دروس من فكر الإمام الخميني (قُدِّسَ سِرُّهْ)

المعالم الفكريّة لنهج الإمام الخمينيّ (قدس سره)، والمعالم التنظيميّة لأهمّ شرائح المجتمع.


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

إنّ الناظر في حقيقة الإسلام، المتمثّل بالقرآن الكريم وسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، يجد أنّه مشروع حضاريّ، جاء بنحو ثوريّ، ليُغيّر البنى العقديّة والقِيَميّة والتشريعيّة التي قام عليها المجتمع الجاهليّ؛ فَليس الإسلام مجموعةً من الأحكام المتناثرة التي لا ناظم لها، بل إنّه منظومة مُحكَمة متكاملة.

وقد سعى العلماء الأعلام في اكتشاف النهج الجامع لهذا الدِين، فكان الإمام الخمينيّ (قدس سره) الفقيه والفيلسوف الأخلاقيّ الذي قدّم نهجاً كاملاً على المستويَين النظريّ والعمليّ؛ فبعد أن أسّس رُؤاه التي تشكِّل صرحاً كاملاً حول الرؤية الكونيّة والمنظومة القِيَميّة والتشريعيّة، ولا سيّما ولاية الفقيه، نجح -بتوفيق إلهيّ عظيم يكاد يكون إعجازيّاً- في إزالة طاغوت عصره، الشاه البهلويّ، وأُتيحت له فرصة تطبيق ما نظّمه وبناه على المستوى الفكريّ.

حاولنا في هذا الكتاب «دروس من فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)» الجمع بين إيضاح الرؤية الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) وبين الرؤى التنظيميّة العمليّة له، فذكرنا أوّلاً معالم الرؤية على مستوياتها الثلاثة؛ العقديّة والقيميّة والتشريعيّة، وبَيّنّا رؤيته لأبعاد الإنسان الذي يحمل مسؤوليّة

 

7


1

المقدّمة

تطبيق الدِين الحنيف وأمانته. ثمّ شرعنا ثانياً في بيان رؤية الإمام (قدس سره) التي قدَّمها في زمان ثورته وتنظيمه للدولة الإسلاميّة المباركة في إيران لأهمّ شرائح المجتمع: طلَبَة العلوم الدينيّة، الطلّاب الجامعيّين، الأساتذة والمعلّمين، الإعلاميّين، الرياضيّين، المرأة، الشباب.

لا ندّعي أنّنا أحطنا بما ذكره الإمام (قدس سره) كلّه، إلّا أنّه لا شكّ في أنّ القارئ لهذا الكتاب، سوف تتّضح أمامه -بشكل جليٍّ- المعالم الفكريّة لنهج الإمام الخمينيّ (قدس سره)، والمعالم التنظيميّة لأهمّ شرائح المجتمع.

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8


2

المقدّمة

أوّلاً: معالم الفكر الدينيّ عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

 

الأمر الأوّل: الأصالة والانسجام في المنظومة الفكريّة

نتعرّض في هذا القسم إلى مَعلَمَين من معالم الرؤية التي قدَّمها الإمام الخمينيّ (قدس سره) للدِين الإسلاميّ، والتي تشكِّل البنية التحتيّة لنهجه، وهما:

1. الأصالة المعرفيّة                        2. الانسجام

الأصالة

ماذا يُقصد بالأصالة؟

تُطرح قضيّة الأصالة في الفكر الدينيّ انطلاقاً من قضيّة جوهريّة هي أنّ التفكير في القضايا الدينيّة بمجالاتها المتعدّدة؛ الفقهيّة أو الاعتقاديّة أو الأخلاقيّة، لا بدّ من أن يكون مبنيّاً على أصول وقواعد متينة، لا الاستحسان أو الاستذواق، إذ إنّ للفقاهة والعقائد والقيم منهجها التفكيريّ الخاصّ الذي لا يمكن تقديم الأفكار والمعارف إلّا بِسلوكه. من هنا يأتي طرح قضيّة «الأصالة»، والتي تعني السلوك المنهجيّ المنضبط ضمن المعايير والقواعد المثبتة، لإنتاج الفكر من مصادره المعرفيّة الخاصّة.

ومن المؤكّد أنّ عِلماً قد يختلف عن آخر، ويختلف -بِتَبعه- منهج عن منهج، فتتعدّد آفاق الأصالة وأبعادها. ففي العقائد والفلسفة، مثلاً، تكون الأصالة بالاستناد إلى البرهان العقليّ، أمّا الأصالة في

 

11


3

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الفقه والمسائل الشرعيّة والفكر القانونيّ الإسلاميّ، فتكون بالإحاطة بقواعد الاستنباط الشرعيّ.

بعد تبيان معنى الأصالة، لا شكّ، إذاً، في أنّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) كان أصيلاً بهذا المعنى؛ فقيهاً وفيلسوفاً ومحيطاً بالعلوم الإسلاميّة، تشهد له في ذلك كتبه في العلوم المختلفة، وتلامذته الذين صار بعضهم من أعلام المفكّرين والمراجع. فإن كنّا نقصد بالأصالة رسوخَ القدم في التراث والعلوم وامتلاك أهليّة استخراج الأفكار الدينيّة من مصادرها، فإنّ الإمام (قدس سره) كان من علماء الطراز الأوّل في ذلك؛ يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظله): «كان سماحته فقيهاً وأصوليّاً وفيلسوفاً وعارفاً، ومعلِّم أخلاق، وأديباً وشاعراً، وقد تربَّع سنوات طوالاً على أرفع مقاعد التدريس، واستحوذ على اهتمام أبرز المجامع العلميّة في الحوزة وأشهرها»[1].

ولا نقصد ممّا طرحناه حصرَ الأصالة بالمجتهد أو الفيلسوف، ولكنّ المصداق الأبرز لها متحقّق في من حقّق الأصول والضوابط، واستدلّ عليها، ومِنهم الإمام الخمينيّ (قدس سره). فَمن الضروريّ، إذاً، تسليط الضوء على قضيّة الأصالة في كلام الإمام الخمينيّ (قدس سره)، إذ قد يجد بعضهم أنّ انشغاله (قدس سره) بالتجديد ونفض غبار السكون عن حركة الإسلام والمسلمين يجعله بعيداً عن قضيّة الأصالة والعمق في الفكر الدينيّ، والحقيقة أنّ الأمر خلاف ذلك؛ إذ إنّه تَميَّز -لعلّ هذه القضيّة من المميّزات الحقيقيّة لشخصيّة الإمام الخمينيّ (قدس سره)- بالجمع بين الأصالة والعمق في الفكر الدينيّ الفقهيّ وغيره من جهة، والتجديد من جهة أخرى.

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «لا شك في أنّ الحوزات العلميّة والعلماء الملتزمين كانوا على مرّ تاريخ الإسلام والتشيُّع أهمّ قاعدة إسلاميّة محكمة في وجه الحملات والانحرافات والسلوك المتطرّف،

 


[1]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخميني  (قدس سره)) (ترجمة عربيّة)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، إيران - طهران، 1430هـ - 2009م، ط1، ص9، المقدّمة.

 

12


4

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فقد سعى علماء الإسلام الكبار طوال عمرهم إلى نشر مسائل الحلال والحرام الإلهيّين من دون تدخُّل أو تصرُّف. ولو لم يكن الفقهاء الأعزّاء، لَما عرفنا ماهيّة العلوم التي كانت سَتُقدَّم اليوم إلى الناس بِوَصفها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام). إنّ جَمْعَ وحِفظ علوم القرآن والإسلام، وسنّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسيرته وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وتدوينها وتبويبها وتنقيحها، لم يكن عملاً سهلاً مع إمكانيّات قليلة جدّاً، فَقَد سخَّر السلاطين والظالمون إمكانيّاتهم كلّها لِمَحْوِ آثار الرسالة. ونرى اليوم -ولله الحمد- ثمرة تلك الجهود في آثار ومؤلّفات مباركة، كالكتب الأربعة[1] والمصنّفات الأخرى للمتقدّمين والمتأخّرين في الفقه والفلسفة والرياضيّات والنجوم والأصول والكلام والحديث وعلم الرجال والتفسير والأدب والعرفان واللغة وفروع المعرفة جميعها. فإذا لم نُسَمِّ هذه الجهود والمعاناة كلّها جهاداً في سبيل الله، فماذا ينبغي أن نسمّيه؟ إنّ ثمّة حديثاً طويلاً عن الخدمات العلميّة الفذّة للحوزات الدينيّة، لا يتّسع المجال هنا لِذكره. فالحوزات العلميّة، من حيث المصادر وأساليب البحث والاجتهاد، غنيّة وحافلة بالإبداع، ولا أتصوّر وجود طريقة أنسب من نهج علماء السلف في دراسة العلوم الإسلاميّة بأسلوب مُعمّق. إنّ تاريخ أكثر من ألف عامٍ من البحث والتحقيق والتتبُّع لعلماء الإسلام الصادقين، على طريق رعاية غرسة الإسلام المقدّسة ونموّها، خير شاهد على ادّعائنا؛ فعلى مدى مئات الأعوام، كان علماء الإسلام ملاذ المحرومين، وكان المستضعفون يرتوون من كوثر زلال معرفة الفقهاء العظام على الدوام. وإذا ما تجاوزنا جهادهم العلميّ والثقافيّ الذي يُعَدُّ -بِحَقٍّ- أفضل من دماء الشهداء[2] في بعض الأبعاد، فإنّهم،

 

 


[1] كتب الأحاديث الفقهيّة الشهيرة الأربعة: (التهذيب) و(الاستبصار) للشيخ الطوسيّ، و(من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق، و(الكافي) للكلينيّ.

[2]  راجع: الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه‏، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم‏، إيران - قم‏، 1413هـ‏، ط2، ج‏4، ص399.

 

13


5

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ومن أجل الدفاع عن مقدّساتهم الدينيّة والوطنيّة، عانوا الكثير على مرّ العصور. وفوق تحمّلهم الأَسر والنفي والسجون والتعذيب والإساءة، قدَّموا شهداء عظاماً على طريق الحقّ تعالى... إنّ شهداء علماء الدِين لم ينحصروا في شهداء النضال والحرب في إيران، بل إنّ الكثير من الشهداء المجهولين للحوزات العلميّة فَقَدوا حياتهم غرباء في طريق نشر المعارف والأحكام الإلهيّة على يد العملاء والخبثاء. وفي كلّ نهضة وثورة إلهيّة وشعبيّة، كان علماء الإسلام يقفون في طليعة المواجهة، وَقَد خُطَّ على جباههم الدم والشهادة»[1].

وقد ذكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) في رسالة مستقلّة حول الاجتهاد والتقليد مجموعةً من الشروط التي لا بدّ مِن توفّرها في من يريد الاجتهاد وتقديم رأي إسلاميّ أصيل في أيّةِ مسألة فقهيّة. وهي كثيرة، منها: العلم بفنون العلوم العربيّة بمقدار ما يحتاج إليه في فهم الكتاب والُسنّة، تَعلُّم المنطق بمقدار تشخيص الأقيسة وترتيب الحدود، العلم بمهمّات مسائل أصول الفقه ممّا هو دخيل في فهم الأحكام الشرعيّة، عِلم الرجال بمقدار ما يحتاج إليه في تشخيص الروايات، والأهمّ والألزم معرفة الكتاب والسُنّة[2].

وذَكر أنّ من الشروط اللازمة للاجتهاد معرفةُ الزمان والمكان؛ فالمجتمعات متبدّلة ومتغيّرة بِتَغيُّر المقتضيات السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة، ما يكشف عن وجود أسئلة تحتاج إلى إجابات لم تكن مطروحة مِن قبل. لذا، «إنّ الحوزات العلميّة وعلماء الدين مطالبون دائماً باستيعاب حركة المجتمع والتنبُّؤ بمتطلّباته واحتياجاته المستقبليّة، وأن يكونوا مُهيَّأين لاتّخاذ ردود الفعل المناسبة إزاء الأحداث قبل حدوثها. فمن الممكن أن تتغيّر أساليب إدارة أمور المجتمع الرائجة في السنوات القادمة، وتجد المجتمعات البشريّة

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج21، ص251.

[2]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، الاجتهاد والتقليد، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ (قدس سره)، إيران - طهران، 1426هـ، ط1، ص9 - 12.

 

14


6

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

نفسها بحاجة إلى أفكار إسلاميّة جديدة لإيجاد حلول لمشكلاتها؛ لذا ينبغي على علماء الإسلام الكبار أن يفكّروا في ذلك مِن الآن»[1].

ويذكر الإمام الخامنئيّ (دام ظله) تجلّي هذه القضيّة في شخصيّة الإمام الخمينيّ (قدس سره) بشكل خاصّ، فيقول: «لقد كان يعرف إيران جيّداً؛ فمن جهة كان يدرك موقعها الجغرافيّ الحسّاس والمصيريّ، ويعي جغرافيّتها السياسيّة ومواردها الطبيعيّة والإنسانيّة، ويحيط بتطلّعاتها وأهدافها وآمالها الكبيرة، ومِن جهة أخرى كان محيطاً بتاريخها على مدى المئة والخمسين عاماً الأخيرة الزاخرة بالمِحن، وأبعاد هيمنة الأجانب ونَهبهم ثرواتها، وخيانة وفساد واستبداد الأُسرة البهلويّة وآلاف الأُسَر المرتبطة بها، وما فُرض عليها من فَقر وتخلُّف علميّ وصناعيّ وأخلاقيّ... والأهمّ من ذلك كلّه، إدراكه لروحيّة شعبها العظيم والأصيل والرشيد والمؤمن.

كما أنّه كان على اطّلاع بأوضاع العالم والشعوب المستعمرة والدول المستكبرة والجيل الشابّ التائه الحيران والمتعطّش للحقيقة، ولا سيّما الأوضاع المؤسفة للدول والأمّة الإسلاميّة. كان يتألّم لذلك كلّه، وكانت القضيّة الفلسطينيّة ومعاناتها المؤلمة تعتصر قلبه الكبير»[2].

وإنّما أتينا بهذه النصوص لِنُثبت أنّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) كان ناظراً في حركته وتنظيره إلى قضيّة العمق، والشروط الضروريّة لاستنباط الأفكار من المتون الدينيّة، ولم يكن ذوقيّاً أو مستحسناً في استدلالاته؛ وهذه قضيّة مهمّة جدّاً لكلّ شخص يريد أن يكون منتِجاً للفكر.

ولا تقتصر الأصالة على قضيّة التعامل مع النصوص الدينيّة؛ أي الاجتهاد، بل إنّ لها امتداداً أيضاً -وبِشكلٍ واضح- إلى ميادين الفلسفة والعرفان والتاريخ والعقيدة. فَقَد كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) من أهمّ

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج21، ص264.

[2]  المصدر نفسه، ج1، ص10.

 

15


7

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أساتذة الفلسفة والعرفان في عصره، ومِن العارفين بالتاريخ الإنسانيّ بشكل عامٍّ وبِدِقّة؛ وهذه كلّها من علامات أصالته أيضاً.

 

الانسجام

العلامة الثانية التي تميّز الرؤية الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) هي انسجامها، وذلك يرجع -بدرجة كبيرة- إلى أمرين أساسيَّين في شخصيّة الإمام؛ الأوّل شموليّة شخصيّته، والثاني اعتقاده بأنّ الإسلام مشروع متكامل.

وتفصيل ذلك أنّ العلوم الإسلاميّة تكاد تشبه النوافذ التي يطلّ من خلالها الشخص على حقيقة الإسلام، والاطّلاع من نافذة واحدة لا يكشف المشهد بكامله، خلافَ النظر إليه مِن النوافذ كافّة، والذي يُحصِّل لديه صورة كاملة عن حقيقته. فالفقيه الذي لا يرى الإسلام إلّا من منظار الفقه ناقصُ الرؤية، وكذلك الفيلسوف أو الأصوليّ أو المفسّر، أمّا الذي يتعمّق في العلوم كافّة، فيعرف أصول التعامل مع النصّ الدينيّ من الحيثيّة الفقهيّة أو التفسيريّة، ويرى العمق العقليّ والفلسفيّ للعقائد الدينيّة، وغير ذلك من العلوم، فَسَيكون بمقدوره

 

16


8

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الاطّلاع على الإسلام بكلّيّته التي أتى بها النبيّ (صلى الله عليه وآله)؛ هذا مِن جهة. ومِن جهة أخرى، فإنّ مَن يُؤمن بأنّ الإسلامَ -واقعاً- برنامجٌ شامل وجامع لحاجات البشر كلّها، وبأنّه دِين يُراد منه أن يكون نمط حياة للفرد والمجتمع، فَسيكون اطّلاعه على الدِين من نوافذ العلوم بِداعي اكتشاف خريطته لحلّ المشكلات الفرديّة والاجتماعيّة بمظاهرها المختلفة، خلافاً لِمن يرى الإسلام غير شامل من هذه الجهة، فلن يكون همّه في الأصل البحث عن نموذج شامل للحياة.

وقد تجلّی هذان الأمران في شخصيّة الإمام (قدس سره)، فَنهجه واضح جدّاً، إذ يقول في بعض كلماته: «إنّ للإسلام منهجاً ومسلكاً لهذا الإنسان الذي له مراتب من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، وممّا وراء الطبيعة إلى الألوهيّة. إنّ الإسلام يريد أن يربّي إنساناً جامعاً، بِالصورة التي هو عليها؛ ذا بُعدٍ طبيعيّ فينمّي فيه البُعد الطبيعيّ، وذا بُعد برزخيّ فينمّي فيه البُعد البرزخيّ، وذا بُعد روحيّ فيُنمّي فيه البُعد الروحيّ، وذا بُعدٍ عقليّ فيُنمّي فيه البُعد العقليّ، وذا بُعد إلهيّ فيُنمّي فيه البُعد الإلهيّ... إنّ الأبعاد جميعها التي يمتلكها الإنسان ناقصة ولم تَصِل إلى درجة الكمال. وقد جاءت الأديان لإنضاج الثمرة غير الناضجة، وإكمال الثمرة الناقصة... الإسلام يريد أن يُربّي الإنسان ليكون كائناً متكاملاً يمتلك الأبعاد جميعها، ولديه تعليمات لكلّ بُعد من هذه الأبعاد. ففي الإسلام أحكام للحكومة الإسلاميّة ولمؤسّساتها، ولمواجهة الأعداء، ولتحريك المجتمع من أجل الوصول إلى ما وراء الطبيعة؛ الإسلام يملك ذلك كلّه. فالإسلام ليس أحاديّ الجانب ليقول الإنسان: إنّني عرفت الإسلام وعرفت تاريخه، مثلاً، وما كانت عليه حياته البشريّة -على سبيل الفرض- وقوانينه الطبيعيّة وأمثال ذلك؛ فليس الأمر بهذه الصورة»[1].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج4، ص15 - 16.

 

17


9

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ويقول أيضاً: «وَضع الإسلامُ برنامجاً دقيقاً ومفصّلاً لحياة الإنسان الفرديّة، بَدءاً من الفترة السابقة لولادته، مروراً بالمراحل جميعها التي يمضيها ضمن العائلة، والتي وضع لها البرامج أيضاً، وعيَّن الأحكام والقوانين لجوانبها ومراحلها كلّها. ثمّ يدخل بعد خروجه من العائلة مجالَ التعليم، إلى أن يدخل المجتمع الكبير. فَوضعَ القوانين التي تُنظِّم حياة المجتمع المسلم، بل حتّى القوانين والبرامج التي تُنظّم علاقة الدولة الإسلاميّة بِسائر الدول والشعوب؛ ذلك كلّه له أحكام في الشريعة المطهَّرة، فأحكام الإسلام لا تقتصر على مراسم الدعاء والزيارة والصلاة وحسب؛ هذه الأمور ليست إلّا جانباً من جوانب الأحكام الإسلاميّة، بل ثمّة في الإسلام سياسة ونظام إدارة بلاد بِأَسرها. الإسلام ينظّم ويدير شؤون بلدان واسعة، وعلى قادة المسلمين وملوكهم، وعلى الحكومات الإسلاميّة عموماً، أن يُعرّفوا العالمَ أجمع الإسلام»[1].

إذاً، بعد أن بيَّنّا أسباب الانسجام في فِكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)، ننتقل إلى بيان التطبيقات التي ظهر فيها هذا الانسجام، بالنظر إلى أبعاد الإسلام الكلّيّة:

1. العقائد                2. الأخلاق والقيم                 3. الشريعة

يُمكن تقسيم معارف الإسلام إلى هذه الأقسام الكلّيّة، وسيأتي بيانها مفصَّلاً، إلّا أنّنا نشير إليها هنا لإيضاح الانسجام في ما بينها. أمّا العقائد، فتشمل ما يمكن أن يُسمّى وِفاق الاصطلاح الكلاميّ بأصول الدِين والمذهب الخمسة، من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد، والتي لها فروع عقديّة، كالصفات الإلهيّة في مبحث التوحيد، والجبر والاختيار في مبحث العدل، والعصمة ولوازمها في مبحثَي النبوّة والإمامة، والبرزخ في مبحث المعاد. أمّا الأخلاق، فهي البحث في الحُسن والقبح، كحسن العدل وقبح الظلم، والعدالة الاجتماعيّة،

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج2، ص31.

 

18


10

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وغير ذلك. ويُقصد بالشريعة المعارف المتعلّقة بتنظيم حياة الإنسان -سواء أكان على المستوى الفرديّ أم الاجتماعيّ- وهو الفقه.

وقد ذَكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) أنّ هذه الأبعاد الثلاثة للدِين، والتي تُشكِّل بمجملها معارف القرآن وسائر النصوص، منسجمة في ما بينها، فالشريعة لا تُنافي الأخلاق، كما أنّ الاعتقادات مُنسجمة مع تنظيم حياة الفرد على المستويَيْن الفقهيّ والأخلاقيّ؛ ومثال ذلك أنّنا لو أخذنا عقيدة «الإيمان بالآخرة»، أو إنّ وراء هذا العالم الدنيويّ عالم آخر، فإنّ لهذا الاعتقاد لوازمه الأخلاقيّة والفقهيّة. ويقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا المجال: «لا يمكن إصلاح الإنسان وحفظ حقوقه إلّا بالاستناد إلى مبدأ معنويّ، فنحنُ نرى كيفيّة تعامل الحكومات التي قامت على أساس التوجُّه إلى الله مع الناس، وكيفيّة تعامل غيرها مِن‏ الحكومات. ونرى كيف إنّ ذاك الحاكم -أي الإمام عليّ (عليه السلام)- كان يقوم بنفسه -على الرغم من اتّساع رقعة حكومته وشمولها تلك البلدان كلّها- بِالتجوُّل ليلاً لتَفَقُّد أحوال الضعفاء وتوفير ما يحتاجون، ثمّ يقول (عليه السلام) أنّه يخشى أن يكون في اليمامة أو غيرها جائع، فلا يُشبِع نفسه خشية أن يكون طعامه أكثر مِن طعام أولئك الجياع؛ هذا هو عمل المؤمن بالمبدأ الغيبيّ، وإلّا فهو بشر كسائر البشر، لكنّ الاعتماد والتوجُّه إلى المبدأ الغيبيّ هو الذي دفعه (عندما جاءت عساكر معاوية أو غيره وسلبت خلخال امرأة يهوديّة أو نصرانيّة من أهل الذمّة) إلى تأكيد أنّ المؤمن إذا مات كَمَداً بسبب ذلك لَكان جديراً، وليس مَلوماً[1]. هذا هو حال مَن يطلب صالح الرعيّة، المحبّ للإنسان حقّاً، لأنّه يتوجَّه إلى عالم فوق هذا العالم؛ لا ينحصر اهتمامه بالأكل

 

 


[1]  إشارة إلى الغارة التي شنّها سفيان بن عوف -من قادة معاوية- على مدينة الأنبار في عهد حكم الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد هاجم جنده حينها امرأتين؛ مسلمة وذمّيّة، وسلبوهما الخلخال والعقد وغيرهما. فلمّا سمع الإمام (عليه السلام) بذلك قال: «فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ‏ مِنْ‏ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً»، الرضيّ، السيّد محمّد بن حسين، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قم، 1414هـ‏، ط1، ص70.

 

19


11

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

والشرب وهذه الحياة الحيوانيّة، بل يتوجَّه إلى ما هو أسمى من ذلك.

إنّ أمثال هؤلاء الذين يستندون إلى هذه المبادئ المعنويّة يمكن الاعتماد عليهم والثقة بهم، بحيث يضع الإنسان مُقدّراته بأيديهم، ويختار منهم النائب والوزير ورئيس الجمهوريّة؛ وهذا ما نهتف مُطالبين به، ونتطلَّع إلى تحقيقه»[1].

وَمِن الأمثلة الواضحة على انسجام المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) رؤيته للأحكام الشرعيّة من مِنظارها العامّ الحضاريّ؛ «فالشريعة، وإن جاءت لتنظيم حياة الإنسان، لكنّ هذا لم يكن غاية ما تريده، بل إنّها جاءت أيضاً من أجل إيصال الفرد والمجتمع إلى غايات أخرى مرتبطة بالسياسة والاستقلال والحرّيّة، وهي أمور قِيَميّة واضحة، ومِن أجل إيصاله إلى التوحيد العمليّ والفعليّ على مستوى القلب والباطن. فَلا يمكننا، مثلاً، الاقتصار في نظرتنا إلى فريضة الحجّ العظيمة على أنّها مناسك فقط، بل إنّ لها أبعاداً أخرى، فإنّ «اجتماع الحجّ»‏ من الأمور الإسلاميّة السياسيّة، لأنّ الفئات المستطيعة كلّها تجتمع من كلّ مكان، من إيران وسائر البلدان الإسلاميّة، ويتحدّثون عن شؤونهم، فتُحَلّ مشكلاتهم. لقد أقام الإسلام تجمّعات -كالحجّ- لا يمكن لأيّةِ قوّة أن تُقيم مثلها؛ فلو أنّ البلدان الإسلاميّة كلّها وزعماءها اجتمعوا، فلن يُوَفَّقوا إلى جَمْع نصف مليون إنسان في مكان واحد، لكنّ الله تبارك وتعالى قد جَمَع الناس بِــ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ﴾[2]، ووفَّر هذا الاجتماع. ولكنْ ممّا يؤسَف له أنّ «آريا مهر» هو مَن كان ينال فوائد حجّاجنا كلّها، حينما كانوا يذهبون إلى الحجّ،‏ فكانوا يتحدّثون عن شؤونه، في حين أنّه كان ينبغي على الخطباء والكتّاب أن يتحدّثوا عن قضايا الإسلام وبلدان المسلمين ومشاكلهم، كي يجدوا سبيلاً إلى حَلِّها، وأن يُفكّروا في وحدة الكلمة، ويَسْعَوا من أجلها. إنّ الاعتصام

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج4، ص284 - 285.

[2]  سورة آل عمران، الآية 97.

 

20


12

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

بحبل الله هو المثل الأعلى للجميع، وقد وفَّر الله تبارك وتعالى أسبابه، لكنّنا -نحن المسلمين- لم نستَطِع استثماره؛ إنّنا عاجزون. فالحجّ‏ مؤتمر عظيم لم يسبق له مثيل في الدنيا، لكنّ حجّاجنا يذهبون من غير أن يُنجزوا عملاً إيجابيّاً؛ فَهُم يفكّرون في كمّيّة الهدايا التي سوف يَشترونها، ولا يُفكّرون بما يجب أن يكونوا عليه. إنّهم يُؤدّون أعمالهم ومناسكهم، ولا ينبِسون ببنت شَفة عن مشاكل المسلمين والإسلام والدول الإسلاميّة. فَآمل، إذا ما تحقّق الإسلام -إن شاء الله- وتجسّدَت أحكامه وتعاليمه عَمليّاً، أن يتجلّى المفهوم الحقيقيّ للحجّ»‏[1].

وفي ما يأتي من الفصول، سنخصّص الكلام حول هذه القضيّة؛ إذ إنّنا سنتكلّم على كلّ بُعد من أبعاد الدِين في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)، ثمّ على الانسجام الحاصل بينها، لتتّضح أمامنا جماليّة الرؤية الدينيّة التي يقدِّمها لنا هذا الإمام العظيم.

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج10، ص92 - 93.

 

21


13

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثاني: الرؤية العقديّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

يتمثّل الركن الأوّل من أركان المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بما يُسمّى «الرؤية الكونيّة» أو «العقائد»، بالاصطلاح الخاصّ. ويقصد به مجموعة الأفكار التي تُبيّن نظرتنا إلى الوجود، وتجيب عن سؤال: ما هي هندسة عالم الوجود؟ مِمَّ يتألّف؟ ما الموجود وما غير الموجود؟

إذا ذهبنا إلى الأسئلة التفصيليّة التي تجيب عنها الرؤية الكونيّة بشكلٍ عامّ؛ أي قبل أن نخصّص الكلام لِما يقدّمه الإمام الخمينيّ (قدس سره)، فإنّنا نجد أنّ أيّ وصف للكون والوجود لا بدّ من أن يجيب عن ثلاثة أسئلة أساسيّة عامّة، هي: من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟

إنّ الكلام في السؤال الأوّل على مبدأ وجود العالم وأساسه؛ فهل إنّ له خالقاً أم لا؟ وما هي صفاته؟ أمّا السؤال الثاني، فينقسم إلى أسئلة عديدة يجمعها سؤال عن المعاد أو المصير؛ فهل إنّ العالم المادّيّ والوجود الأرضيّ المحدود بهذا الزمان وسائر الحدود لا غير له، أم ثمّة عالم نصير إليه بعد الموت؟ والسؤال الثالث عن الربط بين الدنيا والآخرة، أو الطريق الذي يسلكه البشر لِبلوغ غايات شتّى، فَهو: هل ثمّة طريق خاصّ يؤدّي إلى مصير خاصّ؛ الطريق الذي يمكن أن نصطلح عليه بالشريعة، أو ما تمنحهُ لنا النبوّة والإمامة؟

هذه هي الأركان العامّة للرؤية الكونيّة. وفي ما يأتي، نقدّم بعض الإشارات المستلهمة من نهج الإمام (قدس سره)، ولا ندّعي الإحاطة -في هذا الكتاب المختصر- بِما أتى به كلّه، وإنّما نسعى إلى تقديم مفاتيح أساسيّة تشكّل الإطار النظريّ العامّ لرؤيته (قدس سره).

 

22


14

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثاني: الرؤية العقديّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

يتمثّل الركن الأوّل من أركان المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بما يُسمّى «الرؤية الكونيّة» أو «العقائد»، بالاصطلاح الخاصّ. ويقصد به مجموعة الأفكار التي تُبيّن نظرتنا إلى الوجود، وتجيب عن سؤال: ما هي هندسة عالم الوجود؟ مِمَّ يتألّف؟ ما الموجود وما غير الموجود؟

إذا ذهبنا إلى الأسئلة التفصيليّة التي تجيب عنها الرؤية الكونيّة بشكلٍ عامّ؛ أي قبل أن نخصّص الكلام لِما يقدّمه الإمام الخمينيّ (قدس سره)، فإنّنا نجد أنّ أيّ وصف للكون والوجود لا بدّ من أن يجيب عن ثلاثة أسئلة أساسيّة عامّة، هي: من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟

إنّ الكلام في السؤال الأوّل على مبدأ وجود العالم وأساسه؛ فهل إنّ له خالقاً أم لا؟ وما هي صفاته؟ أمّا السؤال الثاني، فينقسم إلى أسئلة عديدة يجمعها سؤال عن المعاد أو المصير؛ فهل إنّ العالم المادّيّ والوجود الأرضيّ المحدود بهذا الزمان وسائر الحدود لا غير له، أم ثمّة عالم نصير إليه بعد الموت؟ والسؤال الثالث عن الربط بين الدنيا والآخرة، أو الطريق الذي يسلكه البشر لِبلوغ غايات شتّى، فَهو: هل ثمّة طريق خاصّ يؤدّي إلى مصير خاصّ؛ الطريق الذي يمكن أن نصطلح عليه بالشريعة، أو ما تمنحهُ لنا النبوّة والإمامة؟

هذه هي الأركان العامّة للرؤية الكونيّة. وفي ما يأتي، نقدّم بعض الإشارات المستلهمة من نهج الإمام (قدس سره)، ولا ندّعي الإحاطة -في هذا الكتاب المختصر- بِما أتى به كلّه، وإنّما نسعى إلى تقديم مفاتيح أساسيّة تشكّل الإطار النظريّ العامّ لرؤيته (قدس سره).

 

22


15

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الرؤية الكونيّة المادّيّة والإلهيّة

من أوائل الأمور التي تَظهر لنا في رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره) العقديّة وَضْعُه الحدود الفاصلة بين رؤيتَيْن؛ الأولى الرؤية التوحيديّة الإلهيّة للوجود، والثانية الرؤية المادّيّة. فإنّ حَصْر الوجود بالعالم المادّيّ، وتَوَهُّم أنّه لا يوجد عوالم أخرى غير مادّيّة، هو من معالم التمايُز بين الإلهيّ وغير الإلهيّ. وقد أشارت الآيات القرآنيّة إلى هذه القضيّة عندما وصفت أهلَ الدين والقرآن والإسلام بأنّهم يؤمنون بالغَيب، في مقابل الذين اقتصر إيمانهم واعتقادهم على ما تراه أعينهم وتسمعه آذانهم؛ وهو المسمّى بِعالم الشهادة.

ثمّ إنّ اقتصار أصحاب الرؤية المادّيّة على هذا الأمر -أي حَصْر الوجود بالشهادة وعدم الإيمان بالغيب- يرجع إلى أسباب عديدة أهمّها إقصاء العقل المجرّد عن ساحة التفكير والمعرفة؛ بعبارة أخرى، هل إنّ معارفنا ومعلوماتنا التي نُكوِّنها حول الوجود لها مصدر غير الحسّ أم لا؟ فإنْ قلنا إنّ ما نعرفه كلّه يأتي من حواسّنا، وما سوى الحواس لا يمكن أن نعرف وجوده أو عدمه؛ أي نَفَيْنا ما عَداها -والحقيقة أنّ العلوم الطبيعيّة، كالطبّ والفيزياء والكيمياء، علوم معتمدة على محوريّة الحسّ والتجربة؛ لذا كانت علوماً ذات مصادر معرفيّة حسّيّة ومقبولة- فعندئذٍ لن تُطلِعنا المعارف التي نمتلكها على وجود غيبيّ غير مادّيّ، فتكون رؤيتنا مادّيّة. أمّا إذا آمنّا بالمعرفة العقليّة التجريديّة؛ أي بالعقل المجرّد الذي يُزوّدنا بأفكار تأمّليّة غير محسوسة، كوجود الله تعالى أو الملائكة أو الآخرة أو غير ذلك مِن أمور لا تُحسّ بِالحواس، فعندئذٍ سينفتح لنا باب المعرفة بِالغَيْب.

لقد ذَكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) عُمق هذا المطلب في رسالته المطوّلة التي أرسلها في أواخر عمره الشريف إلى زعيم الاتّحاد السوفييتيّ الأخير، إذ قال: «فالمادّيّون آمنوا بالحسّ معياراً للمعرفة في رؤيتهم الكونيّة، وَعَدّوا ما هو غير محسوس كلّه خارجاً عن دائرة العلم. وتبعاً

 

23


16

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لذلك، عَدّوا عالمَ الغيب، نظيرَ وجود الله تبارك وتعالى والوحي والنبوّة والمعاد، ضرباً من الأساطير، في حين أنّ معيار المعرفة في الرؤية الكونيّة الإلهيّة يشمل الحسّ والعقل، وأنّ ما يدركه العقل يدخل في دائرة العلم وإن لم يكن محسوساً. لذا، فإنّ الوجود يشمل عالَمَي الغَيب والشهادة، والذي يفتقد المادّة مِن الممكن أن يكون له وجود، فَكما أنّ الوجود المادّيّ يستند إلى المجرّد، فكذلك المعرفة الحسّيّة تستند إلى المعرفة العقليّة.

إنّ القرآن المجيد ينتقد أساس التفكير المادّيّ، ويردّ على الذين يتوهّمون عدم وجود الله لأنّه لا يُرى، فيقول: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَة﴾[1] و﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ﴾[2]»[3].

ولم يكتَفِ الإمام (قدس سره) في رسالته العريقة هذه ببيان أصل الافتراق بين المنهج الحسّيّ والمنهج العقليّ، بل إنّه بيّن الاستدلالات التي يمكن أن تقال، مِن أنّ الحسّ والمعرفة الحسّيّة وحدها قاصرة عن أن تكون محور حياة البشر، وأنّ وجود معرفة غير مادّيّة وحسّيّة أمر ضروريّ يثبته الدليل؛ قال (قدس سره): «من البديهيّ أنّ المادّة والجسم -مهما كانا- يجهلان ذاتَيْهما؛ فيجهل كلّ طرف من التمثال الحجريّ أو الجسم المادّيّ للإنسان، مثلاً، طرفه الآخر. في حين أنّنا نشهد -عَياناً- أنّ الإنسان -وكذلك الحيوان- يعي ما حوله كلّه، فيعرف أين هو، وماذا يجري حوله، والصخب الدائر في العالم. إذاً، ثمّة شي‏ء آخر في الإنسان والحيوان فوق المادّة، معزول عن عالَمِها، وهو باقٍ لا يموت بِموت المادّة»[4].

هذا الكلام الذي ذَكَره الإمام الخمينيّ (قدس سره) مِن الأدلّة العميقة التي تثبت ضرورة وجود المجرّدات عن المادّة، وعدم صوابيّة الاقتصار في

 


[1]  سورة البقرة، الآية 55.

[2]  سورة الأنعام، الآية 103.

[3] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج21، ص203 - 204.

[4]  المصدر نفسه، ج21، ص204.

 

24


17

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

المعرفة على الحسّ والتجربة. وهو دليل قائم على معرفة النفس، حاصله ثلاث مقدّمات أساسيّة:

1. إنّ حقيقة العلم والمعرفة قائمة على حضور المعلوم عند العالم، وإلّا فالمفارقة بين العالم والمعلوم هي الجهل. فَما الفرق بين العالم بشيء والجاهل به إلّا كون الجاهل بمعزل عن حضور المعلوم عنده وانكشافه لديه، بخلاف العالم؟

2. إنّنا نعلم بأنفسنا وبمشاعرنا، والشكّ في هذه القضيّة يجعل البشر جميعهم في عتمة وظلمة الجهل، فَينقطع أيّ تواصل ممكن بينهم.

3. إنّ الجسد مادّيّ، وحقيقة المادّة انفصال أجزائها بعضها عن بعضها الآخر، فليس جزء البدن حاضر عند الجزء الآخر. وعليه، لا يمكن أن يحصل لدينا عِلم بأنفسنا إن اقتصرنا على وجودنا المادّيّ فقط.

يثبت، إذاً، أنّ بُعداً مجرّداً عن المادّة هو الذي يكون مبدأ شعورنا وعِلمنا وأساسهما.

 

25

 


18

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الفطرة الإنسانيّة ملهمة المعرفة

يشكّل مفهوم «الفطرة» عنصراً جادّاً وأساسيّاً في المنظومة العقديّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)، إذ يستند إليها في كثير من كلماته للاستدلال واكتشاف الرؤية الكونيّة الإلهيّة. وحاصل ما يُبيّنه في هذا المجال أنّ في كلّ إنسان عشقاً للكمال المطلق اللامحدود، يتجلّى في مظاهر متعدّدة؛ تارةً يظهر في حبّ العِلم المطلق، وتارةً أخرى يظهر في عشق القدرة المطلقة أو الحياة اللامتناهية، إلى غير ذلك. وهذه الفِطرة لا يشذّ عنها أيّ إنسان، سواء أكان مؤمناً أم لا. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الإنسان يبحث في داخل نفسه عن اللامحدود المطلق المنزّه عن كلّ نقص، وليس لذلك المعشوق المبحوث عنه مِصداق إلّا الله تعالى الذي يسعى إليه البشر جميعهم في أصل خِلقتهم وفطرتهم.

نعم، يُخطئ البشر أحياناً في إصابة الهدف الذي يَسعون إليه. فَهُم يحبّون القدرة المطلقة، ويتوهّمون أنّ تحقُّقها يتمّ بالسيطرة على البلدان، وبالحصول على المزيد مِن المال والسلطة، ولكنْ في الحقيقة، لا يَسكن قَلبهم بِالحصول على هذه الأمور، لأنّها -مَهما كثرَت- تبقى محدودة ومنتهية. هذا السعي وعدم الاطمئنان يَدُلّان -بِالوجدان- على أنْ ليس هذا ما يريدونه، بل إنّهُم في بحثٍ دائمٍ عن الكمال المطلق اللامتناهي؛ أي الله تعالى. فمعرفة الله مغروسة في عُمق البشر كلّهم، لكنّهم يُخطئون في تشخيص ما يريدون؛ يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنّ الإنسان في فطرته‏ ينشد الكمال بِنحوٍ مُطلق. وكما تعلمون، فإنّ الإنسان يتطلّع إلى أن يكون القوّة المطلقة في العالم، فَلا يعبأ بقوّة ناقصة. ولو أنّه امتلك العالم، وعَلِم أنّ ثمّة عالَماً آخر، لَرَغب فِطريّاً في ضَمّ ذلك العالم إلى سلطته أيضاً. فَمهما بَلغ الإنسان من العِلم، وقيل له إنّ ثمّة علوماً أخرى، فإنّه يرغب فِطريّاً في تعلُّم هذه العلوم أيضاً. إذاً، لا بدّ مِن أن تكون هناك قوّة مطلقة وعِلم مطلق كي يتعلّق بهما الإنسان؛ أي الله تبارك وتعالى الذي نتوجَّه إليه

 

26

 

 


19

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

جميعاً، وإن كُنّا نجهل ذلك... الإنسان يريد أن يصل إلى الحقّ المطلق كي يفنى في الله. وهذا الشوق إلى الحياة الأبديّة، المتأصّل في وجود كلّ إنسان، دليل على وجود عالَم الخلود المنزّه عن الموت»[1].

ويقول أيضاً: «إنّ فِطرةَ الله التوجُّه نحو الكمال المطلق، فالإنسان ينشد الكمال‏ المطلق لِنفسه طالَما كان ناقصاً؛ يريد القوّة لنفسه لأنّه ناقص، لكنّه ينشد قدرة الله، ولا يدري بأنّ فطرته‏ تتّجه نحوه. الفطرة هي التوحيد، والناس جميعهم على هذه الفِطرة، بل ربّما كانت الفطرة إحدى أقوى الأدلّة على التوحيد. فَمِن المحال ألّا يطلب الإنسان المزيد مَهما بلغَت قدرته، لأنّه يسعى إلى امتلاك ما يفتقر إليه. فالرأسماليّ، مثلاً، يسعى إلى المزيد كلّما تضاعفت ثروته، والسلطة تسعى إلى مزيد من التوسُّع مَهما كان حجمها، وتَرَون أنّ القوى الكبرى تنحو هذا النحو أيضاً، فتسعى إلى المزيد مِن القوّة؛ هذه الفطرة موجودة لدى الجميع، فَلَو وُضِع هذا العالم كلّه تحت نفوذكم، وخضعت دول العالم كلّها لكم، وسُئِلتُم: هل تريدون المزيد؟ فَمِن المحال أن ترفضوا. إلّا أن يصل الإنسان إلى معدن الكمال ويبدّد الحُجب»[2].

وقد قام كتاب الإمام (قدس سره) «جنود العقل والجهل» على هذه الفكرة المركزيّة، واستطاع أن يثبت أمّهات العقائد، كالتوحيد والعدل والمعاد والولاية، بالتوجُّه نحو هذا الشعور الفطريّ في الإنسان، إذ يقول فيه: «إنّ أصول الإيمان وأركانه، وهي المعرفة والتوحيد والولاية والإيمان بالرُسل وبِيوم المعاد والملائكة والكتب الإلهيّة، كلّها من الفطر»[3].

بالنسبة إلى التوحيد، فَقد مرّ أنّ عشق الكمال المطلق المغروس في فطرة كلّ إنسان علامة واقعيّة على وجود هذا الكمال المطلق، لأنّ العشقَ فعليٌّ، وقد ثبت بالبراهين أنّه يستدعي معشوقاً فعليّاً؛


 


[1]  المصدر نفسه، ج21، ص204.

[2]  المصدر نفسه، ج17، ص428 - 429.

[3]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، جنود العقل والجهل، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 2001م، ط1، ص83.

 

27


20

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

«لا يتوهّم أنّ الإنسان على خطأ أو غلط، فالنفس متوجّهة إلى الصور الذهنيّة والخيالات الموهومة التي لا أصل لها، لأنّ الصور الخياليّة لا يمكنها أن تكون معشوقة للنفس، فتكون كلّها محدودة، والنفس عاشقة لغير المحدود»[1].

أمّا المعاد، فَيُثبته الإمام (قدس سره) بالعشق الفطريّ نفسه الموجود في النفس، لأنّ «الإنسان يعشق الحرّيّة أيضاً بالفطرة، حرّيّة أن يفعل ما يشاء، وأن تكون إرادته نافذة، بحيث لا يكون مقابل سلطته مُدافع، أو أمام قدرته مُزاحم. ومن المعلوم ألّا نفوذ للقدرة والإرادة على هذا الشكلِ في هذا العالَم، ولا حتّى أقلّ منه، لأنّ طبائع هذا العالَم المتعصّبة ترفض أن تكون تحت إرادة الإنسان، كما هو واضح، وسلطة كهذه لا توجد إلّا في عالم ما بعد الطبيعة؛ أي جنّة أهل الطاعة، والإنسان بفطرته مؤمن بالنشأة الغيبيّة، فَمِن المعلوم أنّ العشق الفعليّ والعاشق الفعليّ مُلازمان للمعشوق الفعليّ»[2].

 


[1] المصدر نفسه، ص87.

[2] المصدر نفسه، ص86.

 

28


21

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

معرفة الله وعلاقة العالم به

من المباحث العقديّة المهمّة في الرؤية الكونيّة الإلهيّة العلاقةُ بين العالم وإله العالم، وقد كُتب الكثير في هذا الأمر، فقد كان قضيّة شغلت الفلاسفة والعرفاء الكبار.

وقَد خاضَ الإمام الخمينيّ (قدس سره) هذا البحث، وجعله مِن أهمّ أركان المنظومة العقديّة الإلهيّة. فَحاول تبيان أنّ العالم ليس مستقلّاً عن الله تعالى؛ بمعنى أنّ الموجودات كلّها فقيرة إليه في وجودها وكمالها، فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ الله خلق الإنسان وسائر الموجودات في ظرف زمانيّ معيّن، وأنّه في مرتبة وجوديّة، ومخلوقاته في مرتبة أخرى. الأمر ليس كذلك أبداً، إذ إنّ المخلوقات كلّها «عين الربط» بالله، فهي ليست مرتبطة به مِن جهة ومستقلّة عنه مِن جهة أخرى، بل إنّها في وجودها وذرّاتها كلّها متعلّقة به. فَلا يمكننا، إذاً، الفرار من حضوره تعالى في حياتنا، أو الذهاب بِفِكرنا أو خاطرنا إلى ما لا حضور له تعالى فيه، لأنّه الحاضر المطلق.

هذه الرؤية كرّرها الإمام (قدس سره) في كثير مِن كتبه وخطاباته ورسائله، فَقد كتب إلى ابنه السيّد أحمد رسالة معنويّة قال فيها: «بنيّ أحمد الخمينيّ، رزقك الله هدايته، سواء أكان العالم أزليّاً وأبديّاً أم لا، وسواء أكانت سلسلة الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها كلّها فقيرة، لأنّ وجودها ليس ذاتيّاً. وأنت، إذا نظرتَ بالإحاطة العقليّة إلى السلاسل غير المتناهية جميعها، فإنّك ستسمع صوت الفقر والاحتياج الذاتيّ في وجودها، وكمالها بِالوجود الموجود بالذات، والكمالات ذاتيّة له. وإذا خاطبتَ بالمخاطبة العقليّة السلاسلَ الفقيرة بالذات قائلاً: أيّتها الموجودات الفقيرة، مَن الذي يستطيع سدّ احتياجاتك؟ فإنّها جميعاً ستصرخ بلسان الفطرة: نحن محتاجون إلى موجود ليس فقيراً مثلنا في الوجود والكمال. على الرغم مِن أنّ هذه الفطرة نفسها ليست منها،

 

29

 

 


22

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

بل من الله؛ ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ﴾[1]، فالمخلوقات الفقيرة بالذات لا تتبدّل إلى غنيّة بالذات، لأنّ هذا التبديل غير ممكن. ولأنّها فقيرة ومحتاجة، فإنّ أحداً لايستطيع رفع فقرها سوى الغنيّ بالذات. وهذا الفقر الذاتيّ اللازم لها دائم، سواء أكانت هذه السلسلة أبديّة أم لا. لا يمكن لأحد أن يفعل شيئاً سوى الله، ولن يمتلك أيّ شخصٍ كماله وجماله؛ ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾[2]. هذا يصدق على كلّ شي‏ء، وعلى كلّ فِعلٍ وكلّ قولٍ وعمل. ومَن يُدرك هذه الحقيقة ويتذوّقها، فإنّ قلبه سوف لن يتعلّق بأحدٍ غيره، ولن يطلب حاجة مِن سواه.

حاوِل أن تفكّر في هذه البارقة الإلهيّة في الخلوات، ولقِّن طفلَ قلبك إيّاها، وكرِّرها حتّى تتجسّد على اللسان، وتتمظهر في ملك وجودك وملكوته، واتّصِل بالغنيّ المطلق كي تستغني عن أيّ أحد سواه، واطلب منه توفيق الوصول، كي يقطعك عن الناس جميعهم وعن ذاتيّة ذاتك، ويمنحك التشرّف بالحضور والإذن بالدخول»[3].

مسيرة النبوّة والإمامة

إلى هذا الموضع، تكلّمنا على قضيّتا التوحيد والآخرة بحسب رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره)، وكيف أرجعهما إلى الفطرة المغروسة في كلّ إنسان. وبقي الكلام على النبوّة والإمامة، بحسب رؤيته أيضاً.

إذا راجعنا بيانات الإمام الخمينيّ (قدس سره) وكلماته حول الولاية؛ أي النبوّة والإمامة، فإنّنا نجده يمتلك رؤية مهمّة وجديرة بالتأمّل حول شخصيّة الأولياء ووظيفتهم في هذا العالم. فالأنبياء، في الحقيقة، قادة مسيرة الإنسانيّة إلى الكمال الذي تنشده، ولا يمكن أن ننظر

 


[1]  سورة الروم، الآية 3.

[2]  سورة الأنفال، الآية 17.

[3]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج16، ص158 - 159.

