفسيرها. فَركّزَ على بيان أنّ الغاية الأساس مِن استعراض النعم الإلهيّة على الإنسان في سورة الرحمن هي استثارة العواطف الجيّاشة، وإيقاظ الحبّ الكامن في نَفس كلّ إنسانٍ تجاه خالقه الكامل المطلق، إذ قال: «مِن هذه الآيات إلى نهاية السورة المباركة، تعميق للمشاعر البشريّة بالنسبة إلى الله الرحمن، واستعراض لِنِعَمِ الله سبحانه وتعالى على عباده في مختلف حقول حياته. تستعرض الآيات هذه النِعَم؛ لا مَنّاً مِنه علينا، فَهو تعالى غنيٌّ عن عباده، ولكنّ الهدف تنمية الحبّ في نَفس الإنسان الذي فُطِرَ على احترام مَن أحسن إليه، وَعلى حُبّه. وهذه صورة مِن صور التربية القرآنيّةِ وخَلْق المعايشة للقلب مع ذِكر الله، تمهيداً لإيجاد الإيمان في نَفس الإنسان. والملاحَظ أنَّ القرآن -في بداية كلّ فَصل مِن فصوله- يَذكر صِفَتَي الرحمانيّة والرحيميّة لله؛ ما يُؤكّد هذه الغاية. واستعراض نِعَم الله تعالى في القرآن، ودَفْع الأذى عن العِباد، وقبول توبتهم، وتأكيد حُبّ الله للإنسان ونُصرته له، كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً. وَممّا نشاهده -أيضاً- الآيات التي تحثّ على حُبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومُوالاته وإطاعته، وعلى احترام وتقديس الملائكة، وعلى إلفات النظر إلى

 

 


[1]  سورة الرحمن، الآيات 1 - 9.

 

75


54

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

كرامة الموجودات بِصُور مختلفة، وعلى احترام المؤمنين بالله، وغير ذلك مِن الآيات؛ ما يُؤكّد -بالنتيجة- هذه الناحية العاطفيّة العظيمة.

ولا بُدَّ مِن إضافة ناحية أخرى، هي الاهتمام القرآنيّ بالدعاء وخَلْق الأمل بالاستجابة، وأنّ الله هو للمضطرّين والمنقطعين والمستضعفين والمتعَبين، وأنّه مع الإنسان في أشدِّ حالات اليأس، كالتي تحصل للغريق أو للعطشان الذي يَظنُّ أنّ السراب في الصحراء ماءً، حتّى إذا ما أتاه ولم يَجد شيئاً وَجَد اللهَ عنده. وَمِن نتائج هذه الناحية تعميق الحبّ والأمل، وتنمية العواطف البشريّة بالنسبة إلى الله. والسبب في هذا الاهتمام القرآنيّ، الذي يجب أن يكون درساً للمربّين جميعاً، هو أنّ العاطفة عُنصر مُتمِّم للتفكُّر، مِن أجل إيجاد الإيمان في النفْس، وإلَّا، فالتفكّر وَحده مِن دون الحبّ أشبه ما يكون بالفيلسوف العجوز الذي يكتفي بالتفكّر ويُتقنه، ولكنّه لا يتمكّن مِن إنجاز أفكاره أبداً.

ونقطة الأساس في هذه التربية، في مرحلتَي التفكُّر والحبّ، وحدةُ الخطّ في أقوى صورة ممكنة وأدقّها. فالاتّجاه العامّ أن يُصبح الإيمان مُتعلّقاً بالله مِن دون أن يكون لأيّ شيء -أو لأيّ شخص- تأثيره في هذا الالتزام. فالذات الإنسانيّة -في أساسها- لله، وإليه تعود، فَعلى الإنسان أن يَضعها في طريق حُبّه الكبير وإيمانه بالله، وأن يحسّ بأنّ السعادة الكبرى تتطلَّب مِنه أن يُذيب ذاته في طريق مَرضاة الله، وأن يَفنيها فيها. وإذا كان القلبُ نبعَ المشاعر في المصطلح القرآنيّ ﴿أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ﴾[1]، فَهو أقرب إلينا مِن قلوبنا.

وبعد اتّخاذ الذات حَجمها الحقيقيّ -والذات هي الصنم الأكبر- وانسحابها مِن مَسرح العبادة، ومِن القيام بِدَور الدافع الأوّل في تحرّكات الإنسان، يتصدَّى القرآن للأرحام والأولاد والأموال، فَيعدّها جميعاً نِعَماً مِن الله، وزينة لحياة الإنسان، ولكنَّها، في الوقت نفسه،

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 24.

 

 

76


55

الإيمان بالغيب والرقابة الإلهيّة

فِتنة واختبار لا يمكن أن تتجاوز الحدود، فَتُصبح الغاية الأصليّة مِن الحركة. ويتصدَّى -أيضاً- للحاكم والمشرّع والوليّ، فَيَضع ذلك كلّه ضِمن إطار الولاء والإطاعة والحكم لله مِن دون انحراف، وإلّا، «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»[1]، كما قال الإمام عليّ(عليه السلام). ويرفض بِشدّةٍ أنواع الشِرك جميعها، وَيعدّها تمزيقاً للإنسان وتفريقاً لطاقاته؛ هذه نبذة عن الأسلوب القرآنيّ حول السلوك التربويّ المتَّبَع لإيجاد الإيمان بالله في نَفْس الإنسان»[2].

الترابط في النظم بين الكون والإنسان

«الترابط الذي نشاهده بين رَفْع السماء ووَضْع الميزان، وبين النهي عن الطغيان في الميزان ووجوب إقامة الوزن بالقسط، يَلفت النظر ويَدعونا إلى التفكّر. إنّ وَضْع الميزان تعبير واضح عن نظام الكون والحساب الدقيق المتحكّم فيه، والقرآن، إذْ يُؤكّد ذلك، يُطالب الإنسان الذي يعيش تحت هذه السماء أن يكون منظَّماً في حياته، عادلاً في سلوكه، دقيقاً في تصرّفاته. هذا الترابط يُوسّع التفكير، ويجعل الإنسان يقف أمام المبادئ العامّة للخَلْق -المبادئ المذكورة في القرآن- لِيَنتقل منها إلى مبادئ عامّة لِسلوكه في حياته. فإذا لاحظ الإنسان أنّ القرآن يؤكّد خَلْق العالم بالحقّ والعدل، وأنّه حَصل في ستّة أيامٍ وفي أجَلٍ مُسمّى، ينتبه إلى أنَّ هذه هي أُسُس الخَلق، فَعليه أن يعيش منسجماً معها، وأن يتحرّك -بحَسَبها- بِالحقّ والعدل، مع تخطيط زمنيّ دقيق في مشاريعه وتحرّكاته كلّها. بل إنّه يجد -مِن هذا المنطلق- مفتاحاً لرؤية عامّة جديدة للكون وللحياة تقوم على أساس إيمانه بالله وصفاته ووحدته، وعلى أساس معرفته بالله وأفعاله، فالكون فِعلُ خالقٍ حيٍّ ومُدركٍ وعالِمٍ وعادل؛ لذا فهو -أي الكون- حيٌّ

 

 


[1]  الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ  c)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، الحكمة 165، ص500.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص57 - 59.

 

 

77


56

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

ومنظّمٌ بصورة دقيقة، ويحكم فيه العدل والعِلم. وهذا يعني ضرورة الانسجام والتحرّك وفاقَ هذه الأُسس، إذا أراد الإنسان النجاح. وهكذا، تَنعكس على الصورة الكونيّة صفات الخالق، ثمّ يتعيَّن الخطّ العريض للحركة في الحياة»[1].

 

الإيمان مصدر القِيَم

مِن أهمّ الأسئلة التي تُقلِق الباحثين في عالَمنا المعاصرالسؤال عن مستند القِيَم ومرجعيّتها، وما هو الذي يُبرّر ويُشَرعِن وجود قِيَم في حياة الإنسان. إنّ جوابَ المؤمنين وأهل الديانات حاضر عن هذا التساؤل، أمّا المادّيّون والملحدون، فَيَحارون في ذلك جواباً. ويستغلّ الإمام الصدر الفرصة أثناء تفسيره سورة الرحمن، لِيَستخرج إجابة لطيفة عن هذا التساؤل الفكريّ المشروع، عن طريق توضيح التلازم بين الكون المنظَّم والإيمان بخالقه، الذي هو مَصدر القيم، فيقول: «مِن أهمّ نقاط هذا الترابط الالتزامُ بالقِيَم في الحياة، وهي لا تنفصل عن الإيمان بالله، بل لا يمكن الإيمان بالقِيَم المطلقة مِن دون الإيمان بالله، ينبوع القِيَم وخالقها وحافظها. ولإيضاح هذا التلازم نَقول: عندما نفترض حدوث الخلق بالصُدَف، أو مِن خالِقٍ غير كامل، لا يمكن الاعتراف إلَّا بوجود الوقائع المادّيّة الخارجيّة، فيتحرّك الإنسان عند ذلك بِدافع ذاتيّ محض، ويلتقي في المصالح مع الآخرين، على تفاوت درجات المشاركة في المصالح. لا يُمكن افتراض مُثُلٍ أوسع مِن الموجودات الخارجيّة. والحقيقة أنّ تَصَوّر قوانين عامّة في الكون، مع إنكار الخالق له، أمر في منتهى الصعوبة، فَكيف بالمُثُل والقِيَم السامية المطلقة التي لا يمكن قبولها ولا تصوّرها في مثل هذه الحالة؟

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص61 - 62.

 

78


57

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

ومبدأ الالتزام بالقِيَم في مقام التطبيق العمليّ، هو الحجر الأساس لِبناء المجتمع المؤمن الذي يعتمد العلاقات القائمة بين الأفراد وبين الأجيال على أساس العمل الرساليّ، الذي هو كمال للفرد وامتداد لوجوده. أمّا العمل الصادر عن غير المؤمن، فهو محدود وميّت، كالبضاعة. وهنا يحصل الانفصام بين أبناء المجتمع الواحد، إذ تتحوَّل الصِّلات الاجتماعيّة جميعها إلى شركات لا وحدات، وَبين الأجيال التي لا يرتبط بعضها بِبعض إلَّا بِعلاقات محدودة ومادّيّة لا ترتبط بالعاطفة ولا بالتفكير؛ هكذا يحصل الانفصال الكلّيّ، وتنشأ الصعوبات التي تُلاقي الإنسانيّةُ طلائعَها في هذه الأوقات.

ومجمل القول: إنَّ الإيمان بالله ينعكس انعكاساً عميقاً على عمل الإنسان، جملةً وتفصيلاً، وليس مجرّد إحساس داخليّ غير مؤثّر على عمله»[1].

ضرورة الانسجام بين الكون والإنسان

«القرآن يُريد إعطاء صورة جديدة -أو سَمِّها بالمصطلح المعاصر صورةً ثوريّة- للرؤية الكونيّة الإنسانيّة، لكي يعيش الإنسان،عن طريق هذه الرؤية الكونيّة، كَفرد أو كمجتمع، مُنسجماً مع الكون وَمع المجتمع وَمع نفسه.

إنّ الله سبحانه وتعالى رفع السماء ووضع الميزان، أيّ ميزان هذا؟ نِعْمَ الميزان. كلّ شيءٍ تحت السماء وفي الوجود موزون ودقيق وله حساب، لكلّ شيءٍ قَدَر ووزن. رَسم القرآن الكريم أمام الإنسان صورة موزونة دقيقة، لكي يُضيف بعد قوله ﴿أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ ٨ وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ﴾[2]: أيُّها الإنسان الذي تعيش تحت السماء التي وُضِعَ فيها الميزان، لا شكَّ في أنَّك تهتمّ بالميزان وتمشي

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص62.

[2]  سورة الرحمن، الآيتان 8 - 9.

 

79


58

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

في الخطّ الإلهيّ، وإلّا فأنت غريب عن هذا الكون، وسوف تفشل في حياتك إذا كنتَ ماشياً في تيّار غير تيّار الكون؛ ﴿مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَل مُّسَمّى﴾[1]، فالكون قائم على أساس الحقّ، وَالإنسان الذي يريد أن يكون منسجماً مع كونه، ناجحاً في حياته، عليه أن يسلك سبيل الحقّ. وَالكون قائم على أساس الأجل المسمّى؛ ما هو موجود في الكون كلّه قائمٌ على أساس المدّة المحدَّدة، وَإذا أراد الإنسان أن ينجح في عمله فَعليه أن يَضع لِنفسه خطّة زمنيّة، فَلا مجال للارتجال.

ولأنَّ الكون خُلِق في ستّة أيّام؛ أي في ستّة عصور أو عقود أو دهور، ولم يُخلَق دفعة واحدة، مع العِلم أنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول للشيء كُن فيكون، ولكنّ خَلق العالم في أجَلٍ محدَّد، لكي يعيش الإنسان في حياته وفي حركاته وفي خططه وفي أهدافه مع الأجل المُسمّى؛ فَلا يحاول، في لحظة واحدة، أن يتثقّف أو أن يغتني أو أن يكسب جاهاً أو تجربة، بل عليه أن يضع وقتاً لتحصيل المال أو الثقافة أو الجاه أو الصحّة أو المرأة أو السيّارة، وعليه أن يُحدّد وقتاً محدَّداً حتّى لا يُبتلى بالتسويف والتأخير.

هذه المعاني والمفاهيم التربويّة؛ أي الصورة الكونيّة، هي مِن أجل أن يكون الإنسان ملتزماً معها في حياته وتصرّفاته، وإلّا، فَهو شخص غير منسجم مع البيئة التي يعيش فيها، وعليه، فهو إنسان فاشل»[2].

ضرورة العمل المنظّم

«الإيمان بالله والإيمان بِالرسول ليس بروتوكولاً؛ أي إنَّ أحدنا يُؤمن بالله ويُصلّي، وَيؤمن بالرسول وانتهى،كضريبة ندفعها إلى الله. الإيمان يُغيّر رؤية الإنسان وسلوكه وتَحرّكه.

 

 


[1]  سورة الأحقاف، الآية 3.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص69 - 70.

 

 

80


59

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

عندما نقرأ في الآية القرآنيّة أنّ السماء والأرض منظّمتان دقيقتان، فَالمفروض أن نُدرك أنّ العمل غير المنظَّم حادثة ظاهرة وليسَت عمليّة خالدة؛ الشيء غير المنظّم ليس مِن جنس العالَم.

تصوَّر، إنّ للمناخ الاستوائيّ أو المناخ القطبيّ أو البلاد الحارّة أو البلاد الباردة نباتات خاصّة؛ يُزرع التفاح، مثلاً، ويُنتَج في الجبل، إذ ليس بإمكانك أن تزرعه في جِوار البحر، لأنّ التفاح ليسَت شجراً ساحليّاً، -والعكس صحيح- إلّا إذا بَنَيتَ الغرف التي تعطيها درجة مِن الحرارة أو درجة مِن الرطوبة، فَتعطي المناخ الملائم. وَالحيوانات تختلف بين المناطق الاستوائيّة والمناطق الباردة.

في هذا العالَم، الشيء غير المنظّم، الشيء المعتمد على الباطل، الشيء المعتمد على الظُلم والفوضى والدجل... يسقط؛ لا تصلح هذه الأمور لِسنة وسنتين وعشرين ومئة... في هذا العالَم، يجب على أيّ شيء يُريد البقاء أن يكون على صورة الله ومثاله؛ أي صفات الله. من الممكن أن يستخدم أحدهم الدجل ويتقدّم، أن يكون فَوضويّاً ويتقدّم، وَلكن إلى متى؟ ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَان ٢٦ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ﴾[1].

بِكلمة مختصرة: إنّ الذي يريد الخلود، الذي يريد أن يكون عمله مِن جنس هذا العالَم، الذي يريد أن يكون ناجحاً في هذا العالم، عليه -مِن بداية الطريق- أن يختار أمراً منسجماً مع هذا الكون؛ ﴿وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ﴾[2]. نحن نقول هذا، حتّى أنتم، في عملكم، تكونون مُنظّمين ضِمن الميزان. لذا، يقول عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لأبي ذرّ: «لا تستوحشوا في طريق الهدى لِقِلّة أهله»[3]؛ إذا وَجد الإنسان في طريق الهدى غربةً يجب ألّا يستوحش، لأنّ الكون كلّه مع الإنسان الذي يمشي في طريق الهدى.

 

 


[1]  سورة الرحمن، الآيتان 26 - 27.

[2]  سورة الرحمن، الآيتان 7 - 8.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص319، الخطبة 201.

 

81


60

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

عندما نقرأ في الآية القرآنيّة أنّ السماء والأرض منظّمتان دقيقتان، فَالمفروض أن نُدرك أنّ العمل غير المنظَّم حادثة ظاهرة وليسَت عمليّة خالدة؛ الشيء غير المنظّم ليس مِن جنس العالَم.

تصوَّر، إنّ للمناخ الاستوائيّ أو المناخ القطبيّ أو البلاد الحارّة أو البلاد الباردة نباتات خاصّة؛ يُزرع التفاح، مثلاً، ويُنتَج في الجبل، إذ ليس بإمكانك أن تزرعه في جِوار البحر، لأنّ التفاح ليسَت شجراً ساحليّاً، -والعكس صحيح- إلّا إذا بَنَيتَ الغرف التي تعطيها درجة مِن الحرارة أو درجة مِن الرطوبة، فَتعطي المناخ الملائم. وَالحيوانات تختلف بين المناطق الاستوائيّة والمناطق الباردة.

في هذا العالَم، الشيء غير المنظّم، الشيء المعتمد على الباطل، الشيء المعتمد على الظُلم والفوضى والدجل... يسقط؛ لا تصلح هذه الأمور لِسنة وسنتين وعشرين ومئة... في هذا العالَم، يجب على أيّ شيء يُريد البقاء أن يكون على صورة الله ومثاله؛ أي صفات الله. من الممكن أن يستخدم أحدهم الدجل ويتقدّم، أن يكون فَوضويّاً ويتقدّم، وَلكن إلى متى؟ ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَان ٢٦ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ﴾[1].

بِكلمة مختصرة: إنّ الذي يريد الخلود، الذي يريد أن يكون عمله مِن جنس هذا العالَم، الذي يريد أن يكون ناجحاً في هذا العالم، عليه -مِن بداية الطريق- أن يختار أمراً منسجماً مع هذا الكون؛ ﴿وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِي ٱلۡمِيزَانِ﴾[2]. نحن نقول هذا، حتّى أنتم، في عملكم، تكونون مُنظّمين ضِمن الميزان. لذا، يقول عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لأبي ذرّ: «لا تستوحشوا في طريق الهدى لِقِلّة أهله»[3]؛ إذا وَجد الإنسان في طريق الهدى غربةً يجب ألّا يستوحش، لأنّ الكون كلّه مع الإنسان الذي يمشي في طريق الهدى.

 

 


[1]  سورة الرحمن، الآيتان 26 - 27.

[2]  سورة الرحمن، الآيتان 7 - 8.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص319، الخطبة 201.

 

81


61

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

إذاً، علينا أن ننظر إلى الإيمان والعقيدة دائماً بِمنظار حياتيّ سلوكيّ، لا بِمنظار تقسيميّ؛ أي إنّنا مُسلمون غيركم، نحن شيعة، أنتم غيرهم، وَهُم غيرهم، وثمّة ناس مُنقسمون، (طيّب) لِماذا؟ ما الفائدة مِن هذه التقسيمات؟

إنّ هذا الإيمان وهذه الرؤية الكونيّة وهذه النظرة، تُقدّم لنا سلوكاً وطريقاً في العمل والاختيار. القرآن، عندما يقول إنّ العالَم خُلق في ستّة أيّام، يؤكّد أنّ أيّ عملٍ يريد أن ينجح، يجب أن يعتمد على أساس التوقيت، فَالعمل مِن دون وقت لا (يمشي)[1] ، والعمل مع الوقت غير المحدَّد لا (يمشي)»[2].

 


[1]  كلمة عامّيّة بمعنى: ينجح أو يصحّ.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص71 - 72.

 

82


62

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)
تمهيد

يُعَدّ التفسير الموضوعيّ اليوم مِن أهمّ أنماط تفسير القرآن ومناهجه، ويَلقى رواجاً قَلَّ نظيره، بَعد عصور متمادية مَرّتْ كان التفسير الترتيبيّ فيها سيّد الساحة. وقد ساهم التفسير الموضوعيّ في تطوّر الفكر الإسلاميّ، والكشف عن وجوه إعجاز القرآن ودقّته وانسجامه، ومَكّن المفسّرين مِن تقديم أطروحة القرآن الكاملة التي يقدّمها في كلّ مجال مِن مجالات الحياة، ورؤيته حول مواضيع مختلفة تعدّ مصيريّة بالنسبة إلى الإنسان.

والتفسير الموضوعيّ -بِبساطة- هو أن يجمع المفسّر الآيات المتعلّقة بموضوع مُعيّن، ثمّ يُفسّرها ويجمع معطياتها أو مخرجاتها، لِيَخرج برؤية قرآنيّة متكاملة حول هذا الموضوع. فَالمفسّر -هنا- يقوم بدورٍ إيجابيّ،فَيذهب بِأسئلته لِيَطرحها على القرآن ويجد الحلّ لها، بِخلاف المفسّر الترتيبيّ الذي لا ينطلق في تفسيره مِن أسئلة وإشكاليّات مُسبقة، بل ينتظر ما يمليه عليه ترتيب الآيات مِن مواضيع لِيُفسّرها؛ وهذا قد يُشتّت الرؤية القرآنيّة حول الموضوع، ويجعلها متناثرة هُنا وهُناك.

ومَن مِثلُ الإمام الصدر في مجال تطوير الفكر الإسلاميّ لِيَنسجم مع تطوّرات الحياة المعاصرة؟ لذا، نجده كثيراً ما يستفيد مِن هذا المنهج

 

 

84


63

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

في معالجة قضايا الفكر والمجتمع الإسلاميّ. فكان مِن المناسب أن نعرض بعض إسهامات الإمام الصدر في مجال التفسير الموضوعيّ، مِنها تَعرُّضه في بعض كلماته ومحاضراته لِمَوضوع «الإنفاق» في القرآن الكريم.

أشرف أنواع الإنفاق

قال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِيم ١٩٢ وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاص فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٩٤ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[1]؛ «تشتمل الآيات المباركة على مجموعة مِن الأحكام التي تَصون كيان الأمّة وتحفظ شرف الإنسان وكرامته وكرامة مؤسّساته الإنسانيّة التي وُجدت مِن أجله:

تبرير القتال وجعله كالدفاع، ووجوب عدم الشروع فيه إلّا إذا كان الشروع مِن العدوّ.

احترام الأماكن المقدّسة إلّا عندما يقوم العدوّ عبرها بِضَرب الإنسان، وتجنّب الفتنة وعدم هتك حُرمات الله -كالشهر الحرام- إلّا إذا حصل الاعتداء فيه على الإنسان، فَعَليه أن يدافع عن نفسه.

يؤكّد مجموع هذه الأحكام أنّ الكرامة الحقيقيّة هي للإنسان، وأنّ الشهر الحرام والبيت الحرام والنفس المحرّمة حُفِظَتْ وتُحترم مِن

 


[1]  سورة البقرة، الآيات 190 - 195.

 

85


64

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

أجل كرامة الإنسان، حتّى إذا اعْتُديَ على كرامته، يبقى هو المفضّل، وهو الأساس في الدفاع عن النفس. وثمّة أحكام كثيرة تُستفاد مِن هذه الآية، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾[1]؛ يُسَنّ الحقّ للمعتدى عليه، ولكنّه يُسمح له بالعفو إذا لم يُؤدِّ إلى طغيان الظالم والركون إلى الذين ظَلموا.

هذه الأحكام العظيمة في بداية هذه الآية، ذكرتُها تمهيداً لتفسير هذه الآية المباركة التي كَثُر البحث فيها: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾. مِن الغريب أنّ بعض الباحثين، عندما يُسأل عن الدخول في الحرب والجهاد، يعدّه إلقاء للنفس في التهلكة؛ هذا التفسير في منتهى الغرابة، في حين أنّ الآية نزلتْ ضِمن آيات الجهاد والدفاع عن النفس. ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾؛ الإنفاق أمر عامّ، ويشمل -بصورة خاصّة في هذا المقام- الإنفاق بالنفس، وإعطاء النفس في سبيل الله أشرف أنواع الإنفاق. فإذا أنفقنا مِن مالنا أو جاهنا أو تجربتنا أو عِلمنا فَقَد أنفقنا بَعض ما عندنا، أمّا إذا أنفقنا نَفسنا فَقَد أنفقنا كلّ شيء. لذا، جَعلَت الأحكامُ الشرعيّة الموتَ في سبيل الله سبباً لغفران الذنوب كافّة، فالذي يُقتل في سبيل الله يُغفر له ذنبه، ما تقدّم منه وما تأخّر. فالإنفاق في صورته الكاملة هو الإنفاق بالنفس في سبيل الله، لكنّ الكلمة تشتمل على أنواع أخرى مِن الإنفاق. ﴿ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾؛ هذه الجملة بمنزلة النتيجة للجملة الأولى، عندما نرى أنّ الإنفاق في سبيل الله سبب لعدم إلقاء النفس في التهلكة، لأنّنا، إذا امتنعنا عن الجهاد، فسوف نمكّن الظالم والظالمين مِن السيطرة علينا، ونقع في هلاك دائم. أمّا إذا أنفقنا أنفسنا في سبيل الله أبعدْنا عن أنفسنا خطر التهلكة، لأننا دخلْنا بِالشهادة حياةً أبديّة، وأبعدْنا عن أُمّتنا الموت الأبديّ والهلاك الأبديّ والذلّ الأبديّ. إنّ معنى هذه الجملة نقيض ما يفهمه بعض الباحثين،

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 194.

