سباقٌ مع القِطار

سيرة الشهيد الشيخ محمد أحمد رملاوي


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2022-01

النسخة:


الكاتب

دار المعارف الإسلامية الثقافية


إهداء

إهداء

إلى الذي عرفْتُ معه كيف يكون الأنسُ في الغربة.

إلى اليد التي أمسكَتْ بقلمي عندما كان على شفا جرفٍ هارٍ، فأحْيَت نبض الحرف.

إليك «رملاوي»...

وقبلك، إلى السيدة فاطمة المعصومة.

 

5


1

شكر وتقدير

شكر وتقدير

قطرتان يحبُّهما الله، وثالثةٌ على سبيل نجاة؛ قطرة دمعٍ في سواد اللَّيل تقرُّبًا إلى الله، وقطرة دمٍ في سبيله...

والثالثة، قطرة حبرٍ عن الشيخ محمد رملاوي، صاحب القطرتين، يسبقها كلمة شكرٍ أتقدم بها إلى اثنين وخمسين ذاكرة؛ من أهلٍ، أقارب، أصدقاء في لبنان وإيران، حيكت بفضلها هذه الرواية.

إلى أسرتي وأصدقائي ممّن قدَّموا لي الدعم المعنوي...

إلى جمعية أحياء؛ إدارتها التي واكبتني ومنحتني الثقة، فريقها الذي ساهم بالجمع والتفريغ والتدقيق...

إلى ملف أدب المقاومة الذي أشرف وقيّم...

إلى فريق الإخراج الفنّي الذي وضع لمساته الإبداعية...

إلى مؤسسة الأنشطة الإعلامية، التي ظلَّلت العمل بالمتابعة الحثيثة... كلّ الشكر.

عسى أن تكون هذه الرواية حافزًا ودعوة للمهتمين لما يمكن أن يقدِّموا من روايات شفويّة وكَتبيّة وصور وخواطر حول الشهداء، الجرحى، المجتمع المقاوم... بما يثري جمعية أحياء وملف الأدب المقاوم وذاكرة المقاومة.

 

6

 


2

مقدمة السيد هاشم صفي الدين "صديق الشهيد"

مقدمة السيد هاشم صفي الدين "صديق الشهيد"

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطاهرين.

لقد سافر الشهيد محمد رملاوي (رحمه الله) إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد انتصار الثورة، ليلتحق بجامعة طهران طالبًا للعلوم الأكاديمية، عساه يصبح طبيبًا ويحقّق آماله في العودة إلى بلده لبنان، ليكون في خدمة أهله ومجتمعه والفقراء الذين أحبّهم وعرف عن قرب معاناتهم. لكنّ مدة مكوثه في طهران فتحت له بابين، الأول: تعلم اللغة الفارسية التي أدخلته إلى المجتمع الإيراني ليفهمه عن قرب، وهو الذي حقّق إنجازًا تاريخيًا لإيران ولكل العالم الإسلامي، والثاني، وهو الأهم: التعرّف على فكر الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، إذ تبحّر في شخصيته الملهمة التي جذبته وملأت عقله وقلبه اعتقادًا ومحبةً، وصولًا إلى العشق، فبدأت مرحلة جديدة في حياته. ولأنّ الشهيد الشيخ محمد (رحمه الله)،

 

9


3

مقدمة السيد هاشم صفي الدين "صديق الشهيد"

كما هو معروف عنه، يؤمن جدًا بالعمل والمبادرة، انسجامًا مع صدقه ومشاعره، فقد أدرك أنّ سرّ العظمة في شخصية الإمام هو الحوزة وأصالتها، وهي مكمن الحاجة للأمة، مما حدا به إلى أن يشدّ الرحال إلى قم المقدّسة طالبًا للعلوم الدينية، وهو التغيير الكبير في مساراته وخياراته، وكان قراره مفاجئًا لكثيرين.

عندما التحق بالحوزة العلمية كان مثالًا للجدّ والمثابرة والتعلّق بالغاية المنشودة، فاكتسى حلّة التواضع والتعلّم والمسؤولية، وسرعان ما اهتدى إلى منبع الاستقامة والتوفيق في الانجذاب إلى علوم الأخلاق، التي أخذت حيّزًا مهمًا في اهتماماته وأولوياته، ولأنه صادقٌ قرنَ المعرفة بالعمل، فاتجه صوب المسلك الذي يوصله إلى المقصد مباشرةً، مستعينًا بطهارة ونقاوة نفسه، فإلى جانب التحصيل العلمي طرق باب خدمة الخلق، فكان البلسم والعون لكلّ من يحتاج إلى معين، من دون فرقٍ بين أساتذته أو زملائه أو حتى طلابه.

لقد نقله هذا السبيل إلى الجبهة التي وجد فيها ملاذه وعشقه، حيث يكون إلى الله تعالى أقرب، فالجبهة بنظره تصهر العلم والأخلاق وخدمة الخلق في الإيثار والتضحية والانفلات من عوالق الهوى، لتجد النفس طريقها سهلًا إلى

 

10


4

مقدمة السيد هاشم صفي الدين "صديق الشهيد"

معشوقها. أكمل بقية عمره القصير بين الحوزة والجبهة وهو يعرف تمامًا ماذا يريد، كما كنا نعرف جيدًا ماذا يطلب.

لا أنسى لحظات الوداع الأخير حين أوصلته إلى محطة القطار، وكنا قد تأخّرنا عن موعد الرحلة إلى الأهواز نحو نصف ساعة، فبينما كنت منشغلًا بركن السيارة، نزل منها مستعجلًا ليتأكّد من أنّ القطار انطلق أو لا، وبعد دقائق لحقت به، فإذا البسمة تعلو محيّاه النوراني وهو يقول: «سبحان الله، لقد تأخّرت الرحلة، وها أنا على وشك الصعود إلى القطار». ثم قال: «ألم أقل لك؟!»، نعم، لقد قال ولم يخب أمله، وكأنَّ القطار ومن فيه توقّفوا ليقلّوا معهم عريسًا إلى معراج الجنة والشهادة واللقاء.

ولا أنسى أبدًا حين عانقته مودّعًا؛ كنت على يقينٍ بأنني أعانق شهيدًا. ثم غادر، وكان له ما أراد، شهادةٌ في ليلة القدر، في ليلة شهادة سيد المتّقين أمير المؤمنين (ع)، وكأنه يردّد مقالته (ع): «ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إمامًا يقتدي به ويستضيء بنور علمه...»، فاقتدى بإمامه، ولحق به شهيدًا في ليلة شهادته. هذا هو نتاج الصدق.

هنيئًا للأخ العزيز والصديق الوفي هذه الشهادة المستحقّة التي سعى لها سعيها، وأعانه على نيلها ذلك القدر الجميل،

 

11


5

مقدمة السيد هاشم صفي الدين "صديق الشهيد"

منذ أن سافر إلى جامعة طهران فطوى المراحل معراجًا بعد آخر، بالتوفيق وحسن الاختيار، وكان زاده طوال المسير اليقين والصدق.

ما بين أيدينا هو ملخّص عن حياته، أنجزته «جمعية إحياء التراث المقاوم» في وحدة الأنشطة الإعلامية، ودوّنته، بعد تجميعه بجدٍّ ونشاط، الأخت الكاتبة إيمان علوية، فالشكر لها ولكلّ من أسهم في إتمام هذا العمل، ليكون صدقةً جاريةً في كتاب أعماله، وليبقى مضمونه العبرة والمثل لكلّ من طلب الوصول إلى لقاء الله تعالى باليقين والصدق والعمل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


هاشـــم صفــــي الديــــن

6 شعبان 1443 هـ - 9 آذار 2022 م

 

 

12

 


6

مقدّمة الكاتب

مقدّمة الكاتب

مما روته لي الصَّحراء أنَّ رملاويًّا أخذه عطش شديدٌ قرب ضفة نهر، فجاءها قاصدًا ليرتوي.

ومما روته لي الصَّحراء، أنَّ سكةَ قطارٍ بينها وبين النهر، جرت عليها فصول حكاية «رملاوي»، ودار سباقٌ بينه وبين القطار، امتدّ على طول زمانه ومكانه، أفصح النهر عن بدايته، فيما خبّأت الصحراء نهايته صِواعًا في رحلها.

همسَتْ الصحراء في أذني، وأصخْتُ السمع؛ ثمة ما حمله «رملاوي» معه عندما وفد إليها، جعل من جمرٍ ولهيبٍ أصاب جوفها بردًا وسلامًا. وهو ما بحث قلمي عنه، وقبله كان قد رفض كتابة الرواية.

نعم، قبل حديث الصحراء، تمرّد قلمي، ورفض الكتابة غير مرة! فهو، لم يكن على استعدادٍ أن ينحت روحه ويجري على السطور، من أجل أن يمنحني في النهاية بطلاً يشبه الذين سبقوه، أنا التي ناديت بعدم استهلاك وقت القارئ بما هو مكرَّر غير جديد. مع فارقٍ هذه المرة، أنَّ النواقص والثقوب التي وجدتُها في أهم مراحل حياته المغمورة، سوف تجعل القلم، بنظر القارئ، في خانة المُدان الأول، والقارئ ليس بُملام!

 

13


7

مقدّمة الكاتب

ولأنني لم أشأ كَسْر عناده، ولكي أوفّر عليه حربًا ماكرةً، وهو يشقّ طريقه من أفكاري الوعرة إلى الورقة، فقد عزمْت، في الوقت الذي شرعْتُ فيه بالكتابة، على رمي صنّارة بحثي في قعر ذاكرة النهر، حيث ما أسعفته صرّةٌ في يمينه، ولا كتابٌ في يساره، على أن يغترف من الطفولة سوى رجولة، وأمنية تركها عند سكة القطار.

ثم استوقفني فصل الحبيبة، فاستمهلتُ عنده، أنا التي أفضّل نكهة الحبِّ والنبض في الحرف أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، لكنَّ قلمي سبقني، واشتعل حبره أمام حبيبةٍ عرف رملاوي معها الدِّفء في البرد، والأنس في الغربة، واستطاعت أن تفجّر ما اختزن خلف صوته الخجول من أشعار وأسرار.

أما فصل الصحراء، وهو الأهم، فقد ظلَّ قاحلاً، لم يزدني البحث فيه إلا سرابًا. عُد يا قلم إلى عنادك!

رملاوي، في سباقه مع القطار، صار على مشارف الصحراء، وأنا في سباقٍ مع الوقت لأستخرج الصواع من رحلها، وموعد تسليم الرواية اقترب، ولا من جديد!

لا أحد يدرك حجم الصراع الذي يعيشه الكاتب ليعود إلى زمان ومكان بطل الرواية، ويعيد إنتاج الحادثة كما حصلت، أو على الأقل، يقترب منها قدر ما يمكن. لكن، من أين لي، أنا، ابنة المدينة، طريقًا إلى صحراء بعيدة؟!

 

 

14

 

 


8

مقدّمة الكاتب

كان هذا السؤال هو مفتاح الجواب، وإن متأخّرًا.

ثمة من شهد سباق القطار، وفي ذاكرته اسمٌ مستعارٌ لأحد رفاق الصحراء، سيكون هذا الاسم أول الخيط، وستكون مدينة «الحبيبة» صلة الوصل بيني وبين الصحراء. هكذا قلت في نفسي، أو على الأقل، لأجرّب محاولتي الأخيرة!

لجأْتُ إلى من كان سمع شعرًا ألقاه رملاوي في ديارها، واستجديْته رحلة بحثٍ طارئة عاجلة. لكن، في الوقت الذي انتظرت الرَّد، وأنا أتوقّع كل يوم أن يُفتح هذا الباب، حان موعد تسليم الرواية، وهنا حديثٌ آخر! فبينما كنت أسلّمها، بلغني، في اتصالٍ طارئٍ؛ أن قد وُجد رفيق الصحراء هذا، وفي ذاكرته بقية الرفاق، وما خبّأته عني الصحراء، والصّواع الذي كان معلّقًا في الهواء!

 

15

 


9

المحطة الأولــى

- مات الرَّجل.

- مات أمام المدخل.

- سبح المسكين بدمه، وسبحت ربطة الخبز!

- يا لأولاده! ذاقوا طعم الحسرة.

- ومن سيجرؤ على سحبه إليهم قبل المساء؟! هذا القنّاص جعله الآن طُعْماً!

- الملعون! شلَّ الحياة في الشارع... شُلَّت يده.

على فوضى الأحاديث المذعورة بين أمه وجارتَيْها أم محمود وأم زياد، أفاق محمد. وهو، على أيِّ حال، لم يغمض له جفنٌ حتى الفجر. كانت ليلةً عنيفةً بالاشتباكات وأصوات القذائف، قضاها إلى جانب أمه وإخوته والجيران في فسحة مدخل المبنى، فيما فضّل والده أبو حسن أن ينام في ممشى البيت، على الرغم من الوساطات التي أرسلتها إليه أم حسن، من دون أن تبدّل موقفه: «المْسَلِّم ألله».

لم تكن هذه الليلة هي الأولى التي يقضيها الجميع في المدخل، فقد مضى تسعة أشهر على حادثة «بوسطة عين الرمانة» واشتعال الحرب الأهلية، وصار المدخل، ببابه الضيِّق وسقفه المنخفض

 

 

19

 

 


10

المحطة الأولــى

وفسحته الواسعة، الملجأ الوحيد الذي يهرولون إليه كلما تجدّدت الاشتباكات واشتعل الرصاص، فالبيت الغرفة، ذو السقف التنك، الذي يسكنه جارهم سعيد طيبة يقع قبالته مباشرةً، ويشكِّل متراسًا طبيعيًا يقيهم الموت. بات نادرًا وجود سعيد طيبة في البيت الغرفة، هذا الشاب النحيف، ذو البشرة السمراء، والقامة القصيرة والشعر الطويل الأملس، الذي كان يلتقي به محمد وشباب الحي يوميًّا ليستمعوا إلى طرائفه المضحكة، صار أحد رجال محاور القتال، يغيب مُدَّةً، ثم يطلُّ بسلاح كلشنكوف، وجعبةٍ فوق السترة، وبنطال جينز جرّده غبار المعارك من لونه، يرافقه مجموعة من الفدائيين، ويساعدونه في توزيع أكياس الطحين على أهالي الحي، بعدما فُقدت في الأسواق، وصار البحث عنها يكلّف ثمنًا في الأرواح. الله وحده يعلم عدد الرئات التي خمدت أنفاسها في المعارك أمام سعيد «الفتحاوي»، حتى أصبح بهذه الجديّة والملامح الأقرب إلى الوجوم.

تسلَّل محمد من بين الصّخب، وتوجّه نحو باب المدخل ليرى ما حجبه ضِيقُه من بقية جسد الضحية، وما إن همَّ بإخراج رأسه حتى أمسكت يدٌ بقميصه من الخلف وجذبته بقوة: «عد إلى الداخل». نهرته أمه : «لا مراجل في الموت». واستغل فرصة أنّ أباه هرول على جلبة النسوة، وانشغل بتهدئة الصغار، وحمل صغيره عليًّا الذي كان يلوذ بفستان أمه، فتسلَّل ثانيةً، وصعد إلى البيت، ثم دخل الغرفة المواجِهة للمبنى المقابل على بعد مئتي مترٍ، حيث أشارت أمه إلى أنها تمكّنت من تحديد مكان القنّاص في إحدى نوافذ

 

 

20


11

المحطة الأولــى

الطابق الأخير؛ أراد أن يرقبه، وفي اللحظة التي أمسك فيها طرف ستارة النافذة وهمَّ بإزاحتها، جذبته اليد نفسها: «أيها العنيد!»، نبرت غاضبة، «هيا انزل، فلتساعدني في ملء الأباريق لنُزيل الدم قبل أن يجمد».

مضى النهار باشتباكاتٍ بعيدةٍ متقطّعة، ووقعت في الحيّ قذيفةٌ ارتجّ لدويّها المبنى وماج بأهله، ثم تبعتها ثانية وثالثة، فهرول الجميع إلى المدخل، بعد أن كانوا قد صعدوا إلى بيوتهم، وغصّت فسحة المدخل بصراخ الأطفال ودعاء النسوة. اقترب محمد من أخته أسمهان، أجلسها في حضنه، جعل أذنها لناحية صدره، وشدَّ على الأخرى براحة كفّه. تجهل الصغيرة أنها تعاني من ثقبٍ في عضلة قلبها، وأنَّه يدرأ عن سمعها ما استطاع من دويّ، وتعتقد أنها مدلَّلته بين إخوتها التسعة، واعتقادها هذا، كان كفيلاً بأن تشعر بالأمان وهي في حضنه.

هدأ القصف مساءً؛ خرج أبو حسن والرِّجال، حملوا جثة الصباح، ومشوا ملاصقين للمباني، وإذ وصلوا إلى حي النبعة في الجوار، سلّموها إلى مقاتلين من «الحركة الوطنية»، كانوا يحرسون المنطقة تأهُّبًا لدخول محتملٍ من قبل قوى الأحزاب اليمينية.

في هذا الوقت، شرعت أم حسن بتوضيب ما يلزم من ثياب وأغراض لتغادر وعائلتها برج حمود، في أول فرصة يعود ابنها حسن من عمله، فقد مضى على بقائه عالقًا في قريطم عدة ليالٍ، ذلك أنّ غلَّ الحرب كبُر كثيرًا خلال الشهرين الماضيين، وبيروت أصبحت

 

 

21


12

المحطة الأولــى

بيروتين: الشرقية للمسيحيين، والغربية للمسلمين وحلفائهم، وصار المحظوظ من مرَّ على الحاجز ووصل إلى أهله سالمًا، فهو يحمل خصائص جماعته، وقتله يعني قتلهم جميعًا، بدأ هذا عندما أقسم جوزيف سعادة في مشرحة المستشفى أمام جثة ابنه رولان، وقد قُتِل وثلاثة من رفاقه في فرقة النخبة الكتائبية (ب.ج.)، التي يقودها بشير الجميِّل وتختصر اسمه، أقسم أنه سيقتل خمسين مسلماً مقابل كلّ قتيلٍ كتائبي، فحصل السبت الأسود، واستشهد مئات المسلمين في مرفأ بيروت بذنب هُويتهم، وزيدَ على قاعدة الخمسين، فراح مثلهم ألفٌ في مجزرة الكرنتينا، وبدأ كثرٌ يغادرون منطقة برج حمود نحو شطرهم الغربي، بعد أن سقطت بلدة الدامور المسيحية في مقابل الكرنتينا. أما مخيّم تل الزعتر، الذي أثخنته مئات القذائف ليل نهار، فلا يُعلم مصير الحصار عليه، وإن كان يرجح لكفّة السقوط على حساب الصمود، وكانت له الحصة الأكبر من نشرات الأخبار وملحقاتها العاجلة.

أفاق محمد صباحًا على جدالٍ بين أمه وأبيه، أبو حسن يريد أن يذهب إلى سوق النبعة ليشتري الخضار ويبيعها، وأم حسن تصدُّه، هو يطمئنها أنَّ القصف هدأ، وأنّ في الشارع حركة مارّة، وأنه سيفرش «بسطتة» بمحاذاة الساتر الترابي، وأنَّ وأنَّ... وهي تُذكِّره بمن اصطادهم القناص على حين أمنةٍ من القصف، وأنَّ دم الأمس لم يجفَّ بعد. واحتكمت إلى محمد تطلب مساندته، إلا أنه وقف بصفِّ أبيه، لا لأنه «حبيب بيو» كما يُنادى في البيت، بل لأنه

 

22

 


13

المحطة الأولــى

كان يده، يساعده في تأمين قوت اليوم، وهو يدرك تمامًا حجم العبء الجاثم على صدر أبٍ جوّعت الحرب عشرة أولادٍ في عنقه.

قبل أن تكمَّ الحرب كل صوت،كان محمد، خلال الصيف وفي أيام العطل المدرسيةٍ، بائعًا جوّالاً، ينادي على بضاعةٍ يحملها في صرةٍ قماشيةٍ على كتفه، ويجوب بها الأحياء. يبدأ عمله منذ الصباح، وبعد أن ينقضي النهار، يعود إلى أمه بما حصل عليه من مال.

ومحمد، وعلى الرغم من أنه لم يكن شغوفًا بهذه المهنة، فقد كان بائعًا صبورًا. لا يملّ من التجوال طيلة النهار، تحت عين الشمس الحمئة صيفًا، أو تحت المطر شتاءً. لكنه في المقابل، كان خجول الصوت، لا يسعفه نداؤه كثيرًا في البيع، ويكاد يختفي بين أصوات الباعة في الأسواق وفي زحمة الضجيج. على العكس من شقيقه حسن، رفيق التجوال، كان أكبر منه سنًّا وأكثر جرأةً، ينبّهه دائمًا، قبل أن يتقاسما الأحياء، إلى أنّ هذه المهنة تحتاج إلى صوتٍ عالٍ، وينادي أمامه بكل جرأةٍ، فيفعل محمد مثله، وينادي بصوتٍ مرتفع: « قمصان، جوارب، قمصان للبيع...»، ويمضي كلٌّ إلى شارعه، لكن صوت محمد، سرعان ما يخفت شيئًا فشيئًا، فلا يصل مداه إلا لمسافة قريبة، أو يتوقّف عن النداء، فينتظر اقتراب المارة منه لينادي على بضاعته، فإذا ما التقى بشقيقه مجدّدًا عند أحد المفارق، تذكّر كلامه وعاد ينادي بصوتٍ مرتفعٍ.

 

23


14

المحطة الأولــى

ولم يكن بَيْع محمد يقتصر على النداء، بل كان يلجأ إلى المباني، فيصعد الطوابق، يطرق الأبواب، ويعرض ما في الصرَّة، فمن الناس من يشتري، وهذا الصنف قليل، ومنهم من يشكره بأدب، أو يغلق الباب بوجهه قبل أن ينهي كلامه. وعلى كلِّ حالٍ، فقد اعتاد الأمر، وصار له في مقابل قاعدة أبيه «يوم لك ويوم عليك»، قاعدة جديدة تتوافق معها في نصفها الأول، فيما تزيد على نصفها الثاني أضعافًا.

ولم يكن بيع الثياب أول ضروب تجارته، فهو بدأ بائع علكة وسجائر في عمر التاسعة. يومها غادر والده بلدته عيتيت، وقدم للسكن في أحد أحياء سن الفيل، لفرصة عمل أتيحت له في نجارة الباطون، عبر أحد أبناء بلدته ممن سبقوه إلى السكن والعمل هناك.

لعامين خلال الصيف، كان محمد يحمل علبة العلكة والسجائر ويتوجّه نحو الطريق العام، هناك كان يجتمع العدد الأكبر من الناس بانتظار البوسطة وهي في طريقها إلى البلد (بيروت)، يجول بينهم وينادي بصوتٍ طفوليٍّ خجول: «علكة، علكة، دخان»، «عمّو بتدّخن؟»، ثم تصل البوسطة فيصعد مع الرّكاب من بابها الأمامي، يتكرّر نداؤه بين المقاعد: «علكة، علكة، دخان...»، ويضيق تجواله ويحشر نفسه بين الرّكاب الذين لم يجدوا لهم مقعدًا فوقفوا في الممر، وعندما تنتهي جولته وينزل من الباب الخلفي، يجد أن السائق قد قطع مسافةً طويلةً، فيعود غير آبهٍ بالشمس تجهره، يعدُّ غلّة النهار، ويبتسم لقِطَعِ نقودٍ كسبها «إكرامية» من بعض الزبائن ميسوري الحال، فبها سيتناول «سندويش» فلافل مع

 

 

24

 


15

المحطة الأولــى

«كازوزة» في فَيء شجرة على جانب الطريق. كثيرًا ما صادف في أيام بيعه صِبيةً في مثل عمره استهواهم اللعب والطيش، وكانوا يسألون عن ثمن العلكة، ليس رغبة في الشراء، بل وسيلة للاقتراب منه، فيضربون أسفل العلبة إلى أعلى، وعندما تقع من يده، ينحنون من فرط الضحك ويولّون هاربين، فيما ينحني هو ليلملم رزقه. ثم يعود في آخر النهار إلى البيت فيسلّم المحصول إلى أمه، وكذا يفعل شقيقه الأكبر حسن.

في الصيف الثالث، أصبح محمد بائع ثيابٍ جوّال، فقد تعلّمت أخته الكبرى مريم فنون الحياكة على يد جارةٍ أرمنية، واقترحت على أبيها أن يستأجر محلاً لبيع الثياب بالقرب من البيت ففعل، وصارت الفساتين القطنية والسراويل تخرج من إبرة مريم، فيما ظلّت ماكينة الحبكة حلمًا مؤجّلاً، إذ لا مكان لها في المحل ولا مال. داخل المحل، كانت مريم كل يوم توضِّب البضاعة، وتضعها في الصرَّة وهي تعيد على سمع محمد ثمن القميص، ويُكمل عنها ثمن الفستان والسروال والجوارب، فقد حفظ الدرس عن ظهر قلب.

وحدث ذات هجير، أنَّ محمدًا، قضى ساعاتٍ وساعاتٍ ينادي في الأحياء، من دون أن يدخل جيبه قرشٌ واحدٌ، وبينما هو يهمُّ بالمغادرة إلى البيت، أُلقيت على سمعه كلمات أعادت حماسه وبدّدت تعبه: «أعرف من يشتري كلَّ بضاعتك»، قال فتىً في عمره، وأشار إلى منطقة الأشرفية: «هناك زبون خواجة إن شئت أدلّك عليه». اشتعل حماس محمد مجدّدًا، لكنّ الحيرة أخذته وجعلته يقف على مفترقٍ بين الرفض والقبول، فالعرض مغرٍ، فيما الحدود

 

 

25


16

المحطة الأولــى

المرسومة لتجواله لا تتعدّى منطقة سكنه، ولم تطل حيرته حتى قرّر مرافقة الفتى، على أن تشفع له النقود التي ستملأ جيبه تجاوزَه هذا.

ولأنَّ السير على طول الخط العام يحتاج إلى أكثر من ساعة، فقد اقترح محمد على صاحب نبأ «الغلة» طريقًا مختصرةً توفّر ثلاثة أرباع الوقت، ألا وهي: عبور نهر بيروت، الذي يفصل بين الأشرفية وسن الفيل؛ الأمر ليس بخطر، فمنسوبه يخفُّ صيفًا، وتشكّل صخوره جسر عبورٍ إلى الضفة الأخرى. بدأ محمد يتنقّل على الصخور وهو يحتضن الصّرة، ويحرص، في كل مرة يقفز فيها فوق الحجارة القلِقة، على ألّا تقع الصرّة وتبتلّ البضاعة، ولم يمضِ وقتٌ حتى أصبحا عند الضفة المرموقة.

