تسابيح جراح

«إنّ قولنا: أجرُ الجرحى في تزايد يوماً بعد آخر، قولٌ دقيق، وكلّ ساعة تمرّ من أعماركم يتضاعف أجرُكم فيها بذلك المقدار»


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2024-01

النسخة:


الكاتب

مجلة بقية الله

بقية الله مجلة إسلامية جامعة متنوعة المواضيع متوجهة إلى جمهور القراء؛ لذا فهي تعتمد أسلوب اللغة الواضحة، والمفهومة، وبساطة التعبير، مع المحافظة على العمق والدقة؛ بحيث يمكن للجميع قراءة مضمونها مهما كانت مستوياتهم العلمية، حيث يجد كل منهم ما يستحق القراءة ويحقق الاستفادة.


كلمة مجلّة بقية الله

كلمة مجلّة بقية الله

الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

فإنّه ليس بمقدور المرء أن يحدّد مكانة الجرحى، ويوصّف مقامهم الذي يستحقّونه؛ أولئك الذين بذلوا حواسّهم وأطراف أجسادهم في سبيل الله، يمثّلون بجراحاتهم أسمى مقامات التضحية التي لا ينضب معينها، والتي تستمرّ معهم طوال حياتهم؛ ليكونوا بذلك مصدر تأثير مستمرّ، تستضيء بنوره العقول، وتُصوَّب به بوصلةُ التائهين، فضلاً عمّا يعود عليهم أنفسهم من أجرٍ يتزايد يوماً بعد يوم، مع كلّ ألم يتحرّك فيهم وعند كل أنّة تستوطن جراحهم، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئيّ المفدّى(دام ظله): «إنّ قولنا: أجرُ الجرحى في تزايد يوماً بعد آخر، قولٌ دقيق، وكلّ ساعة تمرّ من أعماركم يتضاعف أجرُكم فيها بذلك المقدار»[1].

كانت قصصهم منذ انطلاقة المقاومة محطّ تحريك مشاعر وأحاسيس كلّ مَن يقرؤها بحبّ وتأمّل، فإنّ مَن يقرؤها، ولو بعد حين من آلامهم، ستكون بالنسبة إليه بمثابة الدليل الذي يسلك به مسلك المبادئ السامية والأخلاق الرفيعة، مثل التوكّل والتسليم والتضحية والفداء والسخاء والأمل...، علاوة على البُعد الأخرويّ الذي يتلقّاه المتأمّل بتلك القصص، ليصبح أكثر ارتباطاً بذاك اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله تعالى. وإنّ ما يعيشه الإنسان اليوم، في هذه الدنيا، لا يعدو كونه جسراً يعبر به إلى عالم أخرويّ وأبديّ، والمُوَفَّق في عبور هذا الجسر هو مَن يقدّم ما يعمر به آخرته التي تمثل الحياة الحقيقية: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ (الفجر: 24)، وهذا ما سطره الجرحى بتضحياتهم، لتكون جراحهم أوسمة عبور وكلمات مرور إلى حيث الفوز العظيم.

وقد تشرّفت مجلّة «بقيّة الله» بنشر قصص جرحى المقاومة، حتّى أصبح لديها تراثٌ كبير من حكاياهم التي تضجّ بالعزّة والإباء، وتموج بالتضحية والولاء. ولأجل حفظها وتقديمها للعاشقين والمحبّين والتائقين سلوك درب الجهاد؛ بادرت المجلّة، بالتعاون مع مؤسّسة الجرحى لإصدار كتابٍ يجمع طرفاً من تلك القصص المباركة، ليكون ذلك عربونَ وفاءٍ متواضعاً لأولئك الأبطال؛ تخليداً لتضحياتهم، وتدليلاً على فضل النهج الذي سلكوه في حياتهم، وإسهاماً منها في نشر ثقافة العطاء والسخاء في سبيل الله والأمّة.

ونرجو من الله العليّ القدير، أن يتقبّل منّا ما نشرناه وننشره، من قصص هؤلاء الأبطال، وأن يوفقّهم ويسدّدهم.

مجلّة بقيّة الله

[1] من كلمة له (دام ظله) في العام 2015م.


7

كلمة مجلّة بقية الله

كلمة مؤسسة الجرحى

وجب علينا نحن كبشرٍ أن نخطَّ ما قمنا به لنتعلّم من تاريخنا إن أخطأنا، ولنخلّد أمجادنا إن كنا قد أسلفنا الخير في سابق أيامنا، فتكون لهذه الكتابات ألوان عدّة تتماوج ما بين ترسيخٍ لحقائق لا تحمل الزيف، أو تكريمٍ لجهودٍ بُذِلت وجب أن يخلّدها التاريخ، أو أخذِ العبرةِ من دروسٍ عاشها الناس في حلوِ الليالي ومرّها، والأهم من ذلك كلّه نقش الواقع حرفيّاً في ذاكرة الأجيال كي لا تُنسى فضائل من واجه وناضل وضحّى، لما لذلك من أهميّة تنعكس على روحيّة المجتمع ككلّ، فتشكّل الدافع والمسوّغ للصبر والعزيمة والإقدام والاستمرار.

ولأنّنا شعبٌ وعى باكراً على مظلوميّةٍ عاشها، واضطهادٍ مورس عليه بعنفٍ ووحشيةٍ إن كان باحتلال أرضه، أو بسجن شبّانه، أو تدمير بيوته، أو بفرض العقوبات عليه بكافة الأشكال، واجه ذلك كلّه بلحمه العاري وإن سُحِق، أو بُترت بعض أطرافه، أو حتى إن سلّم روحه قرباناً على مذبح المواجهة، تكليفُنا الأخلاقيُّ أن نحفظ من جاد بنفسه وبجسده ودمه وروحه بإحياء إنجازاته، ونشرها ليعلم العالم مدى افتخارنا بمن حمل همّ الأرض والعرض، ولم يتوانَ البتّة عن الإقدام والوثوب في حِجرِ الموت كي نحيا.

من هنا برز دور مؤسسة الجرحى لبثّ الروح في أحداثٍ عاشها كلّ جريحٍ لإضفاء صفة الديمومة عليها، كي تحيا فينا ما حيينا، وهذا أبسط ما يمكن أن نقدّمه كمؤسّسةٍ هدفها العناية بالجرحى وذويهم، فتكون هي الذراع والعين والقدم وكلّ عضوٍ قد بُتِر من جسدِ مجاهدٍ ليحمينا، وقد لمسنا طيف البركة من نشر تلك القصص الموشحة بالمعجزات، لما لأصحابها من كراماتٍ عند الله، فهم الوحيدون الذين تركوا أجزاءً منهم في الحرب حين عاد الجميع، ولهذا نحن مستمرّون في نقش تاريخنا الأنصع طالما هناك ظلم يقابله مقاومة، عملًا بتوصيات الإمام السيد علي الخامنئيّ(دام ظله) وسماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله (دامت بركاته)، وكبادرة امتنانٍ لما قدّمه هؤلاء الأبطال، والله من وراء القصد، وهذا أقلّ الواجب الذي علينا تقديمه كوفاءٍ لحقّهم، في مقابل كثير العطاء الذي قدّموه وما زالوا يقدّمونه.

مدير عام مؤسسة الجرحى في لبنان
محمد دكروب


9

حين تُقدِّمُه بفرح

حين تُقدِّمُه بفرح..

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمد عبد المجيد قانصوه (بلال).

مكان الإصابة: كفررمان.

تاريخ الإصابة: 23/7/1983 م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 350/ ربيع الأول - ربيع الآخر 1442 هـ/تشرين الثاني 2020 م/ السنة الثلاثون.

حين شاركت النجوم مكانها، ظننت أنّ قاذف الـB7 الذي كنت أحتضنه انفجر. تلاشت الدنيا عن عينيّ خلال لحظات، ملكوت السماء بكلّه حضر، يا فرحتي! طلبتني الشهادة! تلوت بضع كلمات باطمئنان: «أشهد أن لا إله إلّا الله»، وأسلمت النفس، أغمضت عينَيّ وابتسمت. مرّت الثواني ببطء، عدت إلى رشدي، وعلى ثغري توكّأَت تساؤلات: تُرى هل هناك تعاقبٌ لليلٍ ونهار في البرزخ؟ ما هذا النور كلّه الذي يملأ المكان ويكسر حاجز الظلمة؟

صوت قريبي المصاب بجانبي خلق اليقين داخلي أنّي ما زلت أرزح تحت أنياب الدنيا، جذبني النور مجدّداً، أمعنت النظر، إنّه موقع الدبشة الصهيونيّ يسطع بالإضاءة ليكشف سبل المجاهدين. تشريكة الألغام الخاصّة بالآليّات كانت تذكرة المضيّ من عالم الجهاد الممهور بالعرق والكدّ إلى عالم الشهادة الممهور بالدم، قدمي التي بُترت كانت هي الجواز، وأمّا عن نزيفٍ أذهلني عن الإحساس بقدمي الأخرى، فلا يسعني البوح سوى بأنّ الأحمر جميلٌ جدّاً، خصوصاً حين تقدّمه بفرح.

الطريق البيضاء

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ببركة الإمام الخمينيّ العظيم (قدس سره)، بدأت النهضة الإسلاميّة في لبنان. عندما تأسّس حزب الله عام 1982م، خضعتُ لدورة عسكريّة، وانطلقت بعدها في العمل العسكريّ. باشرت عملي الجهاديّ في الجنوب عام 1985م، إلى جانب استكمال دراستي الجامعيّة في اختصاص الميكانيك. كان علينا مراقبة ورصد تحركّات العدوّ الصهيونيّ في محور كفررمان. احتاج المجاهدون في كفرصير للمؤازرة فانطلقنا لمساعدتهم. مشينا في الطريق البيضاء، اجتازها رفاقي، وحين خطوت دوّى الانفجار، ورحت أذوب.

قام المجاهدون بسحبي، وصلت بالإسعاف إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، خضعت فيها لجراحة كُلّلت بالنجاح، بعدها ماج الفقد بي، وغبت عن الوعي لأربعة أشهر متتالية. الوجع القاتل لم يسمح لي باستيعاب ما عشت، خضعت لثماني جراحات لترميم أذني، ذاكرتي الهشّة احتفظت بصورٍ لشراييني التي كانت بارزة، كما أنّ أنبوب نقل الدم الذي بقي ردحاً من الزمن نابتاً في وريدي، ما زال حاضراً في البال.

خدمة الجرحى شرفٌ لي

إصابتي لم تُعقني مطلقاً. أهمّ طباعي أنّي أعاند الظروف وأتعالى عليها. لم أستسلم مقدار لحظة، فالمعوّق معوّق العقل وليس الجسد، وطالما أهداني ربّي عقلاً راجحاً، فكلّي إيمانٌ بأنّ رسالتي لم تنتهِ؛ لذلك عملت في مؤسّسة الشهيد عام 1988م. وحين صار لمؤسّسة الجرحى كيانٌ قائمٌ بذاته، تسلّمت عام 1991م الملف الاجتماعيّ للجرحى، أستقبلهم في المستشفيات، وأتابع أمورهم كافّة. ولأنّي منهم، وجدت سهولة في التعاطي معهم، وكنت مقرّباً إليهم. تسلّمت إدارة منطقة بيروت لشؤون الجرحى عام 1994م. كنت وسأبقى في خدمة هذه الشريحة من المقاومين الذين قدّموا كلّ ما يملكون، وأهدونا الانتصار، وما وقفوا يوماً على أطلال ما سُلِبوه في ميدان الجهاد. عقيدتهم أنّ ما كان لله ينمو، وتلك الأعضاء التي فُقِدت في الحرب إنّما سبقتهم إلى الجنّة، ويكفيهم الفخر أنّ الانتماء إلى خطّ الحقّ الذي يتمثّل بحزب الله، يوصل إلى الفردوس الأعلى. جراحي في هذا النهج أعتبرها مسؤوليّة، وخدمة الجرحى شرف لي.

بطولة وعزيمة

بعد حرقةٍ راقية الأوجاع، قسم لي الله بلطفه كلَّ الخير، تزوّجت ورُزِقت بثلاثة شبّان هم روحي التي بين جنبيّ. أمارس العيش ككلّ الناس، أحبّ الرياضة كثيراً، خصوصاً كرة الطاولة، وكنت عضواً في اللجنة البارالمبيّة، وقد شاركت في العديد من البطولات، وفزت ببطولة لفئة المعوّقين، كما وأعشق السباحة. أشكر الله أنّ جراحي ستُكتب في صحيفة أعمالي، وستشفع لي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.

فارس الحجاز

قبل توجّهي لأداء فريضة الحجّ بأشهر، رأيت في عالم الرؤيا أنّي أطوف حول الكعبة وألبّي. زُرِع اليقين داخلي أنّي سأُرزق الحجّ، قدّمت أوراقي وكان اسمي من بين الأسماء التي كُتِب لها ذلك. زهد الأوضاع الماديّة أرهقني، فحملت العزم في جعبتي والتسليم، كنت وكان الله معي، صدقته النيّة وانطلقت. وضع الحملة المزري دفع أفرادها للانتشار حين طرأ عطلٌ على الباص بعد وصولنا، وكلٌّ مشى وحده. اقترن الذكر بأنفاسي. كنت وِتراً لا صديق لي سوى عكّازي، ولكثرة ما التحم بي أكل بعض جلدي، فازداد في جنب الحبيب صبري، وفي بئر رأسي نداء: «يا أيّها العزيز، قد ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾» (الأنبياء: 83). وفي لحظة ضاقت الدنيا في عينيّ، ذكرت فارس الحجاز، وغيم مقلتَيّ يسحُّ ما اكتنز من دمع. تبادر إلى ذهني أن أقترب من الكعبة أثناء صلاة الحجيج، قوّة عجيبة سرت في مفاصلي، أدّيت الصلاة وبدأ الطواف، انتهى الأوّل فالثاني... إلى السابع، سبحانك من معين، لقد أدّيت طوافي! ذاك العزم السماويّ دفع بي نحو الصفا والمروة، حان وقت السعي، نظرت وقدرتي المنكسِرة تحدو بي، ناجيته بأنينٍ حزين: «ها إنّي أُحرِمُ في ميقاتِ الدَّمعِ، وأذرفُ سجدةَ شكرٍ في محرابِ يديك، أفرشُ صحرائي الجدباءَ حقولاً من عشبِ التوبةِ في كفَّيْكْ، مؤتزراً كلَّ حنينِ القلبِ أتيتُكَ أسعى، بين الحُلُمِ وبين الحِلْمِ، أتيتُ لأقرعَ بابَ العفوِ، وأشربَ نورَكَ من ميزابِ الرحمةِ يا الله، قد جئتك من ركنِ يقيني، من مَرْمَر هذا القلبِ ألبّي، يا كلَّ القدرةِ فأعنّي..». وإذ بشابّ قمحيّ البشرة، في خدّه خالٌ له من الروعة كلّ القِسمة، وقف بجانبي مع كرسيٍّ متحرّك لا يشبه الكراسي الموزّعة على الحمّالين.. أومأ لي بالجلوس، فأخبرته أنّ لا مال لديّ، أجابني: «أعرف».. أردفت قائلاً: إنّ سعينا يبدأ من حدود الصخرة، هزّ رأسه بالقبول وبدأ السعي بي. رافق نبضي حتّى الشوط السابع، وحين هممت بالقيام لأشكره عند انتهائنا، اختفى وكرسيُّه خلال لحظات، بكيت لغفلتي، فحين أسلمت أمري لخالقي بصدق، كان المدد الغيبيّ حاضراً لتوّه.

ذكريات خالدة

من الذكريات المخفوقة في لون الصبا، ما هو عصيٌّ على النسيان. أذكر حين مكثت في الجنوب أني مُنحتُ نعمة الاهتمام بوالدي، مرضه الخبيث آذاني، السرطان الذي فتك به لم يكن سبب تعلّقي العظيم بروحه، فما كُتِب لنا افتراقٌ دون وداع، وإن كنّا في المشفى عينه وتفصل بيننا طبقة واحدة، فالغيبوبة التي دخلتُها حالت دون لقائه قبل رحيله إلى المستقرّ الأبديّ. أمّا رحيق الذكريات، فيعبق حين تلوح صورة الإمام الخمينيّ (قدس سره) في خافقي، أذكر زيارتنا له في إيران، حيث أكرمنا الله بالتبرّك برؤيته، أعيش حضوري بين يديه كلّ لحظة، ويسكُنني النور المتألّق في وجهه. انتابني الشعور عينه عند لقائي بالإمام السيّد علي الخامنئيّ  (دام ظله) سنة 1997م، عندما كنت في خدمة وفود الجرحى في إيران، كانت فرحة عارمة أن دخلنا منزله وصلّينا بإمامته، تلك النزهة في وجهه الحسن كحلمٍ ورديّ، وذاك الفيض النورانيّ لا يبارحني، يشبه مرور عطرٍ فاخرٍ شديد التباهي لا يتيح نفسه إلّا للحظات، ينسيك كلّ ما حولك، وينتشلك من عالم المادة إلى ملكوت الروح.

أمنيةٌ ورجاء

لأنّنا نُسنِد الأمس إلى الغد، وكنّا في سوح المقاومة بملء عقيدتنا، أقول لإخواني الذين وهبهم الله وسام الجراح: «دوركم يا أحبّائي لم ينتهِ بعد، كونوا القدوة الحسنة المؤثّرة في الناس، اخدموهم قدر استطاعتكم، تلك النظرة التي حبَوْكم بها على أنّكم ملائكة قدّمتم أجسادكم على مذبح التضحية؛ لأجل أن يحيا الجمعُ الأكبر بسلام، يجب أن تستثمروها لإثبات عقيدة حزب الله ورسالته أكثر. ولأنّي منكم لن يُنكرَني صوتي، نحن جنود وقفنا على باب الموت، سنكون مدرسةً في الصبر والتحمّل والعطاء.. علينا أن نُظهر أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، وأن ننبذ العصبيّة واليأس.

وأنا كفردٍ منكم أستلذّ بدقّة جُرحي وأتحدّاه، لم يركعني يوماً، بل طوّعته في سبيل راحتكم قربةً لله. أقول لكم: إنّ مؤسسة الجرحى معكم ومحيطةٌ بكم، وجاهزة لتسهيل عوائق حياتكم. الجؤوا إلى الله، وتقرّبوا منه بالدعاء والصلاة، خصوصاً في أوّل وقتها، وإحياء المناسبات وتحديداً في محرّم، فإنّ جراحكم تحمل بعضاً من مشاهد عاشوراء، أليس العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليهما السلام) قدوتنا؟ هل أضعفه سيل الإصابات عن تأدية واجب الدفاع عن إمامه والخيام؟ كذلك نحن، علينا أن نستمّر».

 

 


11

على قدمٍ وساق

على قدمٍ وساق

-نسرين إدريس قازان-

اسم الجريح: المجاهد عماد خشمان (أبو حسن).

مكان الإصابة: طريق المطار.

تاريخ الإصابة: 13/7/1986 م.

نوع الإصابة: بتر الفخذ الأيسر.

مجلة بقية الله/ العدد 343/ شعبان - شهر رمضان 1441هـ / نيسان 2020م / السنة التاسعة والعشرون.

وفي زحمةِ العمل وتراكضِ الأيّام، أحنُّ إلى ملاحقة أبي لي ولرفيقي في المحاور.. كنّا طفلين شقيّين، لم نرضَ -إلّا رغماً عنّا- العودة إلى منزلَينا، وكلّما سنحت الفرصة للهروب، توجّهنا إلى حيث المجاهدون يحمون أطراف الضاحية الجنوبيّة، فنحمل سلاحاً أطول منّا. كان جميع مَن حولي مجاهدين: والدي، إخوتي، جيراننا... فلماذا لا أكون معهم؟ أهو العمر؟ الموقف لا يُقاسُ بعدد السنين. ولكنّ أبي أراد تجنيبي ذلك حتّى يشتدّ عودي، مع أنّه كان ممّن يدرك ضرورة أن يقسو عظم الإنسان باكراً جدّاً.

يوم اشتدّ عودي

كلّما مكثتُ في مكانٍ، جاء من يقول لي: «والدك يريدك..». إنّه الفخُّ الذي لم أنجح بالتفلّت منه، فـ «السلاح مسؤوليّة»، هكذا كان يقول لي دوماً، إلى أن اجتاح العدوّ الإسرائيليّ لبنان، وكنتُ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، يومها، اطمأنّ إلى أنّي في مركز الإشارة أقوم بواجبي على أكمل وجه.

مشاهد ألمٍ وعزّ

لم تكن بدايات شبابي سهلة، فبين الصراعات الطائفيّة واجتياح العدوّ الإسرائيليّ، انبثق الكثير من الوجع. وبين بيروت والجنوب مشاهد كثيرة حفرت عميقاً في نفسي، منها وجهُ عمّتي التي وقفت بين الناس المتجمهرة أمام جنود العدوّ الإسرائيليّ، الذين جمعوا الشباب ليسوقوهم إلى معتقل أنصار. يومها، أخذوا من أبنائها الأربعة ثلاثةَ شبّان، فما كان منها إلّا أن أخذت بقميص ابنها الرابع ودفعته لهم، هزمتهم قوّتها وقدرتها على انتزاع قلبها من بين ضلوعها على أن لا تضعف أمامهم. وجهها، ووجه العميل المغطّى بقناع، ووجه الإسرائيليّ، اختصرت أمامي حقيقة الصراع.

تضليل مسير العدوّ

السلاحُ قليل، والشباب محاصر، ولكنّنا جيل فعلنا الكثير، من طريق أبو الأسود المؤدّية إلى صور، وحتّى قرية عدلون، كنتُ أنتزع وصديقي في كلّ يوم اللافتات العبريّة التي ترشد القوافل الصهيونيّة إلى طريقها، ونرميها في الحقول بين القصب والحشائش. ثمّ بدأنا بنقل السلاح. وفي خضمِّ هذه الثورة، عدتُ أدراجي بناءً على رغبة أبي بالتزام المقاعد الدراسيّة، فيما إخوتي يقارعون العدوّ. وكانت معركة الدفاع عن أهلنا الفقراء والمستضعفين في الضاحية الجنوبيّة، أصبت خلالها في بطني في مواجهة مع جيش السلطة الفئويّ عام 1983م، وكانت الإصابة الأولى.

«جملة واحدة قلبت حياتي»

كنتُ في الطريق عندما التقيتُ بأحد مسؤولي المقاومة، فسلّم عليّ وسألني عن أحوالي، فأجبته أنّني أتابع في المهنيّة دراسة الرسم المعماريّ، فابتسم مربّتاً على كتفي قائلاً: «عماد، نحن بحاجة ماسّة إلى مقاومين». تغيّر كلّ شيء، حتّى أبي. جملة واحدة قلبت حياتي ووضعتني في المكان الذي أريد. وبدأت عملي التنظيميّ في المقاومة، مشاركاً في المهمّات الجهاديّة بين بيروت والجنوب. في تلك الفترة أصبت في ركبتي اليمنى خلال إحدى المهمّات الجهاديّة إبّان اعتداء عمليّة القبضة الحديديّة الصهيونيّة جنوبي الليطاني عام 1985م، وكانت إصابتي الثانية. كنّا نحبك الليل بالنهار، فلم يعرف التعب لنا طريقاً، فالتحدّياتُ أكبر من أن نستكين للحظات في وقت كانت الأوضاع الأمنيّة تتدهور فيه بسرعة.

رصاصٌ هشّم العظام

ذات يومٍ، كنّا ثلاثة مجاهدين في سيّارة تمّ رصدها، ترجّل أحدنا لزيارة أحد الإخوة الذي استشهد لاحقاً، وأكملتُ مع الشاب الآخر أمتاراً قليلة.. ماذا حصل؟ لستُ أدري. خرجنا من السيّارة بين الرصاص خافضين رأسينا، وقد أُصبتُ في فخذي اليسرى. اقترب المسلّحون منّا؛ إذاً، وقعنا في كمين! قرأنا الشهادتين. الأسلحة المصوّبة نحونا تريد قتلنا. صرتُ أتخبّطُ بدمي، والرصاص يرفعني تارةً ويُسقطني أخرى. استقرّت أكثر من ثلاث عشرة رصاصة في ساقي اليسرى، فهشّمتها وطحنت العظام، وعرفتُ أنّني فقدتها، وشعرت بإصابة الحوض والخاصرة اليمنى أيضاً. وسرعان ما جاء مسلّح ووضع فوهة البندقيّة على رأسي. حانت اللحظة، وما إن أغمضتُ عينيّ مسلّماً أمري لله، حتّى جاءه صوتٌ أوقفه.

«وحيداً مع عكّازيَّ»

نُقلتُ إلى المستشفى على عجل. كان النزيف شديداً ولم يستطيعوا السيطرة عليه. أربعة أشهر بين أكناف الدعاء والقرآن. لم أكن واعياً لشيء إلّا لوجه أبي الذي استشهد قبل أشهر قليلة من إصابتي، وصوت أمّي يصل ترنيماً إلى قلبي بدعاء ملتهب الحروف.

خرجتُ من المستشفى على عكّازين. لقد غادرني ذلك الفتى الشقيّ الذي لا يفتأ يركضُ في الأزقّة، وفقدتُ الشاب الذي مكانه الجبال والأودية، وكان عليَّ أن أكون شخصاً جديداً، غيّرت حياته الكثير من الأمور؛ فقد استشهد أخي الصغير، ثمّ استشهدت أمّي، وخلت الدارُ عليّ وعلى عكّازين كان عليّ بناء علاقة جيّدة معهما، فهما ستلازمانني طوال ما تبقّى من هذا العمر.

على ثلاثة أقدام

الآن، مضى على إصابتي أربعة وثلاثون عاماً، بنيتُ فيها حياتي على قدمٍ وساق. أتوجّه إلى عملي صباحاً مع عكّازين صارا جزءاً منّي، وأعود إلى منزلي الذي ساعدتني زوجتي بتأسيسه على الحبّ والرضى.

في خندقٍ من خنادق الجهاد المكتبيّ أقاوم، ولا أشعر أنّني أفتقد لشيء. حاليّاً أتابع دراستي الجامعيّة في مجال الإعلام والعلاقات العامّة، وعندما تعكسُ الشمس أشعّتها عليّ وأنا أسير في الطريق، أرى أمامي ظلّاً لرجلٍ يمشي على ثلاث أقدام، فعل الكثير من الأشياء في هذه الحياة التي لم يظنّها ستطول، غير أنّ الصبر والإرادة منحاها المزيد والمزيد من الوقت.


19

عزمٌ لا يوقفه الجرح

عزمٌ لا يوقفه الجرح

-حنان الموسوي-

اسم الجريح: المجاهد حسن مصطفى وهبي (أبو يعقوب).

مكان الإصابة: الغبيري.

تاريخ الإصابة: 9/6/1988 م.

نوع الإصابة: شلل رباعيّ إثر طلقة قنّاص في العنق.

مجلة بقيّة الله / العدد 349/ صفر - ربيع الأول 1442 هـ/تشرين الأول 2020 م/ السنة الثلاثون.

 

كنّا في مكان قرب الموت. دائماً ما يكون الحضور في مراكز التماس حماسيّاً؛ نقاؤه أبيض، حتّى هواؤه يختلف. أردت الانتقال ومن معي من زاويةٍ إلى أخرى من الشارع في مهمّة، وفي لحظةٍ غفا عنها الوجود، حضر الإمام الحسين (عليه السلام) بكلّ جلاله في وجداني، عجبت لصفاء نيّتي لبرهة، وما إن لامست قدماي الطريق، تحسّست وجه السماء مرفرفاً بدمي. لون الرمّان كان شهيّاً جدّاً في حضرة القنّاص الذي اختار عنقي فريسة لطلقته... وفعلاً عبرت.

عندما تملّكني الشلل

هرع إليّ كلّ من كان في المكان، ونقلت بالإسعاف إلى مشفى الجامعة الأميركيّة. مكثتُ هناك مدّة شهر، بعدها انتقلت إلى مشفى الشرق الأوسط وبقيت فيه ثلاثة أشهر، ومنها نُقلت إلى مشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدّة أربعة عشر يوماً.

ذلك الخَدَر الذي صعق أعضائي أصابني بشللٍ رباعيّ، لم يترك لي أنا ابن الاثنين وعشرين ربيعاً شيئاً ينبض غير قلبي، أمّا عن عقلي فالحديث يطول.

كانت الصدمة ما بعد الإصابة كبيرة، وجب عليّ أن أمتصّها، وأن أُفهم كلّ عضوٍ من أعضاء جسدي الهزيل حالته الجديدة.

فطرة طيّبة

بين شهادة أخي الأصغر المفقود الأثر، وإصابتي أشهر بسيطة. ووسط الحيرة التي تنهش أمّي، نزل خبر إصابتي على قلبها ليحتزّه ألماً. إحساسها الصادق زاد الحرقة في نفسها. دعت الله وتضرّعت إليه أن تكون إصابتي طفيفة، لكنّ الله اختار لها واقعاً يحدوه الأجر العظيم.

حدّثتها بكلمات فيها من التسليم ما يسكّن الروح: «عزيزة القلب، إن لم تكن الإصابة في طاعة، لكانت حتماً في معصية، قضاء الله مبرمٌ لا يتغيّر، جزعتِ أم لم تجزعي فقد وقع البلاء».

فطرتها الطيّبة تقبّلت مصابي بلذّة، وهبتني الحنان بصمت. مرّت تسع سنوات جنّدت أمّي نفسها لخدمتي خلالها، ما مرّ على قلبي أسعد منها في حياتي بعد الإصابة.

دفء العائلة

ولدت في منطقة الشيّاح، داخل منزل متواضع الإمكانات، عظيم الحسّ. عشنا حياة كانت مزيجاً من لعب ودراسة. مرّت السنوات سريعاً وحصلت على شهادة البكالوريا القسم الثاني.

أمّي طاقة من حنان متوهّج، جلُّ همّها نحن، ركعات صلاتها كثيرة، فكلّ نظرة من عينيها نحونا كانت ترتيلاً ودعاء. أمّا والدي فقد كان عاملاً بسيطاً، لكنّه رجلٌ بما تحمله الرجولة من واسع معانيها، طيّب المعشر، فكاهيّ، يحبّ الناس.

الرعيل الأوّل

فطرة الجهاد كانت راسخة في نفوسنا. الحروف التي تنسكب من القلب لها أجمل الأثر، فكيف بالأفعال الطيّبة؟ كان أخي الشيخ مالك قدوتي في الحياة. عقيدته الناصعة انتقت تصرّفاته، والله سدّدها. شارك في المظاهرات الداعمة للثورة الإسلاميّة في إيران إلى أن انتصرت، بعدها سافر إلى إيران لطلب العلوم الدينيّة. كان أثره عجيباً في نفسي. شاركت معه في المظاهرات، بعدها انضممت إلى جمعيّة الاتّحاد اللبنانيّ للطلبة المسلمين، ذات التوجّه الدينيّ الثقافيّ، وعملت ضمن هيئتها الإداريّة مدّة سنة ونصف.

طُرح عليّ في وقتٍ لاحق الانضمام إلى أحد المحاور، في مركز جديد أنشأته مجموعة من المؤمنين مع بعض المراكز لتدريب الشبّان على استخدام السلاح وعلى القتال، كمركز الشيّاح ومركز حيّ ماضي، فالتحقت به سريعاً.

عام 1984م، أُعلن عن قيام حزب الله ونُشرت رسالته، حينها كنت أدرس السنة الثانية في اختصاص هندسة الاتّصالات في الجامعة العربيّة، ودرست اللغة الإنكليزيّة في جامعة الـ LAU التي اشتُهرت قديماً باسم BUC. بعد أن التحقت بحزب الله، عملت باختصاصي في غرفة الإشارة لأحد المراكز، وهي نقطة التواصل بين مراكز عدّة تابعة للحزب، كان ذلك قبل إصابتي بوقت قليل.

عائلتي.. هبة إلهيّة

في سنّ الثلاثين، اخترت زوجة هي نِعم الزوجة، كانت السند بعد الله واليد التي سُلِبتها، كانت «أنا» في جسدٍ كرّس كلّ طاقته لخدمتي، ورُزقت منها بأطفال أربعة، هم زينة الحياة الدنيا. تحمّلت وحدها مشقّة العناية بهم، وتقبَّلت ذلك برضى وفرح، فكانت الهبة الأغلى التي وهبنيها الله.

كلّ أمنياتي حقّقها أبنائي، أنجح بنجاحهم وأحيا بتفوّقهم. نظرة الفخر التي أراها في عيون أولادي تدفعني كي أكون على مرّ الزمن تاريخاً. في نهاية المطاف سأحتوي مخزوناً معرفيّاً وثقافيّاً، وكلّ الغايةِ أن أخدمهم بهذه المعارف بإخلاص، لتكون درساً جوهره أنّ الإصابة تعيق الجسد ولا تعيق الروح، وأنّ العزيمة لا يوقفها جرح.

تهديدٌ وفرصة

التهديد هو سلب شيءٍ منّا في هذه الدنيا، والفرصة هي استثمار التهديد وتحويله إلى متعة، خاصّة إن ابتكرت بذكائك فرصاً متعدّدة. كما أنّ احتضان المقاومة وحزب الله لي بعد الإصابة، فضلاً عن المواساة والخدمات التي أتيحت لي، أغنتني عن كلّ من في الوجود. وأمّا عن الصبر، فله مواطن عدّة، إمّا أن يتجرّع الإنسان ألمه برضى، أو أن يتجرّعه بأسى، فإن رضي هان عليه مصابه، واتّسعت رحمة الله في فؤاده، ورأى مَن حوله يركضون متخبّطين، فيما هو تغشاه السكينة. فأعضائي التي فارقَتها الحياة لازمتني، احتضنتها بكلِّ ما أوتيت من عزم، كانت أنانيّة بدورها، ما ساعدتني يوماً لاحتضان ابن أو ابنة، وحرمتني الشعور بالاستقلاليّة، لكن تبقى الغصّة في القلب على شكل جرعاتٍ من الصبر.

الأمل الواعد

سبب الكآبة عدم إطلاق الروح، فالإنسان روحٌ وجسد، وعلاقة الإنسان بربّه قناتها الروح، يترجمها بالتفكّر، والمناجاة، والدعاء، ولبّها الحضور القلبيّ في حضرة الله العظيم، فالثرثرة ولقلقة اللسان لا وزن لهما في ميزان الله. لذا حين أقول بسم الله الرحمن الرحيم وأنوي زيارة الله في عرشه عند الصلاة، أستحضر في وجداني أنّ الله هو جبّار السماوات والأرض، هو العظيم، خالق الخلق، وأنا في محضره كلّ حين. هذا الحضور يثبت أن لا يأس مع قدرة الله، حين ترنو إليه بنظرة يأتيك بكلّه، والدليل أنه منَّ عليَّ من جديد بأملٍ واعد.

قضيت تلك المدّة في القراءة. كلّ كتاب وقع نظري عليه هو بمثابة وليمة شهيّة. الكتب التي قرأتها أزهار استمتعت بعبيرها؛ لذا اخترت من كلّ بستان زهرة: النحو، العقائد، السيرة، الأدب، كليلة ودمنة، الأخلاق، الأربعون حديثاً، الفلسفة، بداية الحكمة، إنّ مع الصبر نصراً، الكشكول، البؤساء وغيرها الكثير... إنّي أتابع دراستي الجامعيّة باختصاص الفلسفة، كما أنّني ناشطٌ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يعود الفضل في ذلك إلى المعالجة الانشغاليّة في مؤسسة الجرحى، التي كانت مفصلاً محوريّاً في حياتي، وقد أهدتني (فأرة حاسوبٍ ذكيّة) أحرّكها بذقني، فبتّ استخدم الحاسوب بسهولة أكبر، ونسيت العجز الذي يلبسني، لدرجة أنّ من يحدّثني من وراء الشاشة يستحيل أن يعيَ حالتي.

موقف لا يُنسى

بعد أن يستكين الجرح من موقفٍ ما، يصبح الوقت ثقيلاً لبلسمته، تكوي ثوانيه القلب حين تمرّ الذكرى. حين حازت ابنتي شهادة البروفيه، وفي حفل تخرّجها، كنت سبباً لبكائها على منصّة التخرّج، وقفت وعلى عينَيها جدار مالح المذاق حين لم تجدني بين الحضور، زيارتي للطبيب اضطرّتني إلى المغادرة، رافقتني غصّة قلبها ثلاثة أعوامٍ، إلى أن حازت الشهادة الثانويّة، اختصرت الحديث في زحمة الفخر والشوق، وعلى أعتاب نجاحها لمعت أعيننا فرحاً، أسعدها حضوري، وأسعدني نجاحها.

رسالة رجاء

نسأل الله أن يحفظ هذه المسيرة، وأن يحمي قائدها سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، من لقّبني بـ«عميد الجرحى». هذه المسيرة تعتزّ بشهدائها وجرحاها، فالجرح كحالة البرزخ بين الدنيا والآخرة، والجريح هو الشاهد على ما مضى، والشاهد على من بقي، هو الاستمراريّة بين المجاهد الشهيد وبين المجاهدين الأحياء.