 

 

30


23

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

إليهم على أنّهم أشخاص منعزلون في حياتهم، أوك إنّ دعوتهم كانت سطحيّة، بل كانوا قادةً بما للكلمة مِن عمق ومعنى، يسيرون بالبشريّة إلى هدف واحد ومشخّص، هو الوصول إلى العبوديّة، وحاكميّة الله في حياة البشر بشؤونهم وأحوالهم كلّها، بحيث لا يكون لِما سواه، كالأهواء والأنانيّات، حاكميّة وسلطة؛ يقول (قدس سره): «قال الله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ﴾[1]. بيّن الله سبحانه في هذه الآية الشريفة المسيرة الإنسانيّة من المبدأ الأوّل للطبيعة المظلمة حتّى المنتهى. وقد اختار إلهُ العالم من بَين المواعظ كلّها أفضلها، لِيَضع إزاء الإنسان كلمة تمثّل طريق الإصلاح الوحيد للعالمين؛ أي القيام لله. فهذا القيام أوصل إبراهيم خليل الرحمن إلى مقام الخلّة، وحرّره من أَسر المظاهر المختلفة لعالم الطبيعة؛ اُطرق كالخليل باب علم اليقين، واصرخْ بِنداء: ﴿لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ﴾[2]. وهذا القيام نصر موسى الكليم بِعَصاه على الفراعنة، وألقى بِتيجانهم وعروشهم في مهبّ الريح، والذي أوصله أيضاً إلى ميقات المحبوب، وأحلّه مقام الصعق‏[3] والصحو[4]. والقيام لله هذا هو الذي نصر خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) بمفرده على عادات الجاهليّة وتقاليدها كلّها، وطهّر بيت الله مِن الأصنام وأحلّ محلّها التوحيد والتقوى، وهو الذي أوصل هذه الذات المقدّسة أيضاً إلى مقام ﴿قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ﴾[5]»[6].

ويقول أيضاً: «إنّ الأنبياء والعلماء كانوا يتصدّون لحكومات الجور منذ بدء التاريخ البشريّ حتّى الآن. أفلم يكونوا يعقلون؟ وحين بَعث الله سبحانه وتعالى موسى (عليه السلام) للقضاء على فرعون، ألم يكن سبحانه وتعالى مدركاً للقضيّة كإدراكنا لها، أنا وأنتم، أم إنّ عليه ألّا يعارض الملك؟

 

 


[1]  سورة سبأ، الآية 46.

[2] سورة الأنعام، الآية 76.

[3]  فناء العبد السالك بحسب الاصطلاح العرفانيّ.

[4]  البقاء بالله بعد الفناء في الله، والعودة إلى عالم الناسوت، امتثالاً لأمر الربّ الجليل.

[5]  سورة النجم، الآية 9.

[6] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج1، ص43.

 

32


24

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثالث: الرؤية القِيَميّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

جاء في الأمر الأوّل أنّ النظام الفكريّ عند الإمام الخمينيّ (قدس سره) ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل هو الرؤية الكونيّة، وقد تمّ الكلام عليه إجمالاً في الأمر السابق، والقسم الثاني هو الرؤية القيميّة والأخلاقيّة، وهو ما سنتحدّث عنه هنا، والقسم الثالث هو رؤيته للشريعة والقانون، وسيأتي بحثه في الأمر اللاحق.

إذا راجعنا كلمات الإمام الخمينيّ (قدس سره) المنتشرة في كتبه وخطاباته وبياناته المختلفة، نجد أنّ قضيّة الأخلاق والقيم تحتلّ رتبة رفيعة بعد الرؤية الكونيّة، لأنّ امتلاك رؤية كونيّة معيّنة يحتّم على أيّ إنسان أن يبني نظامه الأخلاقيّ وِفاقاً لِما يعتقده في الوجود والكون. فالذي يعتقد بوجود إلهٍ خالقٍ للعالم بِيَده أمر كلّ شيء، سيبني نمط حياته وتفاصيلها وِفاق منظومة قيميّة مختلفة عن تلك التي سيعتمدها مَن لا يؤمن بالله تعالى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مَن يؤمن بالآخرة ووجود عالم آخر غير المادّة والدنيا، ومَن لا يؤمن بهذه الأمور جميعاً. مِن هنا نجد أنّ الإمام (قدس سره)، عند حديثه عن الآفات الأخلاقيّة، كان ينطلق بشكل دائم من المعارف العقديّة، وينبّه إلى أنّ سلامة الأخلاق تنشأ من سلامة العقيدة، كما أنّ فسادها ينشأ من فساد العقيدة. ومثال ذلك ما يطرح في باب الرياء، وهو من المفاسد الأخلاقيّة التي حذّر منها الدِين بشكل واضح، مِن أنّ الرياء إنّما ينشأ من عدم إيمان الإنسان بشكلٍ واقعيّ بِقدرة الله تعالى وكونه المؤثّر في قلوب العباد؛ بتعبيرٍ آخر: بالتوحيد على مستوى الفعل والتأثير، وهو ما يُعبِّر عنه بــ «لا مؤثِّر في الوجود إلا الله»، إذ إنّ المرائي يبحث في أفعاله وحركاته وسكوناته عن التأثير في قلوب العباد بشكلٍ مستقلّ، من دون أن يراعي في ذلك حضور الله تعالى وإحاطته وحضوره. وهذه قضيّة عقديّة تنعكس بشكلٍ جليٍّ على الأخلاق؛ يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا الصدد: «نتيجة لإحاطة قدرة الله تبارك وتعالى بالموجودات

 

33

 

 


25

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثالث: الرؤية القِيَميّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

جاء في الأمر الأوّل أنّ النظام الفكريّ عند الإمام الخمينيّ (قدس سره) ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل هو الرؤية الكونيّة، وقد تمّ الكلام عليه إجمالاً في الأمر السابق، والقسم الثاني هو الرؤية القيميّة والأخلاقيّة، وهو ما سنتحدّث عنه هنا، والقسم الثالث هو رؤيته للشريعة والقانون، وسيأتي بحثه في الأمر اللاحق.

إذا راجعنا كلمات الإمام الخمينيّ (قدس سره) المنتشرة في كتبه وخطاباته وبياناته المختلفة، نجد أنّ قضيّة الأخلاق والقيم تحتلّ رتبة رفيعة بعد الرؤية الكونيّة، لأنّ امتلاك رؤية كونيّة معيّنة يحتّم على أيّ إنسان أن يبني نظامه الأخلاقيّ وِفاقاً لِما يعتقده في الوجود والكون. فالذي يعتقد بوجود إلهٍ خالقٍ للعالم بِيَده أمر كلّ شيء، سيبني نمط حياته وتفاصيلها وِفاق منظومة قيميّة مختلفة عن تلك التي سيعتمدها مَن لا يؤمن بالله تعالى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مَن يؤمن بالآخرة ووجود عالم آخر غير المادّة والدنيا، ومَن لا يؤمن بهذه الأمور جميعاً. مِن هنا نجد أنّ الإمام (قدس سره)، عند حديثه عن الآفات الأخلاقيّة، كان ينطلق بشكل دائم من المعارف العقديّة، وينبّه إلى أنّ سلامة الأخلاق تنشأ من سلامة العقيدة، كما أنّ فسادها ينشأ من فساد العقيدة. ومثال ذلك ما يطرح في باب الرياء، وهو من المفاسد الأخلاقيّة التي حذّر منها الدِين بشكل واضح، مِن أنّ الرياء إنّما ينشأ من عدم إيمان الإنسان بشكلٍ واقعيّ بِقدرة الله تعالى وكونه المؤثّر في قلوب العباد؛ بتعبيرٍ آخر: بالتوحيد على مستوى الفعل والتأثير، وهو ما يُعبِّر عنه بــ «لا مؤثِّر في الوجود إلا الله»، إذ إنّ المرائي يبحث في أفعاله وحركاته وسكوناته عن التأثير في قلوب العباد بشكلٍ مستقلّ، من دون أن يراعي في ذلك حضور الله تعالى وإحاطته وحضوره. وهذه قضيّة عقديّة تنعكس بشكلٍ جليٍّ على الأخلاق؛ يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا الصدد: «نتيجة لإحاطة قدرة الله تبارك وتعالى بالموجودات

 

 

33


26

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

جميعها، وبسط سلطانه على الكائنات جميعها، وإحاطة قيّوميّته بالممكنات جميعها، فإنّ قلوب العباد جميعاً تكون تحت تصرُّفه وبِيَد قدرته وفي قبضة سلطانه، ولا يتصرّف -ولن يتصرّف- أحد في قلوب العباد من دون إذنه القيّوميّ وإجازته التكوينيّة... إذاً، فالله تعالى هو صاحب القلب والمتصرّف فيه، أمّا العبد الضعيف العاجز، فلا يستطيع أن يتصرّف بقلبه من دون إذنه، إذ إنّ إرادته قاهرة لإرادتك وإرادة الموجودات جميعها. فَرِياؤك وتملُّقك، إذا كانا من أجل جذب قلوب العباد، ولفت نظرهم، ومن أجل الحصول على المنزلة والتقدير في القلوب، والاشتهار بالصلاح، فإنّ ذلك خارج بِكُلّه عن تصرُّفك، وهو تحت تصرّف الله، لأنّ إله القلوب وصاحبها يوجِّه القلوب نحو من يشاء. ومِن الممكن أن تحصل على نتيجة عكسيّة»[1].

مِن هنا كانت العقيدة الصحيحة منسجمة -بالضرورة- مع النظام القيميّ والأخلاقيّ الصحيح، فَلا يمكن عزل أحدهما عن الآخر. وإذا أردنا التفصيل -بحسب المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)- فإنّ قضيّة الأخلاق والقيم يمكن البحث عنها في بُعدَيْن أساسيَّيْن، آخذين بعين الاعتبار أنّ البُعدَيْن كِلاهما ينشآن من عمق الرؤية الكونيّة التوحيديّة -كما ذكرنا-:

البُعد الأوّل: المنظومة الأخلاقيّة على مستوى الفرد، ويمكن أن نُسمّيه تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق.

البُعد الثاني: المنظومة الأخلاقيّة على مستوى المجتمع والعالم.

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، الأربعون حديثاً، دار زين العابدين، لبنان - بيروت، 2010م، ط1، ص64 - 65.

 

34


27

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وينبغي أن يُلفَتَ إلى قضيّة مهمّة في هذا المجال، هي أنّ تقسيم الأخلاق إلى فرديّ واجتماعيّ لا یعني أنّهما منفصلان عن بعضهما، بحيث يمكن للشخص أن يهتمّ بأحدهما دون الآخر، بل إنّ السعي نفسه لتهذيب النفس على مستوى البُعد الفرديّ باعث على الاهتمام بالأمور الاجتماعيّة القيميّة، مِن قبيل الحرّيّة والعدالة. وقد كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) يؤكّد هذه القضيّة كثيراً، حتّى إنّه تعرَّض في بعض خطبه بمناسبة مرور 2500 عامٍ على الحكم الشاهنشاهيّ‏ للمشاكل الاقتصاديّة التي يعاني منها الشعب، إذ قال: «أينبغي أن أتحدّث إليكم الآن عن الأخلاق‏؟ إنّهم يقضون على أسس الإسلام، ويدمّرون المسلمين، وأقعد أنا الآن لأتحدّث إليكم عن تهذيب النفس؟ إنّنا غير مكترثين، لأنّنا غير مهذّبين، فَلَو كنّا مُهذّبين لاكترثنا لِما يحصل»[1].

وفي ما يأتي حديث عن البُعد الفرديّ المتمثّل بتهذيب النفس وتحليتها بالأخلاق الفاضلة، أوّلاً، وعن القضيّة القيميّة على المستوى الاجتماعيّ، ثانياً.

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج2، ص344.

 

35


28

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تهذيب النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل

يوصَف الإمام الخمينيّ (قدس سره) بِكَونه أستاذاً عريقاً من أساتذة الأخلاق والتهذيب، إذ كان درسه في حوزة قُمّ المقدّسة وفي النجف الأشرف مِن الدروس التي يرتادها طَلَبة العِلم، وتترك فيهم أثرها لأيّام عديدة. وبتقديرنا، فإنّ ذلك يرجع -بدرجة أساسيّة- إلى امتلاك الإمام الخمينيّ (قدس سره) رؤية ومنهجاً في ما يخصّ قضيّة تهذيب النفس، فَقَد ذَكر في بعض كتبه أنّ مشكلة كتب الأخلاق -بشكلٍ عامٍّ- هي كونها أشبه بوَصفة دواء للآفات الأخلاقيّة، والحقيقة أنّ مُعلّم الأخلاق وكتاب الأخلاق ينبغي أن يكونا بنفسَيْهما العلاج، لا وصفة له، بحيث إذا حضر أحدٌ ما درس المعلّم، أو قرأ كتاباً في الأخلاق، لَوَجَد في نفسه التحوّل والتأثّر. فَقال: «وعقيدة هذا الكاتب[1] أنّ المهمّ في عِلم الأخلاق وشرح الأحاديث المرتبطة بها أو تفسير الآيات الشريفة الراجعة إليها هو أن يُمكّن كاتبها مقاصده في النفوس، عن طريق التبشير والتنذير والموعظة والنصيحة والتفكير والتنبيه؛ بِعبارة أخرى: إنّ كتاب الأخلاق لا بدّ مِن أن يكون موعظة مكتوبة، ويكون بنفسه معالجاً للآلام والعيوب... إنّ تفهيم جذور الأخلاق وإراءة طريق العلاج لا يقرّب أحداً مِن المقصد، ولا يُنوّر قلباً ظلمانيّاً، ولا يصلح خُلقاً فاسداً. وكتاب الأخلاق كتابٌ تلين بمطالعته النفس القاسية، فَيكون لِغير المهذَّب مهذِّباً، وللمُظلم مُنوّراً، ويحصل بأن يكون العالم أثناء إراءة الطريق قائداً، وأثناء إراءة العلاج معالجاً، ويكون الكتاب نفسه دواءً للداء، لا وصفة لإراءة الدواء»[2].

وإذا أردنا أن نصوغ رؤية الإمام (قدس سره) في ما يتعلّق بتهذيب النفس بشكلٍ إجماليّ، فَيُمكننا وضعها ضمن عناوين عديدة:

 

 


[1] يقصد نفسه (قدس سره).

[2] الإمام الخمينيّ، جنود العقل والجهل، مصدر سابق، ص11.

 

36


29

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تهذيب النفس في مرحلة الشباب

إنّ اللافت في توجيهات الإمام الخمينيّ (قدس سره) الأخلاقيّة تركيزه على قضيّة المسارعة إلى تهذيب النفس، وعدم جعل هذه القضيّة من قضايا آخر العمر، أو من القضايا التي تزاحمها في الأولويّة قضيّة أخرى. إنّ الأمر على العكس من ذلك؛ بمعنى أنّ تهذيب النفس في مرحلة الشباب أسهل من إرجائه إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة وأيسر، والسرّ في ذلك أنّ الملكات النفسيّة، كالحسد والغضب والرياء، مثلها كمثل الشجرة التي إذا أُبقيَت مدّةً طويلة مِن الزمن، فإنّ جذورها تشتدّ وتقوى في النفس بحيث تصعب إزالتها مع الوقت. من هنا يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «أيّها العزيز، انهض من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، ومادام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرُّفك. وشبابك موجود، لم تتغلَّب عليك -بعدُ- الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة. فابحث عن العلاج، واعثر على الدواء، لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب»[1].

 


[1]  الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص53.

 

37


30

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وفي رسالته المعنويّة إلى ابنه، يشدّد الإمام (قدس سره) على هذه القضيّة، فيقول: «بنيّ، إنّني أتحدّث الآن معك أنت الشابّ. عليك أن تلتفت إلى أنّ التوبة أسهل على الشباب، وأن إصلاح النفس وتربية الباطن يتمّان بسرعة أكبر. فالأهواء النفسيّة وطلب الجاه وحبّ المال والعجب تكون عند الشيوخ أكثر بكثير مِن الشباب. وروح الشباب لطيفة ومرنة، لا يوجد في الشباب حبّ النفس وحبّ الدنيا بمقدار ما هو موجود عند الشيوخ. فَالشابّ يستطيع بِسهولة نسبيّة أن يحرّر نفسه من شرّ النفس الأمّارة، ويميل إلى المعنويّات. وفي جلسات الموعظة والأخلاق، يتأثّر الشباب أكثر من الشيوخ. فَلْيَلتفت الشباب، ولا ينخدعوا بالوساوس النفسيّة والشيطانيّة. إنّ الموت قريب من الشباب والشيوخ بالنسبة نفسها، فأيّ شابّ يستطيع أن يضمن بلوغه الشيخوخة؟ وأيّ إنسان مصون من حوادث الدهر؟ إنّ الحوادث اليوميّة أقرب من الشباب»[1].

وفي هذا الصدد، ينبغي على العاملين بالعلوم الإلهيّة والإسلاميّة أن يسارعوا أكثر من غيرهم إلى تهذيب النفس وتزكيتها، لأنّ الاشتغال بالعلوم التي يكون موضوعها الله تعالى وإرادته ومشيئته، يتوقّف عليه معاش الناس ومعادهم. وطالب العلم الذي يقضي عمره في هذه العلوم، إن كان عرضة للمفاسد الأخلاقيّة، فلن ينحصر ضرره بنفسه، ولن يرجع عدم التهذيب إليه فقط، بل إنّ عالِمَ السوء وطالب العلم الباحثَيْن عن الجاه والسلطة، سيضرّان مجتمعهما وأمّتهما.

من هنا أكّد الإمام الخمينيّ (قدس سره) أهمّيّة هذه القضيّة، وكلماته في هذا المجال لا يستوعبها هذا المختصر، فَنورد بعضها: «إنّ على الشبّان اليافعين ذوي الستّة عشر عاماً أو العشرين، الموجودين في المدارس العلميّة، أن يبدؤوا مِن الآن بتعويد أنفسهم على أن يكونوا كما أرادهم الله، وعلى ما حثّت عليه الأوامر الإلهيّة، وأن يخطوا خطوة في سبيل تهذيب‏ النفس‏ وتحصيل الأخلاق الحميدة مع كلّ خطوة

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج16، ص169.

 

38


31

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

يخطونها في سبيل تحصيل العِلم. فإنّ الواحد منكم إذا أصبح عالِماً، ولم يكن مهذَّباً كما أراد له‏ الإسلام -لا سمح الله- فإنّ ضرره سيكون أكثر من نفعه. فَمُبتدعو الأديان والمذاهب الباطلة جميعهم كانوا في الأساس أشخاصاً متعلّمين، تعلّموا في حوزات علميّة دينيّة، إلّا أنّهم لم يكونوا مهذَّبين؛ تأمَّلوا في أرباب المذاهب الباطلة، سَتجدون أنّهم كانوا جميعاً أشخاصاً متعلّمين، وطَلَبة علوم دينيّة، غير أنّهم لم يكونوا مهذَّبين»[1].

وقال (قدس سره) أيضاً: «المهمّ هو التوجُّه القلبيّ؛ ليس مهمّاً امتلاك المال والعقار والثروة، المهمّ قلب الإنسان، المهمّ التحكُّم بِقلب الإنسان. فَتكديس الثروة والتوجُّه إلى بهارج الدنيا مذموم، لأنّه يقود الإنسان إلى غير الله، ويحرمه مِن ضيافته، وَمِن غير الممكن تلبية دعوة الله والالتحاق بضيافته جلّ وعلا مِن دون أن تنسلخ قلوبكم عن هذه الدنيا. إنّ ما اهتمّ به أولياء الله هو تهذيب‏ النفس‏ وانتزاع القلب ممّا عدا الله، والتوجُّه إليه، لأنّ المفاسد كلّها التي تحدث في العالم وليدة الاهتمام بالنفس بدلاً من التوجُّه إلى الله، وإنّ الكمالات كلّها التي تحقّقتْ لأنبياء الله وأوليائه كانت بِوَحي من انتزاع القلوب من غيره تعالى واللجوء إليه»[2].

ثلاثيّة المشارطة والمراقبة والمحاسبة

يطرح الإمام الخمينيّ (قدس سره) الطريق العمليّ لإصلاح النفس وتهذيبها ضمن عنوانَيْن أساسيَّيْن؛ الأوّل المشارطة والمراقبة والمحاسبة، والثاني مخالفة الهوى. أمّا العنوان الأوّل، فَحاصله أنّ على الإنسان أنْ يُبرم كلّ يومٍ عَهداً بينه وبين نفسه، بألّا يرتكب أيّ ذنب أو سوء خُلق، كالرياء أو الغضب أو الحسد أو العجب أو الكبر، ويكون صادقاً في هذه المشارطة. فَيحاول أن يكون شديد الحساسية والمراقبة لِنفسه في هذا

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج2، ص34 - 35.

[2]  المصدر نفسه، ج17، ص398.

 

39


32

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

اليوم لِئلّا يصدر منها أيّ عمل أو خُلق مخالف لِما اشترطه عليها؛ هذه هي المراقبة. وفي ختام كلّ يوم، يحاول محاسبة نفسه، فيتذكّر ما صدر عنه في يومه مِن أفعال، فَيحمد الله تعالى على الحسنة منها، ويستغفره عن القبيح، لائماً نفسه، شاعِراً بالتقصير. فيقول (قدس سره): «مِن الأمور الضروريّة للمجاهد -أي المجاهد نفسه- المشارطة والمراقبة والمحاسبة. فالمشارط هو الذي يشارط نفسه في أوّل يومه على ألّا يرتكب أيّ عمل يخالف أوامر الله، فَيتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه. ومن الواضح أنّ ترك ما يخالف أوامر الله لِيوم واحد أمرٌ يسير للغاية، إذ يمكن للإنسان بكلّ سهولة أن يلتزم به. فاعزِم وشارِط وجَرِّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل ويسير... وبعد هذه المشارطة، عليك أن تنتقل إلى المراقبة، وكيفيّتها أن تنتبه طوال مدّة المشارطة إلى عملك وفاقاً لها، فتعدّ نفسك ملزماً بالعمل وفاق ما شارطت... والمراقبة لا تتعارض مع أيٍّ من أعمالك، كالكسب والسفر والدراسة، فَكُن على هذه الحال إلى الليل، ريثما يحين وقت المحاسبة. والمحاسبة أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخُنْ وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئيّة؟ فَإذا كنتَ قد وَفَيتَ حقّاً، فَاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدُّم في أمور دنياك وآخرتك، ويكون عمل الغَد أيسر عليك من سابقه... وإن حدث -لا سمح الله- في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم -بكلّ شجاعة- على الوفاء بالمشارطة غداً»[1].

واللافت تركيز الإمام (قدس سره) على قضيّة المراقبة، إذ إنّها أهمّ هذه المراحل الثلاث. وخصوصيّة هذه المرحلة أنّها لا تحتاج إلى خلوة أو تفرّغ لإنجاز الأعمال، بل يمكن للفلّاح وهو يبذر البذر في الأرض أن يراقب نفسه، ويمكن لِطالب العِلم في الجامعة أو الحوزة حال

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص35 - 37.

 

 

40


33

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

قراءته أو مباحثته أن يراقب نفسه، بحيث لا يصدر منه مِراء أو تكبّر مع زملائه، إلى غير ذلك. فباب تهذيب النفس -والمراقبة خاصّة- مفتوح لأيّ شخص، ولا حجّة له بأنْ لا وقت لديه، وأنّ أصحاب التزكية والتربية النفسيّة لم يكونوا منشغلين كما هو منشغل الآن بالعمل والدراسة. وفي ما يخصّ المراقبة، يقول الإمام (قدس سره): «إنّ مصدر الأخطار بالنسبة إلى الإنسان هو الإنسان نفسه، كما أنّ مبدأ الإصلاح يجب أن ينطلق من الإنسان نفسه. ليس بِوسع واعظٍ إصلاح الآخرين وهو نفسه غير صالح، فَإذا ما اتّعظ من داخله استطاع أن يكون مؤثّراً. ومثل ذلك ينطبق على كلّ من يريد أن يتحدّث، إذ يجب أن يلتفت إلى ما يريد قوله، ثمّ يراجع نفسه بعد التحدّث لِيَرى حقيقة أهدافه مِن هذا الحديث. فَطريق الإنسان إلى الله يحتّم عليه أن يراقب نفسه ثمّ يحاسبها»[1].

ويقول: «علينا أن نراقب أنفسنا. علينا أن نجاهد أنفسنا. علينا أن نحاسب أنفسنا بأنفسنا قبل أن نُحاسَب. حاسبوا أنفسكم بأنفسكم قبل أن يحاسبكم المحاسبون. لحظات عيونكم كلّها، خطرات أذهانكم كلّها، أفكاركم الباطلة كلّها في محضر الله، مسجّلة في الصحف والملفّات. كلّ لحظة من لحظات عيونكم تأتي خِلافاً لِما أمر به الله، لن تغيب عن محضره، بل تسجّل عنده»[2].

طريقةُ معالجة الرذائل مخالفةُ الهوى

العنوان الأساسيّ الثاني الذي يركّز عليه الإمام الخمينيّ (قدس سره) في سبيل تهذيب النفس وتزكيتها هو «مخالفة الهوى». والسرّ في ذلك أنّ في الإنسان قوى شهويّة وقوى غضبيّة تجذبه إلى تحصيل المنافع وتدفع عنه المضارّ، من دون أن تكون مقيّدة بأيّ شرع أو خُلق. فإذا اشتهى طعاماً طَلَبه، من غير تُميّز شهوته بين الحلال أو الحرام منه.

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج17، ص157 - 158.

[2]  المصدر نفسه، ج12، ص293.

 

41


34

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وإذا أراد أن ينتقم، لم تفرض عليه قوّته الغضبيّة قيوداً، فَيصدر منه الفحش والسبّ وسائر المنكرات. فالغضب والشهوة مُطلَقان في الإنسان بسبب طبيعته المادّيّة، وهو يحتاج، عن طريق العقل والشرع، الحدّ منها وتقييدها وعدم جعلها مطلقة العنان لأيّ شيء. من هنا، كانت مخالفة الهوى الطريق العمليّ لِضَبط نوازع الإنسان، وإحدى الطرق العمليّة المهمّة لتزكية النفس وكبح جموحها؛ وهذا ما ركّز عليه منهج الإمام الخمينيّ (قدس سره) الأخلاقيّ والمعنويّ، فَقال: «تجب السيطرة عليها -أي على القوّة الغضبيّة والقوّة الشهويّة- حتّى تؤدّي واجبها في ظلّ ميزان العقل والدستور الإلهيّ، لأنّ كلّ واحدة من هذه القوى تريد أن تنجز عملها وتنال غايتها، وإن استلزم ذلك الفساد والفوضى. فمثلاً، النفس البهيميّة المنغمسة في الشهوة الجامحة التي مزّقت عنانها تريد أن تحقّق هدفها ومقصودها ولو تمّ بواسطة الزنا بالمحصنات أو في الكعبة، والعياذ بالله، والنفس الغضوب تريد أن تنجز ما تريد حتّى لو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء»[1].

والعلاج العمليّ لهذا الإطلاق هو «ما ذَكَره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض -بعزمٍ- لِمُخالفة النفس إلى أمد، فتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة»[2].

وهذا العلاج يرجع إلى قضيّة في حقيقة النفس، هي أنّ أيّ خُلق يَمُرّ بِمرحلتين أساسيّتَيْن؛ المرحلة الأولى تسمّى «الحال»، وهي التي يكون فيها غير راسخ، والمرحلة الثانية تسمّى «الملكة»، وهي التي يترسّخ فيها، فَيصدر بسهولة ويُسر. فالغضب، مثلاً، يبدأ «حالاً» ثمّ يصبح «ملكةً»، بحيث يكون -في أوّل الأمر- شيئاً غريباً عن النفس، وبسبب تكراره والاعتياد عليه يصبح مَلكة. وفي هذه المرحلة تصعب

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص44.

[2] المصدر نفسه، ص53.

 

42


35

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

إزالته، إلّا إذا جُفّفت منابعه عن طريق عدم تكراره وضبط النفس وكفّها؛ أي بمخالفة الهوى. كَحال الشجرة الخبيثة التي سُقيَت مدّةً طويلة من الزمن فَصار قلعها صعباً، لأنّ جذورها ضربت في الأرض عميقاً، فَيتوقّف المزارع عن سِقايتها وإمدادها بالماء والغذاء حتّى تجفّ جذورها، فَيسهل قلعها؛ هكذا هو أمر النفس.

منظومة القيم الاجتماعيّة

أنهَينا بيان القسم الأوّل من أقسام المنظومة القيميّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)، وهو القسم المتعلّق بالأخلاق الفرديّة. وقَد خصَصْنا الكلام فيه على تهذيب النفس وطريقة تخليتها من الآفات. وبقي الكلام في القسم الثاني على منظومة القيم عند الإمام (قدس سره) في بُعدها الاجتماعيّ.

في هذا العنوان نتحدّث عن بعض القيم التي احتلّت مرتبة عالية في الإسلام، فَأوْلاها الإمام الخمينيّ (قدس سره) عنايةً في كلماته. ونكتفي بِذِكر قيمتَيْن تترأّسان القيم الاجتماعيّة، هما: العدالة والحرّيّة. فقد كان الإمام (قدس سره) كثير التركيز عليهما وتبيينهما.

العدالة الاجتماعيّة

إنّ للعدالة مراتب وشؤون متعدّدة، فَتارةً يكون الكلام على العدالة الفرديّة، وأخرى على العدالة التكوينيّة، التي يعبَّر عنها بأنّ السموات والأرض قائمة بالعدل، وأنّ نظام الوجود شاكلته وهيئته هي العدل، وثالثةً على العدل بمعناه الاجتماعيّ؛ وهذا هو محور كلامنا.

تُعَدّ العدالة الاجتماعيّة أحد أهمّ أهداف الأنبياء (عليهم السلام) في هذه الدنيا. صحيحٌ أنّ الهدف الأقصى لهم (عليهم السلام) إيصال الناس إلى العبوديّة لله، كما ذكرنا سابقاً، ولكنْ حتّى تتحقّق هذه الغاية، لا بدّ مِن عدم إهمال نظام الحياة في هذا العالم الطبيعيّ المادّيّ، بل تجب مراعاته وإقامة العدالة فيه حتّى يُفتح للناس باب الترقّي المعنويّ والروحيّ. مِن هنا،

 

43

 


36

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تُعدّ العدالة الاجتماعيّة من الأهداف الرئيسيّة لِمسيرة الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء؛ «عندما نقرأ الآيات الشريفة، أو نطالع سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، نلاحظ أنّهم جميعاً عملوا على ‏إيجاد العدالة في الدنيا، مع أنّ هذا لم يكن هدفاً رئيسيّاً، بل مقدّمة لتحقيق الأهداف المتوخّاة. فالنبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) سعى‏ إلى إقامة العدالة لِتكون مقدّمة لِطَرح مواضيعه الجوهريّة، نظير إصلاح وتهذيب الإنسان. وهدف الأنبياء (عليهم السلام) الأوّل، منذ أن هبط الوحي عليهم، معارضة الظالمين والجائرين، كلّ بِطريقته الخاصّة. فلا يُتصوّر أنّ النبيّ يجلس في بيته ويقرأ الأدعية ويُصدر الأوامر والأحكام؛ كلّا، ليس الأمر كذلك، كانوا يُصدرون الأحكام ويُتابعونها مِن أجل تنفيذها»[1].

لذا، كان المائز الأساسيّ بين المنظومة الفكريّة الدينيّة الإسلاميّة وسائر المنظومات المادّيّة أنّ الإسلام يرسم معالم العدالة الاجتماعيّة على ضوء الهدف الأقصى، وهو إيصال الناس إلى التحلّي بعبوديّة الله تعالى. فَلا ينظر إلى العدالة الاجتماعيّة من المنظور الرأسماليّ أو الشيوعيّ-الماركسيّ، بل إنّنا نَجد في كلماته (قدس سره) مواجهة صريحة مع الفئة التي تحاول جعل الغرب الرأسماليّ والشرق الشيوعيّ -في زمانه (قدس سره)- وكأنّه استّمد تعاليمه مِن الإسلام؛ بعبارة أخرى: «مِن الأمور التي يجب التذكير بها أنّ الإسلام لا يُؤيّد الرأسماليّة الظالمة المطلقة التي تتولّى حرمان الجماهير المظلومة المضطهدة، فَهو يُدينها بشكلٍ جَدّيّ في الكتاب والسُنّة، ويعدّها مخالِفة للعدالة الاجتماعيّة، على الرغم مِن أنّ بعض أصحاب الفهم المعوجّ، ممّن لا اطّلاع لهم على نظام الحكومة الإسلاميّة أو المسائل السياسيّة الحاكمة في الإسلام، كانوا -ولا يزالون- يُؤكّدون في كتاباتهم وأقوالهم أنّ الإسلام يُؤيّد الرأسماليّة والملكيّة المطلقة؛ الأمر الذي أدّى -نتيجة الفهم المعوجّ- إلى طمس وجه الإسلام النورانيّ، وفتح الطريق أمام المغرضين من

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج20، ص330 - 331.

 

44


37

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أعداء الإسلام لِمهاجمته وعَدِّه نظاماً يُشبه الرأسماليّة الغربيّة، كنظام أمريكا وبريطانيا والناهبين الغربيّين الآخرين، مُستندين في معارضتهم الإسلام إلى أقوال هؤلاء الجهلة وأفعالهم المغرِضة البَلهاء، مِن دون الرجوع إلى العارفين بالإسلام الحقيقيّ. فالإسلام، إذاً، ليس نظاماً يقمع الملكيّة الفرديّة، كالشيوعيّة والماركسيّة اللينينيّة... بل إنّه نظام معتدل يعترف بالملكيّة الفرديّة ويحترمها بِنَحو يتحدّد في إطار نشوء الملكيّة، وطرائق إنفاقها، والأسلوب الذي يؤدّي إلى دوران عجلة الاقتصاد، إذا تمّ الالتزام به على حقيقته، وتحقّقت العدالة الاجتماعيّة التي تعدّ لازمة لأيّ نظام سليم»[1].

الحرّيّة

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة قال الإمام الخمينيّ (قدس سره) في بعض خطاباته: «نِلنا الحرّيّة، وأنا الآن حُرّ، فهل لي أن أفعل ما أريده كلّه؟ هل لي أن أؤذي مَنْ أشاء، أو أكتب ما أحبّ، حتّى لو أسأتُ إلى الإسلام ومصالح البلاد؟ ليست هذه الحرّيَّة، وليس هذا ما أردناه، بل أَرَدْنا الحرّيّة في ظِلال الإسلام. أَرَدنا الإسلام، والإسلام فيه حرّيّة، لكنّها ليست بِلا قَيد ولا نُظم؛ نحن لا نريد الحرّيّة الغربيّة التي لا يقف في وجهها حَدّ ولا سَدّ، فَيسرح فيها الإنسان كما يشاء، راتعاً في ما يريد، بل إنّ الحرّيّة التي نريدها هي تلك الكائنة في كنف الإسلام، والاستقلال الذي نتوخّاه هو ما يهبه الإسلام ويُؤَمِّنُه لنا. ما نريده كلّه هو الإسلام، لا غير، لأنّ الإسلام مبدأ كلّ سعادة، وهو الذي يُخْرِجُ الناس كلّهم من الظلمات إلى النور. فإنّنا نريد مجتمعاً نورانيّاً بطبقاته كلّها، حتّى إذا وَردنا الجامعة وجدناها نورانيّة العمل وَالسيرة، بل إنّ كلّ شي‏ء فيها نوارنيّ وإلهيّ. وليس النصر، مثلاً، أن نَصِل حرّيّة أو استقلالاً، ونحقّق مصالحنا فقط. فهل ينتهي عملنا إذا توفّرت مصالحنا؟»[2].

 


[1] المصدر نفسه، ج21، ص391.

[2]  المصدر نفسه، ج8، ص59.

 

45


38

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فيها تطوير بلادهم وتحديثها. فَنحن لا نريد تلك الحرّيّات التي تقضي على طاقاتنا وتُسكت أقلامنا عن قول الحقّ»[1].

ويُضيف في كلمة أخرى: «هؤلاء الذين ينادون بالحرّيّة متأثّرون بالغرب، يريدون الحرّيّة الغربيّة. هؤلاء الذين يتحدّثون عن الديمقراطيّة يتطلّعون إلى الديمقراطيّة الغربيّة، يريدون الحرّيّة الغربيّة الإباحيّة. إنّ هؤلاء من جملة المتأثّرين بالغرب. إنّ الصحف حرّة في تناول الموضوعات وطرح المسائل، ولكن هل هي حرّة في الإساءة -مثلاً- إلى مقدّسات الناس؟ في سبّ الناس؟ في اتّهام الناس؟ إنّ مِثل هذه الحرّيّة لا يمكن أن تُقبل؛ حرّيّة التآمر لا يمكن أن تُقبل. فَفرضاً، لَو كانت إحدى الصحف -لا أريد القول إنّ إحدى الصحف هي هكذا- تريد التآمر ضدّ الشعب، عن طريق نشر الأمور المناهضة لِمسيرته، وعدم نشر ما يخدمه، وتريد السير في طريق أعدائه، فتروِّج لأعمالهم وتكتب ما يخدمهم، فإنّ مِثل هذه الحرّيّات لا يمكن لِشعبنا أن يقبلها. إنّ شعبنا بَذَل تلك التضحيات كلّها، وتلك الدماء كلّها، وتحمَّل المعاناة، وأطلق تلك الصرخات كلّها، إنّما فَعَل ذلك من أجل الإسلام، فالناس يريدون الإسلام، وَلو لم يكُن، لَما كان الوضع الآن مختلفاً عمّا في السابق. فالناس لا يضحّون ويبذلون دماءهم من أجل أمور أخرى غير الإسلام. إنّهم يطلبون الشهادة، فَحتّى هذه اللحظة ثمّة أشخاص لا يزالون يطلبون منّي الدعاء لهم بالشهادة. لأيّ شي‏ء يطلبون الشهادة؟ هل يريدون الشهادة من أجل أن يتحقّق شيء آخر غير الإسلام، كالديمقراطيّة الغربيّة -مثلاً- أو حرّيّة الاتّحاد السوفييتّي؛ حرّيّة على النمط الأميركيّ، أم كانوا يريدون الإسلام؟»[2].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص270 - 271.

[2] المصدر نفسه، ج7، ص381.

 

47

 


39

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الرابع: الرؤية التشريعيّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) مِن الفقهاء الكبار البارزين في القرن الأخير، وقَد امتاز -بشكلٍ أساسيٍّ- بِشخصيّته التشريعية والفقهيّة، إذ قدّم رؤية ونهجاً على المستويَيْن القانونيّ والتشريعيّ، بحيث لا يرى المتابع والمدقّق في كلماته أنّه اقتصر على بيان أحكام الإسلام المتناثرة، بل صاغها وِفاق هيئة تَصلح لِأَن تكون نمط حياة للمسلمين على المستويات كافّة؛ الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. ويمكننا القول إنّ نهج الإمام (قدس سره) في هذا القسم لا يزال -إلى يومنا هذا- في حركة تطوّريّة وتقدّميّة.

وفي ما يأتي أهمّ الأسس والعناصر التي تُشكّل الإطار النظريّ لِنَهج الإمام بِما يخصّ هذا الجانب:

1. الأسس الفطريّة للشريعة الإسلاميّة.

2. شموليّة الشريعة الإسلاميّة.

3. ولاية الفقيه: النظريّة العامّة لحاكميّة الإسلام في عصر الغيبة.

 

فطريّة الشريعة الإسلاميّة

تقدّم الكلام على أنّ البشر كلّهم مفطورون على حبّ الكمال المطلق، وأنّ هذه الفطرة راسخة في نفوسهم جميعاً في العصور

 

 

48


40

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

كلّها. وهذه الفطرة يَلزمها فطرة أخرى تابعة لها، هي فطرة النفور مِن النقص، قليلاً كان أو كثيراً، وتُسمّى «فطرة النفور مِن مطلق النقص». إذاً، ثمّة فطرتان: حبّ الكمال اللامتناهي، والنفور مِن أيّ نقص.

هذه الانطلاقة الفطريّة التي كانت أساسَ تشكيل الرؤية الكونيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)، كما مرّ، كانت أساسَ رؤيته للشريعة الإسلاميّة أيضاً. فَيَذكر أنّ الأحكام الإلهيّة كلّها التي صدرَت من معدن الوحي لِتنظيم حياة الإنسان إنّما جاءت منسجمة مع هاتَيْن الفطرتَيْن، ولا يمكننا أن نفترض شريعة تُناقض توجُّهات البشر الفطريّة؛ «إنّ الله تبارك وتعالى بِعنايته الأزليّة ورحمته الواسعة، أرسل أنبياءَه العِظام (عليهم السلام) لتربية البشر، وأنزل الكتب السماويّة لِتُعينهم مِن الخارج على فِطرتهم الداخليّة... مِن هنا، بُنِيَت الأحكام السماويّة والآيات الإلهيّة الباهرة ودساتير الأنبياء العظام (عليهم السلام) والأولياء الكرام وِفاقاً للفطرة والجِبلّة.

والأحكام الإلهيّة جميعها تنقسم -بِكلّيّتها- إلى مقصدَيْن: أحدهما أصليّ ومستقلّ، والآخر فرعيّ وتابِع. والدساتير الإلهيّة جميعها ترجع إلى هذَيْن المقصدَيْن، إمّا بِواسطةٍ أو من دونها. فالمقصد الأوّل الأصليّ المستقلّ هو توجيه الفِطرة إلى الكمال المطلق... والمقصد الثاني العَرَضيّ والتبعيّ هو تنفير الفطرة من الشجرة الدنيويّة الخبيثة، ومن الطبيعة التي هي أمّ النقائص والأمراض»[1]؛ بِعبارة أخرى، ثَبَت في البحث السابق -عند الحديث عن فطريّة التوحيد- أنّ الإنسان بِفطرته المجبول عليها يعشق الكمال المطلق -أي الله تعالى- ويسعى في لحظاته كلّها نحو معشوقه، لكنّه يُخطئ في تشخيص الكمال الحقيقيّ مِن الكمال الموهوم، وينفر كذلك مِن النقص المحدود؛ فَهو عاشق للعلم اللامحدود، والقدرة اللامحدودة، والحياة التي لا تنفد. هاتان الفطرتان بُنيَت على أساسهما الشريعة الإسلاميّة، فَجاءت بعض الأحكام مُعيّنة للإنسان لِتخليص نفسه مِن الشبهات والأوهام

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، جنود العقل والجهل، مصدر سابق، ص62.

 

49


41

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

التي تشوّه فِطرته تجاه حبّ الكمال اللامحدود. فَفرض الله تعالى علينا الصيام، مثلاً، حتّى نخرج مِن التعلُّق بالطعام والشراب الذي، وإن كان ضروريّاً للحياة الدنيا، إلّا أنّه تعلّق قلبيّ بشيء زائل ومحدود؛ فَثمّة فارق كبير بين مَن يأكل ويشرب لإدامة حياته، وبين من يتعلّق بأصناف الأطعمة وألوانها كغاية في نفسها. وَفرض تعالى علينا الزكاة والخُمس وسائر الواجبات الماليّة مِن أجل تخليصنا من التعلُّق بالمال والجاه. وفَرض علينا الحجّ وما يتضمّنه من التسوية بين البشر جميعهم ليخلّصنا من التعزُّز والتكبّر، إلى غير ذلك مِن الأحكام الشرعيّة، التي إذا نظرنا إليها نظرة فطريّة بمنظار الإمام الخمينيّ (قدس سره)، فإنّنا نَجد أنّ حياتنا الروحيّة سوف تنبع من قلب الشريعة، لا أنّ الشريعة أمر آخر لا دخل له بالبناء الروحيّ للإنسان.

كما أنّنا نجد هذا الطريق في النظر إلى الشريعة في كلمات أهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، ومِثاله ما جاء في الخطبة الفدكيّة للسيّدة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، إذ قالت: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم مِن الشِرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكِبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدِين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً لِلملّة، وإمامتنا أماناً مِن الفرقة، والجهاد عِزّاً للإسلام وذلّاً لأهل الكفر والنفاق، والصبر مَعونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة. وحرّم الله الشِرك إخلاصاً له بالربوبيّة. فاتّقوا الله حقّ تُقاته، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به وما نهاكم عنه، فإنّه إنّما يخشى اللهَ مِن عباده العلماءُ».

 

 

50

 

 


42

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ونَذكر في ما يأتي نموذجاً من كلمات الإمام الخمينيّ (قدس سره) الذي يتضمّن أسرار بعض العبادات وِفاق هذه الرؤية الأصيلة.

عند الحديث عن الآداب الروحيّة والقلبيّة للصلاة، يَذكر الإمام (قدس سره) أنّ استقبال القِبلة مِن الخطوات الأولى للصلاة، وهو يحتوي أدباً قلبيّاً على المصلّي أن يراعيه، لأنّه يقوم بفعل التوجُّه إلى الكعبة المشرّفة بِصرف النظر عمّا سواها، فَلا مجال للتوجُّه يميناً وشمالاً عند استقبال القِبلة. وهذا الفعل ناشئ مِن أمر فطريّ، هو التوجُّه إلى الله تعالى معشوق الفطرة الأوحد، وصرف النظر عمّا سواه؛ يقول (قدس سره): «اِعلم، أيّها السالك إلى الله، أنّك إذا صرفتَ وجهك الظاهر مِن الجهات المتشتّتة لعالم الطبيعة -عالم المادّة- وتوجّهتَ إلى النقطة الواحدة؛ أي الكعبة حال الاستقبال، فَقد ادّعيتَ فطرتَيْن من الفطر التي خُمّرت بِيَد الغيب... وهاتان الفطرتان الإلهيّتان، إحداهما التنفُّر من النقص والناقص، والثانية العشق للكمال والكامل»[1].

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، الآداب المعنويّة للصلاة، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1986م، ط2، ص205.

 

51


43

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

 شموليّة الشريعة الإسلاميّة

إنّ السؤال الأساسيّ الذي ينبغي الانطلاق منه عند البحث عن الشريعة الإلهيّة بشكلٍ عامّ، والشريعة الإسلاميّة بشكلٍ خاصّ، هو: ما هي الشريعة؟ ومِن أين تأخذ مشروعيّتها؟ وبتعبيرٍ آخر: ما هو مبدأ هذه الشريعة؟ مِن أين أتَت؟ وما هي غايتها التي صدرَت مِن أجلها؟

هذه الأسئلة تتكفّل بِنفسها إجابة السؤال عن مدى إحاطة الشريعة بِتفاصيل الحياة. وينبغي في الجواب القول إنّ الشريعة الإلهيّة، التي هي أحد أبعاد الوحي النازل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تمثّل عناية الله تعالى بالمخلوقين من أجل تنظيم حياتهم وترتيبها على نَسقٍ وشاكلةٍ تحقّق لهم مصالحهم الداخلة في الغاية التي من أجلها خُلقوا، وتمنعهم من ارتكاب المفاسد التي تعيقهم عن الغاية؛ بعبارة أخرى، إنّ الإنسان كائن ذو أبعاد متعدّدة -وسيأتي الكلام على ذلك في الفصل اللاحق- وهذه الأبعاد تحتاج إلى ضابطةٍ وقانون يتكفّل ترتيبها وتنظيمها على المستويات الفرديّة والاجتماعيّة؛ لذا كان القانون أمراً ضروريّاً لحياة الإنسان. ولكن مَن الذي يمتلك أهليّة التشريع؟ في الرؤية العقديّة الإسلاميّة، وانطلاقاً من أنّ الربوبيّة والتربية الحقيقيّة منحصرة بالله، فَلا يكون أمر التشريع إلّا بِيده، أو بِيَد مَن ينصّبه الله لامتلاكه مؤهّلات معيّنة.

ويقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا المجال: «هذا ما تقوم به شريعة الإسلام الهادفة إلى تربية الإنسان الحقيقيّ. لذا، بدأَت بالتمهيد لذلك حتّى قبل انعقاد نطفته، فمَدّتْ توجيهاتها لِما قبل الزواج وآدابه، ثمّ حدّدَت آداب الولادة وما بعدها في فترة الرضاعة، ومعاملة الوالدين للطفل، رضيعاً وصبيّاً في المدرسة الابتدائيّة، وصِفات معلِّميه ومُربِّيه فيها. ثمّ توجَّه الخطاب إليه هو نفسه عند بلوغه الاستقلال والاعتماد على نفسه، فشَرَّعَت الأعمال والفرائض التي يجب عليه القيام بها. والهدف مِن ذلك كلّه هو أنْ يتربّى أفراد المجتمع جميعهم تربية صالحة. ولكنْ لم يتحقّق ممّا أراده الإسلام إلّا القليل، وَلَو تحقَّق

 

 

52

 

 


44

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

كلّه، لَما تمّت السرقات أو الخيانات أو نظائرها ممّا هو موجود الآن، ولَما اعتدى أحد على آخر»[1].

مِن هنا، يظهر أنّ الشريعة الأكمل هي التي تعتني بِتفاصيل الحياة الإنسانيّة كلّها، والتي تمتدّ يَدُ التشريع فيها إلى أبعاده الكثيرة؛ السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وغير ذلك. وهذا ما يجعل الإسلام أكمل الأديان مِن بين الأديان الموجودة، مِن المسيحيّة واليهوديّة وغيرهما؛ «ولا يتوهَّمنَّ أحدٌ أنّ الإسلام كالمسيحيّة، لا يعدو العلاقة بين الأفراد وبين الله تبارك وتعالى. إنّ الإسلام ينطوي على منهج متكامل للحياة، ونظام للحُكم، وقد مارس دورَه في الحكم ما يزيد عن خمسة قرون، حينما كان يحكم بلداناً مترامية الأطراف. وعلى الرغم من عدم تطبيق أحكام الإسلام حينها كما ينبغي، إلّا أنّه -بهذا المقدار الذي طُبِّق منه- حَكَم تلك البلدان بِعزّةٍ ومِنعةٍ من النواحي جميعها، وفي الأحوال كلّها.

فالإسلام يختلف عن الأديان الباقية المعروفة حاليّاً، ولعلّها كانت كالإسلام وقت ظهورها، إلّا أنّ الموجود منها الآن -خاصّةً المسيحيّة- لا يملك سوى بضع كلمات وعظيّة من دون أن يكون لديه برامج تتعلّق بالسياسة أو إدارة المدن والأقاليم. فلا يتوهَّم أحدٌ أنّ الإسلام كتلك الأديان من غير لا نظام؛ وَضع الإسلامُ برنامجاً دقيقاً ومفصّلاً لحياة الإنسان الفرديّة، بَدءاً من الفترة السابقة لولادته، مروراً بالمراحل جميعها التي يمضيها ضمن العائلة، والتي وضع لها البرامج أيضاً، وعيَّن الأحكام والقوانين لجوانبها ومراحلها كلّها. ثمّ يدخل بعد خروجه من العائلة مجالَ التعليم، إلى أن يدخل المجتمع الكبير. فَوضعَ القوانين التي تُنظِّم حياة المجتمع المسلم، بل حتّى القوانين والبرامج التي تُنظّم علاقة الدولة الإسلاميّة بِسائر الدول والشعوب؛ ذلك كلّه له أحكام في الشريعة المطهَّرة، فأحكام الإسلام لا تقتصر

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج5، ص224.

 

53


45

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

على مراسم الدعاء والزيارة والصلاة وحسب؛ هذه الأمور ليست إلّا جانباً من جوانب الأحكام الإسلاميّة، بل ثمّة في الإسلام سياسة ونظام إدارة بلاد بِأَسرها. الإسلام ينظّم ويدير شؤون بلدان واسعة، وعلى قادة المسلمين وملوكهم، وعلى الحكومات الإسلاميّة عموماً، أن يُعرّفوا العالمَ أجمع الإسلام.

ولا يتوهَّم النصارى أنّ المسجد كالكنيسة، فحينما كانت الصلاة تقام في المسجد، كان المسلمون يفهمون تكليفهم بِها، وكانت خُطط الحروب توضَّح فيه، ويتمّ فيه الإعداد والتخطيط لإدارة شؤون البلدان. فالمسجد يختلف عن الكنيسة التي تمثّل رابطة فرديّة بين الإنسان وبين الله تبارك وتعالى كما يزعم المسيحيّون أنفسهم. كان المسجد مركزاً لسياسة الإسلام في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والخلفاء. وفي يوم الجمعة، كانت تطرح الموضوعات السياسيّة والعسكريّة المختلفة، وما يتعلّق بإدارة البلاد، عن طريق خطبة الجمعة.