 

 

86


65

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

إذ تؤكّد أنّ الدخول في الجهاد وخوض غمار الموت في سبيل الله هو البُعد عن التهلكة، لا الجلوس في البيت والامتناع عن الدفاع عن النفس وعن الأُمّة. وهذا يربط بين الجملتَيْن ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ و﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ ربطاً وثيقاً لا مجال للشكّ فيه. ويربط -أيضاً- بين هذه الآية وبين آيات القتال التي تعتمد جميعها على أساس العدل ودفع الاعتداء؛ لذا تُختَم بهذه القاعدة الرائعة: ﴿وَأَحۡسِنُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾. هكذا نجد أنّ الدفاع مِن صميم الإحسان، ومِن صميم ردّ الاعتداء، ومِن صميم التقوى، ومِن صميم الإنفاق في سبيل الله.

نسأل الله أن ننفق أنفسنا وكلّ ما نملك في سبيله، حتّى نُبعد عن أنفسنا خطر الذلّ، وعن أُمّتنا خطر الموت البطيء. وَنُحَيّي أعزّاءنا وشبابنا الذين ينفقون أنفسهم في سبيل الله، فيُبعدون عن أنفسهم وعنّا خطر التهلكة؛ إنّهم مِن المحسنين، والله يحبّ المحسنين»[1].

الخير المُتَبادل في الإنفاق

قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡر فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ ٢٧٠ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡر لَّكُمۡ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّ‍َٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِير ٢٧١ ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر فَلِأَنفُسِكُمۡ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾[2]؛ «تؤكّد الآية الكريمة ضرورة الإنفاق بِغَير النفس، كالإنفاق بالمال أو الجاه أو التجربة أو الصحّة أو ما يملكه الإنسان كلّه؛ ﴿وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾. فَإذا أنفقنا في سبيل الله مِمّا نملك، فَقَد أبعدْنا عن أنفسنا وعن مجتمعنا خطر التهلكة. فالعقد النفسيّة المتراكمة في الطبقات

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص137 - 139.

[2] سورة البقرة، الآيات 270 - 272.

 

 

87


66

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

الكادحة النابعة مِن الظُلم الاجتماعيّ تؤدّي إلى الأحقاد والتذمّر، وَإلى الثورة والانفجار مِن الداخل لاحقاً، فيتعرّض المجتمع والإنسان الذي امتنع عن الإحسان إلى التهلكة. والتهلكة -في هذا الفهم- هي التهلكة الاجتماعيّة، فالمجتمعات تتعقّد وتتناقض وتنفجر وتحصل الثورات والصعوبات نتيجة الظلم الاجتماعيّ والتفاوت الطبقيّ واحتكار بعض أبناء المجتمع خيرات المجتمع أو اغتصابهم حقوق الآخرين. فالانفجار في المجتمع يعود إلى مشاعر القَلَق والعقد التي تنمو في نفوس الطبقات الكادحة المحرومة نتيجةَ الوضع الاجتماعيّ المسيطر على المجتمع. فإذا شعرَت الطبقات المرفّهة بوجود هذا الفارق، وبضرورة المساعدة والإحسان والإنفاق الفرديّ أو الجماعيّ، أو وضعَتْ نظاماً يُؤمّن الحياة السعيدة للطبقات الكادحة، رَفعَتْ -بذلك- مستوى هذه الطبقات، وتمكّنتْ مِن المشاركة في تحمُّل المسؤوليّة، ومِن رَفْع مستوى الحياة الاجتماعيّة وتعميم مشاعر الخير التي يتمتّع بها المحسِن والمحسَن إليه على حدّ سواء؛ وهذا مفهوم قوله ­تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر فَلِأَنفُسِكُمۡ﴾ و﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ﴾. أمّا إذا امتنع المحسِن عن هذا الإحسان نَمَت العقد في نفوس الكادحين، وَأُبعِدوا عن المشاركة في رفع مستوى حياة المجتمع، فَيُشارك -بذلك- في إبقاء مستوى المجتمع هابطاً، وَيخسر هو قبل أن يخسر الآخرون. إذاً، إذا ابتعد المحسِن عن هذا الإحسان، لَقيَ العقد والأمراض النفسيّة والمادّيّة التي تحصل نتيجة الضعف والكدح والفقر، والتي لا تقتصر على أولاد الفقراء وَحَسْب، بل تسري إلى أبناء المجتمع جميعهم، فيعود الضرر على الجميع. وَالإحسان إلى المتعبين، بالصورة الفرديّة أو بالصورة الجماعيّة، له نتائج في هذه الحياة، إلى جانب نتائجه في الحياة الآخرة. فالإنفاق، على ضوء معلوماتنا الاجتماعيّة، وعلى ضوء تطوّر العلم الاجتماعيّ، إنعاش للعائلات الفقيرة والفئات الكادحة التي لا تملك وسائل كافية للحياة الكريمة، وهو يؤدّي إلى تأمين هذه الحياة لها، وتوفير الصحّة

 

88


67

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

والتغذية والتعليم والتربية لأولادها. وكنتيجة لهذا الإنفاق، نُشارك ونُشرِك عناصر جديدة في بناء مجتمعاتنا وفي رفع مستواها، وَعندما يرتفع مستوى المجتمع يستفيد مِنه كلّ إنسان؛ المُنفِق والمُنفَق عليه من دون تفاوت. حتّى إنّ المُنفِق يستفيد مِن المجتمع الأرقى -بِحَسَب حياته ونشاطاته الواسعة- أكثر مِن المُنفَق عليه؛ فالإنفاق عادَ بخيره على المُنفِق -هُنا- في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وبمادّته قبل معناه. وهذا هو المفهوم والنتيجة مِن الآية الكريمة: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾. ونحن نعتقد، كما يؤكّد لنا القرآن الكريم، أنّ جزاء الله خير وأبقى، وما عند الله أوفى»[1].

الإنفاق والجهد الجماعيّ

«مِن أنواع الإنفاقِ الإنفاقُ بالعِلم أو التجربة أو الخبرة، ولِهذا الإنفاق أثره الاجتماعيّ الكبير. كما أنّ المطلوب مِن الإنسان المؤمن بالله ألّا يكون أنانيّاً يُريد الشيء لنفسه، فَما هوَ له -في الحقيقة- أمانة الله في يَده. عِندما وُلدنا لم نَكن نملك شيئاً، فَقَدّم لنا ربّنا هذه النعم كلّها، وقد استفدْنا مِنها؛ كالظروف الاجتماعيّة المختلفة، والوراثة، والتجربة، ووجود المشترين، والأمن، والخبرة، والأوضاع العامّة. وَقد شارك في ثروتنا وَخِبرتنا وَعَمَلنا وثقافتنا المجتمع بأبنائه جميعهم، والماضي بالذين حاولوا وعَمِلوا وقَدّموا تجارب للآخرين، وَشاركَ المستقبل -أيضاً- بِالإمكانات لِطموحنا إليه، وبِمخطّطاتنا لتأمين حياة أولادنا والأجيال القادمة، وهكذا. فَنَجد أنّ ما نملكه كلّه، مِن مال أو جاه، إنّما هو ناتج عن الجهد الجماعيّ الحاضر والماضي والمستقبل. وما نملكه مِن الخبرة والثقافة والعِلم، إنّما تعلّمناه عن طريق الكتب والأساتذة والمدارس التي أمَّنها لنا الآخرون والآباء الماضون؛ لذا نجد أنّنا مَدينون لِعَمل الآخرين. فإذا أردْنا أن نحتكر ما نملك لأنفسنا فقد احتكرنا ما ليس مِن حقّنا؛ لذا يجب علينا أن ننفق مِن علمنا ومِن

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص141 - 143.

 

89


68

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

خبرتنا ومِن خدماتنا، كما يجب أن ننفق مِن أموالنا. والقرآن الكريم يريد أن يجعل الإنسان مؤمناً، يعدّ نفسه مُلكاً للأمّة، فَيُعبِّر عن ذلك في الآية: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ﴾[1]، فَما نملكه استخلاف مِن الله، وَعلينا أن ننفقه.

ومِن جانب آخر، إنّ تقديم النفس والمال والجاه خير لنا وسعادة لِدُنيانا وأُخرانا. ويظهر هذا المفهوم بارزاً في واجبات الإنسان الصائم. فَمِن أوجب الواجبات زكاة الفِطرة، إذ وَرَد في الأحاديث الشريفة أنّ زكاة الفِطرة تَصون حياة الإنسان. فَعندما يريد الإسلام أن يجعل سعادة الإنسان مُكتملة يوم العيد، يَفرض عليه أن يُقدّم صدقة -أي زكاة الفطرة- بمقدار كلّ فَرد مِن أفراد عائلته للفقراء، حتّى يُشرك الآخرين في فرحة العيد، وحتّى يُتِمّ تجارب رمضان مِن التحسُّس بِآلام الآخرين. وَهُنا، نَصِل إلى نقطة أساسيّة، هي أنّ الصدقات وزكاة الفطرة في أيّام العيد سَلامةٌ للفرد وسلامةٌ للأمّة، وأنّ امتناع الإنسان عن هذه الصدقة تعريض الفرد للموت، وتعريض الأمّة للموت.

إذاً، عندما يرى الإنسان كثيراً مِن أبناء هذه الأمّة واقفين في صفوف القتال، يُنفقون أنفسهم وأموالهم وحياتهم وشبابهم للموت في سبيل الدفاع عن الأُمّة، لا بُدّ من أن يَشعر بأنّ عليه أن يُنفق. عَلى المسلمين -بِقَدر المستطاع، وبمقدار ما يتمكّنوا- أن يساهموا بأموالهم وطاقاتهم، والمعدّات والأمتعة والأغذية والأدوية، وخدماتهم واختصاصاتهم جميعها للمقاتلين، فَهُم، بإنفاقهم للنفس، يحفظون لأمّتهم -ولنا بِصورة خاصّة- الخروج مِن التهلكة. أمّا إذا تخلّفنا عنهم -لا سمح الله- فَهذا معناه إبقاء الأمّة في حالة الذلّ، وفي حالة سيطرة الظالمين، وفي حالة عدم تملّكها لتقرير مصيرها.

 

 


[1]  سورة الحديد، الآية 7.

 

90


69

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

أيّها المؤمنون، اجعلوا العيد خالداً لأمّتكم عن طريق دعم المقاتلين، واجعلوا عائلات المقاتلين في أعياد، واجعلوا العيد عيداً إنسانيّاً لتحرير الإنسان العربيّ والإنسان المسلِم مِن الظلم والطغيان والتخلّف وعدم التحسُّس بآلام الآخرين؛ هكذا يكون العيد قد حلّ علينا بِصورة كاملة ومُفرحة، وعند ذلك نَفرح ونحمد الله»[1].

التكامل بالإنفاق

قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡء فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيم ٩٢ ۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٩٣ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩٤ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾[2]؛ «البِرّ: كلّ كمال مادّيّ أو معنويّ، روحيّ أو جسميّ، فِكريّ أو عاطفيّ. تنفقوا: البَذل ممّا نحبّ مِن مال أو جاه أو تجربة أو تنازل عن الراحة أو عن الأنانيّة، وأمثال ذلك.

فَفي سبيل الكمال، لا يمكن أن يبلغ الإنسان كماله -أيّ كمال كان- إلّا إذا تنازل أو أعطى بعض ما يحبّ. أمّا إذا أراد أن يتمسّك بِما يحبّ كلّه، فَيحتفظ براحته وماله وجاهه ومكانه، فَلا يمكن أن يبلغ البِرّ نهائيّاً، ولا يمكن أن يخطو خطوة نحو الكمال إطلاقاً؛ فمثلاً، يحتاج الفلّاح، عندما يريد أن يحصد كمّيّات كبيرة مِن القمح، أن يتنازل عن كمّيّة أقلّ مِنها بِدرجات، فَيَدفن هذه الكمّيّة تحت الأرض، آمِلاً أن تتحوّل هذه الكمّيّة التي دُفنت تحت الأرض، والتي ضحّى بها، وتنازل عنها، بعد موتها وفنائها إلى كمّيّات كبيرة مِن القمح. فَقَد بلغ الفلاح البِرّ -أي مئات مِن الكيلوات مِن القمح- بعد أن أنفق قسماً قليلاً ممّا يحبّ مِنه. وَكذلك

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص145 - 147.

[2] سورة آل عمران، الآيات 92 - 95.

 

91


70

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

الذي يشتغل بِالأعمال والتجارة، لا يمكن أن يبلغ الأرباحَ إذا لم يغامر. والطالب، عندما يريد أن يبلغ درجة مِن العِلم، وكمالاً مِن الثقافة، عليه أن يسهر الليل، وأن يتعب، وأن يسافر، وأن يضغط نفسه لكي يحتفظ بِبَعض ما يدرس، فَيحفظه ويفكّر فيه حتّى يتثقّف ويكتمل. إذاً، أكان على صعيد عِلميّ، تجاريّ، أو زراعيّ، لا بُدّ للإنسان مِن أن يضحّي لكي يَصِل إلى مرحلة كاملة. ومِثل ذلك في حياته الاجتماعيّة والفكريّة والعاطفيّة، فإنّه يَشعر بحرّيّات، لكنّه عندما يريد أن يُشكّل أُسرة، أَن يُحوّل الفرد إلى جماعة صغيرة، أن يُنجب، أن يعيش حياةً أَسعد، لا بُدّ مِن أن يتنازل عن بعض حرّيّاته، وأن يلتزم بِبَعض القيود، وَأن ينفق ممّا يحبّ. وفي المسائل المعنويّة أيضاً، عندما يريد الإنسان أن يكتمل، وأن يتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، لا بدّ مِن أن يتنازل عن أنانيّاته، وأن يحطّم قيوده الخاصّة، وأن يجمّد أصنامه. فَالإنسان يرتبط في حياته العاديّة بأشياء ممّا يحبّ، فإذا أراد أن يكتمل، فلا بدّ مِن أن يقطع صلته بهذه الأمور واحداً تِلوَ الآخر، حتّى يتّسع ويكتمل ويبلغ الكمال؛ أي القُرب مِن الله سبحانه وتعالى. وهذا أساس دينيّ ثابت، لكي لا يبالغ الإنسان في هذا المبدأ، فَيَتنازل ويُضحّي ويتقشّف أكثر مِن اللازم.

ثمّ تأتي الآيات بعدها قائلة: ﴿كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٩٣ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩٤ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفاۖ﴾[1]، وهي تُشير إلى أنّ للتنازل حدوداً. فلا يجوز أن يتنازل الإنسان عمّا يحبّ كلّه لمجرّد أنّ تَرْك ما يحبّ يؤدّي إلى الكمال، بل تَرْك ما يجب أن يتركه في سبيل ما هو أوسع وأشمل؛ ترك المحرّم، ترك المكروه، ترك المحذور، هذا هو المطلوب، لا التصوّف الذي يقول بِتَرْك ما يرغب به الإنسان كلّه، ولو كان مُباحاً حلالاً.

 


[1]  سورة آل عمران، الآيات 93 - 95.

 

92


71

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

إنّ المبدأ الإسلاميّ يقول:

إنّ الله يحبّ أن يرى آثار نعمته على عبده.
إنّ لله مباحات يحبّ أن يأخذ بها العبد.

وَعلى هذا الأساس، يحظر على العبد أن يحجر على نفسه بعض المحلّلات. فَكما أنّ ترك المحرّمات مطلوب، فكذلك ممارسة المباح.وَقد بيّنَت هذه الآيات الحدود؛ الاعتدال والعدالة مَبدآن إسلاميّان لا ينفصلان، ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾[1]»[2].

 


[1] سورة الإسراء، الآية 29.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص149 - 151.

 

93


72

المقدّمة

الأنبياء (عليهم السلام) وقصصهم في القرآن
تمهيد

تحتلّ قصص الأنبياء (عليهم السلام)، وما جرى بينهم وبين أقوامهم، مساحةً وازنة مِن القرآن الكريم. فَما دام ارتباط الإنسان بتاريخه ورؤيته لهذا التاريخ مِن الأمور الأساسيّة التي تُسهم في بناء حاضره ومستقبله، ثمّ تكامله ووصوله إلى غايات خلقه النهائيّة، فَلا بُدّ للقرآن الكريم مِن أن يقول كلمته في مِضمار التاريخ، ويسجّل ذكريات أبطال اللعبة التاريخيّة مِن وجهة نظره الحقّة والصادقة. فالتاريخ، بالنسبة إلى القرآن الكريم، تاريخ استخلاف الإنسان في هذه الأرض؛ تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء الإلهيّين مِن جهة، وتاريخ أعدائهم ومُناوِئيهم المستكبرين مِن جهة أخرى.

ولم يَفُتْ إمامَنا الصدر التعرّضُ لقصص الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن في كلماته ومحاضراته. وسنستعرض في هذا البحث شذرات مِن مقارباته الفكريّة لِبَعض قصصهم (عليهم السلام) في القرآن.

وظيفة الأنبياء (عليهم السلام)

قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣ وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ وَلَوۡلَا كَلِمَة سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ

 

94 


73

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

إلى أَجَل مُّسَمّى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّ مِّنۡهُ مُرِيب﴾[1].

«إنّ الله تعالى -خالق الكون- على عِلمٍ بتفاصيل الموجودات ووظائفها وآثارها وتطوّراتها عبر التاريخ، وهو خالق الإنسان ويعرف أحاسيسه وآلامه وآماله وحاجاته وجوانب وجوده وكفاءاته؛ ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾[2]. لذا، يتمكّن اللهُ مِن إعطاء توجيهات عامّة تُنظّم علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، في سبيل خَلْق المجتمع الفاضل، وَمع الموجودات التي يتفاعل معها ويستهلكها ويُعايشها. وهذه التوجيهات التي تسير بالإنسان عبر هذه العلاقات نحو الكمال المطلق في جوانب وجوده كلّها هي رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، كونها ترسم خطوطاً عريضة في حياته مِن جانب، وتَدفعه إلى التحرّك في مجالات العمل والعِلم والتفكّر مِن جانب آخر،فَيكتمل بِجهده وسعيه، ولا يهدر الوقت الكثير في التفتيش عن السلوك الأفضل الذي يحتاج ترسيمه إلى الإحاطة الشاملة بالكون والحياة.

هذه الرسالة الإلهيّة بِطبيعتها، وبِطبيعة وحدة الله ووحدة الإنسان ووحدة الخِلْق، هي -أيضاً- واحدة، يحملها أنبياء الله (عليهم السلام)، كلٌّ بِحَسب ظروفه ووعيِ أمّته ونضوج الفكر البشريّ في أيّامه، ولكلٍّ منهم بِحَسَب الرأي القرآنيّ شرعة ومنهاج؛ ﴿لِكُلّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَة وَمِنۡهَاجا﴾[3]. إنّ جوهر الرسالات واحد، والهدف مِنها واحد، والتفاصيل ضروريّة في مختلف شؤون العقيدة والعمل، فَلا يَصِل الإنسان إلى الهدف إلّا عن طريق هذه التفاصيل التي وُضِعَتْ مِن أجل الظروف المعاشة لِكلِّ أُمّة»[4].

 

 


[1] سورة الشورى، الآيتان 13 - 14.

[2] سورة الأعلى، الآيتان 2 - 3.

[3]  سورة المائدة، الآية 48.

[4] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص83 - 84.

 

95


74

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

جبهة أنبياء الله (عليهم السلام)

«إنّ جبهة أنبياء الله (عليهم السلام) واحدة، وكلٌّ منهم يُصَدّق ما جاء به سابقه، ويُبَشّر بالذي يأتي مِن بعده. وهي -أي الجبهة- تدعو إلى تطبيق إرادة الله مِن أجل كمال البشر وإسعادهم في مختلف جوانب وجودهم، ولكلِّ أفراد بَني البشر مِن دون تمييز. كما أنّها تدعو -بصورة خاصّة- إلى حماية المستضعفين الذين ظُلِموا، واغتُصِبت حقوقهم، فَاستُعمِروا أو استُثمِروا أو خُدِعوا أو انجرفوا مع مشاعرهم، وهؤلاء هُم جنود الأنبياء (عليهم السلام) وأعوانهم الذين كانوا -على مرّ التاريخ- يُثيرون الظالمين وحفيظة الطغاة، فَكانَ يُؤخَذ على الأنبياء (عليهم السلام) أنّ مَن حولهم هُم أراذل الناس.

وفي مُقابل هذه الجبهة يَقف الطغاة والأقوياء المستعمرون أو المستثمرون الذين كانوا يخدعون الناس ويُضلّلونهم. وهي جبهة مجهّزة بالأسلحة جميعها الملائمة لهم. ولقد كان سلاح الظالمين والطغاة -دائماً- مُتفوّقاً في بادئ الأمر، ولكنّ الإيمان والانسجام مع واقع الكون، والتضحيات التي تعتمد على وحدة الموت والحياة، وعدّ الشهادة حياة سعيدة مُتمّمة لهذه الحياة، وغيرها، كلّها عوامل كانت نتيجتها انتصار الحقّ ودَحض الباطل، وبالتعبير القرآنيّ: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِق﴾[1]. وتكتمل صفوف الأنبياء (عليهم السلام) مِن بَعدهم بِالأولياء والشهداء والصدّيقين والصالحين مِن الناس. والجبهتان ممتدّتان مِن الأزل إلى الأبد.

وَما الخطاب الذي يُوجّهه الزائر إلى سيّد الشهداء، أبي عبد الله الحسين بن عليّ(عليه السلام): «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك وارث إسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا وارث موسى

 

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 18.

 

 

96


75

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله»[1] إلّا رمزٌ لِهذا الإحساس، مِن أجل إحيائه في نفوس المستضعفين في الأرض. والمعارك التي تدور الآن بين أمّتنا وبين «إسرائيل» امتداد للمعارك الأزليّة التي جَرَت وتجري؛ لذا فإنّ السعي والمشاركة فيها، والجهاد في صفوفها، والاستشهاد لأجلها، إحياءٌ لجبهة الحقّ التي تأسّسَت منذ أوّل الخلائق واستمرّت حتّى الآن، وستبقى مُستمرّة إلى النهاية»[2].

الأنبياء (عليهم السلام) مسؤولون

يتناول الإمام الصدر تفسير بعض الآيات مِن سورة الأنبياء، فَيقول: «مِن الملاحَظ أنّ هذه السورة التي خصّصَت باسم الأنبياء (عليهم السلام) -وهي عَرض موجز لنشاطاتهم- تَبدأ بأمر المسؤوليّة والمحاسبة الإلهيّة؛ ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَة مُّعۡرِضُونَ﴾[3]. فَحتّى الأنبياء (عليهم السلام) الذين تتحدّث عنهم هذه السورة المباركة مَسؤولون، إذ ليس ثمّة أحد خارج المسؤوليّة، لأنّ المسؤوليّة دقيقة جدّاً، وكثيرة هي الآيات الواردة في هذه السورة التي تتحدّث عنها.

نقرأ في هذه السورة المباركة الآية المعجزة المدوّية: ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡس شَيۡ‍ٔاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّة مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ﴾[4]. إذاً، حتّى الأنبياء (عليهم السلام) ضمن المسؤوليّة الإلهيّة، فَالمسؤوليّة تعادل الأمانة الإلهيّة التي أعطاها الله لأيّ إنسان، مِن عِلم أو مال أو مَعرفة أو إمكانات.

 

 


[1] راجع: ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمّد القمّيّ، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيّوميّ، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران- قمّ، 1417هـ، ط1، ص517.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص84 - 85.

[3] سورة الأنبياء، الآية 1.

[4] سورة الأنبياء، الآية 47.

 

97


76

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

والملاحظ، لتأكيد المسؤوليّة وإيضاح صورة القيادة، أنّ القرآن الكريم في هذه السورة يحاول أن يؤكّد إنسانيّة الأنبياء (عليهم السلام)،إذ إنّهم ليسوا آلهة، ولا أنصاف آلهة، بل بشر مسؤولون بَذلوا جهدهم وقاموا بمسؤوليّاتهم واتّقوا الله، وَوصلوا إلى مقام النبوّة، فَكان قلبُهم مُنطلَقاً ومرآةً صافية لِقبول وحي الله سبحانه وتعالى. وَمِن أجل هذا المبدأ يؤكّد القرآن: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧ وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ﴾[1]؛ يا محمّد (صلى الله عليه وآله)، كلّ مَن أُرسل مِن قَبلك كان مِن الناس، مِن البشر، وَليس خارج الصفات البشريّة، بل له جسد- يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فالنبيّ إنسان ككلّ إنسان؛ في حياته وولادته وحاجاته وضعفه وقوّته ومشاعره وأحاسيسه، ومع ذلك، بَلغ مقام القيادة والنبوّة؛ هذا هو مفهوم تكريس القيادات ورَفْض الزعامات. فَلا يمكن للإنسان الذي لا يمارس مسؤوليّته، ولا يقوم بِعَمله، ولا يعدّ نفسه أحدَ الناس، أن يكون قائداً لأمّة أو نبيّاً لِمِلّة، لأنّه إنسان يبشِّر بالدعوة والرسالة بِلسانه وعمله؛ إنّه أحد الناس، أَنْعمَ الله عليه بالتقوى والعِصمة، فَبَلغ درجة كاملة مِن الإنسانيّة، واختاره الله للوحي. إذاً، النبيّ -أو كلّ قائد- مسؤول، لأنّه واعٍ، ولأنّ لديه أمانة الله، وهو إنسان، فَلا يمكن لِأَتباعه أن يقولوا إنّنا لو كنّا مِثل النبيّ لَعَمِلنا، كلّا؛ إنّهم مثله تماماً، فَإذا عَمِل النبيّ فَعَليهم أن يعملوا مِن دون اعتذار.