لا أنسى اهتمام سماحته بي، وقد تبرّكتُ بخاتمه وسجّادة صلاته الخاصّة وسجدته وسبحته. أقول له: إن منَّ الله عليَّ بالوقوف مجدّداً، وأفاض على أعضائي القدرة، أوّل ما سأقوم به هو صلاة ركعتين شكراً لله، وسأعود إلى مراكز الجهاد لأكون جنديّاً بين جنودك.


25

كلمة مجلّة بقية الله

كجراح العبّاس (عليه السلام)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد عبد الإله الموسوي (رضا).

مكان الإصابة: إقليم التفّاح.

تاريخ الإصابة: 4/2/1990م.

نوع الإصابة: بتر يد والقدمين وفقدان العين اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 346/ ذو القعدة - ذو الحجة1441 هـ/ تموز 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

كان من المقرّر أن يتسلّم مهامه الجهاديّة في جنوب لبنان؛ لذلك عليه رسم خرائط عن أمكنة وجود العبوات تأميناً للطريق أمام المجاهدين. وبينما كان ورفاقه يتقدّمون للبحث عن مكان قذيفة مشرّكة أُخبِروا بوجودها، لمع وميضٌ قويٌّ، وبحركة لا إراديّة رفع كفّه ليحمي عينَيه، فتطايرت ثلاثة أصابع من يده، كما توزّعت الشظايا في أنحاء جسده.

جراحكم رسالة

«جراحكم رسالة».. هذا القول خطّه عبد الإله بدمه وأوجاعه مع كلّ عمليّةٍ جراحيّةٍ كان يخضع لها في قدمَيه أو ذراعه أو عينه، حيث يحضر الكافل أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) في روحه أكثر، وتتبلور المواساة بأبهى حُلَلها، فتتجسّد فيه إرادة صلبة. وحين نُقل إلى المشفى، جرى التعامل مع الجراح والشظايا المتناثرة في جسده، فبُترت قدماه وذراعه، واستؤصلت عينه، وعُقِدت العروق والشرايين فيها، ولكنّه ظلّ يعاني من آلامٍ كثيرة لسنوات طويلة، دون أن يدرك مصدرها.

رحلة علاجٍ طويلة

لم يقتصر علاجه على مستشفيات لبنان فحسب، بل تعدّاه إلى إيران وبعدها إلى ألمانيا. وفي كلّ بلدٍ كان يغرس من جسده بعض لحمٍ وعظم ودم، وكثيراً من الآمال بأنّ ما عند الله أفضل.

في البداية، مكث في مستشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدّة شهرين، وكان الأطباء يلجؤون إلى تخديره كي يبقى نائماً ولا يتألّم، نتيجة لخضوعه لعمليّات جراحيّة بشكلٍ متكرّر حتّى تنمو عظام أطرافه.

سافر إلى إيران ثلاث مرّات، مرّةً نال فيها شرف الزيارة، ومرّتين لتلقّي العلاج بين عامَي 1991م و1992م، حيث خضعت رجلاه لعمليّتين جراحيّتين بعد أن التهب جرحهما. وقد رُكّبت له أطراف صناعيّة هناك، استعان بها لسنوات حتّى إنّه تمكّن من قيادة السيّارة بمفرده.

حين سافر إلى ألمانيا سنة 1995م، عُرف السبب الرئيس لآلامه، وهو شرايينه المعقودة، وذلك بعد أن أُرسل إلى عدّةِ مشافٍ مختصّة. وعلى الرغم من العناية التي أُحيط بها من قِبل الأطباء، والتعاطف معه نظراً إلى وضعه الصعب، لم يخلُ الأمر من بعض المضايقات من أشخاص لم يتقبّلوه بسبب خلفيّته العقائديّة، وقاموا بكتابة توصية إلى السلطات بضرورة إرجاعه إلى بلده.

في خضمّ ذلك، كانت الشظايا المستقرّة في عينه الناجية تعاند النور الهارب من سجن الظلمة وتهدّد وجوده، فمزّقت الشبكيّة، وعلى أثر ذلك أُجريت له عمليّة جراحيّة عبر اللايزر لرتقها، ولكنّه ظلّ يعيش حالة خوف وقلق من أن تتحرّك الشظايا فيها مجدّداً، تطفئ ما تبقّى من نور.

«وجدتك كلّي»

هنا كربلاء، على ضفّة العمر شبيه العبّاس (عليه السلام) لم يقعده اليأس عن المضيّ قُدماً في الحياة، ولم يتسلّل القنوط إلى نفسه طرفة عين. ذاك الشاب الفتيِّ بعمر السبعة عشر عاماً، أقدم على طلب الزواج من أخت جريح، وتمّ ذلك عام 1992م، وقد عقد قرانهما سماحة الأمين العام المفدّى السيّد حسن نصر الله (حفظه الله). رُزِق عبد الإله بطفلين: مصطفى وحوراء، وهما فرحته الكبرى في الدنيا، يعطفان عليه ويهديانه الحبَّ. هما جسده المتناثر الذي جُمِع في جسمين، وأسوته الأمير (عليه السلام) وهو يخاطب ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) : «وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي»[1]، فكانا كلّه في كلّ حين، ومعه على الدوام.

خدمة الناس أفضل عبادة

في قانون الله، النيّة يجب أن تقرن بعملٍ ليتمَّ القبول، وما يكون نابعاً من القلب لا تحدّه سماء ولا يعوقه فقدان قدم وذراع. فها هو عبد الإله يتّجه صباحاً إلى عمله في مؤسّسة الجرحى مستعيناً بكرسيّه المتحرّك، لا يؤخّره المطر ولا الطقس البارد ولا حتّى حرّ الصيف ورطوبته العالية. معروف عنه دقّة مواعيده وإتقانه للعمل. تسابقه البسمة عند إلقاء التحيّة، يسأل رفاقه عن الفطور الصباحيّ، يحفظ ما يريدون، وينطلق لإحضار ما طلبته نفوسهم بكلّ سرور، ودائماً ما يكون جلب طبق «الفول أو المسبّحة» مفعماً بالحبّ والرضى. وعند عودته يبدأ عمله في محترف الجرحى، فتلهو أصابع يده اليتيمة على الأخشاب لتصنع منها تحفاً فنيّة مميّزة.

صلاةٌ وهديّةٌ

شاهد ذات مرّة في عالم الرؤيا أنّه في إيران، ويصلّي جماعة خلف الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله). لم يخيّل إليه أنّ رؤياه صادقة وستتحقّق بعد أيّام، وأنّه سيكون بين يدي القائد وفي ضيافته!

كان لقاؤه الأوّل بالوليّ الفقيه عام 1990م أثناء فترة العلاج، خلال لقاء عامّ للجرحى. أمّا في العام 2018م، فقد كان اللقاء الخاصّ، حيث تجسّدت رؤياه واقعاً ملموساً. جهّز الحاضرون أنفسهم للصلاة، رصّوا الصفوف، الكتف لصيقة الكتف، وعبد الإله يقف بينهم على أطرافه الصناعيّة، شغله كمُّ المحبّة والمودّة الذي لا يُحصى، والشعور بالأنس الذي لفّ المكان. قد قامت الصلاة وبدأت رحلة العشق.

لقاؤه بالحبيب ما زال على ضفّة الروح يعطي العزم، وبقايا العطر السماويّ ما فتئت تخالج النبض. وأمّا الهديّة، فلها في القلب مقام عظيم، ذاك الخاتم مكانه المهجة لا إصبع في اليد.

الله الله في المسجد

كان قد اشترط في عقد عمله أن يكون دوامه يوم الجمعة ساعتين فقط، أي أنّه يغادر عند الساعة العاشرة صباحاً. وحين سُئل عن السبب، أجاب بأنّ لهذا اليوم خصوصيّة في نفسه، وعليه أن يرتّب أوضاعه والتوجّه إلى المسجد باكراً، فتوصيات الشيخ بهجت، أدعية وأذكار، كلّها تحتاج وقتاً لإنجازها، لذلك كلّما سابق الناس لأداء صلاة الجماعة في مسجد الإمام الكاظم (عليه السلام) شعر بالرضى، وعادةً ما يكون أوّل الواصلين إليه. حضوره مختلف على الرغم من صعوبة وضعه، يحفّز من حوله على ارتياد المسجد على الدوام، حتى إنّه أنشأ صداقات مع رجال من خلال المسجد. أمّا صلاة الفجر، فقد عقد معها اتّفاقاً ألّا يفارقها ما دام حيّاً، وعليها ألّا تفارقه حين يلقى الله.

ذاك الشوق إلى زيارة الله في بيته حُجّة على كلّ من حوله من المتقاعسين عن أداء الصلاة وعن زيارة المسجد، أولئك الناس الذين أتمّ الله عليهم ورزقهم الصحّة والعافية.

 

[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص392.


33

كلمة مجلّة بقية الله

ما السرّ فيك؟

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد محمّد حسين نسر (أبو حسن).

مكان الإصابة: اللويزة.

تاريخ الإصابة: 1/11/1990 م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 340/ جمادى الأولى 1441 هـ/كانون الثاني 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

تشكّلت عقيدته الجهاديّة تأثراً بالثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ (قدس سره) حين بلغ الحادية عشرة من العمر، فكانت بمثابة منارةٍ للعشق تجذب الأنفس الصافية، وبدوره امتلك روحاً شفافة اتخذت من الثورة دافعاً أمدّه بالشجاعة، وزرعت فيه حبّ المقاومة والنضال. إنّه الجريح محمّد حسين نسر (أبو حسن)، ابن المقاومة الذي التحق بصفوفها عبر التعبئة التربويّة، ثمّ مضى للجهاد نحو الجنوب. شارك في معارك عدّة في منطقة الإقليم، وأشهرها: سُجد، واللويزة، وجبل صافي.

المهمّة الأخيرة

كان أبو حسن قائد مجموعة، جاهزٌ ومن معه لاقتحام الموت كلّ آن. طُلبت منهم مهمّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، فراحوا يخيطون الأرض بخطواتهم، وبينما كانوا يتسلّلون إلى موقع العمليّة، تفاجؤوا بحقل ألغام داست أقدامهم بعضها، فوضى المنايا فاحت في الأرجاء، انفجر اللغم تحت قدمه، فأصيب أبو حسن بشكلٍ مباشر. حاول الرّفاق سحبه إلّا أنّ طائرات العدوّ الصهيونيّ منعتهم من ذلك، وقد أُمطروا بوابل من الرصاص من الجوانب كلّها. بعد أن غصّت النيران بالسكوت، تمّ سحب الجريح إلى مستشفى ميدانيّ، تعرّض المجاهدون لمشقّات خلال المسير، سار بهم ليلٌ بلا رئةٍ، مشوا على الشكِّ خوفاً على الجريح، خاصّة وأنّه نزف لساعاتٍ طويلة، وهو محمول على أكتافهم من قريةٍ إلى أخرى.

«خذ حتّى ترضى»

وُضِّبت الجراح على الجراح، حتى وصل إلى المشفى، كان بانتظاره طاقم طبّيّ، أشهرهم فقيد الجهاد الدكتور محسن الخنسا الذي أخبر الجريح أنّ ساقه اليمنى يجب أن تُبتر، فما كان من الأخير إلّا أن واجه الموقف بصلابة: «أرضيتَ يا رب؟ خذ حتّى ترضى».

تعرّض الجريح خلال مدة علاجه إلى الكثير من المضاعفات والوعكات الصحّيّة، مضافاً إلى خضوعه للعديد من العمليّات الجراحيّة.

جهادٌ آخر

بعد مدّة، غادر أبو حسن المستشفى بمعنويّات عالية وفخر كبير، قطع حبل ماضيه مستقبلاً أياماً جديدة بعبق الصبر.  يقول أبو حسن: «وقفتُ للحظات أفكّر في حالتي وحياتي الجديدة التي سأعيشها وكيفيّة مساعدة المقاومة في العمل الجهاديّ».

لذا، دفعته عقيدته وثباته وإرادته إلى التوجّه نحو جهادٍ آخر، عبر العمل الثقافيّ الاجتماعيّ ومجالات أخرى، مدعوماً من رفاق الدرب والجهاد.

بناء الأسرة

أحبّ أبو حسن أن يبني حياةً عائليّة، فتزوّج عام 1994م من امرأة صالحة، فيها روح السلام وريح الجنة، قدّمت له المساعدة. تقول زوجته: «أنا أفتخر أن زوجي جريح، فهذا وسام شرف أحمله مدى الحياة. لقد رزقنا الله أربعة فوارس من خيرة الشباب المجاهدين على الخطّ الحسينيّ الكربلائيّ».

لا للاستسلام

استقرّ وضع أبي حسن بعد مرحلة العلاج والمعاناة التي كانت تحمل في طيّاتها الجَلَد والعزم، وقرّر بدء حياة ومرحلة جديدة عنوانها «لا للاستسلام والجلوس في المنزل»، فتغلّب -بفضل الله- على الحياة الروتينيّة اليوميّة التي كان يمضيها، وبدأ العمل في المجال الإداريّ الثقافيّ.

«ما السرُّ فيك؟»

كان أبو حس» يمشي يوميّاً ساعتين قرب صخرة الروشة، وكان هناك امرأة مسنّة تراقبه منذ مدّة، فاقتربت منه ذات يوم وقالت: «ما السرّ الذي تحمله في داخلك؟ أراك رغم معاناتك سعيداً، وتمشي باستمرار مسافاتٍ طويلة رغم امتلاكك قدماً واحدة، أمّا زوجي فقد تعرّض لحادث وبُترت رجله، لكنه يائسٌ ولا يحبّ الحياة. هل بإمكانك لقاءه للحديث معه، علّك تطوف في فُلكه فتساعده ليتغيّر؟».

وبالفعل، تعرّف أبو حسن إلى ذلك الرجل، وبدأ يقصده صباحاً، وخلال يومين فقط، خلع الرجل رداء الحزن والكآبة، وعاد إليه نبض الحياة من جديد، وصار يستشير أبا حسن في أموره كلّها، ويعتبره نعمة قدّمها الله له.

نافذة الأمل

روحه المفعمة بالأمل والسعادة باتت حديث الكثير من الإخوة، لذا راحوا يتكلّمون عن الأنشطة الرياضيّة التي يقوم بها أبو حسن، وقد تلقّى اتّصالاً من مؤسسة الجرحى للعمل فيها، وتسلّم ملف الأنشطة الرياضيّة والترفيهيّة للجرحى وعوائلهم. يقول: «عندما عُرض عليّ هذا العمل لم يهمّني سوى أنّني سأقدّم جزءاً من الأمل لجرحانا». نشّط الرياضة بطريقة أدهشت الجميع، وبدأ بالتحضير لتأسيس فريق من المجاهدين الجرحى لكلّ لعبة: كرة السلّة، كرة الطاولة، السباحة، كرة القدم، كرة الطائرة، المشي... وشاركوا في العديد من المسابقات، وحصلوا على ميداليّات وكؤوس عدّة في المراتب الأولى. هذا العمل عزّز بناء علاقات وطيدة بالجرحى، وأعطاهم الأمل بالعودة إلى الحياة.

المرشد والرفيق

كان أبو حسن، بحماسه وهمّته العالية، الدافع الأساس لبعض الجرحى للخوض في الأنشطة والمباريات، لما له من تأثير إيجابيّ في حياتهم. يقول أحد الجرحى عنه: «هو ملجأ أسرارنا، نخبره بمشاكلنا وهمومنا. ينظر إلينا بابتسامة جميلة فيها الكثير من المعاني والكلمات التي تطلب منّا أن لا نيأس، ونرضى بقضاء الله.بعضهم يعتبره الأب الذي يرشدهم إلى الطريق الصحيح، وبعضهم الآخر يعتبره المرشد والصديق والرفيق».

رافع المعنويّات

يقول أبو حسن: «عندما بدأت الحرب على مقدّساتنا في سوريا، شعرتُ بحزن كبير لأنّني لم أشارك مع هؤلاء المجاهدين في الدفاع عنها». لذا، أخذ على عاتقه مهمّة متابعة الجرحى وزيارتهم باستمرار في المستشفيات. فكان يتفقّد كلّ جريح، ويقدّم له الدعم المعنويّ من أجل تخطّي مرحلته الصعبة، وكان الجرحى بدورهم يستأنسون بكلامه العذب.

على الخُطى نفسها

لأنّه لم يستطع مواصلة درب الجهاد العسكريّ، طلب أبو حسن من أبنائه الانضمام إلى صفوف المقاومة، وحول ذلك يقول: «كانت فرحتي لا توصف حين تقدّم أحد أولادي وقال: (سأشارك في معارك الدفاع عن المقدّسات)، فقمتُ بتحضير أغراضه بنفسي».


41

كلمة مجلّة بقية الله

جريح القدس

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد حسين محمّد المقداد (وائل سلامة).

مكان الإصابة: مدينة القدس.

تاريخ الإصابة: 11/4/1996م.

نوع الإصابة: فقدان البصر مع بتر في الأطراف.

مجلة بقيّة الله / العدد358/ ذو القعدة- ذو الحجة 1442 هـ/تموز 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

«صيدٌ ثمين بانتظاري، طيورٌ وفيرةٌ تحوم حول الشِّباك، عليَّ فقط اختيار الأنسب. انتقيت الطائر الأرفع، من سيكون لاصطياده الصدى الأكبر. جررت أنفاسي بين جوعٍ وتعب. جهّزت العبوة وعزلتها، بانتظار لحظة الصفر...».

عِلمٌ وفداء

حين حصلت على منحة بعد شهادة البكالوريا، تمكّنتُ من تلقّي العلوم في الجامعـة الأميركيّة. وقد تزامنت دراستي مع تطوّعي في العمل التعبويّ، وصرت أتنقّل بين المحاور في محيط مدينة بيروت. مع قدوم الحرس الثوريّ إلى لبنان، ولأنّي من عشّاق روح الله الإمام الخمينيّ (قدس سره)، تفرّغت ضمن صفوف المجاهدين في حزب الله عام 1990م. سكب الله نوره في مهجتي حين اختارني أحد القادة المجاهدين لأداء مهمّة خاصّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ.

مهمّة أمنيّة عسكريّة

«أهلاً بكم في مطار بن غوريون»، عبارة لفتتني حين وطئت قدماي أرض تل أبيب. كانت أوّل ما وقعت عليه عيناي. توجّهت نحو موظّفة الجمارك لتختم جواز سفري البريطانيّ. صعقها ردّي على سؤالها عن سبب مجيئي إلى تل أبيب بأن لا شأن لها بذلك، وأنّ الأمر لا يعنيها. بعدها صمتت، وفي الصمت الكلام الأثمن، تلك الثقة لاذت بفرحٍ مفقود، في بالي أنّ هذه الأرض المقدّسة لا تُصان إلّا بالدماء، والموت الراكض في أحياء فلسطين سيُقضى عليه، ولن يبقى محتلٌّ واحد على تلك الأرض.

كان الهدف تصفية قائدٍ عسكريّ في مهمّة خاصّة، أمنيّة عسكريّة. بعد تجوال دام خمسة أيّام فيها، قسّمت خلالها الخرائط إلى مربّعات، وتفقّدت طرقاتها واستطلعت كلّ شبرٍ فيها، إلّا أنّني لم أجد ضالّتي. بعدها انتقلت إلى مدينة القدس، وهناك بعد مضيّ أيّامٍ أربعةٍ تهجّأتُ حروف عشقها، وآلاف «الله أكبر» عشتها، كان الله بين الناس يحضن خوفهم، ويُطمئن روعهم بسبب الغاصب. ووجدت هدفي الذي أصبو إليه.

وبينما أضع اللمسات الأخيرة قبيل تنفيذ العمليّة، حصل خلل تقنيّ وإذ بالعبوة تنفجر! بعد شهرٍ عدت إلى وعيي في مشفى حدّاثا مقطّع الأعضاء، فاقد العينَين، عشرات الآلات قد وُصِلت بجسدي، وبجانبي محقّق محتلٌّ إسرائيليّ، أولى عباراته ما زالت ترنُّ في مسمعي: «أنت كنز الذهب، هديّة السماء لنا، سنستعيد الطيّار رون آراد بفضلك». ولكن أمله خاب.

تحقيقٌ وتعذيبٌ

حقّق معي اثنا عشر محقّقاً حول المهمّة التي جئت من أجلها، لكن دون جدوى، فقد عقدت العزم على عدم الاعتراف. نُقِلت بعدها إلى مشفى آخر، وبقيت وحيداً طيلة أشهر أعاني من التعذيب وقلّة النوم. كانت فترة صعبة واستمرّت إلى أن حُرّرتُ في عمليّة تبادل للأسرى في 24 حزيران عام 1998م، مقابل أشلاء جنود العدوّ الذين قضوا في عمليّة أنصاريّة.

تحريرٌ وحياة

بعد عودتي إلى لبنان رجعت إلى الحياة، خضعت لعلاج طويلٍ في المشفى، ولا أزال حتّى الآن.

اخترقت الجروح جسدي، لكنّ روحي ما فتئت مهيّأة تضجُّ بالحياة والتفاؤل، لذا التحقت بجامعة آزاد وحصلت على شهادة ماجستير في الفلسفة، وبعدها ماجستير آخر في الموارد البشريّة، ثمّ انتقلت إلى جامعة LIU وحصلت على شهادة الماجستير في اختصاص الإدارة، وحاليّاً أحضّر للدكتوراه، كما أنّني أشغل منصب معاون مسؤول الجامعات الخاصّة في التعبئة التربويّة تطوّعاً.

تزوّجت بحمد الله من امرأةٍ متديّنةٍ أشمّ رائحة الودّ بكلّ تصرّفاتها، هي المجاهدة الأولى في عالمي، تخدمني بعينيها وتقوم على رعايتي. أتوجّه لها بكلّ الشكر والامتنان، وأدعو لها بطول العمر. رُزقت بثلاث بنات هنَّ زينة حياتي، يفتخرن بي، علاقتي بهنّ أكثر من ممتازة، أعدهنَّ أن أرعاهنّ حتّى ما بعد زواجهنّ، وأوصيهنّ بالعلم ثمّ العلم ثمّ العلم.

خدمة وعطاء

بعد تحريري، قامت مؤسّسة الجرحى باحتضاني. كان دورها فعّالاً جدّاً ومهمّاً. العاطفة والمسؤوليّة من أبرز صفات القيّمين فيها، رعايتهم لنا كجرحى ممتازة، تشمل الطبابة والتعليم والترفيه وكلّ ما يخطر في البال من تأمين للعيش الكريم، حتّى إنّهم أوكلوا مهمّة تعليمي لمدرّسة رافقتني وقتاً طويلاً، تقرأ لي وتساعدني في مشوار دراستي. جزاهم الله كلّ خير. لم يقصّروا معنا مطلقاً.

درب الرحمن

لا يساورني ندم على ما حصل معي، فعمري كلّه دربٌ إلى الرحمن مضنٍ إن جزعت، وهيّنٌ إن صبرت. حزني أنّي خسرت الشهادة، وأحاول الاستعاضة عن ذلك بخدمة الناس ما استطعت، وبمتابعة علمي. حمدت ربّي على ما عشت، وإن كلّفت بمهمّة أخرى سأؤدّيها بفرح، فالخوف يموت عند الجرح الأوّل. لا مجال للاضطراب في قاموس وجودي، وأشكر الله أنّي سأختم عمري وأنا على هذه الحالة المزدانة برضاه.

أوجاعي لا تستكين، انتشرت في كامل ما تبقّى من جسدي، مضافاً إلى أمراضٍ اجتاحت دمي، كالسكريّ والضغط، غسيل الكلى، وكلُّ ذلك بعين الله.

إن عاد بيَ الزمان لالتحقت بصفوف المجاهدين على الثغور، لألوّن الليل بالنار وأهزم الطاغوت، كي أحظى بالشهادة، فهي الحرقة العظمى في نفسي. أتمنّى أن يكرمني الله بظهور الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) لأستشهد بين يديه. يا ليتني كنت بين المجاهدين المدافعين عن المقدّسات، فهم ممن كرّمهم الله. نظرتي لهم نظرة إكبار وإجلال، فهم من دافعوا عن حقّ أهل البيت (عليهم السلام) في حياتهم وشهادتهم. أسأل الله لهم العون والعمر المديد، فقد فُتح لهم باب الثواب والأجر، فهم الصابرون، المحامون عن الأعراض.

تسليمٌ واقتداء

المثال الأعلى بالصبر هو أبو الفضل العبّاس (عليه السلام). أجد نفسي قريباً جدّاً منه. وأهل بيت النبوّة (عليهم السلام) بأجمعهم هم القدوة. عقيدتي ازدادت أضعافاً عمّا قبل، فقد سلّمت بيقينٍ أمري وآلامي لله، ولديَّ أملٌ أن يكون عملي مقبولاً.

زرت مقام الإمام الرضا (عليه السلام) وأحببت المكوث عنده طويلاً، وطلبت من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يسأل الله لي النجاة من ضغطة القبر. المؤمن ممتحن طالما هو في دار الفناء، لذلك أراقب نفسي ألّا أغتاب وأنمّ على أحد، كي أوسّد في لحدي مرتاح الضمير.

أمنيات ورسالة

أتمنّى لقاء الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، ضميرنا الحيّ، وعزّتنا، وحبيب القلوب، وتاج الرؤوس.

أمّا للجرحى فأقول: اصبروا ولا تيأسوا، ومن كان منكم قادراً على متابعة طريق العلم فليسلكه، فللعلم درجات عظيمة عند الله، واقضوا حوائج الناس بجراحكم، اخدموهم ما استطعتم بمعرفتكم. أحبّوا جراحكم وافرحوا بها، فهي بابنا إلى الجنّة، نحن الشهداء الأحياء.

أمّا للناس: التفّوا حول المقاومة ولا تتركوها، هي عزّتكم وكرامتكم، وما تضحيات الشهداء والجرحى سوى كرمى لكم.

الفضل في بقائنا وشموخنا للثورة الإسلاميّة في إيران، للإمام الخمينيّ (قدس سره) والإمام الخامنئيّ (دام ظله)، هما درّبانا وأسّسا فينا عقيدة رفض الظلم، ونحن صرنا تجربةً يُحتذى بها.


42

كلمة مجلّة بقية الله

نشاطٌ لا يهدأ

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد عبّاس حبيب الحسينيّ (ملاك).

مكان الإصابة: الهرمل.

تاريخ الإصابة: 21/6/2003 م.

نوع الإصابة: شلل رباعي.

مجلة بقيّة الله / العدد 334/ شوال - ذو القعدة 1440 هـ/تموز 2019 م/ السنة الثامنة والعشرون.

 

منذ نبضة الحبّ الأولى، لم يكن اسمه كأيّ اسمٍ عابر، وإنّما حمل له نكهةً وتأثيراً خاصَّين منذ الطفولة، كيف لا؟ وقد اقترن بسماحة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله تعالى عليه)، ذلك العالِم الجليل الذي كان يتردّد إلى منزل ذويه، قبل تولّيه منصب الأمانة العامّة، لصداقة وعلاقة قويّة جمعت العائلتَين، فترعرع ونشأ على صدى دروسه وخطاباته، وشجيّ صوته في دعاء الحزين ودعائه الخاص بطلب الشهادة، حتّى غدا السيّد القدوة، حارس الروح والمواعيد، والدليل الذي شبّ على نهجه وخطاه.

من نبعه نهل حبّ المقاومة

نشأ عبّاس في كنف عائلة يعمّها الأدب والالتزام بالتكليف الدينيّ. غياب رب الأسرة الدائم عن المنزل بسبب عمله الجهاديّ، ترسّخ أثره في نفوس أبنائه، فمن نبعه نهل عبّاس حبّ المقاومة، وتأسّس على يد مجموعة من النخبة في كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) الذين ارتقى بعضهم شهداء.

أمّا والدته، صاحبة القلب المفعم بالإيمان، فقد ربّت أبناءها على ما نشأت عليه من ثقافة إيمانيّة وجهاديّة، فكانت نِعم المربّي والمرشد.

 

على الكرسيّ المتحرّك

كان عبّاس قد شارف على المرحلة الثانويّة عندما تعرّض للإصابة، أثناء تأديته لعمله الجهاديّ، فاستكملها لاحقاً عبر المراسلة. لم يفقد وعيه عند إصابته، ما أتاح له سماع كلام الطبيب أنّ الإصابة قويّة، وقد ألحقت ضررًا بالغًا في العمود الفقري، سيؤدّي إلى شللٍ رباعيّ، فعرف ما ينتظره مستقبلاً، رمى بعين الله حِنطة فجره مبلولة بالصبر لينمو الأمل، مدركًا أن الخالق قادرٌ على صنع المعجزات.

أعار الرقاد كلّ جوارحه الرّثة، ومكث فترة طويلة في المستشفى يتلقّى العلاج، خضع خلالها للعديد من العمليّات إلى أن استقرّ وضعه، فغادره وهو يعلم أنّ حياته ستبدأ من جديد على كرسيٍّ متحرّك.

كان الشوق أقوى

عبّاس شابّ محظوظ جدّاً؛ لأنّ سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أرسل له رسائل عديدة مؤثّرة، ومعبّرة، وعاطفيّة، كما وفّق للّقاء معه غير مرّة، وفي كلّ مرّة كان الشوق أقوى، فعناقه الحار أشعره بحرارة الودّ: «أنا فداء للسيّد ولهذا النهج المقاوم، ومستعدّ لتقديم روحي وجسدي كي أحميه ويكون بخير».

حديثٌ لا يمحى من ذاكرته، حثّه فيه سماحة السيّد (حفظه الله) على الصبر والتحمّل والمتابعة على الرغم من صعوبة الإصابة، وتأرجح عمره الفتيّ بالأسى، قال لي: «نحن نفتخر بك كونك أحد مجاهدينا، ونحتاج إليك بالقدر الذي تستطيع أن تقدّمه دون إرهاق نفسك»، كما شجّعه على متابعة الدراسة الأكاديميّة: «كان كلامه وأسلوبه ساحرَين، يخترقان القلب دون استئذان، كنت أنظر في وجهه فأشعر بنورٍ يسطع أمامي، وبقوّةٍ وصلابةٍ غريبة»، وقدّم له درعاً وميداليّة رمزيّة.

أُنس المطالعة

خلال ستّة أشهر قضاها في المستشفى، كان يرى رجلاً يزوره باستمرار دون أن يعرف من يكون، بعد ذلك تبيّن أنّه طبيب والدته حيث كانت تخضع لعلاج طويل، وكان يأتي كلّ يوم ليطمئن عنها. كان يجالس عبّاس لساعات، «طلب منّي أن نستثمر هذا الوقت بطريقة إيجابيّة من خلال قراءة الكتب، فقرأت بعض الكتب في الطبّ، ثمّ أخذ يناقشني ويختبر معلوماتي عند نهاية كلّ محور، حتّى أصبحت ملمّاً بتفاصيل كثيرة في الطبّ. هذا أشعرني بالفرح، ولم أعد أشعر بمرور الوقت». لقد أثّر الطبيب في شخصيّة عبّاس كثيراً، وبهذه الطريقة أدخل البهجة والصبر على قلبه، حيث امتلك عباس حافزاً كبيراً للمطالعة في سبيل تطوير نفسه.

العودة إلى الشِّعر

كان عبّاس موهوباً في كتابة الشِّعر، لكنّ ضيق الوقت وانشغاله بالعمل الجهاديّ، جعلاه يبتعد عن هوايته، إلّا أنّه كوّر وجعه في كبد الوقت وكرّس نفسه لحفظ بعض الدواوين الشعريّة، مستعيناً بزوج أخته الشاعر الذي أمدّه دائماً بالأمل والمعونة: «قام زوج أختي بتأمين كتب الشعر ومتابعة ما أكتبه»، إلى أن أصبح عبّاس صاحب قصائد وأبيات شعريّة من الشعر الخليليّ الموزون.

فاعليّة ونشاط

مضافاً إلى ذلك، ارتاد عباس معهداً لشبكات وأنظمة الحاسوب (Network) مدّة عامين، وشارك في العديد من الدورات في الإلكترونيّات واللغة الإنكليزيّة، ثمّ انتسب إلى معهد المعارف الحكميّة لدراسة فلسفة الإلهيّات نحو ثلاث سنوات، إلى أن اضطُرَّ إلى الانتقال إلى القرية، فكان يشغل نفسه بالقراءات المنفردة: «خلال وجودي في الهرمل، كنتُ أتابع مع الكشّافة بعض الأنشطة بحسب قدرتي». كما أخذ عالم التواصل الاجتماعيّ والإنترنت حيّزاً كبيراً من وقته، فأصبح ناشطاً في متابعة الصفحة الخاصّة بالجرحى.

بعد سنة تقريباً، رجع إلى بيروت لمتابعة دراسته الدينيّة، بانتظار إيجاد طريقة تمكّنه من الذهاب إلى المعهد بمفرده. كما أنّه يرغب في استكمال دراسته الأكاديميّة في الجامعة، ولكن هناك عوائق أمام ذوي الاحتياجات الخاصّة في بعض الجامعات اللبنانيّة، خاصّة أنّه لا يستطيع الكتابة بمفرده، ويتوجّب أن يرافقه شخص باستمرار ليكتب عنه.

كتابات شعريّة

ذاك الحسّ الذي سكبه بين اللمس والسمع، بحجم كتابين إن ما فكّر في نشر أشعاره، هذا المشروع لا يزال قائماً لأنّ كتاباته تلامس كلّ وجع. كما أنّ لديه أصدقاء من الشعراء يدعونه إلى المشاركة في الأمسيات الشعريّة: «أحاول القيام بمشروع إنتاجيّ أخطّط له حاليّاً».

كما يشارك عبّاس مع مؤسّسة الجرحى في الفرقة الإنشاديّة، من خلال الكتابة لهم. وبعد اندلاع الحرب في سوريا، حزن لأنّه لم يستطع مشاركة المجاهدين العمل العسكريّ، فكتب:

لِمَ لا أكون مجاهداً وشهيدْ

                                   ونياط روحي كبَّرَت توحيدْ

عتبي كبير أنّ جسمي هاهنا

                                      يفنى ولا يفنى هناك سعيدْ

«هو كفيلي»

تقول أخت الجريح: «يتمتّع عبّاس بسرعة بديهة وذكاءٍ ملفت، ولديه قدرة كبيرة على صيانة أيّ آلة كهربائيّة، مهما كان العطل فيها، ودون أيّ صعوبة، وذلك كلّه تحصيل ذاتيّ».

كما أنّه شخص مثقّف دينيّاً، وتجلّت هذه الثقافة من خلال حواره مع أحفاد العائلة، إذ استطاع التأثير فيهم بشكل كبير، أيقظ بأسلوبه الرقيق الأرواح الهاجعة، وأعادها إلى صراط الله،  فأصبح النموذج والقدوة بالنسبة إليهم، وباتوا يستشيرونه في أدقّ تفاصيل حياتهم، حتّى أخذ هذا الأمر حيّزاً كبيراً من وقته.

وتضيف: «يعتمد عبّاس على نفسه، فلم يُشعرنا يوماً بأنّه يحتاج إلى شيء، على الرغم من أنه بحاجة إلى من يقدّم له الطعام، إلا أنّ عفّة نفسه تدفعه للبقاء دون طعام كي لا يزعجنا. نحن من نشعر بالحاجة إليه في أكثر أمورنا الحياتيّة، فهو من يرشُّ الصبر في نفوسنا ويؤنسنا. وعلى الرغم من مرور هذه السنوات على جراحه، لم تره العائلة يوماً يتأفّف أو يغضب، بل دائماً يكرّر هذه العبارة: (الحمد لله... اختارني الله جريحاً لأنّه يحبّني، وهو كفيلي)».

نصف الكوب الممتلئ

يشبّه عباس الحياة بشخص يملك المال، وآخر يملك أكثر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحّة. فالكلّ يدرك جماليّة هذه الحياة، «فإذا ما أصاب الإنسانَ شللٌ رباعيٌّ، فإنّه كمن يملك مبلغاً صغيراً من المال، صحيح أنّه قليل، ولكن يستطيع الإنسان أن يجمع الفرح من خلاله».

من هذا المنطلق، يحثّ عبّاس الناس على النظر إلى الجانب المشرق من حياتهم دوماً، وعلى أن يتمتّعوا بالحياة كيفما كانت «حتّى لو واجهنا بعض المعوّقات، فلننظر إلى نصف الكوب الممتلئ وليس العكس، فهناك الكثير من الأمور التي تبعث السرور في القلوب».

 


57

سأكون عينيك

سأكون عينيك

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد أمجد محمود شعيب (نور).

مكان الإصابة: مزارع شبعا.

تاريخ الإصابة: 2005م.

نوع الإصابة: فقدان البصر.

مجلة بقيّة الله / العدد 341/ جمادى الآخرة 1441هـ/ - شباط 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

«ها هي المقاومة عَرفت دم الحسين الأطهرِ.. ترفع راية النصر على أعلى بيرقٍ، قبضاتُ رجالها حيدريّة، يضغطون على الزناد فيتبدّد ليل الاحتلال المظلم... طهّر الله قلوبهم وآمنوا باليوم الآخر، لا يخشون الموت ويرحلون إلى الله بثوب شهادةٍ مطهّرة». هي كلمات ثوريّة سكبت الصمت في وحي الهيام فتشظّى، كتبها أمجد أحد أبناء المقاومة الشرفاء، بينما كان يرابط يوميّاً في أعالي جبال لبنان، مرسلاً رسالةً للعدوّ الإسرائيليّ مع كلّ حرفٍ من حروفها، أنّ المجاهدين سيبقون العين الساهرة على الوطن. طيفٌ من الأزل القديم أحاط به، فراح يُحدّثنا...

