مخرّب ٥٠١٧

إلى من صبره أذلّ السجّان... إلى الإمام موسى الكاظم أهدي هذا العمل.


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-01

النسخة:


الكاتب

دار المعارف الإسلامية الثقافية


مخرِّب 5017

إهداء

إلى من قال: «لو تخلّى عني كل الناس وكتاب اللّه بين يديّ ما استوحشت...»

إلى من صبره أذلّ السجّان... إلى الإمام موسى الكاظم أهدي هذا العمل.

 

5


1

مخرِّب 5017

مقدمة الكتاب

عرف التاريخ كثيراً من الحروب التي تواجهت فيها الجيوش؛ تقاتلت، أسَرت وأُسِرت، ومع انتهاء المعارك تبادلت الأسرى، أو أفرجت عنهم. إلا أنّ هذه القاعدة لا تنطبق على صراعنا مع العدوّ الإسرائيلي. ومهما حاول المحتلّ طمس آثار جرائمه ومجازره ستبقى أدلّةً دامغةً، على ذلك الظلم والاستبداد، تدينه في سجلات التاريخ.

كثيرًا ما نتابع في الإعلام الممارسات الإسرائيلية، ونعدّد مصاديقها من خلال المجازر التي ارتكبتها الصهيونية سواء في فلسطين أو لبنان، أو على جبهات الحروب في سوريا ومصر والأردن. غير أن هذه الوحشية التي أظهرت وسائل الإعلام مصداقًا واحدًا منها، لم تستطع أن تتسلل إلى غياهب السجون والمعتقلات لترصد فنون إجرامٍ من نوع مختلف، إجرام يتلذذ

 

7


2

مخرِّب 5017

في توسيع جراح أسيرٍ شيئًا فشيئًا تحت عيون تتشهى الدم، وبأدوات لبنانية عميلة، محاولة منها لإظهار صورة مغايرة عن طبيعتها. فالكيان الذي زوّر إثنين وخمسين ألف وثيقة ليثبت للعالم أنه دولة متجذّرة في التاريخ، ليس بصعبٍ عليه أن يزوّر التاريخ وكل الحقائق.

هذا التاريخ المتداول الذي صاغته أقلام المستشرقين، فشكّل مُرشدًا لصياغة مفاهيم محدودة ومجتزأة تتناسب مع مصالحهم منذ تأسيس «وطنهم القومي» وفق تعبيرهم.

هذا العدوّ الذي امتهن القتل والتدمير وأمعن في الأسر والتعذيب وارتكاب المجازر، قليلاً ما نبحث عن خلفيات هذه المجازر وأسباب نشوئها، هل هي نفسية اجتماعية؟ أم وجودية تعود إلى عقدة الأقلّية التي تحاول أن تثبت وجودها في العالم؟ أم هي نتيجة الرفض الاجتماعي «للوبيّها» الصهيوني الذي تحكّم في اقتصاديات العالم وأنظمته السياسية، فاختار وطنًا عمّده بالظلم والدم وفق خلفية ثقافية فكرية دينية تلمودية إلغائية خيّرت الانسان بين اثنتين؛ إما أن يكون الانسان خادمًا لهذه الجماعة من الناس مسخّرًا كالأنعام، وإما أن تعمل المقصلة في أعناق البشر.

خلفية هذه السّادية دينية في العمق. الإنسان الوحيد فيها هو هذا الصهيوني الذي حمل لواء «إنّا شعب اللّه 

 

8


3

مخرِّب 5017

خلفية هذه السّادية دينية في العمق. الإنسان الوحيد فيها هو هذا الصهيوني الذي حمل لواء «إنّا شعب اللّه المختار» وكل ما تبقى من بشر مجرّد أرقامٍ خُطّت على أكياس تحوي جثث

 

9


4

مخرِّب 5017

ضحاياها، أو على بدلات مساجين بلا اسماء ولا هويات، حوّلتهم إلى أرقام... فكم من آلافٍ مهملةٍ قبل رقم ٥٠١٧، وكم من آلافٍ مجهولةٍ بعده!

مخرّب ٥٠١٧ من الذين عملت المقصلة في عنقهم لأنه رفض الذّل والخنوع، عاند السقوط والانهيار، وبجراحات التعذيب المفتوحة في الصدر والظهر والجنوب واجه هذا العدوّ ليثبت أنه ليس مجرّد رقم، ولا مخرّبًا بل هو مقاوم مع مرتبة الشرف، وفي كل جولة تعذيب كان يُعلن: إنه سوف يُحطّم أبواب زنازينهم، وإنه بينه وبين السّجان الوحش لم تخيّبه الأيام التي خلت، ولن تُخيّبه الأيام الآتية.

كل معركة، أو حدث تاريخي، أو انتصار، يتم استثماره بإنتاج كتب تزوّد الناس بالتجربة، عبر توثيقها أولاً، وترسيخها في الحقل المعرفي لديهم ثانياً. فالانتصارات التي تحققت- ولا تزال تتحقق- لا بد من أن يتبعها انتصار بالحرف والكلمة، لحفظ تضحيات المجاهدين وتاريخهم من التشويه والتحّريف، ومن ثم تقديمه للأجيال التي لم تعاصر الانتصارات النوعية ولحظاتها المصيرية والحساسة.

من هنا تأتي أهمية كتابة تجربة الأسر كي يتسنى للجيل الحالي والأجيال القادمة الاطلاع على الصراع والمواجهة مع العدوّ الصهيوني، وبالتالي ترجمة خبايا الذاكرة إلى وثيقة حيّة

 

10


5

مخرِّب 5017

قبل أن تصدأ في أروقة النسيان، علّ هذه التجربة تحفّز الذاكرة الجماعية على تظهير مخزونها.

علّمتني تجربتي الأولى في الكتابة عن الأسر، أن أوجّه قلمي ليغرف من حبر الأحداث والمعاناة، ويجعل من تجربة الأسر وثيقة حيّة لقصّة واقعية يسعى نورها في الأرض. فالذي يقدّم نفسه وحرّيته قرباناً على مذبح الأسر والاعتقال من أجل هدف سامٍ؛ هو دحر محتل أمعن في اغتصاب الأرض، وسلْب الحرّيات، وممارسة القتل، وامتهان التدمير الممنهج للبشر والحجر، يستحق منا، بل ويوجب علينا أن نوثق تجربته المشرقة.

وأخيرًا شكر لكل من ساعد وأسهم في إيصال هذا العمل إلى خواتيمه.

 

 

12


6

مخرِّب 5017

توطئة

ما بين عصر الأربعاء من تشرين حرٍّ عاملي ١٩٨٨، وصباح التاسع من آب ١٩٨٩ حكاية عشق ووصال إلهي...

مفتاحٌ شرّع الأبواب الموصدة...

وقف علي عند أعتاب مطر يستجديه العجل... فأول الغيث قطرة... تنفّس الصعداء... انتفض قائلاً: «مكاني ليس هنا!».

 

13


7

مخرِّب 5017

ريح أحمد

التاسع من تشرين الثاني عام ١٩٩٥

أنهى علي فطوره وأسند ظهره إلى الحائط، بسط قدميه محاولاً أن يسترخي من شدّة انقباض عضلاتهما أثر التشنج الذي أصابهما.

شقّ صوت قلقلة قفل الباب الحديدي طريقه إليهم من بين أصوات كانت تضج بها أروقة المعتقل حاسمةً الموقف، ساد صمت غمر من في الغرفة جميعًا، ترصّدٌ وترقّبٌ حطّ عليهم دفعةً واحدة، توجّهت أنظارهم نحو الباب، وراحوا يتساءلون:

«من سيقتادون إلى التحقيق، هل سيجرّبون طريقة جديدة في التعذيب»، استطرد علي قائلاً: «اللّه يستر! من سيأخذون إلى السجن الإفرادي هذه المرة؟!».

 

 

15


8

مخرِّب 5017

دخل أبو يوسف[1]، السّجان الستيني يتقدمه بطنه المنتفخ، اختفت خلفه فتاة عشرينية شقراء، قصيرة القامة، نحيلة الجسم. تأهب الجميع. تراجع علي عن محاولته إراحة ساقيه المتشنجتين، رمى رفيقه الطعام من يده، فيما نهض آخر من فراشه ، تبادلوا نظرات الريبة والاستفسار، قبل أن تُبدّدها كلمات أبي يوسف: «إنها مندوبة منظمة الصليب الأحمر الدولي».

بدأت المندوبة تسألهم بلغة عربية مستفسرةً عن أحوالهم، وعن حاجاتهم ومتطلباتهم، وعن أشياء أخرى. وإذا بسيلٍ من التساؤلات يتدفق متزاحمًا مع آمالٍ منّوا أنفسهم بها، فربما تكون سندًا لهم يمكن الاعتماد عليه!

شعرت باستبشارهم، فبادلتهم مثله؛ فيما راحت نظراتها تلتطم بجدرانٍ ملطّخةٍ ببقايا طلاءٍ باهتٍ تآكلته العفونة والرطوبة، وبأرضية غطّتها طبقة داكنة، تكوّنت من غبار امتزج بعرقهم ودموعهم.

أعاد أبو يوسف على مسامعهم ما قالته لهم، بأنها ستبذل جهدها لمساعدتهم، وتقديم كل ما في وسع المنظمة تأمينه وتحقيقه لهم.

 


[1]  غسان يوسف موسى، معاون في جيش لحد، كان سجّاناً في معتقل الخيام.

 

 

16


9

مخرِّب 5017

تملّكهم شعورٌ بالمرارة عندما همّت بالمغادرة. نظرت إلى

 

 

17


10

مخرِّب 5017

وجوههم، وهي تضع قدمًا خارج الزنزانة وأخرى داخلها، طأطأت رأسها، فيما كانت يداها تمسكان بالباب الحديدي؛ ودّعتهم بنظرة من عينيها الخضراوين، وبريقٌ من دمعهما يتلألأ، كأنه أبى أن يغادر هو الآخر!

مرَّ اليوم الأول، تلته أيام أخر، استكمل فيها مندوبو الصليب الأحمر جولاتهم على سائر الزنازين للتعرّف إلى المعتقلين وأسباب اعتقالهم، ليكملوا من ثم الخطوة الثانية، وهي إجراء المقابلات الفردية والجماعية، للاطّلاع على معاناتهم النفسية والجسدية بشكل دقيق ومفصّل.

كان المعتقل في الأشهر الستة الأولى لدخول الصليب الأحمر الدولي إليه أشبه بخلية نحل؛ جولات هنا، تحسينات وإعادة بناء هناك. وقد انتظر علي مرتين، لعل اسمه يكون من بين الأسماء المدرجة على جدول الزيارات، لكن من دون جدوى.

- علي حجازي غدًا لديك زيارة.

- زيارة! ممن؟

- لا أدري! هناك من سيزورك!

غادر أبو يوسف الزنزانة، تاركًا عليًا في بحرٍ من التساؤلات، تُرى من الذي سيزوره؟!

 

 

18


11

مخرِّب 5017

«علي حجازي غدًا لديك زيارة»! كلمات خمس سلبت

 

 

19


12

مخرِّب 5017

النوم من عينيه؛ تململت روحه في جسده وضاقت به ذرعًا، فاستوى في جلسته محرّكًا ساقه المتدلية من على السرير الحديدي[1]، فيما تزاحمت الأسئلة في مخيلته بزخمٍ أكبر «ترى من سيأتي؟ زوجتي، والدي، إخوتي، أولادي؟! يا إلهي، كيف صار أولادي؟! ماذا حلّ بهم؟!»، قال علي محدّثًا نفسه.

أرهقته أسئلة تاهت أجوبتها، فاستدار واستلقى على ظهره، حاضنًا رأسه بكفّيه، مقلّبًا بصره بين الجدران... مرّ قطار الذكريات فاستوقفه، علّه يسترجع وجوه أفراد أسرته وعائلته، ولكن بدلًا منها حلّت عربة من السُباب والشتائم التي راح يكيلها مارون[2] له وللمقاومة، في اليوم الأول لدخوله المعتقل، وهو ينزع العصابة عن عينيه أمام باب الزنزانة:

«شو يا ٥٠١٧ [3] دار الزمن وعلقت هون، شوف شو عملت بحالك ، ليك وين زتّك حزب اللّه وتركك

 


[1] كان الصليب الأحمر قد أحضر أسرّة حديدية ذات طابقين، وذلك في الخطوة الثالثة التي قام بها بعد توسعة المعتقل، وضم الزنازين بعضها إلى بعض

[2]  مارون باسيل وشقيقه جورج ، كان علي قد عمل معهما في أعمال البناء في عام ١٩٨٥ في بعض قرى شريط الجنوب اللبناني المحتل. انضما بعدها إلى جيش لبنان الجنوبي، وصارا سجانين في معتقل الخيام.

[3] الرقم الذي عًلق على صدر علي عند دخوله إلى المعتقل

 

 

20


13

مخرِّب 5017

لمصيرك المجهول؟ ورح تبقى هون ليتخّوا عضامك وتموت!» قال مارون مستهزئًا.

«بطلت تعرف اسمي يا مارون! الدنيا دولاب، وعجلة الزمن 

 

 

21


14

مخرِّب 5017

ما بتوقف، يوم إلك ويوم عليك! ومهما طالت الإيام، أني متيقّن إني رح إطلع عجريّي، أني متأكد من هالشي، وبدّي قلك: جبل عجبل ما بيلتقوا، بس بني آدم مع بني آدم إلاّ ما يلتقوا»؛ أجابه علي وهو يطوي غيظه في جنبه، مبتلعًا غصّته في قرارة جوفه.

حلَّ فجر اليوم التالي مختلفًا عما سبقه، خيوط الشمس تتسلل من كوّة في أعلى جدار الزنزانة، تطوي ليلة طويلة من الترقّب والانتظار، وتمدّه بنشاطٍ ممزوجٍ بالخوف من إلغاء الزيارة، كما حصل مع غيره من المعتقلين.

«أيُعقل أن تُلغى؟!»، سأل نفسه وهو ينزل من على سريره.

تناول طعام فطوره، قطعة جبنٍ مبسترة، وبضع حباتٍ من الزيتون، احتسى معها كوبًا هو أقرب إلى «زوم الإلبة»[1] منه إلى الشاي البارد. تبادل أطراف الحديث مع رفاقه، فيما كان يحاول جاهدًا ابتلاع «لقمة» خبزٍ علقت في حلقه، وهو يرتدي ملابس نظيفة، كان قد غسلها قبل يومين من دون أن يدري أنه سيرتديها في موعد الزيارة الأولى، ثم سرّح شعره ببقايا مشط مكسور، وراح يسترق السمع لوقع أقدام السجّان الذي أتى لاصطحابه.

 


[1] لون الماء المائل إلى الإصفرار بعد أن يُسلق فيه القمح.

 

22


15

مخرِّب 5017

- من يُذكر اسمه، فليجهّز نفسه! صرخ أبو يوسف فاتحًا باب الزنزانة على عجل، قاطعًا الشك باليقين؛ انتفض

 

 

23


16

مخرِّب 5017

علي وغادر وحده، لأن أبا يوسف لم يذكر أحدًا غيره من الموجودين في الزنزانة رقم «٦»، بينما راح رفاقه يدعون له بالتوفيق.

«صباح الخير، كيف الشباب؟»، ألقى علي التحية على الأسيرين عبد الأمير خشيش ونصراللّه نصراللّه، فيما كان يرافقهما اثنان من السّجانين، وقفا في الممر ينتظران خروج الآخرين من الزنازين لاصطحابهم إلى الغرفة المخصصة للزيارة.

دخل المعتقلون الثلاثة بلباس ذي لون قاتم: سراويل وقمصان كحلية يتوسطها أزرار سوداء ، إلى غرفة المقابلات؛ كانت الغرفة مقسّمة، تتسع لخمسة أسرى، يفصل بين الأسير والآخر جدار يرتفع قرابة المترين، ويقف كل واحد منهم في مساحة نصف متر تقريبًا، أمامه شباكٌ مسيّج بالحديد، يمنعه حتى من لمس يد من يزوره.

وقف علي عند الطرف الأخير من الغرفة التي يبلغ طولها قرابة ثمانية أمتار، خلف الشبك الحديدي، ملصقًا جسده به تارةً، ومتكئًا على الحائط تارةً أخرى. وقد عادت وتيرة تساؤلاته وانفعالاته لتطغى على ضجيج الموجودين في الغرفة: «من سيأتي لزيارتي؟» أخذ رأسه يضجّ بأسئلة متناقضة، لا ينتصر فيها طرف إلا بهزيمة الطرف الآخر، وعلى الرغم من تسلل البرودة إلى أطرافه صار كبركانٍ يوشك أن يُطلق حممه.

 

 

24


17

مخرِّب 5017

مرّت الدقائق الخمس ببطءٍ شديد، شعر علي بأن عمرًا من الشوق يجتاحه وهو يرى الأهالي قد بدأوا بالدخول. أطلق زفرةً عميقة، ورمى بثقل كفّيه إلى الأسفل. لفته طفلٌ صغير، ذهبي الشعر، ذو وجهٍ دائري، عيناه خضروان تشعّان بريقًا، لا يتجاوز الخامسة من العمر؛ كان وحيدًا، يوزّع نظراته، بين أسير وآخر:

- «شو اسمك عمّو؟»

- «مين بدّك حبيبي؟»، باغته بالسؤال قبل أن يصل إليه.

- «بدّي بيي»

- «شو اسم بيّك؟».

- «علي».

- «وإنت شو اسمك؟».

- «أحمد».

- «أحمد! أحمد شو؟» صمت ولم يجب.

- «من أي عيلة؟».

 

 

26


18

مخرِّب 5017

- «أحمد حجازي». تجمّد الدم في عروقه وكاد أن يُغمى عليه، تسمّر في مكانه، ولم يعد يقوى على الحراك.

- «شو اسم إمك؟» سأله بنبرة عالية.

 

 

27


19

مخرِّب 5017

- «سناء».

تسارعت نبضات قلبه، وصرخ بأعلى صوته:

- «أنا بيّك! أنا بيّك! أنا بيّااااااك» ردّدها وهو قابضٌ على شِباك الحديد، وكاد أن يقتلعه لشدّة إحكام قبضته، ما شدّ أجزاءه بعضها إلى بعض، وزاد من اتساع فجوتها.

- «هيدا إبني أحمد»

- «هيدا إبني أحمد»، قال وعيناه الباكيتان تلتهمان وجه طفله المذهول!

- «على مهلك يا علي على الشبك، رح تقبعو من مطرحو!» تزامن كلام الحارس مع دخول امرأة تبدو في أواخر العقد الثالث من عمرها برفقة فتاة وصبي، وقفت للحظة قبل أن ترى أحمد قبالة رجلٍ لم تعرفه للوهلة الأولى؛

«أيُعقل أن يكون هذا زوجي؟!»، قالت بعدما حجبت دموعها وضوح الرؤية، «الملامح نفسها! أيُعقل أن يكون هو؟!».

اقتربت منه أكثر، وقفت قبالته والتصقت بالشِباك الحديدي، فيما كان هو الآخر ممسكًا به بكلتا يديه.

- «يا إلهي! لم أعرفك، لقد ازداد وزنك، وابيضَّ وجهك»، قالت بصوتٍ مرتجف.

 

 

28


20

مخرِّب 5017

- «دعكِ مني الآن أخبريني عنكم» قال لها، وهو يمعن النظر في الفتاة التي تقف قبالته.

- «هذه ميرفت» قالت سناء.

- «يا ألله، لقد كبُرت وأصبحت شابة».

- «آهٍ، لو كان بإمكاني إزالة هذا الحاجز لأعانقكم وأشمّ ريحكم، علّني أطفئ نيران بُعدي عنكم».

- «كفّ عن البكاء يا علي!» قالت زوجته، فيما دموعها تبلل وجنتيها.

- «إنها دموع فرحتي برؤيتكم».

تسمّرت عينا حسين ذي العشرة أعوام على وجه والده المبلل بالدموع، كأنها تلومه على طول غيابه عنه، أمسك بكلتا يديه الشبك الحديدي، وراح يشدّه ويجذبه إليه ضاربًا رأسه به، وهو يصرخ: «يا كفاااار بدّي بيي، افتحولي، حرام عليكن، بدّي أعبطو بدّي بوسو...».

ضجّت الغرفة بصراخ حسين وبكاء أخيه أحمد، وانقضاض والدهما على الشبك الذي راح يهزّه بكل قوته، وهو يصرخ: «افتحوا الباب يا مجرمين!».

 

 

29


21

مخرِّب 5017

بُهت جميع من في الغرفة وراحوا يراقبون ما يجري، وعلامات التأثّر بادية على وجوههم، يوزّعون نظراتهم بين

 

 

30


22

مخرِّب 5017

بكاء حسين، وذهول السجانين الذين رضخوا لطلبه مرغمين لشدة ما فعل، وخوفًا من أن تُحدث عدم استجابتهم بلبلة بين الموجودين. وما إن فُتح القفل حتى قفز حسين مجتازًا الحافة التي تفصل بينه وبين أبيه، على الرغم من ارتفاعها بالنسبة إليه، وقد ظن والده أنه اخترق الشبك الفاصل قبل أن يُفتح... عانقه حسين معتصرًا إياه بكل ما أوتي من قوة، وجلس علي أرضًا محتضنًا أولاده وزوجته بين ذراعيه، ممطرًا إياهم بقبلاتٍ عشوائية تارةً، ومحدّقًا في وجوههم تارةً أخرى.

«انتهى وقت الزيارة!»؛ أخرجه صوت السّجان مما هو فيه. نصف ساعة انقضت، فشل السّجان في دقائقها الأخيرة من ردع أحمد وحسين وميرفت عن والدهم وإبعادهم عنه.

- «انتبهي لنفسك وللأولاد»، قال لزوجته وهو يلّوح بيده مودّعًا على أمل اللقاء بهم بعد ثلاثة أشهر، وطرقت سمعه جملة من ابنه أحمد أضافت على ملامحه حزنًا وتركت في قلبه كدراً:

- رح خبّر المعلمة بكرا إنو صار عندي بيّ»، شعر علي بأن الدنيا تدور من حوله عندما سمع كلام ابنه لوالدته!

لا زالت تلك القصة التي حصلت قبل ما يقارب الشهر تأخذ من أحمد مأخذاً حين طلبت المعلمة من أحمد ورفاقه ألاّ يحضروا في اليوم التالي إلا برفقة 

 

 

31


23

مخرِّب 5017

آبائهم، الأمر الذي جعله يقاطعها قائلًا: «يا أخت، يا أخت كيف بكون البيّ؟» سؤالٌ لم 

 

 

32


24

مخرِّب 5017

يخطر في بالها أن تسمعه يومًا!

- «شو هالسؤال يا أحمد؟! في حدا ما بيعرف شو يعني بيّ؟!»، قالت مذهولة! غير أنه لم يعرف بما يجيبها!

عاد أحمد في الحافلة التي كانت تقلّه عند ظهر كل يوم، رمى بحقيبته المدرسية عند قدمي والدته قائلاً لها «حقًا أنا عندي بيّ؟»

سؤالٌ وقع على قلب سناء كالصاعقة، وجعل لسانها وجسمها كقطعة من حطب، فجلست مكانها، مصفرّة الوجه، عاجزة عن الحراك والنطق.

- إمي، أنا عندي بيّ؟

- إي يا حبيبي عندك بيّ.

- بدّي بيّ

- هو بالمعتقل.

- شو هو المعتقل؟

- هو مكان مقفل، يضع فيه الجنود الإسرائيليون الناس، ويمنعونهم من الخروج منه .

- وين هو المعتقل؟

- هونيك بالقرب من الضيعة.

 

 

33


25

مخرِّب 5017

جاءت الزيارة استجابة ربانية لقلب طفل صغير، أراد أن يتعرف إلى أبيه، فتحقق مراده بعد نحو أسبوعين، عندما حضر مندوب الصليب الأحمر الدولي، ليخبرهم بأن موعد الزيارة الأولى للمعتقل قد تحدّد في الأسبوع التالي.

***

خرجت سناء من تلك الزيارة برفقة أولادها متوجهة نحو الحافلة التي أقلّتهم من وإلى المعتقل، فيما علي امتثل لأوامر السّجان الذي نهره طالبًا منه الإسراع في الخروج من الغرفة.

عاد إلى زنزانته حاملاً معه ما تبقى له: من ثياب، ومناشف، وحليب، وسكرّ، وبضع قطع من الشوكولاتة، بعد أن صادر السجانون القسم الأكبر منها، عاد إليها حاملاً معه بعضًا من فتات ربيع هجر فصوله القاحلة منذ سنوات خمس، وما إن خطت قدماه عتبة الزنزانة حتى بدأ الاستجواب من رفاقه: «من أتى لزيارتك؟ ماذا حصل؟ هيا أخبرنا كيف كان اللقاء؟! هل هناك من أخبار جديدة حولنا؟».

أفلح علي في التفلّت من أسئلة رفاقه وتعليقاتهم، لكنه لم يستطع التفلّت من نظرات اللهفة في عيون أبنائه المستجدية عودته معهم، وكلمات صغيره أحمد التي 

 

 

34


26

مخرِّب 5017

قضّت مضجعه، وجعلت عيناه تفيضان بماءٍ اختزنه على مدى سنوات خلت...

 

 

35


27

مخرِّب 5017

تململ علي في فراشه، وشعر بضيق في صدره، حاول جاهدًا إغماض عينيه العصيّتين، فنسمات الشوق التي كانت تلفحه تحولت إلى ريحٍ عاتية اقتلعت النعاس منهما، كيف لا وهو أبٌ مع وقف التنفيذ؟!

قلّب الوسادة المبللة بالدموع، لملم شتات الصور... حمل ذكريات طفولته وراح يعدو في ثنايا الذاكرة... كم تمنّى في تلك اللحظة أن يرجع به الزمن إلى الوراء... وإذ به يخضع لاستجواب آخر، جعله يخوض عُباب الذكريات التي تقاذفته أمواجها ورمت به بعيدًا... هناك... عند شاطئ طفولة، كان والده قد أسرّ بها على مسمعه عندما كان طفلاً.

***

 

 

37

 

 


28

مخرِّب 5017

لن أكون مثلك

«لا أريد أن أكون فلاحًا»، بهذه الكلمات أعلن إبراهيم حجازي تمرّده على الواقع الذي شبَّ عليه، بعد أن كان يساعد والده في أعمال الزراعة، شأن معظم أهل بلدة دبّين[1]، الذين كانوا يعتاشون من زراعة القمح، والشعير «والباقية[2] والكرسنة[3]» والزيتون والتين.

وقف إبراهيم عند بوابة المنزل، وقد تسللت برودة فصل

 


[1]  تعود تسمية دبين حسب رواية رئيس البلدية إلى مملكة أُطلق عليها إسم «مملكة ديبون» نسبةً إلى ملكها «ديمون» الذي بناها على تل يقع للجهة الجنوبية للبلدة، ويتبع عقارياً لبلدة جديدة مرجعيون، وما زال هذا التل موجوداً حتى أيامنا هذه. ومن جهة أخرى أجمع الباحثون على رد اسم دبين إلى الآرامية- السريانية أي الدبّ.

[2]  الباقية: جنس نباتي، يتبع الفصيلة البقولية.

[3]  الكرسنة:عشب حولي من الفصيلة القرنية، يُزرع لحبِّه ويجعل علفًا للبقر.

 

 

38


29

مخرِّب 5017

الربيع إلى أطرافه، فشعر بقشعريرة تسري في جسمه، كان ينتظر عودة والده من عمله، ليخبره بأن خاله المقيم في البرازيل قد أرسل في طلبه، وكان العديد من شبان ورجال البلدة قد هاجروا إلى بلدان أميركا الجنوبية، لكنه اصطدم برفض والده، قائلاً له: «حكّم عقلك يا بني! ها نحن بألف خير، لدينا كل ما نحتاجه: المنزل والأرض، والطعام والمؤونة، إلى من ستتركني أنا وأمك؟! من سيهتم بنا؟ ومن سيتابع العمل من بعدي؟» فما كان من إبراهيم إلا أن مزّق تأشيرة السفر متخذًا قراره بالبقاء.

لم يكد يمضي ثلاثة أشهر حتى اتخذ قراره بالانتساب إلى المؤسسة العسكرية، «عليَّ الالتحاق بثكنة مرجعيون بعد أربع ساعات وليس أكثر، فالدورة ستبدأ فجر الغد...»، كلمات دوَّت كالصاعقة، وجعلت والديه يلومانه على قراره، ويستجديانه التراجع عنه قراره، لكن ذلك لم يثنه عن خياره، وقال لهما: بكيتما أم لم تبكيا، لن أكون فلاحًا.

إنها لي

الفياضية... منتصف عام ١٩٥٨.

نزل إبراهيم وزملاؤه المجنّدون من الحافلة العسكرية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، والتي أقلّتهم إلى ثكنة الفياضية

 

 

39


30

مخرِّب 5017

للالتحاق بالفوج الرابع فيها، ثم نُقلوا بعد إنهاء الدورة إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان[1].

تنقّل في خدمته العسكرية بين منطقة وأخرى، إلى أن حطّ الرحال في منطقة قريبة من مكان إقامة شقيقته، ما سمح له بزيارتها من وقت إلى آخر. وفي إحدى زياراته لفتته فتاة تعبر الشارع، فوقف في مكانه يراقب خطواتها، حتى توارت خلف باب منزل ذويها، وقد أشعلت فتيل قلبه وهو شاب عشريني.

«إنها لي، لن أسمح بأن تكون لأحدٍ غيري»، بهذه الكلمات عبّر إبراهيم لشقيقته عن إعجابه بالفتاة. لم يقوَ على الانتظار، قادته خطاه في اليوم التالي إلى منزل أهلها، طالبًا يدها للزواج.

تفاجأ إبراهيم عندما سأله رئيس القلم في المركز العسكري الذي يخدم فيه عن سبب عقد قرانه قبل انقضاء المدة القانونية التي تسمح له بذلك[2]!

- «من المؤكّد أنك تمزح، كيف لي أن أتزوج، وأنا لا علم لي بذلك؟!»

 


[1]  أحداث ١٩٥٨ التي بدأت شرارتها من طرابلس وبيروت، وهي مركز محافظة الشمال، تبعد عن العاصمة ٨٠ كلم. عَرفت طرابلس عدّة حضارات، صيّرتها إحدى أهم المدن اللبنانية، في دولة لبنان الكبير. (طرابلس (لبنان).

[2] وهي ثلاث سنوات من بعد انتسابه إلى السلك العسكري.

 

40


31

مخرِّب 5017

- «والدك أخبرني بذلك، لقد اتصل بي لتوّه».

 

 

41


32

مخرِّب 5017

كان والده قد علم بأن قلب ابنه قد تعلق بهذه الفتاة، فاختصر الوقت والطريق- بحسب تعبيره- وأحبَّ أن يفاجئه ويفرح قلبه، فما كان منه إلا أن وكّل نفسه عن ابنه وعقد قرانهما.

- «والدي؟! لكنه لم يعلمني بذلك! حسنًا ما الذي سيحصل الآن؟»، سأله إبراهيم.

- «لا شيء، سوى سجنك خمسة وعشرين يومًا!»، أجابه الرقيب.

- «خمسة وعشرون يومًا؟! حسنًا، ماذا عساي أن أفعل؟! فليكن ذلك!».

- بعد غد سننتقل إلى بلدة « بتدّين» في جزين، ومن حسن حظك أنك ستكون معنا، فتسقط عقوبة السجن عنك، ولكنك لن تحصل على مأذونية لشهرٍ كامل قال أمين السر لإبراهيم محاولًا التخفيف عنه.

مرّت الأيام برتابة، كل يوم يشبه سابقه، إلى أن جاء صباح «يوم الثلاثين» اليوم الموعود، وشعر إبراهيم بأن الجميع يشاركه فرحته؛ فاليوم ينتهي الحجز، وغدًا يذهب إلى بلدته في مأذونية لخمسة عشر يومًا!

وصل قرابة الظهر، ازدادت سرعة خطواته عندما لمح منزل ذويه، وكان إبراهيم قبل وصوله يتخيل مشهد لقاء زوجته. اقترب من باب الفناء الخارجي، وقفت والدته عند أعلى الدرج

 

 

42


33

مخرِّب 5017

مستقبلةً إياه على وقع الزغاريد المكللة بالدموع والقبلات التي لثمت بها وجهه ورأسه وعنقه.

وقف عند الباب ينظر إليها وهي تجلس في زاوية الغرفة، لوهلة خطر له أن يؤجّل خطوته، ريثما تهدأ نبضات قلبه التي كادت أن تخرج من صدره، أطرقت برأسها وغضّت عينيها البنيتين ، فيما علت خدّيها حُمرة أضفت توهّجًا طفوليًا على وجهها.

اقترب منها، جلس على قدميه المطويتين تحته، فيما احتوت يداه المرتجفتان، كفّيها الصغيرين، هامسًا بصوتٍ حنون: «أهلاً بك في عائلتنا».

صور مبعثرة

استيقظ من نومه مذعورًا على وقع صوت زوجته المتألمة «يا إلهي أيُعقل أن تكون آلام الولادة!»، قال إبراهيم، ومن دون أي تردد، وجد نفسه في الغرفة الملاصقة يهزّ والدته بكلتا يديه: «أمي هيا قومي، نقيّة تتألم بشدّة!».

لم يكد يمضي من الساعة نصفها، حتى شقّ صوت المولود سكون الفجر، وفي الغرفة ذات الأرض الإسمنتية نفسها التي وُلِد فيها إبراهيم.

«إنه صبي!»، خرجت الداية تخبرهم، وابتسامة كبيرة تعلو وجهها!

 

 

45


34

مخرِّب 5017

أضاءت ولادة علي المنزل، وبعثت فيه حياةً جديدة، بصوت بكائه ممتزجًا مع رائحة «اليانسون» الذي عطّر أرجاء المنزل.

نشأ علي مدللًا في كنف جده، فهو وريثه في اسمه، وحفيده الأول، ومرافقه في أغلب الأوقات، وبشكل خاص بعد ولادة شقيقتيه فريال وهيفاء، وعلى الرغم من ولادة أخيه محمد احتفظ بحق الاستمتاع بملازمة جدّه.

عاش علي واخوته طفولة غير مستقرّة، فكانوا يتنقّلون مع والدهم العسكري من منطقة إلى أخرى، وأولى تلك المحطات كانت في منزلٍ ملاصقٍ لثكنة الفياضية التابعة للجيش اللبناني، عندما كان والده عازفًا في الفرقة الموسيقية التابعة لفوج المشاة، وعلى الرغم من أن عليًا كان بين الثالثة والرابعة من عمره، فإن ذاكرته احتفظت ببعض الذكريات التي ظلّت تراوده بين الحين والآخر، وبعد مضي تلك السنين ما زال صوت المزمار، وعزف والده يصدح في أذنيه، وصورة الطفل ابن السنوات الخمس الذي يتعثر وهو يهرول، ليأخذ مكانه بين عناصر الفوج، ماثلةً في مخيلته وكأنها بالأمس القريب.

انتقلت العائلة بعد حوالي السنتين للسكن في محلة «القبّة» في مدينة طرابلس، حيث سكنت في منزلٍ يشرف على وادٍ مغروسٍ بأشجار الزيتون، ويطل 

 

 

46


35

مخرِّب 5017

على البحر الذي يترصّد الشمس كي ينقضّ عليها ويبتلعها، كما كان يتصور علي!

أما عن مدرسته الأولى، فكل ما بقي في ذاكرته مجرد فُتات 

 

 

47


36

مخرِّب 5017

صور مبعثرة: أدراجٌ ضيقة وطويلة توصلها بشارع «لطيفة» في محلّة القبّة، ومن ثم بقطعة أرضٍ صخرية تحيط بالمدرسة، وتنتهي عند سوقٍ للخضار.

وإلى بعلبك[1]، كانت وجهة العائلة في المرة الثالثة، حيث تنقّلوا في السكن بين أحيائها، وعلى مدى سنوات ثلاث. فسكنوا عند آل اليحفوفي، وآل ياغي، ومن ثم في حي الشراونة عند آل الفيتروني، لينتقلوا بعدها إلى مجمّع سكني تابع لمؤسسة تعاضد الجيش[2] في بلدة دورس. وحدها مدرسة المطران في مدينة بعلبك التي تلقّى فيها تعليمه الابتدائي، ثلاث سنوات من دون أن ينتقل إلى مدرسة أخرى.

العودة

إنه اليوم الأول لهم في دبّين، تلك البلدة الجنوبية ذات البيوت الحجرية والأسقف الطينية، التي توزعت بشكل

 

 


[1]  مدينة الشمس، ومركز القضاء الذي يحمل اسمها. تقع في محافظة البقاع، وتبعد عن العاصمة بيروت ٨٥ كلم تحتل مكانة سياحية هامة لاحتوائها آثاراً ضخمة، ترجع إلى العهد الروماني. وتشتهر بعلبك اليوم بمقام السيدة خولة ابنة الإمام الحسين ، ويوجد فيها مقامات أخرى، منها: مقام النبي عبد اللّه، ومقام النبي إلياس.

[2] مؤسسات خدماتية تابعة لمديرية المؤسسات الثانوية، وتهدف إلى مساعدة العسكريين والموظفين والمدنيين في الجيش كل وفق اختصاصها. (موقع الجيش اللبناني. /https://www.iebarmy.gov.lb/ar/content تاريخ الاطلاع: ٠٢/١٠/٢٠١٨.

 

 

48


37

مخرِّب 5017

خجول، بين تلتيها: الشرقية والغربية، ويعود مردّ تشييدها في وسطهما إلى وفرة ينابيع المياه، ووجود البساتين والمساحات الخضراء، وهذا ما جعلها قِبلة المزارعين ومربّي المواشي.

كان علي كمن يراها للمرة الأولى، على الرغم من أنه كان يتردد إليها مع أهله، وعلى مدى ثماني سنوات لقضاء القسم الأكبر من فصل الصيف وتحضير مؤونة الشتاء.

«هنا كان يقعد ويجلسني في حجره، كم اشتقت إليك يا جدّي!» قال علي وهو يقف في ظل شجرة «الأكي» حيث كان يحمله الجد على رقبته ليتمكن من قطف ثمارها..»

جالت عيناه في المكان، نظر حوله، وقف قرب شجرة الزيتون التي كان جدّه يربط حماره إليها، ويجعل من ساقه سُلّمًا يعينه على الصعود إلى ظهر الحمار.

توارى خلف المنزل غير آبه لنداء والدته له، وتذكّر البقرة، تلك التي كان يرضع لبنها، كلما شعر بالجوع، وما إن ينتهي حتى تبدأ بلعق وجهه ورأسه، وتُدني رأسها منه كي تمكّنه من الإمساك بقرنيها الصغيرين، وتنحني قليلًا ليتمكّن من الجلوس على ظهرها.

 

 

50


38

مخرِّب 5017

كان كمن يبحث عن إبرة في كومة قش؛ نثر صور جدّه في مخيلته، باحثًا عن واحدة له، وقد أخذه الشوق إلى رائحة عرقه المعفّرة بالتراب، فأغمض عينيه علّه يكحّلهما برؤية وجهه

 

51


39

مخرِّب 5017

الملوّح بأشعة الشمس التي كانت خليلته معظم ساعات النهار.

استفاق علي من ذكرياته على صوت والدته:»هيا يا علي لقد تأخّر الوقت، وبرد الجوّ، يبدو أنها على وشك أن تمطر!»، دخل المنزل وهو يتحسس وجهه البارد بكلتا يديه

كرّ وفرّ

جميلة هي الطفولة، والأجمل منها ألعابها!

حينما نقلّب صفحاتها في سجل حياتنا، نراها أيامًا ضاحكة... فرحة... ممزوجة باللامبالاة بالغد وما يحمله... نستجيب لاستدراج شقاوتها الساحرة، غير آبهين بما تفعله بنا...