إذاً، يحاول القرآن الكريم، في أماكن عديدة، أن يؤكّدَ إنسانيّة الأنبياء (عليهم السلام)، فَهو يَحوي مواضيع عديدة تلوم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتؤدّبه وتوبّخه وتذكّره وتنصحه وتطلب منه قضايا وأموراً تربويّة مُتعدّدة. والنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) ينقل هذه المعاتبات والتوبيخات والتربيات جميعها للناس، تأكيداً لِإنسانيّته. كما يُؤكّد القرآن الكريم أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) كان

 

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 8.

 

 

98


77

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

يتيماً فآواه الله، فَعَليه أن يتحمّل مسؤوليّته تجاه الأيتام لأنّه شعر بمرارة اليُتم، وكان جاهلاً فَعلّمه الله، فَعَليه أن يحسّ بِآلام الناس وآلام الجُهّال، وكان فقيراً فَأَغناه الله، فَعَليه أن يحسّ بآلام الفقراء؛ وهذا -أيضاً- جُزء مِن مفهوم القيادة، فالقائد هو الذي يحسّ بِآلام الناس. ولَو افترضنا أنّ قائداً للناس لم يكُن فقيراً أو جاهلاً أو يتيماً، فَالقرآن الكريم يُربّيه -أيضاً- بِسورة أخرى، ويُذكّره بأنّه لم يَكن يتيماً، ولكنْ ألَا يخشى أن يكون أولاده أيتاماً؟ فيقول تعالى: ﴿وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّة ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلا سَدِيدًا﴾[1]؛ يُحاول القرآن الكريم أن يُبيّن للإنسان، وأن يثير مشاعره، عندما يفكّر في يُتم أولاده، فَيَجنح ويحسّ بآلام الأيتام والمعذّبين. إنّ هذه الآية تَضَع أُسس القيادة والتربية الصحيحة، وتَنفي عَدم مسؤوليّة القادة، وتؤكّد أنّهم كانوا بشراً، وبِجهدهم وسَعيهم وَصلوا إلى درجة استحقّوا فيها وَحي الله. نَسأل الله أن نكونَ واعين لمسؤوليّاتنا، بِحَسَب إمكاناتنا»[2].

نموذج مِن قصص الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن؛ قصّة شعيب(عليه السلام)

قال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبا قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَة مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا ذَٰلِكُمۡ خَيۡر لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٨٥ وَلَا تَقۡعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰط تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجا وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٨٦ وَإِن كَانَ طَآئِفَة مِّنكُمۡ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَآئِفَة لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ فَٱصۡبِرُواْ حَتَّىٰ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَيۡنَنَا وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨٧ ۞قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ

 

 


[1] سورة النساء، الآية 9.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص87 - 89.

 

99


78

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ ٨٨ قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًا عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ ٨٩ وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَئِنِ ٱتَّبَعۡتُمۡ شُعَيۡبًا إِنَّكُمۡ إِذا لَّخَٰسِرُونَ ٩٠ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٩١ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٩٢ فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡۖ فَكَيۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡم كَٰفِرِينَ﴾[1]؛ «تنقل هذه الآيات الحوار الذي جرى بين نبيّ الله شعيب (عليه السلام) وبين قومه وَالملأ منهم. ومِن الطبيعيّ أن يهتمّ القرآن -بِوَصفه كتاب دين- بالتربية؛ فَعِندما ينقل حادثة أو حواراً أو واقعة،فإنّه لا يَقصد التسلية،بل مفهوم الحكاية الشامل ونتائجها. لذا، يجب أن تُدرَس بمفهوم أوسعَ مِن الاعتبارات الخاصّة بها، وتُطبّق على حياتنا الاجتماعيّة»[2].

دروس ومفاهيم مِن قصّة النبيّ شعيب(عليه السلام) في القرآن

1. الدعوة إلى توحيد الله والتنكُّر لآلهة الأرض

«شُعيب(عليه السلام)-كما يؤكّد القرآن الكريم- كان نبيّاً أُرسِل إلى مَدْيَن، فَدَعا إلى الله، وقال: ﴿يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ﴾؛ الإله، في المصطلح القرآنيّ، هو قُدس الأقداس، الدافع الأصيل للإنسان، كما يُفهم مِن نَصِّ آية أخرى تقول: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡم﴾[3]؛ أن يتّخذ إلهه هَواه لا يعني أن يُصلّي مِن أجل هَواه، بل إنّ هواه وأنانيّته هما اللذان يحرّكانه ويُسبّبان الأسباب لنشاطاته. إذاً، ينطلق الإنسان -دائماً- مِن مبدأ أصيل، هُو -في المصطلح القرآنيّ-

 

 


[1] سورة الأعراف، الآيات 85 - 93.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص92.

[3]  سورة الجاثية، الآية 23.

 

100


79

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

إلـه؛ لذا يَطلب القرآن الكريم أن يكون اللهُ -الواجب الذي يجمع صفات الكمال جميعها- قُدسَ أقداسنا. فَعندما يكون الله وحده دافعنا، فَهو دافعنا نحو الكمال ومُوحِّدنا في الوقت نفسه.

طلبَ النبيّ شعيب(عليه السلام) مِن الناس التنكُّر لآلهة الأرض؛ لا أنْ يتجاهلوا وجود عواطف ومشاعر وحاجات، بل ألّا يعدّونها آلهة، وَإنّما وسائل لِمُعالجة الحاجات. فَالمال والجاه والعمل خيرٌ ونِعمة، ولكنّها ليستْ آلهة تُعبد مِن دون الله. إذاً، طَلبَ مِن الناس التنكّر لآلهة الأرض؛ أي للظالِمين والطُغاة وآلهة المال والشهوات»[1].

2. الدعوة إلى العدالة

الدعوة الأخرى التي جاء بها النبيّ شعيب(عليه السلام) هي: ﴿فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ﴾. فَهو(عليه السلام) «كان يؤكّد أهمّيّة العدالة في الكَيْل والميزان، وعدم بَخْس الناس أشياءهم. فَالمشكلة أنَّ الإنسان يجعل لكلّ شخصٍ كيلاً وميزاناً؛ يكيل ويُوزنُ عَمَل نفسه بميزان، ويَكيل عمل أصدقائه وأرحامه وجماعته بميزان آخر، وَعَمَل الآخرين مِن المحايدين أو الخصوم بِميزان آخر. لذا، يختلّ التوازن، ويَنحاز الإنسان، ويبتعد عن الحقّ. والحقّ أنّه يجب عليه أن يَكيل كلّ شيء بميزان واحد؛ فالحقّ واحد، والعدل واحد، لا يختلف عند صديق أو عَدوّ، عند الذات وعند الآخرين»[2].

3. ردّة فِعل قومه

«ما كان مَصيرُ شعيبٍ(عليه السلام) عندما دعا الناس إلى عبادة الله وَالوفاء بِالكيل وعدم الإفساد في الأرض؟ كان القوم مُطمئنّين لهذا الطلب، وكانوا مَسرورين بهذه الدعوة، ولكنّ المنتفعين المستأثرين وَجَدوا فيها خطراً على مصالحهم ومنافعهم، لأنّهم يَصطادون في الماء

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص92.

[2] المصدر نفسه، ج3، ص92 - 93.

 

101


80

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

العَكِر، وَيَستفيدون مِن الانحياز وَعدم تطبيق القوانين على الجميع، فَيربحون مِن التفاوت بين الناس عبر تَصنيفهم. لذا،كانت عبادة الله الواحد، ووحدة الكيل والميزان، تَضرّان المحتكرين المستأثرين المستعمرين المسيطرين على الناس، أو بِحَسب تعبير القرآن، المستضعِفين للناس. لقد وَجَد هؤلاء أنّ مصالحهم في خطر، فَكيف يعالجون مُشكلة شعيب(عليه السلام)؟ قالوا له: ﴿لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾؛ استعانوا بِتَمسُّك الإنسان بِما وَرِثه مِن السابقين، مع العِلم أنّ النبيّ شعيباً(عليه السلام) كان يَدعو إلى خير الناس، ولكنّهم لم يريدوا ذلك، بل أرادوا التمسُّك بِما هو موجود مِن قبل، حتّى يَستمرّوا في استثمارهم وطغيانهم بين الناس»[1].

4. ختام الصراع

«ردّ النبيّ شعيب(عليه السلام) على هذا الاحتجاج بِالاستمرار في الدعوة، وطلب مِن الله بِقوله: ﴿رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ﴾ أن يساعده على فَتْح أَعيُن القوم، لكي يَعرفوا أنّ دعوته لِمَصلحتهم، وأنّ دعوة النُخبة المستأثرة المستفيدة مِن الوضع الحاضر ليسَتْ لِمَصلحة الناس. فَأصرّ المستأثرون مُؤكّدين: ﴿وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَئِنِ ٱتَّبَعۡتُمۡ شُعَيۡبًا إِنَّكُمۡ إِذا لَّخَٰسِرُونَ﴾، ولكنّ الخاسر الحقيقيّ هُم الملأ لا الناس، فالناس كانوا يربحون مِن دعوة النبيّ شعيب(عليه السلام). وفي النتيجة، يُضيف الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ﴾؛ إذ إنّه مِن الطبيعيّ أنّه إذا لم يسمع الناس دعوة المصلحين الذين يَدقّون ناقوس الخطر، ويؤكّدون أخطار الاستمرار في تجاهل مَصالح الناس، والسكوت عن مَصالح المستأثرين، سينفجر المجتمع؛ هذا ما حَصل لِقَوم شُعيب (عليه السلام).

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص93.

 

102


81

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

مِن هذه الحادثة، نَجِد أنّ أمام كلِّ مُصلِح هذا الحوار المضني والضغوط بِصورة أو بِأخرى، ولا علاج إلّا أن يفتَح الله بينه وبين قومه بِالحقّ، فَيَفتح عيونهم وعقولهم لكي يكتشفوا مصالحهم ومنافعهم؛ عندها يربحون، ويخسر الملأ المستأثرون المعركةَ. وَعلى هذا الأساس، تأتي كلّ دعوة لخدمة الناس، لا الملأ الذين تصطدم بمصالحهم، فيُدافعون عنها ويَسكت الناس. والحقيقة أنّ الخير في وقوف الناس مع الدعوة الصالحة؛ وهي الحقيقة التي يُعبّر عنها القرآن الكريم بِصورة أو بأخرى، والتي تتلخّص في نهاية هذه الآيات بِالقول المعجز: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[1]، فَفي الإيمان والتقوى فَتْح لِبَركات معنويّة، مِن عِلمٍ وتقوى وراحة وطمأنينة. وبركات الأرض؛ أي خير في المال، ونشاط في التجارة، واتّساع في الأمن، وازدهار في البلد. ولكن عندما يُكذّبون: ﴿وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[2]. فالله سبحانه وتعالى لا يعذّب الناس انتقاماً، بل إنّ أعمال الناس هي التي تُؤدّي إلى النتائج السيّئة التي يُعانونَها. فَما الحالات المزعجة والأوضاع الاجتماعيّة المُتدهورة إلّا نتيجة عَمل الناس، كما يؤكّد القرآن الكريم في آيات مُتعدّدة وفي مواضِع عديدة؛ أي إنّ مسؤوليّة تَدهوُر الأوضاع تقع على الملأ المستأثر، وعلى الشعب أو القوم الساكت الذي لا يفتح عَينه لِمَعرفة حقيقة مصالحه»[3].

نموذج آخر مِن قصص الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن؛ النبيّ موسى مع الخضر (عليهما السلام)

قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبۡدا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَة مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡما ٦٥ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدا ٦٦ قَالَ إِنَّكَ

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 96.

[2] سورة الأعراف، الآية 96.

[3] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص93 - 94.

 

103


82

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

مِن هذه الحادثة، نَجِد أنّ أمام كلِّ مُصلِح هذا الحوار المضني والضغوط بِصورة أو بِأخرى، ولا علاج إلّا أن يفتَح الله بينه وبين قومه بِالحقّ، فَيَفتح عيونهم وعقولهم لكي يكتشفوا مصالحهم ومنافعهم؛ عندها يربحون، ويخسر الملأ المستأثرون المعركةَ. وَعلى هذا الأساس، تأتي كلّ دعوة لخدمة الناس، لا الملأ الذين تصطدم بمصالحهم، فيُدافعون عنها ويَسكت الناس. والحقيقة أنّ الخير في وقوف الناس مع الدعوة الصالحة؛ وهي الحقيقة التي يُعبّر عنها القرآن الكريم بِصورة أو بأخرى، والتي تتلخّص في نهاية هذه الآيات بِالقول المعجز: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[1]، فَفي الإيمان والتقوى فَتْح لِبَركات معنويّة، مِن عِلمٍ وتقوى وراحة وطمأنينة. وبركات الأرض؛ أي خير في المال، ونشاط في التجارة، واتّساع في الأمن، وازدهار في البلد. ولكن عندما يُكذّبون: ﴿وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[2]. فالله سبحانه وتعالى لا يعذّب الناس انتقاماً، بل إنّ أعمال الناس هي التي تُؤدّي إلى النتائج السيّئة التي يُعانونَها. فَما الحالات المزعجة والأوضاع الاجتماعيّة المُتدهورة إلّا نتيجة عَمل الناس، كما يؤكّد القرآن الكريم في آيات مُتعدّدة وفي مواضِع عديدة؛ أي إنّ مسؤوليّة تَدهوُر الأوضاع تقع على الملأ المستأثر، وعلى الشعب أو القوم الساكت الذي لا يفتح عَينه لِمَعرفة حقيقة مصالحه»[3].

نموذج آخر مِن قصص الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن؛ النبيّ موسى مع الخضر (عليهما السلام)

قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبۡدا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَة مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡما ٦٥ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدا ٦٦ قَالَ إِنَّكَ

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 96.

[2] سورة الأعراف، الآية 96.

[3] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص93 - 94.

 

103


82

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرا ٦٧ وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرا ٦٨ قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرا ٦٩ قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡ‍َٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرا ٧٠ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡ‍ًٔا إِمۡرا ٧١ قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرا ٧٢ قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرا ٧٣ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰما فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡس لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡ‍ٔا نُّكۡرا ٧٤ ۞قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرا ٧٥ قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرا ٧٦ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرا ٧٧ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٧٨ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِك يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبا ٧٩ وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنا وَكُفۡرا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرا مِّنۡهُ زَكَوٰة وَأَقۡرَبَ رُحۡما ٨١ وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنز لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَة مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِي ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرا﴾[1].

«إنّ هذه الآيات المباركة قِسم مِن واقعة يَشرحها القرآن الكريم بالتفصيل المناسب؛ لِما في القصّة مِن عِبَر ونتائج تربويّة حياتيّة للإنسان المؤمن. ففي هذه الحادثة يلتقي النبيّ موسى(عليه السلام) بِرجلٍ صالح، تُسمّيه الأحاديثُ النبيَّ الخضر(عليه السلام)، وتُعبِّر عنه اللغات الأوروبيّة بِالقِدّيس «جورج»،وَيطلب مِنه أن يُعلّمه ممّا عَلّمه الله. فَهذا العبد الصالح، احتراماً لِرَغبة موسى(عليه السلام) في التعلّم، وتحذيراً لِنفسه بِالقبول والإطاعة، قالَ له: ﴿إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرا ٦٧ وَكَيۡفَ

 

 


[1] سورة الكهف، الآيات 65 - 82.

 

104


83

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرا﴾. لكنّ النبيّ موسى(عليه السلام) المتعطّش إلى العِلم والمعرفة، قال: ﴿سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرا﴾. فَذَهبا معاً.

وَجد موسى(عليه السلام) في طريقه تَصرّفات غريبة مِنَ الرجل:

أ. كانا في السفينة، فَخَرقَها العبدُ الصالح، فاعترض موسى(عليه السلام) على هذا التصرّف الغريب.

ب. وَجدا غلاماً فَقَتله الرجلُ الصالح، ولَمّا احتجّ موسى(عليه السلام) -بِحَسَب المقاييس المتوفّرة لديه- بِشدّة، رفض العبد الصالحُ احتجاجه، وطَلب مِنه الصبرَ والاستمرار.

ج. وَصَلا قريةً رَفضَ أهلُها أن يُضيّفوهما، ولكنّ الرجل الصالح، على الرغم مِن هذا الموقف، وجد جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه. عندها، نفدَ صبرُ موسى(عليه السلام) وَاعترض عليه للمرّة الثالثة.

قال العبد الصالح لِموسى(عليه السلام) إنّ لهذه التصرّفات أسباباً، وإنّه لا يستطيع أن يسلك هذا السبيل طالَما أنّه في هذا المستوى مِنَ المعرفة. ثمّ شَرح له الحوادث الثلاث: ﴿أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِك يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبا﴾؛ كان العيبُ صيانةً للسفينة التي كانت تتعرّض لِمَطامع الملك. ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنا وَكُفۡرا﴾؛ وكان الغلام منحرفاً، وَيُشكِّل اعتداءً خطِراً -وَعلى حدّ التعبير القرآنيّ: طغياناً وكفراً- على والديه المؤمنَيْن. ﴿وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنز لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَة مِّن رَّبِّكَ﴾. ثمّ أضاف أنّ ما عمله كلّه في هذه المدّة لَم يكن مِن عند نفسه؛ ﴿وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِي ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرا﴾»[1].

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص96 - 97.

 

105

 


84

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

دروس ومفاهيم مِن قصّة النبيّ موسى مع الخضر (عليهما السلام)

«تعطي هذه الحادثة توجيهات مُعيّنة ومواقف واضحة، هي:

أوّلاً: إنّ النبيّ موسى(عليه السلام)، على الرغم ممّا أَنعمَ الله عليه مِن العِلم، وَجدَ فَوقه عَالِماً وعارفاً؛ ما يعني أنّ الإنسان يحتاج إلى التعلّم، مهما بَلغ مِنَ العِلم. فَالإنسان، عندما يتقدّم في العِلم يَشعر بجهلٍ أكثر؛ لذا مِن ميزات العِلمِ التواضع، والمغرور لَيس بِعالِمٍ لأنّه يجهل. فَقَد ربّى النبيَّ موسى(عليه السلام) ربُّه، فَكان متواضعاً، وعندما وجد رجلاً أفضل منه تمسّك به وطلب منه المعرفة.

ثانياً: كان تصرّفُ النبيّ موسى(عليه السلام) مُنسجماً مع القواعد والأسس التي كان مكلّفاً بها، والتي لا يمكن له أن يتجاوزها، وهي واجبات للناس في مستوى مُعيَّن مِنَ المعرفة. فَكان -مثلاً- يستغرب خَرْقَ السفينة، استناداً إلى المبدأ العامّ الذي يقول إنّ السفينة مُلك للناس، ولا يجوز لِأحدٍ أن يخرقها. ولكنّ العَبد الصالح -الذي يمدحه القرآن- يمضي في تصرّفاته، لأنّه مُطّلعٌ على مسائل أخرى، وبمقدار اطّلاعه كانت مسؤوليّته، فَكان يتصرّف على ضوئها. وَهذا الموقف يتكرّر في قضيّة قَتْل الغلام وبِناء الجدار»[1].

مبدأ المسؤوليّة على قَدر المعرفة

«إنّ هذا الحوار يُؤكّد أنّ مسؤوليّة الإنسان تكون بِمِقدار وعيِهِ ومعرفته؛ وهذا مبدأ اجتماعيّ أساسيّ يجب أن يُتَّبَع. فالإنسان لا يُكَلَّف بِحَسَب مركزه أو انتمائه أو مستواه الاجتماعيّ، بل بِحَسَب وَعيِه، لأنّ ما يملكه كلّه أمانة مِن الله لديه، فإذا كان واعياً فَعَليه أن يَضَع نِعمة الله -أي إمكاناته المتوفّرة لديه- في خدمة الله؛ أي في خِدمة الإنسان.

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص97.

 

107


85

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون


تمهيد

اهتمّ المفسّرون والمختصّون في علوم القرآن اهتماماً خاصّاً بالسُوَر القصيرة التي يتركّز وجودها في أواخر القرآن الكريم، خاصّةً أنّها تُعدّ الأكثر انتشاراً -قراءةً وحِفظاً- بين الناس، لِأجل قصرها وسهولة حفظها والحاجة إليها في أداء المناسك والعبادات. فأفرد بعضهم تصنيفات خاصّة بِتفسير السُوَر القصيرة، لِتكون سهلة التناول للعامّة أو المبلّغين الذين يريدون شرح مفاهيمها للناس. كما أنّ تفسير هذه السُوَر ممّا لا غنى عنه للخطيب البارع والمبلّغ الناجح الذي يريد أن يوصل مفاهيم القرآن ورسالاته إلى الناس.

لذا، أَولى إمامُنا الصدر تفسيرَ السُوَر القصيرة اهتماماً مِن على منبره الرائد، بِبيانه العذب والجذّاب. وَنُضيء في هذا البحث على جانب مِن فِكره في هذا المجال، عن طريق استعراض كلماته وخطاباته في تفسير إحدى السُوَر القصيرة في القرآن، هي سورة الماعون التي لا يخفى حضور البُعد الاجتماعيّ التكافليّ فيها؛ البُعد الذي دأب الإمام الصدر -طوال حياته- على إبرازه، ودَفَع حياته ثمناً لإحيائه.

 

109


86

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣ فَوَيۡل لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦ وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾[1].

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيمُ

المفاد العامّ مِن السورة

جرياً على عادة كِبار المفسّرين مِن علمائنا، يبدأ الإمام الصدر بِبيان ملامح السورة العامّة، والرسالة الأساس التي تريد أن توصلها إلى الناس، لِتُنير دربهم نحو الكمال؛ الرسالة الأساس التي تُوظّف السورة المباركة أمثلتها وتوصيفاتها ومفرداتها كلّها في سبيل إنضاجها وتوضيحها وتقريبها إلى فَهم القارئ أو السامع مِن جهة، ودَفْعه نحو العَمل على أساسها مِن جهة أخرى.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الصدر: «الإيمان الإسلاميّ ليس إيماناً تجريديّاً مخصّصاً لِقَلْب الإنسان وشعوره؛ فَهو ليس في القَلب فقط، بحيث يَربط الإنسان بِخالق الكون بِشكلٍ وثيق مِن دون أن يتجلّى في عمله وفي ذاته وفي ما حوله مِن الناس وَالأشياء. ثمّة صِلةٌ وثيقة بين الإيمان بِالله وبين العمل لخدمة الناس وتحمُّل مسؤوليّة سعادتهم، فَعَن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «مَن أصبح لا يهتمّ بِأمور المسلمين فَلَيسَ بِمسلم»[2] [3]. إذاً، «في هذه السورة المباركة، نَجدُ مبدأً أساسيّاً مِن مبادئ الإسلام عميقاً في حياة الإنسان، يَكشف عن الترابط بين الإيمان


 


[1] سورة الماعون، الآيات 1 - 7.

[2] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج‏2، ص163.

[3] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص289.

 

 

109


87

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

وبين الاهتمام بالشؤون العامّة الاجتماعيّة. وفي ذلك ردٌّ واضح على الذين يَظنّون أنّ الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً متديّناً مِن غير أن يتجاوز دينُه وإيمانُه علاقتَه بِرَبّه لِيَصِل إلى علاقته بِالمجتمع؛ هذا المفهوم يَكشفه القرآن الكريم في هذه السورة بِصورةٍ واضحة»[1].

 

تفسير الآيات الكريمة

﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾؛ «ترسم هذه الآية صورة جديدة عن الكفر والتكذيب بالدِين، تختلف عن الصورة التي عهدناها. فالمعروف أنّ المكذّب بالدِين هو الذي يُكذّبُ النبيّ(عليه السلام) ويتنكّر للعقيدة والإيمان.فَهل ترغب في أن ترى الذين يُكذِّبون بالدِين ويُخَطّئون رُسل الله (عليهم السلام) ويَكفرون بِأديان الله ورسالاته؟ إذا أردتَ أن ترى هذا الموجود فَانظُر...»[2].

﴿فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾؛ أي «يزجر اليتيم، يَردع اليتيم، (يزعب) اليتيم في اصطلاحنا[3]، يتجاهل حقّ اليتيم. إنّ زَجْر اليتيم وعدم الاهتمام بِطعام المسكين يؤدّي إلى التكذيب بالدِين. فَعَن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «ما آمن بالله واليوم الآخر مَن بات شبعاناً وجاره جائع»[4]»[5]. «هذا مِصداق واضح للّذي يُكذّب بالدِين؛ الذي يَطرد اليتيم ويَحرمه حقّه. هذا تعبير عن الترابط العميق بين الدِين وبين الاهتمام بِشؤون الأيتام، بين الإيمان وبين الاهتمام بِشؤون المتعَبين، فَلا يمكن أن يبقى الإنسان متديّناً ويَطرد اليتيم»[6].

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص295.

[2] المصدر نفسه، ج3، ص295 - 296.

[3] أي باللهجة الشعبيّة العامّيّة.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏74، ص191.

[5] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص290.

[6] المصدر نفسه، ج3، ص296.

 

110


88

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ﴾؛ أي «لا يؤسّس، ولا يُهيّئ، ولا يُوفّر، ولا يمهّد لِإطعام المساكين. إذاً، رعاية اليتيم والمسكين مِن شروط الدِين وأُسس قَبول الإيمان، ومَن يتنكّر لهذا الواجب العمليّ فَقَد أنكرَ الله وكذّبَ بدينه؛ هذه حجّة دامغة ليس فَوقها تعبير، ولا تُعطي مجالاً للشكّ»[1]. فـ «لا يمكن الإيمان بالله وعدم الاهتمام بإطعام المساكين أو عدم التشجيع على خدمة المساكين والاهتمام بِشؤونهم العامّة. وَهُنا، نَقف لحظة أمام كلمة «الطعام» للمسكين، لا «إطعام» المسكين، فَكأنّ القرآن الكريم يَقول إنّ المسكين هو مالك الطعام، فالطعام طعامه»[2].