حكاية الجهاد

ولدتُ في بيتٍ مقاوم، يَحبُكُ الأرواح غزلاً من ضياء، فتترعرع على حبّ المقاومة والجهاد، وأنا الذي كنت أُضحي وأُمسي على كلمات والدي المزروعة أقصى الشِغاف: « متى سترفعون رأسي لأفتخر بكم شهداء؟ يجب أن تكونوا مثل هؤلاء الأبطال».

وفي أحد الأيّام، وبينما كنت جالساً معه،  تقدّم مني هامساً: «اقرع باب الجنان بانضمامك إلى صفوف المقاومين، أفرِح قلبي حتى أموت مرتاحًا».

وهكذا بدأت حكاية الجهاد، حين انطلقتُ في هذا الدرب الطويل، وصولًا لمشاركتي في تحرير العام 2000م، أعين الغرباء الحاقدين رصدتني، حيث بقيتُ محاصراً لأربعة أيّام في مكانٍ خالٍ من الطعام والشراب، قبل أن يتمكّن الإخوة المجاهدون من تحريري.

سرّ النظرات

وفّقني الله بشريكة طاعنةٍ في الحب لحياتي، زوجة مضحّية صابرة. بعد مدّة من زواجي طُلبتُ إلى مهمّة جهاديّة، فودّعتُ الأهل، وأوصيت زوجتي الاعتناء بنفسها وبجنينها، لكنها بادرتني بنظراتٍ استغربتها، وقالت لي إنّها لا تكتفي من النظر في عينيّ. لم أعرف وقتها السرّ في ما فعلت، ولم أدرك أنّها ستكون مصدر النور الذي اختفى من عينيّ في المستقبل القريب بعد انطفاء شمسهما.

«هل فقدتُ بصري؟»

وصلتُ إلى المكان المقصود عصرًا، وبعد أن أدّيتُ صلاة العشاءين، دعوتُ الله أن يهبني نسمة لطفٍ ويرزقني الشهادة. وبعد رصدٍ طال وقتًا، انطلقتُ في مهمّتي.

تلك الطرق التي مررت بها تنعش الروح برائحة تراب الجنوب، وبعد مسيرٍ دام ساعة ونصف، داست قدمي عبوة مخفية، فانفجرت بنا، تدحرجتُ وارتطمتُ بشجرة. حاولتُ القيام لكنّ عجزًا تملّكني. سمعتُ صوتاً خفيفاً لرفيقي جواد، فقلتُ له: «أين أنت يا جواد؟ وماذا حصل؟». قال: «قد بُتِرت رجلايَ». تقاسمنا الصبر على الأوجاع، صرخنا من أعماق قلبَينا لعلّ أحداً يسمعنا ويساعدنا، ثمّ وضعتُ يدي على وجهي وإذا بالدم يسيل من عينيّ، وأحسستُ أنّ وجهي يحترق.

بعد ساعات، زحف بعض الشباب إلينا، ولم يكن معهم سوى حمّالة واحدة، فطلبتُ منهم حمل جواد عليها لأنّه كان فاقداً للوعي، بينما حملني آخرون على الأكتاف. قلت لهم: «هل فقدتُ بصري؟ أنا لا أرى شيئاً». قال أحدهم: «لا، عيناك بخير».

«سأكون عينَيك»

أخضعت للعديد من العمليّات في يديّ وقدميّ. وبعد خمسة أيّام من الإصابة، جاء وفد من قِبل سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) وهنّأني بالسلامة: «السيّد يتمنّى عليك أن تتحلّى بالصبر والتحمّل، ففي ذلك جهاد؛ لذا كن قويّاً، وتغلّب على معاناتك».

بعد العلاج الفيزيائيّ بدأتُ أحرّك يدَيَّ مع كثيرٍ من المعاناة والألم. وأكثر ما آلمني هو ملازمة زوجتي الحامل لي دون أن تفارقني لحظةً واحدة، وكانت دائماً تقول لي: «أنت قدّمتَ عينيك فداء للوطن والشرف والحقّ، وأنا سأكون عينيك، ولي الشرف أن أكون زوجة جريح دافع عن وطنه وأهله».

وبعد مرور شهر، أخبرني الطبيب أنّني فقدتُ بصري إلى الأبد. شكرتُ الله لأنّني أبصرتُ النور من خلال أرض الجنوب، أأبخل عليها ببصري؟

 

السند والمعتمد

تقول الزوجة: «أمجد لم يتغيّر بعد الإصابة، فأنا أعتمد عليه في الكثير من الأمور، ولا يحبُّ أن يعتمد على أحد، وهو من يتسوّق لنا أغراض المنزل، ويساعدني في تربية الأولاد. حياتي استمرّت بتغيّر كبير، هو وسام الشرف الذي أفتخر به مدى العمر».

«أبي تاج على رؤوسنا»

تربطني علاقة قويّة بأبنائي الأربعة؛ إذ إنّني أرى النور بهم، وخاصّة أميرة المنزل، ابنتي الكبرى بتول التي تهتمّ بأموري الخاصّة جدّاً، وهي تقول عنّي: «أنا أفتخر بهذا الرجل العظيم، فهو تاج يجب أن يضعه كلّ إنسان شريف على رأسه»، وتخاطبني قائلة: «لا تخف يا والدي، فأنا سأكون عينَيك اللتَين فقدتهما أثناء جهادك».

أمّا عبّاس، فيعشق خدمة الآخرين ومساعدتهم، ويلحّ على والده ليطلب منه ما يريد، غير مسموح لأحد أن يخدمه، فهذا واجبه، يقول أمجد: «عندما وُلد عبّاس حملته بين ذراعَيّ ورفعته إلى جهة القبلة وقلت: يا رب منَّ على ولدي بالشهادة عندما يكبر، ليرفع رأسي عند مولاتي السيّدة الزهراء (عليها السلام)».

«رحيل» تسأل والدها: «أين عيناك؟» فيحدّثها بما جرى، فتقول: «لا تخف سأقدّم لك عندما أكبر عيوناً». آخر العنقود لا تتعدّى الأشهر، غنّوجة المنزل، هؤلاء الأولاد غيّروا حياة أمجد ليكون أقوى.

رحلة جهاديّة

قرّر أمجد القيام برحلة جهاديّة مع أولاده ليعرّفهم إلى أرض الجنوب العصيّة على المغتصبين. وردة وجعه فاح أريجها، فعرف أنّه وصل من رائحة التراب والهواء، «كنت أشتاق لأضمّ أغصان اللوز والتفاح وأقبّل ثمارها». كان غارقاً في أحلامه يبحث عن الجبل الذي حرسه، والمغارة التي احتمى بها، وساقية الماء التي ارتوى منها. قاطعته ابنته بتول: «هذه الأرض جميلة جدّاً، وفرحتُ كونها تلطّخت ببعض دمك الغالي».

لا تجعل الدنيا لي سجناً

بعد مرور سنة على الإصابة، أحسّ أمجد بملل وضجر كبيرَين، لم يترك الحزن لقلبه موضعًا يحيا به، ذكرى أيام الجهاد كادت تفتك به، وكلّما ضاقت به الأيّام كان يكرّر دعاء: «اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً ولا فراقها عليَّ حزناً»[1].

يذكر أوّل حادثة قرّر فيها الاعتماد على نفسه: «كنت في شهر رمضان جالساً على شرفة المنزل، فخطر في بالي أن أذهب إلى منزل أهل زوجتي أثناء السحور، كنت خائفاً من العواقب التي ستخبئها الدروب ولن أراها، ولكني تغلّبت عليها، واجتزت مسافة  تقارب 150 متراً، تفيض صعوبة وخطرًا، لكن في النهاية وصلت إلى المنزل، فتحت زوجة عمّي لي الباب أذهلتها الصدمة: «كيف أتيت بمفردك؟». وهكذا بدأ بالتنقّل من مكان إلى آخر حتّى أصبح يتجوّل في جميع طرقات القرية، «العصا تساعدني كثيراً وأعتمد عليها».

في درب الحياة

تدرّبتُ على صيد الأسماك، وأنا أمارس هوايتي على نهر العاصي برفقة بعض الأصدقاء. تعلَّمتُ صناعة القشّ وشاركت في معارض كثيرة. أتقنتُ عزف البيانو من خلال مؤسّسة الجرحى وبلديّة الهرمل، ثمّ أخذتُ أطوّر نفسي عبر سماع المقطوعات ومن ثمّ عزف مقطوعات خاصّة بي، وشاركتُ مع فرقة الجراح التابعة للجرحى. أستخدم الهاتف من خلال البرنامج الخاصّ بالمكفوفين، وأنا ناشط على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولديّ صفحة تخدم المقاومة وجمهورها.

خضعتُ للعديد من الدورات الثقافيّة والتربويّة، وأحضر في مسجد الضيعة بشكلٍ مستمرّ بحمد الله.

قولٌ وفعل

«لا تخافوا إذا استشهد أبناؤكم أو جُرحوا، افتخروا بذلك، كونوا بقربهم، ساعدوهم للتغلّب على جراحهم كي يمتلكوا العزيمة». فالإصابة جُعلت لصنع المعجزات، لا للفشل والاستسلام. والإنسان المؤمن يكتشف إيمانه في الأوقات الصعبة، أمّا دور الجريح، فإنّه لم ينتهِ بعد وإلّا لاختاره الله شهيداً، وبذلك نكون قد قرنّا قول (يا ليتنا كنّا معكم، فنفوز فوزاً عظيماً) بالفعل حقّاً».

 

[1]  مقتبس من الصحيفة السجادية، ص573.


65

حبّ زينب مَلَكَ قلبي

بلسم جراحي

-نسرين إدريس قازان-

اسم الجريح: المجاهد مرتضى سليمان بيضون (هادي).

مكان الإصابة: ريف حمص.

تاريخ الإصابة: 3/3/2010 م.

نوع الإصابة: إصابة في الرأس ادّت إلى ضعف في الأطراف الأربعة.

مجلة بقيّة الله / العدد 339/ ربيع الآخر 1441 هـ/كانون الأول 2019 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

 

لحُبّ، كلّنا يتكلّم باسمه، وقلّة منّا من يتكلّم الحبّ باسمهم. خلاصة الحبّ الفناء، فناءٌ فحسب. تحلّق الفراشة حول الضوء لتلتهم النارُ أطرافها، فتجذبها وتنصهران معاً لتصبحا النور. أنا وهي؛ كلانا كان الفراشة، وكلانا كان النور، وصهرتنا الرصاصةُ معاً. رصاصة القنص تلك التي اخترقت جمجمتي وخرجت من عيني اليسرى فأطفأتها، أوقفت قلبي ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة ظنّ الأطباء أنّ الصعقات الكهربائيّة هي التي أعادتني إلى الحياة بعد أن زُفِفتُ شهيداً. لم يكن أحد منهم يعلم أنّ حبلَ وريدي قد تدلّى في بئر قلبها، حيث تدعو دوماً أن أعود سالماً.

عندما تجاوز نصف الطريق

أنا مسعفٌ حربيّ. منذُ بداية الحرب في سوريا مكثتُ في الخطوط الأماميّة للمعارك، وكان الجميعُ يعلمُ أنّ إصابة الرأس الخطرة من اختصاص هادي المسعف؛ المسعف الذي كان ينقذ الجريحَ بحبّه قبل تضميد جرحه.

لا أستطيع أن أتذكّر ضراوة تلك المعركة، وكأنّه يومُ القيامة. تراب الأرض يلامس الغيم، والقذائف تسقطُ وهي تشدُّ معها أطراف السماء لتطبق علينا. سقط أحد الإخوة جريحاً، ولم يستطع أحد سحبه، فما كان منّي إلّا أن شددتُ جرح الجريح الذي بين يدَيّ، وهرعتُ لإنقاذ الآخر. تجاوزت نصف الطريق فقط، وانتهى كلّ شيء.

«لا زلتُ هنا»

كان في أحشائها حلم جميل انتظرناهُ طويلاً اسمه ريحانة، وكنتُ أمامها جثّةً بلا روح.. بقايا نبض، رفض الطبيبُ أن يعطيها أملاً واحداً في المئة، ثمّ كان كريماً بعد أربعة أيّام عندما أنزلني إلى غرفة العمليّات ليفتح رأسي ويزيل نصف جمجمتي بسبب النزيف الحادّ، فقد صار الأمل واحداً في المليون!

«ستفقدينه في أيّة لحظة». فاختزلتِ الزمان والمكان وكلّ ما قيل، وسكنتْ ذلك الخطّ الرفيع والصوت المروّس في آلة مراقبة نبضي. أعلمُ أنّها انهارت وبكت وامتنعت عن الطعام في المدّة التي لم آكل فيها، ولكنّها بقيت واقفة صلبة، كشجرةٍ تشبّثت جذورها في قلبي، وصارت أغصانها شراييني. فجأةً، هذه التي لم تكن تخطو خطوة من دوني، وتغرق في الحياء والارتباك من تفاصيل سطحيّة، تحوّلتْ إلى الجهة المعنيّة بكلّ شيء لأجل حياتي. جلستْ بالقرب منّي وهي حامل في شهرها السادس تداويني وأنا في العناية الفائقة، تقلّبني ذات اليمين وذات الشمال، تنظّف جراحي، وتحدّثني بكلّ شيء: اليوم والتاريخ والأحداث، وتخبرني عن ثياب طفلتنا، وما اشترته لها، وتطلب منّي أن أكون قويّاً لأجلهما. لا أدري وأنا غارق في عالمي البرزخيّ ما الذي كان يجري حولي، ولكنّي كنت أشعر بكيانها حاضراً دوماً، وأعبّر عمّا في قلبي بضغطة ضعيفة على يدها أقول فيها: «لا زلتُ هنا».

أشهر مريرة كانت تقرأ فيها نبض قلبي لتعرف أحوالي، وعندما حان المخاضُ، ووضعتْ «ريحانة»، تركت سريرها بعد أربع ساعات لتتفقّدني وتطمئنّ إليّ.

الاختيار الموفّق

زوجتي درست التمريض مثلي، ولكنّها لم تتأقلم مع عمل المستشفيات. لم تتقبّل فكرة أن يتوفّى مريض وتكمل عملها وكأنّ شيئاً لم يكن، وقد شجّعتها على ذلك، فتلك الرقّة التي تشابهنا بها قرّبتنا كثيراً من بعضنا بعضاً.

مضافاً إلى الصفات الحميدة الموجودة فيها، شجّعتني الاستخارة -أيضاً- أن أنتقيها، لتكون زوجة صالحة لي، وبعد سنة ونصف من الزواج، أصبتُ، ولمّا تجاوزتُ الخطرَ، عدتُ إلى الحياةِ بشللٍ رُباعيّ وفقدانٍ للنطق، وصعوبة في التركيز، وبعينٍ واحدة وأذنٍ واحدة. هادي الذي كان يضجّ حركةً وحياةً ونشاطاً... لم يعد كذلك.

وحدها من بين الجميع لم ترني على ما أنا عليه.. لقد اتّحدت إرادتي بقوّتها، ومن المستشفى، إلى مراكز العلاج، إلى البحث الدائم في الإنترنت عمّا يمكن أن يساعدني، كانت تعلّمني النطق، وتساعدني في تركيز نظراتي، وتدرّبني على السير وعلى تنشيط حركة يدي، حتّى ذُهل الطبيب بنسبة شفائي بوقت قصير.

«صباح الخير!»

كلّ يوم كان جديداً بالنسبة إلينا، تفتح عينيها وتقول لي: «صباح الخير»، وتقسّم وقتي بين راحةٍ وتدريب وعناية. وفي كلّ يومٍ كنتُ أودّ أن أعبّر لها عن امتناني العميق لحبّها الذي أخرجني من غياهب الجبّ.

بعد ستة أشهرٍ، نظرتُ إليها صباح يومٍ وكانت لا تزالُ تغفو على الكنبة المقابلة لسريري، تمنّيتُ أن تظلّ نائمةً لأتأمّل شعاع الأمل الساطع من جبينها، وكنتُ أشكرُ الله أن رزقني إيّاها زوجة، ولكنّها فتحت عينيها وقطعت عليّ استئناسي براحتها، ابتسمت معلنةً بدء يوم جديد: «صباح الخير»، فأجبتها بكلّي: «صباح النور»... كانت أوّل ما نطقتُ به، فانهمرت دموعها، صرختْ وهي مذهولة ومسرورة ممّا رأته.

النزهة المرتقبة

ها أنا ذا اليوم، أتّكئُ على عصاي وأمشي بهدوء، أتجوّل في البيت متدرّباً على السير، فـريحانة تنتظرُ نزهةً معي... وأتواصل مع مركز عملي لأنبّههم أنّ البديل الذي شغل مكاني عمله مؤقّت.. أعرف أنّي لن أعود كما كنتْ، ولكن مَن انتزع الحياة من الموت، سينتزع بإصراره كلّ ما يريده، فأنا مسعفٌ حربيّ، ولن أكون غير ذلك.


73

كلمة مجلّة بقية الله

اللقطة الأخيرة

-نسرين إدريس قازان-

اسم الجريح: المجاهد جعفر محمد حسن (جواد).

مكان الإصابة: معلولا.

تاريخ الإصابة: 14/4/2014م.

نوع الإصابة: الكاحل الأيسر والأذننان.

مجلة بقيّة الله/العدد 338/صفر 1441 هـ/تشرين الثاني 2019 م/السنة التاسعة والعشرون.

 

 

وبدأتُ أحضّرُ نفسي للعبور إلى العالم الآخر. كرّرتُ بهدوءٍ شهادة الموت. لا مناص من هذه اللحظة. استبدّ بي الوجع وأنا محشورٌ أجمعُ جسدي خوفاً من الرصاص المنصبّ علينا حِمماً في أرض السيّارة بين المقعدين الأماميّين، والمقعد الخلفيّ الذي استلقى عليه رفيقي المُصاب، ودمه يقطر عليّ. هكذا هو ضيقُ القبرِ -فكّرتُ في نفسي- وأنا أستحضرُ ما سيحصلُ معي بعد أن تغادر روحي جسدي.

«ستنتظرني، ولن أعود»

استسلمتُ للوجع، وأغمضتُ عينَيّ. لقد وقعنا في كمينٍ محكم ولن يصل إلينا أحد. ولاح على حين غرّة شوقٌ إلى وجه أمّي. تذكّرتُه وأنا أحضنها بشدّة مجهشاً بالبكاء لمّا دوّى انفجار داخل مرآبٍ في بئر العبد عام 2013م. يومها، كنّا على الهواء ننقل بثّاً مباشراً، فتركتُ عملي وأنا أصرخُ: «أمّي»! طويتُ الأرض ووصلتُ إليها: «أنتِ بخير؟». ابتسمتْ، فعادتْ إليّ روحي. أمّا الآن، فستنتظرني، ولن أعود.

ألوان الحياة

وبدأت الأفكار تتجاذبني وأنا تحت ميزاب من دم رفيقي. لم يخطر لي أنّ علاقتي بالتصوير -الهواية التي امتهنتها إلى جانب دراستي- ستُقطع أواصرها يوماً، وستعود إلى ما كانت عليه مجرّد «هواية». بين عيني والعدسة ويدي والكاميرا، ألوان حبّ وحياةٍ التهمتها أطراف ثياب محروقة وأشلاء ودماء. حربٌ غاب فيها أكثر من أربعين شابّاً من رفاقي، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا.

«شهيدٌ في سبيل الله»

في الصف التمهيديّ، حين سألتني المعلّمة عن طموحي عندما أكبر، أجبتُ باختصار: «شهيد في سبيل الله». لم يكن جوابي اعتباطيّاً، فعلى الشرفة الضيّقة لمنزلنا في بئر العبد، كنتُ أتدرّبُ على النظام المرصوص، وأحضّر نفسي طوال العام للمشاركة في عرض يوم القدس العالميّ الذي أنتظره من سنة لأخرى. كبرتُ، تهاوت شرفة بيتنا في حرب تمّوز 2006م، ولكنّها عادت أجمل ممّا كانت. والعرضُ الذي تحوّل إلى احتفال، أبقى القدس هي القضيّة والوجهة، وسيظلّ طموحي: «شهيد في سبيل الله». إذاً، نحن أقوى من كلّ شيء.

نشيد الثورة

درستُ الإدارة، ولكنّ حبّي للتصوير دفعني إلى الاحتراف، احترافٌ تحوّل إلى احتراق وأنا أتنقّل بعدستي من مشهد انفجار إلى آخر، دموع ونار وقهر، حقدٌ بشريّ دائم التغلّب على نفسه.

لمّا توجّهتُ مع الفريق إلى سوريا لتغطية الأحداث هناك، تقرّر مكوثنا عشرة أيّام، ولسببٍ جهلته، شعرتُ أنّي سأعود بسرعة.

كان حمزة (الشهيد المراسل حمزة الحاج حسن) طوال الطريق يستمع إلى أناشيد ثوريّة قديمة: «امضِ وزلزِل عروش الطغاة»، «جبل الأبطال الأشراف». وكلّ واحد منّا تحمله الكلمات إلى عالمه الخاصّ.

أنيابُ الباطل

سرعان ما تقشعت أمامي حقيقة شعوري. بعد أن وقعنا في مرمى نار تكفيريّين تسلّلوا إلى منطقة محرّرة، فاستشهد عدد من الفريق، وأنا انتظرتُ حتفي مع من أُصيبوا. الدقائق تمرّ كالساعات، والرصاص لم يعطنا فرصة للتحرّك.

لم أصدّق أنّ أحداً ما سيستطيع الوصول إلينا. عندما سمعتُ همهمات تقترب منّا، أغمضتُ عينَيّ حتّى لا أرى وجه من سيحزّ رأسي، ولكن سرعان ما تمّ سحبنا من السيّارة. إنّهم أصدقاء، أخذتُ نفساً عميقاً. انفصلتُ عن رفيقي، فيما بقيتُ مع مجموعة أختبئُ في مكان يطلُّ مباشرة على جثمانَي رفيقَيّ اللذين لشدّة النزف كدّت ألتحق بهما. حدّقت بهما، ولوهلة تجمّد الزمن، وكأنّ الحياة صارت صورة فوتوغرافيّة عزْفُها الوحيد نبض قلبي. كم أنبت الباطل من أنيابٍ لينهش الحقّ؟ كنتُ هناك، وكانت الحياة تصارعُ لأجل البقاء، فانتصرت الحياةُ، ونجوتُ.

صلاة الشكر

تقطّعت أربطةُ مفصل قدمي، ولم أعد أقوَى على السير. وما إن هدأت الاشتباكات قليلاً، نُقلت إلى المستشفى، وسرعان ما توجّهت إلى بيروت، وتمّ تعليق وحدات دم لتعويض النزف الشديد.

كان أبي قد صلّى ركعتَي الشكر لله على ما أصابه، بعد أن أُبلغ بأنّ الاتصال مع وحيده قد فُقد، وأنّ الفريق وقع في كمين مُحكم. ثمّ طلب من أمّي، التي انهالت عليه بأسئلة لا إجابات عنها، فِعلَ ذلك. بدأ الناس يتوافدون إلى المنزل للعزاء، إلى أن اتّصلتُ بهما. قالت أمي: «أنتَ بخير؟»، ابتسمتُ، لقد عادت إليها الحياة.

وجه حياةٍ انتصرت

لم تستطع العمليات الجراحيّة أن تعيد مشيتي إلى طبيعتها، وعليّ الالتزام بأخذ دواءٍ بشكلٍ دائم. تركتُ مهنة التصوير لعدم قدرتي على الوقوف، ولكنّني أكملتُ دراستي، وخضعت للامتحانات الرسميّة في المهنيّة وأنا مصاب. وها أنا أُكمل حياتي في عملٍ إداريّ، ولكنّ اللقطة الأخيرة التي التقطتها لا تبارح ذاكرتي: وجها حمزة وحليم (الشهيد المصوّر حليم علّاو)، وجها حياة انتصرت، وستنتصر.


83

كلمة مجلّة بقية الله

يوم وُلدت من جديد

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد حسين فؤاد دباجة (جون).

مكان الإصابة: فليطة.

تاريخ الإصابة: 21/5/2015 م.

نوع الإصابة: شلل جزئي في الأطراف السفلية.

مجلة بقيّة الله/ العدد329/ جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1440 هـ/ شباط 2019 م/ السنة الثامنة والعشرون.

 

شعرت أنّني أطوفُ في عالمٍ آخر... في مدائن الفراق نُصِبت خيمة رخام من سراب الرحيل، أُخبرت لاحقًا أنّ جسدي تدحرج من أعلى جبلٍ ارتفاعه 2400 متر. أظنّ أنّني ولدتُ حينها، وفي سنابل عيوني حقولٌ من الإرادة المتجدّدة.

البلد الطيّب

«ولدت في أحد أحياء الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وترعرعت في كنف عائلةٍ متديّنة، يُظلّلها مجاهدٌ عاصر الحروب السابقة، ربّانا على المبادئ الإسلاميّة، والقيم الأخلاقيّة، وأمٌّ كانت تغمرنا بعاطفتها وحنانها، وعنايتها الدقيقة بنا». بسبب هذه التربية الصالحة، انخرط حسين فؤاد دباجة في الميادين التي تعينه على تكامله الجسديّ والمعنويّ والعقليّ. «التحقتُ بنادي الكاراتيه في عمر الخمس سنوات، والتحقت بكشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في الوقت نفسه».

تعبويٌّ فمجاهد

بدأت رحلتي مع التعبئة التربويّة كمندوب لمتابعة أمور الطلّاب واحتياجاتهم في مدرستي بعدما أنهيت المرحلة المتوسّطة». وقد أثمرت هذه الرحلة عشقاً لخطّ المقاومة، وسعياً للانخراط في ساحات الجهاد، «التحقتُ بالعمل المقاوم بعد إنهائي للمرحلة الثانويّة، وأخذت القرار بتأجيل دراستي الجامعيّة، على أن أستكملها لاحقاً». ولم ينسَ حسين، مع عمله المقاوم، مهاراته في الكاراتيه، «أصبحت مدرّباً للكاراتيه، وحصلت على الحزام الأسود من الاتّحاد اللبنانيّ».

الدفاع المقدّس

«بدأت المواجهة مع التكفيريّين بعد نحو أربع سنوات من انخراطي في العمل المقاوم. حاولت جاهداً أن أشارك فيها، ولكن لم يُؤذن لي بذلك». بقي حسين يتابع الأحداث التي كانت تحصل في سوريا، ويتألّم من جرائم الأعداء وسفكهم للدماء، إلى أن أذن الله له عام 2013م بالالتحاق بصفوف المقاومين للدفاع عن المظلومين والمقامات المقدّسة.

سفرٌ مختلف

كان قد مرّ على مشاركتي في الدفاع عن المقدّسات نحو سنتين، عندما قرّر أخي تحديد موعد زفافه، فطلب منّي أن أبذل جهدي لكي أحضر يوم فرحه. ولكن بعد يومين، تمّ استدعائي للالتحاق بالجبهة. بدأت بالتحضير للالتحاق ككلّ المرّات السابقة، ولكن خالجتني مشاعر غريبة، لم أشعر بها من قبل، حتّى وداع والدتي كان مختلفاً هذه المرّة.

لكان اختارني شهيداً

وصلنا إلى ساحة المعركة، كانت الأرض جرداء، والهواء بارداً جدّاً، والمواجهة أخذت تشتدّ. واتّخذ قرار بأن تقوم قوّاتنا بالتقدّم، لحسم المعركة، لكنّنا تفاجأنا بالأعداء كامنين خلف التحصينات، على بعد 15 متراً من موقعنا. بدأت القوّات المعادية بإطلاق النار علينا، وبدورنا قمنا بالردّ الدفاعيّ، وفي أوج المعركة أصبت أنا. لم أدرك ما حلّ بي في الثواني الأولى، ولم أعد أرى شيئاً سوى الغبار الكثيف، صرت أنادي (يا زهراء أغيثيني)، (يا أبا عبد الله). شعرت بأنّني قد أصبحت في عالمٍ آخر، قيل لي فيما بعد إنّ جسدي كان يتدحرج من على جبلٍ يرتفع 2400 متر. استيقظت على وقع الصدمات الكهربائية في المستشفى الميداني، وتقرّر نقلي إلى بيروت لمتابعة وضعي الصحيّ. لقد كان بدني عاجزاً عن الحركة أثناء رحلتنا إلى بيروت، ولم يكن لديّ سوى عينيّ لملاحظة ما يحصل حولي، وبالتالي لم أعلم نوع إصابتي ومدى خطورتها. «وصل حسين إلى المستشفى، حيث كان بانتظاره أهله وأصدقاؤه. وتمّ إجراء الفحوصات والعمليات اللّازمة».

بعد نحو عشرة أيّام بدأت تتّضح لي معالم الإصابة، وعلمت أنّني قد أصبت بشللٍ سيقف حائلاً بيني وبين ممارسة أعمالي، والطبيب أخبرني بوجود تلفٍ نصفيّ في النخاع الشوكيّ. غمرني الشعور بالصدمة. نظرت إلى عائلتي، فرأيت علامات الخوف والهلع باديةً على وجوههم، ومكثت في المستشفى أيّاماً عدّة. على الرغم من ذلك كلّه، ظلّ يخالجني شعورٌ بأنّني سأُشفى، وبأنّ كلام الطبيب ليس حتميّاً، وعلمت أن الله لن يتركني على هذه الحال؛ لأنّ لي دوراً في هذه الحياة، فلو كان دوري قد انتهى، لكان اختارني شهيداً. بدأت أتوسّل بالسيّدة الزهراء وأبي الفضل العبّاس(عليهما السلام)، وأدركت بعدها أنّ بلائي سينتهي، لكنه يحتاج إلى صبر.

مُصابرةٌ ففرج

«طلب منّي الطبيب أن أخضع للعلاج الفيزيائي ثلاث مرّات أسبوعيّاً بعد خروجي من المستشفى، ولكنّني رفضت طالبًا منه الخضوع للعلاج الفيزيائيّ بشكل يوميّ. لم يقبل الطبيب ذلك إلّا بعد إصراري. اقترحتْ عليّ مؤسسة الجرحى أن تؤمّن لي العلاج في المنزل، ولكني فضّلت الذهاب بنفسي للعلاج رغم الآلام التي كنت أعانيها على المستوى الجسديّ والمعنويّ بسبب التنقّل اليومي، واضطرار الآخرين إلى حملي في العديد من الأحيان- والتي كنت أخفيها من خلال إظهار القوّة والنشاط والرغبة في الذهاب إلى العلاج بحماس. بعد مضي أسبوعين على بدء العلاج، بدأت أحاول المشي والتحرّك بمفردي. وكان لإخوتي الفضل الكبير عليّ، خاصّةً أختي وزوجها الذي كان قائدي في الكشّاف، وتربطني به علاقة روحيّة. كانوا يحاولون التفرّغ لمساعدتي، فكان وقوفهم إلى جانبي الدافع الأكبر لي للمثابرة، وعدم اليأس».

لقد كان حسين من أهل الإرادة والإصرار، فعلى الرغم من الآلام التي شعر بها، كان يرفض الجلوس على الكرسيّ المتحرّك عند خروجه من المنزل، وكان يُصرّ على استخدام قدميه والمشي للذهاب إلى أيّ مكان يريد. «كانت المفاجأة الكبرى، بعد مرور نحو 22 يوماً على بدء العلاج، تمكّنت بفضل الله من السير بمفردي».

 

إرادة إلهيّة

قرّر حسين، وبعد مرور سنة تقريبًا على إصابته، أن يستكمل حياته العلمية والعملية، فعاد إلى العمل في النادي الرياضي كمدرّب، وانتسب إلى المعهد الجامعيّ ليتخصّص في التربية البدنيّة، حيث نال درجة جيّد جدّاً، كما وانتسب إلى الجامعة اللبنانيّة، اختصاص علوم سياسية. «كنت في تلك المدّة أعاني من عدم قدرتي على الكتابة بشكل دقيق، فثابرت على تعويض ذلك من خلال تمرين ذاكرتي على الحفظ، وبتُّ أستطيع حلّ المعادلات الرياضيّة ذهنيّاً بشكل سريع».

حسين اليوم

«أنا طالب في السنة الثالثة في الجامعة، وعلى وشك التخرّج، وبإذن الله سأدرس الماجستير في المستقبل. أعمل حاليّاً في النادي الرياضيّ بدوام جزئي بشكل يوميّ. بإمكاني القول إنّ حياتي عادت إلى طبيعتها بنسبة 70%، ولديّ الأمل بأنها ستكتمل. هجرت كلّ مغريات الحياة، كي أستقرّ في محور عيني إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، فإنّ كلّ التحديات التي نواجهها في حياتنا، سواء على المستوى الجسديّ أو المعنويّ، يجب أن نزرعها في يد الله كي تنمو نصرًا وثوابًا، ويجب ألّا تقف مانعاً من استكمال حياتنا، فطالما لدينا عقل يُفكّر، وقلبٌ ينبض، فهذا يعني أننّا بإمكاننا إحداث أيّ تغييرٍ نريده، وأنّ الالتفات إلى نِعَم الله، والإيجابيات في حياتنا، والاستفادة منها واستثمارها، تعيننا على تخطّي البلاءات والصعاب. إنّني أعتبر إصابتي فرصة كبيرة من الله تعالى لي، فبسببها تابعت دراستي الجامعية، وبالمثابرة والإرادة سنصنع الغد الأجمل». هي فرصة... ولولاها لكان اختاره الله شهيداً...


84

رحلة العودة إلى الحياة

رحلة العودة إلى الحياة

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد شبير زعيتر (حمزة حسين).

مكان الإصابة: الزبداني.

تاريخ الإصابة: 23/8/2015م.

نوع الإصابة: شلل سفلي.

مجلة بقيّة الله / العدد332/ شعبان - شهر رمضان 1440 هـ/أيار 2019 م/ السنة الثامنة والعشرون.

 

لم يكن يعلم حينما تخصّص في مجال التمريض، وكرّس مهنته ووقته للجرحى، أنّ الأدوار ستُبدَّل ذات يوم، حينما قرّر الزمن أن يطوي صفحاته، ليفتح صفحةً جديدةً تحوّل فيها شبير نفسه إلى جريح، بعد أن شاء الله أن يمنحه فرصةً جديدةً للحياة، ذات نكهةٍ وأثرٍ أكثر اختلافاً. عن شبير الحسين غازي زعيتر نتحدّث، ابن العائلة المؤمنة والمجاهدة، وخرّيج كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) والتعبئة التربويّة، وصاحب الصوت القرآنيّ والحسينيّ المميّز، الذي يروي لنا قصّة مخاض الإرادة.

في قلب المعركة

كان لاحتدام المعارك في سوريا تأثيرٌ كبيرٌ على شبير، فلم يرقْ له البقاء مكتوف اليدين في لبنان، فقرّر الالتحاق برَكب زملاء الجهاد والمقاومة هناك. يقول شبير: «المعركة في سوريا هي معركة قضيّة، وتعلّقي بالقضيّة كبير جدّاً؛ فالكثير من رفاقي سبقوني إلى هناك، الأمر الذي شجّعني على ذلك، خاصّة وأنّ عدداً منهم ارتقى شهيداً أو عاد جريحاً، فانتابني شعورٌ بالمسؤوليّة، فلِمَ أنا بعيد عنهم، وغير حاضر بينهم وأشاركهم القتال، فأنال الأجر والثواب على ذلك؟ فكان القرار بالالتحاق بهم؛ لأنّ المشاركة الفعليّة في ساحة الجهاد لا غنى عنها».

 

دعاءٌ صادق

في آخر عملٍ جهاديّ له، كان من المقرّر أن يلتحق شبير بمستشفى ميدانيّ في مدينة الزبداني للمساعدة في إسعاف الجرحى، ولكنّ المهمّة تغيّرت... حول هذا الموضوع يقول شبير: «دعوتُ الله في ذلك الوقت أن يكون لي حضور فعليّ في ساحة المعركة والجهاد، لأكون في عِداد المقاومين، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعواتي، وتوجّهتُ بعدها إلى رحلتي الجهاديّة الأخيرة، وسط دعوات والدتي بالحفظ والسلامة».

الهجوم الأخير

وصل شبير إلى مدينة الزبداني خلال الهدنة المقرّرة ليومين، حيث بدأت المجموعات القتاليّة للمجاهدين بعمليّات الرصد والتجهيز، تحضيراً للعمليّة القادمة. فما المهمّة التي أُوكلت إليه؟ يجيب شبير: «كان علينا تطهير مبانٍ عدّة من سيطرة التكفيريّين، فبدأ الهجوم في ليل السبت 22/8/2015م، واستمرّ حتّى ساعات الفجر الأولى، حيث سيطرنا، وبحمد الله، على عددٍ من الأبنية، ليقوم بعدها المجاهدون بتطهير المنطقة».

