الفصل الرابع:
تجلّيات عصر الظهور
مع خروج الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) يبدأ حكم الصالحين على امتداد العالم؛ فيصدح نداء التوحيد في سائر أنحاء الدنيا، وتنتشر في أرجائها القيم الإنسانيّة كالعدل والعلم والأمن والعمران وانتفاء الحاجة والفقر. سنسعى في هذا الفصل -ومن خلال الآيات القرآنيّة- لاستعراض بعض النتائج التي تترتّب على إقامة الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، حيث سنتناول كلًّا منها على حدة.
أوّلًا: حكم الصالحين للعالم
تناولت آياتٌ في القرآن الكريم وراثة الصالحين وحكمهم للأرض، هذه الوراثة التي تحقّقت في زمن النبيّ نوح والنبيّ موسى (عليهما السلام)؛ إذ بسطا سلطتيهما وحكميهما على بقعةٍ من الأرض بعد هلاك الكافرين.
كذلك في زمن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حكم المسلمون شبه الجزيرة العربيّة بعدما انتصروا على المشركين. إلّا أنّ الأرض -طبقًا لبعض الآيات- ستكون بأجمعها تحت حكم الصالحين، وهذا ما لم يتحقّق حتّى الآن، وفي ما يأتي بيانٌ لهذه الآيات:
1. الآية الأولى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[1].
تفسير الآية:
في قضيّة انتصار بني إسرائيل على الفراعنة، أغرق الله تعالى فرعون وجنوده في الماء، وأورث موسى(عليه السلام)وأتباعه أرض مصر المقدّسة من غير قتال، فقد جاء في القرآن الكريم حول وراثة بني إسرائيل: ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ﴾[2]، بحسب هذه الآية سيأتي يومٌ يطهّر الله فيه الأرض من الشرك والعصيان، ويُورث عباده الصالحين الأرض كلّها ردحًا طويلًا من الزمن. ولمزيدٍ من التأكيد جاء في الآية التي بعدها: ﴿إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ﴾؛ أي إنّ في ما تقدّم في الآيات السابقة -من الثواب الدنيويّ والأخرويّ للعباد الصالحين، ومن العقاب للكافرين- كفايةً للعابدين كي يواصلوا طريق عبوديّتهم بكلّ ثقةٍ واطمئنان.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
نتناول في هذا القسم بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في بيان مصاديق هذه الآية:
الحديث الأول: عن أبي الورد عن الإمام الباقر(عليه السلام)في تفسير قوله عزّ وجلّ: ﴿أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾: «هم آل محمّدٍ صلوات اللّه عليهم».[3]
الحديث الثاني: عن عيسى بن داوود عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾، قَالَ: «آلُ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَنْ تَابَعَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، وَالْأَرْضُ أَرْضُ الْجَنَّةِ»[4].
الحديث الثالث: عن محمّد بن عبد الله بن الحسن عن الإمام الباقر (عليه السلام)في قول الله عزّ وجلّ: ﴿أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾، قال: «هُمْ أَصْحَابُ المهديّ فِي آخِرِ الزَّمِانِ»[5]. كذلك جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم حول العباد الصالحين: «الْقَائِمُ (عجل الله تعالى فرجه) وَأَصْحَابُه»[6]. وقد تعرّض لهذه الآية في موردٍ آخر فقال: «فبشّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) أنّ أهل بيتك يملكون الأرض ويرجعون إلى الدنيا ويقتلون أعداءهم»[7].
نكاتٌ في الآية
النكتة الأولى: «اللام» في ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا﴾ لام القسم التي تبيّن أهمّيّة المطلب الذي يليها. كذلك فإنّ «قد» عندما تأتي قبل الفعل الماضي تدلّ على التحقيق وحتميّة وقوع الفعل. «كتبنا» فعلٌ ماضٍ بصيغة المتكلّم؛ فاستعمال الزمن الماضي في الفعل وكأنّه قد حصل فعلًا فيه إشارةٌ إلى حتميّة وقوعه، أمّا استعمال صيغة المتكلّم فيفيد أنّ الله القدير تعهّد بتحقيق هذا الأمر. إضافةً إلى ذلك، فإنّ استعمال كلمة «كتب» يُفيد بأنّ الله الحكيم تعهّد بهذا الأمر كتْبًا لا شفاهةً، كالسند الذي يقدّمه الإنسان إلى الآخر ويوقّع عليه.
النكتة الثانية: «زبور» مفرد «زُبُر»، مثل «رسول» و«رُسُل»، وهي في اللغة بمعنى الكتابات القويّة والمُحكمة، ويُقصد بها في القرآن الكريم[8] زبور النبيّ داوود (عليه السلام)[9].
النكتة الثالثة: كلمة «ذِكر» بمعنى التذكّر. والمُراد به هنا الكتاب السماويّ[10]، أمّا أيُّ كتابٍ سماويّ هو؟ فقد اختلف العلماء في ذلك، بعضهم يذهب إلى أنّ المقصود بالذِكر التوارة، وهو ما يناسب كلمة «من بعد»؛ لأنّ الزبور نزل بعد التوراة[11]. ويعتقد بعضٌ آخر أنّ المقصود بالذِكر القرآن الكريم، وأنّ المُراد بكلمة «من بعد» البَعديّة الرُتبيّة لا الزمانيّة. أمّا القول الثالث في المقام يذهب إلى أنّ المراد بالذِكر أُمّ الكتاب واللوح المحفوظ[12]، وقد نُقل هذا القول عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)[13].
النكتة الرابعة: كلمة «أرض» لمّا جاءت مطلقةً لا تحفّها قرينة، دلّت على الأرض كلّها. رُوي عن الإمام محمّد الباقر(عليه السلام)قوله: «إِنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنينَ بَأَنَّهُمْ يَرِثُونَ جَمِيْعَ الْأَرْضِ»[14]. والسؤال الذي يُطرح هنا: ما هو المُراد بـ «الأرض» في الآية، أرض الدنيا أم أرض الجنّة؟ فإن كان المقصود أرض الدنيا، فهل يُراد بها الأرض في زمن الرجعة أم قبل ذلك؟ وبعبارةٍ أخرى هل ستكون وراثة العباد الصالحين الأرض في الدنيا؟ وإنْ كانت كذلك فهل ستكون قبل الرجعة أم في زمن الرجعة؟ أم أنّ هذه الوراثة ستكون لأرض الجنّة في الدار الآخرة؟ للمفسّرين في هذه المسألة آراء مختلفة[15].
يبدو أنّه يُمكن القول أنّ الآية مطلقةٌ وأنّ وراثة الأرض تشمل الدنيا –في عصر قيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وعصر الرجعة– والآخرة، وعلى الرغم من أنّ مصداقها الكامل سيكون في الجنّة كما ذكر القرآن الكريم[16] وبعض الروايات (الرواية الثانية)؛ إلّا أنّه -وكما جاء في الرواية الثالثة وفي تفسير عليّ بن إبراهيم- أحد مصاديق هذه الآية عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، والمصداق الآخر هو عصر الرجعة كما دلّت عليه روايات عدّة.
ذكر عليّ بن إبراهيم في مقدّمة تفسيره آياتٍ تبيّن وراثة الصالحين للأرض في عصر الظهور، عصر الرجعة والقيامة وكتب في معرض تناوله لإحدى هذه الآيات:
«وما وَعدَهم الله به من النصر على أعدائهم، وما أخبر الله به من أَخبار القائم وخروجه وأخبار الرجعة والساعة في قوله: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾[17].
النكتة الخامسة: «يرثها» فعلٌ مضارع، وضميره يعود إلى «الأرض»، أي إنّهم سيرثون الأرض وراثةً وملكًا بلا معاوضة، كالإرث الذي يحصل عليه ورثة الميت. ومن جهةٍ أخرى إنّ استعمال هذه الكلمة بصيغة المضارع يدلّ على استمرار ودوام هذه الوراثة.
النكتة السادسة: عبارة ﴿عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ تدلّ على منتهى العطف والرحمة الإلهيّة بالصالحين. من جهةٍ أخرى إنّ وراثة الأرض مشروطةٌ بالعبوديّة والصلاح؛ ولكن، من هم العباد الصالحون؟ المصداق الكامل للصالحين هم أهل البيت (عليهم السلام) الذين سيرثون الأرض في الدنيا والآخرة، وعلى الرغم من أنّهم (عليهم السلام) لم يتوَلَّوا الحكم السياسيّ في أغلب العصور؛ إلّا أنّ الأرض جميعها ستكون في أيديهم في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، فحكومته هي نفسها حكومة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي عصر الرجعة وكذلك في الآخرة. الروايتان الأولى والثانية تدلّان على هذا المصداق للآية، والمصاديق الأخرى للصالحين هي أهل التُقى والصلاح في العصور المختلفة، ومصداق الصالحين بعد ظهور الإسلام هو أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وتدلّ على ذلك الروايتان الثانية والثالثة.
النكتة السابعة: ذكرت الآية بدايةً زبور النبيّ داوود (عليه السلام)، ويُحتمل في علّة هذا التقديم أن تكون حكومتهم في الدنيا لتُمثّل نموذجًا عمليًّا لحكومة الصالحين؛ من هنا يبدو احتمال أنّ الآية تشير إلى وراثة الصالحين في الدنيا أقوى، ولا سيّما أنّ الآيات السابقة تحدّثت حول وراثة الصالحين في الآخرة.
مع أنّ العلّامة الطباطبائيّ رجّح أنّ الوراثة في الآية مطلقة؛ إلّا أنّه -في نهاية البحث- عاد ورجّح كون الوراثة في الدنيا فقال: «غير أنّ الذي يقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفةً على قوله السابق: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِن﴾[18]... المُشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخرويّ، وتكون هذه الآية مشيرةً إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيويّ»[19].
2. الآية الثانية: ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾[20].
تفسير الآية:
ذكرت الآيات التي سبقت هذه الآية أنّ الله تعالى أرسل النبيّ موسى(عليه السلام)إلى مصر لهداية أهلها وتخليص بني إسرائيل. وقد جاء بمعجزاتٍ كاليد البيضاء وتحويل العصا إلى ثعبان، دليلًا على صدق نبوّته فتغلّب بها على الفراعنة والسحرة الذين جاؤوا بهم وبذلوا لهم الأموال. وبعد تلك الهزيمة آمَن معه السحرة وتبعته أعدادٌ كبيرةٌ من بني إسرائيل[21]. ولمّا رأى فرعون أنّ الخطر يحيط بسلطانه وملكه؛ سارع إلى تعذيب بني إسرائيل، فقتّل أبناءهم واستحيا نساءهم، فكان النبيّ موسى(عليه السلام)في تلك الظروف الصعبة يواسيهم ويشجّعهم ويطلب منهم اللجوء إلى الله تعالى وطلب النُصرة منه والصبر والثبات كي ينصرهم على الفراعنة.
بذِكْر النبيّ موسى(عليه السلام)لهذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾، بيّن قانونًا عامًّا وسنّةً إلهيّةً، هي أنّ الله هو مالك الأرض الحقيقيّ، يستخلف فيها من يشاء والعاقبة للمتّقين؛ أي إنّك إنْ كنت من أهل التقوى فإنّ الله القادر يستخلفك في الأرض. بعد عدّة آياتٍ قال تعالى: ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ﴾[22]، هذه الآية تَذكر أنّ هذه السنّة الإلهيّة جرت في بني إسرائيل، وأنّهم ورثوا الأرض المقدّسة بالصبر والاستعانة بالله عزّ وجلّ. لقد نزلت الآية على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوم كان عدد المسلمين قليلًا، يؤذَون ويعذَبون على أيدي المشركين، وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بتلاوته هذه الآية التي تتحدّث عن انتصار بني إسرائيل على الفراعنة، يقدّم للمسلمين مثالًا عمليًا يمدّهم بالصبر والثبات، فكأنّه يقول لهم: إنْ أنتم صبرتم واستعنتم باللّه ستنتصرون على المشركين، وستكون مكّة وجوارها لكم، وهذا ما سيكون عليه حال كلّ الأقوام والشعوب، فإنْ هم صبروا واستعانوا باللّه الحكيم، سيورثهم الله الأرض. كذلك الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) يُمكن أن تكون أحد مصاديق هذه السنّة الإلهيّة، بل أكمل مصاديقها تلك الدولة التي ستكون فيها الأرض جميعها للصالحين والمتّقين.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
إنّ الأرض لله، ومن خلال رسله يورثها عباده الصالحين. في الواقع، إنّ ورثة الأرض أساسًا هم الخلفاء الإلهيّون والأئمّة الاثنا عشر، لأنّهم هم أهل التُقى وأئمّة المتّقين. وإن كانت الأرض الآن بأيدي أعدائهم، فإنّ عاقبتها ستؤول إلى قائمهم؛ فيأخذ حقّهم المغصوب ويعهد بها إلى أتباعه، وجميعهم من الصالحين. نُشير هنا إلى حديثين في هذا الموضوع:
الحديث الأول: عن أبي خالد الكابُليّ عن الإمام الباقر(عليه السلام)أنّه قال: «وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): ﴿إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾، وَأَنَا وَأَهْلُ بَيْتِيَ الَّذِينَ أَوْرَثَنَا اَللَّهُ الْأَرْضَ، وَنَحْنُ الْمُتَّقُونَ وَالْأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا، فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَمَرَهَا فَلْيُؤَدِّ خَرَاجَهَا إِلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَلَهُ مَا أَكَلَ مِنْهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا وَأَخْرَبَهَا بَعْدَ مَا عَمَرَهَا فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ فَعَمَرَهَا وَأَحْيَاهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِا مِنَ الَّذِي تَرَكَهَا، فَلْيُؤَدِّ خَرَاجَهَا إِلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَلَهُ مَا أَكَلَ مِنْهَا، حَتَّى يَظْهَرَ الْقَائِمُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي بِالسَّيْفِ فَيَحُوزُهَا وَيَمْنَعُهَا وَيُخْرِجُهُمْ عَنْهَا كَمَا حَوَاهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَمَنَعَهَا إِلاَّ مَا كَانَ فِي أَيْدِي شِيعَتِنَا فَإِنَّهُ يُقَاطِعُهُمْ وَيَتْرُكُ الْأَرْضَ فِي أَيْدِيهِمْ».[23]
الحديث الثاني: ممّا جاء في كتاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)لعليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ: «عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ»، وَلاَ يَزَالُ شِيعَتُنَا فِي حُزْنٍ حَتَّى يَظْهَرَ وَلَدِي الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله)، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، فَاصْبِرْ يَا شَيْخِي يَا أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ، وَاْمُرْ جَمِيعَ شِيعَتِي بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَالْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ شِيعَتِنَا وَرَحْمَةُ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَصَلَّى اَللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ»[24].
في هذا الحديث عدّ الإمام العسكريّ (عليه السلام)منتظري الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) مصداقًا من مصاديق الآية فيجب عليهم -كبني إسرائيل- الصبر حتّى يأتي الظهور؛ فيرثون الأرض مع إمامهم.
نكاتٌ في الآية
النكتة الأولى: ذكر المفسّرون وجهين لـ «ال» في كلمة «الأرض»: أحدهما أنّها «ال» الجنسيّة، فتشمل الكُرة الأرضيّة بأجمعها، والثاني أنّها «ال» العهديّة، فلا تشمل إلّا أرض مصر وفلسطين[25].
لكنّ المناسب في المقام أن تكون «ال» الجنسيّة والمقصود بالأرض جنسها فتشمل جميع الأراضي؛ إذ إنّ النبيّ موسى(عليه السلام)كان في مقام بيان سُنّةٍ من السنن الإلهيّة.
النكتة الثانية: العاقبة هي النهاية، وتُستعمل في العاقبة الحسنة والسيّئة، مثل: ﴿وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾[26] و﴿كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ﴾[27]. يقول الراغب: «والعاقبة إطلاقها يختصّ بالثواب، وبالإضافة قد تُستعمل في العقوبة[28]». و«العاقبة» هنا على الوجهين تعني النهاية الحسنة.
النكتة الثالثة: إنّ ما يقوم به الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) من استخلاف المتّقين لا يُعدّ أمرًا جديدًا، فقد جرت هذه السُنّة الإلهيّة على امتداد التاريخ في أقوام مختلفة كقوم نوح وهود وصالح (عليهم السلام)، وقد مرّت الإشارة إلى بعضها في تفسير الآية التي تتحدّث عن بني إسرائيل والفراعنة. وهذا ما حصل أيضًا في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد انتصار المسلمين، فالمشركون وأهل الكتاب إمّا دخلوا في الإسلام وإمّا أُخرجوا من أراضيهم ليرثها المسلمون[29]، والإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) لا يُقيم اعتبارًا للأعراق كما يفعل الظالمون من الحكّام؛ بل المعيار عنده -كما الأنبياء- هو العبوديّة لله والتقوى.
النكتة الرابعة: إنّ للصبر مكانةً خاصّة في الدين، فهو يأتي بالفرج والنصر، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)في خطبةٍ له في أصحابه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ بَعْدَ الصَّبْرِ النَّصْرَ مِنَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ[30]».
3. الآية الثالثة: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ﴾[31].