نتعثر، نسقط، ندمي أيدينا وأرجلنا، لا نستسلم، لا بل نعود أكثر تماسكًا وقوة، وكأن إكسير الحياة قد استوطن فيها!

كان لصيف دبّين طعمٌ بنكهة الفرح، أُضيف إلى ألوان فاكهتها اللذيذة، التي كانت عُرضةً للغزو من بعض فتية وشبان البلدة في أثناء تجمهر العديد من أبنائها حول التلفاز الوحيد في البلدة، لمتابعة مباراة 

 

 

52


40

مخرِّب 5017

«المصارعة الحرّة» التي كان يعرضها مساء كل سبت «تلفزيون الشرق الأوسط»[1] التابع لما كان

 


[1]  تلفزيون ناطق باسم الميليشيا العميلة أنشأه العدو الإسرائيلي أبّان احتلاله جنوب لبنان .

 

 

53


41

مخرِّب 5017

يُسمى بـ«دولة لبنان الحرّ»، والتي كانت تجذب الأهالي من كلّ الأعمار إلى درجة صار أبطالها «كيفن» و«آيس مان» و«جون سينا» مضرب مثل عندهم للقوة. أما مسلسلي «طرزان ورنتنتا» فقد سلبا قلب علي وإخوته، وكم كان ينتهي وقت عرضهما على التلفاز، قبل أن ينهي علي وإخوته إدارة «اللاقط» على سطح المنزل لبثّ الصورة بشكل أوضح.

كما احتلت لعبة «النقيفة»[1] مكانًا مرموقًا في سُلَّم الألعاب، فقد كان علي ورفاقه ينقسمون فيها إلى فريقين متساويين، كل فريق يحسب أن الفريق عدوٌّ له. في إحدى المرات، انقسموا كعادتهم إلى فريقين: علي ورفيقاه في فريق، وثلاثة إخوة صودف اجتماعهم معًا في فريقٍ آخر: هشام، محمد وجمال العكّاوي؛ وعندما احتدمت اللعبة تحولت إلى معركة حقيقية، فأصاب علي الثلاثة في رؤوسهم، وأحدث جراحًا فيها نتيجة مهارته في التصويب، فذهب الإخوة الثلاثة إلى والدهم، ووجوههم مدماة، فجاء غاضبًا، وقصّ على والد علي ما حدث، فما كان من والده إلا أن عاقبه على فعلته، ولكن ذلك لم يثنه عن معاودة اللعب.


 


[1]  هي لعبة الشعبة أو المغّيطة، عود خشبي على شكل حرفy، يربط به شريطان رفيعان متساويان من المطاط، يختار الطفل حصى ملساء صغيرة يصوّبها نحو الهدف.

 

 

54


42

مخرِّب 5017

تلا لعبة «النقيفة» أهمية، لعبتا «الكلل»[1] و«الغميضة»[2]، وكان لكل لعبة عرّابها؛ فتميّز علي ورفاقه: علي ونسة، ونعيم طرّاف، وعامر كلاكش[3] في لعبة «الكلل» - التي كانت تأخذ حيّزًا جديرًا بالاهتمام والمتابعة الدؤوب منه، وكأنها فرضٌ عليه. كانت ساحة البلدة مرتعًا لأناملهم، وغالبًا ما كانت تشتد المنافسة، عندما يكون اللعب بين أبناء حارتين.

هكذا كانت علاقة علي وإخوته بأهل البلدة تسير بين كرٍّ وفرّ، بسبب شقاوتهم ومشاغباتهم التي تكاد لا تنتهي... فهذا الذي يجد شجرته قد جُرِّدت من ثمارها، فيقول: فلان، وذاك الذي يفقد غرضًا، فيتهم فلانًا؛ ذاع صيت علي بسبب مشاغباته، وأصبح كل فعلٍ في البلدة يُنسب إليه، سواء فعله، أم لم يفعله!

في إحدى المرات، جاء أحد أهالي البلدة وقال لوالد علي: «ابنك علي قطف ثمار شجرة الدرّاق التي في دارنا» فقال له: «متى كان ذلك؟» فأجابه: «ليل البارحة»، فقال له والد علي :

 


[1]  الكجة أوالكلة هي لعبة كروية صغيرة عادةً ما تصنع من الزجاج أو الصلصال أو البلاستيك، أو العقيق. تتعدد ألقابها ما بين البرزوءة «الكلة الصغيرة» ، الطس «الكلة الوسط»، والطحبوش «الكلة الكبيرة، والطس الحلبي «الكلة ذات اللون الواحد، أما طس المي فهو «كلة من دون لون».

[2]  اختبىء وسأبحث عنك» ، لعبة يلعبها الأطفال بالاختباء والبحث، حيث يبدأ أحدهم بالعدّ وجهه على الحائط بينما يختبىء باقي الأطفال.

[3]  الاستشهادي «أبو زينب».

 

55


43

مخرِّب 5017

«حسنًا، كيف ذلك، وابني علي في بيروت عند جده لأمه، منذ ثلاثة أيام؟!»

كانت تكبيرة الأذان عند علي ورفاقه، إيذانًا بالتوقف عن اللعب، وإسراع الخطى للدخول إلى المسجد للصلاة وتعلم قراءة القرآن وتلاوته، على يد ذاك الرجل الضرير الذي لم يتوقف يومًا عن رفع الأذان في البلدة.

احتلت مراسم عاشوراء حيّزًا مهمًا لديهم، إذ كانوا يحملون المشاعل، التي لم تكن سوى علب «تنك» فارغة، يضعون فيها بعض الرماد والكاز ويطوفون بها في البلدة وهم يرددون:» كربلا يا كربلا... يا أم المصايب والبلا»، ودائمًا تنتهي جولاتهم عند باب الحسينية، وقت توزيع «الراحة والبسكوت» التي شكّلت الجاذب الأكبر لحضوره

المدير العام

عاش علي وأفراد أسرته حياةً بسيطة كأي أسرة عادية؛ فيما كان يذهب والده إلى عمله لتأمين قوتهم، كانت والدته الركن الأساس في إدارة شؤون المنزل كافة.

«كانت والدتي توقظنا في الصباح الباكر لنجدها قد حضّرت فطورنا المكوّن من «اللبنة» المصنوعة من الحليب البقري الطازج، والجبن والزيتون والصعتر-الذي كانت تقطفه من

 

 

58


44

مخرِّب 5017

الحقول المجاورة للبلدة وتدقّه مع قليلٍ من السماق[1]، مضيفة إليه السمسم المحمّص- إلى جانب إبريق كبير من الشاي، لا نمل من ملء أكوابنا منه، متّخذين إياه ذريعة لبقائنا أطول وقت ممكن في المنزل، وما إن ننهي الفطور، حتى نهمّ بارتداء زيّنا المدرسيّ، وهو «مريول» كحلي اللون، غالبًا ما كنا نكمل شدّ أزراره في الحافلة التابعة للجيش اللبناني، التي كانت تقلّنا مع أولاد العسكريين إلى مدرسة «الروم الكاثوليك الابتدائية» في بلدة مرجعيون. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما تتعطل الحافلة، أو تتأخر عن موعدها، لنذهب إلى المدرسة سيرًا على الأقدام!».

كان للعيد مراسمه الخاصة، من شراء الثياب الجديدة، إلى الاستيقاظ الباكر والتحضيرات، من استحمام، إلى ارتداء الملابس الجديدة، وصولًا إلى الذهاب إلى ساحة البلدة، التي تكون في يوم العيد كعروسٍ في ليلة زفافها. فهؤلاء الأولاد بملابسهم الجميلة والمزركشة يبدون كحديقة أزهار متنقلة، وتلك ألعاب تتنافس في ما بينها لتجذب الأطفال إليها.

«ما زلت أذكر كيف كنت أرمي العشرة قروش في مياه السطل المعدني، بعد أن أراهن عليها: «طرّة أو نقشة»؟ وكم كانت فرحتي كبيرة عندما يكون رهاني صحيحًا، لأن ذلك

 


[1]  جنس نباتي من الفصيلة البطمية، ويُعرف بأسماء أخرى مثل التمتم،العربرب، أو سماق الدبّاغين، ويعتبر من أهم البهارات والتوابل.

 

60


45

مخرِّب 5017

سيخوّلني الحصول على أكبر عدد من حلوى الكرابيج»[1].هذا بالإضافة إلى اللعب في الأراجيح التي يتم نصبها خصيصًا للعيد، فيما الألعاب النارية تحوّل الساحة إلى ساحة حربٍ حقيقية.

مازال صوت علبة التنك يتردد صداه في أذنيّ، عندما كنت آتي مسرعًا لأركلها بقدمي معلنًا فوزي على رفاقي، أما لعبة الخريطة[2]، فلها قصة أخرى؛ فقد كنا نتفنن في طمس معالمها بطريقة ذكية؛تقضي هذه اللعبة بأن نرسم خريطة على الأرض، ويتعيّن على الباقين قراءتها ومعرفة المكان الذي كنا نختبئ فيه. وفي مراتٍ كثيرةٍ كان رسمنا للخريطة مضللًا للآخرين، إلى حدٍّ يجعلهم يبحثون طويلًا، ولا يعثرون علينا، وكثيرًا ما احتفلنا بانتصارنا عليهم!

هكذا كانت طفولتنا، هروبٌ إلى عالم يكاد لا يخلو من اللعب، آهٍ كم كنا نعيش على سجيّتنا، لا نبالي، فرحين، سعداء! لو كنا نعلم ما سيحلّ بنا، لأوقفنا عجلات الزمن وبقينا هناك...».

 


[1] نوع من الحلوى ذي رغوة هشّة بيضاء.

[2] هي لعبة تتألف من فريقين، كل واحد منهما يختبئ في مكان ما، وما إن يعطي الحكم الإشارة حتى يركض شخص من كلا الفريقين محاولاً الاطلاع على العلامات الدالة على مكان وجود الخصم، ومحو العلامات الدالة على مكان وجود فريقه، والفائز هو من يستطيع كشف مكان الخصم.

 

61


46

مخرِّب 5017

فصلٌ لم يكتمل

إنه اليوم الأول من العام الدراسي الجديد...

ارتدى علي مريوله وسرواله الكحلي، ثم ألقى نظرة رضى على حذائه الأسود الجديد، بينما كانت والدته تشدّ رباطه الطويل بشكل محكم كي لا يتعثر.

خرج من المنزل برفقة والدته التي ساعدته على عبور الطريق العام، وأكمل هو سيره إلى المدرسة، فوق العشب المتساقط، مستأنسًا بهسيسه!

التقط علي أنفاسه، مطلقًا زفرةً عميقة ، وهو يدخل فناء ملعب مدرسته المتربعة على ربوة، وسط بضع شجرات من الصنوبر، وتمنى لو كان بإمكان الصيف استدانة أيام أخر «آه لو أنه لا ينتهي!» قال وهو يقف بالقرب من إحدى النوافذ الخشبية

 

62


47

مخرِّب 5017

الأرجوانية، التي أضفت جمالًا على الجدران الصخرية لمدرسته المظللة بقرميد أحمر، تلك النوافذ التي كان يراقب الملعب من خلالها. استدار بعد ذلك يبحث عن رفيقيه، مفيد أبو مراد ومحمد صالح، إلا أن نظره ارتدَّ خائبًا!

لم تخفف ابتسامة معلمته المفضّلة، ليلى حوراني، التي كانت تقف في وسط الملعب، عند أسفل الدرج المؤدّي إلى قاعة الاجتماعات من شعور علي بالضيق عند تذكره ما كان يعانيه بسبب الدوام الطويل والممل، الذي يبدأ من الثامنة صباحًا ويمتد حتى الرابعة عصرًا!

كان لجرس الفرصة[1] رنّة خاصة في قلب علي ورفاقه، فهي تعني الخروج إلى ملعب المدرسة، ساحة المواجهة الأولى في مجتمعٍ هو صورة مصغّرة عن المجتمع الكبير، ففيها تبدأ التكتلات بين الرفاق، أو مواجهة رفاق آخرين من خلال ألعاب التحدّي في الملعب الذي كان كل ركن فيه يحتضن حكاية وطرفة، ذاك الملعب الذي تفوح منه رائحة عروس[2] الصعتر والزيت، وغالبًا ما كان يتناولها علي ورفاقه على عجل وهم في طريقهم من وإلى الصفّ، مستفيدين من الفرصة لقضاء أكبر وقت ممكن في اللعب.

 

 


[1]  وقت الراحة بين الحصص الدراسية.

[2]  السندويش، مصطلح باللهجة العامية، رائج في بلاد الشام عمومًا.

 

 

63


48

مخرِّب 5017

كان علي لا يحب أن يقيّده حفظ درس أو إتمام فرض، إلا

 

 

64


49

مخرِّب 5017

كان علي لا يحب أن يقيّده حفظ درس أو إتمام فرض، إلا

 

 

64


49

مخرِّب 5017

أنه كان ينجح في صفه، ألا أن بعض الأساتذة، كأستاذ مادة اللغة العربية مثلًا، كان يفاخر به أمام طلاب الصفوف الأعلى، حتى صار مضرب مثل في المدرسة.

لم تطل دراسة علي في مدرسة «الروم الأورثوذكس» أكثر من سنتين، انتقل بعدها إلى مدرسة «المطرانية»، منضمًا إلى أشقائه، بعد أن اقتنع ذووه بأن مستوى التعليم فيها أفضل من الأولى.

تميّزت المدرسة الجديدة بملعبها الفسيح، وبشجرة شربين كانت تفصل بينها وبين الكنيسة ذات القناطر الصخرية التي تعلوها كوّاتٌ صغيرة تسمح بدخول ضوء الشمس.

وسرعان ما اعتاد علي على رفاقه الجدد، وأحبّ أساتذته الجدد ومنهم الياس عوّاد ونادرة عوّاد- مما جعله يألف المدرسة، وأنهى فيها دراسة المرحلة الابتدائية، وانتقل بعدها إلى مدرسة دبّين المتوسطة الرسمية، لكنه لم يكمل فيها عامه الدراسي الذي شارف على نهايته، بسبب شجارٍ حصل بينه وبين أستاذ مادة التاريخ، تطور إلى عراك، وذلك عندما وقف علي قبالة أستاذه متأتئًا، مستجديًا إياه لأكثر من مرة، أن يسعفه ببعض كلمات، علّه يسمّع درسًا لم يدرسه في الأصل، ما جعل أستاذه يباغته بصفعةٍ على خدّه على مرأى من رفاقه، فما كان من علي، إلا أن ردَّ الصفعة بلكمةٍ على وجه أستاذه، وغادر بعدها المدرسة عائدًا إلى منزله، مصّمماً

 

 

65


50

مخرِّب 5017

على عدم متابعة الدراسة بعد هذا اليوم، وعلى الرغم من تدخّل مديره لإقناعه بالعودة، فإن ذلك لم يثنه عن قراره.

ترك علي المدرسة وقرر خوض غمار العمل. عندما والدته بذلك أبدت امتعاضها، وأعلنت رفضها، وحثّته على متابعة الدراسة، غير أن إصراره كان أقوى من رغبتها، على الرغم من أنه لم يتخطَ الثالثة عشرة من عمره، فدخل مرحلة جديدة، كانت مرحلة انتقالية، ليس من المدرسة إلى ميدان العمل فحسب، بل من الطفولة إلى نضجٍ قبل أوانه.

تعلّم مهنة الكهرباء، في محلٍ لكهرباء السيارات في إحدى محطات الوقود في بلدة مرجعيون، بعد حوالى شهر من تركه المدرسة، واكتسب خبرةً فيها، ثم نجح في إقناع أهله بقرار عمله في بيروت.

أقام علي في منزل جده لأمه في محلة الغبيري، حيث بدأ بمزاولة عمله في كهرباء السيارات، متنقلًا بين مرآب وآخر في محلتي المشرّفية والغبيري.

بعد ذلك عمل حمالًا في مرفأ بيروت، مع عدد من أبناء بلدته، وكان فرحًا بهذا العمل. خمس وعشرون ليرة تقاضاها كانت كفيلة بأن تنسي ابن السادسة عشرةَ تعب عمل كان أكبر منه!

 

 

67


51

مخرِّب 5017

الكأس الأولى

خفّفت نسمات تشرين التي لثمت وجه علي، من حدّة شمس ذاك اليوم الخريفي، وأنسته تعب مساعدته لأحد أقارب العائلة في قطاف الزيتون.

كانت الساعة قد قاربت الثالثة والنصف عصرًا، عندما تسلل من بين أقاربه وسلك طريق «عين التحتا» الترابي صعودًا باتجاه طريق عام مرجعيون- دبّين الذي وجده مقطوعًا أمام المارّة وقد لفته جمعٌ من المسلحين يتبعون لأحد الأحزاب اليمينية المعروفة في منطقة مرجعيون، يفوق عددهم الثلاثين عنصرًا، يقفون على ربوة بمحاذاة الطريق العام، وعبر الشارع إلى الجهة المقابلة، اقترب منهم، مدخلاً رأسه بين أرجلهم، إذ هم واقفون في مكان أعلى، فرأى حفرة مستديرة، في داخلها سلاح يشبه القسطل، سمع أحدهم يقول عنه «هاون»، حاول التغلغل أكثر بينهم، وإذ بيدٍ تمسك عنقه بقوة من الخلف، أدار رأسه، ليجد أحد العسكر، وقد اعتلاه الغضب، ينظر إليه والشرّ يتطاير من عينيه.

- من أنت، وماذا تفعل هنا؟!

- لم ينبس علي بكلمة!

- «من أين أتيت؟» سأله وهو لا يزال ممسكًا بعنقه.

 

 

68


52

مخرِّب 5017

- «من قطاف الزيتون»، أجابه علي متلعثمًا، فيما ارتفع

 

 

69


53

مخرِّب 5017

صوت العسكري بطريقة جعلت الجميع يشخصون ببصرهم نحوه، دنا أحدهم منه وجذبه من كتفيه، وهو يسأله: «كيف وصلت إلى هنا؟» فأشار علي ببنانه إلى الطريق الفرعية المقابلة لمكان وقوفهم، وهو يحاول تحرير يديه من قبضة العسكري الذي يمسك به.

لحظات وضجَّ المكان بأصوات أجهزة الاتصالات اللاسلكية، تبعها بعد عشر دقائق وصول سيارة جيب عسكرية.

«هيّا، تحرّك، ماذا تنتظر؟!» نهره السائق، فيما كان يهمّ بالجلوس في المقعد الخلفي للسيارة إلى جانب شاب في لباسه المدني، في أواخر العقد الثاني من عمره.

مرّت بضع دقائق قبل أن تتوقف السيارة في أرضٍ بور محاذية للطريق العام، أمام منزل جدرانه من الحجارة الصخرية، تتوسطها نافذتان مستطيلتان، مدعّمتان بقضبان حديدية على شكل مربعات.

«أفرغ جيوب سروالك هنا»، قال العسكري الجالس خلف طاولة قد نهش الصدأ جزءًا منها، فوضع علي ما في جيبه من خرطوش صيدٍ، ورصاصاتٍ فارغة، وكلل بلورية تطايرت من أعلى الطاولة، وتوزّعت في أرض الغرفة كحبات برَدٍ كانونية.

- لم كل هذا في جيبك؟ من أين جئت بها؟

 

70


54

مخرِّب 5017

- «ووو وجدتها على الأرض...» أجابه علي، وقبل أن

 

 

71


55

مخرِّب 5017

يكمل كلامه، انهالت على وجهه صفعاتٍ، ظنّها عاصفة رعدية دوّت في أذنيه.

- «ما بالكم!» قال آخر كان يقف في زاوية الغرفة الصغيرة بلباسه المدني: «وهل ينقصني أطفال!؟ هيا أرجعوه من حيث أتيتم به».

- «هيا اذهب من هنا، لا أريد أن أرى وجهك ثانية!»، قال العسكري وهو يُبعد الشريط من وسط الطريق، ثم أتبع كلامه بضربة قوية من مؤخّرة سلاحه على فخذ علي.

بذل علي جهدًا في الوصول إلى المنزل. فتارةً كان يستند إلى حائطِ حجريّ محاذٍ للطريق، وتارةً أخرى يزحف على بطنه الذي اشتدت عضلاته، وكأنه مارس الرياضة في غفلةٍ منه! لم يدرِ أكان ذلك سببه الألم، أم الخوف الذي تسلل إليه، أم أنه غضب ونقمة داخليّان، أم هو كل ذلك!

«يا شحاري، شو صرلك؟!»، صرخت والدته، وهي تساعده للدخول إلى المنزل.

- «ولا شي»

- كيف ولا شي، وإنت مش قادر تصلب طولك؟!

وسرعان ما كذّبته الآمه وصراخه الذي ملأ أرجاء المنزل، فأخبرها بما حصل معه.

 

73


56

مخرِّب 5017

- «ليش رحت لهونيك؟ ألله لا يوفقهم.. نشاللّه بتنشلّ إيدهم، واللّه يسقيهم من الكاس نفسه للي سقوك منو!» قالت، وهي تضع ضمّادات المياه الساخنة، الممزوجة بالملح على موضع الألم.

كانت تلك الحادثة الكأس الأولى التي تجرّعها علي، ألمًا ... وكرهًا...

قِبلة الموت

حلّ ربيع عام ١٩٧٨ يرتدي ثوبًا ثقيلًا حاكه العدوّ الإسرائيلي بمكرٍ ودهاء، وهو الذي يسعى لسرقة المياه.

ضاع خفقان قلوب الأطفال والنساء والعجّز في هدير الطائرات المغيرة!

لم يتوقع أهالي القرى المحاذية لفلسطين المحتلة، أن يكون هذا الاجتياح، إيذانًا من هذا العدوّ لتهجيرهم واحتلال قراهم، إذ عمد إلى تحجيم دور المنظمات الفلسطينية، والقضاء عليها متذرعًا بحفظ أمن الحدود الشمالية.

مهّدت قوات العدوّالإسرائيلي للاجتياح بقصف مدفعي عنيف للمواقع الفلسطينية، وترافق ذلك مع قصف السفن الحربية، بالإضافة إلى الطيران الاستطلاعي والحربي. وتقدّمت وحداته ببطءٍ وحذرٍ شديدين، ملاقية مقاومة عنيفة. في هذا

 

74


57

مخرِّب 5017

الوقت غادر قسم كبير من الأهالي باتجاه بيروت، وبعض القرى الجنوبية الآمنة والبعيدة عن مرمى النيران الإسرائيلية، ليرزح القسم الآخر تحت وطأة وضع أمني ومعيشي صعب.

«لن أبقى هنا يومًا واحدًا، غدًا سأذهب برفقة الأولاد إلى بيروت»، حسمت والدة علي قرارها، بعدما رفض زوجها مرافقتها بحجة أنه لن يترك بعض رؤوس الماعز التي يمتلكها من دون رعاية.

انتقل علي من منزل جدّه لأمه إلى المنزل الذي في مبنى يقع عند تقاطع الشياح - عين الرمانة بالقرب من ساحة البريد عند خط التماس، وهو الخط الفاصل بين المنطقتين: الشرقية والغربية.

«لقد اشتقت إلى هذه الجَمعة! حمدًا للّه أنكم أتيتم»، قال علي وهو يجلس إلى جانب أخيه محمد لتناول طعام الغداء ورائحة «اليخنة مع الأرز» تشقّ طريقها إلى أنفه، قبل أن تشقّ يده طريقًا بين إيدي إخوته الممتدة إلى صينية الطعام «مممم، كم افتقدت طبخاتك الشهية يا أمي!» تمتم وهو يدني ملعقة الفاصوليا من فمه.

تشابهت الأيام والشهور، باستثناء تلك التي كانت تضفي عليها زيارة الوالد بين الحين والآخر بعض الألوان، فكان يأتي حاملًا معه ما تيسّر من لبن الماعز، وبعض أعشاب فصل الربيع البرّية.

 

 

76


58

مخرِّب 5017

شتاء هذا العام كان باردًا وقاسيًا، بالنسبة إلى شتاء دبّين الملتحف بـ «الصوبيا» توزّع دفئها في الأرجاء، بينما في بيروت لم يتوافر لهم سوى بضع كنزات صوفية- حاكتها والدتهم- وبعض أغطية شتوية كانت قد أحضرتها معها عند مجيئها من البلدة.

لثمت شمس نيسان وجه علي وأيقظته باكرًا على الرغم من أن ذلك اليوم كان يوم عطلة نهاية الأسبوع، عكس إخوته الذين كانت الأيام متشابهة عندهم؛ فالمدارس مقفلة، ولا يغادرون المنزل إلا لزيارة منزل جدّهم في محلّة الغبيري. خرج علي صباح ذلك اليوم وعاد عصرًا ليجد الطريق المؤدية إلى المنزل مقفلة وخالية تمامًا من المارّة، وقف يستطلع الطريق ليعبر إلى المبنى الذي يقطن فيه، وإذ بصوت الرصاص يخترق سكون المكان، تراجع إلى الخلف، انتظر قليلاً ريثما يتوقفّ إطلاق الرصاص ثم شقَّ طريقه من بين الركام، دخل المبنى من فنائه الخلفي، صعد إلى المنزل ليجده خاليًا! تجدد صوت الرصاص بوتيرة أعلى، نزل درجات السلم مسرعًا، وفيما كان يهمّ بمغادرة المبنى صرخ أحد المسلّحين: «هاي أنت، تعال إلى هنا» لم يعر علي الأمر انتباهًا، إلا أن صوت تلقيم السلاح، جعله يقف في مكانه، من دون أي حراك، فتقدّم نحوه مرغمًا، ولو فعل عكس ذلك، لأطلق النار عليه وأرداه قتيلًا.

 

 

 

78

 


59

مخرِّب 5017

- من أنت؟ وماذا جئت تفعل؟ سأله، وهو يضع إصبعه على الزّناد، ويصوّب فوهة البندقية نحوه.

- أسكن هنا، أجابه علي

- غادر علي بعد أن نهره طالبًا منه المغادرة على الفور.

وصل علي إلى محلة الغبيري، قبل أن يلفظ النهار أنفاسه الأخيرة، دخل الزقاق الطويل المؤدّي إلى منزل جدّه، خفف من خطواته عند رؤيته جمعًا من الناس، اقترب شيئًا فشيئًا، وإذ بخاله يمرّ بسيارته وهو يبكي من دون أن ينتبه لوجود علي. تابع علي سيره بخطى مثقلة، وعيناه تتفحصان وجوه من التقى بهم.

تسمّر في مكانه ثم دنا من جدّه المنهار، أمسك به: «ماذا هناك يا جدّي؟! ماذا حصل؟ لماذا تبكي؟»، توقف علي عن الكلام لأن جدّه كاد يسقط أرضًا لولا أن أمسك به شخصان، وساعداه على الوقوف.

شقّ علي طريقه بخطى متعثرة وسط جموع الباكين وعويلهم، سابق روحه نحوه جدته التي كانت تقعد وتقوم، تصرخ وتبكي...

هاله ما رأى، إنها المرة الأولى التي يراها فيها على هذه الحال، اقتربت منه بخطوات مترنحة، تارةً 

 

 

79


60

مخرِّب 5017

تعانقه، وأخرى تقبّله، وهي تصرخ بأعلى صوتها: «يا ستي راحت إمك... يا ستي راحت إختك...».

 

 

 

80


61

مخرِّب 5017

- إنت شو عم تقولي يا ستي لوين راحوا؟!

- ماتوا يا ستي ماتتت إمك واختك !

- مين مات، إنتِ شو عم تقولي؟!

«صرختُ بأعلى صوتي، وبدأت الأصوات تخفت شيئًا فشيئًا إلى أن اختفت تمامًا، ابيضّ كل شيء من حولي، سرت بي قشعريرة، ارتعدت فرائصي، إسطكت أسناني لهول ما سمعت وهويت عند باب المنزل. لم أعد أعي شيئًا من حولي. علمت فيما بعد بأنني كنت أصرخ تارةً، وأبكي تارةً أخرى!

أعادتني دموع جدتي التي بللت وجهي إلى حيث أنا، أعادتني إلى الحقيقة المرّة، التي لا يمكن أن تتغير، وهي الموت!

صار الجو خانقًا، ورائحة الموت قد أطبقت على المكان، فانتفضت من مكاني وسط جموع المعزّين والباكين كطائرٍ قُصَّت جناحاه، وانطلقت راكضًا...».

كان تبادل إطلاق النار كثيفًا عندما وصل علي إلى الخط الفاصل بين محلتي الشياح وعين الرمانة، فيما أعاق صراخ الناس تقدّمه، فرجع إلى الخلف وصار يسألهم: «أخبروني ماذا حصل؟ كيف أصيبتا؟ من الذي أطلق النار عليهما؟ إنهما والدتي وشقيقتي، 

 

 

81


62

مخرِّب 5017

أرجوكم أخبروني أين هما؟!» لكنه لم يحصل على إجابة!

 

 

81


63

مخرِّب 5017

عاد إلى منزل جدّه يجرّ أذيال الخيبة خلفه، كان كمن يمشي على غير هدًى، لا يذكر أي طريق سلك، ولا كيف وصل!

تقدّم من والده، وراح يهزّه بقوة، متوسّلًا إليه أن يروي له ما حدث.

قال الوالد بأنين: «بدأت المناوشات المتقطعة قبل الظهر بقليل، فاقترحت والدتك أن نذهب إلى منزل جدك، مخافة أن يتطور الوضع نحو الأسوأ، وعندما وصلنا إلى مدخل المبنى، انتبهت إلى أنها لم تقفل باب المنزل، فأعطتني أخاك بلال، وعاودت الصعود إلى الأعلى.

احتضنت بلال، وأمسكت بيد أخيك محمد، وعبرنا الشارع إلى الجهة المقابلة، فيما بقيت هيفاء في مدخل المبنى تنتظر نزول والدتك.»

لم تعلم هيفاء ابنة الثالثة عشر، بأن الموت المتربّص خلف المتاريس كان بانتظارها، سبقت والدتها بعبور الشارع، ولكنها لم تعلم بأنه السباق الأخير، سباق حتفها!

«وصلت إلى وسط الشارع، مشت بضع خطوات صغيرة قبل أن تخترق رصاصة قنّاص جسمها النحيل، أصابتها في بطنها ورمتها أرضًا، صارت تتخبط بدمها تقوم تارةً، وتسقط أخرى.

 

 

83


64

مخرِّب 5017

- دخيلك يا إمي ! صرخت بكل قوتها.

 

 

84


65

مخرِّب 5017

طلبت من والدتك البقاء حيث هي، حذّرتها من عدم الاقتراب حفاظًا على سلامتها، لكن استغاثة أختك هيفاء «دخيلك يا إم... !» أصمّت أذنيها عن كل ما عاداها، فركضت مسرعةً نحوها، وهي تصرخ: «يا هيفا! يا اللّه دخيلك!» وقبل أن تصل إليها عاجلتها رصاصات ثلاث؛ أصابتها الأولى في رأسها، والثانية في بطنها، والثالثة في قلبها فسقطت إلى الأرض.

يتابع والده: «حاولت الاقتراب منها، غير أنهم طلبوا مني ألاّ أقترب، فتسمّرت في مكاني. أخوك محمد هاله ما رأى، حاول التقدّم نحوهما، إلا أن رصاصةً مرّت من فوق رأسه واقتطعت جزءًا من شعره منعته من ذلك، وكادت أن تودي بحياته هو الآخر، فطلبت منه الاختباء خلف شاحنة متوقفة إلى جانب الطريق، أعطيته بلال وطلبت منه الذهاب إلى منزل جدّيك وإخبارهم بما حصل».

ثم أضاف متنهداً: «فيما كنت أنتظر غروب الشمس كي أتمكن من سحب جثتيهما، فوجئت بمجيء ابن عمي محمود قادمًا من جهة كنيسة مار مخايل، وبينما كان يعبر الشارع إلى المبنى الذي كنت أقف بمحاذاته، عاجلته رصاصة وهو يرفع يده لإلقاء التحية عليّ، فسقط أرضًا، حاول النهوض لمرتين، وفي الثالثة استسلم للموت هو الآخر!».

انتهت الليلة الأولى حزينة، لم يدرِ إن غفت عيناه تلك الليلة، فالجميع بقي صاحيًا باستثناء إخوته الصغار.

 

 

86


66

مخرِّب 5017

خرج النعشان في صباح اليوم التالي محمولين على أكتاف المشيعين ، وقد شدّ المواسون على ذراع علي إلى أن وصلوا إلى روضة الشهيدين، كان منفطر القلب، يستعيد سؤال أمّه يوم أمس:

- إلى أين أنت ذاهب؟ ما زال الوقت مبكرًا!

- «سأخرج مع رفاقي، لن أتأخر، أجابها وهو يغادر المنزل.

أنا أسألكِ الآن: إلى أين أنت ذاهبة يا أمي، مازال الوقت مبكرًا؟! إلى من تركتني؟ ألهذه الدرجة تحبين هيفاء حتى تأخذيها معكِ؟!»

ضاق الخناق عليه وهم يهيلون التراب، ومع آخر حفنة، انقطع نفسه، وصار يصرخ بأعلى صوته باكيًا، يقفز... يركض... يصرخ... يلطم وجهه إلى أن انهار تمامًا، ما استدعى نقله إلى منزل جده.

وانقطعت السُبحة

أعادوه إلى منزل جدّه بعد مواراة والدته وشقيقته الثرى. أيقن عندها أن في النهار ظلمة أشدَّ عتمة من حلكة الليل، فهما لن تعودا، لقد ذهبتا إلى غير رجعة، كم كان ذلك مؤلماً!

 

 

87


67

مخرِّب 5017

تغيّر كل شيء، انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، خلت من ابتسامة أمه، من دعواتها، من تحضير طعامهم وغسل

 

 

88


68

مخرِّب 5017

ملابسهم، من لمسة يدها... تحول ربيعهم إلى صحراء قاحلة موحشة.

كم كره الموت الذي زجّه وإخوته في حالة حزن وضياع... هذا يبكي... ذاك يتقيأ... وصراخ شقيقه بلال ابن التسعة أشهر يملأ المكان، فيما أيدي النسوة تقلّبه بين واحدة وأخرى، فموعد رضاعته قد حان والمرضعة تحت التراب!

عاش علي وإخوته في كنف جدّه لأمه مدة قصيرة فقط بعد زواج والده، ثم أُودع إخوته الثلاثة الأصغر سنًّا لينا، حسين وبلال في دار الأيتام في بيروت، أما محمد وأحمد، فقد عادا إلى منزل أبيهما في البلدة.

تفرّق شمل العائلة وتقطّعت أواصرها... كبُرت مسؤولية ابن الثامنة عشرة وازدادت سني عمره قبل أوانها. اعتراه شعورٌ بالأمومة والأبوّة معًا، وصار ملزمًا بإغداق عاطفةٍ، هو بأمسّ الحاجة إليها، فكيف لفاقد شيءٍ أن يعطيه؟!

لم يعرف علي حجم حبه لوالدته إلا بعد أن نهشت غربة فقدانها قلبه!

تابع علي حياته المستجدّة في كنف جديه لأمه بحكم عودته إلى عمله في كهرباء السيارات ما مكّنه من زيارة إخوته لينا وحسين وبلال، ابن الأشهر التسعة في دار الأيتام.

 

89


69

مخرِّب 5017

قدم في عُمان وأخرى في لبنان

بعد مرور سنة على وفاة والدته، بعث له خاله أحمد تأشيرة سفر إلى سلطنة عُمان حيث يعمل، غير أن موافقة علي على السفر كان قرارًا يلزمه التضحية بالابتعاد عمن يحب؛ سناء ابنة خالته وحبيبته، ورفيقة طفولته، وما تبقى له من رائحة والدته، غير أن هدف جمع المال من أجل تأمين مبلغ يمكّنه من تحقيق حلم الزواج بها، جعله يوافق على السفر.

وصل إلى سلطنة عُمان وفي جعبته آمال ودعاء والدته الذي كان يظلله في كل خطوة من خطواته، على الرغم من مغادرتها هذه الدنيا.

أقام علي في منزل خاله في مدينة «روي»[1] القريبة من العاصمة مسقط، وباشر العمل في اليوم الثاني لوصوله. ثم ما لبث أن افتتح مرآبًا لتصليح السيارات، بمساعدة وإشراف خاله الذي واكبه في كل خطوة منذ بداية سفره، وقد وُفق في إدارة المرآب بشكل جيد، ما درّ عليه مكاسب مالية كبيرة.

 


[1]  تُعدّ مدينة «روي» مركزاً تجارياً والمنطقة الرئيسة في مسقط عاصمة سلطنة عُمان، ويُعرف حي «روي» كواحد من أقدم مناطق مسقط. يوجد فيها العديد من الكنائس والمعابد الهندوسية. (المرسال https://www.almrsal>com/post/427137). تاريخ الاطلاع:١/١٠/٢٠١٨.

 

91


70

مخرِّب 5017

لم يلقَ قرار عودة علي إلى لبنان استحسان خاله وكفيله في العمل، إذ لا يحق له ذلك إلا بعد سنة من دخوله إلى الأراضي

 

 

92


71

مخرِّب 5017

العُمانية، وهو لم يمضِ على سفره بعد سوى ستة أشهر، لكنه أصرّ على طلبه، وأبلغ خاله بأنه سوف يعود إلى لبنان، من أجل الزواج بـ سناء إبنة خالته التي أحبّها وسافر من أجلها، وراح يخبره بشوق ولهفة عمّا حصل معه قبل قدومه إلى عُمان: « تجمّد الدم في عروقي عندما اخبرتني سناء بأن ابن عمها سيزورهم لطلب يدها. لم أقوَ على الانتظار، فذهبت إلى منزل خالتي... لن يتم هذا الزواج، إنها لي ولا يحق لأحد غيري الزواج بهاَ! قلت بأعلى صوتي لوالدها بحضور العريس وأهله ما جعلهم يغضبون ويغادرون على الفور».

وافق كفيل علي في العمل على طلبه، بعدما علم بقصته، لكن حذّره من أنه لن يستطيع الدخول ثانية إلى سلطنة عُمان، فقال له: «لا أريد العودة إلى هنا، سناء هي كل ما أريده! لقد أتيت إلى هنا من أجلها!».

«لقد حجزت لك ذهابًا وإيابًا، فلتعد حال انتهائك من مراسم الخطوبة» قال خاله وهو يعطيه تأشيرة السفر.

توجه علي فور وصوله إلى لبنان مباشرةً إلى منزل جدّه، طالبًا منه مرافقته إلى منزل ذوي سناء لتحديد موعد عقد القران.

توتّر علي عندما أصرّ والد سناء على أن يُلبسها خاتم الخطوبة لمدة سنتين، وعندما يصبح قادرًا على تأسيس الحياة الزوجية يعقد القران، فوافقه على 

 

93


72

مخرِّب 5017

مضض، غير أن علي في قرارة نفسه كان متيقنًا من أنه لا يقوَ على الانتظار.

 

 

94


73

مخرِّب 5017

لم يكد يمضي على وصول علي إلى سلطنة عُمان أكثر من شهرين ، حتى نكث العهد الذي كان قد قطعه لوالد سناء، وعمل على إنجاز كل الإجراءات المتعلقة بجواز سفر سناء.

أرسل التأشيرة بالإضافة إلى توكيلٍ منه لعقد القران، مرفقًا إياهما بعبارة: «لقد انتهت السنتان اللتان حددتهما، آمل منك أن ترسل ابنتك عروسًا لي».

مرّت الأيام بطيئةً، وجد نفسه بين فكّي كماشة؛ الشوق من جهة، والقلق من جهةٍ أخرى، بانتظار قدوم عروسه.وأخيرًا جاء اليوم الذي انتظره وتمنّاه مذ خفق قلبه بالحب لسناء.

صعدت سناء سُلَّم الطائرة ممسكة بباقة وردٍ تلاءمت وأنامل يديها الصغيرتين، وراحت تلوّح بيدها الأخرى لوالدها، الذي كان يكفكف دموعه بكُمّي قميصه، ولبقية أفراد العائلة.

