المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على النبيّ محمد وآله الطيبين الطاهرين.
﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّة يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ﴾[1].
إنّ وجود العترة الطاهرة في الأمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهو نعمة كبرى، ورحمة إلهيّة للبشريّة، حيث شكّل أهل بيت العصمة والطهارة(عليه السلام) ضمانة لحفظ التعاليم الإلهية، وعدم التحريف في الوحي الإلهيّ ــهذا من جهةــ ومن جهة أخرى شكّلوا ضمانة لسلامة العقل البشريّ في عمليّة التفكير، إذ العقل البشريّ يحتاج إلى مقدّمات صحيحة ليصل إلى النتائج السليمة والصحيحة، كما أنّ هناك بعض المسائل التي لا يتمكّن العقل من إدراكها ابتداءً بل يحتاج إلى توجيه، إضافةً إلى ما للغرائز والقابليّات الفكريّة من تأثير في قدرة العقل للتفكير بموضوعيّة، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ»[2]، وهنا تكمن أهميّة الرجوع إلى روايات أهل البيت(عليهم السلام)، والانطلاق منها في عمليّة تكوين المفاهيم الصحيحة والسليمة.
[1]سورة الأنبياء، الآية 73.
[2]الشريف الرضي، السيد محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهجالبلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص506، حكمة 211.
9
1
المقدمة
ولذلك تجد الكثير ممّن لم يعتقد بمرجعيّة أهل البيت(عليهم السلام) الفكريّة في بناء المفاهيم وقع بين محذورين: إمّا الإفراط، وإمّا التفريط كما هي الحال عند القائلين بالجبر أو التفويض.
قال الإمام عليّ (عليه السلام): «... لَوِ اقْتَبَسْتُمُ الْعِلْمَ مِنْ مَعْدِنِه وشَرِبْتُمُ الْمَاءَ بِعُذُوبَتِه وادَّخَرْتُمُ الْخَيْرَ مِنْ مَوْضِعِه وأَخَذْتُمُ الطَّرِيقَ مِنْ وَاضِحِه وسَلَكْتُمْ مِنَ الْحَقِّ نَهْجَه لَنَهَجَتْ بِكُمُ السُّبُلُ وبَدَتْ لَكُمُ الأَعْلَامُ وأَضَاءَ لَكُمُ الإِسْلَامُ...»[1].
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرِّقا وغرِّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت»[2].
ومن هذا المنطلق كانت فكرة هذا الكتاب، وهو محاولة متواضعة لاستقاء العلم من معدنه والمفاهيم من أهلها.
ولذلك جرى عرض أمّهات الروايات المعتمدة في بداية كلّ درس، وقد جرى التعرّض لروايات أخرى خلال البحث، وعمدة الروايات المذكورة خُرِّجتْ من كتاب الكافي الشريف لثقة الإسلام الشيخ الكلينيّ (قده).
ملاحظة: إنّ ما أُفيد منه في هذا الكتاب إنّما هو غيض من فيض روايات عالجت قضايا عقائديّة دقيقة ومهمّة، كما في الروايات عناوين عقائديّة لم نتناولها في هذا الكتاب رعايةً للاختصار من جهة، ولأنّه جرى التعرّض لها في كتب أخرى من جهة ثانية.
والحمد لله أولاً وآخراً...
مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة
[1]الكلينيّ، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج8، ص32.
[2]الصفار، الشيخ محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح: الحاجميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، إيران - طهران، 1404ه - 1362ش، لا.ط، ص30.
10
2
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يقرأ الروايات حول معرفة الله تعالى.
يتعرف برهان الصدّيقين في النصوص الإسلامية.
يشرح أصول وقواعد برهان الصدّيقين.
11
3
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
الروايات
في رواية شريفة عن منصور بن حازم قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): «إِنِّي نَاظَرتُ قَوماً فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ اللَّه -جَلَّ جَلَالُه- أَجَلّ وأَعَزّ وأَكْرَم مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِه، بَلِ الْعِبَادُ يُعْرَفُونَ بِاللَّه؟ فَقَالَ(عليه السلام):رَحِمَكَ اللَّه»[1].
وفي رواية عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام): «اعْرِفُوا اللَّه بِاللَّه، والرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ، وأُولِي الأَمْرِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والْعَدْلِ والإِحْسَانِ»[2].
وورد عن الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة: «... كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المُظهِر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً...»[3].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص86.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص85.
[3]ابن طاووس، عليّ بن موسى، الاقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة المعروف بـ (إقبال الأعمال)، النسخة الحجريّة، ص348؛ المجلسيّ، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج64، ص142.
13
4
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
مقدّمة
لقد جبلت النفس الإنسانيّة في أصل تكوّنها على الإنشداد إلى الله تعالى والتعلّق بخالقها، وهي مجبولةٌ في أصل تكوّنها على نوع من المعرفة الباطنيّة بالله تعالى من غير حاجة إلى اكتساب هذه المعرفة من خلال الدليل والبرهان، قال تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾[1].
وتُعَدُّ هذه المعرفة من أقوى المعارف باللّه وأوضحها وأشدّها تأثيراً في مقام السلوك إلى الله تعالى وعبادته، وما ورد في الآيات والروايات حول الفطرة وأهميّتها إنّما هو محاولةٌ لإيقاظ هذه الفطرة. ورفع الموانع التي قد تمنع الفطرة من التأثير، وتحول دون الاستجابة لها. ورد عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): "كلّ مولود يولد على الفطرة فأبوه يُهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه"[2].
إلّا إنّ الإنسان يحتاج إلى الاستفادة من الأدلّة والبراهين على وجود الله تعالى، ويمكن تقسيم البراهين التي تثبت وجود الله تعالى إلى قسمين:
الأول: في هذا القسم لا تكون المخلوقات واسطة لإثبات وجوده تعالى، بل نصل إليه تعالى عن طريق حقيقة الوجود ومفهوم الوجود.
الثاني: تجعل المخلوقات واسطة في الاستدلال، ويكون الوصول إلى معرفة الله من خلال الاستعانة بالمخلوقات، كبرهان النظام، والحدوث...
أمّا براهين القسم الأول فقد تسمّى "شبه لمّية" باعتبار أنّها تصل إلى العلّة بواسطة العلّة نفسها، وذلك لأنّ مصطلح "البرهان اللمّيّ" يراد به الانتقال لمعرفة
[1]سورة الروم، الآية 30.
[2]الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، الخلاف، تحقيق: جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1407ه، لا.ط، ج3، ص591؛ مسلم النيسابوري، مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح (صحيح مسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج4، ص2047.
14
5
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
المعلول من خلال علّته، وهذا غير متحقّق فيما نحن فيه، وإنّما ننتقل من أحد المتلازمين إلى الآخر كما سيأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.
وأمّا براهين القسم الثاني فهي براهين "إنّيّة" وهي التي تسلك الطريق من المعلول إلى العلّة.
وبرهان الصدّيقين هو من القسم الأول؛ لأنّه يُستدلّ فيه على الحقّ تعالى من خلال ذاته تعالى، وأوّل من أطلق هذا الاسم على هذا البرهان هو الفيلسوف الشهير "ابن سينا" في البرهان المعروف ببرهان الإمكان والوجوب، وإن اشتهرت نسبة برهان الصدّيقين إلى صدر المتألّهين المعروف ﺑ"ملا صدرا" صاحب مدرسة الحكمة المتعالية في الفلسفة، مع وجود فارق في تقرير هذا البرهان بين ابن سينا والملا صدرا.
وأمّا سبب تسميته بهذا الاسم -الصدّيقين- فلأنّه أشرف البراهين مرتبة وأكثرها إحكاماً وهي طريقة النبيّين والمعصومين ومن بعدهم طريقة الصدّيقين.
برهان الصدّيقين والنصوص
تشير النصوص المتقدّمة إلى مطلب لطيف، وتفتح أمام العقول طريقاً آخر للوصول إلى معرفة الله تعالى، كما فتحت باباً لفهم بعض الآيات القرآنيّة كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[1] وقوله تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء شَهِيدٌ﴾[2].
[1]سورة آل عمران، الآية 18.
[2]سورة فصّلت، الآية 53.
15
6
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
فالملاحظ في هذه الروايات أنّها تشير إلى أسلوب جديد في معرفة الله –تعالى- غير متعارف بين عامّة الناس وهو "معرفة الله بالله"، بل الله –تعالى- أجلّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه، وكأنّ معرفة الله تعالى بالطريق المتعارف -وهو الوصول إلى معرفته من خلال الخلق والانتقال من معرفة المعلول إلى معرفة العلّة- هي معرفة له من الطريق الأقلّ شأناً بل الأضعف من الطريق الآخر الذي قدّمته هذه الروايات، وهو معرفة العلّة أولاً ومنها نتعرّف إلى المعلول.
ولقد عبّر الامام الحسين(عليه السلام) عن هذا الطريق بألطف تعبير، وأرقّ عبارات كما ورد عنه في دعاء عرفة: «... كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المُظهِر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً...»[1].
وهذا الامام زين العابدين(عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثماليّ يأخذ بروحك وقلبك إلى مكان أرفع ومعنى أرقى وأعمق، عندما يقول: «... بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت...»[2].
وأمّا أمير المؤمنين(عليه السلام) فيقول في دعاء الصباح المشهور: «... يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته...»[3].
[1]السيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، مصدر سابق، ص348؛ العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص142.
[2]الصحيفة السجاديّة، تحقيق السيّد محمد باقر الموحد الابطحيّ الأصفهانيّ، مؤسّسة الإمام المهدي(ع) مؤسّسة الأنصاريان للطباعة والنشر - قم – ايران، ط1، 1411هـ، دعاء سحر في كلّ ليلة من شهر رمضان المبارك(المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي)؛ الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص582.
[3]العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج84، ص339.
16
7
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
كانت هذه جملة من الآيات والأدعية إضافةإلى النصوص المتقدّمة التي استفيد منها هذا البرهان المسمّى ﺑ"برهان الصدّيقين".
أصول برهان الصدّيقين وقواعده
لقد عُرِضَ هذا البرهان بتقريرات متعدّدة ومتفاوتة، نقتصر على بيان الحكيم صدر المتألّهين وتقريره باختصار. وقد أقامه على أساس الحكمة المتعالية وقواعدها، ويعتمد برهانه على عدّة قواعد:
1ــ أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة: من الواضح أنّ كلّ موجود في الخارج ليس له إلّا واقعيّة واحدة، والذهن هو الذي ينتزع منه مفهومي "الوجود" و"الماهيّة" وإلّا فإنّ المتحقّق في الخارج شيء واحد، ويختلف وجوده الذهنيّ عن الخارجيّ، وتختلف آثار كلّ من الوجودين "الخارجيّ والذهنيّ"، فالنار خارجاً لها أثر مختلف عن آثار وجودها الذهنيّ، ومعنى أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة أنّ الوجود هو المتحقّق أصالةً، وأنّه هو منشأ الأثر، والماهيّة متحقّقة بالوجود.
2 ــ الوجود حقيقةٌ مشكّكة: فالوجود له حقيقة واحدة ولكن لها مراتب متفاوتة من حيث الشدّة والضعف، فكلّ موجود ابتداء من واجب الوجود وصولاً إلى الهيولى -أي المادّة الأولى- مشتركة في حقيقة الوجود، وإن اختلفت مراتب الوجود فيها.
3 ــ بساطة الوجود: فالوجود له حقيقة بسيطة لا جزء لها، ولا هو جزء لشيء آخر لأنّه لا يوجد شيء غير الوجود.
4 ــ المعلول عين الربط والحاجة إلى العلّة: إنّ المعلول حقيقته الفقر وواقعه الحاجة إلى العلّة إذ ليس للمعلول أيّ وجود وتحقّق بدون علّته، فارتباطه بعلّته مطلق.
17
8
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
والنتيجة بناء على هذه المقدّمات:
إنّ الوجود حقيقة عينيّة واحدة بسيطة، لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلّا بالكمال والنقص والشدّة والضعف، وغاية كمالها هو الذي لا يكون متعلّقاً ولا مرتبطاً ولا محتاجاً إلى غيره، فإذاً الوجود إمّا مستغنٍ عن غيره، وإمّا مفتقر بذاته إلى غيره، والأول هو واجب الوجوب، وهو صرف الوجود الذي لا أتمَّ منه، ولا يشوبه عدم ولا نقص، والثاني هو ما سواه وهو من أفعاله وآثاره ولا قوام لما سواه إلّا به -تعالى-.
هذا خلاصة برهان الصدّيقين كما عرضه صدر المتألّهين.
18
9
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
المفاهيم الرئيسة
يمكن تقسيم البراهين التي تثبت وجود الله تعالى إلى قسمين: الأول: لا تكون المخلوقات واسطة لإثبات وجوده تعالى، بل نصل إليه تعالى عن طريق حقيقة الوجود ومفهوم الوجود.الثاني: تجعل المخلوقات واسطة في الاستدلال عليه، كبرهان النظام، والحدوث.
براهين القسم الأول تسمّى "شبه لمّية" باعتبار أنّها تصل إلى العلّة بواسطة العلّة نفسها، وأمّا براهين القسم الثاني فهي براهين "إنّية" وهي التي تسلك الطريق من المعلول إلى العلّة.
برهان الصدّيقين هو من القسم الأول؛ لأنّه يُستدلّ فيه على الحقّ تعالى من خلال ذاته تعالى.
يُعدُّ برهان الصدِّيقين من أشرف البراهين لوجود الله.
برهان الصدّيقين هو عبارة عن معرفة الله باللهِ "بِكَ عرفتك وأنت دللتني عليك".
برهان الصدّيقين قائم على أربع مقدّمات:
أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.
الوجود حقيقةٌ مشكّكة.
بساطة حقيقة الوجود.
المعلول عين الربط والحاجة إلى العلّة.
19
10
الدرس الاول: معرفة الله برهان الصدّيقين
فكر وأجب
أُذكرْ آية ورواية أو دعاءً يشير إلى برهان الصدّيقين.
أُذكرْ مقدّمات برهان الصدّيقين، والنتيجة باختصار.
20
11
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يعرف دليل الحدوث في الروايات الشريفة.
يشرح برهان الحدوث.
يبيّن أدلّة الحدوث بقسميه.
21
12
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
الروايات
في مناظرة للإمام الصادق(عليه السلام) مع بعض المنكرين قال له: "سل عمّا شئت، فقال: ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال(عليه السلام): إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلّا، وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال؛ لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث وفي كونه في الأزل دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شيء واحد"[1].
مقدّمة
تقدّم سابقاً أنّ الأدلّة على وجود الله تعالى متعدّدة ومتنوّعة، وتقدّم الحديث عن بعض هذه الأدلّة، وسنعرض الآن نوعاً آخر من الأدلّة على وجود الله تعالى، وهي أدلّة تعتمد على "إثبات صفة في الموجودات" -غير نفس الوجود- كالحدوث وهذه الصفة إذا ثبتت تكون مقدّمة من مقدّمات دليل الحدوث على وجود الخالق سبحانه، وهذا النوع من الأدلّة غير محصور في مسألة الحدوث
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص77؛ وفي البحار (القِدَم) بدل (العدم)، انظر: العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج3 ص46؛ ج54 ص62.
23
13
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
بل هو يشمل "دليل النظام" و"دليل الحركة" وهي كلّها أدلّة تعتمد على إثبات صفة "الحدوث، أو الحركة، أو النظم" في المخلوقات وبعد اثبات هذه الصفة في المخلوقات كلّها ننطلق من هذه المقدّمة إلى إثبات الصانع.
دليل الحدوث
أمّا دليل الحدوث فالمقصود به -عند الإطلاق- هو "الحدوث الزمانيّ" في قبال "الحدوث الذاتيّ" المعروف ببرهان "الإمكان والوجوب".
ويتوقّف برهان الحدوث في إحدى مقدّمتيه لإثبات أنّ موجودات العالم لم تكن موجودة في زمان ما ثمّ وجدت بعد ذلك، أي إنّ الموجودات كانت مسبوقة بالعدم الزمانيّ قبل أن تتّصف بالوجود وهو المسمّى بالحدوث الزمانيّ، وهو قسمان أو صنفان:
الأول: وهو الحدوث الابتدائيّ، بمعنى، أنّ الكون وكلّ عالم الوجود لم يكن ثمّ كان، أي إنّه ثمّ وجد وتحقّق له وجود في آنٍ ما، وقد تبنّى المتكلّمون هذا المعنى، ودافعوا عنه بشدّة؛ وذلك لأنّه لو لم يثبت الحدوث الابتدائيّ لكلّ الكون وما فيه من مخلوقات فإنّه لن يكون لها نقطة بداية زمنيّة، وإذا لم تكن لها نقطة بداية في وجودها فإنّها ستكون قديمة أزليّة غير مسبوقة بالعدم، وبما أنّ القِدم والأزليّة تساوي الألوهيّة -بحسب الأصول المقرّرة عند المتكلّمين- فإنّ الاعتقاد بقِدم أيّ موجود -سوى الله تعالى- يلزم منه القول بتعدّد القديم الأزليّ ممّا يعني القول بتعدّد الآلهة، وهو باطل بل هو شِرك.
إضافةً إلى أنّه يلزم منه إبطال دليليّة دليل الحدوث على وجود الخالق سبحانه، مع أنّ الروايات العديدة ارتكزت على هذا الدليل واعتمدت عليه في إثبات وجود المولى -تعالى-.
وقد أورد المتكلّمون الأدلّة الكثيرة على إثبات الحدوث الابتدائيّ، منها ما هو
24
14
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
روايات عن المعصومين(عليه السلام)، ومنها ما هو استعانة بالنتائج التي توصّلت إليها العلوم الطبيعيّة، وسيأتي الإشارة إلى بعض هذه الأدلّة.
بينما انتهج الفلاسفة طريقاً آخر في إثبات الصانع، فقد اعتبروا أنّ إثبات الألوهيّة يدور مدار مسألة "وجوب الوجود" ولا يدور مدار القِدم والحدوث، وبالتالي فإنّ إنكار الحدوث الابتدائيّ للمخلوقات لا يلزم منه الشرك ولا يلزم منه القول بتعدّد الآلهة، ولا يلزم منه أيضاً إبطال دليل الحدوث، وإنّما يمكن إثبات صفة الحدوث في المخلوقات والكون كلّه لكن ليس الابتدائيّ -وسيأتي تفصيل ذلك-.
الثاني: الحدوث الاستمراريّ التدريجيّ، بمعنى أنّ الموجودات في هذا العالم هي -وبدون شكّ- في حالة تغيّر دائم، فالموجود الواحد دائم التغيّر حتّى وإن كان ظاهره الثبات، وهو ما بيّنه صدر المتألّهين من خلال إثباته "للحركة الجوهريّة" وأنّ حركة الجوهر حركة لعوارضه، وبالتالي فإنّ كلّ ما ظاهره الثبات هو متحرّك متغيّر بهذا المعنى للحركة، حيث إنّ حقيقة الحركة والتغيّر حينئذٍ ما هي إلّا حدوث حالة لاحقة بعد زوال الحالة السابقة، وهكذا يكون التلبّس بالحدوث استمراريًّا في الموجودات حال وجودها وهذا ما يعبّر عنه بالحدوث التدريجيّ أو الاستمراريّ.
أدلة الحدوث بقسميه
الحدوث الاستمراريّ:
بناء على ما تقدّم فإنّ دليل الحدوث لا يتوقّف في صغراه على إثبات الحدوث الابتدائيّوحسب، إنما يصحّ فيه ويكفيه إثبات صغرى الحدوث من خلال إثبات الحدوث "الاستمراريّ التدريجيّ" المتّفق على تحقّقه في الموجودات بالبداهة والوجدان، وذلك "لأنّ موجودات العالم متغيّرة" و"كلّ متغيّر حادث" فينتج أنّ موجودات العالم حادثة لأنّه متحرّك ومتغيّر دائماً.
25
15
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
الحدوث الابتدائيّ:
وقد عُرضت أدلّة على "الحدوث الابتدائيّ" سواء في باب العلوم الطبيعيّة، من خلال ما جرىإثباته فيها من وجود انتقال حراريّ مستمرّ من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة دون العكس، وأنّ الكون يسير باتّجاه تساوي حرارة الأجسام وحينئذٍ تتوقّف العمليّات الكيميائيّة والطبيعيّة وتنتهي الحياة، فلو كان الكون أزليّاً لكانت الحياة قد توقّفت وانتهت وعليه فبقاؤها هو دليل حدوثها[1].
كما أشارت الروايات عن المعصومين(عليه السلام) إلى مسألة الحدوث بقسميه كليهما -الابتدائيّ والتدريجيّ- ومنها الرواية التي ذُكرت في صدر الدرس وفيها: «... فقال له أبو عبد الله(عليه السلام): سل عمّا شئت، فقال: ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال(عليه السلام): إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلّا وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ولو كان قديماً ما زال ولا حال؛ لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخولٌ في الحدث، وفي كونه في الأزل دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شيء واحد...»[2].
وفي الرواية إشارة واضحة إلى الاستدلال بالتغيير الحاصل في الموجودات والطارئ عليها: "إلّا وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى"، وأنّ هذا التغيير والزوال من حال إلى حال هو آية الحدوث "الاستمراريّ التدريجيّ".
كذلك أشار(عليه السلام) فيها إلى "الحدوث الابتدائيّ" وهو قوله (عليه السلام): "ولو كان قديماً ما زال ولا حال"؛ لأنّ القديم لا يتغيّر ولا يتحوّل ولا يزول عن حال إلى
[1]السبحاني، الشيخ جعفر، محاضرات في الإلهيّات، تقرير: الشيخ الرباني الكلبيكاني، مؤسّسة الإمام الصادق(ع)، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص31.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص77، وفي البحار(القِدَم) بدل (العدم) انظر: العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص46، ج54، ص62.
26
16
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
غيرها، لأنَّ كلّ متغيّر هو قابل للانعدام، فإنّ زوال بعضه وتغيّره هو دليل قابليّة الكلّ للزوال والانعدام بل هو انعدام للكلّ -بما هو كلّ- فعلاً.
إلى هنا ينتهي الكلام في إثبات صغرى دليل الحدوث وهي المقدّمة القائلة "إن العالم حادث".
أمّا كبرى دليل الحدوث وهي القضيّة القائلة: "كلّ حادث لابدّ له من محدِث"، فهي ترتكز على دليل عقليّ بديهيّ وحينئذٍ لا يحتاج إثباتها إلى تجشّم عناء البرهان والاستدلال، وبالتالي لا شكّ ولا ريب في أنّ الحادث لا بدّ له من محدِث وأنّ الموجود المتغيّر لا بدّ له من موجد، فلا كلام في هذه القضيّة؛ لأنّها بديهيّة يحكم بها العقل ويقرّها العقلاء.
نعم، وقع الكلام في صفات هذا الموجِد -ككونه واجب الوجود مثلاً- فهي تعتمد على أدلّة أخرى "كدليل الوجوب والإمكان"، كذلك كونه –هذا الموجِد- واحداً، فإنّها ترتكز على أدلّة أخرى غير دليل "الحدوث".
النتيجة: إلى هنا وبعد أن تمّت مقدّمتا دليل الحدوث، وهي الصغرى القائلة بأنّ (الكون حادث)، وهي مقدّمة ثابتة بالوجدان والبرهان، والكبرى (كلّ حادث محتاج إلى محدِث) الثابتة ببداهة العقل ينتج من هذا الدليل أنّ (الكون لا بد له من محدِث) وهذا المحدِث خارج عن الكون وليس محدَثاً مثله، وإلّا لاحتاج إلى محدِث، وننقل الكلام إليه، فينتهي الأمر إلى محدِث ليس بحادث لاستحالة الدور والتسلسل.
27
17
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
المفاهيم الرئيسة
برهان الحدوث يعتمد على مقدّمتين:
هي أنّ هذا الكون بما فيه ومَن فيه حادثٌ زماناً، سواء الحدوث الدفعيّ أو التدريجيّ.
وهي أنّ الحادث لا بدّ له من محدِث يوجده من العدم، والنتيجة أنّ هذا الكون لا بد له من محدثٍ أوجده.