في أحياء الأشرفية، كان محمد يسير ببطء وهو يمعن في معالمها ليحفظ طريق العودة، فيما كان الفتى يمشي بخفة ورشاقة، حتى إذا ما وصلا إلى أحد الشوارع توقّف الفتى أمام مبنى هناك، وأشار إلى بيت الخواجة في الطابق الأرضي، وقد طلب إلى محمد أن يناوله الصرّة وينتظر لدقائق ريثما يعود إليه بالمال، ففعل. ولج الفتى المدخل وانحرف عند زاوية الممر، وكان آخره غير مرئي، فيما وقف محمد يتأمّل المارة وأولاد الحي. مرّت الدقائق الخمس بحماس، مرّت العشر بترقُّب، العشرون والثلاثون بريبةٍ وقلق، ولمّا لم يعد يحتمل الانتظار دقيقة واحدة أكثر، قرَّر أن يطرق باب الزبون بنفسه، وعند نهاية الممر، فوجىء بأن للمبنى مدخلاً آخر يؤدّي إلى حيٍّ سكنيٍّ ثانٍ. لا أثر للبضاعة!

 

 

27


17

المحطة الأولــى

تقدّم في الشارع قليلاً، أخذ يرقب المداخل والمارّة، وجوهٌ تختلف عن ذلك الذي يبحث عنه. عاد إلى المدخل، ثم تقدّم في الشارع مرة أخرى، لكنه لا يريد أن يبرح المدخل، فعاد إليه، انتظر وانتظر. دارت عقارب الساعة لأكثر من جولةٍ كاملةٍ، من دون أن يلمح للفتى طرفًا، فعاد خائبًا،خائفًا، فارغ القلب، لا مهرب من عقابٍ هو ملاقيه. في طريق عودته، شاهد أحد رجال الدَّرك، فاستنجد به وطلب إليه أن يساعده، لكنّ الجواب الذي لقيه حسم له ما عليه فعله: «روح عالبيت عمّو، روح وانسَ الصرّة».

عَبَر ماء النهر من دون أن يلتفت إلى صخوره، وسريعًا وجد نفسه في الشارع المؤدّي إلى محلِّ الثياب، رأى أخته بباب المحل تتلفّت في كلِّ اتجاه وتفرك يديها بعضها ببعض، ولمّا وقع نظرها عليه هرولت نحوه تسأله عن سبب تأخّره، وأخذت تتفحّص جسده إن كان قد تعرّض للضرب، فراح يخبرها بما جرى معه، بكلماتٍ متقطّعةٍ وهو يلتقط أنفاسه ويجهش، فمسحت دموعه ووعدته بأنها ستستعيد البضاعة إن دلّها على مكان الفتى.

وكان البحث مرة أخرى كالبحث عن إبرةٍ في كومة قشٍّ، عاد محمد بعدها يمشي ببطء خائر القوى، فسقته عصير الليموناضة، بعد أن انتبهت إلى وجهه الذي صار شديد الحمرة، ثم أوصلته إلى البيت، على أن تتكفّل أمر إخبار أبيها.

 

 

28

 


18

المحطة الأولــى

مع الغروب، دخل أبو حسن إلى البيت يبحث عن محمد، تفقّد جسده، عاتبه: «ما كان ينبغي أن تعود للبحث عن الفتى، المهم أنك بخير».

ثمة صوتٌ كان محمد لأجله يسترق من ساعات الكدِّ لحظات لطفولته. هناك، عند سكة القطار، بالقرب من مفرق البيت، يتأهّب ليسابق قطار الشحن عندما يسمع صفيره من بعيد، يتناسى صوت أمه، وقد حذرته من القطار مرارًا، وحكت له عن الطفلة التي علقت رجلها بين قضبان السكة وهي تلهو، ولم يستطع السائق إيقاف القطار، فسحقها وظلَّ شعرها عالقًا في السكة. يعلو الصفير، فيحتشد الأولاد، يطلُّ وجه القطار، فيقفزون ويصفّقون ويصفّرون. يقترب القطار، فيتأبّط محمد الصرّة. يصل القطار، فيبدأ السباق؛ يسرع محمد، وعجلات القطار تسرع وتقذف بالحصوات على طرفي السكة. تفوز المقصورة الأولى، يسرع أكثر، تسبقه الثانية، يركض بأقصى سرعته، تمضي الثالثة، وتلحق بها الرابعة والخامسة، فيبطئ في الركض، ثم يتوقّف ليلتقط أنفاسه، ويحمل حجارةً ويلقي بها على المقصورات الأخيرة، وهو يتوعّد القطار بالفوز عليه في الغد. وفي الغد، وفي كل يوم، يفوز القطار ويمضي، غير آبهٍ بما يلقاه من حجارة محمد والأولاد الذين هُزموا أمامه.

وكان من أحلام طفولته أن يسافر في القطار، فيحاول أن يحقّق حلمه عندما تكون النزهة مع أهله بالقرب من محطة القطار، فيدخل إلى المقصورات المتوقّفة، ويجول فيها وهو يتناول «الحمّيضة» التي قطفها مع أخته سكنة.

 

 

29


19

المحطة الأولــى

وسكنة، شهدت أول تجارة لمحمد عند سكة القطار من دون رأسمال. يومها، ناداها، أن تَعالَيْ يا سكنة لتري كيف يصبح الفرنك ربع ليرة، اقتربا من السكة، ووضع الفرنك على طرفها، وانتظر أن تدهسه عجلات القطار، ليتّسع ويصبح بحجم ربع الليرة، فيصبح مصروفه مضاعفاً ويشتري الحلوى والسكاكر لكليهما. أتى القطار وأدّى واجبه كاملاً وغادر، أسرع محمد إلى عملته الجديدة فوجدها قد اندثرت.

يلملم الصيف أواخر أيامه، فيصبح محمد بائع كتبٍ مدرسية مستعملة. هناك، في سوق العازارية في بيروت، تجده بين الباعة الكبار إلى جانب أخيه حسن، وقد افترشا بسطةً صغيرةً على الرصيف، ينادي وأصوات الباعة تبتلع صوته، فيما يرتفع صوت حسن الأكثر جرأة. والربح الأكثر في هذه التجارة للباعة الذين حجزوا مكانًا في أول الرصيف، لكنها ليست قاعدة ثابتة، ففجأةً تداهم دورية الدرك المكان، ويصبح هؤلاء في قبضتهم أولاً، وتكون فرصة النجاة لمن لم يصل الدور إليهم بعد، ويهرول محمد بما أسعفه الوقت على حمله من كتب، كغيره ممن فرّوا في كل اتجاه، ويذهب إلى بركة العنتبلي في سوق أياس المجاور، حيث استراحة الباعة والمارة الذين يقصدون الأسواق المجاورة، كسوق سرسق وخان البيض، وسوق الصاغة والافرنج. عند بركة العنتبلي، كان يحلو له أن يشتري من بين أنواع المرطّبات والحلوى الشعبية ما يبرِّد به جوفه، فيختار عصير الجلاب مرّة، والتمر الهندي مرّة أخرى.

 

 

30

 

 


20

المحطة الأولــى

ثمَّ أنزل محمد الصرّة عن كتفه بعد أعوامٍ ثلاثة، وصار يجوب أحياء برج حمود، منطقة السكن الجديدة، وينادي على بضاعة يجرُّها على عربةٍ خشبيةٍ برفقة أخيه حسن، يتوجّهان إلى السوق الشعبية، فتستقرُّ العربة عند زاويةٍ على اليمين في أول الشارع. هناك، تتشابك أصوات الباعة وتتضارب، هذا ينادي ربّات المنازل لشراء خضرواته الطازجة، وصوته الجهوري يطغى على صوت بائع الأدوات المنزلية وبائع النِّعال، وتصمت البدويّة الجالسة على الرصيف، وأمامها شوال من الصعتر البلدي، ويبدع بائع العرانيس المسلوقة في لحنه وهو يفتح ملقط العرانيس ويغلقه، فيما يضيع صوت محمد وهو ينادي على القمصان والسراويل، فيتولّى حسن الأمر ويزاحم الباعة بنفسه، ولكن، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجد محمد نفسه مضطرًّا إلى أن ينادي وحده، بعد أن وجد حسن وظيفةً له في منطقة قريطم.

وعاد محمد ذات يومٍ من تجواله باكرًا، لموعدٍ مع مباراة كرة قدم، فوجد أمه تُفرغ طعام الغداء في وعاءٍ كبيرٍ، لفتى قالت إنّ اسمه سعيد؛ ويلٌ لِحظِّه ما أتعسه! مات أبوه في حادث سيرٍ منذ شهرين، ودخل أخوه في غيبوبة، فصار الصبي رجل البيت، يشتغل في معمل تريكو ليعيل إخوته الصغار ويدفع ثمن إبرةٍ يحتاجها أخوه في المستشفى كل أسبوع. ومذ ذاك اليوم، صار سعيد توأم محمد، لا ترى أحدهما إلا والآخر إلى جانبه، اللّهم إلا في مقعد الدراسة، الذي حرم منه سعيد، ثم ما لبث أن سافر بعد أقل من سنة ليعمل في ليبيا. ولم يكن ليخطر في بال محمد أنه سيتوقّف

 

 

31


21

المحطة الأولــى

عن الدراسة هو الآخر، وكذا توقّفت عجلات العربة الخشبية، منذ أن استشهد الشيخ محمد محسن وولداه حيدر وخالد في مجزرة بوسطة عين الرمانة، وهم في طريق عودتهم إلى منزلهم في مخيم تل الزعتر، بعد أن ألقى الشيخ كلمة في ذكرى «عملية الخالصة» في مخيم صبرا. ما كان يخطر ببال أحد أن ذلك اليوم سيكون بدايةً لحرب أهلية، وها هي قد دخلت عامها الثاني، وصار سؤال الناس عن مصيرهم أكثر من السؤال عن كيس الطحين!

تعدّدت الحكايات في مصير كثير من المفقودين الذين مرّوا على الحاجز ولم يعودوا إلى ذويهم، وكانت أم حسن دائمًا مشغولة البال على ابنها، وهو يطمئنها بأنه لا يغادر عمله قبل أن يطمئنّ إلى حال الطرقات عبر فقرة «سالكة آمنة». قُتل الرجل أمام المدخل، فحسمت أمر مغادرتها وانتظرت مجيئه، لكنه أصرَّ على البقاء حتى لا يخسر وظيفته، فظلَّ أبو حسن معه. وفي اليوم الذي انطلقت فيه السيارة إلى عيتيت، فتح محمد حقيبته وأخرج دفتر مذكّرات احتفظ به من العام الماضي، كان رفاق المدرسة قد كتبوا على أوراقه مشاعر في الصداقة في نهاية العام الدراسي، اختتمت كل رسالة بأن: «اسلَم لصديقك الذي يقدّس الصداقة».

مرّت سيارة الأجرة بقرب العربة الخشبية، وسكة الحديد، ودّع محمد الأحياء والشوارع بنظرات من سيعود إليها عمّا قريب.

 

32

 

 


22

المحطة الأولــى

في عيتيت، مرّ الأسبوع الأول، وتكدّست فوقه أسابيع أخرى، ولا شيء سوى المذياع، وهو، عند محمد، «البارومتر» الذي يقيس من خلاله أوضاع الحرب في بيروت. وكلُّ الأخبار التي يتابعها ويعيد سردها على أم حسن تنبئها أن لا عودة في القريب إلى برج حمود.

كان محمد بين الحين والآخر يفقد أمه، فيجدها، وقد انفردت بنفسها، بالقرب من غرفة المؤونة تحت البيت، فيسرع إلى ابن خاله، صديق الطفولة، ويدعوه إلى زيارته. حسن محسن هذا يحبُّ عمته كأمه تمامًا، وحكاياته وطرائفه التي يلملمها من هنا وهناك تجبر أم حسن على الضحك أيًّا كان حزنها، وهذا هو المطلوب، وإن كان يدرك أن هذا حلٌّ مؤقتٌ لا يلغي حنينًا يضجّ بصمت، حنينها إلى ابنتها الكبرى مريم، التي أجبرتها الحرب على أن تلحق بزوجها إلى ليبيا.

ثم فعلت الغربة فعلها أيضًا داخل الوطن، فباعدت بين أم حسن وبين زوجها وابنها، وأجبرتها على الانتظار في عيتيت، عيتيت، التي كلما حضرت إليها لا يفارقها ذلك الطيف داخل البيت وخارجه؛ تتذكّر صغيرها علي، شمعة البيت الأولى، انطفأت في عمر الخامسة. كانوا ينادونها أم علي، ثم صارت أم حسن بعد أن مات علي. كان علي قد أصيب بحمى شديدة، ومكثت أمه إلى

 

36


23

المحطة الأولــى

جانبه في أحد مستشفيات صور أسبوعًا كاملاً، من دون أن يتماثل للشفاء، حينها، حاول أبو حسن أن ينقذ روحه بأي ثمن، فنقله إلى مستشفى قلب يسوع في بيروت، وهناك، وفي آخر يوم له، أيقظته كثيرًا فلم يستجب، تحسّست نبضه بيدها ثم بأذنها، فظنّت أنّ سمعها ثقيل، صرخت إلى الممرضات فهرعن إليه ونادين الطبيب، ولم تنتظر كثيرًا حتى خرج إليها وأخبرها أنه فعل ما بوسعه، لكنها إرادة الله، يومها عادت به إلى جبانة البلدة ونام ليلته
هناك.

وأراد محمد أن يزهو بطفولته أمام حسن، سأل أمه عمّا تميزت به ولادته، فقالت: «وُلدْتَ في السنة التي مات فيها علي». ابتسم حسن: «مصيبتان في سنة واحدة!»، ضحكت أم حسن: «لم أكن أريد أن أنجب المزيد من الأولاد بعد وفاة علي، فأنا منذ بداية زواجي عشت ظروفًا صعبة جدًّا؛ كنت أنتقل مع أبيك إلى أيّ مكان يجد فيه فرصةً للقمة العيش، عديدة هي البيوت التي انتقلت إليها، منها بيت في منطقة البسطة في بيروت، حيث سكنت في غرفة ضمن بيت من سبع غرف، في كل غرفة منه تسكن عائلة، فيما المطبخ والحمام يشترك فيهما الجميع. وكان أبوك دائم السفر، يلحق رزقه إلى الخارج، فيما أتولى أنا التربية وأعباءها وحدي. لم تكن الحياة بهذه السهولة، كنت تجدني صيف شتاء أمام هذا البيت، أغسل الثياب بيديّ، وأجمع الحطب لأطبخ وأخبز، وأسير مسافة طويلة لأملأ الماء من العين. وعلي كان يمرض كثيرًا، فكنت أضطرّ إلى أن أسير في الوديان بين القرى ساعاتٍ طوالاً، لأختصر المسافة وأحضر

 

37


24

المحطة الأولــى

له الدواء أو الإبرة، كل ذلك جعلني أقرِّر مخالفة إرادة أبيك، فهو كان يحب الأولاد كثيرًا، ربما لأنه بقي وحيد أبيه بعد أن مات له إخوة خمسة، ولم يبقَ سوى أخت واحدة، لكن، أنا لم يعد بمقدوري أن أحمل عبئًا إضافيًا، فشربت كثيرًا من الأعشاب المغلية التي وصفتها لي نسوة الضيعة لمنع الحمل، لكنني فوجئت بحملي السريع بك، وقد استأت أول الأمر».

- اللهم لا اعتراض على خلقك. قاطع ابن الخال وضحك.

- استأت ولكنها مشيئة الله. أكملت أم حسن.

- ألم تجدي شيئًا مميزًا تتحدّثين عنه؟ قال محمد ضاحكًا.

- بلى، كانت ولادتك سهلة جدًّا، لم أشعر بتعب، وولدْتَ مبرنسًا، جعل والدك من البرنس حجابًا علّقه في كتفه عندما جاء من السفر، وفي سنة ولادتك بُني هذا البيت وارتحت من التنقل الدائم.

- أرأيْتَ كيف أني وجه الخير؟ ردَّ محمد على ابن خاله بطرف ابتسامة.

وجاء إبراهيم درويش يسأل عن حسن محسن، فدعاه محمد إلى كوب شاي، ومنهما بدأت دائرة أصدقاء محمد تتوسع، فهذا عدنان درويش لحق بابن عمه إبراهيم، كان عدنان يسكن في سن الفيل قبل أن تعيده الحرب إلى عيتيت، صحبه محمد مرتين أيام بيع العلكة والدخان، ولما لم يعجبه التجوال امتنع. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى عاد سعيد عطوي من السفر، وما كان أشدّ اشتياقه

 

38


25

المحطة الثانية

لمحمد، فلم يعد يبارحه إلا قليلاً، وانضم إلى المجموعة علي مغنية، ثم حسن محسن، ولدفع التشابه بين الاسمين، صار يُنادى كلُّ حسن متبعًا باسم أبيه: حسن محمد وحسن عبدالله. أما إبراهيم بعلبكي فقد جعل من بيت أخيه المسافر مقرًّا للمجموعة، منذ أن انضمّ إليها.

ثم دخل شهر آذار يومه الحادي عشر. أوكلت أم حسن أعمال المنزل لابنتيها سكنة وفاطمة، وأخذت ابنتها أسمهان إلى الطبيب يرافقهما محمد، فقد لاحظت أن الصغيرة، ابنة السابعة، تشعر بالتعب أثناء اللعب، وبمجرد أن تبذل أيَّ جهد. ومع حلول المساء، وبينما كانت تغسل الصحون، عاد محمد من سهرته مع الرفاق وقال لها: «استعدّي للقاء زوجكِ وابنكِ في الأيام القليلة القادمة».

- وهل انتهت الحرب؟! التفتت مستغربة.

- بل اشتدّت، منذ قليل أذاعوا في الملحق الإخباري العاجل، أنَّ العميد «عزيز الأحدب» أعلن انقلابًا أبيض، في بلاغ رقم واحد، طالب فيه رئيس الجمهورية بالاستقالة، تمهيدًا لانتخاب رئيس جديد خلال عشرة أيام، وأعلن دخول البلاد حال الطوارئ ومنع التجوّل في بيروت.

ولم يجانب الصواب قول محمد، فقد أقبل أبوه بعد أسبوع، ولكن وحده، وانهالت عليه دفعة من الأسئلة لمعرفة أين حسن، فأوجز: «منذ أيام كنا في طريقنا إلى هنا، واعتُقلنا عند حاجز للأحرار السريان قرب مبنى العدلية في المتحف، ثم نجونا بفضلٍ من الله، يحدثكم حسن عما حصل عندما يأتي».

 

40


26

المحطة الثانية

- ولِمَ لمْ يحضر معك؟

- خاف أن يُعتقل مرة أخرى فيُقتل.

- ومتى سيأتي؟

- خلال اليومين القادمين سترافقه في السيارة امرأة لها أصدقاء مسيحيون، إلى أن يمرَّ على الحاجز.

نهبت ساعات الانتظار من أعصاب أم حسن، كلما سمعت بالباب طرقًا أسرعت لتكون أول من يستقبل حبيب قلبها، ثم لا تلبث أن تعود خائبة. إلى أن كان اليوم السابع، فبينما كانت تشغل نفسها بغسل الثياب، أقبل حسن يجرُّ حقيبةً أرهقت ساعده، على الرغم من خفّتها، فاستقبله محمد بعناقٍ طويل، وأسرعت سكنة تبشّرُ أمها، فهرولت تستقبله بدموع انفلتت منها، وشغلها الوجوم الذي اكتسى وجهه فلم تسأله عما حصل معه، بل اكتفت بفرك خدّيه لتعيد لوجهه لونًا فرَّ منه، أما محمد فلم يمهل حسنًا وقتًا طويلاً حتى انفرد به وأنصت إليه:

كنت أنا وأبي ورجلان في السيارة. عندما أوقفونا على الحاجز وطلبوا منا الهويات شفع للسائق أن اسمه جورج، فأشاروا إليه بالمغادرة، فيما أنزلونا بعنفٍ واقتادونا إلى مركز قريب يبعد عن الحاجز نحو مئة متر. هناك، أدخلونا إلى غرفة كان يقف فيها ما يقارب خمسة عشر رجلاً من الذين اعتقلوهم قبلنا، وكنت أصغرهم سنًّا، وبين وقتٍ وآخر، كنا نسمع صوت الرصاص في الخارج قد اشتعل، فندرك أن الاشتباكات احتدمت، ويدخل إلينا بالتناوب

 

42


27

المحطة الثانية

مسلحون غاضبون، يهددوننا بالقتل والذبح، ثم يغادرون. بعد ساعتين تقريبًا، دخل أحدهم واقتاد ثلاثة رجال من الغرفة، بينهم أبي، التفت إليَّ وهو يغادر فشدّوه وأخذوه إلى حيث لا أعلم، بقيت واقفًا لساعات، والتهديد ينبّهنا إلى الموت الذي سنلاقيه، إلى أن دخل أحدهم ونادى باسمي، فأجبته، سألني: «من أنت حتى يطالبوا بالإفراج عنك؟!»، حينها علمت أنّ والدي ما زال حيًّا، وأنه يسعى لإخراجي عبر جيراننا، وقد ذكر أحدهم أنهم يسعون لإطلاق سراحي مقابل مخطوف لهم، وهذا الشرط لم يكن يبشّر بالخير. ثم دخل شابٌّ مسلحٌ وصار يجول بنظراته في وجوهنا، فتوقّف أمامي وتأملني جيدًا، ثم سأل: «هل تعرفني؟»، فقلت: لا.

- وهل تتابع دراستك؟

- نعم، في معهد بيبلوس.

- اسمي مارون، أنا في المعهد نفسه، رأيتك أكثر من مرة، ماذا كنت تفعل في الطريق؟

- كنا نغادر المنطقة. ماذا أنتم فاعلون بنا؟

- ألكَ أصدقاء من المسيحيين؟

- أجل، زميلتي في المدرسة تدعى جوسلين البستاني، وشقيقتها ميرنا. هما تسكنان بالقرب من هذا المكان.

- هذا جيد، أعطني العنوان.

 

43


28

المحطة الثانية

ونادى مارون أحد المسلحين وأرسله إلى بيت جوسلين، فعاد يرافقه شقيقها، وقال لي: «اطمئن، ستكون بخير». في هذا الوقت تناوب المسلحون على الشتم والتهديد كلما دخلوا الغرفة، هكذا طيلة النهار، وكلما سمعنا صوت الاشتباكات في الخارج دخلوا غاضبين يهدّدوننا بالذبح. عندما حلّ المغرب، دخلوا دفعة واحدة وبدأوا بإخراجنا من المركز، بحثْتُ بينهم عن الشاب الذي طمأنني فلم أجده، ظللت واقفًا، فشدّوني وأنزلوني إلى أمام المدخل. هناك، رأيته يقف إلى جانب مارون بالقرب من باصٍ غصَّ بالرجال المعتقلين؛ يبدو أنه كان هناك أكثر من غرفة، قال له مارون وهم يشدّونني إلى الباص: «انتبه لحسن جيدًا»، فصُدِم لقوله وهمس: «كيف ذلك ونحن نأخذه إلى الذبح؟!»، أعاد مارون قوله: «انتبه لحسن جيدًا». في هذه اللحظة تبدّلت كل مشاعري ولم أعد أعي شيئًا مما حولي، جلس الشاب قربي وقال: «لا تخف، سأكون إلى جانبك».

وصل الباص إلى منطقة السوديكو، وأنزلونا أمام مبنى قديم من طابقين يشبه القصر. كان بانتظارنا رجل ضخم يرعد وهو يصرخ بالمخطوفين. كفّاه كبيرتان، يمسك بالمخطوف، ويشدّه إلى الداخل فيلوح بين يديه. صعدوا بنا إلى الطابق الثاني، وحشرونا في غرفة كبيرة، وأمروا الجميع بالركوع ففعلوا، أما أنا، فقد أشار إليَّ المسلح، صديق مارون، أن أبقى بجانب الباب ففعلت. في هذا الوقت، دخل الرجل الضخم ومعه آخر، انتقى خمسة وقال للذي بجانبه: «هيّا، فلنذبح هؤلاء أولاً». اضطرب الجو وبدأ الصراخ، أخذ المخطوفون يفلتون من بين أيديهم بكل ما أوتوا من قوة، والضخم

 

44


29

المحطة الثانية

ورفاقه يشدّونهم ويسحبونهم خارج الغرفة! كان بين أولئك الخمسة رجل مسنٌّ من الأكراد، يبيع الخضار في منطقتنا، تلقّى ضربة أولى على كتفه بكعب المسدس، ثم ثانيةً على الكتف الأخرى فوقع على الأرض.

في هذه اللحظة، شعرت أني سأفقد الوعي أيضًا، ولم أعد أسمع سوى استغاثة المخطوفين وصراخ الضخم يهدّدهم بالذبح، تغلغل فيّ الرعب، نظرت إلى المسلح الذي وعدني خيرًا فإذا بوجهه تحوّل لونه إلى أصفر باهت، وسرعان ما غادر المكان. جاء الضخم إليَّ ودفعني إلى الداخل، ثم عصَبوا عينيّ فلم أعد أرى شيئًا من حولي، وكلما سمعت حركةً بالقرب مني، اشتدّ الرعب أكثر، وظننتها لحظة الذبح.

أمسك أحدهم بقميصي وجرّني بسرعة البرق، كنت مستسلمًا منساقًا من دون مقاومة، أوقفني فجأةً ونزع العصبة، نظرت، فإذا به المسلح الذي كان بجانبي! قال: «اطمئن، سأخرجك من هنا». شعرتُ أنها لحظة ولادة جديدة بالنسبة إليّ، لكنني كنت أنظر إليه والخوف في عينيّ، فربّت على كتفي، وأكد لي أنه سيخلّصني مهما كلف الأمر.

كان لهذه الغرفة نافذه خشبية، ذات فتحات، يُسمع منها سباب ذلك الضخم من الغرفة المجاورة كلّ بضع دقائق، يتبعه شخير المذبوح والسكين تفري رقبته، هكذا، حتى حُزّت رقابٌ لا أعلم عددها. وكنت كلما سمعت صوت المذبوح أرتعد، فيهدّئ المسلح من

 

45

 


30

المحطة الثانية

روعي وهو يقف على باب الغرفة يرقب خارجها. فجأةً، وبسرعة، أمسكني وهرول على الدرج نزولاً بأقصى سرعته، لكننا صُدمنا بالرجل الضخم يمر، وبيده سكين ملطخةٌ بالدماء، ويجرُّ باليد الأخرى رجلاً أُلبس ثوبًا أبيض يشبه الكفن، تغطّي الدماء وجهه وثوبه لكثرة ما تعرّض للتعذيب، فتراجعنا على الفور، وانتظرنا وقتًا ليتأكد من مغادرتهم، ثم أسرعنا مجدّدًا وخرجنا من المبنى.

أمام المبنى، أوقفني بالقرب من دكان، واشترى لي عصيراً، وطلب مني أن أنتظر ليحضر لي جواز السفر.