لم يقوَ علي على الانتظار، ذهب إلى المطار قبل ساعة من موعد وصول الطائرة. تململ في مقعده، وهو ينظر إلى ساعة يده حينًا، وإلى مدرج الطائرات حينًا آخر، ثم أخذ يذرع أرض المطار جيئةً وذهابًا، وما إن هبطت الطائرة حتى شعر وكأن قلبه قد حطَّ معها، وراح يسأل نفسه: «ماذا لو لم تأتِ؟

أشاح بنفسه عن الأوهام، عندما رآها تنزل من سلّم الطائرة، وهي تجول بنظرها بين الجموع المنتظرة.

 

 

95


74

مخرِّب 5017

كانت لا تزال ممسكة بباقة ورودها الصغيرة، عندما رنَّ في

 

 

96


75

مخرِّب 5017

سمعها صوت صفير، وإذا التفتت ناحية الصوت، وجدته قد شق طريقه متقدّمًا إليها قائلًا: «حمدًا للّه على سلامتك».

***

شقّ نور مصباح السيارةٍ التي أقلّت علي وسناء ظلمة منتصف الليل، لم يكن هناك من مراسم زفاف بانتظارها كما توقعت.

لقد تقلّدت سناء جيد الحياة قبل أوانها، عندما وافقت جدّها وجدّتها على قرار الزواج من ابن خالتها الذي أحبّته، غير أنها خجلت ولم تُبح بذلك لجدّها وجدّتها، عندما قالت لها: «لازم تتزوجي ابن خالتك، حتى ما يتفرق شمل العيلة يا ستي».

تبدّلت الأدوار، فبالأمس القريب كانت تلك الطفلة ابنة الثالثة عشرة تنتظر من والدتها تحضير طعامها، وغسل ثيابها، والاعتناء بها! واليوم صارت ملزمة بفعل ذلك كله، لا بل وجدت نفسها زوجة، من دون أن تفقه أدنى مقدّمات الحياة الزوجية.

عاشت بدايةً صعبة، وجدت نفسها وحدها في منزلٍ جديد، وبلدٍ غريب، غير أن مساعدة علي لها ووقوفه إلى جانبها خفف عن كاهلها وطأة الغربة. كان يرافقها في شراء كل ما يلزم البيت، ويساعدها في طهي الطعام.

 

 

97


76

مخرِّب 5017

راحت الذكريات والدموع تتقاذف سناء، تملّكها الشوق

 

 

98


77

مخرِّب 5017

لأهلها، لرفاق الطفولة، للمنزل الذي نشأت فيه. أدركت سبب بكاء والدها، ونظرات والدتها المليئة بالقلق والحبّ، وراح يتنامى في أعماقها شعورٌ بالحنين لطفولة غادرتها على عُجالة، وتذكرت كيف أنها قامت في تلك الليلة التي سبقت سفرها، لتجد أبيها في المطبخ يذرف الدموع، والعَبَرة تخنقه وتمنعه من الإجابة عن سبب بكائه.

ما إن مرّت تسعة أشهر من السنة الأولى حتى صارت الطفلة أمًا لطفلة، تبكي إن بكت، وتضحك إن ضحكت... كانت سلواها ولعبتها في آن.

أدركت سناء معنى الأمومة بعد أشهر من انضمامها إلى هذا العالم، عالم الأمومة فراودها حنين جارف إلى والدتها، قضّ مضجعها، وفاض بها الشوق إلى أهلها، وصارت الدموع والبكاء خبزها اليومي، ما اضطر زوجها إلى إرسالها إلى لبنان.

عادت سناء إلى كنف أسرتها أمًا، بعد أن غادرتها طفلة.

لم يكد يمضي على وجودها وطفلتها في لبنان مدة وجيزة، حتى لحق زوجها بهما، ثم لم يلبث أن عاد إلى سلطنة عُمان لمتابعة عمله، لكن إقامته في عُمان لم تطل لأنه كان قد غادرها من دون إبلاغ كفيله في العمل ما اضطره إلى بيع عدة العمل، والعودة مجددًا إلى لبنان، وبشكل نهائي، لأن هدفه لم 

 

 

99


78

مخرِّب 5017

يكن جمع المال وادّخاره، فقد كان يطمح إلى بناء وتأسيس ما يكفل له ولأسرته حياة كريمة.

 

 

100


79

مخرِّب 5017

تنقّل في بداية عودته إلى لبنان مع زوجته وابنتهما ملاك، ثم ميرفت المولودة الثانية بين منزل جدّه، ومنزل والد زوجته، إلى أن حطّوا رحالهم في منزل استأجره في محلة صحراء الشويفات، وعملت يداه في كل ما رأته عيناه؛ لم يترك مهنة إلا وعمل بها؛ من تطيين الأبنية، إلى التبليط، حتى صار بائعًا للخضار حينًا، وسائق سيارة أجرة حينًا آخر، إلى أن وفّق لشراء قطعة أرض صغيرة بمساحة ١٦٠ مترًا في الحي نفسه الذي كان يقطنه، وبدأ ببناء منزل صغير لطالما تمنّى تشييده، ولكنه لم يستطع الانتهاء من بنائه بشكل نهائي وتام، بسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢.

 

 

101


80

مخرِّب 5017

الذريعة

اتخذت إسرائيل اتخذت من محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي «شلومو آرغوف»[1] ذريعة لإشعال «حرب لبنان الأولى»[2].

قُوبل الدخول البرّي بمقاومة قلّ نظيرها، إذ بقي مدة أسبوع على أعتاب محور خلدة[3]. لم يستطع التقدم إلى بيروت.

اشتعلت جذوة المقاومة، وحوّلت ضاحية بيروت الجنوبية إلى ما يشبه خليّة نحل، وفي ظل هذا الوضع القائم والمستجد تعرّف علي إلى أناس لم يكن يعرف من يكونون، ولا إلى أية

 

 


[1]  سفير إسرائيل في المملكة المتحدة وتم استعمال محاولة اغتياله لاجتياح لبنان عام ١٩٨٨ م.

[2]  اطلقت إسرائيل عليها أسم عملية «سلامة الجليل».

[3]  إسرائيل: الحرب الدائمة، اجتياح لبنان ١٩٨٢، الفصل الثالث،ص ٥٠.

 

 

 

102


81

مخرِّب 5017

جهة ينتمون، كانت تسريحة شعرهم مرتبة وبسيطة، قمصانهم متدلية فوق سروايلهم ذات الياقة المقفلة، ودودين، يتكلمون بطريقة لبقة، ويستخدمون مفردات جديدة، لم تعتد أذناه سماعها من قبل. وقد استحوذوا على إعجاب علي، فعبّر عن رغبته بالعمل معهم، وسألهم عن كيفية التواصل معهم، فكان ردّهم: «لا تهتم لهذا الأمر، نحن من سيأتي إليك».

تردّى الوضع الأمني وازداد سوءًا، واشتدت وتيرة القصف والغارات على بيروت والضاحية، فطال القصف الإسرائيلي منزل علي، وأدّى إلى سقوط أحد الجدران عليه أثناء نومه، ما جعله يغادر منزله لعدة أيام، قاصدًا منزل أهل زوجته في محلة حارة حريك.

تطورت الأوضاع الأمنية، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى مشارف الضاحية الجنوبية، فقرر علي وأفراد عائلته المغادرة إلى الجنوب.

كان المشهد في الشويفات، تلك المدينة المتربعة على كتف حي السلم[1]، شبيهًا بيوم الحشر، حيث اكتظت الطريق المؤدّية

 

 


[1]  حي السلم: تجمع سكاني يقع جنوب العاصمة بيروت، يبعد عن وسطها ٦ كم، معظم سكانه من النازحين من البقاع وقد ازدادت هجرة الجنوبيين إلى حي السلم بعد اجتياح ١٩٧٨م. يحدّه من الشمال المريجة وتحويطة الغدير، ومن الجنوب أحياء الشويفات، ومن الشرق الجامعة اللبنانية، (بيروت وضواحيها. تاريخ الاطلاع ٢٢/١١/٢٠١٣م.http:www.cdm.gov.lb/study/cdp-rsa/). بلدية مدينة الشويفات. [تاريخ الشويفات].

 

 

103


82

مخرِّب 5017

إلى الخط الساحلي- الذي يربط بيروت والضاحية بالجنوب- بأرتالٍ من السيارات التي كانت تعجّ بالمواطنين النازحين باتجاه قرى وبلدات الجنوب.

كان يومًا صعبًا وطويلًا، امتزج فيه الانتظار بتأفف النسوة، وغضب الرجال، وبكاء الأطفال حيث بات علي وأفراد عائلته ليلتهم في العراء، بانتظار أن تسمح القوات الإسرائيلية بالمرور، شأنهم شأن معظم الأهالي النازحين نحو الجنوب.

لم يكن الانتظار على معبر باتر- جزين أقل وطأةً، حيث انتظروا لساعات طويلة أيضًا، قبل وصولهم إلى بلدة زوجته، طلوسة.

إذن دخول

دخل علي إلى منطقة صحراء الشويفات وسط الركام المختلط بزجاج المنازل المتطاير. وقد امتزجت رائحة النفايات برائحة الموت. نبّهه مواء قطة تبحث عن بقايا طعام مفقود بين نفايات توزعت أشلاؤها على جوانب الطريق إلى أنه ليس وحده في المكان.

وصل إلى المنزل متعبًا، فافترش غطاءً صيفيًا على الأرض، بعد أن أزال الزجاج المتساقط من النوافذ. غفا قليلاً، ليستيقظ على صوت شابّين يقفان عند الباب ينظران إليه من شق النافذة المكسورة، فأوحى لهما بأنه ما زال نائمًا.

 

105


83

مخرِّب 5017

- «دعه الآن، سنأتي إليه فيما بعد»، قال أحدهما للآخر.

- «من تكون؟»، سأله أحد الشابّين اللذين كانا ينتظرانه عند باب المنزل.

- وبأي حق تسألني؟! إنه منزلي وهذه منطقتي، ويحق لي أن آتي إلى هنا ساعة أشاء.

- كل ما نريده منك، هو الحصول على تصريح دخول إلى المنطقة.

وصل علي إلى العنوان المطلوب وسط ساحة بلدة كفرشيما، دخل إلى غرفة صغيرة في الطابق الأرضي، كانت تجلس في وسطها سيدة بدينة، راحت تنعته بكلمات نابية وصفات بذيئة قبل أن تبدأ باستجوابه:

- ما اسمك؟

- في أي منطقة تسكن؟

- من أي بلدة أنت؟

- ماذا تعمل؟

- «إلى أي حزب تنتمي؟»، وعندما حصلت على الأجوبة، حذّرته، وحمّلته مسؤولية تبعات قيامه بأي عمل مخلّ بالأمن.

 

107


84

مخرِّب 5017

غادر المكان بعد قرابة النصف ساعة، ليجد العنصر عينه في

 

 

108


85

مخرِّب 5017

انتظاره عند أول الشارع المؤدّي إلى منزله، وما إن رآه حتى سأله عن التصريح، واستطرد قائلًا: «إذا قعدت عاقل ما حدا بقرّب منك».

غادر علي في اليوم نفسه عائدًا نحو الجنوب، وبقي هناك قرابة الشهرين، عاد بعدها وأفراد عائلته إلى الضاحية الجنوبية، ولم يكد يمرّ أسبوعان على عودتهم حتى بدأ أهالي المنطقة يعودون تِباعًا بعد انكفاء القوات الإسرائيلية حتى مدينة صيدا.

على طبق من فضة

لم يلغِ عدّ سنة ١٩٨٥، عام بوادر الانهيار الاقتصادي، كونه عامًا مفصليًا، فقد قررت إسرائيل تقليص انتشار قواتها المحتلة تحت ضغط المقاومين، فاجتمعت حكومتها بتاريخ ١٤/١/١٩٨٥، وحدّدت خطة انسحاب على ثلاث مراحل، وأبقت على الشريط المحتل في الجنوب والبقاع الغربي.

تغيّرت الأوضاع برمّتها في منطقة الشريط المحتل، بعد وفاة سعد حداد وتعيين أنطوان لحد خلفًا له الذي صار يد إسرائيل الباطشة في المنطقة فور استلامه لمهامه.

بدأ عناصر جيش لحد يرغمون الأهالي -الذين رفض أبناؤهم التعامل مع إسرائيل- على مغادرة البلدة، 

 

109


86

مخرِّب 5017

ومنعوهم من العودة إليها، وفي أحيان أخرى، كانوا يعمدون إلى هدم 

 

 

110


87

مخرِّب 5017

بعض المنازل، للضغط عليهم، وإجبار أكبر عدد من شبانهم على التعامل معهم، ومن يمتنع منهم، كانوا يدبّرون له مكيدة ليزج به في المعتقل.

اتخذ علي من عمله في أعمال البناء في ثكنة عرمتى غطاءً لمراقبته عن كثب عديد الثكنة وعتادها وتحصيناتها.

لم يكن قد أنهى طلاءه بعض جدران ثكنة عرمتا عندما طلب العنصر اللحدي منه ومن زميله التوقف عن العمل، بسبب وصول أنطوان لحد إلى الثكنة وبرفقته ما يُقارب المئة عسكري، من جنود وضباط إسرائيليين ولحديين، لعقد اجتماع على مستوى كبير.

«يجب التصدّي لأي قوة تهاجمنا، عليكم الصمود في وجه المقاومة ويجب ... ويجب...»، وقف أنطوان لحد على صخرة وسط جموع من العسكريين يلقي كلمته، محاولاً رفع معنوياتهم، وحثّهم على الصمود، وبينما كان يكمل خطابه، اقترب علي من زميله هامسًا: «سوف تصعد إلى الشرفة في الطابق الأعلى، وأنا إلى السطح»، فنظر إليه زميله بدهشة وقال: «لماذا ؟».

- الرشاشان جاهزان، فقط وجّه السلاح نحو الهدف، واطلق النار! -كان السلاح الأول من نوع «ماغ»، والثاني من نوع «براونينغ» أجابه علي.

 

 

111

 

 


88

مخرِّب 5017

- ماذا يدور في رأسك؟ سأله زميله بصوت متلعثم.

- «انظر إلى ماذا وفّقنا اللّه! يا له من صيدٍ ثمين! لقد وفقنا بقتله على طبق من فضة»أجابه علي.

- ماذا لو قتلونا؟!

- يقتلوننا!؟ فليفعلوا ذلك! ما الضير في أن نقتلهم، ثم يقتلوننا؟ وهل تريد أفضل من ذلك؟ لمن تُسنح فرصة كهذه؟!

- «لا أوافقك، اصعد وحدك»، أجابه زميله.

تسمّر علي في مكانه عندما نهره أحد العناصر اللحديين، الذي رأى علي يتحدث مع زميله، محذّرًا إياه عدم التفوه بـ حرف وإلا سيعرّضه ذلك لإطلاق النار عليه.

سائق سيارة أجرة

اختُتِم العام ١٩٨٦ بمزيج من الآلآم السياسية والأمنية، والاقتصادية والاجتماعية، التي طالت كل الوطن، وتوزعت بين اغتيالات، وانفجارات، واشتباكات داخلية، بالإضافة إلى أعمال الخطف، والسلب، والسطو على البنوك، ما جعله يستحق بجدارة لقب «عام الأزمات».

 

 

112


89

مخرِّب 5017

امتدت هذه الأزمات إلى عام ١٩٨٧ الذي اصطحب معه سياسة التجويع والاحتكارأصبح الوضع المعيشي صعبًا جدًا، 

 

 

113


90

مخرِّب 5017

فصار علي يذهب إلى الجنوب مرتين في اليوم، من أجل الحصول على مادة البنزين لبيعها في بيروت، بسعر أرخص من أسعار المحطات، علّه في ذلك يُسهم في التخفيف عن كاهل الناس.

تابع علي عمله هذا حتى انجلت أزمة البنزين وعادت الأمور الى طبيعتها، فسعى للبحث عن عمل آخر، ووفّق لعملٍ أمين صندوق في مركز التعاون الإسلامي، في النصف الأول من عام ١٩٨٧. وجد علي ضالته في عمله الجديد، ما سيمكّنه من سداد ديونه.

ازدادت حسرة علي مع ارتفاع وتيرة العمليات في الجنوب، وكلما ازدادت وتيرة تنفيذ العمليات، استعرت النار في داخله أكثر فأكثر لعدم مشاركته فيها، إلى أن كان اللظى الأكبر!!

***

 

 

114


91

مخرِّب 5017

المفتاح

«ليل الخميس في التاسع عشر من تشرين الأول عام ١٩٨٨ عشت فيه صراعًا مع أرقٍ منعني النوم، فقد اقتحمت اليقظة مقلتيّ، وأقعدتني حينًا في فراشي، وحينًا جعلتني أذرع خطواتي بين أرجاء المنزل والشرفة، علّني أستطيع خطف حفنة من نعاس ضلّت طريقها».

نهض علي باكرًا على الرغم من أنه لم ينم أكثر من ثلاث ساعات، انتزعتها عيناه عُنوةً، ارتدى ملابسه وغادر المنزل متوجهًا إلى عمله، قاد سيارته التي اعتادت طريقها ككل يوم، وسط أشجار الزيتون المنتشرة بمحاذاة أراضٍ زُرِعت بأنواع عديدة من الخضار، وشتول الفراولة والملوخية التي كانت تشتهر بها محلّة صحراء الشويفات.

«إنه موعد موجز الأخبار!» قال وهو يدير مفتاح جهاز الراديو

 

 

115


92

مخرِّب 5017

الصغير. بدأت الملاحق الإخبارية تتوالى على وقع ضربات قلب علي، بعد ليلة طويلة من الانتظار لمعرفة من هو منفّذ عملية بوابة فاطمة، المتاخمة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية.

ها هو صوت المذيع يصدح بمقتطفات من البيان الذي أصدرته المقاومة الاسلامية: «إن بطل هذه العملية هو الشهيد المجاهد الحرّ العاملي الذي أراد تأكيد الالتزام بخط المقاومة، والذي سنعلن عن اسمه لاحقًا».

«أشعلت كلمات البيان جذوة الحماس في داخله، وراح يسأل نفسه: «ماذا أفعل هنا؟! لماذا لست مكانه؟!».

«قاربت الساعة الواحدة»، قال علي وهو يشغّل جهاز الراديو، دقائق ثلاث وبدأ المذيع يتلو القسم الثاني من البيان: «ما كادت شمس الأربعاء تغيب، حتى سجّل التاريخ نصرًا مبينًا، وفتحًا جديدًا للمقاومة الإسلامية مكتوبًا بالدم الطاهر، للحرّ العاملي، السيد عبداللّه عطوي[1] (رضوان اللّه عليه).

 

[1]  بتاريخ ١٩ تشرين الأول ١٩٨٨م، كان الشهيد عبد اللّه منتظرًا داخل سيارته المفخَّخة بخمسمئة كلغ من المواد المتفجّرة، حين أطلّت القافلة التي ينتظرها عند بوابة [فاطمة] بين كفركلا وفلسطين المحتلة، وحسب ما جاء في بيان المقاومة الإسلامية إن في الوقت نفسه وصلت قافلة ثانية قادمة من الأراضي المحتلة، تضم شاحنة عسكرية تحمل ١٨ جندياً صهيونياً، وملاّلة تقل ٨ جنود، وسيارة جيب فيها أربعة جنود، وسيارة مرسيدس مدنية فيها أربعة من رجال الاستخبارات، وفي لحظة التقاء القافلتين انقضّ الحر العاملي عليهما بسيارته المفخّخة، وحوّل القافلتين إلى ركام (جريدة السفير - الخميس في ٢٠/١٠/١٩٨٨م. نقلاً عن كتاب الجنوب تحت الاحتلال، إعداد يوسف ديب، ص٤١٦ و٤١٧، ط١، ك١، ١٩٩٩م، دار عالم الفكر).

 

 

116


93

مخرِّب 5017

شعر علي وكأنه يحلّق كطائرٍ متخبطٍ في واقعٍ استصغر فيه نفسه، وحثّها على المضي قدمًا. صار كسمكة قذفها المدّ الى الشاطىء، ثم أعادها الجَزر الى مياه المحيط ومن بابه الأوسع؛ إنه في خضم الحياة التي تمنّاها!

أول الغيث

وصل علي عند الخامسة عصرًا إلى منزل سمير المعروف بـ«أبي سمرا» في محلة الصفير-وكان قد تعرّف إليه في مركز التعاون الإسلامي عن طريق أحد رجال المقاومة من أبناء بلدة دبّين- وانضم إلى لقاء رباعي ضمَّ بالإضافة له ولسمير والمسؤول «أُسامة»، شابًا عشرينيًا، تميّز بابتسامة لا تفارق ثغره.

«ما هي المناطق والبلدات التي تعرفها في المنطقة المحتلة؟» سأل اسامة عليّاً.

- أي منطقة تريد؟ سأله علي.

- مرجعيون؟

- شبر شبر

- طلوسة؟

- زاوية زاوية

 

 

118


94

مخرِّب 5017

- هات ما عندك! كلي آذان مصغية، ماذا تريد بالتحديد؟

 

119


95

مخرِّب 5017

أردف علي.

- حسنا سوف تلتقي بهذا الأخ مجددًا، وعليك الاهتمام به، قال المسؤول أسامة وهو يشير بيده إلى الشاب الجالس إلى يمين علي.

- ماذا تعني بالاهتمام به؟

- هو من شبابنا، وعليك إيواءه، ومتابعة تنقّله في المنطقة، أجابه أسامة.

- أبشر وخفّف عنك، لك ما تريد!

كان علي قد تعرّف إلى أسامة عن طريق سمير، وكان الهدف من ذلك اختيار شخص من بلدة طلوسة[1] يكون على تماس مع أهاليها، وعلى معرفة بتضاريس وجغرافيا المنطقة، ولديه القدرة على التحرّك من دون أن يثير الريبة.

كان قد مضى ثلاثة أشهر على اللقاء الأخير، عندما تقدّم أسامة كي يسدّد ثمن ما اختاره من حاجيات- شيفرة اللقاء مجددًا-

 


[1]  قرية من قرى قضاء مرجعيون، تقع على قمة بين أربعة جبال تتوسطها فوق وادي السلوقي الي تشرف عليه وتتصل به. ترجع تسميتها نسبة إلى عالم دين من كبار العلماء يُدعى الطوسي أو الطلوسي.(بانوراما للخدمات العامة ، بلدات وبلديات لبنان، محافظتا الجنوب-النبطية، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع.ص ١٩٨).

 

120


96

مخرِّب 5017

الاختبار الأول

وضع حقيبة السامسونيات الملأى بالعملة الخضراء على الطاولة الزجاجية التي تتوسط الغرفة الفسيحة، مشى بضع خطوات، توقف قرب النافذة الموصدة، استدار نحو علي، ثم اقترب منه وهو ينفث دخان سيجارته في وجهه قائلًا: «في كل مرة بتفشّل عملية لخزب اللّه رخ تاخد وخدة متلا».

تابع كلامه بعربيته الركيكة، ولهجته الفلسطينية المكسّرة، وهو يرمق عليًا من خلف نظارته الطبية «أنت شو بيشتغل؟»

- «أعمل في المهن الحرّة»، أجابه علي.

- منيخ، إخنا بدنا منك خدمة، قال واضعًا يديه على جانبي الكنبة التي كان يجلس عليها علي.

- إنت بروخ بيروت وبيجي جنوب، بدنا منك تتقرب من خزب اللّه، إذا بتقدر تشتغل معهن، وتخبّرنا عن شو بدن يعملوا؟ عمليات، هجوم ضد جيش دفاع إسرائيلي، أيمتى موعد؟ وين مكان عملية؟ قديش عدد مخرّبين؟ شو معهم سلاخ؟

- نشاللّه خير، أجابه علي.

أحنى الشاب الثلاثيني جسده النحيل، وهو يزيح بيده شعره الأشقر المتدلي على جبهته الصغيرة، اقترب من علي وهمس في أذنه: شو نوع انت بتخب من نساء؟ شقرا ؟ سمرا؟

 

121


97

مخرِّب 5017

- «ومن منا لا يحب النساء! أكانت شقراء أم سمراء»، أجابه علي.

- والسلاخ، ما بتخب تخمل سلاخ؟ قال وهو يقلّب بين يديه الصغيرتين المكسوتين بلحم خجول مسدسًا صغيرًا، ثم تابع: رخ تخصل على كل إشي بتخبو إذا سمعت كلام، ونفّذت طلبات بس مش أكتر من هيك... القصة سهلة كل إشي بتعرفو لازم بتقولو لجودت [العبداللّه] وهو بيقول إلنا كل إشي.

- خلص وقت، صار لازم بيروخ إنت ويفكر بكل كلام للي قلتو.

غادر علي الفيلاّ -ذات الطلاء الأبيض، والقرميد الأحمر، والحيطان الإسمنتية الجاهزة- بالسيارة عينها التي أقلّته من عند الشريط الشائك الفاصل بين مستعمرة المطلة الإسرائيلية وبلدة كفركلا، حيث كانت السيارة التابعة للأمن اللحدي في انتظاره في الجهة المقابلة، وفي داخلها الشخص نفسه الذي قال له قبل مُدة، في ساحة دبّين: «إن كنت تحب التردد إلى البلدة عليك أن تأتي إلى مركز الأمن لنتحدث معًا»، ولكنه لم يخبره بأن هناك ضابطًا إسرائيليًا يريد مقابلته، إلا صباح اليوم وهو في طريقه إلى مستعمرة المطلة».

«نشاللّه ما نكون نسينا شي» هذه الكلمات كانت آخر ما

 

123


98

مخرِّب 5017

ختم به علي تقريره، الذي دوّن فيه كل ما حدث معه ومن ثم سلّمه إلى المسؤول أسامة.

توسّعت رقعة الاستطلاعات حول حركة الإسرائيلي وعملائه على طول الخط الممتد من دبّين إلى طلوسة، وحول المواكب الأمنية التي تمرّ في هذه البلدات، بالإضافة إلى تركيزه على الاستطلاع حول حركة دخول وخروج الجنود الإسرائليين والعملاء، من وإلى ثكنة مرجعيون.

شكّل عمل علي سائق سيارة أجرة ما بين بيروت والجنوب غطاءً له، وأعطاه مساحة من حرّية التنقل. كان يبتكر طرقًا توفّر عليه انتظار ساعات ، في وقت كان يبيت فيه الناس ليلة أو ليلتين على الحواجز والمعابر الإسرائيلية، فكان يحمل في سيارته كيسًا من المصل، يستخدمه عند الحاجة، إذ يوهم الإسرائيليين وعملائهم بأن معه مرضى في السيارة وحالتهم حرجة. وفي مرات أخرى كان ينتهز فرصة مرور سيارة نقل الموتى، فيسارع إلى إعطاء النسوة قطع قماش سوداء ليلوحنّ بها، لإيهام عناصر المعبر أنهن من أهل الفقيد.

لفتت دقة استطلاع علي نظر مسؤوليه، فهو لم يكتفِ بمراقبة عدد سيارات الإسرائيليين واللحديين وأوقات مرورهم فحسب، بل كان يلحظ ويسجّل أصغر التفاصيل؛ من نوع السيارات، إلى أرقام لوحاتها، والمسافة بين الواحدة والأخرى، مدة توقّفها، عدد الجنود، طريقة جلوسهم،

 

 

125

 

 


99

مخرِّب 5017

اطمئنانهم، قلقهم، بالإضافة إلى كيفية النزول والصعود من وإلى السيارات في أثناء عملية التبديل. وهذا ما أكّد صحة نظرية سمير، عندما كان يشدّد على اختيار «أبناء الأرض» للعمل المقاوم، لأنهم الأعلم بالجغرافية، والأقدر على التكيّف مع كل المستجدات الطارئة.

الوقت قد حان

ركضوا في كل اتجاه يلهثون على وقع أقدامهم المهرولة والمختلطة بأصوات القذائف المتساقطة. الدخان المعفّر برمال الطريق غطّى المكان، بينما أعاقت القطع المتطايرة من عربات الخضار الخشبية وصفائح «ألواح الزينكو» خطوات علي. لحظات وتحول سوق الخضارإلى منطقة منكوبة وكأن إعصارًا قد أصابها!

وقف علي وسط الخضار المتناثرة، أخذ نفسًا عميقًا وهو يجول بنظره على المكان. لفته شيء يتكوم بعضه فوق بعض، اقترب منه متحسسًا بيده برودة ظنّها عُصارة ثمار البندورة التي كانت تغطي أرض المكان. انحبست أنفاسه حين تناهى إلى مسامعه أنينًا يصدر من كومة اللحم المهشّمة!

كانت ليلة الأحد من أعنف الليالي التي مرّت على أهل الضاحية الجنوبية، حيث طال قصف ما سُمي بحرب التحرير العديد من أحيائها.

 

127


100

مخرِّب 5017

سويعات وتجدد القصف بوتيرة أشد. «سنغادر إلى الجنوب، الوضع لم يعد يحتمل! فلننتظر ريثما تشرق الشمس، وتهدأ وتيرة القصف ونغادر بعدها» قال علي لزوجته.

وُضِّحت المهمة... حُدّد الهدف، وقد حان وقت الذهاب!

***

 

 

129


101

مخرِّب 5017

معبر الخلاص

على الرغم من وصول علي وأفراد عائلته إلى معبر كفرتبنيت[1] قرابة الساعة السابعة صباحًا، أي قبل ساعة ونصف من موعد فتح بوابته أمام الأهالي، إلا أن ذلك لم يجنّبهم الانتظار وقتاً طويلاً تحت أشعة الشمس حتى يحين دورهم بالدخول إلى غرفة مسؤول المعبر «رياض عبداللّه». وكم من أشخاص وصلوا إلى البوابة النهائية، ولم يُسمح لهم بالدخول أو الخروج من وإلى منطقة الشريط المحتل، باسثتناء بعض التسهيلات لمن يندرجون تحت تسمية «المحرّك الأمني»؛ وهم الذين يؤدّون مهمات تجسسية لصالح إسرائيل وعملائها.

 


[1]  أنشأه الصهاينة في الطرف الشرقي لبلدة كفرتبنيت، كبوابة لبعض قرى مرجعيون والعيشية والريحان وعرمتى في قضاء جزين، وقد أقفل في ١٥ تموز ١٩٨٥م إثر عملية للمقاومة عليه، وظل مقفلاً حتى ٢٥ أيار ١٩٨٧م تاريخ الاطلاع: ١٥/١/٢٠١٦م.www.harouf.com.dhayati/kfartibneet.htm).

 

 

131


102

مخرِّب 5017

الهرب من نيران قذائف حرب التحرير[1] كان خير غطاء لإقامة علي في بلدة زوجته طلوسة، التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من منطقة مرجعيون، والتي تخال سماءها بحرًا احتوته بين ذراعيها، على الرغم من ارتفاعها عن البحر خمسمئة وخمسين مترًا. تشرق شمسها من خلف شقيقتها مركبا، وتغرب من وراء جارتيها مجدل سلم وقبريخا. وقد أحاطت بها من الشمال بني حيّان ومن الجنوب بلدتي شقرا وحولا. أما عن طرفها المنسدل على كتف وادي السلوقي فقد منحها ممرًّا، حتّم فوز كل من سلكه.

أبت طلوسة بعد الانسحاب الإسرائيلي الثاني عام ١٩٨٥، إلا أن يكون طريقها الشريان الذي يضخّ الدم في قلب المقاومة.

عانى أبناء الشريط الحدودي من مآسي طالت كل مرافق الحياة الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، إضافة إلى الضغوط التي كانت تُمارس على الأهالي من قِبل العدو وعملائه لإجبارهم على التعامل معهم، وكان يتم استقطابهم عبر مراكز عدة منها مركز الأمن في بلدة الخيام برئاسة «رياض العبداللّه» حيث كان يستخدم سلاحي الترغيب والترهيب، وذلك إما عبر إغداق الوعود بالاهتمام بالأهل والمحافظة على أمنهم وسلامتهم،

 


[1]  الحرب التي قادها الجنرال عون ضد التواجد السوري في لبنان.

 

 

132


103

مخرِّب 5017

أو عبر تلفيق التُهم لهم ولذويهم لزجّهم في المعتقل، مما أسهم في إفراغ منطقة الشريط الحدودي من

 

 

شبابها، والذي سُهّل من قِبل توسط لجان القرى التي شُكِّلت تحت الإشراف الإسرائيلي غداة اجتياح ١٩٧٨، ما أدّى إلى تحوّل مجتمع الشريط المحتل إلى مجتمع أنثوي بامتياز.

سرعان ما تداركت إسرائيل الوضع، وعمدت إلى إيجاد سُبُل لمقاومة النفور من الانضمام إلى «جيش لبنان الجنوبي» فقررت إعطاء كلّ فرد من عائلة كل مجنّد الإذن بالعمل في إسرائيل، مقابل أجر مرتفع نسبيًا، عما كان عليه الوضع في الشريط، إذ كانت تدفع لكل عامل ٣٠٠$ أمريكي، يُضاف إليه ١٥٠$ راتب الجندي، ما شكل عامل جذب للعمل في الأراضي المحتلة.

تبدّل الوضع برمّته بعد احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني، فالمنتجات الغذائية والاستهلاكية الإسرائيلية، نافست بتدنّي أسعارها تلك اللبنانية، وذلك بسبب تقليص الأراضي الزراعية، بعد منع الأهالي من الذهاب إلى حقولهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى صعوبة دخول شاحنات الخضار والمواد الغذائية عبر المعابر الإسرائيلية، والتي غالبًا ما كانت تتلف نتيجة توقّفها وقتاً طويلاً تحت أشعة الشمس، ناهيك عن الخوّات التي كان يفرضها عناصر جيش لحد.

لم يكتفِ اللحديون بذلك، بل قاسموا الأهالي في لقمة عيشهم، فكان الناس يتخلّون مجبرين عن نصف ما 

 

135


104

مخرِّب 5017

ينتجون من مؤن؛ من قمح وزيت وزيتون، فالذي كان لديه أربع تنكات 

 

 

من زيت الزيتون يعطي نصفهم لأبي جورج، أو نصر نهرا، أو روبين عبود، كلٌ وفق مسؤول بلدته.

كان للوضع الأمني اليد الطولى في التحكّم بالتعليم ومجرياته، حيث كان الإسرائيليون وعملاء لحد يقفلون الطريق عند كل عملية موجعة، ما اضطر إلى مغادرة العديد من الأهالي، ما أدى إلى إقفال بعض المدارس.

لم تتم...

خرجت المقاومة من رحم المعاناة، وأضحت وليدًا صار يكبر وينمو يومًا بعد يوم. أنس الأهالي بسماع أخبارها التي كانت تصلهم من قرى معركة وجبشيت وصور، إلى أن وجد طفلها مأواه في قرى الشريط المحتل، فاشتدَّ عوده على ضربات المقاومين وتضحياتهم، وصار فتيًّا مع بداية ١٩٨٥، يتنقل بين التلال والوديان وعند كل مفترق طريق، وبدأ انضواء الناس تحت جناح المقاومة بشكل عفوي وسرّي، وبحركة عمل متواصلة وممتدة على طول قرى الشريط المحتل.

كانت الساعة قد جاوزت السادسة مساءً، عندما جلس علي تحت شجرة التين الموجودة أمام منزل جدّه لأمه يراقب وادي السلوقي. «فلتغادر البلدة عند شروق الشمس» هذا كل ما أُبلِغ به علي في وقتٍ متأخر من الليلة ذاتها.

توجّه علي فور وصوله إلى بيروت قاصدًا مسؤوله أسامة.

 

 

135


105

مخرِّب 5017

- «هناك أمر مهم يجب أن أطلعه عليه» قال ووقف منتظرًا الردّ.

- «أريد أربعين شابًا من شباب المقاومة مع أسلحتهم بالإضافة إلى عبوتين» قال علي وهو يجلس قُبالة مسؤوله.

- ما الهدف من ذلك؟

- أعطني ورقة وسوف أشرح لك كل التفاصيل، أجابه علي.

وكان علي قد لاحظ في المرات السابقة مداومة دورية إسرائيلية مؤلفة من عشرة جنود على القدوم إلى البلدة، وتنفيذ جنودها دورية مشاة حيث يمشّطون أطراف وادي السلوقي على بُعد كلم واحد من مكان توقف دبابتي الميركافا.

- «سوف نقوم بزرع العبوتين في المكان نفسه الذي يقفون فيه لتمشيط الوادي، وحالما تنفجر العبوتان، ينقضُّ المجاهدون على عناصر الدورية، ويحمل كل أربعة منهم جنديًا إسرائيليًا يركضون به نحو الأسفل، وفي حال بقي أحدهم على قيد الحياة نطلق عليه النار، وهكذا نكون قد ضمنّا بأننا لن نتعرض لنيران سلاح الماغ الذي كان بحوزتهم.

- حسناً وماذا ستفعلون مع الطائرات؟

 

138


106

مخرِّب 5017

- كثافة شجر السنديان ستساعدنا في التخفّي والاختباء، ريثما تهدأ حركة الطائرات الإسرائيلية.

- كل ما قلته وخططت له صحيح مئة بالمئة، ولكنك نسيت النقطة المحورية والأهم في العملية كلها

- ما هي؟ سأله علي.

- هل فكرت في مصير البلدة وأهلها، لا شك بأنها ستسوّى بالأرض، لن يبقى حجر ولا بشر، إن ذلك غير ممكن أبدًا! انزع الفكرة من رأسك، سلامة أهل البلدة هو الأهم بالنسبة لنا»، قال أسامة وغادر المكان.

فقسة زرّ

لم يكن علي وحده ممن طُلب منه الذهاب إلى طلوسة، إذ كان «سمير» قد طلب من «أحمد أبو شوقي» الذهاب إلى البلدة للرصد والاستطلاع وانتظار التعليمات.

لم يكد يمضي يومان على مغادرة أحمد ابن بلدة طلوسة حتى عاد إليها مصطحبًا زوجته وأولاده لإبعاد شُبهات عودته السريعة.

- «أخبروني أنك كنت برفقة علي»، قالت والدة أحمد أبو شوقي عندما رأته يدخل المنزل.

- علي من؟

 

 

139


107

مخرِّب 5017

- ابن نقية ، سمعت أنه يوجد في البلدة سيارة مفخخة، وليس هذا فقط، علمت أيضًا أنك

- علي! وما علاقته بالمقاومة؟! من أين تأتين بهذه الأخبار؟!

- أخبرني والدك البارحة

- إنها إشاعات.

- حسنًا وإن يكن، سأرافقه.

- ترافقين من؟

- علي ابن نقية، كلمتان لا ثالث لهما، صرت في السبعين من عمري ولم يبقَ في العمر أكثر مما مضى، وهل هناك أشرف من أن أختم عمري بالشهادة؟! كلها «فقسة» زرّ وتُنفّذ العملية!

في طريقه إليك..

وصل سمير إلى المنزل الذي اتخذه علي حجازي مسكنًا مؤقتًا له ولأفراد عائلته في طلوسة، قرابة السادسة من مساء الأحد، أي بعد ثماني ساعات من وصولهم إلى البلدة.

- إنه مقفل، قال علي لسمير- وهو يحاول فتح باب الغرفة»

- نحن لن نشغل سوى غرفتين من المنزل.

 

141


108

مخرِّب 5017

- حسنًا، إلى أين يؤدّي هذا الباب؟ سأله سميروهو يهمّ بالخروج من باب المطبخ الخلفي.

- إلى فناء المنزل، ومنه إلى الشارع العام، أجابه علي.

- هذا جيد، بإمكاننا أن نوقف السيارة هنا، بعيدًا عن الشارع العام. عليك التيّقظ والحذر، كن على جهوزية، الضيف في طريقه إليك.