قد قُدِّمت عدّة أدلّة لإثبات حدوث الكون وأنّه ليس قديماً (وهي صغرى دليل الحدوث): منها أدلّة علميّة كنظريّة الانتقال الحراريّ القائم والدائم في الكون، ومنها التغيّر والتبدّل الموجود في الكون وهو الحدوث الاستمراريّ.
المقدّمة الثانية لدليل الحدوث مقدِّمة عقليّة بديهيّة يُدركها كلُّ عاقلٍ لبداهتها "وهي كبرى دليل الحدوث" وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذا البرهان ومقدّماته.
28
18
الدرس الثاني: معرفة الله برهان الحدوث
فكر وأجب
ما المقصود بالحدوث الابتدائيّ والحدوث التدريجيّ الاستمراريّ؟
أُذكرْ دليلًا علميًّا على الحدوث الابتدائيّ؟
كيف تمّت استفادة الحدوث الاستمراريّ من الرواية المذكورة في صدر الدرس؟
29
19
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة[1] والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يتعرّف وجوب البحث والمعرفة في الروايات.
يبيّن دليل الأنفس والآفاق.
يتعلّم أسلوب الإمام(عليه السلام) في كيفية استخدام الأدلة الأنفسيّة والآفاقية في معرفة الله.
[1]من الواضح أنّ الترتيب الطبيعيّ والمنطقيّ للبحث حول عنوان (وجوب البحث والمعرفة) هو أن يكون متقدّماً على مباحث الاستدلال على وجود الله تعالى وهذا ما التزم به العلماء في ترتيب المباحث العقائديّة، إلّا أنّ الضرورة فرضت هنا تأخيره وذلك للحفاظ على أمرين: أوّلهما: عرض الرواية كاملة من دون تقطيع، وثانيهما: الحفاظ على الترابط والتراتبيّة بين فقرات الرواية ومضامينها والتي عرضها الإمام(ع) بأسلوب رائع كما سيتّضح لاحقاً.
31
20
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
الروايات
عن محمد بن عبد الله الخراسانيّ خادم الرضا(عليه السلام) قال: «دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن(عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن(عليه السلام): أيّها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم، وليس هو كما تقولون، ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء، لا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟ فسكت الرجل، ثمّ قال أبو الحسن(عليه السلام): وإن كان القول قولنا -وهو قولنا- ألستم قد هلكتم ونجونا؟ فقال: رحمك الله؛ أوجدني كيف هو وأين هو؟ فقال(عليه السلام): ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط هو أيَّن الأين بلا أين، وكيَّف الكيف بلا كيف، فلا يُعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة ولا يُدرك بحاسّة ولا يقاس بشيء. فقال الرجل: فإذاً إنّه لا شيء إذا لم يُدرَك بحاسّة من الحواسّ؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام): ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته؟! ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنَّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء. قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن(عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.قال الرجل: فما الدليل عليه؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام): إنّي لمّا نظرت إلى جسدي، ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك
33
21
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
بقدرته، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبيّنات علمت أنّ لهذا مُقدّراً ومنشئاً»[1].
مقدمة
تتعرّض الرواية الشريفة إلى جملة من المطالب التي ترتبط بمعرفه الله تعالى وأهمّ هذه المطالب ثلاثة هي:
1ــ حكم العقل بوجوب البحث عن المولى تعالى.
2ــ لزوم تصحيح المبادئ التصوّريّة، أي بناء تصوّر صحيح عن الله سبحانه.
3ــ تقديم الدليل وعرضه على وجوده سبحانه وتعالى.
وسنلاحظ بوضوح كيف تدرّج (عليه السلام) في حواره مع السائل ليأخذ بيده من مرحلة إلى أخرى بتراتبيّة لطيفة وواعية، ويجب التأمّل في هذا الأسلوب والاستفادة منه في كيفيّة الحوار.
المطلب الأول: وجوب دفع الضرر المحتمل
وهو المستفاد من قوله(عليه السلام): «أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء، لا يضرنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟ وإن كان القول قولنا ــ وهو قولنا ــ ألستم قد هلكتم ونجونا؟».
حيث نلاحظ أنّ الامام(عليه السلام) قد عرض أمام هذا الرجل -والحاضرين في المجلس- الدليل العقليّ الذي يوجب على العاقل البحث عن وجود الله ونبَّههم عليه، فإنّ العقل السليم مفطور على الحكم بوجوب دفع الضرر عن النفس، حتّى لو كان هذا الضرر ضرراً محتملاً، فكيف وهو ضرر خطير –وقد يكون فيه الهلاك
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص79.
34
22
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
الأبديّ- فإنّ العقل في المقام يحكم على صاحبه بلزوم تجنّب الوقوع في هذا الهلاك، وحيث إنّ إهمال البحث عن وجود الله فيه احتمال الوقوع في الضرر الخطير عبّر عنه الامام(عليه السلام) ﺑ"الهلاك".
وعليه فإنّ العقل السليم يدفع بصاحبه نحو البحث -بمعزل عن النتيجة التي قد يصل إليها- ويوجب عليه تجنّب هذا الضرر، وهذا ما يجري عليه الناس في حياتهم الدنيويّة حيث يتجنّبون ما فيه ضرر محتمل مع أنّه مهما كان هذا الضرر الذي يتجنّبونه في أمور حياتهم ومعاشهم يبقى أقلّ بكثير من ضرر "الهلاك والعذاب الأبديّ".
ومن هنا نلاحظ أنّ الرجل في الرواية الشريفة قد أذعن لهذا الحكم العقليّ بوجوب البحث والسؤال تجنّباً للضرر والهلاك -بعد أن تنبّهت فيه الفطرة، وأيقظه كلام الإمام(عليه السلام) من سبات العقل- فانقلب حاله من حال الخصومة والنديّة إلى حال السائل الطالب للحقيقة فقال حينئذٍ: «رحمك الله أوجدني -أي عرّفني- كيف هو وأين هو؟».
تنبيه
يجدر التنبيه أيضاً إلى أن حكم العقل الفطريّ ﺑ"وجوب البحث" غير منحصر بمسألة "وجوب دفع الضرر"، بل إنّ هذا الحكم العقليّ قد ينشأ من مناشئ أخرى هي أيضاً تكون دافعاً لحكم العقل بوجوب البحث من قبيل "حكم العقل بوجوب شكر المنعم". فالإنسان غارق في النعم في كلّ شؤون حياته ابتداءً من نعمة وجوده إلى غير ذلك من نعم كالسمع والبصر والصحّة والأمان وما لا ينتهي عدده من النعم الكثيرة، والعقل يحكم حينئذٍ بأنّ الذي أنعم على الإنسان هذه النعم يجب شكره، فيجب معرفته أولاً ليحصل الشكر بالشكل الذي يرتضيه هذا المنعم ويليق بشأنه، فيكون حكم العقل بوجوب البحث والمعرفة عن الخالق هنا ناشئ من بابٍ آخر غير باب دفع الضرر وهو باب "وجوب شكر المنعم".
35
23
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
المطلب الثاني: تصحيح المبادئ التصوّريّة عن الله تعالى
و يبدأ من سؤال السائل: «رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو؟» وقد تبيّن من خلال هذا السؤال أنّ السائل يعاني خللاً ومشكلة في تصوّره للإله الخالق، إذ بحسب سؤاله فإنّه يتصوّر أنّ الوجود منحصر في هذا الوجود المادّيّ وأنّ الإله لا يخرج عن هذا العالم المادّيّ وبالتالي فإنّ الإله الذي في ذهن هذا السائل هو محتاج إلى صورة ومكان وزمان محدَّد ومشخَّص ليوجد فيه.
ومن هنا عمد الإمام(عليه السلام) إلى تصويب هذا الخلل التصوّري وتصحيحه وذلك لأنّ هناك تلازماً وترتّباً بين التصوّر الصحيح للشيء، وبين الإذعان والتصديق فالخطأ في مرتبة التصوّر يلزمه حصول الخطأ في مرحلة الإذعان والتصديق.
ومن هنا أجابه الامام(عليه السلام) بقوله: «...ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط هو أيَّن الأين بلا أين، وكيَّف الكيف بلا كيف، فلا يُعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة ولا يُدرك بحاسّة ولا يقاس بشيء...».
وبذلك يكون الامام(عليه السلام) قد نبّه السائل إلى أنّ الوجود ليس منحصراً في عالم المادّة وأنّ المبحوث عنه هو منزّه ومجرَّد عن المادّة، نعم، هو خلق المادّة وخلق الزمان والمكان لكنّه منزّه ومجرَّد عنهما وعن كلّ شؤون المادّة، بل إنّ المبحوث عنه لا يمكن لك أن تدركه بالحواسّ ولا يمكن أن تتصوّره بخيالك ولا يمكن أن تقيسه على أيّ شيء من الأشياء التي يتخيّلها ذهنك فإنّه ليس كمثله شيء.
ثمّ انتقل الرجل إلى السؤال عن زمان وجوده تعالى فقال: «فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن(عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان».
وهذا السؤال هو أيضاً ناتج من أنس الذهن بالعالم المادّيّ المحسوس، وقياس كلّ شيء على هذا العالم، فتخيّل السائل أنَّه لا بدّ لهذا الموجود من بداية زمانيّة شأنه شأن كلّ موجود حادث، فأجابه الإمام(عليه السلام) بأنّه عليك أنت أن تأتي بالدليل على كونه مسبوقاً بالعدم، فإنّ ألوهيّته تساوق أزليّته وعدم سبقه بالعدم.
35
24
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
المطلب الثالث: دليل الأنفس والأفاق
ثمّ بعدما تكفّل الحوار بين الرجل السائل والإمام(عليه السلام) ببناء تصوّر صحيح وتكفّلت التوضيحات التي بيّنها الإمام(عليه السلام) بتصويب التصوّر المنزّه للمولى سبحانه عن عالم المادّة أصبح السائل مستعدّاً لينتقل إلى المرحلة الثالثة، وهي السؤال عن الدليل على وجود هذا الموجود الكامل المنزّه فقال:«فما الدليل عليه؟».
ونلاحظ هنا كيف تجنّب الإمام(عليه السلام) أن يعرض أمام السائل البراهين الفلسفيّة الدقيقة والمعقّدة، فلم يقدّم له مثلاً برهاناً من قبيل "برهان الصدّيقين" سواء منه برهان الصدّيقين على منهج ابن سينا المعبّر عنه "ببرهان الإمكان والوجوب" أو برهان الصدّيقين على منهج صدر المتألّهين.
بل لقد عرض له الإمام(عليه السلام) برهاناً يجمع بين الاعتماد على الحسّيّات التي يستأنس بها السائل، وبين بديهيّات العقل الفطريّ، فقدّم له دليلاً تعتمد إحدى مقدّمتيه على الحسّ والتأمّل والمشاهدة، والأخرى مقدّمة عقليّة، لا يمكن للسائل إنكارها، وهذا الشكل من أشكال الاستدلال على وجود الخالق يكثر استعماله في القرآن الكريم وهو الأكثر اعتماداً في كلام أهل البيت (عليه السلام) من البراهين الفلسفيّة الدقيقة.
صورة الدليل:
تقدّمت الإشارة إلى تركُّب الدليل الذي ذكره الإمام(عليه السلام) من مقدّمتين:
المقدّمة الأولى: النظم المحكم في عالم الطبيعة:
هي مقدّمة حسّيّة يدركها الإنسان بحواسّه مباشرة، ويمكن أن يدركها أيضاً بالوسائل والأدوات العلميّة، هذه الوسائل العلميّة التي كلّما تقدّم الزمان وتطوّرت معه هذه الأدوات أكّدت للإنسان أكثر فأكثر عجائب الصنع ومنتهى الدقّة في خلق
37
25
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
كلّ مخلوق من المخلوقاتوتركيبه، والتكوين الهادف الحاصل في أصغر المخلوقات وأكبرها، وكذلك تكشف للإنسان هذا التوازن العجيب والمعجز والتناغم الحاصل بين عموم المخلوقات، وقد أثبتت التجارب كيف يؤدّي الإخلال بحلقة من حلقات هذا التوازن إلى سلسلة من المفاسد والخراب في هذا النظام البديع.
وقد عرفت أنّ هذا المنهج في الاستدلال يكثر استعماله في القرآن الكريم، والأكثر تداولاً في أحاديث أهل البيت (عليه السلام) في استدلالاتهم، حيث نجد دعوة العقلاء وأولي الألباب إلى التأمّل والتفكّر وفتح المجال أمام عقولهم وفطرتهم ليتأتّى لهم رؤية الحقّ والحقيقة الكامنة في نفوسهم أولاً، وفي ما يحيط بهم من مخلوقات تختزن ما لا يحصى من عجائب الخلقة، والدقَّة في تكوينها، والأسرار الكامنة فيها والأهداف المترتّبة على وجودها. قال -سبحانه وتعالى-: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡم لَّا يُؤۡمِنُونَ﴾[1]، وقال: ﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰت لِّلۡمُوقِنِينَ ٢٠ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾[2]، وقال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾[3].
إلى غير ذلك من الآيات التي أرشدت الإنسان إلى التأمّل والتفكّر في هذا النظام الكونيّ، وما اشتملت عليه المخلوقات من عجائب وإعجاز ودقّة وانسجام في الخلق والصنع ابتداءً من نفسه وصولاً إلى أكبر المجرّات في الآفاق، إضافةً إلى الكثير من الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) في التنبيه والإرشاد إلى هذا المعنى. ويكفينا في هذا المقام التنويه بكتاب "توحيد المفضَّل" الذي هو إملاء من الإمام الصادق(عليه السلام) على تلميذه المفضّل بن عَمر فإنّ فيه الشيء الكثير من أسرار المخلوقات وعجائب خلقتها[4].
[1]سورة يونس، الآية 101.
[2]سورة الذاريات، الآيتان 20 -21.
[3]سورة فصّلت، الآية 53.
[4]كذلك راجع كتاب التوحيد في: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، التوحيد، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، وباب التوحيد في: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص92.
38
26
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
هذا فيما يتعلّق بالمقدّمة الأولى من مقدّمتي الدليل الذي ذكره الإمام(عليه السلام) للسائل.
المقدّمة الثانية: النظم معلول لعلّة حكيمة أوجدته:
وهي حكم عقليّ بديهيّ لا ينكره عاقل، وهو حكم العقل بقانون العليّة والسببيّة العامّ الحاكم على كلّ الوجود الإمكانيّ، وبأنّه لا بدّ لكلّ معلول من علّة، ولا بدّ لكلّ مُسبَّب من سبب، ولبداهة هذا الحكم كان من البداهة عند العقل أن يشكِّل وجود المعلول دليلاً قاطعاً على وجود علّته، وهذا ما يصطلحون عليه ﺑ"الدليل الإنّيّ" وهو حالة الاستدلال من خلال الانتقال من العلم بوجود المعلول إلى الحكم القطعيّ بوجود علّته.
فإنّ التوازن الحاصل من خلال هذا النظام يربط بين المخلوقات من خلال الحاجات بينها عبر علاقة التأثير والتأثر التي تحقّق توازناً عجيباً فيما بينها، يؤمّن لها بقاءها وتطوّرها ووصولها إلى كمالها وغاياتها. إنَّ وجود هذا النظام الدقيق ووجود الهدف والغاية من ورائه يكشف من خلال التأمّل والنظر عن وجود صانع عالم قادر حكيم هو الذي أنشأ وأبدع كلَّ ذلك.
وهذا المعنى هو ما نبّه إليه الإمام(عليه السلام) وأشار إليه بقوله: «...إنّي لمّا نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبيّنات علمت أنّ لهذا مقدّراً ومنشئاً».
فأشار(عليه السلام) إلى جزء بسيط من نظام هذا الكون وقدّمه للسائل كنموذج واضح يدركه كلّ عاقل فاتحاً الباب أمامه لينطلق مع هذا الجزء من الدليل متأمّلاً في نفسه وفي الآفاق ليجد في كلّ ذرّة من ذرّات هذا الكون معجزة وآية تدلّ على الخالق القادر العالم والحكيم...
39
27
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
وفي ما نحن فيه نقول: إنَّ النظام الكونيّ المتناغم والعجيب هو معلول، فلا بدّ له -ببداهة العقل- من موجِد ومسبِّب وإلّا لوجب أن يتحقّق المعلول من تلقاء نفسه من غير تحقّق علّته، وهو محال.
لفت نظر:
والعقل البديهيّ الفطريّ يحكم أيضاً بأنّ الصفات الكامنة في النظام تكشف عن كمال صفات المنظِّم، فالعقل يرفض أن تكون مقالة علميّة دقيقة ومفيدة صادرة عن شخص لا صلة له بالعلم ولا بالتخصّص في المجال الذي تدور حوله تلك المقالة، ومن هنا أشار الإمام(عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: «...علمتُ أنَّ لهذا البنيان بانياً... علمت أنّ لهذا مُقدّراً ومنشئاً..» والمقصود بقوله "لهذا البنيان" أي لهذا البنيان بما فيه من خصائص الكمال والتناسق والانسجام والتوافق ممّا يدلّ على حكمة وكمال وسلطان عظيم عند الباني الذي صنع "هذا البنيان"، وكذا نجد في قوله "علمتُ أنَّ لهذا مقدّراً" حيث دلَّ التقدير للموجودات من حيث خصائصها الذاتيّة، وتقدير علاقة الترابط والتكامل والتوافق بينها وتأثيرها وتأثرها في ضمن سلسلة الوجود على تقدير هادف لا يصدر من جاهل، وإنّ جريانها كما قدّرت لا يصدر من عاجز، والهدفيّة وتحقّقها لا يصدر إلّا من حكيم، لحكم العقل بأنّ خصوصيّات المعلول تكشف عن خصوصيّات مسانخة لها في علّته.
هذا هو الدليل المعروف بدليل "النظم، أو النظام" ولا ينكره عاقل، نعم ينكره الجاحد وهو الذي يكابر على عقله ويأبى أن يستسلم لمنطق الفطرة والذوق السليم قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَة قَالُواْ هَٰذَا سِحۡر مُّبِين ١٣ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡما وَعُلُوّاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ﴾[1].
[1]سورة النمل، الآيتان 13 -14.
40
28
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
المفاهيم الرئيسة
تناولت الرواية عدّة مطالب:
منها: تحريك العقل الفطريّ الداعي لدفع الضرر المحتمل، وذلك من خلال وضع السائل في مواجهة ضرر عظيم في حال تخلّيه عن البحث لمعرفة الله تعالى، ولذلك تجد أنّ عقل السائل استجاب لهذا التحريك فطلب الدليل على وجود الله.
ومنها: سعي الإمام لبناء تصوّر صحيح عن الله سبحانه كمقدّمة للبدء ببيان الدليل على وجوده سبحانه، وبيَّن للسائل أنّ المبحوث عنه ليس من سنخ الموجودات المادّية المحسوسة.
ومنها: عَرضَ الإمام(عليه السلام) للسائل برهاناً يعتمد على مقدّمتين واضحتين إحداهما تُدرَك بالحواسّ وهي التأمل في دقّة النظام الحاكم في الكون، ففي كلّ موجود نظام وتناسق بين أجزائه بحيث يتحقّق الهدف من وجوده، ويوجد أيضاً توازن بين الأفراد وأنواع الموجودات، وهي هادفة أيضاً، وهذا ما تثبته العلوم الحديثة من خلال الأدوات والوسائل، والثانية مقدّمة عقليّة بديهيّة، وهي ضرورة وجود منظّم لهذا النظام، وأنَّ هذا المنظِّم عاقلٌ، حكيمٌ، عالمٌ، قادرٌ، وذلك هو مقتضى وجود هدف، إذ الهدفيّة تلازم العلم والحكمة والقدرة لقاعدة لزوم تناسب المعلول وخصوصيّاته مع العلّة وميزاتها وخصائصها، فوجود نظام هادفٍ دليلٌ على علمٍ وحكمةٍ موجودةٍ، وجريان النظام وتحقّق الهدف دليل على قدرة موجِدِهِ.
41
29
الدرس الثالث: وجوب البحث والمعرفة والدليل الأنفسيّ والآفاقيّ
فكر وأجب
وضّحْ الدافع للبحث عن وجود الله تعالى.
بيِّن مشكلة السائل عندما قال: "... رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو؟" واشرح جواب الإمام(عليه السلام).
تحدّث عن المقدمة الأولى الحسّيّة في الدليل ووضّحها.
ما الصفات الإلهيّة التي تُستفاد من دليل النظام؟ وكيف تُستفاد؟
42
30
الدرس الرابع: توحيد الخالق
الدرس الرابع: توحيد الخالق
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يشرح برهان التمانع على توحيد الله تعالى.
يبيّن برهان الفرجة على توحيد الله تعالى.
يقارن بين الدليل في توحيد الله تعالى.
43
31
الدرس الرابع: توحيد الخالق
الروايات
عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله(عليه السلام) وكان من قول أبي عبد الله(عليه السلام): «لا يخلو قولك: إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً، فإن كانا قويّين، فلِم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟
وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني،
فإن قلت: إنّهما اثنان، لم يخلُ من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة، أو مفترّقين من كلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفَلَك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دلَّ صحّة الامر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد،
ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة،
فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة...»[1].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص80 ـ
45
32
الدرس الرابع: توحيد الخالق
الدليل العقليّ على أنّه تعالى واحد
نلاحظ في هذه الرواية الشريفة أنّها تناولت-على الأقلّ- دليلين عقليّين على توحيد الباري تعالى[1]، وهذا يدلّ على أهميّة روايات أهل البيت(عليهم السلام) في إرشاد العقل وتنبيهه وتدريبه على كيفيّة الاستفادة بالطريقة الصحيحة من عمليّة الاستدلال.
الدليل الأول: برهان التمانع
دلّت عليه الرواية بقوله(عليه السلام): «لا يخلو قولك: إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً، فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟ وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني، فإن قلت: إنّهما اثنان، لم يخلُ من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة، أو مفترّقين من كلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفَلَك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دلَّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».
والدليل كما ذُكِر في هذا المقطع من الرواية مؤلّف من فقرتين؛ في الفقرة الأولى بيَّن الإمام(عليه السلام) الأقسام باختصار ثمّ أوضح المطلوب في الفقرة الثانية، وفي الفقرة الأولى كان الاعتماد على تقسيم عقليّ حاصر، افترض فيه دعوى الإثنينيّة وبيّن ما يترتّب عليها:
فإمّا أن يكونا معاً ضعيفين، لا يستقلّ أيّ منهما بنفسه.
وإمّا أنّ أحدهما قويّ مستقلّ، والآخر ضعيف محتاج، لا يستقلّ في وجوده بنفسه.
[1]اعتبر بعض العلماء أنّ الرواية تناولت ثلاثة أدلّة لا إلى اثنين فقط، فلاحظ: المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، قدّم له العلم الحجّة السيّد مرتضى العسكري – إخراجومقابلة وتصحيح: السيد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلامية، 1404 هـ- 1363 هـ.ش، ط2، ج1، ص260.
46
33
الدرس الرابع: توحيد الخالق
وإمّا أن يكونا قويّين قديمين يستقلّ كلّ منهما بنفسه "كلّ منهما واجب الوجوب".
وبتحليل هذه الأقسام يُستنتج ما يلي:
أمّا القسم الأول فلا شغل لنا به؛ لأنّه لما كان كلّ منهما ضعيفاً غيرَ مستقلّ في وجوده، فكلّ منهما في هذا الفرض مخلوق ضعيف غير واجد لصفات الإله، فهو خلاف الفرض وباطل، في حين أنّ مطلوبنا هو إثبات الإله.
أمّا القسم الثاني فحيث إنّ أحدهما هو القديم القويّ المستقلّ، فهو واجب الوجود وهو الإله، أمّا الثاني فهو مخلوق محتاج وبالتالي يبطل التعدّد المزعوم، فلا يكوناناثنين في هذه الحال ويثبت المطلوب وهو "وجود الإله الواحد".
أمّا القسم الثالث فقد قال فيه الإمام(عليه السلام)«فإن كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟» وتابع الإمام(عليه السلام) البيان في مقام تفصيل هذا الاحتمال فقال: «فإن قلت: إنّهما اثنان(أي كلاهما قويّ مستقلّ)، لم يخلُ من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة، أو مفترّقين من كلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفَلَك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دلَّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».