تفسير الآية:
ذكرت الآية السابقة لهاتين الآيتين أنّ فرعون -من أجل حفظ مقامه وعلوّه وحاكميّته- كان يبثّ الفرقة بين الناس، ويعمل كلّ وسعه لإبقائهم ضعفاء وسلبهم أيّ قدرةٍ على المواجهة عبر قتل الأبناء وسبي النساء. وعلى الرغم من كلّ تلك التدابير المشدّدة التي عمد إليها فرعون، وقتله أبناء بني إسرائيل، فإنّ الله عزّ وجلّ جعل مُهْلِكَهُ وهادم سلطانه ينشأ في بيته وكنفه، وجعل نهاية فرعون وهامان وجنودهما على يدي موسى(عليه السلام)وبني إسرائيل. كان فرعون يريد القضاء على قدرة بني إسرائيل وقوّتهم، وتثبيت دعائم حكمه المستكبر؛ إلّا أنّ إرادة الله كانت في القضاء على قوّة المستكبرين، وجعل يد المستضعفين هي العليا، فكان الغرق عاقبة فرعون وجنوده وورث المستضعفون الأرض. تبيّن هاتان الآيتان أنّ الله يريد أن تكون يد المستضعفين هي العليا وكلمة المستكبرين هي السفلى، وما حصل في زمن النبيّ موسى(عليه السلام)شاهدٌ على ذلك.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
إنّ أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم لم يُراعَ لهم حقٌّ، وقد عمد المستكبرون إلى إقصائهم وإضعافهم على المستوى السياسيّ، لكنّ إرادة الله تعلّقت في أن يكونوا هم الحكّام في الدنيا –في الدولة المهدويّة الكريمة وفي زمن الرجعة– وفي الآخرة. وهذا ما تذكره روايات أئمّة الدين.
بالتأكيد، إنّ كلّ واحدٍ من أهل البيت (عليهم السلام) -من خلال نور إمامته وولايته- كان هو الحاكم الواقعيّ للأرض في زمانه، وإنْ كانت السلطة السياسيّة بيد أعدائهم في أغلب الأوقات؛ نتيجة تخاذل الناس عنهم وما قُدّر من المصالح الإلهيّة.
أحد أهمّ مصاديق الآيتين محلّ البحث، هو غلبة وانتصار المستضعفين في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وفي ما يأتي نشير إلى أحاديث عدّة في هذا الخصوص:
الحديث الأول: عن أمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَتَلاَ عَقِيبَ ذَلِكَ:
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾[32].
الحديث الثاني: عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾، قال: «هم آل محمّد يبعث اللّٰه مهديّهم بعد جهدهم، فيعزّهم ويذلّ أعداءهم»[33].
الحديث الثالث: عن حكيمة بنت الإمام الجواد(عليه السلام)تصف مولد الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه):
«فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جِئْتُ فسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: هَلُمِّي إِلَيَّ ابْني، فَجِئْتُ بِسَيِّدِي وَهُوَ فِي الْخِرْقَةِ فَفَعَلَ بِهِ كَفِعْلَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّمَا يُغَذِّيهِ لَبَنًا أَوْ عَسَلًا، ثُمَّ قَالَ: تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، وَثَنَّى بِالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الأئمّة الطاهرين صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ (عليه السلام)،ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ﴾»[34].
جاء في زيارة «سلام الله الكامل» للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه):
«أَشْهَدُ أَنَّكَ الْإِمَامُ المهديّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَأَنَّكَ الَّذِي تَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، فَعجّل اللَّهُ فَرَجَكَ، وَسَهَّلَ مَخْرَجَكَ، وَقَرَّبَ زَمَانَكَ، وَكَثَّرَ أَنْصَارَكَ وَأَعْوَانَكَ، وَأَنْجَزَ لَكَ مَوَعْدَكَ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾»[35].
نكاتٌ في الآيتين
النكتة الأولى: جاءت الأفعال في هاتين الآيتين بصيغة المضارع «نُرِيْدُ، نَمُنَّ، نَجْعَلَهُمْ، نُمَكِّنَ ونُرِيَ»؛ ما يدلّ على استمرار الإرادة الإلهيّة في رِفعة المستضعفين وغلبتهم والإطاحة بالطغاة وهزيمتهم. بعبارةٍ أخرى، تبيّن هاتان الآيتان قانونًا كلّيًّا وسنّةً إلهيّة؛ إذ استعرضتا نموذجًا عمليًّا حصل مع بني إسرائيل دون أن يعني ذلك انحصاره هذه السّنّة بهم[36].
نماذج أخرى لِتحقُّق هذه السنّة الإلهيّة نشاهدها في انتصار أنبياء الله وأتباعهم من المستضعفين على المستكبرين في زمانهم، وقد ذُكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.
مثلًا، ذُكرت إرادة الله عزّ وجلّ وسنّته صراحةً في سورة غافر: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ﴾[37].
النكتة الثانية: بناءً على هاتين الآيتين إنّ إرادة الله تعالى تعلّقت بقيادة وحكم المستضعفين للأرض، والتنعّم بأنواع النِعَم المختلفة. لقد تحقّقت هذه الإرادة الإلهيّة في صدر الإسلام حينما انتصر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومعه المستضعفون على المشركين والمستكبرين، وبسطوا سلطتهم على شبه الجزيرة العربيّة وهزموا كِسرى وقيصر، لكنّ تحقُّق هذه الإرادة الإلهيّة على النحو الأتمّ سيكون على يد الموعود الذي بشّرت به الكتب السماويّة وحدَّثَ به أئمّة الدين، وهو الذي سيأتي ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا، ويحقّق الرفعة والغلبة النهائيّة والدائمة لمستضعفي العالم على المستكبرين، فيحكمون الأرض ويتنعّمون بنِعمها.
النكتة الثالثة: كلمة «نمنّ» في بداية الآية من «المنّ» وهو ما يوزن به من الحجارة[38]. من هنا يُقال لكلّ نعمةٍ وازنةٍ وثمينةٍ «مِنّة»، واستعمال كلمة «المنّة» في هذه الآية يدلّ على قيمة وخطورة هذه النعمة التي سيمنّ الله بها على مستضعفي العالم، كما منّ الله على المؤمنين بنِعمة بعثة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله):
﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾[39].
في الواقع، كما منّ الله تعالى بواسطة نبيّ الرحمة على المؤمنين في صدر الإسلام بأنواع النِعَم، كذلك في آخر الزمان -ومن خلال خاتم الأوصياء- سيمنّ على المستضعفين بالغلبة، ويمنحهم أنواع النِعم المختلفة.
النكتة الرابعة: الآية السادسة من سورة القصص ذكرت خوف فرعون وجنوده وخشيتهم من غلبة النبيّ موسى(عليه السلام)وبني إسرائيل وانتصارهم عليهم، كمصداقٍ من مصاديق الآيتين (محلّ البحث)؛
من هنا يناسب القول: إنّ غلبة المستضعفين وانتصارهم على المستكبرين ستتحقّق في هذه الدنيا، وسيتحقّق أبرز مصاديقها في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).
الآية 55 من سورة النور[40] تتعرّض أيضًا لحكم الصالحين، وقد تقدَّم الكلام عنها في فصل معالم الظهور.
ثانيًا: ظهور دين الحقّ على جميع الأديان
عندما تصبح السلطة في أيدي المؤمنين الصالحين، لن تجدهم يدعون الناس إلى أنفسهم، فهم ليسوا طلّاب جمع الثروات، والاستقواء على الآخرين، واتّباع الشهوات والفساد؛ بل ستجد كلّ سعيهم في هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى الله عزّ وجلّ، وحسن توزيع الثروات بين الناس، يأمرون بالمعروف وكلّ حسنٍ جميل، وينهَون عن المنكر والقبائح. هم كما وصفهم الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ﴾[41].
عن أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه السلام): «وَهَذِهِ الْآيَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالمهديّ وَأَصْحَابُهُ يُمَلِّكُهُمُ اللَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيُظْهِرُ الدِّينَ، وَيُمِيتُ اللَّهُ بِهِ وَأَصْحَابِهِ الْبِدَعَ وَالْبَاطِلَ كَمَا أَمَاتَ السَّفَهُ الْحَقَّ حَتَّى لاَ يُرَى أَثَرٌ لِلظُّلْم»[42].
ومن أجل إقامة هذه الأمور نهض الإمام الحسين(عليه السلام)وضحّى بنفسه وأصحابه، وقد جاء في رسالته (عليه السلام)لأخيه محمّد بن الحنفيّة قبل خروجه من مكّة: «أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلاَ بَطِرًا وَلاَ مُفْسِدًا وَلاَ ظَالِمًا؛ وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله)؛أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»[43].
كما جاء في زيارة الإمام الشهيد: «أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاَةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ»[44].
لإقامة دين الحقّ في المجتمع لا بدّ -بادئ ذي بدء- أن يحكم الصالحون؛ وذلك حتّى يقوموا بالتخطيط السليم ليسود الدين في المجتمع ويكون هو الحاكم فيه. كذلك في الدولة الكريمة، يبسط الصالحون وإمامهم سلطتهم على الكرة الأرضيّة أوّلًا؛ ليصدح بعد ذلك صوت «الله أكبر» ويتردّد في كلّ زوايا هذا العالم.
في هذا الفصل سنتناول بالبحث تلك الآيات التي تتحدّث عن غلبة الإسلام، وظهوره على الأديان كافّةً، وحكمه للمجتمع العالميّ؛ تلك الغلبة التي ذُكرت بعباراتٍ مختلفةٍ في القرآن الكريم.
ظهور الدين على كلّ الأديان
1. الآية الأولى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[45].
تفسير الآية:
شبّهت الآية السابقة جهود أعداء الإسلام للقضاء عليه بإطفاء نور الله بأفواههم، وقد بشّرت الآية بانتشار الإسلام وظهوره على كلّ الأديان، ولو كره المشركون. لقد جاءنا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالإسلام –المستنِد إلى القرآن الكريم– هديةً من عند الله؛ دينٌ أصوله وفروعه حقّة، ولا مآل له سوى حاكميّة الحقّ على العالم. وعلى الرغم من سعي أعداء الإسلام إلى القضاء عليه واعتمادهم أساليب مختلفة لذلك؛ فإنّ مكرهم وزورهم سيذهب سدًى، ولأهميّة الموضوع تكرّر ذِكر هذه الآية في أكثر من موضعٍ في القرآن الكريم.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
تحدّثت كثيرٌ من الروايات عن انتشار الإسلام على مستوى العالم، نتناول بعضًا منها:
الحديث الأول: عن أُبيّ بن كعب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معنى قوله تعالى: ﴿لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾، قَال: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ وَاَلنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ»[46].
الحديث الثاني: عن عباية بن ربعيّ أنّه سمع أمير المؤمنين(عليه السلام)يقول لمّا سُئل عن هذه الآية: أَظَهَرَ ذَلِك بَعْدُ؟: «لا وَالْذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى قَرْيَةٌ إِلَّا وَنُوْدِيَ فِيْهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا»[47].
الحديث الثالث: عن عبد الرحمٰن بن سليط عن الإمام الحسين (عليه السلام)قال:«مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وآخِرُهُمُ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي وهُوَ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، يُحْيِي اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا، ويُظْهِرُ بِهِ دِيْنِ الْحَقِّ عَلَى الْدِيْنِ كُلِهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»[48].
الحديث الرابع: عمرو بن أبي المقدام عن الإمام الباقر(عليه السلام)في قوله تعالى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون» قال: «يَكُونُ أَنْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَقَرَّ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)»[49].
الحديث الخامس: عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ (عليهما السلام) يقول: «الْقَائِمُ مِنَّا مَنْصُورٌ بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالنَّصْرِ، تُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ وَتَظْهَرُ لَهُ الْكُنُوزُ، وَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، وَيُظْهِرُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ دَيْنَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»[50].
الحديث السادس: عن أبي بصير أنّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن القائم منكم أهل البيت؟ فقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، هُوَ الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْني مُوسَى، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا الْمُبْطِلُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللَّهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام)، فَيُصَلِّي خَلْفَهُ وَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلاَ تَبْقَى فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ عزّ وجلّ إِلاَّ عُبِدَ اللَّهُ فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»[51].
الحديث السابع: محمّد بن فُضيل قال: سألت الإمام الكاظم (عليه السلام)عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ﴾، قال: «هَوَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْوَلَايةِ لِوَصِيِّهِ، وَالْوَلَايةُ هِيَ دِيْنُ الْحَقِّ»، قلت: ﴿لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ﴾، قال: «يُظْهِرُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيانِ عِنْدَ قِيامِ الْقَائِمِ»[52].
نكتة
يُمكن تصوّر غلبة وظهور دين الإسلام على كلّ الأديان على نحوين: منطقيّ وفيزيائيّ، وإطلاق الآية يشملهما جميعًا؛ فإنْ كان دين الإسلام اليوم له الغلبة والظهور باللّحاظ المنطقيّ فحسب، فإنّه سيأتي يومٌ يحكم فيه الإسلام العالم بأسره.
2. الآية الثانية: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدا﴾[53].
تفسير الآية:
تتحدّث الآية عن رؤيا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، إذ رأى أنّه والمسلمين قد دخلوا مكّة لأداء العمرة، لكنّ الذي جرى واقعًا هو أنّ المسلمين -لمّا قصدوا مكّة- لم يسمح لهم المشركون بدخولها؛ فعقد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معهم صلحًا في مكانٍ يدعى «الحديبية»؛ ليتوجّه بعد ذلك نحو قتال اليهود مطمئنّ البال. وقد تمكّن المسلمون -بمعونة الله- من فتح حصون خيبر والانتصار عليهم، وإلى هذا الانتصار تشير كلمة ﴿فَتۡحا قَرِيبًا﴾ في الآية التي سبقت هذه الآية، ثمّ أدّى المسلمون في السنة التالية العمرة التي مُنعوا من أدائها في عامهم ذاك.
أمّا هذه الآية فتتحدّث عن غلبة دين الإسلام وظهوره على كلّ الأديان، وعن شهادة الله تعالى على تحقّق هذا الوعد وكفى باللّه شهيدًا. إذًا لا تعجبوا إنْ وعدَكم الله دخول المسجد الحرام آمِنين فتؤدّوا العمرة، ثمّ بشّركم بفتحٍ قريبٍ لحصون خيبر، فهذه ليست إلّا البداية، أمّا في النهاية فسيظهر دين الإسلام على كلّ الأديان، ويصدح نداء التوحيد ويتردّد في أنحاء العالم أجمع؛ لأنّه دين الحقّ الذي يهدي الله عباده إليه.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
الحديث الأول: عن المقداد بن الأسود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
«لَاَ يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اَللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلاَمِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا أَنْ يُعِزَّهُمُ اَللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُذِلَّهُمْ فَيَدِينُونَ بِهَا»[54].
الحديث الثاني: جاء في الحديث القدسيّ الذي ينقله أبو الصلت عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام):
«وَلَأُطَهِّرَنَّ الْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ [الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)] مِنْ أَعْدَائِي، وَلَأُمْلِكَنَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ الرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ الصِّعَابَ، وَلَأُرقِيَنَّهُ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، وَلَأَمُدَّنَّهُ بِمَلاَئِكَتِي؛ حَتَّى يُعْلِنَ دَعْوَتِي، وَيَجْمَعَ الْخَلْقَ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ وَلَأُدَاوِلَنَّ الْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة»[55].
3. الآية الثالثة: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ﴾[56].
تفسير الآية:
في هذه الآية، وبعد وَعْد الله تعالى للمؤمنين الصالحين باستخلافهم في الأرض، وعَد بتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم؛ أي الإسلام[57]. وبيّنت الآية في ذيلها أنّ عبادة الله والقضاء على المشركين من أهداف حكومة الصالحين.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
الحديث الأول: عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في ما أجاب به عن أسئلة الزنديق حول الحوادث التي ستقع على المسلمين قال:
«كُلُّ ذَلِكَ لِتَتِمَّ النَّظِرَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَقْتَرِبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾[58].
الحديث الثاني: عن عبد الله بن سنان عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾، قال: «نزلت في عليّ بن أبي طالب والأئمّة من ولده (عليهم السلام)، و ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ﴾، قال: عنى به ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه)»[59].
ثالثًا: إتمام نور اللَّه في الأرض
تعرّض القرآن الكريم لنوعين من النور؛ أحدهما النور المحسوس كنور الشمس مثلًا، والآخر النور القدسيّ والمعنويّ كنور الإسلام والإيمان. بعض آيات القرآن الكريم تحدّثت عن إتمام نور الله في الأرض، وهذه الآيات هي محلّ كلامنا في هذا القسم:
1. الآية الأولى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[60].
تفسير الآية:
كان الكلام في الآيات السابقة عن اليهود والنصارى، وهم أنفسهم أولئك الكافرون الذين يريدون إطفاء نور الله، والله يأبى أن يَصِلوا إلى مبتغاهم، ويأبى إلّا أنْ يتمّ نوره؛ ولكن، ما المقصود بـ «نور الله»؟ هذا ما تتعرّض له الآية اللاحقة التي تبيّن أنّ الدين الحقّ هو المُراد بنور الله[61]؛ ومن خلال هذه القرينة نستنتج أنّ المقصود بإتمام نور الله الحاكميّة المطلقة للصالحين ودين الحق على العالم، والقضاء على الأديان الباطلة فيه.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
الحديث الأول: في حديثٍ عن عبد الله بن عبّاس عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بعد أن عدّ الأئمّة المعصومين من أمير المؤمنين (عليه السلام)إلى الإمام الثاني عشر قال له: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَلاَيَتُهُمْ وَلاَيَتِي وَوَلاَيَتِي وَلاَيَةُ اللَّهِ، وَحَرْبُهُمْ حَرْبِي وَحَرْبِي حَرْبُ اللَّهِ، وَسِلْمُهُمْ سِلْمِي وَسِلْمِي سِلْمُ اللَّهِ»، ثمّ قال(صلى الله عليه وآله) : ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[62].