 

 

143

***


109

مخرِّب 5017

زائر ما بعد منتصف الليل

- «إنها الثانية صباحًا» قال علي لزوجته التي استيقظت على صوت ضربات متتالية على الباب، تلتها أصوات خافتة لأكثر من شخص.

- خيرٌ إن شاء اللّه! من الذي سيأتينا في مثل هذه الساعة؟! من هناك؟ نادى علي.

- معك سمير، ردٌ طمأن قلب علي ظنًا منه بأن الطارق هو من العملاء اللحديين الذين كانوا ينشطون ليلاً للتنصت على السكان في منازلهم.

- أهلاً وسهلاً فلتتفضلا بالدخول، قال مرحّبًا بسمير وبالشاب الواقف إلى جانبه.

- «هذه الأمانة أصبحت في عهدتك، فليحفظكما اللّه»،

 

 

145


110

مخرِّب 5017

قال سمير وهو يغادر المكان بعد قرابة النصف ساعة.

- «مع من كنت تتكلم؟» سألته زوجته وهي تعطيه الغطاء الذي طلبه.

- أخبرك لاحقًا.

- أرجو أن يكون الفراش مريحاً، قال علي وهو يعطيه الغطاء، ثم أردف وهو يخرج من المطبخ: «نادني إن احتجت إلى شيء».

- شكرًا لك، أريد فقط بعض المياه لأشرب.

- فلتخلد إلى النوم الآن، نتحدث في الصباح.

تكررت الطرقات على الباب عند الخامسة صباحًا، هل عاد سمير مجددًا؟، سأل علي نفسه قبل أن يسمع صوت أحمد أبو شوقي يطلب منه فتح الباب.

- «صباح الخير، هل كل شيء على ما يُرام؟»، سأله أحمد.

- «كله تمام»، أجابه علي.

- جئت أعلمك بأنني سأغادر إلى خارج الشريط في الحال.

- حسنًا، لا عليك، اذهب وأنت مطمئن.

 

145


111

مخرِّب 5017

عندما وصل أحمد أبو شوقي إلى منزله كانت والدته قد

 

 

استيقظت، «أين كنت؟» سألته وهو يخبّىء جهازه اللاسلكي داخل موقد سخّان المياه.

- سأغادر لدي عمل في المجدل[1] أنجزه وأعود.

عكّرت مجموعة لحديّة -كانت تمشّط وادي السلوقي-[2] صفو برودة ذاك الصباح المترافق بقطرات الندى، المتهادية بدلال والتي أضفت سحرًا على شجر السنديان المنتشر بكثافة في المكان.

- عافاكم اللّه، أتحتاجون إلى مساعدة؟

- «شكرًا يا أحمد، شارفنا على الانتهاء»، قال له أحد الرجلين اللذين كانا يجمعان الحطب، وكان أحمد على معرفة مسبقة به.

- ما الذي أتى بك إلى هنا؟، سأله أحدهما.

- ذاهبٌ الى المجدل لدي عمل هناك.

«أراك هنا! هل أتممت مهمة إيصال السيارة؟» تفاجأ أحمد بسؤال ابن بلدته له فور وصوله إلى ساحة مجل سلم.

 


[1]  بلدة مجدل سلم المجاورة لبلدة طلوسة وهي من القرى المتاخمة للشريط المحتل ويفصل بينهما وادي السلوقي..

[2]  يُسمى أيضًا بوادي الشهداء، وهو أحد الأودية الوعرة في جبل عامل (جنوب لبنان)، يقع بين أقضية مرجعيون وبنت جبيل والنبطية.

 

 

147


112

مخرِّب 5017

- ماذا تقول!

 

 

- ماذا أقول؟ أقصد السيارة!

- السيارة؟!

- سيارة «البيكاب»، لا يمكنك أن تنكر لأن عجلتها ما زالت محفورة على التراب «أجكرة[1] يا زلمي»!

تسلل القلق إلى قلب أحمد، وراح يحدّث نفسه «تُرى هل علم أحد غيره بأمر السيارةّ؟ هل هناك من كان يراقبنا ليل أمس؟ وراح يستعيد أحداث اليوم السابق...

***

«اقترب الهدف من الوصول، عليك أن تتواجد في المكان...».

عادت أحداث الليلة السابقة وصدى أحداثها يتردد على مسمع أحمد...

وحدها أصوات الشبّان الثلاثة عشر، أزاحت حزن ليلٍ تدثّر بغطاء حالك السواد، وآنست مكانًا زاد من وحشة انعدام سالكيه، أنه كان مرتعًا للسباع والخنازير البرّية، في هذا الوقت المتأخر من الليل.

طريقٌ مهجورٌ على مدى أكثر من عشر سنوات، يمتد صعودًا

 


[1]  واضحة جدًا.

 

 

149


113

مخرِّب 5017

لمسافة أربعة كيلو مترات، حجارةٌ زاوجت المكان بعشوائية هوجاء احتاجت إلى أيدٍ اعتادت ولأكثر من مرة أن تتناقلها بدلال وهمّة، مخافة أن يصل الصوت إلى مسامع متربص بها.

طريقٌ محفوفٌ بالمخاطر والترقّب، وسيارةٌ بهذا الحجم، لا يمكن أن تسير صعودًا إلا بإشغال محرّكها الذي ترددت أصداؤه المترنّحة، المرتفعة حينًا، والمنخفضة حينًا آخر بين أوردة الوادي الغارقة في ظلامها الدامس، أضف إلى ذلك عدم التمكّن من إشعال المصابيح خوفًا من انكشاف السيارة للموقع الإسرائيلي، ما ضاعف صعوبة المهمة.

طريقٌ لم يكن هناك بديلٌ عنها، لأنها الممرّ الآمن وشبه الوحيد، الذي يسمح للمقاومة بإدخال السيارة من دون خضوعها للتفتيش.

كان أحمد قد وصل عند الساتر الترابي الفاصل بين طلوسة ووادي السلوقي- الذي يبعد مسافة ستمئة متر فقط عن منزله- فور تلقّيه التعليمات عبر الجهاز.

اتسعت عيناه الواجلة، وهو يرى مصابيح السيارة الأمامية وقد أُضيئت لثوانٍ، وكادت أن تنكشف للموقع الإسرائيلي المشرف على الوادي.

كان الشاب العشريني قد وصل إلى منزل علي عبد الكريم ياسين في بلدة المجدل، قادمًا من بيروت برفقة رجل وزوجته

 

 

151


114

مخرِّب 5017

من مدينة بنت جبيل من آل بيضون، حيث استحصلت المقاومة على إخراج قيد له، يفيد أنه من آل بيضون، وأنه تربطه بالسيدة التي رافقته وزوجها علاقة قرابة، وذلك إبعادًا للشبُهات وتسهيلًا لمساعدته في الوصول هو وشاحنة الـ GMC إلى تخوم الشريط المحتل، لينطلق مجددًا برفقة الشابين اللذين حضرا لنقله إلى معبر طلوسة.

«يعطيكن العافية الشباب، آجركم اللّه، نشاللّه كون من أهل الخير، لكون شفيع لإلكن»، قال الشاب وهو يصعد في شاحنة الـ GMC، وقد تزامن وصوله إلى وادي السلوقي، مع المشارفة على الانتهاء من تنظيف الطريق الترابي.

«اتكل على اللّه ودعنا ننطلق»، قال سمير.

اجتاز سمير الساتر الذي يفصل بين بلدة طلوسة ووادي السلوقي بصعوبة، وذلك لارتفاعه عن المرّتين السابقتين؛ الأولى عندما أُدخِلت سيارة الشهيد «عبداللّه عطوي» الذي نفّذ عملية استشهادية عند تخوم مستعمرة المطلة، والسيارة الثانية كانت من نوع أوبل تعطلت بعد إدخالها، حيث بقيت متوقفة قرب أحد المنازل في بلدة طلوسة لمدة أسبوع، مما أثار مخاوف الأهالي حينها، واعتقدوا بأنها فخٌ نصبه الإسرائيلي للإيقاع بهم، فقرروا التبليغ عن السيارة، وتمَّ تفجيرها في مكانها.

- «أراكما قد أتيتما وحدكما، أين هو الشاب، ألم يأتِ

 

 

153

 

 


115

مخرِّب 5017

معكما؟»، سأل أحمد.

- «ها هو»، أجابه سمير مشيرًا بيده إلى الشاب الواقف خلفه.

- «أهلًا وسهلًا بك»، قال أحمد أبو شوقي مرحّبًا به.

استقلَّ الشبان الثلاثة السيارة، جلس أحمد أبو شوقي خلف المقوَد، فهو ابن البلدة وهو أدرى بطرقاتها، فيما جلس الشاب في الوسط وإلى جانبه سمير.

- «ما بك، أراك مرتبكاً ؟!»، سأله الشاب.

- «أخاف أن أضغط على زر عن طريق الخطأ»، أجابه أحمد.

- «التابلو» لك، افعل ما شئت في الأعلى، لكن لا تقترب من الأسفل، قال ممازحًا. قبل أن يوقفوا السيارة عند صخرة كبيرة محاذية للطريق، ويسيروا خلف بعضهم بعضاً، مسافة خمسة أمتار بين الواحد والآخر.

جلس أحمد القرفصاء، عندما دوّى صوت قذيفة، التفت خلفه ليجد سمير والشاب المرافق وقد انبطحا أرضًا، ثوانٍ وظهر وميض قنبلة مضيئة أخرى تبعد عنهم مسافة مئتي متر لجهة الشرق، وبارتفاع مئة متر، غير أن وجودهم في منخفض من الطريق، منحهم فرصة عدم انكشافهم لموقعي القبع في مركبا، والعبّاد في حولا.

 

 

155


116

مخرِّب 5017

- لا تخافوا فلنتابع سيرنا، إنها قنبلة مضيئة، أردف أحمد موجهًا كلامه للشاب الذي كان معهم «إنك ذاهبٌ للموت، أراك وقد انبطحت أرضا!».

- جئت لتنفيذ مهمة، ويفترض أن أموت حيث يجب أن أموت.

- حسنًا، ها قد وصلنا، بإمكانك المغادرة، قال سمير موجهًا الكلام لأحمد أبو شوقي عند وصولهم إلى منزل علي.

***

«يا مجيب دعوة المضطرين، إني أسألك يا ربي وأدعوك، بأن تيسّر لنا أمرنا «تمتم أحمد في سرّه وهو يسمع كلمات ابن بلدته يقول له: «أنا على يقين بأنهم اخرجوها من المنطقة كي لا ينكشف أمرها».

في هذا الوقت كانت قد تجدّدت الطرقات على باب منزل علي في طلوسة بوتيرة أعلى من سابقتيها.

- افتح الباب أنا جارتك أم رامز.

- صباح النور، خيرٌ إن شاء اللّه.

- ومن أين سيأتي الخير؟! هناك شاحنة متوقفة أمام منزل

 

 

 

157


117

مخرِّب 5017

إبني منذ ليل أمس - المنزل الذي يسكنه علي وأفراد عائلته- وهي مليئة بالألغام!

- ألغام! عن أية ألغام تتحدثين؟

- تعالِ لأريك إياها.

- أتقصدين هذه؟! إنها «طبالي»[1] خشب يا أم رامز.

- على كل حال، لقد توجهت كنّتي إلى منزل والدها المختار لتخبره بذلك، وقالت وهي تهمّ بالمغادرة.

- ماذا تقولين؟!، قال وهو ينظر بالاتجاه الذي سلكته كنّتها، ولكنه لم ير أثرًا لها.

- «ماذا هناك؟ ما الذي تريده هذه المرأة؟»سأله الشاب مستفسرًا.

- أخبرك لاحقًا، لا وقت لدينا، هيّا أشغل محرّك السيارة سننطلق في الحال، قال علي لضيفه الذي كان واقفًا خلف الباب يراقب ما حصل.

 

 


[1]  مفردها «طبلية» وهي عبارة عن طاولة خشبية منخفضة

 

 

159


118

مخرِّب 5017

جولة مكوكية

عند وصولهما إلى بركة مشعرون -التي تقع بين طلوسة ومركبا- تفاجآ بدبابتي ميركافا إسرائيليتن تسلكان الطريق الترابي الذي شقّته إسرائيل مقابل مركز قوات اليونيفل[1]، ما أدّى إلى توجيه سلاح الدبابة المدفعي، بالإضافة إلى تصويب فوّهات سلاح المشاة نحوهما.

التفت الشاب قائلًا: «سأتوقف إلى يمين الطريق وحالما تغادر السيارة سأقوم باقتحامهم».

- لا يمكنك فعل ذلك، لأنك في حال أوقفت السيارة، سيتم استهدافنا، تابع سيرك بشكل طبيعي وكأنك لم ترَ أحدًا، احمد اللّه أننا لسنا بمحاذاتهم، وإلا لكانوا أوقفونا وقاموا بتفتيش السيارة.

- «كنت قد شاركت في زرع عبوة هنا»، أشار الشاب مشيرًا بيمينه.

- «انظر، ما زالت آثارها موجودة لغاية الآن!» قال علي مؤكّداً كلامه.

 

 


[1]  قوات الطوارئ الدولية (UNIFIL): أنشأ مجلس الأمن الدولي قوة حفظ السلام المؤقتة التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان (يونيفيل)، بموجب القرار [٤٢٥] في ١٩ آذار ١٩٧٨م، (نجيم، انطوان. القوات الدولية المؤقتة العاملة في لبنان. مجلة الجيش، شباط ٢٠٠٨، العدد ٢٧٢. متاح على www.lebarmy.gov.lb).

 

160


119

مخرِّب 5017

- «صباح الخير شباب بدكن شي وصّونا» قال علي محاولًا بذلك إبعاد الشبهات عنهما»

- «أين كانت هذه السيارة؟» سأله العميل محمد منذر.

- في طلوسة.

- من صاحبها؟

- «فادي حرب، من بنت جبيل» قال علي مشيرًا إلى الشاب الجالس إلى يمينه، وكان علي قد طلب من فادي عدم التكلم بأية كلمة، حتى لا تكشفه لهجته المختلفة عن لهجة أبناء المنطقة.

- متى أتى إلى البلدة ؟

- «ليل أمس».

- ما سبب زيارته؟

- جاء ليشتري التّبن ولم يُوفق، فبات ليلته في البلدة.

- إلى أين الوجهة؟

- إلى بلدة العديسة، عجلة السيارة تردف، أريد إصلاحها.

الحمد للّه تخطّينا العقبة الكبيرة، وبقي أمامنا حاجزان؛ حاجز عند مدخل بلدة كفركلا، وآخر في 

 

162


120

مخرِّب 5017

تل النحّاس، قال علي لفادي فيما كانت الشاحنة تدخل بلدة العديسة.

عند وصول السيارة إلى سهل مرجعيون، طلب فادي من علي الترجل من السياة، وهو يوزّع نظراته بينه وبين الملالة القادمة باتجاههما، عند نبع الدردارة في خراج بلدة الخيام.

- «هدفنا واضح ومحدد، وهذه تابعة لجيش لحد، أكمل طريقك لا تعرها اهتمامك»، قال علي.

كانت الساعة قد تخطت السابعة بإحدى عشرة دقيقة، عندما طلب علي إلى فادي إيقاف السيارة عند سرايا مرجعيون، ومرافقته إلى بلدته دبّين سيرًا على الأقدام، لقربها واتصالها ببلدة مرجعيون.

- هل سبق وزرت البلدة؟، سأله علي وهو يغسل وجهه من مياه برميل فاض بمائه، كان موجودًا في بهو منزل عمته المهجور.

- إنها المرة الأولى، قال فادي وانطلق لإحضار السيارة بناءً على طلب علي، بينما توجه الأخير إلى السوق الذي كان يبعد عن مكان تواجده أمتارًا قليلة.

 

163


121

مخرِّب 5017

- كيف حالك؟ أراكِ قد أبكرتِ في الحضور، قال علي للمرأة المسنّة كانت تبيع العنب في «لكنٍ»[1] من الألمينيوم.

- بكم الكيلو؟

 

 


[1]  طشت من النحاس أو الألمنيوم.

 

 

 

164


122

مخرِّب 5017

- ليرة ونصف.

لم يكد علي ينتهي من تناول عنقود من العنب حتى أحضر فادي السيارة، وقبل أن يصل، وبمسافة عشرة أمتار اصطدمت سيارته بسيارة مرسيدس بسبب عطل أصاب فراملها، ما جعل صاحب السيارة يخرج منها مستشيطًا من الغضب، راح يكيل السُباب والشتائم، يهدّد ويتوعد بإحضار الأمن التابع لجيش لحد، لكن علي حلَّ المشكلة ودفع له تكلفة إصلاحها تفاديًا لانكشاف أمر السيارة وانطلق برفقة فادي.

توقفا مجددًا قرب الجامع القديم المحاذي لسرايَ مرجعيون، بعد أن أعادا كرّة الدخول من وإلى بلدات مرجعيون- القليعة - (الخربة) برج الملوك، لثلاث مرات متتالية، توقفا فيها مرة واحدة عند «إذاعة لبنان الحرّ»[1] ومن ثم غادرا بعد عشر دقائق منعًا لإثارة الشُبهات.

ذهب فادي إلى محلٍ لألعاب البليار بناءً على طلب علي، بعدما قطع الأمل، فقد تجاوز مرور الهدف وقته المعتاد، فيما ذهب علي إلى طلوسة

 


[1]  تفجير إذاعة العملاء: كان يُطلق على إذاعة العملاء اسم إذاعة (صوت الأمل). تمكّنت مجموعة الشهيد يوسف عمّار بتاريخ ١٨/١٢/١٩٨٨م من التسلل إلى باحة مبنى إذاعة العملاء وزرعت عبوات ناسفة عند ثلاثة أعمدة أدّى انفجارها إلى تدمير نصف المبنى، وتصدع النصف الباقي (ديب، يوسف. الجنوب تحت الاحتلال. بيروت: دار عالم الفكر. ١٩٩٩. ص٥١٠).

 

156


123

مخرِّب 5017

لإحضار سيارته، كي يقوم بتركيب عجلة جديدة كان قد اشتراها خلال جولته المكوكية.

 

 

انتظر فادي في المكان الذي كان علي قد اتفق معه على اللقاء به، وراحت زوجته تشتري بعض الخضار والفاكهة، والتي كان قد اصطحبها علي معه هي والأولاد عندما عاود الذهاب إلى البلدة منعًا لإثارة الشبهات.

- «أرجو أن لا أكون قد تأخرت»، قال علي وهو يعانق فادي بحرارة، وكأنه صديقه الغائب عنه منذ مدة.

- «لا عليك، لقد قمت بشراء قسطلين من البلاستيك ووضعتهما في مؤخّرة السيارة، كي لا أطيل البقاء في محل البليار»، قال فادي لعلي وهما يهمّا بالصعود إلى السيارة.

- «استجوبني محمد منذر وأبو حسن عن سيارتك وعن مكان مبيتك وسبب مجيئك إلى المنطقة» تابع علي «لقد طلبت منهما التريّث قليلًا وسوف آتيهما بالخبر اليقين».

طلب علي من زوجته أن تخفي أوراق فادي الثبوتية، وتلك الخاصة بالسيارة تحت ثيابها. كما طلب من فادي أن يقول فيما لو سأله أحدهم، بأنه ليس الشخص نفسه الذي كان معه في الصباح، وأنه التقى علي عند مفترق الطريق وطلب منه أن يقلّه إلى البلدة، غير أن ذلك لم يحصل لخلوّ الحاجز من عناصره.

 

167

 


124

مخرِّب 5017

غادر علي وأفراد عائلته المنزل بعد وصولهم إليه مباشرةً لحضور مجلس «القاسم» في حسينية البلدة، مخافة من يأتي

 

 

أحد عناصر لحد إلى المنزل للتحقيق معه مجدّدًا، واحترازًا من زيارة بعض الأقارب لهم، وطلب من فادي البقاء داخل المنزل.

ترافقت عودتهم عند غروب الشمس، مع دعوات علي بأن لا يزورهم أحد، واضعًا زوجته أمام خيارين «إما أن لا تفتحي الباب لأحد، أو عليك الذهاب برفقة الأولاد والبقاء عندهم».

- «لن أتحرك من مكاني قبل أن تخبرني بكل شيء، منذ الصباح وأنت تتنقل بنا من مكان إلى آخر، ساعة تطلب مني أن أخفي أوراقه واوراق السيارة، وساعة أخرى تطلب مني أن أغادر المنزل! ما الذي يحدث؟!»

- «سأرافقه في الصباح الباكر وسأبقى معه حتى تنفيذ المهمّة، لا أعلم إن كنت سأعود أم لا! ربما أُجرح! أو أُأسر! أريدك أن تكوني قوية، وعلى قدر عالٍ من المسؤولية، تكتّمي على الأمر، ليبقَ ذلك بيني وبينك، وبين اللّه».

- «الحمد للّه، إن شاء اللّه ميسّرة، فلتكن مطمئنًا، بما أننا عبرنا هذا الحاجز بسلام، فالعملية صارت في الجيب» قال علي لفادي في صباح اليوم التالي وهما يبتعدان عن حاجز مركبا الخالي من عناصر لحد، والذي فُتِح لتوّه أمام المارّة.

 

 

169


125

مخرِّب 5017

وصلا إلى ساحة بلدة مرجعيون عند الثامنة وخمس وأربعين

 

 

دقيقة. وقف علي بسيارته بمحاذاة نصب لسعد حداد، يتوسط مفارق طرق، تؤدّي إلى مرجعيون والخيام والقليعة ودبّين.

- «فلتسلك هذا الطريق سيرًا على قدميك»، قال علي مشيرًا بيده اليسرى إلى الطريق الفرعي» وأنا سأسلك الطريق العام».

رفع علي إبهامه مؤكّدًا لفادي عندما التقيا وجهًا لوجه أمام مبنى السراي، بأن السيارة لا تزال على حالها.

أشغل فادي محرّك السيارة الرباعية الدفع من نوع GMC وانطلق باتجاه طريق مرجعيون وصولًا إلى مرج الخيام، وسار علي بعكسه بطريقة تخوّلهما اللقاء ببعضهما البعض، حتى ولو سلكا عدة طرق.

ترجّلا من سيارتيهما وتعانقا وقبّلا بعضهما، بعد أن أعادا كرّة تنقّلهما بين مرجعيون- المرج - جديدة مرجعيون، لثلاث مرات من دون مرور الهدف.

- «لا تقلق اقترب موعد وصولهم، لقد قاربت الساعة التاسعة والنصف، عليك أن تقف بالقرب من كنيسة بلدة القليعة، فالطريق واسعة بعض الشيء هناك، وكل قافلة ستأتي من مستعمرة المطلة، إلى ثكنة مرجعيون أو ستغادرها، ستكون تحت ناظريك، وبكلتا الحالتين ستمرّ من أمامك، بينما أنا سأكون بالقرب من مفرق الثكنة».

 

 

171


126

مخرِّب 5017

انطلق فادي باتجاه الكنيسة بينما علي توجه إلى مفرق الثكنة.

«بابا بدي بوظة»، قال حسين لوالده الذي توقف أمام محل «one way» لبيع المثلّجات. ذابت «البوظة» وسالت مكوّناتها بين أصابع علي، غير أن عينيه خرجتا عن طوعهما وراحتا تجولان في كل الاتجاهات، وعندما غاب فادي عن ناظريه راحت تحدّثه نفسه «بأن يا علي، اذهب باتجاه فادي» لكنه لم يستمع للنداء الداخلي.

«يا علي اذهب باتجاه فادي» تكرّر النداء بوتيرة أعلى هذه المرة.

وصل علي إلى قرب الكنيسة ليجد أن لا أثر له البتة، انتابه قلق، سبّبه فجائية حدس راوده «ماذا لو تعرّض للاعتقال! غير أنه لا تواجد لعناصر الأمن الإسرائيلي المدججين بالسلاح والأجهزة اللاسلكية ولا لعملائه من جيش لحد ، ولا أثر لآلياته العسكرية التي كانت ستقفل الطريق، وهنا كل شيء يسير بشكل طبيعي» قال مبرّرًا لنفسه وهو يبحث عن فادي والسيارة.

لحظات قليلة، ولاح له وميض مصابيح سيارة قادمة من جهة تل النحاس باتجاه مرجعيون، يتبعها قافلة إسرائيلية مؤللة، كان علي قد حفظها عن ظهر قلب بعد أن راقب حركتها قرابة شهر كامل؛ تتألف من سيارتي جيب من نوع «ويلّز» ودبابة

 

 

173

 


127

مخرِّب 5017

ميركافا بالإضافة إلى ملالتين، وناقلة جند نصف مجنزرة. كان علي لافتًا بنقله الدقيق للمعلومة، لم يكتفِ بمعرفة نوع وعدد السيارات وعدد الجنود فيها، بل كان يحدّد المسافة بين السيارة والأخرى، وسرعة كل واحدة منها، حتى أنه كان يحرص على نقل تعابير وجههم، حذرهم، اطمئنانهم، أين يتوقفون؟ وكم من الوقت يمكثون؟

ساعة التقى الجمعان

توقفت السيارات المدنية وسيارة الـ GMC على يمين الطريق وفق التعليمات الإسرائيلية عند مرور أي قافلة عسكرية. وقف علي بسيارته، تفصله عن سيارة فادي التي كانت تتوسط حوالي اثنتا عشرة سيارة.

لم تكد تمر لحظات حتى لاحظ بأن فادي ترك عجلات السيارة تسير إلى مصيرها، ببطء ولمسافة خمسة وثلاثين مترًا نزولًا.

«يا رب! يا رب! ما حدا يقرّب منو» تسمّرت السيارات في مكانها، لم تجرؤ أيّ منها على التقدّم، وكأن أبواب السماء قد فُتحت واستجابت لدعاء علي.

اقتربت القافلة يتقدمها سيارة الـ BM «الجماعة صاروا كتير قراب، كفّوا المشوار وعمّروا البيت منيح» كانت هذه الكلمات آخر ما قاله فادي عبر الجهاز لسمير الذي كان برفقة

 

175


128

مخرِّب 5017

بعض المقاومين في إحدى تلال الشقيف يراقبون عبر المنظار وينتظرون لحظة التفجير.

وبنداء «يا زهراء» اقتحم بسيارته- ولمسافة عشرين مترًا- متقدمًا نحو باب سيارة BMW التي دفعها باتجاه خندق مياه محاذٍ للطريق العام، تقدّم نحو الثانية وصدمها، وأعاد الكرّة وصدم بدفاع شاحنته الصغيرة الباب الملاصق لسائق السيارة التي كان يتواجد فيها «الكولونيل داني» عندما التحم دفاع الشاحنة بالباب أعطاها دفعًا قويا من الوقود، وصار يدور بسيارة الـ BMW بسرعة فائقة، ما أدّى إلى تغيّر وجهة شاحنته، واصطدام مؤخّرتها بجانب شاحنة «الويلز» المحمّلة بأربعة وعشرين جنديًا إسرائيليًا.

«تجمّد الدم في عروقي وأنا أراقب المجريات، والهواء الساخن المتواطئ مع شمس الجنوب صبيحة ذاك اليوم يلسع وجهي، تسمّرت يداي على المقوَد الذي كدت أنتزعه من مكانه، لشدّة ما ضغطت عليه... فجّر ماذا تنتظر... هيا فجّر!»

- «بابا.. بابا.. ليش عم تقول هيك؟» سأله ابنه حسين، الذي كان علي قد أوقفه على المقعد المحاذي لمقعده، كي يرى الجنود الإسرائيليون بأنه ليس بمفرده في السيارة- كانت إسرائيل قد فرضت على أهل الشريط الحدودي بعد عملية الحرّ العاملي الاستشهادية عدم تواجد السائق بمفرده في السيارة وإلا تعرّضت لإطلاق النار-

 

 

177


129

مخرِّب 5017

- «ليك يا بابا البيك أب الأحمر! وقبل أن يُنهي كلامه دوّى صوتٌ هائلٌ ترافق مع كتلة نارية شهبت نحو السماء، وطغى على المكان وميضٌ ساطع. انتفض علي من مكانه صارخًا: « اللّه أكبر! اللّه أكبر!».

«كبسة زر» بدّلت المشهد برمّته... طغى لهيب الانفجار على حرارة شمس آب المتوهجة على هضبة بلدة «الخربة» المطلّة على جبل الشيخ، وسهل مرجعيون شرقًا، والحدود الفلسطينة جنوبًا، والريحان وجزين شمالًا، ونهر الليطاني وقلعة الشقيف غربًا.

الناس في ذهول، لم تعِ ما جرى! منهم من لازم سيارته، وبعضهم الآخر ترجّل مراقبًا- فانفجار السيارة التي فُخِّخت في بيروت بحوالي خمسمئة وخمسة وعشرين كيلو غرامًا من المواد المتفجرة، دحض ظنون الإسرائيليين وعملاءهم، بأنهم باتوا بمنأى عن عمليات المقاومة الاستشهادية.

ترجّل علي من سيارته مصطحبًا ابنه معه، تقدّم ببطء بين الناس الذين تقدّموا لمعاينة ما جرى عن قرب.

عمّت الفوضى، الحُطام ملأ المكان، الدخان غطّى سماء المنطقة خلال دقيقتين، ارتفعت حدّة التوتر، وسيطرت حالة من الغليان ترافقت مع إطلاق عناصر لحد النار في الهواء، وعلت صيحاتهم المطالبة بالرجوع إلى الخلف، وعدم 

 

 

179


130

مخرِّب 5017

الاقتراب من المكان. كانوا في حالة ذهول تام، لم يتوقعوا

 

 

يومًا أن يطالهم هكذا انفجار، وفي منطقة اعتقدوا أنها آمنة.

«لم تكن الأولى بل الرابعة التي تدخل إلى الشريط المحتل، ولم يتمكن الإسرائيلي وعملاؤه من كشفها، على الرغم من استخباراتهم القوية وجهوزيتهم العالية، ويعود ذلك حسب قول قائد العملية للتوفيق الإلهي، وإتقان المقاومة لعملها من جهة، ولا لاطمئنان الإسرائيلي من جهة أخرى. كانت أهمية العمل الذي قام به أنه نفّذه في ذروة نشاط العدوّ الأمني، وفي وقت كانت المقاومة ترزح تحت ضغط نفسي، وإمكانيات ضعيفة، لا بل شبه معدومة، حيث عمل رجالها بذكاء الفقراء، وليس بإمكانيات الأغنياء، وكانت الترّاحة[1] الإسفنجية هي كرسي المكتب، والطبلية[2] مكتبًا لرسم الأهداف، وتخطيط العمليات.

هذه العملية كانت مختلفة عن سواها، بأنها عملية معقّدة أمنيًا، قبل أن تكون عملية عسكرية، في وقت كانت تخوض فيه إسرائيل والمقاومة حرب أدمغة، فقد بلغ التجنيد للعمالة أشُدّه بين الطرفين في تلك المرحلة، وبذل الصهاينة جهدهم في سبيل تجنيد الكثير كثير من العملاء الذين لديهم أقارب أو معارف

 


[1]  لوح اسفنجي مغطّى بالقماش يستخدمه أهل الجنوب للجلوس والنوم عليه ارضًا.

[2] طاولة من الخشب ترتفع قليلًا عن الأرض، وتكون مستديرة أو مربّعة الشكل.

 

 

181


131

مخرِّب 5017

بل كانوا يضيّقون الخناق على من يرفض التعامل معهم، بالإبعاد والاعتقال وتدمير المنازل.

والجدير بالذكر أن المقاومة لم تُعمل السياسة على الإطلاق، كل ما كنا نفكّر به هو: مواسم الزيتون والقمح، ومواسم التبغ كُرمى للناس، وما دون ذلك ما كان يعنينا، إن كان لدينا هدف نعمل عليه، أو حتى عشرة أهداف، الأمر سيّان، فإن المصلحة العملياتية هي التي تحدد هذا الهدف أو ذاك، وقد لجأت المقاومة إلى خيار العمليات الاستشهادية لاستحقاق الهدف منها، والذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلالها، وإلا سوف نقع بمشكلة شرعية، فلطالما كان هناك أسلوب آخر يجب علينا اعتماده»[1].

«كبسة زر» بدّلت حال بلدة «الخربة» التي تُعتبر من أقدم البلدات في قضاء مرجعيون، وقد أطلق أبناؤها عليها تسمية «برج الملوك» عام ١٩٦٤، وبعد أن كانت محطة للقوافل التي تعبر من الشرق، صارت محطة لعبور القوافل الإسرائيلية إلى الموت.

حضر رجال الأمن التابعون لجيش لبنان الجنوبي العميل بكثرة، وما إن بدأت سيارات الإسعاف تهرع إلى المكان لنقل أشلاء القتلى والجرحى إلى مستشفى مرجعيون، حتى استقل علي سيارته برفقة ابنه محاولًا الخروج من المنطقة، غير أنه

 

 


[1]  أسامة مسؤول العمليات الاستشهادية، قابله سلام مزرعاني، تسجيل رقمي، الضاحية الجنوبية،٢٥تموز،٢٠١٧.

 

 

182


132

مخرِّب 5017

وجد بأن الطرقات والمنافذ قد أغلقت جميعها.

سلك علي طريق بلدة الخيام[1] نزولًا عند إذاعة الشرق الأوسط إلا أنه فوجئ بوجود عدد من السيارات المتوقفة، ترجّل من سيارته متوجهًا إلى العنصر اللحديّ «ولدي مريض وأريد أخذه إلى بلدة كفركلا».

- «غير ممكن القيامة قامت، ارجع من حيث أتيت»، أجابه العنصر اللحدي.

لم يكد يمضي على العملية بضع ساعات حتى تصدّر الحادث عناوين الصحف الإسرائيلية: «سيارة المرسيدس طارت في الهواء وفي المكان حفرت بئر بعمق خمسة امتار».

رئيس الأركان: «الجيش الإسرائيلي عمل وفق التعليمات ومنع عملية كبيرة. اختطاف الشيخ عبيد لم يؤدِ الى تراجع الحافزية لدى حزب اللّه.

في الساعة العاشرة صباحا سُمع في المطلة صوت انفجار السيارة المفخخة الذي حصل على بعد أربعة كيلومترات شمال الحدود. قبل ذلك بوقت قصير

 

 


[1]  تقع بلدة الخيام على أحد مرتفعات جبل عامل، ووصِفت بأم القرى نظراً لموقعها الجغرافي على نقطة التقاءالطرق بين لبنان الجنوبي وسوريا.ومن أبرز معالمها معتقل الخيام. (بانوراما للخدمات العامة، بلدات وبلديات لبنان، محافظتا الجنوب والنبطية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. ص ١٨٤.

 

 

184


133

مخرِّب 5017

تابعة لوحدة الارتباط[1] في جنوب لبنان في طريقها الى قيادة جيش لبنان الجنوبي في القليعة.

قافلة السيارات اقتربت من المنازل الجنوبية لبلدة القليعة. سيارة مفخخة وهي شاحنة خفيفة من نوع جي ام سي يستقلها انتحاريان من حزب اللّه توقفت عند التقاطع. الانتحاريان انتظرا حتى تصل سيارة المرسيدس الأولى في القافلة الى محاذاة السيارة المفخخة وشغلا جهاز التفجير. سيارة المرسيدس طارت عدة أامتار في الهواء نتيجة التفجير، السيارة المفخخة التي كانت تحمل ٢٥٠ كيلوغراما من المواد المتفجرة طارت لمسافة ٧٠ مترا. في مكان الانفجار نتج عنه حفرة بعمق خمسة أامتار. احد المسافرين في المرسيدس أصيب بجراح خطيرة فيما أصيب آخران بجراح متوسطة حتى خطيرة، الجنود الذين كانوا في الجيب خلف المرسيدس أصيبوا بجراح طفيفة نتيجة ضغط الانفجار. طلبوا المساعدة عبر جهاز الاتصال. وقد وصلت الى المكان سيارات الإسعاف والمروحيات وقوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي وقد نقل المصابين الى مستشفى مرجعيون ومن هناك الى مستشفى رامبام»[2].

 

 


[1] الذي رأسها اولي لوبراني وإيرزغيرشتاين الذي قتلته المقاومة سنة ١٩٩٩ بتفجير عبوة ناسفة عند تقاطع سوق الخان.وكانت مهام هذه الوحدة التنسيق العسكري والمدني مع الإدارة المدنية في الجنوب اللبناني وهي كانت بامرة القيادة الشمالية.

[2] نقلاً عن صحيفة معاريف، النص موجود في الملحق باللغة العبرية.




186


134

مخرِّب 5017

إنا لك الأوفياء

توجّه أبو علي، المسؤول العسكري للقطاع الخامس في محلة الأوزاعي إلى شقيق منفّذ العملية الاستشهادية، بعد نصف ساعة من تنفيذها، قائلًا له» شقيقك البطل هو من نفّذ العملية» وطلب منه إبلاغ العائلة.

كانت هناء زوجة منفّذ العملية الاستشهادية في هذه الأثناء تشارك في حضور مراسم مجلس «علي الأكبر» عندما صدح صوت مذياع المسجد بالتهليل والتكبير، وبثّ نشيد «لك العهد في كبرياء النداء... خميني إنا لك الأوفياء...»

﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾[1] «يا أبناء الإسلام المقاوم في درب سيد الشهداء أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام). تعلن المقاومة الإسلامية عن مسؤوليتها عن عملية الوفاء لخط الإمام الخميني، والبيعة للإمام السيد خامنئي... وفي إطار جهادنا المستمر ضد العدوّ الصهيوني الغاصب للقدس وفلسطين، وردًّا على القرصنة الإرهابية والجريمة الوقحة التي نفّذها هذا العدوّ باختطاف الشيخ عبد الكريم عبيد، وبنداء «يا زهراء»...نفّذ أحد مجاهدي المقاومة الإسلامية عملية استشهادية... صباح اليوم الأربعاء الواقع في

 


[1]  سورة الإسراء، الآية: ٨.

 

188


135

مخرِّب 5017

٩/٨/١٩٨٩ عند الساعة التاسعة وخمسٍ وأربعين دقيقة. وهذه العملية 

 

 

اليوم هي إحدى مفردات اللغة، التي لا يفهم العدوّ الصهيوني غيرها، وهي لغة الجهاد الحقيقي والمستمر حتى إزالة إسرائيل من الوجود».

لم تعرف كيف وصلت إلى منزلها! «الطريق إلى اللّه صعب ويحتاج إلى جهاد وصبر، إنه طريق ذات الشوكة، غدًا سأنطلق بعون اللّه» ترددت كلمات زوجها أسعد في أذنها وكأنه قد ردّدها لتوّه[1].

«ادعي لي بأن لا أعود»، قال واضعًا يده على صدرها، تمتم بكلمات لم تعرف كنهها... وانطلق

***

بأم العين

عاد علي أدراجه محاولاً الذهاب إلى بلدته «دبّين»، وما إن وصل إلى نبع الدردارة حتى انتبه إلى مروحية كانت فوقه مباشرةً ما اضطره إلى سلوك الطرقات الداخلية في بلدة القليعة، وعند وصوله إلى كنيسة البلدة التقى بسيارة إسعاف تنقل جرحى التفجير، فحاول تضييق الطريق عليها لإسقاطها في الوادي المحاذي للطريق لكن سائقها نجح في منعه من ذلك، عندها تابع علي طريقه نحو مستشفى مرجعيون.

 


[1] هناء، برّو، قابلتها سلام مزرعاني،تسجيل رقمي،٢٩ الأوزاعي، نيسان، ٢٠١٦.

 

190


136

مخرِّب 5017

كاد هواء المروحية يزيحه من مكانه وهو يدخل إلى المستشفى لمعاينة عدد القتلى والجرحى، «يا حرام» قال علي -عندما لاحظ وجود أحد الأشخاص يقف بجانبه- وهو ينظر إلى أشلاء وبقايا الجثث المحترقة والمشوّهة.

كانت المروحية لا تزال تحلّق في الأجواء عندما خرج من المستشفى، وقد رافقته حتى دخوله إلى بلدته .