صورة الدليل:
ويمكن توضيح كلامه(عليه السلام) بما يصطلحون عليه ببرهان أو دليل "التمانع" وهو من البراهين المذكورة على التوحيد وبيان ذلك أن يقال:
إن قلت: إنّهما اثنان قويّان مستقلّان وكلّ منهما واجب الوجود:
فإمّا أن تتّفق إرادة كلّ منهما على ما يريده الآخر بالدقّة، وكلّ منهما يريد إيجاد المخلوقات وإيجاد نظام لها، وهذا يلزم منه تعدّد المخلوق الواحد،
47
34
الدرس الرابع: توحيد الخالق
وتعدّد النظام بتعدّد الآلهة المفترضة -لأنّ فرض الألوهيّة لكلّ منها يعني أنّها واجبة ومستقلّة في وجودها وإيجادها- مع أنّا لا نجد للتعدّد أثراً في الخارج، فليس في النظام والكون الذي نعرفه ما يدلّ على وجود إلهيّن قويّين كلّ منهما مستقلّ بنفسه، بل العكس صحيح فإنّا لمّا نظرنا إلى النظام والكون الذي نحن فيه: "رأينا الخلق منتظماً، والفَلَك جارياً، والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دلَّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد.." أي وجدنا أنّ هناك إرادة واحدة وقوّة واحدة هي التي تحكم نظام هذا الكون، ولاحظنا ذلك من خلال الانسجام التامّ والتناغم الدقيق في تركيب هذا الكون وتكامل كلّ موجود منه مع غيره، فحركة الكواكب لها دورها في حركة البحار والبيئة، وكذا حركة المطر والزرع كلّ له دوره ويتكامل مع حركة عالم الطيور والحشرات والحيوانات وكلّ منها يدور مع الاخر في دورة واحدة منتظمة باتّساق كامل وانسجام تامّ، فدلّنا ذلك التدبير كلّه على أنّ هناك يداً واحدة فاردة هي التي تمسك بزمام هذا الكون والنظام، وأنّ إرادة واحدة أوجدته وهي التي تحكم هذا الكون.
وإمّا أن يحصل الاختلاف والتنافر والتمانع بين إرادة كلّ منهما فواحد منهما تعلّقت إرادته بالخلق والتنظيم، بينما تعلّقت إرادة الآخر بما هو على خلافه، وبما أنّ الفرض أنّ كلّاً منهما قويّ مستقلّ فإنّ نتيجة ذلك التعاند بين إرادة كلّ منهما هي أن لا يحصل هناك أيّ وجود لما فُرِضَ مخلوقاً، مع أنّا نرى بالوجدان أنّ هناك كوناً عظيماً مليئاً بالمخلوقات ويحكمه نظام وتدبير واحد منسجم متّسق لا تعاند فيه.
وقد نبّه الكتاب العزيز إلى هذا المعنى في قوله -تعالى-: ﴿لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[1].
[1]سورة الأنبياء، الآية 22.
48
35
الدرس الرابع: توحيد الخالق
وقال العلّامة صاحب الميزان فيها: ".. وتقرير حجّة الآية: أنّه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتاً متبانين حقيقة، وتباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فتتفاسد التدبيرات، وتفسد السماء والأرض، لكنّ النظام الجاري نظام واحد، متلائم الأجزاء في غاياتها، فليس للعالم آلهة فوق الواحد وهو المطلوب"[1].
فإذا ما تدبَّر العقلُ في هذا النظام، ورأى أنّه نظام واحد حاكم في كلّ الكون، فإنَّه لا محالة سيحكم بوحدة الخالق المدبّر المنظّم، وليس ذلك إلّا لأنّ العقل يرى أنّ وحدة المعلول كاشف قطعيّ عن وحدة العلّة؛ لأنّ المعلول الواحد لا يصدر إلّا عن علّة واحدة تامّة، إذ لكلّ معلول علّة خاصّة هي التي توجده، ولا يكون على المعلول الواحد أكثر من علّة تامّة، ولكلّ علّة معلول خاصّ.
إلى هنا تمَّ البرهان الذي يصطلحون عليه ﺑ"برهان التمانع".
الدليل الثاني: برهان الفرجة
هو الذي اشتملت عليه الرواية بقوله(عليه السلام): «..ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما، قديماً معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة».
وقد ذكر بعض العلماء أنّ الكلام في هذا المقطع من الرواية هو بعد إبطال الفرضين المتقدّمين لتعدّد الإله؛ بأن يكون الإلهان المفترضان متّفقين من كلّ جهة، وبأن يكونا مختلفين من كلّ جهة، وقد تكفّلت المقاطع السابقة من الرواية
[1]الطباطبائيّ، العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرفة، إيران - قم، 1417ه، ط5، ج14، ص267.
49
36
الدرس الرابع: توحيد الخالق
ببيان بطلانهما كما تقدّم، وبقي فرض اتّفاقهما من جهة واختلافهما من جهة أخرى، وهو ما عالجه هذا المقطع منها "ثمّ يلزمك"، وتوضيحه أن يقال:
لو فرضنا إلهين متّفقين من جهة، ومختلفين من جهة أخرى، فلا بدّ فيهما من شيء يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه، وذلك الشيء يجب أن يكون أمرًا وجوديّاً يوجد في أحدهما ولا يوجد في الآخر، أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بكلّ واحد منهما، ومن هنا فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر، وهو المراد بالفرجة، إذ به يحصل الانفراج أي الافتراق بينهما لوجوده في أحدهما وعدمه في الآخر. وهو أيضاً لا محالة قديم موجود معهما، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية وهو محال[1]، والفرض الذي يلزم منه المحال فهو محال فيثبت أنّه تعالى واحد -بل أحد- وهو المطلوب. وهذا الدليل على إثبات التوحيد هو ما يُعرف ﺑ"برهان الفرجة".
[1]لاحظ: الخوئي، العلاّمة حبيب الله الهاشمي، منهاجالبراعة في شرح نهجالبلاغة، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي، بنياد فرهنگ امام المهدي(عج)، لا.م، لا.ت، ط4، ج11، ص106.
50
37
الدرس الرابع: توحيد الخالق
المفاهيم الرئيسة
لقد عرض الإمام دليلين على التوحيد:
الدليل الأول: برهان التمانع وبيانه:
إنّ فرض إلهين قويّين مستقلّ كلّ منهما في وجوده وإيجاده للموجودات يحتمل أحد أمرين:
1. فإمّا أن يتّفقا في كلّ شيء فتتحدَّ إرادتاهما في إيجاد كلّ شيء وصفاته ونظامه والهدف منه، فيلزم منه تعدّد الموجود الواحد بعدد الآلهة، لأنّ فرض ألوهيّته تقتضي استقلاليّته في الإيجاد فيتعدّد الموجود، وهذا خلاف فرض كونه واحداً وجوداً ونظاماً، وعليه فهذا الاحتمال باطل.
2. وإمّا أن يحصل الاختلاف والتنافر والتعاند بين الإرادتين المستقلّتين القويّتين، وحينئذٍ يلزم لا محالة عدم تحقّق الوجود لأيّ موجود، لأنّ أحد القويّين يريد الإيجاد بكيفيّة معيّنة مثلاً بينما القويّ الثاني لا يريد ذلك، فالتساوي بينهما في القوّة والاستقلال يستلزم عدم تحقّق الوجود، ولكنّ الوجود متحقّق فعلاً بالوجدان، فيبطل احتمال التعدّد أو كونهما اثنين.
والنتيجة: إنّ العقل إذا ما تدبّر في هذا النظام الواحد الحاكم في الكون فسيحكم مباشرة بوحدة الخالق؛ لأنّ المعلول الواحد له علّة تامّة واحدة بالضرورة.
الدليل الثاني: برهان الفرجة:
حيث إنّ فرض التعدّد في الإله الواجب القديم يستلزم أن نفرض وجوداً ثالثاً مميّزاً بينهما، وهذا الوجود الثالث قديم أيضاً فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية وهو محال.
51
38
الدرس الرابع: توحيد الخالق
فكر وأجب
اذكر الأقسام الثلاثة المحتملة لفرض تعدّد الآلهة، أيّ منها محلّ للاستدلال على بطلان التعدّد؟
بيّن ــ باختصار ــ برهان التمانع على التوحيد؟
بيّن ــ باختصار ــ برهان الفرجة على التوحيد؟
اشرح القاعدة القائلة: (إنّ المعلول الواحد له علّة تامَّة واحدة)؟
52
39
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يذكر رواية حول عجز العقل عن إدراك كنه الذات الإلهية.
يبيّن الطريق الوسط في معرفة الصفات.
يحلل المشكلة التي يواجهها أئمة الدين عند إرادتهم إيصال المعاني الجديدة إلى أذهان الناس.
53
40
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
الروايات
ــ عن محمّد بن حكيم قَالَ: «كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ(عليه السلام) إِلَى أَبِي أَنَّ اللَّه أَعْلَى وأَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْه صِفَتِه فَصِفُوه بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَه وكُفُّوا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ»[1].
ــ عن عبد الرحيم بن عَتِيك الْقَصِيرِ قال كتَبْتُ على يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) أَنَّ قَوْماً بِالْعِرَاقِ يَصِفُونَ اللَّه بِالصُّورَةِ وبِالتَّخْطِيطِ فَإِنْ رَأَيْتَ جَعَلَنِيَ اللَّه فِدَاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّوْحِيدِ فَكَتَبَ إِلَيَّ: «... سَأَلْتَ رَحِمَكَ اللَّه عَنِ التَّوْحِيدِ ومَا ذَهَبَ إِلَيْه مَنْ قِبَلَكَ، فَتَعَالَى اللَّه الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، تَعَالَى عَمَّا يَصِفُه الْوَاصِفُونَ الْمُشَبِّهُونَ اللَّه بِخَلْقِه الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّه، فَاعْلَمْ، رَحِمَكَ اللَّه، أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي التَّوْحِيدِ مَا نَزَلَ بِه الْقُرْآنُ مِنْ صِفَاتِ اللَّه جَلَّ وعَزَّ فَانْفِ عَنِ اللَّه تَعَالَى الْبُطْلَانَ والتَّشْبِيه فَلَا نَفْيَ ولَا تَشْبِيه، هُوَ اللَّه الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَصِفُه الْوَاصِفُونَ ولَا تَعْدُوا الْقُرْآنَ فَتَضِلُّوا بَعْدَ الْبَيَانِ»[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص102.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص100.
55
41
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
ــ وعن الصادق(عليه السلام): «الحمد لله الذي لا يُحَسَّ، ولا يُجَسَّ، ولا يُمَسَّ لا يُدرك بالحواسّ الخمس، ولا يقع عليه الوهم، ولا تصفه الألسن، فكلّ شيء حسَّته الحواسّ أو جسَّته الجواسّ أو لمسته الأيدي فهو مخلوق»[1].
مقدمة
أجمع المسلمون بشتّى مذاهبهم على أنّ المولى تعالى قد وصف نفسه بصفات كثيرة، وإن اختلفوا في كيفيّة فهمهذه الصفاتوتصوّرها وفي كيفيّة نسبتها إلى الله تعالى، وللإمامية مجموعة من الضوابط في كيفيّة فهم هذه الصفات، وقد أخذت الإماميّة هذه الصفات من القرآن الكريم ومن أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) وكذلك من حكم العقل.
ضوابط تحديد الصفات الإلهيّة
عجز العقل عن إدراك كنه الصفات:
إنَّ هذه الصفات حالها حال الذات فلا يمكن للعقل إدراكها بحقيقة كنهها -أي الإحاطة بوجودها الخارجيّ- وسيأتي الحديث عن أنّ هذه الصفات هي عين الذات، وعليه فكما يستحيل إدراك كنه الذات، كذلك يستحيل إدراك كنه هذه الصفات الذاتيّة، وقد دلّت العديد من الروايات الشريفة –إضافةً إلى عدد من الآيات الكريمة- على هذا المعنى وأكّدته، منها رواية محمد بن حكيم المذكورة في صدر الدرس، فإنّها واضحة في بيان عجز العقل البشريّ عن إدراك كنه الصفات، ومن هنا أرشدت هي وأمثالها من الروايات الناس إلى الاقتصار في الصفات على ما وصف به نفسه تعالى، لأنّه ليس من الحكمة أن يُفتح الباب أمام الناس بعقولها القاصرة لتنسب إلى الذات الإلهيّة ما تتخيّله وتتوهّمه بأذهانها
[1]الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص60.
56
42
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
القاصرة من صفات لا تليق به، فتقع في المحظور من حيث لا تدري، ففي الحديث الشريف: «لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلَّت دونه الأبصار، وضلّ فيه تصاريف الصفات...»[1].
وفي حديث آخر عن الصادق(عليه السلام): «سُبْحَانَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ، لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَا يُحَدُّ ولَا يُحَسُّ، ولَا يُجَسُّ ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَا الْحَوَاسُّ، ولَا يُحِيطُ بِه شَيْءٌ ولَا جِسْمٌ ولَا صُورَةٌ ولَا تَخْطِيطٌ ولَا تَحْدِيدٌ»[2].
بين النفي والتشبيه:
تقدّم في الرواية الثانية المذكورة في أول الدرس سؤال يظهر من السائل أنّ سببه التشبيه، أي تشبيه الله بمخلوقاته وتصوير الله تعالى بصورة مخلوقاته، وهو تشبيه وتجسيم باطل حتماً، فبدأ(عليه السلام) جوابه بتنزيه الله تعالى، وأنّه ليس كمثله شيء، ووصف المشبّهين ﺑ"المفترين على الله تعالى" بسبب تشبيههم له بمخلوقاته، ثمّ أشار(عليه السلام) إلى أنّه لا بطلان، أي لا تعطيل للصفات وعدم فهمها مطلقاً، ولا تشبيه له بخلقه بقرينة قوله(عليه السلام): «لا نفي ولا تشبيه»بل المطلوب هو الحالة الوسطى أي إدراك الصفات بحدود حدَّها العقل والقرآن الكريم.
ونلاحظ في قوله(عليه السلام): «ولَا تَعْدُوا الْقُرْآنَ فَتَضِلُّوا بَعْدَ الْبَيَانِ» توجيه الناس إلى عدم محاولة اختراع صفات للمولى تعالى، والتبرّع بصفات بغير ما وصف به نفسه، وأقام عليه الحجّة والبرهان القطعيّ، ولا ينافي هذا النهي عن اختراع الصفات الحثّ على الفهم والتعلّم والتفكّر والتدبّر في الصفات الواردة في الكتاب الكريم والأخبار الشريفة، وذلك أنّ القرآن كثيراً ما أمر بالتفكر والتدبّر.
[1]الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص98.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص104.
57
43
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
وبالتالي فإنّ امتناع إدراك كنه الصفات الإلهيّة لا يعني إهمال الصفات مطلقاً وترك البحث عنها بالمقدار الذي يمكن الاستفادة والتعلم منه في مقام العقيدة، والحال أنّ آيات الكتاب والأخبار الشريفة كثيراً ما ذكرت هذه الصفات وتعرّضت لها، ولا يحتمل العاقل أنّذكر هذه الصفات كان للتلاوة وحسب، دون إدراك شيء من معناها، وإلّا لكان ذكرها وعرضها أقرب إلى اللهو والعبث منه إلى التفكر والتدبّر، وهو ما تأباه الحكمة الإلهيّة.
الصفات عين الذات:
لقد قسّم العلماء الصفات إلى قسمين:"الصفات السلبيّة" و"الصفات الثبوتيّة" ثمّ قسّموا الصفات الثبوتيّة إلى قسمين""صفات ثبوتيّة ذاتيّة" و"صفات ثبوتيّة فعليّة".
ــ أمّا الصفات السلبيّة؛ فهي عبارة عن كلّ صفة تفيد معنًى سلبيّاً، ولكن حيث إنّه – تعالى- لا يُسلَبُ عنه أيّ كمالٍ يليق بشأنه، كانت صفاته السلبيّة ما دلَّ على سلب النقص والحاجة أو ما لازمه النقص والحاجة ككونه –تعالى- ليس بجاهل ولا عاجز ولا بجسمٍ أو متحيّز، وهي في الواقع جميعاً ترجع إلى سلبٍ واحد هو سلب النقص والاحتياج.
وقد ورد تنزيه الذات الإلهيّة عن كلّ ما يُستشمّ منه أيّ نقصٍ وحاجة من روايات أهل البيت (عليهم السلام) منها ما عن الصادق(عليه السلام): «الحمد لله الذي لا يُحَسّ، ولا يُجَسّ، ولا يُمَسّ لا يُدرك بالحواسّ الخمس، ولا يقع عليه الوهم، ولا تصفه الألسن، فكلّ شيء حسّته الحواسّ أو جسّته الجواسّ أو لمسته الأيدي فهو مخلوق»[1]، وعنه(عليه السلام) أيضاً: «سُبْحَانَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ، لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَا يُحَدُّ ولَا يُحَسُّ ولَا يُجَسُّ، ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَا الْحَوَاسُّ، ولَا يُحِيطُ بِه شَيْءٌ ولَا جِسْمٌ ولَا صُورَةٌ ولَا تَخْطِيطٌ ولَا تَحْدِيدٌ»[2].
[1]الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص60.
[2]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص104.
58
44
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
قوله: "لا يُحَدّ.." لأنَّ كلّ جسم محدود هو متناهٍ، "ولا يُجسّ" أي لا يُلمس، "ولا يُمسّ"؛لأنّ كلّ جسم يصحّ عليه أن يُمسّ."لا يُدرك بالحواسّ الخمس ولا يقع عليه وهم"؛ أي لا تدركه الحواسّ الظاهرة والباطنة[1].
ــ وأمّا الصفات الثبوتيّة الذاتيّة: فهي الصفات التي لا تنفكّ عن الذات الإلهيّة؛ لأنّها هي عين الذات وجوداً -وإن غايرتها مفهوماً- فهي ليست غير الذات، ولا زائدة عليها، ولا حالة فيها، وإنّما هي منتزعة من مقام الذات، فهي والذات شيء واحد.
روي أنّ زنديقًا سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَائلا لَه: أتَقُولُ إِنَّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): «هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ وبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ بَلْيَسْمَعُ بِنَفْسِه ويُبْصِرُ بِنَفْسِه ولَيْسَ قَوْلِي إِنَّه سَمِيعٌ بِنَفْسِه أَنَّه شَيْءٌ والنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ ولَكِنِّي أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً وإِفْهَاماً لَكَ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً فَأَقُولُيَسْمَعُ بِكُلِّه لَا أَنَّ كُلَّه لَه بَعْضٌ لأَنَّ الْكُلَّ لَنَا لَه بَعْضٌ، ولَكِنْ أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ والتَّعْبِير عَنْ نَفْسِي، ولَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذَلِكَ كُلِّه إِلَّا أَنَّه السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ بِلَا اخْتِلَافِ الذَّاتِ ولَا اخْتِلَافِ مَعْنًى»[2].
نلاحظ كيف بادر الإمام(عليه السلام) بعد أن أثبت أنّه تعالى "سميع بصير" إلى التدارك وتوضيح المراد بقولنا "سميع بصير" وأنّ هذا لا يعني أنّه تعالى يستعين بآلة السمع وجارحة البصر.
ولكي تتّضح الصورة أكثر أكمَلَ(عليه السلام) بقوله: «بل يسمع بنفسه، ويبصر بنفسه» ولكي لا يتوهّم من قوله: "يسمع بنفسه" التعدّد وأن السمع والبصر زائد على الذات عارضٌ عليها أضاف(عليه السلام) موضحاً: «وليس قولي إنّه سميع بنفسه أنّه شيء، والنفس شيء آخر»،ثمّ قال(عليه السلام): «فأقول يسمع بكلّه»،
[1]العلاّمة المجلسي، مرآة العقول، مصدر سابق، ج2، ص1، بتصرف.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص109.
59
45
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
لقد أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الرواية إلى مسألة مهمّة تستحقّ التوقّف عندها والتوسّع فيها. ونستعين في ذلك بما جاء في بعض كلمات العلّامة الطباطبائيّ (رحمه الله)، حيث تحدّث عن الألفاظ ومعانيها المرادة في سياق حديثه عن الألفاظ والتراكيب المستخدمة في القرآن الكريم –ممّا يمكن تعميمه بشكل وآخر إلى كلام المعصومين (عليهم السلام) باعتبارهم ترجمانًا للقرآن الكريم– مبيّنا أنّ الألفاظ إنّما وضعت للمعاني بحسب مفهومها الملحوظ فيه غاياتها وأغراضها، لا لخصوص المصداق الخارجيّ لتلك المفاهيم بحدوده المعهودة. وهذا هو المصحّح لإطلاق ألفاظ من قبيل: الميزان والسراج والسلاح وغيرها على المعهود عندنا في عصرنا من هذه الأدوات مع أنّها تغيّرت بحسب مصاديقها تغيّرا كبيرًا بين ما كانت عليه بحسب الأزمنة السابقة، وما هي عليه في زماننا هذا -وما ستكون عليه في المستقبل–، وهو المصحِّح أيضًا لإطلاق ألفاظ من قبيل: السميع والبصير وأمثالها عليه تعالى، مع أنّ كثيراً من الناس وبسبب أنسهم بالمصاديق الماديّة لهذه الألفاظ يسبق إلى أذهانهم منها حين إطلاقها تلك المصاديق الماديّة، مع أنّها ليست مرادة. وليس ذلك من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وإنّما هو استعمال حقيقيّ إلّا أنّ الأنس عند بعضهم حرفه عن معناه المراد.
يقول (رحمه الله): «إنّ الأنس والعادة ... يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها الماديّة، أو ما يتعلّق بالمادّة؛ فإنّ المادّة هي التي يتقلّب فيها أبداننا وقوانا المتعلّقة بها ما دمنا في الحياة الدنيويّة، فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات الماديّة لمفاهيمها. وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسيّ والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورَجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعيّة. وإذا سمعنا: إنّ الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء أو يشاء
61
46
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
كذا قيّدنا الفعل بالزمان حملاً على المعهود عندنا. وإذا سمعنا نحو قوله: (ولدينا مزيد الآية) وقوله: (لاتّخذناه من لدنّا الآية) وقوله: (وما عند الله خير الآية). وقوله: (إليه ترجعون الآية) قيّدنا معنى الحضور بالمكان... وعلى هذا القياس. وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقّنا ذلك، فإنّ الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنّما هي الحاجة الاجتماعيّة إلى التفهيم والتفهّم، والاجتماع إنّما تعلّق به الانسان ليستكمل به في الأفعال المتعلّقة بالمادّة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسمّياتها التي نريد منها غايات وأغراضاً عائدة إلينا. وكان ينبغي لنا أن نتنبّه إلى: أنّ المسمّيات الماديّة محكومة بالتغيّر والتبدّل بحسب تبدّل الحوائج في طريق التحوّل والتكامل، كما أنّ السراج أول ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة،وشيءٌ من الدُهن تشتعل به الفتيلة للاستضاءة به في الظلمة، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائيّ ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أولاً الموضوعُ بإزائه لفظ السراج شيء ولا واحد.
وكذا الميزان المعمول أوّلاً، والميزان المعمول اليوم لقياسدرجة الحرارة مثلا. والسلاح المتّخذ سلاحاً أول يوم، والسلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك. فالمسمّيات بلغت في التغيّر إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفة،والاسم مع ذلك باقٍ، وليس إلّا لأنّ المراد بالتسمية إنّما هو من الشيء غايته، لا شكله وصورته، فما دام غرض القياس،أو الاستضاءة، أو الدفاع باقياً، كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حاله. فكان ينبغي لنا ان نتنبّه إلى أنّ المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك ممّا لا مطمع فيه البتّة، ولكنّ العادة والأنس منعانا ذلك...»[1].
ومن هنا وجدنا المعصومين(عليه السلام) ينبّهون في بعض كلماتهم -ومنها الرواية المتقدّمة- إلى ضرورة الانتباه إلى المعنى المراد، ولاسيّما فيما يرتبط بروايات
[1]العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مرجع سابق، ج1، ص9-11.