لم يكن على الطريق سوى مسلحين على آلياتهم العسكرية، أوصلوني على إحداها إلى بيت جوسلين، ثم ذهبنا إلى المركز الأول، حيث كان مارون لا يزال موجودًا، وفي هذه الأثناء وصل «إلياس»، أحد أصدقاء جارنا «أبو محمود بركات»، علاقته طيبة بأناسٍ من الكتائب، وصل على الوقت ليصحبني معه في السيارة إلى شارع أراكس القريب من منطقة سكننا، وقد فوجئت بما قاله وهو يقود: «حسنًا فعلْتَ ولم تهرب عندما طلبوا منك الانتظار قرب الدكان، ولو فعلت هذا لقُتلْت!».

عندما وصلت إلى البيت عانقني أبي بصمت وبكاء، وحكى لي كيف أخبر جيراننا بالحادثة وساعدوه، فعلى إثر هذا اتصل أبو محمود بإلياس، وأبو زياد بصهره كميل، علاقته جيدة برئيس الجمهورية السابق كميل شمعون.

 

46


31

المحطة الثانية

- حمدًا لله. ألف حمد وشكر. قال محمد، ثم صمت، ثم أتبع: «مساكين أولئك الذين لم يجدوا من ينقذهم!».

وأتى ابن الخال وبقية رفاق محمد يهنّئون حسنًا بالسلامة ويستمعون إلى حادثة اختطافه، فاختصر محمد عذابًا مضاعفًا على أخيه وقال: «لولا جوسلين وميرنا لكان في عداد الموتى».

- ستموت من الملل هنا. قال عدنان وضحك الشباب.

- بل قرّرت السفر.

- ومن سيجول معي في القرى، ها إن أباك أوصى السائق بإحضار ماكينات الخياطة والبضاعة!

- يرافقك ابن الخال.

أيامٌ قليلة مضت، وعاد صوت الدَّرْز في بيت أم حسن، تتناوب على ماكينتي الخياطة مع ابنتيها فاطمة وسكنة، وعاد محمد لسيرته الأولى، يجوب القرى المجاورة لعيتيت كلّ يوم، وعلى كتفيه حقيبتان كبيرتان، ينادي على ما دُكَّ فيهما من سروايل وقمصان، وكان يتخذ من الأيام التي تُخصَّص للأسواق الأسبوعية في القرى «بسطةً»، يفترشها بين الباعة الكبار، يرافقه ابن خاله حسن، والأخير كان يستفزّه صوت محمد الخجول، فيشجعه: «هيا يا محمد، ارفع صوتك! كيف ستباع بضاعتك بصوتٍ كهذا؟!»، فيرفع محمد صوته ويبارز الباعة، وبعد عدة نداءات، ينكفئ الصوت الخجول، يضرب حسن كفًّا بكف، ويتحدّى الباعة بصوته الجهوري، فيستريح محمد ويطمئنّ إلى المبيع، فابن خاله كفءٌ في التحدي.

 

 

47


32

المحطة الثانية

غالبًا ما يكون التحدّي الأكبر في سوق مدينة صور. هناك، على طول الرصيف، تمتدُّ بسطات الباعة، ويكتظ المكان بالناس، بين باعةٍ تتضارب أصواتهم، وزبائن يساومون على بضاعة أفضل وثمنٍ أرخص، ويكثر الجدال هنا وهناك، هذا يحلف أنَّ القطعة برأسمالها، وذاك يرفع ثمنها مضاعفًا، حيلةً منه ليخفض السعر عندما يجادله الزبون، ومحمد بين هذا وذاك يعتمد قاعدة أبيه: «رزقك الذي قسمه الله لك لن يأكله غيرك».

ينقضي النهار بصبرٍ وطول بالٍ، ومالٍ يسيرٍ يناوله محمد إلى أمه، فيما يشجّعه حسن مرة أخرى: «يحقُّ لك أن تبقي في جيبك مصروفًا لك!»، فيبتسم محمد ويقول: «عندما أحتاج أطلب منها».

بعد العمل، يحين موعد لقاء محمد مع رفاقه في المقر، أو في نزهة على أطراف الضيعة أو خارجها، وخلال مدة قصيرة، كان لمحمد سبعة أصدقاء لا يفارقهم ولا يفارقونه، يوميًّا يخرجون معًا عند العصر، ولباسهم الموحَّد يلفت أنظار كل أهالي البلدة، فقد اشتروا قطعة قماش كبيرة من منطقة صور، وخاطها سعيد عطوي قمصانًا بعدد أفراد المجموعة، وجعلوا على رقابهم قلائد من حبات الجوز المطلي بمادة اللكر الشفاف، وأطلقوا على مجموعتهم اسم «شلة ياي»، أي المجموعة الأكثر تميُّزًا في عيتيت، فالبلدة تشتهر إجمالاً، بعد التين العيتيتي، بحلقات الأقارب والأصدقاء الذين يجتمعون على الشرفات وأمام المنازل، بينهم مجموعة من الأساتذة والمثقفين، أرادت شلة ياي أن تضاهيهم باتحادها شكلاً ومضمونًا.

 

 

49

 


33

المحطة الثانية

مساءً، يحضِّرون عشاءهم، ثم تبدأ السهرة، فيتفق هذا مع ذاك، وتعلو الصّيحة بين هذا وذاك، وينحاز سعيد عطوي لمحمد دائماً، ويستاء حسن محمد لمقاطعتهم حديثه وعدم اقتناعهم برأيه، وتصل أصوات شجارهم إلى السماء، ويحسم حسن أمره بأن هذه هي السهرة الأخيرة معهم، ثم يأتي مساء آخر، فينضمّ إليهم، ويتكرر مشهد الأمس، وتعلو الصيحة مجدداً، ثم بعد لحظات، يكملون السهرة بالضحك والعناق كأنّ شيئًا لم يكن.

وللشلة صندوق يضع فيه المقتدر من أفرادها ما استطاع من نقود، وهذا يعني أنَّ على عدنان أن يدفع أكثر من غيره. يُنفق من هذا الصندوق على السهرات والولائم، وأكثر ما يُنفق منه على حفلات أعياد الميلاد، إذ تحتفل «الشّلة» كل شهر بعيد ميلاد واحدٍ من أفرادها، وما تبقى من أشهر السنة يجري تقسيمه على المجموعة مرة ثانية، فيكون لمعظمهم أكثر من عيد ميلاد في السنة. كانوا يدعون إلى الحفل شباب الضيعة، وهؤلاء، صاروا ينتظرون الدعوة إلى عيد الميلاد كل شهر، أو يحضرون بمجرّد أن سمعوا صوت الحفلة عبر مكبّر الصوت، حتى إذا ما تزامن موعد عرسٍ في القرية مع حفل عيد الميلاد، فاق عدد المدعوين في الحفل ذاك الذي في العرس. وللصندوق مآرب أخرى، فقد تعاهد الرفاق على جمع مبلغ من المال يبنون به بيتًا خاصًّا بهم، يلجأون إليه بعد أن يتزوجوا ويصبحوا آباءً وأجدادًا، فلا ينقطع اللقاء حتى آخر يوم في العمر.

 

50

 

 


34

المحطة الثانية

مع انتهاء الصيف، كانت منطقة برج حمود وحي النبعة ومخيم تل الزعتر قد سقطت. تزوجت أخته فاطمة وسافرت، فأصبح إخوته الثلاثة في الغربة، وكان عليه أن يكمل تعليمه في الثانوية الجعفرية في صور، ويساعد أباه في البيع وتأمين المصروف، فيما لزمت أخته سكنة البيت ولم يعد بمقدورها إكمال تعليمها، فصار يُشركها في دروسه إلى حين تتحسّن الأحوال المادية فتلتحق بالمدرسة من جديد.

 

51


35

المحطة الثالثة

وما زالت ماكينات الخياطة والبضاعة بين حِلٍّ وترحالٍ، فقد وجد أبو حسن محلاًّ للإيجار بسعرٍ زهيد في منطقة بئر العبد، فاستأجره وانتقل بأسرته للسكن هناك. وصار على محمد أن يتوجّه كلّ يوم إلى محل أبيه بعد دوامه المدرسي، يحمل حقيبةً كبيرةً مملوءةً بالبضاعة، ثم يختار كل يومٍ مكانًا يفترش «بسطته» وينادي على البضاعة، وإذا ما انصرف الزبائن فتح كتابًا حمله معه وصار يراجع دروسه، وإن بصعوبة في التركيز، ثم، وفي المساء، يتفرَّغ لحفظ دروسه جيدًا.

ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأ محمد يتلكّأ في البيع، وشعر أبو حسن بتقصير ابنه الذي كان يتجاوز الأسبوع أحيانًا، وكلما سأله عن السبب وعده محمد خيرًا، من دون أن يبوح أمامه بالهمّ الذي يثقله، فسنته الأخيرة من المرحلة الثانوية تحتاج إلى وقتٍ إضافيٍّ للدرس، وهو الذي شغف بالعلم وحفظ عن أبيه ما ردَّده على مسمعه منذ أن كان طفلاً في مدرسة النجاح في سن الفيل: «أريدك رجلاً، رجلاً قويًّا يا بني، بالعلم تبني مستقبلك، الجهل أفقرنا والعلم يغنيك»، في الوقت الذي كبُرت فيه أعباء الأسرة وصار لزامًا عليه أن يساعده في البيع. وما بين البيع والدراسة، ترجح رغبة محمد لصالح العلم على حساب التجوال. وعلى أيِّ حالٍ، لا

 

55


36

المحطة الثالثة

جدوى من البوح، فهو يدرك أنّ الحياة التي يجدها كالحة الوجه، تُعدُّ في عُرف والده رفاهيةً، مقارنةً مع ما كانت عليه حياته الطاعنة في الفقر، ولقد حفظ منه عن ظهر قلب قصص جيل الأمس الذي اعتمد على نفسه، يقارنه مع جيل اليوم، جيل النايلون الذي يريد أن يصبح كل شيء بمتناوله من دون تعب! لن ينفع بَوْحُه عن سبب تقصيره في البيع، كما لم ينفع بَوْحُه من قبل عن حاجته إلى مصروفٍ إضافيٍّ لتبديل ثيابه، وهو الذي عُرف بين رفاقه بحرصه الدائم على أناقة مظهره وتبديل ثيابه. كان الأمر في نظر أبيه تبذيرًا، فلدى محمد أكثر من سروال وقميص، وإذا ما شاء أن يصرف على مظهره، فعليه أن يعمل أكثر.

أحوال البيع وأيام الدراسة تناوبتها رسائل محمد إلى أخيه حسن، وقد مضى على وجوده في دبي عام ونصف العام، وبعض هذه الرسائل باحت بما يكتمه من همٍّ، فحسن، بالنسبة إليه، الصديق والأخ والأب الذي يرتاح في الحديث معه وإن لم يجد له حلاًّ.

هذه العلاقة الورقية، وعلى الرغم مما أفصحت عنه من شوقٍ وهموم، فإنَّ حبرها لم يفعل فعله في ملامسة النبض، كما فعلته حرارة الطين عندما عاد حسن في زيارة إلى أهله، في عطلة ميلاد السيد المسيح (ع) وبداية السنة الميلادية. وبعودته، استبدلت أم حسن بأبيات العتابا زغاريد ال‍ «آويها»، وتناست عتبها عليه لانقطاع رسائله في الأشهر الستة الأخيرة.

 

56


37

المحطة الثانية

توسّطت حقيبة السفر الغرفة، وأخذ كلُّ واحدٍ يتسلَّم هديته: ساعة لهذا، وماكينة حلاقة لذاك، عباءة خليجية لهذه، وقنينة عطر لتلك، أما أسمهان الصغيرة، فلها لعبة كبيرة، أحبتها واتخذتها صديقة لها، تُجلسها قربها وتضع اللقمة على فمها قبل أن تتناولها، وتنام إلى جانبها.

كان من بين الأحاديث اليومية أنْ تَشاطرَ محمد مع حسن الرأي في مستقبله الدراسي، فهو يفكّر جدّيًّا في السفر إلى الخارج بعد نجاحه، ليتخصَّص في دراسة الطب أو الهندسة، لأنه لا يجد في لبنان، الذي أرهقته الحرب، فرصةً ليبني مستقبله، وبسفره ينقذ العائلة من الفقر ويريح أباه من العمل. وشجّعه حسن ووعده بأن يمدّه بما يلزمه من دعمٍ مادّيٍّ حتى يحقِّق طموحه.

وما أسرع الأيام التي مضت! ووجدت أم حسن نفسها تودِّع ابنها من جديد، وقد أقفل حسن حقيبة السفر محمّلةً بأنواع المؤونة البلدية، وغادر، يرافقه محمد إلى مطار بيروت ويوصيه أثناء توديعه ألاّ يتأخر في رسائله، لأنه لا يطيق أن يرى أمه دائمة الحزن في غيابه.

مضى على سفر حسن أربعة أيام، استفاقت أسمهان على أنامل محمد تجسُّ جبينها وتملِّس على شعرها برفق، نهضت مثقلةً، ثم، بعد أن غسلت وجهها، جلس محمد قربها وأخذ يناولها طعام الفطور بيديه. كانت الصغيرة قد بدأت تفقد شهيتها منذ أيام، فحاول أن يرغِّبها بالطعام، فاستجابت، لكنها عادت

 

57

 

 


38

المحطة الثالثة

وتقيَّأت كل ما تناولته. ولاحظ محمد زرقةً في شفتيها وأظافرها، ثم خلدت إلى النوم مجدّدًا. كان يرى في وجه أمه القلق الذي يعتريه، فأخبرها أنه يفضِّل نقل أسمهان إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت لتتلقى العلاج باكرًا، وأجابته بأنّ هذا ما تفكر فيه أيضًا. تناولت من «درفة» الخزانة ما كان أحضره حسن معه من نقود، ونزل الثلاثة إلى بيروت، فيما تولّت سكنة مسؤولية رعاية إخوتها الباقين.

مكثت أسمهان ثلاثة أيام في المستشفى، ولم تستجب للعلاج الذي تلقَّته، بل كانت حالتها تزداد سوءًا، فطلبت إدارة المستشفى من محمد نقلها إلى مستشفى آخر. أخذها إلى مستشفى البربير، واضطُّرت أم حسن إلى أن تدخلها على نفقتها الخاصة، ومكثت هناك عشرة أيامٍ إضافية.

في الوقت الذي كانت سكنة تهتم بإخوتها، ظلَّت مشغولة البال، فأمها أخبرتها أنها ستعود بعد يومين، وكلما دهمها القلق لجأت إلى أخوالها ممن ينزلون إلى بيروت، تسأل عن حال أسمهان وتعود مطمئنة البال، إلى أن كان الثامن من شهر شباط، دخلت أم حسن إلى البيت بعد غياب أربعة عشر يومًا، تحمل بيدها لعبة أسمهان.

- أين أسمهان ومحمد؟! سألت مستغربة.

- سيأتيان خلفي. بالكاد أجابت.

 

58

 

 

 

 


39

المحطة الثالثة

صمتت سكنة ودهمها الذهول، وأخذت تتأمَّل تقاسيم وجه أمها، لم تستطع أن تميز إن كانت مرهقةً إلى هذا الحد، أو أنَّ ثمة ما حصل لأسمهان في المستشفى، نفت الخيار الثاني، فهي في نفسها لا تريد أن تفكِّر فيه، ثم إنَّ أخوالها كانوا يطمئنونها عنها طيلة الوقت، وها إنَّ أمها قالت إنّها ستأتي مع محمد، ولم تمضِ دقائق حتى تلاشى ما في داخلها من صراع، صوت سيارة إسعاف يقترب من البيت، خفق قلبها واعتصر، نظرت في وجه أمها تسألها بصمت إن كان الذي تفكِّر فيه صحيحًا، فأومأت أم حسن، أغمضت وأجهشت، ثم أخذت تتأوّه بحرقة. استقرَّ صوت القرآن أمام البيت، وهرولت سكنة إلى الخارج يتبعها إخوتها. وجدت الناس مجتمعين حول سيارة الإسعاف، بحثت بينهم عن محمد، فوجدته داخل السيارة يُخرج جثمان أسمهان، وقد لُفَّت بغطاء أبيض، ويطلب إلى الذين معه أن يحملوها برفق. أُدخلت إلى الدار للتوديع لليلةٍ أخيرة، قبل أن تنام في جبانة البلدة إلى جانب أخيها الأكبر علي، واستُقبلت بالبكاء والنواح، فيما بدا محمد صلبًا جسورًا، أثناء مواساته لأمه وإخوته وخلال مراسم الدفن وتقبُّل العزاء بغياب أبيه وأخيه، أما في الليل فكان يقصد فراش أسمهان، يعانق لعبتها ويبكي.

أزهرت شجرة اللوز، وعاد محمد بعد انشغالٍ بالدروس والبيع، ليقضي عطلة الربيع مع أهله ويراجع دروسه في الطبيعة، إلا أنه، وبعد أيام، وجد نفسه يبحث عن سيارةٍ لِيقلَّ أمه وإخوته إلى بيروت، فقد بدأت تنجلي الأحداث بعد عملية دلال المغربي في فلسطين المحتلة، ليتبيَّن أنَّ ربيع عام 1978 في جنوب لبنان سيكون

 

 

59

 


40

المحطة الثالثة

بلونٍ غير الأخضر؛ تذرَّع العدو الإسرائيلي بالعملية فاجتاح جنوب لبنان، وكان صوت القصف والدخان متواصلاً في محيط عيتيت، خلال اليومين الأولين من الاجتياح، ثم بدأ القصف يطال أطراف البلدة، فغادر محمد بأهله إلى بيروت. هناك، سكنوا بداية في منطقة المتحف قرب المحكمة العسكرية، حيث فتحت قوات الردع السورية عددًا من البيوت المهجورة للنازحين. تلك كانت المرة الأولى من المرات العديدة التي تنقلوا فيها من بيتٍ إلى آخر، سكنوا في بيتٍ من خمس غرف لفترةٍ قصيرة، إلى أن أُمِّن لهم بيتٌ في ضاحية بيروت الجنوبية. كان البيت من غرفتين، فيهما من الكراكيب والأثاث العتيق المكسّر، والأوساخ التي رُميت على شرفته، ما جعل محمدًا يقصده كل يومٍ لتنظيفه حتى يصبح صالحًا للسكن.

بعد ذلك ذهب إلى عيتيت، وكان في ذهابه مخاطرةً، فالعدو الصهيوني دخل البلدة، ووجد جنوده أسلحةً في عددٍ من بيوتٍ ينتمي أصحابها لمنظمة التحرير الفلسطينية، فصاروا يفتشون كل بيتٍ، وكلَّ من يريد الدخول إليها. وتمركزت قوات الطوارئ الدولية في كل جنوب لبنان، وعاد محمد وقد أحضر معه ماكينات الخياطة وعددًا من الفرش والأغطية والثياب التي يحتاجون إليها، إلى حين يتبيّن مصير لبنان من الاجتياح.

جاء أبو حسن من السفر، مُرغمًا كان على التماسك أمام أم حسن وأولاده، وإن خانته دموعه كلما أمسك باللعبة التي أحضرها لها من السفر، وكان أقسى من فقده صغيرته أسمهان عدم استطاعته زيارة قبرها في البلدة.

 

60


41

المحطة الثالثة

وعادت رسائل محمد إلى حسن، تخفي خبر وفاة أسمهان، وتسترسل في الحديث عن أحوال الدراسة والبيع، فقد أصبح محمد على أبواب تقديم الامتحان الرسمي، في الوقت الذي أراد أبو حسن العودة فيه إلى عيتيت، كان وجع معدته وحالته الصحية في تقلّبٍ مستمر، والظروف الماديّة ليست سوى انعكاسٍ لصورة لبنان الذي جعلته الظروف السياسية الداخلية والحروب مهترئًا:

أخي العزيز حسن...

وللمرة الثالثة أكتب الرسالة وأعود وأمزقها، لأن أفكاري متضاربة ومتناقضة تمامًا، ولم أعد أحتمل بالنسبة إلى الحالة التي أصبحت فيها...

... منذ وصول والدي إلى بيروت كنا في حيرةٍ، أنذهب إلى عيتيت أم نبقى في بيروت، وقال أبي لتذهب والدتي وإخوتي الصغار إلى المدرسة، وأبقى أنا وأبي وسكنة في بيروت، سكنة وأبي للعمل، أما أنا فللدراسة مبدئيًّا، ولكن والدي قد عدّل في رأيه بعد فترة، وقال: سنذهب جميعًا إلى عيتيت بدون استثناء، وهو الآن في عيتيت وأنا وحدي في بيروت... وما حالة طالبٍ يأتي من المدرسة منهكًا ليُحضِّر الطعام ويغسل الثياب وينظف البيت! ومع كل هذا أنا أتحمّل، لأنني أنا الذي اخترت هذا ولم يجبرني أحدٌ عليه، ومن المفروض أن تتأمَّن راحتي بغيرها من الأسباب... أنت تعرف الشاب يتطلّب أشياء وأشياء، فمثلاً، ولا أخفي عليك، إنَّ حذائي ممزقٌ منذ نحو شهر، وإلى الآن لا أملك ثمن حذاء، أما بالنسبة إلى الثياب، فلم يبقَ عندي سوى

 

61


42

المحطة الثالثة

بنطال أو بنطال ونصف البنطال إذا أردتُ الخروج، وعندما أطلب من والدي يقول: «عندما تذهب للبيع اشترِ الذي تريده». هل أترك الدراسة لأبيع وأرتدي الملابس؟

... معي ثمانٍ وعشرون ليرة فقط لا غير، ستكفيني لمدة شهرين، وسأشتري بها حذاء وثيابًا، وأدّخر مصروف الطعام وأجرة الطريق إلى المدرسة... إلى أين سنبقى في هذا القطار؟ ستأتي الساعة ويدقُّ جرس المحطة لنغادر القطار، ولكن الساعة إن شاء الله قريبة لأتخلص من هذه الحالة بنفسي... وأنت تعرف من هو أخوك في (الحربقة) والذكاء، لست أفاخر بنفسي، ولكن أقول بأنني قادرٌ على تحمُّل أقصى أنواع المشقات من أجل إيجاد السعادة والسعادة التامة.

ولم تكن أخوات هذه الرسالة التي تبعتها أقل اضطرابًا، وإن بدا محمد، من خلالها، أكثر تعاطفًا وتفهُّمًا لمواقف أبيه، وأشدّ حرصًا على نيل رضاه، فالقلق الذي أصبح رفيقًا دميمًا له، كان بسبب تأجيل موعد الامتحانات الرسمية أكثر من مرة، وهو الذي أبدى همَّةً عاليةً في الدرس، خلال العام، واستعدادًا لإجراء الامتحان منذ تحديد موعده الأول، وفي كلِّ مرة يقول إنَّ هذا هو التأجيل الأخير يُعلَنُ عن تمديدٍ إضافيٍّ، وهذا ما لا يتوافق مع ما يخطّط له، فوالده يسعى له عبر أحد أصدقائه بمنحةٍ من الإمام السيد موسى الصدر، للسفر إلى الجزائر وإكمال دراسته الجامعية هناك في اختصاص طبِّ الأسنان، لكن للسفر والتسجيل الجامعي في الخارج مهلة محدّدة، فإن تكرّر تأجيل الامتحان، فهذا معناه أنه سيكون على حساب السفر، وإن لم يُوفّق لهذه المنحة فهناك خيارات أخرى

 

62


43

المحطة الخامسة

يسعى للتأكد من صحتها، منها الدراسة الجامعية في ألمانيا، فهي مجانية وتؤمّن الدولة للطالب جميع مستلزماته الدراسية، بالإضافة إلى مخصّصٍ مالي. وما كان بحسبان محمد أنَّ يوم الواحد والثلاثين من آب سيكون من جملة الظروف التي تآمرت على مستقبله، وسوف يكون موعدًا لضياعِ فرصة السفر، فبعد حادثة اختطاف الإمام الصدر في هذا اليوم، بدأ الحديث أيضًا في إدارة الثانوية وعبر نشرات الأخبار عن تأجيل الامتحانات إلى أجلٍ غير مسمى، وإعطاء إفادات نجاح، وهذا معناه أن لا سفر إلى الخارج.

في هذه الأثناء، ذهب محمد إلى عيتيت، وصار يساعد أباه في البيع، واشترى أبو حسن فان «فولكس فاكن» من أحد أبناء بلدته، فيه من الأعطال واهتراء الحديد على جوانبه، والمقاعد الممزق جلدها في الداخل، ما يجعل الشاري يتغاضى عن هذه العيوب نظرًا لسعره «اللقطة». تعلّم محمد قيادته في وقتٍ قصير، وصار يجول القرى بالفان الأبيض، يومٌ في العباسية، وآخر في دير قانون النهر، ياطر، معركة... وأبو حسن إلى جانبه، يُخرج رأسه من النافذة وينادي بمذياعٍ يحمله بيمينه، وما زال النداء أمرًا لا يروق لمحمد كثيرًا، اللّهم إلا حين يستحكم ألم معدة أبيه، فيأخذ المذياع وينادي عنه، وإن بصوتٍ لا يزال فيه طعمٌ من خجل.

وحدث أن قضى محمد وأبو حسن نهارهما في سوق بلدة معركة، وكان البيع موفّقًا، وأثناء العودة، تعطلت الفرامل فيما كان محمد ينحرف في مفرق البلدة، فانقلب الفان وتدهور بهما.

 

63


44

المحطة الثالثة

ومكثت أم حسن إلى جانب زوجها في المستشفى ثمانية أيام، خرج بعدها معافى، أما محمد فأصيب برضوضٍ سطحية، فيما انتهى مصير الفان الأبيض إلى محل قِطع الكسر.

اقتصرت، في ما بعد، صلة الوصل بين محمد وأبيه في العمل على تأمين البضاعة من بيروت، فشراء القماش وخياطته، في ظل الشّحّ في المبيع، صار خسارة أكثر مما هو ربحٌ، ثم إنّ العام الدراسي الجديد بدأ، فتسجّل محمد في كلية العلوم فرع الرياضيات، وسكن مع صديقه إبراهيم بعلبكي في منطقة الشياح، ولم يعد قادرًا على زيارة أهله إلا مرّة في الشهر.

في الوقت نفسه، كان تواصل محمد مع مختلف سفارات الدول جاريًا، من أجل السفر إلى أيِّ دولةٍ تقبل إفادة النجاح، كذلك أجرى اتصالاتٍ بمعارف له في أميركا، ليرى إن كانت تكاليف الدراسة في الجامعة هناك باهظة، أم أنه سيكون بمقدور حسن تأمين المال، فقد كانت الأوضاع الأمنية والظروف السياسية تجعله أكثر تصميمًا على دراسة الطب في الخارج، فلا تكاد تمرُّ ليلةٌ في بيروت من دون سماع صوت القذائف والرصاص. وما زاد الطين بلّةً، معرفةُ محمد أنَّ قانون الدفاع قد أُقِر، وسيجري العمل على تنفيذ الخدمة العسكرية الإلزامية أوائل شهر تموز، ولن يستثنى منه أحد حتى الطلاب، فصار يسعى بأيِّ وسيلة إلى أن يصل إلى نتيجة في بحثه عن جامعة تقبل انتسابه إليها بإفادة نجاح:

 

 

64


45

المحطة الثالثة

تحية أخوية طيبة وبعد...