«عافكِ اللّه»، قال علي لزوجة أبيه التي كانت تعدّ «الكبّة» ثم أردف وهو يستلقي على الأريكة المقابلة «حسين يلعب أمام المنزل انتبهي له».

أدار ظهره وغاص في أحداث اليومين الأخيرين؛ تذكّر لقاءه الأول بأسعد في بيروت وعادت الأحداث بكل تفاصيلها أمامه، وكأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا؛ تذكّر عناقهما الأخير قبل انطلاقه في رحلته الأخيرة... سالت دموعه وراح يبكي بحرقة كما لم يبكِ في حياته... بكى لفراق أسعد ... بكى لغياب ابتسامته... بكى اشتياقًا إلى نظرة عينيه العسليتين... بكى لغربته بعيدًا عن أهله ... بكى لتمزّق جسده وتناثره في الهواء ... بكى وراح يسأل نفسه أين هو؟ وأين أنا؟!

- «لماذا تبكي!» سألته زوجة أبيه.

- يبدو أنني سأُصاب بالزُكام.

 

 

192


137

مخرِّب 5017

- «أين علي؟» صاح أبو عريضة بصوت غاضب وهو يفتح الباب الحديدي

- «هاهو مستلقٍ على الأريكة»، أجابته خالة علي.

- « قم هيا»

- ماذا هناك؟

- هيا انهض

- إلى أين؟ سأله علي.

- «كفّ عن طرح الأسئلة»، قال أبو عريضة وهو يدفعه إلى خارج المنزل.

***

 

 

194

 


138

مخرِّب 5017

العصفور في اليد...

أفلت «حسين» ابن الأربع سنوات من بين يدي جده، وعضّ أحد العناصر اللحديين الذين جاؤوا لاعتقال والده وهو يصرخ»يا كلاب بدي بيي ... رجعولي بيي...»

اقتاد «أبو عريضة» وعناصره عليًا نحو سيارة الأخير، على وقع صراخ ولده وقلق والده، واستفسارات وتساؤلات بعض أبناء البلدة الذين تجمّعوا في المكان. فتّشوا سيارته، قيّدوا يدي علي وغطّوا رأسه بكيس أسود وأنطلقوا.

توقفت سيارة الأوبل النبيذية اللون أمام محطة للوقود على طريق عام بلدة القليعة «هيا انزل» صاح العنصر اللحدي في وجه علي وهو يدفعه بكلتا يديه إلى خارج السيارة.

- «مين الانتخاري؟» سأل أحد الضابطين الإسرائيليين

 

 

195

 


139

مخرِّب 5017

اللذين كانا يتواجدان داخل المكتب التابع للمحطة.

- «لا أعرف» أجابه علي.

- الانتخاري للي فجّر حاله.

- قلت لك لا أعرفه.

- بلّشت تنكر؟!

- «طوّل بالك، أنا بخلّيه يعترف»، قال الضابط الآخر بعربية ركيكة.

- بماذا سأعترف؟

- شايف الشخص للي واقف هِناك؟ هادا اشتريت دولاب سيارتك من محلّه... وهاداك للي واقف عيمينه، هو للي عبّيت خزان الـ GMC بالبنزين من عندو... وهاداك للي واقف بجانب سيارة التاكسي، مش هو للي وصّلك عطلوسة؟!

- «الظاهر ما رخ تخكي هون»، قال الضابط الإسرائيلي وهو يخرج من الغرفة برفقة الضابط الآخر، الذي قال: «نخنا منعرف وين وكيف نخليك تخكي وتعترف»، بينما تقاسم عنصران لحديّان كانا معه في الغرفة صفعه على وجهه، وضرب ظهره بخرطوم مياه بلاستيكي.

 

 

196


140

مخرِّب 5017

أظلمت الدنيا مجددًا في وجه علي، بعد وضع الكيس على رأسه قبل انطلاق السيارة مجددًا.

فكَّ شابان إسرائيليان يرتديان ثيابًا مدنية وثاق يدي علي ونزعا الكيس عن رأسه، بعد أن أوقفا السيارة داخل الشريط الشائك الذي يفصل مرج الخيام عن مستعمرة المطلة، ثم طلبا منه أن يسير إلى جانبهم بشكل طبيعي تحسّبًا لرؤيته من قِبل مستوطني المستعمرة. دخل الثلاثة إلى فيلا صغيرة يتواجد فيها أربعة أشخاص، اثنان منهم بلباس مدني، بينما الاثنين الآخرين كانا يلبسان بزّات عسكرية.

«وجك مش غريب، أنا شايفك قبل!» قال أحدهم.

- «وأنا شايفك!» أجابه علي.

- اتسعت عيناه وهو يقول له «مش إنت كنت في طوارئ مستشفى مرجعيون؟».

سكت علي ولم ينبس بكلمة، كرّر السؤال وهو يهزّه بكلتا يديه» شو مش إنت صرت بيقول يا خرااام؟».

- «أنا؟!» أجابه علي، لم يعد بإمكانه أن ينكر.

- مين إنت، ومن طلب منك تجي عالمنطقة؟ سأله المحقق الإسرائيلي.

 

 

197


141

مخرِّب 5017

- «شو بيعرف عن مخرّبين؟ مين هُمَّ؟ من وين جبتو سلاح ومتفجرات؟» توالت الأسئلة بشكل تسلسلي، وأسلوب تراوح بين الحادّ والأقل حدّة.

اعتدل علي في جلسته، مشيحًا نظره عن المحقق الذي كان

يقف إلى جواره، حدّق في كوب العصير الموضوع أمامه قبل ساعتين، والذي امتنع عن تناول أي رشفة منه، على الرغم من تحوّل لسانه إلى قطعة حطب، فهو لم يشرب الماء، منذ أن غادر منزله في صباح اليوم السابق.

تابع المحقق: «وين مخازن السلاخ؟» ران على وجهه صمت ولم يحرّك ساكنًا، فتحرّكت ملامح وجه المحقق حول فكّيه المنقضّين كل على الآخر كأنهما حيوانان في معركة شرسة.

«الاتصال إلك...» تفاجأ علي عندما أعطاه المحقق سماعة الهاتف «زوجتك في عهدتنا، عليك الاعتراف بكل شيء حرصًا على سلامتها، انقطع الاتصال.

سناء... تلك زوجته التي كانت قد وصلت قرابة التاسعة صباحًا إلى منزل جدتها لأمها- المشرف على وادي السلوقي- لمساعدتها في تحضير طبق «الهريسة».

 

 

198


142

مخرِّب 5017

انتفض قلب سناء وأصابتها «حازوقة» كادت تقطع أنفاسها عندما هزّ سمعها صوت انفجار قوي «يا إلهي إنه هو!»، قالت وهي ترمي العصا الخشبية التي كانت تديرها وسط قدر «الهريسة»، أخذت مريم ابنة السنتين بين يديها المرتجفتين وغادرت إلى منزلها.

«هذه تعود لابنتي» قالت لأحد عناصر لحد، الذي داس بقدمه ربطة الشعر التي انحنت لالتقاطها، وتابعت سيرها.

 

 

199


143

مخرِّب 5017

انقبض قلب سناء، وقفت تصلّي فخامرها نعاسٌ مفاجىء، افترشت أرض الغرفة وغفت إلى جانب ابنتها.

استيقظت على وقع أقدام ترفس الباب فانفتح على مصراعيه، فتحت عينيها لترى عشرين بندقية مصوّبة نحوها. استفاقت مريم مذعورة بعد نزعها من حضن والدتها، وصارت تبكي، فما كان من العنصر اللحديّ إلا أن ضربها بمؤخرة بندقيته على رأسها محاولاً إسكاتها.

لم يتركوا زاوية في المنزل إلا وفتّشوها، حتى أنهم فتّتوا علبة سجائر كانت داخل «النملية»[1] ظناً منهم أنها تخصّ منفّذ العملية.

طلب العميل «محمد منذر» من سناء أن تعطي ابنتها لوالدتها التي حضرت إلى المنزل برفقة والد سناء بعد أن وصلهما خبر مداهمة منزل ابنتهما.

على وقع بكاء والدتها وصراخ صغيرتها ابنة السنتين، انطلقت السيارة التي أقلّت سناء إلى مركز «أبو عريضة» مكبّلة اليدين ومعصوبة العينين.

- «من هو الشخص الذي كان في منزلكم؟» سألها أبو عريضة.

 

 


[1]  خزانة خشبية صغيرة تستخدم لحفظ الطعام والمؤنة.

 

 

200


144

مخرِّب 5017

- لم يكن عندنا أحد.

 

 

- لا تكذبي، نحن نعلم أنه كان في منزلكم، هيا قولي، كم مكث عندكم؟

- «قلت لك لم يكن عندنا أحد».

- أين هو زوجك؟

- أخذ ابني إلى المستشفى.

- «إنك تكذبين، زوجك اعترف بكل شيء، وهو الآن في طريقه إلى معتقل الخيام»، قال أبو عريضة، فيما كان يمسك بيده لجام كلب كبير أثار الرعب في قلب سناء، وجعلها ترتجف. سالت دموعها على خديها، وساورها خوف كبير على زوجها وابنها حسين، وصارت تسأل نفسها:»ترى ماذا حلّ بهما؟ أين هما الآن؟ هل صحيح انهم أخذوا زوجي إلى المعتقل؟!

«عليك أن تذهب إلى منزل سناء لإحضار بعض الثياب لملاك وميرفت ومريم» طلبت والدة سناء من زوجها، الذي ذهب لإحضار بعض الثياب والحاجيات لحفيداته الثلاث، ولكن قبل أن يصل إلى المنزل بأمتارٍ قليلة، كان قد تحول إلى رُكام.

***

 

 

202


145

مخرِّب 5017

حتى آخر نفس..

تكرّرت أسئلة المحققين مرات عدّة دون كلل أو ملل وبوتيرة أعلى من السابق. وقد استخدم أكثر من محقق خبر اعتقال سناء لإجباره على الاعتراف، ولكن من دون جدوى.

«أريد أن أنام»، قال علي للحارس بعد أن غفا أكثر من مرة على الكرسي الخشبي الذي كان يجلس عليه منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة.

أمسك المحقق بيده مدخلاً إياه إلى غرفة نوم يتوسطها سريرٌ، يبدو عليه أنه لم يشغله أحدٌ من قبل، لكنه تراجع عن ذلك، قائلاً له: «فلتنم هنا»، مشيرًا إلى الأريكة الكبيرة الموجودة في صالون الفيلا.

تمدد علي على الأريكة، وراح ينزع طرف ساقه الاصطناعية، دخل المحقق وسط دهشة واستغراب العسكريين، اللذين كانا يقفان عند الباب وقال له: «إجرك رايحة وعم تجاهد!؟»

- وهل الذي يفقد ساقه يتوقف عن الجهاد؟!

- «إنتوا شو؟ بتفقدوا أعضاء من أجسامكم وبتضلكن تقاتلوا!

- حتى الموت... حتى آخر نفس...!

 

203


146

مخرِّب 5017

مدّ علي يده إلى ساقه الأخرى متظاهرًا بنزعها هي الأخرى،

 

 

فارتسمت على وجه الحارسين معالم الدهشة والاستغراب، ما جعلهما ينزعان حزام البندقية ويربطان به يدي علي.

ضحك علي هازئًا من خوفهما منه، وقال في قرارة نفسه» قديش بدكن فتّ خبز لتكونوا متلنا!»... وعادت به الذاكرة إلى ما قبل ان يفقد ساقه، عندما كان يطيّن أحد الأبنية في محلة بئر العبد وجاءه أحد الأشخاص طالبًا منه القيام بمهمة استطلاعية.

- أمتأكدٌ أنك ستوكل هذه المهمة لي؟! من تكون، وكيف لك أن تعرفني، حتى تطلب مني هذا الطلب؟! سأله علي مستغربًا وهو لا يعرفه من قبل.

- أعرف شجاعتك، وطريقة تفكيرك، وحبك للعمل المقاوم؟ لقد سألنا عنك مرات عدة .

- «غير أنني لا أعرف عنك شيئاً».

- «أُدعى حبيب».

- حسنًا أخ حبيب ما هي شهرتك؟ ما هو عملك؟

- المستقبل يكشف لك من أكون، أنا الآن حبيب، حبيب حزب اللّه..

- «حسنًا، هات ما عندك»، قال له علي بعد أن أخبره بأن أحد أبناء بلدته هو من زوّده بمعلومات عنه، وأرشده إليه لكي لا يكون في الصورة بشكل مباشر.

 

 

205


147

مخرِّب 5017

وصل علي إلى وسط أرض زراعية تنتشر فيها أشجار الزيتون ما جعله يتخذ منها ذريعة للاصطياد « فلتعد في الحال، المنطقة مزروعة بالألغام». اخترق صوت أحدهم صمت المنطقة الخالية من الناس.

«قلت لك المنطقة مزروعة بالألغام!» كرّر محذّرًا إلا أن عليًا كان يقف على لغم وما إن رفع قدمه عنه حتى انفجر تحته!

استغرب علي سقوطه أرضًا، التفت خلفه فيما كان جاثيًا ليجد ساقه قد تهشّمت وانفصلت بعضها عن بعض بشكل شبه كامل باستثناء وتر واحد، نظر تحته فوجد عظم ساقه قد غرز في الأرض، تنهّد قائلاً: «لا حول ولا قوة إلا باللّه» وضع كفّيه على الأرض متحسساً وباحثا عن وجود أي لغمٍ آخر، ثم أرجع جسمه إلى الخلف، بعد أن أزاح التراب محدثًا حفرة صغيرة جلس فيها، نظر مجددًا إلى ساقه فوجدها تلوح كقطعة قماش رثّة معلقة في الهواء. تناول من جيبه سكينًا كان قد أحضرها معه لذبح العصافير التي كان ينوي اصطيادها، فقطع بها الوتر الوحيد المتبقي، ثم اقتطع جزءًا من قماش بنطاله وربط بها ساقه محاولاً تخفيف نزف الدم. نظر إلى ساقه الأخرى فوجدها مفتوحة بعد أن اخترقتها شظية هي الأخرى.

 

 

206


148

مخرِّب 5017

- «احضر سلّمًا خشبيًا طويلاً، وارمِ به ارضًا، فإذا وقع على لغم سينفجر، وإذا لم يحدث ذلك سنكون في مأمن «قال

 

 

علي لأحد الشبان الذي اقترب منه لمسافة خمسة أمتار، محاولاً مساعدته.

وضع الشبّان سُلّمين تمكّنوا من إحضارهما ولكنهما لم يصلا إلى حيث هو، فطلب إليهم أن يضعوا السلّم الأول مكان الثاني، وهكذا دواليك حتى تمكّنوا من الوصول إليه، وفي طريق الخروج من الحقل فعلوا الأمر نفسه، حيث حمله شابان ووضعاه في سيارة لنقل الطلاب كانت تمرّ في المكان، نقلته إلى مستشفى الساحل، ولكن سوء حالته استدعت نقله إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت.

«قديش بدكن فتّ خبز لتكونوا متلنا!» قال وهو يقفل نافذة الذكريات.

- «هيا قم وتناول طعام فطورك» ذكّره صوت المجنّدة الإسرائيلية وهي ترميه بكيسٍ ورقيٍ أين هو؟!

عشر دقائق وتبعتها مجنّدة أخرى جاءت وبيدها صحيفتان، تناولهما المحقّق منها ورماهما في وجه علي، فيما أمسك برأس علي بقوة ملصقًا إياه بالصفحة الأولى من الصحيفة التي كانت صورة الشهيد أسعد برّو تتصدرها، وإلى جانبها صورة لطفل[1].

 


[1]  صورة صحيفة معاريف الموجودة في صفحة الملحقات.

 

 

208


149

مخرِّب 5017

«خود شوف عمليتك إنت وخزب اللّه تبعك... مش خرام هيدا الطفل بيموت شو ذنبو؟»

 

 

وضع علي الصحيفة على الطاولة الخشبية الموجودة بجانبه، فيما كان المحقق يقول: «مش خرام تقتلوا الأطفال!»

- «هذا ليس صحيحًا، هذه الصورة مركّبة، لا وجود للمدنيين في مكان الانفجار»، قال علي.

- «يعني بتعترف إنك إنت، ارتاخ هلق قدامك رخلة طويلة مناخدك عالخيام، عند اللبنانيي هني بيخلّوك تخكي كل إشي».

***

على خطى علي...

لم يكن علي وحده في مستعمرة المطلة، لقد ألحقوا به زوجته، ولكن دون أن يعلم بذلك أيٌّ منهما.

إنها المرة الأولى التي تبعد فيها عن أولادها، ترى هل ستراهم من جديد؟ ماذا يفعلون الآن؟ حسين آه من حسين! أين هو الآن؟ أسئلة كثيرة روادتها من دون أن تحصل على إجابة.

تملّكها خوف مبطّن بشتّى أنواع القلق، إنها صغيرة لم تتعد الثانية والعشرين من العمر، وهي بمفردها مع شابين إسرائليين في منزل مجهول، لا تعرف في أي بقعة هو؟! كل ما علمت به أنه تم نقلها من مكان إلى آخر.

 

 

210


150

مخرِّب 5017

«خود شوف عمليتك إنت وخزب اللّه تبعك... مش خرام هيدا الطفل بيموت شو ذنبو؟»

 

 

وضع علي الصحيفة على الطاولة الخشبية الموجودة بجانبه، فيما كان المحقق يقول: «مش خرام تقتلوا الأطفال!»

- «هذا ليس صحيحًا، هذه الصورة مركّبة، لا وجود للمدنيين في مكان الانفجار»، قال علي.

- «يعني بتعترف إنك إنت، ارتاخ هلق قدامك رخلة طويلة مناخدك عالخيام، عند اللبنانيي هني بيخلّوك تخكي كل إشي».

***

على خطى علي...

لم يكن علي وحده في مستعمرة المطلة، لقد ألحقوا به زوجته، ولكن دون أن يعلم بذلك أيٌّ منهما.

إنها المرة الأولى التي تبعد فيها عن أولادها، ترى هل ستراهم من جديد؟ ماذا يفعلون الآن؟ حسين آه من حسين! أين هو الآن؟ أسئلة كثيرة روادتها من دون أن تحصل على إجابة.

تملّكها خوف مبطّن بشتّى أنواع القلق، إنها صغيرة لم تتعد الثانية والعشرين من العمر، وهي بمفردها مع شابين إسرائليين في منزل مجهول، لا تعرف في أي بقعة هو؟! كل ما علمت به أنه تم نقلها من مكان إلى آخر.

 

 

210


150

مخرِّب 5017

مرّ الليل عصيبًا ومرعبًا، وقد عرفت بأن الليل قد حلّ، بعدما رأت الجنديين نائمين، بالاضافة إلى الكلب الممدد على أرض المطبخ.

اخترق اصطكاك أسنانها سكون الصمت الطاغي. شعرت وهي تضع رأسها على الوسادة كأنها تنام في ثلاجة، فعظامها لم تتوقف عن الاهتزاز طوال الليل.

روادتها الأسئلة التي طُرِحت عليها في التحقيق، منذ أن وصلت إلى المطلة؛

- مين كان عندكم بالبيت؟

- اختي الصغيرة كانت نائمة عندي.

- إنتي بيشوفيني مجنون حتى أسألك عن أختك؟! قال لها المحقق، «أنا بحكي عن هادا» ورمى صورة أسعد في وجهها.

- زوجك اعترف بكل إشي.

«أين أنت يا ولدي؟ ماذا حلّ بك؟ يارب لا تفجعني به!»

«أين أنا؟» سألت سناء نفسها عند استيقاظها في صباح اليوم التالي، شعرت بجفاف حلقها من شدة العطش، فهي منذ يوم أمس من دون شربة ماء.

 

 

212


151

مخرِّب 5017

ترجّلت سناء من السيارة، فيما أمسكت بكتفها امرأة واقتادتها إلى داخل غرفة، وقد خمّنت سناء ذلك لابتعادها عن حرارة الشمس.

- «هيا انزعي ملابسك» أمرتها، فيما فكّت أخرى وثاق يديها ونزعت الكيس عن رأسها.

- «قلت لك كل ملابسك، وأقراط أذنيك وخاتم زواجك» نهرتها قبل أن تطلب منها معاودة ارتداء ثيابها باستثناء» الإيشارب والجوارب» ثم كبّلتا يديها واقتادتاها إلى غرفة التحقيق.

رحّب المحقق ذو البشرة البيضاء، والبُنية المعتدلة بسناء وهو يقلّب سوطًا بين يديه.

- نحن نحبك وقد أحضرنا لك سوطًا بنفسجي اللون، بلون ملابسك، ما اسمك؟

- سناء ترمس.

- كم ولد لديكِ؟

- أربعة.

- هل أنتِ حامل؟

- لا أعرف، ربما!

 

 

215


152

مخرِّب 5017

- قال وهو يسلمهما سناء:

 

- «جومانة، جمال»، نادى المحقق المرأتين اللتين اقتادتاها إلى غرفة التحقيق،» يجب أخذها إلى مستشفى مرجعيون لإجراء صورة صوتية للرحم، لربما كانت حاملاً، لا أريد أن ندخل في متاهات».

- قال الطبيب لجومانة التي دخلت معها إلى العيادة: لا أستطيع أن أجزم بذلك الآن، لكن يبدو بأن هناك نطفة داخل الرحم، فلننتظر أسبوعًا ونقطع الشك باليقين.

هذه الإجابة رفعت عنها العذاب من دون أن يكون القصد من ورائها تجنيب نفسها التعرّض للضرب والتعذيب.

- عاود المحقق تكرار الأسئلة السابقة مع إضافة أسئلة لم تتوقعها، فور عودتها من المستشفى،»لماذا اشتريتي سطلًا من الحليب من عند الحاجة خديجة؟»

- نظرت سناء إلى المحقق بدهشة قائلة : اشتريته ليشرب أولادي الحليب.

- «معلوماتنا تقول بأنك اشتريته لسبب آخر، هل تستغفيلينني؟!» رفع صوته وهو يدنو منها مقلّبًا 

 

 

 

216


153

مخرِّب 5017

السوط بين يديه، «خذوها من أمامي قبل أن أفقد أعصابي».

 

«بلا عكرة»[1]

في هذه الأثناء توجه «سليم» وهو أحد رجال «أبو عريضة» لاعتقال جمال، زوجة أحمد ترمس(أبو شوقي) حيث اقتادها إلى بلدة كفركلا، ومنها إلى معتقل الخيام، لتتوسّع دائرة التحقيق.

- «أين خبّأ زوجك الجهاز؟»، سألها المحقق بعدما اعترفت له بامتلاكه جهازًا لاسلكيًا خاصًا بالجمعية التي يعمل معها.

غادر «أبو عريضة» منزل أحمد أبو شوقي في بلدة طلوسة، عندما لم يعثر على الجهاز في «موقد سخّان المياه» كما أفادت زوجة أحمد.

- «لربما أخذه أحمد معه» أجابت جمال عندما أخبروها بأن لا أثر للجهاز في المكان الذي قالت عنه.

- «كيف ذلك، ألم تقولي بأن أحمد قد غادر البلدة منذ الصباح الباكر؟!

- «إذاً لربما تكون والدة زوجي قد أخفته في مكانٍ آخرّ»، إجابة جعلت أبو عريضة يعاود تفتيش المنزل مرة ثانية.

- «أنا خبّأته» قالت الحاجة خديجة السمرة، والدة أحمد أبو شوقي.

 


[1] كلمة جنوبية وتعني من دون ضوضاء.

 

 

218


154

مخرِّب 5017

- «لمَ فعلتِ ذلك؟» سألها أبو عريضة الذي عاد إلى تفتيش المنزل مع بعض عناصره.

- «خفت أن يلعب به حفيدي، وهو ليس لنا، إنه للجمعية التي يعمل معها ابني». لم يكن هذا الجهاز الأول الذي كانت تخفيه، فقد سبق لها أن أخفت وأوصلت عددًا من الأجهزة إلى المجاهدين وفي أكثر من بلدة، منها إلى «حجر وبلال السلمان» في بلدة مركبا، وإلى «نزهة شرف الدين» في بلدة الطيبة.

أخذ «أبو عريضة» الجهاز من يدها وهو يصرخ بأعلى صوته: «يا أهل الضيعة... تعالوا وانظروا إلى ما فعلته الحاجة خديجة! لقد أخفت الجهاز اللاسلكي الخاص بحزب اللّه، إنها تساعد حزب اللّه ليقوموا بأعمال تخريبية ضدنا، وبالتالي ستكون هي السبب لأي ردة فعل إسرائيلية!»

- اخفض صوتك، وبلا عكرة.

اقتاد أبو عريضة ورجاله الحاجة خديجة، السيدة السبعينية، من دون أن يرفّ لها جفن، فهي لم تكترث إن كانوا سيأخذونها إلى معتقل الخيام أم إلى أي مكان آخر، فاللتي تكتم خبر استشهاد ابنها عن زوجها ريثما ينتهي من تناول طعامه، وتطلب من الذين أخبروها بذلك مغاردة المنزل مخافةً أن يتعرّضوا للاعتقال، لا يمكن لأبي عريضة ورجاله إخافتها!

 

 

220


155

مخرِّب 5017

غادر والد أحمد منزله في طلوسة، في اليوم الثالث لاعتقال زوجته وكنّته، متوجهًا إلى بلدة مجدل سلم، مصطحبًا معه أحفاده الذين لا يقوى على الاهتمام بهم لوحده.

تفاجأ أحمد وثارت ثائرته عندما أخبره والده، بأن والدته وزوجته قد اعتُقلتا من قِبل أبو عريضة وعناصره.

- «لماذا تبكي؟» سأل أحمد ابنه الذي بللت الدموع وجنتيه.

- الجنود الإسرائيليون اعتقلوا أمي.

- ليست أمك وحدها من اعتقلوها! لقد اعتقلوا أمي ايضًا، انظر إلى وجهي هل تراني أبكي مثلك» قال أحمد وهو يكفكف دموع ابنه.

***

الأوتيل

في هذه الأثناء غادر علي مستعمرة المطلة، يرافقه جنديان إسرائيليان، أوصلاه إلى غرفة صغيرة تفصل بين المستعمرة ومنطقة الشريط المحتل، حيث كان في انتظاره في الجهة الثانية من الغرفة، سيارة مرسيدس خضراء اللون، كانت آخر ما رآه قبل إعادة وضع العِصابة على عينيه من جديد.

 

 

222


156

مخرِّب 5017

آنس الهواء المنعش وجه علي بالرغم من أنه جعل الكيس

 

 

يلتصق بوجهه، دقائق وتحوّل الهواء إلى نسائم خجولة، تماهت مع عجلات أبطأت سيرها، إلى أن توقفت بُرهةً قبل أن تعبر بابًا حديديًا سمع صريره وهو يُفتح.

«هيّا انزل من السيارة» قال أحد الذين رافقاه من تخوم مستعمرة المطلة إلى معتقل الخيام. أمسك بكتفه أحدهم وسار به وهو معصوب العينين، ومقيّد اليدين.

أدخلوه إلى غرفة وجرّدوه من كل ما بحوزته، من نقود وساعة يد، وملابس. ثم ألبسوه كيسًا آخر كان هذه المرة من قماش القنّب، تنبعث منه رائحة نتنة.

استعاد علي كلمة المحقق الإسرائيلي «اللبنانية بالخيام بيعرفوا يخلّوك تحكي»، وهو يدخل إلى غرفة التحقيق.

- ما اسمك؟

- علي حجازي.

- من أي بلدة أنت؟

- من دبّين.

- ماذا تعمل؟

- في أعمال البناء، سائق سيارة أجرة، بائع للخضار...

 

 

 

224


157

مخرِّب 5017

- ألا تعرف أن تقول في الأعمال الحرّة؟! هل أنت متزوج؟

- أجل.

- هل لديك أولاد؟

- لدي أربعة أولاد.

- ما هي كنيتك؟

- «أبو حسين» لم يكد علي يجيب على سؤاله حتى عاجله بصفعة على وجهه، جعلت الغرفة تدور من حوله.

- «لماذا ضربتني؟» سؤالٌ جعل السماء تمطر ضربًا وركلاً ورفسًا حتى انقطاع النفس...

ها هو العصفور الذي قال عنه ابو عريضة أنه في اليد، صار أسير الركلات والرفسات، صار أسير معتقل الخيام، وما أدراك ما هو معتقل الخيام ![1] من دخله فقُد، ومن خرج منه وُلد.

 


[1] يعود أساس المعتقل إلى ثكنة عسكرية أنشأها الانتداب الفرنسي سنة ١٩٣٣، وكان جزءاً منها قد صمّم كإسطبلات للخيول. سُلِّمت للجيش اللبناني سنة ١٩٤٣، بعد جلاء الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية. يتألف من أربع مبانٍ للذكور وواحد للإناث، وكل مبنى يتألف من من عشرين غرفة ما بين جماعية وإفرادية، تختلف طولاً وعرضاً وارتفاعاً تبعاً للمهمة المُناطة بها، يفصل بين السجون الخمسة باحات صغيرة يبلغ ارتفاع جدرانها إلى حوالي الثلاثة أمتار وتعلها الأسلاك الشائكة، تُستعمل لتشميس المعتقلين كل شهرين ولمدة خمس إلى عشر دقائق. تناوب على إدارة السجن العسكريين الصهاينة بالإضافة إلى جهاز الموساد وجهاز المليشيات العميلة.

 

 

225


158

مخرِّب 5017

بين سندان المحقق ومطرقة الجلاّد

«كانت فريدة لم تضاهها أخرى! لم أر مثيلاً لها في حياتي! جعلتني أثمل حتى الغثيان! حتى فرائصي خانتني وارتعدت لشحناتها الكهربائية، واستسلمت كل أعضاء جسمي كرمى لسوط جلاّديها الذين انتشوا على وقع ألمي!... إنها ليلتي الأولى!»

«بيقولو الدنيا بتضوّي، إي الدنيا ضوت ورجعت طفت»، هكذا شعر علي عندما صفعه المحقق مرة جديدة على وجهه وهو يقول له: «لماذا أبا حسين؟»

- كما لكل واحد كنيته، أبو طوني، وأبو الياس، وأبو جمال، أنا أيضًا أبو حسين.

- من هو الذي فجّر نفسه؟

 

227


159

مخرِّب 5017

وما إن أجاب بأنه لا يعرفه، حتى انهالت عليه الصفعات والركلات، من كلِّ حدبٍ وصوب، مصحوبةً بالسُّباب والشتائم البذيئة. كانت الغرفة تهتز بكل ما فيها وكأن زلزالاً قد حصل..

- يا ألله... يا ألله... يا ألله...

- أين هو الذي تناديه فلينزل ويخلّصك.

«أين أنا؟» سأل علي نفسه، وهو ممد على أرض غرفة صغيرة، يجاهد فتح عينيه النصف مغمضتين لشدّة ما كان يعانيه من ألمٍ وإرهاقٍ شديدين، فهو لم يغمض له جفن منذ أن جاؤوا به إلى المعتقل عصر أمس الخميس.

لم يكد يمضي من الساعة ربعها حتى جاء الحارس، وجرّه للمرة الخامسة إلى غرفة التحقيق، التي كانت تبعد عن الزنزانة نحو أربعين مترًا، ذهب إليها قفزًا على قدم واحدة، بعد أن نزعوا طرفه الصناعي منذ وصوله إلى المعتقل.

- «هيا تكلم من هو؟ ما اسمه؟»

«دددددد آآآآآآآآخ يااااااااللّه! كنت أنتفض، شعرت بأن يديَّ قد قُطِّعتا بعدما وضعوا الأسلاك الكهربائية بين أصابعي، وكلما كرّروا السؤال، ازدادت الوتيرة بشكل أعلى من سابقاتها، حتى سالت الدماء منها».

 

 

228


160

مخرِّب 5017

انزلقت قدم علي وهو يحاول الجلوس على أرض الزنزانة

 

 

الإفرادية، التي لا تتعدّى مساحتها المترين طولاً، والمترين عرضًا.

مرّ من الساعة نصفها، وهو جالس بالوضعية نفسها يئنُّ من الألم.

«الحمد للّه يبدو أنهم لن يحققوا معي مجددًا «، لم تمرّ دقائق خمس حتى وجد نفسه مجددًا في غرفة التحقيق أمام اثنين من المحققين.

«خارت قواي تمامًا لم أعد أقوى على الوقوف، شعرت بحرارة وقشعريرة تسري في كل أنحاء جسدي واجتاح رأسي صداع قوي، وكانت يداي قد شُلّتا تماماً».

«خذوه من هنا « صرخ المحقق، عندما رآه يسقط أرضًا.

«أُدخلت إلى زنزانتي مترنحًا، أذكر أنني تضرّعت إلى اللّه أن أنام نومة لا استيقظ منها! غير أن ذلك لم يدم سوى ما يقارب الربع ساعة، اقتادني بعدها أحد الحرّاس إلى غرفة التحقيق. عند دخولي نزعوا الكيس النتن عن رأسي والعصابة عن عيني، وكانوا يفعلون ذلك في كل مرة كنت أدخل فيها إلى غرفة التحقيق»

«هيا انهض هذا فطورك» قال الحارس لعلي، وهو يرمي له قطعة من الجبن المبستر وأربع حبات من الزيتون، بالإضافة إلى قطعة من «التوست الأخضر» الذي فتك به العفن.

 

 

231


161

مخرِّب 5017

- «علي حجازي، نقبر طلاع لبرا»، قال الحارس، الذي ما لبث أن عاد واقتاده مجددًا إلى غرفة التحقيق، قبل أن تمتد يد علي إلى قطعة الجبن.

- ما هي العمليات التي شاركت فيها؟

- لم اشارك في أية عملية.

- كم عددها؟

- قلت بأنني لم أشارك، وتسألني عن عددها!

- علا صوت المحقق عندما سمع إجابة علي «من الذي أوصل الانتحاري إلى منزلك؟»من هو مشغّلك ؟

تتالت الأسئلة من دون أية إجابة من علي.

- «يبدو هذه أن اللغة ليست مفهومة لديك» قال المحقّق، وهو يهوي بسوطه على ظهر علي، الذي ترافق مع صفعات ولكمات على ووجهه ورأسه، وركلات على مختلف أنحاء جسمه.

لم يستطع علي أن يفتح فاه، أو ينبس بكلمة من شدّة التعب والإرهاق، فما كان منهم إلا أن علّقوه في حديدة مثبّتة على الحائط، وبدأوا بصبّ المياه عليه، الباردة تارةً، والحارّة تارةً أُخرى.

- «ما أسماء الذين يعملون معك؟»

 

 

233


162

مخرِّب 5017

- «عن أي أسماء تسأل؟ قلت لك بأنني لا أعمل مع أحد، «إجابة أشعرتني وكأنني صعدت إلى السماء السابعة، ومن ثم سقطت بعدها تحت الأرض السابعة، فوضع الأسلاك الكهربائية في الأماكن الحساسة، كاد أن يفقدني وعيي من شدّة الألم».

- « أين تخبّئون السلاح؟» تابع المحقق أسئلته، فيما علي يتأوه من ألم إطفاء السجائر في كافة أنحاء جسمه.

«اليوم الرابع كان مختلفًا، ولا أبالغ إن قلت بأنني عانقت الموت مرات عدة، لشدّة ما عانيته».

- من هو المفجّر؟

«وما كدت أفتح فمي حتى صار ظهري مرتعاً لـ «كابل الكهرباء» بعد أن علّقوني من يديّ على العمود، وصاروا يرمونني بالماء بعد كلّ صعقة كهرباء ليضاعفوا الألم. مرّت ثلاث ساعات وأنا على هذه الحال، كان الماء يتصبب مني بألوانٍ وأشكالٍ مختلفة، امتزج فيه العرق بالبول والدموع والدماء».

«كان صوت السوط وهو يهوي أشدَّ ألماً من لسعته على ظهري، فمع كلِّ جلدة كنت أشعر بقلبي ينفطر. سوطٌ يرتفع وآخر يهوي، استحضرت الإمام الحسين (عليه السلام)، عندما كان يتلقى بين الرمح والرمح، رمحًا، وبين الطعنة والطعنة، طعنةً، 

 

 

234


163

مخرِّب 5017

هكذا كان ظهري بين جلدة السوط والأخرى، حتى تفجّر من ظهري ينابيع دم، ومما ضاعف ألمي أنهم كانوا يرمونني بالماء قبل كل جلدة، وأدّى ذلك لاحقًا إلى تقيّح ظهري نتيجة التهاب الجروح التي أحدثتها الجلدات المتكررة».

وفي مرة أخرى سأله أحد المحققين «أين كنت تريد تنفيذ عملية ؟»

- هذه أكاذيب! لا علاقة لي بأية عمليات، ولا بأي شي آخر.

- «علّقوه على العمود، لربما جعله ذلك يقرّ بما يعرفه!» قال المحقق والغضب يلعب بين فكّيه.

مضت خمس ساعات ببطء ثقيل، كان يرتجف فيها، ويئنّ من جروح ظهره التي لم تتوقف عن نزف دمائها رغم ذلك كله استسلم للنوم، ليستيقظ مثلوجًا، متقطع الأنفاس.

نخر هواء ليل المعتقل عظمه كالمخرز، زاد من حدّته صبّ المياه الساخنة، وبعدها الباردة على جسده العاري، إلا من الدماء والألم، فراح يرتجف بشدّة، كلما برد جسمه تضاعف المه أكثر فأكثر، لتبدأ جولة جديدة من الضرب والجلد والركلات.

تناوب المحققون والجلاّدون ممن يهوون التسلية ويتبارون في تعذيبه، ورميه بالبول الذي كانوا 

 

 

236


164

مخرِّب 5017

يجمعونه من الزنازين، والبول يفعل فعله في الجروح المتقيحة.

 

 

بعد مرور أربعة أيام متواصلة من التعذيب الشديد، رفع المحقق الكيس عن رأس علي راميًا في وجهه الصحيفة التي تتصدرها صورة العملية، ومنفّذها « قول إنو إسمو أسعد برّو يا كذا... يا كذا...» لم يترك كلمة نابية إلا وتلفّظ بها، ولا كلمة فاحشة إلا ونعته بها هو وجميع أفراد أسرته.

فأجابه علي» ما دمت تعرف لماذا تسألني؟»

«أريد منك أن تعترف! أن تلفظ اسمه!»

«حسنا، اسمه أسعد برّو إن كان هذا ما تريده».

«بما إنك لم تعترف من يكون، فذلك يعني بأنك تخفي الكثير الكثير». قال له المحقق يحيى أبو كمر[1].

كان علي قد تعمّد عدم الاعتراف بكل ما يعرفه خوفًا من توسّع دائرة التحقيق وإطالة مدته. إنها كلمة.. إذا لفظتها علقت... كلمة وتكرّ سُبحة السلسلة التي تكاد لا تنتهي... الخرزة الأولى وينفرط بعدها العقد...

لم يعد بإمكانه عدم الاعتراف. لأنهم ما إن يمسكوا بطرف الخيط، فإنهم سوف يقومون بسحبه شيئًا فشيئًا، فذلك يعني بأن لا مفرّ من الاعتراف بكل شيء، نعم بكل شيء منذ لحظة الولادة، وحتى ساعة التحقيق.

 


[1] محقّق وجلاد من بلدة الماري.

 

239


165

مخرِّب 5017

سألوني عن أناسٍ كثر لا أعرف معظمهم، سألوني عن عمليات نُفِّذت وأخرى لم تُنفّذ، ولكن من دون حصولهم على إجابة.

كان لصوت «الكلبشة»[1] لحنٌ خاصٌ لدى المعتقلين، ما إن يسمعه الأسرى حتى يعزف قلبهم لحن الموت. علم علي بأن المحقق صار في الغرفة عندما بدأ بلكمه على وجهه بشكل هستيري، حيث أوجعه إلى حدٍ كبير، لدرجة لم يعد يحتمل فيها الألم، فما كان منه إلا أن مدّ كلتا يديه ونزع الكيس النتن ذا الرائحة الكريهة عن رأسه، ورماه أرضًا، قائلاً لهم: «ليك أنت وياه إذا بتجيبوا بيي هلق لهون ما بعرف عنو شي».