62
47
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
المعارف العقائديّة، لئلّا يلتبس الأمر على السامع –ومن ستصله هذه الروايات–، ويحسب أنّ المراد ببعض ألفاظها هو مصاديقها الماديّة المحدودة، وينسبها إلى الله تعالى، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
وقد تقدّم في رواية الإمام الباقر(عليه السلام) «قُلْتُ يَزْعُمُونَ أَنَّه بَصِيرٌ عَلَى مَا يَعْقِلُونَه؛أي إنّهم لا يعقلون الأبصار إلّا بآلة البصر قَالَ: فَقَالَ(عليه السلام): تعَالَى اللَّه إِنَّمَا يَعْقِلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ ولَيْسَ اللَّه كَذَلِكَ».
وفي خبر آخر عن الصادق(عليه السلام): «الَّذِي عَجَزَ الْوَاصِفُونَ عَنْ كُنْه صِفَتِه ولَا يُطِيقُونَ حَمْلَ مَعْرِفَةِ إِلَهِيَّتِه ولَا يَحُدُّونَ حُدُودَه لأَنَّه بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يُتَنَاهَى إِلَيْه»[1].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص137.
63
48
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
المفاهيم الرئيسة
ــ لقد أجمع المسلمون على وصفه تعالى بجملة من الصفات، كما وصف تعالى نفسه بها في كتابه العزيز.
ــ إنّ معرفة كنه الصفات الإلهيّة وإدراكها أمر خارج عن قدرة العقل البشريّ، وقد أكّدت الروايات الشريفة عجزَ العقل البشريّ عن إدراك كنه الصفات الإلهيةوواقعها.
ــ لقد دار أمر إدراك الصفات الإلهيّة بين الافراط والتفريط، أي بين البطلان والتشبيه فقد عَمَدَ بعضهم إلى القول بالعجز عن مطلق المعرفة وبالتالي فإنّ وظيفة البشر هي تلاوة الصفات دون القدرة على فهمها والتدبّر فيها، وبين مشبّهٍ لصفات الباري سبحانه بصفات المخلوقين، وهذا ما وقع فيه كلّ مَن عطّل العقل وابتعد عن توجيهات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليه السلام).
ــ أتباع أهل البيت(عليهم السلام) قد سلكوا طريقاً وسطاً -لا يدخلهم في التعطيل، ولا يلجئهم إلى التشبيه والتجسيم- وهو إمكانيّة الإدراك والمعرفة الإجماليّة بهذه الصفات، وهي المعرفة التي تنزّه المولى سبحانه عن التشبيه بالمخلوقين، ولا تصل إلى حدِّ دعوى الإحاطة والمعرفة بكنه تلك الصفات.
ــ إنَّ الصفات الإلهيّة الذاتيّة هي عين الذات وجوداً، وإن كانت مغايرة لها مفهوماً.
64
49
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
فكر وأجب
أُذكرْ رواية في عجز العقل عن إدراك كنه الذات مع توضيح.
ما الطريقُ الوسط في معرفة الصفات؟ وما هو الدليل عليه؟
اشرح العبارة التالية الواردة في الرواية: «بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِه ويُبْصِرُ بِنَفْسِه ولَيْسَ قَوْلِي إِنَّه سَمِيعٌ بِنَفْسِه أَنَّه شَيْءٌ والنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ ولَكِنِّي أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً وإِفْهَاماً لَكَ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً فَأَقُولُ يَسْمَعُ بِكُلِّه لَا أَنَّ كُلَّه لَه بَعْضٌ لأَنَّ الْكُلَّ لَنَا لَه بَعْضٌ ولَكِنْ أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ والتَّعْبِيرَ عَنْ نَفْسِي»؟
ما المشكلة التي يواجهها أئمة الدين عندمايريدون إيصال المعاني الجديدة إلى أذهان الناس؟ أجب باختصار.
65
50
الدرس السادس: القضاء والقدر
الدرس السادس: القضاء والقدر
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يعدّد أنواع الروايات في القضاء والقدر.
يبيّن المقصود من القضاء والقدر.
يشرح أن القضاء والقدر لا يتنافى مع اختيار الإنسان.
67
51
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
الروايات
عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «الإِيمَانُ لَه أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه، وتَفْوِيضُ الأَمْرِ إِلَى اللَّه، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه، والتَّسْلِيمُ لأَمْرِ اللَّه -عزَّ وجلَّ-»[1].
وعن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) أنّه كان جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِه مِنْ صِفِّينَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ لَه: «يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ اللَّه وقَدَرٍ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام): أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّه وقَدَرٍ. فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: عِنْدَ اللَّه أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَه(عليه السلام): مَهِ يَا شَيْخُ، فَواللَّه لَقَدْ عَظَّمَ اللَّه الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ. فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْهمُضْطَرِّينَ وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟! فَقَالَ لَه(عليه السلام): وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً؟! إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ والأَمْرُ والنَّهْيُ
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص47.
69
52
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
والزَّجْرُ مِنَ اللَّه، وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ المُذْنِب،ِ تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا. إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً، ونَهَى تَحْذِيراً، وأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً، ولَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً ولَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً، ولَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضاً، ولَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، ولَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ عَبَثاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ...»[1].
مقدمة
يتمحور الكلام في هذا الدرس حول أفعال الإنسان من ناحية شمول القضاء والقدر لها، ولا بدّ قبل الخوض من الإشارة إلى أمور:
الأول: إنّه لا بدّ لكلّ مسلم من أن يعتقد ويؤمن "بالقضاء والقدر" تبعاً للأدلّة الكثيرة عليه، منها ما عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عَنْ أَبِيه(عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام): «الإِيمَانُ لَه أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه وتَفْوِيضُ الأَمْرِ إِلَى اللَّه والرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه والتَّسْلِيمُ لأَمْرِ اللَّه -عزَّ وجلَّ-»[2] وكذلك يجب الاعتقاد باختيار الإنسان كما مرَّ في الدرس السابق.
الثاني: إنّ مفهوم القضاء والقدر هو من المفاهيم التي تمتاز بالدقَّة والعمق خاصّة فيما يرتبط بالتوفيق بين الإيمان بالقضاء والقدر من جهة، وبين الاعتقاد باختيار الإنسان من جهة ثانية، ولذلك فإنّ كلّ من راجع الروايات الشريفة فسيلاحظ أنّ المعصومين(عليه السلام) تعاملوا في مقام بيان هذا المفهوم الدقيق على أساس مراعاة المستوى والقدرة الذهنيّة والاستيعابيّة للسائل، فنجد في صنف
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص155.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص47.
70
53
الدرس الخامس: الصفات الإلهيّة
من الروايات الشرح والتفصيل للسائل، وفي بعضها الآخر نجد التحذير الشديد لبعض أصحاب الأئمة(عليه السلام) من التعمق في هذا المفهوم خوفاً عليهم من الوقوع في الفهم الخاطئ لمسألة القضاء والقدر، والذي يترتّب عليه نتائج سلبيّة -على مستوى الاعتقاد- قد تؤثّر في إيمان الإنسان. وقد عبّرت بعض الروايات عن هذا المفهوم بأنّه «..سرٌّ من أسرار الله»[1]وفي بعضها الآخر بأنّه: «بحرٌ عميقٌ فلا تلجه»[2]، وفي هذه الروايات تحذير من الاعتماد على العقل والاستقلال به في فهم هذا السرّ بعيداً عن توجيهات المعصومين(عليه السلام).
الثالث: قبل الشروع في بيان كيفيّة معالجة الروايات الشريفة لمفهوم القضاء والقدر لا بدّ من الإشارة إلى أنّه وبعدما قدّم الدليل العقلي والنقليّ على ضرورة اتّصافه تعالى بالعدل وامتناع نسبة الظلم إليه تعالى، وبعدما قدّم الدليل في محلّه على بطلان الجبر لما يلزم منه من نسبة الظلم إليه تعالى، فإنّ كلّ ما يأتي من مفاهيم في الآيات والروايات لا بدّ من فهمها اعتماداً على القرائن العقليّة والنقليّة، بما لا يتنافى مع العدل الإلهيّ وهذه هي الطريقة العقلائيّة والفهم العرفيّ العامّ التي تفرض مراعاة القرائن لفهم مراد المتكلّم، كما هي الحال في فهم آيات التشبيه والتجسيم.
أنواع الروايات في القضاء والقدر
النوع الأول: البيان الإجماليّ لمفهوم القضاء والقدر:
بما أنّ مفهوم القضاء والقدر من المفاهيم العميقة والدقيقة، ولأنّ الإيمان به -ولو على نحو الإجمال- لازم، فقد تعدّدت الأساليب في روايات أهل البيت(عليهم السلام) في طريقة بيان هذا المفهوم، ومنها الرواية الثانية المتقدّمة التي تعدّ واحدة من أمّهات الروايات في القضاء والقدر.
[1]العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج5، ص116.
[2]الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص365.
71
54
الدرس السادس: القضاء والقدر
ونلاحظ في هذه الرواية أموراً:
أولاً:إنّ السائل كان -كما هي حال الكثير من الناس- يعتقد بأنّ القول بالقضاء والقدر يتنافى مع الاختيار، وبالتالي عندما أجابه الإمام(عليه السلام) بأنّ مسيرهم كان بقضاء من الله وقدر كان جواب السائل نابعاً من هذا المعتقد فقال:"عِنْدَ اللَّه أَحْتَسِبُ عَنَائِي.." ولكنّ الإمام(عليه السلام) بيّن له أنّ مسيره كان فعلاً اختياريّاً له، وأنّه يستحقّ عليه عظيم الأجر والثواب في كلّ حركة وسكنة منه؛ لأنّهم لم يكونوا مجبرين بل باختيار منهم فقال(عليه السلام): «...فَواللَّه لَقَدْ عَظَّمَ اللَّه الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ».
وحقّ السائل أن يتعجّب من جواب الأمير(عليه السلام) بأنّ المسير كان بقضاء وقدر، وباختيار منهم إذ إنّ السائل يعتقد التنافي بين القضاء والقدر وبين الاختيار، ولذلك قال السائل متعجباً:وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟!.
ثانياً: بعد تعجّب السائل شرع الإمام(عليه السلام) في رفع التوهّم والشبهة التي في ذهن السائل، الذي يعتقد أنّ القضاء والقدر بمعنى الجبر والإلجاء وأنه يتنافى مع الاختيار فقال له(عليه السلام): «...وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً؟! إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ، والأَمْرُ والنَّهْيُ، والزَّجْرُ مِنَ اللَّه، وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِب،ِ تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ...»[1].
[1]قدريّة هذه الأمة: هم القائلون بالجبر من هذه الأمّة.
72
55
الدرس السادس: القضاء والقدر
فالإمام(عليه السلام) يقول له: لو كان القضاء والقدر بمعنى الجبر لكان تعجبّك صحيحاً واستنكارك في محلّه، لكن القضاء والقدر ليس كما توهّمته، ولو كان كما توهّمته للزم منه الكثير من المحاذير الباطلة التي عدّدها له الأمير(عليه السلام) في كلامه.
ثمّ بيّن له(عليه السلام) أنّ الله تعالى جعل الإنسان مخيّراً بين الفعل والترك، وأفاض عليه القدرة على الفعل والترك «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً...» وطلب من الإنسان الاحتراز من أفعال نهاه عنها، لكنّه لم يكرهه على تركها إكراهاً... ونَهَى تَحْذِيراً... وقد اكتفى الإمام(عليه السلام) هنا ببيان الحدِّ الأدنى الواجب لتصحيح الاعتقاد في هذه المسألة وهو الإيمان بالقضاء والقدر الإلهيّين مع عدم تنافيهما مع الاختيار، وذلك على نحو الاجمال دون الدخول في تحليل القضاء والقدر.
النوع الثاني: البيان التفصيليّ لمفهوم القضاء والقدر:
وهنا مجموعة من الروايات الشريفة التي حاول الأئمة(عليه السلام) من خلالها أن يبيّنوا حقيقة القضاء والقدر بتفصيلها وتحليلها والمراد بهما، ومن هذه الروايات:
1 ــ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا(عليه السلام): "يَا يُونُسُ، لَا تَقُلْ بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ لَمْ يَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ولَا بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ، ولَا بِقَوْلِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ قَالُوا:﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ﴾[1]، وقَالَ أَهْلُ النَّارِ:﴿رَبَّنَا غَلَبَتۡ عَلَيۡنَا شِقۡوَتُنَا وَكُنَّا قَوۡما ضَآلِّينَ﴾[2] وقَالَ إِبْلِيسُ: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي﴾[3].
فَقُلْتُ: واللَّه مَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، ولَكِنِّي أَقُولُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا شَاءَ اللَّه وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى.
[1]سورة الأعراف، الآية 43.
[2]سورة المؤمنون، الآية 106.
[3] سورة الحجر، الآية 39.
73
56
الدرس السادس: القضاء والقدر
فَقَالَ(عليه السلام): يَا يُونُسُ، لَيْسَ هَكَذَا، لَا يَكُونُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى...
إلى أن يقول(عليه السلام): فَتَعْلَمُ مَا الْقَدَرُ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ(عليه السلام): هِيَ الْهَنْدَسَةُ ووَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ والْفَنَاءِ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ(عليه السلام): والْقَضَاءُ هُوَ الإِبْرَامُ وإِقَامَةُ الْعَيْنِ.
قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُه أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَه وقُلْتُ: فَتَحْتَ لِي شَيْئاً كُنْتُ عَنْه فِي غَفْلَةٍ"[1].
2 ــ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ(عليه السلام) يَقُولُ: "لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى.
قُلْتُ: مَا مَعْنَى شَاءَ؟
قَالَ(عليه السلام): ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ.
قُلْتُ: مَا مَعْنَى قَدَّرَ؟
قَالَ(عليه السلام): تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِه وعَرْضِه.
قُلْتُ: مَا مَعْنَى قَضَى؟
قَالَ(عليه السلام): إِذَا قَضَى أَمْضَاه فَذَلِكَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَه"[2].
والملاحَظ في هاتين الروايتين أنّهما أشارتا إلى أمور منها:
أولاً:إنّ كلّ ما يحصل في هذا الكون هو مشمول وواقع تحت المشيئة والإرادة والقضاء والقدر: "لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى".
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص158.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص150.
74
57
الدرس السادس: القضاء والقدر
ثانياً:إنّها بيَّنت حقيقة القدر والقضاء، فأمّا القدر فهو:
"الْهَندَسَةُ ووَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ والْفَنَاءِ"، بحسب تعبير الرواية الأولى، و"تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِه وعَرْضِه"، بحسب تعبير الرواية الثانية، فالله تعالى جعل لكلّ شيء سبباً ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر﴾[1]، وأراد لهذا الكون بشكل عامّ أن يجري ويستمرّ بقاؤه وتكامله، تبعاً لأسباب قدّرها من حيث القابليّات والشروط والكمّيّة والكيفيّة والحدود والموانع، فإذا ما وجد المقتضي وتحقّقت جميع الشروط وارتفعت الموانع وأصبحت العلّة تامّة بذلك يتمّ القدر، فإذا تمّت التقديرات فحينها يحصل القضاء الذي: "إِذَا قَضَى أَمْضَاه فَذَلِكَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَه"، فيبرم الأمر ويتحقّق خارجاً.
ومن هنا يتَّضح تقدّم التقدير على القضاء، ويتّضح أيضاً أنّ التقدير يحصل بالتدريج، فإذا ما اكتمل حصل القضاء دفعة واحدة ولا مردّ له حينئذٍ، وعليه فإذا ما تغيّر شيء في التقدير تغيَّر القضاء تبعاً له.
فاللّه تعالى جعل للمرض مقتضي وشروط وموانع، فإذا تمّت هذه الأمور يحصل المرض، وإذا ما انتفى شرط من شروطه انتفى القضاء بالمرض فلا يتحقّق المرض خارجاً، وكذلك جعل للشفاء مقتضي وشروط وموانع، فإذا وجِد المقتضي وتمّت الشروط وانتفى المانع حصل القضاء بالشفاء فيتحقّق خارجاً ولا رادّ له، وإذا لم يحصل مقتضي الشفاء أو حصل مانع أو فُقد شرط، حصل قضاء آخر وهو عدم الشفاء واستمرار المرض، وهكذا الحال في تمام شؤون الكون حيث لا يحصل قضاء حتمٌ إلّا بمقدّمات مقدَّرة بقدرٍ وخصوصيّات، فإذا ما تغيّرت الشرائط بالخصوصيّات تغيّر القضاء، وأمّا إذا تمّت فإنّ نتائجها خارجاً ستتحقّق بشكل حتميّ قهريّ سواء كانت هذه النتائج معلومة ومقصودة للناس أو لم تكن كذلك. نعم العلم والقصد لتلك النتائج يترتّب عليه صحّة الحساب من ثواب وعقاب، أمّا النتائج نفسها فهي أمر تكوينيّ قهريّ تابع لتحقّق العلّة التامّة كما عرفت.
[1]سورة القمر، الآية 49.
75
58
الدرس السادس: القضاء والقدر
وبناءً عليه يتَّضح أنَّ القضاء والقدر التكوينيّ هو جعل الله تعالى الكون مبنيّاً على نظام الأسباب المودعة في الكون، فالمرض والشفاء، والموت والحياة، والقوّة والضعف، وكلّ ما يجري في الكون له أسبابه وتترتّب عليه نتائجه، أي يجري طبقاً لقدر وقضاء يتحرّكان في عالم التكوين برعاية الله تعالى. قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله: "يا رسول الله، رقىً يُستشفى بها هل تردّ من قدر الله؟ فقال(صلى الله عليه وآله): إنّها من قدر الله"[1].
القضاء والقدر والاختيار
بعد أن عرفنا ما هو القضاء والقدر التكوينيّ، ينبغي أن نؤكّد على كون الإنسان مختاراً في أفعاله، فإذا كان المقدّر من أفعال الإنسان فإنّ الله تعالى قد أراده وقدّره وشاءه بشرط اختيار الإنسان له.
وبهذا يظهر بوضوح أنّ القضاء والقدر الجاري في أفعال الإنسان لا يتنافى مع الاختيار فحسب وإنّما هو يؤكّد اختياريّة الإنسان.
وقد ورد في رواية عن الإمام الرضا(عليه السلام): "قَالَ اللَّه: يَا بْنَ آدَمَ، بِمَشِيئَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ، لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ وبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي، وبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلَى مَعْصِيَتِي، جَعَلْتُكَ سَمِيعاً بَصِيراً قَوِيّاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه، ومَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وذَاكَ أَنِّي أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ وأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، وذَاكَ أَنَّنِي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ"[2].
وبما أنّ الإنسان يملك الاختيار، فقد يشاء الإيمان ويختاره فيشاءه الله له، وقد يشاء الكفر ويختاره فيشاءه الله له، ذلك لأنّ الله أراد وشاء للإنسان أن يؤمن أو يكفر ويطيع أو يعصي، كلّ ذلك باختيار منه، وبعبارة أخرى: لقد شاء الله أن تكون
[1]الحميري القمي، عبدالله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، إيران - قم، 1413ه، ط1،ص95.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص152.
76
59
الدرس السادس: القضاء والقدر
مشيئته في طول مشيئة الإنسان من هذه الحيثيّة -أي إمضاء ما يشاءه العبد- فإذا شاء الإنسان واختار فعلاً شاءه الله له.
ــ وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "شَاءَ وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى؟
قَالَ(عليه السلام) نعَمْ.
قُلْتُ: وأَحَبَّ؟
قَالَ(عليه السلام): لَا.
قُلْتُ: وكَيْفَ شَاءَ وأَرَادَ وقَدَّرَ وقَضَى ولَمْ يُحِبَّ؟!
قَالَ(عليه السلام): هَكَذَا خَرَجَ إِلَيْنَا"[1].
ومن الواضح أنّ الإمام(عليه السلام) أراد اختصار الجواب، ولعلّ ذلك لعلمه بعجز السائل عن فهم حقيقة القضاء والقدر ولذلك أجابه بقوله: "هكذا خرج إلينا".
وورد في حديث آخر عن الحسين بن عليّ (عليه السلام) قال: سمعت أبي علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: "الأعمال على ثلاثة أحوال فرائض، وفضائل، ومعاصٍ، فأمّا الفرائض فبأمر الله، وبرضى الله، وبقضاء الله وتقديره ومشيئته وعلمه -عزَّ وجلَّ-، وأمّا الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبمشيته وبعلم الله -عزَّ وجلَّ-، وأمّا المعاصي فليست بأمر الله، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيئته وعلمه ثمّ يعاقب عليها"[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص150.
[2]الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص168؛ الصدوق، الشيخ محمد بن علي، عيون أخبار الرضا(ع)، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي – بيروت – لبنان، 1404 – 1984م، لا.ط، ج1، ص130.
77
60
الدرس السادس: القضاء والقدر
النتيجة: إنّ الإنسان مختار وله حريّة الفعل والترك، وهو في سلطان الله وقدره وقضائه، نعم بعض الأفعال هي بأمره تعالى ورضاه، وبعضها لم يأمر بها ولم يرض، لكنّه ترك للإنسان أن يختارها، فاللّه تعالى من حيث التشريع لا يرضى بالمعصية، لكنّ العبد قادر تكويناً على فعلها بمشيئة الله وقدره وقضائه.
78
61
الدرس السادس: القضاء والقدر
المفاهيم الرئيسة
أكّدت الآيات الكريمة والروايات الشريفة الإيمان بالقضاء والقدر، كما أكّدت أنّ الإنسان مختار في أفعاله.
إنّ مفهوم القضاء والقدر هو من المفاهيم الدقيقة والجليلة، وكذلك التوفيق بينه وبين الاختيار، وقد عرضت الروايات الشريفة هذا المفهوم بأسلوبين: إجماليّ وتفصيليّ.
إنّ الفرق الذي نراه في طريقة عرض مسألة القضاء والقدر بين هذين الصنفين من الروايات راجعة إلى مراعاة أهل البيت(عليهم السلام) للحالة الذهنيّة للسامع والسائل ومدى قدرته على التعقّل والاستيعاب للمطالب الدقيقة.
إنّ القدر هو الأسباب التكوينيّة التي نظَّمَ الله تعالى على أساسها الكون في أصل وجوده، وفي تأثير الموجودات بعضها ببعض، وحدّدها بحدود من حيث الكمّ والكيف والشروط والموانع، ولذلك هو يحصل بالتدرّج.
أمّا القضاء فهو النتيجة الحتميّة، والمسبَّب، والأثر المترتّب على القدر، فالقضاء تابع للقدر فإذا ما تمَّ القدر بكلّ شروطه وارتفعت الموانع تحقّق القضاء وهو يحصل دفعة وبشكل قهريّ.
إنّ ما يرتبط من القضاء والقدر في أفعال، فقد قدَّره الله تعالى وقضاه بشرط اختيار الإنسان، وأمّا إذا ما حصل قدر وقضاء خارج عن إرادة الإنسان واختياره فإنّ الإنسان لا يتحمّل مسؤوليّته ولا يُحاسب عليه.
إنّ إيمان الإنسان وعدمه، وإنّ طاعته ومعصيته ترجع إلى مشيئة الإنسان واختياره وقد قدَّر الله تعالى ذلك وشاء للإنسان ما يشاء الإنسان لنفسه.
79
62
الدرس التاسع: النبوّة
فكر وأجب
لماذا حذَّر الأئمة(عليه السلام) من التعمّق في مسألة القضاء والقدر بقولهم: "بحرٌ عميق فلا تلجهُ"؟
بيّن -باختصار- المقصود بالقضاء والقدر.
هل يتنافى القضاء والقدر مع اختيار الإنسان، ولماذا؟
80
63
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين(1)
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يعرف المسؤول عن الفعل الإنساني بين العدل والظلم.
يبيّن أفعال الإنسان وقضية التوحيد في الخالقية.
يحلّل الروايات الواردة في الأمر بين أمرين.
81
64
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
الروايات
ــ عن أبي عبد الله(عليه السلام) قَالَ لَه رَجُلٌ:جعِلْتُ فِدَاكَ أَجْبَرَ اللَّه الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟
فَقَالَ(عليه السلام): اللَّه أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا.
فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَفَوَّضَ اللَّه إِلَى الْعِبَادِ؟
قَالَ فَقَالَ(عليه السلام): لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالأَمْرِ والنَّهْيِ.
فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ؟
قَالَ فَقَالَ(عليه السلام): نَعَمْ أَوْسَعُ ممَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ"[1].
ــ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: "سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ والْقَدَرِ فَقَال(عليه السلام): لَا جَبْرَ ولَا قَدَرَ[2] ولَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيها الْحَقُّ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاه الْعَالِمُ"[3].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
[2]القدر أو القدريّة: مصطلح أطلقه أهل الجبر على القائلين بالتفويض (المعتزلة)، وكذلك أطلقه المفوّضة على أهل الجبر، وقد أُخذ من الحديث النبويّ (القدريّة مجوس هذه الأمّة) وقد استعمله الأئمة(ع) في الفرقتين معاً، وفي هذا الحديث المقصود بالقدر التفويض، راجع: الشيخ الكليني، الكافي ج1، ص159(الهامش).
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
83
65
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
مقدّمة
قبل الخوض في الكلام حول أفعال الإنسان بشكل خاصّ نستعرض الكلام أولاً في الأفعال بشكل عامّ لتحديد موجد تلك الأفعال، وإلى من تستند في الحقيقة، سواء تلك الأفعال التي تحصل بشكل تكوينيّ -من غير توسّط اختيار المخلوق- والمعبّر عنها ﺑ(الأفعال الصادرة عن الفاعل طبعاً) كما هي الحال في تأثير الشمس في تبخّر الماء وتشكّل الغيوم وهطل الأمطار ونموّ النبات.. إلى غير ذلك ممّا لا يمكن إحصاؤه، أو الأفعال التي تصدر بالاختيار من فواعلها، فهل هذه الأسباب الكونيّة وأمثالها هي صاحبة التأثير في النتائج والآثار المذكورة؟ أمِ المؤثر الوحيد في البين هو الله تعالى، وليس لهذه الأمور أيّ دور ولا أيّ تأثير في حصول تلك الآثار؟
فلأجل الحفاظ على مسألة التوحيد الأفعاليّ وحصر خالقيّة كلّ من السبب والمسبَب بالمولى تعالى مباشرة أنكر بعضهم نظام العليّة والمعلوليّة والأسباب والمسبَّبات -وهو نظام ثابت بالبرهان فضلاً عن الوجدان، وهو الذي ابتنى هذا الكون عليه- وهنا يأتي السؤال: هل يتنافى الاعتقاد بحاكميّة نظام العلّة والمعلول في الكون وتأثير العلل والأسباب في معلولاتها ومسبّباتها مع الاعتقاد بالتوحيد الأفعاليّ؟ وهل يمكن تصوير حاكميّة هذا النظام في الكون مع الحفاظ على عقيدة التوحيد الأفعاليّ؟
يتّضح الجواب عندما نرجع إلى مواضع عديدة من الكتاب الكريم، ونجد هناك كيف أسند المولى تعالى الآثار والحوادث إلى نفسه؟، وفي الوقت نفسه أسندها إلى عللها القريبة والفاعل المباشر لها كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم﴾[1]، وقوله: ﴿وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَد مَّيِّت فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ﴾[2].
وسيأتي المزيد من التوضيح لهذا الموضوع عند الكلام في أفعال الإنسان.
[1]سورة الأنفال، الآية 17.
[2]سورة فاطر، الآية 9.
84
66
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
أفعال الإنسان والعدل
إنّ البحث في أفعال العباد يقع:
تارة من ناحية المسؤول عنها وهو بحث في (العدل والظلم).
وأخرى من ناحية خالق الأفعال وهو بحث في (التوحيد الأفعاليّ).
وثالثة من ناحية شمول القضاء والقدر لها، وهو بحث في (القضاء والقدر).
وسيجري البحث في هذا الدرس في الناحيتين الأولى والثانية، وأمّا الناحيّة الثالثة فقد تناولنالها في الدرس السابق.
لفت نظر:
إنّ البحث في العدل والظلم، والتوحيد الأفعاليّ فيما يرتبط بأفعال الإنسان جرىتناوله في الروايات التي تعرّضت لبيان مفهوم (الجبر والتفويض) و(الأمر بين أمرين) ولم يُطرح مبحث (العدل الإلهيّ) في الروايات بشكل مستقلّ، وما ذلك إلّا لأنّ العدل الإلهيّ وقع محلّ وفاق بين الإلهيّين عامّة والمسلمين خاصّة، ولم ينسب أيّ منهم الظلم إلى الله تعالى بشكل صريح ومباشر[1].
نعم، وقعت المشكلة في فهم كيفيّة نسبة الأفعال الصادرة من الانسان إلى الله تعالى، وكذلك وقعت الشبهة في كيفيّة جريان القضاء والقدر في أفعال الإنسان، وتبنّى بعضهم-نتيجة الجهل- القول بالجبر المؤدّي إلى نسبة الظلم إلى الله تعالى، ولذلك شكَّل الفهم الصحيح (للأمر بين أمرين) و(القضاء والقدر) أساساً لفهم العدل الإلهيّ، وهذا ما ذكرته الرواية الأولى المذكورة في بداية الدرس حيث طرح الإمام الصادق(عليه السلام) العدل بين الجبر والتفويض.
[1]نعم،ذهب الأشاعرة إلى جواز وقوع الظلم منه تعالى، بمعنى عدم استحالته عليه عقلاً.
85
67
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
أفعال الإنسان والتوحيد في الخالقيّة
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّه(صلى الله عليه وآله): مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالسُّوءِ والْفَحْشَاءِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّه، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ والشَّرَّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّه فَقَدْ أَخْرَجَ اللَّه مِنْ سُلْطَانِه ومَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِغَيْرِ قُوَّةِ اللَّه فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّه ومَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه أَدْخَلَه اللَّه النَّارَ"[1].
إنّ الكلام في الجبر والتفويض هو كلام يرتبط مباشرة بأفعال الإنسان، وذلك لأنّ الإنسان -بخلاف الفاعل الطبيعيّ- يتحمّل مسؤوليّة الأفعال الصادرة منه ويحاسبه الله تعالى عليها وكذلك العقلاء يمدحون فاعل الخير بفعله له، ويذمّون فاعل الشرّ كذلك، ومن هنا نجد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) الاهتمام الكبير ببحث الجبر والتفويض لما ينتج من الفهم الخاطئ له من لوازم باطلة، لا يمكن الالتزام بها. وتفصيل الكلام في بيان المنزلة بينهما وتوضيحهاالتي هي المفهوم الصحيح سيأتي بعد استعراض جملة من الروايات مع بعض التعليقات المختصرة عليها.
روايات في الأمر بين أمرين
1 ــ عَنْ صَالِحِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ والْقَدَرِ فَقَال(عليه السلام): "لَا جَبْرَ ولَا قَدَرَ[2]، ولَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيهَا الْحَقُّ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاه الْعَالِمُ"[3].
إنّ هذه الرواية وأمثالها فتحت أمام العقل طريقاً آخر غير ما كان متوهّماً
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص158.
[2]القدر أو القدريّة: مصطلح أطلقه أهل الجبر على القائلين بالتفويض (المعتزلة)، وكذلك أطلقه المفوّضة على أهل الجبر، وقد أُخذ من الحديث النبويّ (القدرية مجوس هذه الأمّة) وقد استعمله الأئمة(ع) في الفرقتين معاً، وفي هذا الحديث هنا المقصود بالقدر (ولا قدر) أي المفوّضة، راجع: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159(الهامش).
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
86
68
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
لدى السائلين من أنّ الفعل الإنسانيّ لا يخلو من إحدى نسبتين؛ فإمّا أن يكون الفاعل له هو الله تعالى دون الانسان -وليس للإنسان أيّ دور وتأثير أبداً- وحينئذٍ يلزم الجبر، وإمّا أن يكون فاعله هو الإنسان وحده-من غير علاقة لله تعالى أبداً- وهذا معناه التفويض (أي القدر حسب تعبير الرواية) وليس ثمّة احتمال آخر غير هذين الفرضين في ذهن السائل.
كما يظهر من الرواية أيضاً أنّ العقل لا يستقلّ في هذه الموارد ابتداءًمن تلقاء نفسه إلى وجود احتمال ثالث غير هذين الاحتمالين أو يتعسَّر عليه ذلك. فالعقل في هذه الموارد يحتاج إلى الخبر والسماع من الحجّة ومن عقل مسدّد معصوم لكي يفتح له آفاقاً أوسع ويهيء له مقدّمات ضروريّة لتصويبه في عمليّة التفكير والاستدلال، ولذلك كانت الحاجة إلى الرجوع إلى تعاليم وروايات أهل البيت(عليهم السلام) والسماع عن المعصومين وهذا ما عبّر عنه الإمام(عليه السلام) بقوله: "لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاه الْعَالِمُ"، وهذه هي الهوّة العميقة التي تزلّ بها قدم كلّ من حاول أن يستقلّ بعقله في مواطن، ليس من شأن العقل أن يستقلّ بها، وليس له مسرح فيها ابتداءً أو يتعسَّر عليه ذلك.
2 ــ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالا: "إِنَّ اللَّه أَرْحَمُ بِخَلْقِه مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَه عَلَى الذُّنُوبِ ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا واللَّه أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْراً فَلَا يَكُونَ قَالَ: فَسُئِلا(عليه السلام) هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ والْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالا(عليه السلام): نَعَمْ، أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ"[1].
وفي الحديث دلالة واضحة على أنّ نسبة الفعل إلى الله وحده -مع سلب اختيار الإنسان بالمطلق- يعني لزوم الجبر وهو خلاف العدل، وكما أنّ
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
87
69
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
نسبة الفعل إلى الإنسان وحده من غير أيّ سلطة لله -تعالى- والذي لازمه سلب قدرة المولى تعالى وسلطانه عن أفعال الإنسان هو مخالف للتوحيد الأفعاليّ، وقد دلّ الحديث على وجود منزلة بين الأمرين، وكلّ ما يحصل من أفعال بين السماء والأرض هو واقع في هذه المرتبة الثالثة التي عبّرت عنها بعض الروايات ﺑ"...لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ"[1]، وكذلك اشتهر التعبير عنها في بعض الأخبار ﺑ(أمرٌ بين أمرين).
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
88
70
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
المفاهيم الرئيسة
- إنّ الاعتقاد بتأثير الأسباب في وجود مسبّباتها هو أمرٌ ثابتٌ بالوجدان والبرهان.
- وقع الكلام في الأفعال الصادرة عن المخلوقات بشكلٍ عامّ، والإنسان بشكلٍ خاصّ، وهل للمخلوقات دور وتأثير في إيجاد أفعالها أم لا؟ فإن كانت فعلَ الله لزم الجبر وإبطال نظام الأسباب والمسبّبات الثابت بالبرهان والوجدان، وإن كانت فعل المخلوقات فحسب لزم منه سلب قدرة الله تعالى وسلطانه عن أفعال مخلوقاته.
- المشكلة الأهمّ تكمن في أفعال الإنسان لأنّه مسؤول عن أفعاله ومثاب أو معاقب عليها، فإن كانت أفعاله هي فعل الله حقيقةً كان عقابه ظلماً له، وإن كانت فعل الإنسان مستقلّاً لزم خروج الإنسان من سلطان الله، وهو مخالف للتوحيد الأفعاليّ.
- إنّ الفهم الصحيح للجبر والتفويض والأمر بين أمرين يشكّل أساساً لفهم العقيدة بشكل صحيح، وبذلك ندرك سبب تشديد الروايات الشريفة على إبطال كلّ من الجبر والتفويض وعبّرت عن الأمر بين أمرين بأنّه: "لطفٌ من ربّك بين ذلك".
89
71
الدرس السابع: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (1)
فكر وأجب
لماذا طرحت مسألة العدل الإلهيّ في الروايات ضمن روايات الجبر والتفويض؟
لماذا نجد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) الاهتمام الكبير ببحث الجبر والتفويض؟
اشرح قوله عليه السلام: "لا جبر ولا قدر ولكن منزلةٌ بينهما".
90
72
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يحلّل مسألة الأمر بين أمرين في الروايات الشريفة.
يشرح أن حصول الفعل من الإنسان خارجاً يتوقف على القدرة الممنوحة له من الله تعالى.
يبيّن أن الفعل يتوقف على القدرة والاختيار.
91
73
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
الروايات
عن الإمام الكاظم(عليه السلام): "مساكينُ القدرية، مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا الله عزّ وجلّ بعدله، فأخرجوه من قدرته وسلطانه"[1].
سأل رجل أبي عبد الله (عليه السلام): أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوّض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال: قلت فماذا؟ قال: لطف من ربّك بين ذلك[2].
تفصيل الكلام في الجبر والتفويض
إنّ مسألة أفعال الإنسان هي من أوائل المسائل التي وقع النزاع والخلاف فيها بين العلماء من المتكلّمين والفلاسفة وتعرّضوا لها في كتبهم وأبحاثهم.
وأهميّة هذه المسألة هي أنّها تقع بين مفهومين أساسيّين، لا يمكن تجاوزهما بل يجب التمسّك بهما والحفاظ عليهما وهما:
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص48.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
93.
74
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
أولاً: مسألة "التوحيد الأفعاليّ": كما قال –تعالى-: ﴿قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡء﴾[1]، وهو الذي يعني عدم استقلاليّة أيّ مخلوق عن الله تعالى في أصل وجوده أو في أيّ شيء من شؤون وجوده ولوازمهبما في ذلك أفعاله لأنّ استقلاليّة الموجود في وجوده أو أفعاله تعني أنّه واجب الوجود، وبالتالي يتعدّد الواجب وهو شرك باطل.
ثانياً: مسألة "العدل الإلهيّ": وهي عقيدة ثابتة، وصفة إلهيّة، وصف بها – تعالى- نفسه، والعدل من الصفات الإلهيّة الثابتة بالدليل العقليّ والنقليّ وبالتالي لا مجال لتوهّم الظلم منه تعالى بحال من الأحوال.
وقد وجد العلماء -من غير الإماميّة- أنفسهم حين البحث في مسألة أفعال الانسان بين مسلكين: إمّا الذهاب إلى القول بالجبر، وإمّا الذهاب إلى القول بالتفويض، وحيث إنّ الفعل المتحقّق في الخارج هو فعل واحد وقد زعموا أنّه لا بدّ من أن يكون صادراً عن فاعل واحد، فمن هو هذا الواحد؟
أمّا أهل الجبر؛ولأجل الحفاظ على مسألة "التوحيد الأفعاليّ" فقد ذهبوا إلى القول بأنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان وإن كانت بحسب الظاهر صادرة عنه وهو الفاعل لها إلّا أنّها في الأمر نفسه والواقع هي أفعال الله مباشرة، وليس للإنسان أيّ تسبيب، لها وليس هو المؤثر في وجودها وبذلك حافظوا على قضيّة "التوحيد الأفعاليّ"، فليس في البين مؤثّر وفاعل سوى الله تعالى، إلّا أنّهم أجازوا أن يعاقب الله الإنسان على هذه الأفعال، ثمّ التزموا بأنّ الإنسان غير فاعل لها وليس مؤثراً في وجودها.
وبالتالي لزم من قولهم هذا نسبة الظلم إلى الله تعالى ونفي العدالة عنه -وإن أثبتوا له العدالة بألسنتهم لكنّهم نفوها عنه عمليّاً والتزموا بما لازمه الظلم- إضافة إلى لوازم أخرى منها نسبة اللغو والعبث إلى أفعاله -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- حيث لا يبقى معنى ولا ثمرة من إرساله الرسل وتشريع الشرائع
[1]سورة الرعد، الآية 16.
94
75
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
والتكاليف والثواب والعقاب، فالفاعل المباشر للصلاة والعبادات والطاعات وكلّ خير هو الله،لا الإنسان.
كما أنّ الفاعل الحقيقيّ والمباشر للمعاصي والشرور هو الله لا هو العبد ومع ذلك يثيب الله المطيع على ما لم يفعله ويعذِّب العاصي بما لم يفعله أيضاً.
وأمام هذه المعضلة حاول (الأشاعرة) الفرار من محذور نسبة الظلم إلى الله تعالى فابتدعوا نظريّة (الكسب) وذلك بأن قالوا: إنّ الإنسان كاسب للفعل بمعنى أنّه لا يكون خالياً من القدرة والاختيار بالكليّة عند اتيانه الفعل، وإنّما تفاض عليه القدرة مقارنة لصدور الفعل منه، وليس للقدرة المفروضة في العبد أيّ تأثير في حصول الفعل، وإنّما ينحصر إيجاد الفعل في قدرة الله تعالى. وكما ترى فإنّ هذه المحاولة منهم لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنّهم عادوا بالنتيجة إلى حصر التأثير في الله تعالى فهو وحده الفاعل للفعل لا غيره.
أمّا أهل القول بالتفويض؛ وهم (المعتزلة) فإنّهم ولأجل الحفاظ على مسألة (العدل الإلهيّ) سلكوا مسلكاً آخر، فقالوا بأنّ الفاعل الحقيقيّ والمباشر للفعل هو الإنسان فقط من غير تدخّل لقدرة الله تعالى في تحقّق أفعال الإنسان، بعد منحه –تعالى- القدرة للإنسان حين خلقه، أي إنّ العبد هو المستقلّ في افعاله، ومستغن عن قدرة الله في هذا المجال، فالأمر مفوّض كلّه إلى العبد، وهم في هذه الحال حافظوا على قضيّة العدل الإلهيّ وصحَّ عندهم الحساب والثواب والعقاب على الأفعال، ونفوا العبث عن الله تعالى بإرسال الرسل والشرائع والتكاليف، لكنّهم ارتكبوا مخالفة على مستوى "التوحيد الأفعاليّ" لمّا سلبوا عنه –تعالى- كلّ تأثير وسلطان عن عالم أفعال الإنسان، وكما عبّر عنهم الخبر عن الإمام الكاظم(عليه السلام): "مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا الله -عزَّ وجلَّ- بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه"[1].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص48؛ العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج5، ص54.
95
76
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
الحقّ أنّه أمرٌ بين أمرين
لقد تصدّى أهل البيت(عليهم السلام) لهذه المعضلة العقائديّة ورسموا الطريق القويم في فهم هذه المسألة (مسألة أفعال الإنسان) وبيّنوا لنا الطريق الصحيح الذي لا يؤدّي بنا إلى الوقوع في شيء من المحذورين السابقين فلا نقع في مخالفة "التوحيد الأفعاليّ" ولا "العدل الإلهيّ".
وبناء على مفاد روايات أهل البيت(عليهم السلام) ذهبت الشيعة إلى أنّ حصول الفعل من الإنسان يتوقّف على شيئين: "القدرة والاختيار".
أمّا القدرة فهي من الله تعالى التي تفاض على العبد في كلّ آنٍ، ولا يمكن للعبد أن يستقلّ بنفسه لحظة بمعزل عن هذا المدد الإلهي، شأنها شأن الوجود والحياة حيث لا يقدر العبد أن يستقل بشيء من شؤون وجوده، قال -تعالى-: ﴿كُلّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾[1].
وأمّا الاختيار فهو هبة من الله أودعها الإنسان، وبواسطة الاختيار يتمكّن الإنسان من التصرّف بالقدرة الواصلة إليه إمّا في سبيل الخير وإمّا في سبيل الشرّ، فهو قادر على الفعل وقادر على تركه على حسب اختياره، فما يقع تحت سلطة العبد هو حسن الاختيار أو سوء الاختيار. فالفعل الواحد يصحّ نسبته إلى اثنين على نحو الطولية، فيُسند إلى الله تعالى باعتبار أنّ الفعل إنّما حصل بتوسّط القدرة التي جعلها في الإنسان، فاللّه هو الذي يعطيه القدرة على التصرّف والفعل، وهي بيده تعالى دائماً وأبداً، ولولا هذه القدرة فإنّ الإنسان عاجز عن تحقيق الفعل، كذلك يُسند الفعل إلى العبد بلحاظ أنّه مختار أي يضع قدرته ويصرّفها كيفما شاء، فهو قادر على اختيار الفعل وقادر على اختيار تركه، وحسن الاختيار أو سوء الاختيار بيد العبد، ومن هنا صحّ اتّصاف الفعل "بالحُسن" أو"بالقبح" لأنَّ مرجع هذا الوصف هو الاختيار الذي هو فعل العبد، لا إلى القدرة المتاحة له من الله
[1]سورة الاسراء، الآية 20.
96
77
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
تعالى، فإنّ القدرة سبب لتحقّق الفعل خارجاً أمّا اتّصافه بالحسن والقبح فمرجعه إلى حسن اختيار المكلّف أو سوئه وقد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) أنّ سائلًا سأله فقَالَ:"أَجْبَرَ اللَّه الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟
قَالَ(عليه السلام): لا.
قُلْتُ: فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الأَمْرَ؟
قَالَ(عليه السلام): لَا.
قُلْتُ: فَمَاذَا؟!
قَالَ(عليه السلام): لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ"[1].
وفي خبر آخر عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ذُكر عنده الجبر والتفويض فقال: "ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسرتموه؟
قلنا: إنّ رأيت ذلك.
فقال(عليه السلام): إنّ الله -عزَّ وجلَّ- لم يُطَع بإكراه، ولم يُعصَ بغلبة، ولم يُهمِل العباد في ملكه، هو المالك لما ملَّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يَحُل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خَصَم من خالفه"[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص159.
[2]الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص361.
97
78
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
فكلامه(عليه السلام) من أول الحديث وإلى قوله: "والقادر على ما أقدرهم عليه"، يدلّ على أنّ الإنسان لا يخرج من تحت قدرة الله وسلطانه وأنّه تعالى هو المالك للإنسان وأفعاله وهو "التوحيد في الأفعال".
ثمّ في بقيّة كلامه "فإن ائتمر العباد بطاعته"إلى قوله "فليس هو الذي أدخلهم فيه"، يدلّ على أنّ العبد يملك اختيار التصرّف بهذه القدرة الممنوحة إليه وهو المسؤول عن صرفها في الخير أو الشرّ، وبالتالي يصحّ نسبة فعل الخير أو الشرّ للعبد ومحاسبته عليه وهو مقتضى "العدل الإلهيّ".
98
79
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
المفاهيم الرئيسة
إنّ مفهوم الأمر بين أمرين قد حافظ على العدل الإلهيّ من جهة، وعلى التوحيد الأفعاليّ من جهة أخرى، حيث بيّن أنّ الإنسان يستحيل عليه أن يستقلّ في أيّ شأن من شؤونه وأفعاله عن سلطان الله تعالى، وفي الوقت نفسه فإنّ الله تعالى شاء للإنسان أن يكون مختاراً في أفعاله وفي كيفيّة التصرف بهذه القدرة المفاضة عليه في كلّ آنٍ من الله تعالى.
إنّ حصول الفعل من الإنسان خارجاً يتوقّف على القدرة الممنوحة له من الله تعالى، وعلى اختيار الإنسان في أيّ فعل من الأفعال، ومن هنا صحّت نسبة الفعل إلى الله تعالى وإلى الانسان معاً.
إنّ حسن الفعل أو قبحه مرجعه إلى الاختيار ولذلك كانت نسبة الحسن والقبح إلى الإنسان ومن هنا صحَّ ثوابه عليه أو عقابه.
إنّ هذا المفهوم الدقيق، للأمر بين أمرين ما كان العقل ليتمكّن من إدراكه لولا أن بادر أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إلى بيانه ففتحوا بذلك الباب أمام العقل لإدراك هذا المفهوم.
99
80
الدرس الثامن: الجبر والتفويض والأمر بين أمرين (2)
فكر وأجب
ماالمقصود بالجبر والتفويض؟
ما الوجه في بطلان القول بكلّ منهما؟
وضّح بالدّقةالمقصود بالأمر بين أمرين؟
100
81
الدرس التاسع: النبوّة
الدرس التاسع: النبوّة
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يقرأ الروايات التي تتحدث عن النبوة ومقامها.
يبيّن حاجة البشرية إلى الأنبياء (عليه السلام) وحجج الله تعالى.
يعدّد مجالات دعوة الأنبياء.