إنّ على الزعماء أن ينشروا الإسلام الحقيقيّ، وهي مسؤوليّة تفرضها عليهم المراتب التي قيّضها الله تعالى لهم؛ عليهم أن ينشروا الإسلام الحقيقيّ، أن يعدّوا برنامجاً إذاعيّاً لنشر الإسلام. عليهم أن يراجعوا علماء الإسلام لكي يشرحوا لهم حقائق الإسلام، فيقوموا بِنَشرها عبر المحطات الإذاعيّة والمطبوعات»[1].

ولکنّ الإسلام قد تعرَّض وأحكامه التشريعيّة إلى التشويه شيئاً فشيئاً، عبر فصله عن متن الحياة، وجعله مختصّاً بِبُعد مِن الأبعاد. وهذا أمر يعدّه الإمام الخمينيّ (قدس سره) مِن أعمال الاستعمار وأعداء الإسلام، إذ تمّ تجريد القانون الإسلاميّ من وظيفته السياسيّة والاجتماعيّة، وإخراجه عمّا يستحقّه من الشمول لأبعاد الحياة الإنسانيّة كلّها، فَصار منحصراً بأحكام الفرد فقط؛ يقول الإمام (قدس سره): «إنّ الإسلام إذا ما عُرِض بالشكل الصحيح، فَسَيُقبل عليه كلّ مَن يملك

 

 


[1] المصدر نفسه، ج2، ص31 - 32.

 

 

54


46

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ذرّة إنصاف، وسَيَجد فيه مبتغاه. لكنّنا طوال التاريخ، وبعد غيبة الإمام المهديّ (عليه السلام)، لم نستطع عرض الإسلام بالشكل الصحيح. وفي المئتي سنة الأخيرة، تدخّلت الأيادي الأجنبيّة التي جاءت إلى هنا، فَطالعَت ما نملكه كلّه، حتّى إنّهم نقلوا كُتبنا لِيَدرسها مفكّروهم، واستنتجوا أنّه إذا ما طُبِّق الإسلام بالشكل الصحيح، فَلن تبقى أمامهم أيّة فرصة. لذا، بَذلوا ما في وسعهم، في الداخل والخارج، للحؤول دون إطلاع العالم على الإسلام، وأخفوا ذلك تحت عناوين مختلفة.

والمؤسف أنّنا مهّدْنا الأرضيّة لذلك، وساعدناهم كثيراً. فنحن لم ندرك سوى بعض المسائل الخاصّة بعلاقة الفرد بِرَبّه، والمسائل الأخرى الواردة في كتبنا الفقهيّة، أمّا القسم الأعظم، فقد بَقي مدفوناً في الكتب، ولم يَظهر. إنّ المسائل التي بُحِثَت في حوزتنا، تلك الأخبار والآيات كلّها، والكتب الفقهيّة كلّها، بقيَت بعيدة عن واقع حياتنا اليوميّة؛ لم نستطع أن نعرض المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة المرتبطة بالحياة، فدَخل الغرب علينا من هذه الناحية، ونحن غافلين عن هذا كلّه.

إنّهم -وبالاستعانة بالأقلام المسمومة التي لا يزال بعضها موجوداً في إيران- عرّفوا الإسلام بأنّه أفكار تعود إلى ما قبل 1400 سنة، ما يوجبُ الآن أن نوجد أفكاراً جديدة. لقد قالوا في الإسلام، ولفَّقوا له، ما استطاعوا مِن تهم. والآن أيضاً، لأنّهم يخافون الإسلام، فإنّهم يرفعون أقلامهم‏ المسمومة ومخطّطاتهم الخبيثة في وجهه ووجه الجمهوريّة الإسلاميّة. إنّ بعضهم -أو أكثرهم- لا يعلمون شيئاً عن الإسلام، مُغفّلون، لا يفقهون شيئاً، لكنّهم قرؤوا بعض ما نُشِر في أوروبا، ووضعوه ميزاناً لِفَهْمهم، وَأصبحوا مهووسين بالغرب وما يقوله، فَقَبِلوه من دون دليل. وفي النهاية، تجدُ أنّ دليلهم هو قول البروفيسور الفلانيّ؛ راحوا يستدلّون بِكلام الغربيّين مثلما نستدلّ نحن بكلام الله ورسوله (صلى الله عليه وآله). فَبالنسبة إليهم، إنّ ما يقوله «ماركس» صحيح، ولا يَلزمه

 

 

55

 

 


47

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

دليل يُثبت صحّته. «ماركس» انتهى في باقي المناطق ودُفن مذهبه معه، إلّا أنّه يتمّ استقدام أفكاره إلى أبنائنا وشبابنا الذين أيّدوه وقَبِلوه من دون أن يفقهوا ما يقول، أو أن يُدركوا نواياه. وبعضهم يُدرك، غير أنّه مأجور حتّى لا يسمح للإسلام في أن ينتشر في الخارج، أو أن تظهر حقيقته للشعوب الأخرى. إنّ الأجانب لم يستطيعوا أن يحكمونا؛ لذا استأجروا بعض الناس هنا كي يقفوا في وجه انتشار الإسلام الحقيقيّ، ومِن جملتهم أولئك الكتّاب التابعين للشاه المخلوع، فهذه الكتب ليس هو مَن كتبها، إذ إنّه ليس أهلاً للكتابة، ولا ممّن يفهمون هذه المواضيع. لقد كانوا يكتبون له، فَفي السابق، كتبوا الشعر للشاه ناصر الدين ونَسَبوه إليه، والآن أيضاً، يؤلّفون الكتب ويَضعون اسم صاحب الجلالة عليها»[1].

إذاً، يتّضح لدينا أنّ أهمَّ ما فعله الإمام الخمينيّ (قدس سره) على مستوى إحياء الدِين الإسلاميّ في بُعده التشريعيّ إعادةُ الإسلام إلى متنِ الواقع والحياة. وكانت البداية الأساسيّة تنظيره لِولاية الفقيه في عصر الغَيبة، وهو ما سنتحدّث عنه في ما يأتي.

ولاية الفقيه

إنّ طَرح نظريّة ولاية الفقيه بِشكلٍ أصيل، وتطبيقها بِشكلٍ عمليٍّ في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، يُعدّ ركناً أساسيّاً من أركان إحياء الإسلام في نهج الإمام (قدس سره)، والسبب في عَدّه كذلك، أنّ الإمام (قدس سره) قد شخّص -في بدايات انطلاقاته الثوريّة- أنّ الأزمة الكبرى التي أصابَت الإسلام كانت فَصله عن السياسة، والذي تجلّى في بُعدَيْن أساسيَّيْن؛ الأوّل فصله عن الواقع السياسيّ الخارجيّ -بمعنى عزله عن التطبيق- والثاني فصله في الواقع النظريّ عن السياسة -أي جعله ديناً فرديّاً لا ينظر إلى الحياة السياسيّة والاجتماعيّة للناس. وما فَعله الإمام (قدس سره) 

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص297 - 298.

 

56


48

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

هو أنّه سعى إلى رَأْب هذا الصدع، فَطَرح النظريّة وسعى إلى تطبيقها، ووُفِّق في ذلك عبر إقامة نظام سياسيّ إسلاميّ قائم على حاكميّة الدِين.

وسيأتي الكلام على ولاية الفقيه بشكلٍ إجماليٍّ ضِمن مقدّمتَيْن؛ الأولى قضيّة فَصل الدين عن السياسة، والثانية الأدلّة التي استعان بها الإمام الخمينيّ (قدس سره) لإثبات ولاية الفقيه في عصر الغَيبة.

فَصْل الدِين عن السياسة

الأمر الأوّل الذي ينبغي التنبيه إليه، والذي سعى إليه الإمام (قدس سره)، هو التوعية النظريّة والثقافيّة حول أنّ الماهيّة الإسلاميّة هي ماهيّة سياسيّة، فَلا يمكن الحديث عن الإسلام الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دون الحديث عن جوهره السياسيّ. ونقصد بذلك أنّ الإسلام هو دستور عمل وُضع للنهوض بالدول والمجتمعات، ومُخاطَبَه هُم الناس، لا بِوَصفهم أفراداً، بل بِوَصفهم كائنات سياسيّة واجتماعيّة؛ «فالحكومة، مِن وجهة نظر المجتهد الحقيقيّ، تمثّل الفلسفة العمليّة للأحكام الفقهيّة في الحياة الإنسانيّة... والحكومةُ تجسيد الجانب العمليّ للفقه في تعامله مع المعضلات الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة... الفقه هو النظريّة الواقعيّة المتكاملة لإدارة الإنسان مِن المهد إلى اللحد. فالهدف الأساسيّ يكمن في أن يتسنّى لنا تطبيق أصول الفقه المحكمة في عَمل الفرد والمجتمع، وأن تكون لدينا إجابات للمعضلات، فإنّ أقصى ما يخشاه الاستكبار هو أنْ يجد الفقه والاجتهاد الترجمة العمليّة والواقع الموضوعيّ، ويخلق لدى المسلمين القدرة على المواجهة»[1].

لذا، فإنّ هذا الأمر ينعكس بِشكلٍ واضحٍ وكبيرٍ على وظائف المجتهد الذي تكون وظيفته سَبر أغوار القرآن والسُنّة والعقل، لاستخراج الرؤية

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج21، ص262.

 

57


49

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الدينيّة للحياة في شتّى المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفرديّة وغيرها، إذ لا يمكن عزل الفكر السياسيّ عن ذهنه، والولوج في البحث من دون «عقليّة الرجل السياسيّ» العالِم بالزمان والمكان. مِن هنا، يذكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) هذه القضيّة، فَيقول في بيانه الموجّه إلى علماء الدِين في أواخر عمره الشريف: «إنّ الزمان والمكان عنصران رئيسيّان في الاجتهاد، فَمِن الممكن أن تجدَ مسألةً كان لها في السابق حُكم، وفي ظلّ العلاقات المتغيّرة، التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نِظام ما، تَجِد لها حُكماً جديداً؛ أي إنّه، وعن طريق المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة بالموضوع الأوّل الذي يبدو أنّه لا يختلف عن السابق، ولكنّه في الحقيقة أصبح موضوعاً آخر يتطلّب حكماً جديداً بالضرورة. لذا، ينبغي للمجتهد أن يحيط بقضايا عصره. فالناس والشباب وحتّى العامّة، لن يقبلوا مِن المرجع والمجتهد الاعتذار عن إعطاء رأيه في المسائل السياسيّة... إنّ الإحاطة بِسُبل مواجهة التزوير والتضليل للثقافة السائدة في العالم، وامتلاك البصيرة والرؤية الاقتصاديّة، والاطّلاع على كيفيّة التعامل مع الاقتصاد العالميّ، ومعرفة السياسات والموازنات وما يُروّج له الساسة، وإدراك موقع القطبَيْن الرأسماليّ والماركسيّ ونقاط قوّتهما وضعفهما، إذ إنّهما يحدّدان في الحقيقة استراتيجيّة النظام العالميّ، يُعدّ مِن خصائص المجتهد الجامع وسِماته... فَلا بُدّ للمجتهد مِن التحلّي بالحنكة والذكاء لِفِراسة هِداية المجتمع الإسلاميّ وغير الإسلاميّ. ويجب أن يكون مديراً ومدبّراً حقّاً، فضلاً عن اتّسامه بالإخلاص والتقوى والزهد، إذإنّ هذه الصفات مِن شأن المجتهد»[1].

هذا كلّه على المستوى النظريّ لِفَصل الدين عن السياسة. ولكنْ ثمّة جانباً آخر هو الإجراءات التنفيذيّة التي قام بها أعداء الدِين الإسلاميّ لِفَصله عمليّاً عن السياسة وإبعاده عن شؤون الناس

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج21، ص262.

 

58


50

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

والمجتمعات. فــ«الدعاية الواسعة لأعداء الإسلام نجحت في تضليل الكثير مِن المسلمين، وحَرف أذهانهم عن الكثير مِن القضايا والمسائل الإسلاميّة، إلى درجةٍ صَدّق معها المسلمون -والكثير مِن رجال الدين- أنّه لا يجب الخوض في السياسة ومسائلها، زاعمين أنّ مهمّة رجلِ الدين الوعظُ والإرشاد والردّ على المسائل الشرعيّة، لا الخوض في السياسة. عِلماً أنّ مسائل الإسلام السياسيّة أضعاف مسائله العباديّة، بل إنّ المسائل السياسيّة ذات مدلول عباديّ أيضاً، فَالكتب الإسلاميّة، وكتب الإسلام الفقهيّة، تَفيض بالمسائل السياسيّة والاجتماعيّة. وعلى الرغم مِن ذلك كلّه، تتصوّر مجموعة من الجهلاء أنّ الإسلام دينٌ كسائر الأديان الأخرى المنحرفة، التي لم تكن كذلك، وإنّما لَعِبَت بها أيدي التحريف والاستعمار حتّى أوصلتها إلى هذه الحال، وأنَّ على رجل الدين أن يمضي وقته بين المسجد للعبادة والمنزل للاستراحة فقط. إنّ هذا التهميش المتعمّد للإسلام، وإقصاءه عن الساحة السياسيّة، بدأ منذ مطلع الإسلام، على يدِ بني أميّة وبني العباس، ثمّ على أيدي الحكومات الرجعيّة، ثمّ على أيدي القوى الكبرى مؤخّراً. إنّ الإسلام‏ الذي لا يُعنى بقضايا المجتمع والسياسة والحكم إسلامٌ مُهمّش وَمُنزوٍ؛ قد تمَّ إقصاء الإسلام باسم الإسلام، وحصروه بين جدران المساجد الأربعة الميتة التي لا حراك فيها. لكنّ الحقيقة أنّ المسجد الحرام، والمساجد في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كانت حَيّةً تَعجُّ بالحركة، كانت مركزاً للسياسة ومركزاً للحرب، مركزاً للعِلم ومركزاً لِمُعالجة القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة؛ هكذا كانت المساجد في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله). لم تكن المساجد مجرّد أماكن للعبادة والصلاة والصوم والتنسُّك، بل فيها كان يتعبّأُ الناس للحرب، ومِنها كانت تنطلق الجيوش. ولكن مِن المؤسف أنّ هذه المساجد، وعلى أثر حملات الدعاية المكثّفة منذ مطلع الإسلام وتولّي بني أميّة الحكم إلى زماننا هذا، تحوّلت إلى أماكن يُدان فيها الإسلام باسم الإسلام، وَليس بِأن يقول شخصٌ: أنا أدين الإسلام، بل بِأن يُداس في المساجد على

 

59


51

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ما يريدُهُ الإسلام كلّه. إنّ الإسلام يريد من الناس أن يَعوا مصالحهم ومصالح الإسلام والمسلمين، وأن يكونوا فاعلين في هذا الاتّجاه؛ لذا كانت المساجد، وكان الحجّ، أفضل مكانٍ لِتحقيق ذلك»[1].

بداهة ولاية الفقيه

إنّ النظرة إلى الإسلام على أنّه دِين سياسيّ وشامل تَسري إلى الرؤية حول النبوّة والإمامة معاً، لأنّ النبيّ أو الإمام (عليهم السلام) هُم الناطقون الشرعيّون المنصّبون مِن الله تعالى لِتطبيق الإسلام في حياة البشر. وإذا كان أمر الإسلام هو الشمول لِنواحي الحياة كافّة، فالنبوّة والإمامة تمتدّان ما امتدّت الشريعة في الحياة؛ مِن هنا كانوا ولاة الأمر مُطلقاً.

أمّا في عصر غَيبة المعصوم (عليه السلام)، فَيبرز السؤال في أمر الولاية: هل تمتدّ ما امتدّت الشريعة أم لا؟

إنّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) يجد تلازماً بين حاكميّة الإسلام وشموله؛ بمعنى أنّنا لو عطّلنا الحاكميّة التي كانت موجودة في عصر حضور المعصوم (عليه السلام)، مع قولنا -في الوقت عَينه- إنّ الإسلام شامل لأبعاد الحياة كلّها، فهذا يفضي إلى القول بانحسار فاعليّة الإسلام في جزء من الحياة، وتعطيله في جزء أو أجزاء أخرى. وتعطيل أحكام الإسلام أمر يرفضه العقل القطعيّ، لأنّه يؤدّي إلى جعل المسلمين متحيّرين في أمر تكاليفهم الحقيقيّة الشرعيّة، وهو خلاف مِنّة الله تعالى ولطفه.

هذا حاصل ما يَذكره الإمام (قدس سره) في النظر إلى أصل ولاية الفقيه؛ «ولاية الفقيه فكرة علميّة واضحة قد لا تحتاج إلى برهان، إذ إنّ مَن عَرف الإسلام -أحكاماً وعقائد- يرى بداهتها... فالإسلام دينُ المجاهدين الذين يريدون الحقّ والعدل، دينُ الذين يطالبون بالحرّيّة والاستقلال، والذين لا يريدون أن يجعلوا للكافرين على المؤمنين سبيلاً»[2].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج18، ص50 - 51.

[2] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، الحكومة الإسلاميّة، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص7 - 8.

 

60


52

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ويَذكر (قدس سره) في بعض كتبه الفقهيّة أنّ استمرار حاكميّة الإسلام مِن الضرورات، فيقول: «إنّنا نعلم عِلماً ضروريّاً أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) -المبعوث بالنبوّة الخاتمة، أكمل النبوّات وأتمّ الأديان- الذي لم يهمل ما يحتاج إليه البشر جميعهم، حتّى‏ آداب النوم والطعام، وأرش الخدش‏، لا يمكن أن يهمل هذا الأمر الذي يُعدّ من أهمّ ما تحتاجه الأمّة ليلاً ونهاراً. فَلَو أهمل -والعياذ باللَّه- مِثل هذا الأمر المهمّ -أي أمر السياسة والقضاء- لَكان تشريعه ناقصاً، وكان مخالفاً لخطبته في حجّة الوداع. وَلَو لم يُعيّن تكليف الأمّة في زمان الغَيبة، أو لم يأمر الإمام (عليه السلام) بأن يُعيّن تكليف الأمّة في زمانها -مع إخباره بالغَيبة وتطاولها- لَكان نقصاً فاحشاً في‏ ساحة التشريع والتقنين؛ وهو مُنزّه عن ذلك، فالضرورة قاضية بأنّ الأمَّة، بعد غَيبة الإمام (عليه السلام)، وفي تلك الأزمنة المتطاولة كلّها، لم تَترك أمرَ السياسة والقضاء -وَهو مِن أهمّ ما تحتاج إليه- خاصّةً مع تحريم الرجوع إلى‏ سلاطين الجور وقُضاتهم -وتَسمِيته «الرجوع إلى الطاغوت»- لأنّ المأخوذ بِحُكمهم سُحت وَلَو كان الحقُّ ثابتاً؛ وهذا واضح بِضرورة العقل، وتَدلّ عليه بعض الروايات»[1].

ويَذكر (قدس سره) -في معرض الاستدلال بالنقل- جُملة مِن الآيات والروايات التي يَحكم المطّلع عليها بِأنّ مسألة الحكومة لا شكّ في أنّها بِيَدِ الفقهاء، فيقول: «فإذا علم عدم إهمال جَعل مَنصب الحكومة والقضاء بين الناس، فالقَدر المتيقّن هو الفقيه العالم بالقضاء والسياسات الدينيّة، العادل في الرعيّة، خاصّةً مع ما يرى‏ مِن تعظيم اللَّه تعالى ورسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) العلمَ وحَمَلَته‏، وما وَرَد في حقّ العلماء مِن كونهم‏ حصون الإسلام، أمناء، ورثة الأنبياء، خلفاء رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، أمناء الرُسل، كسائر الأنبياء، خير خلق اللَّه بعد الأئمّة (عليهم السلام) إذا صلحوا، وأنّ منزلتهم منزلة الأنبياء في بني إسرائيل، وأنّ‏ فضلهم على الناس كفضل النبيّ على‏ أدناهم، وأنّهم‏ حُكّام على

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، الاجتهاد والتقليد، مصدر سابق، ص22 - 23.

 

61


53

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الملوك، وأنّهم‏ كُفلاء أيتام أهل البيت (عليهم السلام)، وأنّ مجاري الأمور والأحكام على‏ أيدي العلماء باللَّه الأمناء على حلاله وحرامه، إلى‏ غير ذلك‏. فإنّ الخدشة في كلّ واحد منها -سنداً أو دلالةً- ممكنة، لكنّ مجموعها يجعل الفقيه العادل قَدراً متيقّناً»[1].

هذا تمام الكلام -إجمالاً- حول الرؤية التشريعيّة للإمام الخمينيّ (قدس سره). وقد حاولنا قَدر المستطاع الإشارة إلى أمّهات المطالب التي تمثّل مَعالم نهجه (قدس سره).

 

 


[1]  المصدر نفسه، ص24 - 25.

 

62


54

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ثانياً: معالم الشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تمّ الحديث عن معالم المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)، فَقَد ذكرنا أنّ هذه المنظومة -مُضافاً إلى كَونها أصيلة تستند في الأفكار التي تتبنّاها إلى الأصول المتينة- تتمتَّع بالانسجام في ما بينها. وفي هذا الفصل نتعرّض للكلام على رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره) للشخصيّة الإنسانيّة؛ أي الإنسان مِن حيث هو إنسان، لا مِن حيث كونه ذا عرق معيّن، أو جنس ما، أو مُنتسب إلى طائفة أو جغرافيا دون أخرى. والكلام في هذا الشأن مُكمّل أساسيّ للمنظومة الفكريّة، إذ إنّ الإنسان هو الصفحة التي لا بدّ مِن أن تنطبع بتلك المنظومة. ولا ينبغي النظر إلى الأفكار المنسجمة الأصيلة على أنّها موجودة في الكتب والمصادر، ولها فائدة جدليّة وخطابيّة، لإثبات حقّانيّة ما يقوله الإمام (قدس سره)، بل إنّ الشأن الأساسيّ والغاية لِما تقدّم كلّه مِن أفكار وقضايا أن تكون صورةً وهيئة تتشكّل بها النفس الإنسانيّة. فَما تقدَّم ذِكره كان بمثابة الدستور العمليّ الذي لا بدّ مِن أن نجعله مرشداً على مستوى الشخصيّة والصفات. لذا، كان لزاماً استكشاف الرؤية التي يتبنّاها الإمام الخمينيّ (قدس سره) للإنسان بما هو إنسان؛ أي إلى أبعاده وحقيقته وقدراته وطاقاته، وما خُلق لأجله، والطريق الموصل إلى هدفه.

والكلام في هذا الفصل يندرج تحته أمور نذكرها تباعاً:

الأمر الأوّل: غاية الإنسان هي العبوديّة.

الأمر الثاني: أبعاد وجود الإنسان، وكون الإسلام يراعي الأبعاد كافّة.

 

 

63


55

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ثانياً: معالم الشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تمّ الحديث عن معالم المنظومة الفكريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)، فَقَد ذكرنا أنّ هذه المنظومة -مُضافاً إلى كَونها أصيلة تستند في الأفكار التي تتبنّاها إلى الأصول المتينة- تتمتَّع بالانسجام في ما بينها. وفي هذا الفصل نتعرّض للكلام على رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره) للشخصيّة الإنسانيّة؛ أي الإنسان مِن حيث هو إنسان، لا مِن حيث كونه ذا عرق معيّن، أو جنس ما، أو مُنتسب إلى طائفة أو جغرافيا دون أخرى. والكلام في هذا الشأن مُكمّل أساسيّ للمنظومة الفكريّة، إذ إنّ الإنسان هو الصفحة التي لا بدّ مِن أن تنطبع بتلك المنظومة. ولا ينبغي النظر إلى الأفكار المنسجمة الأصيلة على أنّها موجودة في الكتب والمصادر، ولها فائدة جدليّة وخطابيّة، لإثبات حقّانيّة ما يقوله الإمام (قدس سره)، بل إنّ الشأن الأساسيّ والغاية لِما تقدّم كلّه مِن أفكار وقضايا أن تكون صورةً وهيئة تتشكّل بها النفس الإنسانيّة. فَما تقدَّم ذِكره كان بمثابة الدستور العمليّ الذي لا بدّ مِن أن نجعله مرشداً على مستوى الشخصيّة والصفات. لذا، كان لزاماً استكشاف الرؤية التي يتبنّاها الإمام الخمينيّ (قدس سره) للإنسان بما هو إنسان؛ أي إلى أبعاده وحقيقته وقدراته وطاقاته، وما خُلق لأجله، والطريق الموصل إلى هدفه.

والكلام في هذا الفصل يندرج تحته أمور نذكرها تباعاً:

الأمر الأوّل: غاية الإنسان هي العبوديّة.

الأمر الثاني: أبعاد وجود الإنسان، وكون الإسلام يراعي الأبعاد كافّة.

 

 

63


56

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الأوّل: العبوديّة كمال الإنسانيّة

إنّ كلّ منظومة فكريّة تطرح نفسها على أنّها نموذج كامل لبناء النفس الإنسانيّة لا بُدّ لها -قبل أيّ شيء- مِن أن تطرح رؤيتها حول الوجود الإنسانيّ والشخصيّة الإنسانيّة. ولا نُبالغ في القول إنّ مفترق الطرق الذي تفترق عنده المدارس الفكريّة المختلفة هي رؤيتها للإنسان.

لا بدّ للرؤية التي تُطرح حول الإنسان مِن أن تراعي ثلاثة جوانب أساسيّة:

الجانب الأوّل هو الغاية الإنسانيّة؛ أي الكمال الأقصى الذي تراه هذه المنظومة لائقاً بالإنسان، والذي ينبغي أن يصل إليه، بِحيث يكون كاملاً بتحقُّقه بها.

الجانب الثاني هو النموذج؛ أي المثل الأعلى الذي يكون عصارة تحقُّق هذه الرؤية في الواقع الخارجيّ. فَلَو طَرحَت رؤيةٌ معيّنة نظرتَها للإنسان، ولم تُعطِ نموذجاً بشريّاً أو مَثَلاً أعلى يكون قدوة لِسائر الناس، فَسَتَضعف هذه المنظومة، ولن توجِد الداعي أو الدافع للأتباع.

الجانب الثالث هو الطريق الموصل إلى هذه الغاية.

وفي ما يأتي نطرح هذه الجوانب في رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره) تباعاً.

الغاية الإنسانيّة هي العبوديّة لله

الأمر الأوّل الذي يلفتنا في كلام الإمام الخمينيّ (قدس سره) على الإنسان هو أنّ هذا الكائن يمتاز -بشكلٍ أساسيّ- عن غيره مِن الكائنات بأنّه يحمل عنوان «خليفة الله تعالى». وقد وصل بعض البشر -في الحقيقة والفعل- إلى هذا المقام، وَهُم الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء على اختلاف مراتبهم. وبعض الناس الآخرين كانت لهم قابليّة التحقّق والوصول إلى مقام «الخلافة الإلهيّة»، وَهُم سائرون على هذا الطريق؛ فإمّا أن

 

 

64

 


57

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

يتكاملوا ويتحقّقوا به، وإمّا أن يتسافلوا، فَلا يحقّقوا إنسانيّتهم التي خُلقوا من أجلها بِالفعل.

ومعنى «الخلافة الإلهيّة» أن يكون الإنسان متشكّلاً بِما يقتضيه قُربه من الله تعالى؛ بتعبير آخر: إنّ حقيقة الإنسان لا تكون كاملة ومُحقِّقة لِما خُلقت من أجله إلّا بَعد أن تحقّق القُرب مِن الله تعالى. وحقيقة هذا القُرب أن يكون الإنسان متخلّقاً بالأخلاق الإلهيّة ومتحقّقاً بها. مِن هنا، يندمج معنى القُرب بمعنى العبوديّة، إذ إنّ القرب مِن الله تعالى يستلزم فناء إرادة الإنسان بإرادته تعالى وزوال أنانيّته وتقديم شهوته وغضبه وهواه على ما يريده الله؛ هذه هي حقيقة الكمال الإنسانيّ. «إنّ قيمة الإنسان في التزامه بتكاليفه أمام الله تبارك وتعالى وفي عبوديّته‏ لله عزّ وجلّ. فَما هي مسؤوليّة الإنسان أمام الله وأمام العباد؟ هذه هي القيمة الحقيقيّة. وما دمتم محافظين على هذه القيم، فإنّكم محافظون على القيم الإسلاميّة والإنسانيّة. وإذا ما حصل انحراف في ذلك، وفَقَدتُم القيمة الحقيقيّة، فَلا قيمة لكم أمام الله وأمام عباده، حتّى لو بلغتُم أعلى درجات العِلم بين العلماء، وحتّى لَو بَلغتُم ما بَلغتُم مِن الزهد»[1].

ويقول (قدس سره) أيضاً: «كلّما كان النظر إلى الإنّيّة والأنانيّة ورؤية النفس وحُبّها في الإنسان غالباً، كان بعيداً عن كمال الإنسانيّة ومقام القُرب الإلهيّ. فَحجاب رؤية النفس وعبادتها أَضخم الحُجُب وأظلمها»[2].

مِن هنا، تظهر المعادلة التي يطرحها الإمام الخمينيّ (قدس سره) في طريق وصول الإنسان إلى كماله، وهي أنّ الطريق الوحيدة التي تتدفّق فيها كمالات الإنسان، وينطلق فيها مِن حال الكُمون والضعف إلى حال الظهور والفعليّة، هي طريق الاتّصال بالله تعالى؛ مبدأ كلّ كمال. أمّا

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج16، ص346.

[2] الإمام الخمينيّ، الآداب المعنويّة للصلاة، مصدر سابق، ص31.

 

65


58

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الانحراف عن طريق الله تعالى وسبيله، والذي يتمثّل بِطاعة الأهواء والشهوات وحبّ الدنيا، فهو عين طريق اضمحلال كمالات الإنسان وصيرورته فارغاً من كلّ كمال؛ لذا فَلا طريق ثالثاً غير طريق الله تعالى وطريق النفس الأمّارة والدنيا.

النموذج الكامل للغاية الإنسانيّة

بناء على الجانب الثاني من جوانب رؤية الشخصيّة الإنسانيّة، طَرح الإمام الخمينيّ (قدس سره) -وِفاق رؤيته الأصيلة للإسلام- المثَل الأعلى لهذه الرؤية، المتشخّص في الوجود الخارجيّ، وَهُم البشر الكاملون الذين وصلوا إلى مقام العباد كاملي العبوديّة لله تعالى. لذا، فإنّنا نخصّص هذا القسم مِن الكلام لِبَيان الأبعاد التي تجلَّت في الشخصيّات الإنسانيّة الكاملة في بيانات الإمام الخمينيّ (قدس سره).

رسول الله (صلى الله عليه وآله)

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) عند حديثه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وليعلم أنّ العبوديّة المطلقة مِن أعلى مراتب الكمال وأرفعه، بل أرفع مقامات الإنسانيّة. وليس لأحد فيها نصيب سوى الأكمل مِن خَلق الله محمّد (صلى الله عليه وآله) وأوليائه الكُمَّل»[1].

ثمّ إنّه قد يتوهَّم بعض الناس أنّ هذا المقام الرفيع الذي لا نظير له لِرسول الله (صلى الله عليه وآله) يجعلنا في حجابٍ عن فَهم سلوكيّاته وحركته الفرديّة والاجتماعيّة، أو حتّى عن تصوُّر كيفيّة معاشرته لأصحابه، وكيفيّة تعامله مع أعدائه؛ لذا لا يمكن أن نُغفل أنّنا مطالَبون بالاقتداء بسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لِكونه صاحب ذلك المقام. وقد كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) كثير الإضاءة على هذه الجوانب البشريّة والاجتماعيّة لِرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ يقول: «عندما نراجع تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) وسِيَرَهم، نجد أنّهم بَذلوا ما بِوِسعهم كلّه، وتحمَّلوا من العناء ما تحمَّلوا في سبيل تربيتنا وسعادتنا.

 

 


[1] المصدر نفسه، ص33.

 

66


59

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فَعِندما تدرسون أو تراجعون حياة النبيّ موسى والنبيّ عيسى (عليهما السلام)، أو حياة نبّينا محمّد (صلى الله عليه وآله) خاصّة، أو عندما تراجعون التاريخ الإسلاميّ، تجدون أنّ بعض الأنبياء (عليهم السلام) أقاموا دولة، وَكانت لهم سلطة على الناس، لكنّهم لم يتصرّفوا كما يتصرّف رؤساء الجمهوريّات والزعماء السياسيّين اليوم. وَكذلك رسول‏ الله‏ (صلى الله عليه وآله)، كان قد بَسط في حياته رسالته على بلاد العرب وبعض البلدان الأخرى، إلّا أنّه لم يَقُم بما يقوم به رؤساء جمهوريّات العالَم وزعماؤه؛ إذ كان (صلى الله عليه وآله)، حينما يجلس في المسجد، يقرّب أصحابه ويتحدّث إليهم بكلّ تواضع، بحيث لم يكن بمقدور القادمين مِن خارج المسجد، والذين لم يَرَوه (صلى الله عليه وآله) مِن قبل، تمييزه مِن الآخرين؛ على هذا النحو كانت معاشرته لأصحابه، فَلا تتصوّروا أنّه كان يجلس على مِثل هذا المقعد الذي أجلستُموني عليه، بل كان يجلس على بساط شبيه بهذا البساط الذي جلستم أنتم عليه، فَيَجد القادم مِن خارج المسجد عناءً في تَعَرُّفه (صلى الله عليه وآله). كما أنّه كان بإمكان مَن يروم لقاءه أن يلتقي به بكلّ بساطة وسهولة -خِلافاً لرؤساء الجمهوريّات اليوم، إذ إنّ على كلّ مَن يريد أن يلتقي بهم أن يتحمّل المشقّة والعناء، وقد لا تتحقّق أمنيته أبداً- فَالناس جميعهم كانوا يحدّثون الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويسمعون إجاباته عن أسئلتهم.

أمّا عن منزله (صلى الله عليه وآله)، فَقد كانَ لَصيق المسجد. ولا تتصوّروا أنّ المسجد يُشبه مساجد المدن الحاليّة، بل كان قطعة أرضٍ أحاطوها بالخشب وأغصان الأشجار لِتجنُّب دخول الحيوانات، لَم تُشيّد فيها سوى غرفة أو غرفتين بَنَوهما بِالطين. ولم يَكن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) سوى أشياء بسيطة، إذ إنّ منزله كان بسيطاً للغاية، لا كَما هي حال بيوتنا»[1].

أمير المؤمنين (عليه السلام)

في مقام وصف أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره):

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج4، ص120 - 121.

 

67


60

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

«نكتفي بالقول إنّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان عبداً لله فقط، وهذه أكبر خصائصه التي يمكن الحديث عنها، وَربيباً لِرسول الله العظيم (صلى الله عليه وآله)، إذ إنّه تربّى في حجره -وهذا من أكبر مفاخره-. فأيّة شخصيّة تستطيع ادّعاء أنّها عبد لله، وأنّها بعيدة عن كلّ عبوديّة أخرى، غير الأنبياء العِظام (عليهم السلام) والأولياء المعظّمين وعليّ (عليه السلام)؛ ذلك العبد المنقطع عن غير الله، المتّصل بالحبيب الذي كشف حُجب النور والظلمات، وَوَصل إلى معدن العظمة؟ وأيّة شخصيّة تستطيع ادّعاء أنّها كانت، منذ الطفولة حتّى آخر عمر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، في حضنه وفي ظلّه وتحت تربية الوحي ومُبلّغه إلّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي غُرست في روحه جذور الوحي وتربية صاحب الوحي؟ إذاً، هو حقّاً عبد الله، وتربية عبد الله الأعظم (صلى الله عليه وآله).

أمّا كتاب نهج البلاغة، الذي هو مِن روحه، فَهو لِتعليمنا وتربيتنا نحن الغارقين في سُبات‏ الأنا وحِجابها وأنانيّتها، وَهو شفاءٌ لنا، وبلسم للآلام الفرديّة والاجتماعيّة. هذا الكتاب له أبعاد بحجم الإنسان والمجتمع الإنسانيّ الكبير، منذ ظهوره، وعلى مرّ التاريخ مَهما تقدّم، ومهما ظهرت المجتمعات وتوالَت الدول والشعوب، ومهما ظهرَ المفكّرون والمفسّرون والفلاسفة وغاصوا فيه وغرقوا»[1].

«أمّا عن حياة أمير المؤمنين، الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد بَسط نفوذ حكومته وإمامته على بلاد شاسعة، شملت أرجاء الحجاز والعراق وسوريا ولبنان ومصر وإيران جميعها، وتوحّدت هذه البلدان كلّها تحت لوائه، فكيف يا ترى كانت حياته؟ هل كانت مشابهة لحياة الأمراء؟ كان (عليه السلام) يمتلك، فقط، جِلد خروف يفرشه ليلاً -بحسب ما يذكر التاريخ- وينام عليه هو وزوجته، ويحشو جلده نهاراً عَلَفاً يعلف به البعير؛ هذه حكومة الإسلام. كان (عليه السلام) يحفر القناة بِيَده في اليوم نفسه الذي بايعه المسلمون، وبعد بَيعته عاد لِيواصل عمله فيها، إذ

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج14، ص274 - 275.

 

 

68

 


61

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لم يكن يعمل من أجل نفسه ومنفعته الخاصّة، بل إنّه حَفرها، وما إن تفجّرت عين ماءٍ حتّى جعلها وقْفاً للفقراء.

ونحن أيّها السادة، نريد مثل هذا الحاكم، نريد حاكماً يقتدي بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام عليّ (عليه السلام). نحن الذين تحمَّلنا المشقّاتِ وعانَينا ما عانَينا، عندما نُكلّم شعبنا المسلم، فإنّ خلاصة ما نريد هو مطالبتنا بحاكم لا يكون خائناً.

ينقل عن الإمام (عليه السلام) أنّه كان يحسب عوائد بيت المال، كالزكاة، ومِقدار ما يجب أن يدفعه الناس من ضرائب لبيت المال، وَكان يحمل مِصباحه الزيتيّ بِيَده ليضيء به المكان. وبينما هو منهمك في إعداد الكشوفات، جاء شخصٌ -بحسب ما تذكره الرواية- في حديث خاصّ معه (عليه السلام)، فأطفأ الإمام (عليه السلام) المصباح، ثمّ راح يحدّثه»[1].

السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

إنّ المتابع لكلمات الإمام الخمينيّ (قدس سره) على مقام السيّدة الزهراء (عليها السلام)، وتوصيف تأثيرها على الإسلام، وحركتها الجهاديّة، يرى شدّة العَظَمة التي كانت تمثّلها هذه السيّدة العظيمة في حياته (قدس سره)، ومدى عَظَمة الإسلام، بحيث تحوز المرأة الكاملة فيه خصوصيّات الأنبياء (عليهم السلام) كافّة؛ «إنّ الأبعاد المتصوّرة للمرأة جميعها، والمتصوّرة للإنسان، قد تجلَّت في فاطمة الزهراء (عليها السلام). إنّها لم تكن امرأة عاديّة، بل كانت امرأة روحانيّة، امرأة ملكوتيّة، إنساناً بِتمام معنى الإنسان، بالأبعاد الإنسانيّة كلّها، حقيقة المرأة الكاملة... حقيقة الإنسان الكامل. إنّها ليست امرأة عاديّة، بل موجودٌ ملكوتيّ قد ظهر في العالم بِصورة إنسان، موجودٌ إلهيّ جبروتيّ ظهر بصورة امرأة... غداً يوم المرأة. إنّ الحقائق الكماليّة كلّها المتصوَّرة للإنسان، والمتصوّرة للمرأة، تتجلّى في هذه المرأة. غداً تولد مثل هذه المرأة؛ امرأة فيها خصوصيّات

 


[1]  المصدر نفسه، ج4، ص121 - 122.

 

70


62

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم. امرأة لو كانت رجلاً لَكان نبيّاً، لَو كانت رجلاً لَكانت مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله). إذاً، غداً يوم المرأة. إنّ مصداقيّة المرأة الكاملة توجد غداً؛ المعنويّات، التجلّيات الملكوتيّة، التجلّيات الإلهيّة، التجلّيات الجبروتيّة، التجلّيات الملكيّة والناسوتيّة، جميعها مجتمعة في هذا الموجود... إنّها إنسان بِتمام معنى الإنسان... إنّها امرأة بِتمام معنى المرأة... إنّ للمرأة أبعاداً مختلفة، كما أنّ للرجل أبعاداً مختلفة، وكذلك الإنسان... إنّ هذه الصورة الطبيعيّة هي أدنى مراتب الإنسان وأدنى مراتب المرأة وأدنى مراتب الرجل، ولكنْ مِن هذه المرتبة المتدنّية تكون الحركة نحو الكمال. الإنسان موجود متحرّك من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغَيب، حتّى الفناء في الألوهيّة؛ إنّ هذه المسائل والمعاني حاصلة للصدّيقة الطاهرة (عليها السلام)، فقد بدأت مِن مرتبة الطبيعة، وتحرّكت حركة معنويّة، فَطَوَت هذه المراحل بِقدرة إلهيّة، بِيَدٍ غيبيّة، بِتربية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى أن وصلَت مرتبةً يقصر عنها الجميع»[1].

يتّضح، إذاً، أنّ في الإنسان قدرات للوصول إلى الكمالات اللائقة بإنسانيّته، عبر القُرب مِن الله، والذي كان مصداقه الأبرز نبيّنا وآله (عليهم السلام)؛ لذا حُقَّ لِبرامج الأنبياء (عليهم السلام) في تربية الإنسان أن تفعل فيه هذه الطاقات، وأن ترسم له طريقه إلى العبوديّة والقرب الإلهيّ. وقد أشرنا في ما سبق، عند الحديث عن العدالة الاجتماعيّة، إلى أنّ هذه العدالة -من المنظار الإسلاميّ الإلهيّ- تُعدُّ هدفاً وسيطاً، أمّا الهدف الأقصى لِبرامج الأنبياء (عليهم السلام) والأديان الإلهيّة، فتتلخّص في وصول الإنسان إلى القرب الإلهيّ والعبوديّة لله تعالى؛ وهي قضيّة شدّد عليها الإمام الخمينيّ (قدس سره) كثيراً عند بيانه الأهداف القصوى للأنبياء (عليهم السلام)، إذ بَيَّن أنّ مِن أهمّ الخطط التي وضعتها الأديان الإلهيّة مِن أجل إيصال الناس إلى عبوديّة الله تعالى هي تحريرهم من عبوديّة مَن سواه من سلاطين الزمان وفراعنته،

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص250.

 

70


63

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فَيندمج بذلك السلوك السياسيّ العسكريّ بالسلوك المعنويّ. فَيقول (قدس سره): «الأنبياء أيضاً بُعثوا مِن أجل أن تتفتّح معنويّات الناس وقدراتهم، ففي ظلّ تلك القدرات يُدركون بأنّنا لسنا شيئاً، مُضافاً إلى العمل على إخراج الناس والضعفاء مِن هيمنة المستكبرين. فَمُنذ البداية، كان عمل الأنبياء (عليهم السلام) يتمحور حول جانبَيْن؛ جانب معنويّ، هو إخراج الناس مِن قيد النفس وأَسْر ذواتهم، التي هي الشيطان الأكبر، وجانب تحريرهم مِن هيمنة الظالمين. فَعندما ينظر الإنسان إلى النبيّ موسى والنبيّ إبراهيم (عليهما السلام)، وإلى ما أفاده القرآن عنهما، يرى أنّهما اهتمّا بِهذَيْن الجانبَيْن؛ الأوّل دعوة الناس إلى التوحيد، والثاني إنقاذ التعساء مِن الظلم. وإنْ كان هذا الجانب مُهمّشاً في تعليمات السيّد المسيح (عليه السلام)، فَهو لأنّه (عليه السلام) لم يُعمّر طويلاً، فَكان احتكاكه بالناس قليلاً، وإلّا، فإنّ نهجه هو نهج النبيّ موسى والأنبياء جميعهم (عليهم السلام) نفسه.

والأسمى منهم جميعاً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ إنّنا نرى هذيْن الجانبَيْن بارزَيْن في سيرته (صلى الله عليه وآله)، بحسب ما أفاد القرآن والسُنّة. فَقَد دعا القرآن إلى المعنويّات، بالقدر الذي يستطيع الإنسان تحقيقه، ثمّ إقامة العدل. وكان النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، والذين كانوا لِسان الوحي، مُهتمّين بِالجانبَيْن كِلَيْهما، إذ إنّ سيرته (صلى الله عليه وآله) تدلّ على ذلك. فَقد عَمل على تقوية المعنويّات إلى ما قبل تشكيل الحكومة، وما إن تمكّن مِن تشكيل الحكومة، حتّى عمل على بَسْط العدل، مُضافاً إلى المعنويّات. فَقَد شكّلَ الحكومة، وأنقذ هؤلاء المحرومين مِن سلطة الظالمين، بِالقدر الذي تسنّى له ذلك.

هذه هي سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، وينبغي على الذين يعدّون أنفسهم أتباعاً لهم الحرص على هذا النهج، خاصّةً الجانب المعنويّ. فَيجب على مَن هُم على درجة مِن المعنويّات العملَ على تقوية هذا الجانب لديهم ولدى الناس. فَعَلى الناس أيضاً الاهتمام بهذا الجانب،

 

71


64

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وبالجانب الآخر، وهو إقامة العدل، إذ إنّ الحكومة الإسلاميّة مُطالبة بإقامة العدل. فإذا كنّا أتباع الإسلام والأنبياء (عليهم السلام)، فَهذه هي سيرتهم المتواصلة، وَلَو افترضنا استمرار بعثتهم إلى الأبد، فَلَن تحيد سيرتهم عن ذلك؛ علينا الاهتمام بالجوانب المعنويّة للإنسان، بالقدر الذي يستوعبه، والعمل على بَسْط العدل بين بني الإنسان، وقطع دابر الظالمين. علينا أن نعمل من أجل تَطبيق هَذَيْن النهجَيْن»[1].

العبوديّة أساس برامج تربية الإنسان

إنّ وضوح الهدف والغاية القصوى جَعل الإمام الخمينيّ (قدس سره) شفّافاً جدّاً في رَسم الخطط الاستراتيجيّة للمؤسّسات التعليميّة والتربويّة كافّة، فَقد جعلَ تربية الإنسان على الفضائل المبعِدة عن حبّ الدنيا وهوى النفس، والموصلة إلى القُرب من الله، هي الغاية التي ينبغي أن توضع البرامج والمشاريع التفصيليّة على ضوئها. وفي بعض خطاباته التي وجّهها إلى أساتذة المدارس -إذ كان يُرشدهم إلى طريق تفعيل طاقات التلاميذ- يقول: «عليكم أن تُربّوهم على الأخلاق الإنسانيّة والأخلاق الإسلاميّة، وأن تُوجّهوهم نحو الله، وأن تُجنّبوهم الفساد الموجود في المجتمعات المنحطّة. عليكم أن تُذكّروهم أنّ سعادتهم وسعادة بلدهم في تربِيتهم تربيةً إسلاميّة-إنسانيّة. يجب عليكم أن تُربّوهم على الاحتراز عن الطبيعة المنحطّة التي تشدّ الإنسان نحو الانحطاط، والتي تتمثّل بحبّ الجاه وحبّ المال وحبّ المنصب. يجب أن تُبعدوهم عن هذه الأشياء التي هي مِن صعوبات طريق الإنسان، والتي تمنع رُقيّه. وضِّحوا لهم أنّ الإنسان، طالما كان مُنصرفاً إلى عالم الطبيعة هذا، فإنّه ليس إنساناً؛ كَمَن كان همّه كلّه الحصول على شيء من الحياة الرغيدة التي تُؤمَّن فيها الأمور المادّيّة، ففي النهاية، سيكون وضعه كحيوان همّه حاجاته المادّيّة فقط. يجب عليكم أن تُوَضِّحوا لهم أنّ الحياة هي الحياة الشريفة، وَالحياة الإنسانيّة هي

 


[1] المصدر نفسه، ج17، ص427.

 

72


65

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الحياة الشريفة. يجب عليكم أن تمنعوهم من عبادة غير الله، وأن تربّوهم على عبادته؛ فَإذا دخل الإنسان المجتمع عن طريق عبادة الله، أو نظر إلى الأمور مِن منظار هذه القناة، فإنّ أعماله كلّها تصبح إلهيّة. إذا قَبِلَ الإنسان عبادة الله فقط، واحترز من سائر الأشخاص؛ أي دخل عن طريق هذه القناة في الدنيا وفي الطبيعة، فَسيكون كلّ عمل يقوم به عبادة، لأنّ المبدأ هو عبادة الله. لقد لاحظتم كيف إنّ في القرآن الكريم، وفي الصلاة أيضاً، تُقدَّم عبادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لله على رسالته (عبده ورسوله)، فَهو عبدٌ قبل أن يكون رسولاً. ومِن الممكن أن يكون هذا الأساس إشارة إلى أنّه وصل إلى الرسالة عن طريق العبوديّة؛ تحرَّر مِن كلّ شيء وصار عبداً لله، لا لِأشياء أخرى.

إذاً، ثمّة طريقان لا أكثر؛ إمّا عبوديّة الله، وإمّا عبوديّة النفس الأمّارة. هذان هما الطريقان. فَأن يتحرّر الإنسان مِن عبادة الآخرين، ويقبل عبوديّة الله الذي يليق بأن يكون الإنسانُ عبدَه، يعني أنّ الأعمال التي يقوم بها ليس فيها انحراف؛ أي إنّه لن ينحرف متعمَّداً. وَهذه الانحرافات جميعها، سواء أكانت في العقائد أو في الأعمال والأقلام والأحاديث المنحرفة، تتمّ لأنّها لم تمرّ من قناة العبوديّة لله، ولأنّهم عبيد الأهواء النفسيّة»[1].

 


[1]  المصدر نفسه، ج14، ص34 - 35.

73


66

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الحياة الشريفة. يجب عليكم أن تمنعوهم من عبادة غير الله، وأن تربّوهم على عبادته؛ فَإذا دخل الإنسان المجتمع عن طريق عبادة الله، أو نظر إلى الأمور مِن منظار هذه القناة، فإنّ أعماله كلّها تصبح إلهيّة. إذا قَبِلَ الإنسان عبادة الله فقط، واحترز من سائر الأشخاص؛ أي دخل عن طريق هذه القناة في الدنيا وفي الطبيعة، فَسيكون كلّ عمل يقوم به عبادة، لأنّ المبدأ هو عبادة الله. لقد لاحظتم كيف إنّ في القرآن الكريم، وفي الصلاة أيضاً، تُقدَّم عبادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لله على رسالته (عبده ورسوله)، فَهو عبدٌ قبل أن يكون رسولاً. ومِن الممكن أن يكون هذا الأساس إشارة إلى أنّه وصل إلى الرسالة عن طريق العبوديّة؛ تحرَّر مِن كلّ شيء وصار عبداً لله، لا لِأشياء أخرى.