بعيدًا عن الأوضاع الأمنية التي ما زالت تراوح مكانها بالنسبة إلى بيروت والجنوب... لقد طرأ شيءٌ جديدٌ ومهم قلب الموازين بأكملها. ففجأةً وجدنا الطريقة التي سنذلِّل بواسطتها كل المصاعب التي ستواجهنا. بالنسبة إلى السفر إلى فرنسا، لأشرح لك، ولعلك تعلم أنَّ السفر إلى فرنسا نوعٌ من المجازفة، وخاصة بالنسبة إلى الإفادة وإعادة امتحان البكالويا القسم الثاني، ففيها مشكلة ليست سهلة. وبعيدًا عن هذا، فإن الدراسة معقدة وصعبة. لقد اخترت هذا الطريق بعد أن عجزت عن أن أجد غيره. كنت أدري بهذه المخاطر وأصررت عليها، لأنه بإذن الله سأُوفق باتكالي على نفسي، والسهر طيلة الليالي في الدراسة. ولكن، والحمدلله، وجدنا الطريق الأسهل بالنسبة إلى الدراسة والإفادة. فبعد أن استفسرنا جيدًا عن إيران وعن الدراسة هناك، وجدنا أنَّ مستوى الجامعات يضاهي جامعات أميركا...

عاد محمد يسأل عن المنحة عبر صديق والده، فوعده بها خيرًا، وطمأنه، في حال تعذر الحصول على منحة، أن ستكون له توصية من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، تسمح له بأن يتسجّل في الجامعة بإفادة النجاح. يبقى أنه يحتاج إلى بعض الترتيبات للسفر إلى إيران، فاستعان بالسيد عبدالله صفي الدين، أحد أقارب أمه، الذي أطلعه على الخطوات التي يجب عليه فعلها، قبل أن يسبقه إلى إيران، على أن يبدأ محمد بتعلم اللغة الفارسية فور وصوله إلى البلد الجديد، وقبل بدء العام الدراسي.

 

65


46

المحطة الثالثة

بعد مريم، حسن، فاطمة، استعدّت أم حسن لغربة الرابع، وكأنّ الغربة صارت قدرًا لها، وهي التي ما رغبت بشيء في الدنيا أكثر من لمِّ الشمل. وحاول محمد أن يبدو متماسكًا أمام دموعها وهي تتفقّد المؤونة التي وضعتها في حقيبته: عدس، برغل بنوعيه: الناعم والخشن، تين يابس، بابونج، صعتر وزيتون، ففي بلادٍ تختلف لغتها عن لغته، لا تدري أم حسن ما الحال التي سيكون عليها مأكل ومشرب ومنام هذا العنيد، الذي لطالما أجبره عناده على أن يلفَّ رغيفًا ناشفًا ويتناوله إن كان الطعام لا يعجبه. كلُّ الصلابة التي أظهرها محمد بدت هشّةً أمام عروق الحزن التي اجتاحت بياض عيني أبيه، خانته دموعه، على الرغم من المكابرة، وأفلتت، وهو الذي اعتاد السفر ولم تكسره شِدَّة. للمرة الأولى يفصح أبو حسن عن كثير حبٍّ بكثير دمع.

وقبل سفره، بدا محمد أكثر التصاقًا بالأشياء التي سيغادرها، صار يتمعّن في تفاصيل لم يكن يُعِرها انتباهه، فهي من لزوم المشاهد العابرة التي كان يمرُّ عليها نظره: ورود الياسمين، شجرة ضي القناديل، عريشة الدار، السلّم الخشبي الذي اتخذه درجًا مختصرًا ليصعد إلى السطح ويدرس، مقرّ «شلّة ياي» وما فيه من فوضى هنا وهناك. وفي الحفلة التي أقيمت لتوديعه فاضت ذكريات الرفاق ونهفاتهم:

- أتتذكّر عندما صببت عليك سطل الماء في الشتاء وأنت تدخل لتسهر؟

- يا لها من ليلة، تحوّلت لسهرة مطاردة، لم يفلت حسن محسن وهو يهرب من تنكة الماء فشُقت شفته!

 

66


47

المحطة الثالثة

- سريع الغضب صاحبنا، دائمًا ما يحوّل اللعب إلى جد.

- وهل لعبكم يتحمّله مخلوق؟

- لا تستفزّوه، لم نصدّق أنه خرج من حزنه وعزلته.

- أنا الذي أخرجته من عزلته، لكنه حسّاس جدًّا.

- القصة كانت أكبر منه يا رجل، تخيّل موقفه وهو يخبر رفيقه عن البنت التي يحبها، ففوجىء به يخبره أنه يحبها أيضّا.

- أنا نسيتها وأنتم ما زلتم تتذكرون!

- المضحك في الأمر أنه عندما جاء محمد «ليكحلها فأعماها»، أراد أن يساعد حسن لينساها، فأخبره أنها تحب رفيقه أكثر منه.

- والمضحك أكثر أنَّ محمد أقنع حسن وصديقه وأقنعنا بحضور زفافها من ذاك الذي لا نطيقه.

- محمد يستخدم دائمًا أساليبه الدبلوماسية ليحقّق ما يريد.

- عندما أعود طبيبًا لن أُبقي لأيٍّ منكم ضرسًا أو سنًّا.

 

 

68


48

المحطة الرابعة

- فردا بيا.

...

- فردا بيا.

معزوفةٌ اعتاد محمد سماعها بعد أن وصل إلى طهران في الثامن عشر من أيار عام 1979م، واستقرّ في السكن الجامعي للطلاب من الخارج، ومنه انطلق في جولات بحثٍ للحصول على منحةٍ، وإيجاد معهدٍ يكتسب من خلاله اللغة الفارسية، كخطوةٍ لازمة، قبل بدء العام الدراسي في كلية الهندسة أو الطب.

بعد جولات بحثٍ استمرّت لعشرة أيام، كانت المعاهد التي قصدها مغلقة، منها ما أُغلق بسبب العطلة الصيفية، ومنها ما اُغلق بسبب الأحداث التي تلت الثورة الإسلامية. واتصل محمد بصديقه عبدالله في مدينة قم وقصده في زيارة لثلاثة أيام، بحث أثناءها عن معاهد أيضًا، فكانت كتلك التي سبقتها، فعادا معًا إلى طهران، وهناك علما من الشاب اللبناني ياسر فقيه، أنّ في جامعة «أبو ريحان البيروني» صفوفًا تعليمية للّغة الفارسية.

 

 

72


49

المحطة الخامسة

قصد محمد وعبدالله الجامعة التي تقع جنوب شرق محافظة طهران. هناك علما أنّ الانتساب إلى صفِّ لغةٍ والحصول على منحةٍ دراسية، يحتاج إلى موافقة من وزارة التعليم العالي، فاتجها إليها. سألا موظّفة الاستعلامات عن كيفية الحصول على الموافقة، وكانت تحوك كنزة بخيط الصوف، فأجابت باللغة الفارسية: «فردا بيا»، وترجم عبدالله لمحمد: «فلنعد في الغد»، ثم أتْبعت أنّ الموافقة لا تتم من دون شروط أعضاء اللجنة المختصة، وهذه اللجنة كانت في زمن الشاه، وبعد مغادرته إيران، غاب أعضاؤها عن الحضور.

في اليوم التالي أطلَّ محمد برأسه من الفتحة الزجاجية كما طلبت منه الموظفة أمس، فأجابت: «فردا بيا». هزّ برأسه وانصرف، ثم عاد في اليوم الثالث، أيضًا: «فردا بيا!»، صار يقصدها كل عدة أيام، فيسمع الجواب نفسه، حتى صارت هذه الجملة هي اللغة الفارسية الأولى التي أتقنها من دون صفٍّ تعليميّ، وانقلبت الآية بعد ذلك، فصار يطلّ برأسه من الفتحة الزجاجية ويبادر: «فردا بيا!»، فتومئ برأسها: «فردا بيا».

ما بين ذهابٍ وإيابٍ، انقضى الصيف على هذا المنوال، وتعرّف محمد خلال تلك الفترة على شابٍّ في الجامعة، من محافظة خوزستان، يتقن اللغتين العربية والفارسية، فطلب محمد إليه أن يعلّمه اللغة الفارسية ريثما تتم الموافقة على انتسابه إلى جامعة «البيروني».

 

73

 

 


50

المحطة الرابعة

بدا محمد سريع الاستجابة للّغة الجديدة، لما فيها من كلماتٍ تتقاطع مع لغته الأم، وكان عندما يفتقد وجود زميله الخوزستاني في المكان الذي يلتقيان فيه يوميًّا، يجول بحثًا عنه في الحرم الجامعي وما حوله. وفي وقت سريع، أخذت دائرة الثلاثة تتسع، من رفاق الشاب الخوزستاني، وكان هذا الأمر مناسبًا لمحمد، إلا أنّ حديث السياسة صار يتسلّل شيئًا فشيئًا إلى الحصة التعليمية، تبعًا للأحداث اليومية، إلى أن بدأ يطغى على حساب الهدف الأساس، وتبيّن أن زميله الخوزستاني يتعصَّب لحركة «مجاهدي خلق»، وما صار يطلق عليها «منافقي خلق». أخذ الخوزستاني يعترض على الخطوات التي كان يقوم بها الإمام الخميني، بعد إعلانه تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من استفتاء شعبي، وتشكيل حكومة مؤقّتة برئاسة «مهدي بازركان» بدلاً من حكومة «شابور باختيار»، وحلّ أزمة الفوضى والحرب المسلّحة في مدن محافظة كردستان. هذا النقاش كان يحتدُّ في كثير من الأحيان، مما يثير قلق صديقه عبدالله، فهو، وبحكم معرفته السابقة أثناء وجوده في مدينة قم، يدرك أن «منافقي خلق» يغتالون من يعارضهم، لذلك فضّل إلغاء الدرس اليومي من أساسه، لكنّ محمدًا أقنعه بأسلوبه، بمتابعة الحضور معه، على أن يتّفق مع الخوزستاني على تأجيل حديث السياسة إلى أوقاتٍ تناسب الطرفين.

يبقى أنَّ زيارته لنائب رئيس الوزراء الدكتور مصطفى شمران، والتي طمأنته في الحصول على منحةٍ دراسيّة، صار يشوبها القلق، فقد عاد كثيرٌ من الطلاّب الإيرانيين من الخارج لإكمال دراستهم،

 

74


51

المحطة الخامسة

وأصبح عددهم الكبير عبئًا يُضاف إلى هاجس قبوله في الجامعة، ذلك أنَّ ازدياد عدد الطلاب في الجامعات، يقلّل من فرص قبول الطلاب من الخارج.

أخي الحبيب حسن أدامك الله...

كما أخبرتكم في رسالةٍ سريعة قبل أربعة أيام، فقد حصلت على القبول في الجامعة في اختصاص طب الأسنان، من دون واسطةٍ من أحدٍ أبدًا. وقد جرى قبولي كمستمعٍ حر، لأنني، كما أخبرتكم منذ مجيئي، لم أوفّق في الدراسة في معهد لغة، وقد تعلّمت اللغة من الشارع وحدي، فلذلك من الطبيعي أنني لن أستطيع أن أدرس بشكلٍ يضمن النجاح، لهذا، أعتبر تسجيلي، هذه السنة، دراسة لغة ودراسة جامعية، ويحقُّ لي أن أدرس في الصف النظري والعملي، وأنا الآن أداوم في الجامعة بشكلٍ عاديّ، ولكن لا أستطيع أن أشارك في الامتحانات للسبب الذي ذكرته، في هذه الحالة أكون قد استفدت وتعلّمت اللغة بشكلٍ أفضل، وفي الوقت نفسه أكون قد درست في الجامعة واطّلعت على الدروس أكثر، وبذلك أؤمن النجاح المطلوب، إن شاء الله، في الامتحانات للسنة القادمة.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية - طهران - شارع العامل (أمير أباد شمالي) - المسكن الجامعي للطلاب الخارجيين - رقم البناء -23-

 

75


52

المحطة الثالثة

داخل السكن، كانت الوسادة أثقل الأشياء في غرفة محمد على الرغم من نعومتها، فمتابعة المحاضرات في الجامعة، وإن كانت تقلِّم من حدّة غربةٍ استعصت على إلفة المكان، إلاّ أن المناكفة التي تبدأ بها ذاكرة عيتيت ما إن يستلقي لينام، تجعل وسادته عاجزة عن غربلة أي من اللحظات التي حفظتها، بما فيها من راحةٍ ووجع؛ بسمةُ أمّه الدائمة وما يختبئ خلفها من حزنٍ وصبر، دمعة أبيه في المطار، وجوه إخوته، حبقات الدار، مقر «شلّة ياي» وما سكنه من فوضى، وتسلية، وضجر، وحُب، ومشاكل، ونكات أُعيد تصنيعها لمحو الهموم الصّدئة. وحتى اللحظات التي كانت تافهةً بنظره، وجد محمد أن ذاكرته حفرت تفاصيلها بعناية؛ عواء ابن آوى الذي كان يأتي صداه من الجزء الغائب من طرف الجبل المعتم ليلاً، أيامٌ هرب فيها من أبيه ليُدخّن السجائر، فاكتشف أمره بعد أن لحظ والده نقصان عددها من العلبة، وصار يلجأ إلى دكان خاله ويأخذها منه، ثم يدخّنها في البستان مع أخيه حسن.

وبدت غرفةٌ مجاورةٌ في السكن الجامعي أكثر تعاونًا، لتخلُصَ إلى مصالحةٍ بين محمد والليالي المتراكمة في تقويم الغربة، فقد تعرّف إلى الصديقين اللذين يستضيفان عبد الله في غرفتهما؛ حسن عز الدين، الذي سبق أن التقى محمدًا في لبنان وشجعه على السفر إلى إيران، فهو يدرس في كلية الهندسة في جامعة «ملي»، وخضر نور الدين أيضًا طالب هندسة في الكلية. كانت قد جمعت عبدالله وحسن وخضر في لبنان نشاطات إسلامية ثقافية، كلٌّ في منطقته، أمّا محمد، فنشأته الدينية كانت مقتصرة على الصلاة صغيرًا، في

 

76


53

المحطة الرابعة

جمعية أسرة التآخي عندما كان في برج حمود، وكذا معرفته بأن والده يؤدّي الخمس والزكاة عند الإمام السيد موسى الصدر قبل اختطافه، أما الدخول في التنظيمات والأحزاب التي كانت في عيتيت فلم تكُن في دائرة اهتماماته.

ويُعدُّ طلاب الهندسة عمومًا من الطبقة المخملية التي تتفرّغ للدرس فقط، وكان حسن وخضر من الشبان الذين لم يتفاوضوا مع مكوِّنات الطعام ليصنعوا وجباتٍ كتلك التي كانا يتذوّقانها في لبنان، فاقتصر طعامهما على وجبات كافيتريا السكن الجامعي، في كل يوم تكون وجبة الغداء صحن أرز مع قطعة سمك أو لحم أو دجاج. أمرٌ لم يستسغه ضرس محمد طويلاً، فهو اعتاد على المأكولات البيتية، لذا، بدأ يُعدُّ الأصناف التي توافقت مكوِّناتها مع مؤونة أمه: مجدّرة أرز، مجدّرة حمراء، كمّونة بندورة، ومأكولات أخرى تعيد للأصدقاء الأربعة حنينًا إلى أيادي أمهاتهم. أما خبز الحصى، واسمه «نان سنكك» فقد أضاف مذاقًا أحبّوه، لاسيّما عندما عرفوا أن تاريخه يعود إلى الشيخ
البهائي (بهاء الدين العاملي)، أحد أكبر علماء جبل عامل، والذي هاجر إلى إيران في القرن الحادي عشر في عهد الدولة الصفوية.

من بين كلِّ الأحاديث والنقاشات الدينية وغير الدينية التي يتناولها الرفاق الأربعة في جلساتهم، ثمّة ما كان يشغل تفكير محمد: أيُّ رجل هو الإمام الخميني؟! كيف وصل إلى ما وصل إليه؟ كيف استطاع أن يجعل له هذا المدّ البشري من المؤيدين لثورته؟ كيف تمكّن بثورةٍ بيضاء أن يطيح بحكم ملك الملوك؟! التناقض

 

77


54

المحطة الرابعة

الصارخ في طهران، بين قصور سعد آباد ونياوران ومرمر، وغيرها من القصور التي تمتلئ غرفها وصالاتها بالأرائك والكراسي والسجاد والستائر الفخمة، والتماثيل المعدنية لأشجار نخيلٍ بثمارٍ من الذهب الخالص، التناقض بينها وبين أحياءٍ كثيرة يعيش سكّانها في جحورٍ لا ماء فيها ولا كهرباء، ولا طرق معبّدة، يحكي المعاناة، منازل كثيرة تقع في حفرٍ عميقة، يضطرّ أصحابها إلى صعود خمسين درجة ليصلوا إلى سطح الشارع، والمرأة هناك، ولكي تحصل على حاجتها من الماء، عليها صعود هذه الدرجات، وإن في برد الشتاء، لكي تملأ جرّتها، وكثيرًا ما تقع وتتدحرج أثناء نزولها. كلُّ هذا كان يسهل أمام الاسم الأكثر رعبًا: «السافاك»، منظمة المخابرات والأمن القومي التي أسّسها الشاه، وما كانت تمارسه من قمعٍ وتجويعٍ وتعذيب وإعدام بحق معارضي النظام البهلوي. كان يكفي أن يُذكَر أمام أي معارضٍ اسم سجن «أوين»، حتى يتبادر إلى ذهنه ما ذاع عنه من فنون تعذيبٍ وصلت إلى حدّ قطع الأرجل بالمناشير، ومنهم من جرى وصله بالكهرباء، أو وُضِع في مقلاةٍ وأُشعِلت النار تحته حيًّا حتى احترق. هذا فضلاً عن بحيرة الملح، التي ذوّب فيها ما لا يُحصى من أجساد معارضين أُلقوا فيها.

ومحمد، غير بعيد عن أحداث ما بعد الثورة، فقد كان في صلبها، يتابع خطابات الإمام الخميني شبه اليومية، عبر التلفاز والمذياع. وفي الجامعة، حيث تدور النقاشات بين الطلاب في جامعة «ملي»، بدأ الحديث عن توجّه الإمام لثورة ثقافية داخل الجامعات، من أجل تغيير مناهجها التعليمية الغربية، التي كان نظام الشاه

 

 

79


55

المحطة الرابعة

قد أقرّها، وتكرّرت خطابات الإمام حول هذا الأمر لأهميته عنده. كانت هذه الخطابات، على تنوع الموضوعات التي تطرّق إليها الإمام لإعادة النظام إلى أصالته الإسلامية، تُقدِّم إلى محمد جوابًا عما كان يسأل عنه، فالتوجّه إلى الله والتغيير الداخلي هما سر انتصار الثورة، هكذا كان يشير الإمام دائمًا، وأنّه ليس من حقّق النصر، إنما الرعاية الإلهية لشعبٍ اتحد في كلمته بوجه الشاه، بعد أن كان يخافه.

ولاحظ رفاق محمد أنه وفي وقتٍ قصيرٍ، بدأ يتفوّق في حديثه، فهو متابعٌ دقيقٌ لمجريات وأحداث الثورة وخطابات الإمام، يملك قدرةً على تشخيص الأهداف التي يحدِّدها الإمام في احتياجات المرحلة، وما تتطلبه عملية التغيير، فيعدّدها، بدءًا من التخلص من المظاهر الطاغوتية، وحلّ مشاكل المحرومين والمستضعفين، وإزالة التباين الطبقي، وتنقية لجان الثورة والحرس، واليقظة أمام الانتهازيين الذين يخرّبون الثورة، وضرورة التصدّي للجماعات المعارضة، إلى مواجهة الشعارات التي يطلقونها، وبينها الدعوة إلى الإسلام من دون علماء. وهذه مسألة كانت في غاية الخطورة في نظر الإمام، لأن العلماء هم حصن الإسلام. وما محاولات الاغتيال التي بدأت بعد الثورة مع الشهيد مرتضى مطهري، ثم طالت السيد محمد باقر الصدر، ولا تزال مستمرة، سوى لتدمير هذا الحصن.

 

80


56

المحطة الرابعة

ما عاد يظهر على محمد ضيق الصدر والشعور بالغربة في هذه البلاد، ولم تعد تتلاطم صراعاته الداخلية في رسائله، وعندما يلفظ اسم «الخميني» يبدو شعوره كمشتعلٍ بنار الشوق، وفي وقتٍ قصير، وبعد أن ترسّخت لديه قناعة بأنَّ كل ما يفعله الإمام الخميني هو السير في طريق الأنبياء وحمل رسالتهم، قرّر أنّ الأطباء والمهندسين في البلاد كثر، فيما المرحلة الآن تحتاج إلى من يشقُّ طريق الأنبياء ويكمل الدور، إلى علماء يكونون حصنًا مدافعًا عن
الإسلام.

هذا القرار، وإن بدا طبيعيًّا لعبد الله وخضر وحسن، وغريبًا في نظر قاسم اسطنبولي وداوود يونس، وهذان سبقاه في اختصاص الطب، وواكباه ودعماه لما وجدا عنده من قدراتٍ كبيرة في اكتساب العلوم، إلاّ أنّه سيكون قرارًا شبه مستحيلٍ عندما يبلّغه لأهله في زيارته القريبة لهم هذا الصيف، فهم تحمّلوا فراق السفر ليعود إليهم طبيبًا، ثم إنّ عالم الدين، في العرف العام عندهم، سيعيش طيلة حياته فقيرًا، إن لم يكُن عالةً على أهله، وبمعزلٍ عن هذا، ماذا سيكون جواب محمد عن التكاليف الماديّة التي أنفقها حسن عليه، وحرم نفسه منها من أجل أن يفتخر بطبيب العائلة؟ وعلى أيِّ حال، فإن قانون المشورة المعتمد في بيت أهله، سيجعل بعض الأصوات تقف بصفّه في هذه المسألة، وأهمها صوت سكنة.

وكان أن تسلّم إبراهيم درويش في السعودية رسالة من محمد، تفرّدت في فحواها عن سابقاتها، يخبره بقراره الجديد، ويطلب إليه إبداء رأيه:

 

81


57

المحطة الرابعة

أخي المؤمن إبراهيم...

قال الإمام علي (ع): «يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتخذوا الأرض بساطًا، وترابها فراشًا، وماءها طيبًا، والقرآن شعارًا، والدعاء دثارًا، ثم قرضوا الدنيا قرضًا على منهاج المسيح...».

عجبًا يا أخي إبراهيم، لمن يصرف كلّ طاقاته في سبيل دنياه، عجبًا لمن غُرس في نفسه حب الدنيا، ونسيان الآخرة، عجبًا لمن طُغي على قلوبهم، وتلبّس الشيطان بهم، فأصبحوا لا يعرفون إلّا حب الدنيا، وحب الذات، والحقد والطمع والجشع....

أخي إبراهيم... إنّ الحديث عن الإسلام والرسالة الخالدة لا ينتهي أبدًا، ولكن، لا يسعنا نحن إلّا أن نتذاكر باستمرار، ونتحدّث في أي موضوع إسلامي يهم المسلمين كافّة...

فلله الحمد على هدايتنا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونسأل الله عز وجل أن يزيدنا إيمانًا ويقينًا، ويجعلنا من المستشهدين في سبيله.

ونسألكم، في حال توجهتم إلى المدينة المنورة أو إلى مكة، نسألكم دائمًا أن تذكرونا بالدعاء هناك، ولكم على الله الأجر.

ولعلَّ المجال يتّسع لإخباركم عن أخٍ لكم في بلدٍ مجاور، فأخبركم، ولله الحمد، أنني بصحة جيدة، وبالنسبة إلى الدراسة فلا شيء جديد عن الرسائل السابقة، فالجامعة في أحوال جيدة، والدراسة على ما يرام، وفعلاً، في هذه الأيام أفكّر جدّيًّا بترك دراسة طب

 

82


58

المحطة الرابعة

الأسنان، والتوجّه إلى فرعٍ آخر: كلية الإلهيات والدراسة الحوزوية في مدينة قم. فهذه الفكرة قيد الدرس، لأنه باعتقادي، هذه الدنيا ما هي إلا جسر نمرُّ عليه، لنقطعه إلى شاطئ الأمان. فمهما كنت، مهندسًا أو طبيبًا، أو رجلاً عاديًا أو معمَّمًا، فبالنهاية لن تُسأل إلّا عن أعمالك...

لا تتفاجأ بهذا أبدًا، ولعلك تقول ما هذا التحوّل السريع. من حقك أن تقول هذا، ولكن، لعلّ الأفضل هو التوّجه نحو الخيار الثاني، وهذا الموضوع قابلٌ للبحث، ولأخذ الآراء...

هذه هي الأخبار التي أعتقد أنه من الواجب إخباركم إياها، لأنكم سوف ترون تحوّلاً في حياة أخٍ لكم، ومن واجب الأخ إخبار إخوته بذلك، وإلى الآن لم أرسل للأهل والإخوة في لبنان وسوريا، وبعد فترة سأكتب لهم هذا، ولكن ليس الآن...

وقبل أن يحين موعد زيارة محمد إلى أهله لإطلاعهم على الأمر، طُرق باب أبي حسن مع بداية الصيف، وكان قد انتقل في سكنه إلى منطقة مارون مسك في الشياح. جاء عبدالله صفي الدين وخضر نور الدين لإقناع العائلة بالشيخ الجديد، استهلَّ عبدالله حديثه بأهمية العلوم الدينية ودور العلماء في الوقت الحاضر، فظلّ أبو حسن صامتًا، تنحنح عبدالله، فأكمل خضر، وأخذ يستعرض مزايا محمد التي بانت في شخصيته وتتوافق مع القرار الذي أخذه، واستمرَّ أبو حسن في صمته، لكن قيامة سكنة قامت:

 

84


59

المحطة الثالثة

«لماذا يريد أن يصبح شيخًا؟ في عيتيت ما يكفي من المشايخ!».

ما بين أخذٍ وردٍّ، لم تقتنع سكنة، أما أم حسن فأكثرت من الحوقلة والتساؤل مستهجنة:

«أرسلناه ليتعلم الطب ويريد أن يصبح شيخًا؟! سيكون لي معه حديث آخر عندما يأتي».

واستفاقت سكنة في منتصف الليل على أبيها يروح ويجيء في ممشى البيت، وهذه كانت عادته في حالتين: ألم معدته أو قلق لأمر مهم.