101
82
الدرس التاسع: النبوّة
الروايات
ــ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) أَنَّه قَالَ لِلزِّنْدِيقِ -الَّذِي سَأَلَه مِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ الأَنْبِيَاءَ والرُّسُلَ؟- قَالَ(عليه السلام): "إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا وعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَه خَلْقُه ولَا يُلَامِسُوه فَيُبَاشِرَهُمْ ويُبَاشِرُوه ويُحَاجَّهُمْ ويُحَاجُّوه، ثَبَتَ أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِه يُعَبِّرُونَ عَنْه إِلَى خَلْقِه وعِبَادِه، ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ ومَا بِه بَقَاؤُهُم،ْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ، فَثَبَتَ الآمِرُونَ والنَّاهُونَ عَنِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِه والْمُعَبِّرُونَ عَنْه جَلَّ وعَزَّ، وهُمُ الأَنْبِيَاءُ(عليه السلام) وصَفْوَتُه مِنْ خَلْقِه، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ مَبْعُوثِينَ بِهَا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ -عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْخَلْقِ والتَّرْكِيبِ- فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وزَمَانٍ مِمَّا أَتَتْ بِه الرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ والْبَرَاهِينِ لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّه مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِه وجَوَازِ عَدَالَتِه"[1].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص168.
103
83
الدرس التاسع: النبوّة
ــ عن أَبَي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) يَقُولُ: "سَادَةُ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ خَمْسَةٌ وهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وعَلَيْهِمْ دَارَتِ الرَّحَى نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله) وعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ"[1].
تحليل الرواية الأولى
تُعد هذه الرواية من أمّهات الروايات الشريفة في مسائل النبوة ويمكن أن يستفاد منها مجموعة مسائل منها:
أولاً: حاجة البشريّة للأنبياء
نلاحظ في قوله(عليه السلام): "... إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا وعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَه خَلْقُه ولَا يُلَامِسُوه فَيُبَاشِرَهُمْ ويُبَاشِرُوه ويُحَاجَّهُمْ ويُحَاجُّوه، ثَبَتَ أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِه يُعَبِّرُونَ عَنْه إِلَى خَلْقِه وعِبَادِه ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ ومَا بِه بَقَاؤُهُمْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ، فَثَبَتَ الآمِرُونَ والنَّاهُونَ عَنِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِه والْمُعَبِّرُونَ عَنْه -جَلَّ وعَزَّ-..." أنّ الرواية أشارت إلى الدليل على ضرورة بعثة الأنبياء (عليه السلام) وهو الدليل المعروف عند الفلاسفة والمتكلّمين ﺑ(دليل اللطف) والذي يعتمد على ما جرىإثباته من وجود الخالق الصانع، المتعالي والمنزّه عن الجسم والجسمانيّات وما يعرض لها، والمتعالي والمنزه عن إمكان إدراك كنهه لا بفكر ولا بوهم، وهو الواجب والمطلق في وجوده وكمالاته وحكمته.
وبالتالي فإنّ هذا الموجود المطلق والكامل خلق الإنسان بحكمته ليصل إلى كماله المنشود، والذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال وجود نوع معرفة خاصّة لا يتأتّى له تحصيلها إلّا من خلال خالقه وصانعه، ولكنّ البشر يستحيل عليهم
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص175.
104
84
الدرس التاسع: النبوّة
التواصل المباشر معه "لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَه خَلْقُه ولَا يُلَامِسُوه فَيُبَاشِرَهُمْ ويُبَاشِرُوه ويُحَاجَّهُمْ ويُحَاجُّوه"، وهو كناية عن عدم قابليّة عامّة الناس لتلقّي هذه المعارف الإلهيّة الضروريّة من الله تعالى مباشرة.
ومادام يلزم من عدم وصول تلك المعرفة إليهم نقض الغرض من خلق الإنسان -وهو مخالف للحكمة الإلهيّة المطلقة، بل يكون الخلق حينئذٍ عبثيّاً والعبث قبيح لا يليق به تعالى- فكان مقتضى الحكمة ضرورة إيصال هذه المعارف الإلهيّة الضروريّة إلى الإنسان من خلال شخصيّات مميّزة، تتوافَر فيها مواصفات خاصّة وتحوز قابليّات تؤهلّهم وتمكّنهم من تلقّي هذه المعارف الإلهيّة بواسطة الوحي الإلهيّ، ومن خلالها يجري إيصال هذه المعارف الإلهيّة إلى بقيّة الناس، وهذه الشخصيّات تُعرف باسم "الأنبياء"، لأنّهم يتلقّون النبأ والمعرفة من السماء ويقومون بدور السفارة بين الله تعالى والخلق "ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ ومَا بِه بَقَاؤُهُمْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ".
وممّا لا شكّ فيه ولا ريب أنّ البشريّة تحتاج إلى هذا العلم والتوجيه الإلهيّين في سيرها التكامليّ، وكذلك هي تحتاج إلى الأسوة والقدوة، إذ بهما تتحقّق وتكتمل عمليّة توجيه الناس نحو صلاح معاشهم والنجاة في معادهم وهدايتهم إلى سعادتهم.
وممّا لا شكّ فيه ولا ريب أيضاً أنّ النبوّة أمر ممكن ذاتاً، فلا مانع من أن ينبئ الله تعالى بعض النفوس القابلة والكاملة بأنّه لا يلزم من النبوّة أيّ محذور أو محال.
فإذا تمّ هذان الأمران معاً أي (حاجة البشر إلى النبوّة وتوقّف الغرض والكمال والنجاة عليها) و(أنّ النبوّة ممكنة الوجود والتحقق في بعض البشر الكاملين) فإنّه لا محالة يثبت هذا الفيض وهو تكليم الله للأنبياء (عليه السلام) والتواصل مع بعض البشر الخاصّين -بطريقة من طرائق التواصل التي سيأتي الحديث عنها- وبعثهم
105
85
الدرس التاسع: النبوّة
للناس ليكونوا الحجّة والقدوة والأسوة والدليل، وهذا الدليل هو ما قد نختصره بالعبارة العلميّة الفلسفيّة "إذا تحقّق وجود الحاجة ووجدت القابليّة فإنّه يجب تحقّق الفيض".
وبالمضمون نفسه الذي دلّت عليه الرواية الأولى أكّدت رواية ثانية ضرورة إرسال الأنبياء (عليه السلام) استناداً إلى هذا اللطف والحكمة الإلهيّة فَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "إِنَّ اللَّه أَجَلُّ وأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِه بَلِ الْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِاللَّه. قَالَ(عليه السلام):صَدَقْتَ.
قُلْتُ:إِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَه رَبّاً فَيَنْبَغِي لَه أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّبِّ رِضًا وسَخَطاً وأَنَّه لَا يُعْرَفُ رِضَاه وسَخَطُه إِلَّا بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ فَمَنْ لَمْ يَأْتِه الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَه أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ الْحُجَّةُ وأَنَّ لَهُمُ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ.
فَقَالَ(عليه السلام): رَحِمَكَ اللَّه"[1].
فإنّ من عرف الله –تعالى- وعرف حكمته عرف أنّ هذا الربّ لم يخلق الإنسان عبثاً فينبغي إذن أن يأمر وينهى، فيرضى على من أطاع، ويسخط على من عصى، إلّا أنّ الإنسان قاصر عن معرفة مواطن رضا الله –تعالى- وغضبه إلّا بتعليم من الله –تعالى-: "لَا يُعْرَفُ رِضَاه وسَخَطُه إِلَّا بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ".
وفي هذه الرواية دلالة واضحة على أنّ العاقل الحكيم هو الذي ينبغي أن يسعى لمعرفة الأنبياء والرسل وحجج الله على خلقه، ولا ينتظر أن يأتوا هم إليه، وهذا ما يحكم به العقل السليم.
ثانيًا: مجالات دعوة الأنبياء(عليه السلام)
ــ إنّ دور الأنبياء (عليه السلام) لا يقتصر على بيان كيفيّة بناء الإنسان لعلاقته بربّه في مجال العبادات فقط، بل يتوسّع دورهم ليشمل كلّ ما له علاقة بمصالح هذا
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص169.
106
86
الدرس التاسع: النبوّة
رسالاتهم بقوله(عليه السلام): "...وهُمُ الأَنْبِيَاءُ (عليه السلام) وصَفْوَتُه مِنْ خَلْقِه، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ مَبْعُوثِينَ بِهَا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ -عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْخَلْقِ والتَّرْكِيبِ- فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ..." ملاحظة: يجب ذكر الرواية حتى لا يظهر في النص خطأ،...أنّ له سفراء في خلقه، والملاحظ أنّ الرواية وصفت الأنبياء(عليه السلام) بأنّهم صفوة الخلق، وإنّما كانوا صفوة لما تميّزوا به من قابليّات روحيّة وكمالات معنويّة ومكارم الأخلاق والطاعة المطلقة لله تعالى، لا يجاريهم أحد في ما تميّزوا به من هذه الجهات ولا تستهويهم الأهواء ولا تكسرهم الابتلاءات ولا تأسرهم الدنيا ولا تؤثر في عقولهم الغرائز.
وإن كان الأنبياء (عليه السلام) من حيث خلقتهم وتركيبتهم البدنيّة وحاجاتهم مشتركين مع غيرهم من البشر، إلّا أنّهم تميّزوا بمزيد عناية بهم من الله تعالى، من خلال طهارة مولدهم وتقلبهم في أصلاب طاهرة وأرحام مطهّرة، كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصفهم (عليهم السلام): "...فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ - تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ..."[1].
ولأجل تميّزهم بتلك القابليّات الروحيّة والكمالات المعنويّة اصطفاهم الله –تعالى- ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[2].
وكذلك كان الأنبياء (عليه السلام) حكماء إذ شملهم المولى بعنايته الخاصّة، ورعاهم رعاية مميّزة بسبب قابليّاتهم كما قال –تعالى- في حقّ النبيّ موسى(عليه السلام): ﴿وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّة مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ﴾[3]، وأدّبهم بالحكمة وبعثهم بها وما تأكيد الحكمة إلّا دليل على أهميّتها، وأهميّة اتّصاف من يحمل الأمانة الإلهيّة بها،
[1]الشريف الرضي، نهجالبلاغة، مصدر سابق، ص138، خطبة 94.
[2]سورة آل عمران، الآية 33.
[3]سورة طه، الآية 39.
108
87
الدرس التاسع: النبوّة
فمن الحكمة تتولّد الكثير من المزايا الحسنة والأخلاق الكريمة من الحلم والعلم والصبر والثبات والبصيرة حتّى العصمة.
رابعًا: لا تخلو الأرض من حجّة
قال(عليه السلام): "ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وزَمَانٍ مِمَّا أَتَتْ بِه الرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ والْبَرَاهِينِ لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّه مِنْ حُجَّةٍ، يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِه وجَوَازِ عَدَالَتِه".
تشير هذه الفقرة إلى أنّ حاجة البشر إلى التعليم والهداية الإلهيّة ليس مختصّاً بزمان دون زمان، بل هي حاجة ثابتة على مرِّ الدهور والأزمان، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ الحكمة التي اقتضت إرسال الأنبياء (عليه السلام) لتبليغ التعاليم والمعارف الإلهيّة في نفسها تقتضي بقاء وجود الحجّة واستمراره بين الله تعالى وبين خلقه. وحتّى في حالة موت النبيّ وارتقاء روحه إلى الرفيق الأعلى، يمكن أن نفترض ارتفاع الحاجة إلى شخص النبيّ ولكن تبقى الحاجة إلى هذا الحجّة الذي يكون مؤتمنًا على الرسالة -بما تحمله من معارف وتعاليم إلهيّة- والذي يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته وهو المصطلح عليه بـ الإمام، وهو ما سيأتي الحديث عنه في مبحث الإمامة إن شاء الله تعالى.
خامسًا: دلائل النبوّة
بقيت إشارة في الرواية وهي قوله(عليه السلام): "لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّه مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِه وجَوَازِ عَدَالَتِه"، والعلم هو الدليل والعلامة على صدق دعوى النبوّة، إذ الحكمة الإلهيّة كما اقتضت بعث الأنبياء للبشر كذلك اقتضت تزويد الأنبياء (عليه السلام) بما يدلّ على صدق ادّعائهم لهذا المقام ويبرهنه، ولا سيّما أنّ بقيّة البشر يعجزون عن تمييز الصادق في دعوى النبوّة من الكاذب، فلو لم يكن مع الأنبياء (عليه السلام)ما يدلّ على صدقهم لزم نقض المولى لغرضه من إرسالهم إذ لا يبقى حينئذٍ ما يُلزم الناس باتّباعهم، ونقض
109
88
الدرس التاسع: النبوّة
الغرض قبيح مخالف للحكمة، ومن هنا نجد أنّ الناس في كلّ زمان كانوا يطالبون من يدَّعي النبوّة أن يأتيهم بعلامة معجزة تؤيّد مقالته وتدلّ على صدق دعواه، وكان الأنبياء (عليه السلام) يستجيبون لهذا الطلب -إذا كان الطلب بهدف الاستدلال على نبوّتهم- بل قد يبادر النبيّ أحياناً بإظهار المعجزات والدلائل من غير طلب من الناس، ويكون ذلك منه طريقة أخرى أيضاً في إعلان النبوّة ولفت نظر الناس إليها، وقد استعرض القرآن الكريم الكثير من معاجز الأنبياء المختلفة.
110
89
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
المفاهيم الرئيسة
لقد عرضت الروايات الدليل العقليّ على ضرورة بعثة الأنبياء(عليه السلام) وهو دليل معروف عند المتكلّمين بعنوان (دليل اللطف)
يعتمد دليل اللطف على عدّة مقدّمات منها:
إنّ الخالق حكيم مطلق، وحكمته تقتضي أن يكون لكلّ موجودٍ خلقه هدف وغاية تترتّب على وجوده، وكذلك تقتضي تزويد الموجود بكلّ ما يحتاج إليه في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود.
بما أنّ الخالق الحكيم قد خلق الإنسان لهدف، وهو الوصول إلى الكمال الإنسانيّ فقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يزوّد الإنسان بكلّ ما يحتاج إليه في سلوكه نحو كماله.
إنَّ المعارف الإنسانيّة من فطرة، وعقل، وحواسّ، عاجزة عن تحديد الهدف بدقّة وقاصرة عن الوصول إلى القوانين والتشريعات التي تحدّد وترسم له طريق الكمال المنشود على نحو القطع واليقين.
النتيجة من جميع ما تقدّم: إنّ الحكمة اقتضت إيجاد طريق آخر يتحقّق من خلاله ما عجزت المعارف الإنسانيّة من الوصول إليه، وهذا الطريق هو (الوحي) حيث تصل من خلاله تلك المعرفة الضروريّة.
اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يزوِّد الخالق الحكيم أنبياءه(عليه السلام) بما يدلّ على صدق دعواهم النبوّة لكي يثق الناس بصدقهم وبذلك تكتمل الحجّة لله على الناس، ولا يبقى للناس أيّ عذر للتخلّي عن اتّباع الأنبياء.
111
90
الدرس التاسع: النبوّة
فكر وأجب
أُذكُرْ باختصار مقدّمات دليل اللطف على إثبات النبوّة العامّة.
أُذكر وجوه حاجّة البشر إلى الأنبياء مع شاهد من الرواية.
ما الدليل على ضرورة وجود حجج لله تعالى في كلّ زمان، مع شاهد من الرواية؟
ما المراد بقوله(عليه السلام): "يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِه".
112
91
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أنْ:
يبيّن أدب النبي(صلى الله عليه وآله) وصفاته في الروايات.
يحلّل الترابط بين القرآن الكريم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) والعترة(عليه السلام).
يشرح توبة الأنبياء(عليه السلام) على ضوء القول بعصمتهم.
113
92
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
بشارة الأنبياء بالنبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله)
عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام)عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ﴾[1]؟
قال(عليه السلام): «كان قوم فيما بين محمّد (صلى الله عليه وآله) وعيسى (عليه السلام) وكانوا يتوعَّدون أهل الأصنام بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) ويقولون: ليخرجنّ نبيّ فليكسرنّ أصنامكم وليفعلنّ بكم، فلمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفروا به»[2].
سيّدُ ولدِ آدم(عليه السلام)
عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "كَانَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله) سَيِّدَ وُلْدِ آدَمَ؟
فَقَالَ(عليه السلام): كَانَ واللَّه سَيِّدَ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ ومَا بَرَأَ اللَّه بَرِيَّةً خَيْراً مِنْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)"[3].
[1]سورة البقرة، الآية 89.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص310.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص440.
115
93
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
وارث الأنبياء(عليه السلام)
عنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي: "يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- لَمْ يُعْطِ الأَنْبِيَاءَ شَيْئاً إِلَّا وقَدْ أَعْطَاه مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله)، قَالَ: وقَدْ أَعْطَى مُحَمَّداً جَمِيعَ مَا أَعْطَى الأَنْبِيَاءَ..."[1].
أدب النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبعض صفاته
عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ: "إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم﴾ ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه أَمْرَ الدِّينِ والأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَه فَقَالَ -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾[2] وإِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ ولَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِه الْخَلْقَ فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ اللَّه... ووَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَه كَالتَّسْلِيمِ لِلَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى"[3].
وقفة تأمّل
من خلال التأمّل في الرواية الأخيرة نستفيد عدّة مطالب:
1 ــ نلاحظ في الرواية الشريفة قوله(عليه السلام): "إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم﴾"، وهذا الكلام من الإمام(عليه السلام) يؤكّد أنّ الأنبياء(عليه السلام) عامّة وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) خاصّة قد أولاهم الله –تعالى- عناية خاصّة ورعاية مميّزة منذ بدء تكوينهم لعلمه تعالى بقابليّاتهم وارتفاع شأنهم، فاختارهم ليشملهم بعنايته وتربيته الخاصّة ﴿وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ﴾[4].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص225.
[2]سورة القلم، الآية4؛ سورة الحشر، الآية 7.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص266 ـ 267.
[4]سورة طه، الآية 39.
116
94
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
2 ــ قوله(عليه السلام): "ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه أَمْرَ الدِّينِ والأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَه فَقَالَ -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾.
أولاً: ينبغي الإشارة إلى أنّ هذه الرواية ليست وحيدة في مضمونها بل هناك جملة من الروايات دلّت على هذا المعنى وتحمل المضموننفسه بأنّ الله تعالى قد جعل للنبيّ (صلى الله عليه وآله) الحقّ في تشريع كلّ ما يرى فيه مصلحة للناس في أمور معاشهم ومعادهم، وفي شؤون الدين والدنيا، وحينئذٍ يكون ما يصدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من تشريعات كأنّها صادرة عن الله تعالى بلا فرق بعد أن جعل الله هذا الحقّ والمقام للنبيّ(صلى الله عليه وآله).
ثانياً: بناءً على ما تقدّم فإنّ كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعادل القرآن الكريم في حجّيّته. ومن هنا لا يصحّ الأخذ بالشريعة بدون الرجوع إلى الكتاب العزيز وكلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الاطهار(عليه السلام)، كما دلَّ حديث الثقلين المشهور والمتّفق عليه بين المسلمين على مختلف النسخ والصيغ التي رواه فيها المسلمون عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) سواء كان بصيغة "كتاب الله وعترتي"، أو "كتاب الله وسنّتي"[1] فإنّه على كلّ حال يدلّ ـ-كما دلّت أحاديث أخرى كثيرة- على أنّ الدين والشريعة لا تكتمل ولا تؤخذ بالطريقة الصحيحة إلّا بالرجوع إلى الكتاب العزيز وكلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار(عليه السلام)، فلا يمكن الاستغناء عن أيٍّ منهما.
وقد أمر تعالى المسلمين بالأخذ بكلّ ما أتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يقيّده بأيّ قيد بقوله ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾، وقوله: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾. وكذلك أمر تعالى في أكثر من عشرة مواطن في الكتاب الكريم بوجوب طاعة الله تعالى والرسول مطلقاً كما في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ﴾[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص423؛ الشيخ الصدوق، الخصال؛ مصدر سابق، ص66.
[2]الآيات من: سورة النور، الآية 56، وسورة الأنفال، الآية 20، وسورة الحشر، الآية 7.
117
95
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
إنّ هذا التأكيد الدائم لهذا التعلّق والترابط الوثيق بين كلام الله في كتابه العزيز وما فيه من أوامر ونواهي وبين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهدف إلى بيان أنّ الدين لا يكتمل بدون الحفاظ على هذا الترابط والالتزام بكلام النبيّ وتشريعاته وتوجيهاته –حتّى التي لم ينزل بها قرآن- كما لو أنّها نزلت في القرآن الكريم.
لفت نظر
إنّ التشديد الإلهي على هذا الترابط بين الكتاب والنبيّ والعترة (صلى الله عليه وآله) وتأكيده هو ردٌّ واضح على من حاول قديماً أن يلغي حجّية كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويفرّق بينه وبين الكتاب، ويكتفي بالقرآن الكريم كمصدر وحيد للتشريع وأخذ الدين، وهذا ما فعله الخليفة الثاني في الموقف المشهور "برزيّة يوم الخميس" عندما اشتدّ مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووجعه فطلب إليهم "...هلمّوا اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده..."، فقال معارضاً لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنّ رسول الله (لَيَهْجر)، وفي رواية أخرى (غلبه الوجع) أي إنّه لا يدري ولا يعي ما يقول -والعياذ باللّه- وقال "عندنا القرآن وحسبنا كتاب الله"[1].
كذلك يشكِّل هذا التشديد -على الترابط بين الكتاب العزيز والمعصومين(عليه السلام) وأنّ الدين الصحيح يؤخذ عن الثقلين معاً وأنّ الضلال والهلاك في التفريق بينهما- ردّاً على من يحاول تجديد هذه المقولة وإحيائها، حيث نجد اليوم من يدعو إلى ترك الاعتماد على الروايات الشريفة -التي هي سنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وآله(عليه السلام) وهي أحد الثقلين- وذلك بحجّة وجود روايات مكذوبة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليه السلام) وبالتالي فلا يمكن الاعتماد إلّا على الكتاب الكريم.
[1]البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401ه - 1981م، لا.ط، ج1، ص37، ج4، ص31، ص66، ج5، ص137، ج7، ص9، ج8، ص161.
118
96
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
وليست هذه الدعوى إلّا بسبب الجهل -أو التجاهل- لمسألة أنّ العلماء قد وضعوا الضوابط والقوانين العلميّة المحكمة لتمحيص الروايات وتمييز الأحاديث ومعرفة الحجّة منها من غير الحجّة.
وممّا يدلّ على وجوب الاعتماد على سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتشريعاته إلى يوم القيامة وعدم اختصاص ذلك بزمان دون زمان ما ورد من روايات خَتْمِ النبوّة والشريعة بنبوّة نبينا محمّد(صلى الله عليه وآله) وشريعته ففي الخبر المتقدّم عن أبي عبد الله(عليه السلام) "حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فَجَاءَ بِالْقُرْآنِ وبِشَرِيعَتِه ومِنْهَاجِه فَحَلَالُه حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُه حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة".
ثالثًا: ورد في الرواية قوله(عليه السلام): "وإِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ ولَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِه الْخَلْقَ".
يستفاد من هذه الفقرة وبشكل واضح وجلي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان مسدّداً من قِبل الله تعالى موفّقاً من خلال الرعاية الخاصّة وحفظِ الله له من كلّ الجهات والجوانب في علمه وفكره وسلوكه وطاعته...
فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) مؤيّد بروح القدس، الذي يؤيّد الله به أنبياءه وأوصياءه(عليه السلام). ومن خلال التأييد بروح القدس يتّصل الأنبياء والمعصومون بالعلم الإلهيّ الغيبيّ اليقينيّ الذي لا شكّ فيه، ولا يعتريه شبهة، وليس فيه احتمال للخطأ والزلل.