المُراد بنور الله في هذا الحديث هو ولاية أهل البيت (عليهم السلام)؛ النور الذي يتجلّى بنحوِه الأتمّ في الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).
الحديث الثاني: في الرواية التي ينقلها سُدير الصيرفيّ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، يبيّن الإمام(عليه السلام)هذه الآيات من جهة مصاديقها فيقول:
«فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ [أي النبيّ موسى (عليه السلام)] أَمَرَ بِإِحْضَارِ الْكَهَنَةِ؛ فَدَلُّوا عَلَى نَسَبِهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الْحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفًا وَعِشْرِيْنَ ألْفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى(عليه السلام)لِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، كَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْعَبَّاسِ لَمَّا أَنْ وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِم وَالْأُمَرَاءِ وَالْجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ الْقَائِمِ مِنَّا نَاصَبُونَا الْعَدَاوَةَ وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي الْوُصُولِ إِلَى قَتْلِ الْقَائِمِ (عليه السلام)، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ... وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»[63].
لقد جاء النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالإسلام، ثمّ كان الحافظ والمبيّن والمبلّغ له من بعده أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وكان الأعداء وما زالوا يسعَون للقضاء عليهم طمعًا منهم بالقضاء على دين الحقّ وإطفاء نور الله؛ لكنّ إرادة الله شاءت أن يتمّ نوره على يد خاتم الأوصياء.
نكتة
ذكرت الآية أنّ المشركين والكافرين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا يحكي تمام عجزهم؛ فلو اجتمع الناس جميعًا ليطفئوا نور الشمس بأفواههم لما أمكنهم ذلك أبدًا، فكيف بنور الله تعالى؟
2. الآية الثانية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[64].
تفسير الآية:
كان الحديث في الآيات السابقة عن أهل الكتاب، وهم الكافرون الذين ذُكروا في آخر الآية، أي إنّهم هم الذين يريدون ليطفئوا نور الله ويقضوا على دين الحق؛ إلّا أنّ إرادة الله تعالى تعلّقت ببلوغ هذا النور تمامه ولو كره اليهود والنصارى. وإظهارًا لتمام ضعفهم وعجزهم أمام قدرة الله عزّ وجلّ عبّر عن أمانيّهم بأنّهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.
ورد الحديث عن تصميم الكافرين على إطفاء نور الله تعالى في آيتين كريمتين بتفاوتٍ يسير، حيث جاء في سورة التوبة: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ﴾، بينما جاء في سورة الصفّ: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ﴾.
وقد فرّق الراغب بين الآيتين بقوله: «والفرق بين الموضعين أنّ في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ﴾ يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله: ﴿لِيُطۡفُِٔواْ﴾ يقصدون أمرًا يتوصّلون به إلى إطفاء نور الله»[65].
أي إنّ أعداء الإسلام لم يتركوا طريقًا أو وسيلةً بلغتها أيديهم إلّا واستفادوا منها لإطفاء نور الله والقضاء على دين الحقّ؛ لكنّ سهامهم طائشةٌ وسعيهم باطل.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
عن محمّد بن فُضيل عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)في قول الله عزّ وجلّ:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ﴾، قَالَ: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ وَلايَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) بِأَفْوَاهِهِمْ، قُلْت: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ»، قَالَ: وَاللَّهُ مُتِمُّ الْإِمَامَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ﴾؛ النُّورُ هُوَ الْإِمَامُ، قلت: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ﴾، قال: هَوَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْوَلَايَةِ لِوَصِيِّهِ، وَهِيَ دِينُ الْحَقِّ، قلت: ﴿لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ﴾، قال: يُظْهِرُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَائِمِ، قال: يَقُولُ اللهُ: ﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾؛ ولاية القائم، ﴿وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾؛ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ»[66].
فَسّرت هذه الرواية نور الله بولاية وإمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)؛ بناءً على هذا فإنّ المقصود بإتمام نور الله إتمام الإمامة؛ فبالإمام (عليه السلام)يتجلّى نور الله، وهو المُنجز ما جاء به وعمل لأجله الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من إقامة الحقّ وإتمام نور الله عزّ وجلّ في العالم كلّه.
يقول عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾: «بالقائم من آل محمّد (عجل الله تعالى فرجه)، حتّى إذا خرج يُظهره الله على الدين كلّه حتّى لا يُعبد غير الله، وهو قوله (عليه السلام): «يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا»[67].
3. الآية الثالثة: ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾[68].
تفسير الآية:
كما يتضّح من الآيات السابقة واللاحقة للآية محل البحث، أنّ هذه الآية تتحدّث عن يوم القيامة. وقد وصفت روايات أهل البيت (عليهم السلام) يوم ظهور المُنجي باليوم الذي تُشرق فيه الأرض بنور ربّها، فهو يشبه يوم القيامة من هذه الجهة. فعند ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ينتهي الظلم والظلمة، ويملأ نور الله الأرض بحجّته، ويحكم العدل بين الناس، ويهلك أهل الباطل.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
بقيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) سيملأ نور الله العالم، وقد أُطلق هذا النور على الله تعالى كما أُطلق على الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، كما جاء مطلقًا في بعض الروايات، والمُراد من هذا النور نور الله تعالى، سواءً جاء مطلقًا أو أُضيف إلى الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ فبه سينير الله العالم، وسنشير في الآتي إلى هذه الطوائف الثلاثة من الروايات:
أ. وَأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
الرواية الأولى: عن أبي بصير عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)في ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) قال:
«ثُمَّ يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ مَشَارِقَ الْأرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام)، فَيُصَلِّي خَلْفَهُ وَتُشْرِقُ الْأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلا تَبْقَى فِي الْأرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ عزّ وجلّ إِلّا عُبِدَ اللَّهُ فِيهَا؛ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[69]».
الرواية الثانية: عن المُفضّل بن عمر أنّه سمع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)يقول: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَشْرَقَتِ الْأرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا وَاسْتَغْنَى النَّاسُ»[70].
بحسب هذا الحديث، إنّ الأرض في الدولة المهدويّة الكريمة سيشرق فيها نور الله عزّ وجلّ، ويكون استغناء الناس أحد تجلّياته، بالتأكيد تجدر الإشارة هنا إلى أنّ أصل الاستغناء هو ارتواء الإنسان بنور الله تعالى، وإلّا فرغبات الإنسان لا حدود لها؛ فلو أُعطي الدنيا بأسرها ما قنع ولقال: هل من مزيد؟
ب. يوم تُزهر الأرض بنور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)
الرواية الأولى: عن ابن عبّاس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَحُجَجَ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ بَعْدِي الاثْنَيْ عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَخِي وَآخِرُهُمْ وَلَدِي، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَخُوكَ؟ قَالَ: عليّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قِيلَ: فَمَنْ وَلَدُكَ؟ قَالَ: المهديّ الَّذِي يَمْلَأُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيرًا، لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ وَلَدِي المهديّ، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الْارْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا، وَبَلَغَ سُلْطَانُهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ»[71].
كما جاء في هذه الرواية، حينما تُشرق الأرض بنور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، سيحكم الإمام (عجل الله تعالى فرجه) العالم كلّه، ومِن خلال حكومته العالميّة هذه سيملأ نور الإسلام والإيمان كلّ مكان.
الرواية الثانية: عن الحسين بن خالد عن الإمام الرضا(عليه السلام)حينما سُئل: مَن القائم منكم أهل البيت؟ قال:
«الرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي ابْنُ سَيِّدَةِ الْإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ مِنْ كلّ جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كلّ ظُلْمٍ، وَهُوَ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ وَوَضَعَ مِيزَانَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَلا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَدًا»[72].
عَدّت هذه الرواية إقامة العدل بين الناس، ورفع الظلم من بينهم في عصر الظهور تجلّيًا من تجلّيات إشراقة الأرض بنور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).
ج. الروايات التي تحدّثت عن مطلق النور
الرواية الأولى: الأصبغ بن نُباتة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)وهو يذكر الأئمّة من بعده قال:
«تَاسِعُهُمُ الْقَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ نُورًا بَعْدَ ظُلْمَتِهَا، وَعَدْلًا بَعْدَ جَوْرِهَا، وَعِلْمًا بَعْدَ جَهْلِهَا»[73].
تذكر هذه الرواية استنارة الأرض بعد ظلمتها، والعدل، والعلم كمصاديق للنور الذي ستُشرق به الأرض في عصر الظهور، كما عدّت الظلم والجهل الحاصلتين قبل الظهور من مصاديق الظلمة. إنّ الله عزّ وجلّ هو منبع العدل، والقطرة التي ستسيل من عدله على الأرض على يد خاتم الأوصياء ستمتلئ بها الأرض عدلًا وعلمًا.
الرواية الثانية: عن الإمام الباقر(عليه السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه): «هُوَ رَجُلٌ مِنِّي اسْمُهُ كَاسْمِي، يَحْفَظُنِي اللَّهُ فِيهِ وَيَعْمَلُ بِسُنَّتِي؛ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا وَسوْءًا»[74].
إلى جانب الأنوار القدسيّة والمعنويّة التي تناولتها الآيات السابقة كنور الإسلام والإيمان، هناك آياتٌ أخرى في القرآن الكريم مثل آيات: ﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا﴾[75]، و ﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا﴾[76]، و ﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾[77] تحدثّت عن أنوار محسوسة كنور الشمس والقمر. في الواقع -ووفقًا لما ذكرت روايات أهل البيت (عليهم السلام)- إنّ تشبيه الأنوار المعنويّة كنور الإسلام والعدل بالأنوار الحسّيّة يعود لأُنس الإنسان بهذه الأنوار المحسوسة.
في هذا الجزء من الكتاب سنبيّن هذا النوع من الآيات على ضوء الروايات التفسيريّة.
ينقل الحلبيّ عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا﴾، أنّه قال: «الشَّمْسُ أَمِيْرُ الْمُؤْمِنينَ وَضُحَاهَا قِيامُ الْقَائِمِ (عجل الله تعالى فرجه)»[78].
عن سليمان الديلميّ أنّه سأل الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)عن قوله تعالى: ﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا﴾؟ فقال:
«ذَاكَ الْإِمَامُ مِنْ ذُرِّيَّةِ فَاطِمَةَ نَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَيُجَلِّي ظَلامَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، فَحَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَالنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا يَعْنِي بِهِ الْقَائِمَ»[79].
ومثل هذا الحديث رواه أبو بصير عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)[80].
إنّ الحكّام الظالمين -بغصبهم حقّ أهل البيت (عليهم السلام)، وإزالتهم عن مواضعهم التي وضعهم الله فيها-،حجبوا دين الله وأظلموا الأرض حتّى باتت كَلَيْلٍ حالك؛ وقد وصف الله تعالى فعلهم هذا بقوله: ﴿وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا﴾[81]؛ ولكن، حينما يظهر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) سينجلي ظلام دولة إبليس، ويملأ نور دولة ذلك الإمام كلّ مكان.
عن جابر بن يزيد عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ﴾[82]، قال: «دَوْلَةُ إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهُو يَوْمُ قِيَامِ الْقَائِمِ، ﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾[83]، وهُو الْقَائِمُ إِذَا قَامَ»[84].
الإمام شمسٌ مضيئةٌ تنير العالم بنور الحقّ، هذا النور الذي يبلغ في زمن قيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ذروة تألّقه وسطوعه؛ فيزيل ظلمة دولة الطغاة الغاصبين.
خلاصة الآيات والروايات
إنّ زمن ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو الزمن الذي يسطع فيه نور الحقّ ويسود العالم بأسره، هو زمن زوال الظلام من العالم. ظهور نور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) سيحوّل حيرة المؤمنين وتشتّتهم إلى الخلاص والفرج في جميع أبعاد وشؤون حياتهم[85]؛ فعندما تُرفع رايته (عجل الله تعالى فرجه) سيعمّ النور أرجاء العالم[86]، وستزول بنور الإيمان والعدل والعلم ظلمات الشرك والظلم والجهل. باختصار؛ بقيام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) يحلّ الزمن الذي ستشرق فيه الأرض بنور ربّها.
رابعًا: قيام الحقّ وزهوق الباطل
ينزل المطر من السماء، فيجتمع الماء ليتحوّل إلى سيلٍ عظيم؛ فيحتمل السيل زبدًا (رغوة) كثيرًا، ثمّ يسكن الماء وتمضي لحظات معدودة فلا يبقى أثرٌ للزبد. قبل هطول المطر لم يكن للزبد وجود، وبعد توقّف السيل ليس للزبد وجود، هذا الزبد الذي يطفو على الماء يأتي مع السيل، ومعه يذهب.
هاك مثالًا آخر: يقوم الصائغ بتذويب الذهب أو معدنٍ آخر في وعاءٍ على النار حتّى يخلّصه من الشوائب، ويتشكّل الزبد على المعدن المُذاب، فيرميه جانبًا ويأخذ الذهب أو المعدن الخالص ليستفيد منه. هكذا الحقّ والباطل؛ مهما كثرت جولات الباطل، فما هو إلّا كزبدٍ يغطّي وجه الحقّ مدّةً من الزمن بلا طائلٍ وسرعان ما يزول؛ فأَمَده محدودٌ ولا يلبث أن يدمغ الحقُّ الباطلَ، ولا بدّ للباطل أن يزول. لقد جاء القرآن الكريم على ذِكْر هذين المثالين في الآية السابعة عشرة من سورة الرعد:
﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدا رَّابِياۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰع زَبَد مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾[87].
تشير الآية (49) من سورة سبأ أيضًا إلى عدم تجذّر الباطل وإلى سرعة زواله، تقول الآية: ﴿قُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَمَا يُبۡدِئُ ٱلۡبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾.
كما أشارت آياتٌ في القرآن الكريم إلى الظهور الكامل للحقّ وإلى زهوق الباطل، والمصداق الكامل لذلك في الدنيا سيتحقّق في الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). وهذا ما سنتناوله في هذا الفصل.
1. الآية الأولى: ﴿لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾[88].
تفسير الآية:
تتحدّث الآية التي سبقت هذه الآية عن معركة بدر التي كان المسلمون فيها يَودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لهم، فيظفرون بالقافلة التجاريّة لقريش وتكون الغنيمة الكبرى من نصيبهم من دون قتالٍ وما يحفّ به من الصعوبات والتضحيات، لكنّهم يشاؤون والله يفعل ما يشاء؛ فقدّر لهم مواجهة جيش المشركين والقضاء على رؤوسه، حتّى يكون في ذلك علوّ شأن الإسلام وعزّته. قال تعالى: ﴿وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[89].
أمّا في الآية التي بين أيدينا، فقد تعلّقت إرادة الله تعالى بإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، الذي تجسّد في معركة بدر يوم مُنِي أهل الباطل بالهزيمة وحقّ الحقّ؛ في الواقع إنّ إرادة الله في إقامة الحقّ وإبطال الباطل جاريةٌ في كلّ زمانٍ، ولو كره المجرمون.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
في الحديث الذي نقله جابر بن يزيد عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية قال: «وَأمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ﴾ فَإِنَّهُ يَعْنِي لِيُحِقَّ حَقَّ آلِ محمّدٍ حِينَ يَقُومُ الْقَائِمُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ﴾ يَعْنِي الْقَائِمَ، فَإِذَا قَامَ يُبْطِلُ بَاطِلَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾»[90].
لقد جعل الله تعالى أهل البيت (عليهم السلام) محور الحقّ؛ فهم أهله والمقيمون له في الأرض. إنّ حكمهم بالحقّ على يد الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو إحياءٌ للقرآن الكريم وسُنّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). في المقابل، إنّ بني أميّة كانوا -في صدر الإسلام- محور الباطل وسيستمرّ الفساد الذي أقاموه إلى عصر الظهور. في الحقيقة، إنّهم منشأٌ لكثيرٍ من المفاسد والجرائم والجنايات منذ صدر الإسلام إلى زمن الدولة الكريمة، وكلّ باطلٍ بناه بنو أميّة سيزهق عند ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). من ناحيةٍ أخرى فإنّ المُراد بباطل بني أُميّة كلّ باطلٍ في عصر الظهور؛ وليس ذِكْر بني أُميّة إلّا كمثالٍ على ذلك.
2. الآية الثانية: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[91].
تفسير الآية:
إنّ للباطل وأهله جولاتٍ هي كالزبد يجول فوق الماء، إلّا أنّها لا تلبث أن تزول سريعًا حين يجيء الحقّ وأهله؛ وقد تعرّضت آيةٌ أخرى في القرآن الكريم لكيفيّة زوال الباطل إذ تقول: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقۚ﴾[92]. إذًا، عندما يواجه أهل الحقّ أهل الباطل فلن تكون النتيجة سوى زوال الباطل واستئصاله، وهذا ما نشاهده في سيرة أنبياء الله (عليهم السلام) وأتباعهم، لكنّ تحقّق المصداق الكامل لهذه الآية سيكون عند زوال الباطل وأهله بنحوٍ كاملٍ ونهائيّ؛ فيحكم دين الحقّ وأهله العالم إلى يوم القيامة.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
لقد كان لهذه الآية مصاديق مختلفة في مختلف المراحل الزمنيّة، كيوم فتح مكّة عندما دخل النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) المسجد الحرام فوجد 360 صنمًا قد وضعتها القبائل فيه، فراح يطيح بها بعصاه واحدًا واحدًا وهو يقول: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[93]، أو كيوم الغدير إذ رُوي عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حقّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «هُوَ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الحقّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَزْهَقُ الْبَاطِلَ وَيَنْهَى عَنْهُ»[94]، لكنّ المصداق الكامل لهذه الآية إنّما يتحقّق يوم يزول الباطل بتمامه، ويهلك أهله جميعًا، ويحكم الحقّ وأهله الأرض، وهذا ما سيحصل في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) كما سيتبيّن معنا من الروايات الآتية:
الحديث الأول: عن أبي حمزة الثماليّ عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ﴾، قال: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ ذَهَبَتْ دَوْلَةُ الْبَاطِلِ»[95].