إذاً، ثمّة طريقان لا أكثر؛ إمّا عبوديّة الله، وإمّا عبوديّة النفس الأمّارة. هذان هما الطريقان. فَأن يتحرّر الإنسان مِن عبادة الآخرين، ويقبل عبوديّة الله الذي يليق بأن يكون الإنسانُ عبدَه، يعني أنّ الأعمال التي يقوم بها ليس فيها انحراف؛ أي إنّه لن ينحرف متعمَّداً. وَهذه الانحرافات جميعها، سواء أكانت في العقائد أو في الأعمال والأقلام والأحاديث المنحرفة، تتمّ لأنّها لم تمرّ من قناة العبوديّة لله، ولأنّهم عبيد الأهواء النفسيّة»[1].

 


[1]  المصدر نفسه، ج14، ص34 - 35.

 

73


67

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

اتّضح لدينا، إذاً، أنّ للإنسان طريق نحو التكامل، هو طريق الارتباط بالله تعالى. وننطلق في ما يأتي للبحث في أبعاد الإنسان المختلفة، بِحسب بيانات الإمام الخمينيّ (قدس سره)، وما يطرحه في هذا الصدد، لتربية الإنسان في أبعاده كافّة.

 

74


68

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثاني: أبعاد الوجود الإنسانيّ ومراعاة الإسلام لها

مِن الركائز المهمّة في رؤية الإمام الخمينيّ (قدس سره) حول الإنسان أنّه كائن ذو أبعاد مختلفة، يصلُ -باكتمالها ومراعاتها جميعاً- إلى كماله، وأنّ الإسلام هو النسخة التي جاءت مطابقة لأبعاد وجود الإنسان؛ بحيث إنّ الإسلام هو البرنامج العمليّ لِتفعيل أبعاد الإنسان وقابليّاته كافّة، وإيصاله إلى الغاية التي من أجلها خُلق.

وإذا أردنا أن نضمّ ما ذكرناه في الأمر السابق إلى هذه الفكرة، يتّضح لدينا أنّ الإسلام هو طريق العبوديّة والقرب الإلهيّ. فَيشير الإمام الخمينيّ (قدس سره) في بعض كلماته إلى أنّ الكثير من التصوّرات حول الإسلام إنّما تكون مغلوطة، لأنّها لا تراعي أبعاده كافّة التي تتطابق مع أبعاد الإنسان؛ «إنّ أبعاد الإنسان‏ أبعاد العالم كلّه، والإسلام جاء لتربية الإنسانيّة في أبعادها كلّها. لكنّ التّصورات المختلفة التي تكوَّنت حول الإسلام تُعزى إلى الرؤى المختلفة لأصحابها، وهي مختلفة جدّاً، والتي لم تصِل أيّ منها إلى حدّ معرفة الإسلام أو الإنسان أو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو العالم، فَبَقيَت كلّها في مستوى محدود. فَقد يتصوّر كثيرون أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إنّما جاء -وسائر الأنبياء (عليهم السلام) الذين بعثهم الله- مِن أجل إنقاذ الناس مِن هذه المظالم والإجحاف وما شابه ذلك، فَتكون مهمّتهم توفير العدل للمجتمع والأفراد؛ أي إنّ مهمّتهم لا تتجاوز هذا الحدّ. وقد يظنّ كثيرون أنّ الاقتصاد قضيّة مهمّة، ويقصرون عليه مهمّة الأنبياء (عليهم السلام)؛ أي إنّهم جاؤوا ليحقّقوا للناس بُطوناً شبعانة وحياة مرفّهة، وأنّ مهمّتهم لا تتعدّى هذا الحدّ. وقد يكون لِبعضهم الآخر رؤى عرفانيّة ترى أنّ بعثة الأنبياء (عليهم السلام) محدودةٌ في بَسط المعارف الإلهيّة ليس إلّا. يُفكّر الفلاسفة هكذا، ويُفكّر فقهاء الإسلام بشكل آخر... والشعوب تفكّر بطريقة معيّنة، والمثقّفون يفكّرون بِنحوٍ خاصّ، ويفكّر كلّ مؤمن بِشكل معيّن، وكلّهم قاصرون عن الوصول إلى ما هو موجود. إنّ القول المأثور «مَن عرف نفسه فَقَد

 

75


69

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

عرف ربّه» يُفهمنا أنّ الإنسان موجود، فَإن هو عُرِفَ، عُرِفَ به الله. وهذا لا يَصدق على أيّ موجود آخر. فَلا يستطيع أن يَعرف ربَّ الإنسان إلّا مَن عرف نفسه، ومعرفة الذات -التي تستتبع معرفة الله- لا تحصل إلّا لِكُمَّل أولياء الله. وينبغي عدم تصوُّر أنّ الإسلام جاء لإدارة هذه الدنيا، أو أنّه جاء لتوجيه الناس نحو الآخرة فقط، أو لِيُعرّف الناسَ المعارفَ الإلهيّة؛ الاقتصار على جانب واحد مِن هذه الجوانب خِلاف الحقيقة مَهما كان. إنّ الإنسان غير محدود، ومربّي الإنسان غير محدود، ومنهاج تربية الإنسان -أي القرآن- غير محدود، لا بِعالم الطبيعة والمادّة، ولا بِعالم الغَيب، ولا بعالم التجرُّد، بل هو كلّ شي‏ء»[1].

الإسلام قانون لأبعاد الإنسان كافّة

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «الإسلام رسالة نزلت للتربية الإنسانيّة، فَيجب أن نرى أبعاد هذا الإنسان -الذي يقول بعضهم إنّه ذو ماهيّة مجهولة- واحتياجاته، وهل إنّ الإسلام جاء تربيةً لجوانبه الحيوانيّة فقط، أو المعنويّة، أو إنّه يريد تربيته كإنسان‏؟

ليس الإنسان كسائر الموجودات. فإدراك الحيوان لِما وراء الطبيعة إدراك ناقص، ولكنّ الإنسان يستطيع أن يسير مِن الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، وممّا وراء الطبيعة إلى الألوهيّة، إلى أن يصل إلى فَهمِ ذلك.

إنّ الإنسان كائن جامع ذو أبعاد متعدّدة، بِخلاف الكائنات الأخرى التي لها بُعد واحد أو بُعدان أو أكثر. غير أنّ أبعاد الوجود كلّها لا تجتمع في بقيّة الكائنات... الإنسان وحده مِن بَين الكائنات كلّها كائن متعدّد الأبعاد، ولكلّ بُعد من أبعاده حاجات. لكنّ المدارس الفكريّة الموجودة في العالم -باستثناء الإسلام- مادّيّة، تُصوّر الإنسان حيواناً، وأنّ أموره جميعها تتحرّك ضمن هذه الحدود، وأنّ تكامله يتمّ ضمن الاعتبارات المادّيّة التي أطلقوا

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج12، ص339 - 340.

 

76


70

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

عليها اسم «الأمور العينيّة». إنّهم يتخيّلون أنّ الأمور العينيّة هي عالم الطبيعة نفسه، في حين أنّ هناك عوالم أخرى لم يُدركوها، ولِتلك العوالم حظّ أكبر مِن العينيّة بالنسبة إلى عالم الطبيعة. إنّ عالم الطبيعة يقع في آخر مراتب موجودات عالم الوجود؛ أي إنّ عالم الطبيعة هو نهاية عالم الوجود، وهو أدنى العوالم. وَليس صحيحاً أنّ الإنسان وحده الموجود الذي يمتلك هذه الطبيعة، وألّا مراتب أخرى بعد ذلك. فللإنسان مراتب، فَمن طلب المرتبة العليا وغَفل عن هذه المراتب، فَقد أخطأ، ومَن تمسَّك بِعالم المادّة فَشَهد مرتبة الطبيعة وغَفل عمّا وراء الطبيعة، فَقَد أخطأ أيضاً.

إنّ للإسلام منهجاً ومسلكاً لهذا الإنسان الذي له مراتب مِن الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، ومِن ما وراء الطبيعة إلى الألوهيّة. الإسلام يريد أن يربّي إنساناً جامعاً، بِالصورة التي هو عليها؛ ذا بُعدٍ طبيعيّ فينمّي فيه البُعد الطبيعيّ، وذا بُعد برزخيّ فينمّي فيه البُعد البرزخيّ، وذا بُعد روحيّ فيُنمّي فيه البُعد الروحيّ، وذا بُعدٍ عقليّ فيُنمّي فيه البُعد العقليّ، وذا بُعد إلهيّ فيُنمّي فيه البُعد الإلهيّ... إنّ الأبعاد جميعها التي يمتلكها الإنسان ناقصة ولم تَصِل إلى درجة الكمال. وقد جاءت الأديان لإنضاج الثمرة غير الناضجة، وإكمال الثمرة الناقصة.

وَعلى المقيمين في الغرب الغارق في الطبيعة الدنيويّة، والغافل -تماماً- عمّا وراء الطبيعة، ألّا يُخدَعوا بهذه المدارس الفكريّة، فيتصوّروا أنّ الإنسان ليس سوى ما يحتاجه مِن الطعام والشراب، وأنّ ما عدا ذلك لا شيء... إنّ ذلك وليد الفَهم الخاطئ للإسلام. لا بدّ مِن وضع‏ كلّ شيء في موضعه؛ أي إنّ للإنسان نموّاً طبيعيّاً إلى الحدّ الممكن، وأنّ له بُعداً طبيعيّاً، بِما هو طبيعيّ وسليم. وهكذا ينمو ويتكامل في الأبعاد المختلفة حتّى يصبح إنساناً متكاملاً. فَمِن الصعب أن يصبح الفرد إنساناً. لا تظنّوا أن الإسلام جاء لِيربّي حيواناً؛ الإسلام يريد أن يربّي الإنسان ليكون كائناً مُتكاملاً يمتلك الأبعاد جميعها.

 

77

 

 


71

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ولدى الإسلام تعليمات لكلّ بُعد من أبعاد الإنسان. ففي الإسلام أحكام للحكومة الإسلاميّة ولمؤسّساتها، ولمواجهة الأعداء، ولتحريك المجتمع من أجل الوصول إلى ما وراء الطبيعة؛ الإسلام يملك كلّ ذلك، فَهو ليس أحاديّ الجانب لِيقول الإنسان إنّني عرفت الإسلام، وعرفت تاريخه، مثلاً، وما كانت عليه حياته البشريّة -على سبيل الفرض- وقوانينه الطبيعية، وأمثال ذلك. ليس الأمر بهذه الصورة. إنّ قضايا الإسلام أسمى من هذه المعاني، وذات أبعاد كثيرة. فَمن يريد أن يعرف الإسلام، عليه أن ينظر جيّداً في القرآن الذي هو المبدأ الأساس، ويلاحظ الأبعاد جميعها الموجودة فيه، وألّا يقول: أنا أقبل الآيات المتعلّقة بالطبيعة والحكومة فقط، أمّا الآيات المتعلّقة بيوم القيامة فَلا أقبلها. ولأنّ هذا الإنسان لا يعلم ما معنى القيامة، وما هو ذلك اليوم الذي سيأتي، يظنّ الأمر وهماً. كلّا، إنّه أمر عينيّ، وعينيّته أكثر من عينيّة هذه الطبيعة، غاية الأمر أنّنا لم نصل إلى ذلك»[1].

بناء على ما ذكره الإمام (قدس سره)، تتّضح الأمور الآتية:

1. الإنسان كائن ذو أبعادٍ مادّيّة (طبيعيّة) وعقليّة وروحيّة.

2. الإسلام يشتمل على الضوابط والقوانين التي تراعي الجوانب كافّة.

3. معرفة الإسلام لا بُدّ من أن تنطلق مِن قضيّة تعدّد الأبعاد، فَلا نقع في فخّ قراءة الإسلام في بُعدٍ واحد.

البعد الأوّل للإنسان هو البُعد المادّيّ الجسمانيّ

يمثّل البُعدُ الإنسانيّ الأوّل البُعدَ الطبيعيّ والمادّيّ، والذي يتمثّل -بشكلٍ أساسيٍّ- بالجسد والمجتمع، لأنّ الإنسان في عالم المادّة مَقهور بِجملة مِن الحاجات البدنيّة التي لا يمكن التغافل عنها، كحاجته الطعام والشراب والزواج وغير ذلك.

 

 


[1] المصدر نفسه، ج4، ص14 - 16.

 

 

78


72

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

من هنا، لا يمكن للبرنامج الذي يطرح نفسه على أنّه برنامج تكامل الإنسان أن يُغفل هذيْن القسمَيْن مِن الحاجات، فَلا رهبانيّة في الإسلام في هذه الجهة، لأنّها نوع من إهمال حاجة قهريّة اضطراريّة.

وقد وَضَع الإسلام قوانينَ تفصيليّة في ما يخصّ بدن الإنسان وتربيته البدنيّة والجسمانيّة، إذ حرّم عليه الكثير من المؤذيات والمفاسد، كلحم الخنزير والميتة وشرب النجس وغير ذلك، وأحلَّ له الطيّبات من الطعام والشراب وغيرهما، حتّى إنّ عدم مراعاة هذه الأمور المحلّلة وحرمان النفس منها قد يؤدّي إلى آفات ومشاكل على مستويات الروح والقلب؛ وبتفصيل آخر: إنّ الإسلام، الذي نظّم البدن بتفاصيل الأمور، لا يقتصر نظره فقط على هذا البُعد، فَالبدن طريق إلى الروح والبُعد الباطنيّ -الذي سنتكلّم عليه لاحقاً-. لذا، لا يمكن فصل تربية البدن عن تربية الروح، وحرمان الإنسان في مستواه البدنيّ من الشهوات المحلّلة، ما ينعكس سلباً على حياته الروحيّة والعقليّة؛ مِن هنا كان البُعد البدنيّ في الإنسان غير مستقلّ عن بقيّة الأبعاد. وقد ذَكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) هذا الأمر، وسمّاه «أدب الرعاية» للبدن، فَقال: «... مِن المهمّات في باب الرياضة الروحيّة والقلبيّة... أدب الرعاية، وكيفيّته أن يراعي السالك حاله، في أيّة مرتبة من الرياضات والمجاهدات العلميّة والنفسانيّة والعمليّة كان، ويتعامل مع نفسه بالرفق والمداراة، فَلا يحمّلها أكثر مِن طاقته وحاله. ورعاية هذا الأدب بالنسبة إلى الشباب وحديثي العهد من المهمّات، فإذا لم يعامل الشباب أنفسهم بالرفق والمداراة، ولم يؤدّوا الحظوظ الطبيعيّة لأنفسهم بمقدار حاجتها من الطرق المحلّلة، فإنّهم يوشكون أن يقعوا في خطر عظيم لا يتيسّر لهم جبره، هو أنّ النفس ربّما تصير -بسبب الضغط عليها، وكفّها عن مشتهياتها أكثر مِن العادة- مطلقة العنان في شهواتها، فَيخرج زمام الاختيار من يَدِ صاحبها. فَإذا تراكمت اقتضاءات الطبيعة، ووقعت نار الشهوة الحارّة تحت ضغط الرياضة الخارجة عن الحدّ، اشتعلت

 

 

79

 

 


73

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

-لا محالة- وأحرقت المملكة كلّها. وإذا صار سالكٌ مطلق العنان أو زاهد بلا اختيار، فإنّه يقع في مهلكة لا يرى وجه النجاة فيها أبداً، ولن يعود إلى طريق السعادة والفلاح. فَعَلى السالك، إذاً، أن يتملّك نفسه في أيّام سلوكه -كطبيب حاذق- ويعاملها بِحسب اقتضاءات الأحوال وأيّام السلوك، ولا يمنع نفسه الطبيعيّة في أيّام اشتعال نار الشهوة وغرور الشباب من حظوظها بالكلّيّة. وعليه -أيضاً- أن يخمد نار الشهوة بالطرق المشروعة، فإنّ في إطفاء الشهوة بِطريق الأمر الإلهيّ إعانة كاملة على سلوك طريق الحقّ، فَلينكح وليتزوّج، فإنّه مِن السنن الكبيرة الإلهيّة، مُضافاً إلى أنّه مبدأ البقاء للنوع الإنسانيّ، وممّا له دور واسع في سلوك طريق الآخرة»[1].

البعد الثاني للإنسان هو البُعد الاجتماعيّ

تحدّثنا في ما تقدّم عن البُعد المادّيّ الفرديّ المسمّى بالبدن. لكنّ الإسلام راعى أيضاً البُعد الاجتماعيّ في الحياة البشريّة، وهو يبدأ مع الإنسان في أُسرته، ثمّ ينتقل إلى المجتمع الكبير.

اهتمّ الإسلام كثيراً بالأُسرة، وعَدَّها المهد الأوّل الذي يتلقّى فيه الإنسان علومه ومعنويّاته ومعرفته؛ لذا وضع القوانين لكيفيّة اختيار الزوج والزوجة، وآداب الولادة قبل مجيء الطفل، وكيفيّة العناية بالطفل حتّى يكبر وينشأ ويشتدّ عوده. واللافت أنّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) -في كثير من كلماته- كان يكرّر هذه القضيّة، إذ يقول: «فالأديان تهتمّ بأبعاد الإنسان‏ جميعها، حتّى قبل ولادته. فَهي تبيّن كيف ينبغي أن يكون الزواج، وما هي شرائطه، وأيّة امرأة يجب أن يختارها الرجل، أو أيّ رجل يجب أن تختار المرأة. وذلك لأنّ الزواج مزرعة لظهور إنسان آخر. فَقَبل أن يقع الزواج، يوضّح الإسلام الأمور التي ترتبط بولادة هذا الطفل، بحيث يكون سليم الجسم والنفس، فَيهتمّ بأمور ما قبل

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، الآداب المعنويّة للصلاة، مصدر سابق، ص58 - 59.

 

 

80

 


74

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الزواج، كشرائطه. ثمّ بعد ذلك في فترة الحمل، وحتّى قبل الحمل -أي عندما يُراد التلقيح-؛ بأيّة شرائط ينبغي أن يكون؟ وما هي أحكامه؟ وعندما يكون الطفل جنيناً؛ ما الأشياء الجيّدة التي ينبغي على الأمّ تناولها؟ وما الأشياء التي ينبغي عليها اجتنابها؟ كيف ينبغي أن تكون حياتها أثناء الحمل؟ وما هي الأمور التي عليها مراعاتها؟ ثمّ بعد أن يولد الطفل؛ ما هي الشرائط التي تجب ملاحظتها في المرضعة -في ما إذا أرادوا اتّخاذ مرضعة له-؟ وكيف ترضعه؟ في أيّة أوقات؟ بأيّة شرائط؟ وعندما يكون في حضن الأمّ؛ كيف تتعامل الأمّ معه؟ وبعد أن يخرج عن حضانتها؛ كيف للأب أن يتعامل معه؟ كيف ينبغي أن تكون أجواء الأُسرة في سبيل تربية هذا الطفل؟ ثمّ كيف ينبغي أن يكون المعلِّم؟»[1].

أمّا اجتماعيّاً، قدّم الإسلام اهتمامه وقوانينه بالقيم الاجتماعيّة، مِن قبيل العدالة الاجتماعيّة والحرّيّة اللتَيْن ذكرناهما في الفصل الأوّل. ومِن أهمّ الأفكار التي بَلوَرَها الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا المجال «مبدأ الحكومة»، إذ يرى (قدس سره) أنّ تربية المجتمع وإصلاحه لا يكون بمجرّد الوعظ والإرشاد، بل لا بدّ مِن وضعه ككلّ على سكّة الإصلاح تنفيذيّاً، وذلك لا يكون إلّا بالحكومة وِفاقاً لإرادة الله تعالى. مِن هنا، كان الإسلام متطابقاً مع البُعد الاجتماعيّ في الإنسان، ومراعياً له، عبر الاهتمام بالحاكم والدولة والمجتمع؛ «إنّ الأنبياء والعلماء كانوا يتصدّون لحكومات الجور منذ بدء التاريخ البشريّ حتّى الآن. أفلم يكونوا يعقلون؟ وحين بَعث الله سبحانه وتعالى موسى (عليه السلام) للقضاء على فرعون، ألم يكن سبحانه وتعالى مدركاً للقضيّة كإدراكنا لها، أنا وأنتم، أم إنّ عليه ألّا يعارض الملك؟

ينقل الطبريّ وابن الأثير رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّه قال إنّ مِن أبغض الكلمات إليّ كلمة «مَلِك الملوك»؛ أي إنّها مِن الكلمات المبغوضة، إنْ هي نُسبت إلى شخص مِن البشر، لأنّها لله تعالى وحده.

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج7، ص218 - 219.

 

81


75

المقدّمة

إنّ الأنبياء (عليهم السلام)، منذ القدم، وصولاً إلى نبوّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثمّ الأئمّة (عليهم السلام)، كانوا جميعهم يواجهون الظلم. حتّى أثناء وجودهم في السجن، كانوا يواجهون الظلم. فموسى بن جعفر (عليه السلام) لم يترك مسؤوليّته في المواجهة، حتّى عندما كان يرزح في السجن. وكذلك أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، كان يقف في وجه الظالمين، على الرغم من التقيّة الكذائيّة والكذائيّة، إذ تفيد الرواية أنّه كان يتصدّى لهم بالكلام، ويمارس التبليغ، ويحرّك الناس لِمعارضتهم.

وإذا تعمّقنا في النظر، نرى أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) تصدّى لمعاوية -الذي كان حاكماً في زمنه- على الرغم من أنّ جميعهم بايعوا ذلك التافه، وكانوا يخشون سلطانه. إلّا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) وقف ضدّه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إلى الوقت الذي حالت فيه مجموعة من البسطاء بينه وبين مواصلة دوره في المواجهة، فَقَبِلَ، في ظلّ تلك الظروف، بالصلح مع معاوية. وأثناء فترة الصلح، لم يدّخر وسعاً في فضحه، بل إنّ ما عرّضه له من الخزي والعار لا يقلّ عمّا عرّضه الإمام الحسين (عليه السلام) لِيزيد»[1].

البُعد الثالث للإنسان هو البُعد الروحيّ

يمثّل البُعد الروحيّ في الإنسان أحد أهمّ الأبعاد التي لا بدّ مِن تقويتها وإخراجها مِن حال الكمون إلى الفعليّة، لأنّ الإنسان كائن يعيش بالحياة القلبيّة -التي مركزها القلب- لا البدنيّة فقط، وهي تتجلّى في اكتساب الملكات المعنويّة والأخلاقيّة والقيميّة؛ يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «الشي‏ء الذي يجب أن أقوله لهؤلاء الأبناء الأعزّاء إنّ الإنسان إنسان بروحه، إنسان بِبَصيرته. نحن كلّنا شركاء الحيوان في السمع والبصر واليَد والرِجل، ولكنْ‏ ليس هذا مناط الإنسانيّة، فَما يرفع الإنسان عن الموجودات الطبيعيّة جميعها هو قلبه وبصيرته.

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج2، ص345.

 

82


76

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

كونوا أُولي بصيرة، فَمِن غيرها لا يكون أحدٌ إنساناً. فَأبو جهل كان ذا عين، لكنّه لم يكن إنساناً، فيما كان أحد الأنبياء (عليهم السلام) بِلا عين. فَميزان الإنسانيّة هو المعنويّة. كونوا إنساناً بمحتواكم، وأَوْجِدوا الإنسانيّة في نفوسكم، ثمّ لا خوف مِن ألّا يكون للإنسان يَدٌ أو رِجل ونحوها. فَفي روايةٍ أنّ أحد الأنبياء (عليهم السلام) كان يفقِد جارحة، إذ لم يكن له يَد ولا رِجل -لا أذكر الآن مَن هو-؛ كان نَبيّاً غير مُرسَلٍ طبعاً، لكنّه نبيّ. وكثير مِن العلماء والنابغين لم يكونوا مُبصرين، وفي زماننا أيضاً لَقينا مَن كانوا مِن العلماء النابغين أُولي المعارف الكثيرة الواسعة؛ كانوا بَشراً، وَهُم غير مُبصرين. فَلا تقلقوا ألّا تكون لكم حاسَّة ما. قَوُّوا معنويّاتكم بِحَول الله، واصقلوا روحيّاتكم»[1].

ولقد سعى الأنبياء (عليهم السلام)، عن طريق حركتهم وجهادهم، إلى إيصال الإنسان إلى أوج المعنويّات والروحانيّات، والتي تمثّل أحد أهمّ أبعاد وصوله إلى العبوديّة، التي هي الهدف -كما ذكرنا سابقاً-؛ لذا «يمكننا أن نسمّي الأنبياء (عليهم السلام) معلّمين، والبشر طُلّاباً. فالأنبياء، وعن طريق الدعوة إلى الله، يَسعَون إلى هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

بناء على ما ذكرناه، فإنّنا لا يمكن أن نحصر كلمة «معلِّم» في المعلِّمين في الجامعات والمدارس، وكذلك كلمة «طالب»، لأنّ العالم أجمع جامعة كبيرة. إذاً، يمكننا أن نصنّف الأفراد إلى فئتَيْن؛ مُعلِّمين ومُتعلِّمين. فَالأولى تهدي المجتمع وتعمل على تربيته وتعليمه، والثانية عليها الانطلاق نحو مناهل العلم والتربية.

الإنسان مخيَّر بين السير في طريق الله أو طريق الطاغوت، فَهُما طريقان لا ثالث لهما. إنّ السير في طريق الله يعني الالتزام بأوامره، وانعكاس ذلك يكون على جوانب المجتمع كافّة مِن اقتصاد وسياسة وثقافة، فَهو يدعو إلى الفضائل بِتمام أبعاد الإنسان‏؛ العقلانيّة

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج8، ص345 - 346.

 

83


77

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

والخياليّة المتوسّطة والمتنزّلة (أي العمل). وَلَو سلك الإنسان هذا الطريق، لَتَحوَّل إلى إنسان إلهيّ بِأفكاره وأعماله. ولكنّ تَرْك الطريق القويم، والانحراف عن النهج الإلهيّ الصحيح، يعني السير في طريق الطاغوت. ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[1]؛ الظلمات تعني عدم الالتفات إلى اللّه عزّ وجلّ والنور هو نور الله المطلق الذي يضي‏ء قلوب المؤمنين كلّهم. ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ﴾[2]؛ أي ساروا في طريق الطاغوت المظلم. إذاً، ثمّة طريقان؛ إمّا الإيمان والتوجّه إلى الله الذي يهدي الإنسان ويهذّبه ويجعل منه مخلوقاً ذا صفات إلهيّة، وإمّا الكفر، وهو الطاغوت، ومَن يسلك هذه الطريق مأواه جهنّم وبئس المصير.

إنّ الحروب التي تشنّها القوى الاستكباريّة تحمل صفة شيطانيّة وطاغوتيّة، بينما كانت الحروب التي قادها الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء والمؤمنون حُروباً توحيديّة تهدف إلى تأديب الإنسان وتحريره مِن جهالته وعناده، وهي حروب إلهيّة بمعنى الكلمة كلّه»[3].

البُعد الرابع للإنسان هو البُعد العقليّ

البُعد الرابع الذي يركّز عليه الإمام الخمينيّ (قدس سره) في كلماته هو بُعد العقل. وينبغي الالتفات إلى أنّ للعقل اصطلاحات كثيرة، بِحسب العلوم المختلفة، لكنّنا إذا رجعنا إلى كلام الإمام (قدس سره)، نجده يريد بالعقل أحدَ أبعاد الإنسان؛ أي القوّة التي لها شعبتان: نظريّة وعمليّة.

إنّ التركيز على الجهة النظريّة من دون العمليّة نقص في العقل، والعكس صحيح. وعليه، فإنّ كمال العقل الإنسانيّ يتمّ بالمعرفة الصحيحة التي بها يستكمل جنبته النظريّة، وبالعمل الصالح،

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2] سورة البقرة، الآية 257.

[3]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص133.

 

84


78

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وبالسير بِحسب ما تقتضيه المعرفة. وللعمل جانب خارجيّ متعلّق باليَد والعَين واللسان وغيرها مِن الجوارح، وجانب داخليّ متعلّق بِعمل القلب، الذي يمكن أن نُسمّيه «الإيمان وتهذيب النفس».

لِذا، يوصي الإمام الخمينيّ (قدس سره) ابنه -في بعض وصاياه الأخلاقيّة- بِعدم إهمال جانب تهذيب النفس والعمل الصالح، فَيقول: «عليكَ أن تعلم أنّ الإيمان بِوحدة الله ووحدة المعبود ووحدة المؤثّر لم يبلغ قلبك كما ينبغي. فَحاول إيصال كلمة التوحيد -التي هي أكبر كلمة وأسمى جملة- مِن عقلك‏ إلى قلبك، فإنّ حظّ العقل‏ هو الاعتقاد البرهانيّ الجازم. فإنْ حَصل هذا البرهان، ولم يُنقل إلى القلب بالمجاهدة والتلقين، سَيكون أثره ضئيلاً. وكم وَقع بعض أصحاب البراهين العقليّة والاستدلالات الفلسفيّة في شرك إبليس والنفس الخبيثة أكثر من غيرهم! إنّ لأصحاب الاستدلال أرجُلاً خشبيّة. وَهذه الخطوة البرهانيّة العقليّة تتحوّل إلى خطوة روحانيّة إيمانيّة، عندما تبلغ مقام القلب مِن أُفق العقل، حتّى يُصدّق القلب ما أثبته الاستدلال عقليّاً»[1].

إذاً، إنّ طغيان الشهوة والغضب على وجود الإنسان مُناقض للعقل. فَلا يمكن أن تجتمع الشهوة المسيطرة على النفس الإنسانيّة مع حرّيّة الفكر والعقل، لأنّ العقل سيكون عاجزاً عن العمل بِحسب ما تقتضيه المعرفة الصحيحة؛ بعبارة أخرى: إنّ العقل لا يكون بالمعرفة فقط، بل بالمعرفة والعمل الجوارحيّ والقلبيّ، فما يَحول دون العمل والإيمان -وإنْ حضر العلم والمعرفة- هو في الحقيقة خادم للجهل والجهالة، فَيناقض العقل؛ «نُقل لي أنّ المرحوم آية الله المدرّس -رحمة الله عليه- قال: إنّ الشيخ الرئيس أبو علي سينا قال يوماً: إنّني أخاف مِن البقرة، لأنّها تملك قرناً، ولا عقل لها. وهذه نقطة تستحقّ الاهتمام. حتّى لو افترضنا أنّ الشيخ لم يقُل ذلك، لكنّ المسألة لافتة للنظر؛ فالبقرة لها قرون ولكنْ لا عقل لها، وتمتلك القدرة لكنّها لا تمتلك

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج18، ص408.

 

 

85


79

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وبالسير بِحسب ما تقتضيه المعرفة. وللعمل جانب خارجيّ متعلّق باليَد والعَين واللسان وغيرها مِن الجوارح، وجانب داخليّ متعلّق بِعمل القلب، الذي يمكن أن نُسمّيه «الإيمان وتهذيب النفس».

لِذا، يوصي الإمام الخمينيّ (قدس سره) ابنه -في بعض وصاياه الأخلاقيّة- بِعدم إهمال جانب تهذيب النفس والعمل الصالح، فَيقول: «عليكَ أن تعلم أنّ الإيمان بِوحدة الله ووحدة المعبود ووحدة المؤثّر لم يبلغ قلبك كما ينبغي. فَحاول إيصال كلمة التوحيد -التي هي أكبر كلمة وأسمى جملة- مِن عقلك‏ إلى قلبك، فإنّ حظّ العقل‏ هو الاعتقاد البرهانيّ الجازم. فإنْ حَصل هذا البرهان، ولم يُنقل إلى القلب بالمجاهدة والتلقين، سَيكون أثره ضئيلاً. وكم وَقع بعض أصحاب البراهين العقليّة والاستدلالات الفلسفيّة في شرك إبليس والنفس الخبيثة أكثر من غيرهم! إنّ لأصحاب الاستدلال أرجُلاً خشبيّة. وَهذه الخطوة البرهانيّة العقليّة تتحوّل إلى خطوة روحانيّة إيمانيّة، عندما تبلغ مقام القلب مِن أُفق العقل، حتّى يُصدّق القلب ما أثبته الاستدلال عقليّاً»[1].

إذاً، إنّ طغيان الشهوة والغضب على وجود الإنسان مُناقض للعقل. فَلا يمكن أن تجتمع الشهوة المسيطرة على النفس الإنسانيّة مع حرّيّة الفكر والعقل، لأنّ العقل سيكون عاجزاً عن العمل بِحسب ما تقتضيه المعرفة الصحيحة؛ بعبارة أخرى: إنّ العقل لا يكون بالمعرفة فقط، بل بالمعرفة والعمل الجوارحيّ والقلبيّ، فما يَحول دون العمل والإيمان -وإنْ حضر العلم والمعرفة- هو في الحقيقة خادم للجهل والجهالة، فَيناقض العقل؛ «نُقل لي أنّ المرحوم آية الله المدرّس -رحمة الله عليه- قال: إنّ الشيخ الرئيس أبو علي سينا قال يوماً: إنّني أخاف مِن البقرة، لأنّها تملك قرناً، ولا عقل لها. وهذه نقطة تستحقّ الاهتمام. حتّى لو افترضنا أنّ الشيخ لم يقُل ذلك، لكنّ المسألة لافتة للنظر؛ فالبقرة لها قرون ولكنْ لا عقل لها، وتمتلك القدرة لكنّها لا تمتلك

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج18، ص408.

 

 

85


79

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

عقلاً. وهذه القوى المتجبّرة التي تنشر الفساد في العالم -في الوقت الحاضر- هي مِن صنف مثالنا هذا نفسه، إذ إنّها تمتلك قروناً ولكنْ لا عقل لها، وتمتلك القوّة لكنّها بعيدة عن الإنسانيّة. أنتم تشاهدون بأعينكم ما تفعله أمريكا في العالم، وما يفعله الاتّحاد السوفييتيّ في الجانب الآخر. لقد شاء الله أن تتنافس هاتان القوّتان في ما بينهما، وتصارع إحداهما الأخرى، فَلَو تفرّدت إحداهما بالعالم، فإنّها سوف تبتلعه بأَسره. كِلاهما مقتدرتان، وتقفان في‏ مقابل بعضهما؛ تلك القوّة تخاف مِن هذه، وهذه مِن تلك. وَلَو لم يكن هناك خوف بينهما، فإنّهما ستلتهمان العالم بِرُمَّته. وليس صحيحاً ما تدَّعيان، مِن أنّهما تريدان فِعل كذا وكذا مِن أجل نشر السلام في العالم. فَقد شاهدنا كيف جاء هؤلاء إلى بيروت، بِحُجّة أنّهم يريدون أن يَعمّ السلام والأمن في لبنان. ونحن نقول لهم: أنتم لستُم دعاة للسلام، وحتّى لَو افترضنا كونكم كذلك، فَما الداعي لِمَجيئكم وتدخُّلكم في دول أخرى؟ إنّ الأنظمة الحاكمة في بعض بلدان المنطقة ليست وطنيّة، ولا يوجد أيّ ارتباط بينها وبين شعوبها. فإذا كنتم بشراً تحملون صفات الإنسان، وكان فيكم شيء مِن الإنسانيّة والمعايير الأخلاقيّة، لَراعيتم حال المحتاجين والشعوب الضعيفة والبائسة. وَليس مقبولاً أن تدخلوا بلداً فُرضَت عليه حكومة غير منبثقة مِن الشعب بِحجّة أنّكم تريدون تدعيم ركائز هذه الحكومة. إنّ ذلك كلّه سببه أنّ هؤلاء لا يتحلّون بأيّة مبادئ أخلاقيّة، بل إنّهم بعيدون عن الإنسانيّة، وهمّهم كلّه التسلّط وفَرض إرادتهم على الآخرين. فَهُم يمتلكون القوّة، ولكنْ لا عقل لهم. وتلاحظون أنّ أيّ مكان في العالم يتسلّل إليه الفساد، يكون الحاكم فيه مَن يمتلك القوّة والسلطة، لا مَن يمتلك العقل. سَيُمسك هذا بِزمام الأمور، لكنّه عديم الإنسانيّة؛ فَالعقل الذي أقصده هو ذلك الذي «ما عُبِدَ به الرحمن»، وإلّا، فإنّ هؤلاء يمتلكون الحيل الشيطانيّة والتدبير، لكنّهم لا يمتلكون العقل‏ السليم الذي يمكن أن يَصل بالإنسان إلى القيم الإنسانيّة السامية. فَمُجرّد العِلم بأحد المعاني لا

 

86

 

 

 


80

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ينفع، إذ إنّ مِن الممكن أن يكون أحد الأشخاص عالِماً كبيراً، إلّا أنّه يفتقد العقل‏، فَنراه يستخدم عِلمه في نشر الفساد وإفساد الشعوب وقَتْلهم بعد التعذيب»[1].

«ومِن جملة الأشياء التي تُخدِّر عقول الشباب الغِناء. فَعندما يتعرَّض عقل‏ الشاب للغِناء طوال الوقت، فإنّه يصبح غير العقل‏ الطبيعيّ الذي يجب أن يفكّر في الأمور بِجدّيّة، ويبدأ بِتوجيه صاحبه إلى أمور أخرى. هذه الوسائل التي أعدّوها كلّها -وعددها ما شاء الله، وَبعضها لا يزال موجوداً- كانت مِن أجل إبعاد الناس عن التحكُّم بمقدّراتهم، وإلهائهم بِأمور أخرى، كي يتسنّى لهم تحقيق مطامعهم. وذلك كلّه كان قد تمّ التخطيط له بِدقّة -ولم يأتِ اعتباطاً- مِن أجل جَرّ الشباب إلى الفساد والرذيلة»[2].

«عندما يتّجه شبابنا -الذين هُم أساس البلاد وعِمادها- إلى طريق الفحشاء والملذّات والمخدّرات والمجلّات الساقطة والبرامج التلفزيونيّة الهابطة، فإنّه لن يبقى لديهم وقت‏ يفكّرون فيه أو عقل يستفيدون منه.

إنّ الغناء مِن الأمور التي يتلذّذ بها كلّ إنسان بِحسب طَبْعه، ولكنّه -على كلّ حال- يُخرِج الإنسان مِن الجدّيّة في العمل إلى الهزليّة واللامبالاة. فَالشابّ الذي اعتاد أن يقضي يومه مُستمعاً إلى الغناء -عبر الإذاعة والتلفزيون- مِن دون أن يُعير مسائل الحياة اليوميّة أيّة أهمّيّة، سَيَعتاد التعاملَ مع الأمور بِلامبالاة، وسيصبح غافلاً عن أمور الحياة الجادّة، شأنه في ذلك شأن مَن يتعاطى المخدّرات تماماً؛ فالذين يتعاطون المخدّرات لا يمكنهم أن يكونوا جادّين، ولا يمكنهم التفكير في المسائل السياسيّة. فالغناء يجعل عقل‏ الإنسان عاجزاً عن التفكير بِغَير الشهوات الحيوانيّة. لذا، أَصرّوا على أن تكون الإذاعة والتلفزيون

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج18، ص177 - 178.

[2]  المصدر نفسه، ج9، ص154.

 

87


81

الفصل الأوّل: معالم الفكر الدينيّ والشخصيّة الإنسانيّة عند الإمام الخمينيّ (قدس سره)

والصحافة والمجلّات ودُور السينما والمسرح على هذا النحو، حتّى تجتمع هذه الأمور مع بعضها، فَتؤدّي إلى حَرْف اهتمامات أبناء الشعب، مِن الأمور الحيويّة إلى أمور فرعيّة لا ترتبط بحياتهم، ثمّ يَنصرفون هُم إلى نهب ثروات البلاد»[1].

«تستطيع العقول أن تعمل في الجوّ الهادئ، ولكنْ متى دَخل الغضب في العمل، وَقَف العقلُ جانباً. فالقوّة الغضبيّة تُبعد القوّة العاقلة، حتّى يتكلّم الشخص من دون عقل‏. فالقاضي، مثلاً، لا يجب أن يُصدر الحكم في حال الغضب، لأنّ إصدار الحكم في حال الغضب لا يصدر من منشأ عقليّ وشرعيّ. ومِن مثل هذه المسائل الكثير. فَافرضوا أنّ شخصاً لديه انتقاد -ولا مانع مِن طرح الانتقادات، شريطة عدم الإساءة إلى شخص أو مجموعة ما بهدف إقصائهم من الساحة؛ فالنقد مِن أجل البناء وإصلاح الأمور ضروريّ، وَيجب أن يكون في كلّ مجلس مِثل هذه الانتقادات- فإنّ انتقاداته في جوٍّ هادئ ونظرة صحيحة، وَمِن دون غضب، ستُعطي نتيجة؛ فيكون -بذلك- المنطق في مُقابل المنطق. ولَو أردتُم، مثلاً، حلّ مسألةٍ بالصراخ والضجّة والغوغاء، إذ يظنّ كلّ شخص -مِن وجهة نظره- أنّ الطرف المقابل يهاجمه كعدوٍّ له، فَسَتذهب العقول جانباً، وَإنْ لم تُضبَط القوّة الغضبيّة -وهي أسوأ القوى- حينها، فَإنّ المسألة لَن تُحَلّ، بل ستتعقّد أكثر»[2].

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص155.

[2]  المصدر نفسه، ج14، ص288 - 289.

 

88


82

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تكلّمنا على الرؤية النظريّة للإمام الخمينيّ (قدس سره) مِن جهة المنظومة المتكاملة التي قدَّمَها، ومِن جهة رؤيته للإنسان الذي ينبغي أن يكون ترجمان هذه المنظومة. وفي هذا الفصلِ نتكلَّم على رؤيته (قدس سره) إلى شرائح المجتمع المختلفة، بِحسب التسلسل المنطقيّ؛ فَبَعد أن بَيّنّا كيف يرى الإمام الخمينيّ (قدس سره) العالم والقيم وسائر أبعاد المنظومة الفكريّة، وبعد أن بَيّنّا أبعاد الإنسان بما هو إنسان، لا بدّ مِن الكلام على كلّ شخص بِعَينِه، مِن حيث هو مُنتمٍ إلى شريحة مِن شرائح المجتمع. فَما موقع الجامعيّ في تطبيق المنظومة الفكريّة؟ وما موقع طالب العلوم الدينيّة؟

سنتكلّم، إذاً، على الفئات الاجتماعيّة الآتية:

1. طلبة العلوم الدينيّة

2. الجامعة والجامعيّين

3. المعلّمين

4. الإعلاميّين

5. الرياضيّين

6. المرأة

7. الشباب

 

91


83

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الأوّل: الحوزة العلميّة

إنّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) هو أحد المراجع العِظام في الحوزة العلميّة، ويعدّها من المؤسّسات المهمّة في الحفاظ على الإسلام حيّاً في الميادين المختلفة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة وغيرها. لذا، دَأَب -طوال عمره الشريف- على الحفاظ عليها وتنبيه الطَلَبة فيها إلى وظائفهم. واللافت أنّه في أواخر عمره وَجَّه بياناً -عُرف بِبَيان علماء الدين- وَضع فيه أهمّ رُؤاه حول هذه المؤسّسة العريقة وطَلَبة العِلم فيها، يمكن تقسيمها إلى عناوين عديدة.

وحاصِل ما ذَكره الإمام الخمينيّ (قدس سره) يندرج تحت أربعة محاور:

أوّلاً، أُنشِئَت الحوزة -بشكلٍ أساسيّ- لحفظ الدِين على مستويات عديدة، على رأسها حِفظ التراث الدينيّ من النواحي العقديّة والقيميّة والفقهيّة؛ لذا سَعى العلماء -منذ فجر تأسيس الحوزة- في بَيان المنهج السليم للفقاهة واستنباط الأحكام الشرعيّة، وفي مواجهة الانحرافات على المستوَيَيْن العقائديّ والقِيَميّ. وَقَد وُجدت الكثير مِن الفتاوى والأحكام التي كانت مُنطلقة مِن حرص الفقهاء على صيانة الدِين الحنيف مِن أيّ تَصدّع أو انحراف.

ثانياً، كانت الحوزة العلميّة وفئة طلبة العلوم الدينيّة مِن ضمن الأهداف التي سعى الاستعمار والأعداء إلى مواجهتها والحطّ مِن قَدرها، عَبر الترهيب تارةً، والترغيب -بِإدخال بعض المفاهيم التي لا تمتّ إلى الدِين بِصِلة ضمن دائرة الحوزة- أخرى؛ أي إنّهم، بعد أن يَئِسوا من إزالة كيان الحوزة، سعوا إلى خرابها داخليّاً، فَكان مِن أهمّ ما خطّطوا له إدخال بعض المفاهيم غير الأصيلة، مِن قبيل عدم شأنيّة عالم الدين بالسياسة والمجتمع، وَفَصْل الدِين عن السياسة، إلى أذهان بعض طَلَبة العِلم في بعض العصور.

ثالثاً، ذَكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)، في جملة توصياته للحفاظ على

 

92

 

 


84

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الحوزة، أنّه يجب عليها التوحُّد، والابتعاد عن التحزُّبات الفئويّة، وتَرك الاختلافات التي تَؤول إلى تشتيت أمر هذه المؤسّسة العلميّة؛ لِما للتفرِقة من تحقيقٍ لأحلام أعداء الدِين وحَطٍّ لِقيمة هذه الحوزة التي تمثّل رافداً أساسيّاً للمجتمع والنظام الإسلاميّ.

رابعاً، حَذّر الإمام الخمينيّ (قدس سره) مِن تأثير بعض تيّارات الحداثة التي تدّعي التجديد على أصالة الحوزة العلميّة والفقاهة. لذا، شدّد كثيراً على ضرورة التمسُّك بمنهج الفقهاء التقليديّ الذي قام على أُسس علميّة متينة؛ وهذا أمرٌ لا علاقة له بالتخلُّف أو البقاء في أَسر التاريخ، بل إنّ التجديد أمرٌ لازم وضروريّ، ولكنْ لا بدّ مِن أن يكون مبنيّاً على أصول منهجيّة رصينة.

وفي ما يأتي، ننقل كلام الإمام الخمينيّ (قدس سره) على هذه الأركان الأربعة التي تمثّل رؤيته حول شريحة طَلَبة العلوم الدينيّة والحوزة العلميّة.

 

93

 


85

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تاريخ الحوزة في نشر الدِين الإسلاميّ ومواجهة الانحرافات

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «لا شكّ في أنّ الحوزات العلميّة والعلماء الملتزمين كانوا -على مرّ تاريخ الإسلام والتشيُّع- أهمّ قاعدة إسلاميّة محكَمة في وجه الحملات والانحرافات والسلوك المتطرّف. فَقد سعى علماء الإسلام الكبار -طِوال عمرهم- إلى نشر مسائل الحلال والحرام الإلهيَّيْن من دون تدخُّل أو تصرُّف. وَلَو لم يكن الفقهاء الأعزّاء، لَما كان معلوماً أيّة علوم سَتُقدَّم اليوم إلى الناس بِوَصفها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام). إنّ جَمعَ علومِ القرآن والإسلام وسُنّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسيرته وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وحِفظها وتدوينها وتبويبها وتنقيحها لم يكن عملاً سهلاً، في ظروف كانت الإمكانيّات قليلة جدّاً بالمقارنة مع تلك التي سَخّرها السلاطين والظالمون في سبيل مَحْو آثار الرسالة. ونرى اليوم -ولله الحمد- ثمرة تلك الجهود في آثار ومؤلّفات مباركة، كالكتب الأربعة[1] والمصنّفات الأخرى للمتقدّمين والمتأخّرين في الفقه والفلسفة والرياضيّات والنجوم والأصول والكلام والحديث وعلم الرجال والتفسير والأدب والعرفان واللغة وفروع المعرفة جميعها. فإذا لم نُسَمِّ هذه الجهود والمعاناة كلّها جهاداً في سبيل الله، فماذا ينبغي أن نسمّيه؟ إنّ ثمّة حديثاً طويلاً عن الخدمات العلميّة الفذّة للحوزات الدينيّة، لا يتّسع المجال هنا لِذكره. فالحوزات العلميّة، من حيث المصادر وأساليب البحث والاجتهاد، غنيّة وحافلة بالإبداع، ولا أتصوّر وجود طريقة أنسب من نهج علماء السلف في دراسة العلوم الإسلاميّة بأسلوب مُعمّق. إنّ تاريخ أكثر من ألف عامٍ من البحث والتحقيق والتتبُّع لعلماء الإسلام الصادقين، على طريق رعاية غرسة الإسلام المقدّسة ونموّها، خير شاهد على ادّعائنا؛ فعلى مدى مئات الأعوام، كان علماء الإسلام ملاذ المحرومين، وكان المستضعفون يرتوون من كوثر زلال معرفة

 

 


[1]  كتب الأحاديث الفقهيّة الشهيرة الأربعة: «التهذيب» و«الاستبصار» للشيخ الطوسيّ، و«من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، و«الكافي» للكلينيّ.

 

94


86

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الفقهاء العظام على الدوام. وإذا ما تجاوزنا جهادهم العلميّ والثقافيّ الذي يُعَدُّ -بِحَقٍّ- أفضل من دماء الشهداء[1] في بعض الأبعاد، فإنّهم، ومن أجل الدفاع عن مقدّساتهم الدينيّة والوطنيّة، عانوا الكثير على مرّ العصور. وفوق تحمّلهم الأَسر والنفي والسجون والتعذيب والإساءة، قدَّموا شهداء عظاماً على طريق الحقّ تعالى... إنّ شهداء علماء الدِين لم ينحصروا في شهداء النضال والحرب في إيران، بل إنّ الكثير من الشهداء المجهولين للحوزات العلميّة فَقَدوا حياتهم غرباء في طريق نشر المعارف والأحكام الإلهيّة على يد العملاء والخبثاء. وفي كلّ نهضة وثورة إلهيّة وشعبيّة، كان علماء الإسلام يقفون في طليعة المواجهة، وَقَد خُطَّ على جباههم الدم والشهادة. فأيّة ثورة شعبيّة إسلاميّة لم يَقف فيها رجال الحوزة وعلماء الدين في طليعة الشهداء، ولم يُعلَّقوا فيها على المشانق، ولم تتوسّد فيها أجسادهم الطاهرة مَذبح الشهادة في‏ خِضّم الأحداث الدامية؟ مَنْ هم شهداء انتفاضة الخامس عشر مِن خرداد، وما سَبقها مِن أحداث، وما تلاها؟ ومِن أيّة فئة كانوا؟ نَحمد الله تعالى على أنّ الدماء الطاهرة لشهداء الحوزة العلميّة وعلماء الدين فتحت أُفق الفقاهة، مِن جدران المدرسة الفيضيّة إلى الزنازين الانفراديّة المرعبة لِنظام الشاه، وَمِن الزقاق والشارع إلى المسجد ومحراب إمامة الجمعة والجماعة، وَمِن موقع العمل والخدمة إلى الخطوط الأماميّة لجبهات القتال وحقول الألغام. وَمَع انتهاء الحرب المفروضة -التي تبعث على الفخر- كان عدد شهداء الحوزات العلميّة ومُعوَّقيها ومفقوديها يزيد على عدد الفئات الأخرى. فَقد استشهد في الحرب المفروضة أكثر مِن ألفَيْن وخمسمئة طالب مِن طلبة العلوم الدينيّة في مختلف أنحاء إيران. ومِثل هذا العدد يشير إلى مدى استعداد علماء الدين للدفاع عن الإسلام والبلد الإسلاميّ في إيران.

 

 


[1]  راجع: الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه‏، مصدر سابق، ج‏4، ص399.