وقد ورد هذا المضمون في عدّة أحاديث منها ما هو عن جابر الجعفيّ في خبر طويل أخذنا منه محلّ الشاهد قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): "فَالسَّابِقُونَ هُمْ رُسُلُ اللَّه(عليه السلام)وخَاصَّةُ اللَّه مِنْ خَلْقِه جَعَلَ فِيهِمْ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ أَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَبِه عَرَفُوا الأَشْيَاءَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الإِيمَانِ فَبِه خَافُوا اللَّه -عزَّ وجلَّ-، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُوَّةِ فَبِه قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّه، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الشَّهْوَةِ
119
97
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
فَبِه اشْتَهَوْا طَاعَةَ اللَّه -عزَّ وجلَّ- وكَرِهُوا مَعْصِيَتَه، وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِه يَذْهَبُ النَّاسُ ويَجِيؤُونَ"[1].
وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ الأنبياء معصومون عن كلّ خطأ، مسدّدون مؤيّدون من الله تعالى فلا يخطئون في علم، ولا يزلّون في عمل.
ويؤيّد هذا المعنى ما ورد عن أبي عبد الله(عليه السلام): "... إِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَتُوبُ إِلَى اللَّه ويَسْتَغْفِرُه فِي كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ مِئَةَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ إِنَّ اللَّه يَخُصُّ أَوْلِيَاءَه بِالْمَصَائِبِ لِيَأْجُرَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ"[2].
ويستفاد من هذه الرواية أنّ استغفار الأنبياء وتوبتهم ليست عن حرام ارتكبوه -والعياذ باللّه- ولكنَّ مقامهم ومرتبتهم الكماليّة وعلمهم ومعرفتهم باللّه تعالى وعظيم نعمته جعلهم يشعرون دائماً بالتقصير، ممّا يدفعهم للاعتذار والاستغفار، وهذا ما لا يدركه أصحاب المراتب الدنيا في معرفتهم وعلاقتهم بالله، والذين لا يعرفون التوبة والاستغفار إلّا من ذنب ومعصية لله تعالى، وأصدق تعبير في المقام هو القول المشهور: "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين".
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص271 ـ 272.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص450.
120
98
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
المفاهيم الرئيسة
- إنّ قول الإمام(عليه السلام): "إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم﴾ "يؤكّد أنّ الأنبياء(عليه السلام) عامّة وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) خاصّة قد أولاهم الله –تعالى- عناية خاصّة ورعاية مميّزة منذ بدء تكوينهم لعلمه تعالى بقابليّاتهم وارتفاع شأنهم، فاختارهم ليشملهم بعنايته...
- إنّ كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعادل القرآن الكريم في حجّيّته ومن هنا لا يصحّ الأخذ بالشريعة بدون الرجوع إلى الكتاب العزيز وكلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليه السلام) كما دلَّ حديث الثقلين المشهور والمتّفق عليه بين المسلمين.
- إنّ هذا التشديد الدائم على هذا التعلّق والترابط الوثيق بين كلام الله في كتابه العزيز وما فيه من أوامر ونواهٍ وبين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهدف إلى بيان أنّ الدين لا يكتمل بدون الحفاظ على هذا الترابط والالتزام بكلام النبيّ وتشريعاته وتوجيهاته.
- إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان مؤيّداً بروح القدس ومن خلال التأييد بروح القدس يتّصل بالعلم الإلهيّ الغيبيّ اليقينيّ الذي لا شكّ فيه ولا يعتريه شبهة وليس فيه احتمال للخطأ والزلل.
- إنّ استغفار الأنبياء وتوبتهم ليست عن حرام ارتكبوه، ولكنَّ مقامهم ومرتبتهم الكماليّة وعلمهم ومعرفتهم بالله تعالى وعظيم نعمته،يجعلهم يشعرون دائماً بالتقصير ممّا يدفعهم إلى الاعتذار والاستغفار.
121
99
الدرس العاشر: النبوّة الخاصّة نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
فكر وأجب
ما الهدف من التأكيد الدائم للترابط بين الكتاب الكريم من جهة وبين النبي (صلى الله عليه وآله) والعترة(عليه السلام) من جهة أخرى؟
ورد في الرواية قوله(عليه السلام): "وإِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ ولَا يُخْطِئُ"، اشرح هذه العبارة.
كيف يمكن أن نفهم توبة الأنبياء(عليه السلام) على ضوء القول بعصمتهم؟
122
122
100
الدرس الحادي عشر: الإمامة
الدرس الحادي عشر: الإمامة
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يشرح ضرورة الإمامة في الروايات الشريفة.
يقرأ الحاجة إلى الإمام المعصوم(عليه السلام) في البعد التشريعي.
يستنتج من الروايات الحاجة إلى الإمام المعصوم(عليه السلام) في البعد التكويني.
123
101
الدرس الحادي عشر: الإمامة
الدرس الحادي عشر: الإمامة
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يشرح ضرورة الإمامة في الروايات الشريفة.
يقرأ الحاجة إلى الإمام المعصوم(عليه السلام) في البعد التشريعي.
يستنتج من الروايات الحاجة إلى الإمام المعصوم(عليه السلام) في البعد التكويني.
123
102
الدرس الحادي عشر: الإمامة
الروايات
ــ عنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ(عليه السلام) -أي الإمام الكاظم (عليه السلام)- قَالَ: "إِنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ لِلَّه عَلَى خَلْقِه إِلَّا بِإِمَامٍ حَتَّى يُعْرَفَ"[1].
ــ وعن أبي عبد الله(عليه السلام): "... كلّما مضى منهم إمام، نصب لخلقه من عقبه إماماً بيّناً، وهادياً نيّراً وإماماً قيّماً، يهدون بالحقّ وبه يعدلون، حجج الله ودعاته، ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، ويستهلّ بنورهم البلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما عُلم، والردّ إليهم فيما جُهل،..."[2].
ــ وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟قَالَ(عليه السلام):لَوْ بَقِيَتِ الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ"، وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام) قَالَ: "لَوْ أَنَّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرْضِ سَاعَةً لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِه"[3].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص177.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص4.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص179.
125
103
الدرس الحادي عشر: الإمامة
مقدمة
إنّ البحث في مسألة الإمامة هو من المباحث البالغة الأهميّة، وذلك لما يترتّب عليها على مستوى إيمان المسلم، ولما فيها من خلاف انقسم بسببه المسلمون بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن هذه الدنيا، والخلاف في الإمامة ليس في أصله خلافاً حول الشخصيّة التي يجب أن تتولّى الخلافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) والإمامة من بعده، فإنّه وإن وقع الخلاف في تحديد تلك الشخصيّة التي يجب أن تتولّى هذا المنصب بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلّا أنّه خلاف متفرّع عن الخلاف الحقيقيّ والأساسيّ وهو الخلاف على حقيقة الإمامة وماهيّتها، حيث يرى غير الإماميّة من المسلمين أنّ الإمامة ليست سوى إدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ وسياسته.
بينما يرى الإماميّة أنّ للإمامة مقاماً أرفعاً ودوراً خطيراً متعدّد الجوانب والاتّجاهات. ويمكن تلخيص هذا المقام وذلك الدور بأنّ الإمامة هي "استمرار لخطّ النبوّة بشكل عامّ والنبوّة الخاصّة بشكل خاصّ"، أو فقل هي "استمرار خطّ الهداية الإلهيّة للبشريّة من خلال شخصيّة معصومة". ولذلك هي تعنى بالتصدّي للمهمّات النبويّة والقيام بالدور نفسه الذي كان يتولّاه النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) ما عدا مسألة الوحي ونزول القرآن فإنّ الوحي انقطع، والرسالة خُتِمَت برسول الله (صلى الله عليه وآله).
فالإمام لا يتلقّى وحياً قرآناً وتشريعاً ورسالة سماويّة جديدة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أمّا ما سوى ذلك من الأدوار والوظائف ومهمّات النبوّة فكلّ ذلك يؤول بعد النبيّ إلى الإمام وبما أن مهمّات الإمامة هي مهمات النبيّعينها -إلّا الوحي اليه- فلا بدّ بالبداهة من أن يتحلّى الإمام بالصفات والكمالات التي اشترطنا وجودها في النبيّ وأن يختصّ بالمزايا نفسها من العصمة والعلم والحكمة والتعيين من قِبل الله تعالى، ولذلك كانت طاعته واجبة كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبناء على كلّ ذلك يتّضح أنّ الكثير من المباحث هي مشتركة بين النبوّة والإمامة.
126
104
الدرس الحادي عشر: الإمامة
ضرورة الإمامة
ورد في رواية شريفة عن داوود الرقّي عنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ(عليه السلام)-أي الإمام الكاظم- قَالَ: "إِنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ لِلَّه عَلَى خَلْقِه إِلَّا بِإِمَامٍ حَتَّى يُعْرَفَ"[1] وقد ورد هذا النصّ عن الإمامين الصادق والرضا (عليه السلام) أيضاً.
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: "... اللَّهُمَّ إِنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ"[2].
وفي رواية ثالثة عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: "لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ الإِمَامُ أَحَدَهُمَا"[3]، وقد ورد هذا المعنى في عدّة روايات أيضاً.
هذه الروايات تشكّل نموذجاً لمجموعة من الروايات المستفيضة -بل المتواترة معنىً- والمروية عن أكثر من إمام معصوم(عليه السلام) تشترك في الدلالة على ضرورة وجود الحجّة لله تعالى على خلقه في كلّ زمان، بل قد صرّحت الرواية الثالثة بأنّ هذه الضرورة والحاجة قائمة حتّى لو لم يكن على الأرض إلّا شخص واحد غير الإمام، إتماماً للحجّة عليه من جهة، وبياناً لاستمرار الحاجة الدائمة للإمام المعصوم الذي يتمثّل به الحقّ لكلّ من أراد الطلب والوصول إلى الحقّ ولو كان الطالب واحداً.
وهذا تعبير عن "دليل اللطف" الذي يفرض ضرورة وجود الحجّة على الأرض ما دامت الأرض، فإذا ما ارتفعت الحجّة السابقة فلا بدّ من حجّة تخلّفها وتقوم مقامها، ويستمرّ اللطف من خلالها ويتمثّل به معرفة الحقّ، وهذا هو مقتضى الحكمة الإلهيّة التي من خلالها اثبتنا ضرورة وجود الأنبياء والرسل لتتمّ الحجّة
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص177.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص178.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص180.
127
105
الدرس الحادي عشر: الإمامة
على الناس. ولذلك كان من مهمّات الحجّة هو التنصيص على الحجّة الذي يأتي من بعده وتعيينه للناس، وعلى هذه الطريقة جرى الأنبياءُ السابقون، وعليها جرى النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) والائمة المعصومون(عليه السلام) واحداً بعد واحد سوى الإمام الحجّة(عليه السلام)[1].
الحاجة إلى الإمام المعصوم في البعدين التشريعيّ والتكوينيّ
إنَّ الحاجة إلى الامام الحجّة المعصوم تشمل كلّاً من البعد التشريعيّ والبعد التكوينيّ في ما تحتاج إليه البشرية:
أوّلاً: الحاجة في البعد التشريعيّ:
كحفظ الرسالة السماويّة الخالدة من الضياع، وضمان بقائها سالمة عن التحريف، فلو لم يبق بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) من يضمن بقاءها وحفظها من التحريف اللفظيّ والمضمونيّ لم يبقَ حينئذٍ ما يُلزم الناس باتّباعها خاصة مع ما نشاهده من التباين والاختلاف في فهم مضامين الشريعة سواء في العقيدة أو التشريع، فلا بدّ من عَلَمٍ يكون هو الميزان والمرجع فيما تختلف فيه الناس، فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَال:َ سَمِعْتُه يَقُولُ: "إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو إِلَّا وفِيهَا إِمَامٌ قَيْمَا إِنْ زَادَ الْمُؤْمِنُونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ وإِنْ نَقَصُوا شَيْئاً أَتَمَّه لَهُمْ"[2].
وفي خبر آخر عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَحَدِهِمَا(عليه السلام) قَالَ: قَالَ(عليه السلام): "إِنَّ اللَّه لَمْ يَدَعِ الأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ ولَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُعْرَفِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ"[3].
[1]وهو ما أفادته الرواية الثانية المذكورة أول الدرس.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص178.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص178.
128
106
الدرس الحادي عشر: الإمامة
ثانياً: الحاجة في البعد التكويني:
إنّ الحاجة إلى المعصوم والحجّة الإلهيّة لا تقتصر على مجال التشريع فحسب، بل تتوسّع دائرة ضرورة وجود المعصوم الحجّة لتشمل عالم التكوين أيضاً وذلك من جهتين:
الأولى: حاجة الأرض لوجود المعصوم على ظهرها، وقد أشارت جملة من الروايات إلى هذا المعنى منها ما عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أنّه قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ(عليه السلام): لَوْ بَقِيَتِ الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ" وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام) قَالَ: "لَوْ أَنَّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرْضِ سَاعَةً لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِه"[1]، وهذه العلاقة التكوينيّة بين الحجّة وبين الأرض بحيث يكون وجود الامام سبباً لبقائها واستقرارها وثباتها في النظام الكونيّ يمكن توجيهها بأنَّ الحجّة إنّما هو خليفة الله –تعالى- على الأرض، ومع فرض عدم وجود الحجّة عليها فإنّه ينتفي الغرض من بقائها، فبقاؤها بدونه يكون من غير غاية ولا هدف، وهذا مخالف للحكمة، فوجود الحجّة المعصوم يشكّل حاجة ضروريّة لبقاء الأرض ومن عليها.
هذا فضلاً عما يمكن قوله من أنّ وجود الإنسان الكامل المعصوم هو من مقوّمات وجود الكون وضمانة لبقائه حاله حال حاجة الكون في وجوده للشمس والقمر والماء والهواء، فوجود الحجة حاجة ضروريّة لوجود الكون وبقائه، لكنّها حاجة غير ماديّة.
الثانية: حاجة الإنسان تكوينيّاً لما تمثّله حقيقة الإمامة، من "سَوقُ النفوس القابلة نحو الهداية والكمال"، ففي الخبر: "...جَعَلَهُمُ اللَّه -عزَّ وجلَّ- أَرْكَانَ الأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بأَهْلِهَا وعُمدَ الإِسْلَامِ ورَابِطَةً عَلَى سَبِيلِ هُدَاه لَا يَهْتَدِي هَادٍ إِلَّا بِهُدَاهُمْ ولَا يَضِلُّ خَارِجٌ مِنَ الْهُدَى إِلَّا بِتَقْصِيرٍ عَنْ حَقِّهِمْ..."[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص179.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص198.
129
107
الدرس الحادي عشر: الإمامة
فالتعبير بقوله: "ورَابِطَةً عَلَى سَبِيلِ هُدَاه"، يُشعر بوجود رابطة تكوينيّة بين الهادي والمهتدي، وهذا المعنى يُستفاد أيضًا من قول أمير المؤمنين(عليه السلام) في رواية -سيأتي ذكرها لاحقاً- يصف فيها المتّبعين لأئمّة الدين بقوله: "الَّذِينَ يَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِهِمْ ويَنْهَجُونَ نَهْجَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُمُ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الإِيمَانِ فَتَسْتَجِيبُ أَرْوَاحُهُمْ لِقَادَةِ الْعِلْمِ"[1]، والشاهد واضح في قوله(عليه السلام) فتستجيب أرواحهم لقادة العلم.
والوظائف الشرعيّة المتقدّمة متفرّعةٌ عن مقام الإمامة هذا، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّة يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ﴾[2].
قال العلّامة الطباطبائي في الميزان: "إنّ هذه الهداية المجعولة من شؤون الإمامة ليست هي بمعنى إراءة الطريق، لأنّ الله سبحانه جعل إبراهيم(عليه السلام) إماماً بعدما جعله نبيّاً-كما أوضحناه في تفسير قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماۖ﴾- ولا تنفكّ النبوّة عن الهداية بمعنى "إراءة الطريق" فلا يبقى للإمامة إلّا الهداية بمعنى "الإيصال إلى المطلوب" وهي نوع تصرّف تكوينيّ في النفوس بتسييرها في مدارج الكمال ونقلها من موقف معنويّ إلى موقف آخر.
وإذ كانت تصرّفاً تكوينيّاً وعملاً باطنيّاً فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الامر التشريعيّ الاعتباريّ بل ما يفسّره في قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡء وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾[3]، فهو الفيوضات المعنويّة والمقامات الباطنيّة التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبّسون بها رحمةً من ربّهم.
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص335.
[2]سورة الأنبياء، الآية 73.
[3]سورة يس، الآيتان 82 ـ 83.
130
108
الدرس الحادي عشر: الإمامة
وإذا كان الإمام يهدي بالأمر -والباء للسببيّة أو الآلة- فهو متلبّس به أولاً ومنه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنيّة وأخذها كما أنّ النبيّ رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات الظاهريّة وهي الشرائع الإلهيّة تنزل بالوحي على النبيّ وتنتشر منه وبتوسّطه إلى الناس وفيهم، والإمام دليل هادٍ للنفوس إلى مقاماتها كما أنّ النبيّ دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقّة والأعمال الصالحة...»[1].
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ لَه يَذْكُرُ فِيهَا حَالَ الأَئِمَّةِ(عليه السلام) وصِفَاتِهِمْ: "إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِه وأَبْلَجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مِنْهَاجِه وفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِه فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِه وَجَدَ طَعْمَ حَلَاوَةِ إِيمَانِه وعَلِمَ فَضْلَ طِلَاوَةِ إِسْلَامِه، لأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى نَصَبَ الإِمَامَ عَلَماً لِخَلْقِه وجَعَلَه حُجَّةً عَلَى أَهْلِ مَوَادِّه وعَالَمِه، وأَلْبَسَه اللَّه تَاجَ الْوَقَارِ وغَشَّاه مِنْ نُورِ الْجَبَّارِ يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْه مَوَادُّه ولَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّه إِلَّا بِجِهَةِ أَسْبَابِه ولَا يَقْبَلُ اللَّه أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلَّا بِمَعْرِفَتِه فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَرِدُ عَلَيْه مِنْ مُلْتَبِسَاتِ الدُّجَى ومُعَمَّيَاتِ السُّنَنِ ومُشَبِّهَاتِ الْفِتَنِ..."[2].
ولا بدّ من إعادة تأكيد أنّ هذا الرابط والعلاقة التكوينيّة بين الحجّة المتمثّلة بالإمام من جهة وبين الأرض والبشريّة من جهة أخرى هي علاقة ورابطة ثابتة لكلّ مَن ثبتت إمامته كالنبيّ إبراهيم(عليه السلام) ولا تنحصر بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت(عليهم السلام).
[1]العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج14، ص304.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص203.
131
109
الدرس الحادي عشر: الإمامة
المفاهيم الرئيسة
-يُعَدُّ مبحث الإمامة من المباحث المهمّة حيث حصل خلاف شديد بين المسلمين بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) حول مسألة الإمامة.
-حقيقة الخلاف في موضوع الإمامة يتمحور حول ماهيَّة الإمامة وحقيقتها، ومنه يتفرّع الاختلاف حول مواصفات الإمام، وكيفيّة تعيينه، ومستوى علمه، وغير ذلك.
-يحصر أهل السنّة مفهوم الإمامة بإدارة شؤون الناس وسياسة المجتمع، بينما يرى الشيعة أنّ مفهوم الإمامة أعمق من ذلك، فالإمامة هي استمرار لخطّ النبوّة ووظائف النبيّ سوى تلقّي الوحي.
-هناك روايات مستفيضة -بل متواترة معنىً- ومرويّة عن أكثر من إمام معصوم(عليه السلام) تشترك في الدلالة على ضرورة وجود الحجّة لله تعالى على خلقه في كلّ زمان، بل قد صرّحت بأنّ هذه الضرورة والحاجة قائمة حتّى لو لم يكن على الأرض إلّا شخص واحد غير الإمام، إتماماً للحجة عليه من جهة، وبياناً لاستمرار الحاجة الدائمة للإمام.
- إنّ وجود الإنسان الكامل المعصوم - نبيّاً كان أو إماماً - تحتاج إليه البشريّة تكويناً وتشريعاً، بل الأرض تحتاج إليه، ولولاه لساخت بأهلها.
132
110
الدرس الحادي عشر: الإمامة
فكر وأجب
عرّف الإمامة عند الشيعة واذكر دورها؟
ما الدليل على ضرورة الإمامة؟
اذكر –باختصار- وجه الحاجة إلى الإمام المعصوم في البعد التشريعيّ.
اذكر-باختصار- وجه الحاجة إلى الإمام المعصوم في البعد التكوينيّ.
133
111
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
أهداف الدرس
على المتعلِّم، مع نهاية هذا الدرس، أن:
يعدّد صفات الإمام في الروايات الشريفة.
يستنتج دور الإمام(عليه السلام) من الروايات.
يشرح وجوب البحث عن الإمام ومعرفته.
135
112
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
الروايات
فقد ورد في خبر عبد العزيز بن مسلم عن الرضا(عليه السلام) في وصف الإمام: "...الإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، والْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وعِزُّ الْمُسْلِمِينَ...الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه لَا يُدَانِيه أَحَدٌ ولَا يُعَادِلُه عَالِمٌ ولَا يُوجَدُ مِنْه بَدَلٌ ولَا لَه مِثْلٌ ولَا نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّه مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْه لَه ولَا اكْتِسَابٍ بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ... فَأَيْنَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا وأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا...رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللَّه واخْتِيَارِ رَسُولِ اللَّه(صلى الله عليه وآله) وأَهْلِ بَيْتِه (عليه السلام) إِلَى اخْتِيَارِهِمْ والْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ وقَالَ -عزَّ وجلَّ- ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِن وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ﴾ ... فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ؟! والإِمَامُ عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ ورَاعٍ لَا يَنْكُلُ مَعْدِنُ الْقُدْسِ والطَّهَارَةِ والنُّسُكِ والزَّهَادَةِ والْعِلْمِ والْعِبَادَةِ ... مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّه -عزَّ وجلَّ- نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللَّه حَافِظٌ لِدِينِ اللَّه. إِنَّ الأَنْبِيَاءَ والأَئِمَّةَ(عليه السلام) يُوَفِّقُهُمُ اللَّه ويُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِه وحِكَمِه مَا لَا يُؤْتِيه غَيْرَهُمْ فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ
137
113
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
الزَّمَانِ فِي قَوْلِه -تَعَالَى-: ﴿أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾... وإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَه اللَّه -عزَّ وجلَّ- لأُمُورِ عِبَادِه شَرَحَ صَدْرَه لِذَلِكَ وأَوْدَعَ قَلْبَه يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ وأَلْهَمَه الْعِلْمَ إِلْهَاماً فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَه بِجَوَابٍ ولَا يحيرُ فِيه عَنِ الصَّوَابِ فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا والزَّلَلِ والْعِثَارِ يَخُصُّه اللَّه بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَه عَلَى عِبَادِه وشَاهِدَه عَلَى خَلْقِه و﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾..."[1].
وفي روايةٍ شريفة عن الامام الصادق(عليه السلام): "... فَلَمْ يَزَلِ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَخْتَارُهُمْ لِخَلْقِه مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ(عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُلِّ إِمَامٍ يَصْطَفِيهِمْ لِذَلِكَ ويَجْتَبِيهِمْ ويَرْضَى بِهِمْ لِخَلْقِه ويَرْتَضِيهِمْ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ نَصَبَ لِخَلْقِه مِنْ عَقِبِه إِمَاماً عَلَماً بَيِّناً وهَادِياً نَيِّراً وإِمَاماً قَيِّماً وحُجَّةً عَالِماً أَئِمَّةً مِنَ اللَّه يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِه يَعْدِلُونَ حُجَجُ اللَّه ودُعَاتُه ورُعَاتُه عَلَى خَلْقِه يَدِينُ بِهَدْيِهِمُ الْعِبَادُ وتَسْتَهِلُّ بِنُورِهِمُ الْبِلَادُ ويَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلَادُ جَعَلَهُمُ اللَّه حَيَاةً لِلأَنَامِ ومَصَابِيحَ لِلظَّلَامِ ومَفَاتِيحَ لِلْكَلَامِ ودَعَائِمَ لِلإِسْلَامِ جَرَتْ بِذَلِكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللَّه عَلَى مَحْتُومِهَا فَالإِمَامُ هُوَ الْمُنْتَجَبُ الْمُرْتَضَى والْهَادِي الْمُنْتَجَى والْقَائِمُ الْمُرْتَجَى اصْطَفَاه اللَّه بِذَلِكَ واصْطَنَعَه عَلَى عَيْنِه فِي الذَّرِّ حِينَ ذَرَأَه وفِي الْبَرِيَّةِ حِينَ بَرَأَه... مَعْصُوماً مِنَ الزَّلَّاتِ مَصُوناً عَنِ الْفَوَاحِشِ كُلِّهَا... فَلَيْسَ يَجْهَلُ حَقَّ هَذَا الْعَالِمِ إِلَّا شَقِيٌّ ولَا يَجْحَدُه إِلَّا غَوِيٌّ ولَا يَصُدُّ عَنْه إِلَّا جَرِيٌّ عَلَى اللَّه جَلَّ وعَلَا"[2].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص200 ـ 203.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص203 ـ 205.