الحديث الثاني: جاء في الحديث الذي تنقله السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد(عليه السلام)حول ميلاد الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه): «فإذا أنا بحسّ سيديّ المهديّ وصوت أبي محمّد(عليه السلام)يقول: يَا عَمَّةُ هَاتِي ابْنِي إِلَيَّ، فَكَشَفْتُ عَنْ سَيِّدِي، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ مُتَلَقِّيًا الْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ وَعَلَى ذِرَاعِهِ الْأَيْمَنِ مَكْتُوبٌ: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[96]، فضممته إليّ فوجدته مفروغًا منه، فلففته بثوبٍ وحملته إلى أبي محمّد (عليه السلام)»[97].
نكات
النكتة الأولى: انتصار الحقّ على الباطل هي مشيئة الله التي لا بدّ أَنّ تتحقّق على امتداد العالم كلّه، وهذه الإرادة هي أهمّ ظهيرٍ وسندٍ لأتباع الحقّ على امتداد التاريخ.
النكتة الثانية: لا بدّ لإزالة الباطل وإحقاق الحقّ من حضور أهل الحقّ في الميدان والإطاحة بأهل الباطل؛ وإلّا بقيت لهم السيطرة والغلبة.
النكتة الثالثة: المواجهة الكبرى بين الحقّ والباطل ستكون في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، حين ستلحق بأهل الباطل الهزيمة رغم خوضهم المواجهة بكلّ ما أُوتوا من قوّة.
3. الآية الثالثة: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾[98].
تفسير الآية:
تناولت الآية السابقة على هذه الآية مسألة عدم سؤال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) الأجر على الرسالة التي أتى بها إلّا المودّة في القربى؛ إذ يقول تعالى: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[99]، وهذه المودّة لأهل البيت (عليهم السلام) إنّما تعود على الناس أنفسهم كما جاء في آيةٍ أخرى، إذ يقول عزّ من قائل: ﴿قُلۡ مَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡر فَهُوَ لَكُمۡۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء شَهِيد﴾[100]. ففي الحقيقة هذا الأجر هو وسيلةٌ لهداية الناس إلى سبيل الله، يقول تعالى: ﴿قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلا﴾[101]، فبمودّة الناس لأهل البيت (عليهم السلام) واتّباعهم لهم سيُنعِم الله عليهم بالمُضيّ على طريقه القويم وصراطه المستقيم؛ ولكن، وكأنّه ثَقُل على بعضهم الأمر بمودّة أهل البيت (عليهم السلام) واتّباعهم، فاتّهموا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالكذب على الله سبحانه، يقول تعالى: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ﴾[102]، فالنبيّ الذي اختاره الله لرسالته لا يُمكن له أن يقول إلّا الحقّ، وهذا ما أشارت إليه الآيات 44 إلى 47 من سورة الحاقّة[103]. ثمّ تُشير الآية إلى سُنّةٍ إلهيّةٍ ذُكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وهي أنّ الله تعالى أرسل النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأَمَر بمودّة أهل بيته لإبطال الباطل وإحقاق الحقّ في العالم بأسره.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
إنّ التجلّي الكامل للحقّ على الأرض، والزوال التامّ للباطل سيكون بكلمةٍ من أعظم كلمات الحقّ الإلهيّة، أي الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه).
عن محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر(عليه السلام)قال:
«جَاءَتِ الْأَنْصَارُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ آوَيْنَا ونَصَرْنَا؛ فَخُذْ طَائِفَةً مِنْ أَمْوَالِنَا فَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى مَا نَابَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا﴾ يَعْنِي عَلَى النُّبُوَّة ﴿إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[104] يَعْنِي فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، إلى أن قال(عليه السلام): فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ وبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَمْوَالَنَا فقال: قَاتِلُوا عَنْ أَهْلِ بَيْتِي مِنْ بَعْدِي، وقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا قال هَذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وجَحَدُوهُ وقَالُوا كَمَا حَكَى اللَّهُ: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباۖ﴾، فقال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ﴾ قَالَ: لَوِ افْتَرَيْتَ، ﴿وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ﴾ يَعْنِي يُبْطِلُهُ، ﴿وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ﴾ يَعْنِي بِالْأَئِمَّةِ والْقَائِمِ مِنْ آلِ محمّد (صلى الله عليه وآله)»[105].
النكات
إنّ اتّهام النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالكذب على الله عزّ وجلّ يرجع إلى أصل الرسالة، وإلى القرآن الكريم بأكمله كما يُستفاد من آياتٍ أخرى[106]؛ ولكن، بقرينة الآية السابقة والمواقف التي اتُّخذت في مقابل ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، فمن المناسب أن تكون الولاية هي موضوع التهمة في الآية.
4. الآية الرابعة :﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء شَهِيدٌ﴾[107].
تفسير الآية:
إنّ في الإنسان وما يحيط به آلاف الآيات التي تُرشده إلى الله تعالى. في عبارة ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا﴾ استُعمل الفعل المضارع للاستقبال، فدلّ على الاستمرار وأنّ آيات الله لا نهاية لها، وكثرة هذه الآيات وعظمتها هي بحدٍّ جعل العلماء عاجزين عن التعرّف عليها بالكامل، على الرغم من كلّ الجهود التي تُبذل من أجل ذلك. نرى في هذه الآية أنّ الله تعالى سيرينا آياته حتّى يتبيّن لنا أنّه الحقّ عزّ وجلّ؛ولكن، في آخر الآية يتحوّل الخطاب إلى منحىً آخر، ليكون الله تعالى هو الشاهد على وحدانيّته كما في آية الشهادة[108].
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
يظهر من خلال الروايات أنّ البلاءات ومواطن النقص والفقر يُمكن أن تكون أيضًا آياتٍ على أنّه تعالى حقّ؛ فالابتلاءات والاختبارات هي التي تهيّئنا ليعمّ التوحيد العالم في عصر الظهور؛ نُشير هنا إلى روايتين في هذا المجال.
الرواية الأولى: عن أبي بصير عن الإمام محمّد الباقر(عليه السلام)أنّه سُئل عن قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾، فقال: «يُرِيهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الْمَسْخَ وَيُرِيهِمْ فِي الْآفَاقِ انْتِقَاصَ الْآفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَيَرَوْنَ قُدْرَةَ اللَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ، وَقَوْلِهِ: ﴿حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ خُرُوجَ الْقَائِمِ هُوَ الحقّ مِنَ اللَّهِ عَزّ وَجَلَّ، يَرَاهُ هَذَا الْخَلْقُ لا بُدَّ مِنْهُ»[109].
وعن أبي بصير عن الإمام الصادق(عليه السلام)مثله[110].
الرواية الثانية: عن حمزة بن محمّد الطيّار عن الإمام الصادق (عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء شَهِيدٌ﴾، قال: «خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ»، قَالَ: قُلْتُ: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ»، قَالَ: «دَعْ ذَا، ذَاكَ قِيَامُ الْقَائِمِ»[111].
إنّ قيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) -كما بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)- هو قيامٌ لإحقاق الحقّ والعدل. في روايةٍ عن عبد الرحمٰن بن كثير عن الإمام الصادق(عليه السلام)في تفسير قوله تعالى: ﴿كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ﴾[112]، قال: «وَخُرُوجُهُ (عجل الله تعالى فرجه) كَخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ﴾[113].
خامسًا: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
إنّ الخلق جميعًا مسلمون لله تعالى في نظام التكوين، وسيأتي اليوم الذي يُذعنون فيه جميعًا لأَمْر الله تعالى في نظام التشريع أيضًا، ويصدح نداء التوحيد في كلّ زاويةٍ من زوايا هذا العالم، جاء في القرآن الكريم:
﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعا وَكَرۡها وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ﴾[114].
تفسير الآية:
قال تعالى في بداية الآية: ﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ﴾، إشارةً إلى الآيات السابقة التي ذَكَرت أنّ دين الله واحدٌ، وأنّه تعالى أخذ الميثاق عليه من الأنبياء وأممهم، وقد بشّر مَن سَبَق الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بمجيئه، فلماذا لم تؤمنوا به يا أهل الكتاب؟ ﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعا وَكَرۡها وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ﴾.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
ذكرت روايات أهل البيت (عليهم السلام) الواردة في تفسير الآية أنّ نداء التوحيد سيُسمع في كلّ نقطةٍ من نقاط العالم، نُشير هنا إلى بعضها:
الحديث الأول: جاء في الرواية التي يرويها الإمام الحسن المجتبى عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في مجيء المنتظر بعد تحزّب أهل الباطل وانتشار الفساد والظلم: «حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ رَجُلًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَكَلَبٍ مِنَ الدَّهْرِ وَجَهْلٍ مِنَ النَّاسِ، يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ بِمَلاَئِكَتِهِ وَيَعْصِمُ أَنْصَارَهُ وَيَنْصُرُهُ بِآيَاتِهِ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَدِينُوا طَوْعًا وَكَرْهًا، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا وَنُورًا وَبُرْهَانًا، يَدِينُ لَهُ عَرْضُ الْبِلاَدِ وَطُولُهَا حَتَّى لاَ يَبْقَى كَافِرٌ إلَّا آمَنَ وَلاَ طَالِحٌ إلَّا صَلَحَ»[115].
الحديث الثاني: عن عبد الأعلى الحلبيّ عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)قال: «وَلاَ تَبْقَى أَرْضٌ إِلَّا نُودِيَ فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعا وَكَرۡها وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ﴾[116].
الحديث الثالث: عن رفاعة بن موسى عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)في بيان الآية: ﴿وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعا وَكَرۡها﴾، قال: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ لاَ يَبْقَى أَرْضٌ إلَّا نُودِيَ فِيهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)»[117].
الحديث الرابع: روى عليّ بن عقبة عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)قال:
«إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (عليه السلام) حَكَمَ بِالعَدْلِ، وَارْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ الْجَوْرُ، وَأَمِنَتْ بِهِ الْسُبُلُ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، وَرُدَّ كلّ حَقٍ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَبْقَ أَهْلُ دِيْنٍ حَتَى يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَيَعْتَرِفُوا بِالْإِيْمَانِ، أَمَا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: ﴿وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعا وَكَرۡها وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ﴾[118].
تتحدّث هذه الرواية عن انتشار الإسلام في عصر الظهور، حين لن يبقى على وجه الأرض من غير المسلمين أحدٌ في الظاهر، اللّهمّ إلّا أن يكون من أهل النفاق وبقي على كفره وأخفاه.
سادسًا: زوال مظاهر الشرك
تُشير بعض الآيات في القرآن الكريم إلى مشيئة الله تعالى في زوال حكم الشرك من على وجه الأرض، وزوال الشرك والكفر يعني إقامة دين التوحيد.
الآية: ﴿يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾[119].
تفسير الآية:
في هذه الآية، بعد أن ذكر الله عزّ وجلّ ما وعَد به المؤمنين، كحكم الصالحين منهم للأرض، وإقامة الإسلام على امتداد العالم، وتحقيق الأَمْن، ذكَر الهدف النهائيّ لخلق الجنّ والإنس[120]. في الواقع، إنّ كلّ ما وعد الله الحكيم أهل التقوى به، كان من أجل أن يجدوا مكانًا مناسبًا يعبدون الله فيه، وإن كان المعنى الحقيقيّ للعبادة إنّما يتحقّق في زمنٍ خالٍ من كلّ أنواع الشرك، وهذا ما أشارت إليه الآية: ﴿يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔاۚ﴾.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
بحسب بعض الروايات، ستكون الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هي زمن تحقّق هذه الآية:
الحديث الأول: عن إسحاق بن عبد الله[121] عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔاۚ﴾، قال: «نزلَتْ في المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)»[122].
الحديث الثاني: عن أبي بصير عن الإمام الصادق(عليه السلام)في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔاۚ﴾، قال: «نَزَلَتْ فِي الْقَائِمِ وَأَصْحَابِهِ»[123].
النكات
النكتة الأولى: صحيحٌ أنّ الإسلام سيحكم ظاهرًا كلّ مكانٍ في الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، لكنّ الناس مختارون في عقيدتهم، فلن يخلو الأمر من وجود أشخاصٍ يقيمون على كفرهم، وقد أشارت الآية في آخرها إلى هذه النقطة: ﴿وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾.
يقول بشير النبّال: «لمّا قدمْتُ المدينة انتهيت إلى منزل أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فإذا أنا ببغلته مسرجةً بالباب، فجلست حيال الدار، فخرج فسلّمت عليه، فنزل عن البغلة وأقبل نحوي فقال: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فقلت: من أهل العراق، قال: مِنْ أَيِّهَا؟ قلت: من أهل الكوفة، فقال: مَنْ صَحِبَكَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ قلت: قومٌ من الْمُحْدِثَةِ، فقال: وَمَا الْمُحْدِثَةُ؟ قلت: الْمُرْجِئَةُ، فقال: وَيْحَ هَذِهِ الْمُرْجِئَةِ إِلَى مَنْ يَلْجَأونَ غَدًا إِذَا قَامَ قَائِمُنَا؟ قلت: إنّهم يقولون لو قد كان ذلك كنّا وأنتم في العدل سواء، فقال: مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَسَرَّ نِفَاقًا فَلاَ يُبْعِدُ اللَّهُ غَيْرَهُ، وَمَنْ أَظْهَرَ شَيْئًا أَهْرَقَ اللَّهُ دَمَهُ»[124].
قسّم هذا الحديث المخالفين للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) إلى ثلاث مجموعاتٍ: مجموعةٌ تتوب وتثوب إلى الحقّ، ومجموعةٌ تمضي في مخالفتها للإمام (عجل الله تعالى فرجه) علانيةً، ومجموعةٌ لا ترجع إلى الحقّ ولا تُظهر المخالفة؛ فهم يمضون على نهج الباطل في السرّ دون العلن، وهؤلاء لن يتعرّض لهم الإمام (عجل الله تعالى فرجه).
النكتة الثانية: سنُشير في الفصول القادمة إلى النتائج التي ستتحقّق في عصر الظهور، كإحياء القيم الإنسانيّة والطفرة العلميّة الهائلة وإقامة العدل في العالم وإعمار الأرض ووفرة النعم الإلهيّة، وذلك كلّه سيكون في ظلّ تديّن الناس وحركتهم في مسير العبوديّة لله تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[125]، وهو ما سيتحقّق في عصر الظهور.
سابعًا: إحياء القيم الإنسانيّة
إنّ نتيجة انتشار التديّن الصحيح في المجتمع النموّ والتسامي التدريجيّ للقيم الإنسانيّة، وفي الواقع يُمكن عدّ هذه النتيجة أهمّ نتائج التديّن وأعظمها في عصر الظهور، التي تتجلّى في ظلّ سيادة الإسلام في المجتمع.
بعدما بنى إبراهيم ووَلده إسماعيل (عليهما السلام) الكعبة، رفع نبيّ الله إبراهيم(عليه السلام)يديه وراح يدعو الله تعالى، وكان ممّا دعا به(عليه السلام)ما جاء ذِكره في سورة البقرة: ﴿رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[126].
وعلى خلاف هذه الآية التي تمّ فيها تقديم التعليم على التزكية، قُدّمت التزكية على التعليم في الآية التي تحدّثت عن استجابة دعاء النبيّ إبراهيم (عليه السلام) في سورة الجمعة؛ ما يدلّ على أهمّيّة التزكية والأخلاق وتقدّمهما على العلم. قال تعالى في سورة الجمعة: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰل مُّبِين﴾[127].
فقد تحدّثت هذه الآية عن بعثة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، التي تشكّل استجابةً لدعاء النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، كذلك اعتبرت الآية أنّ تلاوة الآيات القرآنيّة على الناس، وتعليمهم الكتاب والحكمة، وتزكيتهم تشكّل العنوان لما أُرسل به النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). وقد قدّمت الآية التزكية على التعليم؛ ما يعني أنّ الهدف الأوّل للنبيّ (صلى الله عليه وآله) هو التكامل والسموّ الأخلاقيّ للمسلمين، فصاحب الخلق العظيم –كما وصفه القرآن الكريم[128]–، كان يعمل على هداية الناس إلى مكارم الأخلاق، وقد رُوي عنه (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»[129].
إنّ هدف الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وهدف نبيّ الرحمة (صلى الله عليه وآله) واحدٌ، هو إتمام مكارم الأخلاق والعمل على تحلّي النّاس بالصفات الإلهيّة. فالإمام (عجل الله تعالى فرجه) يأتي ليوجّه الأفكار في مسار العبوديّة لله تعالى، هو الذي يخلّص الناس من التشتّت والحيرة وسفاسف الأمور؛ فتجتمع عقول الناس باجتماعهم على اتّباع الحقّ ونبذ كلّ خلافٍ بينهم، كذلك تصبح القوى النفسيّة في الإنسان تحت سيطرة العقل، وتكمل العقول؛ فيتّسم سلوك الناس حينئذٍ بالحلم والحكمة، وفي هذا السياق نذكر عددًا من الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
الحديث الأول: عن مولىً لبني شيبان[130] عن الإمام الباقر(عليه السلام)قال:
«إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُؤوسِ الْعِبَادِ؛ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَكَملَتْ بِهِ أَحْلاَمُهُمْ[131]».