لماذا يُعدّ حرمان الأيتام والمساكين تكذيباً بالدِين؟

«الحقيقة أنّ الإيمان بالله وبالدِين -بالمعنى الصحيح- يستلزم الاهتمام والعناية بِخَلْق الله وشؤون المجتمع. والسبب أنّ الإيمان بالله –بالشكلِ الصحيح- يعني الإيمان بخالق الكون، العالِم، العادل، الرؤوف، الرازق، الرحيم، الله الذي له الأسماء الحسنى والأمثال العُليا، الذي تبدأ مِنه كلّ صفة صالحة، وينتهي إليه كلّ خطّ صالح؛ مبدأ كلّ خير ومنتهاه. فَالإيمان بالله -بهذا المعنى- يستلزم كوننا نؤمن بالكون القائم على أساس الحقّ والعدل، لأنّ صفات الخالق وَالمؤسِّس تنعكس على خَلْقه وعلى تأسيسه وعلى مُؤسّسته. خَلَق الله الكون، وهو أحسن الخالقين، والإنسان هو أحسن المخلوقات، وخُلِقَ الكون بِفِطرة حَسنة، فَعَلى هذا الأساس، يكون المجتمع مِن صُنع الإنسان»[3].

إنّ «الذين يُهملون ويتجاهلون المعذَّبين والمحرومين مِن أبناء مجتمعهم مِصداق آخر للمكذِّبين بالدِين. ومعنى ذلك أنّ للإيمان بالدِين بُعدَيْن:

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص290.

[2] المصدر نفسه، ج3، ص296.

[3] المصدر نفسه، ج3، ص290.

 

111


89

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

بُعد نحو السماء، هو الاعتراف بِوجود الله، والإسلام له بالعقل وبالقلب وبالجسد.

بُعد نحو الأرض؛ أي نحو الإنسان.

فَكَما أنّ الذي يُقدّم خدمة للإنسان ويُنكر الله مُكذّبٌ بالدِين، كذلك الذين يُؤمنون بالله ويتجاهلون حقوق الأيتام والمعذَّبين، هُم -بِدَورهم- مُكذّبون بالدِين»[1].

مسؤوليّة الإنسان عن الفساد والحرمان في الأرض

«﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ﴾[2]؛ البشر هُم الذين يُكوّنون شكلَ مجتمعاتهم الصالحة أو غير الصالحة. فَأساليب الحكم في المجتمعات، وتحمّل الشعب المسؤوليّات، هما اللذان يخلقان التخلُّف أو التقدُّم. فإذا وَجَدنا في المجتمعات شيئاً مِن النقص أو الانحراف أو التفكّك أو الجهل أو الفقر أو المرض أو أمثال ذلك، فَلا شكّ في أنّ هذا كلّه بِما كسبَت أيدينا؛ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾[3]. إنَّ المشاكل الاجتماعيّة، والفقر، ووجود المسكين الذي لا طعام له، ووجود اليتيم الذي لا راعي له، كلّها نتيجة إرادتنا وصناعتنا، وَنحن المسؤولون عنها إذا كُنّا نؤمن بالله وبِاليوم الآخر؛ ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ﴾[4]، إذ إنّ دَفْعَ الخُمسِ لله وللرسول (صلى الله عليه وآله) وذوي القربى واليتامى والمساكين شَرطٌ وسببٌ ونتيجةٌ للإيمان بالله واليوم الآخر والرسالة.

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص296.

[2] سورة الروم، الآية 41.

[3] سورة الرعد، الآية 11.

[4] سورة الأنفال، الآية 41.

 

112


90

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

إذاً، يستلزم الإيمان باللهِ تحمّل المسؤوليّات الاجتماعيّة، بل إنّه مِن صميم الإيمان. فَلا يكفي لأحدنا -أيّها الإخوان- أن يقول إنّه -ولله الحمد- يتقيّد بِواجباته الدينيّة، فَيُصلّي ويصوم ويؤدّي واجبه الشخصيّ، ومع ذلك يتجاهل ما يجري على الناس وما يجري حوله. لا يكفي هذا، كما تقول، صراحةً، هذه الآيات المباركات.

إذا مات أحدهم في بَلدٍ بِسَبب الفقر، فإنّ الله يَسلب البركة منه؛ كالفقير الذي يموت مِن الجوع أو المرض أو الجهل أو قِلّة التغذية أو عدم توفير وسائل السكن أو عدم وجود النور والهواء الكافي في المساكن أو عدم وجود الصحّة في القرى أو عدم وجود طبيب في القرية أو عدم سلامة المياه... هذا كلّه مَوتٌ للناس بِسَبب الفَقر. فَإذا مات أحد في القرية، يُحمِّل الله أهلَ القرية مسؤوليّة موته؛ أي إنَّ تخلُّفَ الناس في القرى، المؤدّي إلى موت الناس، هو مسؤوليّة كلّ فردٍ مِن أفراد هذه القرى. ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[1]؛ أي المجموعات البشريّة بِشكلِ قبيلة أو ضيعة أو بلدة أو عاصمة، بِأيِّ شكلٍ كانت»[2].

﴿فَوَيۡل لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦ وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾: «هذا تأكيد أنّ الصلاة، التي هي عبادة الله ومعراج المؤمن وعامود الدين، على الرغم مِن شأنها العظيم، ومِن أنّ الله لا يتقبّل مِن العاملين والصالحين عَمَلهم إذا اقترنَ بِالتنكُّر لها، إلّا أنّها لا تُقبل مِن المصلّي إذا امتنَعَ عن خِدمةِ الآخرين. فَحتّى الذين يُصلّون، ويعتقدون أنّهم أدّوا واجبهم، لهم الوَيل في حالات ثلاث:

الفئة الأولى: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾؛ أي الذين لا يهتمّون بصلاتهم، بل يستهترون بها ويعدّونها عملاً ثانويّاً في حياتهم،

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 96.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص290 - 291.

 

113


91

المقدّمة

وَيستخفّون بواجباتهم الدينيّة. إنّ الذين يُصلّون ولا يحترمون صلاتهم لا يمكن أن تُقبل منهم، فَالصلاة فُرصة كريمة نادرة وَفَّرها الله تعالى للإنسان، إذ شرّفه بِأنّه يتحدّث مع الله ساعةَ يَشاء. عندما يُوفّر الله هذه الفرصة للإنسان، ثمّ يتجاهلها الإنسان، فالويل له، لأنّه عطشان يَجِدُ نفسه أمام الماء وَلا يشرب. وهذا مِن سوء حظّه، فَهو مَن يجحد الفُرص ويتنكّر للسُبل التي تتوفّر له في حياته»[1].

الفئة الثانية: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ﴾؛ إنَّ «الإنسان يُصلّي لله، ولكنّه يمكن أن يختار بيته على محلّ آخر، لأنّه أدفأ، فَيتوضّأ بالماء الحارّ؛ هذه النيّة غير إلهيّة، لكنّها لا تُفسد الصلاة وَلا تبطلها، فَيُسمّونها نوايا مُباحة. وَلكن إذا دخل الرياء في عملكَ بَطلَتْ صلاتك، لأنّها أساساً لِغَير الله. حتّى المستحبّات؛ مِن عادتي -مثلاً- ألّا أقرأ القنوت، أو لا أزيد التسبيحات عن تسبيحة واحدة، ولكن عندما يأتي أَحَد أفصح في القراءة أو أقرأ بِصَوت خاشع أو أُطيل السجود والركوع، مِن أجل كَسْبِ مَجدٍ مِن الناس. فَإذا دخل الرياء في الجزء المستحبّ فَالصلاة باطلة؛ عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «إنّ الرياء أخفى مِن دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء»[2]. إنّ الصلاة تُقَرّب الإنسان من الله، ولكنّها تبعده عنه إن كانت لِغيره، فَيا ليته -حينها- لَم يُصَلِّ. هذه نقطة مهمّة يجب أن نتنبّه إليها»[3].

الفئة الثالثة: ﴿وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾؛ «الماعون تَعبير عن الزكاة، أو كلّ ما يحتاج إليه الإنسان. فَعندما يحتاجُ الجارُ أو الصديق أو الرحم أو ابن البلد شيئاً وَيطلبه مِن أخيه الإنسان -وَهُو مُستغنٍ عنه-، إلّا أنّه يَمتنع عَن مساعدته، فَهذا هو مِصداق «يمنعون الماعون». فَالذي

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص296 - 297.

[2] راجع: المشهدي، الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّيّ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، تحقيق حسين درگاهي، مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، إيران، 1407هـ- 1366ه‍.ش، ط1، ج‏14، ص456.

[3] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص292.

 

 

114

 


92

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

وَيستخفّون بواجباتهم الدينيّة. إنّ الذين يُصلّون ولا يحترمون صلاتهم لا يمكن أن تُقبل منهم، فَالصلاة فُرصة كريمة نادرة وَفَّرها الله تعالى للإنسان، إذ شرّفه بِأنّه يتحدّث مع الله ساعةَ يَشاء. عندما يُوفّر الله هذه الفرصة للإنسان، ثمّ يتجاهلها الإنسان، فالويل له، لأنّه عطشان يَجِدُ نفسه أمام الماء وَلا يشرب. وهذا مِن سوء حظّه، فَهو مَن يجحد الفُرص ويتنكّر للسُبل التي تتوفّر له في حياته»[1].

الفئة الثانية: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ﴾؛ إنَّ «الإنسان يُصلّي لله، ولكنّه يمكن أن يختار بيته على محلّ آخر، لأنّه أدفأ، فَيتوضّأ بالماء الحارّ؛ هذه النيّة غير إلهيّة، لكنّها لا تُفسد الصلاة وَلا تبطلها، فَيُسمّونها نوايا مُباحة. وَلكن إذا دخل الرياء في عملكَ بَطلَتْ صلاتك، لأنّها أساساً لِغَير الله. حتّى المستحبّات؛ مِن عادتي -مثلاً- ألّا أقرأ القنوت، أو لا أزيد التسبيحات عن تسبيحة واحدة، ولكن عندما يأتي أَحَد أفصح في القراءة أو أقرأ بِصَوت خاشع أو أُطيل السجود والركوع، مِن أجل كَسْبِ مَجدٍ مِن الناس. فَإذا دخل الرياء في الجزء المستحبّ فَالصلاة باطلة؛ عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «إنّ الرياء أخفى مِن دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء»[2]. إنّ الصلاة تُقَرّب الإنسان من الله، ولكنّها تبعده عنه إن كانت لِغيره، فَيا ليته -حينها- لَم يُصَلِّ. هذه نقطة مهمّة يجب أن نتنبّه إليها»[3].

الفئة الثالثة: ﴿وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾؛ «الماعون تَعبير عن الزكاة، أو كلّ ما يحتاج إليه الإنسان. فَعندما يحتاجُ الجارُ أو الصديق أو الرحم أو ابن البلد شيئاً وَيطلبه مِن أخيه الإنسان -وَهُو مُستغنٍ عنه-، إلّا أنّه يَمتنع عَن مساعدته، فَهذا هو مِصداق «يمنعون الماعون». فَالذي

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص296 - 297.

[2] راجع: المشهدي، الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّيّ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، تحقيق حسين درگاهي، مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، إيران، 1407هـ- 1366ه‍.ش، ط1، ج‏14، ص456.

[3] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص292.

 

 

114


93

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

يُصلّي ولا يبالي أو يمنع أخاه المعونة والمساعدة، حتّى لو كانت جزئيّة أو صغيرة، فَالويل له. لذا، يربط القرآن الكريم ربطاً وثيقاً بين الإيمان بالله وخدمة اليتيم والمسكين، وَبين قَبول الصلاة ومُساعدة الجار. وقد وَرد عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «ما آمن بالله واليوم الآخر مَن بات شبعاناً وجاره جائع»[1]؛ أي يَنفي وجود الإيمان بِالله واليوم الآخر مع تجاهل شؤون الجار وَعدم المبالاة بِأوضاع الآخرين.

إذاً، لا يمكن أن يكون الإيمان والصلاة حقيقيَّيْن إذا تجرّدَا مِن الاهتمام بِشؤون الآخرين. فَالإيمان بالله لا يمكن أن ينفصل عن محبّة الناس والاهتمام بِشؤونهم والسعي في خدمتهم. وَبناءً على ذلك، ليس الإيمان -في منطق الإسلام- تجريديّاً لا يتجاوز القَلب، بل يعيشه الإنسان في علاقاته مع الآخرين»[2].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏74، ص191.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص297 - 298.

 

 

115


94

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُحطِّمُ الأصنام
تمهيد

تحتلّ سيرة النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) مساحة وازنة مِن تراثنا وفكرنا الإسلاميّ الأصيل، كونها تُعبّر عن سيرة مؤسّسي الإسلام وقادته، وتُبيّن تاريخهم ومواقفهم تجاه ما يحيط بهم مِن أحداث ووقائع. لذا، كان لِزاماً على مَن يتحدّث بِالفكر الإسلاميّ أن تكون له رؤية مميّزة وقراءة عميقة لِتاريخ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، خاصّةً إذا كان هذا المفكّر الإسلامي مِن طِراز الإمام الصدر، وعلى نسق المفكّرين الإسلاميّين الذين يُريدون الانطلاق مِن تاريخ الإسلام لتأسيس حضارة إسلاميّة معاصرة تتّخذ الإسلام منهجاً والقرآن دستوراً، أو لِتربية جيل رساليّ يحمل سيرة قادة الإسلام الأوائل مشعلاً يُضيء له ظلمات العالَم.

فَكان مِن الضروريّ، عند عرضنا الفِكر الإسلاميّ على ضوء كلمات الإمام الصدر وخطاباته وكتاباته، أن نتعرّض لآرائه وتحليلاته القيّمة والعميقة في مجال سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

حاجة التاريخ الإنسانيّ إلى حركة الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)

«منذ فجر الإنسانيّة تحرّك عقله نحو المعرفة، فَذَهب يَلتمس المجهول في نفسه وفي ما حوله، ويفتّش عن الحقيقة تفتيشاً مُضنياً. وكان أشدّ ما يُقلقه ويَستحثّه على التفكير الخوف على مصيره مِن الضياع. ومِن أجل تحقيق الأمن والاستقرار، لم يَكنْ له بدٌّ مِن أحد

 

 

118

 

 


95

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

أمرَيْن: التغلّب على الطبيعة، وَإحداث مُصالحة معها بطريقة ما. ولَمّا كان عاجزاً -في مرحلته تلك- عن تحقيق الأمر الأوّل، خَضَعَ مُرغماً لِلأمر الثاني. فَخَلقَ أوهاماً مختلفة وعَبَدها في ما حكاه عنه التنزيل، كما هو ثابت في تاريخ الأديان والمعتقدات.

كان الجهل سبباً لِإعاقة الإنسان عن مرتقاه دهوراً طويلة مِن مرحلة صنميّته؛ ونقصد بها ما هو أعمّ مِن النظام الوثنيّ، فالجامع بين ما هو منحوت مِن صُنع الإنسان وبين الكائنات المعبودة مِن أجرام وأشجار وحيوانات هو الوَهمُ المخلوق في هذه الرموز ممّا تَواضع عليه البَشر، مِن أجل تحصيل الأمن والرضى على حِساب الخداع، إسكاتاً للعقل كما نُسكتُ الأطفال بِأُلهية[1]. فَفي تلك المرحلة الطويلة المرهقة انحنى الإنسان أمام الكائنات الطبيعيّة -كالشمس والقمر- بِغريزة الخوف وبِرجاء الرزق للضِرع والشجر، ثمّ انحنى بَعد ذلك لِمَنحوتاتٍ جسَّد بها أَخيِلَته[2] بِتماثيل تَرمز إلى آلهته، ونَصّبها في هياكل قريبة مِنه، لِيَلجأ إليها فيما يخشاه أو يرجوه. ولقد عوّقَتْه أصنامه هذه عن العِلم وإدراك حقائق الأمور، لأنّ قدسيّتها -في نَظَره- كانت تحول دون التفكير بِماهيّتها وكُنهِها، فَكان يكتفي مِن تعليل الأحداث بِأنّها تجري طبقاً لإرادات عُلويّة؛ ما يوجِب عليه احترامها لأنّه أقلّ شأناً مِن فَهْم أسرارها. وعلى هذا الأساس، لم يكُن يجرؤ على الاستقامة تحت سياط طبقة مِن الناس، إذ كان يؤمن بأنّ لهم قداسة الآلهة، وَأنّ الأوضاع نهائيّة مُستقِرّة لا يمكن تغييرها، وأنّ النظم المقدّسة هي التي تخلق مُشكلاته وتتلاعب بمقدّراته، فإن لم يملك مِن أمرِ قدَره شيئاً فَهو يتقرّب إليها بِحَسَب تعاسته فيها وشقائه بها. وكان النظام الوثنيّ هذا يُمكَّنُ لأصنام مِن البشر، كطبقات السادة والأشراف مِن

 

 


[1] أي شيء يلهو الطفل به.

[2]  جمع خيال. راجع: الزبيديّ، السيّد محمّد مرتضى الحسينيّ، تاج العروس، تحقيق عليّ شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، 1414هـ - 1994م، لا.ط، ج14، ص221.

 

119


96

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

ملوك وكهنة وأغنياء؛ ما يجعل الإنسان يُؤمن بِكلّ خرافة، ويَبنيها على فلسفة سخيفة ترتبط بظواهر الطبيعة؛ فإذا كان القمر -مثلاً- في برج العقرب تَطيَّر وجَمّد حركته خشيةَ شرٍّ يُصيبه به الله، لأنّ الله -آنذاك- يكون مضطرب المزاج، وَمُعرَّضاً لأزمات عَصبيّة،نَستغفِر الله. كما كانت العادات والتقاليد أثقل قيوده وأغلاله، وأبلغها أثراً في جموده وتأخُّره. وكانت ذاته -ولعلّها لا تزال- أعظم أصنامه على الإطلاق، إذ كان يَعبدها، وَلا يرى الأشياء إلّا عَبْرها؛ الحقّ ما حقَّتهُ وإنْ كان باطلاً، والباطل ما أبطلَتْهُ وإنْ كان حقّاً. لقد كان الإنسان في فلوات التاريخ كذلك. وعلى هذا النحو بَدأ يتكوّن مجتمعه. وقَد كان مِن فضائله -وله في تلك الأدوار فضائل- أنّه كان يَعي تجاربه، وينتفع بِنتائجها، ويتطوّر تدريجيّاً وِفاق قوانين حتميّة؛ نَراها نحن إلهيّة، ويَراها غيرنا مادّيّة.

ولَمّا ظهرَت الفلسفة مختمرة ناضجة، نادى الفلاسفة بتحرير الإنسان مِن أغلاله، ودعوا الناس إلى تحطيم أصنامهم المنوّعة. ولكنّ الفئات الرجعيّة مِن تجّار العقائد رَمَتْهم بِالإلحاد والزندقة، فأبطَلَت مفعول دعوتهم بِعَزْلهم عن الناس، وساعدهم على ذلك أنّهم يخاطبون العقول لا القلوب، وليس في الناس إلّا قلّة تتأثّر بهذه اللغة وَتستجيب لها. مِن هنا، كان لا بُدَّ مِن تدخُّل الله الحقّ سبحانه في عمليّة التطوير الاجتماعيّ، وتصعيده في درجات الكمال. فَأَمْرُ الرسل (عليهم السلام) يختلف في التأثير عن أمر الفلاسفة اختلافاً تامّاً، لأنّ الرُسل (عليهم السلام) يُواجهون عقول الناس في إطارِ وجدانهم. وَالدِين، كما يُعرّفه ذَوو الاختصاص، استيحاءً مِن النبيّ (صلى الله عليه وآله): فِطرة تربط الإنسان بخالقه، فَكان الانطلاق بِالدعوة مِن هذه الفطرة وَهذا الشعور أكبر عوامل النجاح في رسالاتهم الحقّة. وكان الارتباط الغريزيّ بين الإنسان وربّه يُسهِّل مهمّة الأنبياء (عليهم السلام) لا الفلاسفة؛ فَحين يجد هؤلاء أنفسهم في العَراء بارزين للشمس، يَكون أولئك (عليهم السلام) في حَرم مشاعر الناس

 

 

120

 


97

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

الأصيلة، فإذا قسوا عليهم، حرصاً على إرث أو تقليد، سَلَكَت الدعوة إلى نفوسهم مِن زاوية الإيمان بالله.

إنّ رسالات الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً تنظّمها وحدة لا تختلف إلّا بِالإعمار؛ أدوار الإعمار في ميزان النشوء والارتقاء. ولا يختلف الأنبياء (عليهم السلام) في مختلف الأدوار والمراحل بِجوهر الثورة على الأصنام بِأشكالها كلّها، فَهُم قادة محرّرون،كَما نَفهم مِن القيادة والتحرير -اليوم- بِأدقّ مَعانيهما»[1].

النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أعظم الأنبياء (عليهم السلام)

«لا غلوَّ في قَولِنا إنّ النبيّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) أعظم الأنبياء (عليهم السلام)، وإنّ ثورته أعظم الثورات، لأنّ ذلك وَصفُها الواقعيّ بِحُكم النتائج والسنين. وَلْنَقِسْ عَظَمته في هذه الكلمة بِبَعض أعماله البطوليّة في تحرير البشر مِن القيود والأصنام، مُتّجهاً نحو عالَمِه الأفضل»[2].

يتوقّف الإمام الصدر عند محطّات مهمّة مِن سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومفاصل أساسيّة تحكّمَت بحركته الدعويّة والاجتماعيّة والسياسيّة:

1. الدعوة إلى التوحيد ونَبْذ الشِرك بِمراتبه كلّها

«أسّس النبيّ (صلى الله عليه وآله) دعوته على التوحيد في دنيا تتوزّعها أهواءٌ نُحِتَت لها آلهة حمقاء ذوات هوايات عجيبة في التمزيق والإذلال والتجهيل. ولَقد لَقِيَ في دعوته التحريريّة ما عبّر عنه -وهو المضحّي الصبور- بــ«ما أُوذِيَ نبيٌّ مِثل ما أُوذيتُ»[3]. وَظلّ يُناضل في سبيل تعميق هذا الأصل الجامع مِن رسالته، منذ بدء الدعوة،بإرذال[4] الشِرك وتقبيح

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص351 - 353.

[2]  المصدر نفسه، ج3، ص353.

[3]  ابن شهرآشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمّد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، العراق – النجف الأشرف، 1376هـ - 1956م، لا.ط، ج3، ص42.

[4]  أي جعله رذيلاً في وعي الناس.

 

121


98

الأنبياء (عليهم السلام) وقصصهم في القرآن

الصنميّة، حتّى توّجَ ظَفَره الأغرّ يَوم الفتح، فَرَفع عَليّاً(عليه السلام)، فَتى الإسلام، على كتفَيْه، وأدال[1] الله له مِنها. بَسط عليّ(عليه السلام) -يومئذٍ- راحتَيْه العَظيمَتيْن تحت كبيرها «هُبَل» الأعور المرقّع، واقتلعه مِن جذوره، وأتبع به صِغاره، مُزيلاً بإزالتها نِظام الشِرك. وما اقتصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) في محاربة الشِرك بإزالة المظاهر، بل غزاه في حصونه مِن النفوس والضمائر، فَطَهّرها مِن هواجسه ووساوسه؛ عنه (صلى الله عليه وآله): «إنّ الشِرك أخفى مِن دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء».[2] فَأيّ باعث أدعى مِن حسّ الخطر هذا إلى تتبّع الشِرك واقتصاص أثره في مسالكه المظلمة وأعشاشه الخفيّة؟ وأيّة قوّة هي القوّة المطلوبة لِحِسٍّ كهذا يُكافح خطراً يَكمن في جَنَبات الصدور وَقرارات الأنفُس؟

وفي السنة التاسعة للهجرة، أرسل بعثاً مؤلّفاً مِن عليّ(عليه السلام) وأبي بكر إلى اليمن بِآيات مِن سورة البراءة، فأعلن الوصيُّ(عليه السلام) بِاسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) حرباً في سفارته تلك ضِدّ الإلحاد لا هوادة فيها، وأَنزلَ الشمس والقمر مِن عرشهما الإلهيّ إلى مستوى العبوديّة، مُوضّحاً أنّهما -وغيرهما مِن الكائنات- مُسخّران بِأمر الله لِما شاء لهما مِن خيرٍ ونَفْعٍ يَعود أكبرهما على الإنسان.

لم يَهِن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في دعوته هذه، وَلم يَلِن، لا على إغراءٍ ولا على تهديد، وإِنّما قابَل هذا وذاك بالشموخ الذي يُبرِزه قوله (صلى الله عليه وآله): «وَالله، لَو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أنْ أترك هذا الأمرَ ما تركتُه»[3]»[4].

 

 


[1]  أدال الله له: أعطاه الدولة بالنصر والغلبة، والمعنى: نصره وغلبه على الشرك والصّنمية.

[2]  القمّيّ، عليّ بن إبراهيم، تفسير القمّيّ، دار الكتاب، إيران - قم، 1404هـ، ط3، ج‏1، ص213.

[3] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي‏، إيران - قم، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج‏14، ص54.

[4] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص353 - 354.