 

95


87

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فَكانت الوسائل -مِن قبيل الراديو والتلفاز- بالنسبة إليهم مُقدّمة لِنفوذ الاستعمار؛ لذا كانوا يفتون -أحياناً- بتحريم الاستفادة منها. أفَلَم يكن الراديو والتلفزيون في بلدان مثل إيران وَسيلة لجلب‏ الثقافة الغربيّة؟ ألم يَستفِد النظام البائد مِن الراديو والتلفزيون في تجريد المعتقدات الدينيّة مِن صدقيّتها، والإساءة إلى العادات والتقاليد الوطنيّة والقوميّة؟

على أيّة حال، إنّ خصائص كثيرة، كالقناعة والشجاعة والصبر والزهد وطلب العلم وعدم التبعيّة للقوى الكبرى، والأهمّ مِن ذلك كلّه الشعور بالمسؤوليّة أمام الشعوب، صَنعت مِن الروحانيّة كياناً حيّاً ثابتاً ومحبوباً. فأيّة عزّة أسمى مِن ثورة علماء الدين مع قلّة الإمكانيّات؟ وهي التي غرست بذور الفكر الإسلاميّ الأصيل في التربة الخصبة لأفكار المسلمين واهتماماتهم، إلى أن أينعَت غرسة الفقاهة المقدّسة في رياض حياة آلاف الباحثين ومعنويّاتهم. وَمَع هذا المجد كلّه والعَظمة والنفوذ، أَليس من السذاجة أن يتصوَّر بعضهم عدم ملاحقة الاستعمار لِعلماء الدين؟

إنّ كتاب «آيات شيطانيّة»[1] عملٌ مدروس، هدفه استئصال جذور الدين والتديُّن، وفي طليعتها الإسلام وعلماؤه. فَمِمّا لا شكّ فيه أنّه لو كان بِوسع الناهبين الدوليّين أن يعملوا على اجتثاث جذور علماء الدين وأسمائهم لَعمِلوا، ولكنّ الله تعالى كان دائماً حافظاً وحارساً لهذا المشعل المقدّس، وسيستمرّ ذلك بِعَونه تعالى شرطَ أن نَعي حِيَل الناهبين الدوليّين ومكرهم وخداعهم»[2].

فصل الدين عن السياسة مِن خطط الأعداء ضدّ الحوزة العلميّة

«إنّ الاستكبار العالميّ، وبعدما يئسَ مِن القضاء على علماء الدين وتدمير كيان الحوزات العلميّة، لجأ -في عصرنا الحاضر- إلى أسلوبَيْن

 

 


[1]  لمؤلّفه المرتدّ سلمان رشديّ.

[2] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج21، ص251 - 253.

 

97


88

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لِتنفيذ مخطّطه؛ الأوّل أسلوب القوّة والإرهاب، والثاني أسلوب الخداع والتضليل. ولَمّا فشلت حَربة الإرهاب والتهديد في تحقيق أهدافه، سَعى إلى أسلوب الخداع والتضليل وتقوية نفوذه في الأوساط الدينيّة. ولعلّ مِن أُولى تحرّكاته وأهمّها الترويج لِشِعار الفصل بين الدِين والسياسة. ومع الأسف، استطاعت هذه الحربة أن تترك تأثيرها -إلى حدٍّ ما- في الحوزات العلميّة، وفي أوساط الروحانيّين، إلى درجة أصبح التدخُّل في السياسة أمرٌ لا شأن للفقيه به، بل أصبح الخَوض في معترك السياسة مَقروناً بِتهمة التبعيّة للأجانب. وَلا شكّ في أنّ علماء الدين المجاهدين تضرّروا كثيراً مِن هذا النفوذ، فَلا تتصوّروا أنّ تهمة التبعيّة والافتراءات التي كانوا يُلصقونها بالروحانيّين قد صدرَت مِن عديمي الدين الأغيار وحدهم، أبَداً، فَالضربات التي ألحقها رجال الدين الجهلة والواعين المرتبطين كانت -ولا تزال- أكثر تأثيراً مِن ضربات الأغيار.

إبّان انطلاقة النضال الإسلاميّ، كنتَ إذا قلت: إنّ الشاه خائن، سمعتَ على الفور: ولكنّ الشاه شيعيّ. إنّ مجموعة مِن المتظاهرين بالقداسة والرجعيّين كانت تعدّ كلّ شيء حراماً، ولم يَكن يجرؤ أحدٌ على مواجهة أمثال هؤلاء... إنّ الآلام التي تجرّع مرارتها والدكم العجوز، بِسبب هذه الفئة المتحجّرة، لم يواجِه مثلها -مطلقاً- مِن ضغوط ومضايقات. وعندما شاعَ شِعار الفصل بين الدين والسياسة، وأضحَت الفقاهة في منطق غير الواعين الانغماس في الأحكام الفرديّة والعباديّة، وَلم يحقّ للفقيه الخروج مِن هذا السياق وهذه الدائرة والخوض في السياسة والحكومة، أصبحَت حماقة عالم الدين في معاشرته للناسِ فَضيلة. فَزَعموا أنّ الروحانيّين يكونون جديرين بالاحترام والتكريم عندما تقطر الحماقة مِن كلّ نقطة في وجودهم، وإلّا، فإنّ عالم الدين السياسيّ والروحانيّ الواعي والفطن، مُغرض ومدسوس.

 

98


89

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

 

كان ذلك كلّه مِن الأمور الرائجة في الحوزات؛ فَمَنْ ينهج نهجاً مُنحرفاً يُعدّ أكثر تديُّناً، ومن يتعلّم اللغة الأجنبيّة يُعدّ كافراً. كما إنّ الفلسفة والعرفان كانتا تعدّان ذنباً وشركاً؛ ففي أحد الأيّام، شرب الابن العاقل السليم المرحوم مصطفى مِن جرّة ماء في المدرسة الفيضيّة، فأَخذوا الجرّة وطهّروها، لأنّ أباه يدرس الفلسفة. إنّني على ثقة أنْ لو استمرّ مِثل هذا النهج، لَأصبح وضعُ الحوزات وعلماء الدين مِثل وضع كنائس القرون الوسطى، غير أنّ الله تعالى مَنّ على المسلمين وعلماء الدين، وصانَ كيان الحوزات ومجدها الحقيقيّ.

إنّ العلماء المؤمنين بالدين تربّوا في أمثال هذه الحوزات، وعَزَلوا صفوفهم عن الآخرين، وقد استمدّت نهضتنا الإسلاميّة العظيمة وجودها من هذه البارقة. طبعاً، لا تزال الحوزات تعاني هذا النمطَ مِن التفكير، فَيجب أن نكون حذرين لِئَلّا تنتقل فكرة الفصل بين الدين والسياسة من المتحجّرين إلى الطَلَبة الشباب. وَما ينبغي على الطَلَبة الشباب تَعَرّفه هو كيف إنّ بعضهم شمّروا عن ساعد الجدّ في الفترة التي كان يُهيمن المتظاهرون بالقداسة والجهلة الأمّيّون السذّج على كلّ شيء، وخاطروا بأرواحهم وسمعتهم مِن أجل إنقاذ الإسلام والحوزة وعلماء الدين؛ إذ إنّ الأوضاع لم تكن كما هي عليه اليوم، فكلّ مَن لم يؤمن -تماماً- بالنضال، كان ينسحب مِن الساحة تحت ضغط المتظاهرين بالقداسة وتهديدهم. فَلَم تكن النصيحة والإعلام والنضال السلبيّ تفيد في مواجهة أفكارٍ مِن قبيل أنّ الشاه ظلُّ الله، أو أنّه لا يمكن مواجهة المدفع والدبابة بِأيدٍ خالية، أو أنّنا غير مكلّفين بالجهاد والنضال، أو مَن يحمل مسؤوليّة دماء القتلى؟ والأسوأ من ذلك كلّه الشِعار المضلّل الذي يقول إنّ الحكومة قبل ظهور المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) حكومة باطلة، إلى غير ذلك مِن الإشكالات الواهية. ذلك كلّه، ممّا كان يخلق مشكلات كبرى وظروف صعبة، لم يكن بالإمكان

 

99

 

 


90

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

مواجهته إلّا عن طريق حلّ وحيد، هو النضال والتضحية بالدماء، وقَد هيّأ الله تعالى وسيلته»[1].

الحفاظ على الوحدة أهمّ واجبات طَلَبة العلوم الدينيّة

«إنّ الأعداء -منذ مدّة طويلة- كانوا قد استعدّوا لِبَثّ الاختلاف والفرقة بين علماء الدين. وإذا ما غفلنا عن ذلك، فَسوف يضيع كلّ شيء، بِغضِّ النظر عن نوعيّة الاختلاف وأشكاله، سواء أكان تشويه صورة كبار المسؤولين أو إثارة المشاكل حول الحدود بين الفقه التقليديّ والحركيّ، إلى غير ذلك. إِذا لم يحرص الطَلَبة والأساتذة في الحوزة العلميّة على انسجامهم، لا يمكن توقُّع مَن الذي سيُوفَّق. فَإن كانت السيادة الفكريّة -على فرض المحال- للمتلبّسين بِزيّ رجال الدين والمتحجّرين، بِماذا سيُجيب علماءُ الدين الثوريّون اللهَ والشعبَ؟ لا يوجد أيّ اختلاف -إن شاء الله- بين رابطة أساتذة الحوزة والطلّاب الثوريّين، وإنْ وُجِد، فَمِن أجل ماذا؟ أمِنْ أجل الأصول أو بِوَحي مِن المزاجيّة؟ هل أدار الأساتذة المحترمون الذين كانوا يمثّلون سند الثورة المحكَم في الحوزات العلميّة ظهورَهم -والعياذ بالله- إلى الإسلام والثورة والشعب؟ أَلَم يُصدِر هؤلاء أنفسهم -في ذروة النضال- فتاواهم بِعَدم مشروعيّة السلطنة؟ أَلَم يعمل هؤلاء أنفسهم على فَضْح كلّ مَن يحاول استغلال منصب المرجعيّة والانحراف عن الإسلام والثورة، ولَفْت أنظار الشعب إلى ذلك؟ ألم يدعم أساتذة الحوزة الأعزّاء جبهات القتال والمقاتلين؟ فإذا ما هُزِم -لا سمح الله- هؤلاء، فَما هي القوّة التي ستحلّ محلّهم؟ وإذا ما عملت أيادي الاستكبار على دعم رجال الدين المزيّفين إلى حدّ المرجعيّة، ألَنْ تُسلِّط شخصاً آخر على الحوزات؟ وَأولئك الذين نَأَوا بأنفسهم عن الأحداث طوال خمسة عشر عاماً مِن النضال قبل الثورة، وعشر سنوات من الأحداث العصيبة بعدها، ولم يُعانوا من متاعب النضال ومأساة الحرب، ولا تأثّروا بشهادة

 

100

[1]  المصدر نفسه، ج21، ص253 - 255


91

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أعزّة لهم، وواصَلوا دروسهم وبحوثهم بكلّ اطمئنان وراحة بال، هل يستطيعون أن يُشكّلوا دعامة للثورة الإسلاميّة في المستقبل؟ لِصالح مَنْ ستكون هزيمة أيّ مِن علماء الدين والطَلَبة الثوريّين والروحانيّين المناضلين ورابطة أساتذة الحوزة؟ لا شكّ في أنّ الذي سيجني ثمار ذلك هُم خصوم علماء الدين، وإذا ما حاولوا الاقتراب -للضرورة- من الروحانيّين، فإلى أيّة فئة سيتّجهون؟ باختصار، إنّ الاختلاف -مهما كان- مُدمّر. وإذا ما وصلَت القوى المؤمنة بالثورة -حتّى تحت عناوين الفقه التقليديّ والفقه الحركيّ- إلى مستوى الفئويّة والجبهويّة، فإنّ ذلك سيُشكّل بداية الطريق لاستغلال الأعداء، لأنّ التكتّل الجبهويّ يقود في النهاية إلى المعارضة. فكلّ جناح، وبِدافع إقصاء الطرف الآخر وتحجيمه، سيَلجأ إلى اختيار المصطلحات والشعارات، بِحيث يتّهم أحدهم بمناصرة الرأسماليّة، وآخر بالالتقاطيّة. وقد حاولتُ دائماً، حِرصاً منّي على الموازنة بين الأجنحة، أن أعطي توجيهات حلوة ومُرّة، لأنّني أعدّ الجميع أبنائي وأعزّائي. طبعاً، لم أقلق أبداً مِن البحوث الحوزويّة العاصفة في فروع الفقه وأصوله، غير أنّني قلِق مِن تقابل الأجنحة المؤمنة بالثورة وتعارُضها، لئلّا ينتهي بتقوية الجناح المرفّه الذي لا يعرف معنى الألم، ولا يكفّ عن الثرثرة.

نستنتج من ذلك أنّه إذا تباطأ علماء الدين -أنصار الإسلام المحمّديّ الأصيل- وأنصار الثورة في تحرّكهم، فإنّ القوى العظمى وأذنابها سيُجَيّرون كلّ شيء لِصالحهم. فَعلى رابطة أساتذة الحوزة أن تعدّ الطلّاب الثوريّين الأعزّاء -الذين عانوا الكثير، وتحمَّلوا العذاب والضرب، وتوجَّهوا إلى جبهات القتال- أبناءَها، وأن تقيم جلسات معهم، وترحّب بِطروحاتهم وأفكارهم. كما أنّ على الطَلَبة الثوريّين أن يحترموا الأساتذة الأعزّاء المؤيّدين للثورة، ويقدّروا منزلتهم، وأن يكونوا يداً واحدة في مقابل التيّار الانتهازيّ التافه الذي لا يكفّ عن الثرثرة، وأن يتحلّوا بالمزيد مِن الاستعداد والتأهّب للتضحية والشهادة في سبيل

 

101


92

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

هداية الشعب، سواء أكان المجتمع والشعب ينشدان الحقيقة مِثلما هو الحال في عصرنا -إذ إنّ أبناء الشعب أوفياء حقّاً لعلماء الدين أكثر ممّا نتصوّر- أو كما كان عليه الحال في زمن المعصومين (عليهم السلام)»[1].

ضرورة الحفاظ على الأصالة

«أمّا بالنسبة إلى الدروس والبحوث داخل الحوزات، فإنّني أؤمن بالفقه التقليديّ والاجتهاد الجواهريّ، وأرى عدم جواز التخلّف عنه. إنّ الاجتهاد في هذا النهج صحيح، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الفقه الإسلاميّ يفتقر إلى المرونة، بل إنّ الزمان والمكان عنصران رئيسيّان في الاجتهاد، فَمِن الممكن أن تجدَ مسألةً كان لها في السابق حُكم، وفي ظلّ العلاقات المتغيّرة، التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نِظام ما، تَجِد لها حُكماً جديداً؛ أي إنّه، وعن طريق المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة بالموضوع الأوّل الذي يبدو أنّه لا يختلف عن السابق، ولكنّه في الحقيقة أصبح موضوعاً آخر يتطلّب حكماً جديداً بالضرورة. لذا، ينبغي على المجتهد أن يحيط بقضايا عصره. فالناس والشباب وحتّى العامّة، لن يقبلوا مِن المرجع والمجتهد الاعتذار عن إعطاء رأيه في المسائل السياسيّة... إنّ الإحاطة بِسُبل مواجهة التزوير والتضليل للثقافة السائدة في العالم، وامتلاك البصيرة والرؤية الاقتصاديّة، والاطّلاع على كيفيّة التعامل مع الاقتصاد العالميّ، ومعرفة السياسات والموازنات وما يُروّج له الساسة، وإدراك موقع القطبَيْن الرأسماليّ والماركسيّ ونقاط قوّتهما وضعفهما، إذ إنّهما يحدّدان في الحقيقة استراتيجيّة النظام العالميّ، يُعدّ مِن خصائص المجتهد الجامع وسِماته... فَلا بُدّ للمجتهد مِن التحلّي بالحنكة والذكاء لِفِراسة هِداية المجتمع الإسلاميّ وغير الإسلاميّ. ويجب أن يكون مديراً ومدبّراً حقّاً، فضلاً عن اتّسامه بالإخلاص والتقوى والزهد، إذ إنّ هذه الصفات مِن شأن المجتهد. فالحكومة، من وجهة

 

 


[1] المصدر نفسه، ج21، ص260 - 261.

 

102


93

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

نظر المجتهد الحقيقيّ، تمثّل الفلسفة العمليّة للأحكام الفقهيّة في الحياة الإنسانيّة... والحكومة تجسيد الجانب العمليّ للفقه في تعامله مع المعضلات الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة... الفقه هو النظريّة الواقعيّة المتكاملة لإدارة الإنسان مِن المهد إلى اللحد. فالهدف الأساسيّ أن يتسنّى لنا تطبيق أصول الفقه المحكمة في عمل الفرد والمجتمع، وأن تكون لدينا إجابات للمعضلات. فَإنّ أقصى ما يخشاه الاستكبار هو أن يجد الفقهُ والاجتهادُ الترجمةَ العمليّة والواقع الموضوعيّ، فيخلق لدى المسلمين القدرة على المواجهة. ما الذي أغضب الناهبين الدوليّين إلى هذا الحدّ، إثر الإعلان عن الحكم الشرعيّ والإسلاميّ -الذي يتّفق عليه العلماء جميعهم- بحقّ أحد العملاء الأجانب‏[1]؟ إذ واجَهوه بِنحوٍ مستميت، مُستنفرين قواهم كلّها؟ أليس هو وَعي المسلمين لِرسالتهم الدينيّة والعلميّة، وتصدّيهم لمؤامرات قادة الاستكبار المشؤومة؟ هؤلاء المستكبرون يُدركون جيّداً أنّ إسلام المسلمين بات اليوم ديناً راقياً متحرّكاً مفعماً بالحماس، ونظراً إلى أنّ الأجواء لم تَعُد مهيّأة لهم، كما في السابق، فَلَم يعد بإمكان عملائهم وأذنابهم التلاعب بمقدّسات المسلمين، انتابهم الاضطراب.

سبق أنْ قلتُ إنّ مؤامرات الناهبين الدوليّين جميعها التي استهدفتنا، بدءاً من الحرب المفروضة إلى الحصار الاقتصاديّ وغير ذلك، كانت تستهدف إظهار عجز الإسلام عن تلبية احتياجات المجتمع، من أجل اللجوء إليهم في كلّ صغيرة وكبيرة. ولكن يجب علينا أن ندرك جميعاً أنّه لا بدّ لنا -في الحقيقة- مِن التحرّك -إن شاء الله تعالى- لِقَطع شرايين تبعيّة بلادنا كلّها لهذه الدنيا المتوحّشة.

ربّما ظنَّ الاستكبار الغربيّ أنّنا، إذا ما هدّدَنا بالسوق المشتركة والمحاصرة الاقتصاديّة، سَنبقى نُراوح مكاننا أو نتراجع عن تنفيذ

 

 


[1] إشارة إلى الفتوى (الحكم) بِوجوب إعدام سلمان رشديّ وناشري كتابه «الآيات الشيطانيّة» المناهض للأخلاق والدين.

 

103


94

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

حُكم الله العظيم... إنّه لَأمر لافت ومثير! إنّ هؤلاء الذين يتظاهرون بالتحضّر والثقافة، لا يهمّهم أن يقوم أحد الكتّاب العملاء بالإساءة إلى أحاسيس أكثر مِن مليار إنسان مُسلم ومشاعرهم، عبر قلمه الذي يقطر سمّاً، ويُسقِط عدداً مِن الشهداء، بل إنّهم يعدّون هذه الفاجعة عين الديمقراطيّة والتحضُّر. ولكن عندما يُثار بحثُ تنفيذ الحكم والعدالة، يَنوحون بالرأفة والإنسانيّة.

إنّنا ندرك حِقد العالم الغربيّ على العالم الإسلاميّ والفقاهة، ونَتَبَيّنه من هذه المواقف. فالقضيّة ليست قضيّة دفاعٍ عن شخص، وإنّما قضيّة دفاعٍ عن نهج يعادي الإسلام والقيم الأخلاقيّة، تُروّج له المحافل الصهيونيّة والبريطانيّة والأميركيّة، وتَضعه في مواجهة العالم الإسلاميّ بِأَسره بِكلّ حماقة»[1].

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج21، ص262 - 263.

 

104


95

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثاني: الجامعة

تُعَدّ الجامعة في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) الجناح الثاني للفكر، إلى جانب الحوزة العلميّة، فالبلد الإسلاميّ لا يستغني عن كلٍّ مِن الجامعة والحوزة من أجل تأمين المستلزمات الفكريّة والعلميّة. ولكن ابتُليَت الجامعات -تاريخيّاً- بِسَلخها عن مجتمعها وثقافتها، بِحيث صارت الجامعات الموجودة في البلدان الإسلاميّة، مثلاً، تَدرس القضايا التي لا ترجع إلى صلاحها بشيء، خاصّةً كلّيّات العلوم الإنسانيّة، فَصارت أذهان الطَلَبة الجامعيّين والأساتذة مُتبَنّية النظريّات الغربيّة التي نشأَت في فضاء ثقافيّ واجتماعيّ مُبايِن للفضاء الخاصّ بالمجتمعات الإسلاميّة. وقد لَفَت الإمام الخمينيّ (قدس سره) كثيراً إلى هذه القضيّة، وسَعى إلى طرح موضوع أَسْلَمة الجامعات، انطلاقاً مِنها، فَكان سعيه الأساسيّ إصلاح هذا الانحراف الذهنيّ في الطبقة الجامعيّة؛ بأن تتوجّه الكلّيّات الإنسانيّة -خاصّةً- إلى مجتمعاتها، وتبحث عن الحلول التي تريدها الفئات المختلفة فيها، من دون الانشغال بالأفكار الشرقيّة أو الغربيّة التي لم تنشأ لِتحلّ مشكلات المسلمين.

ويمكننا تقسيم الكلمات التي ذَكرها الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا المجال إلى أربعة محاور:

أوّلاً، لَفت الإمام الخمينيّ (قدس سره) إلى ضرورة يقظة الطبقة الجامعيّة والْتِفاتها إلى القضايا التي تهمّ المجتمع المحلّيّ الذي يتواجدون فيه، وتركيز البحوث والدراسات على المشاكل التي يعانيها المجتمع الإسلاميّ -خاصّةً- لإيجاد الحلول لها، وخدمة بلدهم لِجهة الاكتفاء الذاتيّ والاستغناء عن الدول التي كان لها تاريخ استعماريّ.

ثانياً، يَطرح الإمام الخمينيّ (قدس سره) قضيّة فَصْل الحوزة عن الجامعة، ويعدّها من الآفات الكبيرة التي ابتُليَت بها الدول الإسلاميّة؛ إذ إنّ الحوزة العلميّة مؤسّسة علميّة بامتياز، مرتبطة بالمصادر الإسلاميّة

 

 

106

 


96

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

خطّة الأعداء في الجامعات حَرْف الشباب عن ثقافتهم

«أمّا في الجامعة، فإنّ خطّتهم تقضي بِحَرْف الشبّان عن ثقافتهم وآدابهم وقِيَمهم المحلّيّة، وَجَرِّهم إلى الشرق أو الغرب، واختيار المسؤولين الحكوميّين مِن بينهم لِتحكيمهم بمصائر البلدان وتنفيذ ما يريدونه كلّه. فَهُم ينهبون البلدان ويجرّونها إلى الأَسر للغرب مِن دون أن يكون بمقدور الروحانيّين -علماء الدين- الحيلولة دون ذلك، إذ إنّهم ساهموا في عزلهم وتنفير الناس‏ منهم وإحباطهم؛ هذا هو الطريق الأفضل لِنَهب البلدان المستعمَرة وإبقائها متخلّفة، فَهو يؤدّي إلى إفراغ كلّ شيء في جيوب الدول الكبرى من دون عناء أو كلفة، ومن دون إثارة أيّة ضجّة في الأوساط الوطنيّة.

لذا، مِن واجبنا جميعاً، الآن، أن نصبّ الجهود على إصلاح الجامعات والمعاهد التعليميّة ونطهّرها، بِمساعدة المسؤولين، للحيلولة -وإلى الأبد- دون انحراف الجامعات، والسعي في معالجة أيّ انحراف يلوّح بحركة سريعة. ولا بدّ مِن تحقيق هذا الأمر الحيويّ على أيدي شبّان الجامعات والمعاهد التعليميّة ابتداءً، فإنّ نجاة الجامعة مِن الانحراف يعني نجاة البلد والشعب.

إنّني أوصي الفتية والشبّان وآباءَهم وأمّهاتهم ومحبّيهم أوّلاً، ثمّ رجال الدولة المثقّفين الحريصين على مصالح البلد ثانياً، بأن يُبادروا جميعاً إلى بذل الجهود في هذا المجال؛ ما يستتبع حفظ البلاد مِن الأذى، وتسليم أمانة حفظ الجامعات إلى الجيل القادم. كما أوصي الأجيال اللاحقة بأن يجهدوا في حفظ الجامعات وصيانتها مِن الانحراف أو الميل إلى الغرب والشرق؛ ففي ذلك نجاتهم ونجاة بلادهم العزيزة والإسلام -صانع الإنسان-. وليَعلموا أنّهم، بِعملهم الإنسانيّ والإسلاميّ هذا، يقطعون أيدي القوى الكبرى عن بلادهم، ويُفقدونها الأمل نهائيّاً»[1].

 

 


[1] المصدر نفسه، ج21، ص373 - 374.

 

 

107


97

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

آفة فَصْل الجامعة عن الحوزة

«في زمن الشاه، وقبل انتصار الثورة الإسلاميّة، حَرِص المسؤولون -آنذاك- على تعيين المعلّمين والمدرّسين والأساتذة ورؤساء الجامعات مِن بين المنبهرين بالغرب أو الشرق والمنحرفين عن الإسلام وسائر الأديان، وعلى الإقلال مِن عدد المتديّنين والمؤمنين، لكي يُصار إلى زيادة تأثير الشريحة الأقوى في العمليّة التربويّة؛ إذ إنّهم يقومون بِتربية مَن يُحتمل تصدّيهم للأمور مُستقبلاً، مِن الطفولة، بِطريقة تجعلهم يشمئزّون مِن الأديان عموماً، والإسلام وعلماء الدين خصوصاً، ممّن كانوا يوصفون في ذلك الوقت بالعمالة للإنجليز والتحالف مع التجار والإقطاعيّين والرجعيّة المخالِفة للرقيّ والتمدُّن. هذا مِن جهة.

ومِن جهة أخرى، زرعوا، عبر إعلامهم السيّئ، الخوف في نفوس الروحانيّين والدعاة والمتديّنين من الجامعة والجامعيّين، فاتّهَموهم بالتحلّل وعدم التديُّن ومعارضة المظاهر والشعائر الإسلاميّة والأديان. وَكانت النتيجة أن أصبح رجال الدولة معارضين للأديان والإسلام وعلمائه والمتديّنين، وأصبحت جماهير الشعب المُحبّة للدِين وعلمائه معارِضة للدولة والحكومة وما يرتبط بها؛ ما أنتجَ اختلافاً عميقاً بين الحكومة والشعب والجامعيّين والروحانيّين، وفتح الطريق أمام الناهبين، إلى حَدّ سيطرتهم على مقدّرات البلد جميعها، وإفراغ ثروات الشعب كلّها في جيوبهم. وقد رأيتم ما حلّ بهذا الشعب المظلوم، وما كان ينتظره مِن مصير.

والآن، بعد أن تحطّمت الأغلال، وكُسِر طَوق سلطة القوى الكبرى، وَأُنقِذت البلاد من أيديهم وأيدي عملائهم، بإرادة الله تعالى وجهاد الشعب بفئاته كلّها؛ مِن طَلَبة العلوم الدينيّة وَالجامعات إلى الكَسَبة والعمّال والفلّاحين، فإنّي أوصي هذا الجيل والأجيال القادمة باليقظة، كما أوصي الجامعيّين والشبّان الراشدين الأعزّاء بأن يبذلوا غاية وسعهم لِجَعل عقد المحبّة والانسجام مع علماء الدِين وطلبة العلوم

 

 

108

 


98

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الإسلاميّة أكثر استحكاماً، وألّا يغفلوا عن مخطّطات العدوّ الغادر ومؤامراته، وليبادروا، عند رؤيتهم مَن يهدفون بِأقوالهم أو ممارساتهم إلى بَذر بذور النفاق بينهم، إلى إرشادهم ونُصحهم، فإنْ لم يرعَوُوا فَليُعرِضوا عنهم، وليَفرضوا عليهم العزلة لِتطويق المؤامرة ومَنعها من التجذُّر؛ فإنّهم، إنْ أُتيحت لهم الفرصة، سُرعان ما يتمكّنون مِن العثور على نبع يَسقيهم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأساتذة، فإنْ وُجد بينهم مَن يهدف إلى إيجاد الانحراف فَليُرشِدوه، فإن لم يستجِب فَلينبذوه وليَطردوه حتّى مِن قاعة دَرسه. وهذه الوصفة موجّهة إلى الروحانيّين وطلبة العلوم الدينيّة بِنسبة أكبر. ولا بدّ مِن القول، هُنا، إنّ المؤامرات التي تُحاك في الجامعات تمتاز بِعمقها الخاصّ؛ لذا وَجب على الفئات المحترمة جميعها، ممّن يمثّلون عقل المجتمع المفكّر، أن تحذر تلك المؤامرات»[1].

«إنّ مِن الخيانات التي حدثَت في هذا البلد فَصْل الحوزة العلميّة عن الجامعة؛ فالأساتذةُ يخافون العلماءَ، وحوزاتنا تخشى الجامعات. وعندما يدخل العلماء إلى الجامعة، ويدخل أساتذة الجامعة إلى الحوزات، يدركون -عندئذٍ- أيّة جريمة اقترفت بحقّ هذا البلد. فَكان إذا ذَهب أحدهما إلى حيث الآخر، رأى نفسه غريباً، أو في بيئةٍ سيّئة؛ والسبب في إيصال الأمر إلى هذا الحدّ هو أنّهم كانوا يخشون أن يكون هناك تقارب بين هاتَيْن الفئتَيْن. وقد بَذلوا جهوداً إعلاميّة كبيرة مِن أجل زَرع الخوف بينهما، لأنّهم يَرَون في التقارب بين الحوزة والجامعة، والتفاهم بينهما، انعكاساً لِماهيّة الإسلام، فَعَملوا على زَرع العداوة بين هاتَيْن الجبهتَيْن اللتَيْن تستطيعان حفظ البلد وإنقاذه مِن المشاكل، لِيَصلوا بذلك إلى هدفهم. وقد رأينا كيف إنّهم حقّقوا ذلك. إنّ تلك الدعايات السيّئة كلّها إنّما كانت لأنّهم كانوا يخافون، وَلكن لَو التقى أساتذةُ الجامعة علماءَ الحوزات العلميّة وأساتذتها،

 


[1] المصدر نفسه، ج21، ص370 - 371.

 

109


99

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ورأوا ما هو الإسلام، فَلن يُصابوا بالخوف، وسَيُدركون حَجم المصيبة التي عانيناها في تلك الفترات، ولا سيّما في السنوات الخمسين الأخيرة، إذ كنّا أعداء لِإخوتنا، يعمل كلٌّ مِنّا في سبيل إضعاف الآخر. فَلا تغفلوا عن ضرورة إقامة العلاقة بين الجامعة والفيضيّة -الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة- لتتمكّنوا من حِفظ بلدكم. فَإذا ما سعى الأساتذة الجامعيّون ومعلّمو الثانويّات والمدارس إلى تعريف الطلّاب والتلاميذ الحوزاتِ العلميّة، وسَعى العلماء وطلبة الحوزة إلى التقريب بين الحوزة والجامعة، غَدَت هاتان الفئتان مِن العلماء صالحتَيْن ومنسجمتَيْن، ولا يمكن لبلدنا -عندئذٍ- أن يعاني أيّ نقص. فَإذا فسد العالِم، فسد العالَم؛ أي إنّ العالِم يُفسد العالَم، لا جماهير الناس»[1].

ضرورة اهتمام الجامعة بالمعنويّات

«عليكم أن تتّجهوا بالجامعة نحو الله والأمور المعنويّة، وأن تُدرّسوا فيها الدروس المختلفة، تَقرُّباً إلى الله. فإن استطعتم السير في هذا السبيل، وأدَّيتم هذا العمل، فأنتم موفّقون، سواء أحقّقتم هدفكم أم لم تحقّقوه. أمّا إذا كان العمل مِن أجل أنفسكم، فَمِن الممكن أن يكون عملاً عاديّاً يعود بالنفع على غيركم لا عليكم، أو أن يكون -أحياناً- سهمكم منه الضرر وسهم غيركم منه المنفعة، أو إنّكم قد تنتفعون منه ويتضرّر به الآخرون. ربّما أردتم القيام بِعمل جيّد وَلم يتحقّق ذلك، بل حصل ما هو خلاف إرادتكم. فَعلينا أن نتذكّر -دائماً- هذا الأمر، ونتنبّه إليه، لِنَنال التوفيق في أمورنا جميعها. أنا لا أدّعي أنَّ أمثالي أُناس موفّقون، كلّا؛ فَنَحن -بَنو البشر- غير كاملين، وعلينا أن نواصل الدراسة لِنُحصّل الكمال. ولكنّنا نعلم أنّ مِثل هؤلاء الأشخاص موجودون بين الناس، فَالأنبياء (عليهم السلام) وأولياء الله كانوا -على الأقلّ- يَعملون مِن أجل الله؛ كلّ عمل قاموا به كان لله، لا مِن أجل الحصول على السلطة والحكم أو شيء آخر. وإن طلبوا الحكم فَمِن أجل إنقاذه

 

 


[1] المصدر نفسه، ج16، ص379 - 380.

 

110


100

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

من أيدي الجائرين لِيُقيموا العدالة الإلهيّة، لا لِيَكونوا هُم الحّكام. وَبما أنَّ عَملهم هذا كان إلهيّاً خالصاً، فقد كانوا هُم أنفسهم إلهيّين، وكانت أعمالهم إلهيّة كذلك. أمّا نحن فَناقصون -ونعترف أمام الله تعالى أنّنا ناقصون- ولا نستطيع الوصول إلى مثل هذا الكمال أو الحصول عليه بهذا الشكل، ولكنْ علينا أن نَضع هذا الهدف أمام أنظارنا، ونسعى إلى أن تكون أعمالنا مِن أجل الله. آمل أن تكونوا مُوفّقين في أن يكون لكم مثل هذا الهدف، حتّى في الأعمال التي لم تستطيعوا إنجازها، فَعندها ستنالون تأييد الله تبارك وتعالى»[1].

«العالِم وأستاذ الجامعة اللذان لا يتحلّيان بتهذيب النفس لا يمنحان سوى الفساد. فَقد تعرَّض شعبنا -على مدى التاريخ- للكوارث، لأنّ العِلم لم يقترن بالتربية الأخلاقيّة والدينيّة والمعنويّة. فإذا وُجِد رُكْنا العِلم والتربية المعنويّة في الجامعة تَمخّضَت عنهما نتائج سليمة وراقية وبنّاءة أيضاً، وما عانى بلدنا ما يُعانيه الآن. فَقد كانت المشاكل جميعها ناجمة عن الانحرافات الأخلاقيّة وانعدام تهذيب النفس، إذ إنّ ما يصيب البلاد كلّه من مصائب، وما يُبتدع من أفكار، إنّما يصنع ما يهلك الناس، كالمدفع والدبابة والصاروخ وأمثالها. ذلك كلّه لأنّهم لا يملكون التربية الروحيّة؛ لا لأنّ هؤلاء مسيحيّون -فَالمسيحيّ يلتزم بتعاليم السيّد المسيح (عليه السلام) التربويّة- ولا لأنّهم يهوداً -فاليهود تربّوا على تعاليم موسى (عليه السلام)- ولا لأنّهم مسلمون -فالمسلمون تربّوا على تعاليم الإسلام الروحيّة-. يدّعي كثيرون أنّهم يريدون السلام للعالَم، ولعلّ الدول العظمى أكثر ادّعاءً من‏ غيرها، وكذلك الأنبياء (عليهم السلام)، دَعوا إلى نشر السلام في العالَم، ولكن أيّهما كان صادقاً؟ ثمّة برنامج في إذاعة إسرائيل يدّعي أنّ الصهاينة والمجرمين جميعهم يعملون مِن أجل الله والحقيقة والسلام، وأنّهم حماة للمظلومين؛ هذا ادّعاؤهم، وذلك عملهم. والأمركان أيضاً يدّعون ذلك، فيؤدّون في كنائسهم

 

 


[1] المصدر نفسه، ج19، ص385.

 

111


101

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الطقوس الكنسيّة، ويردّدون كلام الكنائس، ولكن ما الذي يقومون به عمليّاً؟ أنتم تَرَون، وأنا أتعجّب. فالمسيح (عليه السلام) دعا إلى تهذيب النفس والتربية الروحيّة، لكنّ أتباعه أسوأ مِن اليهود -مع أنّه لا يمكن القول إنّ هناك أسوأ من اليهود؛ أي إسرائيل-. فَكيفَ أصبح أتباعه رؤساء البلاد، وممّن يحرقون البشر؟ الجواب هو أنّهم غير مهذّبي النفوس، فَعِلمهم هو عِلم السياسة والصناعة، يملكون كلّ شيء إلّا ما يجب أن يتحلّوا به من خصالٍ تهذّب نفوس البشر وتُفيدهم؛ هُم لا يحملون أخلاق عيسى المسيح (عليه السلام) ولا أخلاق موسى الكليم (عليه السلام) ولا أخلاق الإسلام»[1].

ضرورة إصلاح الجامعات

«عليكم السعي في إصلاح هذه الجامعة، واعلَموا أنّ الإسلام يستطيع إصلاحها. فَعندما نراقب أطفالنا من المرحلة الابتدائيّة، ونُربّيهم منذ الطفولة، فإنّ مشاكل الجامعة سوف تُحلّ. وأنا آمل -بِسَعي الأساتذة والمعلّمين- أنْ يتخرّج في الدورات الدراسيّة أشخاص ملتزمون يُفكّرون في مصلحة بلادهم، ولا يُبالون برضى الدول الأجنبيّة أو عدم رضاها. فَأنتم تعلمون أنَّ بعض الذين تربَّوا في الجامعة -مع أنّ بعضهم يقيمون الصلاة- يعتقدون بوجوب إشراف الدول الأجنبيّة على إيران، ويقولون إنَّ إيران لا تستطيع إدارة نفسها؛ ألا يستطيع الإيرانيّ -الذي حافظ على نفسه على الرغم من الضغوط كلّها، وصدّر ثورته، وأيقظ الشعوب الأخرى- إدارة نفسه بنفسه؟ لماذا؟ يجب أنْ تعلَموا أنّه يجب على الجامعات أنْ تتبع مسير الشعب، فَلا تستطيع الجامعة فَرض ما لا يريده عليه. وأنتم تلاحظون كيف أنَّ جماهيرنا المليونيّة تحوّلت، وأدركت وجوب مواجهة المتغطرس. يجب أن تكون الجامعة مركزاً لِنُموّ مثل هذا الأمر، لكنّها -مع الأسف- لم تكن كذلك. وآمل -بالأعباء التي تتحمّلونها أنتم والمجلس الأعلى للثورة الثقافيّة- أنْ

 

 


[1] المصدر نفسه، ج16، ص378 - 379.

 

 

112


102

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

نشاهد جامعة شعبيّة، لا جامعة أجنبيّة. يجب علينا أنْ نربّي شبّاننا لِيَفهم مُسلمو الدول الأخرى أنَّ التربية، هنا، مُفيدة. واعلموا أنْ لَو عملت الجامعة بِشكلٍ صحيح، فَعرَضت نفسها على العالم، وَفَهِم الناس أنَّ الجامعة في إيران تعمل لصالح إيران لا الأجانب، فَسيأتي مُسلمو الدول الأخرى إلى هنا حَتماً.

لا فائدة مِن العِلم وحده، بل بالعلم والالتزام مَعاً يتمكّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء الذاتيّ، بحيث لا يحتاج إلى الآخرين، ويكون عند الله وجيهاً. وبالطبع، تستتبع هذا العملَ مشاكلُ ومرارات؛ إذ لا يمكن أن يرضى الجميع عن كلُّ مَن يريد أنْ يقدّم عملاً إيجابيّاً، ويتقبَّلون عمله. فمِن الممكن أنْ يكون العمل الحقّ مُرّاً في أذواق بعض الناس، ولكنَّ مَن يَتْبع الحقّ، ويعمل لرضى الله، لا يبالي بما قيل وما يقال له. يجب أنْ يُراقب رضى الله ويُعمل من أجله، وليَقُل أيّ كان ما يقول. لِلعَمل الحَسَن مُعارضون، ولكن اسعوا إلى أنْ يكون عَملكم حَسَناً، وسُمْعتكُم حَسَنة عند الله، فَعندما تكونون كذلك، فإنّ الله سوف يُسدّدكم ويحلُّ مشكلاتكم. فَلَو صلحَت الجامعة صَلُحَ المجتمع والبلد»[1].

«أيّها السادة، تعلمون أنّ إصلاح الجامعات في أيّ بلد يعني إصلاح ذلك البلد، لأنّ مَن يَشغل المناصب التنفيذيّة أو التشريعيّة أو القضائيّة هُم الجامعيّون أو رجال الدين؛ فَبِإصلاح الجامعة تصلح أمور البلاد، وبانحرافها تنحرف. وَحتّى لَو كان ثمّة أستاذ منحرف واحد، فإنّ أثره قد يكون كبيراً على مستوى البلد، لأنّه يمكن أن يُسبّب انحراف جَمعٍ مِن الشباب، الذين يقومون -على المدى البعيد- بِالدور نفسه، فَتظهر -فجأةً- مُشكلة كبرى. لذا، إنّ أهمّ قضيّة في عمليّة إصلاح الجامعة والثورة الثقافيّة هي قضيّة أساتذة الجامعات والمعلّمين، وكذلك الطَلَبة، مِن المستويات الأولى إلى المستويات العليا، وصولاً إلى

 

 


[1] المصدر نفسه، ج19، ص198 - 199.

 

113


103

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الجامعة، حتّى يكون هؤلاء الناشئين في أيدي أناس مُلتزمين، ولكي تستطيع الجامعة أن تَبنيهم جيّداً.

إنّ الضربات التي تلقَّيناها حتّى الآن كانت مِن الجامعات، إذ إنّها لم تكن جامعات مُلتزمة. فَمُضافاً إلى أنّ الجامعة لم تنزع منزعاً دينيّاً، لم يَكن لديها اتّجاه وطنيّ، فَسعى أولئك الذين يريدون نهب بلادنا إلى القضاء على كلّ شيء فيها وجَرِّها نحو الانحراف. إنّهم يعملون في كلّ مكان، خاصّةً في الجامعات، فَإذا ما كانت الجامعة في خدمة الغرب، فإنّ البلاد ستكون كذلك. لذا، مِن أهمّ الأمور أن تنظر الجامعات في شؤون الأساتذة والمعلّمين والطَلبة، لِمَعرفة أمورهم قبلَ الثورة وبعدَها، وما هُم عليه الآن. يجب العمل على أساس فَتحِ الجامعات بأيدي أشخاص ملتزمين، فَلا بدّ مِن فَتح الجامعات، ولكن لا يتصوّر أحد أنّ هذا وَحده سَيُزيل العقبات جميعها؛ إنّ الجامعة الجيّدة هي التي تزيل العقبات. كما إنّ انعدام الجامعة السيّئة خَير مِن وجودها، لأنّ عدم وجود الجامعة يعني جهل الناس، ولكنّ وجود الجامعة الفاسدة يعني تربية المعاندين والمخالفين للشعب والإسلام»[1].

 

 


[1] المصدر نفسه، ج15، ص371 - 372

 

114


104

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الثالث: المعلّمون

تقع قيمة التربية والتعليم على رأس أولويّات المجتمع الإسلاميّ، لأنّ الهدف الأقصى للأنبياء (عليهم السلام) والأولياء هو قيادة الناس إلى الكمال الإنسانيّ الذي عبّرنا عنه في الفصل السابق بالعبوديّة، وهو أمرٌ لا يتحقّق إلّا في ظلّ التعليم والتربية. وَقد أَنشأت المجتمعات، من أجل هذه الوظيفة العظيمة، مؤسّسات تعليميّة، كالمدارس والجامعات والحوزات، وَكان الأستاذ هو الركن الأساسيّ فيها؛ فَما لم يكن الأستاذ حاوياً للكمالات الضروريّة التي تستوجبها هذه الوظيفة، لن تتحقّق الغاية مِن التعليم والتربية. وَالتربية، هنا، مُقدَّمةٌ على التعليم، لأنّ الإنسان المتعلّم، ما لم يكن مُهذِّباً لنفسه ومُظهِراً للأخلاق والقيم الإلهيّة، سَيكون، بالعلم نفسه الذي يحمله، سَبباً للأضرار والمفاسد.

مِن هذا المنطلق، سعى الإمام الخمينيّ (قدس سره)، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، إلى جَعل شريحة المعلّمين مِن أولويّاته، فَذكر، في الكثير من بياناته وخطاباته، الرؤية التي يجدها كفيلة بحفظ المؤسّسات التعليميّة وجَعْلها سبيل تكاملٍ للفرد والمجتمع. وفي ما يأتي العناوين التي رتّبها الإمام (قدس سره) لِرُؤيته:

1. بيان المسؤوليّة العظيمة للمعلّم

2. الربط بين وظيفة المعلِّم ووظيفة الأنبياء (عليهم السلام)

3. التفريق بين التعليم الذي يريده الله تعالى ونمط التعليم المادّيّ

4. بيان ضرر المعلِّم غير المهذّب لنفسه

5. بيان أثر التعليم على المجتمعات ورُقيّها وسعادتها أو شقائها

6. بيان الخصائص الفطريّة للمتعلّمين

7. ضرورة تقديم التربية على التعليم

 

 

115


105

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

المقام الرفيع للمعلِّم ومسؤوليّته الكبيرة

«إنّ مقام المعلّم مقام رفيع، فَلا مقامَ أسمى مِن مقامٍ عظّمه الله تبارك وتعالى ولكنّه يتحمّل مسؤوليّة جسيمة وعظيمة؛ فكلّما كان المقام أسمى كانت المسؤوليّة أكبر.

إنّ مسؤوليّة تربية الشباب مسؤوليّة عظيمة، وعلى أبناء الشعب أن يكونوا معلِّمين لأبنائهم، بل يجب على أتباع الإسلام جميعهم أن يكونوا معلِّمين، وأن يكونوا مُتعلِّمين. النساء أيضاً يجب أن يَكُنّ مُعلّمات، فَيَعملنَ على تربية أبنائهنّ في أحضانهنّ، مِثل الأساتذة والمعلِّمين. والآباء يجب أن يكونوا مُعلّمين لأبنائهم. أُسَركم يجب أن تكون مدارس لتعليم أحكام الإسلام وتهذيب أخلاق الصغار؛ عليكم أن تُقدّموا صغاراً مُهذَّبين إلى المعلِّمين، وعلى المعلِّمين أن يهذّبوهم أكثر فأكثر»[1].

«إنّ المعلِّمين هم المربّون للّذين سيُمسِكون بمقدّرات البلد؛ أي إنّ مفتاح سعادة البلد بِيَد المعلِّم وبِيَد الجامعيّ. فالمعلِّم يُربّي الشباب، والشباب يُديرون البلد. لذا، فإنّ وجود أيّ بلد في العالم، أو أيّة دولة، مُرتبط بالجامعيّ والمعلِّم. إنّ مفتاح السعادة بِيَد المعلِّم، فَبِمقدار ما يكون عظيماً، تكون مسؤوليّته عظيمة، وبمقدار ما يكون العالِم عظيماً، تكون مسؤوليّته كبيرة، وَلا فرق في هذا بين أن يكون عالِماً في الجامعات أو الحوزات.

كلّما زادت عَظَمة الإنسان زادت مسؤوليّته بالمقدار نفسه، وإذ إنّ عَظَمة المعلِّم كبيرة، فمسؤوليّته كبيرة أيضاً؛ عَظَمته كبيرة لأنّه يربّي الشباب، فالطاقة الشبابيّة تتمّ تربيتها على يد المعلِّم. ومسؤوليّته كبيرة لأنّه إذا ما ربّى الشباب والطاقة الشبابيّة تربيةً صالحة، فإنّ مستقبل البلد سيكون جيّداً، وَستَعمُّه السعادة. أمّا إذا كان ثمّة انحراف

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص123.

 

 

116


106

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

عند المعلِّمين، وكانت التربية مُنحرفة، فإنّ الفساد سينتشر في البلد. فَكما أنّ شأنكم -أنتم أيّها الشباب- كبير لأنّكم طَلَبة، تَدرسون ثمّ تكونون -إن شاء الله- معلّمين، وَكما أنّ عملكم عمل شريف وعظيم، فإنّ مسؤوليّتكم مسؤوليّة كبيرة أيضاً»[1].

«إنّ الذين يَعملون عملَ الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم تقع على عاتقهم مسؤوليّة جسيمة. فَمسؤوليّة المعلِّمين مسؤوليّة عظيمة، كما إنّ مسؤوليّة علماء الدين مسؤوليّة عظيمة؛ أي إنّ ثمّة مسؤوليّة واحدة تقع على عاتق الجميع، مسؤوليّة أمام الله. فَأنتم مسؤولون عن الذين يحضرون في صفوفكم ويَقعون تحت تربيتكم وإشرافكم مِن أجل تَنشئتهم تنشئة إنسانيّة، ومعلِّمو العلوم القديمة -أيضاً- مسؤولون عن الذين يحضرون عندهم من أجل إعدادهم إعداداً إنسانيّاً. فإذا أنجزتم هذا العمل بشكلٍ صحيح مُنِحتُم شرفاً كبيراً، وكُنتم قد هيّأتُم لبلدكم وشعبكم بواعث الفخر والاعتزاز، إذ لا يمكن لبلدٍ يربّي أبناءه تربية سليمة أن يقبل الخضوع للاستعمار. لذا، فإنّ الذين يريدون أن يبقى هذا البلد -أو بالأحرى بلاد الشرق- تحت نفوذهم لِيَنهبوه، قاموا بالهجوم على هاتَيْن الفئتَيْن؛ فئة علماء العلوم القديمة، وفئة العاملين في حقل التعليم. غايةَ الأمر أنّ الهجوم كان صريحاً مكشوفاً حيناً، وخفيّاً مستوراً حيناً آخر»[2].

«إنّ المعلِّمين يَقِفون في صفٍّ واحد مع معلّمي العلوم القديمة؛ أي إنّ عمل علماء الإسلام -وَهُم مُعلّمو العلوم الإسلاميّة- هو عمل المعلّمين نفسه. وهذا العمل أشرف الأعمال وأعظمها مسؤوليّة، لأنّه تربيةٌ للإنسان، وهو العمل الذي جاء من أجله الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم. إنّ القرآن كتاب تربية الإنسان، وقد نَزل مِن أجل إعداده؛ لذا فإنّ العمل الذي يقوم به المعلّمون -سواء أكانوا مُعلّمي العلوم القديمة

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص196.

[2] المصدر نفسه، ج7، ص312.

 

 

117


107

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أم سائر العلوم- هو بناء الإنسان أيضاً. وَإذا أعددنا الإنسان، نَجا بلدنا. فَالذين يمسكون بمقدّرات الدول هُم أناسٌ عاديّون، غاية الأمر أنّ بعضهم ذو ظاهر إنسانيّ وباطن شيطانيّ، وبعضهم حقيقيّون عظماء يَظهرون دائماً مِن بين أهل العِلم. إذاً، إنّ الذين يستطيعون إنقاذ الشعوب وإحياء البلاد وإعمار الدنيا والآخرة للأُمم هُم المعلِّمون، فالتعليم مَصنع الإنسان، وَالأنبياء (عليهم السلام) بُعِثوا من أجل هذا الأمر؛ أي تربية الإنسان»[1].