جاء في رواية الشيخ الصدوق لهذا الحديث عبارة «وضع يده»[132]، أي إنّ الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو الذي يضع يده على رؤوس العباد، لكنّ المؤدّى واحدٌ بين هذه الرواية وما ذكره كتاب الكافي؛ لأنّ جميع ما يقوم به الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) إنّما يقوم به بإذن الله تعالى.
روى القطب الراونديّ هذه الرواية عن خالد الكابليّ عن الإمام الباقر (عليه السلام)، وقد وردت فيها كلمة «أخلاقهم» مكان «أحلامهم»[133]، وليس بينهما تفاوتٌ يُعتدّ به؛ إذ إنّ تمام أعمال الإنسان ستتّسم بالحلم في ظلّ تسلّط العقل على القوى النفسانيّة كلّها، وليس كمال الأخلاق شيئًا آخر غير هذا.
بنظرةٍ أوليّة قد نجد معنى «الحلم» هو «الصبر»؛ إلّا أنّهما معنيان مختلفان، جاء في حديث العقل والجهل المرويّ عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّ «السفه» في مقابل «الحلم»، و«الجزع» في مقابل «الصبر»[134]. «الحلم» هو الأناة والعقل، و«السفه» هو العجلة وعدم التدبّر؛ من هنا يُقال لمن كان لديه خفّةٌ في عقله «سفيه»، لأنّه لا يتدبّر في الأمور.
والفرق بين «الحلم» و «الصبر» أنّ «الصبر» يعني التحمّل في مقابل المصاعب، أمّا «الحلم» فيرتبط بجميع شؤون الإنسان بدءًا بالأمور السارّة والسعيدة وصولًا إلى الأمور السيئة؛ أي لا بدّ أن يكون أَمْر الإنسان دائمًا بحسابٍ وميزان، وأن يقوم على أساس «الحلم»؛ من هنا اعتبر هذا الحديث أنّ تحلّي الناس بالحلم هو النتيجة لجمع العقول. قد يعجّل الحليم في إنجاز عمل ما؛ لكنّ عجلته تكون مستندةً إلى التدبير والعقل؛ لأنّ الإنسان الحليم يتّسم في الواقع بالهدوء الداخليّ وضبط النفس، وتقوم جميع أموره على العقل والتعقّل.
الحديث الثاني: عن سعيد بن الحسن عن الإمام الباقر(عليه السلام)أنّه قال: «أَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي كِيسِهِ فَيَأْخُذُ حَاجَتَهُ فَلاَ يَدْفَعُهُ؟ فقلت: مَا أَعْرِفُ ذَلِكَ فِينَا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): فَلاَ شَيْءَ إِذًا، قلت: فَالْهَلَكَةُ إِذًا، قال: إنّ القَوْمَ لَمْ يُعْطَوْا أَحْلاَمَهُمْ بَعْدُ»[135].
والمراد أنّ الشيعة لم يُعطَوا صفة الحلم بعد ولا تقوم أمورهم على التعقّل. بعبارةٍ أخرى، إنّما الثواب والعقاب على قدر العقل، ولم يُعطَ الشيعة بعدُ من العقل ما يمكّنهم من التعامل بهذا المستوى من الأخوّة فيما بينهم. إنّ عصر الظهور هو زمن إتمام الأخلاق والحلم والعمل بمقتضى العقل القدسيّ.
عن زيد الزرّاد أنّه قال للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «نخشى أن لا نكون مؤمنين، قال: وَلِمَ ذَاكَ؟ فقلت: وذلك أنّا لا نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره، ونجد الدينار والدراهم آثر عندنا من أخٍ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال (عليه السلام): «كَلاَّ، إِنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَلَكِنْ لاَ تُكْمِلُونَ إِيمَانَكُمْ حَتَّى يَخْرُجَ قَائِمُنَا؛ فَعِنْدَهَا يَجْمَعُ اللَّهُ أَحْلاَمَكُمْ فَتَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ كَامِلِينَ[136]».
ثامنًا: الطفرة العلميّة الهائلة
تعليم الناس هو واحدٌ من الأهداف التي جاء لأجلها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد أشارت بعض الآيات إلى هذا الهدف؛ مثلًا جاء في الآية:
﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ﴾[137].
بدايةً يتلو الأنبياء كلام الله وآياته على الناس ليتعرّفوا عليها، وبعد أن يستمعوا إلى كلام المرسلين، منهم من يؤمن به ويدخل في زمرة أهل الحقّ، ومنهم من يُنكره ويلتحق بأهل الباطل، ويصل أهل الحقّ في ظلّ تعاليم الأنبياء والمرسلين إلى رشدهم العقليّ والعلميّ. إذًا، المُراد بالعلم هنا ذلك العلم الذي يتحصّل في ظلّ الإيمان والعقل القدسيّ، العلم الذي يقود الإنسان قُدمًا على طريق الحقّ؛ وإلّا فالعلم الذي يمضي بالإنسان على طريق رغباته النفسيّة وشهواته، يُعدّ من أعظم الجهل، وكلّما زاد هذا العلم أكثر، بَعُد الإنسان عن الله أكثر، وكان ضرر هذا العلم أكبر من نفعه. إنّ الضرر المتأتِّي من جَهلة أتباع الباطل لا يُمكن أن يُقاس بالضرر الذي يُمكن أن يقع من عالِمٍ فاسدٍ يستعمل علمه في طريق الباطل.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ﴾[138].
في الواقع، إنّ العالِمَ مَن بَعثَه علمُه على الخوف من الله تعالى وخشيته، وهو الذي كلّما زاد علمه زادت خشيته، مثل هذا العلم يكون قرين النور والبصيرة والحكمة، وسببًا في تمييز الحقّ من الباطل، والعلوم الإنسانيّة من دون هذا العلم اصطلاحاتٌ ليس إلّا.
يقول الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)في تفسير الآية: «يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ[139]».
في هذا الفصل سنُشير بدايةً إلى الجهل الحاصل قبل عصر الظهور، ثمّ نتناول النموّ والتطوّر العلميّ فيه.
1. الجهالة الحديثة قبل عصر الظهور
قبل ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) سيعمّ الجهل الأرض، فتجد أغلب الناس يمضون في إثر رغباتهم الحيوانيّة، فقد وضعوا العقل جانبًا، وحكّموا الشهوات واللهث خلف اللّذّات الماديّة في أنفسهم وفي المجتمع؛ ذلك المجتمع الذي تحوّل كلّ شيءٍ فيه –حتّى العلوم البشريّة– إلى ما يخدم الرفاهيّة الماديّة للإنسان، ولا محلّ فيه للحقّ والعدل ولا أثر لهما، ذلك المجتمع الذي لا معنى فيه للحديث عن السير نحو الله تعالى. إنْ كان الناس في الجاهليّة يقومون -على إثر الجهل- بالأعمال القبيحة كسفك الدماء والاعتداء والإغارة على الآخرين ووأد البنات، فإنّهم في جاهليّة آخر الزمان يرتكبون أنواع الفساد والقتل والغارات والاعتداء والطغيان على نطاقٍ أوسع، مُستعينين في سبيل ذلك بالثروات والسلطة والعلم. وكلّما تقدّم العالَم أكثر، كان الشعور أكبر بالحاجة إلى مُنجٍ إلهيّ، يأتي بالخلاص للعالم من الهلاك التامّ.
نُشير في ما يأتي إلى نماذج من آثار الجهالة الحديثة من خلال روايات أهل البيت (عليهم السلام):
الحديث الأول: مسعدة بن صدقة عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ؟ فَقِيلَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟ قال: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ،كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟»[140].
الحديث الثاني: في روايةٍ عن محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّه سأله: متى يخرج قائمكم؟ فقال:
«إِذَا تَشَبَّهَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، وَاكْتَفَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَرَكِبَ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ وَرُدَّتْ شَهَادَاتُ الْعَدْلِ، وَاسْتَخَفَّ النَّاسُ بِالدِّمَاءِ وَارْتِكَابِ الزِّنَاءِ وَأَكْلِ الرِّبَا، وَاُتُّقِيَ الْأَشْرَارُ مَخَافَةَ أَلْسِنَتِهِمْ»[141].
2. التطوّر العلميّ في عصر الدولة الكريمة
في دولة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) الكريمة، يجعل الله بحجّته العقل حاكمًا على القدرة والشهوة وسائر الصفات النفسيّة الأخرى، فتُوضع الأمور في مواضعها في ظلّ حكمه، ويجد العلم معناه الواقعيّ، العلم الذي به تكامُل الإنسان، العلم الذي يهيّئ له الأرضيّة للتحرك نحو الله عزّ وجلّ.
ذكرت الروايات -بعباراتٍ متعدّدة- التحوّل العلميّ الكبير الذي سيحصل في عصر الظهور؛ في ما يأتي نستعرض بعض مظاهر هذا التحوّل:
أ. امتلاء الأرض بالعلم
في عصر الظهور، بعد أن امتلأت الأرض ظلمةً وظلمًا وجهلًا، ستمتلئ على أساس العقل ومحوريـّته نورًا وعدلًا وعلمًا؛ وفي هذا السياق نستعرض عددًا من الأحاديث:
الحديث الأول: عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في كلامٍ له يَصف فيه الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، قال: «تَاسِعُهُمُ الْقَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ نُورًا بَعْدَ ظُلْمَتِهَا، وَعَدْلًا بَعْدَ جَوْرِهَا، وَعِلْمًا بَعْدَ جَهْلِهَا»[142].
الحديث الثاني: عن زيد بن وهب عن الإمام المجتبى(عليه السلام) في كلامٍ له حول المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، قال: «حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ رَجَلًا فِي آخِرِ الْزَمَانِ وَكَلَبٍ مِنَ الدَّهْرِ وَجَهْلٍ مِنَ النَّاسِ، يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ بِمَلاَئِكَتِهِ وَيَعْصِمُ أَنْصَارَهُ وَيَنْصُرُهُ بِآيَاتِهِ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَدِينُوا طَوْعًا وَكَرْهًا، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا وَنُورًا وَبُرْهَانًا»[143].
ب. ارتقاء المعرفة الدينيّة حتّى لا يخلو بيتٌ من مجتهدٍ
في الدولة الكريمة، يدخل العلم البيوت كما يدخلها الحرّ والبرد، حتّى إنّ ربّة البيت تقضي في بيتها على أساس القرآن الكريم وسنّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، نُضيء على هذه المسألة أكثر من خلال الرواية الآتية:
عن حمران بن أَعين عن الإمام الباقر(عليه السلام)أنّه قال: «كَأَنَّنِي بِدِينِكُمْ هَذَا لاَ يَزَالُ مُتَخَضْخِضًا يَفْحَصُ بِدَمِهِ، ثُمَّ لاَ يَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا رَجُلٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ،فَيُعْطِيكُمْ فِي السَّنَةِ عَطَاءَيْنِ وَيَرْزُقُكُمْ فِي الشَّهْرِ رِزْقَيْنِ، وَتُؤْتَوْنَ الْحِكْمَةَ فِي زَمَانِهِ حَتَّى إنّ المَرْأَةَ لَتَقْضِي فِي بَيْتِهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)»[144].
ج. توسّع العلوم بين الناس أضعافًا مضاعفة
في الدولة الكريمة، يتضاعف العلم ضعفين كما جاء في إحدى الروايات، وفي حديثٍ آخر يتضاعف العلم فيها ثلاثة عشر ضعفًا.
الحديث الأول: عن يعقوب بن جعفر يقول:
«كنت عند أبي إبراهيم [الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)] عندما أتاه رجلٌ من أهل نجران اليمن من الرهبان ومعه راهبة، فسأل الإمام (عليه السلام)جملةً من الأسئلة أحدها: أخبِرني عن ثمانية أحرفٍ نزلت، فتبيَّن في الأرض منها أربعة وبقي في الهواء منها أربعة، على مَن نزلت تلك الأربعة التي في الهواء ومن يفسّرها؟ قال: «ذَاكَ قَائِمُنَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيُفَسِّرُهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ عَلَى الصِّدِّيقِينَ وَالرُّسُلِ وَالْمُهْتَدِينَ»، ثمّ قال الراهب: فأخبرني عن الاثنين من تلك الأربعة الأحرف التي في الأرض ما هي؟ قال: «أُخْبِرُكَ بِالْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا، أَمَّا أَوَّلُهُنَّ فَلاَ إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ بَاقِيًا، وَالثَّانِيَةُ محمّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُخْلَصًا، وَالثَّالِثَةُ نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَالرَّابِعَةُ شِيعَتُنَا مِنَّا وَنَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَرَسُولُ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبٍ»[145].
الحديث الثاني: عن أَبان[146] عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) قال:
«اَلْعِلْمُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ جُزْءَانِ، فَلَمْ يَعْرِفِ اَلنَّاسُ حَتَّى الْيَوْمِ غَيْرَ الْجُزْءَيْنِ، فَإِذَا قَامَ الْقَائِمُ أَخْرَجَ الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ جُزْءًا فَبَثَّهَا فِي النَّاسِ وَضَمَّ إِلَيْهَا الْجُزْءَيْنِ حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا»[147].
ولو أنّ الناس وحّدوا الله تعالى وعبدوه واتّبعوا النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام)، لسلكوا الطريق القويم في الحياة، ولَوصَلوا إلى النموّ والتطوّر العلميّ والسعادة البشريّة. في عصر الظهور، تكمل عقول الناس ويصلوا بذلك إلى علومٍ لم تكن لتنالها يد البشر، كطيّ الأرض وبقيّة العلوم التي عند أهل البيت (عليهم السلام)، التي سيحظى الناس بمساحةٍ أكبر منها في ذلك العصر.
نكتة
ما الذي ستؤول إليه الإنجازات البشريّة في عصر الظهور؟ هل ستبقى على حالها وتتوسّع أكثر؟ أم أنّها ستُرمى جانبًا كالجدار المائل، ويسلك التطوّر والتقدّم مسلكًا آخر مختلفًا؟ يوجد نظريّاتٌ متعدّدةٌ في هذا الخصوص، نستعرضها في ما يأتي:
النظريّة الأولى: بحسب هذه النظريّة يصبح لأفعال المؤمنين جنبةٌ ملكوتيّةٌ، بحيث يتمكّن النّاس من خلال قدرة الإيمان على القيام بكثيرٍ من الأمور كطيّ الأرض ومشاهدة أحدهم للآخر والتحدّث معه ولو كان بينهما بُعد المشرق والمغرب، في الحقيقة يتجسّد بذلك مثالٌ بسيطٌ للجنّة في الأرض.
يقول أحد العلماء الذين يؤيّدون هذه النظريّة: «عصر الظهور هو عصر تجسّد الإيمان والعبادة من مختلف الجوانب، ونتيجة لذلك ستتجلّى أيضًا مختلف الجوانب للرحمة والعلم والهداية وكلّ الأمور التي عُدّت من آثار الولاية»[148].
ويقول في مكانٍ آخر:
«إنّ أفعال المؤمنين أفعالٌ ملكوتيّة، وحتّى لذّاتهم ملكوتيّة[149]؛ وعلّة ذلك أنّ اللّذّة تتبع الصفات، فإن صارت الصفات حميدةً تصبح اللّذّة عبادةً وولاءً من الوليّ، أمّا الصفات الرذيلة فإنّما هي مبدأ اللّذّات الحيوانيّة؛ فالحسود يلتذّ بحسادته، والبخيل ببخله، والجواد بجوده؛ إذًا، الصفات هي منشأ التفاوت والاختلاف. ثمّ إنّ العالَم -في عصر الظهور وفي الجنّة- يبلغ نقطةً تنزل معها كلّ الخيرات والبركات على النّاس؛ لأنّه لن يصدر منهم فعلٌ شيطانيّ ولا لذّةٌ حيوانيّة، وهذا معنى أنّ العالَم يضع خيراته طوعًا بين يدي جنود الله (عباد الله) مسارعًا بها نحوهم»[150].
كذلك يقول في موضعٍ ثالثٍ: «سيسخّر الله تعالى للإنسان مستوياتٍ أعمق من استثمار العلم والمعرفة، كما حصل حتّى الآن في هذه الحضارة الماديّة؛ فترى أنّه حينما استطاع الإنسان التعامل مع الطاقة الموجودة داخل النواة، تمكّن من تسخير هذه الطاقة للقيام بالكثير من الأمور التي لم تكن في متناوله؛ لكنّنا هنا نتحدّث عن مستوياتٍ أخفى وأعمق تصبح في متناول المؤمنين، يَصِلون إليها من خلال امتلاكهم الأسماء والعلوم الباطنيّة. ثمّ إنّ امتلاك هذه الأسماء لن يكون محصورًا بواحدٍ أو اثنين من المؤمنين، برأيي في عصر الظهور ستكون هذه الأمور ممّا يتنعّم به عموم المؤمنين، في ذلك العصر ستكتمل العقول، وتتّسع دائرة العلوم الباطنيّة والشهود والمكاشفة، وباعتقادي ستكون في متناول جميع شيعة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)»[151].