 

122


99

مِن تفسير السُوَر القصيرة؛ سورة الماعون

. تحرير الناس وعقولهم

«حرّر الناسَ مِن أُلوهة مَوهومة. لقد حَرّرَ الفِكر -لِأوّل مرّة- بِأَفضل وَجهٍ في تاريخ البشر، فَشَقَّ مِن حطام الأصنام طريق العِلم، إذ لم تَعُد البحار والجبال والكواكب مناطق محرّمة لا يقترب الفِكر مِنها إِلّا راسفاً[1] بِأغلالٍ ثِقال مِن قدس وغموض. ثمّ دَفعَ المسلمين إلى طلبِ العِلم لِيَستخدموه ويُخضعوه لِخير الإنسان، وَدَعا إلى فَتْح مَغالق الطبيعة بِالتأمّل والتجربة، وأَمَرَ بـطلب «العِلم وَلو في الصين»، وبِالدَأبِ والمثابرة «مِن المهد إلى اللحد»، فَقَطعَ الطريق على الشعوذة والتخريف، وأخذَ البُسطاء بِالعقائد المبهمة المغلّفة بإطارات التقديس والرهبة، كما كانت الحال في أوروبّا التي أذاقت العُلماء والمتحرّرين أشدّ النكال في القرون الوسطى؛ وليس حديث «غاليلو» و«كوبرنيك» و«ديكارت»، والمئات مِن أمثالهم، بِبَعيد عن الأذهان»[2].

3. تحطيم القيود واسترداد الحقوق الإنسانيّة

«حَطّمَ، مِن أجل عالَمٍ واحد ومجتمع أفضل، سائر القيود، في استيعاب مُبكرٍ فريد. فَأعلنَ، أوّلاً، أنّ النظامَ الفاسد أثرٌ مباشَر لِعَمَل الناس وسلوكهم، وَلَو شاؤوه أفضل ممّا هُوَ لَكان؛ يقول تعالى:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾[3] و﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾[4]. وَصرّح، ثانياً، بِوُجوب الثورة في وَجه الطغيان كلّما هبَّت رياحه، وَدعا إلى مقاطعة الطغاة والظالمين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ﴾[5]. واشترع،

 

 


[1] الرسف: مِشْيَةُ المُقَيَّد. راجع: الخليل الفراهيديّ، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق الدكتور مهديّ المخزوميّ والدكتور إبراهيم السامرّائيّ، مؤسّسة دار الهجرة، إيران- قمّ، 1409هـ، ط2، ج7، ص245.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص354.

[3]  سورة الرعد، الآية 11.

[4] سورة الروم، الآية 41.

[5] سورة هود، الآية 113.

 

 

123

 


100

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

ثالثاً، المساواة في الحقوق والواجبات، فَلا طبقات ولا تَمايُز إِلّا بِالعِلم والعَمل والتقوى، في تَدرُّج تنظيميّ لا شأن فيه للدم والثروة ولا اعتبار، فَالملوك والزعماء كَغيرهم أمام الله؛ يقول تعالى: ﴿لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡء﴾[1] و﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ﴾[2]. وَتحدّى، رابعاً، آلهة الشِرك، مِن حجرٍ وبشر، بِما يُظهِر ضعفها وسخفها، تحدّياً مُلِحّاً نجح في إسقاط اعتبارها؛ يقول تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَل فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡ‍ٔا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾[3]. وَلَعلّ أبلغ ما يُروى عنه (صلى الله عليه وآله) في حَلِّ عقد الخوف مِن نفوس الجماهير، وإسقاط الهيبة مِن أذهانهم لِغَير الحقّ، أنّ أعرابيّاً أتاه فَخَنَع له مُعظّماً، كما يَفعل العبيد بين يَدي الملوك، فَقال له (صلى الله عليه وآله) مُتلطّفاً به: «إنّما أنا ابن امرأةٍ مِن قريش كانت تأكل القديد»[4]. وَخامساً، لم يَكن موقفه مِن التطيُّر والتفاؤل والتنجيم أقلّ عنفاً مِن مواقفه في محاربة غيرها مِن الأوهام. لَقد نُهِيَ في بعض الغزوات عن المسير إلى الحربِ بناءً على «طالع نحس»، فَسارَ وقلبه طالعُ سَعْد. وَكان يقول(صلى الله عليه وآله): «لا طيرة»[5] و«لا تُعادوا الأيّام فَتُعاديكم»[6] و«لَو أنّ رجلاً تَولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة»[7]. واتّخذ، سادساً، مِن العادات والتقاليد الموقف نفسه، وأبرزَ كونها خاضعة للتطوّر، فَلا ينبغي لها أن تتحجّر وتتألّه. وضرب

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 264.

[2]  سورة آل عمران، الآية 26.

[3] سورة الحج، الآية 73.

[4] الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ- 1995م، لا.ط، ج2، ص64.

[5]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص196    

[6] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص396.

[7]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص193.

 

 

124


101

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

ثالثاً، المساواة في الحقوق والواجبات، فَلا طبقات ولا تَمايُز إِلّا بِالعِلم والعَمل والتقوى، في تَدرُّج تنظيميّ لا شأن فيه للدم والثروة ولا اعتبار، فَالملوك والزعماء كَغيرهم أمام الله؛ يقول تعالى: ﴿لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡء﴾[1] و﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ﴾[2]. وَتحدّى، رابعاً، آلهة الشِرك، مِن حجرٍ وبشر، بِما يُظهِر ضعفها وسخفها، تحدّياً مُلِحّاً نجح في إسقاط اعتبارها؛ يقول تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَل فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡ‍ٔا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾[3]. وَلَعلّ أبلغ ما يُروى عنه (صلى الله عليه وآله) في حَلِّ عقد الخوف مِن نفوس الجماهير، وإسقاط الهيبة مِن أذهانهم لِغَير الحقّ، أنّ أعرابيّاً أتاه فَخَنَع له مُعظّماً، كما يَفعل العبيد بين يَدي الملوك، فَقال له (صلى الله عليه وآله) مُتلطّفاً به: «إنّما أنا ابن امرأةٍ مِن قريش كانت تأكل القديد»[4]. وَخامساً، لم يَكن موقفه مِن التطيُّر والتفاؤل والتنجيم أقلّ عنفاً مِن مواقفه في محاربة غيرها مِن الأوهام. لَقد نُهِيَ في بعض الغزوات عن المسير إلى الحربِ بناءً على «طالع نحس»، فَسارَ وقلبه طالعُ سَعْد. وَكان يقول(صلى الله عليه وآله): «لا طيرة»[5] و«لا تُعادوا الأيّام فَتُعاديكم»[6] و«لَو أنّ رجلاً تَولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة»[7]. واتّخذ، سادساً، مِن العادات والتقاليد الموقف نفسه، وأبرزَ كونها خاضعة للتطوّر، فَلا ينبغي لها أن تتحجّر وتتألّه. وضرب

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 264.

[2]  سورة آل عمران، الآية 26.

[3] سورة الحج، الآية 73.

[4] الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ- 1995م، لا.ط، ج2، ص64.

[5]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص196    

[6] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص396.

[7]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص193.

 

 

124


102

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

بنفسه المثَل في الخروج على أشدّها حرجاً وخطراً بِتشريع إسلاميّ سَمحٍ في حادثة ربيبه زيد وابنة عمّه زينب بنت جحش؛ ويحسن الرجوع إلى تفسير الإمام الشيخ محمّد عبده، وغيره مِن المراجع، للاطّلاع على تفاصيل حِكمة التشريع في هذه الحادثة الجريئة على صَنَم العادة. وَبَقي الصنم الأكبر، سابعاً، وَهو الأنانيّة. ومِن المعروف أنّه سمّى التحرّر مِنها الجهاد الأكبر؛ وَرد في القرآن الكريم: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ   إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡم وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَة فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[1]»[2].

 

أهمّيّة الهجرة في تاريخ الإسلام

تُعدّ الهجرة محطّةً رئيسة في سيرة النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وفي تاريخ الإسلام بِشكلٍ عامّ. لذا، كان مِن المهمّ أن نسلّط الضوء على هذا المفصل التاريخيّ عن طريق أفكار الإمام الصدر حَوله ومقاربته له: «الهجرة -اليوم- هي الأفضل في تاريخ المسلمين، لأنّ الإسلام قبل الهجرة كان في دَورِ التحضير. فَقَد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) في جوّ غيرِ إسلاميّ، وفي مجتمع كافرٍ، وضِمن قوانين جائرة غير إسلاميّة، فَكان يُبشّر ويُنذِر ويُربّي ويَدعو ويُعلِّم ويَصنع القيادات لِيومِ غدٍ؛ أي لِما بَعد الهجرة. وإذا تتبّعتُم الأحكام الإسلاميّة قبل الهجرة، والآيات المكيّة في القرآن الكريم، وَجدتُم أنّها تهتمّ بالعبادات والزكوات والصدقات والأمور الفرديّة الشخصيّة -ما عدا جزء بسيط- مِن أجل إعطاء الفكرة والرؤية الشاملة عن الإسلام للقيادات. أمّا الإسلام بَعد الهجرة فَهو الإسلام الكامل، الإسلام الفرديّ والجماعيّ، إسلام الشريعة والنظام، إسلام الفرد والعلاقات، إسلام القوانين والعقيدة، إسلام الثقافة والرؤية والأيديولوجيا والأحكام والحدود والسياسات والقضاء؛ بِتعبير آخر: الفرد المسلِم في المجتمع المسلِم.

 


وُلد الكامل بعد الهجرة؛ لذا عدَّ المسلمو

[1]  سورة الجاثية، الآية 23.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص355 - 356.

 

125

 


103

نفحات مِن سورة الرحمن (نموذج مِن التفسير الترتيبيّ عند الإمام الصدر)

وُلد الكامل بعد الهجرة؛ لذا عدَّ المسلمون الأوائل -وفي طليعتهم عليّ(عليه السلام)- أنّ الهجرة هي اليوم المفضّل لدى المسلمين، والذي يَصلح لِأنْ يكون بداية التاريخ. فَهو الفاصل، لا في تاريخ العرب والمسلمين فَحَسْب، بل في تاريخ العالَم أجمع، لأنّ الدِين الذي وَضَع النظام، والذي يُعدُّ الحلقة الكاملة للحلقات الدينيّة طوال تاريخ الأنبياء (عليهم السلام)، هُو الإسلام.

قَبل الهجرة، كان الدين عقيدة وعبادة ونصيحة، وبَعدها، أصبح الدِين نظاماً شاملاً وديناً كاملاً يَشمل كلّ وجود الإنسان، ويَتصدّى لِآلام الإنسان وحاجاته كلّها بِشكلٍ مباشر. إذاً، الهجرة يَوم مِن أعظم أيّام الإسلام، بل أعظمها. والهجرة يوم مِن أعظم أيّام التاريخ، بل أعظمها على الإطلاق. ونحنُ نحتفل، في الثاني عشر مِن ربيع الأوّل، بِعيد المولد والهجرة، فَنُصحِّح -بذلك- خطأً غير مقصود أصبح شائعاً لدى المسلمين؛إذ يحتفلون في أوّل محرّم بِعيد الهجرة، مع أنّ رجُلاً واحداً ومؤرّخاً واحداً لم يورِد في التاريخِ أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) هاجرَ في بداية محرّم. إنّ السنة العربيّة كانت تبدأ عندهم بِشهر محرّم؛ لذا وَضعوا أوّل السنة شهرَ محرّم. لِماذا كانت الهجرة هي البداية وَلَم تَكُن شيئاً آخر؟ هنا المفهوم التربويّ الذي يجب أن يُبْحث في احتفالاتنا بِالهجرة. فَالهجرة بِداية الإسلام، وهي بِداية كلِّ خير. وهي ليسَت محصورة بالانتقال مِن مكّة إلى المدينة أو بانتقال الإنسان مِن مكانٍ إلى مكان وَمِن بَلدٍ إلى بلد، بل إنّها كلّ انتقال؛ انتقال الإنسان مِن مكانه وصفته وحالته وإرادته ورؤيته. فإذا انتقل الإنسان مِن زمانه أو مِن مكانه فَقَد هاجر، وإذا انتقل الإنسان مِن عاداته ورؤيته وقناعاته وحُبّه وكرهه وإيمانه وكُفرِه فَقَد هاجرَ أيضاً»[1].

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص357 - 358.

 

126


104

الإنفاق في القرآن الكريم (نموذج مِن التفسير الموضوعيّ عند الإمام الصدر)

الإسلامُ هجرةٌ وانتقال

«الإسلام انتقال الإنسان مِن حال إلى حال؛ أي مِن عبادة نفسه، ومِن الركوع والخضوع أمام الأصنام، إلى عبادة الله الخالق. فَالإسلامُ هجرةُ الإنسان مِن عبادة طُغاة الأرض، مِن عبادة الظالمين، مِن إطاعة الظالمين، مِن الخوف والخضوع والمسايرة والمشي في موكب الظالمين، إلى عبادة الله الواحد الأحد الرؤوف الرحيم العادل العزيز. إنّه هجرة الإنسان مِن الربويّ الذي كان يَستثمر الفقراء ويَسرق ثمار حياتهم ونتيجة جهدهم ويَسترقّهم، إذ كان يأخذ أموال المديون وبيته وزوجته وأهله، وفي نهاية الجولة يَسترقّه هو؛ هذا المجتمع الربويّ الذي كان مُتجسّداً بِشكلٍ عفويٍّ بسيط في تلك الأيّام. أمّا في يومنا هذا، فهذه الحال مُتجسّدة بِشكلٍ خبيث عميق، إذ تحوَّل الربا إلى معاملة البنوك وديون الدول والبلاد، وَتحوّل الاستثمار إلى تحالفات واتّفاقات، وتحوّلت الشركات إلى تواطؤ بين المستوردين والمحتكرين وبين السلطة. لقد تَحوّل الربا والاستثمار واغتصاب حقوق الناس إلى الغلاء الفاحش وتَفَرُّج المسؤولين عليه كلّ يوم، حتّى كاد ينحني الإنسان ويتحطّم تحت وطأة هؤلاء وآثارهم مِن الغلاء الفاحش. هؤلاء آلهة الأرض وطغاتها والظالمون والمستبدّون والمحتكرون والغاصبون فيها، والمراؤون الدجّالون الذين يُؤيّدونهم ويُبرّرون موقفهم، ويأمرون الناس بالصبر والسكوت. هؤلاء آلهة الأرض، بينما يقول الإسلام: «لا إله إلّا الله»، تَنَكَّرْ لهؤلاء، اُرفضهم، ارفع رأسك أمامهم، انبذهم، افضحهم، لا تستسلمْ لأمرهم، ثمّ ارفَع رأسك إلى السماء، واعبد إلهاً واحداً أحداً لا يطمع ولا يريد إلّا كمالك وخيرك ونجاتك وسُموّك. فَالهجرة انتقال مِن حال السكون والصبر والطاعة والتردّد في كلّ شيء والقلق على كلّ شيء والوقوف أمام كلّ شيء والسكوت على كلّ شيء إلى حالة الرفض والجهاد والنفي والصراع والنضال حتّى الاستشهاد. الإسلام، إذاً، هِجرة مِن

 

127


105

القرآن الكريمُ نَصٌّ ثابت لِأحوالٍ مُتغيّرة

الرؤية التي كان يَعيشها الإنسان في بداية الإسلام إلى رؤية أخرى. فَالإنسان الجاهليّ كان يَرى مجده في المال، وسعادته في الراحة، وعَظَمته في الكثرة، وقوّته في المرتبطين بِالدم والعنصر. كان ينظر إلى الكون نظرة أخرى، ويظنّ أنّ حياته تنتهي عند الموت، وأنّ كلّ موجود صغير في منتهى الصغر، وحقير مُرتبط بالحاجة. ثمّ يطلب الإسلام منه -دُفعة واحدة- الهجرة مِن هذه الرؤية، ويُؤكّد له: ﴿أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾[1]. وَنقول كما قالت السيّدة زينب (عليها السلام)، مُستشهدة بِقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡماۖ وَلَهُمۡ عَذَاب مُّهِين﴾[2].

لقد أُعطينا المال -وما أكثر ما أُعطيناه استدراجاً!- ولكنّه لَيس سببَ الكمال، ولا الكثرة، فَالمرء ليس كثيراً بِعَدد أفراد عشيرته، بل بِأخيه والمؤمنين؛ هذه رؤية الكون، رؤية العَظَمة وَالخَلْق وَالعزّة والقوّة، وَهي رؤية جديدة. وَالمطلوب الهجرة مِن الرؤية السابقة إلى هذه الرؤية الصحيحة. وما احتفالنا بالهجرة والمولد إلّا ترسيم للصورة الحقيقيّة للإسلام وَخَلْقٌ للمناخ الإسلاميّ المحمّديّ»[3].

الإسلام يرفض منطق الضعف

«الإسلام يقول إنّكم، مَهما كنتم ضعفاء، فَلَستُم أضعف مِن جماعة المدينة -أهل يثرب- الذين كانوا مُحتقَرين مِن أهلِ مكّة الذين يعدّون أنفسهم سادة العرب. فَهاجر أهل المدينة بالإسلام، وَصاروا كباراً،حتّى قال أحدهم في واقعة بَدر: إنّي أرى ما لا تَرَون؛ إذ فُوجِئوا بِالبطولات والقوّة والعدالة التي تجسّدَتْ في البَدريّين. فَلِماذا يُسمّون واقعة بَدر الكبرى بِيَوم الفُرقان؟ لأنّها بِداية التغيُّر. لقد فُوجئوا بِأنّ هؤلاء الصغار تحوّلوا إلى كبار، وغَلَبوا،على الرغم مِن أنّ عددهم كان ثُلث كبار مكّة

 

 


[1]  سورة الزخرف، الآية 32.

[2]  سورة آل عمران، الآية 178.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص358 - 359.

 

128


106

القرآن الكريمُ نَصٌّ ثابت لِأحوالٍ مُتغيّرة

وكبار قريش. كان عددهم أقلّ، وكانت عِدّتهم أقلّ، وَانتصروا. نحن نُكرّم محمّداً (صلى الله عليه وآله) فَنَحتفل بهجرته وميلاده،ولكن ما عُذرنا أمامه في معركتنا أمام «إسرائيل»؟ هل إنّ عددنا أقلّ؟ لا، بل أكثر. هل إنّ عِدّتنا أقلّ؟ نعم. محمّد (صلى الله عليه وآله) يرفض هذا المنطق، ويريد أن تُهاجِروا مِن مَكان الخوف إلى مكان الاطمئنان، ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]؟ ذِكرُ الله ليس أن تقول: «لا إله إلّا الله» -هذا المدخل- بل أن تعيش مع الله، أن تخلق في عقلك وقلبك وَجسمك مُناخاً إلهيّاً، أن تعتقد -بِقوّةٍ- أنّ الله مُقلّب القلوب؛ إذ يمكن لِخصمك أو صديقه أو حليفه أن ينقلب قلبه دُفعة واحدة. وَلَقد شاهَدنا، في فترات سابقة، انقلابات عجيبة في الناس، وَنحن نعتقد أنّ يد الله فوق أيديهم، وأنّه يخلق مِن الإنسان الضعيف إنساناً قويّاً. بِأيّة طريقة يزيد الإسلام في عُمر الإنسان؟ بِالهجرة. لا تظنّ أنّ عمرك ستّين أو سبعين سنة، بل عمرك الخلود؛ ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢا بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم﴾[2].

إخواني، فَلْتظهر كلماتي -عندي وعندكم- كأسطورة؛ نُريد أن نُصبح أبطالاً، نُريد أن نصبح أقوياء، نريد ألّا نخاف، يجب أن نكون كباراً، وَنَستطيع أن نكون كباراً، مِثلما كان أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله). يجب أن نتحرّك، فَالإسلام هو الخروج في وَجه الظالمين: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ﴾[3]؛ أي إذا قبلْتَ بِالذلّ، تَمسّكَ النار. لا يتمّ شيء مِن دون الهجرة... أنا أريد أن أحفظ بيتي حتّى لا يهدم، أريد أن أكمل شغلي حتّى أربح، أريد أن أحصل على راحتي، على أكلي، على أوضاعي، على علاقاتي، أُجامل الناس ولا (يزعل) منّي أحد، لا يتركني صديقي، أحتفظ بِما معي كلّه... الإسلام يقول لك: قُمْ، هاجِرْ»[4].

 


[1]  سورة الرعد، الآية 28.

[2]  سورة آل عمران، الآيتان 169 - 170.

[3] سورة هود، الآية 113.

[4]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص360 - 361.

 

129


107

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم


مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام)

«لم يولَد غير الإمام(عليه السلام) في الكعبة؛ هذه المنقبة -سبحان الله- خَصّها الله سبحانه وتعالى لإمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام). كما أنّ مَقتله كان في المحراب، حيث أُصيب بالجرح المهيب الذي قضى عليه بواسطة ابن مُلجم. فَحياة الإمام(عليه السلام) بَدأت في بيت الله، وانتهَت في بيت الله؛ حياته وذلك المنتهى، كلّه سجود وعبادة وخدمة لله. إذاً، مَولد الإمام(عليه السلام) كان في الكعبة، ونهايته كانت في المسجد.

ماذا نقول في رجلٍ يقول عنه ابن أبي الحديد: أَنكر أصدقاؤه فَضائلَه خوفاً، وأعداؤه طمعاً وحسداً؟ يَكفي أن نعلم أنّ الإمام(عليه السلام) هو الذي حَطّم الأصنام الاصطناعيّة بِأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذي قَضى على كبار المشركين في الحروب، وعلى كِبارهم في المجتمعات.

إنَّ للإمام(عليه السلام) في كلّ حَقلٍ مناقب لا يمكن أن تُوصف؛ في بابِ العِلم هو بابُ مَدينة العِلم،وَفي بابِ العدالة والاستقامة والحُكم بِالحقّ يَقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أقضاكم عَليّ(عليه السلام)»[1]، وَفي بابِ الحكمة نَجِد في تعاليمه الفَضل والعلم والينابيع المتينة القويّة الوافرة التي تملأ حياة المسلمين خيراً وبَرَكة، وَماذا نقول عنه في باب الشجاعة؟ وَفي بابِ الكرم يَقول عدوّه: لَو كان له [الإمام عليّ] بيتان؛ أحدهما مِن

 

 


[1]  القاضي النعمان المغربيّ، النعمان بن محمّد، شرح الأخبار، تحقيق السيّد محمّد الحسينيّ الجلاليّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بِقم المشرّفة، إيران- قم، 1414هـ، ط2، ج1، ص91.

 

 

130

 


108

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

تِبْر -أي ذهب- والآخر مِن تِبْن، لَنَفدَ تِبْرهُ قبل تِبْنِه[1]. وهكذا في الحقول جميعها. يَقف الإنسان أمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وَلا يدري ماذا يقول؛ يقول الخليفة الأوّل أبو بكر: لَو أنّ البحر مِداد والأشجار أقلام والإنس كُتّاب والجنّ حُسّاب، لَما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن[2]. فَحياته كلّها وَسَعيه كلّه وَلحظاته كلّها كانت في سبيل الخيرِ والكمال والتقرّبِ إلى الله. فَما كان إنتاجه؟ ماذا نقول وَقد عادَلتْ لحظة مِن حياته -أي ضربته يوم الخندق- عبادة الثقلَيْن؟ ثلاثة وستّون عاماً مِن العمل، وَإذ بِلَحظة مِن حياته تُعادِل عبادة الثقلَيْن. وماذا عن اللحظات الأخرى مِن حياته؟ كَم مقاماً له عند الله سبحانه وتعالى؟ جهاده مُستمرّ، وعبادته مُستمرّة.

حينما أخذَ بعض أصحاب الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) عليه أنّه يُكثر مِن الصلاة والتهجّد والخشوع والعبادة لله، وَهُوَ مِن أهل بيت طهّرهُم الله تطهيراً، طَلب كتاب عليّ(عليه السلام) وصحيفته، ثمّ قَرأ وقال:«مَن مِثلك يا أبا الحسن(عليه السلام)؟» ليلُه موصول بِنهاره، بِجهاده وسَعيه وشجاعته.

وَفي نصيحة الإمام عليّ(عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفيّة –حين بَعَثَه للقتال في واقعة الجمل- ما يُبيّن نفسيّته(عليه السلام) وطريقة عمله: «يا بُنَيّ، تزول الجبال ولا تزل، تِدْ في الأرض قدمك، عضَّ على ناجذَيْك، أعِر اللهَ جمجمتك»[3] و«والله، ما يُبالي ابن أبي طالب؛ أَوَقَع على الموت أم وقعَ الموتُ عليه»[4]. أعِر جُمجمتك؛ هكذا كان عليّ(عليه السلام)، يعدّ جمجمته أمانةَ الله، فَلا يُوفّرها.

 

 


[1]  القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، مصدر سابق،ج2، ص99.

[2]  الموفّق الخوارزميّ، الموفّق بن أحمد، المناقب، تحقيق الشيخ مالك المحموديّ- مؤسّسة سيّد الشهداءc، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ص328.

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص55، الخطبة 11.

[4]  الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص172.