- هل أعدُّ لك الزهورات؟

- لا.

- إذًا، أفصح عما يقلقك!

- كنت أنتظر اللحظة التي سيعود فيها محمد طبيبًا أفتخر به أمام الناس، ويعينني في فقري وكبري، لكن، في الوقت نفسه، هو اختار طريقًا فيه رضى الله وجنةً لآخرته. لذلك، لا يمكنني أن أقف في وجهه على حساب ما أريد للدنيا.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى طُوي عام السفر الأول، وعاد محمد إلى أهله، نسيت أم حسن قرار ابنها وما يريد أن يكون عليه مستقبلاً، وقضت وقتها تمسح على وجهه ولحيته التي امتدّت على مساحة ذقنه، بعد أن كانت زغبًا، تمرّر أصابعها في شعره، تتفقّد وزنه، تسأله عن أنواع الأطعمة التي اشتاق لتناولها، لكنها لا تلبث

 

85

 

 


60

المحطة الرابعة

أن تجلس قرب أبي حسن وتسأله إن كان يلاحظ أنّ ابنها قد جُن، فها هي تستيقظ في منتصف الليل لتراه يصلي بدلاً من أن ينام.

وسُرَّت أخته دلال بقصص الأنبياء التي أحضرها لها هدية، وكانت من بين أخواتها أكثر ميلاً لارتداء العباءة، فوجدت في محمد سندًا لها. وجاء ابن الخال حسن محسن ليهنئه بالسلامة، فأخذت سكنة تخبّئ أمام محمد ما انفلت من خصلات شعرٍ بارزة من تحت المنديل.

- أجُننت؟ صرخ حسن بمحمد.

- تمهّل لأفهمك وجهة نظري.

- أنت لا تعرف مصلحتك جيّدًا.

- اسمعني قلي‍ ....

- يا رجل! أتستبدل الدراسة الدينية بالطب؟ هل من عاقل تعب كل هذا التعب ليصل إلى ما يريد ثم يفعل فعلتك؟ ماذا تفعل بالمال الذي أُنفق على تعليمك؟ ومصاريف السفر؟ ورأي أهلك الذي ضربت به عرض الحائط؟

- اس‍ ..

- لا أريد أن أسمع رأيك. أنت الذي يجب عليك أن تسمعني، إذا كنت ترغب في الدراسة الدينية، فيمكنك أن تتفرّغ لها صيفًا، وبهذه الطريقة لا تضيِّع فرصتك في دراسة الطب.

 

87


61

المحطة الرابعة

- المشكلة هنا.

- المشكلة عنادك.

- المشكلة أنه لا دراسة دينية في الصيف، ثم إنّ الأولوية لهذا الخيار عندي، وها أنت تدرس الطب، وإبراهيم بعلبكي أيضًا، وغيركم كثر، ومتابعتي أو عدمها، لن تقدّم أو تؤخّر كثيرًا في المجتمع، على العكس من الدراسة الدينية، هي الأولوية في هذه المرحلة.

- لم تقنعني!

- هناك حلّ آخر، نذهب معًا إلى أحد العلماء الثقات، وستكون خيرة الله هي الحكم بيننا، هل توافق؟

- أوافق.

أثناء الطريق، من الشياح إلى حيّ السلم، لم يهدأ لسان حسن ليثنيه عن رأيه، فيما كان محمد ينتظر مساحة من السكوت، ليطلب إليه أن يصبر ليرى ماذا سيختار له الله. فتح عالم الدين كتاب القرآن، تمتم، نظر إلى محمد: خيرتك الأولى جيدة، افعل. والثانية نهيٌ فلا تفعل. اعترض حسن: «ليتني لم أوافق على طريقتك، هذا الاختصاص ليس منكرًا حتى يحتاج إلى خيرة!».

- أتقبل خيرة ثانية على أن تكون نهائية ولا تناقشني في ما بعد؟

- أوافق.

 

 

89

 


62

المحطة الرابعة

مجدّدًا: «افعل في الأولى، أما الثانية فلا». قال عالم الدين.

وفي طريق عودتهما، سكت حسن طيلة الوقت، وما إن وصل إلى أمام المدخل، حتى التفت إلى محمد وقال: «غدًا تنتظرك شلة ياي في عيتيت».

- بالمناسبة، لعب الورق غير جائز.

- بدأتَ تُصدّر الأحكام الشىرعية علينا!.

 

90


63

المحطة الخامسة

مع كل فجر، ومنذ أن قدِمَ إلى قم واستقرّ في مبنى الحوزة العلمية للطلبة اللبنانيين، كان محمد يجافي فراشه، ويرتدي معطفًا سميكًا، ثم يتوجّه إلى مقام السيدة فاطمة المعصومة (ع) لأداء الصلاة.

والمسافة سيرًا على الأقدام من شارع الصفائية إلى المقام، لم تكن تحتاج إلى أكثر من ثلث ساعة، لكنَّ درجة الحرارة المتدنية إلى ما دون الصفر، كانت تجعله يصل والبرد نخر عظامه وجمّد حركته. إلاّ أن السكينة، التي تأخذ بلبّه بمجرّد أن يصبح داخل الحرم، دفءٌ له طعمٌ آخر، حبّذا لو يجرّبه أولئك الذين تدثّروا بغطاءٍ وسقف.

وإلى أن يتفتّح وجه الصباح، بين تلاوةٍ لقرآن الفجر، وصلاةٍ ودعاء، تنشط حركة الناس نحو الحرم تدريجيًّا، منهم من صحب بطانيته السميكة ولفّها حول رأسه وبدنه، ومنهم من جاء يحمل بيده كتابًا، فينضمّ كمحمد، إلى حلقة رفاقه من طلبة العلم ليدرس على يد أستاذه.

ثم، بعد أن ينتهي الدرس، تبدأ مباحثات الطلبة في ما بينهم، فتقسم الحلقة الكبيرة إلى جلسات ثنائية، ويتناقش كلُّ طالب مع آخر في ما درسه خلال النهار.

 

94


64

المحطة الخامسة

في هذا الوقت، كانت أعداد الطلبة اللبنانيين تتزايد في الحوزة، فتشعّبت لقاءات محمد بمزيدٍ من الأصدقاء، الذين أضيفوا إلى السيد عبدالله والشيخين حسن وخضر، الشيخ عبد الكريم عبيد، وجهه لم يكُن جديدًا، فقد التقى به محمد أكثر من مرّةٍ في منزل السيد جعفر مرتضى، وكان لا يزال في جامعة «ملّي» بطهران، ويقصد قم أيّام العطل. والشيخ أنيس جابر، وهذا عندما يُذكر اسمه يُقترن بالعاشق الولِه للإمام الخميني، فهو يمكنه أن يتحمّل النقاش في أي أمرٍ، سوى أن يتعلّق بأعلمية الإمام، وصوابية الموضوعات التي يتطرّق إليها في خطاباته، فيواجه بالدليل، ويبرز شهادات الأعلمية بحقه، ويدعو إلى تقليده. هذا الأمر توافق مع شخصية محمد وجهده الحثيث أيضًا، في إرسال شهادات الأعلمية بحق الإمام إلى لبنان والدعوة إلى تقليده، ونشرها على أوسع نطاق. وذات يوم، دعا الشيخ خضر نور الدين عددًا من الرفاق والعلماء إلى بيته، لذبح شاةٍ عن ابنه الصغير، وتأخّر أحد المدعوّين في الحضور، واسمه أبو سعيد الخنسا، وعندما وصل، وجد شابًّا أمام عدد كبير من المدعوين، يضع كتابًا فوق آخر بقوة، ويقول بصوتٍ حاد: «وهذا الكتاب؟ ألا يثبت أعلمية الإمام؟ وهذا الكتاب؟ وهذا؟ وهذا؟!»، وعندما سأل عنه قالوا: إنه الشيخ محمد رملاوي، هادئ الطباع، يمكنك أن تناقشه في أيِّ أمر، إلا أن يتعلّق بالإمام الخميني وأعلميته.

 

95


65

المحطة الخامسة

أما الشيخ مالك وهبي، فهو كان طالبًا متفوّقًا في اختصاص الرياضيات في كلية العلوم، دعاه الشيخ أنيس إلى إيران ليدرس العلوم الإلهية، فلبّى من دون نقاش. ولكثرة ما حكى له الشيخ أنيس عن مزايا الشيخ محمد، أحبّ أن يتعرّف إليه، وكان كما وُصف: بشوش الوجه، ترابيّ العلاقة، هادئ الصوت إلى حدّ الخجل، كثير الحركة، يتنقّل من مكان إلى آخر ليخدم طلبة العلم الذين قدموا حديثًا إلى إيران ويصعب عليهم ترتيب أمور معيشتهم، لعدم إتقانهم اللغة الفارسية، أو بسبب أزمة السكن التي كانت تعاني منها قم بعد انتصار الثورة، فهي لا تقلّ صعوبةً عن أزمة تحصيل الغاز والسكّر والحاجيات، فتحصيلها يحتاج إلى ساعاتٍ وساعاتٍ من الانتظار.

وحدث أن ضرب المنطقة زلزال، وأصيب مبنى الحوزة ومعظم البيوت المحيطة بأضرار، فاضطر الطلبة إلى مغادرته، والبحث عن سكن جديد. وبعد جهد، وجد الشيخ خضر لرفاقه غرفةً للإيجار، تقع بمحاذاة بيته في شارع «جب شور»، وهي غرفة عُلويّة، لها درجٌ منفرد عن الطابق الأرضي لجاره الإيراني، تُستخدم عادةً للضيوف، أو للابن الأكبر عندما يقرِّر الزواج.

انتقل الرفاق إلى السكن الجديد، ينقصهم السيد عبد الله، فقد مرض والده، فغادر إلى بيروت. في الغرفة، مُدَّ بساطٌ فوقه طراريح رقيقة، اشتراها الشيخ محمد من السوق، تُصَفُّ طولاً في الليل كي يتّسع المكان للمنامة، أما في النهار، فتصبح متّكأً يجلسون على عددٍ منها، فيما يُطوى الباقي في إحدى الزوايا.

 

96


66

المحطة الخامسة

واتخذ الشيخ أنيس من زاوية ثانية مقرًّا له، وشرع بدقِّ المسامير في الحائط، وثبّت عليها رفًّا حديديًّا، ولما سئل عن السبب، أجاب وهو يضع المسجلة على الرّف، وبجانبها مجموعة من الأشرطة: «كي لا أزعج أحدًا منكم أثناء تسجيل خطابات الإمام الخميني».

واتّفقت المجموعة على أن تتناوب في ما بينها على إعداد طعام الغداء. وكان دور الشيخ حسن أوّلاً، فطلب من محمد أن يشتري الحاجيات المطلوبة، على أن يقوم هو بطهي الطعام ففعل. وانتظر الجائعون إلى أن فرغ من إعداد الطعام، فأقبلوا على المائدة. لاحظ الشيخ حسن أنهم يأكلون كما لو كانوا مجبرين، وهو، في قرارة نفسه، يدرك أنهم على حق، فبينه وبين مهمة الطبخ جفاء طويل، ولكي يوفّر عليهم إبداء آرائهم بادر: «هذا هو الموجود!».

في اليوم التالي، كان دور الشيخ عبد الكريم، فوعدهم ب‍ «فراكة اللحمة» إحدى المأكولات اللبنانية التي يشتهر بها الجنوبيون. أخذ يحدّثهم عن براعته في إعداد الطعام، فقد كان أصغر إخوته، واضطرّ إلى ترك جبشيت والسكن وحده في بيروت من أجل الدراسة، فتعلّم أن لا يعصى عليه شيء من طهيٍ، وتنظيف، وغسل ثيابٍ وكيّها، وما إلى ذلك من الأمور البيتية.

توجَّه محمد إلى الجزار، وطال غيابه، وبعد أن تلوَّت أمعاء الجائعين، عاد يحمل اللحم. أخبرهم أنّ في قانون الجزّارين لا يحصل الزبون على اللحم من الجزء الذي يريده كما في لبنان، بل

 

97


67

المحطة السادسة

عليه أن ينتظر حتى يبيع اللحم ويصل إلى الجزء الذي يريده الزبون. وعلى أيّ حال، فقد كان الانتظار في محله؛ أكلوا أكلاً مضاعفًا.

وجاء دور الشيخ مالك، وكان كصديقه الشيخ حسن، أما الشيخ أنيس فقد ذهب بنفسه لإحضار الطعام، وكان في ذلك راحة لمحمد، فانتظر محمد مع رفاقه، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى عاد يحمل بيده سطلاً من اللبن، ويلقي على كتفه حبلاً من التين. بدأ بإعداد المائدة، ودعاهم، فجلسوا وهم في جوع وذهول.

- ما بكم؟ قال مستهجنًا، هذا إدام الأنبياء!

- هذا معناه أن لا نعتمد عليكم مجددًّا! قال الشيخ عبيد، ومنذ ذلك اليوم صار يتناوب مع الشيخ محمد على الطبخ، وغالبًا ما تكون مهمة شراء الحاجيات على عاتق الأخير من دون أن يتذمّر يومًا.

أكثر الأحاديث انسجامًا داخل هذه الغرفة، تلك التي كانت تدور بين الشيخين أنيس ومحمد، حول خطابات الإمام الخميني وشخصيته. ويبدو للمستمع إليهما دقّتهما في متابعة الموضوعات التي تطرّق إليها الإمام، فيستحضران محتواها كما لو أنّهما حفظاها عن ظهر قلب، وإن كان الشيخ أنيس أكثر براعة في الخطاب، فهو كان منبريًّا، يشارك في النشاطات الكشفية والاحتفالات، منذ أن كان صغيرًا في مخيم تل الزعتر، وهو أيضًا، بالإضافة إلى دراسته الحوزية، ومباحثاته مع الرفاق التي صقلت خطابه، كان مذيع أخبار باللغة العربية في إذاعة عبادان. ولولا أنه في المرة الأخيرة طُرد من

 

98


68

المحطة الخامسة

الإذاعة، وجاء يخبر الرفاق أنه تلعثم أكثر من مرة، فارتجل موعظة مباشرة للمستمعين، ونصحهم بعدم شرب الشاي ثقيلاً كما فعل، لولا هذه الحادثة لكان الشيخ محمد أكثر إصغاءً له، ولكنه، كلما تسلّم دفَّة الحديث، قاطعه الشيخ محمد: «يبدو أنك أكثرت من شرب الشاي! هل أُكمل عنك؟».

مرّتين فقط، عجز محمد عن أن يتحدّث عن الإمام، ولم يكن لاستحضار الخطاب من دخلٍ في عجزه، في المرتين اللتين وُفّق فيهما لزيارته، وتشرّف برؤية وجهه المهيب عن قرب، أراد أن يصف شعوره، فاكتفى ببكاءٍ شديد. ومرّات كثيرة سعى الشيخ أنيس للقاء الإمام، إحداها عندما مكث أمام منزله تحت المطر، فأدخله عناصر حرس الإمام ليبيت معهم حتى الصباح، حينها عرف الإمام بالأمر فطلبه إليه، وعندما رآه وجلس أمامه اكتفى ببكاءٍ شديد.

سريعًا، بدأ غياب محمد في الغرفة يُلحظ لصالح الالتصاق بحرم المعصومة معظم الوقت. فهو، بالإضافة إلى دراسته الدينية، ومواظبته على إقامة صلاة الجماعة في الحرم خلف المرجع الديني آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، كان يقضي وقتًا داخل الحرم يستمع إلى صوتٍ كان يتردَّد يوميًّا. لم يكن ليمرّ يومٌ واحد من دون أن تستقبل السيدة المعصومة جثامين الشهداء العائدين من جبهات القتال، ثلاثة، أربعة، عشرة، يدخلون يوميًّا على محامل خشبية خضراء، على أكتاف المجاهدين، ونداؤهم يخترق المكان، فيما الجموع تصطفُّ على الجانبين وتردّد خلفهم:

 

100


69

المحطة الخامسة

عزاء عزاء هذا اليوم... اليوم يوم عزاء

الخميني محطّم الأصنام، هو صاحب العزاء اليوم.

ويعلو صوت الشيخ محمد ويردّد بجرأة وحماس:

عزا عزاست امروز... روز عزاست امروز

خميني بت شكن صاحب عزاست امروز.

وبعد أن يُصلّى عليهم في الحرم، ويُقام مجلس عزاء، يُشيع الشهداء إلى بلداتهم أو إلى مقبرة الشهداء قرب الحرم. وكما كانت السيدة المعصومة تستقبل الشهداء، كانت أيضًا تودّع المجاهدين إلى جبهات القتال، في مراسم أشبه بالعرض العسكري. وجوهٌ غضة، وأخرى ناضجة، تودِّع أمًّا أو أبًا أو زوجةً أو ولدًا، ثم يغادر هؤلاء وهم يهتفون للإمام الخميني أن:

إمامي إمامي روحي لك الفدا

أعطني الأمر كي أغتسل غسل الشهادة

وينادي محمد معهم ويهتف بملء حنجرته:

إماما إماما جانم فدايت

فرمان بده تا بكم غسل شهادت

 

101


70

المحطة الخامسة

ومشاركة الشيخ محمد في توديع المجاهدين أو استقبالهم شهداء، لم تكن مجرّد تبنٍّ لموقفٍ من الحرب الشرسة، التي شنّها صدّام حسين على إيران في الثاني والعشرين من شهر أيلول عام 1980، بل هو أيضًا موقفٌ من الحرب الداخلية التي أعقبت الثورة الإسلامية لإخمادها، موقفٌ من حركة منافقي خلق، التي كانت تصفّي من كان لهم دورٌ فاعل في انتصار الثورة الإسلاميّة، ويؤيّدون حركة الإمام الخميني، ويؤكّدون على الحفاظ على نتائج الثورة، من علماء ثوريين، وأئمة الجمعة، والعامّة من الناس.

فبعد اغتيال الشهيد مرتضى مطهري، توالت عمليات الاغتيال التي نفّذتها حركة منافقي خلق؛ اغتيل شهيد المحراب الثاني آية الله أسد الله المدني، إمام جمعة مدينة تبريز، وهذا كان نصير الإمام الخميني في الكشف عن الوجه الكريه للنظام البهلوي قبل الثورة، وعن طبيعة الليبراليين والمنافقين، وكذا في مواجهتم بعد الثورة، وكان مشاركًا في الحرب المفروضة، يذهب إلى جبهات القتال، ويشارك المجاهدين في أدعيتهم، وفي مجالسهم، ليحثّهم على مواصلة الدفاع عن إيران.

ثم جاء اغتيال السيد محمد بهشتي في مقرّ الحزب الجمهوري في طهران، أثناء انعقاد اجتماعٍ لقادة الحزب، وأدّى إلى مقتل نحو اثنين وسبعين من أعضاء وقادة الثورة. والسيد بهشتي كان يعدُّ أقوى الشخصيات بعد الإمام الخميني، لدوره في الثورة وما بعدها. ونجا في هذا التفجير السيد علي الخامنئي، فقد كان في المستشفى بسبب إصابته لدى محاولة اغتيال فاشلة.

 

102


71

المحطة الخامسة

وتبع عمليةَ التفجير هذه بعد أشهر، اغتيال الرئيس محمد علي رجائي ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر، ونجحت حركة منافقي خلق باغتيال «عطاء الله أشرفي أصفهاني» وهو في محراب صلاة الجمعة في مدينة كرمنشاه، بعد محاولتين فاشلتين. ثم آية الله السيد عبد الحسين دستغيب وهو في طريقه إلى صلاة الجمعة، ثم السيد محمد القاضي الطباطبائي، الذي عُدَّت شهادته خسارة كبيرة بعد اغتيال الشهيد مطهري والسيد محمد باقر الصدر لما كان يحمله من فكر وعلوم.

ذات يوم من أيام تردّده إلى الحرم، لاحظ الشيخ محمد أن صبيًّا يدخل إلى المقام، ويمكث فيه وقتًا لا بأس به، من دون أي فعل، ثم يغادر، اللهم إلاّ حين يرى الناس اجتمعوا حول جثامين شهداء أُدخلوا الحرم، فيقف بينهم، ينظر إلى أسمائهم، ثم لا يلبث أن يغادر. وصار يراه على هذه الحال كل يوم، فأثار الأمر فضوله؛ اقترب منه، وصار يحدّثه، ويسأله عن دراسته، وهواياته، وعمل والده، وكان الصبي يجيب بطلاقة، إلاّ السؤال الأخير، جاء مقتضبًا، متلكّئًا، ممتزجًا بغصّة:

- فُقد والدي في الحرب، وأنا آتي إلى هنا للبحث عنه بين أسماء الشهداء، لا يمكن لوالدتي أن تأتي، فبيتنا بعيد جدًّا، وإخوتي صغار.

- سُررْتُ بك رجلاً في غياب أبيك، هل تقبل بي صديقًا إلى حين يعود؟ قال وهو يمسح على شعره، ويُربِّت على كتفه.

وصارت اللقاءات بالصديق الصغير دائمة، وكلما دخل الحرم نعشٌ جديد، اقترب الشيخ محمد يبحث مع صديقه عن اسم أبيه.

 

103


72

المحطة الخامسة

وذات يوم، مرَّ أحد رفاق الشيخ محمد فوجده يجرّ دراجة، فضحك ممازحًا:

- نعرف أن بُنيتك صغيرة، لكن ليس للحدّ الذي تشتري دراجة صغار!

- هي لابن شهيد، انتظر لترى دراجتي الجديدة بعد أيام.

بعد مدّة، لم يبقَ في الغرفة من سُبّحة الرفاق سوى الشيخ محمد والشيخ مالك، فقد تزوّج الشيخ أنيس واستقلّ في سكنه، وكذا فعل الشيخ حسن، واستأجر الشيخ عبد الكريم منزلاً في منطقة «جهار ماردون»، وسلَّم المفاتيح إلى رفيقيه ليسكنا فيه ريثما يعود من لبنان بعد أشهر، فيسكن فيه مع زوجه.

في هذه الأثناء، انضمّ السيد هاشم صفي الدين إلى الإخوة في السكن الجديد، وكان قد رأى الشيخ محمد قبل سفره إلى طهران عندما كان يرتّب أمور سفره ليتعلم الطب، فوجده طالب علوم دينية، ووجد أنّ مظهره صار أقرب إلى الإيرانيين بعد أن كان شابًا ذا مظهر مختلف. وقبل السيد هاشم، قدم ابن عمه السيد يوسف، وكان قد التقى بالشيخ محمد في الطائرة أثناء عودته من زيارة قصيرة لأهله، وتحدّثا عن الأوضاع في إيران، وعمليات الاغتيال المتلاحقة، وكانت مناسبة عودتهما ذكرى أربعين الشهيد بهشتي، فشاركا في الاحتفال في طهران، ثم انضم الشيخ علي دعموش والشيخ نبيل قاووق إلى المجموعة، التي سرعان ما تآلفت مع الشيخ محمد واتفقت على انطباعٍ واحد عنه: هو، فضلاً عن مأكولاته الطيبة، صاحب الهمة العالية والنشاط، يصرف وقتًا كبيرًا في سبيل

 

105


73

المحطة الخامسة

خدمة رفاقه والاهتمام بأوضاعهم من مختلف النواحي، كتأمين سكن، أو أثاث، وغيرهما من الحاجيات التي يجول بدراجته الهوائية لتأمينها.

وحدث أن ابتُلي صديقه الشيخ علي دعموش بمرض عرّض حالته الصحية للخطر، فاصطحبه الشيخ محمد إلى أحد الأطباء في طهران لتشخيص حالته، ثم ذهب به إلى كبار الأطباء المختصين، فتقرّر إدخاله المستشفى لتلقّي العلاج، واستمرّ علاجه ثلاثة أشهر، كان خلالها الشيخ محمد أكثر الأصدقاء زيارةً له واهتمامًا به.

كذلك أصيب صديقه الشيخ حسن عز الدين بعارضٍ صحيٍّ مفاجئ، وساءت حالته، وكان الشيخ محمد دائم التردّد إلى بيته، فعلم بحاله، وصار يراجع الأطباء في قم وطهران، لينتخب له أمهرهم. بدأ العلاج، وكان لزامًا على الشيخ حسن تلقّي الإبر للعلاج باستمرار، لكن، لم يكن بمقدوره مغادرة الفراش، فأحضر له الشيخ محمد ممرِّضًا إلى حين شُفي تمامًا.

وكان قد اقترب موعد زواج أحد رفاقه، ولم يتمكّن من تأمين بيتٍ للسكن، حتى اليوم الذي سبق موعد زواجه، فعلم الشيخ محمد بالأمر، وكان قد استقلّ في سكنه، فذهب إليه معاتبًا: «هاك مفتاح بيتي، شيخ نبيل، ماذا تنتظر لتخبرني؟!».

لم يقتصر اهتمام الشيخ على رفاقه فقط، فهو حرص على مساعدة الكثير من اللبنانيين الذين جاءوا إلى إيران طلبًا للعلم، ولم يكونوا يجيدون اللغة الفارسية، أو يعرفون المناطق ليبحثوا عن منازل للسكن، فكان يستقبلهم في المطار، ثم يبدأ تجواله

 

107


74

المحطة الخامسة

كل يوم حتى يؤمّن لهم السكن والأثاث. الشيخ نجيب صالح، من بين هؤلاء، جاء إلى قم، وبدأ يدرس علم النحو على الشيخ محمد في حرم المعصومة، وعلم منه، بعد استفسارٍ عن أحواله، أنه يسكن مع عروسه في بيت أحد أصدقائه منذ نصف شهرٍ تقريبًا، لأنه لم يتمكّن من إيجاد منزل، فدعاه إلى منزله، واستضافه في السرداب، لأنه أكثر برودةً من بقية الغرف، في ظل الحر الشديد. وصار يطلُّ عليه كلّ صباح، يحمل بيده صحن تمرٍ محشوٍّ باللوز، ثم يأتيه بالفطور، ويغادر، فيتابع دراسته الحوزويّة والتبليغ، بعد ذلك، يبدأ تجواله للبحث عن منزل، وهكذا حتى استطاع تأمين سكنٍ له.