النظريّة الثانية: تتمّ الاستفادة من التقدّم البشريّ الحاصل، مع معالجة مواطن القصور وتكميل ما نقص، وزيادة مساحة الاستفادة ممّا يُنتفع به من هذا التقدّم الحاصل وليس فيه ضرر؛ أي إنّ التطوّر الكبير الذي يقوم به الإنسان في مجال الاتّصالات والعلوم الإنسانيّة، لن يكون وليد الإعجاز والقدرة الإيمانيّة؛ وهذا ما تذكره بعض الروايات في هذا الخصوص. يقول بعض المحقّقين:
«يجدر القول إنّ التطوّر العظيم الذي يحصل في عصر الظهور، هو نتاج التكامل العلميّ لذلك العصر لا الإعجاز؛ ذلك لأنّ حياة البشر في هذا العالم يجب أن تكون وفق السنن الطبيعيّة، لا الإعجاز والكرامات[152] التي تشكّل أمرًا استثنائيًّا في الموارد الضروريّة والاستثنائيّة، والتي تأتي لتُثبت صدق دعوى النبوّة أو الإمامة»[153].
يُمكن القول إنّ نهج الإسلام لا يقوم على إلغاء العلوم السابقة أو تقويضها بالكامل؛ فالإسلام يُمضي كلّ علمٍ مفيدٍ وحسنٍ ويستثمره، ويضع ما ضرّ منه جانبًا، والكلام نفسه ينطبق على العلوم البشريّة. في الواقع إنّ تلك العلوم -مهما بلغت- لا تتعدّى كونها زاويةً متناهية الصغر من العلم يقوم البشر باستثمارها. أمّا في عصر الظهور، وفي ظلّ الإيمان وحركة الناس في طريق الحياة القويم، سيُفتح كثيرٌ من الأبواب في وجه بني آدم لا يُمكن لنا اليوم حتّى تصوّرها؛ وهو ما أشارت إليه إحدى الروايات عن تضاعف العلوم أكثر من ثلاثة عشر ضعفًا.
تاسعًا: إقامة العدل العالميّ
إنّ العدل والصدق سُنّةٌ إلهيّة، فلا يظلم الله أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة، والظلم الذي نشاهده إنّما هو من الناس أنفسهم؛ جاء في القرآن الكريم: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقا وَعَدۡلاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ﴾[154]، وجاء في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡٔا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾[155].
إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أهل العدل ويبغض الظالمين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾[156]، وقال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[157].
إنّ إقامة العدل مشيئة الله في أرضه، من هنا شكّلت إقامة العدل بين النّاس أحد الأدوار المهمّة للأنبياء وأوصيائهم، فضلًا عن سلوكهم العادل وحكمهم بالعدل بينهم؛ يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّة رَّسُولۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمۡ قُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾[158].
إنّ نهج الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو نفسه نهج النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد أَمَر الله عزّ وجلّ نبيّ الرحمة في قرآنه بالعدل، وكان (صلى الله عليه وآله) أوّل الناس عملًا بما أمر الله، ومن قبل أن يقوم بتبليغه للناس؛ جاء في القرآن الكريم: ﴿قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾[159]، وجاء أيضًا: ﴿وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ﴾[160].
كان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معروفًا بالأمانة والعدل مِن قبل أن يُبعث، ولمّا بُعث قضى (صلى الله عليه وآله) مع من تَبعه على العادات والتقاليد الجاهليّة الظالمة كعبادة الأصنام، وسفك الدماء، والإغارة، والفساد، والابتذال، وقتل الأولاد، وسار بين الناس بالعدل والإحسان.
عن محمّد بن مُسلم أنّه سأل الإمام الباقر(عليه السلام)عن القائم (عجل الله تعالى فرجه) إذا قام بأيّ سيرةٍ يسير في الناس؟ فقال (عليه السلام): «بِسِيرَة مَا سَارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى يُظْهِرَ الْإِسْلاَمَ»، قلت: وما كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: «أَبْطَلَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِالْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ (عجل الله تعالى فرجه) إِذَا قَامَ يُبْطِلُ مَا كَانَ فِي الْهُدْنَةِ مِمَّا كَانَ فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمُ الْعَدْل»َ.[161]
أ. مظاهر العدالة المهدويّة في الروايات
سيأتي يومٌ تحيا فيه الأرض من جديد، وتَصِل جميع الموجودات إلى كمالاتها، سيأتي يومٌ يَصِل كلّ حقٍّ إلى صاحبه، إنسانًا كان أو غيره.
عن عبد الرحمٰن بن الحجّاج عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)في قوله عزّ وجلّ: ﴿يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ﴾[162]، قال: «لَيْسَ يُحْيِيهَا بِالْقَطْرِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ اللَّهُ رِجَالًا فَيُحْيُونَ الْعَدْلَ؛ فَتُحْيَا الْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ الْعَدْل»ِ.[163]
عند الرجوع إلى كثيرٍ من الروايات التي تناولت مسائل مرتبطة بظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، تطالعنا كلمة العدل. في الواقع يشكّل العدل أبرز العناوين التي ستحقّقها الدولة الكريمة. إنّ الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو الذي سيعطي كلّ صاحب حقٍّ حقّه، وسيقضي وأتباعه على الباطل في جميع أبعاده، هو الذي سيُدخل العدل إلى البيوت كما يَدخلها الحرّ والقرّ؛ فلا يظلم أحدٌ فيها أحدًا، هو الذي سيجعل علاقة الإنسان باللّه وبنفسه وبالآخرين وكذلك بالبيئة من حوله تقوم على العدل والصدق. بالتأكيد لن تكون إقامة العدل بإجبار الناس على ذلك؛ بل سيُقيم -بمشيئة الله تعالى-، حكومةً تجعل النّاس من أهل العدل بإرادتهم ورغبتهم؛ وهذا ما كانت عليه سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، لا سيّما النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ جاء في القرآن الكريم: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾[164].
عبارة ﴿لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ تُشير إلى أنّ الأنبياء (عليهم السلام) سَعَوا -من خلال إزالة صدأ الشرك وغشاوته- لإحياء الفطرة التي تدعو إلى العدل. نستعرض في هذا الجزء من الكتاب بعض مظاهر العدالة المهدويّة.
1. امتلاء الأرض بالعدل بعد امتلائها ظلمًا
أحد مظاهر العدالة المهدويّة الذي ذكرته كثيرٌ من الأحاديث هو امتلاء الأرض بالعدل؛ ونُشير هنا إلى حديثين:
الحديث الأول: عن الإمام الهادي(عليه السلام)أنّه قال في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه):
«وَالْجُمُعَةُ ابْنُ ابْنِي وَإِلَيْهِ تُجْمَعُ عِصَابَةُ الحقّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلَأُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا»[165].
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدريّ عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال:
«لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَجْلَى، أَقْنَى، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ قَبْلَهُ ظُلْمًا»[166].
2. إقامة العدل بين النّاس
بالإضافة إلى عدل الحكّام في عصر الظهور، فإنّ تعامل الناس فيما بينهم يقوم أيضًا على العدل؛ فلا يظلم بعضهم بعضًا.
في روايةٍ عن الحسين بن خالد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)حول العدالة المهدويّة قال:
«فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا، وَوَضَعَ مِيزَانَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فَلاَ يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَدًا»[167].
3. تقسيم المال بين الناس بالسويّة واستغناؤهم بذلك
إنّ المطر ينزل من السماء على الأرض بكمّيّاتٍ محدّدة، فإنْ توزّع المطر على مختلف الأماكن بالكمّيّات الطبيعيّة اخضرّت الأرض وازدهرت، أمّا إنْ هطل في مكانٍ واحدٍ بكمّيّات كبيرةٍ تحوّل إلى سيلٍ مدمّرٍ لذلك المكان، وحرم الأماكن الأخرى من بركاته؛ فتُبتلى بالجفاف والقحط. كذلك هي الثروة في المجتمع؛ إنْ اجتمعت في أيدي أشخاصٍ معيّنين أدّى ذلك إلى الفساد والطغيان، ونتج عنه أعدادٌ كبيرةٌ من الفقراء مع ما يلزم من ذلك من فوضىً ومشاكل جمّة. أمّا إِنْ وُزّعت بالشكل الصحيح في المجتمع، أدّى ذلك إلى استغناء النّاس جميعهم وزوال كثيرٍ من الجرائم؛ في روايةٍ عن عبد الله بن أبي يعفور عن الإمام الصادق(عليه السلام)قال: «إنّ النَّاسَ يَسْتَغْنُونَ إِذَا عُدِلَ بَيْنَهُمْ، وَتُنْزِلُ السَّمَاءُ رِزْقَهَا، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى»[168].
يشكّل تقسيم الأموال بين النّاس أحد معالم العدل عند الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، فهو لا يعمد إلى تخصيص الأموال بين حاشيته وخواصّه كما يفعل أكثر الحكّام، بل يقسّمها بين الناس بالتساوي؛ فيستغنون بذلك جميعًا ويعيشون الرفاه.
عن جابر بن يزيد عن الإمام محمّد الباقر(عليه السلام)قال: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَعْدِلُ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ الْبَرِّ مِنْهُمْ وَالْفَاجِرِ... وَتُجْمَعُ إِلَيْهِ أَمْوَالُ الدُّنْيَا كُلُّهَا مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَظَهْرِهَا؛ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا قَطَعْتُمُ فِيهِ الْأَرْحَامَ وَسَفَكْتُمْ فِيهِ الدِّمَاءَ، وَرَكِبْتُمْ فِيهِ مَحَارِمَ اللَّهِ، وَيُعْطِي شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَه»ُ[169].
4. إقامة أحكام الله وحدوده
معلمٌ آخر من معالم العدالة، بل أهمّها هو إصلاح العلاقة بين العباد وخالقهم؛ فيحصل بذلك النّاس على النِعَم الإلهيّة بأجمعها، وأحد الأدوار المهمّة التي يقوم بها الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) هو إحياء الأحكام وإقامة الحدود.
عن عمّار الساباطيّ عن الإمام الصادق(عليه السلام)يصف الدولة المهدويّة الكريمة والعدل فيها قال:
«أَمَا تُحِبُّونَ أن يُظْهِرَ اللَّهُ تَعَالَى الحقّ وَالْعَدْلَ فِي الْبِلاَدِ، وَيَجْمَعَ اللَّهُ الْكَلِمَةَ وَيُؤَلِّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلاٰ يَعْصُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَرْضِهِ، وَتُقَامُ حُدُودُهُ فِي خَلْقِهِ وَيَرُدُّ اللَّهُ الحقّ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَظْهَرَ حَتَّى لاَ يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الحقّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ»[170].
ب. الأَمْن والسلام في الأرض
الأَمْن من «أمن»، ويعني طمأنينة النفس وزوال الخوف الذي هو ضدّه كما القلق. ومن صفات الله عزّ وجلّ «المؤمن»؛ أي إنّ كلّ من كان مع الله وامتثل أوامره كان في أمان الله عزّ وجلّ.
جاء في القرآن الكريم: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾[171].
في عصر الظهور وفي ظلّ حكومة الصالحين وتَديّن الناس، يعيشون جميعًا في أمان الله تعالى، وتُقتلع جميع جذور القلق والتوجّس من المجتمع؛ نُشير ها هنا إلى آياتٍ تناولت الأمن في عصر الظهور.
1. الآية الأولى: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔاۚ﴾[172].
تفسير الآية:
بعد وَعْد الله الصالحين بالاستخلاف في الأرض، وتردُّد نداء «الله أكبر» في كلّ بقاع الأرض، وَعَد الله المؤمنين بالأمْن؛ الأمْن الذي يهيّئ الأرضيّة للتكامل ونيل الإنسان سعادة الدنيا والآخرة من خلال التدرّج في عبوديّة الله تعالى.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذَكَر لجندب بن جنادة أوصياءه وعرّفهم له، فذَكَر المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡناۚ﴾، فسأل جندب: ما خوفهم؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «يَا جُنْدَبُ، فِي زَمَنِ كلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُلْطَانٌ يَعْتَرِيهِ وَيُؤْذِيهِ، فَإِذَا عجّل اللَّهُ خُرُوجَ قَائِمِنَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا»[173].
الحديث الثاني: عن سُدير الصيرفيّ أنّه دخل والمُفضّل بن عمر وأبو بصير وأَبان بن تغلب على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وفي حديثٍ طويلٍ يذكر فيه شَبَه الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) بالأنبياء (عليهم السلام) قال:
«كَذَلِكَ الْقَائِمُ (عجل الله تعالى فرجه) فَإِنَّهُ تَمْتَدُّ غَيْبَتُهُ لِيَصْرَحَ الحقّ عَنْ مَحْضِهِ، وَيَصْفُوَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كلّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ إِذَا أَحَسُّوا بِالاسْتِخْلاَفِ وَالتَّمْكِينِ وَالْأَمْنِ الْمُنْتَشِرِ فِي عَهْدِ الْقَائِمِ (عجل الله تعالى فرجه)، قال المفضّل: فقلت: يا ابن رسول الله، فإنّ النواصب تزعم أنّ هذه الآية (الآية 55 من سورة النور) أُنزِلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فقال: لاَ هَدَى اللَّهُ قُلُوبَ النَّاصِبَةِ، مَتَى كَانَ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُتَمَكِّنًا بِانْتِشَارِ الْأَمْنِ فِي الْأُمَّةِ، وَذَهَابِ الْخَوْفِ مِنْ قُلُوبِهَا، وَارْتِفَاعِ الشَّكِّ مِنْ صُدُورِهَا فِي عَهْدِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ أَوْ فِي عَهْدِ عليّ (عليه السلام)، مَعَ ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِتَنِ الَّتِي كَانَتْ تَثُورُ فِي أَيَّامِهِمْ وَالْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ الَّتِي كَانَتْ تَشُبُّ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَهُمْ»[174].
2. الآية الثانية: ﴿فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰت مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾[175].
تفسير الآية:
في المسجد الحرام آياتٌ كمقام إبراهيم (عليه السلام)، ذلك النبيّ العظيم الذي سأل الله تعالى بعد بناء الكعبة أن يجعل «هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا»[176]، وقد جعله الله عزّ وجلّ آمنًا[177]، وأَمْن مكّة من الناحية الشرعيّة واضحٌ؛ فكلّ من دخلها كان آمنًا، وحتّى لو دخل المسجد الحرام مجرمٌ لا يُؤخذ منه حتّى يخرج، نعم يُمكن التضييق عليه حتّى يضطرّ للخروج من الحرم[178]. أمّا من الناحية التكوينيّة، وإنْ كان الداخل إلى الحرم يحظى بالأمن في معظم الأوقات؛ولكن ليس في جميعها، فهذا الأمن لا يكون متوفّرًا في بعض الأحيان[179]، نعم إذا اعتبرنا المسألة نسبيّةً، فمدينة مكّة أكثر أمْنًا بالنسبة إلى البلاد المحيطة بها، بل إلى البلاد عمومًا.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
يُمكن النظر إلى مقولة الأمْن بنحوٍ أشمل، فالإنسان المؤمن الذي يعتقد بوجود عالمٍ آخر، يرى أنّ أصل وأساس الأمْن هو الأمْن من عذاب القبر، حتّى لو كان ثمن ذلك الوقوع في الخطر الدنيويّ، بل تقديم روحه وماله في سبيل ذلك. وفي منظور أهل البيت (عليهم السلام)، الأصل في الأمْن هو الأمْن من غضب الله تعالى وعذابه، وفي ظلّ هذا الأمْن يتحقّق الأمْن الدنيويّ، وإنّما يتحقّق هذا الأمْن بعبوديّة الله واتّباع رسله وحججه. بعبارةٍ أخرى، وإنْ كان الإنسان بدخوله الحرم سيحظى إلى حدٍّ معيّنٍ بالأمان من بلاءات الدنيا؛ إلّا أنّه باستماعه إلى نداء التوحيد في ذلك المكان المقدّس، ودخوله في زمرة أتباع حجج الله سيأمن عذاب ونار جهنّم، وسيحصل على الأمن الحقيقيّ من خلال الهدوء والاطمئنان الداخليّ.
لا بدّ للناس في كلّ زمانٍ من اتّباع الحجّة في زمانهم، ليسيروا في طريق الحقّ ويحظَوا بالأمْن الإلهيّ. بناءً على هذا، كلّ من يدخل في زمرة أتباع الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في عصر الظهور سيكون آمنًا في الدنيا والآخرة. والنكتة الأُولى التي يُمكن الإشارة إليها هنا هي أنّ دائرة الأمْن والاستقرار في عصر الظهور ستكون أوسع من باقي العصور؛ وذلك لأنّ حكم الأرض في عصر الظهور سيكون بيد الصالحين، كذلك سيكون توجّه الناس إلى عبادة الله الواحد أكبر؛ نذكر بعض الروايات في هذا المجال:
الحديث الأول: عن عبد الخالق الصيقل أنّه سأل الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)عن قوله تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾، فقال: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَمَّ هَذَا الْبَيْتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ عزّ وجلّ بِهِ، وَعَرَفَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ حَقَّ مَعْرِفَتِنَا، كَانَ آمِنًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[180].
الحديث الثاني: عن عليّ بن عبد العزيز أنّه سأل الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)عن قوله تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾، وقد يدخله المرجئ والقدريّ والحروريّ والزنديق الذي لا يؤمن باللّه؟ فقال (عليه السلام): «لاَ، وَلاَ كَرَامَةَ». قلت: فمن، جُعلت فداك؟ قال: «مَنْ دَخَلَهُ وَهُوَ عَارِفٌ بِحَقِّنَا كَمَا هُوَ عَارِفٌ لَهُ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَكُفِيَ هَمَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[181].