استراحة مؤقّتة

انتهت مهمّة شبير، وحان وقت الصلاة والاستراحة، مسافة ارتجازٍ وصولةٌ قصيرةٌ للقدر تجلّت بتلقّيه اتصالاً يُعلمه أن عناصر مجموعته سيُستبدلون بآخرين، وأنّ عليه تعريف أحد المجاهدين الوافدين بالمكان وبالمهمّة الموكلة إليه، وبذلك تكون مهمّته قد انتهت... ولكن... يضيف شبير: «بعد أن عرّفتُ ذلك الأخ على المكان، انطلقتُ برفقة أخٍ آخر للمغادرة، حيث كان علينا التوجّه إلى النقطة الأساسيّة، بعد اجتياز مسافةٍ طويلةٍ ومكشوفة. كنّا نسير بشكلٍ سريع، فيما أحمل حقيبةً كبيرةً على ظهري. وقد سبّبت لنا طبيعة الأرض الرمليّة عائقاً خلال المسير، حيث راحت أقدامنا تغرق في الرمل. وبينما كنت أركض بسرعة، اصطدمتُ بمطبٍّ رمليّ، وإذ بقنّاص يرمي طلقة ناريّة نحونا. على الفور، صرخ الشاب المرافق لي، طالباً منّي الانتباه لنفسي، حزن قد تسربل داخلي أنني لم أستطع تحديد مكان القنّاص. فجأةً، شعرتُ بصاعقةٍ كهربائيّة قويّة اخترقت بطني، فيما كان القنّاص لا يزال يطلق الرصاص نحونا، فطلبتُ من مرافقي عدم الاقتراب منّي لئلّا يتعرّض للإصابة. انزلت الحقيبة عن ظهري، واتخذت منها درعًا كي أحتمي بها، فلم أعد أستطيع التحرّك. بعد ذلك، خلّفت في الرمال بعض دمي، حين رحتُ أزحف بمفردي، إلى أن وصلتُ إلى مكانٍ آمن».

عمليّات متتالية

تمّ إسعاف شبير في مركزٍ ميدانيّ، ثمّ نُقل إلى أحد المستشفيات حيث خضع لعمليّة جراحيّة في الكلية اليسرى والطحال، واحتاج إلى الكثير من الدم تعويضاً عمّا نزفه، ثمّ نُقل إلى أحد مستشفيات لبنان.. فماذا حصل بعدها؟ يضيف شبير: «مكثتُ في المستشفى مدّة شهرين، خضعتُ خلالها للعديد من العمليّات الجراحيّة، وبشكلٍ متتالٍ، في ظهري ويدي، ومنها ما كان بالغ الدقّة والحساسيّة، إلى أن بدأتُ أستعيدُ عافيتي وقوّتي، فطلبتُ من الطبيب أن يطلعني صراحةً على حالتي، فأخبرني بعدم قدرتي على المشي مجدّدًا، وأنّ الشلل قد خدّر قدميّ. وضعتُ يدَيّ على رجلَيّ علّني أتلمّسهما وأشعر بهما... لأكتشف أنّ الطبيب كان محقّاً في قوله».

مرحلةٌ صعبة بإرادة قويّة

غادر شبير المستشفى ليبدأ رحلة العلاج الفيزيائيّ، وخضع مرّة أخرى لعمليّة جراحيّة في يده، استطاع على إثرها تحريكها بشكلٍ طبيعيّ. فماذا كانت نتيجة العلاج؟ يقول: «تلك كانت لحظات صعبة عليّ، كانت دهشة البلاء تزورني فأطردها متمسّكًا بالله، رغم أنني لم أعرف ماذا ينتظرني في القادم من الأيّام. تمنّيتُ الشفاء سريعًا، حتّى أعود إلى العمل الجهاديّ مع رفاقي، فدوري لم ينتهِ بعد. خضعتُ لجلسات العلاج الفيزيائي بشكلٍ متواصل، فتمكّنتُ بعد مدّة من الانتقال إلى السرير بواسطة الكرسيّ المتحرّك. وبعد فترةٍ، بدأت أقفُ مستعيناً بالسلّم الخشبيّ، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة استخدام العصا أثناء المشي».

لا للاستسلام

استقرّت حالة شبير بعد سلسلةٍ طويلةٍ من العلاجات، وما تخلّلته من صبرٍ، وقوةٍ، وإرادةٍ، وتحمّلٍ، وعزمٍ، فقرّر بعدها البدء بمرحلةٍ جديدةٍ من حياته... فالاستسلام والقعود ليسا من شيَم المجاهدين المؤمنين.

حول هذا الموضوع يعلّق شبير: «في مخيّلتي كان ذئب الضجر والملل اليوميّ يعوي، لذا أردت التغلّب عليه فقرّرتُ العمل في اختصاص التمريض بدوامٍ جزئيّ. ولاحقاً، طُلب منّي أن أدرّس في معهدٍ للتمريض، ثمّ تعليم القرآن الكريم للأطفال في جمعيّة القرآن الكريم. خلال هذه المدة، كانت مؤسّسة الجرحى تعمل على تجهيز سيّارة خاصّة بحالتي، فصرت أقودها متنقّلاً إلى العمل، كما أنّني بدأت بقراءة مجالس العزاء، والقرآن، والتواشيح الدينيّة في المناسبات».

إلى كلّ القلوب

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ يخطّط شبير لاستكمال دراسته الأكاديميّة في مرحلة الماجستير، والزواج أيضاً... هي رسالة حياةٍ واستمرارٍ تعبويّة، مشحونة بالعزيمة القويّة، والإرادة الصلبة، يقدّمها شبير إلى كلّ متألّمٍ، ومصابٍ، وجريح.. فالحياة منحة إلهيّة ثمينة، تستحقّ التضحية والبذل بما يصبّ في رضا الله، وخدمة دينه وعباده سبحانه وتعالى. فيقول شبير: «ما أثقل الشفاه التي غادرها ذكر الله عند كلّ مصاب، إن شاخ وجه الآلام في تفاصيلنا، علينا التأسي بآل الله. على كلّ جريحٍ أن لا يستسلم، وإنّما يجب أن تكون جراحه دافعاً أساسيّاً للتقدّم والتطوّر في مختلف المجالات... فنصيحتي لكلّ مصابٍ وجريح هي الاستمراريّة، إذ إنّها وحدها التي ستجعله قويّاً، وبها سيقتلُ اليأس، ويتحدّى الصعوبات التي تواجهه، فيذلّلها، ولا يكون بذلك عبئاً على أحد. الأهمّ هو الإيمان بالله عزّ وجلّ والتسليم له، فالإنسان عندما يقع في أيّ مصيبةٍ أو بلاءٍ، لن يجد له ملاذاً سوى الله سبحانه، فهو المعين والمساعد.

وأقول لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): إنّنا نعاهده على استكمال هذه المسيرة على الرغم من الجراح، وإنّنا سنمضي في هذا الدرب كما شهداؤنا الذين قدّموا أنفسهم في سبيل الله».

احتفالٌ سنويّ

وهكذا، تخطّى شبير كلّ صعوباته، وعاد إلى الحياة من جديد، بعد أن استفاق من غيبوبته وخاض مرحلة علاجٍ طويلة. وتحوّلت ذكرى إصابته إلى مناسبةٍ سنويّة تحتفل بها الأسرة كلّ عام، حيث تحضّر الوالدة قالب حلوى احتفاءً بالابن الذي نال وسام الجراح.


97

باقٍ في سوح الجهاد

باقٍ في سوح الجهاد

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد هادي كريّم (عليّ الهادي).

مكان الإصابة: حلب (ملحمة حلب الكبرى).

تاريخ الإصابة: 3/11/2016م.

نوع الإصابة: طلقة M16 في الرأس.

مجلة بقيّة الله / العدد 347/ ذو الحجة 1441- محرم 1442 هـ/ آب 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

حمل قاذف الـB7 وأسرع نحو سطح المبنى، بعد أن أخبره أحد المجاهدين أنّ آليّةً للمسلّحين تجوب الأنحاء. صارت الآليّة في مرمى نيرانه، بينما كان يردّد الآية: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ (الأنفال: 17)، عاجله قنّاص بطلقة 16 في رأسه، اخترقت الخوذة وخرجت من خدّه الأيمن، فهوى على الأرض.

«يجب أن ننتصر»

كان رفيقه أبو تراب إلى جانبه حين إصابته، فتذكّر كلامه قبل وقتٍ قصير حين استشهد قائد المجموعة الثانية: «هو استشهد، فهنيئاً له الشهادة، لكن هناك واجب علينا تأديته، ويجب أن ننتصر». حاول أبو تراب حمله على ظهره ولكنّه عجز، لذلك استدعى المسعفين. وما هي إلّا دقائق حتّى شهق هادي شهقة، عاد معها إلى وعيه لثوانٍ، رفع إشارة النصر بيده، ثمّ غاب عن الدنيا من جديد. حمله مسعفٌ وجدّ الركض به تحت القصف ليوصله إلى سيّارة الإسعاف.

استعدادٌ وتأهّب

كانت المهمّة تقتضي ردع تقدّم المسلّحين والحفاظ على المنطقة. وعلى الرغم من الهجمات كلّها التي نفّذها الدواعش، لكنّ اليوم الأخير كان صعباً، وبمثابة الضربة القاضية لهم. كنتُ ورفاقي نقوم بالتصدّي لأيّ عدوان، بينما تتجهّز باقي المجموعات، وكلٌّ ينفّذ مهامه بحسب اختصاصه، والهدف الأقدس المشترك بين الجميع هو عدم الانسحاب من المبنى الذي يتواجدون فيه تحت أيّ ظرف؛ لأنّ موقعه في منتصف الساحة وحيداً أعطاه مكانة استراتيجيّة كما المنطقة تماماً. كان السيناريو المرسوم قد وصل من القيادة هناك. الخطوات والمراحل كلّها كانت متوقّعة سوى ساعة الهجوم، لذلك كان الحذر واجباً وعلينا التأهّب بشكل أوسع.

في مواجهة المفخّخات

تمّ إيقاظنا عند الساعة الثالثة فجراً، وقد نُفّذ الهجوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً. كانت خطّة الدواعش تقتضي أن تدخل آليّة PMB مفخّخة، ويتمّ تفجيرها عن بُعد أو عبر انتحاريّ، فيتصاعد الغبار ويستغلّ المسلّحون ذلك للتسلّل وتنفيذ الهجوم، وهذا ما حدث فعلاً. كان ضغط الانفجار كبيراً. بعد دقيقتين، لاحت المفخّخة الثانية وانفجرت أيضاً. مقدار الدمار كان هائلاً. وبما أنّي قائد مجموعة، ومدى الرؤية كان معدوماً، وجب عليّ ارتجال طريقة لمعرفة ما يجري خارج المبنى، خاصّةً بعد أن تضرّر جزء كبير من مقدّمته، فارتأيت أن أحمل قاذف B7، وهو سلاح يستخدم ضدّ الدروع، وهو الوحيد المتوافر حينها، وتوجّهت نحو سطح المبنى مع أحد المجاهدين، لكشف المداخل المحيطة بالمبنى.

كانت المفخّخة الثالثة تحوم في الأرجاء. استهدفها أبو تراب الذي كان برفقتي. انتظرنا انفجارها لكن دون جدوى، فقد انزلقت لانحراف في زاوية الإطلاق فلم تنفجر. مهمّتها كانت مختلفة عن المفخّختين اللتين سبقتاها؛ فقد أتاحت للمسلّحين القيام بإنزال خلف المبنى للالتفاف حوله واستهداف المجاهدين.

الضربة القاضية

وابل النيران كان يصبُّ فوق الرؤوس كالمطر من أنواع الأسلحة كافّة، و«الحكي مش متْل الشوف»، لكنَّ عزيمة المجاهدين لامست السماء، الصمود تجلّى في سواعدهم، ما زاد من الإصرار في النفوس على الرغم من الخطر المحدق من كلِّ جانب.

عند الساعة الثانية عشرة، أجريتُ اتّصالاً هاتفيّاً بوالدي لطمأنته. بطبيعة الحال، كان الأهل يعرفون بأمر الهجوم القائم عبر وسائل الإعلام والأخبار، أمّا إصابتي فكانت بعد ذلك بساعة. بعد فشل خطّة المسلّحين وهجومهم، قاموا بهجوم معاكس لسحب عناصرهم المختبئين في المباني الموجودة خلف المبنى الذي نسيطر عليه، لكنّ المجاهدين قادوا زمام الأمور ومنعوهم من التقدّم أو الاشتباك أو الهجوم. وعند محاولتهم الفرار ليلاً عبر كرم الزيتون القريب، التحم المقاومون معهم وقضوا عليهم جميعاً.

إصابة بالغة

من ألطاف الله وعنايته أنّني لا أذكر شيئاً عن لحظة إصابتي. أحاول جاهداً تذكّر شيء بسيط منها ولكن عبثاً، حتّى ما قبل الإصابة بربع ساعة، أنا عاجز عن تذكّره.

تلك الرصاصة ابتعدت 2 ملم فقط عن الشريان الأساسيّ المغذّي للدماغ، فأصابت كأس الدماغ، وتسبّبت بنزيف حادّ، فقطعت أوصال الحياة في رأسي، وفي خدّي وأذني، وما استحوذ عليه وجهي من الناحية اليمنى؛ لقد أصيبت الأعضاء كلّها بشلل. وعلى الرغم من أنّ عيني التي لا ينضب دمعها خضعت لجراحة إلّا أنّها لا تزال تسبّب لي الألم حتّى الآن. فقدتُ الإحساس بوجنتيّ وأنفي، حتّى مذاق الطعام فقدته. مركز الإحساس معطّل، وكلّ العروق والأوتار في خدي الأيمن قطعت. انفجر كلّ ما في أذني إلّا هيكلها الخارجيّ حافظ على جماله، ولا مجال لأسمع بها مجدّداً. أمّا الفكّ فقد كُسر، وبعد الجراحة تمّ تثبيته دون تقويمه نظراً إلى خطورة الوضع حينها، لذلك قصر الفم 2 سنتم عن مكانه الطبيعيّ في الوجه وانحرف، حتّى أنّي أواجه صعوبة في فتح فمي كاملاً. وأكثر ما سبّب لي الأذى إصابة مركز التوازن في الجانب الأيمن، لذلك واجهت صعوبة في الوقوف والسير وحيداً، فاحتجت إلى المساعدة لمدّة من الزمن. وعلى الرغم من أنّ وضعي الجسديّ تحسّن، إلّا أنّ أثر الجرح باقٍ لا يزول.

إصابة الأسد لا تمنعه من الزئير

الإنسان المجاهد المعتاد على القتال، يبقى حبّ الجهاد يسري في دمه، مهما تألّم وتأذّى وجُرح أو خسر بعض أعضائه، إلّا أنّ عزيمته لا تنثني ولا تضعف. إصراره على الاستمرار يتضاعف، فالأسد يبقى أسداً وإن جُرِح، ولا يؤثّر الجرح على قوّته وعزيمته وإصراره.

هكذا هو حالي فعلاً، إذ لا يأس في نفسي مهما حصل. تبقى روحي هناك في الساحات، وعند أيّ مواجهة لا أدّخر جهداً محاولاً أن أكون مع المجاهدين على الجبهات، فإن احتاجني الإخوة، أنا موجودٌ دائماً. كما أنّي قمتُ منذ مدّة بتدريب مجموعة شبّان كنت أتابعهم. لا وصف للإحساس الذي شعرت به حينها. وأبقى دائماً حبيس ذكرياتٍ جمعتني مع رفاقي الشهداء، أتمنّى لو أعيشها من جديدٍ ولو للحظات.

حياتي أكملها كما أتمنّى. أتممتُ دراستي الجامعيّة بعد أن توقّفت مدّة شهرين ونيّفٍ حين إصابتي. تواصلتُ مع إدارة الجامعة كي لا أُحرم من الامتحانات، وفعلاً تجاوبت معي بقدرٍ معيّن، وأنا الآن حائز على إجازة جامعيّة باختصاص إدارة الأعمال. ساعدني أحد أصدقائي على دراسة ما فاتني من دروس، وقد أُعجب بتفوّقي في المواد التي ساعدني بها، ولفته إصراري على المتابعة على الرغم من الجراح.

ما تعب طموحي أبداً، فما زلت أتابع دراساتي العليا «ماجستير» في اختصاص الموارد البشريّة، وأروم دراسة علم النفس والتخصّص به لاحقاً. عملتُ محاسباً في إحدى الشركات، وحاليّاً أنشأتُ عملي الخاصّ «أونلاين» عبر وسائل التواصل، أبيع بعض المنتجات المتعلّقة بالهواتف الذكيّة، وبعض الهدايا والملابس وغيرها.

الإرادة طريق النجاح

علاجي مستمرٌّ إلى أن يشاء الله. فقدان الأذن الوسطى سبّب لي ضغطاً وعدم توازن في الفترة الأولى، وقد استطاع جسمي أن يستعيد التوازن عبر الجانب الأيسر، مع الكثير من التدريب. واستعدت قدرتي على السير وحيداً، وكذلك الركض والسباحة، حتّى أنّي اشتركتُ في نادٍ رياضيّ، ونجحت في هذا التحدّي أيضاً. فحين تتأصّل الإرادة في نفس الإنسان، يجد دائماً سبيلاً للحلّ.

المساعد الأوّل للفرد هو نفسه؛ إن قرّر شيئاً قام به، ولكن إن تملّكه اليأس مشى إلى حتفه، وأنا لم تكسرني جراحي. وكم تمنّيتُ أن أسرق من سفر الحلم السلامة، وأعود للدفاع عن العقيلة زينب (عليها السلام)، ووالداي يشجّعانني على ذلك.

خدمة الناس عبادة

من أولويّات الحياة مساعدة الناس وخدمتهم، مهما كان السبيل إليها صعباً. وأن يكون المرء سبباً في سعادة الناس لهو توفيق من الله، وفيضٌ عظيمٌ منه.

أساعد رفاقي من الجرحى، خاصّةً في الشقّ التعليميّ، وحتّى رفاقي في الجامعة، بعضهم ينتظرون أن ألخّص الدروس كي يستعينوا بها، وذلك أنّ الله وهبني سرعة بديهة وقدرة على الحفظ بشكلٍ سريع. تلك الغبطة تملأ جوارحي حين أحقّق لإخواني أو لأهلي ورفاقي ما يتمنّون.

كلّ ما تعرّضتُ له كان بمثابة تحدٍّ لي، وطالما أنّي بقيتُ على قيد الحياة بعد إصابتي، ذاك يعني أنّ الله أعطاني فرصةً أخرى لأثبت نفسي وأؤدّي واجبي ورسالتي، وسأفيد مجتمعي بكلّ ما خوّلني ربّي من قدرة.


105

الأوسمة الثلاثة

الأوسمة الثلاثة

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد علي قاسم جمعة (علي الكرّار).

مكان الإصابة: الزبداني.

تاريخ الإصابة: 22/8/2015م.

نوع الإصابة: شظايا متعدّدة في الجسد واستئصال العين اليسرى وضعف في العين اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 348/ محرم - صفر 1442 هـ/ أيلول 2020م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

«عليّ الكرار»، «قضينا عليه»، «ارتحنا منه»... «صوته الذي كان يؤلمنا حين يصدح بالتعليمات لقتلنا اختفى»... «كنّا نعيش الاحتضار يوميّاً بسببه».

«هو العرس اليوم والحفل الكبير».. هكذا صدحت حناجر التكفيريّين عبر الأجهزة اللاسلكيّة بعبارات التهنئة، بعد أن تخلّصوا من «كابوسٍ» أرّقهم لأشهر طويلة، قضى ومن معه من المجاهدين على أكثرهم.

الوسام الأخير

مرّت أيّام طويلة على وجودي في الزبداني. حقّقنا انتصارات عديدة. فككنا إزار الوقت عن جسد الأماكن، حتّى لا يُخدش فرحُ المآذن والمقام، وفتحنا سورة الليل الطويل لتشرق شمس نصرٍ جديد، ذلك يرتّب علينا مسؤوليّات جسيمة. كانت التشكيلات الجديدة تقتضي بأن يكلَّف قائدٌ نيابةً عنّي حين أغيب، وعليّ أن أعرِّفه المنطقة بأكملها؛ الخارطة الأساسيّة، والتجهيزات، وكلّ ما تقع عليه الحواس من معرفة.

تسلّم المهامّ رسميّاً. وضعنا المجاهدين أمام السيناريو المحتمل للمعركة، وعلى إثر ذلك قام التكفيريّون بالهجوم. عديدهم كان يفوق عديدنا بكثير، وحرارة المواجهات أنذرت بسقوط قتلى منهم. سهرت الشمس في أعيننا، طالت المعركة، سقط لنا شهداء، وحوصر بعض المجاهدين. أُلغِيت إجازتي عند احتدام الموت، وطُلب منّي العودة للمؤازرة، كان الهدف سحب جثمان شهيد من أحد المباني، فالخبرة في ذلك الميدان ضرورة تُلازم الحيطة والحذر.

وصلت ومن معي إلى المبنى المقصود، وكانت المفاجأة! هناك شهيدان في طابقين مختلفين، سحبنا الأوّل على الرغم من وابل النيران الذي لم يهدأ. شربنا حميمها بلذّة، وعدنا لسحب الشهيد الثاني. كان التكفيريّون قد نصبوا على جثمانه كميناً؛ لذا واجهنا صعوبةً في ذلك، لكن في نهاية المطاف عاد الحبيب إلينا.

في هذه الأثناء، كانت مجموعة أخرى تريد فكّ الحصار عن المجاهدين محاولةً فتح ثغرة. تلك الجلَبة جذبت انتباه القنّاصين الذين يترصّدوننا بشغفٍ، وبينما كنت أحاول ضبط إيقاع الأمور لإعادة الهدوء إلى مكان تمركزنا، وإذ بأحد التكفيريّين يرسل طلقات ناريّة متلاحقة، كان نصيبي منها واحدة اصطدمت بالبوّابة الحديديّة، وعادت إليّ مشتاقةً لتصحب معها عيني وأنفي وبعضاً من وجهي، فكان الاصطدام هو الرحمة المطلقة التي أبقت عليّ حيّاً. كان هذا الوسام الأخير الذي تكفّل بإخراجي من المعركة دون عودة.

بصلاة زينبيّة

بعد أن غطّى الدم عيني اليتيمة التي احتفظت ببعض النور، نُقِلت إلى المشفى الميدانيّ. كان الدم قد تخثّر في حنجرتي، وكان نزيف أنفي لمّا ينضب بعد. خفَت صوتي وازدادت أوجاعي. نشيج الأنين دفع الأطبّاء إلى تخديري، وبعدها غبت عن الوجود، وما عدت إلى وعيي إلّا بعد أيّامٍ عشرة في مشفى الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله). كانت زوجتي من أيقظني. تلك النعمةُ ما فارقتني لحظة. ما زالت في فكري كلماتها عن مواساتي لأبي الفضل (عليه السلام) بعيني. أخبرتها أني سعيد بإصابتي، فاستغرب الأطبّاء صلابتي التي استمددتها من الله ومن السيّدة زينب (عليها السلام).

أكثر ما عانيته بدايةً، ذاك الأنبوب النابت في حنجرتي، كما أنّ مجال الرؤية في عيني اليمنى لم يكن واضحاً، شبكتها كانت قد تحرّكت من مكانها. بعد إجراء عمليّة جراحيّة لتثبيتها، عاد إليها النظر بنسبة 10% فقط، وبعدها استخدمت نظّارات طبيّة لها مواصفات خاصّة.

مكوثي في المشفى سمح بتكشّف باقي المشكلات، كفقدان حاسّتَي الشمّ والذوق، وعجزي عن رؤية المشهد أمامي بكامل أبعاده، إنّما فقط المستوى الأعلى منه. كما خضعت لخمس عشرة عمليّة جراحيّة للأنف والفكّ. وجودي في المشفى لم يحدّ من تحرّكاتي، ولم يخجلني من لقاء الناس، فقد كنت وزوجتي نتفقّد الجرحى ونهتمّ بهم.

البداية أوسمة ثلاثة

نشأت وعقيدتي تخطّ لي درب الخلاص من شوائب الدنيا. كانت البداية في كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). ترعرعت برعماً فشبلاً إلى أن صرت قائداً كشفيّاً في المتن الشمالي في منطقة الفنار. اختارني الله لمساعدة الشبّان الذين يعملون في هيئة الدعم، وأثناء حرب تمّوز قدّمت المؤازرة لمن كُلّف بمتابعة أمور المهجّرين ضمن اللجان التي شُكّلت لمساعدة الناس.

بعدها طُلب منّي التوجّه إلى الإقليم منبت الشهداء، حيث كانت جرعة العزم الأولى، والاستقاء من مخزون الدم والروح هناك. في تلك الفترة، تعرّفت بالكثير من المجاهدين، بعضهم استشهد لاحقاً، منهم الشهيد إسماعيل زعيتر الذي ترك في داخلي أثراً ما زال حيّاً، وما حديثي عنه سوى دليل حياته وملازمته لي. صوته المميّز وروحيّته العالية، خاصّة عند قراءته دعاء الحزين، ما زال يحزّ أوداج روحي بشجاه.

خضعت للعديد من الدورات، بعدها انتقلنا إلى سوريا للدفاع عن المقامات المقدّسة ولصدّ الهجمات التي قام بها التكفيريّون هناك، وكانت مهمّتنا في منطقة الغوطة الشرقيّة. كنت فرداً ضمن مجموعة. هناك نلت ثلاثة أوسمة متتالية خلال المعارك؛ أوّلها في بلدة القاسميّة، شظية استقرّت في الكوع احتلّت مركزه عازمة على عدم مفارقته، إذ لا جراحة تخلّصني منها، ولا علاج يريحني مما تخلّفه من أوجاع، وعلى قدر الوجع يكون الأجر.

الوسام الثاني كان في منطقة البحّاريّة، أثناء التصدّي لهجوم استخدم المسلّحون خلاله السلاح الكيميائيّ، ما أدّى إلى ضررٍ كبير في الرئتين. في الوقت عينه أُصبت في الزند بطلقة من سلاح BKC، خلال رميي لقذائف الـ B7 بهدف إلهاء مدفع الـ23 عن صبّ غضبه علينا، بينما وصلت باقي المجموعات، وكان حصاد ذاك الدفاع 35 إرهابيّاً؛ وذلك كان الوسام الثالث.

علاقتي مع السيّدة الزهراء (عليها السلام) أعمق من أن تصفها الكلمات. من هنا انبثقت محبّتي لمدلّلة القلب فاطمة الزهراء ابنتي، العين والكتف، بل الوجود بأكمله. تلك الطفلة التي عايشت جراحي منذ أشهرها الطريّة الأولى، رسمت لي طريق الأمان مع خطواتها النديّة، فكانت الدليل ونور الهداية الأثمن.

لحظاتها العسيرة على فؤادها الحنون كانت حين ترى ضمّاد عيني، فتمسح بيدَيها الناعمتَين الدم والدمع عنها. لكم واستني بنبضها الخجول ودموعها السجيّة. جرحت جفنها لتقدّم لي عينها في بادئ الأمر، وبعدها قدّمت أقراطها الذهبيّة هديّة لدعم المقاومة، مثلما قدّمتُ عيني في سبيل الله. وعيها الذي أذهل الحاضرين دفعني إلى عشقها. فخرها بي بأنّي جريح جعلها محور الكون حولي. لا حرمني الله منكِ يا صغيرتي.

إنّي نذرتكَ لأئمّة البقيع نصيراً

ويبقى لاسم عليّ الكرار قصّة أخرى. سبب تسمية المولود الجديد بذلك الاسم كان نتيجة للعزّة التي نلتها أثناء التصدّي للتكفيريّين، في سبيل الدفاع عن مهجة الزهراء (عليها السلام) السيّدة زينب (عليها السلام).

ذلك الاسم له حيّزٌ عظيمٌ في تلك الأرض، لذلك كانت أمنيتنا من السيدة الزهراء أن تسأل الله أن يمنّ علينا بطفل يكمل مسيرتي، ويحمل اسمي، ويكون كرّاراً غير فرّار، شهيداً مدافعاً عن قبور أئمة البقيع (عليهم السلام).

تمنياتي له أن يكون في المستقبل ملتزماً بنهج أهل البيت (عليهم السلام)، مناصراً لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، مدافعاً عن تراب ضريح السيدة الزهراء (عليها السلام)، عن أرضها وأعتابها الطاهرة، أن يزدان بالوعي لخطورة الوقت الذي نعيشه وضرورة الحفاظ على الخط ونقاوته تمهيداً للظهور المبارك، فإنّي نذرته لأئمّة البقيع (عليهم السلام) نصيراً..

كانت عيناي درعاً لزينب (عليها السلام)، فكن يا ولدي حصناً للزهراء (عليها السلام)

تلك الكلمات كانت الهاجس الذي تملّكني، بعد ولادة طفلي وعند خروجه وزوجتي من مشفى الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله). ذهبنا لزيارة الشهداء في روضة الشهيدين مباشرةً؛ وذلك لسببين: الأوّل هو المثول بين يدَي الحاجّة أمّ عماد مغنيّة، تلك العظيمة التي ربّت في حضنها كلّ المجاهدين، لكنّ حجاب الموت حال دون ذلك، أحببنا أن يتربّع قرّة العين في حِجر تلك الملكوتية وينهل من فيض النور؛ لذا وضعناه عند ضريحها للتبرّك.

والسبب الثاني، كي يكتمل معنى مقولتي: «كانت عيناي درعاً لزينب (عليها السلام)، فكن يا ولدي حصناً للزهراء (عليها السلام)»، فتلتحم الفكرتان معاً. مشروع الشهيد لا يولد صدفة، التعب في الوصول إلى الله هو من يصنع الشهداء، وهم بداية النصر لا نهايته، كذلك الأمر بالنسبة إلى الجرحى، بعد الإصابة تبدأ حياتهم الجديدة، وفي قاموس معنويّاتهم لا مكان للاستسلام.

نحيا بجراحنا

إن عاد النور إلى عيني، أتوسّل الله أن يرزقني شهادة أذوب بها وأتلاشى، وطالما الحياة تختلج في أوردتي، سأؤدّي رسالتي. مواساتي لأبي الفضل العبّاس (عليه السلام) تبقى شحيحة مقابل سخاء جراحه، ووجعي ضئيل لا يقارن بأوجاعه. ما كانت الجراح عائقاً يوماً، ها أنا أكمل حياتي، أتابع عملي الجهاديّ في مكانٍ جديد، أدرّب المجاهدين على الرابيل، كما أنني عضوٌ في فرقة جراح الإنشاديّة، نحيي المناسبات باسم الجرحى وننفّذ الأنشطة، لنثبت للعالم أجمع أنّ حياتنا لا تنتهي حين نُجرح، بل نحن قومٌ نحيا بجراحنا.


113

إنّكَ بأعيُننا

إنّكَ بأعيُننا

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمّد حسن علّوش (سراج).

مكان الإصابة: فليطة - القلمون.

تاريخ الإصابة: 15/2/2016م.

نوع الإصابة: بتر اليدَين، وإصابة في العين.

مجلة بقيّة الله / العدد355/ شعبان - شهر رمضان 1442 هـ/نيسان 2021 م/ السنة الثلاثون

 

لا أعرف كيف وصلت تلك الجميلة إلى قلبي، ومن أيّ الجروح اخترقته، ما أعرفه أنها خليلتي منذ ذلك الحين، حيث ظلّت كلمات السيّد ترنُّ في مسامعي عن أميرٍ طاغية، خطّط أن يلوك العرض والشرف بجهله: «نساء كفريا والفوعا الجميلات مغنمٌ لا يمكن التفريط به أو التنازل عنه مهما تكبّدنا». سافرت ورفاقي في كلمات سماحته من حرفٍ إلى حرفٍ على خطر، ورسم السبي شاخصٌ في البال، نأبى أن يتكرّر والجرح يُنكَأ عند ارتدادة طرف عينه، وبإشارة السبابة نُهرِقُ الأرواح، وتستقرّ في الخافق ألف ألف شظية ولا نبالي.

فالعبرة أنّ انتصارنا في معركة الزبدانيّ محتومٌ منذ الأيّام الأولى، لكن ربْط الدواعش مصير مدينة الزبدانيّ بمصير قريتي كفريا والفوعا، خلق معادلةً صعبة، فهل بإمكاننا الادعاء أننا ثقة المؤمنين ونتخلّى عن هاتين القريتين؟ هل نحن أنصار الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) إن تقاعسنا وأبحنا سبي لحمنا ودمنا من جديد؟

شبيه العباس (عليه السلام)

«يا صاحب الزمان». بذا لهجتُ بعد أن فَرَت تشريكة المتفجّرات أعضائي حين فتحت باب السطح. يقيني أنّ الإمام  (عجل الله تعالى فرجه) حضر وإنْ لم أرّه. تلك القوّة التي سرت في مجرى دمي لم تكن عبثيّة؛ صُبَّت في أوردة إنسانٍ بُتِرت يداه، ولفظ بطنه الأحشاء بعنفٍ خارج محيط المكان، كانت قوّة مكّنتني من توضيب أمعائي مكانها بيدي. الأحمر الذي كسا وجهي وجمُد على عينَيّ، لم يمنعني من رؤية طريقي. نزلت السلالم حتّى وصلت إلى الآليّة وسط ذهول المجاهدين. فتح رفيقي بابها، استقللتها، ومن ثمَّ اتّكأت على جنبي الأيمن ليسكن الوجع. حافظت على وعيي وفي يقيني شعورٌ أنَّ بلوغ الموت لم يَحِنْ.

أحتسبها عند ربّي

وصلنا إلى المشفى الميدانيّ. ترجَّلتُ على الرغم من النزيف، وتوجّهت نحو الطبيب. إدراك الجريح لوضعه يساعد مَن سيطبّبه على العناية به؛ لذا حاولت مساعدة الطاقم الطبّي الذي أحاط بي. لفتت الممّرض إلى ضرورة وضع رباط عند معصمي لوقف نزفه بسرعة، وساعدت آخر للحصول على معلوماتٍ تخصُّني، وجهدت على الرغم من كمِّ الأوجاع أن أحتسبها عند ربّي.

مزاح الدمع

رحت أقيس العمر بشراهة الضحكات، بعد أن أطلعني الطبيب على وضعي الجديد: يدان مبتورتان، وجراحة في البطن، وتوضيب أمعاء، وجراحة في العين، ونزف في الأذن، وشظيّة في القلب من أتراب النبض، إن مالت قليلاً أغادر الدنيا وهي معي. تبسّمت في وجهه شاكراً له. أمّا بعد وصولي إلى لبنان،

فقد أضْفَت عناية الأهل والمتابعة الحثيثة من مؤسّسة الجرحى جوّاً أكثر وئاماً، لكنّ القلق المسيطر منذ الغروب الأوّل لجرحي حتّى اليوم الخامس عشر، أبقى الجميع في دوّامةِ اضطراب. وبين غيابٍ عن الوعي لأيّام وخضوع لجراحات متكرّرة، بقيت في المشفى مدّة شهرين تقريباً.

الرفق الإلهيّ ظلّلني؛ فبين موقف الأهل، وخصوصاً والدتي التي نذرتني للموعود (عجل الله تعالى فرجه) حين كنت جنيناً، والإنسانة المجاهدة، المؤنسة وبلسم الآلام التي اقترنت بها، وابني حيدر هديّة السماء لي، وأصدقائي الذين واكبوني وما تخلّوا عنّي يوماً، مَن كانوا السند والعون بعد الله، والعوض عمّا فقدت، تسير بي المعاني لجوهرٍ واحد هو: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطور: 48)، وأيّ حالة بعد هذا يعيشها الإنسان؟!

هوى الجهاد

كنت قد تدرّجت في كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) منذ الصغر. نشأتي كانت على يد صهري، شربت من ملامحه ملء الوقت، فكان قدوتي في الجهاد، هو من سيّرني في دروب هواه، إلى أن خضعت لدورة مقاتل في الخامسة عشرة من عمري. ما زالت كلمات مدرّبي حينها مقيمة في وجداني: «توجّهك الآن إلى معسكر إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ليس كأيّ توجّهٍ إلى مدرسةٍ تعليميّة؛ لأنّ كلّ ما فيه من لباسٍ وعتادٍ ملكٌ لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، وهذا حَرَمُه، فاسعَ لأن تنال رضاه». ومذ ذاك الوقت، عاهدت صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه) على أن أكون المتميّز والأوّل في المجالات كلِّها، كرمى لعينَيه. ورد أنَّه عند ذكر الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) يلتفت إلى رؤية مَن ذكره؛ لذا كنت على يقينٍ من حضوره، وفي كلّ مكانٍ هو الورقة الرابحة، خصوصاً عند الثغور، فالتعلّق به يبقى طيّ النبض والزمان. خضعت بعدها إلى دورة في اختصاص الهندسة. وفي الثامنة عشرة من عمري صرت قائد مجموعة. وفي العام 2012م، التحقت بقوّة الرضوان.

ولادة جديدة

نفضت وجعي عنّي بعد أشهرٍ ثلاثة من الإصابة. أحببت ولادتي الجديدة، وتأقلمت معها، على الرغم من معاناتي مع الشظيّة المزروعة داخل قلبي، وهجوم الجراثيم المتكرّر. تابعت دراستي في اختصاص الحقوق بعد أن عدلت عن اختصاص علوم الحياة. قدْتُ سيّارتي دون مساعدة. سافرت إلى العراق، وسرت درب العشق بعد أن ضجّ بي الشوق إلى غربةٍ تئنّ بساكنيها بين النجف وكربلاء، وهناك كان اللقاء بالكفيل وأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام) بحياء الوصال والقرب، وإن كانت المواساة طفيفة.