التعليم عمل الأنبياء (عليهم السلام)

«إنّ التعليم أهمّ ما كُلّف به الأنبياء (عليهم السلام) الذين أرسلهم الله، فوظيفتهم تربية الإنسان. فَالأقرب إلى مقام الإنسانيّة هم الأقرب إلى الأنبياء (عليهم السلام). عِندما تساءَل الملائكة عن سبب خَلْق الإنسان، مع أنّه سيكون مُفسداً في الأرض، أجابهم الله تعالى: إنّي أعلم ما لا تعلمون. ثمّ عَلّم الله آدم (عليه السلام) الأسماء كلّها، وعندما عُرضَت على الملائكة عَرفوا أنّهم لا يستطيعون إدراك الحقائق كما يُدركها آدم (عليه السلام). فَمِن البداية، جاء آدم (عليه السلام) بالتعليم الإلهيّ، وَكان معلِّماً للبشر، كما الأنبياء (عليهم السلام) كلّهم. وَالتعليم عَمل عامّ يشمل الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء والفلاسفة والأئمّة (عليهم السلام) والعلماء والأساتذة والمعلِّمين، ونحن مِنهم -إن شاء الله-. فَهذا العمل عظيم للغاية؛ إنّه عمل بناء الإنسان وإعداده، عمل لا ترقى إليه بقيّة الأعمال لأنّها مرتبطة بجوانب أخرى، إذ لا يوجد في العالم موجود يَصل إلى مقام الإنسان، ولا عمل يوازي عمل بناء الإنسان. إذاً، هو عمل عظيم جدّاً، وشريف للغاية»[2].

«يجب على المعلِّمين أن يلتفتوا، أوّلاً، إلى أنّ عملهم هو عمل الأنبياء (عليهم السلام)، وإلى أنّ مسؤوليّتهم هي مسؤوليّة الأنبياء (عليهم السلام)، ثانياً. إنّ الأنبياء (عليهم السلام) كانوا مسؤولين، وكانوا يقومون بمسؤوليّاتهم بشكلٍ

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص310

[2] المصدر نفسه، ج7، ص310 - 311

 

 

118


108

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

صحيح، ويؤدّون ما عليهم بشكلٍ تامّ، وينجحون في الامتحان... كانوا مكلَّفين بالتربية، وقد قاموا بها وعَمِلوا على قَدر استطاعتهم. وأنتم أيضاً تتحمّلون أعباء هذه المسؤوليّة، ولكم الشرف نفسه.فَكأنّ التعليم ظلّ للنبوّة، والمعلّمين ظلّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وَيجب على الظلّ أن يعمل بالكيفيّة نفسها التي يعمل بها صاحب الظلّ. وإنّما أقول «ظلّ» لأنّ الظلّ لا ينبغي أن يكون عنده شيء مِن نفسه، فَعندما يقع ظلّ شيء على الأرض، فإنَّ حركته تكون حركة ذلك الشيء. وما يقولونه مِن أنّ السلطان هو «ظلّ الله» هو أفضل تمثيل، وَلو أنّنا تصوَّرناه لاستطعنا تمييز الحقّ مِن الباطل؛ فَظلّ الله يتحقّق عندما تكون حركته حركة الله، من غير أن يكون له مِن نفسه شيء. إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ظلّ الله، لأنّه... ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾[1]، وأولئك الذين بايعوك ﴿يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ﴾[2]؛ فَبَيعة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيعة الله، لماذا؟ لأنّ ما كان عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) كلّه هو مِن عند الله، وما كان يراه كلّه فَهو الله. إذ إنّ كلّ حركة يقوم بها الأنبياء (عليهم السلام) تكون مُطابقة لرضى الله، فَهُم يتحرّكون بحركته، يتحرّكون بِتحريكه، لا مِن عند أنفسهم. وأنتم أيضاً أيّها المعلِّمون، يجب أن تكونوا ظلّ الأنبياء (عليهم السلام)»[3].

«أمّا عن دَور المعلِّم، فَهو كدور الأنبياء (عليهم السلام)، إذ إنّهم معلّمو البشرية جمعاء، ودَورهم حسّاس ومهمّ، لأنّ مسؤوليّة جسيمة تقع على عاتقهم، هي مسؤوليّة التربية، وَالإخراج مِن الظلمات إلى النور؛ ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[4]. فالأنبياء (عليهم السلام) يخرجون الناس مِن الظلمات إلى النور، ويَدعونهم إلى الكمال والمحبّة. إنّهم يمثّلون الدين‏ الإلهيّ في الأرض، وَعملهم تربية البشريّة وتعليمها كيفيّة الترفّع عن المراتب الحيوانيّة، لترتقي إلى المراتب

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 17.

[2] سورة الفتح، الآية 10.

[3] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج7، ص311.

[4] سورة البقرة، الآية 257.

 

119


109

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الإنسانيّة؛ فللإنسان مقامات عديدة، أوّلها مقام الحيوانيّة. وَالإنسان، مِن غير تربيةٍ، لا يختلف عن الحيوان، بل قد يكون أخطر منه، إذ إنّه يرتكب بحقّ أبناء نوعه مِن الجرائم ما لا يرتكبه أيّ حيوان وحشيّ.

لقد بُعث الأنبياء (عليهم السلام) لِيُنقِذوا الإنسان الذي تدنّى إلى مرحلة خطيرة تهدّده وتهدّد البشريّة جمعاء، فيُربّوه ويَسموا به إلى مستوى الإنسانيّة، بعد أن تدنّى إلى مستوى الحيوانيّة. ومِن بعد الأنبياء (عليهم السلام) يأتي دَوركم أنتم أيّها المعلِّمون -وفّقكم الله تعالى- فَيَقع على عاتقكم الدَور نفسه، إذ إنّ عَملكم هو إخراج الأطفال مِن الظلمات إلى النور، والتعليم والتربية الإنسانيّة-الإسلاميّة، وَإنقاذهم مِن الأخلاق الفاسدة، وتلك الأحلام والأوهام التي تجرّهم إلى الفساد، وتَربيتهم تربيةً صالحة. أنتم أيّها المعلِّمون تؤدّون عملاً نبيلاً للغاية، هو عمل الله تعالى والأنبياء (عليهم السلام)... تأخذون على عاتقكم مسؤوليّة جسيمة هي مسؤوليّة الأنبياء (عليهم السلام). لقد نجحوا في عملهم، إذ عَمِلوا بما بُعثوا مِن أجله، والآن جاء دورنا لِنعمل برسالتنا؛ فَلو خرج -لا سمح الله- هؤلاء الأطفال مِن مدارسهم، مِن غير أن يتلقّوا التربية الإسلاميّة الإنسانيّة، فإنّ تَبِعة ذلك تقع على عاتقكم. ربّما يستطيع إنسان واحد صالح تربية العالم، وقد يجرّ شخص فاسد العالم إلى الفساد، فالفساد والصلاح يخرجان مِن أحضان مدارسكم، مِن التربية التي تقدّمونها لِتلامذتكم»[1].

«تقعَ على عاتق هاتَيْن الشريحتَيْن -الطالب والمعلّم- وظائف وواجبات يمليها عليهما الإسلام، لِما تتطلّبه الإنسانيّة من الرقيّ والتقدّم والتدرّج في درجات العِلم، للوصول إلى الإنسانيّة الكاملة.

لقد تحمّل الأنبياء (عليهم السلام) وأولياء الله، منذ بدء الخليقة حتّى الآن، الكثير مِن المصاعب في سبيل الارتقاء بمكانة الإنسان والوصول به إلى مستوى الإنسان الكامل بالمعنى الحقيقيّ. فَلَو بحثنا في الكتب

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج9، ص231 - 232.

 

 

120


110

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

السماويّة جميعها التي نزلت على الأنبياء (عليهم السلام)، لَوَجدنا أنّها أكّدت -مِراراً- أهمّيّة تربية الإنسان وهدايته وتهذيبه، لِيأخذ مكانه الطبيعيّ كأفضل المخلوقات، وحَذّرت -أيضاً- مِن ترك هذا المخلوق من دون هداية وتربية، لأنّه سيتحوّل -حينها- إلى أخطر مخلوق. مِن هذا المنطلق، قامت النهضات الإسلاميّة والتوحيديّة مِن أجل هداية البشر بِالإسلام، كدين جاء لِيَرفع منزلة الإنسان ويَصل به إلى الكمال والإنسانيّة الحقيقيّة.

إنّ طبيعة الإنسان، والصراع بين الحقّ والباطل في داخله، تجعله مخلوقاً خطيراً وفاسداً، ما لم تتمّ هِدايته وتربيته؛ لذا بَعث الله الأنبياء (عليهم السلام)، إذ عملوا على منع ظهور الفساد ونُشوب الحروب ومواجهة مشاكل أخرى، كالتي‏ نشهدها في عالَمنا اليوم. إذاً، حَمل الأنبياء (عليهم السلام) لواء الهداية، للوصول بالإنسان إلى الكمال، وتنزيهه عن الآثام، بدلاً مِن الغوص في الخطايا ونشر الفساد في العالم. مِن هنا، يمكننا أن نسمّي الأنبياءَ (عليهم السلام) معلّمين والبشرَ طُلّاباً، إذ إنّهم، بالدعوة إلى الله، يَسعون إلى هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

بناء على ما ذكرنا، فإنّنا لا يمكن أن نحصر كلمة «معلّم» بالمعلّمين في الجامعات والمدارس، وكذلك كلمة «طالب»، لأنّ العالم بأجمعه جامعة كبيرة. ولكن يمكننا أن نُصنّف الأفراد إلى فئتَيْن: مُعلّمين ومُتعلّمين؛ الأولى تهدي المجتمع وتعمل على تربيته وتعليمه، والثانية تنطلق نحو مناهل العِلم والتربية»[1].

سعادة الأمم وشقاؤها بِيَد المعلّمين

«ولكن ثمّة مسؤوليّة كبيرة تقع على عاتق المعلّمين، فَكلّما كان العمل عظيماً كانت المسؤوليّة عظيمة. إنّهم مسؤولون عن المقدّرات والحوادث جميعها التي تَرِد على البلد، وعن الناس جميعهم الذين

 

 


[1] المصدر نفسه، ج13، ص132 - 133.

 

121


111

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

يجب أن يُصبحوا أُناساً، وعن الشباب جميعهم الذين ينبغي أن تتمّ تربيتهم على أيديهم؛ فإنّ تربية الإنسان يجبر أن تتمّ على أيدي المعلّمين. إنّ مقدّرات أيّة دولة تَقع في يَد هؤلاء الذين يتخرّجون مِن التعليم، وَتطوّر أيّ بلد وتقدّمه أو تخلّفه إنّما يكون بِيَد المعلّمين. فالمعلّم، بإعداده نفسَه، يجعل الآخرين يتقدّمون إلى الأمام، ويجعل البلد يتحرّك نحو الأفضل. لكنّه -أيضاً- هو مَن يؤدّي إلى خراب البلد، إذا ما انحرف -لا سمح الله-؛ فإمّا أن يُنشِئ أُناساً مهذّبين ملتزمين يَشعرون بالمسؤوليّة، أو أُناساً طُفيليّين مرتبطين بالغير. هذا كلّه يَنشأ مِن المدرسة؛ إنّ أنواع السعادة وألوان الشقاء جميعها تبدأ مِن المدارس، ومفتاحها بِيَد المعلّمين»[1].

«تنطلق سعادة الشعب مِن الجامعات والمدارس، فالجامعات والمدارس هي التي تدير مقدّرات البلد كلّها. إنّ سعادة أيّة أُمّة بِيَد علمائها؛ فإذا كان علماؤها صالحين وغير منحرفين عن الصراط المستقيم، فَسَتسير على الصراط المستقيم، وتكون سعيدة. أمّا إذا ظهرَت الانحرافات -لا سمح الله- في الجامعات والكلّيّات والمدارس الدينيّة والمدارس العصريّة، فَحينئذٍ، يَبدأ انحرافها.

إنّ الشعوب تتطلّع إلى العلماء، فإذا فَسد العالِم فَسَد العالَم، لأنّ العالَم يتطلّع إلى العالِم. وأنظار عامّة الناس متّجهة نحو مفكّري البلد وعلمائه؛ فإذا كانوا -لا سمح الله- فاسدين فَسَد البلد بِأَسره، وإذا كانوا صالحين صَلُح البلد كلّه. لذا، فإنّ شأنكم -أنتم الجامعيّين الذين تتطلّعون إلى أن تُصبحوا علماء إن شاء الله، و سَتُصبحون كذلك إن شاء الله- كبيرٌ مِن جِهة، ولكنّكم تتحمّلون مسؤوليّة مِن جهة أخرى. فَالْتَفِتوا إلى هذه المسوؤليّة وإلى هذا العبء الذي يقع على عاتقكم، والذي تتحمّلونه، شِئتم أم أَبَيتم، فَالله تبارك وتعالى يدعوكم إلى تربية المجتمع، وهذه خدمة عظيمة -إذا ما قُمتُم بها بشكلٍ جيّد-

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص311.

 

 

122


112

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لا نستطيع بيان درجتها. أمّا إذا أسأتم -لا سمح الله- أداءها، فإنّ فسادها سيكون كبيراً، وهو فَساد العالَم. فَالعالِم ليس كالإنسان العاديّ، بِحيث إذا فَسد تكون تَبعة ذلك عليه وَحده، بل إنّ مرضه يَسري إلى الطبقات جميعها. أنا -بِنفسي- كنتُ أذهب في السابق إلى إحدى المدن، وكنت أرى أهلها صالحين جَيّدين، وعندما بحثتُ في هذا، وكَيف أنّ الناس هناك صالحون؟ تبيَّن أنّ عالِم تلك المدينة رَجل صالح، وهؤلاء قد اقتدوا به. فَمِن الطبيعيّ أن يترك العلماء -في أيّ مكان كانوا- تأثيرهم على الناس، شاؤوا أم أَبوا، إذ إنّ الناس يتطلّعون إليهم. فإذا كانوا صالحين مالَ الناس نحو الصلاح، وإنْ كانوا فاسدين مَالوا نحو الفساد»[1].

الفرق بين التعليم الإلهيّ والتعليم المادّيّ

«يستطيع التعليمُ حلَّ العُقَد إنْ هو أخذ على عاتقه أن يربّي إنساناً أو يُنشِئ ملتزماً مؤمناً بما وراء هذه الطبيعة وهذا العالم، وَيستطيع المحافظة على البلد، فَلا يرتضي خيانته، وَلَو قدَّموا له ما يريد.

لقد أقسمَ أمير المؤمنين (عليه السلام) -بحسب رواية واردة في نهج البلاغة- أنّه لَو أُعطيَ أقاليم الدنيا جميعها على أن يظلم نملة يسلبها قوتَها ما فَعل. لن يستطيع أحد أن يُصبح مثله -طبعاً- ولكنّ مقدّرات البلد بِأيديكم. إنّ الذين هاجموا التعليم والمدارس القديمة والجامعات، سِرّاً وعلانيَة، كانوا يَهدفون مِن وراء ذلك إلى ألّا يخرج مِن الجامعة إنسان، وألّا يخرج مِن المدارس القديمة إنسان؛ لذا فَقَد وقفوا بقوّة أمام التعليم والثقافة عندنا، حتّى لا نخطو إلى الأمام. فَإذا نشأ الذين سَيُمسكون بمقدرات البلد في المستقبل -أثناء التعليم- أناساً ملتزمين صالحين يَشعرون بالمسؤوليّة، فإنّهم سوف يُعيقون تنفيذ مخطّطاتهم. بينما إذا لم يَشعروا بالمسؤوليّة ولم يُبالوا بشيء ولم

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص196 - 197.

 

 

123


113

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

يفهموا غير ما يأكلونه، فَسوف يتمّ اصطيادهم بإعطائهم ما يُريدونه، بِشكلٍ أفضل مِن الآخرين؛ فَتُقدَّم لهم مناصب أفضل، وأموال أكثر، لاستدراجهم إلى الاستعمار والاستغلال.

إذاً، فَعملنا جميعاً -عملي وعملكم- عَملٌ ورثناه من الأنبياء (عليهم السلام). فإذا قُمنا بخيانة هذا العمل فنكون قد قُمنا بخيانة الأنبياء (عليهم السلام) والله تبارك وتعالى؛ ويتمّ ذلك بأن نربّي الشباب -الذين تقع علينا مسؤوليّة تربيتهم- تربيةً مُنحرفة. فإذا كان همّكم أن يبقى بلدكم مَصوناً، وأن يبقى دينكم محفوظاً، فَاعملوا على تنشئة الشباب تنشئةً سليمة؛ أي على تنشئة الإنسان. إنّ مفتاح المحافظة على بلدكم ودينكم بِأيديكم، كما أنّ مفتاح سعادة أيّ بلدٍ وشقائه بِيَد المعلّم؛ فإذا كان المعلّم صالحاً صَلح البلد، وإذا كان مُنحرفاً فَسد البلد. إذاً، أنتم الذين تستطيعون أن تَسيروا بالبلاد قُدماً، معنويّاً ومادّيّاً، وفي الوقت نفسه، أنتم الذين تستطيعون أن تسيروا بالبلاد القهقرى -لا سمح الله- مادّيّاً ومعنويّاً. فالعمل، إذاً، نبيل، والمسؤوليّة جسيمة، ونحن معكم، تبعٌ لكم -إن شاء الله-. لا تخونوا هذه الأمانة التي مَنحكم الله إياها، ولن تخونوها -إن شاء الله-»[1].

ضرر العالم غير المهذّب‏

«المهمّ في الجامعات والمعاهد هو تربية المعلّم‏ تربية جامعيّة مشفوعة بالتعليم والتعلُّم، لِتكون إنسانيّة. فَما أكثر مَن بلغوا المراتب العليا في العِلم، لكن مِن غير تربية إنسانيّة! وضَرر هؤلاء على البلاد والشعب والإسلام أكثر مِن ضرر الآخرين. فَمَن كان له عِلم غير مقترن بِتهذيب الأخلاق والتربية الروحيّة يَكون ضَرر عِلمه على الشعب والبلاد أكثر مِن ضرر أولئك الذين لا عِلم لهم، إذ إنّه يجعل العِلم سَيفاً في يَدِه، يمكن أن يجتثّ به جُذور البلاد، فَلا يُبقي مِنها»[2].

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص313 - 314.

[2] المصدر نفسه، ج8، ص244.

 

124

 


114

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

واجب المعلّمين تجاه الأطفال‏ والتلاميذ

«على مُعلّمي‏ المدارس -أينما كانوا- الاعتناء بهؤلاء الأطفال، لأنّهم أمل مستقبل بلادنا؛ فَمِن أطفال اليوم يُصنع إنسان الغَد وعالَمه. وَمِن حيث إنّهم سيُديرون بِلادنا مُستقبَلاً، لا بدّ مِن أن يحفظوا استقلالها وحرّيّتها مِن بَعدنا. فَعلى المعلّمين أن يعرفوا قيمة هؤلاء الأطفال الناشئين، وألّا يَدَعوهم يتلوّثون بما تلوّثنا به نحن الكبار.

إنّ التربية يجب أن تكون دينيّة، والإسلام يضمن الاستقلال والحرّيّات كلّها. فَإذا ما ربّيتم أطفالنا الصغار تربية إسلاميّة، فَسوف تضمنون استقلالكم وحرّيّتكم. قَدِّروهم حقَّ قَدرهم. أنا أُحبّ هؤلاء الأطفال كما تحبّون أعزّاءَكم، وأشكرهم على عواطفهم الطفوليّة البريئة. هُم جميعاً أعزّائي وقُرّة عَيني، وَهُم محطّ آمالي في المستقبل»[1].

«يجب عليكم أن تنتبهوا جيّداً إلى أنّكم لستُم أشخاصاً عاديّين. فَلَو ارتكب شخصٌ ما مخالفةً في إدارة أو وزارة، فإنّ هذه المخالفة تختلف كثيراً عن المخالفة التي تقع في الأماكن التي يجب أن تتمّ فيها التربية والتعليم، كوزارة التربية والتعليم؛ الفرق كبير جدّاً. إنّ المخالفة التي تحصل في وزارة ما لا تؤدّي إلى اضطراب المجتمع، إلّا في حالات نادرة، ولكن لَو صدرَت في دائرة التربية والتعليم مِن طفلٍ فاسدٍ تمّت تربيته على أخلاق شيطانيّة واستكباريّة، فَمِن الممكن أن يفسد بلداً بِكامله، أو أن يفسد الكثير مِن الناس. وفي هذه الحالات جميعها، أنتم -العاملون في هذا الحقل التربويّ العظيم- شركاء؛ شركاء في المحاسن والأعمال الحميدة وفي الأعمال السيّئة، في الجريمة -أحياناً- وفي النورانيّة التي تساهمون في خَلقها -أحياناً أخرى-. يجب عليكم أن تنتبهوا إلى أنّكم لستم أناساً عاديّين؛ أنتم تُعلّمون جيلاً سوف يتسلّم مقاليد البلاد وشؤونها كلّها في المستقبل. أنتم أمناء على هذا

 

 


[1] المصدر نفسه، ج10، ص66 - 67.

 

 

125


115

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الجيل، فَيجب أن تقترن تربيتكم بِتعليمكم. ولا يقع هذا الواجب على عاتق معلّم التربية الدينيّة وحده، بل إنّه واجب المعلّمين وأساتذة الجامعات جميعهم، في أيّ اختصاص كانوا. ولكنّ معلّم التربية الدينيّة نفسه، إذا أراد أن يُعلّم العلوم الدينيّة مِن غير أخلاق دينيّة، ومن دون أن يهتمّ ببناء الطفل والشابّ، فَمِن الممكن أنّ يتسبّب بِكوارث، وَيُدمّر البلاد. ومعلّمو الاختصاصات الأخرى كذلك أيضاً، فَإنّ عليهم مثل هذا الواجب، بحسب اختصاصاتهم. فَالمعلّمون والأساتذة الذين يسبّبون انحرافاً في التعليم شركاء في الجرم الصادر عنهم مِن جهة، ومُسبّبون لِدمار بلدهم من جهة أخرى. إذاً، التعليم ليس وحده واجبكم، بل يجب أن تُعلّموا هؤلاء الذين بين أيديكم، فالتربية أهمّ مِن التعليم؛ عليكم أن تُربّوهم على الأخلاق الإنسانيّة والأخلاق الإسلاميّة، وأن تُوجّهوهم نحو الله، وأن تُجنّبوهم الفساد الموجود في المجتمعات المنحطّة. عليكم أن تُذكّروهم أنّ سعادتهم وسعادة بلدهم في تربِيتهم تربيةً إسلاميّة-إنسانيّة. يجب عليكم أن تُربّوهم على الاحتراز عن الطبيعة المنحطّة التي تشدّ الإنسان نحو الانحطاط، والتي تتمثّل بحبّ الجاه وحبّ المال وحبّ المنصب. يجب أن تُبعدوهم عن هذه الأشياء التي هي مِن صعوبات طريق الإنسان، والتي تمنع رُقيّه. وضِّحوا لهم أنّ الإنسان، طالما كان مُنصرفاً إلى عالم الطبيعة هذا، فإنّه ليس إنساناً؛ كَمَن كان همّه كلّه الحصول على شيء من الحياة الرغيدة التي تُؤمَّن فيها الأمور المادّيّة، ففي النهاية، سيكون وضعه كحيوان همّه حاجاته المادّيّة فقط. يجب عليكم أن تُوَضِّحوا لهم أنّ الحياة هي الحياة الشريفة، وَالحياة الإنسانيّة هي الحياة الشريفة. يجب عليكم أن تمنعوهم من عبادة غير الله، وأن تربّوهم على عبادته؛ فَإذا دخل الإنسان المجتمع عن طريق عبادة الله، أو نظر إلى الأمور مِن منظار هذه القناة، فإنّ أعماله كلّها تصبح إلهيّة. إذا قَبِلَ الإنسان عبادة الله فقط، واحترز من سائر الأشخاص؛ أي دخل عن طريق هذه القناة في الدنيا وفي الطبيعة، فَسيكون كلّ عمل يقوم به عبادة، لأنّ المبدأ

 

126


116

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

هو عبادة الله. لقد لاحظتم كيف إنّ في القرآن الكريم، وفي الصلاة أيضاً، تُقدَّم عبادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لله على رسالته (عبده ورسوله)، فَهو عبدٌ قبل أن يكون رسولاً. ومِن الممكن أن يكون هذا الأساس إشارة إلى أنّه وصل إلى الرسالة عن طريق العبوديّة؛ تحرَّر مِن كلّ شيء وصار عبداً لله، لا لِأشياء أخرى.

إذاً، ثمّة طريقان لا أكثر؛ إمّا عبوديّة الله، وإمّا عبوديّة النفس الأمّارة. هذان هما الطريقان. فَأن يتحرّر الإنسان مِن عبادة الآخرين، ويقبل عبوديّة الله الذي يليق بأن يكون الإنسانُ عبدَه، يعني أنّ الأعمال التي يقوم بها ليس فيها انحراف؛ أي إنّه لن ينحرف متعمَّداً. وَهذه الانحرافات جميعها، سواء أكانت في العقائد أو في الأعمال والأقلام والأحاديث المنحرفة، تتمّ لأنّها لم تمرّ من قناة العبوديّة لله، ولأنّهم عبيد الأهواء النفسيّة.

هؤلاء الصغار في المرحلة الابتدائيّة، مِن حقّ كلٍّ منهم أن يكون إنساناً، بِتمام معنى الكلمة. إلّا أنّ لِكلٍّ منهم استعداداً لأن يكون شيطاناً أو حيواناً. فالتربية هي التي تدفع الطفل نحو طريق الإنسانيّة أو طريق الحيوانيّة؛ فَإذا زيّن المعلّم له مقامات الدنيا ومناصبها، وأكثرَ مِن الحديث عن هذه الأمور، وملأ قلبه بها، فإنّه ينشأ على هذا الشيء، ويَشبّ عليه. فالطفل، ذو القلب الصافي النورانيّ، يقبل ما تعلّمه في هذه المرحلة، وَما وقع في قلبه. وَحين ينتقل إلى مرحلة أخرى، كأنْ يطلب شهادةً أو عمل، فإمّا أن يتحوّل إلى موظّف بِطُرق شرعيّة أو إلى ناهب.

إذا ملأتم أذهان الأطفال بالحديث عن العمل والمنصب، مِن قبيل: كيف سيكون منصبك؟ وهل ستَملك مالاً أو مزرعة؟ فإنّ اهتمام الأطفال كلّهم يصبح هذه الأشياء، لا غيرها. ولو أنّكم لقّنتموهم أنّه يجب أن نعيش في هذا البلد بِشرف إنسانيّ، فإنّ هذا المعنى يرسخ في أذهانهم -إن هُم عملوا لله- كما رسخ في ذهن اللصّ وناهب أموال

 

 

127

 


117

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الناس والمنحرف الذي يَقبض الراتب، ولكن مع فارقِ أنّ أحدهما امتلك بيتاً -مثلاً- عن طريق الخيانة، والآخر عن طريق عبادة الله؛ أحدهما لم يكترث بالبيت فَامتلكه كحاجة طبيعيّة له، والآخر لم يهتمّ بشيء سوى الحصول عليه. فَإذا لم يهتَدِ الإنسان إلى الطريق المستقيم الذي خطّه الله تبارك وتعالى له، ولم يسلكه، فإنّ الطرق الباقية جميعها منحرفة ومُعوَجّة. فَإن وَصل المنحرفون والمعوجّون في بلد ما إلى مقدّراته، فإنّه سَيؤول إلى الانحطاط والانحراف، بينما إذا وَصل الأفاضل والعلماء، ذوو الفضائل الإنسانيّة، إلى السلطة، فإنّ فضائل ذلك البلد ستزداد، لأنّ الناس -وبحسب المنزلة التي هُم فيها- يهتمّون لِكلامهم المؤثّر في أفكار العامّة منهم؛ أي إنّه مِن الممكن أن تؤدّي كلمة مِن شخص ذي مكانة ونفوذ في المجتمع إلى توجيه المجتمع نحو الفساد أو الصلاح. وأنتم أيّها السادة، تريدون أن تُقدّموا للمجتمع مِثل الأفراد الصالحين. لا تتوهّموا أنّهم أفراد عاديّون، فمِن المحتمل أن يصبح هذا الفرد العاديّ رئيساً لِبلد، أو صاحب منصب، وهُنا نُعمِل الميزان؛ فَإن كان قد انحرف‏ عندكم أثناء التعلّم، مِن الممكن أن يُفسد فرداً ومجتمعاً. النبيّ (صلى الله عليه وآله)، مثلاً، كان فرداً، عَبَر مِن مقام العبوديّة إلى مقام الرسالة، ولكنّ كلّ شيء فيه كان إنسانيّاً، فَأصلَح المجتمعات الكبرى، مُنذ بُعثَ إلى فترات لاحقة؛ كان شخصاً واحداً، ولكنّ فرداً يُصلِح مجتمعات. وَلَو أنّ الدنيا كانت خالية مِن الأنبياء (عليهم السلام) -أي لَو كان ثمّة بشر مِن غير أنبياء- لَكُنّا سمعنا اليوم حكايات في الدنيا، ورأينا فضائح لا يتمكّن الإنسان مِن أن يرى نظيرها. أمّا الآن، وقد قام الأنبياء (عليهم السلام) بتحمُّل العناء، وشرّفوا البشريّة بتعليمهم وتربيتهم -على الرغم مِن أنّ المنحرفين كانوا كثيرين أيضاً، وقاموا بالوقوف في وجههم، ودَعوا الناس إلى الانحرافات- فإنّ ما في الدنيا كلّه مِن بَرَكات هو مِن الأنبياء (عليهم السلام). أنتم، لو لاحظتم الملفّات والقضايا الموجودة اليوم في المحاكم في أنحاء الدنيا كلّها، فَلن تروا قضايا للأشخاص الذين يعتقدون بالأنبياء (عليهم السلام)، والذين تربّوا تحت عنايتهم، فالقضايا الجنائيّة

 

128

 

 

 


118

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

التي تخصّهم قليلة أو غير موجودة أصلاً. قضايا الجنايات جميعها، والملفّات الماليّة والجنائيّة والإجراميّة كلّها، تصدر عن أشخاص بعيدين عن تربية الأنبياء (عليهم السلام)، حتّى لو كانوا يصلّون، فَصلواتهم لم تمرّ عبر قناة العبوديّة، وَحتّى لَو فرضنا أنّ الأعمال التي يقومون بها صالحة، لكنّها لم تكن مِن طريق العبوديّة المستقيم؛ ومَن يقوم بمثل هذه الأعمال، فإنّ همّه كلّه والتفاته سيكون إلى نفسه.

الأطفال يَقبلون ما يُوجَّه إليهم بسرعة، فَلَو استطعتُم أن تُربّوا هؤلاء الأطفال على أن يَطلبوا الله مِن البداية، ويوجّهوا اهتمامهم كلّه نحوه، ولَو تمكّنتم مِن تلقينهم عبوديّة الله -الذي له كلّ شيء- والصِلة معه، وَألقَيتم إليهم التربية الإلهيّة، لَقَبِلوا ذلك، وَتكونون قد قدَّمتُم إلى المجتمع خِدمة؛ أي يكون لِتَعبكم قيمة. فيما لَو قدَّم أحدٌ -لا قدّر الله- خِلاف ذلك لهذه الأمانة، فإنّه يكون قد ارتكب خيانةً مختلفة عن الخيانات جميعها؛ خيانة الإنسان وخيانة الإسلام وخيانة عبوديّة الله.

يجب عليكم الانتباه جيّداً. لَقد اخترتم عملاً سامياً جدّاً، ولكن يجب أن تنتبهوا إلى مسؤوليّته. ربّوا، فالمهمّ هو التربية، لا فائدة مِن العِلم وحده. العِلم وحده مُضِرّ؛ فَعندما يُلاقي المطرُ -وهو رحمة إلهيّة- الورودَ ينتشر عبقها وأريجها، وعندما يُلاقي الأشياء القذرة فإنّ رائحتها القذرة تتصاعد. وَلَو دخلَ العِلم قلباً رُبِّيَ فإنّ عِطره يملأ العالم، ولو دخل قلباً لم يترَبَّ فإنّ فساده يملأ العالم؛ إذا فسد العالِم فسد العالَم، وإذا كان صالحاً صَلحَ. لذا، فَإنّ الصلاح شعاع مِن النور يوصل الناس إلى السلام والإصلاح والحُسن. وأنتم تتصدّون لِمِثل هذا العمل، من أجل إيصال هذا العالم إلى النور مِن بعد الظلمات. حاوِلوا إظهار نورانيّة الأطفال النورانيّين لتتفتّح مواهبهم. أنتم تتصدّون لِأمرٍ جليل؛ قوموا بتربيتهم تربية إسلاميّة صحيحة، حتّى يَنال بلدكم -إن شاء الله- سعادته»[1].

 

 


[1] المصدر نفسه، ج14، ص33 - 36.

 

129


119

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

طريق التربية والتعليم

«إنّ الطريق الوحيدة إلى التربية والتعليم هي التي بَيَّنها الله سبحانه وتعالى وهي التهذيب المقترِن بالتربية الإلهيّة التي ربّى الأنبياء ُ (عليهم السلام) الناسَ عليها، فَقد جاؤوا بالعِلم لِيَسير بالبشريّة نحو سعادتها، وَيوصِلها إلى كمالها المطلوب؛ ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾[1]. إنّ الآية تُوضّح ميزان المؤمن وملاك الإيمان، فَتفصل مُدّعي الإيمان عن المؤمنين؛ وَما أكثر مُدّعي الإيمان في قِبال المؤمنين الحقيقيّين! إذ ثمّة مؤمنون ترَبّوا على أيدي الأنبياء (عليهم السلام)، فَخَرجوا مِن الظلمات والمشاكل والنقائص جميعها، وتجاوزوا الموانع كلّها التي تقف في طريق الإنسان، وَدخلوا النور والكمال المطلق، عن طريق تربية الأنبياء (عليهم السلام) الإلهيّة لهم، فَقد ربّاهم الله وهيّأهم لهذا الأمر. الميزان، إذاً، هو هذا؛ فَالمؤمن مَن خَرج مِن الظلمات، بواسطة تعاليم الأنبياء (عليهم السلام)، وَوَصل إلى النور المطلق. وفي الجهة المقابلة، الكُفّار؛ أي «الذين كفروا». فَلَيس اللهُ وَليّهم، بل الطاغوت الذي يخرجهم مِن النور ويُدخلهم في الظلمات.

إذاً، ملاك المؤمن وغير المؤمن -بحسب الآية الشريفة- هو هذا؛ فَالمؤمن الحقيقيّ الذي آمن بالأنبياء (عليهم السلام) وتربّى على أيديهم، سَيخرج من الظلمات والنقائص جميعها ويَصل إلى النور، فيكون الله سبحانه معلّمه ووليّه، إلى جانب الأنبياء (عليهم السلام)؛ فَقد خَصّ اللهُ الأنبياءَ (عليهم السلام) بِعنايته وتربيته، وأرسلهم لِتربية البشر جميعهم. فَفي حال تعلّمنا على أيديهم، واستفدنا من العلوم التي حملوها إلينا، ونهلنا مِن تعاليمهم وإرشاداتهم، كُنّا على الصراط المستقيم وفي طريق النور، مُهتدين بالله سبحانه وتعالى؛ النور المطلق»[2].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص393.

 

 

130


120

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أولويّة التربية على التعليم‏

«تُعدّ مسألة التربية أعظم وأكثر أهمّيّة مِن مسألة التعليم؛ لذا فإنّ الآية الشريفة ذكرت -أوّلاً- تلاوة آيات القرآن الكريم ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ لِتبيين تعليمات طريق التربية والتعليم، ثمّ مسألة التزكية ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ﴾ قبل مسألة التعليم؛ ما يدلّ على أنّ مسألة تزكية النفس أكثر أهمّيّة مِن مسألة تعليم الكتاب والحكمة، وأنّها مُقدّمة وقوع الكتاب والحكمة في نَفس الإنسان. فَلَو قام الإنسان بتزكية نفسه وتربِيتها، بحسب توصيات الأنبياء (عليهم السلام) التي جاؤوا بها إلى البشر كافّة، فإنّ الكتاب والحكمة سيَرتسمان في نفسه بمعانيهما الحقيقيّة؛ ما يوصله إلى الكمال المطلوب. لذا، يقول تعالى في آية أخرى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ﴾[1]؛ فَلا فائدة من العِلم وَحده، ما لم يرتبط بالتربية والتزكية. فَكما أنّ الحمار لا يستفيد مِن الكتب التي في خرجه، سواء أكانت كتب التوحيد أو الفقه أو كتباً علميّة، كذلك الذين يَخزِنون أنواع العلوم والمعارف في باطنهم من دون أن يقوموا بتربية نفوسهم وتزكيتها، فلا فائدة من علومهم، بل قد تكون في بعض الأحيان مُضرّة. فَفي كثير مِن الأحيان، لا يقوم العالِم الذي يعرف كلّ شيء بِتزكية نفسه وتصفِيتها بواسطة التربية الإلهيّة، فَيكون عِلمه وسيلة دمار للبشريّة. والعلماء الذين يجلبون الدمار للبشريّة أسوأ مِن الناس العاديّين، لأنّ ضَررهم أكبر؛ ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ﴾ بل أسوأ، لأنّ عِلمهم يؤدّي إلى تدمير الآخرين. فَعلى العاملين في مجال إعداد المعلّمين -وكلّ مَن يعمل في هذا المجال- أن يعلموا -أوّلاً- أنّ هذا العملَ إلهيٌّ، إذ إنّ الله سبحانه وتعالى هو مُربّي المعلّمين؛ أي الأنبياء (عليهم السلام). فإذاً، العمل عملٌ إلهيّ أوّلاً، والتربية والتزكية متقدّمتان على التعليم ثانياً.

 

 


[1] سورة الجمعة، الآية 5.

 

 

131


121

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لَو حقّقت مدارسنا وكلّيّاتنا وجامعاتنا والمدارس التعليميّة كلّها -سواء أكانت تدرّس العلوم الإسلاميّة أو غير الإسلاميّة- التربية والتزكية، فإنّها تستطيع أن تقدّم خدمات كثيرة، وتُهدي البشريّةَ السعادة؛ فَسعادة البشر كلّها مِن العِلم والإيمان والتزكية.

﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ﴾[1]، فالإنسان -أي الحيوان الذي يُدعى إنساناً- في خُسران وضرر، إلّا طائفة واحدة، هُم الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى وأطاعوه وعَمِلوا الصالحات. ومِن آثاره التواصي بالحقّ ﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ﴾[2]؛ أي يوصون بالحقّ وبالصبر، وإلّا خرجوا مِن هذا الاستثناء ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾[3]. فَاسعَوا إلى تربية أنفسكم وتزكيتها قبل التعليم، إذ إنّها مقدَّمة عليه وعلى تلاوة القرآن وتعلُّم الكتاب والحكمة. وظيفتكم، إذاً، تربية المعلِّمين الملمّين بِالعلوم التي يحتاجها الإنسان والبشر كافّة؛ سواء أكانت في الدنيا أو الآخرة. وَمُضافاً إلى ذلك، بل قبل ذلك كلّه، يجب أن تكون تزكية النفس في صلب عملكم، لأنّها إن لم تكُن، فإنّ تعاليمكم وإرشاداتكم، إنْ لم تجلب الضرر للبشر، فَلَن تجلب النفع لهم؛ فالأضرار كلّها التي لحقت بالبشر، والخسران كلّه الذي يواجهه البشر على هذه الكرة الأرضيّة، كان بسبب العلماء المتخصّصون، لكنْ مِن غير تربية إلهيّة. فَإذا قُمنا بتزكية أنفسنا وَفق التربية الإسلاميّة، وكان الله عزّ وجلّ وليّنا، لا الطاغوت، فإنّ هذه النقائص الموجودة في بعض أنحاء بلدنا وفي مختلف أنحاء العالم ستزول وتنعدم، لأنّ سبب الاختلافات التي تظهر هو عدم قيامنا بالتربية والتزكية، إلّا الاختلاف ما بين الحقّ والباطل.

إنّ أكبر عدوّ لنا هو نفسنا التي بين جنبَيْنا؛ أي إنّ نفس الإنسان هي العدوّ الأكبر له. فَإذا لم يعمل على تربيتها وتزكيتها فإنّها سَتَسوقه

 

 


[1] سورة العصر، الآية 2.

[2] سورة العصر، الآية 3.

[3]  سورة العصر، الآية 3.

 

132


122

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

إلى دمار أخيه الإنسان، والدخول في الظلام الذي يوصِل إلى الظلام الأكبر؛ أي جهنّم. بينما إذا قُمنا بتربية أنفسنا، فإنّ مشاكلنا جميعها سوف تحلّ، إذ إنّ سببها انعدام التربية والتزكية، وعدم الخضوع للتربيّة الإلهيّة، وعدم الانضواء تحت لواء الإسلام. وبِحسب الواقع، فإنّ هذه الأزمات جميعها التي تشاهدونها، والموانع كلّها التي تواجه شعبنا، سببها عدم وجود التربية والتزكية في صلب أعمالنا، وانتشار الجهل، أو العِلم المضرّ بالإنسان. وقد ذكر الله عزّ وجلّ ميزان العِلم بواسطة الأنبياء (عليهم السلام): «العلم نور»[1]؛ أي إنّ العِلم نور يقذفه الله في قلوب الناس، فإذا أوجد النورانيّة فَهو عِلم، وإذا أصبح حِجاباً للإنسان فلا يكون عِلماً، و«العِلم هو الحجاب الأكبر».

إذاً، عَلى العاملين في مجال التربية وإعداد المعلِّمين أن يجعلوا التربية على رأس أولويّاتهم، ومقدّمة لكلّ شيء. فَنفوس الشباب مستعدّة لتقبُّل أيّ شيء، إذ إنّها كمرآة مصقولة لم تنفصل عن فطرتها، يمكن أن يُرسَم عليها كلّ شيء. فإنْ دَعا المعلّمُ إلى النور والصلاح والإسلام والأخلاق الحميدة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، فإنّ فِعله هذا يماثل فِعل الأنبياء (عليهم السلام) الذين يخرجون الناس مِن الظلمات إلى النور، مِن حيث إنّه يُخرج الشباب مِن الظلمات إلى النور. وإنْ خالف المعلّمون -لا قدّر الله- طريق الحقّ والصراط المستقيم، ولم يقوموا بتربية أنفسهم وتزكيتها، فإنّ آراءهم وأفكارهم المنحرفة سترتسم على مرايا نفوس شبابنا، وتحرِفهم عن الطريق المستقيم، إمّا شرقاً أو غرباً»[2].

سعادة البشر في العلم والتربية

«إنّه لَمِن السذاجة أن يظنّ الإنسان أنّ المدارس للعِلم فقط، وأنّ

 

 


[1]  الإمام الصادق، جعفر بن محمّد (عليهما السلام) (منسوب)، مصباح الشريعة‏، مؤسّسة الأعلميّ، لبنان - بيروت، 1400هـ، ط1، ص16.

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص393 - 396.

 

 

133


123

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

المعلّمين لا بدّ مِن أن يكونوا متخصّصين، بِغضّ النظر عن مشاربهم الفكريّة والعقديّة؛ أي إنّ ارتباطهم بالغرب أو بالشرق سيّان. وهذا يجعل أبناءنا -بنفوسهم الصافية النقيّة- عرضة لتقبُّل الأفكار المنحرفة؛ فإذا كان المعلِّم شرقيَّ الفكر، طبَّع أبناءنا بما يحمله، وإذا كان فكره غربيّاً فإنّه سيؤثّر في نفوسهم. لا يصلح التخصّص والتمكُّن العِلميَّيْن لِأنْ يكونا معياراً للمعلّم الجيّد، بل لا بدّ له مِن التربية والتزكية. فإذا ما اقترن التخصُّص بالتربية والتزكية -التي علَّمها الله سبحانه لرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتجسّدَت به، وظهّرَته لنا قدوة وأسوة- كان العِلم حقيقيّاً، وَضَمِن السعادة للبشريّة. فإذا وُجِد ذلك في مدارسنا، الإسلاميّة أو غيرها، ووُجِد العلم الحقيقيّ الملتزم بالتعاليم والضوابط الإلهيّة، فَلَن يطول الوقت حتّى يصبح شبابنا -الذين هُم أمل هذا البلد ومستقبله- مؤمنين ملتزمين بِطريق الحقّ، غير مَشوبين بالأفكار الغربيّة أو الشرقيّة.

 

إنّه لَمِن السذاجة -حقّاً- أن نظنّ أنّ التخصّص يَكفي. لَو أرَدنا ترويج العلم والاستفادة مِن العلماء، لا بدَ مِن أن يكون عِلماً غير مَشوب بالانحراف، فَلا نُعيِّن أساتذة ومعلّمين تربّوا في موسكو أو واشنطن. إنّ متخصّصين كهؤلاء قد يعالجون مَرضاً ظاهرياًّ هنا، ولكنّهم -في الوقت نفسه- يزرعون أمراضاً داخليّة وباطنيّة عديدة؛ يزول عنّا مرض صغير، ونُبتلى بِداءٍ أعظم. يجب علينا أن ننتبه إلى الأمور والمسائل جميعها. وَهؤلاء البعثيّون مِثالٌ حيٌّ أمامكم، فَهُم -الآن- مصدر مشاكل بلدنا كلّها، ومشاكل شعب العراق المسلِم، الذي أصابه أكثر ممّا أصابنا بسببهم. هؤلاء البعثيّون تخصّصوا في الجامعات، وتخرّجوا منها، ولكن لم يكن لديهم أيّة تربية أو تزكية، وَإذا لم يقترن العلم مع التربية والتزكية يَظهر النظام الصدّاميّ السابق. فَإذا لم نُقرن عِلمنا بتزكية أنفسنا وتربيتها، سنكون صدّاميّين. لذا، فَلتكن تربيتكم تربيةً إسلاميّة-إنسانيّة، على الصراط المستقيم، لأنّنا لا نقبل بتربية موسكو أو واشنطن»[1].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج13، ص396 - 397.

 

 

134


124

المقدّمة

«إذا أردتُم أن تُعلّموا الأطفال فقط، مِن دون أن تهتمّوا بجانب التعليم والتربية الإنسانيّة والأخلاقيّة، فإنّ المتعلِّم سيقطع المراحل التعليميّة، ولكنّ العِلم سيشدّه -أو يشدّ أكثرهم- إلى الفساد.

 

لا يأتي الإنسان إلى الدنيا فاسداً، بل يأتي بِفطرة جيّدة إلهيّة، إذ إنّ كلّ مولود يولد على الفطرة الإنسانيّة، فِطرة الصراط المستقيم، فطرة الإسلام، وفطرة التوحيد. ولكنّ التربية هي التي تسدّ الطريق على هذه الفطرة، فَتوصل المجتمع إلى كماله المنشود -بحسب كلّ مجتمع إنسانيّ- وتجعل البلاد إنسانيّة نموذجيّة كما يريدها الإسلام. فتعليم الأطفال مِن دون تربية، يمكن أن يدفع البلاد وشؤونها إلى الدمار، إنْ هُو وَقع في أيديهم. أنتم -أيّها المعلّمون وأساتذة الجامعات في أنحاء البلاد- جميعكم مَسؤولون تجاه هذه الأمانة التي أَعطاكم إيّاها الله تبارك وتعالى وأولياء الأطفال. جميعكم مسؤولون. لا تظنّوا أنّ عَدد الطلّاب الذين تُعلّمونهم لا وزنَ له، والآخرون هم الذين يقومون بالأعمال، إذ إنّ مِن الممكن أن يكون من بين هؤلاء شخص يَصل إلى مرتبة عالية -كأن يصبح رئيساً للجمهوريّة والبلاد أو رئيساً للوزراء- أو تصبح مناصب الوطن العليا بِيَده، فيقضي على بلدٍ بأكمله. فَإنْ هوَ تتَلمَذ على يَديك، ثمّ ذَهب عند مَن يُربّيه تربية فاسدة، أو تعلَّم مِن دون أن يهتمّ بأن يتربّى تربية إنسانيّة، أو تتَلمذ -لا سمح الله- على يَد معلِّم مُنحرف؛ أي إنّه كان تحت تأثير تربية مُنحرفة في مراحل حياته كلّها، مِن الممكن أن يقضي على بلد كامل...

 

يجب أن تنتبهوا إلى هذا المعنى؛ فَإذا كانت تربيتكم -لا سمح الله- تربية غير إنسانيّة وغير إسلاميّة، فإنّكم ستكونون شركاء له في أيّ عمل يقوم به في المستقبل؛ أي شركاؤه في الجريمة. وَإذا كانت التربية تربية إنسانيّة موافِقة للفطرة، فأنتم شركاء له -أيضاً- في أيّ عملٍ حَسَن يقوم به في المستقبل. المعلِّم أمين، لا كغيره من الأمناء، إذ إنّ الإنسان أمانة بِيَده، فإذا خان الأمانة ارتكبَ إثماً.

 

135


125

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لَو اؤتُمِن على سجّادة فَفرّط بها، فإنّ ذلك لن يؤثّر على المجتمع، بل سيضرّ شخصاً واحداً -طبعاً يجب عليه أن يُعوّض عن الضرر الذي ألحقه به- ولكن لَو كانت الأمانة إنساناً أو طفلاً قابلاً للتربية، وَارتكب خيانة بحقّه، فإنّ هذه الخيانة قد تكون خيانة للشعب والمجتمع والإسلام. بناءً على هذا، فإنّ هذا العمل، على الرغم مِن أنّه عمل شريف وقَيِّم جدّاً، مِن باب أنّه شُغل الأنبياء (عليهم السلام) الذين جاؤوا فيه لِتربية الإنسان، إلّا أنّ مسؤوليّته -كما كانت مسؤوليّة الأنبياء (عليهم السلام)- كبيرة جدّاً»[1].

الفطرة النقيّة للأطفال والناشئة

«أنتم تعلمون أنّ هؤلاء الأطفال الموجودين هنا في المدرسة الابتدائيّة -والذين سيكونون في الثانويّة بعدها، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى الجامعة- هُم رأسمال الوطن؛ أعني رأسماله وبناءه العلميّ. وتعلمون أنّ لهؤلاء الأطفال -منذ دخولهم بيئة التعلُّم- نفوساً سالمة نقيّة قابلة لأنواع التربية وما يُلقى إليها كلّه. وَأنّهم -منذ دخولهم دُور الحضانة- أمانات إلهيّة بأيدي مَن يُعلّمونهم، سينتقلون إلى أماكن أخرى وإلى معلّمين آخرين، إلى أن يكبروا ويرشدوا ويَصلوا إلى المراحل العُليا والجامعات. فَإذا تمّت تربية هؤلاء الأطفال تربيةً مناسبة لإنسانيّتهم وفِطرتهم الإنسانيّة النقيّة، من البداية، ومِن دون أيّ انحراف، في الحضانة والمدارس الابتدائيّة، فإنّهم سينتقلون إلى الثانويّات بالتربية نفسها، ثمّ إلى الجامعات. فَإذا تمّت التربية فيها -أيضاً- على أساس الصراط المستقيم، وَقام المعلّمون بتربيتهم تربية إنسانيّة وهدايتهم طبقاً لِما تقتضيه ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ﴾[2]، تحمَّلوا مسؤوليّة مصير البلاد، وقادوا المجتمع إلى الأمام،

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج14، ص32 - 33.