- «ضع الكيس على رأسك».

- «لا أريد وإذا كنت رجلاً فلتطلق النار عليّ، أنا إبن حزب اللّه ولست خائفًا منك « قال وهو يرفع «كنزته» كاشفًا عن صدره.

- «هدّىء أعصابك»، قال له المحقق الثاني الذي دخل الغرفة ثم سأله: «يبدو أنك من المدخنين، وتريد تدخين سيجارة؟! لو أنك تقول الحقيقة ما كان تعرّض لك أحد».

 

 


[1]  قيد، وكل قيد ينكون من سوارين، ولكل سوار مفتاح، وبينهما حلقات من الحديد.

 

 

240


166

مخرِّب 5017

- إذا قلت الحقيقة أم لا سيّان عندكم.

- أرجعوه إلى الزنزانة.

تكررت الأسئلة الروتينية طوال فترة التحقيق التي امتدت شهرين ونصف الشهر. وحدها طريقة طرح السؤال كانت تختلف من محقق إلى آخر، مع تبديل نوبة المحققين كل يومين، بالإضافة إلى المشاكل التي كانت تحدث بينه وبين المحققين ما استدعى نقله إلى ثكنة مرجعيون للتحقيق معه من قِبل الجنود الإسرائيليين.

أقلّوه مع غيره من المعتقلين في سيارة «common car»، وقد تمكّن من أن يعرف أنه في داخل ثكنة مرجعيون بعد أن قضم بأسنانه مقدمة الكيس الموضوع على رأسه، وأبعد بكوع يده العُصابة عن عينيه. شعر بألم كبير، إذ كان على مرمى حجر من بلدته ولكن ليس باليد حيلة.

دخل المعتقلون الخمسة واحدًا تلو الآخر، كان علي آخر من دخل إلى غرفة المحقق الإسرائيلي.

قال المحقق الإسرائيلي الأسمر ذو الملامح العربية مشيرًا إلى الكرسي الموجود في زاوية المكتب: شيل الكيس عن راسك وقعود هون.

- قال له وهو يشير إلى الجندي الموجّه سلاحه نحوه:

 

 

242


167

مخرِّب 5017

- أي خركة بتعملها حتلاقي الموت ناطرك، شو إسمك؟

 

 

- بإجر وحدة وعم تقاتل!

- لو فقدت التنين رح ضلّ قاومكن.

- قديش صرلك بالخيام؟

- شهرين ونص.

- وين عيلتك؟

- الولاد بطلوسة.

- وزوجتك وينها؟

- بالمعتقل.

- قديش صرلها بالخيام؟

- شهرين ونص.

- بتخب تشوف عيالك؟

- إي أكيد.

- فيك تشوفهن ساعة للي بدّك، بس بشرط!

- شو هو شرطك؟

- شرطي هو ترجّع الخياة لجنودنا للي قتلتهم.

 

244


168

مخرِّب 5017

أجابه علي بضحكة خرجت رغمًا عنه وتردّد صداها في الغرفة.

- «عم تضحك! التمن للي رخ تدفعه اليوم غالي كتير» قال وهو يضغط بيديه على جانبي الكرسي الذي يجلس عليه.

- وشو هو التمن؟ سأله علي مستفّزًا إياه عندما رأى الشرّ يتطاير من عينيه.

- «ما بتعرف الأوتيل -هناك بالخيام- قال له بلهجة لبنانية مكسّرة.

- «بسيطة، إذا بالأوتيل بسيطة...»

***

زنزانة السنافر

ازدادت ضربات قلب سناء عندما سمعت صراخ زوجها تحت سياط الألم، وهي في طريقها لدخول غرفة التحقيق. سمعت بأذنيها تهديدهم له باغتصابها لإرغامه على الاعتراف.

قال له المحقق وهو يخرج من غرفة التحقيق محاولاً عدم رؤية علي له: إحكي أحسنلك، مرتك عنا، وإذا مش مصدّق رح نخليك تشوفا، شيل الكيس عن راسك.

 

 

245


169

مخرِّب 5017

لم يتوقع علي أن يرى زوجته أمامه في غرفة التحقيق. قال في قرارة نفسه وهو يراها من دون غطاء رأسها «لا حول ولا قوة إلا باللّه» كان بحالة يُرثى لها الدماء تغطي وجهه، عيناه 

 

 

متورمتان تكاد تختفي معالمهما لكثرة الألوان البنفسجية والحمراء والخضراء التي غطّتهما، فمه أيضًا تحوّل إلى أحمرٍ قاتم نتيجة تدفق الدم منه.

- «يا دلّي شو عاملين فيك، اللّه لا يوفقهم؟!» همست لنفسها.

- «طمنيني عنك».

- «أني بخير المهم أنت».

- أجابها وهم يخرجونها من الغرفة «ديري بالك عالولاد وما تهكلي همي نهائيًا».

- « شو يعني ما تهكلي همّي» هل هي كلمة سرّ بيناتكن؟ سأله المحقق. وانهالت عليه الصفعات والركلات...

حلّت سناء نزيلة زنزانة السنافر، فوقعت في المحظور، عندما باحت لشريكتها في الزنزانة بكل ما يتعلق بشقيقها الأسير عادل ترمس وزوجها علي، وكيف استقبلت هي وزوجها الاستشهادي في منزلهم ليومين متتاليين، وكيف ساعده زوجها وواكبه حتى تنفيذ مهمته.

- «شكرا لكنّ» قالت سناء لزميلاتها الأسيرات في الزنزانة رقم ستة، التي نُقِلت إليها بعد انتهاء مهمة استجوابها من عميلة الزنزانة.

 

247


170

مخرِّب 5017

- إنني أشعر وكأنني بين أخواتي.

- «أهلا بك بيننا، نحن أخواتك والذي يجري معك يجري علينا»، قالت الأسيرة نزهة شرف الدين مرحبةً بها.

- هناك من اهتم بي أيضًا في الزنزانة التي كنت فيها، يا اللّه كم هي طيبة !

- صاحت نزهة في وجهها «هل تحدثتٍ معها؟»

- أجل عن كل ما جرى مع زوجي؟

- إنها عميلة زنزانة!

- ماذا؟! لا يُعقل هذا! إنها فتاة خلوقة.

- خلوقة؟! لقد وشت عن الكثيرات قبلك.

شعرت سناء ببرودة تسري في كلِّ أطرافها لهول ما سمعته!

- «الآن عرفت سبب تغيرها المفاجىء بعد خروجها وعودتها إلى الزنزانة، حيث أدارت لي ظهرها، ولم تعد تكلمني البتة، لقد نالت مرادها».

***

 

 

249

 


171

مخرِّب 5017

رفضت سناء أن تأكل البطيخ الذي قدّمه لها «جهاد» الحارس اللحدي، أثناء تواجدها في الغرفة الملاصقة للغرفة التي يجلدون فيها زوجها، فكان صراخه يسوط قلبها ويفتته من الألم.

- «لماذا ترفضين تناوله ألأنه يذكّركِ بالدم؟» سألها جهاد.

- «بالأمس كان عندنا كيف أصبح اليوم في الصورة ؟» قالت سناء وهو يريها صورة الاستشهادي الموجودة في الصحيفة.

- «اعترفي بكل ما لديك، لقد علمنا بما جرى، الإنكار لا يفيدك، نريد أن نسجّل اعترافك أنتِ».

لم تنم سناء في تلك الليلة، فصوت سقوط الماء قضّ مضجعها، لم يعد بإمكانها الإنكار، لقد أخبرتهم عميلة الزنزانة بكل ما باحت به.

«لقد أتى وفد من الخارج، وغدًا سيطلق سراحك، لكن بشرط: أن تخبرينا بكل معلومة تحصلين عليها، ونحن بدورنا سوف نقوم بتأمين كل متطلبات معيشتك أنت وأولادك» قال المحقق أبو نبيل[1] لسناء التي استدعاها إلى غرفة التحقيق في اليوم الثالث عشر لاعتقالها.

 


[1]  جان توفيق الحمصي من بلدة الخربة وهو رئيس المحققين والجلاّدين.

 

250


172

مخرِّب 5017

- تطلب مني التعامل معكم مقابل تأمين معيشتي أنا

 

 

والأولاد؟! لا أريد شيئًا منكم، أنا أتكفل بهم، كل ما أريده هو العودة إلى بيروت برفقة أولادي.

حرصت سناء على قتل البعوض الذي يغطي جدران وسقف الزنزانة، علّها تُساهم في التخفيف من تعرّض رفيقاتها للسعاته.

- «ما خطبك؟ أراك مستيقظة على غير عادتك؟!» قالت لها نزهة.

- لا شيء، إني أقتل البعوض ليس أكثر.

- تقتلين البعوض؟! أم أن هناك أمرًا تخفينه، هيا أخبريني لماذا استدعاكِ أبو نبيل؟

- سأخرج غدًا من المعتقل، أرجو أن لا تخبري أحدًا، لأنه هدّدني أن أخبرت أحدًا سأنال عقابي.

- «يا طير الطاير، يا طير الطاير» صرخت نزهة من أعلى زنزانتها في صباح اليوم التالي.

- «مين بدو يطير اليوم؟» سألتها إحدى الأسيرات من الزنزانة الملاصقة.

- «سناء اليوم بدها تطير» وكانت هذه العبارة إشارة على إطلاق سراح إحدى الأسيرات.

***

 

252


173

مخرِّب 5017

كان «أبو عريضة» قد تلقّى تهديدًا من أحمد أبو شوقي ابن الأسيرة خديجة السمرا وزوج الأسيرة جمال، مفادها :»متل ما فوّتنا البيكاب المفخخ عالشريط، ومتل ما وصّلنا الرسالة لإيدك، منحطلك عبوة ومنطيّرك إنت وعيلتك،كنا نعمل العمليات خارج طلوسة، هلق رح بتصير بقلب البلد، ما عاد عندي إم خاف عليها ولا ولاد ولا زوجة. وأبو عريضة بشكل خاص خليه يرجع يطلع عطلوسة. أهم شي عنا العُرض، وأنت أخدت نساءنا، يعني معش نخاف عالبيت، الأرض بتضل أرض، والبيت بيتعمّر بدالو. هلق صار بدو يعمل عصامي علينا!؟ وين راح بـ ٥٠٠٠ دولار للي قبضن وقت مرّقنا السيارة؟ أصلاً هو مشارك معنا ليش ما هرباش لمرتي؟ ليش بدو يعتقلها؟ ما كان يبعتلي خبر لهرّبها من الضيعة؟ مش رح خلّيه يتهنى لا بالمصاري ولا باعتقاله للنسوان، ولو بيكون واقف مع عشرين ضابط إسرائيلي رح نتركن ونقتله إلو» كان هذا التهديد لأبي عريضة بتسهيل عمل المقاومة مقابل بدل مادي بمثابة اتهام مباشر يُدينه أمام الجنود الإسرائليين، وبذلك يكون أحمد قد ضرب عصفورين بحجر واحد»[1].

***


[1] رسالة أحمد أبو شوقي لأبي عريضة والتي كانت السبب في إطلاق سراح النسوة الثلاث.

 

 

254


174

مخرِّب 5017

استلمت سناء أقراطها الذهبية وغطاء رأسها من مكتب المحقق في صباح اليوم التالي، ثم خرجت إلى باحة المعتقل لتجد الحاجة خديجة السمرا المرأة السبعينية، والدة أحمد أبو شوقي تنتحب وتقول» اللّه لا يوفّقن شو عملوا فيي يا ويلن من اللّه، تركوني بلا إيشار»[1].

انطلقت السيارتان اللتان أقلتا الأسيرات الثلاث؛ سناء إلى مركز «أبو عريضة» في بلدة مركبا، ليتم إبعادها عن البلدة، والحاجة خديجة وكنّتها جمال إلى منزلهما في بلدة طلوسة.

- «ماما... ماما...» نادت ميرفت ابنة الست سنوات وهي تركض معانقة والدتها حابسة دمعتها.

- «لماذا أرسلت في طلبنا، التحرق قلبنا؟!» قال أبو عادل والد سناء لأبي عريضة وهو يدعوه بالدخول إلى مكتبه.

- «لا أريد أن أحرق قلبك، استدعيتكم لتأخذوا ابنتكم من هنا، ولتبقوا على حياد، ويا ويلكم لو علمت بأنكم قد ساعدتم أحدًا من «حزب ألله» فلتذهبوا الآن ولا أريد أن أراكم هنا مجددًا.

أُرغمت سناء على أن تستقل سيارة تابعة لعناصر جيش لحد، والتي أقلّتها إلى بلدة «دبّين» لإحضار

[1] غطاء للرأس.

 

 

255


175

مخرِّب 5017

ابنها حسين من منزل جدّه لأبيه لتصطحبه معها إلى بيروت.

 

 

«حرامٌ عليكم، أما كفاكم ما فعلتموه؟! اعتقلتم الأب والأم، وأراكم تأخذون الطفل! أما لديكم شيء من الرحمة!» ،قال والد الأسير علي حجازي لعنصري جيش لحد اللذين جاءا لأخذ حفيده حسين.

أجابه العنصر اللحدي:اخفض من صوتك، نحن لم نأتِ لاعتقاله، والدته خرجت من المعتقل وهي في السيارة ممنوع عليها البقاء في البلدة، سنوصلها إلى المعبر.

ما إن سمع حسين ذلك حتى ركض مسرعًا ليجد والدته في المقعد الخلفي للسيارة، ما أن رآها حتى استعاد لحظة اعتقال والده أمام عينيه وراح يصرخ بأعلى صوته: « يا كلاب... وينو بيي... لوين أخدتوا بيي... بدّي بيي...»

***

الحمّام اللحدي

«أريد أن استحم، لم أعد أحتمل! خرجت من الزنزانة قفزًا على قدمٍ واحدة ولمسافة ثلاثين مترًا، وما إن وصلت إلى الفناء الخارجي- الذي يفصل بين «الهنغار» الذي يضم زنازين عدة وكانت زنزانتي من بينها- حتى احتواني هواء تشرين البارد بين جناحيه. ضاعت فتات قطعة الصابون المتحجرة بين الأخاديد والتقرّحات والدماء، كدت أتجمد من 

 

 

257


176

مخرِّب 5017

البرد، شعرت وكأنني أُوخز بالمسامير والإبر فابعدت جسمي من تحت الماء.

 

 

دخلت الزنزانة وأنا مبللٌ بالماء. ارتديت القميص الذي جفّفت به جسمي.

كنت أرتجف تحت «البطانيات الخمس» كمن تعرّض لصعقات كهربائية بسبب الرطوبة التي تغلغت في عظامي البالية، وبقيت على هذه الحال قرابة الخمس ساعات حتى استعدت أنفاسي. وتبت إلى اللّه بعدها عن الاستحمام».

في ضيافة السنافر

«أهلاً وسهلاً بك، بماذا نناديك، أخ أم رفيق؟» قال أحد الأسرى داخل الزنزانة رقم (١٢) التي نُقل إليها علي من زنزانته الإفرادية في سجن رقم (١) المعروف بالسجن «القديم « أو بسجن «المقابر» لشدة الظلمة فيه.

- لا أخ ولا رفيق، معكم علي حجازي.

- هدّئ من روعك يا رجل، أخبرنا ما الذي جرى معك؟

- «ماذا تريد أن أخبرك؟».

- سبب اعتقالك، مشاركاتك، بطولاتك.

- إنك تمزح بالتأكيد، أية بطولات، وأية مشاركات؟!

 

259


177

مخرِّب 5017

- نحن معتقلون حالتنا كحالتك، أعاننا اللّه، ماذا عسانا نفعل، طريق المقاومة التي توصلنا إلى الحرية يحتاج إلى تضحيات كبيرة.

 

260


178

مخرِّب 5017

- لا دخل لي بالعمل مع المقاومة، أرفض وجود إسرائيل في بلدي لا أنكر ذلك، لكن لم يسبق أن شاركت في أي عمل مقاوم. كان علي يعلم بوجود عملاء الزنازين لذا جاءت إجابته مليئة بالحذر، كي لا يُستدرج من قِبل أحدهم.

نُقل علي إلى زنزانة ملاصقة لزنزانة جماعية، كانت أكبر مساحةً من تلك التي كان فيها في السجن رقم (١) والتي كانت لا تتعدّى مساحتها الثمانين سنتيمترًا طولاً، ومثلها عرضًا. بالإضافة إلى أنه صار بإمكانه التحدث مع شريكه في الزنزانة، وسماع أصوات الأسرى من الزنزانات الأخرى.

حاول علي تعويض السكوت المطبق الذي عاشه في السجن رقم واحد، وهو السجن الذي يوضع فيه المعتقل مدة التحقيق، ومعظم غرفه أما زنازين إفرادية، أو زنزانة تضم في داخلها ما يُعرف بـ عملاء زنزانة.

كان سجن رقم واحد الذي يطلقون عليه قسم رقم ١١١ عبر لوحة معلّقة على مدخله، وهو ما يُعرف بالسجن القديم، ويسمّى أيضاً بالسجن التحتاني، وهو مختلف عن سائر السجون الأخرى لاكتظاظه الدائم بالمعتقلين، وقد أُطلق عليه اسم «مقبرة الأحياء»، ففيه تُنتهك حُرمات الأسرى... وفيه يرون الموت بأم أعينهم لمرات عديدة... وفيه الصعق بالكهرباء والتعليق على العمود... وفيه الجوع والعطش... وفيه عدم

 

 

261


179

مخرِّب 5017

تبديل الملابس... وعدم الاستحمام إلى حدّ التعفّن... وفيه يخسر البعض سمعه... والآخر نظره، ومنهم من يفقد حياته... ومنهم من يُعتدى فيه على شرف أخته أو والدته أو زوجته...

***

إنها المرة الأولى منذ إدخاله إلى المعتقل منذ ثلاثة أشهر، التي يكون فيها مع أناس تربطه معهم القضية نفسها، إنهم شبان رفضوا الاحتلال وقاوموه بطرق مختلفة.

وجد علي في السجن رقم اثنين -الذي يحمل رقم ١٢٢ ويُعرف بالسجن الوسطاني- رمقًا من الحياة الذي افتقده في تلك الغرفة الميتة، التي يسمّونها زنزانة إفرادية، نعم كانت ميتة، لا حجر فيها ولا بشر، باستثناء بضع فراشات وقعن صرعى لإغراءات ضوء هزيل يطل على سقف الزنزانة، كان يجمعهن ويرتّبهن من الأصغر حتى الأكبر.

تسلّل البرودة إلى يد علي، لم يثنه عن إحصاء عدد الحصى التي تتألف منها كل بلاطة، لكنه توقّف قليلاً لإحساسه بتعب كفّ يده، ما جعله يبسطه ومن ثم يطبقه محاولاً تقليص الألم الذي شعر به نتيجة تعرّضه للصعقات الكهربائية، فلقد عانى الأمرّين منذ دخوله المعتقل، مرارة التعذيب من جهة وعلقم البُعد عن عائلته من جهة أخرى، ولكنه منَّى نفسه بالعزاء عندما عرف بمعاناة الأسرى السابقين.

 

 

263

 


180

مخرِّب 5017

«أين أولادي الآن يا تُرى؟ ماذا حلَّ بهم؟».

تواترت الأسئلة ولكن من دون الحصول على أي جواب، فأخبار عائلته منقطعة عنه ولا يسمحون له بمقابلتها.

«ماذا حلّ بك يا سناء؟! ماذا يفعلون بك، وهل لجسدك النحيل أن يتحمّل العذاب؟ آهٍ لو يطمئنني أحدٌ عنها»، قال وهو يتقلب في فراشه.

أسئلة وتمنيّات لم تفارق علي يومًا ولكنه كان يقول لنفسه» وهل أعيش في أوتيل خمس نجوم، كلنا سواسية!»

بينما كان هو يفكر في حال أولاده وزوجته، كانت سناء تخطط لتنفيذ ما أوصتها به زميلتها نزهة شرف الدين عند خروجها من المعتقل. «اشتغلي يا سناء وما تطلبي مساعدة من حدا».

كانت أصوات القذائف تتردد أصداؤها في كلِّ مناطق الضاحية، عندما وصلت سناء برفقة أولادها إلى منزل أهلها في محلة بئر العبد قرب مركز الإمداد، بعد إبعادها عن بلدتها طلوسة في صباح اليوم التالي الذي خرجت فيه من المعتقل.

عادت إلى منزلها في محلة صحراء الشويفات بعد عشرين يومًا قضتها في منزل أهلها في بئر العبد، متخذة قرارًا بالمواجهة والتحدّي وتحمّل 

 

 

265


181

مخرِّب 5017

مسؤولية عائلتها، بعدما تأكدت من حملها الذي ادّعته أثناء اعتقالها دون أن يكن لديها أدنى شك بذلك.

كان المنزل فارغًا من كل ما يمكنه سدّ رمق جوع أطفالها، ومن كل ما يستر أبدانهم، فثيابهم الصيفية باتت تحت ركام المنزل الذي دمّرته إسرائيل في طلوسة. وحدها أصواتهم ملأت المكان، لا بل عمّت أرجاء الحي الخالي من أهله، باستثناء بعض الرجال والشبّان الذين لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة.

- «أرجو منك أن تنتبهي للأولاد» قالت سناء لشقيقتها الصغرى التي أحضرتها معها من البلدة، بعد أن تركت ابنتها ملاك في عهدة جدّها وجدّتها.

كان وقع خطوات سناء على بقايا الحجارة والزجاج المتطاير من الأبنية يتردد صداه وهي في طريقها إلى محلة حي السلم لشراء بعض الحاجيات والأطعمة.

***

ألقى شهر تشرين الأول- شهر المدارس- بثقله على كاهل الأهل في ظل الحرب والوضع الاقتصادي المتردّي، فكيف حال الزوجة التي صارت الأم والأب والمعيل الوحيد لأسرتها؟!

كانت في حيرة من أمرها لا تدري ماذا تفعل! لا يمكنها تأمين رسم تسجيل أولادها ودفع أقساطهم المدرسية، فالمال

 

267

 


182

مخرِّب 5017

الذي كانت تدّخره قد نفذ، ومعاشها الشهري من المقاومة يكاد لا يكفيهم.

- «زوجي في معتقل الخيام ولا معيل لدينا ماذا عليّ أن أفعل حتى أسّجل أولادي في المدرسة؟» قالت سناء لأحد الموظفين في الإدارة، الذي سارع إلى التواصل مع المعنيين من أجل تسيير أمور أولادها.

عادت إلى المنزل بعد شرائها زجاجات العطر التي كانت تبيعها لأهل الحي- بعد أن كانت تبيع الكاز- لتجد مفاجأة في انتظارها...

- «ابنك حسين قتل خمس دجاجات، لقد فصل رأسهن عن جسمهن وقد جُنَّ جنون أصحابها، أنهم يتوعدون ويهدّدون» كان وقع ما سمعته سناء من جارتها صاعقًا، لم تدرِ ماذا تفعل سوى أن تذهب إلى منزلهم وتعرض عليهم ثمن الدجاجات، لكنهم أبوا أن يأخذوا منها شيئًا بعدما شرحت لهم بأن ما يجري مع ولدها سببه اعتقال والده؟

هذه الحادثة لم تكن الأولى؛ إذ كان كلما رأى طفلاً مع أهله يضربه ولا يتركه حتى يسيل الدم منه، وفي إحدى المرات عادت إلى المنزل لتجده وقد أشعل الكنبة لأن والده ليس موجودًا في المنزل ليجلس عليها.

***

 

268


183

مخرِّب 5017

سمّيته أحمد

كانت الساعة قد قاربت السابعة صباحًا عندما قادت سناء سيارتها - التي كان حزب اللّه قد اشتراها لها بعد ستة أشهر من خروجها من المعتقل- إلى منزل أهلها وهي تئن من مخاض الولادة.

عندما رأت والدتها - التي رافقتها إلى المستشفى- الطبيبة تخرج من غرفة الولادة مربكة ومصفرّة الوجه، تأكدت مما كان قد قاله الطبيب لسناء، من أن هناك احتمالاً كبيرًا أن يكون طفلها معوّقًا.

دخلت الطبيبة بعد ساعة ونصف من خروج سناء من غرفة الولادة وهي تحمل طفلاً أبيض البشرة، يشع نورًا، نظرت إليه والدة سناء وقالت:

- «ماشاء اللّه تبارك اللّه فيما خلق!» ثم التفتت إلى المرأة التي كان سريرها إلى جانب سرير ابنتها سائلةً إياها:» أهذا ابنك؟»

- أجابتها الطبيبة:لا إنه ابنكم أنتم.

اختطفته سناء من يد الطبيبة، نظرت إلى وجهه، وضعته في حجرها، وراحت تنزع عنه القماط وما تحته، فتشت في كل أنحاء جسمه، لكنها لم تعثر على أي إشارة تدل على أنه معوّق، كان سليمًا معافى، لا بل كان جميلاً جدًا».

 

 

270


184

مخرِّب 5017

قالت سناء وهي ترفع يديها نحو السماء:

شكراً على عطائك يا رب، لقد أنقظتني مرتين: مرة عندما منعت عني التعذيب في المعتقل بسبب الحمل، وفي المرة الثانية عندما رزقتني به سليمًا معافى.

كانت سناء قد عانت الأمرّين منذ أن علمت بحملها به؛ طُلب إليها إجهاضه لأنه سيولد معاقًا نتيجة أخذ والدته العديد من العقاقير من جهة، ومن جهة أخرى سيولد ووالده بعيدًا عنه، واللّه أعلم متى سيتمكن من رؤيته.

«ماذا ستسمّيه؟» سألتها والدتها وهي تدنيه من حضنها.

«أسميته أحمد..»

الكولونيل داني

إنه اليوم الرابع لعلي في الزنزانة الإفرادية، في سجن رقم(٢)، الذي يقع في الجهة الغربية للمعتقل، والذي بُني منذ أيام الفرنسيين، يقابله برج مراقبة يشرف سطحه على فلسطين المحتلة. يحتوي على زنازين إفرادية لا تتعدى مساحتها المتر ونصف المتر عرضًا والمترين طولًا، وكانت هذه الزنازين تختص «بالمشاغبين والمخرّبين» على حدّ تعبير اللحديين وأسيادهم.

 

272


185

مخرِّب 5017

بالرغم من الرطوبة والعفونة اللتين تغطيان جدرانه،

 

 

وتتغلغلان في أرضه، إلا أنه شعر وكأنه في ملعب مقارنةً بتلك التي كان فيها في السجن رقم (١).

كانت الزنزانة باردة جدًا لعدم وصول نور الشمس إليها من جهة، ومن جهة أخرى اقتراب فصل الشتاء. قضى ليله ساهرًا بسبب الرطوبة التي سرت في أنحاء جسده وكأنه ينام على فراشٍ من ماء!

«الكل وجهو عالحيط» وصل صوت أبي نبيل إلى مسمع علي، فيما كان يقوم بجولته المعتادة بين غرف المعتقل. وقف علي ما إن سمع الباب يُفتح، أدار وجهه إلى الحائط منفّذًا قوانين المعتقل.

- «مين هادا؟» سأل الضابط الإسرائيلي الذي كان برفقة أبي نبيل.

- «هيدا للي ساعد الانتحاري بعملية الخربة» أجابه أبو نبيل.

- تعال، تعال. إنت شو إسمك؟

- علي حجازي.

- ليش إنت هون؟

«ما بعرف» أجابه علي فيما كان يقول في قرارة نفسه» عامل حالك مش عارف ليش أنا هون!؟ وكل تفاصيل القصة عندك».

 

27


186

مخرِّب 5017

- ما بتعرف وعملية الخربة مين عملها؟

- «ما زالك بتعرف ليش عم تسألني؟» أجابه علي.

- إنت مرتاخ بهاي غرفة؟

- للصراحة مش مرتاح

- ليش؟

- « مليانة رطوبة والحيطان معفّنة» أجابه علي.

- «قلتلي فيها رطوبة! أبو نبيل بكرا بتجبلو تنين كيلو سمك خلّيهن يسبحوا معاه بغرفة» قال مستهزئًا. ثم التفت إلى علي سائلاً إياه «إنت بتعرف مين بكون؟»

- كل للي بعرفو إنك إسرائيلي.

- أنا داني.

- «داني مين؟» سأله علي.

- «داني قائد كتيبة للي تصاوب بالانفجار تبعك، أنا ما متت بعدني عايش، شو شكلك مش مصدق؟» قال الضابط الإسرائيلي لعلي الذي كان يهزّ رأسه.

- «وكيف بصدقك؟ وشفتو طاير شقف بالسماء، ولك مات وشبع موت»، أجابه علي وضحكته تتردد أصداؤها في المكان.

 

 

276


187

مخرِّب 5017

- «انقبر جاوب باحترام يا علي» قال أبو نبيل بنبرة عالية.

- «داني ما مات بس تشقف»، هذا كل ما قلته.

***

وكانت صحيفة معاريف قد ذكرت في عددها الصادر بتاريخ ١٠/٠٨/١٩٨٩ شهادة أحد جرحى تفجير السيارة المفخخة والذي يُدعى دايفيد كلاين: «رأيت كرة نار هائلة! إنه لشعور صعب ان تبقي رفاقًا لك في المستشفى، أحدهم يصارع على حياته وأتمنى له أن يصمد. جسدي جيد لكن الإصابة في الداخل».

تابع قائلاً: «لقد سافرنا في القافلة في نشاط اعتيادي وقد جلست في السيارة الثانية، وهي جيب من نوع بيجو. لم أرَ السيارة المفخخة أبدا، والشيء الوحيد الذي أذكره من الهجوم، كان غطاء من النار وكرة هائلة من اللهب، فصلت بيننا وبين السيارة الأولى، وقد طار نحونا جزء من المحرك، خرجت من النافذة وركضت نحو الجرحى في السيارة الأولى وأخرجناهم منها. عالجنا الجرحى حتى وصلت قوة الإنقاذ التي نقلتنا الى مستشفى محلية لتلقي العلاج الاوّلي، عندها وصلت المروحيات وقاموا بإجلائنا 

 

277


188

مخرِّب 5017

سريعًا إلى مستشفى رامبام، لقد قذفنا الإنفجار من الجيب وأصبت في أضلاعي»[1].

 

 

- «سكوت ووقاف عالحيط». قال أبو نبيل قبل أن يغادرا المكان هو والضابط الإسرائيلي الذي أظهر غضبًا واضحًا ما بعث الرضى في قلب علي.

نزيل السجن الرابع

حلَّ علي نزيلاً على السجن الرابع بعد مضي ثلاثة أشهر على دخوله إلى المعتقل، وهو ما يُعرف بالسجن الجديد، وأطلقت عليه هذه التسمية لأنه كان حديث البناء، وكان ترتيبه الرابع بين السجون الموجودة في المعتقل.

تميّز في طريقة بنائه وطلائه الأصفر عن تلك التي كانت جدرانها حجارة صخرية، وبنور الشمس الذي كان يضيئ جزءًا يسيرًا من غرفه، وهو ما كان معدوماً في سجن رقم (٢)، لكنه بُني بالطريقة الهندسية ذاتها التي كانت عليها السجون الأخرى؛ غرف على الجانبين يفصل بينهم ممر طويل ينتهي ببوابة حديدية.

رحّب الأسرى بانضمام علي إلى السجن الرابع، معبّرين عن فخرهم بالعمل الذي قام به، ثم بدأوا يسألونه عن تفاصيل العملية الاستشهادية، وبدورهم أخبروه كيف وصل خبر العملية إليهم: وصل صوت دوّي انفجار قوي إلى معتقل الخيام، تبعه إرباك غير طبيعي في صفوف عناصر لحد، منهم من كان يركض في كل اتجاه، ومنهم من صعد إلى سطح المعتقل لمعاينة مكان الانفجار.

 


[1]  صحيفة معاريف، النص باللغة العبرية موجود في الملحق.

 

299


189

مخرِّب 5017

«إنه في بلدة الخربة»، سمعهم أحد الأسرى من كوّة زنزانته، وانتقل الخبر من زنزانة إلى أخرى.

بعد يومين من شيوع خبر الانفجار، وصل الخبر اليقين إلى المعتقل عن طريق السجّان فؤاد عبلة إلى أحد الأسرى، بأن انتحاريًا قد فجّر نفسه في دورية إسرائيلية في بلدة برج الملوك، وكان أحد الأسرى قد انتظر عودة السجّان «فؤاد» إلى المعتقل لثلاثة أيامٍ أُخر، ليخبره بأن «اسم منفّذ العملية أسعد، أسعد برّو. وأخبره بأنه هناك معتقل من بلدة دبّين، اعتُقل بسبب العملية وتم إحضاره إلى المعتقل».

«يا ملازم عامر[1] أريد أن أتحدث إليك « قال علي للمحقق رقم (٢) في المعتقل كان يقوم بجولة روتينية، وصادف أن رآه علي قبل أن يدير وجهه نحو الحائط، وعرف بأنه هو عامر فاخوري نفسه، زميله في المدرسة، علّه يساعده للإطمئنان عن زوجته.

- من أنت؟» سأله الضابط اللحدي.

- علي حجازي من بلدة دبّين.

- من أين لك أن تعرفني؟

 

 


[1]  عامر الياس فاخوري المعروف بجزّار المعتقل، كان مسؤول الحراسات ليصبح بعدها المسؤول العسكري للمعتقل بأسره.تقاسم هو وجان حمصي المعروف بأبي نبيل السلطتين العسكرية والأمنية.

 

281


190

مخرِّب 5017

- من أيام المدرسة، ما زلت أذكرك جيدًا، وعندما تراني بالتأكيد ستعرفني.

- «لا أذكر أنني رأيتك قبل الآن يا...» قال وهو يمعن النظر في وجهه.

- سمعت عنك بأنك تفتعل المشاكل.

- «وفقًا للأجواء، ومن يعتدي عليك تعتدي عليه» استدرك علي قائلاً له: «بالتأكيد لن أعتدي عليك، إلا إذا أنت بدأت، وبالتأكيد سيكون هنالك ردٌّ».

- «حسنًا، كيف وضعك الآن، هل تشعر أنك في مزاجٍ جيد، أم أطلب لك فنجانًا من القهوة؟» قال مستهزئًا.

- «إذا عاملتمونا بالقليل من الإنسانية، فهذا يشعرنا أننا في مزاجٍ جيد» أجابه علي.

- توقف عن الكلام، وأدر وجهك للحائط، لقد تماديت كثيرًا!

فراش من ورق

الحياة صعبة جدًا داخل صناديق تحوي بين جدرانها أربعة أو خمسة معتقلين، وكلما زادت مساحة الغرفة، زاد عدد نزلائها الذين ينامون «كعب وراس» كل اثنين على فراشٍ واحد، حيث يصعب عليهم الحراك لالتصاقهم ببعضهم البعض، بالإضافة

 

283


191

مخرِّب 5017

لرقّته وكأنه فراشٌ من ورق! تغلغلت الرطوبة في عظامهم ما أدّى إلى إصابتهم بداء المفاصل.

استفاد بعض الأسرى من معرفتهم ببعض السّجانين والحرّاس. فمنهم من كان يُشترى بالمال، ومنهم من كان يستخدم المعرفة ويجيّرها لصالحه في المعتقل.

كان الأسير جهاد عواضة يستغل تصليح سيارات عناصر لحد بصفته خبيرًا في ذلك ليحصل على جريدة، التي كانت من المحرّمات في المعتقل، أو قداحة أو قلم، أو علبة من السجائر ... السجّان «فؤاد عبلة» هو واحد من الذين استفاد منهم جهاد في الحصول على بعض الأشياء والحاجيات؛ من صحيفة، إلى كتيّب أدعية، أو بعض الأدوية المنتهية الصلاحية في كثير من الأحيان.

كان جهاد يحتفظ بالصحيفة التي يخفيها فوق الخزانة حتى يوم الخميس، موعد مجيئ الممرض ومعاودة تنظيف الغرفة، ومن ثم بدوره ينقل هذه الأخبار إلى الأسير علي حيدر الذي يقوم بعملية الربط والتحليل، وبالتالي تحويلها إلى محاضرات ساهمت في أعادة تشكيل الوعي الثقافي والأيديولوجي والسياسي للمعتقلين. حيث كان الأسير علي حيدر يحلّل المجتمع السياسي والعسكري الإسرائيلي من خلال هذه الأخبار، بالإضافة إلى تحليله العمليات النوعية والاستشهادية، ومدى تأثيرها على المقاومة وأهلها، وعلى المجتمع الإسرائيلي.

 

 

285


192

مخرِّب 5017

وهكذا ساهم الأسير علي حيدر بتفاعل الأسرى مع العالم الخارجي وتغيراته، وبالتالي حثّهم على التحليل والفهم واستخراج النتائج وتحليلها، وعلى صناعة الخبر وليس وضع اليد على الخبر وانتظار الذي بعده.

قن الدجاج

كان المعتقلون يجيّرون الأحداث والآلام لجعلها مسلّية ومضحكة، ومن القصص المضحكة المبكية، تلك التي جرت مع الأسير تيسير شعبان عندما زجّ به السّجان في داخل صندوق حديدي، يكاد لا يستوعب طفلاً فكيف يحتمل رجلاً في داخله!؟ وقال له «لن تخرج من هنا حتى تبيض!».

تخدّر جسم تيسير من خلال تقوقعه، رجلاه المطويتان إلى صدره، كادتا أن تصل إلى وجهه، ويداه التفتا حول رجليه لضيق المكان، حاول جاهدًا تغيير وضعية جسمه إلا أنه لم يفلح في ذلك، فعمل على مدّ يديه لعلّ الدم يتدفق في عروقه من جديد. كانت المفاجأة عندما وقعت يده على بيضةٍ كان قد خبّأها أحد عناصر كلفة المطبخ في الصندوق، ليتناولها لاحقًا بعد أن ينهي مهمته من توزيع الطعام على الأسرى. صرخ تيسير «يا شرطة ... يا شرطة... أخرجني من هنا لقد بضت بيضة!».

 

 

287


193

مخرِّب 5017

«ها هو لقد رأيته» قال الأسير علي يحيى لرفاقه الذين كانوا يتربّصون للجرذ - تارة وراء الفراش، وأخرى خلف الدلو - 

 

 

الذي دخل إلى زنزانتهم من فتحة أسفل بابها، وحوّل الغرفة إلى ساحة من الهرج والمرج، إلى أن تمكّن من رميه «بالمشاية البلاستيكية»[1] التي كانت معه، ولكن بدلاً من أن تقتله الضربة، أصابت وجه جهاد الأمر الذي جعلهم يغرقون في نوبة من الضحك، وتُوِجت الحفلة الماراتونية بقتل الجرذ المُطارد.

البعوض هو الآخر تآمر مع العدوّ على دماء المعتقلين الذين كانوا يكتبون بعض الشعارات أو أسماءهم وتاريخ اعتقالهم، وذلك من خلال دماء البعوض نتيجة ضربها بالحائط، ما أثار حفيظة السجّان جورج كرم فأمر الأسير أحمد الجرف بلعق ما كتبه بلسانه، الأمر الذي أدّى إلى تشقق لسانه ونزف الدماء منه، ولم يكتفِ بذلك بل طلب إليه ابتلاعهم.

البركان الخامد

توقف علي عن تناول صحن الفاصوليا بعد سماعه الصرخات والتكبيرات، حار في أمره لا يعرف ما الذي يجري في الخارج. كانت وتيرة الأصوات تزداد ارتفاعًا، رافقها صوت ضربات على الأبواب الحديدية محدثة ما يشبه القصف المجنون. تعالت التكبيرات والهتافات والصيحات حتى عمّت المعتقل بأسره.