إن عاد الزمان

عندما يعيش الإنسان جوّ الجهاد، ينمو غصن الغربة فيه، فيتوق إلى موعد قطاف الثمار بالملتقى، لذا عند كلِّ مهمّةٍ، كنّا نودّع بعضنا بعضاً قبل الهجوم؛ لأنّ عددنا سينقص لا محالة، سيحلّق من بيننا شهيدٌ أو سيسقط جريحٌ. هذه الروحيّة لا يساورها شكٌّ في أنَّ أيَّ واقعٍ ينتج عن ذاك الجهاد سيكون برداً وسلاماً ومحلَّ ترحاب، أليست سيّدة نساء عالمها زينب (عليها السلام) ما رأت إلّا جميلاً على الرغم من سيل البلاء؟

وما رسالتي للإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله) للاستفسار عن دولة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ودوري كجريحٍ قطيع اليدين وتكليفي فيها، سوى دليلٍ على أنّ بلائي جميلٌ، وأنَّ إتقاني لأيّ عملٍ أقوم به هو تأكيدٌ على قناعتي البِكر أنّ ما عند الله هو مطلق الخير.

«حيث يجب أن نكون سنكون»، كلمات تزهر عزّاً وشموخاً، وسنخدمُ مجتمعنا المقاوم، وإن بصورة كربلاء الحيّة فينا كجرحى. من أحبِّ الأعمال التي أزاولها متابعتي مع كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ لأنّها الشريان الأساس للمقاومة. وإن عاد الزمان بي إلى تاريخ 15/2/2016م، سأقف أمام الباب وسأفتحه مجدَّداً دون تردُّدٍ أو تقاعس.

رسالةٌ وفنّ

جهادي مستمرّ، أوصله بصوتي من خلال فرقة جراح. وفّقنا الله لأن نعيش عبارة: «يا ليتنا كنّا معكم» بالفعل، فلم نتّخذ الليل جملاً، بل قاتلنا التكفيريّ الذي قال للعقيلة: «سترحلين مع النظام، وسنهدم قبرك ولن يمنعنا أحد»، وهزمناه. اختبارنا في كربلائنا خضناه، والقبول يبقى بيد الله حسب نيّة كلّ فردٍ منّا. وما معاناة الجريح وتقبّلها بصبرٍ سوى دليل على صدق السريرة ونقائها. جرحه الحيُّ الراعف بعد كلّ نشاطٍ في سبيل إحياء المسيرة، الذي يبقيه في السرير لأيّام مليئة بالوجع، هو عين الجهاد. ونحن في كلِّ حينٍ، إصبع المؤتمن على الأنفس التي يهدّد بها الأعداء، مقاومون أصحّاء وجرحى، وعلى الرغم من كلِّ الجراح، سنبقى في كلِّ ساح، نحن الوعيد.

أتمّنى أن يعطيني الله القدرة لإثبات جدارتي في عملي، ولأتشرّف برؤية سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، وأقول له: «حبّي لك ألقيته في بئر يوسف، وقلبي دائماً يرجو لقاء قافلتك».


123

تحت تلّة البازو

تحت تلّة البازو

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد السيّد علي خليل هاشم (أبو مهدي).

مكان الإصابة: حلب- سوريا.

تاريخ الإصابة: 22/10/2016م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 351/ ربيع الآخر - جمادى الأولى 1442 هـ/كانون الأول 2020 م/ السنة الثلاثون.

 

 

كانت تجربتي الأولى في الطيران، مسافة ارتجازٍ لم تتعدّ الأمتار العشرة، صولةً قصيرةً على غيمة من غبار ونار، غادرتُ رأسي لكنّي اصطحبت في تحليقي ذراعيَّ وقلبي وكلّي، وساقاً واحدةً مرهقة. تعِبتِ اللغة في حَلقي، وبعزمِ صوتي صحت: «لقد أصابني الحقير». وميض الأضواء التي تموت وتحيا لم يكن يتيح لي رؤية ما يحدث، لكنّ هاجسي هو الحفاظ على المجاهدين. أعيُن أولئك الغرباء الحيارى حملقت بي. طافوا بفوضى المنايا حتّى اكتمل مشهد الوأد، كاحلٌ قد تربّع على أخمص “الكلاشن»، أصابع تطايرت، وربلة ساقٍ فُلقت نصفين، تناثر لحمها، والعظم تمزّق!

يدُ الله معنا

كان عديدهم وعتادهم يفوق عددنا وتجهيزاتنا بعشرات المرّات، مضافاً إلى الانغماسيّين[1] الذين تسبّبوا باستشهاد العديد من شهدائنا بانفجار آليّةٍ قرب دشمهم، وعلى الرغم من ذلك، قد عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم.

كانت مهمّتي كآمر فصيل السيطرة على الساتر الأحمر المشرف على كليّة كتيبة الدفاع الجويّ، التي اتّخذها التكفيريّون قاعدةً لتجهيز الانغماسيّين والأفراد والتشكيلات القتاليّة، واحتلالها. استطلعنا الموقع نهاراً، لا طُرق إمداد لدينا، إمكانيّة المساندة والإخلاء الطبّيّ والدعم معدومة، والمساحة المكشوفة كفيلة بالقضاء علينا!

كشتاء كانون

أثناء الهجوم، أصيب أحدُ المجاهدين، فطالبتهم بالإخلاء وسحبه حفاظاً على حياته، فاستغرق الأمر حتّى غروب الشمس تقريباً.

أمر القائد الشهيد عباس العاشق بالتزام النقاط والاستعداد. وعلى الرغم من التعب الذي أصاب بعض أفراد الفصيل معي، فقد عصف فيهم إعصار الهمّة، فضّلوا التقدّم لتنفيذ المهمّة على الراحة.

مكثنا قرب دشمة تتّسع لشخصٍ واحد، وكانت الشمس قد طوت يوماً آخر من كتاب العمر، وأذنت بانسدال الليل، ثمّ أدّينا الصلاة بالتتالي، فالقصف كان كشتاء كانون؛ قذائف لا تعرف معنى السكون، شتاء نار دون مطر.

رزقٌ حان قطافه كان غول القلق يقضم أورادي، أحوم على نفسي وكلّ من حولي لاحظ حيرتي، كنت كمن وُعِد برزقٍ وفيرٍ حان قطافه ولمّا يأتِ بعد. سار الليل بي بلا رئة. أرقب ولادة الشمس مع لسعات البرد المتسلّلة إلى عظمي، وفي أعماقي يتردّدُ صوتٌ أنّي سأعود إلى أهلي، لكن ليس كعادتي. تملّكني اليقين، حتّى إنّني هممت بإخبار مَن حولي بحدسي، لكنّني فضّلتُ الصمت. سرتُ على شكّي وشبح التفاصيل لمّا يزُرني بعد. شعرتُ أنّي سأفقد إحدى ساقيّ. فجأةً، ثَقُل العالمُ على كتفيّ وزاد اضطرابي!

تحليق الدماء

زرعنا الألغام وجهّزنا قاعدة نار خلفيّة، وطلبت من مسؤول الفصيل الآخر إرسال جرّافة، مضافاً إلى آليّة BMP للإخلاء الطبّيّ، مع قبضة fagot تحسّباً لأيّ طارئ. أرسل لي طلبي مع عبوات مياه؛ لأنّ التي في حوزتنا نفد الماء منها. تدافع الإخوة كلٌّ منهم يريد الذهاب لإحضار الماء، رفضت طلبهم خشية أن يضلّوا طريقهم. توجّهت برفقة أحد المجاهدين لجلب الماء. مشينا تحت تلّة البازو والتقينا بقوّةٍ من المجاهدين الأفغان. اقتربنا من عمود الإرسال. خطوت خطوةً.. اثنتين... فجأةً، انفجر لغمٌ وطرت في الهواء وتطاير بعض جسدي. ظننت أنّ الإرهابيّين اكتشفوا أمر القوّة الأفغانيّة، وقاموا بدفاعٍ دائريّ أصِبتُ خلاله.

طلبت من أحد الإخوة الانبطاح والزحف نحو كومة صخور. صحت للمجاهدين أنّي بخير، وطلبت منهم التراجع كي لا يصطادهم الأعداء. وصل المسعف إليَّ، ثمّ نقلني على الحمّالة. وزّعت المهام من جديد. كنت ألهج بأنّ ساقي فداءٌ لصاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه)، وحاولت بثّ العزيمة من جديد بين المجاهدين، وانطلقنا نحو الإسعاف، ومنها إلى مشفى حلب الجامعيّ.

جرحٌ وعزاء

عبرنا حدود الخطر على جناح براق. نُقلتُ من مشفى حلب إلى مطارها، وبعدها إلى لبنان. أوصلت الخبر إلى زوجتي. تواصلت معي لتتأكّد أنّ النبض لم يفارقني، وأنّي مصاب فقط، فطمأنتها وأخبرتها أنّي سأعود. والدي صاحب الباع الطويل في الجهاد تقبّل الخبر، أمّا والدتي فأحببتُ إخبارها بنفسي، وكونها قارئة عزاء، فقد حزمت حقيبة أوجاعها وتلقّفت المصاب باحتساب. وصلت إلى مستشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). آليت على نفسي أن أخفّف عن الجميع ثقل الواقع، وأن أقتل الوجع بابتسامة. لم أشعر أنّي جريح كسير إلّا عندما علمتُ باستشهاد رفيقي جعفر حميّة.

«من لزمنا لزمناه»

بعد إصابتي، أعطاني الله إرادة مدموجة بالإصرار والعزيمة؛ فحين يصابُ جنديّ من جنود العدوّ الإسرائيليّ أو من قوّات المارينز مثلاً، تبدأ معاناته النفسيّة، وغالباً ما تنتهي بالانتحار، بينما جرحانا روّضوا جماجمهم على انفجارات الدمع والمدافع، تزورهم دهشة المأساة فيطردونها، فيبقى أثرها عطراً يسيل في نفوس من حولهم. نجد الجريح وقد بُتِرت يده يتابع عمله بإتقانٍ وتفانٍ، وآخر أصيب في عينيه، نجده يتّكئ على كتف أحد إخوانه، يجدُّ السير ليشارك في عزاء لأهل البيت (عليهم السلام)، شوق عينَيه الطاعن في الجرح تفضحه الدموع. وآخر خلّف في الرمل بعض أعضائه، وآثار الدم الغريب العنيد ما زالت تنبض رافضةً الاستكانة، نجده يلحّ على قيادته متابعة عمله بساقٍ واحدة. أمّا أنا، فقد حرصت على أن أركّب الطرف الصناعيّ تحت تلّة البازو، المكان الذي هجرتني ساقي فيه، وهذا ما حدث بعد الخضوع لخمس عمليّات جراحيّة.

أنا على يقين من أنّ الله لم يسلبني جزءاً من جسدي ليجعلني معوّقاً، بل عوّضني بالإرادة والعزم، وهبني اليقين والتسليم المطلق له، والالتصاق بأهل البيت (عليهم السلام)، فأسرارهم تقول: «من لزِمَنا لزمناه»[2].

رسالة خُطّت بالدم

تكليفي بعد الإصابة هو الإحسان والتقوى، كما يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172). عليّ أن أخرج أمام الناس بجراحي ليروا صبري وثباتي، فأكون قدوةً لهم.

رسالتي خطّها مَن سبقني بأرجوان خضاب نحره قبل المغيب، إذ أطلب من أخواتي العزيزات الالتزام بالستر والحجاب الحقيقيّ وضرورة التمسّك به؛ فغداً هناك مناظرة بينهنّ وبين أمّهات الشهداء، اللواتي قدّمن أولادهنّ فداءً لذاك الحجاب، لذلك أسألهنّ: هل حافظتنَّ على أصالته؟

 

[1]  الانغماسيّ: عنصر من التكفيريّين مؤهّل للقتال حتّى الموت، يُسند إليه عمليّات الاقتحام والتوغّل، وقد يُقرّر تفجير نفسه إذا ما حُوصر.

[2] مقطع من حديث طويل للإمام الرضا (عليه السلام) ومنه: "إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا، فإنه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه...". راجع: وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج27، ص 128، وبحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 115.


131

الصورة الأخيرة

الصورة الأخيرة

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد بلال كاظم الزين (مجاهد).

مكان الإصابة: الزبداني.

تاريخ الإصابة: 14/9/2015 م.

نوع الإصابة: في المعدة والفخذ اليسرى.

مجلة بقيّة الله / العدد 352/ جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1442 هـ/كانون الثاني 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

تشريكة الألغام تلك لم ترحمْ ضعفَ لحمِ مَن وقعوا فيها ولا رقّة جِلدهم. كان القائد حسين عاصي وأفراد مجموعته قد وضعوا نصب أعينهم هدفاً وتقدّموا لتحقيقه. طبيعة الأرض والدراسات الطويلة قُلِبتْ رأساً على عقب، فاحترف القوم الغوص في لجج الدماء، بعد ولوجهم تلك النقطة. غابة الأذى أسفرت عن أجسامٍ فقدت بعض ما ملكت، وسيلٌ من القاني صبغ الرمال.

بقي ملاك

ملح الوقت علِق في أفواه المجاهدين. جهّزوا خطّة لسحب الجرحى، وباشروا. مرّت لحظاتٌ مُرّة، تدلّى عنق السماء ليساعد في سحب الأجساد؛ جريحٌ واثنان حتّى آخر مَن تناثر جسده، بقي ملاك! تراكمات الكتمان بأليم الوقع تفجّرت، حملته سواعد الأبطال. عبروا به الساتر وأدخلوه المنزل الذي كنّا فيه. وضعتُ الكاميرا جانباً واقتربتُ أروم المساعدة، حملته معهم. نظرتُ وكأنّ صخرةً ربضت على صدري، وهَن عزمي، ما عدت أقوى على حملِ ثِقلي، فكيف بهامةِ قائدٍ فقد نصفه السفليّ؟!

مشوار العمل..

نعمة الصوت الجميل كانت السبيل، وقراءة دعاء كميل واللطميّات في المسجد هي البداية. قبل الانضمام إلى كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) كقائد، التعبئة التربويّة والعمل التحضيريّ مهّدا للعمل الميدانيّ، كإحياء المناسبات الدينيّة، وحواجز الدعم، مضافاً إلى مساعدة الناس في حرب 1993م إلى جانب الإخوان.

حزت شهادة البكالوريا الفنيّة، بعدها دخلت الجامعة. في مطلع عام 2002م، تقدّمت بطلبٍ للعمل في قناة المنار، وخلال فترة وجيزة جاء الردّ بالقبول.

خلال سنة واحدة صرت مخرجاً للأخبار، عملت أيضاً في الدوبلاج والتجارب الصوتيّة. انضممت لاحقاً إلى فريق عمل قناة الكوثر الفضائيّة كمراسل. بعدها عملت في قناة فلسطين اليوم كرئيس قسم، إلى أن صرت مُقدّماً في قناة الاتّحاد، وبعدها في قناة المنار.

مهمّة في الزبدانيّ

الموعد هذه المرّة في الثامن من أيلول 2015 م. مهمّتي كإعلامٍ حربيّ في منطقة الزبدانيّ، اصطياد المواقف والصور لتخليدها. هدفي كان توثيق الصورة واللحظة وإحياء الحدث. أمّا الأسمى، فأن أحمي نفسي وأراعي متى أفتح باب كاميرتي الشّرِه، ومتى أغلقه بالتنسيق مع الإخوان.

وجه الزبدانيّ كان حارّاً، والعمل فيها ذلك الحين كان صعباً حدَّ الرعب. القصف وصل ذروته؛ هجومٌ ودفاعٌ وتطهيرٌ واقتحام. ولأنَّ الهدف هو الله، وما دونه وهمٌ وسرابٌ، ذلك كلّه كان جميلاً.

كلمة السرّ

«زينب (عليها السلام)» كلمة السرّ. كانت المهمّة تغطية هجومٍ سينفّذه قائد السريّة الحاج حسين. تجهّزنا سريعاً وانطلقنا. سرعان ما أذِنَ شتاء النار بالهطول. وقع الحاجّ ملاك وأفراد مجموعته في تشريكة ألغام. كانت الأخيرة كفيلةً بأن توزّع الأجساد وأبناءها عن بعضها بعضاً؛ هنا يدٌ، وهناك عينٌ، وهنالك أقدام. لم يكن الوقع ليّناً على قلوب باقي المجاهدين. التفّ الجميع حول هدفٍ واحد: سحب الجرحى مهما كلّف الأمر من وقتٍ وعِتاد. ضلّت على شفتَيَّ الكلمات، حين ركّزوا الحمّالة التي احتوت ملاك قربي. ربّتتُ على ظهره قليلاً ليحافظ على وعيه منادياً باسمه. وبينما كنّا نرفعه، أصابني الذهول حين رأيت ذاك القدّيس مبتور القدمين. لُذتُ بصمتٍ مريبٍ يحدوه الشرود.

الصورة الأخيرة

لحظات وجاء القرار بمتابعة العمل. فتحنا ثغرةً في مكانٍ جديدٍ، وبدأنا التطهير. كنت أصوّر الشبّان وألتقط روحيّة الطهارة مع حبّات العرق المتدلّية على وجوههم، في مشاهد سيخلّدها التاريخ.

صوت الصفير طغى على أذنيَّ. أثناء عودتي بعد إتمام المهمّة، وحين شارف الليل أن يُسدل أهدابه، التقيت بمجاهدَين سوريَّين، استفسرا عن مكان الإخوان. رفعت الكاميرا، التقطت صورة كانت الأخيرة لهما، وبينما هممت بإرجاعها إلى الحقيبة، إذ بقذيفة هاون تحوّل الشابَّين قربي إلى أشلاء، واختارت من معدتي وفخذي الأيسر مكانَين لشظاياها استقرّت فيهما.

 

نشيد الألم

هرع المجاهدون لسحبي. وُضِعتُ على الحمّالة ونُقِلت في سيارة رباعيّة الدفع إلى مشفى أمير الميدانيّ. دندنت نشيداً من أنين الألم طوال الوقت، بعدها فقدت وعيي. أخرج الأطبّاء كلّ ما يحتويه بطني وطهّروا جوفي. استأصلوا قسماً من الأمعاء، وضمّدوا مكان النزف في معدتي. أمّا فخذَايَ، فلم يقربوا منهما سوى بالتطهير والتضميد البسيط، حتّى وصلت إلى مستشفى بهمن في بيروت، حيث خضعت لجراحة من جديد لمعدتي، وجراحة لفخذَيّ. استعدت وعيي بعد أيّامٍ ثلاثة حين زال الخطر. دام مكوثي في المستشفى نحو عشرين يوماً.

وجعٌ وصبر

ترسّب في القلب وجعٌ وصبر. جراحاتٌ سبعةٌ دمغت جسدي، شربت مرارة آلامها بسعادة. سنةٌ من عمري مرّت طريح الفراش. حملت وحدتي وحدي على الرغم من اكتظاظ الجمع قربي. قافلة الحنين إلى العمل زارتني كلّ يومٍ، ما زاد من علقم الجزع الذي جرّعته غربتي. الضرر الذي لحق بجدار معدتي ما زال صديق الليالي الحميم، وهرَمُ عصب السياتك في قدمي، حرمني المشي الطويل والركض وحمل الأشياء الثقيلة. شغفي المخلوق من عطشٍ لجهاد الصورةِ بدّده ذلك التلف. لا أفكّر إلّا بقدر احتراقي للعودة إلى سوح القتال والتحرّر ولو لأيّام. ذاك الأمس الهارب سيعود، كما عادت إليّ الحياة حين مارست عملي من جديد.

عاد عليّ

وقْعُ خبر إصابتي لم يكن سهلاً على قلوب أفراد عائلتي مطلقاً، خاصّةً أنّي نُعيت شهيداً على وسائل التواصل. انحنت أميّ على جسدي في غرفة العناية وبكت طويلاً. صارت تمسّد الوقت ليعود «عَلِيُّها» كما تدعوني، وأعادني ربّي إكراماً لها. أمّا أبي، فقد جفّ الحزن في جسده كما الدموع. حدس زوجتي لم يخطئ بعد الرؤيا التي شاهدتها، عرفت أنّ أمراً سيطالني. أمسكت يدي وسألتني إن كنت سأعود. شددت على يدها بكامل ضعفي، فابتسمت. أطفالي الثلاثة يفخرون بجراحي، يدركون معنى كلمة جريح، ويعيشون معاناته كلّ يوم.

عطاء ونعمة

أقول للأمين على الدماء: نحن جميعاً فداءٌ لك. للجرحى رسالةٌ يجب أن تستمرّ، تتجسّد في خدمتهم للناس وصبرهم على جراحهم التي لم تهزمهم. تلك الندوب هي نعمةٌ من اللّه وعطاءٌ فيه كلّ الخير.

الجريح صلة الوصل بين اللّه والناس، شهيد حيٌّ شاهد، وحجّة على العالمين، يقدّم صورة الإنسان الفاني لا الباقي. جراحه تشدّ الحروف لفهمٍ أعمق لعبارة «لبيكِ يا زينب»، وللإحساس المفعم بجروح أبي الفضل(عليه السلام). أدعو اللّه بحسن العاقبة، وأن يثبّتنا على هذا النهج.


139

طريقي إلى العبّاس (عليه السلام)

طريقي إلى العبّاس (عليه السلام)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمّد حسن شهاب (علي رضا).

مكان الإصابة: القصير- تلّة مندو.

تاريخ الإصابة: 13/4/2013م.

نوع الإصابة: فقدان البصر.

مجلة بقيّة الله / العدد 353/ جمادى الآخرة - رجب 1442 هـ/شباط 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

جدار المدرسة الضخم لم يمنع طيور الفناء من التسلّل إليها، فتراقصت أحجاره العنيدة حين هزّ الانفجار المكان. اندفع الشهيد صادق ميس ليعاين ما يحدث. رمق من أعلى السلّم قدمَين ممدّدتَين استسلمتا للنوم قرب باب المدرسة، شُبّه له أنّه قد رآهما قبلاً، إنّه علي رضا! كان في ضيافته صباحاً. وثب راكضاً إليه. سحبه دون أن يراعي جُرح مسافة الزمن، وأنّه ارتدى ثوب الخطر بإيثاره ذاك. صوت قذيفة الهاون 60 جذبه، فهرع لنجدة صديقه، كلّ همّه أن لا تقع قذيفةٌ أخرى وتشتِّت الجسد أكثر. صادق ميس حصد ما نضج من شوق في المهجة، ولم يأبه إن كان رقيُّ روحه سيُهلِكُ جسده. نداءات «يا زهراء» و«الله أكبر» علت في المكان. اجتمع تلاميذ صفّ العشق جميعهم. وبخطواتٍ شهيّة تستدعي الوحي حملوه، الشهيد صادق ميس عبر به النهر، والشهيد أبو زهراء نقله إلى الإسعاف، وهو كطفل الدهشة الأولى، لا يعي ما حدث، يفقد وعيه تارةً ويعود إليه أخرى.

المَهَمَّة

تنفيذاً لقرار الدخول إلى مدينة القصير، كان علينا تطهير ريفها أوّلاً. ولتحقيق ذلك، وجب السيطرة على تلّة مندو المشرفة على المنطقة برمّتها.

فجر الخميس في 11/4/2013م بدأ الهجوم. مجموعات ثلاثة تقدّمت. اجتزنا النهر عند الساعة العاشرة بعد أن انجلى ضبابٌ ربانيٌّ غطّى المكان. كانت المواجهات محتدمةً مع الجيش الحرّ، على امتداد الحدود المزنّرة بالنار، حتّى وصلنا إلى بطن تلّة مندو. وهناك، انقسمنا كلّ مجموعة على حدة. توجّهتُ والمجاهدين إلى مدرسةٍ مواجهةٍ للتلّ، قسّمنا المهام ونوبات الحرس فيما بيننا، ومرّت ليلةٌ يحدوها خطر من كلِّ اتّجاه.

معجزة البقاء

صبيحة يوم الجمعة، هدأت المناوشات والرمايات. طلب منّي مسؤول المجموعة الشهيد ساجد الشهابيّة التوجّه إلى الطابق الأوّل حيث القنّاص الشهيد صادق ميس. كانت مهمّتي أن أناوب عنه، وما إن عبرت الملعب، حتّى رمى المسلّحون قذيفة هاون 60 تبعد عنّي مسافة مترين فقط، كان حضنها لاذعاً! لم أدرِ بعدها إن كنت واقفاً، ممدّداً، أم حتّى منكبّاً على وجهي. صرت كظلٍّ يابسٍ يبحث عن حياة من لونٍ آخر، بعد أن نشَرت الأخيرة شظاياها كلّها داخل جسدي. ضجّ المكان بخطى المجاهدين قربي، أثارت جراحي هلعهم عليّ.

نار شظايا تلك القذيفة عشقت جسمي، أكلت عينَيّ، فتناثرت اليُمنى، وباقي الشظايا اقتحمت دماغي ومكثت داخله، وقطعت عصب عيني اليسرى فأطفأتها. وأمّا عن شظيّة هاربة اتّكأت على وريدي وفَرَت نصفه، فقد تركت حرارة الحمّى تعضّ القلب شوقاً إلى الوصال، وأبقت أخرى حنكي مفتوحاً ينساب الهواء ودمه فيه بحريّة. ولأنّ معجم المعجزات لا صوت له، درع الـM18 الذي كنت أرتديه، حمى منطقة الصدر والبطن، ودرأ عن قلبي الأذى، لكنّه حمل في جعبته مقنبلاتٍ سبعة، لو أنّها انفجرت لاستحلتُ أشلاء لا تُرى! توزّعت باقي الشظايا في قدميّ؛ فالعصب الحسّي الممتدّ من الخاصرة وحتّى ركبتي اليمنى تآكل جرّاء شظيّة، وكسرت أخرى عظم القدم اليسرى، ما سبّب لي أوجاعاً لا وصف لها.

جرحٌ ورسالة

خضعت في مستشفى لثلاث عمليّات جراحيّة متتالية. اثنتان وسبعون ساعة عليّ اجتيازها كي أبقى، وعلى النزيف التوقّف خلالها. تحسّس الأطبّاء وأهلي الخوف أثناءها، ومكثت في المشفى مدّة أربعين يوماً. كانت الحروف ترتجف على أيدي والدي ووالدتي قبل لسانيهما. صبرهما أطلّ على أرقي، فاطمأنّ.

كنت مع ألمي وحيداً، حتّى جاءني من حمل إليّ رسالة من الأمين على الدماء، كشمسٍ من وراء ليلٍ تبلسم حرقتي، مفادها أنّ المكان الذي كنّا نقاتل فيه هو ككربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) . ثوب الكلام بات ضيّقاً، تلك الحروف شدّت عزيمتي، وأنستني سيل الأوجاع الذي عانيته، وشعرت بالفخر أنّي جُرِحت في مكانٍ يرضاه الله، ولإحياء دين الله، ودفاعاً عن حرائر رسوله. حتّى العمليّات الجراحيّة التي أجريتها طيلة السنين فيما بعد، كانت برداً وسلاماً وطِيباً.

نذرٌ ومواساة

أثناء زيارتي لمرقد أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، حضر القلب والعقل والروح، فكان الصمت تسبيحاً وجوارحي فمه، سهم العين وعمود الرأس وتلقّي الأرض دون كفّين، وصلني بعض شعاعه حين أُصبت، مرّ في ضلوعي مرور الجياد. فزادي شحيحٌ أمام بحر تضحياته، هذا ما استطعت تقديمه، عينَيَّ فقط، لكن لو أنّ القوّة أُعيدت لي مع البصر، لما انكفأت لحظة عن الجهاد، وما تسميتي لابني بـ(أبي الفضل)، إلّا وفاءً لنذرٍ بيني وبين المولى (عليه السلام) ولإحياء اسمه الشريف.

جراح مخيفة

بعد الإصابة، كان ورم وجهي مرعباً، خصوصاً لطفلةٍ اعتادت أن تراه جميلاً وتلمسه بأناملها، فاختلفت الصورة فجأة أمام عينَيها؛ فقد امتلأت جروحاً وندوباً. لذلك كانت ابنتي فاطمة تخشى الاقتراب منّي، فكنت أخبّئ لها السكاكر تحت الوسادة وأدعوها إلى تناولها إن ما قبلت بوِدّي، حتّى اعتادت فيما بعد وتقبّلتني. وعيها وكمَّ العطف الذي لاح لاحقاً كان لافتاً، فأثناء زيارتي للمراقد المقدّسة في العراق، كان جلّ تفكيرها كيف أتولّى إنجاز أموري، ومن يساعدني. ذاك الأمر ترك داخلي بالغ الأثر.

قربان لأهل البيت (عليهم السلام)

الإصابة هي اللغة الكافية والأنقى، التي توضح أنّنا قاتلنا جسديّاً وروحيّاً تحت شعار «لبيكِ يا زينب». قارورة الدماء التي سُكِبت في سبيل حماية تلك العظيمة، هي قربانٌ يسير لا يُحتسب، كما عينَيَّ الميّتتَين، هما مواساة للإمام الحسين  (عليه السلام) ولأهل بيته (عليهم السلام) في كربلاء. لا شيء أعظم من أن يبتلي الله عباده ويكافئهم بعد ذلك!

فقد ابتلاني الله بلاءً جميلاً، فالحمد له أن نظر إليَّ واختار أن أقدّم جزءاً منّي أواسي به أهل البيت (عليهم السلام) يوم القيامة. فقدت بصري، فأهداني بصيرةً، فالشكر لكرمه. الإصابة لا تعصمني من الذنوب، فما زلت في دار البلاء؛ لذلك عليّ مضاعفة الجهد للوصول إلى مقام النور، الذي وعد الله به عباده المجاهدين.

الصوت جهاد

نحن الجرحى كرسل للناس، نملأ الجمال بصوت الله من خلال الموالد، وجلسات القرآن الكريم، والندبيّات. وقد أتيح لي الانضمام إلى فرقة جراح للخروج عن صمت الجرح البليغ وإيحائه، لتكون اللسان الناطق لكلّ جريح. وهي تكريم من الله عزّ وجلّ بالعودة إلى الميدان من جديد بشكل آخر، ورفع سلاح الصوت والكلمة في وجه الأعداء.

بَوحٌ من القلب

باسم من قُطِعت يداه وقدماه، وفقد أجزاءً من جسده، أقول لسماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): «يا سيّدي، لو بقي فينا لسان ينطق، لما نطق إلّا بالبيعة للحجّة  (عجل الله تعالى فرجه)  ولكم. كما عهدتنا سنبقى ما دامت هذه الأرواح في أجسادنا». الجرحى هم رسالة للناس، وعلى الرغم من الأوجاع نحن باقون على النهج الحسينيّ الأصيل في حزب الله. فهذه الإصابات محنة يُمتحنُ بها الجريح في الدنيا، ليثاب عليها في الآخرة، فتكون صراط العبور.


147

سُبحة الجراح

سبـحـــة العبّاس (عليه السلام)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمّد أحمد دبوق (أمير).

مكان الإصابة: الزبدانيّ.

تاريخ الإصابة: 11/7/2015م.

نوع الإصابة: بتر في اليد اليسرى والساق اليسرى.

مجلة بقيّة الله / العدد354/ رجب - شعبان 1442 هـ/آذار 2021م/ السنة الثلاثون.

 

مساحة صوتي لم تكن كافية لجذب أحدٍ نحوي، غادر الجميع المكان بعد بحثٍ طويلٍ دون جدوى، وبقيتُ حائراً وسط النار. تفقّدت نفسي بعد أن استراح لحن الصوت في سمعي. اندثرت أمنيتي حين ودّعتُ المشتهى عائداً إلى سجن جسدي دون الخلاص. تحسَّست رأسي، وجهي، عنقي في بادئ الوقت، وصارت يدي تطوف على باقي جسدي، ما زلتُ حيّاً!

جراحات عظيمة

ها قد حان موعد العمل. شددت عزمي لأجلس. وحين اتّكأت على يدي اليسرى، هويت نزولاً حتّى ارتطم وجهي مقبّلاً التراب. استويت مجدّداً وألقيت نظرة أخرى. لم يُبقِ ذئب النار من يدي سوى عظمٍ بارز وإصبعي السبّابة، وشلّال من الدماء يتدفّق مع كلّ نبضة.

وأمّا عن قدمي، فقد بُترت من الفخذ، وتخثّر الدم والتراب حول الجرح فجمد النزف. أوثقت الرباط حول زندي لأوقف النزيف، وزحفت على ظهري باتّجاه الباب. بصعوبة بالغة فتحته قليلاً، فهرع إليّ ملاك ليسحبني. وجهه الصائم عن الوجود اعتلاه الهمّ حين وجدني على هذه الحالة. نادى الرفاق، فحملوني على غطاء، إلى أن نُقِلت إلى المشفى الميدانيّ، وخضعت لجراحة في قدمي ويدي. بعد ذلك، انتقلت إلى مستشفى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) حيث مكثت تسعة أشهرٍ متواصلة، خضعت خلالها لجراحتين في يدي وجراحة في قدمي، إلّا أنّ معاناتي كانت من الجراثيم التي كانت تجتاح جروحي وتأكلها، ولم تبرأ إلّا بكرامةٍ من الإمام الحسين (عليه السلام) عند زيارتي له.

بطعم نداء الشهادة

احتدمتِ المعارك في الزبداني. على عجلٍ استدعاني مسؤولي للالتحاق بالجبهة كمسعف حربيّ. كان الجوّ حماسيّاً، برفقة مَن تركوا ضحكاتهم على مرايا الزمان تجول. اكتظاظ المجاهدين في البيك أب كان لافتاً. كانت مهمّتي في الخطوط الخلفيّة، إلى أن أصيب المسعفون كلّهم واحداً تلو الآخر.

بعد تواتر الأحداث، طلب منّي قائد المجموعة مرافقته. المسعف الضاحك عليه أن يتقدّم مع مجموعة الخرق، والبيت «المحروق» هو المقصد، ومنه الانطلاق لتطهير المنطقة. فجأة، داهمت طلقة 23 المكان وارتطمت بالسقف، ثمّ ارتدّت ومعها قطعة صخريّة كبيرة هبطت على رأسه. شرد غزال قلبي قبل أن أتأكّد أنّ في ليلة القدر كُتبت له الحياة من جديد!

غادرنا المنزل «المحروق» باتّجاه منزل تحته مباشرة. في غرفه المتلاصقة مجموعات من الدواعش ومن المجاهدين، وعلى ضفّة الأرواح كانت المواجهة. بانتظار أمر القيادة، ألقيت ظهري على حائطٍ قرب بابٍ حديديٍّ كبير، محتضناً حقيبة المسعف خاصّتي. وفجأة، عبر الجهاز اللاسلكيّ، سمعت المسلّحين يحدّدون إحداثيّة المكان الذي نحن فيه. وعلى نهدةٍ تحيّر فيها المجاز، حملني ضغط انفجار القذيفة إلى ما وراء الباب الحديديّ. كان اختناقي شهيّاً بطعم نداء الشهادة. غبطتي احتلّتني: «اللهمّ إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً»، واستسلمت.

كصبر العبّاس (عليه السلام)

فائض الصبر تجلّى حين حضرني والدي بعد خروجي من غرفة العمليّات. خمدت نار فؤاده عند سماعه إجابة لتساؤله، شكّلتها بهدوء عينَيه، عندما ردّدت السلام على أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، فثبّت كفّه الحميمة إلى قلبي وشكر الله. بجانبه أمّي، مَن بكلّ حرفٍ نازفٍ من ثغرها لي جفن. باحتسابٍ استرجعت وبكت لمصاب العقيلة والإمام الحسين (عليهما السلام)، وعايشت كلّ وصبٍ مسّني طوال الأيّام.

أمطر غيم الوجع صبراً، وهجه قدَّ الأسى بوجود رفاقٍ مكثوا معي في البلاء، الشهيد يوسف رزق كان مرآتي، لاصق وجعي أيّاماً، وخفّف عنّي. نشاطاته في المشفى شغفت الجميع، خلق فيها بلاداً من الأزهار حرسها بعينه كي نفرح. أمّا الشهيد علي الهادي وهبة نهر العطاء، فقد افتداني بكليتَيه بعد شهادته، طالباً منّي بيعهما كي أسدّد دَيني.

جهادي الأكبر

تابعت دراستي الحوزويّة بعد خروجي من المشفى، وألهمني الله إيجاد خير الدنيا «شريكة الأمنيّات والجوى»، فتزوّجت بها عام 2019م، ووهبني الله منها ابنتي الحبيبة رقيّة. ما زلت أكمل جهادي الأكبر بخدمتي للناس، وهذا أوجب الواجبات. كما أنّني عضوٌ في فرقة جراح الإنشاديّة، أجاهد بالصوت والكلمة. فالحمد لله على نعمةٍ أتاحها لي تلقّفتها بفرحٍ.