[2]  سورة الروم، الآية 30.

 

 

136

 


126

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وَجَعلوه نورانيّاً وإنسانيّاً، ورَبّوا البلاد على أساس فِطرة الله. فَإذا كانت التربية إنسانيّة، أثّرت في اليافعين أكثر -من حيث إنّهم أكثر قابليّة- وخَطُوا المراحل أسرع»[1]‏.

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج14، ص31.

 

137


127

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر الرابع: الإعلاميّون

لا يقلّ دَور المؤسّسات الإعلاميّة -خاصّةً في وقتنا الراهن- عن دَور أيّة مؤسّسة أو وسيلة تربويّة أخرى، إذ إنّها تُقدّم الغِذاء الثقافيّ والتربويّ -بِشكلٍ واسع- لشرائح المجتمع كلّها. مِن هنا، أعرَب الإمام الخمينيّ (قدس سره) عن قلقه حول قضيّة إصلاح وسائل الإعلام -ولا سيّما الإذاعة والتلفزيون والصحف- منذ انتصار الثورة.

فَقامَ الإمام (قدس سره)، في هذا المجال، بالآتي:

1. رسّخ فكرة أنّ وظيفة وسائل الإعلام تربويّة تعليميّة بِشكلٍ أساسيّ، بل إنّها بمثابة الجامعة للناس جميعاً.

2. بيّنَ دَور وسائل الإعلام تاريخيَاً في إصلاح المجتمع أو فساده.

3. طرح مفهوم «استقلال المؤسّسات الإعلاميّة» بِشكلٍ أساسيّ، وبَيّن معناه، بِحيث لا يكون مُساوياً للحرّيّة المطلقة المبايِنة لضرورة إصلاحها.

4. ركّز على قضيّة ارتباط أساس النظام الإسلاميّ بِحفظ الوسائل الإعلاميّة.

الإذاعة والتلفزيون‏ مؤسّسة تعليميّة

«الإذاعة والتلفزيون جِهاز مهمّ في البناء والتربية، كما هو مهمّ في الإفساد. ولعلّ الذين اخترعوا هذه الأجهزة كانوا يطمحون إلى أن تكون أجهزة تربويّة، والشيء نفسه يَصدق على الصحافة، لكنّ أهمّيّة الإذاعة والتلفزيون أكبر، فَينبغي أن تتمّ بواسطتها تربية فئات الشعب كافّة، من حيث إنّها جامعة عموميّة لا ينحصر وجودها بِمكان مُعيّن، كالجامعة، بل إنّها جامعة على مستوى البلاد بأسرها. لذا، تنبغي الاستفادة مِنها في هذا الإطار بأقصى ما يمكن. فَينبغي عليها، والحال هذه، أن تساهم في توعية الناس بعد سنوات ٍمِن عملها، فتجعل

 

 

138

 

 


128

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الجميع مجاهدين مفكّرين مستقلّين تحرّريّين بعيدين عن التغرُّب، وأن تُعلِّم الناس الاستقلال -وهو أهمّ متعلّقات هذه الأجهزة-؛ أي إنّ مسؤوليّتها تتلخّص في أن تكون مع الناس كالمعلّم مع الطلّاب. فَليتحدّث عَبرها الكتّابُ والخطباء الواعون المطّلعون، إذ لا بدّ مِن إعطاء هؤلاء فرصة للحديث عبر هذه الأجهزة. وَثمّة العديد ممّن يتمكّنون من اقتراح هذه المعاني، فَليُعطوا فرصة التحدّث، وليُقدّموا للناس موادّ مفيدة وغذاء نافعاً وصحيحاً وسليماً، بدلاً مِن الأمور التي لا تنفعهم أو تضرّهم»[1].

«عليكم أن تعلموا أنّ هذه الأجهزة... يجب أن تكون أجهزة تعليميّة. فَفي زمن الطاغوت، عَملَت هذه الأجهزة على استغفال شبابنا بشأن مصيرهم، وتوجيه شعبنا نحو أمور غير مُجدِية، والحال أنّ دُور السينما لم توجَد لِتحقيق الأغراض المشؤومة التي سَعَوا إليها طوال هذه المدّة. الإذاعة والتلفزيون‏ مؤسّسة تعليميّة، وكذلك دُور السينما، فَتنبغي إدارة هذه المؤسّسات والمراكز إدارةً سليمة وأخلاقيّة»[2].

«يجب أن تكون الإذاعة والتلفزيون والمسرح وسائل للتربية والتعليم. وَالإسلام لا يعارض تلك الأجهزة، إلّا أنّه يريد تهذيبها وجَعلها في خدمته وخدمة تربية الشبّان. فَنحن، إذ إنّنا مُكلّفون بتربية هؤلاء الشباب الذين نحبّهم، علينا أن نربّيهم تربية إسلاميّة دينيّة، آخذين بعَين الاعتبار متطلّبات العصر، بحيث يعرفون -من البداية- قضايا العصر، ويدركون ما عليهم القيام به في المستقبل. فَيجب أن تقترن هذه التربية بالعِلم»[3].

«يستطيع الإعلام المرئيّ، عن طريق السمع والمشاهدة، تربية الناس أو هدم الأُسس الإنسانيّة داخلهم. مِن هذا المنطلق، كانت

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج6، ص316 - 317.

[2] المصدر نفسه، ج6، ص325.

[3]  المصدر نفسه، ج6، ص376.

 

 

139


129

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

المسؤوليّة الملقاة على عاتق الواقفين على إدارة هذه الأجهزة الإعلاميّة مسؤوليّة جسيمة؛ بمعنى أنّ تأثير الراديو والتلفزيون السالِمَين الإيجابيّ يَسير بالمجتمع في مساره الصحيح، بينما إذا اعترضهما -لا قدّر الله- أيّ انحراف، فإنّهما سيؤدّيان إلى ضياع المجتمع بأكمله. لذا، ينبغي على وسائل الإعلام القيام بِدَور المربّي في المجتمع، فإنّها قد وُجدَت -أساساً- من أجل إصلاحه. وَلَو فرضنا أنّها لم توجد من أجل ذلك، فَإنّها -في النهاية- وسيلة مِن وسائل التربية. فَالصحيفة والمجلّة يجب أن تكونا تربويّتَيْن لِمَن يقرأهما، والسينما يجب أن تكون مربّياً لِمَن يدخلها، وكذلك المسرح، بينما يبرز دَور الراديو والتلفزيون على نطاقٍ أوسع. إذاً، ينبغي استخدام هذه الأجهزة في تربية أفراد وطنيّين مُسلمين صالحين»[1].

«يجب أن تكون الإذاعة وسيلة لتربية الشعب وتعليمه. إنّ باستطاعة الإذاعة والتلفزيون -أفضل مِن غيرهما- أن يربّيا بلداً كاملاً، إذ إنّ طالب العِلم والأمّيّ يستفيدان مِنهما، بعكس الوسائل الأخرى، كالصحف والمجلّات، التي تخاطب فئة معيّنة مِن الناس، فإنّ تأثيرها محدود. أمّا الإذاعة والتلفزيون فإنّ انتشارهما واسع، فَها أنتم تقولون إنّ لإذاعتكم أربعة ملايين مُستمع. فَفئات الشعب جميعها تستطيع الآن أن تشاهد التلفزيون وتستمع إلى الإذاعة، فَإنّكم تخدمون هذا الشعب عن طريق السمع والبصر، في حين أنّهم كانوا يخونونه في السابق عن طريق السمع والبصر. إنّ الإذاعة والتلفزيون أفضل الوسائل التعليميّة، وبهما ترتقي الوسائل الأخرى. كما يمكن تربية جيل الشباب بِواسطتهما، لأنّ الناس جميعهم يتابعونهما، إذ إنّ برامجهما يمكن أن تَصلَ القرى النائية، فَمَن لم يمتلك جهازاً لِنفسه، يَذهب إلى بيت صَديقه لِمُتابعتها.

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص126 - 127.

 

 

140


130

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

على كلّ حال، لا بدّ مِن إيجاد تحوُّل في هاتَيْن الوسيلتَيْن. فإذا أردتُم أن يكون وطنكم ملكاً لكم، يجب أن تغيّروا نهج سَير الإذاعة والتلفزيون. وَإن لم يحدث ذلك، كونوا على ثقة أنّ الأمور ستعود إلى ما كانت عليه في السابق، وإنْ لم يَكن ذلك الآن، سَيكون بعد سنوات، فَيعيش أبناؤكم وأحفادكم زمن البؤس مرّة أخرى»[1].

مسؤوليّة الوسائل الإعلاميّة في عدم تضليل الناس

«إنّني أحذّر الصحافيّين والإذاعة والتلفزيون‏ والجماعات التي بدأت تمارس نشاطها الآن -هذا تحذير للجميع- مِن خيانة الشعب. فَإذا أرادوا خدمة البلد، فليتعرّفوا على توجّهات الشعب وتطلّعاته، وليَتأمّلوا في البواعث التي دفعَت أبناء الشعب للنزول إلى الشوارع للهتاف بــ «الله أكبر» والتضحية بِشبابهم. لِماذا حصل هذا؟ لَقد كان مِن أجل الإسلام. لقد أرادوا الإسلام؛ لم تكن المسألة أنّنا نريد الحرّيّة وحَسْب، فإيران وشعب إيران لا يريدون حرّيّة مِن دون الإسلام. إنّ الشعب الإيرانيّ ينشد الإسلام. لِتَكن الحرّيّة، ولكن هل تكون مثل حرّيّة الاتّحاد السوفييتي؟ لِتكن الحرّيّة، ولكن هل تكون مثل حرّيّة دولة أخرى أجنبيّة؟ منذ متى يريد شعبنا مثل هذا؟ إنّ هؤلاء السادة مخطئون -ولا أقول خائنون- وَعليهم أن يتلافوا أخطاءهم. يجب أن يكون الجميع مُتّحدين مع بعضهم، مِثلما حقّقوا باتّحادهم ما هُم فيه الآن»[2].

دَور وسائل الإعلام في إصلاح المجتمع وفساده

«كان الراديو والتلفزيون -على سبيل المثال- ينشران الثقافة الطاغوتيّة في زمن الطاغوت، فَكان تركيزهم جُلُّه على الموسيقى والغناء لِتمييع شبابنا وضياعهم. إنّ الموسيقى تُضعف الروح

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص158.

[2]  المصدر نفسه، ج7، ص382.

 

141


131

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الإنسانيّة، وتُصادر الاستقلال الفكريّ للإنسان، غير أنّ نِصف عمل الراديو والتلفزيون كان بَثّ الموسيقى أو عرض المشاهد الفاضحة التي تُضلّل فِكر الشباب وتدعوهم إلى الفحشاء. فحين يفتح الشابّ المذياع ويسمع الموسيقى المبتذلة، أو يشاهد الإغراء في التلفزيون والسينما والمجلّة والصحيفة، فإلى أين سوف ينجرّ تفكيره وتفكير المجتمع كلّه؟ لقد حصل ما رأيتموه، وكيف دُمّر البلد بِأسره.

إذا كنتم مُحبّين لبلدكم ولِشعبكم وللإسلام، فَعلى كلٍّ منكم، وبحسب مكانه ووظيفته في الجهاز الإعلاميّ، أن يقوم بإصلاح هذا الجهاز. يجب ألّا تكونوا متأثّرين بالثقافة الغربيّة، فَلا توجد أيّة ضرورة لبثّ الموسيقى[1] بين خبر وآخر، إذ إنّ في ذلك تشبّه بالغرب. وَلا تظنّوا أنّها تدلّ على رقيّ البلد، بل إنّها تخرب عقول أطفالنا وتفسدها. فعندما تَطرق الموسيقى مسامع الشباب على الدوام، سيتأثّرون بها، ولن يستطيعوا التفكير بِجدّيّة. مِن الأنسب لكم أن تبتكروا شيئاً يليق بثقافتنا، كوننا مُسلمين»[2].

«لم يُرِد عملاء النظام السابق أن يَعيَ شبابنا ما يحدث، فَكانوا يجرّونهم إلى الحانات والملاهي لِيشغلوهم عن قضايا بلدهم. فالهدف مِن أن يعتاد شبابنا مطالعة تلك المجلّات المبتذلة -التي رأيتموها- بما تحويه مِن صور فاضحة ومسائل مثيرة، وارتياد صالات السينما بالكيفيّة التي كانت عليها، ومتابعة الراديو والتلفزيون ببرامجهما المثيرة للاشمئزاز، والتردّد إلى المدارس والشواطئ ومراكز الفحشاء، هو ضياع شبابنا وإلهائه عن قضايا البلد، لِيُصبحوا غير مُبالين بشيء، حتّى بِأنفسهم. فالشابّ، إذا اعتاد الذهاب إلى السينما ورؤية تلك المشاهد الساقطة كلّ ليلة أو كلّ يوم، فإنّ فِكره لن ينصبّ على: أين يذهب نفطنا؟ وأين تذهب ثرواتنا؟ ومَن يستغلّنا؟ لن تخطر هذه الأشياء

 

 


[1]  المقصود هو الموسيقى المحرّمة، أو الموسيقى الكثيرة التي تخرج عن حدّ الاعتدال.

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج9، ص128.

 

142


132

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

في باله أبداً، فَمثله كمثل الذي يتعاطى المخدّارت، لا همّ له سوى: متى أتعاطى تلك الموادّ؟ ومِن أين أحصل عليها؟ وما إلى ذلك؛ لن يُفكّر أبداً في أمور حياته. فَالشخص الذي يرتاد النوادي الليليّة لن يفكّر في ما يجري في هذا البلد، ولا في عواقب هذه الأمور، وَلن يأخذها بِعين الاعتبار.

تلك المسائل كلّها التي عملوا على ترويجها في الخمسين سنة الأخيرة -خاصّةً في زمان ذلك الثاني [الشاه محمّد رضا بهلويّ] الأسوأ مِن الأوّل [الشاه رضا بهلويّ]- كانت تهدف إلى إلهاء شبابنا عن أنفسهم وعن بلدهم، فلم يَعبؤوا بِما يجري. فالذي لا همّ له غير الذهاب إلى البحر بماذا يستطيع أن يفكّر؟ إنّهم يمارسون هناك العهر؛ لذا فَلا يمكن أن يتساءلوا عن قضايا العصر، لأنّها أمور خارجة عن دائرة اهتماماتهم. إلى أين سار بنا هذا الرجل الخائن؟ هذا كلّه غير مهمّ. ثمّ إنّ هؤلاء المتنوّرين والكتّاب ودعاة التحرّر -معظمهم لا كلّهم- غير ملتفتين إلى ما يخطَّط لهؤلاء الشباب والشابّات، إذ إنّهم يفعلون ما تمليه عليهم أهواؤهم كلّه. إنّهم يصرخون: آه... لقد ذهبت الحرّيّة، الحرّيّة الجميلة ذهبَت. حَسناً ذهبت الحرّيّة، فماذا حدث؟ أُغلقت الحانات وعُطّلت مراكز الفحشاء، ولا زلنا نجهل إذا ما عُطّلت كلّها أم لا، فَلم يَعد مسموحاً لهؤلاء الشباب والفتيات بالذهاب إلى البحر بمفردهم، والتعرّي هناك، أو فِعل ما يشاؤون. هذه الحرّيّة التي ينادون بها، والتي أُمليَت عليهم مِن الغرب، أُملِيَت علينا نحن فقط، لا عليهم، وإلّا فَمِن أين لهم ذلك الرقيّ المادّيّ؟ إنّ هذا النوع مِن الحرّيّة أوجده ‏الغرب للشعوب المستعمَرة، حرّيّة مستوردة وغير منصفة. فأولئك المتحيّزون لمزاعم الغرب يتبجّحون بحقوق الإنسان وَهُم غير مُنصفين، لأنّهم أنفسهم -بعض الذين يدّعون التحرّر لا كلّهم- يريدون أن ينشروا هذا الشكل مِن الحرّيّة التي تجرّ بلادنا نحو الهاوية»[1].

 

 


[1] المصدر نفسه، ج9، ص351 - 352.

 

 

143


133

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

«إذا ما وُجدت عناصر تريد الإخلال والعمل على خلاف التوجّه الإسلاميّ، فإنّ عليكم إقصائها جانباً، ولكن بالتدريج، من دون اللجوء إلى أساليب المواجهة العنيفة، حتّى تصبح هذه المؤسّسة مؤسّسة إسلاميّة يُبلَّغ فيها الإسلام، تعمل على نشر التربية والوعي والثقافة في أوساط الشعب.

إنّ هذه الأجهزة التي ترونها، والتي يجلس لِمشاهدة برامجها ملايين الناس مِن الأطفال والشباب والكبار والشيوخ والمسنّين، إذا ما عملَت على تقديم برامج تربويّة وتثقيفيّة جيّدة، كعرض الأفلام والندوات والخطب المفيدة، فإنّ أطفالنا الصغار سيتلقّون تربية سليمة من البداية. أمّا إذا قدّمَت برامج فاسدة ومنحرفة -لا سمح الله- فإنّهم سيتلقّون -من البداية- تربية فاسدة. فَهذه الأجهزة سلاح ذو حدَّيْن، يتوقّف نَفْعها وضررها عليكم؛ فإنْ شِئتم جعلتموها وسيلة للوعي والتربية والثقافة، وإن شِئتم جعلتموها أداة للفساد والانحراف والرذيلة. وَهي أجهزة جذّابة كثيراً، تشدُّ الأطفال لِرؤية ما تعرضه مِن أفلام ورسوم متحرّكة وَصُوَر... فإنْ كانت هذه الأفلام والبرامج مفيدة وتثقيفيّة ساهمَت في تربية هؤلاء الأطفال تربية سليمة، وإن كانت فاسدة ساهمَت في حَرْفهم وإفسادهم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكبار. لذا، تقع على عاتق هذه المؤسّسات والعاملين فيها مسؤوليّات إلهيّة وأخلاقيّة ووطنيّة جسيمة»[1].

ضرورة الاستقلال الفكريّ للمؤسّسات الإعلاميّة‏

«يجب أن نمتلك الاستقلال الفكريّ، وأن نفصل طريقة تفكيرنا عن الطريقة الغربيّة، لكي نعيش مستقلّين فكرياًّ. ولن يتحقّق هذا الاستقلال إلّا في ابتعادنا عن التشبُّه بالآخرين. فَلتكن شؤوننا وأفكارنا مستقلّة، وَليَكُن جهازنا الإعلاميّ مستقلّاً. لنمتلك حياة خاصّة بنا. لا

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج10، ص155.

 

144


134

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

تُعيروهم اهتماماً حين يتّهمونكم بالرجعيّة، ولا تهابوا انتقادهم إيّاكم في كتاباتهم أو مقالاتهم. فإذا أردتُم أن تستقلّ بلادنا، فَليَعمل كلٌّ مِنكم بِجِدٍّ مِن موقعه، بما يحقّق مصالح هذا البلد، ولا تهابوا النقد أو الاتّهام. فَلتُكرَّس الجهود لإصلاح أداء مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، بما يساعد في بناء الإنسان، وينمّي فيه كمالاته الروحيّة والمعنويّة والعقليّة. ويجب ألّا يغيب عن أذهاننا ما الذي فَعله النظام البائد في تخلُّف هذا البلد تحت واجهة الحضارة الكبرى»[1].

«قُلت مِراراً إنّ مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون يجب أن تستقلّ تماماً، وتنبغي المحافظة على استقلاليّتها، بألّا يتدخّل أحدٌ في شؤونها. كرِّسوا الجهود من أجل أَسلَمَتها فقط، حتّى تكون مُنسجمة مع إرادة الشعب. لَقد بذل الناس دماءهم، وَلا يمكن أن يبذل المسلمون دماءهم لكي تأتي عناصر منحرفة وتحصد الثمار؛ لا يحكم بهذا أيّ عقل أو شرع. نزلَت الجماهير المسلمة إلى الشوارع، وردّدَت نداء «الله أكبر»، وَضَحّت بأنفسها، وقالت: نريد جمهوريّة إسلاميّة؛ إنّ محتوى الجمهوريّة الإسلاميّة هو أن يكون كلّ شيء فيها إسلاميّاً. وبما أنّ مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون مِن الأمور المهمّة التي تفوق في أهمّيّتها أيّ شيء آخر، فَتجب أَسْلَمتها. اِحفظوا استقلالها. وإذا جاء شخص وأراد فَرض شيء فَلا تبالوا به أبداً، بل اعملوا في هذا الجهاز باستقلال واقتدار»[2].

مسؤوليّة الوسائل الإعلاميّة في بناء الشباب

«يجب أن تُقدِّم الإذاعة والتلفزيون -هاتان الوسيلتان اللتان يُفترض أن تكونا تعليميّتَيْن- المنعة والقوّة لشبابنا. فلا يجوز أن يكون التلفزيون، مثلاً، أداة لبثّ الأغاني عشر ساعات يوميّاً؛ ما يُصيِّر الشابّ القويّ ضعيفاً، ويُدخله في حالة تشبه حالة المخمورين أو المخدّرين،

 

 


[1] المصدر نفسه، ج9، ص129.

[2]  المصدر نفسه، ج12، ص244.

 

145


135

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

إذ إنّ أثر المخدّرات لا يختلف كثيراً عن التلفزيون، فَإنّهما يُحدثان حالة مِن الثمالة كِلَاهما. يجب أن يتغيّر هذا كلّه. فإذا كنتم تريدون أن يكون وطنكم حرّاً أبيّاً مستقلّاً، عليكم -مِن الآن فَصاعداً- أن تأخذوا الأمور بجدّيّة تامّة. عليكم إلغاء بثّ الغناء مِن الإذاعة والتلفزيون، وتحويل هاتَيْن الوسيلتَيْن إلى وسيلتَيْن تعليميّتَيْن، مِن غير أن تَخشوا أن يتّهمكم بعضهم بالتخلّف أو الرجعيّة. فَإن حَذَفتُم الغناء مِن الإذاعة أو التلفزيون، قولوا لهم: إذا كنّا سَنصبح بهذا العمل مُتخلّفين، فنحن متخلّفون. ولا تقلقوا، لأنّ مِثل هذه الأقاويل تهدف إلى إبعادكم عن الأعمال الجادّة»[1].

«عليكم السعي في جَعل الشعب يتقبّل هذه الأشياء تدريجيّاً، وجَعلهم يُقلعون عن عاداتهم الخبيثة هذه. فَكما تشاهدون الآن، إنْ لم يَجِد شبابنا الغناء فإنّهم يَبحثون عنه، لأنّهم اعتادوا هذه الأشياء؛ هذا شاهد على أنّ شبابنا باتوا مُنحلّين خُلقيّاً. وعلى عاتقنا إنّما تقع وظيفة إعادة تأهيل هذا الجيل المنحلّ، وَمَنع تكرار هذه المأساة مرّة ثانية. يجب أخذ هذه الأمور بجدّيّة تامّة. كما أنّ الاختلاط بين الرجال والنساء على شاطئ البحر -هو الآخر- مِن الأمور التي كانوا يخطّطون لها. فَيجب أن يكون الناس جادّين في وقاية أنفسهم مِن هذه الأمور، وَيجب على قوى الأمن والأجهزة الإداريّة أن تبذل ما بِوسعها لِمَنع وقوع مثل هذه الأمور. كما يجب على الإذاعة أن توضّح للشعب مخاطر هذه الأمور، والفساد الكامن فيها»[2].

ارتباط حفظ النظام الإسلاميّ بصيانة الوسائل الإعلاميّة

«إنّ وَضعَ الإذاعة والتلفزيون يختلف عن وَضع المؤسّسات الأخرى، فَمِن الممكن أن تصدر بعض الانحرافات عن وزارة ما، ويبقى الناس غافلين عنها سنوات عديدة، أمّا الإذاعة والتلفزيون فإنّهما، بمجرّد

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج9، ص157.

[2]  المصدر نفسه، ج9، ص157 - 158.

 

146


136

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

بَثِّهما ما يُخالف الشرع أو يتعارض مع توجُّهات الشعب، فإنّ البلاد كلّها ستعلم به في وقته -خاصّةً أنّ أجهزة الراديو والتلفزيون باتت موجودة في كلّ مكان تقريباً-؛ ما يجعل هذه الأجهزة خطيرة للغاية، لأنّ عيون الملايين وآذانهم ترقبها، مُضافةً إلى الكثير مِن القنوات الخارجيّة، إذ يمكن للراديو أن يبثّها عبر موجات مختلفة. فإذا ما بثّت أموراً مخالفة للشرع، ومعارِضة لتوجّهات الإسلام والشعب، فإنّ خَطرها سيكون أعظم بِكثير مِن خطر انحراف هذه الوزارة أو تلك... إنّ مؤسّسة حسّاسة وخطيرة وواسعة التأثير كهذه، إذا ما قامَت بِبَثّ برامج منحرفة أو مخالفة للتوجّه الإسلاميّ، أو تتعارض مع تطلّعات الشعب، فَلن يقول الأعداء إنّ التلفزيون أو الإذاعة منحرفان، بل سيُوجّهون أصابع الاتّهام إلى النظام الإسلاميّ. لذا، فإنّ سمعة الإسلام ومصداقيّة الجمهوريّة الإسلاميّة مرتبطة بعمل هذه الأجهزة والمؤسّسات، ولا سيّما مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، الأخطر من المؤسّسات الباقية. علينا، إذاً، أن نسعى إلى صَون الإسلام وسمعته، بِالعمل الدؤوب، والاستقامة، والتفاهم في ما بيننا»[1].

«قلتُ مِراراً إنّ جهاز الإذاعة والتلفزيون أكثر الأجهزة الإعلاميّة حساسية في البلاد كلّها، إذ إنّ الناس يستفيدون منه بَصريّاً وسَمعيّاً، ولا يهتمّون بجهازٍ آخر كما يهتمّون به، مِن الجهاز الصغير الذي يوضع للأطفال إلى البرامج التي تُقدّم للآخرين. فَإذا تمّ إصلاح هذا الجهاز، وكانت برامجه برامج إصلاحيّة، فَمِن المؤمّل أن تصلح البلاد بأكملها، وإذا كان هذا الجهاز جهازاً يُشبه ما كان عليه في زمن الطاغوت، سيبقى الناس على تلك الحال. لذا، مِن الواجبات المهمّة الملقاة على عاتق هذه الشورى التي يجتمع أعضاؤها هُنا -وفيها السيّد موسويّ، الذي نعلم سوابقه، ونعرفه- مُراقبة هذا الجهاز، بِحيث يكون محتواه محتوى جمهوريّاً إسلاميّاً.

 

 


[1] المصدر نفسه، ج10، ص153 - 154.

 

 

147


137

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

إذا أردنا تحقيق جمهوريّة إسلاميّة في إيران، فَلا يكفي أن نقول جمهوريّة إسلاميّة، ونُصوِّت لِصالح الجمهوريّة الإسلاميّة، بل يجب أن تكون كلّها إسلاميّة؛ بأجهزتها الإعلاميّة وصُحفها وإذاعتها وتلفزيونها وإداراتها ومراكزها الحكوميّة والوطنيّة والسوق، وفي الصحراء وفي الداخل، وفي المعامل، بحيث إذا دخلها أحدٌ شَعر أنّه دخل جهازاً فيه رائحة الإسلام وأثره. ينبغي أن تكون آثار الإسلام في هذه الأجهزة كلّها، وتنبغي إزالة الأمور المخالفة للمعايير الإسلاميّة كلّها، والمتناقضة مع الجمهوريّة الإسلاميّة ومصالح الشعب. ثمّة في التلفزيون، مثلاً، مسألة الأفلام. ينبغي أن تكون هذه الأفلام أفلاماً تربويّة، لا أفلاماً إذا شاهدها شبابنا انحرفوا. وَإذا كان ثمّة مَن يريدون القيام بمثل هذه الأعمال، وأمكنَ نُصحهم فانصحوهم، وإلّا وَجب تطهير هذا الجهاز مِنهم.

إنّ مسؤوليّتكم كبيرة، فَإمّا أن تسيروا بهذه الجمهوريّة إلى الأمام -بإعلامكم وبالعروض التي تقدّمونها وبالأفلام التي تعرِضونها- أو تُرجعوها إلى الوراء؛ هذه مسؤوليّة كبيرة جدّاً. ستطول المدّة إلى أن نُفهِم العاملين والموظفّين في كلّ مكان أنّه يجب ألّا تكون أمورنا كلّها تقليداً للغرب، لأنّهم يظنّون أنّه إذا كانت الإذاعة والتلفزيون في أمريكا وبريطانيا على نحو ما، فَعلينا أن نقلّدهم وأن نفعل ما يفعلونه كلّه. هذه قضيّة نُواجهها نحن تقريباً في الأماكن كلّها التي يظنّون أنّ شكل بلداننا يجب أن يكون كالغربيّين. ستطول المدّة إلى أن يتغيّر هذا الشكل ونُفهم الشرائح جميعها أنّ الأمر ينبغي ألّا يكون كذلك، وإنّما يجب أن نكون مستقلّين في أفكارنا وآرائنا. الآن، مِن واجبكم أن تُراقبوا العاملين وتُشرفوا عليهم في هذه الأمور كلّها؛ فَلا بدّ للذين يتولّون الأمور في التلفزيون -وهو مؤسّسة كبيرة- مِن أن يكونوا ملتزمين بالإسلام ومؤمنين بالجمهوريّة الإسلاميّة، وأن يعلموا معنى الجمهوريّة الإسلاميّة -وهو أن يكون محتواها إسلاميّاً-. يجب أن تَضعوا

 

149

 

 

 


138

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

هذا على رأس الأعمال في أنحاء إيران كلّها، وفي كلّ مكان. كما يجب أن تجدوا مُتحدّثين لبرامجكم التي تحتاج ذلك، وثمّة كثيرون مِن الفضلاء والعلماء والمثقّفين مُستعدّون لذلك. فَليأتِ أفرادٌ مِن كلّ طبقة ويتحدّثوا؛ استفيدوا من هؤلاء. هذا شي‏ء يجب أن يتمّ.

أمّا ما يتعلّق بالمرئيّات والأفلام، فانتبهوا إلى ألّا تكون محرِّفة، ولا تحتوي مناظر كما في السابق، فتؤدّي إلى انحراف شبابنا... حتّى ما يُعرض للأطفال، يجب أن يجعل الطفل ينشأ -من البداية- مُستقلّاً في فِكره ومستقيماً وملتزماً -ويجب هذا في أفلام الكبار أيضاً-. فَعَليكم أن تنتبهوا جيّداً، وتتابعوا، وتُشرفوا، فَلا تَدَعوها في أيدي غير الملتزمين. وإنْ كان ثمّة مَن يفهم فَيعمل على التغيير فليَكُن، وإنْ لم يَكن فَيَجب التطهير؛ هذا شيء ضروريّ ولازم»[1].

«منذ أن تولَّت الجمهوريّة الإسلاميّة أَمرَ الإذاعة والتلفزيون وَأنا قَلَق عليها، فإنّها مؤسّسة إن كانت صالحة صلحَت بلادنا، وإن كانت فاسدة سبّبت الكثير مِن الفساد. لذا، ينبغي أن أذكّركم ببعض النقاط؛ مِنها أنّه إنْ لَم يكُن جهاز الراديو والتلفزيون، الموجود في البيوت وفي القرى وفي كلّ مكان، إسلاميّاً -مئة في المئة- فذلك يعني أنّ الإسلام لم يُطبَّق في إيران. فَإذا كانت الإذاعة والتلفزيون في خِدمة فئة أو جماعة منحرفة، فَقَد تجرّ البلاد كلّها إلى الفساد. لذا، فإنّكم مكلّفون تكليفاً شرعيّاً وقانونيّاً بِتطهير مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون مِن الجماعات المنحرفة أو المرتبطة بالنظام السابق والعاملة لخدمته، وَمِن الأفراد الفاسدين والمفسدين. عليكم تنقية الإذاعة والتلفزيون مِنهم بكلّ اقتدار وَبِلا مواربة. وأهمّ الأمور كلّها الأخبار، إذ ينبغي توخّي الدقّة، بحيث لا ينفذ إليها المنحرفون.

لَيست الجمهوريّة الإسلاميّة ألفاظاً وَحَسْب، بل ينبغي أن تتحقّق واقعاً. نحن الآن -حيثما نذهب- نرى فساداً، ولا نرى تطبيقاً للإسلام

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج11، ص168 - 169.

 

 

149


139

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

بشكلٍ صحيح. ولكن، بما أنّ هذه المؤسّسة أهمّ مِن المؤسّسات الأخرى، فإنّني أركّز عليها أكثر، لأنّ فسادها يؤدّي إلى فساد الشعب والمجتمع. فَالكلام الذي يُقال ها هنا، والذي يُبثّ في البلاد كلّها، يمكن أن يؤدّي إلى الانحراف على مستوى البلد، وحتّى في الخارج.

لذا، ينبغي أن تسير هذه المؤسّسة بِنحو ينسجم -مئة في المئة- مع النهضة والثورة الإسلاميّة، فَلا يكفي أن نقول إنّ الإذاعة والتلفزيون إسلاميّان، في حين نرى فيهما كلاماً يُسيء إلى الإسلام والثورة الإسلاميّة. ينبغي الالتفات جيّداً إلى ألّا نكون مقلِّدين للشرق والغرب بأيّ شكلٍ مِن الأشكال، فَتقليد الشرق والغرب لا ينسجم مع توجُّه إذاعةٍ وتلفزيونٍ إسلاميَّيْن. يجب أن‏ تدقّقوا كثيراً، ولا تخافوا أقوال هؤلاء المثقّفين ذي النمط الغربيّ وكتاباتهم، فَهُم يريدون أن يجعلوا البلاد مُترفةً على طريقتهم، وَلا يهمّهم بعد ذلك ما يحصل فيها من خراب. هُم فقط يتمنَّون أن تكون البلاد غربيّة. والحال أنّ الجماهير جدَّت واجتهدَت في تطبيق الإسلام في إيران، وعدم الاكتفاء بالشكل الظاهريّ للإسلام، إلّا أنّك حينما تزور أيّة دائرة مِن دوائرها، لا ترى أثراً للإسلام. تنبغي، إذاً، مقارعة المثقّفين المتغرّبين بِشدّة؛ لذا فإنّكم مُكلّفون بالتعاون مع الموظّفين الإسلاميّين الملتزمين وغير المنحرفين لِتطهير هذه المؤسّسة بِلا خوفٍ مِن فرد أو جماعة. وَينبغي أن تحرِصوا على ألّا يخرج مِن هذه المؤسّسة شخصٌ واحدٌ مِن الإسلاميّين الملتزمين، إلّا إذا ارتكبوا مخالفات، فَهذا موضوع آخر، إذ لا فرق بينه وبين الآخرين. ولكن يجب ألّا يخرج مِنها بسبب اتّهامه بالرجعيّة، مثلاً، أو ما شابه مِن الكلام الذي كان يطلقه الشاه ضدّ الإسلاميّين المجاهدين الملتزمين. يجب أن يحلّ الإسلاميّون الملتزمون المجاهدون محلّ العناصر المنحرفة. وَلدينا -والحمد لله- خطباء وكتّاب صالحون»[1].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج12، ص242 - 243.

 

 

150


140

المقدّمة

الأمر الخامس: الرياضيّون

كثيرة هي الأفعال التي قد يَتصوَّر الإنسان -للوهلة الأولى- أنّها ليست ذات قيمة على مستوى البناء الاجتماعيّ للأُمّة، أو ليست ذات أثر على مسار المجتمع ككلّ في الوصول إلى أهدافه، فيُخيّل إليه أنّ هذه السلوكيّات ليست سوى ترفيه أو تفريغ لِبعض الشحنات النفسيّة. ومِن الأمور التي قد يتوّهم فيها ذلك: الرياضة والألعاب الرياضيّة؛ بحيث يعتقد كلٌّ مِنّا أنّ الألعاب الرياضيّة، أو الرياضة بِشكلٍ عامّ، أمر فرديّ يقتصر على فوائد ومنافع خاصّة وشخصيّة. فَما هو دور الرياضة في تطوُّر المجتمعات والوصول إلى أهدافها، خاصّة إذا كان الكلام عن المجتمع الإسلاميّ الذي رَصَد لنفسه هدفاً إلهيّاً ومعنويّاً هو الوصول إلى الله تعالى والتحلّي بالقيم الإلهيّة؟

في الحقيقة، إنّ ما نجده في الرؤية الإسلاميّة، بل في الرؤية الأصيلة -خاصّةً- التي تجلَّت في بيانات الإمام الخمينيّ (قدس سره) وكلماته، يعكس هذا الفَهم ويُبيّن خطأه. فقد وضع (قدس سره) للرياضيّين منطلقات وأهدافاً وقدوة ووظائف تتجاوز حدّ المتعة الفرديّة والمنافع المادّيّة. فالرياضيّ لا بدّ له مِن أن ينظر إلى الرياضة البدنيّة التي يقوم بها على أنّها جزء ضروريّ مِن سيرٍ إنسانيّ متكامل يشمل الأبعاد الإنسانيّة كافّة؛ أي إنّ للإنسان وظيفة في بناء نفسه تتجلّى في شتّى أبعاده، مِنها البُعد البدنيّ الذي يؤثّر في العقل والقلب والروح.

مُضافاً إلى ذلك، إنّ الرياضيّين، في مشاركاتهم الرياضيّة في العالم، يحملون اسم الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة، مِن حيث إنّهم أبناء هذا الدين المؤمنون بِقِيَمه والحاملون لواءَها إلى البشريّة كلّها. فَميدان الرياضة ميدان عالميّ، تشكّل فيه الألعاب الرياضيّة نوعاً من الندوة الدوليّة التي تتيح للّاعبين فرصة إظهار القيم التي يؤمنون بها؛ فيكون -بذلك- الرياضيّ مصدراً لِقِيَم الثورة وأخلاقيّاتها.

 

 

151

 


141

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وَلم يُغفل الإمام الخمينيّ (قدس سره) أمراً في غاية الأهمّيّة في توجيه الرياضيّين، إذ حدّد لهم قدوة يجعلونها نصب أعينهم، وهي لَيست لاعب كرة قدم متفوّق ومبدع أو ما شاكل، بل عيّن لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) قدوة، بحيث يكون (عليه السلام) للرياضيّ نموذجاً أعلى كاملاً على مستوى الأبعاد الإنسانيّة كلّها. فَمِن المصائب التي تصيب الرياضيّين ومحبّي الرياضة اتّخاذهم أحد اللّاعبين أو المتفوّقين على مستوى الرياضة قدوةً، وَيغفلون عن أبعاده الإنسانيّة الأخرى. والإمام الخمينيّ (قدس سره)، بِجَعله أمير المؤمنين قدوة لهم، جَعَلَهم في مصافّ العلماء والفقهاء وطلبة العلوم مِن هذه الجهة، لأنّ شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) تصلح -بجدارة- لأنْ تكون القدوة لكلّ فرد، وعلى مُستوى عالٍ.

وَفي ما يأتي، نتعرّض إلى هذه الأبعاد في كلمات الإمام الخمينيّ (قدس سره):

ضرورة ممارسة الرياضة في الأبعاد الإنسانيّة كافّة

«إنّني لست رياضيّاً، لكنّني أحبُّ الرياضيّين (أحبّ الصالحين وَلَسْتُ مِنهم)»[1].

«أدعو الله تبارك وتعالى أن يوفّقكم، أنتم الشباب، ذخر هذا البلد ومبعث أمل الأمّة والإسلام، حتّى تمارسوا الرياضة في الأبعاد الإنسانيّة جميعها، ومِنها البُعد الذي تخصّصتم فيه. ويحدوني الأمل أن تنمو فيكم الأبعاد الإنسانيّة الأخرى. لقد كان الرياضيّون‏ دائماً يحملون روحاً سليمة لأنّهم لم يفكّروا في الشهوات والملذّات، فَمارسوا نشاطاً بدنيّاً، إذ إنّ العقل السليم في الجسم السليم. ولو تأمّلتم أحوال المجتمعات وطبقاتها، لَوَجَدتم أنّ الذين ينهمكون في الملذّات الجسمانيّة -وهي

 

 


[1] أحبّ الصالحين ولست منهم            لعلّ الله يرزقني صلاحاً

 

 

152


142

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

في الحقيقة ليست ملذّات- أبدانهم كئيبة وأرواحهم قد ذَبلَت وأصابها التعب. فَلَو أمضى إنسانٌ ساعتَيْن في الملذّات، فإنّه يمضي اثنَتَيْن وعشرين ساعةً في القلق والاضطراب. أمّا المؤمنون بالله، فإنّهم يمارسون رياضة بدنيّة وأخرى روحيّة، فلا يصيبهم الذبول؛ وهذه نعمة ندعو الله تعالى أن يمنحها الجميع إن شاء الله»[1].

ضرورة اقتداء الرياضيّين بأمير المؤمنين (عليه السلام)

«فهذا عليّ (عليه السلام)، نجد اسمه أمامنا أينما ذهبنا؛ عندما نذهب إلى الفقهاء نجد فقه عليّ (عليه السلام)، عندما نذهب إلى الزهّاد نجد زهد عليّ (عليه السلام)، وإذا ذهبنا إلى المتصوّفة نجدهم يقولون إنّ التصوّف مأخوذ من عليّ (عليه السلام)، حتّى عندما نذهب إلى الرياضيّين فإنّنا نجدهم يقولون: عليّ (عليه السلام)، ويبدؤون باسمه. إنّ عليّاً (عليه السلام) هذا الأوّل في الأبعاد الإنسانيّة جميعها؛ لذا تتقرّب إليه الطوائف كلّها، إذ يمتلك خصوصيّات الطبقات كلّها، وَيمتلك خصوصيّة قوّة الرياضيّين بِشكلٍ وافٍ. يُقال إنّ ساعده (عليه السلام) كان كالحديد، وكانت القوّة التي يستعملها في الضرب بالسيف كبيرة إلى درجة يُقال إنّ ضربته كانت واحدة، إنْ عَلا قَدَّ وإن اعترضَ قَطّ، وَضربات عليّ (عليه السلام) وتر»[2].

«فَعَليّ (عليه السلام) هذا فيه كلّ شيء، ويجب أن يكون قدوة لنا. فَفي العبادة هو فوق العُبّاد جميعهم، وفي الزهد فوق الزُهّاد جميعهم، وفي الحرب فوق المحاربين جميعهم، وفي القوّة فوق الأقوياء جميعهم، وهو أعجوبة جمعت الأضداد؛ فالإنسان العابد لا يمكنه -عادةً- أن يكون رياضيّاً، والإنسان الزاهد لا يمكنه أن يكون مقاتلاً، والفقيه لا يمكنه فِعل هذه الأمور أيضاً... إنّه أسوة، فَزُهده فوق زهد الجميع، وقد سمعتم أيّ شيء كان طعامه، إذ حَفِظ ذلك التاريخ،

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج16، ص70.

[2]  المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار  (عليهم السلام)، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج41، ص143.

 

153

 


143

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فَيقولون إنّه كان يضع طعامه في كيس ويختمه لئلّا يضيف إليه أولاده أو ابنته شيئاً مِن الزيت شفقة عليه، كان يختم رأس الكيس لئلّا يَفتحه أحد. وفي اللّيلة الأخيرة مِن حياته -كما ينقل- كان ضيفاً عند ابنته كلثوم، وكانت قد أحضرَت له لبناً ومِلحاً لِيفطر، فقال (عليه السلام): «متى رأيتني آكل طعامين؟» أرادت أن تَرفع الملح فَقال لها: «لا، ارفعي اللّبن»، ثمّ أفطر ملحاً... وكان بعضهم يتعجّب مِن قُوَّته (عليه السلام) مع طعامه البسيط هذا، فكان (عليه السلام) يجيبهم أنّ النباتات البرّيّة أصلب عوداً، إذ إنّ النباتات الموجودة في الصحاري تشرب ماءً قليلاً، ولكنّها أشدّ ناراً وأمتن عوداً، فَليست قوّة الإنسان بِكثرة طعامه[1].

على كلّ حال، هذا عليّ (عليه السلام) الذي يتحدّثون عنه، وإنّني آمل منكم، أيّها الرياضيّون‏، وكما تَسعون إلى تحصيل القوّة البدنيّة -وما شاء الله فَقَد جلستم هنا بأذرع قويّة، وأنا أُسَرّ بهذا أيضاً- أن تقتدوا بِسيرة عليّ (عليه السلام)، بالزهد الذي كان عنده، وبالتقوى التي كان يتحلّى بها. لا شكّ في أنّ أحداً منّا لا يَستطيع أن يكون مثله، وإنّما نتبعه على قَدَر استطاعتنا، ونزكّي أنفسنا. وآمل أن تكونوا مُفيدين لأُمّتكم، وعِزّاً لبلدكم... مَنَّ الله عليكم بالمزيد من القوّة؛ قوّة الإيمان، قوّة تزكية النفس، قدرة التسلُّط على النفس. والسلام عليكم جميعاً، أيّها الشباب النجباء»[2].

دور الرياضة والرياضيّين في تقوية المسلمين والإسلام في العالم

«مثلما تحتاج بلادنا إلى العلماء، تحتاج إلى قدرتكم، التي لَو اقترنَت بالإيمان واستنارت بالقرآن لَكانَت ظهير الأمّة، فَحين يصير الأبطال إسلاميّين يَغدون سنداً للشعب وساعداً... أولئك يريدون كلّ شيء لأنفسهم، ونحن وأنتم نُريد كلّ شيء لله وللإسلام. فَسَنَد الشعب وسَند الإسلام، أولئك الرجال المؤمنون والرياضيّون المؤمنون

 

 


[1] المصدر نفسه، ج42، ص226 و238.

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج7، ص200 - 201.

 

154


144

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ورجال الدين المؤمنون والجامعيّون المؤمنون والكَسَبة المؤمنون والفلّاحون المؤمنون والعمّال المؤمنون، الذين يَستطيعون أن يكونوا سنداً للشعب، فَلا يَدَعونَ الأيدي الخائنة تذهب بِكلّ شيء. فَقدرتنا المادّيّة والمعنويّة تبلغ ما تريد، لكنّ هؤلاء هم الذين يمنعون ذلك.

عزِّزوا إيمانكم، ولُوذوا بالإسلام، وَلْنلجأ كلّنا إليه، ونذكر الله في كلّ مكان.

أنا أعلم أنّ الرياضيّين في حَلبة اختبار القوّة (زورخانه)[1] يذكرون الله وَأمير المؤمنين (عليه السلام). قَوُّوا ذِكر الله هذا في أنفسكم، وذكر المولى هذا، وسيتقدّم المقتدرون كلّهم والمؤمنون -إن شاء الله- إلى الأمام. وفّقكم الله جميعاً...»[2].

«آمل، أيّها الأبطال، أن تكونوا مُفيدين لشعبكم وبلادكم، وأن تمضي هذه الثورة الإسلاميّة قُدماً بهمّتكم، أيّها الشباب الغيارى، وهمّة سائر فئات الشعب، حتّى نصل إلى بناء دولةٍ مستقلّة حُرّة خالية مِن الشياطين جميعهم، دولة رحمانيّة يخرج منها الشياطين أو يُؤمنوا. وكُلّي أمل في أن نُوفّق لِذلك، بهمّتكم وهمّة أفراد الشعب جميعهم، لِنَعيش في ظلّ الإسلام الذي فيه كلّ شيء»[3].

«أشعر بالسعادة وأنا ألتقيكم، أيّها الرياضيّون‏ الأعزّاء، فأنتم ذُخر هذا الشعب والسند الداعم له. إنّني أدعو لكم ولأبناء الشعب جميعهم. إنّكم، أيّها الرياضيّون،‏ تتمتّعون بقوّة جسديّة، وأتمنّى أن تكونوا مِن أصحاب القوّة المعنويّة والروحيّة إن شاء الله.

إنّنا نعاني اليوم مشاكل عديدة، وَهي مشاكل لا يمكن الحؤول دون وقوعها بعد قيام كلّ ثورة، ولكنّها ليست من النوع الذي لا يمكن حلّه وتجاوزه، وإنّما تحتاج إلى وقت كافٍ. ولكن على الشعب أن يدرك أنّ

 

 


[1]  وهو مكان للرياضة التقليديّة في بلاد إيران (المترجم).

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج8، ص35.

[3]  المصدر نفسه، ج10، ص181.

 

 

155


145

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ورجال الدين المؤمنون والجامعيّون المؤمنون والكَسَبة المؤمنون والفلّاحون المؤمنون والعمّال المؤمنون، الذين يَستطيعون أن يكونوا سنداً للشعب، فَلا يَدَعونَ الأيدي الخائنة تذهب بِكلّ شيء. فَقدرتنا المادّيّة والمعنويّة تبلغ ما تريد، لكنّ هؤلاء هم الذين يمنعون ذلك.

عزِّزوا إيمانكم، ولُوذوا بالإسلام، وَلْنلجأ كلّنا إليه، ونذكر الله في كلّ مكان.

أنا أعلم أنّ الرياضيّين في حَلبة اختبار القوّة (زورخانه)[1] يذكرون الله وَأمير المؤمنين (عليه السلام). قَوُّوا ذِكر الله هذا في أنفسكم، وذكر المولى هذا، وسيتقدّم المقتدرون كلّهم والمؤمنون -إن شاء الله- إلى الأمام. وفّقكم الله جميعاً...»[2].

«آمل، أيّها الأبطال، أن تكونوا مُفيدين لشعبكم وبلادكم، وأن تمضي هذه الثورة الإسلاميّة قُدماً بهمّتكم، أيّها الشباب الغيارى، وهمّة سائر فئات الشعب، حتّى نصل إلى بناء دولةٍ مستقلّة حُرّة خالية مِن الشياطين جميعهم، دولة رحمانيّة يخرج منها الشياطين أو يُؤمنوا. وكُلّي أمل في أن نُوفّق لِذلك، بهمّتكم وهمّة أفراد الشعب جميعهم، لِنَعيش في ظلّ الإسلام الذي فيه كلّ شيء»[3].

«أشعر بالسعادة وأنا ألتقيكم، أيّها الرياضيّون‏ الأعزّاء، فأنتم ذُخر هذا الشعب والسند الداعم له. إنّني أدعو لكم ولأبناء الشعب جميعهم. إنّكم، أيّها الرياضيّون،‏ تتمتّعون بقوّة جسديّة، وأتمنّى أن تكونوا مِن أصحاب القوّة المعنويّة والروحيّة إن شاء الله.

إنّنا نعاني اليوم مشاكل عديدة، وَهي مشاكل لا يمكن الحؤول دون وقوعها بعد قيام كلّ ثورة، ولكنّها ليست من النوع الذي لا يمكن حلّه وتجاوزه، وإنّما تحتاج إلى وقت كافٍ. ولكن على الشعب أن يدرك أنّ

 

 


[1]  وهو مكان للرياضة التقليديّة في بلاد إيران (المترجم).

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج8، ص35.

[3]  المصدر نفسه، ج10، ص181.

 

 

155


145

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ورجال الدين المؤمنون والجامعيّون المؤمنون والكَسَبة المؤمنون والفلّاحون المؤمنون والعمّال المؤمنون، الذين يَستطيعون أن يكونوا سنداً للشعب، فَلا يَدَعونَ الأيدي الخائنة تذهب بِكلّ شيء. فَقدرتنا المادّيّة والمعنويّة تبلغ ما تريد، لكنّ هؤلاء هم الذين يمنعون ذلك.

عزِّزوا إيمانكم، ولُوذوا بالإسلام، وَلْنلجأ كلّنا إليه، ونذكر الله في كلّ مكان.