 


[1] حذاء صيفي

 

289


194

مخرِّب 5017

لم يدرِ علي القابع في زنزانته الإفرادية في سجن الوسط- سجن رقم (٢)- بأن يوم السبت في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني، سيفجّر البركان الخامد.

ضربة تلتها ضربات، إنه السجن رقم (٣)، تحوّل المعتقل بطرفة عين إلى بركان ثائر.. صرخات.. تهليلات.. تكبيرات...

صار المعتقل أشبه بيوم القيامة، لحظة اختصرت وجع سنين

من سجن رقم (٣) كانت الشرارة الأولى، عندما حضر أحد السجانين يريد مكالمة الأسير «الشيخ ناصر أبو عليوه» فيما كان يؤدّي صلاة الظهر، فطلب إلى أحد رفاقه في المعتقل أن يبلغه بأنه يريد أن يتحدث إليه، فأجابه: «باستطاعتك أن تقول ما تريد إنه يسمعك غير أنه لن يكلمك قبل أن يفرغ من صلاته» اغتاظ السّجان وثارت ثائرته، وذهب برفقة سجّان آخر، حيث قاما بإخراجهما من الزنزانة وانهالا عليهما بالضرب المبرح إلى حدِّ الإغماء، وتم نقل أحدهما إلى المستشفى من شدة الضرب.

وصلت أصوات الضربات إلى سجن رقم (٢) ورقم (٤) وانتقلت العدوى وعمّت أرجاء المعتقل.

كادت أن تكون بداية اليوم التالي عادية، لولا تلك الضجة التي خرجت من الغرفة رقم (٤). عاد الضرب على الأبواب من جديد ولكن بوتيرة أعلى من اليوم الأول، تكبيرات،صرخات، وشعارات منددة بالاحتلال.

 

292


195

مخرِّب 5017

ظنَّ معتقلو سجن رقم (٤)عندما سمعوا أصوات التكبيرات بأن أبناء بلدة الخيام جاؤوا لتحريرهم من المعتقل.

اختلطت التكبيرات بأصوات وقع أقدام السجانين والحرّاس، الذين كانوا يركضون في كل اتجاه، وإذ بأصوات الرصاص تنضم إلى الأصوات الأخرى.

دقائق واقتحم الدخان كل ثقب وفتحة في السجن رقم (٣) منقضًا على الهواء قاطعًا أنفاسه، وبالتالي كاتمًا أصوات المعتقلين لتحلّ محلّها، أصوات جنازير الملالات الإسرائيلية وطائرات الهيلوكبتر.

يا شرطة... يا شرطة... علت أصوات المعتقلين من الغرفة رقم (٣) في السجن رقم (٤) مستفسرة عمّا يحدث «سدّوا بوزكن وما إلكن خصة» أجابهم الشرطي.

- «نحنا للي إلنا خصة، هلق بدنا نعرف شو عم بيصير» قال له أحد الأسرى.

- «للي بيطلع بإيدكن، بيطلع بإجركن» وما إن سكت السّجان حتى بدأ الضرب على الأبواب وعلت أصوات جهاد عواضة ، وأكرم علوية وعباس قبلان وأحمد الأحمد، بالتكبيرات معلنة انضمامهم إلى حركة التمرّد.

 

293


196

مخرِّب 5017

لم تمضِ دقائق، ومن دون سابق إنذار رموا في الممر الفاصل بين الزنازين قنبلتين مسيلتين للدموع وواحدة دخانية.

 

 

«خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود» علا صوت الأسير أحمد الأحمد،إلا أنه لم تكد تمضي خمس دقائق حتى خفت صوته، إضافة إلى الأصوات الأخرى، ليحلّ محلها السُعال والتقيؤ.

- يا شرطة! هناك اثنان يكادان يلفظان أنفاسهما الأخيرة» نادى أحد الأسرى، وكان قد مضى من الساعة ثلثها

- «اللّه لا يردّن» أجابه السجّان.

انتظروا قليلاً قبل أن يباشروا بإخراج الأسرى المتعبين إلى خارج الغرف، وبدأت سيارة الإسعاف تحضر تباعًا إلى المعتقل لنقل الحالات الحرجة إلى المستشفى، فيما عمل فريقٌ طبيٌ على تقديم العلاج للباقين.

أصابت القنبلتان الغازية والدُخانية باب الزنزانة رقم (٥) في السجن الرابع، وتسربتا إلى الداخل، ما أدّى إلى تضرر الأسرى الخمسة الموجودين في داخلها، لافي المصري، بلال السلمان، إبراهيم أبو عزة، وبدر الدين نواس - من الأردن وهو فلسطيني الأصل- بالإضافة إلى الأسير جورج صليبا.

- «يبدو أن الإخوة في سجن رقم (٣) قد نفّذوا ما كانوا يخططون له لقيامهم بإضراب إذا ما بقي الحال 

 

 

295


197

مخرِّب 5017

على ما هو عليه؛ من شتم واضطهاد وحرمان من الماء والطعام والأدوية والشمس، وأبسط الأمور التي يحتاجها السجين»، قال بدر الدين النوّاس لرفاقه.

لحظات وسقط بلال الذي كان يقف عند باب الزنزانة أرضًا، فيما اقترب إبراهيم من الدلو الموجود في الغرفة ليتقيأ في داخله فسقط مغمىً عليه قبل أن يصله، غير أن عناصر لحد لم يخرجوه من الغرفة لأنه كان فلسطيني الجنسية.

كان إبراهيم في الثالثة عشرة من عمره عندما اعتقله «الجلبوط»[1] وأدخله إلى المعتقل، وفي عنقه نقيفة كان يلهو بها في أحياء بنت جبيل، بلدة والدته.

- «أنا متعب جداً، أكاد أتجمد من البرد» كان بلال يقول للممرض الذي أجابه: «ستذهب إلى غرفتك وترتاح فيها»، غير أن حالته ازدادت سوءًا مع مرور الوقت.

قال السجّان غازي شمعون[2]: بلال السلمان وإبراهيم أبو عزة، جهاد عواضة، فلان، اجمعوا أغراضكم بسرعة وتعالوا معي.

 


[1]  هو العميل عبد النبي بزي الملقّب بالجلبوط وقد قتلته المقاومة الإسلامية بعبوة ناسفة على معبر بيت ياحون في ذكرى يوم القدس بتاريخ ٧/٣/١٩٩٤. (موقع المقاومة الإسلامية في لبنان).

[2]  مسؤول السجانين من بلدة مرجعيون، وهو برتبة ملازم أول في جيش لحد.

 

397


198

مخرِّب 5017

- «أنا متعب جداً يا شرطة» أجابه بلال بصوت متقطع، فقد قضى الليل هو وإبراهيم بين السعال والتقيؤ.

 

 

- قال له مقاطعًا: لا تكثر الكلام وإلا سحبتك أنا إلى الخارج.

إلى ساحة الشمس كان المآل، حيث كانت الهروات والسياط بانتظار أجسامهم. رموا بهم في ممر بالقرب من الحقل الملاصق لساحة الشمس، وصاروا يرمونهم بالماء، ويدوسونهم بأقدامهم كلما مرّوا من هناك.

- «إنو انتوا انتفضتوا وأكلتوا نصيبكم، وشو طلعلكن يعني؟ هالشي معش يتكرر مرة تانية وإلا رح يكون حسابكم عسير» قال عامر فاخوري[1]، مؤنّبًا إياهم على فعلتهم قبل أن يأمر بنقلهم إلى سجن رقم (٢) حيث الداخل مفقود والخارج منه مولود، لينالوا عقابهم الذي يتلاءم وطبيعة الجرم الذي قاموا به، وفق ادّعائه.

وضعوا جهاد في الغرفة رقم (١٧) في حين وضعوا بلال في الغرفة رقم (٢)، أما إبراهيم فقد كان من نصيب الغرفة رقم (١٨).

لم يصدّق جهاد ما رأته عيناه، لم يعرف الأسير السوري عبد الخالق صفي الدين القابع في زاوية الغرفة لشدة ما تعرّض له من ضرب وركل، ما أدّى إلى تشوّيه وجهه إلى حدٍ كبير،

 


[1]  عامر الياس فاخوري، مسؤول الثكنة من بلدة مرجعيون وهو برتبة رائد في جيش لحد.

 

299


199

مخرِّب 5017

وكان عبد الخالق من ضمن الأسرى العشرة الذين انتفضوا في السجن رقم (٣).

كانت ليلة رعناء وصلت فيها حشرجات الأسرى المحتضرين إلى عنان السماء ...

- «يا شرطة بلال تعبان كتير»، علت أصوات الأسرى عند الواحدة من بعد منتصف الليل من داخل الغرفة رقم (٢)، وتكررت لأكثر من مرة، فكان الرّد « اللّه لا يردّو».

«اللّه أكبر... اللّه أكبر... الموت لإسرائيل...» علت أصوات المعتقلين عند الرابعة فجرًا، مندّدة بجرّ السجّان لجثمان الشهيد بلال السلمان خلفه، ارتفعت وتيرة الأصوات، وساء الوضع بين المعتقلين وبين السجانين، وصار أشبه بالجحيم، كان الجميع بحالة غليان، وإذ بصوت جورج باسيل[1] الملقّب بـ«بيدو» يزعق ويشتم، «خدوا يا إخوات الل ...» وما كاد ينهي كلامه حتى تدحرجت قنبلة في رواق السجن رقم (٢) سرعان ما انتشر دخانها، فسارع نزلاء الزنازين إلى الاحتماء وتغطية أنوفهم خوفًا من استنشاق الدخان.

 


[1]  جورج حنا باسيل من بلدة درب السيم، رتبته معاون في جيش لحد، وظيفته سجاناً في معتقل الخيام.

 

 

301


200

مخرِّب 5017

«الكل وجو عالحيط» قال ناجي الحاج، أحد مسؤولي الحرس، فيما كان يفتح الأبواب لإخراج عملاء الزنازين ثم

 

 

المعتقلين إلى الخارج، ولدى وصولهم إلى باحة الشمس كان إبراهيم قد قضى.

ليلتان كانتا من أصعب الليالي التي مرّت على المعتقلين، حيث باتوا ليلتهم في العراء وتسلل البرد إلى أجسامهم المنهكة، إلا أنهم منّوا النفس بالنظر إلى دفء النار التي أوقدها الحارس فوق السور.

وحدها شمس تشرين الصباحية لم تتشح بسواد القنابل الدخانية وراحت ترسل أشعتها الذهبية مخترقة الغيوم، وباعثة فيهم دفئًا كانوا يحتاجونه.

مكثوا النهار بأكمله في باحة الشمس، وكانت المدة الأطول في تاريخ المعتقل التي يبقون فيها خارج جدران الزنازين، باستثناء تلك التي كانوا يعلّقون فيها على العمود.

وقف العميل «جريس بولس»[1] في أعلى باحة الشمس والشرر يتطاير من عينيه قائلاً لهم: «ما فيكن تعملوها إلا ونحنا مش هون، عملوها اليوم وشوفو شو رح يصير فيكم».

 


[1] جريس حنا بولس، جندي من بلدة القليعة، وهو سجّان في معتقل الخيام.

 

303


201

مخرِّب 5017

تنافس مسؤولو وعناصر لحد في معاقبة وتعذيب المعتقلين، حيث أخذت مجموعة «بسام نهرا»[1] المعروفة ببطشها وقسوتها مكانًا لها في العنف والإجرام بعد التحاقها بالخدمة.

 

***

دليفري في المعتقل

«لا يهم إن كان الخبز مغلفًا بالعفونة، المهم أن نحصل عليه!» لسان حال الأسرى مع الجوع، ما إن ينتهي فصل، حتى يبدأ آخر.

على الرغم من الجوع وقلّة الطعام، عمد السجّان «جان أبو خلف» المعروف بجان خليفة إلى رمي أكثر من نصف طبخة «المجدّرة» في «تنكة» لإطعام دجاجاته، الأمر الذي أغضب علي حجازي، فناداه غير أن جان لم يلتفت إليه «أحتاجك في أمر ضروري» رفع علي من حدّة صوته.

- «ما بك؟ لماذا ترفع صوتك هكذا؟» سأله السّجان

- الطعام الذي رميت به لدجاجاتك نحن أحق به، إنه للشباب، أرجعه إلى القدر.

- أقفل فمك، لا علاقة لك بذلك.

- أنت سارق ونصّاب.

- لمن توجّه هذا الكلام ؟ حسابك سيكون عسيرًا.

 


[1] بسام نهرا نهرا، عريف في جيش لحد من بلدة القليعة، وهو سجّان في معتقل الخيام.

 

 

305


202

مخرِّب 5017

- كلامي موجه لك، ولست خائفاً منك.

- «بلّغ مسؤول المحققين بأنني أعلن إضرابي عن الطعام منذ الآن» قال علي للحارس الذي نقله إلى الزنزانة الإفرادية فكان جوابه له» تاكل واللّه عمرك ما تاكل».

رمى السّجان «جان بو خلف» «علي» بثلاثة دلاء من الماء ردًّا منه على ضرب علي على الباب الحديدي بيديه ورفسه برجليه، غير أن فعل السّجان، لم يمنع علي من تكرار تصرفه هذا، ما جعله يرشّه بخرطوم المياه الموصول بمولّد سحب المياه الكهربائي، ما يجعل ضخّ الماء أقوى من وقع السياط.

لم يستسلم «علي»، بل عمد إلى الإمساك بخرطوم المياه الممتد من كوّة الباب الحديدي، ووجّهه باتجاه السّجان، الأمر الذي دعاه إلى إطفاء مولّد سحب المياه الكهربائي، وما إن رمى علي الخرطوم من يده حتى أعاد السّجان الكرّة ثانية ما أدّى إلى إغراق علي والزنزانة بالماء، وجعله يضع فراشه وكيس النوم وثيابه، فوق بعضهم بعض في زاوية الغرفة للجلوس عليهم، ونام بهذه الوضعية ليومين متتاليين، فخارت قواه وانخفض ضغط دمه، وكاد يفقد وعيه ما استدعى نقله إلى المستشفى.

كان الطعام لا يسمن ولا يغني من جوع، حيث يوزع صحن من الطعام لكل ثلاثة أو أربعة أسرى؛ الفطور 

 

307


203

مخرِّب 5017

الصباحي كان عبارة عن نصف ملعقة من اللبنة أو المربى، أو قطعة من الجبن المبستر أو قطعة صغيرة من الحلاوة، وبضع حبات من الزيتون

 

 

موضوعة على قطعة نايلون اقتُطعت من كيس النايلون الذي يوضع فيه الخبز. أما شرب الشاي فعادةً ما يكون جماعياً، ويتم احتساؤه من «طاسة»[1] من البلاستيك يشرب منها كل ثلاثة أو أربعة أسرى، لأن الأكواب المعدنية والزجاجية كانت ممنوعة.

بالنسبة للمياه، فقد كانت كل زنزانة تحصل على إبريق ماء بلاستيكي، يطلبون أحيانًا إبريقين من المياه، حيث يفرغون واحدًا منها في كيس نايلون يعلّقونه على باب الزنزانة.

أما غسل اليدين فكان من النوادر، وذلك كي لا يمتلئ «الكردل»[2] لأنهم لا يسمحون بالتخلص من محتوياته إلا كل يومين.

فالزنزانة هي غرفة نوم ومعيشة ومرحاض؛ ينامون حيث يتناولون طعامهم، وفيها يقضي واحدهم حاجته، وهو ما اعتادوا عليه إذ لا خيار آخر لديهم .

وكما يقولون «كتر الدّق بيفك اللحام» هذا الوضع جعلهم يعترضون ويضربون عن الطعام بسبب فتك الجوع بهم، لدرجة أن بعضهم كان يخبّىء البيضة المسلوقة الأكبر حجمًا خلف ظهره، ومنهم من كان يحرم نفسه من الطعام، ليعطيه لغيره على

 


[1]  وعاء معدني صغير، ممكن أن يكون أيضًا من مادة البلاستيك أو الزجاج.

[2] هو الجردل ويعني السطل أي الدلو.

 

309

 

 


204

مخرِّب 5017

الرغم من أنه وصل لدرجة من الضعف جعلت الآخرين يرون

 

 

أحشاءه لشدّة الضعف، كما حصل مع الأسير أسعد بزي.

أدّت هذه الإضرابات إلى تحسينات جزئية ونسبية، كزيادة كمية الخبز والجبن واللبنة، والتي لم تتعدَ الملعقتين لكل أسير.

استُبدل «التوست» «بالخبز العربي» الذي كان عبارة عن خليط من الطحين والقش والرمال، ومكوّنات أخرى تحدث أصواتاً عند تناولها، وقد أدّت إلى إصابتهم بالقرحة.

وللبيض المسلوق في المعتقل طعمٌ آخر، خاصةً عند تناوله بعد عشرة أيام من إعداده غير آبهين بطعمه ولونه الأخضر المائل إلى السّواد، ولا برائحته السيئة، والذي كان يصيبهم بآلام مبرحة تستدعي أحيانا نقلهم إلى المستشفى. ناهيك عن المعلّبات المنتهية الصلاحية التي لا بديل عنها، مما أدّى إلى إصابة العديد من المعتقلين بالتقيؤ والإسهال وآلام المعدة، حيث كانت تُعالج في المعتقل بأدوية منتهية الصلاحية، على مبدأ «وداوني بالتي كانت هي الداءُ».

لقد وصل بهم المطاف إلى تعرية قطعة الجبن من غلاف ورقة الألمنيوم، عندما علموا بأن الأسرى يستخدمونها للكتابة على بلاط أرض الغرفة.

 

311

 


205

مخرِّب 5017

صار ليوم الأحد طعمٌ آخر لدى المعتقلين، لاعتلاء وجبة الفلافل رأس الهرم في طعام المعتقلين، لأنها أشعرتهم بالشبع للمرة الأولى. وكان كل أسير يحتفظ بالخيارة التي يحصل

 

 

عليها كل يوم ثلاثاء، ليتم تخليلها بالماء والملح في علبة الحلاوة البلاستيكية.

حازت طبخة «المجدّرة الحمرا» على محبّة ورغبة العديد من الأسرى في تناولها، وعندما كانوا يشعرون بالشبع يرسلون ما زاد عن حاجتهم إلى الزنازين الأخرى.

كانت المسافة من غرفة رقم (٦) إلى غرفة رقم (٣) حوالى خمسة عشرمترًا. وكيف يمكن لأسرى الزنزانة (٦) أن يرسلوا الطعام إلى الزنزانة رقم (٤) وليس هناك وسيلة وحيدة سوى الباب؟ وبما أن الباب مقفل فكان ذلك شبه مستحيل، ولكن ليس بالنسبة إليهم! لذا قاموا بصنع طابة من قماش الملابس القديمة والمهترئة، ثم ربطوها «بمغيطة»[1] موصولة بخيط طويل بعد جدله لمرات عدة حتى يصبح قوياً، ويرمونه بقوة من تحت فُتحة الباب ليصل إلى باب الزنزانة الأخرى، حيث يمدّ الأسرى أيديهم من تحت الباب ويقوموا برميه ثانية إلى الزنزانة الرابعة بعد أن يكونوا قد ربطوا كيس الطعام بالخيط ويبدأون بسحبه شيئًا فشيئًا».

«ويحكم، مهما فعلنا معكم وضيّقنا عليكم ستبتدعون طُرقاً، وتنفّذون مبتغاكم، يقولون الجوع أمهر

 


[1] شريط مطاطي، والذي كان يتم استخراجه من «دكّة» بنطلون البيجاما.

 

313


206

مخرِّب 5017

الطبّاخين، وأنا أقول لكم هو أمهر المخططين»، قال السّجان وغادر المكان.

 

 

نمس أو برغوت

نجح الأسرى في ابتداع طرق جديدة في التقنين والاقتصاد، وأول ما بدؤوا العمل به، كان فنًا جديدًا في إطالة عمر السيجارة.

كان كل أسير يحصل على سيجارتين في اليوم تقسّمان إلى أربع قطع يطلقون عليها تسمية «نمس أو برغوت» والنمس كان أصغر حجماً من البرغوت. وتتم عملية التقسيم بواسطة خيط يحصلون عليه من ثيابهم. ثم يجدلونه ويربطونه بباب الزنزانة الحديدي ويشدّونه حتى يقطع السيجارة كالسكين وبشكل مزموم.

إعادة تدخين «عقب» السيجارة وما يسببه من راحة كريهة، كان من أكثر الأمور إزعاجًا ليس لعلي -الشديد التذمّر منها ومن التدخين عمومًا- بل لبعض الأسرى أيضًا، والذي كان يؤدّي إلى العراك فيما بينهم في بعض الأحيان.

توافق الأسرى على خطة تقضي بتوزيع السجائر - التي كان يزوّدهم بها الأهل خلال زيارتهم لهم - بالتساوي فيما بينهم، وتم انتخاب الأسير جهاد عواضة أميناً لصندوق التدخين الذي يحوي مزيجًا من السجائر المتنوعة.

«تدّخين سيجارة» كانت هذه المسألة من أعقد المعادلات التي كانت تُذلّ بعض الأسرى، إن كان 

 

315


207

مخرِّب 5017

من جهة الحصول عليها أو إشعالها، فكانوا يتعرضون في كثير من الأحيان للسُباب

 

 

والشتائم من قِبل السجّانين قبل أن يشعلوها لهم، وهذا ما جعلهم يبتدعون طرقًا تمكّنهم من إشعالها ساعة يريدون من دون مساعدتهم.

انفرجت أسارير الأسير جهاد عندما طلب منه الحارس أن يقوم بتنظيف بعض الأواني بين الحين والآخر وهو ما سمح له بسرقة «تفل القهوة» لإعادة إعدادها مجددًا لزملائه المعتقلين. فكان يستفيد من الوقت الذي يقوم فيه بتنظيف الأواني، بإعادة تسخين القهوة بعد إضافة الماء إلى ما تبقّى منها في قعر «الركوة»، ووضع السّخان الموجود في المطبخ في داخلها، بعد وصل أسلاكه بأسلاك «سخّان المياه» من دون أن يثير انتباه الحرّاس، والتي كانت تجهز خلال ثوانٍ معدودة. ولأجل ذلك قام جهاد، بفك «اللمبة» وحفّ «السيفة» التي أخذها من المطبخ وخبّأها «بالضوية» حتى تشتعل، كي يتمكن المدخنون من إشعال سجائرهم ساعة يريدون من دون التذلل إلى عملاء لحد، وعندما تشعل سيجارة واحدة، ذلك يعني إشعال كل سجائر الأسرى المدخنين في المعتقل عبر الفتحات الموجودة في أعلى جدار الفاصل بين زنزانة وأخرى.

أضْفت هذه الحيلة شعورًا بالاسترخاء والنشوة عند المدخنين «إذ إن تناول فنجان قهوة مع سيجارة» كان كفيلاً بجعل الأسير يحلق بعيدًا خارج أسوار المعتقل.

 

317


208

مخرِّب 5017

السجن الجديد

كان قد مضى على دخول علي إلى المعتقل أكثر من سنة ونصف السنة، عندما علم من أحد الأسرى- الذين أدخلوا إلى مستشفى مرجعيون- بأن زوجته قد أفرج عنها في اليوم الخامس عشر لاعتقالها، ما جعله يطلق العنان لتمرّده ورفضه لممارسات السجانين التي كان يتعرض لها، ويسكت عنها خوفًا على زوجته. أما وقد عرف بأنها خارج المعتقل فقد بات بإمكانه «ردّ الصاع صاعين».

استُدعي علي إلى غرفة رئيس المحققين المدعو «جان حمصي» لكثرة تمرّده ومشاكساته.

- ما بك يا أبا فادي؟ هوّن عليك، ولا تتعامل معي بهذه القسوة فنحن أبناء منطقة واحدة.

- من أين لك أن تعرفني؟

- وكيف لي أن لا أعرفك ونحن أبناء منطقة واحدة، لا فرق بين ابن بلدة برج الملوك وابن بلدة دبّين، يا أبا فادي.

- أُدعى أبو نبيل.

- «أعلم أن أبا نبيل هو اسمك العسكري». قال له علي تأكيدًا على زعمه بمعرفته.

- لماذا تفتعل المشاكل يا علي؟

 

318


209

مخرِّب 5017

- من يعتدي عليّ سأردّ بالمثل، هذا كل ما في الأمر، هي كلمة أرجو أن تسمعها وافعل من بعدها ما شئت، بإمكانك قتلي ولست خائفًا، وها أنا أعلنها أمامك وبالفم الملآن «كيف تعاملني هنا سأتعامل معك خارج أسوار المعتقل، ولو بعد عشرين سنة. ليكن في معلومك أنا أعرف كل شيء عن أسرتك حتى حركة تنقّلهم.

- «وإن عاملتك بشكل جيد، هل ستبادلني بالمثل؟» سأله أبو نبيل.

- بشكل مؤكّد.

- وإن لم أفعل؟

- «جوابي واضح لا يحتمل التأويل»، أجابه علي بشكل حازم.

- ألا تعتقد بأنك متفائلٌ جدًا، بالتأكيد ستموت هنا ولن يسأل عنك أحد.

- «إنني متيقن من أن حزب اللّه سيسعى لإطلاق سراحي».

- «قفل فمك، ولا تزد حرفًا قبل أن أجعل وجهك يسبح بالدماء، اذهب الآن وكفّ عن افتعال المشاكل، ولا أريد أن أسمع أية شكوى عنك.

 

320


210

مخرِّب 5017

- قبل أن أغادر لي طلبٌ واحد، أريد العودة إلى الغرفة رقم (٦) في السجن الرابع.

- لكن إياك أن تقوم بأية مشاكل أخرى.

- «ادعُ اللّه أن لا يعتدي عليَّ أحد»، قال علي وهو يغادر غرفة التحقيق.

«علي حجازي وضّب أغراضك ستنتقل إلى السجن الرابع»، كان وقع هذه الكلمات أشبه برميه بدلو مياه باردة بعد يوم حار. ها قد نال مراده بالعودة مجددًا إلى السجن الرابع بعدما حصل على نصيبه من التعذيب في السجن رقم(٢).

يتيمة في الساحة

نصف ساعة كانت المدة القصوى التي يخرج فيها المعتقلون إلى ساحة الشمس ذات الجدران المرتفعة، التي تصل حتى أربعة أمتار، حاجبة عنهم رؤية كل ما يحيط بالمعتقل.

كان التحدث فيما بينهم يتم خلسة، لأن الحارس المراقب يحتّم عليهم ذلك خوفًا من تخطيطهم لأمر ما.

«جلست القرفصاء مسندًا ظهري إلى نتوءات الحائط الصخري، نظرت إليها بعينين نصف مفتوحتين، كانت جميلة كعادتها تتمايل برفق ودلال مع نسمات 

 

321


211

مخرِّب 5017

هواء ربيعي، قمت من مكاني مقتربًا منها مسحت على رأسها علّني ألتمس ربيعًا

 

 

ضل ّ طريقه والتجأ إليها! إنها كما هي، ما زالت على حالها لم يطلها التغيير. كانت متلهّفة للقائي كعيوني النهمة. أفرحتني رؤيتها تكبر أمام ناظري... تنامى في أعماقي شعور بالحنين إلى مرتع طفولتي المتنقلة بين حقول دبّين وبساتينها... تشبهني إلى حدٍّ بعيد، تحدّت السجن الإسمنتي وخرجت مشرئبة... انحنت للرياح، لكنها لم تنكسر... شهدت عذاباتنا... آهاتنا... أنّاتنا... لكن رغبتها في البقاء كانت أقوى... دماؤنا، دموعنا كانت ماء حياتها ... إنها خليلتي، إنها عشبتي الخضراء يتيمة في زاوية ساحة الشمس!»

«عليكم التوقف عن المشي» أعادته كلمات الحارس الواقف على السطح الذي يشرف على الساحة إلى حيث هو.

- «هاااي وقاف متل ما إنت من دون أي حركة» كرر الحارس.

- «شو باك؟» سأل علي الحارس إبراهيم داغر وهو يرمقه بطرف عينيه.

- «عم قلك وقاف متل رفقاتك عالحيط».

- «بدّي حرّك جسمي» أجابه وهو يمشي وينظر إلى ظل الشبك الحديدي الذي يغطي سقف ساحة الشمس والمنعكس على الأرض، وعندما لم يمتثل لأوامره لقّم سلاحه ووجّهه ناحيته.

 

 

323


212

مخرِّب 5017

- «هيدا للي بإيدك دعوسناه من زمان تحت جرينا، كبّو من إيدك وتطلع فيي، وإذا زلمي قوّص» قال له علي وهو يشق قميصه كاشفًا عن صدره.

- «كل واحد ع غرفته ما بدي شوف حدا منكن» صاح مسؤول نوبة الحرس- الذي كان يراقب ما يجري- في وجه الأسرى الستين الذين كانوا يتواجدون في الساحة[1].

- «شو للي صار بينك وبينه؟»، سأل أبو نبيل علي حجازي بعدما استدعاه إلى غرفة التحقيق، والذي أخبره بكل ما دار بينهما، وطلب إليه استدعاء رئيس نوبة الحرس لأنه كان شاهدًا على كل التفاصيل.

- «يا شرطة.. يا شرطة.. لا ندري ماذا حصل لعلي حجازي» صرخ أحد الأسرى.

خيبة أمل

أُدخل علي إلى المستشفى بعد إضرابه عن تناول الطعام وشرب المياه مدة ثلاثة أيام حتى خارت قواه، فتم نقله إلى المستشفى.

انتظر السجّان الأرمني الذي رافق علي من معتقل الخيام

 

 


[1]  التي لا تتعدى مساحتها الخمسة أمتار طولا، وخمسة أمتار عرضًا.

 

325


213

مخرِّب 5017

عند باب الغرفة، وما إن دخلها حتى عاجله وقيّد ساقه بطرف السرير.

- «إن احتجت إلى شيء الجرس إلى جانبك» قال وهو يوصد الباب.

- «ما أهبل منك إلا للي حطّك هون كلبجتلي إجري الاصطناعية» همس علي ضاحكًا، ثم نزع ساقه برفق، وقفز من على السرير حتى وصل إلى «المغسلة» ارتعب وشعر بغربة عن نفسه، إنها المرّة الأولى التي ينظر فيها إلى نفسه في المرآة بعد سنوات، وجهه منتفخ وشعره أشعث منسدلٌ حتى أعلى كتفيه.

جُنَّ جنون الحارس عندما فتح الباب ووجد السرير خاليًا «ليش ما خبرتني إنك مركّب طرف صناعي؟»

«ليش بدّي خبّرك؟!»، أجابه علي.

في المرات السابقة التي غادر فيها المستشفى كان يشعر بالضيق لأنه يعرف جيدًا ما ينتظره في المعتقل، غير أن هذه المرة كانت المرارة أكبر، إذ إنه حاول الهرب عندما اكتشف وجود زقاق صغير من خلف النافذة الموجودة في أعلى حائط المرحاض، بدأ بكسر القضيب الحديدي الأول، ولوى الثاني، لكنه لم يعرف إذا كان باستطاعته المرور من خلال هذا الزقاق، فما كان منه إلا أن نزع المرآة من فوق «المغسلة» ليجد الزقاق

 

 

327


214

مخرِّب 5017

واسعًا، غير أنه لم يفلح في كسر القضيب الثالث فأعرض عن الهروب وانتهى حلمه بخيبة أمل.

غادر المستشفى وفي جعبته أخبار التقطها من هنا وهناك، وصحيفة استطاع الحصول عليها، بالإضافة إلى علبة «بيتي فور»، وعلبة من إبر الخياطة.

«علي! قف حيث أنت، ما هذا الذي تحمله بيدك ؟» صرخ الحارس في وجهه عند وصوله إلى المعتقل.

- «علبة بيتي فور» أجابه علي.

- من أين حصلت عليها؟

وما كاد يخبره بأن الراهبة أعطته إياها في المستشفى، حتى بدأ يكيل السُباب والشتائم له وللراهبة ولدعمها له.

- «بإمكانك أخذهم إن كنت تريد ولا داعي لهذا الصراخ» قال له علي.

- أقفل فمك واخلع نعليك، والطرف الصناعي أيضًا، وراح يفتشه تفتيشًا دقيقًا.

- «يا إلهي!! هل يمكن أن يكون قد وشى بي أحد ما؟!»

 

 

329


215

مخرِّب 5017

- قال في قرارة نفسه وهو يراقب السجّان يفتش «ضبان» الحذاء الذي خبّأ تحته سكينًا صنعها من حديدة موجودة

 

 

في أسفل الحذاء، وسننّها حتى صارت حادّة تمهيدًا لاستخدامها، «يارب أعمِ عيونهم عني».

وزّع علي قطع حلوى «البيتي فور» على زملائه، بالإضافة إلى إبر الخياطة -التي كان قد خبّأها في جوانب الساق- بعد أن لفَّ كل إبرة بمنديل ورقي ورماها إلى الزنزانة المجاورة، ومنها إلى زنزانة أخرى، وهكذا دواليك، حتى تمكّن من توزيع عشر إبر على عشرة زنازين. وكان علي قد حاول جاهدًا حلّ مشكلة الحصول على إبرة خياطة»صنعوا الإبرة في لبنان من دون معرفة كيف يثقبونها، أنا اليوم سأعلمكم كيف يكون ذلك!» بهذه الكلمات بدأ علي مهمته في صناعة إبرة الخياطة.

تنوعت وتعدّدت المصادر التي جيّرها المعتقلون لصناعة إبرة الخياطة. في البداية كانت شريطة ربطة الخبز، التي يزيلون عنها غلافها البلاستيكي، ثم يجدلونها بعد طيّها بشكل متساوٍ، وكانوا يتركون في آخر الطيّة ثقبًا صغيرًا يدخلون فيه الخيط الذي كانوا يحصلون عليه من مصادر محتلفة، إما من الجوارب أو الكنزات القطنية أو الصوفية التي كانوا يفككون خيطانها، ويستخدمونها في استعمالات متنوعة.

أما تقطيب الزرّ الواحد فكان يأخذ قرابة النصف ساعة من الوقت، مما جعل «عليًّا» يأخذ على عاتقه صناعة إبرة جديدة تسّهل عملية الخياطة اليدوية للثياب.

 

 

331


216

مخرِّب 5017

وقع اختياره على القطعة النُحاسية التي تنتهي بها سحّابة

 

 

المعطف الشتوي «الفيلد»، ومسمار صغير كان قد خبّأه من ساحة الشمس كان موضوعاً في قطعة بلاستيكية تُستعمل لتثبيت الشريط الكهربائي بالحائط.

لفّ القطعة النُحاسية بخرقة قماش صغيرة، وبدأ بضغط المسمار على قطعة النحاس لمدة تراوحت بين الساعتين إلى ثلاث ساعات حتى تمكّن من ثقب طرفها بثقب يوازي رأس المسمار الصغير. بعد ذلك حفّها بالحائط حتى بدأت تتآكل وتذوب شيئاً فشيئاً، وأخذت شكل الإبرة، ولكنها كانت ما تزال خشنة، لذلك قام بحفّها على بلاط الغرفة حتى أخذت شكلها النهائي

لقاءٌ عاصف

اقتحمت سياط البرق ظُلمة الزنزانة الدامسة بسبب انقطاع الكهرباء عن كل المعتقل، واخترقت زمجرة رعد كانون سكون الليل.

الطقس عاصفٌ، الثلج يتساقط بكثافة لم تشهدها منطقة الجنوب منذ سنوات، الصقيع عطّل كل مقومات الحياة في المعتقل، لا ماء، لا كهرباء، لا طعام، لا تدفئة. تحوّل البرد في ذلك اليوم إلى دكتاتور، لا بل إلى طاغية، وقال كلمته الفصل التي أقعدت المعتقلين والسجانين على السواء، بعد أن شلّت أطرافهم ومنعتهم من الحراك.

 

333


217

مخرِّب 5017

نظر أحد المعتقلين من نافذة زنزانة السجن الرابع، الذي يطل طرفها الأيسر على ساحة الشمس والتي تحولت إلى ساحة الثلج. نادى الشرطة، غير أن ارتد صوته إليه، لا يوجد أحدٌ في الخارج، تعطلت الحركة، وخلا المعتقل من الأصوات.

انتظروا طعام وجبة الفطور، إلا أنه لم يحضر في ذلك اليوم... انتظروا إشعال الصوبيا في الممر الفاصل بين الزنازين... لكن المازوت سرقه عناصر لحد.

«يا شرطة.. بإمكاني إصلاح الكهرباء وإعادة التيار إلى المعتقل، لكنني بحاجة إلى حذاء يقيني من الثلج» قال الأسير جهاد للسّجان طالبًا إليه أن يساعده في ذلك شقيقه الأسير عماد.

السّجان رفض في البداية لكنه عاد ورضخ رغمًا عنه، فالكهرباء مقطوعة عن الأسرى والسّجانين. وقف الأسير عماد حائرًا في ما يفعله عندما رأى أخاه أمامه للمرة الأولى منذ ست سنوات، عانقه وقبّله، وبدأ في مهمته في محاولة منه لإعادة التيار الكهربائي إلى المعتقل.

كانت المهمة خطيرة وصعبة، تسلّق عمود الكهرباء الحديدي الذي كان مكسوًا بثلج تحول إلى جليد نتيجة الهواء القارص الذي اجتاح المكان. وصل جهاد إلى وسط العمود وتجمّدت يداه ورجلاه، حار في 

 

 

335


218

مخرِّب 5017

ما يفعل، خانته رجلاه ولم تطيعه في التحرك من مكانهما.

 

 

- «انزل الآن» قال له السّجان.

- «ما بك تنق مثل الضفادع ألا تخجل من نفسك؟! انقبر طلاع عالعمود» ردَّ جهاد على السّجان، فما كان منه إلا أن وضع سلاحه جانبًا وتسلق العمود ولكنه توقف في وسطه وعاود النزول.

تابع جهاد عمله وأزال الثلج عن أسلاك الكهرباء وبدأ العمل عليها لمدة ثلاث ساعات. تمكّن من بعدها إعادة الحياة إلى التيار الكهربائي، لكن بعد أن ماتت الحياة في قدميه.

***

ساعة المعتقل

كان لمعاناة الأسرى في معرفة الوقت وبشكل خاص في شهر رمضان عند الإمساك، حين كان الحارس يكذب عليهم ويوهمهم بأن الساعة قد قاربت الرابعة فجراً، فيما تكون الساعة الثانية، ما كان يجعلهم يتنظرون الآذان لساعتين بعد أن يكونوا قد امتنعوا في كل مرة عن تناول الطعام وشرب الماء قبل ساعتين من الإمساك. هذا الأمر جعلهم يفكّرون في اختراع ساعة.

«سوف آتي في الصباح عندما ينتهي كيس المصل» قال الممرض لرفاق الأسير في المعتقل 

 

 

337


219

مخرِّب 5017

وخرج، كانت الساعة قد تخطت الحادية عشرة ليلاً، وكان أحد المعتقلين قد أوهم

 

 

الحرّاس بأنه يعاني من ألم شديد في كليتيه، كي يتمكنوا من الحصول على كيس المصل الذي قام أحدهم بإبطاء جريانه حتى انتهاء نوبة الممرض ومغادرته المعتقل، وقد نجحوا في ذلك.

نجحوا في الخطوة الأولى، وبدؤوا في تنفيذ الثانية، حيث قاموا بملء الكيس بالماء، وعيّرو كم نقطة ينزل في الثانية، وصاروا يحسبون الوقت على هذا الأساس، وبعد أن يسألوا الشرطي عن الوقت، كلما قام بجولة بين الزنازين، ولكن هذه الساعة لم يتخط نجاحها السبعين بالمئة، مما جعلهم يفكّرون جديّاّ في الحصول على ساعة وقد نجحوا في ذلك غير أنهم أبقوا الأمر سرّاً.

***

عشرون دولارًا

ما الذي تخفيه في يدك، سأل علي زميله الأسير «سمير قاسم».