إشارةٌ وهديّة

بجفن المسافة بين العناق والرجاء، توسّلت بالآل (عليهم السلام) ومشيت. اجتزت نصف طريق المشايّة وعكّازي معي. تبعتُ بقدمي الوِتر آثار خطوات العقيلة (عليها السلام)، واسيتها بما خوّلني ربّي، ثمّ أكملت الطريق حيث عبر العطر وما زال على الكرسيّ المتحرّك. حين وصلت إلى الفندق، التقيت بأمٍّ وابنها الشابّ ذي الاحتياجات الخاصّة، كانت تروم اصطحابه للزيارة والعجز يسربلها. اقترحت أن أحمل ابنها معي على الكرسيّ، وتوّجهت إلى الحرم. ازدحام يوم الأربعين صعبٌ تجسيده بالكلمات، لكنّ لطف الإمام الحسين (عليه السلام) شملنا. كان الزائرون يتهافتون بين أيدينا، ويقدّمون لنا الهدايا، ثمّ يفسحون لنا الطريق حتّى وصلنا إلى الضريح. في اليوم التالي، بعد أن انطلق الزوّار لزيارة الإمام الكاظم (عليه السلام)، بقيت وحيداً وصدى الغربة عجوزٌ طاف بي. عزمت على التوجّه إلى زيارة الكفيل (عليه السلام). غيث السماء صُبَّ فوق رأسي كرحمة الله، فوصلت دون أن تزلَّ قدمي. دخلت المقام الشريف وناجيتُ العبّاس (عليه السلام) كثيراً. قابلت الشمس خِلسةً بين فتحات الضريح، وطلبت إشارةً أو ربّما هديّةً مميّزةً تدلّني على أنّ زيارتي وجراحي المواسية مقبولة عند المولى (عليه السلام). أتممت زيارتي ومضيت. قلبي سماءٌ في تأمّله، والرجاء نظرة. وصلت الفندق في وقتٍ متأخّر. كان الجميع بانتظاري كي نتوجّه إلى النجف. ركبنا في الباص، وقبل الانطلاق، أتى شخصٌ خُيّل لي أنّي رأيته قبلاً، سأل عنّي وأعطاني سبحة صُنِعت من خشب ضريح أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، فذُهلتُ من حلاوة الجواب وسحر الإشارة!

من القلب

إلى الأحبّة جميعاً: قفوا صفّاً واحداً في وجه الطغاة، فإنّ الصبح قريب.

إلى الخواصّ منّا: لا توجعوا قلب صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) بالمعاصي والذنوب. الله الله في الجهادَين والتمسّك بالثقلَين، فمَن لم يتمسّك بالقرآن لم يتمسّك بالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، ومن اتّخذ من القرآن حياةً، لم يُكتب من الغافلين. وعليكم بخدمة الناس وأداء الواجبات. أدعو الله للمجاهدين بالثبات والنصر.

وللإخوة الجرحى، مَن على أعتاب جراحهم ينهزم الأفول، أقول: هنا بدأت المسيرة، وهي لم تنتهِ بجراحكم. عليكم بالسبل التي تبرعون فيها، فالجريح ليس رسولاً بسلاحه فقط، وإنّما بجراحه أيضاً.


155

عبقٌ من أريج الشهادة

عبقٌ من أريج الشهادة

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد طاهر سميح حسين (محمد حسين).

مكان الإصابة: ريف القصير.

تاريخ الإصابة: 16/2/2013م.

نوع الإصابة: فقدان العين اليمنى، مع بتر إصبع.

مجلة بقيّة الله / العدد 364/ جمادى الأولى -جمادى الآخرة 1443 هـ/كانون الثاني2022 م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

أقفر العمر والمسافات شتّى. وصل التكفيريّون إليّ، هرعوا مسرعين والغبطة تملؤهم، تقدّموا منّي لأسري، الغنيمة الكبرى أمامهم، لن يضيّعوا الفرصة مطلقاً. كان هادي العبد الله مراسلهم يدلّ عليّ بأنّي جريح حزب «اللات»، بهذا التعبير البغيض، كنتُ الصيد الثمين! قام أفغانيٌّ بمحاولة سحبي. تاه ظلّي ورائي في الوقت الذي كان المقاومون يشنّون هجوماً لمنعه من ذلك، ودار اشتباكٌ عنيفٌ أدّى إلى تراجع المسلّحين. وبحجّة أنّي ثقيل الوزن، ابتعد عنّي الأفغانيّ، لكنّه اصطحب معه سلاحي الـBKC. سمعي الوحيد الذي حافظت عليه، حين كنت جاثياً ملقياً رأسي على يديّ، بينما باقي حواسي كانت غائبةً بسبب كمّ الوجع الهائل الذي أذهلني عن كلّ ما حولي، لم يرافقني كثيراً، بعد أن غيّبني النزف عن الوعي.

عبق العشق

نشأت في جوٍّ يعبق بحبّ حزب الله. انتسبت صغيراً إلى كشّافة الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه)، تدرّجت فيها حتّى صرت قائداً، ومنها انضممت إلى صفوف التعبئة. خضعت لمجموعة دورات، وكان اختصاصي رامي مدفعيّة أرضيّة. اندلعت الحرب، فذهبت إلى ريف القصير، وبدأ المسير في خطّ الجهاد. طُلب منّا القيام بمهمّة عسكريّة أمنيّة؛ التوغّل وسط نقاط العدوّ لزرع عبوةٍ ناسفة في نقطة تجمّعٍ للتكفيريّين، ذاك الكمين هدف لإيقاع العدد الأكبر منهم في منطقة أبو حوري.

حكاية الإصابة

مزرعة الصفصاف كانت نقطة الانطلاق. دار اشتباك قويّ بيننا وبين التكفيريّين، الذين كانوا يحتمون في خندقٍ عميقٍ، ويرمون الرشقات في الهواء. وقع الإخوان في الكمين وتأزّم الوضع. كانت الطلقات تأتينا بشكلٍ جانبيّ، فلاحظت أنّ القنّاص يختبئ خلف الخزّان. صببتُ جام غضبي عليه. نفدت ذخيرتي وذخيرة المقاومين معي؛ لذا بدأنا بالانسحاب الواحد تلو الآخر. مسدّسي الشخصيّ كان في حوزتي، لقّمته احتياطاً لأيّ طارئ. كنت أمسّد حيرتي وأضع خطّة انسحابي، حين عاجلتني طلقة أصابت الصخرة أمامي، فلقتها نصفين فانبطحت أرضاً، حتّى هدأت النيران قليلاً. سحب الجرحى أنفسهم، وحين جاء دوري، هممت بالقيام لحمل سلاحي، ما إن ارتفعتُ عن الأرض قليلاً، حتّى شعرت أنّ رأسي قد انفجر؛ صدعٌ من الألم أجهدني، قُطعت أنفاسي، والطنين استقرّ في سمعي. رحتُ أسابق قلبي؛ لأبلغ ما تشتهيه نفسي، جثوتُ على ركبتيّ، ردّدت الشهادتين وسلّمت على أبي عبد الله الحسين  (عليه السلام) ، بعدها هويت أرضاً.

رحلة وجع

مسافة الموت ما بيني وبين دمي باتت صفراً، حجم الوجع لا يمكن تأويله. اخترقت الطلقة عيني اليمنى ففقدتها، وجُرحت عيني اليسرى فجمد الدم عليها. فقدت الرؤية بضعَ دقائق، ثمّ حاولت مناداة المسعف رغم صعوبة ذلك، فالطلقة الثانية أصابت فكّي السفليّ واستقرّت فيه، أمّا الثالثة فبترت إصبع يدي. ولأنّ الوضع خطيرٌ لم يستطع المسعف تلبيتي. غبتُ عن الوعي مدّة. خطّت السماء احتضار المسافة، بعدها عاد سمعي ومعه أصوات التكفيريّين قربي، مراسلهم يصوّر تقريراً عن معارك «جيش الفاروق وجبهة النصرة» ضدّ «الجيش النظاميّ وحزب الله». سمعت أسماءهم وحفظتها. تهادت على أدمع الذاكرة صورة أمّي، ومع كلّ قطرة دمٍ سالت منّي، كانت أفكاري تنزل حافيةً بلا أقدام. وعلى مرمى من الفوضى، مرّ وقتٌ هيّن وجاء الدعم. بدأ الاشتباك، فابتعد التكفيريّون عنّي. طال الأمر ساعات حتّى عثروا عليّ مع أحد الشهداء، حين أجبت على نداء الجهاز، فطلب منّي صديقي أن أرفع يدي كي يحدّد موقعي ففعلت.

هرع إليّ المجاهدون وقاموا بسحبي. حملني شابٌّ، وبين شفاه الوحي عانق أنفاسي المثخنة. أسرع بي نحو الإسعاف، وفيها نُقلت إلى مشفى ميدانيٍّ حيث ضمّدوا جراحي، ومنه نُقلت إلى مشفى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) في بيروت، حيث مكثت مدّة شهر.

خضعتُ لثلاث جراحات متتالية لعيني، وأخرى لاستخراج الطلقة التي أصابت فكّي، ومعها الشظايا في وجهي، وجراحة أخرى لإصبعي الذي بُتر.

على جفن الحبّ

تقبّل والداي الخبر باصطبارٍ وسعادة، فمواساة أهل البيت (عليهم السلام) قولاً لا تكفي. فرحا بأن قدّما قرباناً على جفن الحبّ. قاما بخدمتي طيلة فترة رقودي في المشفى، وبعد خروجي منها.

تابعت علاجي مدّةً طويلة، خصوصاً أنّي فقدت أسناني، وزراعة الأسنان تحتاج إلى وقت، وقد فاق مجموع جراحات الفكّ الستّ جراحات. معاناة الألم المتواصل لا تنتهي، كما أنّي وضعت عيناً زجاجيّة بدلاً عن التي فقدتها.

تزوّجت عام 2018م. فخورٌ جدّاً بشريكة حياتي، التي تعي جيّداً معنى أن تقترن بجريح، وتسعى للتقرّب من الله عبر التودّد إليّ ورعايتي، وقد رُزقت منها بطفلٍ أسميته مهديّ.

بعد الإصابة دخلت الجامعة، ودرست السنة الأولى من اختصاص العلوم السياسيّة. كما أنّي أعمل متطوّعاً في اختصاصٍ أحبّه.

من أبرز هواياتي ممارسة رياضة الملاكمة KickBoxing، أمارسها ولكن بشكلٍ مخفّف، مخافة أن تتأذّى عيني.

بعض عطشٍ

أولى الصور التي حضرتني عند إصابتي كانت مشاهد كربلاء التي تضجّ بالعشق والإخلاص لله، خصوصاً بعد أن تيبّس الدم على شفتَيّ وجفّ ريقي؛ بعضٌ من عطش الإمام الحسين (عليه السلام) تسلّل إليّ فعشته.

وُفّقت لزيارة المشاهد المقدّسة في العراق عام 2018م، زرتُ أئمّتي (عليهم السلام) عارفاً بحقّهم، معترفاً بفضلهم وتضحياتهم، هم الذين قدّموا أنفسهم وعيالهم كي نحيا بعزٍّ وكرامة.

صلابةٌ وجلدٌ

زادتني الجراح يقيناً وصلابةً وإصراراً كي أتابع حياتي متمسّكاً بهذا الخط الشريف، وسأعلّم أولادي ضرورة انتهاجه ونصرته.

أشكر الله أنّ جراحي قرّبتني من الله أكثر، فكرّمني وقدّرني بتلك الأوسمة العظيمة. ما أشبه اليوم بالأمس! سياسة يزيد الظالمة والماحقة للدين وأهله، تُعاد على يد الدواعش، مشروعها الأمريكيّ الصهيونيّ، الذي يريد القضاء على الدين المحمّديّ الأصيل، وتشويه نقائه وطهارته.

إلى كلّ القلب

لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): من لثغات أحرفي أناجيك، أيّها العشق الممزوج في رئتَيّ، قائدي وموجّهي، وأقول لسماحتك: لأنّنا على حقّ، لا نأبه لحصارٍ أو دمارٍ. نحن على جهوزيّة تامّة لنتّبعك يا سيّدنا، نخوض غمار المشقّة معك، ونواجه الموت بالموت. ما يهمّنا هو ديننا وكرامتنا، وأن نمهّد للظهور المرتقب للإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).

يا سيّدي، لا طيّب الله لنا العيش بعدك. أسأل الله أن يقطف من أعمارنا أيّامها، وأن يزيد في عمرك الأقدس.

للجرحى أقول: من رحيق الكلام أسأل الله لكم الصبر على ما أصابكم، أنتم الشهداء الأحياء، أجركم مضاعف فقد نلتم ما ناله الشهداء، ومع كلّ وجعٍ تعيشونه أو يخالط أجسادكم يزداد ثوابكم. هذه الجراح تزيد جلادتنا على صعوبة هذه الحياة. إصابتي بسيطة مقابل إصابة باقي الجرحى. أقبّل أياديكم وأقدامكم لتحمّلكم وصبركم على الأسى.

للمجاهدين في حزب الله: دماء شهدائنا يجب أن تصان. هي عهد الراحلين الذي أُهرق كي نحيا بعزٍّ وفخار، ولها كرامةٌ وشأنٌ عند الله، فيجب الحفاظ عليها، وإكمال الدرب الذي عُبِّد بالأحمر القاني. عقيدتنا أن نحافظ على سلاح المقاومة بالأرواح، وأن نتابع الطريق.


163

وصار الجرح هويّتي

وصار الجرح هويّتي

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمّد مهدي فايز شكر (حيدر).

مكان الإصابة: جرود عرسال.

تاريخ الإصابة: 28/4/2015م.

نوع الإصابة: بتر في اليدين وإصابة في العين اليسرى مع شظايا في كامل الجسد.

مجلة بقيّة الله / العدد357/ شوال - ذو القعدة 1442 هـ/حزيران 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

كانت مهمّتي تفكيك حقل الألغام في جرود عرسال، تمهيداً لهجومٍ سرَّع من ميقاته هجومٌ قام به عناصر الجيش الحرّ على نقطة فيها مجاهدون، ما أدّى إلى سقوط شهداء منهم.

علّقت ظلّي جانباً ورحت أصلح ما أفسدته أيدي العدوّ في المسافات الحبيبة. لبست الهدوء، ورحت أفكّكها الواحد تلو الآخر؛ الأوّل والثاني، فالثالث، فالرابع، ثمّ جرَّ اللغم الأخير الموت في طيّاته لي كهديّة، فصار قلبي كمغتربٍ قديم. اختفى النور وأدركني الصمت بعد صرخةٍ دوّت، كانت على مسمع صديقي المرافق لي. بعثر اللغم ملامحي، وانتشرت شظاياه في وجهٍ ما عدت أملك خارطته كما لو كنت غيري، وفي جسدٍ شتّتَتْه الجهات، تركته نازفاً، وصرت كالعابر فوق الموج دون الغرق.

حملني الرفاق سريعاً. في الإسعاف، تقاسمت الطريق والصمت مع وجعي، وسال القول من روحي مناجاةً.

رسالة من القبر

ظللت أناجي صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) حتّى وصلت المشفى، وفي ملكوت الفكر أنّي راحلٌ. كلّما حرّكني المسعفون والممرّضون، ركز في بالي أنَّ الملائكة تقلّبني ذات اليمين وذات الشمال لتشييعي.

حجّتي كانت الرؤيا التي عشتها قبل يومَين فقط؛ رأيت ضريحي في روضة الشهداء يُحفر. كان الحفّار ينبش التراب برويّة، يذروه بحنان. للمشهد ما يكفيه من الغرابة، ولرائحة المكان العابقةِ بالقداسة نشوةٌ تأنس بها كلّ روح. مقلتاي كانتا بمثابة كاميرا تلتقط أدقّ تفصيل، ترقب الظلال وتتحسّس خطاها. مررت قرب القبر، رمقته بحنينٍ وشوقٍ كبيرَين، بعدها مضيت.

تلك الإشارة نام على أهدابها الياسمين، رحمة ربّي ستشملني.

الجرح الهويّة

بعد وصولي إلى مشفى دار الحكمة في بعلبك، خضعت لجراحة بُترت فيها كلتا يديَّ، وجراحة لعينيَ اليسرى لأنّ نورها انطفأ، كما ضُمِّدت جروح وجهي وانتُزِعتِ الشظايا من كامل جسدي. مكثت فيه ثلاثة أيّامٍ، بعدها نقِلتُ إلى مشفى بهمن في بيروت، فبقيت فيه أيّاماً تسعة، تعرّضت خلالها لنوباتِ ألمٍ يصعبُ وصف حدّتها، ورثت خلالها عن الصبر بُشرتَه، وصار الجرح هوّيتي.

جهادٌ مبكر

نشأت في منزلٍ كلُّ أطياف الحبِّ تعرّشت على جدرانه، في كنف عالم دينٍ زرع في نفسي آياتٍ مليئةً بالجهاد والصبر، تحوطني بيئةٌ تأسّس بنيانها على مقاومة الظلم. خضعت لدوراتٍ عديدة مذ أتممت ربيعي الخامس عشر، إلى أن انضممت إلى صفوف المجاهدين عام 2007م، حيث خضعت لاحقاً لدورةٍ عالية المستوى في اختصاص الهندسة، تدعى «حرب الألغام». هو عالم خطر جدّاً، حرب أفكارٍ، وعلى المختصّ به أن يكون مشبع الذهن صافي الفكر.

بالتزامن مع عملي تابعت دراستي، حتّى حصلت على شهادة TS3 في اختصاص المعلوماتيّة. بعد الإصابة، درست السنة الأولى في اختصاص عالم الاتّصالات، كما أنَّ الله وهبني زوجةً بمثابة يدٍ تمتدُّ من جدار الغيب تتصاعد نحو السماء. كان رزقي المقسوم في عالم الملكوت منها طفلان هما نعيم هذه الدنيا.

وما زلت أقاوم

لم تثنني إصابتي عن متابعة الطريق لحظة. اخترت أن أكمل ما بدأت به عبر فرقةِ جراح الإنشاديّة التابعة لمؤسّسة الجرحى. أكرمني الله بنعمة الصوت الحسَن، فشاركت في العديد من النشاطات، منها أوبريت «وما زلت أقاوم». الجهاد بالكلمة يلي الجهاد بالنفس والدم، خاصّة إن كان مظهر الإنسان ينقش هويّته، ويجسّد عقيدته كما السلوك أيضاً. فكلُّ مَن يرى جريحاً يقوده فكره إلى عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) ، فكيف بقطيع يدينِ وفاقد لعينٍ يواسي أبا الفضل العبّاس (عليه السلام)، رمز التضحية والإيثار؟ وتطبيقاً لما أوصانا به أئمّتنا (عليهم السلام): «وكونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً»[1]، أسعى إلى تجسيد ذلك بأفعالي وأخلاقي قولاً وفعلاً، مع عذري الدائم لآل البيت (عليهم السلام) لأنّي المقصّر.

ميراثُ العظمة

إلى إخوتي المجاهدين، من صاحبوا حتفهم ومضوا دون تردّد: بكامل السكون أرسم في الهواء لهفتي للعودة إلى سوح الجهاد، كم أهفو لأكون بينكم، لكنّ قامة جهادي الأصغر كانت أطول بقليلٍ من عمر الزهور. اغتنموا فرصة العافية ونعمة القُدرة، فالعمر حزمة مشاوير، وأجمل السياحة سياحتكم. ثمانيةٌ وعشرون حرفاً تنطق عنّي وأنا على شفير اللغة أمرُّ من وجه السماء أغبطكم. أنتم المدافعون عن الشرف والعرض وحدود الأوطان، حاموا ما استطعتم بكلِّ ما أوتيتم من قوّةٍ وبقاء، فهذا الخطّ رئة العالم المتّصلة بالحجّة القائم (عجل الله تعالى فرجه)، والممهّد لظهوره المبارك، وهو ميراث العظمة الذي أولانا الله إيّاه.

أمّا لإخوتي الجرحى: أفاجئ صوتي بصمتٍ مباغتٍ حين أذكر جراحكم ومعاناتكم وقد عشتها وأحسستها مثلكم. في حقل لغتي وأفكاري تقصر العبارات لوصفكم، وأنتم واجهةُ الصمود والاستمرار على الرغم من سيل الألم، من ساومتم بثباتكم معجزة للحدوث، فكنتم مثال الإصرار والثبات ورسوخ العزيمة. علّمتم العالم أنّ الجرح لا يهزم رجالاً باعوا الله جماجمهم، وأنّ أسماء الجرحى تبقى ساطعةً خالدة في تاريخ المِحن.

رمز التضحية

إلى مَن باع دنياه بآخرته، سماحة السيّد حسن نصر الله دام رعبه، والد الشهيد هادي، الذي كان السبّاق في بذل فلذة كبده، ولم يتوانَ قيد أنملةٍ عن التضحيةِ بالمال والولد للحفاظ على عزّتنا وكرامتنا. أسأل الله له الثبات والعون والصبر، فالحمل ثقيل، والأمانة عظيمة، كلّ خطوةٍ يخطوها في ميزان الله والناس لها ألف ألف حساب. أحمد الله أنّي خُلِقت في زمن وُجِد فيه هذا الإنسان، قائد الأرواح والدماء. كم أتمنّى لقاءه ورؤيته عن كثب، للتبرّك بمن وجوده أكبر من الحضور والبقاء في آنٍ، الماكث في كلّ نبٍ على الرغم من العناء. شغفي للقاء ليس دنيويّاً أو لغايةٍ في نفسي، إنّما لأبثّه ما يجول في خاطر كلّ من عرفته، خاصّةً من كانت في قلبه ندوبٌ محفورة من مزاح الدنيا السمج.

 

[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص8.


171

ولا زلنا نضحك

ولا زلنا نضحك

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمّد عبد الله خير الدين (فلاح ياسين).

مكان الإصابة: الزبداني.

تاريخ الإصابة: 24/7/2015م.

نوع الإصابة: شلل نصفي.

مجلة بقيّة الله / العدد356/ شهر رمضان - شوال 1442 هـ/أيار 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

«دعه يطوف في فلك الشهادة، لن تصدّق يا رفيقُ عدد المرّات التي أصيب بها ولم تزهق روحه، كلُّ جراثيم العالم لا ترهقه، النزف والكسر والنار لا تؤثر به، ربّما إصابته هذه المرّة تكون الأخيرة، فيستكين بضجعته ويلقى وجه الكريم». بذا خاطب صديقي المسعفَ، ثمّ انفرجت شفتاه عن ثناياه بضحكةٍ، بعد أن قام وباقي المجاهدين بسحبي وسط حزامٍ من القصف والشظايا لا معنى للسكون في منهاجه.

تبسَّمتُ ضاحكاً من قوله، فلم تذهلني إصابتي عن الانتباه لمجموعة المجاهدين خلفي. كنت أسوس الخوف بعيداً عنهم بجهدي للمحافظة على وعيي. كالحلم في الحلم أشهق عطراً ثقيلاً أرهق رئتيَّ. دغدغة الهواء تلك لم تسعفني، فقد عصف الشلل في عروقي، كمن عرقله ظلّه فهوى يغشاه النعاس، حتّى صوتي بالكاد كان يُسمع.

موج الذكريات

كبرت مع كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). عطر أنفاسي فاح من زهرِها في الثامنة من عمري. بعدها انخرطت في صفوف التعبئة وخضعت لدورة مقاتل، ثمّ التحقت في السادسة عشرة من العمر بوحدة الرضوان، وخضعت للعديد من الدورات العسكريّة.

مع بداية الأحداث في سوريا، كنّا في محيط حضرة العقيلة زينب (عليها السلام) تحمينا لا نحميها. هويت أن أكون عند أعتابها لأتشرّف بلثم تراب مرقدها قليلاً. بعدها انتقلنا إلى القصير، فشاركت في معاركها منذ بدايتها وحتّى النهاية. هناك حزت وسامي الأوّل، حيث زُرعت الشظايا في كامل جسدي. بعدها توجّهنا إلى حمص وقمنا بتطهيرها. عزف العدوّ على معصمي طلقةً أصابتني في اشتباكٍ. تخطّيتها، وأعادني الشغف إلى ساح القتال، حبْواً على الأشواق.

انتقلنا إلى معارك القلمون. في البريج كانت إصابتي الثالثة. سلكنا بالخطأ طريقاً مزروعاً بالعبوات. حلّقت الآليّة بنا. وصلتُ على مكان التقاء الورد بالسماء، حيث حدود الموت. دخلت في غيبوبة دامت ثمانية وعشرين يوماً. عدتُ سيرتي الأولى بعد احتراق جسمي وكسر عمودي الفقريّ وحوضي، واستئصال طحالي، مضافاً إلى جرثومة سكنت دمي لردحٍ طويل، وبقيت أوجاعها تحت حاجِبَي الذاكرة تنبت بصمت. تماثلت للشفاء وعدت أرتق ابتسامات النهار في سوح الجهاد سريعاً، وهذه المرّة في الزبداني، حيث احتشد أبناء الطلقاء وخاضوا لعبة نارٍ.

حدسي يُنبئني

كانت مهمّتي، كقائد مجموعة، استطلاع مبانٍ عدّة عند أطراف المدينة، تساعد في قطع الطريق بين الزبداني ومضايا، ممّا يحدّ من تحرّك المسلّحين، وفتح ممرّ وسط قواعد الدواعش. ولتحقيق ذلك عليّ البدء بالمبنى الأوّل.

أوحى إحساسي لي بأنّ حدثاً ما سيحلّ بي، ودائماً ما يصدُق. فقام رفيقي بالتقاط صورٍ لي للذكرى، بعد أن أنبأني ممازحاً أنّهم سيذبحونني في الداخل، فالمهمّة دنت خطورتها إلى حدّ الهلاك.

حان الوقت، أُمرنا بالتقدّم مع باقي المجموعات في الوقت عينه. اقتحمنا المباني. لم يتخلّل مسيرنا أيّ إطلاق نار أو تحرّكٍ من المسلّحين، إلى أن طهّرنا 4 مبانٍ. بعد ذلك، حدث اشتباك كثيف، استمرّ وقتاً طويلاً. حوصرنا من الجهات كلِّها. لم نستطع التّقدم أو التّراجع. كان الحلّ أن نقتحم المبنى الأخير، ونتّخذه ساتراً ومقرّاً للانطلاق نحو النقاط التالية. ما إن هممنا بالركض، وقبل وصولي إليه بنحو مترٍ واحدٍ، شعرتُ بروحي سُلخت منّي، وأنّ ضيق الكون سكن صدري. لم أستطع التنفّس، ووقعت أرضاً وبدأ خدَر أعضائي. أخبرت القيادة أنّي أصبت، وبقيت نحو 20 دقيقة ممدّداً حتّى سحبني المجاهدون إلى المبنى الخلفيّ؛ لكثافة النيران.

كنت واعياً حين قدم المسعف يشدّ العزم بثوب جسدي لأقوم. أخرج رصاصاتٍ ثلاثاً من بطني. وبعد أن ضمّد جروحي، نقلني الرفاق إلى الإسعاف. كان أبو علي رضا يطبع كفّه صافعاً وجهي لأحافظ على وعيي باستمرار.

حدّ الهلاك

تلك الطلقات أصابت الكلية والكبد والعمود الفقريّ، والجرح وشمَ جبيني. قاموا بتصوير شعاعيّ لبطني، ونظّفوا جرحي في مشفى بهمن السوريّ. حين وصلت إلى محلّة ضهر البيدر، اتّصلت بأحد أقاربي وأخبرته أنّي أصبت بجروحٍ طفيفة، لم أشأ إخبار والديّ مباشرة، فإنّ فؤاديهما مولّهان كليلان لإصابتي القديمة.

تجمّع الأقارب، وقدم أهلي إلى مشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). خضعت لجراحةٍ بعد يومين من إصابتي؛ لأنّ ضغط دمي لم يكن مستقرّاً. لم أدرِ بوضعي حتّى استفاقت عيناي. كانت قدماي تصعقانني ألماً. بقيت مدّة عشرة أيّام في العناية، بعدها انتقلت إلى غرفة للمتابعة. تقبّل أهلي إصابتي باحتساب وصبر، فأن تكون في ربيع العمر وجسر عبورك في الحياة مشلولاً، يترك أثراً عظيماً في النفس. تلك الطلقة التي نفذت إلى عمودي الفقريّ، لامست النخاع الشوكيّ وضغطت عليه، وقد قطعت بعض الأعصاب المحيطة به، ما حرمني القدرة على السير مجدّداً.

آراء الأطبّاء أنّ العلاج الفيزيائيّ يساعد العضلات على الاسترخاء ويمنع الانقباضات، ممّا يجنّبني أوجاعاً لا تُحتمل، لكن لا سبيل لجراحة أو علاج يمكّنني من المشي من جديد. ولأنّ طريق الجهاد يحتاج إلى تضحيات جثام، تقبّلت وضعي المستحدث، ورقص قلبي نافضاً عنه نهر الأسى، فهذا القليل لا يحتسب في ميزان معاناة أهل البيت (عليهم السلام) وآلامهم.

منذ الإصابة معاناتي لا حدّ لها؛ مشاكل صحيّة صامتة تضجُّ جزعاً. نبت لي كيس التهاب لاصق عظم الحوض، أرقدني في المشفى مدّة شهرين وما زال جرحه مفتوحاً حتّى الآن ولمّا يلتئم بعد مضيِّ سنوات أربع. خضعت لقرابة ثلاثين جراحة، منها واحدة في إيران، وما زلت أعاني من عقورٍ في جسدي لا تُشفى، وبين الحين والآخر تعيدني غيبوبة تلو أخرى إلى المشفى، إحداها بسبب تجلّطٍ في الرئتَين.

سباق البهجة

كان المتنفّس في باحة المشفى بعد نومٍ قاسٍ أعتق الأرواح. جميع الجرحى فيها من معارفي، كلّنا أُصبنا في الزبداني تقريباً. حشد الجنون بدأ عند قيامنا بسباق على الكراسي المتحرّكة، ما يؤكّد أنّنا لا نعرف معنى للاستسلام واليأس. الضحك والمزاح والمعنويّات العالية من سمات الشخصيّة القويّة، فحياة الإنسان قصيرة ترنو إلى سبك السكون والرفاهية، طبيعته ميّالة إلى الراحة، وإذا ما اعترضها بلاء فهي الهلوعة.

ثمّة حالات بيننا صعبة جدّاً؛ فمنهم مبتور القدمين أو اليدين، أو الاثنين معاً، أو فاقد العينَين. كنّا نغازل بعضنا بعضاً بجراحنا، وكلٌّ يشجّع الآخر.

نُصحٌ وأمنية

أقول لكلّ الجرحى: حافظوا على أمّهاتكم، ولا تخسروهنّ كرمى لأحدٍ في هذه الدنيا؛ فهنَّ السندَ والترياق من بعد الله، ومن يخذل والدَيه كمَن خذل رفاقه وتخلّى عنهم في ساحة المعركة.

وأمّا للمجاهدين: النصر قدرنا بإذن الله. مررنا بأصعب الظروف، وفُرِض علينا الحصار وما كُسِرنا ولم نركع. قاوموا بكلِّ ما أوتيتم من عزم. أدعو الله أن يمكّنني من مزاولةِ عملٍ جهاديٍّ. عشقي لعملي أصيب بالشقاء جرّاء البعد. أتوق إلى العودة إلى تلك الأجواء، فكلُ معاناتي لا تداني الشهادة التي لطالما تمنّيتها.


179

بحمى حرز عليّ (عليه السلام) (1)

بحمى حرز عليّ (عليه السلام) (1)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد حسن نزيه طه (حيدر).

مكان الإصابة: حور العيس.

تاريخ الإصابة: 13/11/2015م.

نوع الإصابة: في اليد اليمنى والقدم اليمنى والظهر.

مجلة بقيّة الله / العدد367/ شعبان - شهر رمضان 1443 هـ/نيسان 2022 م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

اجتزنا مسافاتٍ طويلة. بوصلة الرحيل ترنّحت، وملامح الجهات ضاعت. أنجزنا مهمّتنا واستقللنا الآليّة. انطلقنا والوجهة منتصفَ قرية العيس، إلّا أنّنا ولجنا في أرض العدوّ دون علم، والحدسُ ينبئنا بالضياع.

كرم الله

عشق روح الله الخمينيّ (قدس سره) تغلغل في أفئدة أفراد أسرتنا، فنشأتُ في بيئةٍ مواليةٍ للثورة ومُحبّةٍ للمقاومة. انتسبتُ صغيراً إلى كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، بعدها انخرطتُ بين التعبويّين، وخضعتُ لدوراتٍ ثقافيّة وجهاديّة، ثمّ انضممتُ إلى صفوف المقاومين عام 2007م. وجب عليّ الذهاب إلى الأراضي السوريّة للمرابطة، التي ترافقت مع إحساسٍ غيبيّ غريب جدّاً، فهمتُ تأويله بعد أن أُسرت، فقد أرادني الله أن أودّع أهلي ليرتووا منّي، حتّى ينمّي قدراتهم على الصبر وتحمّل الفراق الطويل؛ فعودتي من منطقة جوسيه لاصطحاب مجاهدٍ سيرافقنا، وزيارتي لمنزل والديّ وتوديعهم، كرمٌ من الله أدركت معناه لاحقاً.

حرز عليّ (عليه السلام)

لسان النار وزخّات الرصاص ما وهنت، كمطر الجمر صُبّ فوق رؤوسنا إلى أن وصلنا إلى حائطٍ شقّ جدار الغيب، فمَثَل أمامنا شبحٌ داعشيٌ يسأل من نكون. لهجته القريبة إلى لهجتنا دفعتنا للإجابة على السليقة: «حزب الله»، فحمل بندقيّته ليُشبع جوع انتقامه منّا. كلامه النابي ما زال يتردّد في أسماعنا، فعاجلناه بطلقاتٍ أردته قتيلاً. ثوانٍ فقط واستهدفنا التكفيريّون بقذيفة B7، نزلت بالقرب منّا. حرز عين عليّ (عليه السلام) الذي وُزّع علينا قبل أيّامٍ بتوصيةٍ من الحاج الشهيد قاسم سليمانيّ (رضوان الله عليه)، حال بيننا وبين ما يشتهون. نال كلٌّ منّا نصيبه من الإصابات: موسى كوراني اخترقت جسده اثنتا عشرة طلقة، محمّد مهدي شعيب انتشرت في جسده طلقات لم أحصها، أمّا عنّي، فقد حملتني الطلقة الأولى في يدي اليمنى إلى كربلاء، نزحتُ بأطوار قلبي عن ظلّ الوريد إلى الكفّ القطيع قرب النهر، والحصار ومخيّم السبايا، فغاب الألم حتّى مع إصابتي الثانية في ظهري، والثالثة في قدمي اليمنى، ما سلبني القدرة على حمل السلاح ومتابعة المواجهة، خصوصاً بعد نفاد الذخيرة.

وحوش من البشر

أصوات التكفيريّين صارت أقرب، وتضاءلت زخّات الرصاص شيئاً فشيئاً، إلى أن وصلوا إلينا. كانت آليّتنا قد تضرّرت بشكلٍ كبير، وارتطمت بحائطٍ ما أعاق مغادرتنا لجهة السائق، وكثافة النيران حاصرتنا من الجهة المقابلة. صراخهم أصمّ آذاننا، وأوامرهم لنا بالترجّل من الآليّة، وكلامهم الذي لا يمتّ للأخلاق والدين بصلة لم يفدهم. جراحنا العميقة وفقدان موسى الوعي أعجزانا عن النزول، فاستشاطوا غضباً وهجموا علينا. عند خلعهم الباب، سقط موسى أرضاً، أمّا عن محمّد مهدي وعنّي، فقد أنزلونا عنوةً، وسحلونا بأقدامهم. مزن الدم سحّت طمأنينةً في قلوبنا لا مثيل لها، فعقيدتنا الشهادة، ولا فرق كيف نغرق في بحرها، وأفئدتنا تهواها، فنحن بين أيدي قاطعي الرؤوس وآكلي الأكباد. قد حُسِم القرار، كنّا وكان الله معنا!

وكر الأشرار

مهمّتنا كانت في ريف حلب الجنوبيّ، في 13-11-2015م، وقد اقتضت إنشاء غرفة اتّصالات أعلى تلّة العيس. أنهينا عملنا بعد أن حلّ المساء. واتّفقنا مع من سيصحبنا إلى منطقة الحاضر، أن نلقاه قرب المسجد في منتصف قرية العيس. ساقنا التدبير الإلهيّ إلى أوكار التكفيريّين. مجرّات الأصوات المهاجرة سكنت خافقي؛ ذكرياتي مع أهلي، حياتي، كلُّ تلك الأحداث دارت في أمّ رأسي في غضون ثوانٍ، بعد أن وصلت رسل القوم، وبدأت باستهداف الآليّة التي كنّا نستقلّها. عزفت مهجنا أروع النداءات، «يا زهراء، يا صاحب الزمان، يا أبا عبد الله». لثمتني الطلقة الأولى في يدي، وعند محاولتي ربطها بقطعة قماش، أُصبتُ بطلقةٍ أخرى في الظهر، وعلا صوت الدعاء والذكر، وكانت إصابتي الأخيرة في قدمي.