وبعد مدةٍ قصيرةٍ من وجوده في قم، أصبح الشيخ محمد صلة وصل، أيُّ وافدٍ لبنانيٍّ إلى إيران يسأل عنه، أو يرسلونه إليه. من بين هؤلاء، قصده مرةً شابٌ لبناني، عرّف عن نفسه، اسمه الشيخ نعيم قاسم، وهو مدير عام جمعية التعليم الديني الإسلامي، جاء إلى إيران لتأمين مصادر تمويلٍ للجمعية، منتظمة ودائمة، ذلك أنَّ رواتب معلمي التعليم الديني لم تكن متوفّرة في لبنان على الصعيدين الرسمي والخاص. وأخبر الشيخ نعيم الشيخ محمد أنّ الإخوة اللبنانيين الذين قصدهم ليرشدوه إلى علماء ومراجع يساعدوه، أجمعوا على القول: «الشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتك لهذه الغاية هو الشيخ محمد رملاوي». وصدقوا في قولهم، فقد أبدى استعداده لمساعدته، وهكذا كان، راح، في أيام عطلته، يأخذ مواعيد من العلماء في قم وأصفهان وطهران ومشهد، على الرغم من عدم معرفته الشخصية بهم، يريد البحث عمن يرشده إلى أئمة جمعة، أو مسؤولي حوزات علمية. بعد ذلك،

 

109


75

المحطة السادسة

ترافقا معًا إلى هذه المناطق لأيام متواصلة، وجرى عرض المشروع الرسالي، والاتفاق على أن يكون الشيخ محمد صلة الوصل بين من يستطيع توفير المال والشيخ نعيم، ليرسلها إليه في لبنان.

في وقتٍ قصير، أتيح للمجموعة أن تنتقل إلى حوزة الرسول الأكرم (ص)، في شارع «الشاه إبراهيم». كانت الحوزة سوقًا في زمن «الشاه بهلوي»، وهي، بطوابقها الأربعة، ذات شرفات زجاجية، تعكس حرارةً شديدة في الصيف، ولذا، غطّاها الطلبة بشراشف، أو ألصقوا الجرائد عليها. والحوزة لم تكن مخصصة للطلاب الأجانب، لكنَّ توصيةً حملها الشيخ نبيل قاووق إلى الشيخ مُتَّقي في مكتب التبليغ الإسلامي داخل الحوزة، جعلت الشيخ محمد والسيد هاشم صفي الدين والشيخ نبيل ينتقلون إليها، ثم لحق بهم الشيخ مالك وهبي والسيد يوسف صفي الدين والشيخ علي دعموش، وتوزّعوا داخل الغرف والطوابق، على أن يكون كل واحد منهم مع آخر إيراني، بهدف أن تتحسّن لغة الطرفين.

وما أسرع اندماج الشيخ محمد ببرنامج الحوزة، الذي كان يعتمد على البناء الروحي والثوري للطلبة، بالإضافة إلى دراسة المواد. ففي كل ليلة جمعة يذهب الطلبة الإيرانيون إلى حسينية «الإمام الرضا (ع)»، لحضور درس الأخلاق الذي يعطيه الشيخ المظاهري بطلبٍ من الإمام الخميني.

واقترح الشيخ محمد على السيد هاشم أن يرافقه لحضور الدرس، فأجابه أنّه لن يكون بإمكانه فهم الدرس قبل أن يتقن اللغة الفارسية، فقال الشيخ: «لا عليك، فلتأتِ معي».

 

110


76

المحطة الخامسة

داخل الحسينية، وعلى مدى أسابيع متتالية، كان الشيخ محمد يهمس في أذن السيد هاشم ويترجم له الدرس، ثم لاحقًا، صار السيد يومئ له أنّه فهم الكلام ولا يحتاج إلى ترجمة. ينتهي الدرس بمجلس عزاء أو رواية تتناسب مع موضوع الدرس، ثم يتبع الحديث نصيحة، أوّلها: لزوم المواظبة على زيارة مقام السيدة المعصومة، وثانيها أن: تريد الدنيا؟ تريد الآخرة؟ عليك بصلاة الليل.

ومن درس الشيخ مظاهري، أخذ الشيخ محمد يتنقّل بحثًا عن علماء في الأخلاق، من الذين يحملون فكر الإمام الخميني، ويدعو إلى حضور دروسهم وسماع مجالس العزاء عندهم. درس عند الشيخ المشكيني، والشيخ محمد تقي بهجت، والشيخ بهاء الدين، وآية الله الشيخ وحيد، وآية الله جوادي آملي، والشيخ نوراني، وغيرهم من العلماء. حتى إنَّ رفاق الشيخ كانوا يَعجبون منه كيف يتمكن من الوصول إليهم.

في أحد أيام الجمعة، اقترح الشيخ محمد على أصدقائه أن يرافقوه إلى أحد جبال قم، لقراءة دعاء الندبة والتوسّل بصاحب العصر والزمان، وكان هذا من مصاديق الاستجابة لتلك الدروس، فقد اشتهر عن بعض علماء الأخلاق قراءتهم الدعاء في الجبال.

دجّج الرفاق أنفسهم بالمعاطف، وذهبوا مع الشيخ. وهناك، كانوا كلما صعدوا، شعروا أن الصقيع سوف يقصُّ ظهورهم عمّا قريب، وأنّهم وشيكًا سيفقدون القدرة على الحركة.

 

112


77

المحطة السادسة

وصلوا، افترشوا الثلج، وبدأ الدعاء. لم يجدوا في أنسه غرابةً، فقد اعتادوا عليه: لا يأبه لحرٍّ أو برد، وتشهد له ليالي الأربعاء في «مسجد جمكران»، أنّه ما قطع دعاءه مرّة، وكان ينتشر مع الناس وطلاّب العلم في الصحراء، ويتوسّل بالإمام المهدي (عج) حتّى وقتٍ متأخّرٍ من الليل.

في إحدى المرّات التي رافقه فيها السيد هاشم إلى جمكران، وقد أتمّا الزيارة والدعاء، انتظرا وقتًا طويلاً حتّى تمرّ سيارة أجرةٍ تقلّهما إلى الحوزة، لكنّ الوقت تخطّى الثانية بعد منتصف الليل، وكاد البرد يجمّدهما، لولا أن أشفق عليهما شرطيّ فأقلهما على درّاجته.

داخل الحوزة، وقبل أذان الفجر بساعة، كان ينبعث ضوءٌ خافت من غرفة الشيخ محمد وأضواءٌ متفرّقةٌ في بقية الغرف. يخطو نحو المصلّى، هناك، حيث الضجيج ببكاء المصلّين في الليل ودعائهم، يصلي معهم، ويسجد، ويطيل السجود، هكذا حتى الصباح.

وإلى جانب كلّ هذا، كان الشيخ محمد، منذ أن دخل الحوزة، يطرق بابًا مغلقًا ليكتمل برنامجه، وهذا الباب كان فتحه صعبًا للأجانب، ولا تُنال الموافقة على الدخول منه بسهولة. لكنّه، وبفضل علاقته برفاقه الإيرانيين داخل الحوزة، ومعظمهم من الحرس الثوري، حصل على موافقة؛ بات بإمكانه المشاركة مع المجاهدين على جبهات القتال الإيرانية.

 

113


78

المحطة السادسة

مشتي رضا

استشهد مشتي رضا

يا زهرا

يا صاحب الزمان

فجأةً، وفي الليلة التي وصل الشيخ محمد ورفاقه الثلاثة إلى معسكر «شوش»، عصفت الصحراء بقصفٍ هستيريٍّ عنيف.

على الفور، انتشر المجاهدون، ورمَوا بأنفسهم داخل خنادق أعدّوها على شكل غرفٍ كبيرة، جرى تدعيمها بألواحٍ خشبيةٍ من تلك التي تستخدم في بناء سكك القطارات.

طوال ساعات الليل، كانت الخنادق ترتجُّ وتموجُ من القذائف المدفعيّة التي صبّها الجيش الصدّامي على المعسكر من دون توقّف، في استماتةٍ منه لإحباط عملية «الفتح المبين»، التي استعدّ لها المجاهدون من فيلق الحرس الثوري والجيش وقوّات التعبئة (بسيج)، لاستعادة مدن: شوش، أنديمشك، دهلران، دزفول وقاعدتها العسكريّة، بالإضافة إلى عشرات القرى التي احتلّها صدام حسين في بداية حربه على إيران.

 

117

 

 


79

المحطة السادسة

وعلى أيّ حال، لم يكُن القصف مُفاجئًا، فمعسكر شوش أحد خطوط المواجهات المتقدّمة، وقد نالهم من القصف في المواقع الخلفيّة، قبل وصولهم إليه، ما جعلهم يتصوّرون ما ينتظرهم كلّما تقدّموا أكثر.

جاءت هذه العملية بدعوةٍ من الإمام الخميني، بعد أن تمكّن المجاهدون من استعادة مناطق لهم في عملية «طريق القدس»، التي نُفِّذت في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني 1981م، وعلى أثر هذه الدعوة، أخذ المجاهدون يلتحقون بالجبهات تباعًا بأعدادٍ كبيرة. وأراد الشيخ محمد ورفاقه أن يستجيبوا لدعوة الإمام، فكتبوا رسالةً إليه، يسألونه إن كانت المشاركة تشمل طلاب العلم الحوزويين، ولكنهم، لمّا رأوا أنّ عددًا لا بأس به من طلاّب الحوزة غادروا إلى الجبهة، والحوزة تحت إشراف ممثِّلين عن الإمام، قرروا الذهاب قبل أن يحصلوا على الموافقة.

انطلقوا إلى معسكر الأهواز في خوزستان جنوب غرب إيران. وأثناء الطريق، أكّدوا غير مرة على البقاء معًا، وعدم السماح لأيٍّ منهم بأن يدع الآخر يقع في الأسر، ولكنّ المفاجأة كانت عندما وصلوا وجدوا، أن قوافل المجاهدين قد غادرت جميعها.

أصرّوا على الالتحاق بهم، فأرسلوهم إلى مقرّ لواء «خرّم آباد» في مدينة «ماهشهر». هناك، استقبلهم أحد القادة، وكان عازمًا على الذهاب إلى مدينة «دزفول»، فاصطحبهم في سيارته «البيكان» بعد

 

 

118

 


80

المحطة السادسة

أن تناولوا معه الغداء، وطلب إليهم أن ينتقوا الملابس والأحذية العسكرية المناسبة لقياساتهم.

وكانوا كلما قطعوا مسافةً رأوا مجموعات المجاهدين على الطريق، وفي الباصات، تمرُّ أمام أعينهم، وكلَّما تقدّمت السيارة نحو المعسكر، أخذت ملامح المكان تختفي رويدًا رويدًا، وتنسلُّ العتمة أكثر فأكثر، حتى إذا ما انحرفت السيارة في أحد المفارق الترابية، ودخلت في الصحراء، صار المكان مدىً واسعًا من الظلام.

بعد وقت، توقّف القائد عن الكلام، وأبطأ سيره. أخرج رأسه من النافذة، وأخذ يتأمّلُّ في العتمة مليًّا. رجع قليلًا إلى الوراء ثم توقف، تقدّم مجدّدًا، وعاد يتأمّل، وهم في دهشةٍ منه، فماذا يمكن أن يجده في هذا السواد؟! وأخيرًا، أرخى يده عن المقود وأوقف السيارة.

- يبدو أنّنا أضعنا الطريق! قال وهو يجول بنظره.

- وكيف ذلك؟

- أين نحن الآن؟

- في العادة أرى هنا جبًّا كبيرًا من نبات البلاّن، وآخر أصغر منه أميّز بهما المكان.

- وكيف كنْتَ لتلحظ مكانهما في هذه العتمة الشديدة؟

- اعتدت الأمر. لا عليكم، قال، فيما هو يشغّل السيارة من جديد.

 

119


81

المحطة السادسة

- يبدو أننا سنذهب بأنفسنا إلى الصدّاميين!

 

- ذاهبون بكل الأحوال إلى الشهادة. لم يكد القائد ينهي كلامه حتّى شعّت الصحراء بالقنابل المضيئة.

- أطفئ ضوء السيارة على الفور!

- يجب ألاّ نبقى في السيارة.

- كل المكان تحت مرمى نيرانهم!

- من أنتم؟ من أنتم؟ صرخ صوتٌ بالفارسيّة.

- ألم أقل لكم لا تقلقوا؟ تنهّد القائد: تعالَوا، فلنبِتْ هنا الليلة، وغدًا نكمل سيرنا عند الفجر.

دخلوا متراسًا يشبه النفق المظلم، قدَّروا سريعًا أنّه خصّص للجرحى والمصابين، وذلك من روائح الأدوية والدماء، والأنين الذي كان يقترب كلّما أوغلوا في العتمة.

دلّتهم شمعةٌ خافتة على الجرحى، وقد تمددوا على الأسرّة، منهم من لُفَّت عينه أو يده، ومنهم من أصبح بساقٍ واحدة. يكابدون أوجاعهم بنداء أمّهم الزهراء، ومن هو أقل إصابةً يواسي الذي في وضعٍ حرج. بكى الشيخ محمد كثيرًا لحال هؤلاء، وبكى الرفاق، أنّى لهم أن يناموا والخجل من هؤلاء ومن أنفسهم سلبهم النعاس!

 

120


82

المحطة السادسة

مع الفجر، توضأوا، وصلّوا، وودّعوا اللُّفافات والجراح، وتوجّهوا إلى المعركة التي رأوا صورتها في هؤلاء الجرحى.

 

121


83

المحطة السادسة

عندما وصلوا إلى أحد معسكرات الخطوط الخلفية، بادر الشيخ حسن إلى السؤال عمّا إذا جرى حفر خنادق في المكان، فأجابوه بالنفي، وما إن سألهم عن المدى الذي بين المعسكر وصواريخ صدام، حتى أمطرت الصحراء بصلياتٍ من صواريخ الكاتيوشا.

انتشروا في الصحراء، ولم يكن لهم من وسيلة احتماءٍ سوى الانبطاح وهم ينادون يا زهراء، يا صاحب الأمر. ثمّ، بعد وقتٍ لا بأس به، هدأت الصحراء، فباشروا حفر خنادق فردية ليقوا أنفسهم القصف طيلة أسبوع مكوثهم، قبل أن يبدأ الهجوم في الثاني والعشرين من آذار1982، متزامنًا مع عيد النوروز وولادة السيدة فاطمة الزهراء (ع).

وجد الرفاق أن حفرة الشيخ محمد أكبر فمازحوه:

- أترفّه نفسك؟

- بل جعلتها حفرةً وقبرًا في آن.

- والذين ربّوك، ألا تريد العودة إليهم؟

- الحوزة تربّي، الأهل يربّون، لكن المربّي الحقيقي والسعادة الحقيقيّة هي الجبهة. هنا، أنت بمقدار ما تبتعد عن الدنيا فإنّك تقترب من الله.

لم يتكلّف الرفاق عناء التحليل ليدركوا سرَّ انسجام الشيخ محمد مع المجاهدين، فها هو يتقاسم معهم حبّات الحلوى حبًّا بالسيدة فاطمة الزهراء، ويجود بأبيات شعرٍ بالفارسية عنها، ويبكون لحشرجة صوته عندما يذكر اسمها، ثم يقرأ لهم الدعاء،

 

122


84

المحطة السادسة

ويصلي معهم، وحلاوة الدعاء في الجبهة لذةٌ أين منها كل الأماكن، وصلاة الليل في الصحراء والضجيج بالبكاء أين منها صلاة المدينة.

وبكاء الليل يقابله نهارًا ابتسامةٌ في خيمة المطبخ لمنافسةٍ مع «رضا»، الرجل الستّيني الذي لا يجيد استخدام السلاح، وقدم إلى الجبهة ليخدم المجاهدين، ويُعِدّ لهم الطعام، فيطعمه الشيخ محمد بيديه، ويسبقه إلى تقديم الأرزّ المطهو للمجاهدين، وهو أقرب إلى اليباس، وإلى جانبه لبنٌ يبلله، وفيه من فقاعات الحموضة ما يجعل المجاهدين يفضّلون الأرزّ من دونه. وابتسامةٌ أخرى لطرفةٍ أثناء قصف يبدأ فجأةً، فيدخل الجميع خنادقهم، ويلقي السيد هاشم بنفسه في حفرة الشيخ محمد، فيصرخ الأخير: « إن لم أُقتل بالقصف، ستقتلني أنت!». وابتسامةٌ لقربةٍ فيها من الماء القليل ما جعلهم في حيرةٍ أيشربونه أو يستخدمونه للوضوء. وابتسامةٌ كانوا ينتظرون رؤيتها على وجه «علي أمجدي»، قائد كتيبة خرمشهر، فإضحاكه يحتاج إلى معاملة، على الرغم من أنه حنونٌ جدًّا، وأكثر ما يوزّع حنانه على «رضا»، حتى يُخيَّل لمن لا يعرفه أنّه صديقه، يزاحمه في إعداد الطعام للمجاهدين في خيمة المطبخ، ويطعمه بيديه، لكنَّ الأمر لم يطُل كثيرًا حتى جاد عليهم بضحكةٍ عريضةٍ، فعندما أُبلِغ بقرار الهجوم، جاء يبشّرهم ودموع الفرح تفيض من عينيه:

هيّا إلى ديار العشق نذهب إلى جوار الله

 

 

124


85

المحطة السادسة

وارتفع صوت الشيخ محمد بين المجاهدين:

سُوِى ديار عاشقان رو به خدا ميرويم

توزّع المجاهدون إلى جبهات القتال، وتغيّرت وجهة الشيخ محمد ورفاقه من منطقة «دزفول» إلى منطقة «شوش»، وهذه المنطقة غاية في الأهمية عند الجيش الصّدّامي، واستعادتها تعدُّ هزيمة كبيرة له، فهو تقدّم في المنطقة الواقعة على بعد عدة كيلومترات غربها، وقطع الطرق المؤدية إلى جبهتي الأهواز ودزفول، بما فيها سكة حديد أنديمشك - الأهواز، وجعل مواقعه على المرتفعات المشرفة، فأصبحت المنطقة كلها تحت مرمى نيران دباباته ومدافعه بنحوٍ متواصلٍ، وكانت عرضة للغارات الجوّية المستمرة، وقد غادرها سكانها، وتحوّلت إلى منطقة عسكرية.

قبل الانطلاق إلى «شوش»، توقفت في المعسكر شاحنات تغصُّ بالذخائر، وكان يحقُّ للمجاهد أن يحمل من السلاح والذخائر ما تسعفه بنيتهُ على حمله، في الوقت الذي يكرِّر القائد على مسامع الجميع ألّا ينسوا القنابل، لاستخدامها في حال وقعوا في الأسر. ودجَّج أحد أصدقاء الشيخ محمد نفسه بالسلاح والقنابل بما فاق قدرته على المشي، حتى إذا ما سار مسافةً، عادت إليه آلام ظهره المبرحة فأبطأ سيره. وكالعادة، ها هم الرفاق يخففون عن أنفسهم ببعض اللطائف:

- هلّا ناولتني قربة الماء لأخفّف عنك!

- سلاح رفيقنا هذا يحرّر الجبهة وحده!

- ما أكثر غنيمة البعثيين لو وقع في الأسر!

 

125


86

المحطة السادسة

في المساء، ولدى وصولهم إلى معسكر شوش، عصفت الصحراء بقصفٍ صدّاميٍّ هستيري، جعلهم يلتجئون على الفور إلى الخنادق المجهزة، ويمكثون فيها حتى توقف القصف عند الفجر، فخرجوا ووجدوا أنّ «رضا» استشهد بباب الخندق قبل أن يلجه. أصابته شظايا القذائف التي استهدفت سيارة البيكان بالقرب منه، فنادوه «مشتي»، وهو لقبٌ لمن تشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم... يا زهرا.

بسم الله الرحمن الرحيم... يا زهرا.

مع ساعات الصباح الأولى، وعند الثامنة والنصف تمامًا، أُطلق نداء الهجوم من غرفة العمليات، وانطلق الشيخ محمد والمجاهدون في باصاتٍ غُطّيت واجهاتها الأمامية بالرمال، نحو مراكز «الرادار»، وموقعي «٤» و«٥»، وحامية «عين خوش» و«دشت عباس». في حين وزّعت القيادة قواتها من ألويةٍ وكتائب من معسكرَي «النصر» و«الفجر»، وقاعدتَي «القدس» و«فتح»، على مساحة منطقة العمليات التي تُقدّر بنحو ثلاثة آلاف كيلو مترٍ مربع.

سبق هذه الباصات مجموعاتٌ متقدِّمة من لواء «27 رسول الله»، ولواء «58 سيد ذو الفقار»، وكتائب من بينها كتائب فوج السيد الجزائري، الذي عُرِفَ ببسالة مقاتليه، وهؤلاء كانوا يُطلبونَ للعمليات الصعبة والمعقّدة. كان عليهم أن يُخرِجوا منطقة «عين خوش» أوّلاً من الحصار، ثمّ «دشت عباس»، وبعد ذلك تأتي

 

 

127


87

المحطة السادسة

مرحلة الهجوم على موقع الرادار والمراكز المحيطة به. وهذا الموقع هو أعلى نقطة في شوش وغرب دزفول، ترتفع قمَّته أكثر من مئة مترٍ عن مستوى المنطقة كلها، ويرصد الجيش الصّدّامي تحرّكات المجاهدين ويقصفهم منه.

بادئ الأمر، اصطدم فوج السيد الجزائري بكمينٍ للجنود البعثيين في «عين خوش» على بُعدِ ستة أمتار، واضطرّ إلى التراجع والانسحاب إلى الخلف بعد إصابة قائده «ناصر»، واستحال على السيد «حسين سيد نور» و«حميد رمضاني»، مسؤولَي الاستطلاع اللذَين أَوكل إليهما «ناصر» مهمة تقدّم المجاهدين، أن يبقوا في المكان فتراجعوا، ثمّ أعادوا كَرّة الهجوم، وكان السيد «حسين سيد نور» في الهجوم الأول، كلما تعرضت مجموعته للقصف ينادي: «يا أبا صالح المهدي، يا فارس الحجاز أدركني!»، تعلّم النداء من مجاهدٍ اسمه «صادق أهنكران»، الذي أُخِذَ قرارٌ بعدم مشاركته في القتال، إذ إنّ نداءاته في الجبهة كانت تشجّع ألف مقاتلٍ على التقدُّم، وبشهادته تخسر الجبهة هذه الطاقة.

دارت اشتباكات عنيفة أدّت إلى انكفاء البعثييّن من «عين خوش» بعد يومين من القتال. اقتحم المجاهدون بعد ذلك «دشت عبّاس»، فأخذت مواقع البعثيين تتهاوى الواحدة تلوَ الأخرى، ثم، بعد سقوط موقع الرادار، لم يبقَ للجنود الصداميين قدرة على البقاء، فانسحبوا إلى المواقع الخلفية، وانتهت العملية في الثامن والعشرين من آذار، وتمكّن أصحاب الأرض من تحرير ألفين وخمس مئة كيلومترٍ مربّعٍ من محافظة خوزستان، بالإضافة إلى أسر الآلاف

 

 

129


88

المحطة السادسة

من جنود الجيش الصدَّامي، وغنْم كُتب ووثائق عسكريّة، نُقلت إلى مركز «الغولف»، الذي اتّخذه الحرس الثوري مقرًّا له بعد أن كان مكانًا للحفلات والسهرات غير المشروعة في زمن الشاه. وبدأت مرحلة جديدة للشيخ محمد، في التحقيق مع الأسرى وترجمة الكُتب والوثائق، مع صديقه السيد حسين سيد نور.

لم تكن عملية الفتح المبين، أو ما أُطلق عليها اسم «فتح الفتوح» هي العملية الأولى التي شارك فيها الشيخ محمد، فقد سبق أن كان له دورٌ لافت في عملية «طريق القدس»، التي هدفت إلى تحرير سبعين قرية يرزح سكانها تحت نيران مدفعية القوات الصدَّامية المتمركزة بينها على المرتفعات. وهذا الهدف يتحقق بإغلاق معبر «چذابة» الحدودي، الذي يتيح للقوات الصدَّامية العبور من شمال المنطقة إلى جنوبها، إذ يمتد طوله أربعة كيلومترات، ويتراوح عرضه بين 1000 و 1500 متر.

تنفيذ هذه العملية يحتاج إلى استطلاعٍ دقيق، لتتمكن وحدة العمليات في قيادة الحرس الثوري من تحديد الجهة الأنسب للهجوم، ويدخل من ضمن مهام الاستطلاع التنصّت على أجهزة القوات الصدّامية. والتنصّت يتطلب إلمامًا باللغة العربية، ولهذا، فبالإضافة إلى مجاهد لبناني اسمه «حسين شعيتو»، اختير الشيخ محمد ليكون من بين مجموعة الاستطلاع في فرقة «14 الإمام الحسين»، ضمن لواء «عاشوراء» في الحرس الثوري، الموكل إليه حماية معبر «چذابة» من أي هجوم صدَّاميٍّ يشنه لواء 16، تسانده ألوية أخرى.

 

130


89

المحطة السادسة

بدأت عمليات الاستطلاع في غرب «سوسنكرد» ومنطقة «بستان»؛ الدخول إلى هذه المناطق خطرٌ جدًّا على حياة المجاهدين، فمدفعية القوات الصدَّامية الثقيلة تتمركز على الهضاب الرملية المعروفة باسم «النبعة»، وتقصف المنطقة بعنفٍ وعلى نحوٍ متواصل. وكان الشيخ محمد يدخل ورفاقه إلى هذه المنطقة، فيتنصّتون على قوات صدام، ثم يدوّنون تقارير عما يحصلون عليه من معلومات. وعلى أحدهم أن يعود إلى مقر قيادة الحرس الثوري ليسلّم التقارير أولاً بأول، وهذا الأمر تصدّى له الشيخ محمد، فكان بعد انتهاء كل تقرير، يعود إلى قيادة الحرس على دراجةٍ ناريةٍ يقودها بسرعةٍ فائقةٍ، غير آبهٍ بالقذائف المدفعية القريبة منه، أو بتعرجات الطريق التي نالها ما نالها من القصف.

وبعد عمليات استطلاعٍ متواصلة، تمكن المجاهدون من معرفة أعداد ألوية وكتائب القوات الصدّامية، والتحصينات التي وضعتها، من جدر ألغامٍ حديدية وخنادق وأسلاك شائكة، بالإضافة إلى حقول الألغام التي زرعتها على المرتفعات، لاحتمالها هجوم قوات الحرس الثوري الإيراني منها.

خلصت وحدة العمليات في قيادة الحرس الثوري إلى أنَّ الهجوم يجب أن يكون من مضيق «چذابة» نفسه، ذلك أنّ المنطقة محاطة من الشمال بهضاب رملية، ومن الجنوب بمستنقعات مياه، مما يحول بين القوات الصدّامية الموجودة وتعزيزاتها في الخلف. ولو شُنَّ من منطقة غرب «سوسنكرد»، فإنَّ القوات الصدّامية سوف تتمكن من نقلٍ عدد هائلٍ من جنودها من منطقتي «دزفول» و«شوش».

 

131


90

المحطة السادسة

والهجوم من المعبر لم يكن بالأمر السهل، لأن الوصول إليه يحتاج إلى سيرٍ في الكثبان الرملية الناعمة، وفيها تغوص القدم إلى الركبة، لذا، تقرّر أن تقوم وحدة الهندسة بتشييد ممر يبلغ طوله خمسة عشر كيلومترًا لتسهيل مرور المجاهدين.