- عشرون دولارًا وجدتها في جيب بنطالي، سأمزّقها على الفور، حتى لا تسبب المعرفة بشأنها أية متاعب.

- اعطيني إياها، وإياك أن تفعل ذلك!!

- ما الذي ستفعله؟

 

 

339

 


220

مخرِّب 5017

- لا عليك، ألا تريد تمزيقها؟

خرج علي من المرحاض ونادى أبا يوسف الحارس الخمسيني، وأعطاه العشرين دولاراً، «هذه هدية مني لابنك»

- سأله أبو يوسف،» ما الذي تريده مقابل ذلك؟

- لقد وجدتها في جيبي، ولا أحتاجها هنا، هذا كل ما في الأمر.

مضت خمسة أيام قبل أن يرى علي أبا يوسف في ساحة الشمس ليسأله أن كان هناك من أخبار جديدة.

ضحك أبو يوسف، وقال له: « لقد تحرّيت عن الوضع لتيقّني بأنك ستسألني. «هنالك كلام بأن دفعة من المعتقلين سيفرج عنها عمّا قريب».

 

 

زيارة الأمين

سارعت سناء في النزول من سيارتها بعد أن ركنتها بالقرب من مدخل منزلها، حين رأت عددًا من الناس قادمين باتجاهها لإخبارها بأن أمين عام حزب اللّه، السيد عباس الموسوي جاء لزيارتها مع أفراد عائلته، غير أنهم لم يجدوا أحدًا في المنزل.

وصلت إلى باب منزلها لتجد ثلاثة صناديق كبيرة تحتوي على ثياب وألعاب جديدة، وبعض المواد الغذائية، بالإضافة

 

341


221

مخرِّب 5017

إلى قالب من الحلوى بمناسبة ذكرى ولادة الإمام المهدي.

طرقات متتالية على الباب في اليوم التالي قطعت عليهم فرحتهم بتناول ماتبقى من قالب الحلوى من يوم أمس.

فتحت سناء الباب لتجد دموع جيرانها تسبقهم في الدخول إلى منزلها. هالها ما رأت!

يا إلهي، ما الذي يبكيم؟ أهناك خطبٌ ما!؟

ران عليها الصمت لهول ما سمعته، كمن استفاق بغتةً من سُبات عميق. وأجهش الجميع بالبكاء وعلا نحيب البعض الآخر.

كان وقع الخبر صاعقًا، لقد استشهد السيد عباس وزوجته وطفلهما الأصغر!

سرى شحوب شمس الثالث عشر من شعبان على وجه سناء، وتغلّبت برودة جسدها على صقيع السادس عشر من شباط، ولاحت عليها علامات الحزن والأسى، كيف لا ومن زاروها البارحة أضحوا اليوم شهداء!

 

***

342

 


222

مخرِّب 5017

مهرها دمٌ

غالياً كان الثمن الذي دفعه المعتقلون

قهرًا، عذابًا، دماءً وشهداء... من الحاج أحمد ترمس الرجل السبعيني الذي مات بسبب توقف قلبه من البرد والصقيع، بعد استحمامه بالماء البارد في «عز الشتوية»، مرورًا بـ «حسام حمزة» ابن بلدة الجميجمة، الذي تجمّد من البرد والصقيع، بعد تعليقه لليلة كاملة على العمود... وصولاً إلى «هيثم دباجة»، الشاب الثلاثيني «نحلة المعتقل» كما كانوا يسمّونه، الذي مات إثر تعرّضه لذبحة قلبية وتقاعصت إدارة المعتقل في نقله إلى المستشفى.

بـبركات استشهادهم التقى الأسرى بالأهل والأولاد، وبفضلهم تحسّنت كمية ونوعية الطعام، حيث عانوا الأمرّين مذ زُجَّ بهم في المعتقل من فساد الطعام وقلّته، ما أدّى إلى

 

344


223

مخرِّب 5017

ابتلاء معظمهم بأمراض مزمنة، من تقرّح المعدة، إلى فقر الدم الحادّ.

بـقيامهم بالإضرابات والاعتصامات والانتفاضات التي أودت بحياة بعض الأسرى، كما حصل مع الشهيدين بلال السلمان وابرهيم أبو عزّة.

الصيام في المعتقل

«كم أن طعمها لذيذ! إنه يشبه طعم ذلك السندويش إلى حدٍ بعيد، على الرغم من اختلاف مكوّناته، ومكان وزمان تحضيره»، قال علي وهو يتناول قطعة من حلوى مقرمشة أعدّها وحازت على إعجاب من في الزنزانة، وهي عبارة عن رغيف خبز ومربّى قطّعه إلى قطع صغيرة بعد لفّه كالسندويش، ووضعه على الشبك الحديدي الموجود في أعلى الزنزانة، وتركه يجفّ إلى أن أصبح مقرمشًا- استكمل علي حديثه: كنت ورفاقي عندما يفتك بنا الجوع نتفنن في صنع طعامنا، الذي كان عبارة عن حبّة باذنجان محشوّة بتوت العليق!! لم نكن نوفر شيئاً، نلهو ... نقطف... نأكل... نفعل كل ما يحلو لنا...».

كان لصوم شهر رمضان نكهة خاصة، على الرغم من الجوع والحرمان، من قلّة الطعام وعدم صلاحيته في كثير من الأحيان! إذ كانوا يحتفظون بوجبة الفطور إلى السحور ويجمعون طعام

 

 

345


224

مخرِّب 5017

الغداء والعشاء ليأكلوه عند الإفطار غير آبهين بطعمه المائل إلى الحموضة نتيجة الحرارة المرتفعة. ناهيك عن طبق «الفتوش» الذي كان عبارة عن حبتين من البندورة وخيارة واحدة، ورشة ملح مع ثلاثة أرغفة من الخبز اليابس.

كان تحضير كوب من الشاي يستدعي التخطيط والإعداد المسبق له؛ من سبيرتو، إلى علبة مربّى فارغة، وخيط متين، تبدأ الخطوة الأولى بثقب العلبة، ومن ثم إدخال الخيط بين الثقبين وإشعاله بعد تبليله بالسبيرتو، لتأتي الخطوة الأخيرة، وهي تسخين كوب الشاي المبتكر- وهو عبارة عن تنكة فول فارغة تم إخفاؤها في القعر الخارجي « للكردل».

راديو في الزنزانة

تزامن عمل امرأة من منطقة شرقي صيدا في مطبخ المعتقل مع وصول الأخبار إلى المعتقلين بشكل شبه يومي ما أدّى إلى توطد علاقتهم بها، الأمر الذي جعل المعتقل «محمد ضاوي» من بلدة الخيام يطلب منها إحضار راديو صغير، ما أشعرها بالخوف في بداية الأمر، لكنها عادت وأحضرته في اليوم التالي.

قام المعتقلون بإفراغ الحائط خلف «دلو الفضلات» بقطعة حديد صغيرة كانت بحوزتهم، وهو المكان الوحيد الذي لم يخطر على بال السّجان بأن يفتشّه، ثم قصّوا قطعة من الكرتون

 

347


225

مخرِّب 5017

غطّوا بها الفتحة بعد أن غلفّوها بالصابون المذوّب بقليل من الماء، حتى يصبح لونها قريبًا بعض الشيء من لون الحائط.

تناقلت الأخبار تباعًا بين زنزانة وأخرى، إلى أن علم الحارس بأمرالراديو من أحد عملاء الزنزانة، ما أدّى إلى فصل المرأة من عملها، وتمت معاقبة كل من كان في الزنزانة، بالإضافة إلى إعفاء المعتقلين المولجين بمهمة الكلفة في المطبخ من مهامهم.

فخ العباس

كان النصف الأول من عام ١٩٩٧، هادئاً وروتينياً في المعتقل، أكل، شرب، نام، باستثناء خبرٍ صغيرٍ من هنا، ومعلومة هزيلة من هناك، تصلهم من خلال زيارات الأهل لهم.

حملت الليلة الفاصلة- بين الرابع والخامس من شهر أيلول من السنة نفسها- خبرًا مصدره «وحدة شيطت (١٣) نخبة النخبة، ودرّة التاج الإسرائيلية» التي أنشئت عام ١٩٦٧، التي حوّلها « فخ العباس» الذي نصبه حزب اللّه إلى كارثة باعتراف العدوّ الإسرائيلي، والتي استدعت إقامة مقرّين قياديين: الأول كان يجمع وزير الدفاع «اسحاق موردخاي» ورئيس الأركان «أمنون شاحاك» بالإضافة إلى قائد سلاح البحرية الجنرال «أليكس طال»، أما المقرّ الثاني فقد ضمَّ قائد مجموعات النخبة «يوسف كوركين» وضباط آخرين

 

349


226

مخرِّب 5017

كانوا على اتصال بالقوة بشكل مباشر وكانت تتألف من ستة عشر جندياً[1].

في تمام الدقيقة الحادية والأربعين من بعد منتصف ليل الخميس، وما إن داست قدم أول جندي من فرقة الكوماندوس البحرية، خراج بلدة أنصارية حتى تطاير في الهواء وتتالت بعدها الانفجارات.

«إثنا عشر أسيرًا في قبضة حزب اللّه»، خبرٌ جعل الأسرى يحلّقون خارج سرب المعتقل، ومنهم من تيقّن بأنه سيُطلق سراحهم جميعًا، أو سيؤدّي ذلك إلى احتلال يصل حتى بيروت.

انجلت الأمور وتبيّن بأن ما لدى المقاومة هو مجرّد أشلاء إسرائيلية! ذلك الأمر وإن خيّب آمال بعض الأسرى، إلا أنه لم ينتقص من أملهم بالحرية.

«خمسة وثلاثون أسيرًا سيكونون خارج أسوار المعتقل، وربما يكون اسمك من بين الأسماء المدرجة، لأن حزب اللّه شدّد وطالب بإطلاق سراح كل معتقليه». نقل السّجان لعلي ما ذكرته الصحف اللبنانية.

أملٌ ظن «علي» بأنه سيروي صحراء أيامه القاحلة، لكن سرعان ما تبدّد، عندما لم يعثر على اسمه في الصحيفة من

 

 


[1]  فخ العباس أسرار وحقائق عملية أنصارية.

 

 

351


227

مخرِّب 5017

بين أسماء الأسرى الذين سيُطلق سراحهم، وما إن انتهى السجّان من تعداد أسماء الأسرى الستة عشر الذين سيُطلق سراحهم، حتى أعاد علي كل الأغراض والرسائل التي أخذها من زملائه.

«طلعت براسك وراحت عليك يا معتر،ّ حزب اللّه نسيك وحتموت هون» عبارة لطالما رددها عملاء لحد على مسمع «علي»، عند كل عملية إفراج عن دُفعة من المعتقلين.

- «حزب اللّه ما بينساني، ومهما طال الزمن رح إطلع من هون... بعد عشرين... بعد خمس وعشرين سنة... بنهاية المطاف رح فلّ من هون».

- « طيب، لنفرض أطلقوا سراحك بيوم من الإيام، شو رح تعمل إذا التقيت فيي ؟» سأله السّجان.

- «بربطك بصخرة وبرميك بالنهر وبتركك تغرق عرواق» أجابه علي.

أصاب هذا الخبر «علي» بخيبة أمل، شعر وكأن كل الأبواب قد صُدّت في وجهه، فهو لم يرَ أحدًا من أفراد عائلته منذ تسعة أشهر خلت، مذ توقفت المقابلات أثناء المفاوضات التي جرت بين حزب اللّه وإسرائيل عبر الوسيط الألماني، والقاضية بمبادلة أشلاء عملية أنصارية بالأسرى.

 

353

 


228

مخرِّب 5017

المشاركة في الاعتصامات

وظّفت سناء كلّ ما من شأنه أن يساهم في إطلاق سراح زوجها، فهي لم تنقطع عن المشاركة في الاعتصامات يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، كما شاركت في كل اللقاءات والمؤتمرات الصحفية التي كانت تُعقد، وتواصلت مع الأسيرين المحررين «محمد صفا» و«محمد ياسين»، اللذين جمعاها في أكثر من مرة مع وفود من جنيف، لإطلاعهم على معاناة زوجها ووضعه الصحي المتردّي.

سنوات عشر... ووحش الانتظار ينهش روحها، يقضم جسدها وجعًا وألمًا ومسؤولية تزداد وتكبر يومًا بعد يوم، لكن لم ينل من عزيمتها ومثابرتها على حضور ومتابعة كلّ ما من شأنه أن يسهم في فك أسره.

***

 

354


229

مخرِّب 5017

حلمٌ تحقق

 

- «لن أدعهم يرسلون التقرير إلى مستعمرة المطلّة سأحمله إلى تل أبيب، وستخرج من هنا أعدك بذلك» قال طبيب الصليب الأحمر الدولي البريطاني» جون غوت» لعلي، ماسحًا بيده على ذقنه تأكيدًا على كلامه.

- «فليصل كلامك إلى السماء، المهم أن أخرج من هنا» أجابه علي.

 

***

قلّب علي صفحات المصحف بين يديه بعد أن أنهى ورفاقه قراءة دعاء الافتتاح بصوتٍ خافت، كي لا يلفتوا انتباه السّجان الذي كان يفاجئهم بتجواله في الرواق الفاصل بين الزنازين،

 

 

356

 


230

مخرِّب 5017

بين الفينة والأخرى، ثم توقّف عن متابعة ما كان يلهج به قلبه قبل أن يلفظه لسانه، وأجهش في بكاءٍ حجب عنه رؤية كل ما يحيط به.

«قرأت دعاء الجوشن كما لم أقرأه في حياتي، إنها المرة الأولى التي شعرت فيها بهذا الخشوع! لم أعلم أنني غفوت، لولا ذلك الشخص الذي وكزني وأيقظني من نومي. فتحت عينيَّ لأجده واقفًا أمامي تحيط به هالة من نور»[1].

- مين إنت؟ كان هذا ما استطعت التلفظ به.

- «أنا الإمام علي» كلماتٍ جعلت السرير يهتز من تحتي.

- دخيك يا إمامي! دخيلك يا إمام علي! لا أريد إلا الإفراج! أريد الحرية!

- ستخرج في أقرب وقت.

«أأأأأ ... ثقُل لساني، وتسمّرت في فراشي، كنت على وشك أن ألفظ أنفاسي، ارتفعت ضربات قلبي لدرجة ظننتها ستوقظ كل من في الغرفة، ثوانٍ وغططت في نومٍ عميق»[2].

 

 


[1] الأسير علي حجازي.

[2] الأسير علي حجازي.

 

 

357


231

مخرِّب 5017

«وصّوني سأرحل قريبًا من هنا» قال علي لرفاقه فور استيقاظه صباح اليوم التالي.

 

 

- «ولك إنت رح تكنّس الحبس! شو بيطلّعك من هون، وفي برقبتك ٢٦ إسرائيلي!» كان ردّ بعض رفاق علي، عندما أخبرهم بما حصل معه ليل أمس.

- «من يسمع اسمه فليوضّب أغراضه»، قال أبو يوسف عند دخوله الزنزانة، حاسمًا الجدال بين علي ورفاقه.

- «هلاَّ سمحت لي بكلمة» قال علي لأبي يوسف عندما سمعه يذكر اسمه.

- ماذا هناك يا علي؟

- «أعلن إضرابي عن الطعام والشراب منذ هذه اللحظة، لقد مضى على وجودي في هذه الغرفة ثلاث سنوات ونصف، إلى أين ستنقلني الآن؟ عليك أن تخبر أبا نبيل أنه بين خيارين؛ إما أن أبدأ بتنفيذ الإضراب منذ هذه اللحظة، وإما أن يسمح لي بالبقاء في غرفتي!»

- اجمع أغراضك، ستعود إلى البيت.

- «أرى أنك تستهزئ بي، أنا لست ولدًا صغيرًا حتى تكلمني بهذه الطريقة!!» أجابه علي.

- «وضبّ أغراضك، ستعود إلى البيت» أعادها أبو يوسف ثانيةً على مسمع علي.

 

360

 


232

مخرِّب 5017

- كيف يكون ذلك، ونحن لا نملك حتى إصبع إسرائيلي كي نبادل به؟!

 

- «وعلى الرغم مما ذكرته، ستخرج من هنا» أجابه أبو يوسف.

أخذ علي نصف أغراضه، وطلب من رفاقه إرسال ما بقي منها إلى الزنزانة التي سيُنقل إليها، ثم خرج من الغرفة من دون أن يودّع أحدًا منهم.

- «لقد ارتحنا منك» قال له أحد السجانين الأربعة الذين كانوا يقفون عند آخر الرواق.

- إلى أي سجن ستنقلونني؟.

- حظك جيد، ستعود إلى البيت.

- أقسم عليك بأمك، وأختك، وبمن تعبد، أنا إلى أين؟

- ألا تسمع يا رجل لقد ارتحنا منك، ستعود إلى منزلك.

ما إن تأكّد علي مما أُبلغ به، حتى رمى ما كان يحمله من أغراضه أرضًا، وركض مسرعًا نحو زنزانته، وهو يقول لرفاقه: «اقتربوا اقتربوا... أطلقوا سراحي... لقد أطلقوا سراحي... أنا عائد إلى منزلي... !»

 

 

360


233

مخرِّب 5017

تحققت الرؤية... وصدق الوعد... وها هو علي ورفاقه الخمسة عشر ينتظرون تحت أشعة الشمس التي بدت وكأنها قد استعانت بأخرى، فأغمض عينيه اللتين ألفتا العتمة، لترويضهما على نورٍ هجرهما منذ عقدٍ من الزمن.

 

- «إذا أبو حسين للي فيه برقبتو ٢٦ إسرائيلي طالع! يعني ما حدا رح يبقى هون، الكل رح يطلع» بهذه الكلمات راح الأسرى الذين وصل إليهم خبر الإفراج عن علي ورفاقه يمنّون أنفسهم بالحرّية.

غادر عناصر الأمن المعتقل برفقة الأسرى المفرج عنهم من أبناء بلداتهم. فيما تقدّم سجّان من بلدة الخيام من علي يُلقّب «بالزرزور» قائلاً له: « قالوا اسمك عن طريق الخطأ ستعود إلى الزنزانة».

- «لا إنت ولا لحد الذي تتبعه بإمكانه أن يُعيدني إلى الزنزانة إلا محمّلاً على الأكتاف، سأخرج من هنا وقدمي فوق رأسك « أجابه علي بنبرة عالية.

- أراك وقد استقويت الآن؟!.

- إنت تعرف أنني قوي، مذ أن زُجَّ بي في المعتقل.

- «أشهد أنك كذلك» قال الزرزور وهو يبصم بأصبعه تأكيداً على كلامه.

 

361


234

مخرِّب 5017

- «الإيام قادمة، وإن شاء اللّه سأطيّر رؤوسكم جميعًا».

توجه علي لاستلام أغراضه من صندوق الأمانات، التي كانت عبارة عن مبلغ خمسين ليرة لبنانية وبعض الفكّة، بالإضافة إلى ساعة يده، «هذا كل ما استلمناه منك منذ عشر سنوات، لم يبقَ إلا أن توقّع هنا»، قال له المحقق.

 

 

362


235

مخرِّب 5017

- «أُوقّع! على ماذا ؟ سأله علي.

- على عدم تنفيذك أي عملية أو عمل ضدنا، لأننا إن أمسكنا بك ثانية، سنقتلك.

- وهل تقتنع إن فعلت ذلك؟.

- «كلامك يدل على أنك ما زلت مصممًا على ذلك!

- بإذن اللّه لن أتوقف... سأقاتلكم بكل الوسائل... وسأبقى ابن حزب اللّه... أعدك ووعد الحرّ دين!

ولادة قيصرية

بين الخميس والإثنين، مرّ عقدٌ من الزمن مذ ساقه المحتل، وها هو علي يخرج من البوابة ذاتها التي دخل منها منذ ٣٧٩٠ يومًا، خرج حاملاً معه جبلاً من الصبر، وعزمًا على متابعة ما بدأ به حتى الرمق الأخير.

نظر بشغف حزين ممزوج بفرح طفا على محياه وهو يتنشّق هواء بلدة الخيام «الآن ولدت من جديد! وها أنا أتنفس هواء الحرية!» قال وهو ينظر إلى كل ما حوله من تراب وعشب وبيوت وأشجار. كان كالأعمى الذي أبصر لتوّه، التهمت عيناه كل ما وقع عليه نظره.

 

 

363


236

مخرِّب 5017

كل شيء قد تغيّر! ازداد العمران، وفُتحت العديد من المحال التجارية على جانبي الطريق، حتى اخضرار حقول شهر كانون

 

 

الثاني كان مستغربًا لديه، كيف لا وهذه الطريق كان قد لفّها السواد عند عبوره إياها معصوب العينين منذ عشر سنوات.

أوصل مسؤول بلدته عباس أبو عباس -الملقّب بـ«كونتي، والذي استلمه عند بوابة المعتقل- علي إلى منزل أهله في دبّين، قائلاً له: «سلّم على أهلك وودّعهم».

توقفت زوجة أبيه عن كنس الشرفة، عندما رأت سيارة تتوقف بالقرب من المنزل، أشاحت بنظرها، ثم عادت وأمعنت النظر في ذاك الرجل البدين، الذي يلوّح لها بيده ويعتمر «قلنسوة سوداء» حاكتها يداه في المعتقل.

ما إن خطت قدما علي أرض شرفة المنزل، حتى راودته ذكريات ذلك اليوم، وقف عند تلك الأريكة يتحسس دموعًا سالت لفراق أسعد منذ سنوات عشر... يسمع صراخ ولده حسين لحظة اعتقاله... يرى دموع والده... وكأن ذلك حدث بالأمس القريب.

- «الحمد للّه على سلامتك يا حبيب قلبي» أعادته كلمات والده إلى حيث هو، فانتبه علي وتقدّم والده معانقًا إياه على عجل، بسبب الحاح العنصر اللحدي الذي أصرّ على المغادرة على الفور.

 

 

365


237

مخرِّب 5017

أوصله إلى خارج المعبر طلب «كونتي» من السائق الذي كان متوقفًا بسيارته قرب حاجز الأمن عند معبر كفرتبنيت.

 

 

- «حمدًا للّه على خروجك سالمًا» أشعرته كلمات السائق الذي أوقف السيارة بالقرب من حاجز مخابرات الجيش اللبناني في بلدة كفرتبنيت، بأنه عاد حرّاً من جديد.

دخل علي إلى مركز مخابرات الجيش بناءً على طلب الضابط الموجود، بعد أن أخبره سائق سيارة الأجرة بأن الشخص الذي معه في السيارة، هو أسير محرر من معتقل الخيام.

- مجددًا حمدًا للّه على سلامتك، ماذا تحب أن تأكل؟» سأله الضابط عندما انتهى علي من إخباره عن سبب دخوله المعتقل.

- «لا يهم كل ما تحضرونه، مشكورون عليه» هذه المرة الأولى التي يتذوق فيها علي سندويشًا من الكفتة منذ أكثر من عشر سنوات.

- «بمن تود أن أتصل؟ حركة أمل ، حزب اللّه، الحزب الشيوعي؟

- «حزب اللّه» أجابه علي.

لم يتوقع علي حضور هذا الحشد من الناس والصحافيين، هذا يعانقه وآخر يقبّله، وذاك يأخذ صورة تذكارية معه. انهالت الأسئلة عليه من كلِّ حدبٍ وصوب، لكنه امتنع عن الإدلاء بأية كلمة، سوى إلقاء التحية من داخل سيارة الهيئة الصحية

 

 

367


238

مخرِّب 5017

الإسلامية، التي انطلقت به إلى مستشفى النبطية الحكومي، لإجراء بعض الفحوصات الطبية له.

***

أعطت سناء شقيق زوجها حسين الرسالة والأغراض التي سيوصلها إلى الصليب الأحمر ليتم إرسالها إلى علي في المعتقل، والتي كان قد طلبها منها في آخر زيارة له منذ اثني عشر يومًا.

عند العاشرة من صباح اليوم نفسه اتصل بها محمد صفا ليخبرها بأن زوجها أُفرج عنه من معتقل الخيام، إلا أنها أقفلت سماعة الهاتف قبل أن ينهي كلامه معها. عاود الاتصال بها فطلب منها الاتصال بإذاعة البشائر للتأكد من الأمر.

«علي حجازي من بلدة عيترون»، هو من بين الأسماء الذين أطلِق سراحهم من معتقل الخيام، تصريح إذاعة البشائر حسم بأن المفرج عنه ليس زوجها، بل هو أسير من بلدة عيترون.

اتصلت بعدها سناء بإذاعة صوت الشعب، وحصلت على الجواب نفسه. عندها رفضت الرّد على أي اتصال آخر، بعدما قطعت الأمل بشكل نهائي.

غادرت المنزل وكأن شيئًا لم يحصل، ذهبت إلى مدرسة أولادها بعد أن أرسلوا في طلبها، لمتابعة بعض الأمور المتعلقة بهم.

 

 

369


239

مخرِّب 5017

عادت سناء إلى منزلها حوالى الساعة الثانية عشرة ظهرًا، دخلت مسرعةً، فصوت رنين الهاتف المتواصل أنبأها بأن هناك شيئًا ما!

«إنه زوجك يا سناء لقد تأكّدنا بأنه هو» جاءها صوت علي برّو شقيق الاستشهادي أسعد عبر الهاتف.

«سناء لا تعاودي إقفال الخط ثانية، إنه هو، وهو في طريقه إلى بيروت». قال لها الأسير المحرر محمد ياسين الذي اتصل بها مباشرةً بعد علي برّو.

لم تكد سناء تقفل سماعة الهاتف، حتى عاد يرّن من جديد، هذه المرة كان شقيقها عادل، «اسمعيني جيدًا يا سناء، سيصل علي إلى قرب مستشفى الرسول الأعظم، فالجميع هناك بانتظاره».

***

استقبلت مدينة صيدا علي بشذا عبير زهر الليمون، الذي راح يتنشق رائحته بشوق حبيب اشتاق إلى حبيبه. كان كل شيء هادئًا من حوله، حتى البحر بسط ذراعيه متهاديًا بزرقته التي نافست زرقة السماء. شعر علي وكأنه في حلم، لم يصدّق ما رأته عيناه!

- «في أي منطقة نحن الآن؟» سأل علي سائق السيارة.

 

371


240

مخرِّب 5017

- في محلة الناعمة، قريبًا سنصل إلى خلدة.

- «لو لم تكن معي لتهت، لقد تغيرت المناطق بشكل كبير» قال علي، فيما كان قلبه يتخبط، وتتسارع نبضاته علّها تسبقه إلى حيث الأحبة في انتظاره.

***

رمت ميرفت حقيبتها المدرسية، وقفزت في مكانها عندما أخبرها جدّها لأمها بأنه أُفرج عن والدها، وأنهم ذاهبون لاستقباله.

وصل أفراد العائلة ليجدوا المكان قد غصّ بالجموع، من سياسيين ونواب، حيث حضر النائبان محمد برجاوي وعبداللّه قصير، وبعض رجال الدين، بالإضافة إلى الأهل والأقارب والإعلاميين، وكلّ من وصل إليه خبر الإفراج.

أعاق تهافت الجموع محاولة ترجّل علي من السيارة، وسط الأصوات المرحّبة، والأناشيد التي كانت تصدح في المكان، فيما تشابكت الأيادي المصافحة، وتلك المعانقة. قبّله أناس كثر منهم من يعرفهم، ومنهم من لا يعرفهم. اختلطت الضحكات بالدموع والزغاريد، وتعانقت الورود مع حبّات الأرز المتساقطة على رؤوس الجموع.

 

 

373


241

مخرِّب 5017

لقاء مع الأمين

«أنا في انتظاره»، قال سماحة الأمين العام لحزب اللّه السيد حسن نصراللّه، عند اتصاله بأحد النوّاب الذين كانوا يشاركون في حفل الاستقبال.

توجه علي إلى مركز شورى حزب اللّه في محلّة حارة حريك، يرافقه الزوجة والأهل والأقارب - «أبو حسين، ما هي الكلمة التي ترغب في توجيهها لإسرائيل؟»سؤالٌ وجّهه له الصحافي «حيدر الغول» - وهو شقيق الأسير حسن الغول- عند وصول علي إلى أسفل مبنى الشورى.

- أجابه علي «بأن إسرائيل لا تفهم إلا لغة المقاومة»

دخل الجميع إلى غرفة كبيرة ولكنها ليست بالقدر الذي يتسع للناس الذين رافقوا عليًا، توزّع قسم منهم على المقاعد الموجودة، وقّلة منهم وقفوا عند الباب الرئيس، فيما جلس علي على كنبة صغيرة تحاذيها أخرى، ويفصل بينهما علم كبير لحزب اللّه.

«لحظات وأطل السيد بوجهه الضحوك، وقف الجميع احترامًا لدخوله، وأنا أولهم اقتربت منه وعانقته بلهفة، ثم أمسكت برأسه بين يدي وطبعت قبلةً على جبينه، وبادلني بأخرى، ثم جلس السيد على الكنبة إلى جانبي حيث توقعت.

 

 

374


242

مخرِّب 5017

- «كيفك حالك يا علي، وكيف صحتك»؟ بهذه الكلمات بدأ السيد حسن كلامه مع علي.

- «نحمد اللّه على كل شيء»،

- «الحمد للّه على السلامة»

- «كيف أفرجوا عني؟»

«طلعتك ربّانية» أجابه السيد، أخّرنا مفاوضات التبادل بأشلاء عملية أنصارية من أجلك أنت وعادل (ترمس) لثلاثة أشهر، بسبب رفض إسرائيل الإفراج عنكم، إلى أن تدخّل الوسيط الألماني، فتمت الموافقة على الإفراج عن عادل فقط».

- «خيرٌ إنشاءاللّه، بعثت برسالة لكم، آمل أن تكون قد وصلت لسماحتكم؟» سأل علي السيد حسن، وكان فحوى الرسالة: «باسمه تعالى، إلى سماحة الأمين العام السيد حسن نصر اللّه، حفظكم اللّه، وأدامكم ذخرًا للأمة. أنا الأسير علي حجازي، أقول لكم: إنني في السجن لست نادمًا على ما قمت به، ولو عاد الزمن سأفعل ما فعلته، ولكن هناك أناس مرضى، وحالتهم صعبة، أرجو أن تعملوا لإخراجهم من المعتقل».

- «وصلتني ورقة صغيرة، واشتغلنا بمضمونها، وكنا نتابع موضوع المعتقلين باستمرار، ونحن نعرف حالة كل واحدٍ من المعتقلين».

 

 

375


243

مخرِّب 5017

«الحمد للّه على خروجك من المعتقل، بقيت صامدًا، وكنت أتابع أخبارك، وعرفت أنك كنت عمودًا من حديد في وجههم» تفاجأ علي بكلام السيد، وتأكد بأنه على علم بكل تفصيل في المعتقل.

- «وسأبقى كذلك، تُقلِّبني بين يديك كيفما تشاء! ومتى أردتني تجدني رهن إشارتك!»، أجابه علي.

الحصاد

تناهى إلى مسمع الأسرى قبل يومين بأن هناك ترتيبات معينة تحصل في المنطقة، تقتضي بعودة الشريط الحدودي إلى ما كان عليه عند إعلان سعد حداد قيام دولة لبنان الحرّ في عام ١٩٧٨.

- «سينقلون الأسرى الذين أمضوا في الأسر أكثر من عشر سنوات إلى المعتقلات الإسرائيلية! وربما نكون نحن الخمسة منهم؟! قال سمير قاسم لرفاقه في الزنزانة، وقال آخر: «لربما سيفرجون عن الذين ليس في رقبتهم دم؟!»

- «عال، هذا خبر جيد! فالمعتقلات هناك مجهّزة ومهيأة، وهي أفضل من المعتقل هنا».

 

377

 


244

مخرِّب 5017

٢٢ أيار- ساحة الشمس

استكمل المعتقلون ذاك الصباح تحليلاتهم، وفق بعض الأخبار التي كانت تصل إليهم، بأن إسرائيل انسحبت من موقع علمان لشومرية، ومن منطقة جزين.

- «يبدو أنهم بدأوا بترتيبات النقل إلى داخل الكيان الإسرائيلي! وهذه الأخبار ما هي إلا إشاعات يبثّها عملاء الزنازين» قال سمير.

- «لقد أخذوا كل مسؤولي الأمن إلى إسرائيل، والمحققون ليسوا هنا، ذهبوا للمشاركة في دورة خاصة بهم.» قال أحد العملاء للأسرى.

٢٣ أيار

شعر المعتقلون بأن أجواء هذا الصباح غير طبيعية، ساد جوٌّ من التوتر من دون معرفة ما يجري، علت أصوات الأقدام المهرولة حينًا، والهابطة والصاعدة من وإلى سطح المعتقل، حيناً آخر .

لحظات وانضم إليها صوت أزيز الرصاص الذي كان يطلق بكثافة.

- ماذا هناك؟

- ما الذي يحدث؟

 

378


245

مخرِّب 5017

- هل نفّذت المقاومة عملية كبيرة؟

صار الأسرى يتخبطون في خضمّ تساؤلاتهم، وتحول المعتقل إلى بحر هادر.

علا وقع هتافات «اللّه أكبر» اجتاح نحو خمسمئة شخص بوابة سجن الخيام الرئيسية، واندفعوا بشكل هستيري محاولين تحرير مئة وأربعة واربعين أسيراً بعدما علموا بأن عناصر لحد غادروا المعتقل في موكب مؤلف من أربعين سيارة مدنية ومصفّحة، وهم يطلقون النار في الهواء لتفريق المحتشدين الذين توافدوا باتجاه المعتقل، ومن ثم توجهت القافلة إلى بلدة المجيدية الواقعة عند الحدود مع فلسطين المحتلة.

تزامن ارتفاع أصوات العسكر وغزارة إطلاق النار، مع وصول سيارة الكمنكار القادمة من ثكنة مرجعيون كعادتها في كل يوم ثلاثاء، حاملة معها وجبة البازيلاء والأرزّ، بالإضافة إلى الخيار والفاكهة.

- «يا شرطة... يا شرطة... يوجد مريض بيننا...» نداءٌ تكرر أكثر من مرة.

- ماذا هناك، ولمَ كل هذا الضجيج؟

- هناك مريض حالته سيئة.

- وماذا عساني أفعل له، لقد غادر الجميع، الحرّاس 

 

380


246

مخرِّب 5017

والشرطة، ألا تعلمون ما الذي يحدث في الخارج؟! قال الممرض.

- ماذا يحصل، وإلى أين ذهبوا؟ سؤالٌ بقي جوابه معلّقًا حتى إشعار آخر! إذ غادر الممرض من دون أن يجيب عن سؤاله.

دقائق وعلت الأصوات، وبدأ تكسير الأبواب مترافقًا مع التهليل والتكبير «اللّه أكبر... اللّه أكبر...»

ذابت برودة غبش فجر ذلك اليوم بلهيب شوق الأهالي، وتمايلت الشمس على وقع زغردات النسوة. لم يعِ الأسرى ما يحدث، كانوا في ذهول تام مما يجري. منهم من قفز في مكانه... ومنهم من فقد وعيه... ومنهم من تسمّر غير قادر على المشي... ومنهم من ظنّ أنه بإمكانه خلع الباب الحديدي... فُتِحت الأبواب... انهمرت دموع الفرح... تشابكت الإيدي... تطايرت القبلات وتعانقت الأرواح...

كان الجو ضبابيًا بالنسبة إلى أسرى الزنازين الداخلية، منهم من خرج بحذر، فيما بعضهم الآخر انتظر قليلاً حتى تتضّح الرؤية.

- «أين الشرطة؟ أين السجانون؟» سأل سمير قاسم زميله في المعتقل محمد المحمد، وقبل أن يجيبه تقدّم نحوه علي ضاوي من بلدة الخيام، متسائلاً: «أين الباقون؟»

 

382

 


247

مخرِّب 5017

- «الجميع هنا رياض كلاكش، تيسير شعبان، سليمان رمضان، وها هو علي الصغير» أجابه سمير قاسم.

- «يبدو أن هناك احتمالًا لنقل الأسرى القدامى إلى السجون الإسرائيلية» أضاف سمير.

- «أين فلان وفلان وفلان؟ سأل علي ضاوي الذي التقى سمير في ساحة الشمس، وعرّفه عن نفسه بأنه من بلدة الخيام.

- «ستذهبون معنا» قال ضاوي والشاب الذي معه.

- أنا سمير قاسم، هذا رياض كلاكش، هذا تيسير شعبان، هذا علي الصغير، وذاك سليمان رمضان.

- «لن أذهب مع أحد، من تكون حتى أذهب معك؟ سأبقى مع الشباب، لن أغادر» قال سمير.

- «خذ هذا الاتصال لك» قال ضاوي وهو يعطيه الهاتف الخلوي، ثم تابع:» لقد اتصل بنا من بيروت الحاج وفيق صفا وسأل عنكم».

- «كن مطمئنًا واذهب مع الشباب» قال له أحد عناصر الحزب عبر الهاتف

 

***

 

 

384


248

مخرِّب 5017

انطلقت من مجمع القائم ثلاثون سيارة، باتجاه الجنوب سالكةً طريق البقاع ومنه إلى البقاع الغربي.

كثيرة هي العوائق التي اعترضت طريقهم، حيث عمل خبراء الألغام على تفكيكها، فيما كانت جرافة كبيرة تزيل السواتر الترابية وتفتح الطريق أمام رجال المقاومة.

كانت سيارة «علي» في مقدّمة السيارات التي دخلت إلى بلدة بلاط، وتعرّضت للقذائف التي أُطلقت من موقع «الجلاحية» في بلدة الخيام، التابع لعناصر لحد، وقد عملت إسرائيل على تفجيره ليلاً قبل انسحابها منه قاطعةً الطريق على علي، ومن كان معه لتحريره منهم.

- «فلنفترق ولننتشر في البلدة» قال علي للشبان الذين كانوا معه، وطلب من بعض الشبان إقامة حاجز، فيما طلب من آخرين مداهمة بعض المنازل التي تعود إلى العملاء.

تصفية حساب

توجّه «علي» إلى ساحة مرجعيون عندما علم بأن عناصر لحد سلّموا أنفسهم إلى مركز الدرك. وصل إلى مكان توقف الحافلات التي كانت ستقلّهم، جال ببصره بين الجموع، وراح يتفحّص الوجوه.

 

 

385

 


249

مخرِّب 5017

صعد إلى الحافلة الثانية، فوجده جالساً إلى جانب النافذة، وما إن رآه حتى أشاح بنظره عنه إلى الأرض.

ناداه علي «يا رفيق.. يا رفيق» لم يرفع رأسه ولم يلتفت إليه، أمسك به بكلتا يديه وراح يهزّه ويقول له: «شو يا رفيق مرّت السنين والإيام، وعلقت بين إيدينا، مش هاو كلماتك إلي من عشر سنين، ما نسيتن!» أتذكر عندما قلت: «بأن الدنيا دولاب يوم لك ويوم عليك، بشو جاوبتني؟! يومها قلت لي: «معش في إلك صار كلو عليك» وهل تذكر بما أجبتك؟ «اللّه كريم، وطالما إلنا ضهر برا مش هكلانين الهمّ».

- «شو باك بلعت لسانك؟!» سأخبرك حرفيًا ماذا قلت لي حينها « إنت حزب اللّه نسيك، ومعش في إلك طلعة، موتّك هون رح يكون...» أتذكر هذه الكلمات يا رفيق!

- أتعلم شيئًا بإمكاني إطلاق النار عليك.. بإمكاني تهشيم جسدك وتمزيقه.. لكن نحن نتّبع التكليف.

الحق معك، الدنيا دولاب، يومٌ لك ويومٌ عليك...

خذ علمًا من الآن فصاعداً، كلمة الفصل لنا وحدنا، نحن وحدنا من نملك زمام الأمور!

 

386


250
مخرّب ٥٠١٧