الحديث الثالث: في حديثٍ طويلٍ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)يمتحن فيه أبا حنيفة بعد ادّعائه علم كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا حَنِيفَةَ،أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾، أَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْضِ،قال: الكعبةُ، قال: أَفَتَعْلَمُ أَنَّ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ حِينَ وَضَعَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْكَعْبَةِ فَقَتَلَهُ كَانَ آمِنًا فِيهَا؟ فلم يحر أبو حنيفة جوابًا، يقول الراوي: بعد خروج أبي حنيفة سأل أبو بكر الحضرميّ الإمام (عليه السلام)الجواب في المسألة فقال(عليه السلام): وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ﴾، فَمَنْ بَايَعَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ وَمَسَحَ عَلَى يَدِهِ وَدَخَلَ فِي عَقْدِ أَصْحَابِهِ كَانَ آمِنًا»[182].
3. الآية الثالثة: ﴿وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا قُرى ظَٰهِرَة وَقَدَّرۡنَا فِيهَا ٱلسَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾[183].
تفسير الآية:
تتناول هذه الآية والآيات التي سبقَتها قصّة قوم سبأ الذين أَنعم الله تعالى عليهم بنِعمٍ وافرة، من مناطق عامرةٍ ومساحاتٍ خضراء ورزقٍ وفيرٍ وأَمْنٍ تامٍّ، لكنّ هذه النِعم بقيت فيهم ما قاموا على شكر الله والعبوديّة له. بعبارةٍ أوضح، نتيجة شكرهم لله وعبوديّتهم له أَنْعم تعالى عليهم بتلك النِعم، ولـمّا جحدوا النعمة وابتعدوا عن حجج الله، سلبهم الله تلك النِعم بسيل العرم؛ فشتّت جمعهم فلم يبقَ من بلادهم إلّا اسمها.
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام):
جاء في القرآن الكريم بعد ذكر قصّة قوم سبأ: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور﴾، يتّضح من هذه الآية أنّ القرآن الكريم لم يكن في معرض ذِكر قصص الماضين فحسب، بل كان الغرض من ذِكرها الاتّعاظ وأخذ العبر. وبعبارةٍ أوضح، كلّ جماعةٍ يعبدون الله ويتبعون رسله ستشملهم النِعم الإلهيّة، التي من أهمّها الأَمْن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، أمّا إنْ لم يكونوا من الشاكرين، وتخلَّوا عن عبادة الله كقوم سبأ، سيتشتّت شملهم ويتبدّل أَمْنهم خوفًا وبؤسًا، ولن يكونوا في مأمنٍ من عذاب الله.
من هنا، يُمكن القول إنّ الأصل في الأَمْن هو الأَمْن من عذاب الله في الدنيا والآخرة الذي يتأتّى من اتّباع الرسل، والذي سيتحقّق على النحو الأتمّ في عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ هذا العصر الذي سيحظى فيه الناس جميعًا بأنواع النِعم الإلهيّة، ويَحيَون بأَمْنٍ واطمئنانٍ مع إمامهم بعد أن أقاموا دين الله في كلّ أرجاء العالم ونالوا رضى الله عزّ وجل؛ الروايات الآتية تتحدّث عن هذا الأمر:
الحديث الأول: يقول زيد الشحّام: «دخل قتادة بن دعامة [184]على أبي جعفر [الباقر]، فقال (عليه السلام): يَا قَتَادَةُ، أَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر (عليه السلام): بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، قال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): بِعِلْمٍ تُفَسِّرُهُ أَمْ بِجَهْلٍ؟ قال: لا، بعلم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فَإِنْ كُنْتَ تُفَسِّرُهُ بِعِلْمٍ فَأَنْتَ أَنْتَ وَأَنَا أَسْأَلُكَ، قال قتادة: سَلْ، قال: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَبَإٍ: ﴿وَقَدَّرۡنَا فِيهَا ٱلسَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾، فقال: ذاك من خرج من بيته بزادٍ حلالٍ وراحلةٍ حلالٍ وكرىً حلالٍ يريد هذا البيت، كان آمنًا حتّى يرجع إلى أهله، فقال أبو جعفر (عليه السلام): نَشَدْتُكَ اللَّهَ يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ حَلاَلٍ وَكِرًى حَلاَلٍ يُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ، فَيُقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ فَتُذْهَبُ نَفَقَتُهُ وَيُضْرَبُ مَعَ ذَلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اجْتِيَاحُهُ؟ قال قتادة: اللّهمّ نعم، فقال أبو جعفر (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إن كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَهُ مِنَ الرِّجَالِ فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرًى حَلاَلٍ يَرُومُ هَذَا الْبَيْتَ عَارِفًا بِحَقِّنَا يَهْوِينَا قَلْبُهُ كَمَا قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَٱجۡعَلۡ أَفِۡٔدَة مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ﴾[185]، وَلَمْ يَعْنِ الْبَيْتَ فَيَقُولَ: إِلَيْهِ، فَنَحْنُ -وَاللَّهِ- دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) الَّتِي مَنْ هَوَانَا قَلْبُهُ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ وَإِلاَّ فَلاَ. يَا قَتَادَةُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ آمِنًا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال قتادة: لا جرَم والله لا فسّرتها إلّا هكذا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِه»ِ[186].
الحديث الثاني: عن عبد الله بن سنان: «دخل الحسن البصريّ على الإمام الصادق(عليه السلام)فقال له الإمام (عليه السلام): يَا أَخَا أَهْلِ الْبَصْرَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ فَسَّرْتَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَا أُنْزِلَتْ، فَإِنْ كُنْتَ فَعَلْتَ فَقَدْ هَلَكْتَ وَاسْتَهْلَكْتَ،قال: وما هي، جُعلت فداك؟ قال: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا قُرى ظَٰهِرَة وَقَدَّرۡنَا فِيهَا ٱلسَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾، وَيْحَكَ، كَيْفَ يَجْعَلُ اللَّهُ لِقَوْمٍ أَمَانًا وَمَتَاعُهُمْ يُسْرَقُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا أُخِذَ عَبْدًا، وَقُتِلَ، وَفَاتَتْ نَفْسُهُ، ثمّ مكث مليًّا، ثمّ أومأ بيده إلى صدره وقال: نَحْنُ الْقُرَى الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، قال: جُعلت فداك، أَوَجَدت هذا في كتاب الله؛ إنّ القُرى رجال؟ قال: نَعَمْ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابا شَدِيدا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابا نُّكۡرا﴾[187]، فَمَنِ الْعَاتِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْحِيطَانُ، أَمِ الْبُيُوتُ، أَمِ الرِّجَالُ؟ قال: الرجال، ثمّ قال: جُعلتفداك، زِدني، قال: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ (عليه السلام): ﴿وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ﴾[188]، لِمَنْ أَمَرُوهُ أن يَسْأَلَ، عَنِ الْقَرْيَةِ وَالْعِيرِ، أَمِ الرِّجَالِ؟ فقال: جُعلت فداك، فأَخبِرني عن القُرى الظاهرة، قال: هُمْ شِيعَتُنَا- يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ-»[189].
الحديث الثالث: يقول الراوي في حديثٍ طويلٍ إنّ أبا حنيفة وأصحابه حضروا يومًا عند الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فقال له الإمام (عليه السلام): «أَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَبِمَا تُفْتِيهِمْ؟ قال: بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، قال: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، تَعْرِفُ كِتَابَ اللَّهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قال: نَعَمْ، قال: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، لَقَدِ ادَّعَيْتَ عِلْمًا، وَيْلَكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَيْلَكَ وَلاَ هُوَ إلَّا عِنْدَ الْخَاصِّ مِنْ ذُرِّيَّةِ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله)، مَا وَرَّثَكَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ حَرْفًا، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ وَلَسْتَ كَمَا تَقُولُ فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾، أَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْضِ؟ قال: أَحْسَبُهُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِلَى أَصْحَابِهِ فقال: تَعْلَمُونَ أنّ النَّاسَ يُقْطَعُ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَتُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ يُؤْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيُقْتَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قال: فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ،ثمّ سأل أبو بكر الحضرميّ الإمام (عليه السلام)عن جواب المسألة في قوله تعالى: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾، فقال (عليه السلام): مَعَ قَائِمِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»[190]؛ أي إنْ كنت في زمرة أتباع قائم أهل البيت (عجل الله تعالى فرجه)، سواءٌ في زمن الغيبة أو في عصر الظهور، كنت آمنًا من غضب الله وكنت في أَمْنٍ وسلامٍ في الدنيا. بالتأكيد التجلّي الكامل للأَمْن والسلام سيتحقّق في الدولة الكريمة للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، فيستفيد منه على النحو الأتمّ كلّ من كان معه ودخل في زمرة أتباعه.
ج. إعمار الأرض ووفرة النعم
مِن معالم عصر الظهور إعمار البلاد، ووفرة النعم السماويّة، وإخراج الأرض بركاتها وكنوزها، فيحيا جميع الناس في رفاهٍ ويستغنون، فلا تجد شخصًا محتاجًا تتصدّق عليه. وهذا الإعمار للأرض ووفرة النعم في العالَم، هو مشيئة الرحمٰن التي بشّر بها أنبياء الله (عليهم السلام) أقوامهم.
جاء في القرآن الكريم على لسان النبيّ نوح (عليه السلام): ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰل وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰت وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرا﴾[191].
كما جاء على لسان النبيّ هود (عليه السلام):
﴿وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ﴾[192].
والمثال العمليّ لذلك نجده في قوم النبيّ يونس (عليه السلام)، فعندما يئس(عليه السلام)من قومه، دعا عليهم فتوعّدهم الله تعالى بالعذاب، لكنّ النبيّ يونس(عليه السلام)خرج من بينهم دون انتظار الإذن الإلهيّ؛ فابُتلي بالحوت. ولمّا رأى قومه علامات نزول العذاب توجّهوا إلى الله وتابوا إليه، وقد قبل الله توبتهم؛ فتمتعوا ببركات الحياة الدنيا حينًا من الزمن؛ جاء في القرآن الكريم:
﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِين﴾[193].
إذًا، لو كان أهل الأرض أهلَ عبوديّةٍ لله، ومُمتثلين لأوامره تعالى؛ لابتعد عنهم البلاء، ولتمتّعوا ببركات ونِعَم السماء والأرض؛ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[194].
ولكن، أيُّ زمانٍ هو ذاك الذي يصبح فيه العالم كلّه موحِّدًا، عابدًا لله تعالى حتّى تُفتح على العباد البركات والنِعَم الإلهيّة من السماوات والأرض؟
باعتقاد المسلمين إنّ الزمان الذي لا يُعبد فيه إلّا الله تعالى، ويصبح جميع الناس فيه من المتّقين، هو زمان ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وفيه تُفتح عليهم بركات السماوات والأرض؛ وهذه بعض الأحاديث المرويّة عن أهل البيت(عليهم السلام)في هذا الخصوص:
الحديث الأول: عن أبي سعيد الخدريّ عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه): «فَيَبْعَثُ رَجُلًا يَمْلَأُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، لَا يَدَعُ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرِهَا شَيْئًا إلَّا صَبَّهُ مِدْرَارًا، وَلَا يَدَعُ الْأَرْضُ مِنْ نَبَاتِهَا شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ حَتَّى يَتَمَنَّى الْأَحْيَاءُ الْأَمْوَاتَ»[195].
الحديث الثاني: عن يحيى بن علاء أنّه سمع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)يقول: «يُنْتِجُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلًا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، يَسُوقُ اللَّهُ بِهِ بَرَكَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَتُنْزِلُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَيُخْرِجُ الْأَرْضُ بَذْرَهَا وَتَأْمَنُ وُحُوشُهَا وَسِبَاعُهَا، وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا»[196].
الحديث الثالث: عن الإمام الصادق(عليه السلام)عن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال في وفرة النعم الإلهيّة في عصر الظهور: «وَلَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا لَأَنْزَلَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَلَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا وَلَذَهَبَتِ اَلشَّحْنَاءُ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ وَاصْطَلَحَتِ السِّبَاعُ وَالْبَهَائِمُ، حَتَّى تَمْشِيَ الْمَرْأَةُ بَيْنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ لاَ تَضَعُ قَدَمَيْهَا إلَّا عَلَى النَّبَاتِ وَعَلَى رَأْسِهَا زِينَتُهَا[197] لاَ يُهَيِّجُهَا سَبُعٌ وَلاَ تَخَافُهُ»[198].
كما جاء في روايةٍ أخرى: «يَتّصِلُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ نَخَلًا»[199].
الخاتمة
عندما يظهر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) سيكون القرآن الكريم هو الحاكم في المجتمع؛ يوم تنتهي غربة القرآن الكريم وهجرانه، ويصبح الركيزة التي تقوم عليها الدولة المهدويّة، ويُعمل بما تُرك من تعاليمه وأوامره مهما كان السبب الذي حال دون العمل بها، وبالإضافة إلى تعلّم جميع الناس القرآن الكريم، فهم سيجعلونه الدستور الذي يرسم حياتهم وحياة الآخرين من حولهم، ويمضي الناس على نهجه وفي هديه.
من جهةٍ أخرى، فإنّ القرآن الكريم يدعو الناس إلى العدل والصلاح والتوجّه نحو الله والابتعاد عمّا سواه تعالى، وهو يبيّن الطريق الموصل إلى العاقبة الحسنة في الدنيا فضلًا عن الآخرة. والزمان الذي ستتحقّق فيه أهداف القرآن الكريم على وجه البسيطة آتٍ؛ يوم يأتي الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، يومئذٍ سيُمكّن الله تعالى الصالحين المتّقين في الأرض، يومئذٍ سيعلو نداء التوحيد في العالم أجمع، وترفرف راية العدل فيه كلّه، وتعمّ أهل هذا العالم بركات السماوات والأرض، يومئذٍ ستبدأ خلافة الصالحين في الأرض وتبقى إلى يوم القيامة.
[1] سورة الأنبياء، الآية 105.
[2] سورة الأعراف، الآية 137.
[3] تأويل الآيات الظاهرة، ص326. بحارالأنوار، ج24، ص358.
[4] المصدر نفسه.
[5] مجمع البيان في تفسير القرآن، ج7، ص105.
[6] تفسير القمّيّ، ج2، ص77.
[7] المصدر نفسه، ص297.
[8] ﴿وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا﴾ (سورة النساء، الآية 163؛ سورة الإسراء، الآية 55).
[9] في الكتاب المقدّس –المعروف بالعهد القديم وهو نفسه التوارة اليهوديّة- كتابٌ اسمه «مزامير داوود»، وهو مجموعةٌ من الأدعية والمناجاة التي تُنسب إلى النبيّ داوودِ (عليه السلام)، جاء في أجزاء منها أنّ الصالحين سيرثون الأرض.
[10] ليس مفروغًا من هذا الأمر؛ فواحدٌ من الأقوال أنّ المراد من الذِكر هو اللوح المحفوظ، وقد أشار المصنّف إلى ذلك في القول الثالث، فلا أدري كيف استقام الجمع بين الأمرين؛ إلّا أن يكون للكتب السماويّة مصطلحٌ خاصّ به، أو -فعلاً-، لها مصطلحٌ آخر لم نسمع به من قبل. (المترجم)
[11] جميع الموارد تُناسب كلمة بعد، فلا خصوصيّة في المورد؛ بل ورد أنّ الذكر القرآن وأنّ بعد بمعنى قبل، نعم تُناسب (من بعد) هذا المعنى دون غيره بناءً على القول بأنّ المراد بالزبور كتاب النبيّ داوود (عليه السلام)، مع أنّ المُراجع لبعض كتب التفسير يجد أنّهم لم يذكروا زبور داوود -وحده دون سائر الكتب- كواحدٍ من الاحتمالات لكلمة الزبور. (المترجم)
[12] للاطّلاع أكثر راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج7، ص105. والميزان في تفسير القرآن، ج14، ص329.
[13] عن الإمام الصادق (عليه السلام): "اَلذِّكْرُ عِنْدَ اَللَّهِ، وَاَلزَّبُورُ اَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى دَاوُودَ، وَكُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، ونَحْنُ هُمْ" (الكافي، ج1، ص226، ح6).
[14] التبيان في تفسير القرآن، ج7، ص28.
[15] راجع: التبيان في تفسير القرآن، ج7، ص284. فخر الدين الراضي، مفاتيح الغيب، ج22، ص192.
[16] ﴿وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ﴾ (سورة الزمر، الآية 74). ﴿ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ﴾ (سورة المؤمنون، الآية 11).
[17] تفسير القمّيّ، ج1، ص14.
[18] سورة الأنبياء، الآية 94.
[19] الميزان في تفسير القرآن، ج14، ص330.
[20] سورةالأعراف، الآية 128.
[21] عن ابن عبّاس قال: "لمّا آمنت السحرة اتّبع موسى ستمئة ألفٍ من بني إسرائيل" (جامع البيان في تفسير القرآن، ج9، ص19).
[22] سورة الأعراف، الآية 137.
[23] الكافي، ج1، ص407، ح1. الطوسيّ، الاستبصار، ج3، ص108، ح5. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[24] ابن شهر آشوب المازندرانيّ، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص425. بحار الأنوار، ج50، ص317، ذيل ح14.
[25] يراجع: التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص743. الطبرسيّ، جوامع الجامع، ص153. عبد الله بن عبّاس، تنوير المقباس حاشية على تفسير الدرّ المنثور، ج2، ص119. جامع البيان في تفسير القرآن، ج13، ص42. مفاتيح الغيب، ج14، ص212. الكشّاف، ج2، ص143. رشيد رضا، المنار، ج9، ص80.