في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني 1981م، وبعد نصف ساعة من منتصف الليل، أُطلق نداء:

يا حسين فرمانده اي (يا حسين أنت القائد)

وبدأ الهجوم تحت المطر الغزير متزامنًا مع ذكرى اغتيال آية الله مُدرّس، أحد كبار العلماء الثوريين المناصرين للإمام الخميني، ممّن ينادون بمحاربة إسرائيل وتحرير القدس، وتمكن المجاهدون، وبينهم الشيخ محمد، من صدِّ الهجوم العنيف الذي شنّته مدرّعات قوات صدام، وساعدهم المطر على العبور بسهولة أكثر، بعد أن تماسكت المنطقة الرملية. ثم، بعد أن صدّوا الهجوم، التفّوا من الخلف على الخطوط الاحتياطية الأولى والثانية، بدبابات عراقية غنموها من معارك سابقة، ظنت قوات صدام للوهلة الأولى أنها تتبع لها، لولا أن خيّبت قذائفها ظنهم. هذه الخطوة مكَّنت المجاهدين من السيطرة على مقر اللواء 16 والحصول على الوثائق الموجودة فيه. ومن هنا، بدأت خطوة الشيخ محمد في ترجمة الوثائق، وتدوين تقارير حولها باللغة الفارسية، وإرسالها إلى قيادة الحرس الثوري.

بعد عمليتي «طريق القدس» و«الفتح المبين»، صار غياب الشيخ محمد عن الحوزة يزداد لصالح حضوره القويّ في جبهات

 

132


91

المحطة السادسة

القتال. حتى إنّ بعض رفاقه أخذوا يسألون إن كان محمد لا يزال طالب علم! ذلك أنّ من شروط طلبة العلم المواظبة على حضور الدروس، بيد أنه، منذ أن دعا الإمام الخميني إلى عدم التأخّر عن الجبهة وقال: «غدًا متأخّر»، أصبح الشيخ محمد على تماسٍ دائمٍ مع الجبهات، وهي تعيش أصعب أيامها، وتواجه شتّى فنون الإجرام الصدّامي، من قصفٍ جويٍّ وبرِّيٍّ، وألغامٍ أمر صدَّام بزرعها في مساحاتٍ كبيرة من الأراضي التي احتلها، إلى استخدام السلاح الكيميائي، الذي أودى بحياة أعدادٍ كبيرة من الحرس الثوري، وقوات التعبئة، والعراقيين من «لواء بدر»، الذي أصبح للشيخ محمد سهم جهادٍ فيه، نتيجة تردّده الدائم على المعسكر في الأهواز للتبليغ، وصار على علاقة وطيدة بالقائد العراقي الحاج مهدي عمر مهدي (أبو زينب الخالصي)، وهو تلميذ الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وصاحب الارتباط الوثيق بالقياديين في الحرس الثوري، منذ بداية الحرب المفروضة على إيران.

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على عملية الفتح المبين وعودة الشيخ محمد إلى الحوزة، حتى وضّب أغراضه من جديد، وتوجّه إلى مقر الجُبَّة في قاعدة القدس، وبدأت التحضيرات لتحرير مدينة «خرمشهر»، أو مدينة الدم. هذه المدينة احتلها صدّام حسين مع بداية الحرب المفروضة على إيران، واستشهد عشرات الآلاف من سكانها بالغارات الجوية التي أحالت سماءها دخانًا وأرضها ركامًا.

من قاعدة القدس، ولأسبوعين متواصلين، كان الشيخ محمد ورفاقه الطلبة: الشيخ عبد الرضا دغاغلي وصادق كرمنشاهي والسيد

 

134


92

المحطة السابعة

حميد نور، بالإضافة إلى بقية المجاهدين، ينطلقون سرًّا إلى أقرب نقطة من مدينة خرمشهر، ويستطلعون المكان، يشرف عليهم مسؤول الاستطلاع حميد رمضاني، وقائد اللواء سعيد تجويدي. وتبين لهم أنَّ قوات صدام، ونتيجة لأهمية خرمشهر الاستراتيجية، وكونها بوابة لمحافظة خوزستان، طوّقت المدينة بقنواتٍ زرعتها بالألغام، ورصفتها بأسلاك شائكة متصلة بأعمدة الكهرباء، مما شكَّل عقبة أمام معرفة المعلومات اللازمة، ولهذا، لجأت قيادة الحرس الثوري إلى الاستعانة بطائراتها لتصوير المدينة من الجو.

بعد ذلك، عاد الشيخ محمد إلى الحوزة، وسُرَّ برسالةٍ وصلته من أبيه، يوافق على طلبه المتكرّر بمجيء شقيقته ليلى إلى إيران لدراسة العلوم الدينية. وسرعان ما استقبلها في المطار، وصحبها إلى مقام السيدة فاطمة المعصومة، وهناك، علّمها آداب الدخول إلى المقام والزيارة، وأخبرها عن أُنسه الدائم في حضرة المعصومة، أمُّ المجاهدين والشهداء. بعد ذلك، ألحقها بمجموعة النسوة اللاتي يدرسنَ العلوم الدينية في منزل صديقه الشيخ حسن عز الدين، الذي جعل بيته كحوزة للنساء اللبنانيات، فتولى الشيخ مالك وهبي تدريسهنّ النحو في كتاب قطر الندى، ودرّسهنّ الشيخ حسن مادة الفقه، فيما تولى الشيخ محمد تدريسهنّ مادة الأخلاق. وفي دروسه من خلف الستارة، أكّد لهنَّ ما درسه ودأب دائمًا عل تطبيقه، من المواظبة على صلاة الليل، وزيارة السيدة فاطمة المعصومة ومقام الإمام الرضا (ع)، ومسجد جمكران، والمشاركة في تشييع الشهداء وزيارة قبورهم كجزء من الارتباط بسيد الشهداء الإمام الحسين (ع).

 

136


93

المحطة السادسة

وكذلك، بيّن لهنّ أهمية الارتباط بالقرآن، وشجعهنّ على إقامة الحلقات القرآنية، والاهتمام بالدعاء، وخاصةً المناجاة الشعبانية للإمام زين العابدين (ع)، هذه المناجاة سمعتها زوج الشيخ حسن بصوت الشيخ محمد في إحدى الليالي الثلجية التي قطعت الطرقات، واضطر زوجها إلى المبيت في منزل صديقه بعد أن تراكمت الثلوج: «... إلهي، هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حُجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدسك...».

 

 

137

 


94

المحطة السابعة

بدأت عمليات بيت المقدس في الرابع والعشرين من شهر نيسان 1982م، وحُرِّرت مدينة خرمشهر على ثلاث مراحل، تمكن المجاهدون في المرحلة الأولى من اجتياز نهر كارون، والوصول إلى طريق الأهواز- خرمشهر، ثم احتلوا الساتر الترابي الثاني لقوات صدّام بعد النهر، وثبّتوا المواقع التي سيطروا عليها، بعد هجماتٍ متواصلةٍ عليهم، نجحوا في صدِّها.

وفي المرحلـة الثنية، انطلـق المجـاهدون من طريق الأهواز- خرمشهر باتجاه الحدود، ونجحوا في التموضع على بُعد سبعة عشر كيلومترًا من الشريط الحدودي، على الرغم من الهجمات المضادة الشرسة. وعندما فشلت قوات صدام في كسر صمود المجاهدين، دبَّ الخلاف بين قادتهم حول جدوى المواجهة، فمالوا إلى الاستسلام. وانتهت المرحلة الثالثة من عمليات بيت المقدس بتحرير خرمشهر في الرابع والعشرين من شهر أيار 1982م، وبذلك، تكون إيران قد استعادت 5038 كيلو مترًا مربّعًا من أراضيها. وفي هذه العملية، بلغ عدد الضباط والجنود الصدَّاميين الذين سلّموا أنفسهم نحو تسعة عشر ألف أسيرٍ، وغنم المجاهدون كمًّا هائلاً من الوثائق. وكان لا بد للشيخ محمد، بعد هذه العملية، أن يبدأ عمله في التحقيق مع الأسرى، وترجمة الوثائق في أقصر وقت ممكن، تمهيدًا للعمليات اللاحقة.

 

141


95

المحطة السابعة

جاء السيد حميد نور إلى المقر ذات صباح، فوجد صديقه الشيخ محمد يفرز الوثائق بحسب أسماء الألوية، ولكثرتها، احتاجت هذه العملية منه وقتًا أطول. بعد ذلك، اختار الوثائق الخاصة بالفرقة الثالثة للمدرعات، وبدأ بقراءتها وترجمتها على مدار الساعة. ومن هذه الوثائق شرع بإعداد تقارير إلى قيادة الحرس الثوري، فيها خلاصة عن المعلومات، من كيفية تسليح الأرض، وأماكن وجود الأسلاك الشائكة والبراميل المتفجّرة والعبوات، وتباعد الفواصل بين الوحدات أثناء العمليات، ومعلومات خاصة بحرب المياه، ثم أخذ يحدّد من خلال هذه المعلومات نقاط القوة، لتطويرها، ونقاط الضعف، لتحويلها إلى نقاط قوة وتفادي أكبر قدر من الخسائر في الحرب. وعندما ترك الوثائق ليرتاح، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل.

ثم غادر المقر، ليشارك في مؤتمر المستضعفين، الذي عُقد في طهران بمناسبة الخامس عشر من شهر شعبان، بحضور عدد كبير من علماء المسلمين وقادتهم، على أن يعود إلى المقر فور انتهاء المؤتمر. وهناك، التقى بمحمود درويش، شقيق صديقه إبراهيم، وكان مقاتلاً للعدو الإسرائيلي مع الدكتور مصطفى شمران منذ مواجهات بنت جبيل 1976م، في الوقت الذي كان فيه الشيخ محمد ينصرف إلى البيع والتجوال ولا يهتم بالأحزاب السياسية، فوجده شابًّا ثوريًّا، يتكلم في القضايا السياسية الكبرى، وحجم المؤامرة الأمريكية على المشروع الإسلامي بعد انتصار الثورة الإسلامية، ودور المسلمين في الدفاع عن هذا المشروع. وأصبح لبنان في صلب الحديث

 

142


96

المحطة السابعة

عندما وصل إلى جميع المشاركين في المؤتمر نبأُ اجتياح إسرائيل للبنان، في السادس من حزيران 1982م، وبدأ الحديث عن خطوات المرحلة اللاحقة، فقال أحد المجاهدين الإيرانيين، من أصدقاء الشيخ، إنَّ المساحة التي احتلتها إسرائيل لا تحتاج استعادتها أكثر من يومين من المواجهات، فيما لو احتشد الجميع بوجه العدو، وقال محمود إنه سيوضّب أغراضه ليعود إلى مجموعته القتالية ويبدأون بالقتال، وردَّ الشيخ راغب حرب على محمود بأن يتمهّل في توضيب أغراضه، ليسمعوا رأي الإمام الخميني، ويزوروا الإمام الرضا قبل المغادرة، فالاجتياح الإسرائيلي هذه المرة لا يشبه اجتياح عام 1978م، ولن ينتهي بيوم أو يومين. وأضاف الشيخ محمد من خبرته الجهادية، أنه، بالإضافة إلى ضرورة ووجوب مواجهة العدو الصهيوني، وتدريب الشباب على القتال، يجب تثقيف المقاتلين دينيًّا، حتى يصبح جهادهم عن قناعة وعقيدة راسخة، كما يجب توعية الناس الذين يحملون فكرًا انهزاميًّا، ويعتقدون أنّ قتال العدو الإسرائيلي ضربٌ من الجنون، وخير دليل على القدرة على النصر هو ثورة الإمام الخميني بوجه الشاه، ويجب أن تكون أنموذجًا يقتدى به لكل الشعوب المستضعفة في العالم. هذا الحديث، كان أيضًا محور رسالة الشيخ محمد إلى إبراهيم درويش، أرسلها مع محمود، وأضاف عليها نيته قتال العدو الإسرائيلي عندما يعود إلى لبنان.

بعد الاستطلاع لتحرير خرمشهر، وقضاء ساعات من العمل المتواصل لترجمة الكتب والوثائق واستجواب الأسرى، بدأت مرحلة جديدة من الجهاد في الحرب المفروضة على إيران، هدفها المحافظة

 

143

 


97

المحطة السابعة

على المناطق المحررة، وكان للشيخ محمد دورٌ فيها، وأهمها عملية «رمضان». هذه العملية، وإن لم تحقّق أهدافها كاملةً، إلاّ أنها عُدَّت إحدى أصعب العمليات في شمال شرق البصرة جنوب العراق، بدأت في الثالث عشر من حزيران 1982، واستمرت لستة أسابيع، شارك فيها نحو مئة ألفٍ من قوّات الحرس الثوري والباسيج، وبلغ تعداد المقاتلين الصدّاميين ضعف عدد القوّات الإيرانيّة، في حين تحصّنت القوّات الصدّاميّة في دفاعاتٍ هائلة، وأنشأت شبكةً من المخابئ ومواقع المدفعيّة والدبابات. وعلى الرغم من كثرة الشهداء في هذه العملية، فقد ألحق المجاهدون بعدوّهم خسائر كبيرة، وأسروا أكثر من ألف جنديٍّ، أُضيفوا إلى ملف التحقيق الذي يعمل فيه الشيخ محمد.

ثم كانت عمليات «محرّم» في شهر تشرين الثاني 1982م، لتحرير محيط الجبال الحدودية في جبل الحمرين جنوب دهلران، والمنطقة الواقعة بين فكة وعين خوش، وشارك الشيخ محمد أيضًا في الاستطلاع لها كما في العمليات السابقة. انتقل بعد ذلك من قاعدة القدس إلى قاعدة النجف في الشمال الغربي من الجبهة، مع قائده سعيد تجويدي، وظلَّ في العمل الاستخباراتي سرًّا لمدة ثمانية أشهر.

ولم يرتوِ الشيخ محمد من عمله في الترجمة والتحقيق والاستطلاع والمواجهات، بل كان يلحُّ لأجل أمرٍ آخر أيضًا، ذكره أحد المجاهدين الإيرانيين في مذكّراته الجهادية، واسمه السيد «فرج»: «محمد رملاوي من جنوب لبنان، شابٌّ سيماه جميلة، كان طالب طب، ثم بدأ دراسته الحوزوية في قم، وحضر إلى الجبهات بصفته

 

144


98

المحطة السابعة

عالمًا مجاهدًا. لم يكن هذا الشاب من الذين يهدرون الوقت، بل يريد أن يستفيد من كل لحظةٍ من لحظاته، أراد أن يصبح عضوًا في التخريب، ويتقدّم المعابر، ويفكّك العبوات، وكنا نقول له: يا شيخ، أنت عالم هنا، ولا نريد أن نخسرك! مهما قلنا لم يكن ليصغي إلينا، فيجيب: لا بدَّ أن نضرب المعبر. كان كالكاشف الضوئي، يسطع ويسطع، ولا يضعف مهما حاولنا. وكان يكرّر بين شباب التخريب بلهجته اللبنانية: «أنا عطشان، أنا عطشان، لا أريد جنةً لأجل شرابها، أريد رضا الله فحسب».

في مقابل هذا الصوت الذي لا يملّ من طلب الاغتراف من عين ماء جبهة القتال، كان الشيخ محمد يعود إلى رفاقه في الحوزة بعد طول غياب، أكثر صمتًا، وأكثر نقاءً، وكأنَّ مرآة روحه تنجلي مرةً بعد أخرى، ما عاد صوته يسمع في النقاشات والجدالات، حتى حضوره بينهم، صاروا يدركون أنه في الشكل، أما روحه فقد تركها هناك.

ثمة قلقٌ ينتاب الشيخ محمد بين وقتٍ وآخر ويلازمه في ساعات راحته؛ لقد انقطعت عنه رسائل صديقه إبراهيم درويش في «شلة ياي» ولم يعد يلقى جوابًا منذ الرسالة الأخيرة التي وصلته منه، وردَّ عليها برسالةٍ باح له في آخرها بما يقلقه، أيضًا لم يلقَ جوابًا:

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

146


99

المحطة السابعة

أخي الكريم، الحاج إبراهيم درويش، أيّده الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

147


100

المحطة السابعة

وصلتني رسالتكم الكريمة مع سماحة الشيخ محمد طحيني، فنحمد الله على أنكم بخير من شرِّ الأعداء والصهاينة، وإن شاء الله، سوف نجلب لهم الويلات والبلاءات، والقتل والسبي عمّا قريب بإذنه تعالى.

هذا العدو المتغطرس، الذي دخل في البلاد، وأفسد فيها، سوف يزول لا محالة، وعلامات هذا واضحة، إذ إنّ العمليات الأخيرة، أي عمليات «والفجر»، سوف تهدّد تل أبيب وقصر رئاسة بيغن، فهي تشكّل الخطر الحقيقي عليهم، وسوف تكون مهمة في تحديد أوضاع المنطقة السياسية والجغرافية. وكما نرى، فالاستعمار يسعى في دعم صدام وزمرته بالأسلحة والمعدّات والمعنويات، ولكن ﴿مَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيرُ ٱلمَكرِينَ﴾. الجيش الإسلامي زاحف وقادم لا محالة، وعلى المسلمين أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة إسرائيل، وإسرائيل يجب أن تزول.

فأبشر يا أخي إبراهيم، ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلعُسرِ يُسرًا * إِنَّ مَعَ ٱلعُسرِ يُسرًا﴾. وإنني سوف أرسل لك تاج الشهادة، وهي فتوى للإمام الخميني، أفتى فيها حول العمليات العسكرية، وأتمنى أن تكون هذه الفتوى حُجّةً على الجميع يوم القيامة. كما وأتمنى نشرها في أكثر من بلد إذا أمكن، بالتنسيق مع العلماء.

أتمنى أن نكون معًا لنلتحق بالرفيق الأعلى، ويا لها من سعادة لكم الآن، أنتم، في جبل عامل، إذ إنّ أبواب الجنة مفتوحة، والإمام الحسين يستقبل الشهداء مضرّجين بدمائهم، يحملهم ويدخلون الجنة بغير حساب...

 

148


101

المحطة السابعة

إذا نلت الفوز العظيم قبلي، فأسألك الشفاعة، ويا لها من حياة خالدة ﴿وَلَا تَحسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمواَتًا بَل أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ﴾. الشوق يدفعني إلى المجيء لكي أقاتل معكم، ونمزّق ونُحرق كل صهيوني. وإذا لم أوفّق لهذا العمل في لبنان، فأسأل الله أن يوفقنا للعمل الصالح.

أخي الكريم، أتمنى أن يكون التأثير على الإخوان العاملين، في هذه الأيام، لتحويل نشاطهم إلى العمل العسكري، لأن إنهاك العدو وقتله وحرقه سوف يضعفه ويحطّمه...

بعد كتابة هذه الرسالة، وصلني خبر اعتقال بعض الشباب من عيتيت، ولم أدرِ من هم، كلُّ الذي عرفته أن الأخ محمود درويش اعتقل. لقد أصابني الارتباك، ولا أدري حقيقة الوضع...

بعد هذه الرسالة، أخذ الشيخ محمد في كل مرة يمسك فيها القلم، يضيف فيها خلاصة ما كتبه سابقًا، مقدِّرًا له انشغاله الدائم بالعمل الجهادي، فلا يلقى ردًّا. وفي الرسالة الأخيرة، أفصح له عن نيته زيارة لبنان بهدف الزواج، والعودة إلى إيران مع عروسه. أيضًا لم يلقَ جوابًا.

تلاشى قلقه ونسي رسائله إلى إبراهيم أمام اتصالٍ ورده، وجعله يعود مع شقيقته ليلى إلى لبنان على وجه السرعة. هناك، في منطقة الجناح، دخل منزل أهله، استقبلته أم حسن بعناقٍ طويلٍ وبكاءٍ مريرٍ: «محمد حبيب بيو، راح أبوك يا محمد»،

 

149


102

المحطة السادسة

«إبراهيم درويش صار شهيدًا، سكت، ثم أتبع: «اكتُشِفَ أمرُه في العمل الجهادي، واعتُقِل في أنصار، وتعرّض لتعذيبٍ شديدٍ وفق ما أخبرنا به شقيقه محمود، لكنه كان صلبًا قويًّا، صابرًا. بعد ذلك، أراد العدو الإسرائيلي أن ينقل المعسكر، من أنصار إلى عتليت داخل الأراضي الفلسطينية، فباشر مع مجموعةٍ حفر خندقٍ تمهيدًا لعملية هروبٍ منه، ولكن عملية جرف المعسكر أدّت الى انهيار النفق، فاستشهد إبراهيم درويش مع الشهداء :عباس بليطة وإبراهيم خضرا وأحمد شعيتو».

وكعادته في تفقُّده الدائم لأصدقائه ومعارفه في إيران، ذهب الشيخ محمد ليزور الشيخ راغب حرب في جبشيت، فلم يجده، وجال في بيروت على عددٍ من العلماء الذين التقى بهم في إيران. ثم غادر مع زوجه إلى إيران، ترافقه صورة صديقه الشهيد إبراهيم، هذه الصورة، وضعها في بيته الجديد إلى جانب صورة صديقه الشهيد أنيس جابر، الذي استشهد في إحدى جبهات القتال الإيرانية، وفُقِد جثمانه، ووجدوا بين أغراضه وصيةً كتب فيها: «اكتُبوا على ضريحي: هذا العبد الفقير الذي أحبّ الإمام الخميني حتى الهيام».

سريعًا تحوّل بيت الشيخ محمد، الذي استأجره من ابن بلدته وأستاذه الشيخ محمد طحيني، إلى بيت أُنسٍ، فقد تزوجت شقيقته دلال من صديقه الشيخ يوسف عاصي، وصارت جارةً له في قم. وقدِمت والدته لتزوره في الغربة، بعد أن كانت تنتظر زيارته مرةً في السنة، وجدته يأنس بجوار السيدة فاطمة المعصومة، وأنست هي في صحبته إلى المقامات المقدسة في قم وطهران. أما أسعد لحظاته،

 

151


103

المحطة السابعة

فكانت عندما جاء شقيقه حسن من دبي ليزوره، وغدت البسمة لا تفارق وجهه، يستيقظ عند الفجر ليحضر له القشطة وما يطلق عليها «القيمر»، ويأنس به في السهرات مع رفاقه العلماء على المتكأ الرقيق، ويجد حسن أنّ الشيخ محمد يعيش سعادةً حقيقيةً على الرغم من الفقر، والبيت المتواضع، المجاور لمقبرة الأربعين نجمًا من أولاد الأئمة، بعد أن كان سفره للتخصّص في الطب وانتشال أهله من الفقر.

وفي الجانب الذي خفي عن أهله، ومع تطوّر المعارك وعمليات الهجوم، كان ابن الجبهة يضيف إلى خبرته العسكرية ودوراته السابقة مهاراتٍ قتاليةً عالية، اكتسبها في دورةٍ عسكرية مكثّفة، جمعت مختلف الاختصاصات وحاجات المرحلة في الحرب.

«أبو أحمد قصير»، المشرف على الدورة، يعرف الشيخ محمد جيدًا، فقد التقاه في طهران أول سفره من أجل دراسة الطب، ثم إنَّ والد الحاج «أبو أحمد» أستاذٌ للشيخ محمد في الحوزة، كذلك جمعتهما علاقة عائلية، وأكثر ما كان يلفته في شخصية الشيخ محمد أنه شابٌ هادئ، خجول، بالكاد يُسمع صوته، مفعمٌ بالحيوية والهمة العالية،كثير التنقل لخدمة طلاب العلم، لكن الذي فاجأه في هذه الدورة، أنّ الشيخ محمد في معسكر التدريب شخصٌ آخر، صاحب قلبٍ قويّ وجريء، يستجيب للتدريبات كافة مهما كانت صعبة، متمكّنٌ من قيادة الدراجة النارية صعودًا في الجبل ونزولًا، من دون أن ينقلب أو يتدحرج بسبب العوائق التي وُضِعت، كثيرُ الصبر، لا يستسلم لمسافات السير الطويلة، أو الزحف على الشوك، غير مبالٍ بالمفخّخات الزائفة التي وُضعت في صنبور الماء، وتحت الوسادة، وحيث لا يتوقّع.

 

152


104

المحطة الثامنة

دخلت الحرب المفروضة على إيران عامها السادس، وما زال حِلُّ الشيخ محمد في الجبهة أكثر من ترحاله عنها، يشاطرها أيامها الصعبة بكلِّ ما تلقاه من فنون حربٍ، لم يألُ صدام حسين جهدًا في استخدامها لتدمير كل ما يُبقيها على قيد الحياة، بما فيها القطار. فقد التفت إلى أهمية دوره، كونه يمدُّ الجبهات، على نحوٍ متواصل، بالمئات من المجاهدين، ويُعدُّ أيضًا بمنزلة الجبهة الخلفية، إذ يوضع فيه الجرحى، ويتلقون العلاج الأولي، وبه يُنقلون إلى المستشفيات.

وكان الشيخ محمد قد اعتاد المرور بمنطقة تل زنك للوصول إلى الجبهة، كخطِّ مرورٍ إلزامي، فقصفت قوات صدام جسر «تل زنك» بالطائرات لتقطع خط الإمداد هذا، لكنَّ الإيرانيين ربطوا الجسر المدمر بجسرٍ من الخشب، وصار على الشيخ محمد في كل مرة يذهب إلى الجبهة، أن يعبر جسر تل زنك الخشبي سيرًا على الأقدام، على الرغم من تأرجحه وخطورة الانزلاق التي تؤدّي إلى الموت المحتّم.

وكان الشيخ محمد في أيام الجبهة، التي يتخللها راحة بعد استطلاعٍ أو هجوم أو تبليغ، يذهب برفقة صديقه السيد حسين سيد نور إلى الأهواز، فيبيت في منزل أهل صديقه، وتغسل أمه

 

158


105

المحطة الثامنة

فأخذها إلى المستشفى، وكان لديه طفل صغير، اضطر إلى أن يأخذه معه إلى المستشفى، لأنه ليس لديه أقارب في الجوار. وبينما هو في المستشفى، دُهش لرؤية الشيخ محمد جاء يبحث عنه، سأله عن كيفية علمه بوجوده، فأجاب: «الأخ الحقيقي لا يبتعد عن أخيه لأكثر من ثلاثة أيام، وأنا طرقت بابك لأتناول معك الإفطار فلم أجدك، ولعلمي أنك لا تعرف أحدًا سواي في قم، فقد احتملت أنك هنا، لذا، جئتُ أبحث عنك، وأحمل طفلك الصغير إلى بيتنا ليلعب مع ابنتي ريثما تغادر المستشفى».