إصابةٌ وأسر

اقتربوا ببطءٍ من الآليّة. طلبوا منّا النزول، ونحن عاجزون عن ذلك. تركوا جهة الحياة في كتف الحنق، واقترب أحدهم من الباب فخلعه. وقع موسى كوراني أرضاً، لأنّه كان يتّكئ على الباب حين فقد وعيه جرّاء إصاباته، فظنّنا أنّه استشهد. أبدوا حذراً شديداً منّا. ظنّهم أنّنا نرتدي أحزمةً ناسفة، أو نملك قنابل، دفعهم لإنزالنا بأسلوبٍ عنيف. بعدها مزّقوا ثيابنا، وضربونا بالسلاح وبأرجلهم، وسيل الشتائم لم يوفّر أهلنا، ولا ديننا، أو قيادتنا. دارت الأفكار في رؤوسنا عن كيفيّة ذبحنا. دعَونا الله أن يخفّف عنّا هَول هذا الأمر، وأن لا يتمّ تصويرنا فتصل المشاهد إلى أهلنا. لسنا بأعزّ ممّن ذُبحوا وحُزّت رؤوسهم في كربلاء من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا الأمر هو روح المواساة، لكنّها مشاهد قاسية على قلوب من نحبّ! ففي اللّحظات التي سُحبنا فيها على الأرض، توزّع فكرنا بين رضى الله وأهل البيت (عليهم السلام)، وبين أهلنا، وطلبنا منه أن تكون السيّدة الزهراء (عليها السلام) كفيلة قلوبهم عند تلقّيهم هذا النبأ.

هذه الدنيا بكلّ زخرفها وغرورها انتهت. لسنا قادرين على فعل شيء. نصف ساعة مرّت، تلقّينا فيها ضرباً شديداً. شفة الطريق لاكت أجسادنا، فشقّت الجروح. هذا الوقت أرهقه حقدهم، فلم أشعر بأيّ وجعٍ في تلك اللّحظات؛ لأنّ تفكيري حُصِر بالله؛ ناجيته أنّي عبده المذنب الذي أتى ليدافع عن المقدّسات، وعن شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، في وجه يزيديّي العصر، ورجوته أن يسامحني ويتقبّلني شهيداً!

عذابٌ وعذوبة

بدؤوا التحقيق معنا. ركبوا سراب الويل، وانجرفوا بوعيدهم أنّ مصيرنا الذبح؛ فنحن أَسرى تنظيم تكفيريّ، رؤوسنا ستقطع وستُرسل إلى السيّد حسن نصر الله (حفظه الله).

بعد التعذيب، نُقلنا إلى مكانٍ مجهول، فيه مجموعةٌ ثانيةٌ بدأت بضربنا من جديد. قَدِم قائد ميدانيّ من جبهة النصرة ونهاهم عن ضربنا، وطلب منهم أن يضعوا كلّ واحدٍ منّا في زاوية، فمسحوا الدم عن وجوهنا إيذاناً ببدء التصوير.

طلبوا منّا حفظ بعض الجمل كرسالةٍ ستُبثّ عبر التلفاز؛ لتصل إلى قيادة الحزب قبل قتلنا.

نُقلنا إلى مستوصفٍ ميدانيٍّ، حيث خضعنا لعمليّاتٍ جراحيّة دون تخديرٍ مناسبٍ، وفي أماكن غير معقّمة. تاه الصوت صمتاً وألماً لفقر العناية والعلاج، وجراحنا كانت كآهاتٍ ماتت أو غفت في الحناجر، كلّما ضُرِبنا استفاقت. في الصمت حزنٌ لا يُرى؛ فقد تعرّضنا لأصعب أنواع التعذيب: ضربٌ مبرح، وتعليقٌ في الهواء، وصواعق كهرباء، عدا عن السُّباب والشتم. ومن فرط ما كابدنا، طلبنا الموت. أُجبرنا على التفوّه بما أملوه علينا، وعند إعراضنا عن الامتثال لطلبهم، كنّا نتعرّض للتعذيب بوحشيّة، فنحتضن الموت ولا نناله!

لحظات الطمأنينة

مع نهاية كلّ تصويرٍ، كنّا نسكب على أكتافنا من قارورة السكينة، نظمأ للفناء ولا ندركه، فنلجأ إلى الله وأهل البيت (عليهم السلام). نعود من رحلة الدم إلى رحاب دعاء كميل، نمسح الخضاب عن صوت رئاتنا ونهمس بما نحفظه من أذكار، فنشرق على جهة الخوف ونهزم الأسر، ونوقن أنّ بريق أعيننا يزخّ أحرفاً لعقيدةٍ راسخة، لا يفهمها سوى الراسخون في العلم، والموغِلون عشقاً، ممّن يتقِن معنى أن تكون السكّين لصيقةً بالوريد كلّ لحظة.

أمّا عن المصير ورحلة العذاب، فحكايةٌ تُتبع ...


187

بحمى حرز عليّ (عليه السلام) (2)

بحمى حرز عليّ (عليه السلام) (2)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد حسن نزيه طه (حيدر).

مكان الإصابة: حور العيس.

تاريخ الإصابة: 13/11/2015م.

نوع الإصابة: في اليد اليمنى والقدم اليمنى والظهر.

مجلة بقيّة الله / العدد368/ شوال 1443 هـ/أيار 2022 م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

«ركنتُ حياتي على جانب الزمن. أنا مدلّل والدتي والأقرب إلى خافقها. يعلم الله كمّ الهلع الذي عشته خوفاً عليها. طالما دعوته أن يرينيها في عالم الرؤيا، كي أرتشف القليل من ابتسامتها، فأحيا ويطمئنّ قلبي كإشارةٍ منه أنّها بخير. صرفتُ فكرة الوهم التي تسرّبت إلى صورها المشعّة على رفوف ذاكرتي، وسلّمتُ أمري وأمرها إلى الله، مع جزيل الأمل أن يأخذ الله سنيني ليزداد عمرها. وكنت ولا زلت بحمى حرز عليّ».

صبرٌ وحريّة

على أهبّة الانشطار حزمنا حقائب التضرّع. مرّ وقتٌ طويلٌ والابتزاز ما زال قائماً. نذرنا لله صوماً مدّة أسبوع إن ما صدق الطغاة بوعودهم؛ فكلّ ما سمعناه منهم كان كزهورٍ غافيةٍ في حقلٍ محروق، وسرابٍ يذوب مع الفجر. كانت الأنباء تتناقل على ألسن الدواعش عن إنجازات المقاومين من تحرير أراضٍ وعملياتٍ ضدّ التكفيريّين، إلى أن استحكم بهم الضيق، فعرضوا المبادلة. وقيادتنا الحكيمة التي ما تركت يوماً أسراها، بمتابعتها الدقيقة والحثيثة، استطاعت تحريرنا بكرامةٍ وعزٍّ بعد مرارةٍ لا يعلم حدّتها سوى الله. عمرٌ جديدٌ بدأ بتاريخٍ يحبوه الانتصار، وقد أراهم الخالق ألوان الذلّ والهوان في الدنيا على أيدي المجاهدين قبل عسير الحساب في الآخرة.

ساعاتٌ مرّت كدهر

كان يوماً يعادل العمر بأكمله. بدأت عمليّة التبادل بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحاً. اصطُحبنا معصوبي الأعين من سجن غرب إدلب. عبرنا مناطق عدّة لا نعرفها، ضمن إجراءات أمنيّةٍ مشدّدة على الطرقات. للمرّة الأولى، كنّا نجلس وحدنا بدون حراسة من الخلف. قادوا السيّارة مع مواكبةٍ شديدةٍ حتّى وصلنا إلى معبر السعن. انتظرنا وصول المسؤول الأمنيّ في جبهة النصرة، أبو عبد الرحمن، الذي حُنِّط الدمعُ في عينيه ذلّاً، فأخبرنا أنّ عمليّة التبادل ستتمّ حاليّاً، ولكنّ أرواحنا ما زالت بين يديه، وعند أيّ خللٍ، ستتمّ تصفيتنا.

جزعهم العتيق كان بادياً عليهم، وعلامات الارتباك ظهرت جليّة. مرّت لحظات بلغت فيها القلوب الحناجر، لكن قريباً سيبزغ من خراب الشام بدرٌ، يزلزل كلّ أركان الظلام.

بدأت عمليّة التبادل قرابة الساعة الثانية ظهراً. كان الاتّفاق تحريرَ أسيرٍ مقابل عبور عشرين باصاً تقلّ المسلّحين تحت إشراف جمعيّة الهلال الأحمر. موسى كوراني كان أوّل المحرّرين، تبعه محمّد ياسين، وأنا كنتُ المحرّر الثالث، والرابع أحمد مزهر، والخامس محمّد مهدي شعيب. تفصل ساعتان كل مرحلة تبادلٍ عن الأخرى. عيوننا أفقٌ من الغبطة؛ فقيادتنا حرّرتنا بعزٍّ يردُّ اعتبار الشمس. وبخيال سيّدنا القدسيِّ، يقطن لؤلؤ اليقين أنّ المظلوم منتصرٌ لا محالة، ويقينه واجب التحقّق.

 

إنّها أمّي!

استغرقت العمليّة نحو خمس ساعات، أي حتّى السابعة مساءً. في شيبة الطهر فجرٌ مرهفٌ.

عبرنا إلى الضفّة الأخرى من المعبر مع الإخوان. استقبلَنا الأهالي بأعراس الفخر والسؤدد والجاه. هو يومٌ لا يُنسى؛ فقد تعبت الأرواح على الشفاه بقدر ما انتظرناه. عدنا إلى الأهل. أوشال دمعاتنا الطائحة لم تجفّ، فانهمرت سيلاً حين سمعتُ صوتها في خلوة الصبر يُتلى مصحفاً. إنّها أمّي! وكم سجدتُ لله شكراً أنّها بخير. كانت ذكراها عِقداً يناغي جيدي طيلة أيّام الأسر.

تقديرٌ ورجاء

لقاؤنا بسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بعد كسرنا للأسر، أثلج صدورنا. اعتكفنا في بهو حضنه لساعات، كلامه انسكب ازدحام أنَفةٍ في الدماء، أنّ تكليفنا حماية أنفسنا من الموت، وما قمنا به هو الواجب عينه في وجه جبهة النصرة هاتكي الحرمات، من يجرّون رماد الهلاك والخراب أينما حلّوا. ذلك خفّف عنّا؛ فهذا الأمر ظلّ يُقلقنا طوال فترة الأسر وبعد التحرير.

عامٌ وأشهرٌ تسعة من الأرق، وطّدت علاقتي في الأسر بأهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصاً بالإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، فهو المسجون في قعر السجون ظلماً، فكنّا ندعوه بقلوبٍ ذاقت جزءاً يسيراً جدّاً ممّا ذاقه.

رحلة العلاج

بدأتُ منذ الأسبوع الأوّل رحلة علاجٍ جديدة؛ فالعمليّات التي خضعتُ لها أولى أيّام الأسر، لم تنجح، ما اضطرّني للخضوع لخمس عمليّات جراحيّة: جراحتان لإزالة الرصاص من جسدي، وثلاث جراحاتٍ في يدي، لتركيب مفصلٍ وأسياخ وأجهزة أخرى.

توجد متابعةٌ دائمةٌ لحالتي الصحّيّة من قِبَل مؤسّسة الجرحى؛ فما زلتُ أعاني من مشاكل في أعصاب رأسي وقدمي ويدي. راحتي تتطلّب اجتناب المجهود الجسديّ والنفسيّ، والعكس يسبّب لي اضطراباتٍ وأوجاعاً لا تُحتمل، أعتبرها وسام تقديرٍ من الله، أشكره أن رزقني إيّاها.

زواجٌ مبارك

قرعتُ أجراس العودة إلى نبض الحياة بعد مدّة من نَيلي الحرّية؛ فقد منّ الله عليّ بالزواج من امرأةٍ صالحةٍ لا تُحصى فيها المآثر. انسجامنا حصل منذ اليوم الأوّل ولا يزال حتّى الآن، لأنّ أصل ارتباطنا لله وفي عينه. زوجتي تعدّ قربها منّي ذا وجهين: وجهٌ يراوده التجلّي والقرب من الله عزّ وجلّ، والآخر لتكون شريكةً في التضحية إلى جانب أسيرٍ جريحٍ؛ فمزّقت خرائط الارتياب، واختارت أن تقضي أيّامها معي. أعبّ منها العزم والقوّة؛ فهي السند الذي يقوّيني في كلّ أموري. رُزقت منها بطفلتين، زينب وجنى، وهما عالمي الأجمل. وجود عائلتي لم يدفعني لأنكث بأمنية الشهادة؛ بل منحني دافعاً أكبر للمضيّ قدماً، فعدتُ إلى مقاعد الدراسة في الجامعة لمتابعة تخصّصي بعد فترة علاجٍ شاقّة ومتعبة، صارت مجرّد ذكرى أليمة.

كلام القلب

للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: إلى محرابك الورديّ تهفو النفوس، وعقيق خاتمك السخيّ بلسم أرواحنا، نحن، يا سيّدنا، لو أُسرنا وعُذّبنا وذُبحنا آلاف المرّات، ما تركناك ولا تخلّينا عن بيعتك، وكلّ ما أُجبرنا على قوله مكرهين لا يمثّلنا. لو أنّك تدري كم كان يحرقنا ويعذّبنا قبل وصوله إليكم، ونزع أرواحنا لأحبّ إلينا من التفوّه به، لأنّ كمّ حبّنا وعشقنا لسماحتكم، لا يرقى إليه أيّ حبٍّ أبداً. وإنّ قولك: نحن لا نترك أسرانا في السجون، لم يغب عن أذهاننا لحظة، يقيننا حاسم وقاطع أنّك صادق الوعد.

للمجاهدين، والجرحى، والشهداء وأبنائهم، أقول: كلّ كلمات الشكر في الوجدان عاجزةٌ عن وصف ثنائكم. مهما قلنا لن نفيكم جزءاً من حقّكم، وأتمنّى أن تقبلوني خادماً لكم. ولعوائل الشهداء الذين قدّموا أغلى ما يملكون، أقول: نتمنّى أن تعتبرونا أبناءكم.

نحن أبناء آل بيت محمّد (صلى الله عليه وآله)، وأبناء الإمام الخمينيّ (قدس سره) والسيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله)، والشهيد السيّد عبّاس الموسويّ والشيخ راغب حرب (رضوان الله عليهما)، ونحن جنود السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، نلهث خلف العزّ، ومهما طاردنا الموت نهزمه. لا يأس ولا هوان في مسيرتنا، ولا تراجع عن المبادئ والعقيدة، والخضوع معدمٌ في عزمنا. قدّمنا الكثير وسنقدّم المزيد ليبقى الدين ونحيا بكرامة. ومع كلّ تهديدٍ يزداد إصرارنا ويتضاعف، خصوصاً أنّ لدينا قائداً مسدّداً من ربّه، لا مكان للهزيمة في ميدان فكره.

لجمهور المقاومة الوفيّ، الذي وصفه سماحة السيّد بأشرف الناس، أقول: أدعو الله أن يتقبّلني خادماً لكم، وأرجو أن يشملني دعاؤكم مجدّداً كما شملني خلال الأسر.

 

 


195

حلّقتُ ثلاثاً!

حلّقتُ ثلاثاً!

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمد حسين الطقش (نور الزهراء).

مكان الإصابة: حلب.

تاريخ الإصابة: 25/10/2016م.

نوع الإصابة: بتر القدم من الفخذ، واحتراق الجسم.

مجلة بقيّة الله / العدد366/ رجب - شعبان 1443 هـ/آذار 2022م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

لم يهدأ القصف هنيهةً. ساعتان والقذائف تهطل كالودق المنصبّ حمماً من السماء. ثلاثة شهداء سقطوا أمام عينيّ، وأمّا قذيفة الهاون 120 التي أدناها الشوق منّي، فرفعتني حين انفجرت لأحلّق مع الأملاك. ثلاثون متراً لم تكن كافيةً لألقى حتفي. توسّد خدّي التراب حين ارتطمتُ بالأرض، وبُترت قدمي من الفخذ، ومُزّقت الأخرى بعمق حتّى العظم، كما اختُطف أحد أصابعي مع كسورٍ في عظام اليد.

إصابات ثلاث لم تُقعدني

انتسبتُ إلى كشّافة الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) عام 2005م. كان المسجد صديقي، له حبّ كبير في قلبي. وللشهيد ساجد ملك أثرٌ بالغٌ في حياتي؛ إذ كان السبب المباشر لدخولي في الخطّ الجهاديّ، فخضعتُ لدورَتين جهاديّتين، وانضممتُ إلى صفوف المجاهدين.

ثمّ نُقلت إلى سوريا للمشاركة ميدانيّاً في الحرب للدفاع عن المقدّسات ضدّ الدواعش. كنت عنصر اشتباك حينها. شاركتُ في العديد من المعارك على امتداد الأراضي السوريّة. مشاركتي الأولى كانت في القلمون، حيث وضعنا كربلاء نصب أعيننا فعشناها بتفاصيلها. ومع كلّ إصابة قضمت من جسدي بعضه، كنتُ أقترب من فهم عاشوراء أكثر.

إصابتي الأولى كانت في الزبداني، عندما تطاير حجرٌ إثر انفجار قذيفة الـB7، فأصاب رأسي، ما سبّب لي ارتجاجاً دماغيّاً نتجت عنه غيبوبة مدّة أسبوع في المشفى. إصابتي الثانية كانت في حمص، حينما رمى التكفيريّون 300 جرّة ملأى بمادّة «الكلور»، فأدّى تنشّقي المادة إلى تسمّم كبدي. كما أنّ معاناتي مع مرض الربو المزمن، تسبّبت بمكوثي في المشفى مدّة أسبوعين آخرين.

عدتُ إلى الميدان من المشفى مباشرةً بعد شهادة صديقي حمزة المقداد. فوران دمي ما هدأ إلّا حين شاركتُ في المعارك من جديد.

إصابتي الثالثة كانت في حلب. كسرٌ في يدي لم يقعدني عن الجهاد مطلقاً. شاركتُ في ملحمة حلب الكبرى، والجبيرة حول يدي.

ملحمة بدر الكبرى

وما أدراك ما ملحمة حلب الكبرى؟ معركة يمكن تشبيهها إلى حدٍّ ما بمعركة بدر الكبرى لشراستها. ثلاث تلال استراتيجيّة وجبت السيطرة عليها ليكون زمام الأمور في أيدي المجاهدين، ولتطهير حلب من آلاف الدواعش المتمركزين فيها، ولقطع الإمداد عنهم من العراق والشام. في بداية الهجوم، ارتقى 33 شهيداً. كانت الخطة أن نُقسَّم إلى مجموعات تتبادل فيما بينها المهام. قامت مجموعتان في الوقت عينه بالهجوم على تلّة الباز وتلّة السيرياتيل وتلّة الرّخم. الراكضون على أعوامهم عزموا على النصر. مجموعة واحدة نجحت بالتسلّل، وأسقطت تلّة الرّخم، بينما التلّتان الباقيتان لم تَسقُطا؛ نظراً لقلّة عديد المقاومين. ثبّت أفراد المجموعة انتصارهم، ووُضعت خطّة لحراسة التلّة. جاء دورنا في اليوم التالي كبديلٍ للحماية، وحين عرف التكفيريّون بسيطرتنا على التلّة، صبّوا جامّ غضبهم فوق رؤوسنا. كان القصف عنيفاً، دام ساعتين دون انقطاع. أُجبروا على إيقاف القصف حين أطلّت الطائرات العسكريّة الروسيّة وبدأت القصف. لم تهتزّ عزيمتنا رغم الخطر وظلال الموت التي خيّمت فوقنا. هدأ الوضع قليلاً حتّى اليوم التالي، حيث استُهدف أمير داعشيّ من قِبَل المجاهدين. بعد قتله، ثارت ثائرة الإرهابيّين، وبدؤوا باستهداف التلّة. استشهد بعض المجاهدين، وهوَت قربي قذيفة هاون 120. بسقوطها، ارتفعتُ إلى السماء. في ابتهالات المشاعر، كنتُ قد ناجيتُ الله أن يقبلني بجراحٍ لا تزول، والشكر له أن تقبّل قربان دمي.

شهادة متكرّرة

قام المسعفون بحملي إلى الإسعاف الميداني. لكن أثناء نقلي، استهدفنا التكفيريّون بصاروخٍ موجّه، فاستشهد المسعفان واحترق الغطاء الذي كانا يحملانني عليه، فاحترق جسدي معه بالكامل، سوى منطقة وشمتُ عليها عبارة: «خذي من قلبي قبراً لكِ يا زهراء»، وكان الإعجاز. انزلقتُ من أعلى التلّة نحو الأسفل، حيث يتمركز المجاهدون في معمل «البراغي». سُحبت ووضِعت مع الشهداء نظراً لحروقي البالغة، لكنّ شهقةً واحدة دلّت مَن حولي على أنّ النبض لم يخذلني، فنُقلتُ إلى مشفى حلب الجامعيّ.

هناك، على قدر أوجاعي حُقِنت بالمسكّن، وقد كانت الجرعة كفيلةً بإيقاف قلبي عن الخفقان، فوُضعت مرّة أخرى مع الشهداء!

ثلاثة أيامٍ مرّت، وأنا في برّاد الشهداء، لكنّ حجارةً صغيرةً عالقة في حنجرتي دغدغتني، دفعتني للسعال بعد أن اختلجت الحياة في أوصالي من جديد. طرقتُ على باب البرّاد إلى أن سمعتني الممرّضة، فهرعت إليّ لتطبيبي، ولكنّي ما لبثتُ أن دخلتُ مجدّداً في غيبوبةٍ، فظنّوا أنّي استشهدت أيضاً! حينها، نُقِلت بالطائرة إلى الأراضي اللبنانيّة، حيث احتواني برّاد الشهداء مرّة أخرى، لكن أثناء الطريق إلى مشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، مسّني الفيض الربّانيّ، فارتدّ العمر إلى أعوامي. سعالي الحادّ أوقف السائق للتأكّد ممّا سمعه، فأصابه الذهول حين وجدني حيّاً، فأسرع بي إلى المشفى.

عرس الجراح

أُدخلتُ مباشرةً إلى غرفة العمليّات، حيث خضعتُ لثلاث وثلاثين جراحة على مدى ثلاثة أشهر. كنت أفقد الوعي وأستعيده، وقد تكرّر ذلك مرّات عدّة. بعدها، زارني في عالم الرؤيا بدر الهاشميّين (عليه السلام)، المضيء في سماء حزني، أخبرني أنّ جراحي أقسى عليه من سهم عينه، وأنّها مقبولة، كما أنّ مواساتي للسيّدة زينب (عليها السلام) وحمايتي لها تعنيه كثيراً. مسح على حروق عينيّ، ووجهي، ويدي فبرئت، وسقاني مياهاً برّدت ظمئي. تلك الرؤيا دسّت كميّة هائلةً من العزيمة والقوّة في عروقي، وزادتني عقيدةً لا توقف مجراها الآلام على مرّ الأيّام، إلى أن جعل الله رؤياي حقّاً بعد أن شُفيت حروقي، وأشرق النور في عينيّ من جديد.

علاجٌ وبشرى

والدتي كانت ترعاني في المشفى، رغم تعبها الشديد، لثلاثة أشهر متواصلة، وكذلك أبي وأخوتي ما تركوني. لازمتُ الكرسيّ المتحرّك خمسة أشهر، بعدها خضعتُ لعلاجٍ فيزيائيٍّ مكّنني من السير لاحقاً.

بعد خروجي من المشفى، عانيتُ من أوجاع في رأسي بسبب الإصابة، ممّا سبّب لي كهرباء في الرأس وغياباً متكرّراً عن الوعي. أعاقر الكثير من الأدوية، خصوصاً المسكّنات، نظراً لكمّ الألم الهائل الذي أشعر به.

لا شيء يرفع عن فمي ثوب الكلام، سوى شكر الله أن أعطاني زوجةً زينبيّة عام 2017م. بسبب خطأ طبّي، حُرمت من القدرة على الإنجاب. وبعد معاناة، حضرتني السيّدة الزهراء (عليها السلام) وبشّرتني بابنةٍ، اسمها فاطمة الزهراء، وأوصتني بالاهتمام بها، وهذا ما حصل.

تلك القريبة بين جفني وجفني، أدأب على تربيتها تربيةً دينيّة سليمة. أحرص على تعليمها القرآن وأحضّها على حفظه، كما أسعى لتكون زينبيّة بحقّ. من فرط رقّتها، أخال عروقها يجري فيها الورد.

رسالة ومحبّة

للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: متى أراك يا سيّدي كمشتاقٍ لمشتاق؟ فالعمر وهبتك إيّاه يا أقدس الأوطان. حبّك المنهمر داخلي يعطيني زخماً للعطاء، ويعينني على ابتلاء الدنيا. قلبي سفينة يهدهدها موج حضورك، لا حرمنا الله منك يا ابن الزهراء (عليها السلام).

أوجّه كلمة للناس مستعيناً بقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَه اللَّه لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه...فَمَنْ تَرَكَه رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه اللَّه ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَلَاءُ[1]». أتمنّى منكم الالتفاف حول المقاومة، التي حملت في كلّ ريحٍ الدرب المتعثّر والخطر عنكم، وحمتكم بأرواح مجاهديها ودمائهم؛ لأنّ خطّها ممهّدٌ للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، المتوقّف ظهوره على أعمالنا وجهادنا للظلم. لا تركنوا يا أهلنا للضغوطات، فطريق آل البيت (عليهم السلام) منذ الأزل مليء بالمكاره والمصائب، وعلينا يا أشرف الناس الانصهار بقائدنا لننجو.

للمحجّبات المتبرّجات اللواتي يضربنَ الثقافة الدينيّة، ويؤلمنَ قلب الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، ويقلّدنَ الغرب، أقول: أخواتي العزيزات، ارأفنَ بقلب السيّدة الزهراء  (عليها السلام)، وحافظنَ على حجابها، فابنتها سُبيت ليُصان الدين والحجاب.

للجرحى أقول: أيّها العاكفون على الجراح، العارفون بلا رؤى أنّ الآلام بعين الله، نحن رغم الجراح مستمرّون. إن لم نجاهد بأيدينا، سنجاهد بالدعاء، وسنستمرّ بخدمة الناس ما حيينا، فالجراح والأوجاع ما هي إلا أوشام ترتّل ضوء الحبّ والوجد في سماء الله، فقط من أجل رضاه.

 

[1]  نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 69.


203

شهقةٌ أعادتني إلى الحياة...

شهقةٌ أعادتني إلى الحياة...

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد حيدر محمّد إبراهيم (كفيل زينب).

مكان الإصابة: حلب.

تاريخ الإصابة: 15/10/2016م.

نوع الإصابة: في الرأس والصدر والقدم اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد374/ ربيع الثاني 1444 هـ/تشرين الثاني 2022 م/ السنة الثانية والثلاثون.

 

وصلنا مدينة حلب. وقد وضعنا نصب أعيننا تحريرها، والسيطرة على الأنفاق المثخنة بالدواعش الموجودين فيها. كنّا سبع سرايا يجمعنا هدف مشترك، وقُسّمنا إلى مجموعات: الأولى لمهاجمة التلّة الصفراء، والثانية لمهاجمة حرج الصنوبر، والثالثة لمهاجمة تلّة السيرياتيل. كنت ضمن المجموعة الثالثة. حيث أنزلتنا آليّة PMB بالقرب من الساتر، فاتّخذ كلٌّ منّا مكاناً خاصّاً به.

بزوغ شمس الجهاد

بزغت محبّة القتال في فؤادي منذ الصغر. لم تكن البيئة التي نشأتُ فيها بعيدةً عن خطّ الجهاد؛ لذا كان الانخراط ضمن صفوف التعبئة سهلاً ومتوقّعاً، حيث خضعتُ لدورات ثقافيّة وجهاديّة. تعاقدتُ بشكلٍ منتظم، وانتقلت سريّتنا إلى القلمون في العام 2016م. مرّت خمسة أشهر وتغيّرت وُجهتنا نحو حلب. حتّم علينا الوضع هناك تحريرها ممّن أبدعوا في حياكة الموت للأبرياء؛ لذا، جاء الأمر بالهجوم على تلّة السيرياتيل لتحريرها وتحرير الأنفاق التي تعلوها.

معارك ضارية

كانت المعارك في أوجها، مع الكثير من الصبر والبصيرة، بدأ القتال. حمم القذائف تساقطت علينا من كلّ اتّجاه. كانت المسافة بيننا وبين الدواعش لا تتعدّى مئتي متر. الأرض جرداء، ما خلا منزلٍ شبه مهدّمٍ اتّخذوه ساتراً ليتفنّنوا في اصطيادنا. فائض الأسلحة لديهم من كلّ الأشكال والأنواع، حوّل السماء إلى بركان يقذف النار اعتباطاً في كلّ مكان. صرنا نتفقّد بعضنا بين الحين والآخر. وعندما تقع القذيفة بيننا، تعلو النداءات، إلى أن شاهدتُ بعينيّ دماغ صديقي كربلاء تناثر أمامي، بعد أن أصابته طلقة شتاير من قنّاصٍ حاقد، فانفجر رأسه.

إصابة كأنّها الموت

مع نفاد آخر قذيفة B7 بحوزتي، واصلتُ النزال برشّاشي، إلى أن هوت قربي قذيفة هاون، فتحوّل الكون فجأةً إلى كتلة نور، وترافق ذلك مع طلقات قنّاص ثلاث، خرقت إحداها خوذة رأسي فكسرت جمجمتي، وثانية أصابت صدري فمزّقته، وثالثة استقرّت في قدمي اليمنى.

شعرتُ بأيدٍ تلقّتني لأستلقي أرضاً، رأيتُ تكفيريَّين اثنين يتّجهان نحوي، فوضع أحدهما قدمه على صدري، والآخر شحذ سكّينه لذبحي، فصرختُ بهما، وربما أرادا أن يتّخذا منّي كميناً للمجاهدين. نداءات «يا زهراء» و«يا صاحب الزمان» ظلّت ترافقني. تعذّر على المجاهدين سحبي مباشرةً، فتلك المعركة كانت الأعنف، حسب وصف سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بعد معركة القصير؛ لذا، بقيتُ مكوّماً على بعضي أنزف حتّى الفجر.

لم يجد المسعفون نبضاً أو نفَساً يسكنني، فوضعوني مع الشهداء. نمتُ على صمتٍ قطعته شهقة عالية، وتقيّؤ لكمّيّة من الدم في أثناء نقل الجثامين الشريفة، فانتبه المسعف أنّ بي بعضاً من حياة، فنُقِلتُ إلى المستشفى الميدانيّ في مدينة حلب، وخضعتُ لثلاث جراحات في الرأس والصدر والفخذ الأيمن، وقد مكثتُ فيها مدّة أسبوع. وبعدها، نُقِلتُ إلى مستشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومنها إلى مستشفى السان جورج في بيروت، وبقيتُ فيها ثلاثة أشهر نتيجةً للغيبوبة التي دخلتُ فيها إثر النزيف الحادّ الذي تعرّضتُ له.

ردّة فعل الأهل

كان صديقي أوّل الزائرين لمنزلنا، بعد أن تردّدت أخبار المعركة وضراوتها على ألسنة الناس. أخبر والدتي، التي لجّت في السؤال عنّي، أنّي أُصبتُ إصابةً طفيفة، ولكنّ قلبها لم يقتنع بخبر إصابتي. وافتني إلى مستشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ولازمتني طيلة فترة إصابتي. قدِم والدي من السفر حين علم بإصابتي، فاجتمع كلّ الأهل والأحبّة قربي في المستشفى، ولم يتركوني مطلقاً. توسّل والدتي بالله والتضرّع الدائمَين اختصرا عذاب الوقت، فاستقرّ اليقين بأنّ رحمة الله ستحتضنني، رغم تنبؤات الأطبّاء بإصابتي بتلفٍ دماغيٍّ سيؤدّي إلى الشلل أو فقدان النطق أو البصر إن استعدتُ وعيي. وبالفعل، استعدتُ الوعي فجأةً، مع الحفاظ على جميع حواسي.

رحلة العلاج

عانيتُ من شللٍ نصفيٍّ في بادئ الأمر، فخضعتُ لعلاج فيزيائيٍّ لخمسة أشهر في مؤسّسة الجرحى، وبعدها عدتُ إلى المنزل متابعاً علاجي في مركز العبّاس التابع للمؤسّسة في بعلبك.

منعتني بعض الشظايا الماكثة في دماغي وصدري، ونسبة إصابتي التي تخطّت الثمانين في المئة، من الحضور في سوح الجهاد مجدّداً، إلّا أنّني ما زلت متأهّباً في كلّ لحظة للالتحاق بالعمل الجهاديّ. كما أنّ التفاف الأصدقاء حولي بعد إصابتي، يصقل مزاجي ويؤجّج دائماً الحنين داخلي للعودة إلى المعارك.

علاجي الدائم هدفه الحفاظ على صحّتي وعدم تحرّك الشظيّة في دماغي. تصيبني نوبات صرع مرّة كلّ سنة في ذكرى الإصابة، فتذكّرني أنّ الحرب لا تبكي ضحاياها، وأنّ العزيمة هي من تصنع المجد، وأنّ الله لا يختار جنوده عشوائيّاً، إنّما يكون الاختيار لكلّ ذي حظٍّ عظيم.

لطفٌ من الله

لم أرَ في إصابتي إلّا الخير ولطف الله. كلّما نضب الكلام تضافرت الحروف لتلوّن الدنيا في عينيّ؛ لا وصف لحنان والديّ عليّ ومشهد اجتماعهما حولي. على باب المودّة الصافية أقف لأدعو لهما بدوام الصحّة والعافية والعمر المديد. جراحي زادتني عزماً وإرادةً؛ إذ لا مكان لليأس أو الاستسلام في تفكيري.

رحيق الكلام

لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: يا سيّدنا، قد مضينا قُدماً منذ الصغر في هذا الطريق، لنحفظ مسيرة أهل البيت (عليهم السلام) ونصون نهجهم. عذاباتنا لا تقارن بعذاباتهم، خاصّةً في كربلاء، فكلّ الأوجاع تتلاشى مقابل أوجاع السبايا والأطفال. وجراحنا مواساة للكفيل (عليه السلام)، الذي لم يتردّد لحظة في نصرة إمام زمانه (عليه السلام) رغم احتشاد جيوش الكفر حوله. وإنّ ما نقدّمه ليس إلّا القليل أمام فيض إيثاره، وكلّ ذلك تمهيد للظهور العظيم لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه).

يا سيّدي، كيف يشيخ من يحياك عشقاً، ويدعو الله دوماً أن يطيل في عمرك المبارك؟ أنا، يا مولاي وقائدي، طوع أمرك، تلبيتي دائمة للنداء أيّان أطلقته، وإنّي لك الفداء.

للجرحى المضحّين أقول: اصبروا يا إخوتي، وليبقَ إيمانكم بالله كبيراً رغم الجراح والآلام، وتجهّزوا لتقديم كلّ غالٍ لنصرة الحقّ، فربّكم يشهد أنّ قائدكم لم يتوانَ عن تقديم فلذة كبده قربان ليحميكم.


211

سُبحة الجراح

سُبحة الجراح

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد أحمد ملك التالا (غريب فاطمة).

مكان الإصابة: القلمون.

تاريخ الإصابة:24/7/2017م.

نوع الإصابة: بتر القدم اليسرى.

مجلة بقيّة الله / العدد360/ محرم -صفر 1443 هـ/أيلول2021م/ السنة الثلاثون.

 

كنتُ أرقبُ مجموعة المجاهدين خلفي، والدهشة ترتع في حقولٍ من مجاز المعنى. رأيتُ ظلال الحاملين بلادهم على أكتاف نخوتهم، قبل أن يغشى عينيّ بياضٌ زادت حيرتي بسببه، فخلتني فقدتُ بصري. انجلى الغبار ليكشف عن تشريكة ألغام انفجرت. تحسّستُ جسدي: عينيّ، وجهي، يدَيّ، بطني، ورأيتُ قدمي اليمنى وحيدة تنزف، والأخرى تلاشت دون أثر!

مشيجُ الإرهاب من داعش وجبهة النصرة كان قد انحسر، واحتشد في جرود سلسلة الجبال الشرقيّة للبنان. وما بين عرسال والقلمون كنّا العابرين إلى أقصى الأفق، تعانَق ظلُّ الله وأرواحنا. لا بدَّ من تحرير ما تبقّى من أراضٍ بسط التكفيريّون شرّهم عليها. تقرّر الهجوم وبدأت المعركة.

براعم الجهاد

ترعرعتُ في كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ فقد نما حبّها والعمر معاً في قلبي، منذ كنت برعماً عام 1998م حتّى تدرّجتُ قائداً، وانضممتُ بعدها إلى صفوف التعبئة، إلى أن صرتُ من المجاهدين الرسميّين. خضعتُ لدورات ثقافيّة وتدريبيّة وعسكريّة، ونشأت في هذا الخطّ حتّى صرتُ مقاتلاً قويّاً. تلك الدورات العسكريّة كانت عالية المستوى، أهّلتني لتدريب الإخوان المجاهدين في أكثر من مكان وساحة. تابعتُ التدريب مدّة زمنيّة لا تقلّ عن الأربع سنوات. منَّ الله علينا أن نربّي أجيالاً وندرّبها، وهذا بمثابة صدقة جارية، إلى أن بدأت الحرب في سوريا. شاركتُ في المعارك منذ بداية الأحداث. وفي أواخر 2011م، وفّقني الله لأكون من حرّاس مقام السيّدة زينب (عليها السلام)، وقد لبّيتُ النداء.