138
114
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
صفات الإمام بدلالة العقل
لا يحتاج البحث عن صفات الأئمة (عليه السلام) وميزاتهم وخصائصهم -من قبيل العصمة والعلم وغير ذلك- إلى كبير جهد فإنّه يكون من باب التكرار لما تقدّم ذكره من كون الإمامة كالنبوّة -إلّا الوحي- وبالتالي فإنّ الصفات التي دلّت الأدلّة السابقة على ثبوتها في النبيّ هي نفسها، وبالأدلّة نفسها تثبت في الإمام الذي يقوم مقام النبيّ ويناط به دور النبيّ من تبليغ الدين وحفظ الرسالة والشريعة، وإلّا لو فرضنا أن الذي يقوم مقام النبيّ لا يتحلّى بصفات وخصائص النبي فإنّ ذلك يؤدّي إلى نقض الغرض وتضييع الهدف وانتفاء الحجّة على الناس ومن أهمّ تلك الصفات التي تثبت للإمام هي العلم والعصمة وكمال الطاعة لله والتعيين من قِبل الله –تعالى-.
صفات الإمام بدلالة النقل
وردت جملة من الروايات الشريفة تبيّن اتّصاف الأئمة بالصفات الضروريّة المتقدّم ذكرها وتؤكدها، أهمّها قابليّتهم لتحمّل هذا الدور والوظيفة الإلهيّة.
ومنها روايات جامعة تتعرّض لذكر مقام الإمامة ودورها والحاجة إليها، وتبيّن صفات الإمام، ومن أبرز هذا النوع من الروايات الرواية الواردة عن الإمام الرضا(عليه السلام) التي ذكرت في صدر الدرس[1]:
أوّلاً: العصمة:
إنّ الرواية الجليلة -التي تقدّمت عن الإمام الرضا(عليه السلام)- واضحة الدلالة على العصمة والطهارة من الذنوب، وعلى التوفيق والتسديد الإلهيّ للإمام، وهي تدلّ على كون هذه الصفات كلِّها ضروريّة للإمام ليكون حجّة لله على عباده إذ بدونها لا يكون حجّة وينتفي الغرض من تنصيبه إماماً للأمّة.
[1]في مقابل الروايات الجامعة هناك روايات تعرضت بشكل متفرق لذكر بعض هذه الصفات والخصائص في الإمام.
139
115
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
ولقد صرّح(عليه السلام) بالعصمة بقوله: "الإمام المطهّر من الذنوب، المبرأ من العيوب» وقوله: «فهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل".
ومن الروايات التي ذكرت بعض هذه الصفات بشكل متفرّق:
ما ورد عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) أنّه قَالَ: "إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى طَهَّرَنَا وعَصَمَنَا وجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِه وحُجَّتَه فِي أَرْضِه وجَعَلَنَا مَعَ الْقُرْآنِ وجَعَلَ الْقُرْآنَ مَعَنَا لَا نُفَارِقُه ولَا يُفَارِقُنَا"[1].
وأمّا في خصوص التسديد والتأييد الإلهيين للإمام فقد ورد في عدّة روايات منها الرواية الشريفة عن أبي بصير قال: "سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ﴾؟ قال(عليه السلام): خلقٌ من خلقِ الله -عزَّ وجلَّ- أعظمُ من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمة من بعده"[2].
ثانياً:العلم:
ورد في خبر عبد العزيز –المتقدّم- عن الرضا(عليه السلام): "الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ... إِنَّ الأَنْبِيَاءَ والأَئِمَّةَ(عليه السلام) يُوَفِّقُهُمُ اللَّه ويُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِه وحِكَمِه مَا لَا يُؤْتِيه غَيْرَهُمْ فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ الزَّمَانِ... وإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَه اللَّه -عزَّ وجلَّ- لأُمُورِ عِبَادِه شَرَحَ صَدْرَه لِذَلِكَ وأَوْدَعَ قَلْبَه يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ وأَلْهَمَه الْعِلْمَ إِلْهَاماً فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَه بِجَوَابٍ ولَا يُحَيَّرُ فِيه عَنِ الصَّوَابِ".
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص191.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص273؛ وسورة الشورى، الآية 52.
140
116
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
تشير الرواية إلى أنّ الذي يتولى منصباً إلهيّاً يفيض الله عليه علماً خاصّاً فيؤتيه من مخزون علمه ويشرح صدره لتلقّي هذا العلم إضافةً إلى ما يتلقاه من علوم الأنبياء(عليه السلام) كما ورد في الحديث الشريف عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ(عليه السلام): "إِنَّ الْعِلْمَ يُتَوَارَثُ فَلَا يَمُوتُ عَالِمٌ إِلَّا تَرَكَ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِه أَوْ مَا شَاءَ اللَّه"[1].
وورد عن الحارث بن المغيرة عَنْ أَبي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام) قَالَ: "قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ عِلْمِ عَالِمِكُمْ؟ قَالَ(عليه السلام): وِرَاثَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) ومِنْ عَلِيٍّ(عليه السلام). قالَ: قُلْتُ: إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّه يُقْذَفُ فِي قُلُوبِكُمْ ويُنْكَتُ فِي آذَانِكُمْ؟
قَالَ(عليه السلام): أَوْ ذَاكَ"[2].
فالأئمة(عليه السلام) يتلقّون علومهم خلَفاً عن سلف، ومعصوماً عن معصوم، ووعيهم لما يتلقّونه، وفهمهم له وحفظهم له ليس فيه أيّ احتمال للخطأ وإنّما يحصل بتوفيق وتسديد من الله، وإذا حصلت حاجة لجديد علم فإنّ الله يلهمهم إيّاه[3] من دون أن يكون الإلهام وحيَ نبوّة وإنّما إلهام يشبه ما تحدّث عنه القرآن من إلهام أمّ موسى (عليه السلام) والسيّدة مريم (عليه السلام) وغيرهما، وليس كلّ إلهام أو تحديث يساوي النبوّة.
وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام): "... فَنَحْنُ واللَّه شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَعْدِنُ الْعِلْم ومُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ"[4].
فقوله(عليه السلام): ومختلف الملائكة واضح في دلالته على ما يتلقّونه بالإلهام من علم على مستوى المعرفة وتسديد في المواقف والعمل.
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص223.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص264.
[3]ثمّة كلام بين الأعلام أنّ علومهم (عليهم السلام) تدريجيّة (عند الحاجة) أو أنّها جميعا فعليّة إلّا أنّها تظهر عند الحاجة.
[4]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص221.
141
117
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
ويكفي في الدلالة على سعة علم الإمام أنّ الله تعالى جعله حجّة له على الخلق فيجب أن يكون عالماً بكلّ ما يحتاجون إليه وهذا هو مقتضى الحكمة، وقد ورد هذا المضمون في عدد من الروايات منها ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): "إنَّ الله أحكم وأكرم وأجلّ وأعلم من أن يكون احتجّ على عباده بحجّة ثم يُغَيِّبُ عنه شيئاً من أمرهم"[1].
اختيار الإمام
في الخبر المتقدّم عن الرضا(عليه السلام): "...الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه، لَا يُدَانِيه أَحَدٌ، ولَا يُعَادِلُه عَالِمٌ، ولَا يُوجَدُ مِنْه بَدَلٌ، ولَا لَه مِثْلٌ ولَا نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّه مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْه لَه، ولَا اكْتِسَابٍ بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ... رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللَّه واخْتِيَارِ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) وأَهْلِ بَيْتِه إِلَى اخْتِيَارِهِمْ والْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾[2]... فَأَيْنَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا وأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا...فَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَيَخْتَارُونَه؟!".
لقد أنعم الله –تعالى- على الإنسان بنعمة العقل والاختيار وقد اتّفقت آراء العقلاء تبعاً لحكم العقل على أنّ الاختيار المنتج والمحقِّق للمصلحة والهدف هو الاختيار الواعي، وهو الاختيار المبنيّ على العلم والمعرفة، وهو أساس يُعتمد عليه في جميع الجوانب المتعلّقة بالإنسان، وأمّا الاختيار الأعمى، وهو الذي لا يعتمد على علم ووعي، فلن يكون منتجاً ولن تتحقّق من خلاله المصلحة والهدف، ولذلك لا نجد عاقلاً يقدم على اختيار شيء، إن لم يكن عالماً ومحيطاً
[1]الشيخ الصفار، بصائر الدرجات، مصدر سابق، ص142.
[2]سورة القصص، الآية 68.
142
118
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
بخصوصيّاته، واشتماله على ما يحقّق له الغاية والمصلحة التي يصبو إليها، ومن هنا يُفتح الباب للكلام عن الإمام والقائد للأمّة الذي يجب أن يتّصف بمواصفات خاصّة تؤهّله للقيام بهذه المهمّة الإلهيّة العظيمة والجليلة، التي عليها يتوقّف مصير الأمّة أفراداً ومجتمعات.
وقد تقدّم أنّ الإمامة كالنبوّة يشترط فيها العصمة والعلم الخاصّ الذي لا يداني فيه أحدٌ المعصوم، وغيرها من الصفات ممّا تقدّم ذكره.
وبما أنّ الاطّلاع على الشخصيّة التي تتحلّى بتلك الصفات غير ممكن لعامّة البشر فالعلم بها وبمن يحملها منحصر بالله تعالى، فهو العالم بمن خلق، وعلى من أفاض العصمة والعلم؛ لذلك كلّه كان اختيار تلك الشخصيّة منحصراً فيه تعالى ولا دور للأمّة فيه، فيختار الله تعالى الأنبياء ويزوّدهم بالمعجزة دليلاً على اختياره لهم لهذه المهمّة، والله هو الذي يختار الأئمة، ويظهره لهم من خلال إخبار النبيّ وإعلانه هذه الشخصيّة المعصومة، إضافة إلى بعض ما يظهر من الإمام من خوارق للعادة.
وهذا الدليل العقليّ أشارت إليه الرواية المتقدّمة عن الرضا(عليه السلام) "من ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ"، وقوله: "فَأَيْنَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا وأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا".
وفي روايةٍ شريفة عن الإمام الصادق(عليه السلام): "... فَلَمْ يَزَلِ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَخْتَارُهُمْ لِخَلْقِه مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ(عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُلِّ إِمَامٍ يَصْطَفِيهِمْ لِذَلِكَ ويَجْتَبِيهِمْ ويَرْضَى بِهِمْ لِخَلْقِه ويَرْتَضِيهِمْ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ نَصَبَ لِخَلْقِه مِنْ عَقِبِه إِمَاماً"[1].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص203 ـ 205.
143
119
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
طاعة الإمام
بعدما تقدّم من ضرورة وجود إمام يتولّى وظيفة النبوّة ودورها، ويُضمَن من خلاله استمرار خطّ الهداية الإلهيّة، وما تقدم عن ضرورة عصمته وعلمه واختيار الله تعالى له، بعد كلّ ما تقدّم تصبح مسألة وجوب طاعة الإمام -والتزام أوامره ونواهيه والاقتداء به- من البديهيّات التي لا تحتاج إلى دليل، ومع ذلك فإنّ الأدلّة الروائيّة على وجوب طاعة الإمام كالأدلّة على وجوب طاعة النبيّ كثيرة، ففي خبر عبد العزيز – المتقدّم- عن الرضا(عليه السلام): "مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّه -عزَّ وجلَّ- نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللَّه حَافِظٌ لِدِينِ اللَّه".
وفي الحديث عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله –تعالى-: "﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ إِيَّانَا عَنَى خَاصَّةً، أَمَرَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِطَاعَتِنَا..."[1].
وجوب البحث عن الإمام ومعرفته
ورد في رواية شريفة عن زرارة قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام): "أَخْبِرْنِي عَنْ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ مِنْكُمْ أواجبة عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ؟
فَقَالَ(عليه السلام):إِنَّ اللَّه -عزَّ وجلَّ- بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ رَسُولاً وحُجَّةً لِلَّه عَلَى جَمِيعِ خَلْقِه فِي أَرْضِه، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّه وبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه واتَّبَعَه وصَدَّقَه فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ مِنَّا وَاجِبَةٌ عَلَيْه..."[2].
تقدّمت الإشارة –في الدرس السابق- إلى ضرورة وجود إمام معصوم في كلّ عصر وهو مقتضى الحكمة الإلهيّة، وذلك بسبب حاجة البشر إلى إمام، وتقدّم عرض جملة من الروايات المؤيّدة والمرشدة إلى هذه الضرورة، وأنّ الله تعالى إذا ما مضى إمامٌ ينصب لخلقه إماماً خلفاً له، فالعقل حاكم بلزوم وجود إمام
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص276، والنساء، الآية 63.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص181.
141
120
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
للناس، ولزوم تنصيبه من الله تعالى، وكذلك يحكم العقل بوجوب البحث عن الإمام ومعرفته، وقد تقدّم في مبحث النبوّة موافقة الإمام الصادق(عليه السلام) لما قرّره منصور بن حازم بقوله: "... فَمَنْ لَمْ يَأْتِه الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَه أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ..."[1] وذلك استجابة لحكم العقل بضرورة وجود حجّة لله على الناس. وكذلك الحال في الإمام الذي يمثّل الحجّة لله على الناس في زمانه، فمن لم يكن إماماً فينبغي له أن يطلب الإمام -وقد أشارت رواية زرارة المتقدّمة إلى الترابط بين النبيّ والإمام- وذلك لأنّه يستحيل أن يتركالله تعالى الأمّة من غير راعٍ ومن دون هادٍ لها نحو صلاح دنياها وآخرتها.
ثمّة مجموعة أخرى من الروايات تصبّ في الاتجاهنفسه، وقد تشترك في اللفظ أيضاً، وهي مشهورة بين المسلمين تؤكّد ضرورة وجود الإمام، وضرورة معرفته، إذ بدونهما يموت المرء مِيتة أهل الجاهليّة.
ورد في رواية شريفة عن أبي عبد الله(عليه السلام): "فِي قَوْلِ اللَّه -عزَّ وجلَّ- ﴿وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرا كَثِيراۗ﴾ فَقَالَ: طَاعَةُ اللَّه ومَعْرِفَةُ الإِمَامِ"[2]. وذِكرُ الامام(عليه السلام) للآية المتعلّقة بالحكمة، وربطها بطاعة الله ومعرفة الإمام فيه إشارة إلى أنّ العاقل الحكيم يجب أن يصل إلى هذه النتيجة.
وقد أكّدت ذلك الرواية الشريفة الواردة عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): "يَا أَبَا حَمْزَةَ، يَخْرُجُ أَحَدُكُمْ فَرَاسِخَ فَيَطْلُبُ لِنَفْسِه دَلِيلاً وأَنْتَ بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَجْهَلُ مِنْكَ بِطُرُقِ الأَرْضِ فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ دَلِيلاً"[3].
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص169.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص185، وسورة البقرة، الآية 173.
[3]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص184.
145
121
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
وورد في عدّة روايات الإشارة إلى أنّ من ترك البحث لمعرفة الإمام فهو غير معذور:
منها ما ورد عن أبي عبد الله(عليه السلام) عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه(عليه السلام): "إِذَا حَدَثَ عَلَى الإِمَامِ حَدَثٌ فكَيْفَ يَصْنَعُ النَّاسُ؟
قَالَ(عليه السلام): أَيْنَ قَوْلُ اللَّه -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَة مِّنۡهُمۡ طَآئِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ﴾؟! قَالَ(عليه السلام): هُمْ فِي عُذْرٍ مَا دَامُوا فِي الطَّلَبِ وهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُمْ فِي عُذْرٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُهُمْ»[1].
وهذه الروايات وأمثالها تعبير صادق وواضح عن حاجة الأمّة إلى الإمام ووجوب معرفته استجابة لحكم العقل والتزاماً ببناء العقلاء.
ضرورة وجود إمام في هذا الزمان
وبعد كلّ ما تقدّم يصبح الكلام واضحاً عن ضرورة وجود إمام في زماننا -وهو الإمام المهديّ(عج)- ووجوب الاعتقاد بوجوده وضرورة معرفته، بل المطلوب معرفة جميع الأئمة(عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاعتقاد بهم والتسليم بإمامتهم.
ورد في الحديث عن أبي جعفر(عليه السلام): "... إِنَّمَا كُلِّفَ النَّاسُ ثَلَاثَةً: مَعْرِفَةَ الأَئِمَّةِ والتَّسْلِيمَ لَهُمْ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ والرَّدَّ إِلَيْهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه"[2].
وورد أيضاً في رواية جامعة -يذكر فيها جملة من الأمور ممّا تقدّم ذكره وأشار فيها إلى غيبة الإمام (عجّل الله فرجه)- عن أبي إسحاق عن الثقة من أصحاب أمير المؤمنين عن أمير المؤمنين(عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ لَه: "اللَّهُمَّ وإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَأْرِزُ كُلُّه ولَا يَنْقَطِعُ مَوَادُّه، وأَنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ، ظَاهِرٍ
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص378.
[2]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص390.
146
122
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
لَيْسَ بِالْمُطَاعِ أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ، كَيْلَا تَبْطُلَ حُجَجُكَ ولَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ، بَلْ أَيْنَ هُمْ وكَمْ أُولَئِكَ؟ الأَقَلُّونَ عَدَداً والأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّه جَلَّ ذِكْرُه قَدْراً الْمُتَّبِعُونَ لِقَادَةِ الدِّينِ -الأَئِمَّةِ الْهَادِينَ- الَّذِينَ يَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِهِمْ ويَنْهَجُونَ نَهْجَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُمُ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الإِيمَانِ فَتَسْتَجِيبُ أَرْوَاحُهُمْ لِقَادَةِ الْعِلْمِ ويَسْتَلِينُونَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا اسْتَوْعَرَ عَلَى غَيْرِهِمْ ويَأْنَسُونَ بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْه الْمُكَذِّبُونَ وأَبَاه"[1].
فأشار(عليه السلام) إلى أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وما ذلك إلّا لأنّ الهداية منحصرة بوجود الحجّة على الناس من قِبل الله تعالى، وأنّ أتباع الحجج الإلهيّة يتأدّبون بآدابهم وينهجون نهجهم، كما أشار إلى الرابطة التكوينيّة بين المؤمنين وبين الإمام والحجّة بقوله(عليه السلام): "فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُمُ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الإِيمَانِ فَتَسْتَجِيبُ أَرْوَاحُهُمْ لِقَادَةِ الْعِلْمِ» ولذلك: «يَسْتَلِينُونَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا اسْتَوْعَرَ عَلَى غَيْرِهِمْ ويَأْنَسُونَ بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْه الْمُكَذِّبُونَ".
واللافت في الرواية أيضاً أنّ الإمام يتشوّق إلى رؤية هؤلاء المؤمنين في آخر الزمان وهذا مقام عظيم لا يبلغه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.
[1]الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص335؛ يأرز: بمعنى ينقبض وينكمش، راجع: الخليل الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409هـ، ط2، ج7، ص384، مادة أرز.
147
123
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
المفاهيم الرئيسة
يعتبر الشيعة أنّ الإمام يُشترط فيه جميع شروط النبيّ ومؤهّلاته -ما عدا قضيّة الوحي- وذلك لأنّ الإمام يمثّل الحقّ، وبوجوده تتحقّق الحجّة لله على الناس، ويستمرّ خطّ الهداية الإلهيّة، ولذا كان وجود الإمام ضروريّاً.
لقد أشارت الروايات الشريفة إلى صفات الإمام من العصمة، والعلم، ووجوب طاعته وإلى أنّ تعيينه هو اختيار من الله تعالى، فالإمام مطهّرُ من الذنوب، مبرّأ من العيوب، وهو معصوم مؤيّد موفّقٌ مسدّد، مخصوص بالعلم، أودع الله قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم.
مع وجود إمامٍ يتولّى وظيفة النبوّة ودورها، ويضمن استمرار خطّ الهداية الإلهيّة، ويتّصف بالعصمة والعلم والاختيار من الله تعالى تصبح مسألة وجوب طاعته، والالتزام بأوامره ونواهيه والاقتداء به من البديهيّات التي لا تحتاج إلى دليل.
بما أنّ الاعتقاد بالإمامة ومعرفة الإمام أساس في تحقّق الإيمان فقد وجب البحث عن الإمام ومعرفته وبالتالي التسليم له وإطاعته، وقد أرشدت الروايات إلى هذا المعنى وأنّه كما وجب البحث عن النبيّ لمعرفته، وجب عند العقل أيضاً البحث عن الإمام في كلّ زمان.
إنّ الأرض لا تخلو من حجّة وما ذلك إلّا لأنّ الهداية منحصرة بوجود الحجّة على الناس من قِبل الله تعالى.
إنّ الإمام المعصوم(عليه السلام) يتشوّق إلى رؤية المؤمنين في آخر الزمان-حسب الرواية المرويّة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)- وهذا مقام عظيم لا يبلغه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.
148
124
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
فكر وأجب
عدّد صفات الإمام، وتحدّث عن واحدة منها بالتفصيل.
هل الصفات التي اشترطت في النبيّ هي نفسها تشترط في الإمام(عليه السلام)؟ علّل ذلك.
ما السبب لكون اختيار الإمام من الله تعالى، ولا من الناس؟
لماذا عدّت طاعة الإمام المعصوم(عليه السلام) من البديهيّات التي لا تحتاج إلى دليل؟
أُذكرْ دليلاً روائيّاً، وبيّن وجه دلالته على وجوب معرفة الإمام.
149
125
الدرس الثاني عشر: صفات الإمام
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
ابن طاووس، علي بن موسى، الاقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة المعروف بـ(إقبال الأعمال)، النسخة الحجريّة.
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401ه - 1981م، لا.ط.
الحميري القمي، عبدالله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، إيران - قم، 1413ه، ط1.
الخليل الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409ه، ط2.
الخوئي، العلاّمة حبيب الله الهاشمي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي، بنياد فرهنگ امام المهدي (عج)، لا.م، لا.ت، ط4.
151
126
قائمة المصادر والمراجع
السبحاني، الشيخ جعفر، محاضرات في الإلهيات، مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام)، إيران - قم، لا.ت، لا.ط.
الشريف الرضي، السيد محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1.
الصحيفة السجاديّة، تحقيق السيد محمد باقر الموحد الابطحي الإصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي(عليه السلام) مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر، قم – إيران، ط1، 1411هـ.
الصدوق، الشيخ محمد بن علي، التوحيد، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط.
الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط.
الصدوق، الشيخ محمد بن علي، عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت – لبنان، 1404ه – 1984م، لا.ط.
الصفار، الشيخ محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح: الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، إيران - طهران، 1404ه - 1362ش، لا.ط.
الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417ه، ط5.
152
127
قائمة المصادر والمراجع
الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الخلاف، تحقيق: جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1407ه، لا.ط.
الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م.
الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5.
المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليه السلام)، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2.
المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، قدّم له العلم الحجّة السيّد مرتضى العسكري، إخراج ومقابلة وتصحيح السيد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلامية، 1404ه - 1363 ش، ط2.
محمد تقي المجلسي (الأول)، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه "السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي"، بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور، لا.ت، لا.ط.
مسلم النيسابوري، مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح(صحيح مسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.
153