وحدث ذات صقيع، أن كان أحد جيران الشيخ محمد ينبه طفله الصغير، على ألاّ يفتح النافذة بسبب الرياح العاصفة، فيما كانت زوجه تخبره أنَّ الليلة ستكون قاسية جدًّا، فوجبة الحطب التي تلقّمها المدفأةَ هي الأخيرة، وهو يجيبها أن الله سيفرجها في الغد. وطُرق الباب، فتنافس الصبي وأخته على فتحه، لكنّ الوالد نهاهما عن الأمر لئلا يتعرضا للبرد. فتح الرجل الباب، فإذا بجاره الشيخ محمد يقف أمام سيارة والبرد يلفحه: «فلتساعدني في نقل الحطب إلى بيتكم، وإن شئْتَ أبيتُ الليلة عندكم».

وحدث أن طاف نهر كارون ذات مرة، فتضرّرت بيوت كثيرة مجاورة للنهر في محافظة خوزستان، وطُلب إلى الشيخ محمد وعدد من العلماء أن يتوزعوا في المناطق المتضررة ويتفقدوا الأهالي، فمكث الشيخ محمد في إحدى القرى عشرة أيام، يساعدهم في نقل الأغراض، بالإضافة إلى التبليغ والإجابة عما يسألون عنه من أحكام دينية.

 

 

160

 


106

المحطة الثامنة

جاء ربيع العام 1986م، والتقى الشيخ محمد في أحد أيام رجب صديقه الشيخ نبيل قاووق، في منزل القائد الحاج «أبو زينب» في الأهواز. وهناك، جرت حوارات بين الثلاثة، واستمرت من الظهر حتى فجر اليوم الثاني، تحدثوا فيها بمختلف المواضيع السياسية والفلسفية والفقهية، كذلك حضروا عدة دروس أخلاقية عند بعض العلماء في العرفان، وصلّوا خلف آية الله موسوي الجزائري، ثم، بعد يومين، افترق الشيخ محمد والشيخ نبيل كلٌّ في مهمة جهادية. وبعد عشرة أيام التقيا من جديد، وكان وجه الشيخ محمد يتهلل فرحًا:

- ما الذي يفرحك إلى هذا الحد؟!

- كنت في الفاو، وما أدراك ما الفاو!

- هاتِ أخبرني.

- بدايةً، عبرنا نهر «أروند رود» مع المجاهدين في الزوارق باتجاه الفاو، وهذا النهر أمواجه عاتية، يتجاوز عرضه 500 متر، وفي بعض النقاط يتجاوز ال‍ 1000 متر، وحكى المجاهدون كيف اجتازوا نهر «أروند رود»، لتنفيذ عملية «والفجر 8»، مساء التاسع من شباط 1986م، في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية، وهذا النهر ألقى فيه صدام حسين أسماك قرش، وكانوا قبل العملية يعبرونه غوصًا على الرغم من شدة برودته، فإذا ما انتاب أحدهم سعال مفاجئ، يدرك أنَّ عليه النزول في الماء وحبس أنفاسه، ولو كلّفه الموت، لئلا ينكشف أمر المجموعة ويتسبب في موتهم على أيدي الجنود الصدّاميين،

 

161


107

المحطة الثامنة

الذين يراقبون المكان ليل نهار. وقد جرى في عملية «والفجر8» تحطيم الجدار الدفاعي، الذي أقامته القوات الصدّامية من ضمن الموانع والاستحكامات الكبيرة التي استحدثتها، بالإضافة إلى تحطيم السدّ الكونكريتي. وبعد ذلك، تمكن المجاهدون من الوصول إلى الفاو والسيطرة عليها، وبهذه الخطوة، أُغلقت النافذة العراقية الوحيدة على الخليج، حيث كانت قوات صدام تستمدّ دعمها العسكري. بعد ذلك، بدأ المجاهدون يتقدمون نحو جزيرة «أم الرصاص، وخور عبد الله»، وهو المدى المائي الحيوي الوحيد للبحرية العراقية، ومنه ستبدأ مرحلة جديدة من مراحل الهجوم في المناطق الشمالية. والأهم، أنَّ الجبهة الإيرانية حققت استقرارًا كبيرًا بعد استيلائها على جزيرة الفاو، ولم يعد بمقدور صدّام حسين قصف مواقعنا منها، كما كان يفعل طيلة سنوات. ومن طرائف هذه الرحلة، مولانا الكريم، ما رأيته من أمرٍ عجيب في نهر شط العرب، فقد كنا نجلس عند المغرب قرب ضفّته، وعندما يحلّ المساء، نجد أنّ المياه بدأت تغمرنا ونحن نيام، وكان منسوب النهر يعلو نحو نصف متر، ثم يعود وينخفض صباحًا، ويترك لنا الكثير من الضفادع.

- ومن أكثر إزعاجًا: الضفادع، أم فئران الصحراء التي قضيت وقتك تطاردها العام الماضي في «فكة وشلمجة»؟

 

163


108

المحطة الثامنة

- في الفاو تنسى كلّ شيء عندما يكون الاشتباك والتبليغ والصلاة جماعةً والدعاء قرب كربلاء. هناك، تشعر بالقرب الشديد من الإمام الحسين (ع). حبذا لو أعود إلى هناك مجدَّدًا.

- ألن تسافر إلى لبنان أثناء العطلة؟!

- لست أرغب في الأمر هذا العام.

- إذا شئْتَ أسعى لك في السفر إلى أفريقيا لتُبلّغ هناك.

- لست مقتنعًا بهذا الخيار، ناهيك عن الأمراض هناك. هل تسدي إليّ خدمة؟

- لك ما تريد.

- سوف أذهب إلى جمكران لأعتكف في المسجد، أريد منك أن تصحب معك زوجي وابنتي إلى لبنان.

مضت أيام الاعتكاف، واتصل الشيخ محمد بالحاج «أبو أحمد قصير»، وطلب إليه أن يستخير له، كما يفعل عادةً عندما يحتار لأمرٍ ما، ففعل، وأجابه:

- بقاؤك في إيران فيه شهادة مميزة شكلاً ومضمونًا.

- عجبًا!

- وممَّ العجب؟

- هل يمكنك أن تستخير لي مجدّدًا؟

 

164


109

المحطة الثامنة

- أجل، صمت الحاج أبو أحمد برهة ثم قال: «كالأولى، شهادة مميزة».

- يا للعجب!

- ما بك؟!

- لقد اعتكفت في المسجد طلبًا للشهادة، فكيف تكون الخيرة جيدة للتبليغ هنا، وغير جيّدة للقتال في لبنان؟

- ما الذي تنوي فعله؟

- ماضٍ إلى ما اختاره الله لي. لكنَّ أمرًا يحيّرني.

- ما هو؟

- إني متيقّن من الشهادة، لكنَّ حيرتي في كيفية الشهادة التي سأطلبها من الله؛ أأطلبها كشهادة عليٍّ (ع) في المحراب؟! أو كالحسين (ع) من دون رأس؟! أو قطيع اليدين كالعباس؟!

- أصل الشهادة أن الله اختارك إليه، فلا يهمّ الكيف!

- كنت سأطلب منك، في حال سافرْتَ إلى لبنان، أن تحضر زوجي وابنتي معك لدى عودتك إلى هنا، ولكن ما دام في الأمر شهادة فلا داعي للأمر. سلام.

- سلام.

بدأ بدر شهر شعبان يتناقص، واستعدّت زوج الشيخ محمد للسفر إلى لبنان مع شقيقته دلال والشيخ نبيل وعائلته، وفيما 

 

166


110

المحطة الثامنة

هي منهمكةٌ بتوضيب أغراضها في حقيبة السفر، حمل الشيخ محمد

ابنته فاطمة، أجلسها في حضنه، وأخذ يداعب خصلات شعرها، يقطف خدّيها الورديّين، يُلبسها سُبّحته عِقدًا: «فاطمتي... فاطمتي... غدًا ستكبرين يا حلوتي، وسوف تخبركِ أمكِ كيف حملتُكِ في اليوم الأول من ولادتك إلى أمكِ الثانية سيدتي فاطمة المعصومة، وأخبرتُها بأني سميتكِ على اسمها. فليبارككِ الله فاطمتي». ثم، حان موعد الذهاب إلى المطار، استقرّت على ذراعه الأيسر طوال مسافة الطريق، وعندما جاءت لحظة الوداع، غمرها بقوة، وشفتاه تتنقّلان بين جبينها وخدَّيها وكفَّيْها، وهي تبتسم له، ولا تفقه من وداعه شيئًا. وبينما كان يغادر، التفت إليها ولوّح بيده، ثم مشى بضع خطوات، وأعاد الكرّة ثانيةً، فيما غادرت هي إلى الطائرة مع أمها، وغاب طيفها عنه في المرة الثالثة.

والتقى الشيخ محمد بصديقه السيد هاشم، وكان بداية الحديث مقدمة لنقاشٍ تكرَّر في كل لقاء، على مدى أيامٍ متواصلة:

- قررت البقاء هنا مبلِّغًا ومقاتلاً.

- بل سترافقني إلى لبنان.

- بل أنت ستبقى معي، وسوف أحصل لك على بطاقة تبليغٍ لنذهب معًا.

- اسم‍ ..

- لا عودة عن قراري.

- اسمعني، يمكنك أيضًا أن تك

 

 

167


111

المحطة الثامنة

- اسمعني، يمكنك أيضًا أن تكون مقاتلاً ومبلِّغًا في لبنان، وتقضي العيد مع أهلك أيضًا.

 

177


112

المحطة السابعة

- صحيح، ولكنني أرى أنّ الحرب هنا هي حربٌ للقضاء على الثورة والمشروع الإسلامي عمومًا، وانتصار هذه الجبهة يعني أيضًا حفظ المقاومة في لبنان.

- أنت مُحقّ، لكن، بإمكانك أن تعود إلى الجبهة لاحقًا.

- لن يكون هناك مرة أخرى، هل أحضر لك بطاقة للتبليغ؟

- بل سترافقني إلى لبنان وتقاتل هناك.

- هل تقبل بخيرة الشيخ بهجت حكمًا فصلاً بيننا؟

عند الشيخ بهجت، اصطفّ الشيخ محمد خلف الذين سبقوه إلى الاستخارة، ووقف السيد هاشم بالقرب منه، ومن عادة الشيخ بهجت، أنّه لا يتفوّه بما تكون الخيرة، بل يومئ برأسه إن كانت جيدة، أو يرفعه إلى الأعلى إن كانت سيئة. وعندما جاء دور الشيخ محمد، أخذ السيد يرقب رأس الشيخ بهجت، فإذا به يومئ وينظر في وجه الشيخ محمد ويقول: «خيلى خوب، شهادت سرخ».

التفت الشيخ محمد إلى السيد هاشم وعيناه تقفزان من الفرح:

-أرأيت؟! قال إنها جيدة جدًّا، شهادة حمراء!

ثقيلةٌ، بطيئةٌ، هي الأيام التي قضاها الشيخ محمد وهو ينتظر موعد انطلاقه إلى جبهة الأهواز، ولم تخلُ من مفاوضات يائسة بينه وبين السيد هاشم لإقناعه بمرافقته إلى لبنان. حتى إذا ما بزغ فجر يوم انطلاقه إلى الجبهة، بدأ صراعه مع الساعات 

 

 

169


113

المحطة الثامنة

يزداد، ليحين موعد قطار الجبهة في الثالثة والنصف من بعد الظهر. 

 

 

170


114

المحطة الثامنة

فتح النافذة، وتأمل فوضى العصافير التي اعتادت أن تغرّد لفتات خبزٍ يابسٍ يلقيه إليها كلّ يوم، ثم بدّل ملابسه، وتوجّه لزيارة السيد هاشم ليقضم من الانتظار بعض الوقت. واقترح الشيخ عليه أن يأخذه بسيارته في زيارة إلى طهران، على أن يعودا قبل موعد القطار، فوافق.

أثناء الطريق، غلب عليهما الصمت، لم يكن السيد هاشم يعرف ما الذي يدور في رأس صديقه الشيخ محمد، فالجبهة أخذت لبّه وتركته حاضر الجسد منذ سنوات، لكن، في المقابل، ثمة ما يدور في رأسه: كيف لامرئٍ يقترب من الموت ولا يضطرب؟! لو قيل لأي فردٍ إنك ستموت في هذا اليوم لقضى وقته يبرئ ذمته مما عليه من حقوق لله والناس! ولكنّ الشيخ محمد يسابق الوقت بشوقٍ للرحيل ولقاء ربه! أيُّ إنسانٍ هذا الذي بجانبي؟!

فجأةً، وبعد أن اجتازت السيارة مسافة نحو أربعين كيلومترًا، قطع تساؤلاته عطلٌ في السيارة أوقفها في وسط الأوتستراد. أدارها من جديد، فسارت مسافة قصيرة ثم توقّفت. أدارها مجدَّدًا، وأخذ ينحرف ببطء رويدًا رويدًا إلى جانب الطريق، إذ لم يكن هناك من فاصلٍ ليلتفّ منه إلى خط العودة.

- «ماذا سنفعل الآن»؟ سأل السيد.

- أعرف محلاًّ للتصليح، لكنه بعيد، ونحتاج وقتًا طويلاً للوصول إليه، إذا كانت السيارة تسير بنحوٍ طبيعي، أمّا بهذه الحال، فإننا سنتأخّر كثيرًا، وأخاف أن يفوتني موعد القطار، وعلينا أيضًا أن نحضر بطاقة القطار.

 

 

171


115

المحطة الثامنة

- أرى في عطل السيارة إشارةً إلى أنّك سترافقني إلى لبنان.

- بل سأبقى هنا، هيا إلى محل التصليح!

على جانب الطريق، لم يكن من فرقٍ بين سرعة السيارة وسير الراجل. وكان الصمت سيد الموقف، وإن كان السيد يدرك هذه المرة أنَّ صديقه لا يفكر في شيءٍ غير حساب الوقت. وإلى أن وصلا وأودعا السيارة عند صاحب المحل، كان النهار قد انتصف، فاستقلاّ سيارة أجرة، وعادا إلى بيت الشيخ محمد، أخذ يتنقّل في البيت مسرعًا وينتقي الأغراض التي سيحتاجها في الجبهة. وبعد أن وضَّب حقيبته سأل صديقه:

- هل نأكل معًا؟

- لستُ جائعًا.

- يوجد في البراد بيضٌ ولحمٌ، وأخشى أن يفسد الطعام في حال لم أعد!

- حسنًا فلتُحضّره وأنا سألفُّ لك العمامة.

بعد أن أصبح كلُّ شيءٍ جاهزًا، خرج السيد من البيت، وحمل الشيخ حقيبته، وقبل أن يغادر، أمسك بقصاصةٍ من الورق، كتب عليها بضع كلمات، ثمّ ثناها ووضعها على الطاولة الخشبية.

أثناء الطريق إلى محل التصليح، كان الوقت قد بدأ يداهم الشيخ محمد، والساعة تقترب من موعد القطار، وهو يطلب إلى السائق أن يسرع قدر الإمكان، فيجيبه أنه لا يمكن أن يتجاوز

 

 

172


116

المحطة الثامنة

السرعة المطلوبة. وعندما اقتربت السيارة من المحل، كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة والنصف! ابتسم السيد:

- ألم أقل لك أنّك سترافقني إلى لبنان؟

- بل سأصل.

- تخطّينا موعد القطار يا رجل!

- قال شهادة حمراء، هيا، فلنحضر السيارة. رد الشيخ وهو ينزل من سيارة الأجرة بعجل.

داخل محل التصليح، أمسك الرجل بمسمارٍ لولبيٍّ كبيرٍ فُكَّ من إحدى قطع السيارة، الموصولة بأخرى، وأخذ يشرح لهما عن خطورة الحادث الذي كان سيودي بحياتهما فيما لو كانت السيارة مسرعة، والشيخ محمد يومئ برأسه بسرعة لينهي الحديث فورًا.

سار السيد إلى حيث بطاقة القطار، بما أوتي من سرعة. وعندما وصل، هرول الشيخ محمد إلى بيت الرجل الذي بحوزته البطاقة، فوجده قد غادر، لكنه ترك له البطاقة ليأخذها.

- بقي لنا مسافة الطريق إلى المحطّة. هل يمكنك أن تسرع أكثر؟ قال الشيخ وهو يجلس في السيارة ويلتقط أنفاسه.

- لقد تجاوزنا موعد القطار، ومع ذلك فإنني أسرع قدر الإمكان. التفت إليه وابتسم: «أرى أنك سترافقني إلى لبنان».

- شهادة حمراء!

 

 

174


117

المحطة الثامنة

وأخيرًا، وصلت السيارة إلى آخر نقطةٍ لها قرب سكة القطار، فتأبَّط الشيخ محمد حقيبته، وهمَّ بتوديع صديقه وهو يركن السيارة، فقال له السيد: «اسبقني وأنا ألحق بك لأودعك.»

ترجّل من السيارة، وشرع بالركض نحو سكة القطار، والحقيبة على كتفه تتأرجح إلى الأمام والخلف. ركض بأقصى سرعته، ليست المرة الأولى التي يسابق فيها القطار، فهو، لطالما سابق قطار الشحن الأبيض صغيرًا في سن الفيل، كان ينتظره كلَّ يوم، ويتأهّب لسباقه كلّما سمع صوت صافرته وارتجّت سكّة الحديد تشي باقترابه. على الرغم من هزيمة المقطورات له يوميًّا، ظلَّ يسابق القطار، وعلى الرغم من تحذير أمه الدائم له بعدم الاقتراب من السكة، ظلَّ يسابقه ويلحق به إلى المحطة. لكن، هذه المرّة، يركض نحو السكة ولا من صافرة تنذر باقترابه، يركض ولا من صوت أمٍّ تحذره، ولا أتراب يصفّقون لقدومه ويرمون ظهره بالحجارة، الآن يركض ولا وجه لقطارٍ بلون الصحراء، يركض بأقصى سرعته ليلحق ولو بالمقصورة الأخيرة، يركض على مرمى نظر صديقه كشهب النار، يركض وليس معه سوى اليقين بأن التِّجارة الخاسرة التي بدأت بعملةٍ صغيرة عند تلك السكّة، لا بدّ وأن تنتهي عند هذه السكة بتجارة لن تبور.

وصل إلى المحطة، لم يجد القطار، أرخى حزام الحقيبة عن كتفه ووضعها على الأرض، وظلَّ واقفًا يرمق آخر السكة، في الوقت الذي اقترب صديقه نحوه. فجأةً، سمع صوتًا خافتًا قادمًا من بعيد، فتبدَّدت مساحة الخوف التي تناوبت قلبه، لصالح مساحة اليقين.

 

175


118

المحطة الثامنة

أخذت السكة ترتجف، فالتقط حقيبته وشدَّ حزامها يثبته على كتفه، لاح وجه القطار الصحراوي يقترب نحوه، دنا من السكة أكثر، وقبل أن يصل القطار، شعر بيدٍ على كتفه، التفت، فإذا بصديقه وصل:

- عجيب أمرك، نادرًا ما تأخّر القطار عن موعده! قال السيد.

- إنها الشهادة الحمراء! خذ هذه الأوراق،لم أعد بحاجة إليها. قال الشيخ وهو يفتح محفظة جيبه.

- سأشتاق إليك كثيرًا. قال السيد وهو يعانقه بحرارة، ثم تأمل ملامحه الهادئة وابتسامته، ربَّت على كتفه، وعانقه من جديد، وطال العناق إلى حين توقف القطار، فصعد الشيخ محمد في المقصورة الأولى.

من الصحراء، انطلق الشيخ محمد بالقطار، ووصل إلى نهر أروند رود. وهناك، ركب المجاهدون في القوارب، وعبروا الضفة إلى الحدود العراقيّة، عند ضفة نهر شط العرب. استراحت القوارب بين أشجار النخيل الكثيفة، وتوجّه الشيخ محمد والمجاهدون نحو شبه جزيرة الفاو، ليثبّتوا مواقعهم فيها.

توزع المجاهدون في مواقعهم في الفاو، وخُصِّصت دشمةٌ للعلماء المبلِّغين: «محمد رملاوي»، «محمد حسين مختاري»، من محافظة مازندران في شمال إيران، ضمن كتيبة حمزة في فرقة «كربلاء 25»، التابعة للجنرال فرقاني، «محسني» من غرب مازندران، وهذا قيل عنه إنه من الطلاب الحوزويين المتألقين في الحوزة، وأيضًا «رضوي» من منطقة ساري. وكان على الأربعة، بالإضافة إلى التبليغ

 

 

176


119

المحطة الثامنة

دور الإمام الخميني المرتبط بنهج أهل البيت (ع)، ويؤكّد لهم علمه بموالاة الكثيرين منهم لأهل البيت (ع)، وهذا الأمر يوجب عليهم أن يكونوا مع جبهة الحق.

بادئ الأمر، تعرّضَ مكبِّر الصوت لرصاصٍ كثير، فطلب الشيخ محمد إحضار مكبِّرٍ آخر، وعاد يجول ويناديهم بصوتٍ أكثر جرأةً، رُدَّ عليه برصاصٍ غزير أصاب مكبّر الصوت من جديد، فطلب إحضار آخر.

بعد أيامٍ من النداء المتكرّر، التفت القادة في الحرس الثوري إلى أنَّ المواقع التي ينادي فيها الشيخ محمد أقلّ اشتعالاً من غيرها، فجعلوا نداءه جزءًا لا يتجزّأ من المعركة، ولاحظ الشيخ محمد أنَّ الرصاص الغزير الذي كان يُطلق نحو مكبّر الصوت، صار بعضه يُطلق في الهواء، ففهم أنَّ بينهم من أُجبروا على إطلاق الرصاص، فصار يدعوهم إلى تسليم أنفسهم، ويتعهّد لهم حفظ سلامتهم وإكرامهم في المعاملة.

وإذ سكت الرصاص، وفيما مكبِّر الصوت ما زال ينقل نداء الشيخ محمد، توجّه عددٌ من جنود صدَّام إلى معسكر المجاهدين، وسلّموا أنفسهم. حكى هؤلاء عن فنون الموت التي يلقَونها إذا ما رفضوا قرار صدام بالقتال، منهم من أُعدِمَ أفراد أسرته أمام عينيه، ومنهم من رفض الذهاب إلى الحرب فرُبط في الصاروخ ثم أُطلِق إلى الجبهة، ومنهم من أُلقي القبض عليه في مقام الإمام الحسين زائرًا، فعوقب لزيارته بالقتال معهم، ومن رفاقهم من ظلَّ يقاتل عن قناعةٍ بصدّام وحقدٍ على الإيرانيين.

 

 

179


120

المحطة الثامنة

اكتمل بدر شهر رمضان، ونداء الشيخ يعلو وهو يجول على طول خط الجبهة، ونداؤه الجريء ما زال يؤثر في صفوف الجبهة المقابلة، إذ سلّم عددٌ آخر من الجنود البعثيين أنفسهم تباعًا. وجاءت كتيبةٌ جديدةٌ لتحلّ محل كتيبة حمزة، وصار لزامًا على الشيخ محمد مختاري أن يغادر مع كتيبته، فأصرَّ عليه الشيخ محمد بالبقاء لكي لا يفوته ما ينتظرهم عما قريب. سأله الشيخ مختاري عن الأمر متعجِّبًا، فلا عمليات تلوح في الأفق، فأصرَّ الشيخ محمد عليه بالبقاء ليرى بنفسه، وهذا كان متعذِّرًا عليه، إذ إنَّ عالم دين في الكتيبة الجديدة، ولا يمكن إرجاعه.

في هذه الأثناء، بدأ القصف المدفعي على المعسكر، فسارعوا إلى الدشم واحتموا فيها إلى أن هدأ القصف فخرجوا، وبلغهم نبأ استشهاد «خانلائي» و«شاكري» مقطوعَي الرأس، على بعد كيلومترين، فغبطهما الشيخ محمد وأخذ يتحدّث عن الرزق الذي نالاه، ويتمناه.

ودَّع الشيخ مختاري أصدقاءه، واتفق مع الشيخ محمد على اللقاء المستمر معه، وعلى تشكيل لجنةٍ مشتركة بينهما في قم، ثم غادر.

غربت شمس الثامن عشر من شهر رمضان، وتحوّلت دشمة الشيخ محمد إلى محرابٍ، أحيا تلك الليلة، ليلة القدر، بالصلاة والدعاء والمناجاة، وطلع فجر التاسع عشر، فتوضّأ وشرع بالصلاة، وبينما هو كذلك، بدأت القذائف تتساقط على المعسكر؛ أصابت إحداها دشمة الشيخ، فهوى.

 

 

180


121

المحطة الثامنة

في هذا اليوم، عبر الشيخ محمد ضفة النهر، واستقبله القطار جسدًا من دون رأس ويد، وأقلّه مع رفيقيه الشهيدين «محسني» و«رضوي» إلى مقام السيدة المعصومة، فيما ظلّ مكبّر الصوت معلّقًا على العمود الخشبي في الصحراء، وكان فيه رصاصٌ كثير.

حطّت الطائرة في مطار مهراباد في طهران، الرحلة الطارئة التي تقرَّرت بعد اتّصالٍ جاءه فيما يتناول طعام السحور.

على طول مسافة الرحلة، لم يلتفت حسن إلى الساعة كعادته، إذ كان منقادًا بكلّه إلى تفاصيل حفرت ذاكرته وغيّبته عن مكانه وزمانه.

ومن المطار، استقل سيارةً إلى قم، فيما سبقه جثمان أخيه محمد بالقطار إلى حرم السيدة فاطمة المعصومة. هناك، وقف أمامه يخاطبه بصمت، يُذكِّره بأيّام العربة الخشبية، وضفّة نهر بيروت، ووجبة القيمر، التي كان يستقبله بها في بيته في قرية نوبهار، ذكّره بأيّام المراهقة وسيجارة السر. أخبره أنّه اشترى له بيتًا في ضاحية بيروت ليسكن مع أهله إلى الأبد. وذكرياتٌ أخرى مرّت مشاهدها أمامه وغصّ بها.

بعد مراسم التشييع، توجّه إلى شارع «آذر»، ودلف نحو بيت الشهيد نزولاً، هناك، أمام البوابة الزيتية، أخرج المفتاح من جيبه، خانته يده وهو يفتح القفل، أطلق تنهيدةً، ثم أدار المفتاح.

 

181


122

المحطة الثامنة

خلف البوّابة اتّأدت خطواته، وهو الذي كان يجتاز الممر نحو البيت بكلِّ خفّة. وقف بباب الغرفة، فرّت منه تنهيدةٌ حبيسة، جال بنظره على المكان، السكون صاخبٌ، وكلُّ الأشياء في الغرفة بدت له أجزاءً تتنفّس عبق محمد! وما إن وقع نظره على الطاولة الخشبيّة، حتّى لمح ورقةً مطويّة، فتحها، قرأها، كانت تختلف عن كل الرسائل السابقة، فقد كُتِبَت على عجل، وكأنّ الوقت يتسرّب من الساعة الرمليّة.

«ادفنوني عند السيدة فاطمة المعصومة، وإن تعذّر فإلى جوارها في روضة الشهداء».

 

182


123
سباقٌ مع القِطار