أنا أعلم أنّ الرياضيّين في حَلبة اختبار القوّة (زورخانه)[1] يذكرون الله وَأمير المؤمنين (عليه السلام). قَوُّوا ذِكر الله هذا في أنفسكم، وذكر المولى هذا، وسيتقدّم المقتدرون كلّهم والمؤمنون -إن شاء الله- إلى الأمام. وفّقكم الله جميعاً...»[2].

«آمل، أيّها الأبطال، أن تكونوا مُفيدين لشعبكم وبلادكم، وأن تمضي هذه الثورة الإسلاميّة قُدماً بهمّتكم، أيّها الشباب الغيارى، وهمّة سائر فئات الشعب، حتّى نصل إلى بناء دولةٍ مستقلّة حُرّة خالية مِن الشياطين جميعهم، دولة رحمانيّة يخرج منها الشياطين أو يُؤمنوا. وكُلّي أمل في أن نُوفّق لِذلك، بهمّتكم وهمّة أفراد الشعب جميعهم، لِنَعيش في ظلّ الإسلام الذي فيه كلّ شيء»[3].

«أشعر بالسعادة وأنا ألتقيكم، أيّها الرياضيّون‏ الأعزّاء، فأنتم ذُخر هذا الشعب والسند الداعم له. إنّني أدعو لكم ولأبناء الشعب جميعهم. إنّكم، أيّها الرياضيّون،‏ تتمتّعون بقوّة جسديّة، وأتمنّى أن تكونوا مِن أصحاب القوّة المعنويّة والروحيّة إن شاء الله.

إنّنا نعاني اليوم مشاكل عديدة، وَهي مشاكل لا يمكن الحؤول دون وقوعها بعد قيام كلّ ثورة، ولكنّها ليست من النوع الذي لا يمكن حلّه وتجاوزه، وإنّما تحتاج إلى وقت كافٍ. ولكن على الشعب أن يدرك أنّ

 

 


[1]  وهو مكان للرياضة التقليديّة في بلاد إيران (المترجم).

[2]  الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج8، ص35.

[3]  المصدر نفسه، ج10، ص181.

 

 

155


145

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

البلد بات ملكاً له وتحت تصرّفه بعد اندحار الطاغوت المتغطرس الذي كانت جبروته تزداد يوماً بعد يوم، ويستولي على ثرواتنا وممتلكاتنا مع جوقة اللصوص التي كانت تحيط به. كلّ منطقة وناحية هي مُلك سكّانها والقاطنين فيها، فَعَلى كلّ فرد أن يسعى في إعمار المنطقة التي يعيش فيها. إنْ لم تتعاونوا وتتعاضدوا وتتّحد فئات المجتمع كلّها لِبلوغ هذا الهدف، فلن تتمكّنوا من إعمار هذا البلد الذي سعى الطاغوت إلى تدميره وترسيخ تخلُّفه وتأخُّره.

ثمّة العديد مِن الأيادي والأقلام والألسن التي تعمل اليوم على تثبيط عزيمة أبناء الشعب، عن طريق توجيه الاتّهامات الواهية ونشر الأكاذيب الباطلة وإصدار البيانات والتصريح بمزاعم لا أساس لها من الصحّة، بهدف بثّ روح اليأس في نفوس الشعب والشباب وفئات المجتمع كافّة. فإذا شاع اليأس في مجتمع ما، ضعف ووهن وأصبح عاجزاً عن تحقيق أهدافه. وقد توصّل هؤلاء إلى قناعة بِضرورة بثّ روح اليأس وتثبيط عزيمة هذا الشعب؛ لذا نجدهم يزعمون أنّ هذه الثورة لم تحقّق شيئاً حتّى الآن، على الرغم ممّا نشهده كلّه من إنجازات ومكتسبات عظيمة. إنّ أبواقهم الإعلاميّة تزعم اليوم أنّ الثورة تحقّقت من غير أن تنجز أيّ شيء إلى الآن، وَهُم يهدفون بذلك إلى بثّ روح اليأس في نفوسكم. إذْ ألهمت الشياطينُ هؤلاء بِضرورة إشاعة الإحباط واليأس في أوساط هذا الشعب، لأنّه استطاع القضاء على الطاغوت وتحطيم هذا السدّ المنيع، بِعَزمه الراسخ وإيمانه القويّ ووحدة كلمته. لقد لاحظَ الأعداء قُدرة شعبنا وبسالة شبابنا، فتزلزلَت أركانهم ودخل الخوف قلوبهم وشعروا باستحالة فَرْض همينتهم مجدّداً، ما دفعهم إلى التفكير في مخرج مِن هذه الورطة. فَبَدأوا حملتهم الإعلاميّة والميدانيّة الشرسة، وأثاروا الفوضى والاضطرابات في كردستان وخوزستان، وكما تعلمون، ارتكبوا مؤخّراً جريمة بَشعة أدّت إلى استشهاد العديد مِن حرس الثورة، مُضافةً إلى جريمتهم

 

 

156


146

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

القذرة المتمثّلة باغتيال المرحوم السيّد قاضي طباطبائىّ -رحمه الله- الصديق العزيز الذي ذاق مرارة السجن وجاهد ونُفِي جزاء نضاله ضدّ الطواغيت. إنّهم يحاولون بثّ اليأس في نفوس أفراد الشعب عن طريق اغتيال شخصيّات كهذه. أمّا بالنسبة إلى المناطق التي لم يتمكّنوا مِن التدخّل فيها بشكلٍ مباشر، فقد وجّهوا إليها حملة إعلاميّة لِتشويه الحقائق وتثبيط العزائم»[1].

تصدير الثورة مِن وظائف الرياضيّين

«ينبغي عليكم أن تكونوا قدوة في الدول الأخرى، لأنّكم تمثّلون الجمهوريّة الإسلاميّة، فَإنّنا بحاجة إلى تقوية الإسلام في كلّ مكان وتطبيقه وتصديره إلى البلدان الأخرى، وأنتم الشباب أحد مصاديق هذا التصدير؛ إذ تسافرون إلى الدول الأخرى، ويتفرّج الكثيرون على فعاليّاتكم، فَينبغي عليكم أن تعملوا بالشكل الذي تَدْعون به هؤلاء إلى الإسلام، وعليكم أن تكونوا نموذجاً للجمهوريّة الإسلاميّة التي نأمل أن تقوم في أماكن أخرى إن شاء الله»[2].

«إنّني مسرور لرؤية السادة مِن قُرب، وأدعو لهم جميعاً بالخير. أدعو الله أن يتمتّع الرياضيّون‏ بِرياضة روحيّة بالصورة نفسها التي يمارسون بها الرياضة البدنيّة. فَمُنذ القِدم، كان الرياضيّون‏ الإيرانيّون يبدأون ألعابهم الرياضيّة بِذِكر الله والإمام عليّ (عليه السلام)، وكان ذلك مِن ميّزاتهم البارزة. أتمنّى أن تفوزوا بالبطولة أينما ذهبتم، وأدعو لكم بالتوفيق في تصدير الثورة بمعناها الحقيقيّ، وآمل أن تكونوا أبطالاً مِن الناحية الأخلاقيّة أيضاً، وأرى -والحمد لله- أخلاقاً عالية أخذت تظهر وتنمو لدى الرياضيّين. وأدعوكم إلى الالتفات إلى نقطة مهمّة، هي أنّ هذه الدعايات كلّها المثارة ضدّ الشعب الإيرانيّ لا تهدف إلّا إلى إعادة البلاد إلى الوراء وإلى العهد البائد، فَحاوِلوا مُقاومة هذه الدعايات،

 

 


[1] المصدر نفسه، ج10، ص329 - 330.

[2]  المصدر نفسه، ج16، ص70.

 

 

157


147

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

واسعوا إلى عدم التأثُّر بها، فَبلادكم أصبحت اليوم ذات مكانة بين دول العالم، وذلك كلّه يعود إلى قدراتكم وطاقاتكم. بِلادكم حالياً تُعدّ إحدى أقوى دول العالم، وينبغي عليكم بَذل ما بِوِسعكم من أجل صيانة هذه القوّة وهذا الاقتدار»[1].

 


[1]  المصدر نفسه، ج18، ص130.

 

158


148

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر السادس: المرأة

تُعَدّ قضيّة المرأة مِن القضايا ذات الفاعليّة والحساسيّة في العَصر الأخير، وإذا أردنا أن نعرف السبب في انتقال هذا الأمر إلى الساحات الفكريّة، بحيث صار النقاش حول مواضيع مِن قبيل هويّة المرأة وحقوقها ووظائفها وأدوارها، فإنّنا نجده التحوّل الغربيّ المتأخّر نسبيّاً بعد الثورة الفرنسيّة الكبرى وما تَبِعه من أحداث على المستوى الأوروبّيّ، إذ تتابعت الأحداث التي تَقع على رأسها قضيّة الحقوق والحرّيّات، وَبرزَت في هذه الحقبة الزمنيّة قضيّة ظلم المرأة الشنيع الذي كانت تتعرّض له في أوروبّا والغرب عموماً. مِن هنا، برز هذا النقاش، وصار سؤالاً محوريّاً في النقاشات الفكريّة.

لم يتعامل الإمام الخمينيّ (قدس سره) مع قضيّة المرأة بِأسلوب دفاعيّ، بحيث استجاب لهجمات الغربيّين على الإسلام بعد أن وَصفوه بالرجعيّة والتخلّف وطالبوه بمجاراتهم في مسائل عديدة، مِنها مسألة المرأة تحت عناوين مِن قبيل تحرُّرها وإعطائها حقوقها. لم يَسلك الإمام (قدس سره) سبيلَ الدفاع وَرَدّ الشبهات كمنهج ومسار عامّ، بل كان هجوميّاً في طرحه، فإنّ الغرب هو المتأخّر، وهو الذي التفتَ في قرون لاحقة إلى مسألة تحرير المرأة، والتي كان قد أسّس لها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً. ولَيست الحرّيّة التي يطرحها الغرب سوى سَحق لِمسائل التنظيم الاجتماعيّ الذي يقتضي توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة، واختلاف هذه الأدوار -بِطبيعة الحال- قضيّة طبيعيّة.

في مواجهته الهجوميّة لهذه الثقافة التي كان الشاه محمّد رضا بهلويّ يحاول نقلها إلى إيران، طرح الإمام الخمينيّ (قدس سره) عناوين عديدة ضِمن المقابلات والبيانات والخطابات التي ألقاها، خاصّةً بعد تأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وتخصيص يوم ولادة السيّدة الزهراء (عليها السلام) يوماً للمرأة. ويمكن حَصر هذه القضايا والعناوين بِما يأتي:

 

159


149

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

1. هويّة المرأة وحقوقها

2. الاختلافات بين الرجل والمرأة وشرعيّتها

3. دخول المرأة في شتّى ميادين التنظيم الاجتماعيّ

4. الأمومة أهمّ وظيفة للمرأة

وفي ما يأتي كلمات للإمام الخمينيّ (قدس سره) تَندرج في هذا الإطار وهذه العناوين.

هويّة المرأة الإنسانيّة وحقوقها

«بالنسبة إلى الحقوق الإنسانيّة، لا فَرق بين الرجل والمرأة، لأنّهما إنسانٌ كِلاهما، ومِن حقّ المرأة التحكّم بمصيرها كالرجل. نعم، ثمّة حالات تُوجِد فُروقاً بين الرجل والمرأة لا علاقة لها بشأنها. إنّ القضايا كلّها التي لا تتعارض مع كرامة المرأة وشرفها مسموح بها. أمّا بالنسبة إلى الإجهاض فَهو حرام مِن وجهة نظر الإسلام»[1].

«في النظام الإسلاميّ، المرأة إنسان لا سلعة، يمكنها المشاركة الفعّالة مع الرجل في بِناء المجتمع الإسلاميّ، وَلا يحقّ لها أن تُقلّل مِن شأنها لِتُصبح سِلعة، كما لا يحقّ‏ للرجال أن ينظروا إليها مِن هذا المنظار. أمّا بالنسبة إلى ما يُعرف بوسائل الترفيه، فإنّ الإسلام يحارب كلّ شيء يجرّ الإنسان إلى العبثيّة ويجرّده من هويّته؛ إنّ شرب الخمر والإدمان عليه محرّم في الإسلام، كما أنّ الأفلام المنحرفة عن الأخلاق الإنسانيّة السامية ممنوعة»[2].

الإسلام المدافع الحقيقيّ عن حقوق المرأة

«وبطبيعة الحال، الإسلام يعارض هذه الأمور -الفساد الأخلاقيّ والانحرافات- وينشد التقدُّم للمرأة والرجل، بل إنّه أنقذ المرأة من

 


[1]  المصدر نفسه، ج4، ص255.

[2] المصدر نفسه، ج4، ص291 - 292.

 

160


150

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الوضع المأساويّ الذي كانت عليه في الجاهليّة، وَيعلم الله أنّه خدم المرأة أكثر ممّا خَدم‏ الرجل. أنتم لا تعرفون الحال التي كانت عليها المرأة في الجاهليّة، والحال التي ارتقَت إليها في ظلّ الإسلام. هؤلاء يتعاملون معها الآن بأفعال أسوأ من فِعال الجاهليّة؛ فَفي الجاهليّة لم يُقيموا للمرأة وزناً، أمّا الآن فإنّ الشاه يقول إنّها يجب أن تكون ملهاة، وأمثال ذلك مِن الكلمات المهينة لِكرامتها. هذه هي نظرته إلى المرأة التي يُعبّر عنها بتلك العبارة السيّئة. الإسلام يريد إنقاذ المرأة مِن هذه الحالة الوضيعة، يريد لها أن تطّلع بالمسؤوليّات والأعمال المهمّة التي يقوم بها الرجل، ولكن ليس على تلك الحال المبتذلة من الاختلاط والظهور متبرّجة في الوسط الاجتماعيّ. الإسلام لا يسمح بذلك، هو يريد أن يحفظ للمرأة كرامتها واحترامها، ويُعارض تحوّلها إلى ملهاة تنتقل بين الأيدي. فَهل يكون ضدّ المرأة؟ لقد قدّم الإسلام للمرأة خدمات لا نظير لها على مدى التاريخ، إذ أنقذَها من المستنقعات القذرة ومَنَحها شخصيّة محترمة، فكيف يكون معادياً لها؟»[1].

«مِن هذه الدعايات أيضاً الادّعاء بأنّ مجيء الحكم الإسلاميّ يعني حَبس النساء في المنازل وإقفال الأبواب عليهنّ كي لا يخرجن منها. أيّ قَول قبيح هذا الذي ينسبونه إلى الإسلام؟ في صَدر الإسلام شاركت النساء الجيوش في ميادين القتال. الإسلام لا يُعارض الجامعات، بل يرفض نشر الفساد فيها وجَعْلها متخلّفة، ويعارض الجامعة الاستعماريّة، لا أصل الجامعة. الإسلام لا يعارض -أبداً- شيئاً من مظاهر التقدُّم، ولا يحدّ فئة من فئاتكم. الإسلام هو الذي أنقذ النساءَ وحَفِظهنّ في مقابل الرجال بَعدما كانوا لا يُقيمون لهنّ وزناً قبل بعثة الإسلام، فمَنَحهنّ القوّة، وجعلَهنّ مساويات للرجال في مكانة واحدة. نعم، إنّ ثمّة أحكاماً خاصّة بالمرأة تناسبها وأخرى خاصّة بالرجل تناسبه، لكنّها لا تعني التمييز بينهما، كلاهما يستطيعان

 


[1]  المصدر نفسه، ج4، ص303 - 304.

 

161


151

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

دخول الجامعة، ويتمتّعان بحرّيّة الانتخاب والترشيح. أمّا الذي يرفضه الإسلام فَهو ما يَسعون إليه مِن تحويل المرأة إلى لعبة بأيدي الرجال، أو أن تكون مجرّد جاذبة لأنظارهم... هذا انحراف نَسعى إلى مَنعه، فَنحن نريدها إنساناً حرّاً مثل سائر الأحرار مِن بني الإنسان»[1].

دور المرأة في النظام الاجتماعيّ

«مِن وجهة النظر الإسلاميّة، تحتلّ النساء دوراً حسّاساً في بناء المجتمع الإسلاميّ، فَالإسلام يسمو بِشأن المرأة إلى الحدّ الذي تستطيع معه أن تستعيد منزلتها الإنسانيّة في المجتمع، وأن تخرج مِن إطار كونها سِلعة. وفي ضوء ذلك يمكنها أن تتولّى المسؤوليّة في صرح الحكومة الإسلاميّة»[2].

فاطمة الزهراء (عليها السلام) نموذج إنسانيّ متكامل‏

«إنّ الأبعاد جميعها المتصوّرة للمرأة وللإنسان قد تجلَّت في فاطمة الزهراء (عليها السلام). إنّها لم تكن امرأة عاديّة، بل كانت امرأة روحانيّة، امرأة ملكوتيّة، إنساناً بتمام معنى الإنسان، بالأبعاد الإنسانيّة كلّها، حقيقة المرأة الكاملة... حقيقة الإنسان الكامل. إنّها ليست امرأة عاديّة، بل موجود ملكوتيّ قد ظهر في العالم بِصورة إنسان، موجود إلهيّ جبروتيّ ظهر بصورة امرأة... إنّ الحقائق الكماليّة كلّها المتصوّرة للإنسان والمتصوّرة للمرأة تتجلّى في هذه المرأة... امرأة فيها خصوصيّات الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم، امرأة لو كانت رجلاً لَكانَ نبيّاً، امرأة لو كانت رجلاً لَكان مَكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إنّها إنسان بتمام معنى الإنسان... إنّها امرأة بِتمام معنى المرأة... إنّ للمرأة أبعاداً مختلفة، كما أنّ للرجل أبعاداً مختلفة، وكذلك الإنسان... إنّ هذه الصورة الطبيعيّة هي أدنى مراتب الإنسان وأدنى مراتب المرأة وأدنى مراتب الرجل، ولكنْ مِن هذه

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج5، ص148.

[2]  المصدر نفسه، ج4، ص312.

 

162


152

المقدّمة

المرتبة المتدنّية تكون الحركة نحو الكمال. فَالإنسان موجود متحرّك مِن مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغَيْب، وَإلى الفناء في الألوهيّة. إنّ هذه المسائل وهذه المعاني حاصلة للصدّيقة الطاهرة (عليها السلام)؛ فَقَد بدأَت مِن مرتبة الطبيعة، ثمّ تحرّكت حركة معنويّة وَطَوَت هذه المراحل بِقدرة إلهيّة، بِيَد غيبيّة، بِتربية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى أن وَصَلَت إلى مرتبة يَقصر عنها الجميع»[1].

رسالة الأمومة المقدّسة

«إنّ عفّة النساء في الدرجة الأولى مِن الأهمّيّة، لأنّ عفّة النساء تَسري إلى هؤلاء الأطفال الذين في أحضانهنّ. إنّ المقدار الذي يَسري إلى الأطفال من عفّة النساء وشَرفهنّ لا يتحقّق في المدارس. فتعلُّق الأطفال بأمّهاتهم لا نظير له في ارتباطهم بِالآخرين، وَما يسمعونه مِن فَم الأمّ يبقى راسخاً في قلوبهم، بينما لا يرسخ لديهم ما يأخذونه من الآخرين. فإذا كانت الأمّهات ذوات فضيلة وعفّة، فإنّهن سيرفِدْن المجتمع بأولاد ذوي فضيلة وشرف. والأولاد ذوو الفضيلة والشرف يُصلِحون البلد. فإصلاح الدول رَهن بِكنّ، أيّتها الأمّهات. خَراب الدول وإعمارها تَبع لكنّ. إنكنّ، إذا قَدّمتن للمجتمع شباباً ذوي فضيلة، شباباً نشؤوا في أحضانكنّ على الفضيلة، فإنّ بلدكنّ سيَصلح ويَعمر، وسيتمّ إنقاذه من أيدي الأجانب. أمّا إذا لم يَدعوا أطفالكنّ في أحضانكنّ، فاستدرجوكنّ إلى الدوائر وأخذوا أطفالكنّ إلى الدُور التي ترعى الأطفال، فإنّ العقدة ستظهر فيهم لأنّهم ابتعدوا عن أمّهاتهم. إنّ الطفل الذي لا يكون تحت رعاية الأمّ، ولا يَشعر بمحبّة الأمّ، سوف يشعر بالنقص. وهذه العقد مَنشأ المفاسد جميعها؛ السرقات تنشأ من هذه العقد، وجرائم القتل تنشأ من هذه العقد، والخيانات تنشأ من هذه العقد. وهي تظهر عندما يبتعد الطفل عن أمّه. إنّ الطفل

 


[1]  المصدر نفسه، ج7، ص250.

 

163


153

المقدّمة

اللطيف الرقيق سريع التأثّر يحتاج محبّة الأمّ، لكنّه عندما يُؤخذ من أمّه إلى أشخاص غرباء عنه -ولا يعقل أن تكون محبّة شخص غريب لهذا الطفل كمحبّة أمّه- وَتتمّ تربيته بينهم، تنشأ العقد. إنّ المفاسد جميعها التي تظهر في البلد -أو أكثرها- إنّما تنشأ مِن هذه العقد. لقد عَمِلوا على تطبيق هذه المسألة عمليّاً بأنْ يفصلوا الأطفال عن أحضان أمّهاتهم، ويقوموا بتربيتهم في مكان آخر. لقد خَدعوا النساء إذ أصبحنَ يَقُلنَ: لِمَ نجلس في البيت ونربّي الأطفال؟ يجب أن ننزل إلى المجتمع، يجب أن نذهب إلى كذا. وَلَو كان هدفهم سليماً لَما كان ثمّة إشكال كبير في البَيْن، ولكنّ نواياهم سيّئة»[1].

«أنتنّ، أيّتها السيّدات اللاتي تَقُلْن إنّكنّ مُعلّمات، في الحقيقة أنتنّ تَقُمنَ بمهمّتَيْنِ شريفتَيْن جِدّاً؛ إحداهما تربية الأبناء، وهي أسمى مِن كلّ شغل، فَخير لكنّ أن تقدّمنَ للمجتمع وَلداً صالحاً، وأبقى لكنّ مِن كل شيء. لَكُنّ مِنَ القَدْر حين تُربّينَ إنساناً ما لا أستطيع بَيانَه. فشُغلكنّ الأعظم هو أن تُرَبّينَ الأبناء تربية صالحة، فَحُجور الأمّهات هي الحجور التي يجب أن يتربّى فيها الإنسان، إذ إنّ أوّل مراتب التربية نشأة الطفل في أحضان أمّه. مِن هنا كانت محبّة الطفل للأمّ أعظم مِن كلّ محبّة، وما مِن محبّة أسمى مِن محبّة الأمومة والبُنوّة. فالأطفال يتعلّمون القضايا مِن الأمّ أحسن التعلّم، فَهُم مُتأثّرون بها أكثر مِن تأثّرهم بالأب وبالمعلِّم. رَبِّينَ أبناءكنّ في أحضانكنّ تربية إسلاميّة إنسانيّة، حتّى إذا قدّمتُنَّهُم إلى الابتدائيّة، قدَّمتُنَّ أطفالاً سَليمين خَلوقين مهذّبين تَسعَدْنَ بهم.

فالشغل الأوّل، إذاً، هو تربية الأبناء التي نأسف على أنّ الحكومة المستبدّة كانت تريد أن تحرمهنّ إيّاه. فَروَّجوا أنّ الاهتمام بالطفل لا ينبغي على المرأة، وحَطُّوا هذا الشغل الشريف في نظر الأمّهات،

 


[1]  المصدر نفسه، ج7، ص321.

 

164


154

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

لأنّهم كانوا يريدون فصلهنّ عن الأنبياء (عليهم السلام). فكانَ الطفل يؤخذ إلى مراكز التربية، والأمّ تمضي إلى ما تريد مِن الأعمال. والطفل الذي يَكبر في مركز تربية ليس كالذي يكبر في حِجر أمّه، إذ ينشأُ مُعقّداً؛ أي عندما يكون الطفل في مركز تربية مع الأجنبيّ مِن دون أمّه ومحبّتها، يتعقَّد بالغُربةِ وفقدانه حنان الأمومة المُنقِذ. وأكثر المفاسد الشائعة في المجتمع هي ثمار هذا البلاء. فَفَصلُ الطفل عن أمّه منشأ العقد الكبرى، إذ يفتقد حنانها اللازم له جدّاً. شغلُكُنّ شغل الأنبياء (عليهم السلام) الذين جاؤوا لِصُنع الإنسان؛ شُغلُكُنّ الأوَّل هو التربية.

وعُهِدَ إليكنَّ -أنتُنّ المعلّمات- عمل شريف آخر، ومسؤوليّته كبيرة، وبِقَدر مِن الشرف، ألا وهو صُنع الإنسان. فالمعلّم يَصنع الإنسان؛ وهذا هو عمل الأنبياء (عليهم السلام) الذين جاء كلٌّ منهم لِممارسته مِن أوّل حياته إلى آخرها، فَيُعلِّمُ الناس ويُزكِّيِهم.

إنّ مهنة التعليم هي عمل الأنبياء (عليهم السلام)، والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) معلّم البشر كلّهم، وبَعده أمير المؤمنين (عليه السلام)، فَهُما مُعلِّما الناس، وأنتُنّ مِن هؤلاء الناس الذين هذا هو عملهم. فالعمل واحد، لكنّ أولئك يعملون في المحيط الأوسع، ونحن نعمل في المحيط الأضيق.

شُغلكنّ، بناءً على هذا، في غاية الشرف، ومسؤوليّته في غاية العَظَمة، كما أنّ شغل الأنبياء (عليهم السلام) في منتهى الشرف، لأنّهم جاؤوا لِصُنع الإنسان، فكانت مسؤوليّتهم فوق كلّ مسؤوليّة. الفارق أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أدَّوا ما عُهِدَ إليهم مَن عمل على ما يجب، وخرجوا من المسؤوليّة. وكرامتُكنَّ هذا العمل، وسعادتكنّ إنجازه على ما يجب»[1].

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج8، ص79 - 80.

 

165


155

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الأمر السابع: الشباب

يُعَدّ عنوان «الشباب» عنواناً جامعاً للكثير مِن الفئات الشعبيّة الأخرى، فالجامعيّون مِن الشباب وطَلَبة العِلم الدينيّ بعضهم مِن الشباب، وكذلك النساء والفتيات بعضهنّ مِن الشباب. إلّا أنّ الداعي الأساس لِذِكر عنوان مستقلّ حول الشباب في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) هو أنّ العناوين التي ذُكرت حول الجامعيّين والحوزويّين وغيرهم، كانت عناوين تختصّ بالشريحة مِن حيث كونها جامعيّة أو حوزويّة، وَهذا لا يُلغي ضرورة الحديث عن فئة الشباب بشكلٍ عامّ مِن حيث عموميّتها، وهذا ما سيظهر في الفقرات الآتية. وكمثال على ذلك، يذكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) قضيّة ضرورة تهذيب النفس في عُمر الشباب، وأنّ السلوك المعنويّ للإنسان في هذا العمر أسهل بمراتب مِن عمر الكهولة، إذ إنّها قضيّة سارية وشاملة كلّ شخص في عمر الشباب، سواء أكان جامعيّاً أم لا، وحوزويّاً أم لا.

مِن هنا، فإنّ القضايا المحوريّة التي كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) يركّز عليها حول فئة الشباب في المجتمع تتمحور حول بناء الذات ومراقبتها، سواء أكان عدوّها داخليّاً وهو النفس الأمّارة، أو خارجيّاً وهو الذي يصبّ جهده الأساسيّ في حَرف الشباب عن مبادئ الإسلام والثورة، لأنّ الشباب يمثّلون العصب الحيّ لأيّ مجتمع وحضارة. ويتمثّل تركيز العدوّ الخارجيّ جلّه في إحياء الشهوة ومراكز الفحش بشتّى أصنافها، وبإشغال الشباب بقضايا الحياة اليوميّة، وإغفالهم عن قضايا المجتمع والمبادئ الكبرى.

وفي ما يأتي أهمّ العناوين التي ذكرها الإمام الخمينيّ (قدس سره) في خطابه مع الشباب:

التفقّه وتهذيب النفس في عمر الشباب

«إنّ بإمكانكم، أنتم الذين تتمتّعون بقوّة الشباب‏، أن تعكفوا

 

166


156

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

على تهذيب أنفسكم، فإذا شِبتُم فَستصبحون ضعفاء، وستعجزون عن ذلك. قواكم الآن عالية، وأثر الشيطان في أنفسكم ضعيف، فإذا تقدّمتم في السنّ ضعفَت قواكم وزادَ أثر الشيطان، حينها ستعجزون وستُهزمون. عليكم أن تهذّبوا أنفسكم مِن الآن، وعلى الحوزات العلميّة أن تسعى في تهذيب روّادِها، وَفي ظلّ التهذيب تتابَع الدراسة وتحصيل العلوم. إنّنا بحاجة إلى التفقُّه، فإذا خسِرنا فقيهاً خسِرنا الإسلام. نحن بحاجة إلى الفقيه، وعلينا أن نسعى إلى إيجاده. لكن في الوقت نفسه، علينا أن نسعى في تحقيق أمور أخرى، تماماً كما كان الأئمّة (عليهم السلام)؛ فحضرة الأمير عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يحرص على صلاته وعبادته وعلى أن يكون سيفه جاهزاً أيضاً. لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحرص على بَسْط العِلم والتوحيد، فَيترك لنا كتاباً مثل نهج البلاغة، لكنّه كان يخوض غِمار الحروب ويَستلّ سيفه المعروف. فَهو في الوقت نفسه زاهداً وشجاعاً ومقتدراً ومحارباً. هذه الأمور كلّها مع بعضها»[1].

«جاء الإسلام -أساساً- لِبناء الحياة والإنسان. وَالجهاد مِن أجل حياة الإنسان نفسه مُقدّم على كلّ جهاد؛ لذا سمّاه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الجهاد الأكبر. فالجهاد عظيم، إذاً، والفضائل كلّها تأتي بعده. الجهاد الأكبر هو جهاد الإنسان نفسه الطاغوتيّة، فَعليكم، أيّها الشبّان، أن تشرعوا مِن الآن بهذا الجهاد. لا تَدَعوا قوى شبابكم‏ تتبدّد، فكلّما ذهبَت قوى الشباب‏ مِن الإنسان زادَت جذور الأخلاق الفاسدة فيه وتعقّدَت، وَصَعُبَ الجهاد. الشابّ يستطيع أن ينتصر في هذا الجهاد سريعاً، بينما لا يستطيع الشيخ بلوغ هذا النصر بسرعة. فَلا تَدَعوا إصلاح أحوالكم يتدحرج مِن الشباب‏ إلى الشيخوخة، إذ إنّ مِن مكائد النفس التي تكيدها لِصاحبها هذا الأمر، وهو ما يقترحه الشيطان على الإنسان؛ أنْ دَع إصلاح نفسك، وتمتّع بشبابك‏ الآن، وتُبْ في آخر العمر. هذا طرح شيطانيّ تقدّمه النفس بِتعليم الشيطان الأكبر.

 


[1]  المصدر نفسه، ج6، ص228.

 

167


157

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

فالإنسان يستطيع إصلاح نفسه ما دامَت قوى شبابه وروحه اللطيفة في منأىً عن جذور الفساد، أمّا إذا ضربت جذور الفساد في نفسه واشتدّتْ، فلا إمكان للإصلاح حينها. أنتم الآن مُهيّأون، أيّها الشباب، لمجاهدة النفس وبنائها، وهذا الجهاد هو الجهاد الأكبر، لأنّه مبذول في بناء أنفسكم، وهو مفيد لبلادكم، فكونوا خَدَمها. يجب أن تبدؤوا من هذه السنين في صناعة رجال ينقذون البلاد بِكمالهم. إذا صَنعتُم أنفسكم، وجَذَّرتم الفضائل الإنسانيّة فيها، فإنّكم مُنتصرون في ذلك الوقت في المراحل كلّها، واستطعتم أن تنقذوا بِلادكم. أولئك الذين قادوا بلادنا إلى البَوار فعلوا ذلك لأنّ بناء أنفسهم كان مُتداعياً، فقد كانوا من ذوي الأخلاق والعقائد والأعمال الفاسدة. ولَو كانوا قد طَهّروا أنفسهم، لَما خانوا الشعب ولا الإسلام»[1].

«حسابات أولئك الذين لا يؤمنون بالله كانت ترى أنّه مِن غير المعقول أن ينتصر شعب لا يملك شيئاً على قوى تملك كلّ شيء. لقد كان من غير المعقول قطع يَد الأجنبيّ المدجّج بالأسلحة المختلفة عن خيرات الشعب وثرواته. لقد كانت حساباتهم مادّيّة، ووِفاق الحسابات المادّيّة، كان الأمر كما يقولون، كان انتصارنا مستحيلاً. لكنّهم لم يدخلوا في حسابهم المعنويّات، إذ كان الإسلام يتقدّم دائماً بالمعنويّات. ففي صدر الإسلام، وعلى الرغم من أنّه لم يكن لدى المسلمين أيّة تجهيزات، بل كان لكلّ عدد مِن المقاتلين فرس واحدة، وأحياناً سيف واحد، فيما كان جيشا الروم والفرس مدجّجَيْن بالأسلحة، وعددهم أضعاف عدد المسلمين، إلّا أنّه بهذا العدد القليل والعدّة الضعيفة، مع قوّة الإيمان، هزموا إمبراطوريّة الروم وإمبراطوريّة إيران.

أنتم يا جنود الإسلام، أنتم يا أيّها الشباب المؤمنون النجباء، قد حطّمتم بإيمانكم هذا السدّ الكبير، حطّمتم هذه القوّة الطاغوتيّة، هذه

 


[1]  المصدر نفسه، ج8، ص236.

 

168


158

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

القوّة الشيطانيّة. فَبِفَضل قوّة الإيمان أبطلتم الحسابات المادّيّة كلّها. لقد نَصَركم الله، وسيَنصركم ما دُمتم متوجّهين إليه.

إخوتي، أعزّائي، لا تضيّعوا هذا السرّ مِن أيديكم، سرّ التوجّه إلى الله، سرّ التوجّه إلى الإسلام. إنّ الشهادة للمسلم وللمؤمن سعادة، وشبابنا كانوا يَرَون الشهادة سعادة؛ هنا يكمن سرّ الانتصار. أولئك المادّيّون لا يؤمنون بالشهادة أصلاً، ولكنّ شبابنا يَرَون الشهادة سعادتهم، يَرَونها أولى راحتهم. كان هذا سرّ النصر. لقد أخطأ أولئك الذين ظنّوا أنّهم يستطيعون، في هذه البرهة من الزمن، إيقاع الفرقة بين أبنائي، بين شبابنا، بين أعزّائنا. إنّ شبابنا جميعهم مهتمّون بالإسلام، ويمضون قُدماً بإيمان راسخ»[1].

دور الشباب‏ في انتصار الثورة الإسلاميّة

«إنّ لكم، أنتم أيّها الشباب، المنّة والفضل علينا، فَقَد كُنتم، أنتم أيّها الشبّان المنحدرون مِن عامّة هذا الشعب، لا مِن الفئات التي ضيّعَت ما لدينا كلّه، ولا مِن الذين فَرّوا إلى الخارج، أو الذين كانوا هنا لكنّهم نهبوا أموال هذا الشعب. إنّ لكم الفضل والمنّة علينا، والإسلام له المنّة على الجميع؛ فَلا منّة لنا على الإسلام، بل إنّه صاحب المنّة علينا، والقرآن صاحب المنّة علينا، ولكن أنتم لكم المنّة عَلَيّ. لقد تمكّنتم، أنتم أيّها الشبّان المؤمنون، أيّها الشبّان المرابطون، مِن تحقيق هذا النصر. يعلم الله ما تحمَّله قلبي، ومقدار الأسف والتأثّر الذي أصابني، حينما انتبهتُ في المدرسة العلويّة -بعد يوم أو يومين- إلى صور الشبّان الموجودة هناك، وبعضهم شهداء. إنّ هؤلاء شبّاننا وأبناؤنا، وقد استشهدوا في سبيل الإسلام، أسأل الله أن يحشرهم مع نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله). إنّ الآسى يملؤنا من وقوع تلك المذابح وتلك الممارسات الوحشيّة للنظام المنحوس، ولكنّنا نشعر بالشكر لأنّ


 


[1]  المصدر نفسه، ج7، ص104 - 105.

 

169


159

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

دماء أبنائنا سالَت في سبيل الإسلام. لقد سقط للإسلام العديد من هؤلاء الشهداء، العديد من هؤلاء الأعزّة. وأنتم، أيّها الشباب، خدمتم الإسلام كما خدمه الشباب في صدر الإسلام. لقد أوشك الإسلام أن يصبح أثراً بعد عَين، وكاد أن يمحى، لقد أوشكوا أن يقضوا على هذا القرآن، ولكنّ قيامكم، أنتم أيّها الشباب الإيرانيّ، وقيام الشعب الإيرانيّ، الذي كان قياماً إلهيّاً ونهضة إلهيّة، أعادَ الحياة إلى القرآن وإلى الإسلام مرّة أخرى»[1].

الشباب هم الأمل والبشرى‏ في مرحلة البناء بعد الثورة

«أنتم، أيّها الشباب الطَلَبة وسائر الشباب، أملي وبُشراي. إنّ أملي ينعقد عليكم، أيّها الشباب، عليكم أنتم، أيّها الطَلَبة. إنّني آمل أن تُوكل أمور البلاد في المستقبل إليكم أنتم، أيّها الأعزّاء، وَتتولّون إدارة بلادنا وصيانتها. إنّني آمل أن تتمكّنوا من حلّ مشاكلكم بالعِلم والعمل، بالعلم وتهذيب النفس، بالعِلم والعمل الصالح.

لقد طَوَيْنا هذه المرحلة إلى الآن، وقطعنا أيدي الخونة بِوحدة الكلمة بين فئات الشعب المختلفة، وبالتوكّل على الإيمان، وبالاستناد إلى القرآن والإسلام، وسنُواصل هذه المسيرة بإذن الله. ولكنّ المشاكل ستكون أكثر مِن الآن فَصاعداً، ما يتطلّب مزيداً مِن اليقظة والحذر. لقد بدأ منذ الآن عهد البناء والإعمار لهذه الخربة التي تركوها لنا، وأنتم على عِلم أفضل بما ألحقوه بجامعاتنا وثانويّاتنا ومدارسنا الابتدائيّة نتيجةً لخياناتهم؛ أنتم تعلمون أنّهم أرادوا الإبقاء عليكم متخلّفين، وحالوا دون تنشئة إنسان إسلاميّ مقتدر وهادف. فالمناهج‏ الدراسيّة كانت، من البداية، مناهج معوجّة ومُنحرفة، وكذا كانت برامجهم، إذ أرادوا إعادة شبابنا إلى الوراء لِتحقيق أغراضهم، كي نكون محتاجين في كلّ شيء، في العلم وفي الاقتصاد وفي كلّ شيء.

 


[1]  المصدر نفسه، ج6، ص246.

 

170


160

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ابذلوا مساعيكم، أنتم أيّها الشباب الذين تنعقد عليكم آمالي وبُشراي، وحافظوا على وحدة كلمتكم. إنّهم لم يتيحوا لنا الفرصة للقائكم، ففي عمر المدرسة، هذه المرّة الأولى التي ألتقي بكم، وهذه المرّة الأولى التي أرى فيها معلِّميكم وأساتذتكم مِن قرب. إنّها المرّة الأولى التي أزوركم مِن قرب، أنتم أيّها الشباب الأعزّاء، يا أبناء الإسلام.

يا أملي، يا بُشراي، يا أبناء الإسلام، لقد أدركتم سرّ النصر، وأنّه قد تمّ أثناء العامَيْن الأخيرَيْن اقتلاع جذور الاستبداد والملكيّة المستبدّة الممتدّة على مدى 2500 عاماً، بِوحدة الكلمة. لقد أدركتم أنّكم هزمتم ناهبي النفط والطفيليّين، وأنّ السرّ الذي حقّق لكم النصر هو وحدة الكلمة ووحدة الهدف، والإيمان والإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة. فلا تفرّطوا بهذا السرّ، ورُصّوا صفوفكم أكثر فأكثر، وعزّزوا علاقاتكم مع الفئات جميعها، ولا سيّما علماء الدين. أنتم آمالي وبُشراي، والشعب الإيرانيّ هو أمل الإسلام وبُشراه. ينبغي الحفاظ على وحدة الكلمة التي مكّنَت مِن تحقيق التقدُّم في المجالات كافّة»[1].

مخطّطات أجهزة الطاغوت لتضليل الشباب‏

«لقد كانوا يحاولون إشغال فِكر الشباب عن طريق توظيف الأجهزة الإعلاميّة كلّها في هذا الغَرض، فَقد كان كلٌّ مِن الراديو والتلفزيون والسينما والصحافة يشجّع الشباب على العبث واللهو وتضييع الوقت بحثاً عن الملذّات. فَماذا تنتظرون مِن الشابّ عندما يذهب إلى السينما مرّة واثنتَيْن وثلاث؟ سوف يعتاد على ذلك، ولن يفكّر في غيرها، وربّما سيحلم بها في نومه، وعندما يستيقظ صباحاً، سيفكّر كيف سيمضي الوقت بالعبث واللهو. هذا النوع مِن الشباب الضائع مِن المستحيل أن يفكّر في أنّ كارتر يَسرق نفطنا، فقد عوّدوا شبابنا ورجالنا وحتّى أطفالنا على اللهو والعبث وقضاء وقتهم في بيوت الفحشاء وعلى شاطئ البحر

 

 


[1]  المصدر نفسه، ج6، ص277 - 278.

 

171


161

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الذي يعدّ اليوم أحد تلك المراكز المضرّة بفِكر الشباب. فهذه الأجهزة الإعلاميّة التي كان يجب أن تكون وسائل للتربية الصالحة كالراديو والتلفزيون، تعمل على تشويه فِكر شبابنا. ولا تظنّوا أنّ هذا الشيء يحدث بمحض الصدفة، بل إنّه مُخطَّط له، وباحتمال كبير من الــ (سي أي إي). فهذه الإعلانات عن مراكز الفساد وشاطئ البحر، والتسهيلات التي تقدَّم لهم، هي مِن أجل جذب الشباب والنساء لارتكاب الفحشاء؛ كلّها أشياء مُبرمجة ومنظّمة مِن أعداء الشعب لِيَمنعوا الإنسان من أن ينضج بشكلٍ طبيعيّ. والشيء نفسه بالنسبة إلى الموسيقى التي تشغل تفكير الشباب اليوم، فإذا مضَت مدّة على هذا الشابّ ولا هَمّ له غير الموسيقى، فسوف يتوقّف عقله عن التفكير في الأمور الجدّيّة. وإنّ أحد المخطّطات المغرضة -وهي كثيرة- هو أن يصرفوا الشباب عن الدراسة، عن طريق إعداد فئة باسم اليساريّين الذين يدخلون الجامعات ليتظاهروا وينشروا الفوضى داخلها وليُخرجوا الطلّاب من صفوفهم فيلهوهم عن دراستهم بأمور لا جدوى منها»[1].

«في كلّ مكان تضعون قدمكم، ثمّة شي‏ء واضح -وأصحاب النظرة الثاقبة يفهمون ذلك- هو أنّ عملاء النظام السابق لم يريدوا أن يعيَ شبابنا ما يحدث. كانوا يجرّونهم إلى الحانات والملاهي ليشغلوهم عن قضايا بلدهم، فالهدف مِن أن يعتاد شبابنا مطالعة تلك المجلّات المبتذلة -التي رأيتموها- بما تحويه مِن صور فاضحة ومسائل مثيرة، وارتياد صالات السينما بالكيفيّة التي كانت عليها، ومتابعة الراديو والتلفزيون ببرامجهما المثيرة للاشمئزاز، والتردّد إلى المدارس والشواطئ ومراكز الفحشاء، هو ضياع شبابنا وإلهائه عن قضايا البلد، لِيُصبحوا غير مُبالين بشيء، حتّى بِأنفسهم. فالشابّ، إذا اعتاد الذهاب إلى السينما ورؤية تلك المشاهد الساقطة كلّ ليلة أو كلّ يوم، فإنّ فِكره لن ينصبّ على: أين يذهب نفطنا؟ وأين تذهب ثرواتنا؟

 


[1]  المصدر نفسه، ج8، ص138 - 139.

 

172


162

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ومَن يستغلّنا؟ لن تخطر هذه الأشياء في باله أبداً، فَمثله كمثل الذي يتعاطى المخدّارت، لا همّ له سوى: متى أتعاطى تلك الموادّ؟ ومِن أين أحصل عليها؟ وما إلى ذلك؛ لن يُفكّر أبداً في أمور حياته. فَالشخص الذي يرتاد النوادي الليليّة لن يفكّر في ما يجري في هذا البلد، ولا في عواقب هذه الأمور، وَلن يأخذها بِعين الاعتبار.

تلك المسائل كلّها التي عملوا على ترويجها في الخمسين سنة الأخيرة -خاصّةً في زمان ذلك الثاني [الشاه محمّد رضا بهلويّ] الأسوأ مِن الأوّل [الشاه رضا بهلويّ]- كانت تهدف إلى إلهاء شبابنا عن أنفسهم وعن بلدهم، فلم يَعبؤوا بِما يجري. فالذي لا همّ له غير الذهاب إلى البحر بماذا يستطيع أن يفكّر؟ إنّهم يمارسون هناك العهر؛ لذا فَلا يمكن أن يتساءلوا عن قضايا العصر، لأنّها أمور خارجة عن دائرة اهتماماتهم. إلى أين سار بنا هذا الرجل الخائن؟ هذا كلّه غير مهمّ. ثمّ إنّ هؤلاء المتنوّرين والكتّاب ودعاة التحرّر -معظمهم لا كلّهم- غير ملتفتين إلى ما يخطَّط لهؤلاء الشباب والشابّات، إذ إنّهم يفعلون ما تمليه عليهم أهواؤهم كلّه. إنّهم يصرخون: آه... لقد ذهبت الحرّيّة، الحرّيّة الجميلة ذهبَت. حَسناً ذهبت الحرّيّة، فماذا حدث؟ أُغلقت الحانات وعُطّلت مراكز الفحشاء، ولا زلنا نجهل إذا ما عُطّلت كلّها أم لا، فَلم يَعد مسموحاً لهؤلاء الشباب والفتيات بالذهاب إلى البحر بمفردهم، والتعرّي هناك، أو فِعل ما يشاؤون. هذه الحرّيّة التي ينادون بها، والتي أُمليَت عليهم مِن الغرب، أُملِيَت علينا نحن فقط، لا عليهم، وإلّا فَمِن أين لهم ذلك الرقيّ المادّيّ؟ إنّ هذا النوع مِن الحرّيّة أوجده ‏الغرب للشعوب المستعمَرة، حرّيّة مستوردة وغير منصفة. فأولئك المتحيّزون لمزاعم الغرب يتبجّحون بحقوق الإنسان وَهُم غير مُنصفين، لأنّهم أنفسهم -بعض الذين يدّعون التحرّر لا كلّهم- يريدون أن ينشروا هذا الشكل مِن الحرّيّة التي تجرّ بلادنا نحو الهاوية.

إنّ البلدَ بِشبابه وطاقاته البشريّة، فَمتى ذهبَت تلك الطاقات ذهبَ

 

173


163

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

البلد. وإذا لم يمتلك البلد الطاقات البشريّة، فإنّه لن يستطيع أن يُدير شؤونه، وهذا الشكل مِن الحرّيّة الذي يريده السادة؛ أن يبدّدوا الطاقات البشريّة ويجرّوها إلى اللامبالاة، بحيث يصبح همّها كلّه: متى يأتي الصيف؟ متى نذهب إلى البحر؟ ومتى يأتي اللّيل لنذهب إلى السينما؟ إنّ مثل هؤلاء لا يستطيعون -كما لا يستطيع الرجل المدمن على المخدّرات- أن يفكّروا بما يحدث في البلد، كإلى أين وصلت ثقافتنا واقتصادنا؟ ليس في مقدورهم التفكير في ذلك، ولا في أولئك الذين يريدون أن ينهبونا. إنّهم يريدون أن ينهبونا من دون أن يُشعرونا بذلك؛ لذا قالوا لأنفسهم: فَلنفتح باب اللهو واللعب أمام هؤلاء الشباب اليافعين ليفعلوا ما يشاؤون. نعم، هكذا كان وضعنا في الخمسين سنة الأخيرة؛ يروّجون لِما من شأنه أن يلهي الشباب ويجعلهم يعيشون حالة مِن اللامبالاة. والآن حان الوقت لِندرك، أنتم الذين تعملون في الإذاعة والتلفزيون، أو نحن طلبة العلوم الدينيّة في حوزاتنا، فَساد ذلك النظام، وكيف أنّ همّه كلّه أن يفسد شبابنا ويعرّضهم إلى التهلكة، ويلهيهم عن قضاياهم الأساسيّة، ويصنع منهم أفراداً غير متحمّلين المسؤوليّة وغير مبالين بشيء. لقد حان الوقت لنؤمن بنظام إسلاميّ إنسانيّ أموره كلّها جدّيّة، ولا مكان فيه للهزل. فَلا هزل في الإسلام، سواء أكان في الأمور المادّيّة أو المعنويّة. هذه الأمور التي حظرها الإسلام، مثل اللهو واللعب والهزل، هي نفسها التي يروّجون لها الآن، والتي تجرّ شبابنا نحو التهلكة. الإسلام يريد جنديّاً، يريد محارباً يحارب أعداء الله، ويقف مقابل أولئك الذين يريدون الهجوم علينا. يريد الإسلام أن يصنع مجاهداً، لا فرداً لاهياً مَشغولاً بِلَهوه فقط، غير آبهٍ بما يضيع منه، كَشَرفه. الإسلام جدّيّ في أسلوبه، ولا يوجد فيه هزل.

وإنّ وسائل الترفيه التي أجازها الإسلام، مثل الرماية وركوب الخيل وسباق الخيل وسباق الرماية، فهذه حرب أيضاً، وقد أجاز الرهان

 

174

 


164

الفصل الثاني: شرائح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

والشرط في هذه الألعاب، لكنّ المسألة جدّيّة هنا، وهي التربية. أمّا أولئك، فإنّهم يريدون أن تبقى تلك المسائل الطاغوتيّة في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ونحن نريد أن نعمل بشكلٍ جدّيّ.

لقد أدلَينا بأصواتنا للجمهوريّة الإسلاميّة، وينبغي أن يكون المحتوى إسلاميّاً أيضاً. فالمؤسّسات المختلفة، مثل الراديو والتلفزيون، يجب أن تكون إسلاميّة، ويجب أن تتبدّل برامج اللهو والمزاح والعبث فيها. يجب أن تُصلحوا ذلك كلّه. نحن نريد من شبابنا الذين فتحوا عيونهم وهم بين أحضان الفساد المنتشر في كلّ مكان أن يعودوا إلى ذواتهم، ربّما يستغرق ذلك وقتاً، ولكنّني آمل أن يرجعوا عن هذا الغيّ. وقد حدثت الآن -والحمد لله- تحوّلات ليست قليلة، قطع فيها شبابنا مسيرة المئة سنة بِلَيلة واحدة، وهذه التحوّلات سريعة ومبشّرة بالخير»[1].

 


[1] المصدر نفسه، ج9، ص351 - 253.

 

 

175


165
دروس من فكر الإمام الخميني (قُدِّسَ سِرُّهْ)