كسُبحة

في العتيبة كانت الإصابة الأولى عام 2012م، أثناء هجوم خضناه. كُسر حوضي حينها جرّاء انفجار صاروخٍ أطلقه التكفيريّون علينا، وانتشرت الشظايا في قدمي اليسرى. وفّقني الله واستعدتُ القوّة، ثمّ عدتُ إلى عملي، وأكملت المسيرة مع وسام شرفٍ.

كسُبحة الجدّات الطاهرات انفرط عِقد النور، وتتالت الإصابات، ففي العام 2015م نلت الوسام الثاني على حدود السلسلة الشرقيّة. هناك كانت الإصابة الثانية أثناء هجوم قمنا به، حيث تركّز انتشار الشظايا في يدي وبعض أعضاء جسدي، وكانت إصابتي كغيمة عابرة، والحمد لله أنّه وفّقنا لنقدّم قرباناً كرمى لرضاه.

معركة تحرير الجرود عام 2017م، «فجر الجرود»، كان لها حساب آخر. في الثالث عشر من شهر تمّوز، كنت ضمن المجاهدين الذين كُلِّفوا بالالتحاق بالجبهات. كنّا جاهزين وفي حالة تموضع بانتظار الهجوم. عملُنا كان في منطقة وسطيّة عند الحدود بين لبنان وسوريا، وكان تكليفنا أن نقوم بهجوم؛ لنحرّر المعابر ونفتح الطريق أمام باقي المجموعات.

هناك كان الوسام الثالث، فيض الله شملني وكانت الإصابة أبلغ، هذه المرّة بُترت قدمي اليسرى، واسيتُ الإمام الحسين  (عليه السلام) وأبا الفضل العبّاس (عليه السلام) بجرحٍ زهيدٍ.

جرحٌ وكرامة

نُقِلتُ ورفاقي الجرحى في الإسعاف إلى المشفى الميدانيّ، ثمّ إلى مشفى دار الحكمة في بعلبك، ومنها إلى مشفى الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله) في بيروت. طالت المسافة، وعلى ثغري في كلِّ الأماكن أسئلة حيرى عن رفاقي. ظلّ فكري عاملاً بذكرهم، فمرثيّة النار وطلقاتها، زئير الحرب وصولاتها التي تَقَلَّب أُنسنا فيها، طَربنا بها جميعاً وما هبنا الموت ولا الدم، وعانقنا الأخطار، وكان الهاجس الأكبر رضى المولى.

تراءت لي صور رفاقي الشهداء الذين لم ينبذوا وطنهم منذ امتزجوا به، حتّى ظننتُ أنّي سأرافقهم إلى الملكوت، لكنّ مشيئة الله جرت بغير ذلك. أرّقني سرٌّ مريب لم أدرك صدقه من عدمه، صورة صديقي المجاهد ميثم عليّ الرضا عبيد، كانت من بين الصور مشرقة بغنج، بعد مدّة من إصابتي علمت أنّه استشهد وزفّ إلى الجنّة أثناء نقلي إلى المشفى بعد الإصابة. حتّى الآن لم أعِ إن كان وحياً أم خيالاً، أو ربّما كرامة.

معاناة وعزيمة

مكثتُ في مشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدّة شهرين، بين جراحةٍ وعلاج ومعاناة بسبب بتر قدمي اليسرى، والضرر العميق الذي طال القدم اليمنى، التي كان سينالها البتر أيضاً، ولكن بفضل الله والطاقم الطبّيّ والأطبّاء تجاوزنا الخطر، واستمرّت مرحلة علاجها من ضعف العصب الحسّيّ والحركيّ، فضلاً عن بعض الأضرار الجلديّة، كمضاعفات للأنسجة المزروعة فيها.

مؤسّسة الجرحى كانت الراعي الأوّل والمبادر الأساس، فقد قامت بخدمة الجرحى، وبفضل جهود القيّمين فيها استطعتُ أن أتخطّى الجراح.

تباريح الجراح

في حضن الفقد تكبر لوعتي، فالشهادة أمنيّة شاخت عند ضفافها القدرة، فما عاد بالمستطاع العودة إلى سوح الجهاد والجبهات، والغوص في أمواج المساءات الحميمة في الثغور كما قبلاً، إلّا أنّ أملي بالله كبير أن يرزقنيها. لا ينتابني الندم لحظة. حتّى الآن لم أشعر أنّ أحد أطرافي مبتور، ولم أقارن نفسي بأيّ شخص طبيعيّ. بي تفاؤلٌ عظيم ارتوى من دمي، والصبر عمر مصلوب الكلام، ترويه تباريح الجراح، لا يعيه إلّا كلّ من آمن بمحمّدٍ وآله  (عليهم السلام) وتعلّم في مدرسة كربلاء. جهوزيّتي تامّة لكلّ ما يُطلب منّي. صحيح أنّي لا أزاول العمل ولا ألتحق بالجبهات، لكنّي أُلقي بعض المحاضرات وأقوم ببعض التدريبات أحياناً. ما زلتُ أمارس هواياتي وأهمّها السباحة والصيد، لكنّ كرة القدم تعيدني من سهوي إلى أرقي بعد اعتزالها قسراً!

 

دعاءٌ واستجابة

بعد خروجي من المشفى، قصدتُ زيارة مقام السيّدة زينب (عليها السلام)، وطلبتُ منها أن تسأل الله لي الشفاء العاجل لأمثل في خدمتها وأنال حظوة الدفاع عن مرقدها من جديد، وأن تُكتب لي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين. خاطبتها ببعض الصمت ودمعي حزين: «ما زلتُ يا فخر الهواشم على الرغم من مواجعي، أحيي في ذاكرة السماء غراماً، آتيك من أقصى الجروح حافياً، أثلام ظلّي تدسّ الحزن في جيب الرجوع إليك حبّاً. يا ليت يا سيّدتي أستطيع، أشكو إليك الأسى واللّوعة الوجيعة، فشتات ذاتي في حضرتكِ يلتئم».

بعد عودتي بفترة وجيزة، هاتفني صديق ليسألني عن رغبتي في السفر لزيارة العتبات المقدّسة في العراق، في ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، وأنّه سيهديني الزيارة في حال موافقتي. توسّدت لطف السماء ولم يسعني الفرح، وقع طلبه كالبلسم في قلبي، فأضمرتُ في نفسي أمنيّةً وعقدتُ الأمل لتتحقّق، بعدها غفوت على جفن الرجاء. أمنيّتي كانت من كريمٍ ابن كريم، طلبتُ من قمر بني هاشم (عليه السلام) أن يوصلني إلى ضريحه بسهولة، ودلالة ذلك أنّه قَبِلَ بمواساتي له، وتقبّل جراحي وقربان الدم الذي قدّمت، فما كان من بعض خدم العتبة العباسيّة المقدّسة إلّا أن حملوا الكرسيّ المتحرّك الخاصّ بي، وقرّبوني من الضريح بعد أن عرفوا كيفيّة إصابتي، فأيقنتُ أنّ الكافل راضٍ عنّي، قابلٌ لجراحي.


219

يا زهراء، رفقاً بقلب أمّي

يا زهراء، رفقاً بقلب أمّي

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد علي مشهور أبو زيد (ذو الفقار).

مكان الإصابة: تدمر.

تاريخ الإصابة: 11/7/2017م.

نوع الإصابة: في اليدين والقدمين.

مجلة بقيّة الله / العدد372/ صفر -ربيع الأول 1444 هـ/أيلول 2022 م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

لم يكن عددنا كبيراً في تدمر، عروس الصحراء. توزّعنا على نقاطٍ محدّدة قرب آبار النفط، بعد أن طهّرناها ممّن أذن الله بقتالهم. وفي لحظات غدر، قام الأنجاس بإحراق نقطةٍ بمن فيها من مقاومين! مشهد احتراق الشهداء يقتل الكلمات، لا لغة تفيه حقّ الوصف! تلك الوحشيّة التي انتهجها الدواعش، استدعت منّا ردّاً حاسماً. جهّزنا النقاط بالأسلحة المناسبة، وتأهّبنا لأيّ طارئ. وزّعنا نوبات الحراسة، وفي أثناء استراحتي وشابّين معي، بدأ القصف على النقطة بشكلٍ جنونيّ. مع سقوط القذيفة الأولى، هرعنا لنمتشق أسلحتنا. كنت لم أصل بعد، حين وقعت القذيفة بالقرب من “الكلاشن» الخاصّ بي، وانتثرت الشظايا في جسدي. كنت الأقرب إلى القذيفة، فحزت النصيب الأكبر من الجراح. بقيت شراييني تغدق ما فيها من دماء، بينما رحت أرتّب صمتي، والملائكة ترتّل في الروح آيات السكينة والرحيل، وأناجي السيّدة الزهراء (عليها السلام) سرّاً: «إنّي لكِ الفداء، فأرجوكِ رفقاً بقلب أمّي»، وبعدها غِبت عمّا حولي.

وعي الجهاد

وُلدتُ لعائلةٍ تتّسم بالالتزام الدينيّ، وصغيراً التحقتُ بكشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ونما فيّ هاجسٌ: كيف أناصر الحقّ؟ تكوّم في قلبي حبّ الجهاد، فزاحمت المجاهدين في المسير، وخضعت لدورات ثقافيّة وجهاديّة، حتّى تكلّفت بالذهاب إلى منطقة الزبداني، ومع رفاقي فرضنا طوقاً حولها وبقيت شهراً. وهناك تنقّلت في المناطق السوريّة طيلة أعوام. دافعت ورفاقي عن المقدّسات وعن الناس، ربّتنا النبوءات منذ فجر الدين على الرحمة؛ لذا لن نعتاد مهما طال الزمن والقتال على لون الدم والأشلاء. وفي كلّ معركةٍ، كان الفرد منّا يقف آلاف المرّات بين يدي ربّه، ويشكو له كيف يُجبره حقد بعض الجماعات، التي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، على القتال والقتل، وأساس ديننا هو الرحمة.

رددتُ يدي ونهضت

تأزّم الوضع كثيراً في تدمر، ومع ذلك تحرّرت بحمد الله. نُقِلنا إلى منطقة التاسريّة لحماية النقاط المحرّرة، مع محاولات حثيثة من التكفيريّين لاسترداد مواقعهم، فقاموا بالهجوم على نقطةٍ وأحرقوها بالمجاهدين المرابطين فيها! وصلنا الخبر أنّهم سيقومون بالهجوم على نقطتنا. جهّزنا أنفسنا لاحتواء ما قد يحدث. وعند شفّة الفجر الأولى، سقطت القذيفة الأولى خارج النقطة. وكان وقت استراحتنا بحسب تقسيم النوبات بيننا. انتفضتُ ورفاقي لنحمل أسلحتنا. ارتديت درعي مسرعاً، لكنّ القذيفة أبعدتني عن سلاحي. صرت تائهاً بين الملامح والذاكرة، كأنّي هويت داخل صندوقٍ أبيض، فأذاعت صورُ الأشخاص ترانيم مجهولة الأصداء، مرّت أمام عينيّ لتذكّرني بأناسٍ كُثر. عدت من غيبوبة الفِكر لأشاهد يدي قد بُترت من الزند، ظلّت معلّقةً بعصبٍ ضئيلٍ التصق بلحمٍ محروق، رددتها إلى الخلف كي تغيب عن ناظري، وشددتها على قدمي لأوقف نزف شريانها.

خيمة العروج

شغلني صديقي الذي هوى ساجداً، ظننته يحتمي من الانفجار. ناديته مراراً، لكنّ صحراء الذهول سكنتني حين لم يُجِبني. عرفت لاحقاً أنّ شظيّةً اخترقت دماغه، نقلته إلى الملكوت الأعلى شهيداً. أمّا صديقي الآخر، فقد أصابت شظيّةٌ قلبَه، فقطعت شرايينه، ما إن خرج من الخيمة، حتّى ارتقى شهيداً. يدي الثانية حافَظَت على بعض العزم؛ لأحمي نفسي من الأسر، إن اقتحم التكفيريّون المكان. أكثر من ستّ عشرة قذيفة انهالت على الموقع. أمسك الخطر بعقارب الوقت من العنق، ملأت توسّلاتي أرجاء وحدتي. قلبي الذي كنت أحضن به السماء، تعثّر بعد أن وصل المسعف وزوّدني بحقنة مخدّر. بقيت ألهج باسم السيّدة الزهراء (عليها السلام)، لتقبض على قلب والدتي، إن استشهدْت.

ثلاث عشرة جراحة

نُقِلتُ إلى المشفى الميدانيّ، حيث التقيت برفيقَي الطفولة. لون الدماء الذي صبغ وجهي بعد أن مرّت شظيّة ولثمت شفتي وأنفي، والورم الذي اجتاحني، غيّرا من ملامحي فلم يعرفاني. خضعت لجراحةٍ، ولم أستعد وعيي إلّا بعد ثلاثة أيّام في مستشفى دار الأمل لشدّة نزفي. بقيت تسعة أيّام في العناية إلى أن ساءت حالتي أكثر، فنُقِلت إلى مستشفى بهمن، التي رقدتُ فيها مدّة شهرٍ ونصف، وخضعت لثلاث عشرة جراحة في ذراعيّ وقدميّ.

«احفظيه لي»

بعد شهادة والدي، وصل خبر إصابتي إلى والدتي، بالتزامن مع تعرّض أخي للسعة عقرب، خيّل إلى أمّي أنّها أصبحت وحيدة، فأبقت ضجيج نبضها خلف جدران الصمت، واحتسبت مصابها مناجيةً السيّدة الزهراء (عليها السلام): «سيّدتي، عليّ هو ابن ذاك الشهيد الذي افتدى ابنتكِ بنفسه، والذي انتقل صوته في خلايا عليّ على شكل جرعات روحٍ متقطّعة، نشيجه يُعيد ذكرى التحاف والده بآخر حفنة تراب قبّلت خدّه. هو نورٌ من نورٍ، فيا مولاتي احفظيه لي».

كسر الصعوبات

زارني الموت مرّاتٍ ومرّات، عطره الساكن في ندوبي لم يفارقني، ظللت أتلقّف الأنين من رئةٍ إلى رئة حتّى تحسّن وضعي. استخدمتُ الكرسيّ المتحرّك مدّةً وجيزة، وخضعت لعلاجٍ فيزيائيّ مطوّل طيلة عشرة أشهر، بعدها استعدّت القدرة على السير بشكلٍ طبيعيّ. مظهري الخارجيّ كان لافتاً جدّاً؛ خاصّة الجهاز الذي ثبت على ذراعي مدّة سنتين. أنظار الناس كانت تنقاد تلقائيّاً نحو جراحي، تحديداً حين أمارس هواية السباحة؛ لذا عزفتُ عنها حياءً في بادئ الأمر، إلى أن تخطّيت ذلك لاحقاً، وبتّ أعيش حياتي بشكلٍ طبيعيّ. جمعني الله بامرأة خلوقة ومحبّة، تحمل عفّة الدنيا وبهجتها. تقدّمت لخطبتها منذ فترة، وحاليّاً نقوم بالتجهيز للزفاف. أسأل الله أن يوفّقنا.

من النِعم التي رُزِقتها أيضاً صوتي الجميل؛ قمت بترديد العديد من اللطميّات، وأتمنّى أن أكون قارئ عزاءٍ مثل والدتي وخادماً للإمام الحسين (عليه السلام) .

انضممت إلى فرقة جراح الإنشاديّة التابعة لمؤسّسة الجرحى، بعد كلّ الاهتمامات والمتابعات التي أولاها القيّمون على المؤسّسة. وأطمح إلى المشاركة في الأنشطة التي تخصّ الفرقة.

رسالة وهديّة

للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: أعانك الله يا أبانا على بلاءات الدنيا. كلّما يمّمت بصري ناحية محيّاك، دعوتُ لك، يا صبر أيّوب الذي ربّى فينا العزم والبصيرة. مواويل المعارك عانقتنا، والعيد حين نقاتل من تُسعدهم تصاوير المشانق فوق دموع أبنائنا؛ لنكون مصداقاً للآية الكريمة:
﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29). يا سيّدي، الأمل لقاؤكم. كم أتمنّى العودة إلى سوح الجهاد! لكنّ ضعف جسدي يمنعني من ذلك.

يا سيّدي، لولا لطف الله وتسديده، ما استطعنا تحرير قريةٍ واحدةٍ من القرى السوريّة، ولا مقارعة تكفيريٍّ واحدٍ وهزيمته. بركة وجود صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ودعاؤكم لهما الأثر الأكبر في تثبيت قلوب المجاهدين، وهزيمة الجمع الذي أصرّ على سبي العقيلة من جديد، وكسر جبروت كلّ الدول التي شنّت الحرب الكونيّة علينا.


227

بقدمٍ واحدة سأكمل الدرب

بقدمٍ واحدة سأكمل الدرب

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد نوح محمّد هدلا (جبريل).

مكان الإصابة: البوكمال.

تاريخ الإصابة: 16/10/2017 م.

نوع الإصابة: الرقبة والوجه -بتر الطرف السفليّ الأيسر.

مجلة بقيّة الله/ العدد331/ رجب - شعبان 1440 هـ/ نيسان 2019 م/ السنة الثامنة والعشرون.

 

هو اتصالٌ حمله من الثرى إلى عليّين المشتهى، بينما كان نوحٌ في مهمّةٍ في منطقة الجنوب، كلماتٌ غيّرت مجرى حياته: «سوف ينتقل عملك إلى سوريا». رجفةٌ في القلب آوت، تملّكته فرحة لم تسعه مطلقاً، لم يغمض جفنه تلك الليلة وهو يفكّر بهذا الخبر السارّ، مرّ هوى العقيلة (عليها السلام) في ضلوعه مرور الحياد، فقد اختاره الله تعالى لنيل شرف المشاركة في معارك الدفاع عن المقدّسات في سوريا... ومن يدري، فقد تكون فرصته للالتحاق بركب الشهداء؟! لكنّه تقلّد وسام شرف آخر، جعل منه شهيداً حيّاً.

درب السعادة

هو نوح محمّد هدلا، الشابّ الذي نشأ في بيت عاشقٍ للمقاومة، وتربّى على قيم ومبادى كشافة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه). كان قد التحق بصفوف المقاومة الإسلاميّة في عمر ستّة عشر ربيعاً، بناءً على طلب والده، ذلك الوالد الملهم والداعم، الذي لمعت عينا نوح بالدموع ما إن أتى على ذكره، ليجد نفسه قد وُفّق ليسير في درب العشق والسعادة . خطواتٌ شهيّة مشاها نوح في درب الفرح ذاك إلى حيث طالما أحبّ وتمنى، يقول: «أقسم أنّ عينيَّ لم يغمض لهما جفن تلك الليلة وأنا أفكر في هذا الخبر السارّ الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر، وشكرت الله سبحانه وتعالى على اختياري للدفاع عن مقدّساتنا، ولعلّي سأكون من بين الشهداء الذين سينتقيهم الله لنيل هذا الشرف والوسام، وعلى الفور، خطر في بالي والدي لأنّ أمنيّته كانت أن أدافع عن مقدّساتنا». وبدأت مسيرته لستّ سنوات شارك خلالها في معارك وهجومات عديدة.

مهمّة جديدة وحدس أمّ

تبلّغ نوح بمهمّة جديدة في سوريا، وكالعادة قامت والدته بتوضيب أغراضه، ودار حوار بينهما:

- أشعر بالقلق حيالك!

- وهل هي المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى سوريا؟ ليس ثمّة ما يدعو إلى ذلك أبدًا.

- ولكنّ قلبي يخفق بشدّة هذه المرّة، وينتابني إحساس غريب!

- هل يُعقل أن أستشهد؟! لا تكترثي لكلامي. إنّها مجرّد مزحة. كالعادة، أنهت والدتـه توضيب أغراضـه وتجهيز حقيبته، ولكنّها كانت هذه المرّة، على غير عادتها، لا تنفكّ تقول له: «انتبه لنفسك يا نوح.. كن شديد الحذر».

للمرّة الأولى... بكت أمّي

«قبيل الانطلاق، اقترب منها مودّعاً، وراح يخفّف عنها ويقبّلها، قائلاً إنّه سوف يكون بخير، ويتّصل بها كلّما سنحت له الفرصة، ثمّ مسح دموعها بكفّيه، وترك ضحكاته تجول في مرايا وجهها، لكنّ تلك الدموع التي رآها تنهمر للمرّة الأولى منذ أن بدأ عمله العسكريّ أحرقت قلبه: «هول الدموع الغاليين، ممنوع ينزلو.. بتعرفيني بجنّ بس شوف هالعيون عم يبكو»، ثمّ غادر. لم تكن هذه المشاركة العسكريّة الأولى لنوح في سوريا، فهو يشارك منذ ستّ سنوات، ولكنّ المشاركة هذه المرّة الأخيرة كان لها وقعٌ خاصٌّ وغريبٌ على والدته، إنّه قلب الأمّ».

إنْ هبتَ أمراً فقعْ فيه

وصل نوح إلى سوريا في الوقت المحدّد من ذلك اليوم، فيما الاستعدادات جارية على قدمٍ وساق، فالمعارك محتدمة وملتهبة، ما يُنذر بمواجهة شرسةٍ وضاريةٍ ضدّ التكفيريّين، في إحدى المناطق الصحراويّة، حيث يفصل بينهم مسافة 10كلم. يروي نوح تفاصيل ذلك اليوم: «عند وصولنا إلى مكان العمل لم يكن الوضع على ما يرام، أخذنا نستعدّ لأيّ خرق من قبل التكفريّين. كنّا مجموعة مؤلّفة من 4 شبان، والكلّ يريد أن يكون في الصفوف الأماميّة، على ضفّة الأرواح وقفنا، نخوض معركة في صحراء تبعد مسافة 10 كيلومترات فقط عن الإرهابيّين؛ لذلك قبل الهجوم قلت لرفيقي: سأتقدّم وأطبّق قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيه، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيه أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْه»[1].

يا زهراء أغيثيني

تلقّى الإخوة إشارة انطلاق المعركة. وبينما هم يخوضون اشتباكاتٍ جريئة وبطوليّة، إذ بانتحاريّ تكفيريّ يفجّر نفسه بعددٍ من المجاهدين، فأصيب نوح إصابةً مباشرةً، وشعر بنفسه يُقذف في الهواء نتيجة ضغط الانفجار، يقول نوح: «في هذه اللحظات لم أعرف ماذا حدث، كلّ ما شعرت به أنّي طرت، ولم أغب عن الوعي، أخذت أتفقّد جسدي وأحاول النهوض، وإذ بساقي غير موجودة، فقد ذهبت مع الريح -يقول ويضحك- فأخذت أنادي: (يا زهراء، أغيثيني). أقسم أنّي لم أشعر بأيّ ألمٍ بعدها.

ولو بقدمٍ واحدة

تلقّى نوح العلاج الأوّليّ في سوريا، ليعود من بعدها إلى أحد مستشفيات بيروت لاستكمال العلاج. يقول: «استيقظت في مستشفى بيروت لأرى أهلي وخطيبتي متحلّقين حول السرير يبكون بشدّة. أخذت أمّي تقبّلني والدموع تنهمر منها، فقلت: تذكّري مصائب السيّدة الزهراء والسيّدة زينب(عليهما السلام). كثير من الحبّ والاهتمام أحاطا به من قِبل عائلته، وبدلاً من أن يبثّ هؤلاء روح العزيمة والقوة في نفسه، كان هو من يخفّف عنهم، يهوّن عليهم ويطلب منهم التحلّي بالصبر والقوّة، وعدم البكاء: «لمَ أنتم محزونون؟ كنت أتمنى أن أنال لقب شهيدٍ، احتبست العتب ورضيت بما قسمه الله، وها أنا أصبحتُ جريحاً كأبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، يجب أن تفخروا بذلك. وأعدكم أنّني سأواصل عملي في الميدان، ولو بقدم واحدة». أمّا والدته، التي صدق حدسها، فقد راح يمازحها كعادته، بروحه المرحة قائلاً: «ليست إلّا قدم واحدة فقط، لا تحتاج كلّ ذلك»، حتّى كاد أن يُنسيها أنّه مصاب.

السموّ على الجِراح

تعبر زفرة المشتاق جهرًا، فبالإضافة لاقتدائه بالمولى أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، فقد تأثّر نوح بالشهيد أبو حسن باز بقدر عشقه له، يقول: «قبل تعرضي للإصابة كنت متأثّراً جدّاً بشخصيّة الشهيد أبو حسن باز (بلال)، الذي جُرح أكثر من مرّة ولم يبالِ، فلم تُؤثّر جراحه على عمله الجهاديّ، فكانت روحيّته ومعنويّاته عالية بعد إصابات عدّة، حتّى نال الشهادة. وأنا ماضٍ في دربه». ويتابع بغصّة: «أثناء وجودي في المستشفى، حلّت الذكرى السنويّة الأولى لوالدي، فحزنت وبكيت كثيراً، فلو كان على قيد الحياة لفرح لنيلي وسام الجراح وبارك لي». وهكذا، تسلّح نوح بالمعنويّات والهمّة العالية للمضي قُدماً في هذه الحياة. فبعد أشهر من إنهاء علاجه، خضع لدوراتٍ مكثّفة باللغة الإنكليزيّة، وصيانة الهواتف وأجهزة الحاسوب، فالحياة لا تتوقف على أيّ عضوٍ من أعضاء الجسد، وقد ختم لقاءه بنا بقوله: «بهذا الوسام سأمضي قدُماً في حياتي، وسوف أتزوّج قريباً، وأنجب الأطفال، وأدفعهم نحو هذا الطريق، كما فعل والدي معي، وسوف تستمرّ القافلة».

نوحٌ، ذلك المجاهد بقدمَيْن، يكمل اليوم درب جهاده بقدمٍ واحدةٍ، تحت عنوان الصبر والعزيمة والوفاء للنهج، وإرادة أقوى.

 

[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، الحكمة 175، ص 501.


235

وشومٌ في حبّ «قنبر»

وشومٌ في حبّ «قنبر»

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد إبراهيم أسعد زين (الحاج عباس).

مكان الإصابة: بركة الجبّور.

تاريخ الإصابة: 17/1/2020م.

نوع الإصابة: جراح متفرّقة في الرأس، والجزء العلوي من جسده كافّة.

مجلة بقيّة الله / العدد 363/ ربيع الآخر - جمادى الأولى1443 هـ/كانون الأول 2021 م/ السنة الواحدة والثلاثون.

 

انتشر الرفاق في الخندق وخلف الساتر. شخصت عيون الجميع إلى وليد قلبي «قنبر»، القذيفة التي تُرمى من سلاح “الكلاشن»، والذي أضفتُ إليه بعض لمساتٍ من التطوير، وهم مشتاقون إلى تجربته مثلي. كانت المهمّة متابعة طلب القذائف وتجربتها، قبل تسليمها للمجاهدين. رميتُ القذيفة الأولى، انطلقت من مكانها بأمان، فَعَلَت أصوات البهجة. وما إن ضغطتُ لأجرّب الثانية، حتّى عانقتني بكلّ شظيّة منها، احتشدت جميعها لتزرع وشوم الجرح على رأسي ووجهي وعنقي، فقطع النزيف أنفاسي حين تخثّر الدم في حنجرتي، وانقطعت منّي إشارات الحياة. انفجارها أيقظ قلب المجاز، فحار الجَمع في أمري. مرّوا على وجعي، وفوق ملامحي المبعثرة، وانهالوا يحاولون إنعاشي، لكن دون جدوى.

رحتُ أغزل المسافات بين لبنان وسوريا، ليكون كلّ سلاحٍ عدّلته أناملي وطوّرته أفكاري، نجم احتفالات الأعداء الموصل إيّاهم إلى جهنّم.

نشأةُ الحبّ

كنت متعلّقاً بخطّ المقاومة منذ صغري، لكنّ والديّ أرسلاني إلى أفريقيا لمتابعة دراستي. سبع سنوات مرّت، ونيّتي أن تكون الدراسة لخدمة الخطّ المقدّس. عدتُ بعدها لأرتمي في أحضان الثغور، أرتق الجهاد لتقرّ عيني، خصوصاً عند التحاقي بالمرابطات في الإقليم. خضعتُ لدورات عسكريّة، وشاركتُ في مراسم إحياء يوم القدس لسنوات عدّة، ما أهّلني للتفرغ ضمن صفوف المجاهدين في اختصاص الهندسة عام 1995م.

رحتُ أغزل المسافات بين لبنان وسوريا، أنسج الطرقات شبراً شبراً، وعلى أجنحة الفراشات عبرت الوقت؛ ليكون كلّ سلاحٍ عدّلته أناملي وطوّرته أفكاري، نجم احتفالات الأعداء الموصل إيّاهم إلى جهنّم في كلِّ آن، خصوصاً أنّه في كلّ مكانٍ عانى نقصاً في العتاد أو السلاح، توجّب عليّ ورفاقي سدّ ذاك العجز، فكنتُ كما إخوتي في هذا المجال، أنحتُ جسد المسافة مهما طالت المدّة، والهدف تحسين السلاح وتطويره، بل تطويعه لما يحتاج إليه الميدان.

لمسة الموت

عملتُ جاهداً لإضافة لمسة تحديثٍ إلى “الكلاشن». كنت في أحد المعسكرات لأداء مهمّة تجربة «قنبر»؛ القذيفة التي نضجت بين أناملي، وإذ بها تنفجر بي، فتركّزت الإصابة في رأسي، وجهي، وعنقي، وصدري، وذراعي، وكلّ الجزء العلويّ من جسدي. لم يقِني الدرع الذي تمزّق من قوّة الانفجار، فنقلتُ مباشرةً إلى مشفى الشيخ راغب حرب في النبطيّة بعد أن أحدث المُسعف شقّاً في الرقبة؛ لأستعيد أنفاسي. بقيتُ غائباً عن الوعي لمدّة أسبوعين، كانت حظوظي في البقاء على قيد الحياة لا تتعدّى نسبة 10 بالمئة بسبب نزيف الدماغ. خضعتُ خلال الأسبوع الأوّل لجراحتين في رأسي، نُقلت بعدها إلى مشفى الخوري في بيروت، وهناك مكثتُ مدّة شهرين. ربّما الجراحات التي أجريت لي لا تُعدّ: في الفكّ، والخدّين، والرأس، والدماغ، والكتف، والفقرات الأولى في ظهري، وحتّى أصابع يديّ التي لم يبقَ منها سوى الشكل. معاناة لا نهاية لها، أجدها خيراً عميماً اختصّني الله به، سيستمرّ معي استمرار النفَس، طالما هناك شظايا خالطت لحمي.

فقدتُ القدرة على الكلام وتناول الطعام مدّة طويلة، لأنّ كلّ تقاسيم وجهي تشوّهت، فخضعتُ للعديد من الجراحات التجميليّة حتّى عاد وجهي لهيئته، وفمي إلى طبيعته تقريباً. وخضعتُ لعلاج إعادة النطق، وتمرين للفكّ، بعد الخضوع لجراحتين متتاليتين مؤخّراً، وما زلت أتلقّى العلاج حتّى الآن.

عدتُ إلى عملي ولكن بدوامٍ غير كامل. ذهني دائم الانشغال بالأفكار التي بإمكانها تطوير المسيرة ومساندتها. في قلبي مساحات شاسعة من الأوجاع، لكنّها لم تردعني وجراحي عن المثابرة، إنّما زادتني حماسةً وعطاءً.

شجرة وحياة

لشغفي بالزراعة قصّة، فقبل تحرير عام 2000م، كنت أرابط في منطقة اللويزة ضمن وادي الليمون، مهمّتي كانت نقل العتاد الذي وُضع قرب نبع الطاسة إلى المغاور المنتشرة في الجبل. ورغم وعورة الطريق وبرودة الطقس، تكرّر نزولي نحو الستّ مرّات، وفي كلّ مرة كنت أحمل العتاد والذخيرة على ظهري، ما خلا المرّة الأخيرة؛ فقد طلب منّي المسؤول نقل صفيحة مليئة بالبنزين إلى المغارة الثانية، وأثناء توجّهي إليها، تهتُ وسلكت طريقاً أخرى، كانت مع الأسف مكشوفةً للعدو الإسرائيليّ. طاردت قلبي عن غير قصد، لحظات فقط وكانت الطائرات تنفّذ هجوماً فوق رأسي. انبطحت أرضاً وصرت أردّد سرّاً: «لو أنّ شجرةً واحدةً زُرعت في هذه النقطة، لكانت حمتني». لفظتُ الشهادتين وانتظرت صاروخ الحقد ليفجّر جسدي أشلاء. نفّذت الطائرات هجوماً وهميّاً وابتعدت بعدها، وقد كُتب لي عمرٌ جديد، ومنذ ذلك الحين، آليت على نفسي أن أزرع الأشجار أنّى استطعت، لتنبثق رئة تمدّ للخافقين الحياة.

زرعتُ للمجاهدين 100 شجرة

تجدني الآن الأكثر زيارةً للمشاتل، أعتنق تفاصيل النباتات وأختار أفتاها، كما أنّي قمت باختراعٍ لريّ الأشجار، يرويها مهما شحّت المياه.

قضيتُ وقتاً مُمتعاً في الحَفر وزراعة الأشجار على أوتوستراد الشهيد السيّد هادي نصر الله، وأكثر من 32 شجرة من الزيتون والتين هي في عنايتي الخاصّة. حتّى أمام منزلي، كانت شجيراتي المدلّلة تحظى بحيّزٍ كبير من اهتمامي. أمّا التشجير في المعسكرات، فقد حفظني عناصر الأمن عن ظهر قلب، وانطبع السرور المنبعث من حواسي في نفوسهم، فعشقي للزراعة وللأشجار لا مثيل له، وتفكيري في المجاهدين لا يتوقّف؛ لذا قرّرتُ زراعة 100 شجرة مثمرة هناك، كي يستطيع الشبّان الاستفادة من ثمارها في حال انقطاع الطعام.

خدمة الأقربين أَولى

ربّما قمتُ بعملٍ باركه الله، فكافأني عليه في الدنيا قبل الآخرة. فقد وهبني عائلةً لا مثيل لها، تستوي في راحتي دمعة عند ذِكر زوجتي: ملاك المحبّة الذي احتواني. لست أدري كيف أشكر الله أن أنعم بكِ عليَّ، فكنتِ فيض الرحمة وسط ازدحام الآلام، فخورٌ بحديثي عنكِ، أليست الآية الكريمة تقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾؟ (الضحى: 11) وأنتِ يا شريكتي في البلاء أعظم النعم، فكلّ الحمد لربّي أن أهدانيكِ.

زهرات داري: فاطمة، زينب، ومليكة، عيناي ظامئتان لرؤيتكنّ كلّ حين، تستعطفان وجوهكنّ العذبة. أنتنَّ إكسير السعادة في حياتي، وجودكنَّ القوّة والأمان وزينة الحياة الدنيا.

خدمة الناس من أحبّ العبادات، وهي طبعٌ متأصّلٌ يسري في دمي، وعائلتي هي الأَولى بالخدمة، لذا إن استطعتُ أن أخدم من حولي بأشفار عينيّ، لن أقصّر البتّة.

حبٌّ ودعاء

سيّدي نصر الله، استراح على مسار خدي الشوق إليك، ويجيء الورد باقات دعاء ليقف عند أعتابك. أسأل الله أن يأخذ من عمري ويزيد في عمرك المبارك، فأنت نعمة ربّانيّة لا سبيل لأداء شكرها مهما جهدنا. واجبنا أن نلهج بالدعاء لسلامتك، وأن ننشر فضائلك وتضحياتك. قربانك الذي قدّمته -الشهيد هادي- يجب أن تؤرّخ سيرته؛ لأنّه الدليل الأعظم على مدى التزامك بعقيدتك قولاً وفعلاً.

لله أنذر ما يُخفي الحنين من أمنيّات لألتقي بحضرتك مجدّداً؛ ففي التكريم عام 2000م لم تسنح لي الفرصة أن أثمل من رؤيتك أكثر. مُدّ إليَّ نسيم روحك ليسعفني، فأنت الملاذ يا قائدي.

كلمة من القلب

أقول للناس: منذ أوّل الزمان، أرسل الله الأنبياء والرسل  (عليهم السلام) لهداية البشر وحمايتهم، لكن عمى بصيرة بعض الآدميّين وجشعهم أدّيا إلى قتل أولياء الله، وما زال ميدان البشريّة قائماً على ذلك؛ منذ استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام). أمّا نحن، وقد منَّ الله علينا بسيّد المقاومة، فعلينا أن نكون الدرع الحامي والواقي له، فهو الذي قدّم ولده قرباناً في سبيل الله لنحيا نحن، وكلّنا نرى احتراق قلبه لأجلنا، أضعف الإيمان أن نكون أوفياء له، ألّا نطعنه أو نتخلّى عنه. مهما بعثرتنا الظروف وادلهمّت الأيّام، علينا نصرة الحقّ.

للجرحى النازفين على الدروب جَمالاً أقول: أتمنى لو تحلُّ أوجاعكم وآلامكم كلّها بي. كم أرجو الله أن تُقطع يداي وقدماي دون أيّ جريح منكم، لأواسيكم وأستشعر معاناتكم، فوالله لا أحد يدرك وجعكم، إلّا من عاشه.


243
تسابيح جراح