 

131


109

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

وَيقولُ(عليه السلام) في واقعة أُحُد: «تفقّدتُ ما حولي فَما وجدتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فَقلتُ في نفسي: سبحان الله، أين هو؟ هل هرب، وهو لا يهرب؟ هل صعد إلى السماء؟ ما كان ذلك منتَظَراً. هل قُتِلَ؟ أمام هذا التساؤل وقفتُ مُضطرباً، فَكَسرتُ غمادة سَيْفي -وهذا معناه الاستماتة- فافتقدتُ القومَ فوجدتهم مُتجمهرين في مكان، فَقلتُ: هنالك الموت -لأنّه يريد أن يموت- وهجمتُ عليهم وفرّقتهم كالجراد المنتشر، فوجدتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُلقىً على الأرض مُغمىً عليه». بِحربٍ كهذه وجهادٍ كهذا رَجع عليّ(عليه السلام) مِن واقعة أُحُد، وعلى جِسمه ستّة وثلاثون جرحاً، يدخل مِن أحدِها الفتيل ويخرج مِن الآخر. يقول الراوي: زُرناه وعُدناه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فَدخلنا عليه فوجدناه مفروشاً على النطع، كأنّه مزقة مِن اللحم مُقطّعة، لا يمكن وضعه على الفراش، وَضَعوه على الجِلد... بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مِن وَضع الإمام (عليه السلام)، وقال له: «يا أبا الحسن(عليه السلام)، ما جزاء مَن جاهد في سبيل الله، وقدَّم مِثل ما قدّمتَ؟». وبينما هُم في المجلس، نادى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجهاد، إعادةً لاعتبار المسلمين بعد فَشَلهم في واقعة أُحُد، لأنّهم انكسروا.لقد نادى بالجهاد تعبيراً عن قوّة معنويّات المسلمين واستعدادهم، وتضعيفاً لِمَعنويّات الكفّار. حينها قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا معك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)»، فَقال له: «يا أبا الحسن (عليه السلام)، أَبِمِثل هذه الحالة؟»، قال(عليه السلام): «نعم -بِأبي أنت وأمّي- لَو حملوني على الأكتاف لَما تركتكَ لحظة»؛هذا جهاده وسَعيه وتفانيه في سبيل الدفاع عن الإسلام وإخلاصه في العمل.

وَفي واقعة الأحزاب، ما أراد أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يَقتل عمرو بن ودّ العامريّ إلّا مخلصاً لله، فَلا يُشرك في عمله هذا غضبه وانتقامه واستياءه مِن تصرّفات البطل العامريّ الذي أهانه، حينما جلس على صدره.

هذه زاوية، أو أضواء، أو لمحة مِن وجود الإمام(عليه السلام)؛ الإمام(عليه السلام) 

 

132


110

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

عظيمٌ جدّاً، تكفي في ذلك شهادة رسول الله(عليه السلام) في حقّه: «عليٌّ مع الحقِّ، والحقُّ مع عليّ يَدور حيثما دار»[1]. ويَكفيه أنْ عبّر عنه القرآن الكريم بِنَفسِ محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومحمّد (صلى الله عليه وآله) خير البشر»[2].

تساؤلات حول دوافع الإمام عليّ(عليه السلام) الداخليّة

«نقرأ جانباً خارجيّاً مِن أصداء حياة الإمام(عليه السلام)؛ نعرفه بطلاً، عالِماً، كريماً، مضحّياً، حاكماً عادلاً، وَنراهُ يجمع المتناقضات مِن الزهد والحكمة وَالورع والشجاعة. نحن نعرف الجانب الخارجيّ مِن حياة الإمام(عليه السلام)، فَلْنَنتقل إلى الجانب الداخليّ مِن حياته، وَلْندرس مَصدر هذه البطولات والحركات، وَلْنُفتّش في قلبه الكبير كيف تنطلق مِنه هذه النشاطات، وبأيّ دافع. فَإذا دَخلنا هذا العالَم، فَسوف نَندهش ونرى ما هو أوسع وأعظم ممّا مكّنته الظروف مِن العطاء، إذ إنّ الظروف التي عاشَها الإمام(عليه السلام) مِثل الظروف التي يعيشها كلّ مُصلح، وهي لَيست ظروفاً مُلائمة لكي تبرز كفاءاته بِصورة حقيقيّة، فَثمّة عراقيل وأغلال وغايات وحُجب وسدود؛ لذا فَإنّ بُروزَ الإمام(عليه السلام) عن طريق فِعله وَعطائه بُروزٌ جزئيّ. ولكن، إذا كشفنا صفحة قلبه، واكتشفنا دوافع فِعله، فَربّما نجد أكثر ممّا وجدناه في الكتب... هل كان الإمام(عليه السلام) يَعمل لِنفسه مِن أجل كَسْب مالٍ أو جاه، أو لاكتساب الخير لِبَني قومه وعائلته وعشيرته، ولتقديم المجد لحزبه؟ هل كان يندفع بِدافع خوفٍ أو طمع، أم إنّ دافعه واحد، هُو رضى الله تعالى وإطاعة أمره؟ هذا البُعد الداخليّ مِن حياة الإمام(عليه السلام) الذي يُقرأ في نَشاطاته.

 

 


[1]  المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الفصول المختارة، تحقيق السيّد نور الدين جعفريان الأصبهانيّ والشيخ يعقوب الجعفريّ والشيخ محسن الأحمديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص97.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص408 - 410.

 

133


111

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

أوّلاً؛ هل سعى الإمام(عليه السلام) في سبيل مجدٍ أو مالٍ أو حياة خاصّة؟

إنّ التجارب تؤكّد نَفْيَ هذا الادّعاء، لأنّه كان يَقول ويَلتزم بما يقوله، فَعَنه(عليه السلام): «أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ،‏ وَمِنْ طُعْمِهِ‏ بِقُرْصَيْهِ‏»[1].

ثانياً؛ هل كان الإمام(عليه السلام) يفكّر في المجد والشهرة والحُكم والخلافة والعَظَمة؟

كلّا. سيرته تؤكّد قَوله: «وَاللهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ، مَا فَعَلْتُهُ»[2]. فَقد كان يتكلّم وهو في فِراش موته، وفي وصيّته الأخيرة، كما يتكلّم يوم استلامه الخلافة والحُكم، فَلا يَشعر بِفارقٍ أبداً؛ أكانَ حاكماً في العالَم أو على فراش الموت، هذا إنْ لم نَقُل أنّه كان أسعد حظّاً وأكثر ارتياحاً وأُنساً. كيف لا، وهو الذي يقول: «وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ»[3]؟

ثالثاً؛ هل كان الإمام(عليه السلام) يُفكّر في أرحامه؟

نعم، كان يُفكّر في إنقاذهم مِن الجهل وَالظلم. أمّا إذا طمعوا في حصّة الناس، وفي أموال المسلمين، وأرادوا أن يستغلّوا انتسابهم له لكي يزيدوا حصّتهم مِن بيت المال، فَيُعاملهم كما عاملَ عقيلاً-أخاه الأكبر، وهو أعمى وفقير- حينَ طالبَه بِزيادة حصّته مِن بيت مال المسلمين بِما لا يستحقّ، وَكرّر الطلب، ظنّاً منه أنّه قد ألان قلبَ عليّ(عليه السلام)؛ القلب الذي كان يهفو ويَرقّ لكلِّ مُتعَب، لأنّ أولاده شُعث الشعور وَغُبر الوجوه، كأنّما اسودَّتْ وجوههم. كان يرى الإمام

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص417، الكتاب 45.

[2] المصدر نفسه، ص347، الخطبة 224.

[3]  المصدر نفسه، ص52، الخطبة 5.

 

134


112

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

(عليه السلام) ذلك، لكن بِماذا أجابه؟ أَحْمى حديدة وأدناها مِن يَده، وعندما تألّم عقيلٌ صرخَ، وعاتب الإمامَ(عليه السلام) على أنّه يُريد أن يحرقه، فَقال له(عليه السلام): «ثَكَلَتْكَ الثواكلُ يا عقيل. أتئنُّ مِن حديدةٍ أحماها إنسانُها لِلَعِبِه، وتجرّني إلى نارٍ سَجّرَها جبّارُها لِغَضبه؟ أَتَئِنُّ مِن الأذى ولا أَئِنُّ مِن لَظىً؟»[1]؛ هذه معاملته مع أخيه. هذا الرجل الذي كان لا يَعرف البُخل... عليّ(عليه السلام) يعرف أنّ الرأفةَ بِعقيلٍ حرمانٌ للآخرين ممّن هُم أشدّ حاجةً إلى هذا البرّ...

رابعاً؛ هل كان الإمام(عليه السلام) يُفكّر في مَن خَدَمه وَساعده؟

طالبَ طلحةُ والزبير عليّاً(عليه السلام) بحصّتهما مِن الخلافة، إذ كانا مِن أنصاره في الشورى، وَأوّل مَن بايعه بعد الخلافة. جاءا يَطلبان حصّتهما، حتّى يُسدّد الإمام(عليه السلام) فواتيرهما، فَأطفأ الإمام(عليه السلام) الشمعة وأَضاء أخرى، وقال: «إنّ الشمعة الأولى مِن بيت مال المسلمين، وأنا لا أقبل أن أستعمل تلك الشمعة في سبيل قضاءِ مصلحةٍ خاصّة»[2].

دوافع الإمام(عليه السلام) الحقيقيّة

«ما هو دافع الإمام للتحرُّك؟ أكانَ سبباً شخصيّاً وَراء المادّة؟ كلّا. فَفي واقعة الأحزاب، انتصر على عمرو بن ودّ العامريّ البطل، ولكنّه قبل أن يقضي عليه تعرّضَ للإهانة منه، فَقام مِن على صدره وبَدأ يتحرّك حول الميدان، حتّى هدأ غضبه، ثمّ رَجع للقضاء عليه، وَقال: «ما أردتُ أن أُشرِك غضبي في إرادة ربّي». فَعليّ(عليه السلام) لا يَقتل الناس إلّا إذا تحوّل الإنسان إلى عنصر شرّ وفساد وجرثومة تفتك بالجماهير، لا يقتل إلّا إذا أمرَه الله بالقتل، فَيقضي عليه الحكم والقانون والله، والدموع تنزل مِن عيون مَن ينفّذون الحكم. وَعليّ(عليه السلام) لا يتحرّك بِدافع الغضب وَالخوف وَالطمع، وَلا بِسبب الدافع الذاتيّ أوَ العائليّ

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص347، الخطبة 224.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص413 - 415.

 

 

135


113

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

أو السياسيّ،بل إنّ تحرُّكه بأمرٍ مِن الله سبحانه وتعالى؛ هُو ينظر إلى كلّ شيء مِن هذه الزاوية، إذ يقول: «إلهي، ما عبدتُك خوفاً مِن نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتُك أهلاً للعبادة فَعبدتُك»[1] و«إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فيه فَتِلك عبادة التُجار، وإنّ قوماً عَبدوا الله رهبةً منه فَتِلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً له فَتِلك عبادة الأحرار»[2].

وَما كان عليّ(عليه السلام) معقّداً أمام الدنيا؛ لذا وَضعَ قانوناً في تصرّفاته؛أهلاً بالدنيا التي هِي ملكي وطَوع يدي، وتساعدني في خِدمة الآخرين، وتنفيذ مرضاة الله. أمّا الدنيا التي لا نُريدها، فهي الدنيا الغرّارة «غُرّي غيري»[3] التي تُخرج حُبّ الله وعبادته مِن قَلبِ الإنسان. عليّ(عليه السلام) لا يحارب الدنيا بِصورة معقّدة ومطلقة، بل يريد أن يجعل الدنيا عند حدّها حتّى لا تَطغى. عليّ(عليه السلام) يتحرّك بِدافع مِن الله؛ لذا تجد وراء عمله ذات الله؛ ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ﴾[4]. الله هو الذي يُحرّك عليّاً(عليه السلام)، ويَضرب بِيَد عليّ(عليه السلام)، وينطق على لسان عليّ(عليه السلام)، ويُعطي بِيَد عليّ(عليه السلام)، ويُجري على فِكر عليّ(عليه السلام). وهذا ليس اختصاصاً لعليّ(عليه السلام)، بل لِكلّ مَن أخلص لله، وَكلّ مَن سلك سبيلَ الله، وكلّ مَن حاول أن يسمو ويترفّع عن دوافعه الذاتيّة وأنانيّته ومصالحه الخاصّة؛ فَهو عَلويّ النهج وعَلويّ الطريقة. إنّ عَين عليّ(عليه السلام) لا تنظر إلى مَصلحته الخاصّة، بل تُنفّذ أوامر الله»[5].

فَلْننهج نهج عليّ(عليه السلام)

«إنّ هذا الخطّ ليس معجزاً. إسلامنا هو الذي يَصنع عليّاً(عليه السلام)، وَإطاعة ربّنا هي التي تكوِّن هذه النماذج مِن الناس. نستطيع أن نسلك

 

 


[1]  ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئاليّ، مصدر سابق،ج2، ص11.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص510، الحكمة 237.

[3] المصدر نفسه، ص480، الحكمة 77.

[4] سورة الأنفال، الآية 24.

[5]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص415 - 416.

 

 

136


114

الإمامُ عليّ(عليه السلام) القسطاسُ المستقيم

هذا الخطّ، فنحنُ نُسمّي عليّاً(عليه السلام) إماماً لِنَكون مِثله؛ هذا هو مفهوم الإمام(عليه السلام)، لا أن نعدّه جوهرةً فنقدّسه ونعزله عن التأثير في حياتنا، فإنّ هذا قتلٌ للإمام(عليه السلام). وَأنا أعتقد أنّ قَتَلة الإمام(عليه السلام) الحقيقيّين هُم الذين قتلوا رسالته وعزلوه عن التأثير والقيادة. هذا الخطّ المشرق أمامنا؛ انتسابي الحقيقيّ لِعليّ(عليه السلام) هو سُلوكي خَطَّه. إذاً، الإمام عليّ(عليه السلام) لا يتحرّك ولا يضرب ولا يقف ولا يسامح ولا يعطي ولا يغضب ولا ينطق ولا يسكت إلّا بِأمر الله؛ يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[1]. علينا أن نسلك هذا الخطّ، لأنّه خطّ النجاح والخلود والانتصار»[2].

«ولكن ما لنا وللإمام(عليه السلام)؟ مع ما قُلناه كلّه في مدحه، وَما ذكرناه كلّه، هل يبقى مجال للتساؤل: ما يخصّنا؟ ما يَهمّنا؟ ما لنا ولعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ ما لِعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ولَنا؟ هل يَكفيه أنّنا نحبّه؟ الحبّ وسيلة تسهّل علينا متابعته، ولكن، هل إنّ الحبَّ كلّ شيء؟ هل يكفي الحبّ؟ كلّا، بِالعكس، فالمسؤوليّة تكبر وتَقوى، لأنّ الإنسان الذي يحبّ الإمام(عليه السلام)مسؤول أكثر مِن الذي لا يحبّه أو لا يعرفه. نحن -في الحقيقة- جعلنا الإمام(عليه السلام) عظيماً، ثمّ وضعناه في واجهةٍ كَبِضاعة نَعتزّ بها فقط. نحن نُسمّي عليّاً(عليه السلام) إمامنا، أليس كذلك؟ ما معنى الإمام؟ إمام الجماعة، ماذا يعمل؟ إذا كبَّر كبَّروا، وإذا ركع رَكَعوا، وإذا سجد سَجَدوا. أيمشي عَليّ بن أبي طالب(عليه السلام) مِن خطّ، وَنمشي مِن خَطّ آخر، ونقول إنّه إمامنا؟ الإمام -في اللغة- ميزانُ الزئبق؛ يعني وسيلة لاستقامة الحائط، وَعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وسيلة لاستقامتنا، وفاق ما وَرد في القرآن الكريم: ﴿بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ﴾[3]، ما معنى القسطاس؟ نحن نوزن السكّر والأرزّ بالميزان، ولكنّنا نوزن الحرارة بميزان الحرارة. أمّا إذا أردنا أن نوزن الإنسان، فبأيّ

 

 


[1]  سورة الأنعام، الآية 162.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص417.

[3]  سورة الشعراء، الآية 182.

 

137


115

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

ميزان نوزِنه؟ بِعليّ بن أبي طالب(عليه السلام). ونحن مِن أتباعه، مِن جماعته، محسوبون عليه، فَإذا دخل أحدهم لبنان، وأراد أن يعرف عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) مِن جماعته، لا مِن الكتب، ماذا يقولون؟ يقولون هؤلاء الجماعة مِن جماعة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). بينك وبين الله، هل إنّ وَضْعنا الحقيقيّ يُشَرّف الإمام(عليه السلام)؟

نحن في لبنان، متعدّد المذاهب والأديان، نمثّل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). فَهل نتشبّه في حياتنا به؟ لَو كان بيننا، هل كان يرضى لنا هذا الوجه الاجتماعيّ؟ لَو كان بيننا، هل كان يقبل أنْ تُصرف طاقاتنا وسعينا وسيفنا وبأسنا في سبيل مصالحنا الخاصّة، أو لِضَرب إخواننا وجيراننا مِن هنا وهناك؟ لَو كان بيننا، هل كان يَقبل أن نَظلم أزواجنا، أو ألّا نربّي أولادنا؟ إنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) موجود بيننا، فَهو ليس جسماً حتّى نقول إنّ جسمه مات، بل إنّ حقيقته بكلماته، بتعاليمه، بسيرته، بحياته. أمام الذكرى، علينا أن ننتبه إلى ما يمكن أن نقتبسه لصالحنا، ولحياتنا، لأنّ واقعنا لا يشرّف عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

حسناً، «فِداء لِعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)» ماذا تعني، يا جماعة؟ هو غير موجود بجسمه، لكنْ ما هو أعزّ منه موجود؛ دينه، دين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تعاليمه. هذا الرجل هدفه قائمٌ الآن، فإذا ضَعّفنا الإسلام أو قَلّلْنا مِن قيمته، وَتركنا الصلاة والواجبات، وَشاركنا الموجة العامّة للفسق والفجور، فإنّنا نعطي السلاح إلى أعداء عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) حتّى يُميتوه. أنحنُ جماعته؟ إذا كنّا مِثله، وَفي خطّه، فَلْنكُن مِثلما قال(عليه السلام): «... أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ»[1]»[2].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص417، الرسالة 45.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص410 - 411.

 

138


116

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم
سرد موجز

«وُلِدت فاطمة (عليها السلام) بعد مَبعث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بخمس سنوات؛ أي قبل الهجرة بِثماني سنوات، وهي آخر أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مِن خديجة. وُلدت في مكّة، في بيت الوحي والجهاد، وفي أجواء الصبر والصمود وتحمّل المشاقّ. وترعرعَتْ في غمار العواطف الصادقة والحبّ الطاهر المتبادل بين رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله) وبين خديجة (عليها السلام)، التي ما نَسِيَ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عواطفها وإخلاصها طوال حياته.

هاجرَتْ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مِن مكّة إلى المدينة، مع الأخريات مِن أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بِرعاية عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والتحقوا جميعاً بموكب الهجرة في منزل قباء، بِالقرب مِن المدينة.

تزوّجَت مِن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في السنة الثانية للهجرة، حينما بلغَت العاشرة من عمرها، وبلغَ هو الثالثة والعشرين؛ هذا هو المشهور في روايات آل البيت (عليهم السلام)، وهو أقرب إلى السيرة المتّبعة، مِن استحباب الإسراع في تزويج البنات،إذ إنّ عُمرَ فاطمة (عليها السلام) حين زواجها مِن عليّ(عليه السلام)-بِحَسَب هذا النقل- عشر سنوات، وبموجب النقل الثاني عن ابن عبّاس، وهو ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، فإنّ عمرها حال الزواج عشرين سنة. أمّا استغراب الحمل والولادة في السنين المتأخّرة مِن حياة خديجة (عليها السلام)، فَيَرفعه إمكان حيض المرأة القرشيّة والنبطيّة في عُمر الستّين؛ وَهذا أصلٌ مشهور بين الفقهاء.

 

140


117

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

وَقَد أكّد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأصحابه أنّ تَفضيل عليّ(عليه السلام) مِن بين الخاطبين الكُثر لِفاطمة (عليها السلام) كان بِنصيحة مِن الغَيب، وَلِعَدم رضاها بِغَير عليّ(عليه السلام)، إذ رضيَتْ به مِن دون سِواه، على الرغم مِن محاولات كثيرة بَذَلَتها نساء المدينة في نصحها بِعَدم الإقدام على الزواج مِن عليّ(عليه السلام)، لِفَقره، وانصرافه إلى الجهاد المستمرّ، وَصلابته في ذات الله. وقد عاشَتْ معه ثماني سنوات حياةً مثاليّة، هِيَ عنوان الحياة الزوجيّة، وأنجبَت له الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم (عليهم السلام)، ومحسن الذي أجهضتَه بعد وفاة أبيها في الأحداث المؤلمة التي حدثَتْ آنذاك. وتوفّيَتْ بعد أبيها بأشهر قليلة، ودُفنَت في مكان مجهول -بِحَسَب وصيّتها، وتنفيذاً لرغبتها- بعد أن شُيّعَت سرّاً في الليل. وبعض الآثار التاريخيّة والأحاديث المأثورة تؤكّد أنّ قبرها في أحد الأماكن الثلاثة: البقيع، أو بيتها الملاصق -في زماننا هذا- لِقَبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أو الروضة الشريفة، التي هِيَ بين محراب الرسول (صلى الله عليه وآله) وقبره، والتي تتميّز الآن بِأعمدة خاصّة.

بلغَت فاطمة (عليها السلام) من العمر ثماني عشرة سنة وبضعة أشهر، وَهُو عُمر قصير، لكنّه مثال كامل وشامل لحياة المرأة التي يريدها الله، ويسعى إلى تحقيقها دينُه. فَالتعاليم الدينيّة تحتاج نماذج مِن البشر يجسّدونها، ويحقّقون تنفيذها تحقيقاً كاملاً، لكي يُخرجوها عن الفرضيّة المثاليّة، وَلا يكون للناس على الله حُجّة.

حينما أرادَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يُباهل -والمباهلة ابتهال إلى الله لِكَشف الحقيقة بعد عدم اقتناع الخصم بالحُجّة، وقد كانت الوسيلة الناجعة الأخيرة في دعوة الأنبياء (عليهم السلام)،نُصرةً لله ودين الحقّ- بعد أن أُمِر بذلك، بموجب الآية الكريمة: ﴿فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾[1]، أصبحَ في مقام عرض الأبناء والنساء والأنفس، الذين يمثّلون رجال

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 61.

 

141


118

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

الإسلام ونساءه وأبناءه، فَاختار عليّاً وفاطمة والحسنَيْن (عليهم السلام)، مُعلِناً بذلك إيمانه بالحقّ، وبتمثيل هؤلاء لِدينه تمثيلاً كاملاً.

فَلْندرسْ -بِصورة موجزة- هذه المرأة، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، المثال الصحيح للمرأة المسلِمة، بَعد هذا السرد المقتضب لحياتها»[1].

أُمّ أبيها

«إنّ فاطمة (عليها السلام) الفتاة تحاول أن تُشارك في جهاد أبيها، فَتسعى، مُخلِصةً،في سَدّ الفراغ العاطفيّ الذي كان يعيشه الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد أن فَقَد أبوَيْه في أوّل حياته؛ هذا الفراغ الذي كان يزعج النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وينعكس على قلبه الرهيف المشتاق إلى الحبّ. إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان بحاجة إلى عطف الأمّ ورعايتها في حياته، وفي عمله الشاقّ والمضني في مواجهة بيئته القاسية، وَقَد وجد هذا كلّه في فاطمة (عليها السلام). وَالتاريخ لا يُحدّثنا إلّا نُتَفاً عن هذه المواقف الأموميّة التي كانت تصدر مِن فاطمة (عليها السلام) تجاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكنّه يؤكّد نجاحَها في هذه المحاولة التي أعادَت إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) الاكتفاء العاطفيّ الذي ساعدَه -من دون شكّ- في تحمّل الأعباء الرساليّة الكبرى، حينما يُنقل -مِراراً- عن لسانه (صلى الله عليه وآله): «فاطمة أمّ أبيها»، وحينما كان يُعاملها معاملة الأمِّ فَيُقبّل يَدها، ويزورها ابتداءً عند عودته إلى المدينة، ويُودّعها وينطلق مِن عندها إلى الأسفار والرحلات، وكأنّه يتزوّد مِن هذا النبع الصافي عاطفةً لِسَفَره.ومِن ناحية أخرى، نجدُ إحساسَ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالأبوّة متجسّداً في صِلاته مع فاطمة (عليها السلام)، فَحينما أُمر الناس بِأن يخاطبوا محمّداً(صلى الله عليه وآله) بِرسول الله، نَفّذَت فاطمة (عليها السلام) هذا الأمر، إلّا أنّه منعها، وَطَلب مِنها أن تخاطبه بــ«يا أبَه». كما أنّنا نُلاحظ، في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)،كثرة دخوله عليها في حالات تعبه وآلامه، أو حينما يُجرح في الحروب، أو حال جوعه أو فَقره، أو في دخولِ ضَيفٍ عليه. فَتُقابله فاطمة (عليها السلام) 

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص443 - 444.

 

142


119

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

الأمّ،فَترعاه وتحتضنه وتُضمّد جروحه وتخفّف مِن آلامه، وتُقابله فاطمة (عليها السلام) البنت، فَتَخدمه وتُطيعه وتُهيّئ له ما يحتاج إليه؛ إنّ دَورها العظيم في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانَ كهذا»[1].

زواجها (عليها السلام)

«يقول عليّ(عليه السلام): «أتيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فَلمّا رآني ضَحِك، وَقال: ما جاء بكَ يا أبا الحسن(عليه السلام)؟ [قال] فَذَكرتُ له قرابتي وقِدَمي في الإسلام ونُصرتي له وجهادي. فَقال (صلى الله عليه وآله): يا عليّ، صدَقتَ، فأنت أفضل ممّا تَذكر. فقلتُ: يا رسول الله، فاطمة (عليها السلام)، أتُزَوِّجنيها؟ فَقال: يا عليّ، إنّه قد ذَكَرها قَبلك رجال، فَذكرتُ ذلك لها، فَرأيتُ الكراهة في وجهها، ولكن على رسْلِك حتّى أخرج إليك. فَدَخل عليها، فَقامَت فَأخذَت رداءه ونزعَت نَعليْه وأتته بالوضوء، فَوَضّأته بِيَدها وغسلَت رجلَيْه، ثمّ قعدَت، فَقال لها: يا فاطمة. فقالت: لبّيك لبّيك، حاجتك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: إنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)،مَن قد عرفْتِ قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألتُ ربّي أن يُزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه، وقد ذكر مِن أمرك شيئاً، فَما تَرَين؟ فسكتَتْ، ولم تُوَلِّ وجهها، ولم يرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها كراهة. فَقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها. فأتاه جبرائيل(عليه السلام)، فَقال: يا محمّد (صلى الله عليه وآله)، زوِّجها عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، فإنّ الله قد رَضِيَها له ورَضِيَه لها. قال عليّ(عليه السلام): فَزوّجني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ أتاني فأخذ بِيَدي، فَقال: قُم، بِاسم الله، وقُل: على بَركة الله، وما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وتوكّلتُ على الله. ثمّ جاء بي حتّى أقعدني عندها، ثمّ قال: اللهمّ إنّهما أحبُّ خَلقك إليّ، فأَحِبّهما، وبارِك في ذرّيّتهما، واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أُعيذهما بك وذرّيّتهما مِن الشيطان الرجيم»[2].

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص444 - 445.

[2]  راجع: الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية- مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414هـ، ط1، ص39 – 40.

 

143


120

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

بهذه البساطة تمّت مراسم الزواج. وقد جعل عليّ(عليه السلام) درعَه مهراً، وصُرفَتْ قيمته لتجهيز البيت. فاشترى به الطيب وقميصاً بِسبعة دراهم، وخماراً بِأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبريّة، وسريراً مُزَّمَّلاً بِشريط -أي ملفوفاً بِخوص- وفراشان مِن خَيش مِصر؛ حَشْو أحدهما ليف، وَحشْو الآخر مِن جزّ الغنم، وأربعة مرافق مِن أدم الطائف حَشوُها إذخِر[1]، وستراً مِن صوف، وحصيراً هَجَريّاً[2]، ورحى لليد، ومِخضَباً[3] مِن نحاس، وسقاء مِن أدم[4]، وقعباً -كأساً مِن خشب مقعّر- للّبن، وشنّاً[5] للماء، ومَطْهَرَة[6]، وجرّة خضراء، وكيزان[7] خزف. هكذا تمّ التجهيز وَقبض المهر.

وانتقلت فاطمة (عليها السلام) إلى بيت عليّ(عليه السلام)، المؤلَّف مِن غرفة واحدةٍ كانت لأمّ سَلَمة، زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وصعد عليّ(عليه السلام) على ربوة هناك، ونادى: «أجيبوا إلى وليمة فاطمة(عليه السلام)». فَأقبل الناس واشتركوا في فرحة آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله).

وبدأت فاطمة (عليها السلام) حياتها الجديدة في بيت عليّ(عليه السلام)، فَكانت تقوم بواجبات البيت، فَتطحن وتَعجن وتخبز، وكان عليّ(عليه السلام) يُشاركها في الخدمات، فَيَكنس البيت -في بعض الأوقات- ويحلب العنز ويحتطب ويستقي. وَقَد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينهما، فَوَزّع عليهما خدمات البيت، فَجَعل لعليّ(عليه السلام) ما هو خارج الباب، ولِفاطمة (عليها السلام) ما دونه. ثمّ أنجبَتْ له الأولاد، فَكانت تقوم بتربيتهم وخدماتهم حتّى تضايقَت لِكثرة الأعمال ولِقيامها وحدها بها، رعايةً لفَقر عليّ(عليه السلام) وكرمه. وراجعَتْ -بِطَلَبٍ مِن زوجها- رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)، لَعلّه يساعدها

 

 


[1]  خيش طيّب الرائحة.

[2]  أي مِن صنع هَجَر؛ بلدة في البحرين.

[3]  إناء تغسل فيه الثياب.

[4]  للسقاء: جلد السخل يكون للماء واللبن.

[5]  الشنّ بالفتح: السقاء الخلق، وهو أشدّ تبريداً للماء مِن الجديد.

[6] إناء يُتَطهّر به.

[7]  جمع كوز، وهو الكوب.

 

144


121

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

في استخدام خادمة تُعينها على بعض الأعمال، فاعتذَر عن ذلك، وذَكَّرها بِفَقر الناس وكثرة أصحاب الصُفّة؛ أي أصحابه الفقراء الذين لا يملكون مسكناً ولا قوتاً كافياً. ولكنْ بَعد مدّةٍ تحسّن وَضع الأُمّة، فَاستجاب الرسول (صلى الله عليه وآله) لِطَلبها، فَأرسلَ لها خادمة، فَوزّعَت الخدمات البيتيّة بينها وبين الخادمة؛ يوم لها ويوم لخادمتها.

وأنهتْ حياتها (عليها السلام) مُلخّصة تصرّفاتها الزوجيّة بِجملة تخاطب فيها عليّاً(عليها السلام)، مُعتذِرة مُودّعة: «يابن عمّ، ما عهدتَني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتُك منذ عاشرتك». ثمّ تموت مُطمئنّة حينما تسمع عليّاً(عليه السلام) يقول لها: «معاذ الله -أنتِ أعلم بالله، وأبرّ وأتقى وأكرم، وأشدّ خوفاً مِن الله- أن أوبّخك بمخالفتي. قد عزَّ عَلَيَّ مفارقتك»[1]»[2].

في طَلَب العِلم

«إنّ فاطمة (عليها السلام) لا تكتفي بما هيّأ لها بيت الوحي مِن المعارف والثقافات -على كثرتها- ولا تقتصر على الاستنارة العلميّة التي كانت تُهيّئ لها شموس العِلم والمعرفة المحيطة بها مِن كلّ جانب، بل تُريد أن تكدح في طَلَبِ العِلم، فَلا تُوفّر جُهداً في سبيل كَسْب هذا الشرف؛ لذا نراها، في لقاءاتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع عليّ(عليه السلام) -باب مدينة العِلم- تحاول امتصاص العلوم والمعارف بِكلّ وسيلة، وبالأسباب والطرق المختلفة. ومِن أجمل هذه الوسائل إرسال ولدَيْها الحسنَيْن (عليهما السلام) إلى مجلس الرسول (صلى الله عليه وآله) مُنذ طفولتهما بِصورة دائمة، ثمّ استنطاقهما بعد العودة إليها، والسؤال عمّا يجري مِن سؤال وجواب ووحي هناك؛ بِهذه الطريقة كانت تحرص على التقدّم الثقافيّ المستمرّ لنفسها، مع تشجيع ولدَيْها وتربيتهما العمليّة لاستيعابٍ كاملٍ للمعارف والعلوم، بحيث يتمكّنان مِن نقلها.


 


[1]  النيسابوريّ، الشيخ محمّد بن الفتّال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص151.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص446 - 447.

 

145


122

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

هذا الجهد المتواصل في طَلب العِلم، على الرغم مِن الأوقات والطاقات التي كانت تبذلها فاطمة (عليها السلام) في سبيل أداء واجباتها البيتيّة ومسؤوليّاتها العامّة، جعلها مِن كُبريات رواة الحديث وحَمَلة السنّة المطهّرة. وكان عند أبنائها الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كتابٌ كبير لها باسم «مصحف فاطمة (عليها السلام)»، ينقلون عنه كثيراً، ويتحدّثون عنه باعتزاز»[1].

الجهاد المتواصل

«لقد لاحظ القارئ نماذج مِن جهاد فاطمة (عليها السلام) في بيت أبيها، وفي بيتها، وفي مواقفها الإيجابيّة والسلبيّة تجاه الأحداث العامّة، حتّى في وصيّتها، إذ جعلَت مِن سرعةِ دَفْنها وإخفاء قبرها سَندَيْن لاعتراضها على الوضع العامّ. غير أنّها اشتركَتْ، في مُقدّمة النساء المسلِمات، في الحروب التي خاضَها المسلمون دفاعاً عن عقيدتهم وصيانةً لكرامتهم وحُريّتهم، وقامَت بِدَورها؛ الدور الذي كان على المرأة المجاهِدة في ذلك العَصر، مِن ضماد الجرح وغَسْل الثياب وتمريض الجرحى وتحضير وسائل الحياة كافّة في الحرب. وَقد لعبَتْ دوراً بارزاً وشاقّاً في نُصرة الحقّ والدفاع عن وصيّة الرسول (صلى الله عليه وآله)، حينما كانت تقوم بزيارات سرّيّة لأصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) تُشجّعهم على الوقوف إلى جانب عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). وقد وقفَتْ، بِشكلٍ لا مثيل له وبصورة حادّة، بِحَسَب نَقْل المؤرّخين، مع عليّ(عليه السلام) في أحرج أيّام حياته، مؤكّدة أنّ الجبهة الداخليّة في حياة عليّ(عليه السلام) صامدة لا تشعر بالضعف، ولكنّها تترك تقدير الظروف وانتخاب المواقف لِقائدها وزوجها الإمام(عليه السلام)، فَيُقرّر ويُصمّم ويَأمر، فَيُطاع.

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص447.

 

147


123

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

وفي سيرة فاطمة (عليها السلام) أنّها كانت تأتي قبور الشهداء، وَقبر الحمزة، غداةَ كلِّ سَبت، فَتترحّم عليهم وتستغفر لهم. إنَّ هذه البداية لأعمال الأسبوع تُفصح عن مدى تقدير فاطمة (عليها السلام) للجهاد والشهادة، وتُعبّر -بِوضوحٍ- عن حياتها العمليّة التي تبدأ بالجهاد، وتستند إلى التضحية حتّى الاستشهاد»[1].

فاطمة في المحراب

«يقول الحسن بن عليّ (عليهما السلام): «رأيتُ أمّي فاطمة (عليها السلام) قامَت في محرابها ليلة جُمعتها، فَلم تَزَل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضحَ عَمود الصبح. وسمعتُها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتُسمّيهم، وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بِشيء»[2].

وفي سيرتها أنّها كانت تخصّص الساعة الأخيرة مِن نهار الجمعة للدعاء، وأنّها لا تنام الليل في العَشر الأخيرة مِن شهر رمضان المبارك، وَتَحثُّ مَن في بيتها على إحياء الليل بالعبادة والدعاء، وأنّها كانت تَشكو مِن تَوَرُّم قدمَيْها لِكَثرة وُقوفها بين يَدَي رَبّها، خاشعةً مُتهجّدة. وَهَل خَرجَت فاطمة (عليها السلام) في حياتها كلّها مِن المحراب؟ وهل كانت حياتها كلّها إلّا السجود الدائم؟ فَهي في البيت تَعبد الله بِحُسْنِ التبعُّل وتربية أولادها، إذ إنَّ مسجد المرأة بيتها. وَفي قيامها بالخدمات العامّة تُطيع الله وتَعبده في خَلقه، الذين هُم كلّهم عيال الله، وأَحَبّ خَلْقه إليه أنفعهم لِعياله. وفي مُواساتها الفقراء والمتعبين والمعذَّبين تقوم بِعبادة الله، بِنَفسها وبِأهل بيتها، إذ إنّهم كانوا، بِحَسَب نَقْل القرآن الكريم، ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرًا﴾[3]، إذ ﴿ويؤثرون على أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص454.

[2]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق- النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص82.

[3]  سورة الإنسان، الآية 8.

 

147


124

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

خَصَاصَة﴾[1]، والغاية على لسانهم وفي قلوبهم: ﴿إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآء وَلَا شُكُورًا﴾[2]»[3].

الكوثر

«في السنة الثانية للهجرة النبويّة ماتَ إبراهيم، آخر أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) الثلاثة، فَبَقِي الرسول (صلى الله عليه وآله) بِلا عَقِب، بِحَسب المنطق الجاهليّ. وبَدأ الشامتون المنافقون يَفرحون، ويَنتظرون موتَ رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) مع موته، إذ إنّ الرسالة -بِزَعمهم- وسيلة ومُلكاً، وَإنَّ الولدَ الذَكَر -لا الأنثى- استمرارٌ لشخصيّة والده، وبقاءٌ لمجده وذِكره، وَقَد فَقَد محمّد (صلى الله عليه وآله) أولاده الذكور، وَها هُو يعيشُ العقدَ السادس مِن عمره. ولكنّ الوحيَ الإلهيّ أوضحَ خطأهم وزَيَّف منطقَهم، وأعلن: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾[4]؛ فالرسالة باقية، والإسلام خالد، ومجد محمّد (صلى الله عليه وآله) مُقترن بِمَجْد الله، وذِكره يملأ الأبد، وذرّيّته حَفَظة الرسالة وأعلام الهداية، والشامت المنافق هُوَ الأبتر.

إنَّ فاطمة (عليها السلام) تجسيدُ الكوثر، فَذرّيّة الرسول (صلى الله عليه وآله) مِنها، وأبناؤها الأئمّة المعصومون (عليهم السلام)، ثاني الثقلَيْن اللذَيْن تَركَهما محمّد (صلى الله عليه وآله) في أُمّته، فَلا يفترقون عن الثقل الأوّل؛ أي القرآن الكريم، يَصونونه ويُضحّون مِن أجله. وهذان الثقلان -الكتاب والعترة- استمرار لِوُجود محمّد (صلى الله عليه وآله) ورسالته، ووسيلة لِسلامة سيرة الأمّة في الخطّ الصحيح،من دون انحراف أو ضلال. وقَد وردَ هذا الشأن الفاطميّ العظيم على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أماكن مختلفة، منها: «ذُرّيّتي مِن نَسْل عليّ

 

 


[1]  سورة الحشر، الآية 9.

[2]  سورة الإنسان، الآية 9.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص454 - 455.

[4]  سورة الكوثر.

 

148


125

السيّدة الزهراء (عليها السلام) الكوثرُ العظيم

وفاطمة (عليهما السلام)»[1] و«الحسن والحسين (عليهما السلام)، ابناي، إمامان؛ قاما أو قعدا»[2] و«إنّي تارك فيكم الثقلَيْن: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً. وإنّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عَلَيّ الحوض»[3].

وَقَد قامَت ابنتها زينب (عليها السلام) بِدَور مصيريّ في إنجاح حركة الحسين(عليه السلام)، لإعادة روح الإسلام إلى الأمّة، وللقضاء على الظُلم والاستعباد والانحراف، عندما كانت تتحكّم باسم الإسلام فَلَم يَبقَ منه إلّا اسمه. ومواقف زينب (عليها السلام) وخطبها وشعاراتها وجهادها وعِلمها صورةٌ حيّةٌ عن فاطمة (عليها السلام).

إذاً، في ما قدّمْنا، وفي غيره ممّا لا يَسعه هذا المختصر، نجدُ الكوثرَ العظيم الذي أعطاه الله لِنبيّه (صلى الله عليه وآله)؛ هذه هي فاطمة (عليها السلام)، ابنة أعظم نبيّ، وزوجة أعزّ إمامٍ وبَطل، وأمّ أَينع بزغتَيْن[4] في تاريخ الإمامة»[5].

 

 


[1]  ورد عنه (صلى الله عليه وآله): «ما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً إلّا وجعل ذرّيّته مِن صلبه، وجعل ذرّيّتي مِن صلبك. ولولاك ما كانت لي ذرّيّة». الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج4، ص365.

[2]  راجع: المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج2، ص30.

[3]  راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص415.

[4]  مِن بزوغ الشمس؛ أي إشراقتَيْن.

[5]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص455 - 456.

 

149


126

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق
تمهيد

إنَّ الإمامَ الحسين(عليه السلام) نبراس المصلِحين في العالم، وإمام المؤمنين ذوي القلوب التي لهُ فيها حرارة لا تبرد أبداً، كما عبّر جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله). قادَ -في قيامه المقدّس- مجموعة مِن أهل بيته وأصحابه، فَكانوا المثل الأعلى في التضحية والوفاء والإيثار والاستبسال في القتال حتّى الشهادة. وأصبحَت هذه الملحمة مَصدر تنوير وإلهام لِلمُصلِحين والمناضلين والمكافحين للظُلم والطغيان كلّهم.

وتُعدّ الثقافة الحسينيّة وسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) -خاصّةً في واقعة كربلاء- مُنطلَقاً لِكلّ مشروع استنهاضٍ، خاصَّةً لدى الشيعة. فَتكون عاشوراء؛ بِأدبيّاتها وشعاراتها وعناوينها وشخصيّاتها ورموزها وأبطالها ووقائعها ودروسها... المتصدّر لِمَسيرة النهضة، وَمصدر الإلهام والتنوير والحماسة.

مِن هنا،يُبدع الإمام الصدر في مقاربته الفكريّة للقيام الحسينيّ المقدّس. وفيما يأتي، نذكر بعض تحليلاته حول واقعة عاشوراء، وكيفيّة إدارة الإمام الحسين(عليه السلام) لهذه النهضة الخالدة.

الليلة الأخيرة

«في الليلة الأخيرة مِن ذكريات عاشوراء، نَسأل الله أن نكون قد استفَدنا مِن هذه اللقاءات والذكريات، ومِن هذه الفرصة النادرة في حياتنا؛ هذه الفرصة التي توفَّرَ فيها الكثير مِن أسباب السعادة، وأُلقي

 

150


127

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

فيها -بِبَركة الإمام الحسين(عليه السلام)-الكثير مِن أنواع الدروس والعِبَر. وَأُحبّ أن أذكر بَعض وقائع هذه الليلة بِصورةٍ مُتسلسلة ومُعلّلة:

صَدَر الأمر بِقَتْل الحسين(عليه السلام)، وجاء الأمر بِقَطْع المفاوضات التي كانت جاريةً بين عُمر بن سعد وَالإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، وَكذلك المفاوضات مع الشمر الذي وصلَ عصر يوم تاسوعاء إلى كربلاء؛ إذ كتبَ ابن زياد إلى عُمر بن سعد: إنّي ما أرسلتُك حتّى تتفاوض مع الحسين(عليه السلام)، وإنّما أرسلتك لكي تقتل الحسين(عليه السلام) أو تأخذ منه البيعة، فإذا كُنتَ لا تتمكّن مِن ذلك فاعتزِلْ وَسَلِّم الإمارة للشمر بن ذي الجوشن. وَفَور صدور هذا الأمر، بادرَ عُمر بن سعد إلى الأمر بالهجوم على الخيام الحسينيّة، وَشرَعَ في القتل.

أَرسلَ الإمام الحسين(عليه السلام) طالباً منهم مهلة ليلةٍ واحدة. وبعد أن تَناقشوا في ما إذا كانوا سيَقبلون بهذا الاستمهال أم لا، وافَقوا، بِضغطٍ مِن بعض أفراد الجيش. وَقد طلبَ الإمام الحسين(عليه السلام) هذا الموعد مِن أجل إكمال الكثير مِن الأمور الكيفيّة في واقعة كربلاء.

مِن بداية الأمر، مِن حين خروج الحسين(عليه السلام) مِن مكّة، ثمَّ خَبر استشهاد مُسلم بن عقيل،إلى هذه الليلة أخيراً، كانت نتائج المعركة واضحة وبَيِّنة، لأنّها غير متكافئة؛ آلاف، بل عشرات الألوف مِن الناس في جانب، وعشرات الناس في جانب آخر. فَالمعركة ليسَت متكافئة بِوجهٍ مِن الوجوه، ولا يمكن -وَلَو بِنسبة واحد في المئة- أن ينتصر الحسين(عليه السلام) أو ينجو مِن القتل في معركته مع أهل الكوفة وجيش يزيد. إذاً، لا مَفرّ مِن المصير المحتوم إلّا بِالاستسلام والخضوع، وَقد رَفض الحسين(عليه السلام) مُسبقاً هذا الأمر، فَاستعدَّ للقَتْل. ولكنّه، حينما شعرَ بأنّ المعركة غير متكافئة مِن الناحية الكمّيّة، حاول أن يُبرز الجانب الكيفيّ فيها؛أي أنْ يجني ثمرةً مِن الموت والاستشهاد، فَيهزّ -كما سمعتُم- ضمائرَ الأمّة، وَيُخَلّد في التاريخ، ويُحرّك العواطف فَيَكسب عاطفة الناس واحترامهم وشعورهم بِمَظلوميّته وأحقّيّته،

 

151

 

 


128

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

حتّى تنتصر ثورته فيما بَعد. لِذا، حاول الإمام الحسين(عليه السلام) أثناء هذه المدّة، خاصّة في هذه الليلة، أن يُعطي للمعركة جلالها وجمالها وعزّها وكرامتها، ويجعل مِن كلِّ تحرُّك مِن تحرّكات كربلاء، ومِن كلّ زاويةٍ مِن زوايا مَدرسة كربلاء، تحرُّكاً مُشرقاً، حتّى تكون واقعة كربلاءَ، التي انتصر فيها الحسين(عليه السلام)، وقُتل فيها، لوحة مُشرقة في تاريخ الأعصار، وفي تاريخ الأُمّة»[1].

سَعْيُ الإمام(عليه السلام) إلى زيادة إشراقِ قيامه وجاذبيّته

«حاول الإمام الحسين(عليه السلام) أن يزيد في إشراقة وَجه كربلاء وثورتها، بِإعطاء هذه المعركة المعنويّات والطابع الإنسانيّ الجميل. وهذه المحاولة واضحة في حياة الإمام الحسين(عليه السلام) بِصورةٍ طبيعيّة، وفي هذه الليالي الأخيرة بِصورةٍ مقصودة.

فَمَثلاً، حينما التقى الإمام الحسين(عليه السلام) بِالكتيبة الأولى مِن جيش يزيد، وقفَ الحُرّ بن يزيد الرياحيّ وَجيشه -الذي كان يَفوق عدد أصحاب الحسين(عليه السلام) بِأضعاف- في وَجه الحسين(عليه السلام)،ومَنَعه مِن التحرُّك؛ أي إنّه سَبب مَنْع الحسين(عليه السلام) مِن التحرّك مِن هذا المكان، بِحَسَبِ الظاهر، فيُمكنُنا أن نعدَّ الحُرَّ رأسَ الحراب ومُقدّمة قَتْل الحسين (عليه السلام). ومع ذلك، نُلاحظ أنّ معاملة الإمام الحسين(عليه السلام) له ولِجيشه كانَتْ مُعاملةً إنسانيّة رائعة، إذ أَمَرَ جيشَه أن يسقوا أفراد جيش الحُرّ العطشى جميعهم، وأن يُعاملوهم معاملةً حَسَنة، وأن يَسقوا الخيلَ ويَرشّوا على أجسادها مياهاً باردة، حتّى أصبح وقت الصلاة، فَقال الحسين(عليه السلام) للحُرّ: «أنا أُصلّي بِجماعتي، وأنتَ تُصلّي بِجماعتك»، فَقال: حاشاكَ، يابنَ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أُصلّي وَجَيشي معك. فَوَقف الحسين(عليه السلام) إماماً، وَصَلّى خلفه أصحابه وأعداؤه.

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص493 - 494.

 

 

152

 


129

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

إنّ هذه المعاملة الإنسانيّة النبيلة النادرة سيطرَت على الحرّ وجماعته. وهذه المعاملة -أيضاً- فتحَت في قلبِ الحُرّ فتحة وإشراقة امتدّتْ وتوسّعَتْ حتّى الْتَحقَ -في هذه الليلة- بِصفوف الحسين(عليه السلام). فَمُعاملة الحسين(عليه السلام) لِجماعة الحُرّ مُعاملة إنسانيّة رائعة، ولكنّها، بالنسبة إلى الحسين(عليه السلام)، طبيعيّة. إذاً، حاولَ الحسين(عليه السلام) في هذه المعركة، وفي كلِّ جُزء مِن أجزائها، أن يعطي طابعاً إنسانيّاً مُشرِقاً لِمَعركته، بَعد أن يَئِسَ مِن تَكافُؤ القوى.

كانَت هذه الليلة مُهلة للصلاة، حتّى يفتح صفحة جديدة أمام أعين الناس، فَيكشف عن واقع جيشه وعن واقع جيش خَصمه؛ فَيقولُ القائلون إنّهم سمعوا -في هذه الليلة- مِن جيشِ الحسين(عليه السلام) وأصحابه دويّاً كَدَويّ النحل، وَهُم بَين راكعٍ وقاعد وساجد وقائم، في حالة التهجّد والابتهال والاستعداد للموت وَإدراكِ الشهادة. وفي المقابل، كانَ يُرى في جيش ابن زياد الفساد والفجور والانحراف والمؤامرات. إنّ هذه اللوحة تُعطي الطابع المشرق الذي يَقصده الحسين(عليه السلام)، وَتَزيدُ سنداً جديداً ووثيقة جديدة على عدم تكافؤ المعركة من الناحية الكيفيّة والمعنويّة. ومِن هذه المواقف -أيضاً- صلاتُه يوم عاشوراء»[1].

تهيِئَة المعسكر الحسينيّ لِمَعركةٍ مُشرّفة

«أُحبُّ أن أذكر شيئاً آخر، هُو أنّ الحسين(عليه السلام) حاولَ -في هذه الليلة- أن يُهيِّئ أصحابه وأهل بيته وَنساءه، مِن أجل الدخول في المعركة الحاسمة بِعِزّ وقوّة وجَلَد، بِأنْ يُبعد عنهم الجزع والبكاء ومَظاهر الذلّ والاستكانة والخوف نهائيّاً. لذا، بَدأ بالتمهيد لهذه المعركة وَهُو في الطريق، حينما قال: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾[2]، فَسأله ابنه عليّ الأكبر(عليه السلام): لِماذا استرجعتَ، يا أبَه؟ قال(عليه السلام):

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص494 - 495.

[2]  سورة البقرة، الآية 156.

 

 

153


130

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

«سمعتُ منادياً أو هاتفاً يقول: القوم يَسيرون، والمنايا تَسير بهم. فَقلتُ إنّ نفوسَنا نُعيَتْ إلينا»[1]. فَسأله عليّ الأكبر: يا أبَه، أَوَلسنا على الحقّ؟ قال: «نعم»، فَقال: إذاً، لا نُبالي بِالموت. وَمِثل هذا جرى بين الحسين(عليه السلام) وَالقاسم بن الحسن (عليهما السلام)، حينما أخبرهُم أنّ الجيش يقتل الطفل الصغير، فَسأل: هل يدخلون خيامنا؟ قال(عليه السلام): «نعم». ثمّ سأل: هل أنا مِن جملة المقتولين؟ سكتَ الحسين(عليه السلام)، ثمّ سأله: «كيف الموت عندكَ، يابنَ أخ؟»، فَقال: أحلى مِن العَسَل. فَأخبره الإمام(عليه السلام) أنّه سوف يُقتل. إذاً، كانَ -في كلِّ خطوة- يُهَيّئهم لإدراك الشهادة.

في هذه الليلة -أيضاً- حاولَ أن يُغربلَ أصحابه. فَفي صباح عاشوراء، عندما يشتدّ البأس ويحمى الوطيس، لا يُريد -وَهو يعلم أنّه سيُقتل- أن يرى مِنهم رجلاً هارباً أو مُستسلماً أو خائفاً أو مُغمى عليه أو باكياً طالباً التوسّل... لا يريد ذلك. فَجمَعهم ليلاً، وَقال لهم بَعدَ مُقدّمات طويلة: «هذا الليل قد غَشِيَكم -أي أحاط بِكُم مِن كلِّ جانب فَلا يرى أحدٌ أحداً- فَاتّخِذوه جَمَلاً -أي استعينوا به على الهرب- وَلْيَأخُذْ كلّ واحدٍ منكم بِيَدِ واحدٍ مِن أهل بَيتي»، لأنّ أهل بيته مِن أهل المدينة، لا يَعرفون طرق العراق. لكنّهم أبوا ذلك. إلّا أنّه ذُكرَ في بعض الآثار والمقاتل أنّ قسماً كبيراً مِنهم ذَهب في هذه الليلة، وَهو حديث منقول عن سكينة بنت الحسين (عليهما السلام)، لأنّها كانت تنظر إلى آحاد وعشرات يتركون الخيمة مِن جانبٍ ويذهبون، والحسين(عليه السلام) مُطأطئ الرأسِ، لا ينظر إليهم. وَلا شكّ في أنّ لهذا الموقف أثراً عميقاً في نفس الرائي والمتفرّج، ولكنّ هذه الغربلة كان لا بدّ منها، لأنّ الحسين(عليه السلام) يَدخل معركةً غير متكافئة؛ لذا يريد أن يعطيها طابع الاعتزاز والقوّة والرجولة والبطولة، ولن يقبل بالذلّ والخنوع. إنّ الحسين(عليه السلام) لا يريد لأصحابه -حينما يشتدّ العطش- أن ينحنوا أمام الضغط، وَلا يريد للعبّاس أن

 

 


[1]  راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص82.

 

 

154


131

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

يستسلمَ إذا جاء الشمر بن ذي الجوشن وأعطاه وإخوته أماناً خاصّاً، وَهو يَعرف أنّه لا يستسلم ولا يترك نُصرته فراراً مِن الموت.

إذاً، مهّدَ الحسين(عليه السلام) الطريق لأصحابه -بِصورة طبيعيّة دقيقة- في هذه الليلة، وَغربَلَهم -بِحَسب نقلٍ آخر- حتّى تأكّد أنّ كُلّاً منهم حسينٌ صغير. لقد سيطرَ عليهم، فاستحسنوا -إن صحّ التعبير الأدبيّ- أن يتحوّل كلٌّ منهم إلى حسين صغير، إلى رجال لا يُبالون بِالموت، كما يُنقل مِن أقوالهم في هذه الليلة.

انتهتْ هذه المرحلة؛ أي تمكّنَ الحسين(عليه السلام) مِن أن يُهيّئ أصحابه، بعدما تأكّد أنّ ابنه وإخوته وأهل بيته مُستعدّون لِخوض غِمار الموت، وَبِحَسب تعبير الشاعر:

لَبِسوا القلوب على الدروع كأنّما

يتسارعون إلى ذَهابِ الأنفُسِ

وَبعدما تأكّدَ مِن أنّهم أَصبحوا أعزّة، لا يَنحون ولا يُطأطئون رؤوسهم وَلا يستسلمون، بل يقولون معه، وبِلسانه: «ألَا وإنّ الدعِيَّ ابنَ الدعيّ قَد رَكَزَ بين اثنتَيْن؛ بين السِلَّة والذِلَّة، وَهيهات منّا الذِلَّة»[1].

إذاً، لَمْ يَبدُ على واقعة كربلاء، إلى آخر نَفَس مِن الرجال، أثرٌ مِن آثار الذلّ. فَكُلّهم أعزّاء وأبطال وأقوياء، يتهافتون على الموت بِقوّة، ويرسمون لوحةً خالدة مُشرقة في تاريخ البطولات والثورات»[2].

 

 


[1]  ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص59.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص496 - 497.

 

 

155


132

الإمام الحسين(عليه السلام) القيامُ المُشرق

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ


تمهيد

تحتلّ السيّدة زينب (عليها السلام)، بنت أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام)، وأخت الحسَنَيْن (عليهما السلام)، موقعاً مُتقدّماً في وجدان شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وقلوب مُحبّيهم في العالم كلّه، وَشكّلَتْ بِسيرتها ومسيرتها وجهادها وتضحياتها وخطاباتها وكلماتها -خاصّةً في عاشوراء وأعقابها- مَصدر إلهام وتنوير للأحرار والثائرين على الظُلم كلّهم، وأصبحَت رمزاً للمرأة المقتدرة القويّة في سبيل الحقّ، القادرة على تحويل التهديدات إلى فُرَص، والآلامِ إلى طاقةٍ للنهوض والوقوف بِوَجْهِ الظالِمين.

ولَمّا كان الإمام الصدر مِن الناهضين في وَجه الظالِمين، والمستنهِضين الناسَ في هذا الطريق، كان لا بُدّ له مِن طَرْح نموذج الحوراء زينب (عليها السلام) في المحافل والخطابات، والإضاءة على سيرتها الزاخرة بِالمواقف المشرّفة، مِن أجل استلهام العِبَر والدروس. وَفيما يأتي، مُقتطفات مِن أهمّ كلمات الإمام الصدر حول سيرة الحوراء (عليها السلام).

الدَور المرصود لزينب (عليها السلام) في كربلاء

«بَدأ الحسين(عليه السلام) بالجانب الأصعب؛أي جانب النساء، وَلَو كان شخصاً عاديّاً لَاعترضَ على هذا المصير. لقد كانَتْ مَع الحسين(عليه السلام) العَشرات مِن النساء اللاتي سوف يموت ويُقتل رجالهنّ كلّهم، وسوف يَقعنَ في أيدي الأعداء مِن بعدِ أن يتهجّموا عليهنّ مِن دون رحمةٍ

 

 

156

 


133

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

أو شَفَقة، فَهَل إنّهنّ مُستعدّات لِمُواجهة هذه المعركة، أو سَيَهربنَ ويَبكينَ ويستسلمنَ ويجزعنَ ويَفزعنَ، فيُقلِّلْنَ مِن قيمة الثورة الحسينيّة؟

يريد الحسين(عليه السلام) أن تقِف نساؤه ونساء أصحابه -كما وقفَ رجاله- ببطولة واعتزاز وقوّة، فَلا ينحنينَ ولا يفزعنَ ولا يجزعنَ ولا يَرفعنَ أياديهنّ في استسلام. يريدُ -إن كان لا بُدّ مِن قَتْله- أن تكون المعركة معركة كيفيّة معنويّة، تظهر على صفحاتها كلّها البطولة والفداء والقوّة والشجاعة، حتّى تُعوّضَ النقصَ العدديّ، وَحتّى تُخَلَّد في التاريخ، وَتهزّ مشاعر الناس، فَتكسب احترامهم وإعجابهم. لقد فكَّر الحسين(عليه السلام) في العشرات مِن النساء الثكالى اللواتي سيُقتل أزواجهنّ وَأولادهنّ في اليوم التالي، إذ ماذا يصنع لهنّ؟ ثمّ إنّ أمام الحسين(عليه السلام) عشرات الأولاد والبنات الصغار، ماذا سَيصنعون بعد قَتْل آبائهنّ؟ ما سيكون موقفهم أمام الأعداء؟ كيف يُمكن للحسين(عليه السلام) أن يحتفظ بهذه المناظر المفزعة المُفجعة ويحافظ على عزّتها وبطولتها وقوّتها؟ كانت هذه المرحلة صعبة في تاريخ حياة الحسين(عليه السلام)، خاصّةً في هذه الليلة التي حاول فيها -أغلب الظنّ- إنجاز هذه المهمّة.

وَلا شكّ في أنّ هذا الدَور يجب أن يُؤدَّى بإتقان بِقيادة زينب (عليها السلام)، وقد أخذَها لهذا السبب. وزينب (عليها السلام) امرأة مُتزوّجة، لها بيتٌ مفصول عن بيت الحسين(عليه السلام)، وأولاد غير أولاده، فَلِماذا أخذَ أخته مِن بين هؤلاء؟ ما اكتفى بِزَوجته وأخواته غير المتزوّجات، إذ إنّ لِزينب (عليها السلام) دَوراً خاصّاً يجب أن تؤدّيه بِإتقان وقوّة»[1].

تحضير زينب (عليها السلام) لِدَورها الرياديّ

«بعد أن انتهى مِن تحضير الرجال، ذهبَ كلّ رجلٍ إلى خيمته،

 

 


[1] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص498.

 

157


134

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

وبدؤوا؛ فَمنهم مَن يتهيّأ، منهم مَن يُهيّئ سلاحه، منهم مَن يُصلّي، منهم مَن يوصي، منهم مَن يُودّع، مِنهم مَن يكتب وصيّته... كلٌّ لِحاله. وانتقلَ الحسين(عليه السلام) إلى خيمته الخاصّة، لِيَستعدَّ ويُهيّئ زينب (عليها السلام) لِهذا الأمر؛ يَقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) وَهُو مريض: «كنتُ في خيمتي في حالة شديدة مِن المرض، وكانت عمّتي زينب (عليها السلام) تُمرّضني وتخدمني في هذه الليلة، فَسمعتُ أبي(عليه السلام) يتلو هذه الأشعار والأبيات التقليديّة المعروفة عند العرب، والتي، حينما يئسَ بَطلٌ مِن الأبطال -أو رجلٌ مِن الرجال- مِن الدنيا، خاطبَ العالَم، فَتَلاها:

يا دَهر أُفٍّ لكَ مِن خليلِ

كم لك بالإشراق والأصيلِ

[إلى آخر الأبيات التي كان يقرؤها وَهو يحدّ سَيفه]. بمجرّد أن سمعتُ عرفتُ أنّ أبي(عليه السلام) يقصد -بذلك- الإعلام عن موته وعن انتهاء حياته، ولَعلّه أرادَ أن يُسمعني وَعمّتي (عليها السلام). في المرّة الأولى لم تسمع عمّتي (عليها السلام) الأبيات، ولكنّها سمعتها في المرّة الثانية بَعد أن كرَّرَها بِصوتٍ أعلى، فَعرفَتْ -وَهي الأديبة والخطيبة- مغزاها»[1]، ثمّ دخلَتْ خيمةَ الحسين(عليه السلام) مُضطربةً، وَجرى بينها وبينه حَديثاً معروفاً، فَأُغمي عليها، ثمّ أيقظها الحسين(عليه السلام) وَعافاها، وَبدأ يُسلّيها ويتحدّث إليها ويَنصحها.

ماذا جرى بين الحسين وزينب (عليهما السلام) في هذه اللحظة الحاسمة مِن تاريخ هذه البطولات والثورات؟ لا نَعرف إلّا القليلَ الذي تنقله كتب المصارع. إنّ نتيجةَ هذا اللقاء وهذه الأبحاث أنْ تحوّلَت زينب (عليها السلام) إلى ذلك الجبل الشامخ الذي حملَ أكثر مِن محنة الحسين(عليه السلام) وصعوباته ومصائبه»[2].

 

 


[1]  راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص93.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص498 - 499.

 

158


135

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

عَظَمة مصائب زينب (عليها السلام)

«في هذه الليلة، تحوّلتْ زينب (عليها السلام) إلى ذلك الموجود الذي تحمّل ما تحمّله الحسين(عليه السلام) كلّه. فَفي يوم عاشوراء، حينما كان الحسين(عليه السلام) عطشاناً، كانت زينب (عليها السلام) عطشى، وَحينما قُتِل أحفاده وأبناؤه وإخوته وأصحابه، كانَ أَلَمهما واحداً؛ أي حينما كانت المصائب تَدخل -واحدة تِلو الأخرى- على الحسين(عليه السلام)، كانتْ تدخل على زينب (عليها السلام)، فَالمصائب مُشتركة.

وقد خُصّصتْ زينب (عليها السلام) بمصائب جمّة؛ أوّلها استشهاد الحسين (عليه السلام)، لأنّها، حينما استشهد، شعرَتْ بِمصائب الدنيا كلّها. وَقد عبَّرَت عن ذلك حينما أراد الحسين(عليه السلام) أن يُعزّيها، فقال لها: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات. إنّ أبي(عليه السلام) قد مات. إنّ فاطمة أُمّي (عليها السلام) قد ماتَت. إنّ الحسن(عليه السلام) قد مات». إذ قالت: «يا أخي، حينما ماتَ جدّي (صلى الله عليه وآله) كان لي أب وأخ وأُمّ، وحينما ماتت أُمّي (عليها السلام) كان لي أب، وحينما مات أبي(عليه السلام) كان لي أخ، وحينما مات أخي الحسن(عليه السلام) لخّصتُ ثقتي وأمانيَّ وحياتي كلّها بِوجودك، وبِموتك أنت سوف يموت أبي(عليه السلام) وجدّي (صلى الله عليه وآله) وأُمّي (عليها السلام) وإخوتي (عليهم السلام) مِن جديد»[1].

إذاً، موته يختلف عن موت الآخرين؛ هذا هو الواقع. إنّ استشهاد الحسين(عليه السلام) -بالنسبة إلى زينب (عليها السلام)-(غير شكل)؛ نوعٌ آخر مِن الموت تحمّلته زينب (عليها السلام).

قُتل الإمام الحسين(عليه السلام) أمام عَيْنَيْها، وقُتل الجميع. وَبدأ دَور زينب (عليها السلام)»[2].

ظروف زينب (عليها السلام) بعد استشهاد أخيها(عليه السلام)

«لا نحتاج إلى كثير مِن الدقّة والتعمّق في التاريخ حتّى نتصوّر

 

 


[1]  راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص93.

[2] الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص499 - 500.

 

 

159


136

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

واقعة كربلاء بعد استشهاد الحسين(عليه السلام) في أذهاننا بِصورة واضحة. هل نتمكّن مِن أن نتصوّر مَن هرب أو تشرّد، أو كيف سَيطر على هؤلاء الأولاد الذعر والخوف، وإلى أين ذهبوا مِن خوفهم؟ نتمكّن مِن أن نعرف هذا كلّه مِن هذا التصوير الموجز، ثمّ مِن قصّة واحدةٍ أكتفي بِنَقلها لكم عن بعض كُتب المقاتل:

يقول أحد رواة واقعة كربلاء: كنت واقفاً، فوجدتُ ابنةً مِن بنات الحسين(عليه السلام) اللواتي كُنَّ في المخيّم. لم أعرف هويّتها؛ أهيَ ابنة أو ابنة أخٍ أو حفيدة للحسين(عليه السلام)؟ وجدتُها تهرب وَذَيْلها يشتعل، فهرعتُ إليها حتّى أُطفئ النار وَأُنقذها مِن الموت، فَخافَت منّي وَهربَت. أسرعتُ حتّى أخذتُها، وأطفأتُ النار المشتعلة في ذَيْلها. فاضطربَتْ، وقالت لي: أنت لنا أو علينا؟ قلتُ لها: سيّدتي، لا لكم ولا عليكم. قالت لي: هل قرأتَ القرآن؟ قلتُ: نعم. قالت: هل قرأتَ آية ﴿فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ﴾؟ قلتُ: نعم. قالت: أنا يتيمة الحسين(عليه السلام). وَبعدما اطمأنَّتْ إلى حديثي وَكلامي، قالت: أريد أن أسألك سؤالاً. قلتُ لها: قولي. قالت: أين النجف أو الكوفة؟ قلتُ لها: ماذا تريدين مِن النجف أو الكوفة؟ قالت: إنّ عمّتي زينب (عليها السلام) أخبرَتني أنّ لنا هناك مقاماً -تقصد مقام أمير المؤمنين(عليه السلام)- أُريدُ أن ألتجئ إليه. قلتُ لها: سيّدتي، مقام أمير المؤمنين(عليه السلام) -أو الكوفة- بعيدٌ عشرات الكيلومترات، لَيسَ قريباً منك حتّى تَصلي إليه.

يمكننا، مِن هذه المحادثة، أن نستوعب أسلوب تفكير هؤلاء الأولاد. أين ذهبوا؟ وكيف ذهبوا؟ قِسم منهم فكّر في الذهاب إلى النجف، فَفرَّ إلى أماكن كثيرة مِن الصحراء، وقِسم منهم، أمام هذا الهول، اختبأ تحت الأشجار، حتّى أنهى جيش عُمر بن سعد مهمّته في هذه الليلة؛ لم يترك في مخيّم الحسين(عليه السلام) قطعة صغيرة مِن اللبس والحليّ والفرش، وَأحرقَ الخيام، ورجع إلى خيامه. مَن هو المسؤول عن هؤلاء النساء والأولاد وسط هذا الليل المظلم؟ مَن الذي

 

 

160

 

 


137

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

يجب أن يجمعهم؟ مَن الذي يجب أن يُداوي جراحهم؟ هؤلاء الأولاد والنساء لم يمشوا على الحرير طبعاً، بل مَشوا على رملِ صحراء فيها أشواك وصخور وأمثال ذلك.

هذه المصائب كلّها وقعَتْ على عاتق زينب (عليها السلام). فَبَعدما تحمّلَت ما تحمّله الحسين(عليه السلام) كلّه، وبعد المصائب اللامتناهية التي عانَتْها في النهار، قامَت بهذه المهمّات في هذه الليلة، فَداوَت الجروح، وجمعَت الأيتام والنساء، وطلبَت الماء لهم مِن الأعداء، وقدّمَتهُ بمنظرٍ لا يمكن توصيفه ولا تعريفه. هذه المسائل كلّها كانَت مِن واجبات زينب (عليها السلام) في هذه الليلة، كواجباتها العائليّة»[1].

مواقف زينب (عليها السلام) أمام الأعداء

«جاؤوا حتّى يَحملوا آل بيت الحسين(عليه السلام) أسرى، وينقلوهم مِن كربلاء. بعد الصلاة على الأجساد وَدَفْنِها، أرادوا أن يُعيدوهم إلى الكوفة، فَمَرّوا بهم على مصارع الحسين(عليه السلام) وآل بيته (عليهم السلام). وَأنا أتصوّر أنّ لِهذا الموقف سبباً واحداً، هو الحقد والرغبة في التشفّي. فَحينما قال الحسين (عليهم السلام) لهم: «لِماذا تُقاتلونني؟» قالوا: بُغضاً منّا لِأبيك عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). لقد كانوا ينتظرون أن يَقتلوا الحسين(عليه السلام)، فتأتي بنت عليّ (عليهما السلام) وَتجلس أمامهم تبكي وتنوح، وَهُم يتشفّون مِنها. فالتشفّي هو سبب أَخْذهم، وإلّا فَما معنى أخْذ الأولاد الصغار وَمُرورهم بِجَسَد والدِهم المذبوح المقطّع؟ لِماذا يريدون أن (يُفَرجوا) هذه المصارع إذا لم يكن ثمّة رغبة في التشفّي؟

بِحَسب المنقول في بعض الآثار، وصلَتْ زينب (عليها السلام) -وخلفها سائر النساء والأولاد- إلى مصارع إخوتها والحسين(عليه السلام) وأبنائه وأحفاده، وَجيش بني أُميّة واقف يتفرّج على هذا المنظر. هُنا، نرى اللوحة المشرقة في تاريخ الثورة الحسينيّة؛ هذه اللوحة التي كان

 

 


[1]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص500 - 501.

 

 

161


138

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

يريدها الحسين(عليه السلام)، والتي اشتغلَ لِتأمينها وتسكينها، إذ دَنَتْ زينب (عليها السلام) مِن جسد الحسين(عليه السلام) المقطّع، والذي تملؤه ضربات السيوف والرماح والحجارة، فَأزالَتْ هذه الأشياء عنه بكلِّ قوة وَبطولة، ثمّ رَفَعَتهُ واضعةً يديْها تحته، وَهي تقول متوجّهةً إلى السماء: «اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان»؛ هذا بُكاء زينب (عليها السلام). ماذا تعني هذه الجملة؟ تعني: أيّها الناس، أيّها المتشفّون، لا تتشفّوا، لا ترتاحوا، لَم يفرض علينا أحدٌ أن نأتي إلى المذبح فَنُقتَل، بل نحن مَن أَراد ذلك؛ أردنا أن نُدافع عن دين الله بِتقديم الضحايا. قدّمنا هذه الضحيّة، ونُقدّم أكثر مِن هذا لَو نملك أكثر.

بهذه الوقفات تؤكّد زينب (عليها السلام) أنّها تقوم بالدَور الرساليّ الذي يريده منها الحسين(عليه السلام). فَالحسين(عليه السلام) قُتل بِاعتزاز، وأخته (عليها السلام) قامَت بهذا الدَور -أي دَور بقيّة الحسين(عليه السلام)- بعد استشهاده باعتزاز.

ولِزَينب (عليها السلام) مَواقف مشابهة عند ابن زياد، إذ دَخلَت عليه ولم تُسلِّم، فَسأل: مَن هذه المتنكّرة؟ أو مَن هذه المتكبّرة؟ قالوا: هذه زينب بنت عليّ (عليهما السلام). فقال لها بِتشفٍّ وحقد وَلُؤم: يا زينب، كيف رأيتِ صُنع الله بِأخيك؟ قالت (عليها السلام): «والله، ما رأيت إلّا جميلاً. هؤلاء رجالٌ كَتَبَ الله عليهم القتل فَبَرزوا إلى مضاجعهم». قال لها: الحمد لله الذي قتلَكم وفضحَكم وكذّبَ أحدوثتكم. فقالت (عليها السلام): «إنّما يُفتَضح الكافر والمنافق، وَهُو غيرنا»[1]»[2].

الدرس المستفاد مِن سيرتها (عليها السلام)

«لا يمكن للرسالة أن تنجح مِن دون أن تشترك فيها المرأة، فَوراء كلّ عظيمٍ في العالَم امرأة. وَإذا لم تُرَبَّ المرأة، لا يمكن للمجتمع أن ينجح. لذا، كما يجب علينا تَربية شبابنا، كذلك علينا أن نُربّي بناتنا.

 

 


[1]  راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص115.

[2]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص501 - 503.

 

 

162

 


139

السيّدة زينب (عليها السلام) شريكةُ القيام الحسينيّ

ما الذي جَعل مِن زينب (عليها السلام) هذا الموجود الأسطوريّ البطوليّ الذي يتحمّل هذه المصائب والمشاقّ؟ ما الذي جعل مِن زينب (عليها السلام) صاحبة هذه البطولات؟ ما الذي أوجب ذلك غير إيمانها بالله؟ أيّ دافع عقلانيّ أو موجب منطقيّ؟ هل كانت زينب (عليها السلام) ذات عائلة أو ذات جيش أو ذات قوّة أو ذات مال؟ هل امتلكَتْ غير الإيمان بالله حتّى تَقِف هذه المواقف البطوليّة؟ إذا نظرنا إلى إيمان زينب (عليها السلام) بالله، فَهِمنا كيف وقفَتْ هذه المرأة أمامَ يزيد، وَقالت: «وَلَئِن جَرَتْ عَلَيَّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستحقِر قَدْرَك»[1].

علينا أن نقول إنّ زينب (عليها السلام) كانَت غُصناً مِن أغصان شجرة الإيمان، مُتّصلة بالله الذي يقول: ﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦ﴾[2]. لَم تكُن لها عشيرة ولا أموال ولا جيش، ولكنّها كانت متّصلة بالله العظيم، وَهُو أكبر مِن أن يوصف، وَأكبر مِن يزيد وباعثه وعشيرته وجيشه. هذا الشعور كان في قلبِ زينب (عليها السلام)؛ لذا كانت تَجِدُ نفسَها فوق يزيد، وَفوق مستوى التحدّث إليه.

إذا ما تمكّنّا مِن أن نربّي في نسائنا هذا النوع مِن الإيمان والقوّة النفسيّة، فإنّنا نستطيع أن نُولِدَ منهنّ أبطالاً. فَنحن، في معركتنا المصيريّة الكبرى، وفي معاركنا الحياتيّة الخاصّة والعامّة، نحتاج أن نربّي نساءً بطلاتٍ يَقِفنَ إلى جانبنا في بيوتنا لِتربية أولادنا، فَإذا حَصَلَت المعركة لا يجزعنَ ولا يَفزعنَ؛ لذا لا محيص لنا في هذه المعارك مِن تقوية روح الإيمان في أنفسنا وفي أنفس نسائنا، عن طريق التوعية وممارسة الأعمال الدينيّة.

إذاً، زينب (عليها السلام) كانت تَكملة لِثَورة الحسين(عليه السلام) وحركته. فَالمرأة -بِصورة عامّة في الإسلام- تكملة لحركة الرجل ورسالته»[3].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص134.

[2]  سورة الزمر، الآية 67.

[3]  الإمام الصدر، الإسلام القرآنيّ، مصدر سابق، ج3، ص503- 504.

 

 

163


140
دروس من فكر الإمام الصدر