[26] سورة الأعراف، الآية 128.
[27] سورة آل عمران، الآية 137.
[28] المفردات في غريب القرآن، ص575.
[29] ذكرت هذا الأمر الآيات الأولى من سورة الحشر.
[30] الكافي، ج5، ص41، ح4.
[31] سورة القصص، الآيتان 5 - 6.
[32] نهج البلاغة، ص506. بحار الأنوار، ج51، ص62، ح66.
[33] الطوسيّ، الغيبة، ص184. بحار الأنوار، ج51، ص54، ح35. جاء ما يشبه هذا الحديث أيضًا في كتاب منتخب الأنوار المضيئة، ص17.
[34] كمال الدين، ج2، ص424، ح1. الطوسيّ، الغيبة، ص234.
[35] الكفعميّ، البلد الأمين، ص158. بحار الأنوار، ج91، ص31.
[36] في روايةٍ عن ثوير بن أبي فاختة قال: قال لي عليّ بن الحسين عليه السلام: "تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اقْرَأْ "طسم" سُورَةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، قَالَ: فَقَرَأْت: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ طسٓمٓ ١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ نَتۡلُواْ عَلَيۡكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرۡعَوۡنَ﴾، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾، فَقَالَ: مَكَانَكَ حَسْبُكَ، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، إِنَّ الْأَبْرَارَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ وَشِيعَتَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى وَشِيعَتِهِ، وَإِنَّ عَدُوَّنَا وَشِيعَتَهُمْ بِمَنْزِلَةِ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ. (فرات بن إبراهيم الكوفيّ، تفسير فرات الكوفيّ، ص314، ح421. الطبرسيّ، مشكاة الأنوار، ص95).
[37] سورة غافر، الآية 51.
[38] "المنّ: ما يوزن به" (المفردات في غريب القرآن، ص777).
[39] سورة آل عمران، الآية 162.
[40] وهي قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ﴾.
[41] سورة الحجّ، الآية 41.
[42] تفسير القمّيّ، ج2، ص87. تفسير الصافي، ج3، ص381. في كنز الدقائق ذكر الرواية باختلافين: الأوّل: "إلى آخر الأئمّة" بدل آخر الآية وهو أَوجَه؛ بل ربّما الصحيح لاحتمال التصحيف، فالآية سياقها واحدٌ ولا يبدو أنّ هناك حاجةً للتأكيد على شمول الكلام لآخرها، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنّ تكرار كلمة الآية هناك قد لا يكون لها وجهٌ وجيهٌ، وكان الأولى ذكر الضمير (إلى آخرها)، والثاني: الشقاة بدل السفه، وهو وإنْ كان لكليهما وجهٌ؛ ولكن الموضوع المتناول والمقام والسياق ربّما يجعلنا من الشقاة أقرب للاستعمال. (المترجم)
[43] الحسينيّ الموسويّ الحائريّ، تسلية المجالس، ج2، ص160. وبحار الأنوار، ج44، ص329.
[44] الكافي، ج4، ص572، ح1.
[45] سورة التوبة، الآية 33؛ سورة الصفّ، الآية 9.
[46] إعلام الورى، ج1، ص89. إثبات الهداة، ج1، ص386، ح456.
[47] تأويل الآيات الظاهرة، ص663. السيّد هاشم البحرانيّ، حلية الأبرار، ج6، ص365، ح10.
[48] كمال الدين، ج1، ص317، ح3. عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج1، ص68، ح36.
[49] تفسير العيّاشيّ، ج2، ص87، ح50. تفسير كنز الدقائق، ج5، ص446.
[50] كمال الدين، ج1، ص330، ح16. إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص197، ح685.
[51] كمال الدين، ج2، ص345، ح31. بحار الأنوار، ج51، ص146، ح15.
[52] الكافي، ج1، ص432، ح91. البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص365، ح10692.
[53] سورة الفتح، الآية 28.
[54] الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج5، ص36. ومجمع البيان في تفسير القرآن، ج5، ص38.
[55] كمال الدين، ج1، ص255، ح4.
[56] سورة النور، الآية 55.
[57] بيّنت الآية الثالثة من سورة المائدة أنّ الإسلام هو الدين المرضيّ لله. وقد نزلت هذه الآية في يوم الغدير في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، يوم يئس الذين كفروا من الإسلام الذي جعل الله له حفظةً كأهل البيت (عليهم السلام): ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾.
[58] الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص240. بحار الأنوار، ج90، ص98، ح1.
[59] الطبرسيّ، غرر الأخبار، ص164. تأويل الآيات الظاهرة، ص365.
[60] سورة التوبة، الآية 32.
[61] ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾ (سورة التوبة، الآية 33).
[62] كفاية الأثر، ص16. بحار الأنوار، ج36، ص285، ح107.
[63] كمال الدين، ج2، ص352، ح51. الطوسيّ، الغيبة، ص167.
[64] سورة الصفّ، الآية 8.
[65] المفردات في غريب القرآن، ص522.
[66] الكافي، ج1، ص432، ح91.البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص365، ح 10692/1.
[67] تفسير القمّيّ، ج2، ص365. البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص367، ح10701/6.
[68] سورة الزمر، الآية 69.
[69] كمال الدين، ج2، ص345، ح31. بحار الأنوار، ج51، ص146، ح15.
[70] الطوسيّ، الغيبة، ص467، ح484. منتخب الأنوار المضيئة، ص190.
[71] كمال الدين، ج1، ص280، ح27. الإربليّ، كشف الغمّة، ج2، ص507.
[72] كمال الدين، ج2، ص371، ح5. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[73] المصدر نفسه، ج1، ص259، ح5. قطب الدين الراونديّ، قصص الأنبياء، ص466، ح439.
[74] علل الشرائع، ج1، ص161، ح3. بحار الأنوار، ج51، ص29، ح2.
[75] سورة الشمس، الآية 1.
[76] سورة الشمس، الآية 3.
[77] سورة اللّيل، الآية 2.
[78] تأويل الآيات الظاهرة، ص776. بحار الأنوار، ج24، ص72،ح6.
[79] تأويل الآيات الظاهرة، ص778. تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، ج14، ص301.
[80] الكافي، ج8، ص50، ح12.
[81] الكافي، ج8، ص50، ح12. بحار الأنوار، ج24، ص73، ح7.
[82] سورة الليل، الآية 1.
[83] سورة الليل، الآية 2.
[84] تأويل الآيات الظاهرة، ص780. بحار الأنوار، ج24، ص398.
[85] عن الإمام الصادق(عليه السلام)في كلامٍ له: "إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ(عليه السلام)خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَارًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ؛ فَأَصْلَحَ اَللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَمْرَ عَبْدِهِ ونَبِيِّهِ مُوسَى فِي لَيْلَةٍ؛ وكَذَا يَفْعَلُ اَللَّهُ تَعَالَى بالْقَائِمِ اَلثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ اَلْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، يُصْلِحُ اَللَّهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ كَمَا أَصْلَحَ اَللَّهُ أَمْرَ مُوسَى (عليه السلام)، ويُخْرِجُهُ مِنَ اَلْحَيْرَةِ واَلْغَيْبَةِ إِلَى نُورِ اَلْفَرَجِ واَلظُّهُور» (كمال الدين، ج1، ص151، ذيلح 13).
[86] عن أمير المؤمنين(عليه السلام)أنّه قال يومًا على المنبر: «إذا هَزَّ رَايَتَهُ أَضَاءَ لَهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج3، ص1149).
[87] سورة الرعد، الآية 17.
[88] سورة الأنفال، الآية 8.
[89] سورة الأنفال، الآية 17.
[90] تفسير العيّاشيّ، ج2، ص50، ح24. تفسير نور الثقلين، ج2، ص136، ح28.
[91] سورة الإسراء، الآية 81.
[92] سورة الأنبياء، الآية 18.
[93] جامع البيان في تفسير القرآن، ج15، ص102. مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص66.
[94] روضة الواعظين وبصيرة المتّعظين، ج1، ص93.
[95] الكافي، ج8، ص278، ح432. بحار الأنوار، ج51، ص62، ح62.
[96] سورة الإسراء، الآية 81.
[97] الطوسيّ، الغيبة، ص239. إثبات الوصية، ص257.
[98] سورة الشورى، الآية 24.
[99] سورة الشورى، الآية 23.
[100] سورة سبأ، الآية 47.
[101] سورة الفرقان، الآية 57.
[102] سورة الشورى، الآية 24.
[103] ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ﴾ (سورة الحاقّة، الآيات 44– 47).
[104] سورة الشورى، الآية 23.
[105] تفسير القمّيّ، ج2، ص275. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[106] ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ﴾ (يونس، 38).
[107] سورة فصّلت، الآية 53.
[108] ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 18).
[109] الغيبة للنعمانيّ، ص269، ح40. بحار الأنوار، ج52، ص241، ح110.
[110] الكافي، ج8، ص381، ح575. بحار الأنوار، ج51، ص62، ح63.
[111] الكافي، ج8، ص166، ح181. بحار الأنوار، ج52، ص304، ح71.
[112] سورة الأنفال، الآية 5.
[113] الغيبة للنعمانيّ، ص198، ح9. بحار الأنوار، ج52، ص139، ح46.
[114] سورة آل عمران، الآية 83.
[115] الاحتجاج، ج2، ص290. بحار الأنوار، ج44، ص20، ح4.
[116] تفسير العيّاشيّ، ج2، ص60، ح49. بحار الأنوار، ج52، ص341، ح91.
[117] تفسير العيّاشيّ، ج1، ص183، ح81. بحار الأنوار، ج52، ص340، ح89.
[118] كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج2، ص465. هذا الحديث نقله الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد، ج2، ص384، عن عليّ بن عقبة عن أبيه وعدّه مقطوعًا؛ ولكن، باعتقادي إنّ ما نقله الأردبيليّ هو الصحيح؛ لأنّ عليّ بن عقبة عُدّ في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
[119] سورة النور، الآية 55.
[120] ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ (سورة الذاريات، الآية 56).
[121] في كتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ وفي البحار نُقلت الرواية عن "إسحاق بن عبد الله بن عليّ بن الحسين"، والصحيح أنّها عن "إسحاق بن عبد الله عن عليّ بن الحسين (عليه السلام)"، وقد ذُكرت صحيحةً في كتاب الآيات الظاهرة ص596، وجاء في رجال الشيخ الطوسيّ، ص109: "إسحاق بن عبد الله بن الحارث"، وهو من أصحاب الإمام زين العابدين (عليه السلام).
[122] الطوسيّ، الغيبة، ص173. بحار الأنوار، ج51، ص53، ح34.
[123] الغيبة للنعمانيّ، ص240، ح35. بحار الأنوار، ج51، ص58، ح50
[124] الغيبة للنعمانيّ، ص283، ح1. بحار الأنوار، ج52، ص356، ح122.
[125] سورة الأعراف، الآية 96.
[126] سورة البقرة، الآية 129.
[127] سورة الجمعة، الآية 2.
[128] ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ﴾ (سورة القلم، الآية 4).
[129] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج11، ص187، ح1.
[130] "عن مولىً لبني شيبان المراد به زرارة" (الميرداماد، التعليقة على أصول الكافي، ص50)؛ فتكون الرواية بهذه الصورة مُعتبرة السند.
[131] الكافي، ج1، ص25، ح21.
[132] كمال الدين، ج2، ص675، ح31.
[133] الخرائج والجرائح، ج2، ص840.
[134] الكافي، ج1، ص20، ح14.
[135] المصدر نفسه، ج2، ص173، ح13. الأهوازيّ، المؤمن، ص44، ح103.
[136] عدّةٌ من العلماء، الأصول الستّة عشر، ص127. بحار الأنوار، ج64، ص350، ح54.
[137] سورة البقرة، الآية 151.
[138] سورة فاطر، الآية 28.
[139] الكافي، ج1، ص36، ح2. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[140] الكافي، ج5، ص59، ح14. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[141] كمال الدين، ج1، ص330، ح16. كشف الغمّة، ج2، ص534.
[142] كمال الدين، ج1، ص259، ح5. قصص الأنبياء، ص366، ح439.
[143] الاحتجاج، ج2، ص290. بحار الأنوار، ج44، ص20، ح4.
[144] النعمانيّ، الغيبة، ص238، ح30. بحار الأنوار، ج52، ص352، ح106.
[145] الكافي، ج1، ص481، ح5. بحار الأنوار ج48، ص94، ح107.
[146] يُحتمل أن يكون المُراد بـ "أبان"، "أبان بن مصعب"؛ لأنّ الرواية منقولةٌ عن"صالح بن حمزة بن أبان"، وصالح بن حمزة بحسب ما يقول الكافي، ج1، ص409، ح5، روى عن "أبان بن مصعب".
[147] الخرائج والجرائح، ج2، ص841. بحار الأنوار، ج52، ص336، ح73. أورد العلّامة المجلسيّ كلمة "حرف" بدل كلمة "جزء" والمعنى واحد.
[148] السيّد محمّد مهديّ، مير باقري، امام شناسى، ص73.
[149] جاء في مناجاة "الذاكرين": "وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ"، المجلسيّ، زاد المعاد، ص416.
[150] امام شناسى، ص75.
[151] السيّد محمّد مهديّ، مير باقري، مجلّة موعود، ش42 "انسان وجهان آينده"، ص4.
[152] لم يأتِ في المتن كلمة الكرامات، ولكن ذكرناها هنا لحفظ المصطلح؛ فالمعجز خاصٌّ بإثبات النبوة كما ذُكر، وسوى ذلك هو الكرامة، مع الإشارة إلى أنّ كلمة إعجاز تُستخدم باللغة الفارسيّة للتعبير عن الكرامة أيضًا. (المترجم)
[153] حبيب الله، طاهريّ، المجلّة الفصليّة انتظار، ش2 (عصر ظهور يا مدينه فاضله موعود در اسلام)، ص159.
[154] سورة الأنعام، الآية 115.
[155] سورة يونس، الآية 44.
[156] سورة المائدة، الآية 42؛ سورة الحجرات، الآية 9؛ سورة الممتحنة، الآية 8.
[157] سورة آل عمران، الآية 57.
[158] سورة يونس، الآية 47.
[159] سورة الأعراف، الآية 29.
[160] سورة الشورى، الآية 15.
[161] الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج6، ص154، ح1. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[162] سورة الحديد، الآية 17.
[163] الكافي، ج7، ص174، ح2.
[164] سورة الحديد، الآية 25.
[165] معاني الأخبار، ص123، ح1. الخصال، ج2، ص394، ح102.
[166] مسند أحمد، ج3، ص17. صحيح ابن حبّان، ج15، ص238.
[167] كمال الدين، ج2، ص371، ح5. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[168] الكافي، ج3، ص568، ح6. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[169] علل الشرائع، ج1، ص161، ح3. بحار الأنوار، ج51، ص29،ح2.
[170] الكافي، ج1، ص333، ح2. الفيض الكاشانيّ، الوافي، ج2، ص438، ح1.
[171] سورة الأنعام، الآية 82.
[172] سورة النور، الآية 55.
[173] كفاية الأثر، ص56. بحار الأنوار، ج36، ص304، ح144.
[174] كمال الدين، ج2، ص55، ح51. الطوسيّ، الغيبة، ص168.
[175] سورة آل عمران، الآية 97.
[176] ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا﴾ (سورة البقرة، الآية 126؛ سورة إبراهيم، الآية 35).
[177] ﴿أَوَ لَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ﴾ (سورة القصص، الآية 57)، و﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 67).
[178] يقول الحلبيّ: سألت الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ﴾، قال: "إِذَا أحْدَثَ الْعَبْدُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ فَرَّ إِلَى الْحَرَمِ، لَمْ يَنْبَغِ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي الْحَرَمِ؛ وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنَ السُّوقِ، وَلاَ يُبَايَعُ، وَلاَ يُطْعَمُ، وَلاَ يُسْقَى، وَلاَ يُكَلَّمُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ يُوشِكُ أنْ يَخْرُجَ فَيُؤْخَذَ، وَإِذَا جَنَى فِي اَلْحَرَمِ جِنَايَةً أُقِيمَ عَلَيْهِ اَلْحَدُّ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْعَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً" (الكافي، ج4، ص226، ح2). الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[179] كما حصل في إحراق الكعبة بيد جيش يزيد بن معاوية، وقتل عبد الله بن الزبير على يد الحجّاج بن يوسف الثقفيّ، وقتل أهل مكّة والاستيلاء على الحجر الأسود في زمن القرامطة.
[180] الكافي، ج4، ص545، ح25. تهذيب الأحكام، ج5، ص452، ح225.
[181] تفسير العيّاشيّ، ج1، ص190، ح107. بحار الأنوار، ج96، ص369، ح7.
[182] علل الشرائع، ج1، ص89، ح5. بحار الأنوار، ج52، ص313، ح8.
[183] سورة سبأ، الآية 18.
[184] هو من كبار محدّثي ومفسّري العامّة.
[185] سورة إبراهيم: 37، وهو جزءٌ من دعاء النبيّ إبراهيم(عليه السلام)لزوجه هاجر وولده إسماعيل (عليهما السلام).
[186] الكافي، ج8، ص311، ح485. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[187] سورة الطلاق، الآية 8.
[188] سورة يوسف، الآية 82.
[189] تأويل الآيات الظاهرة، ص462. بحار الأنوار، ح24، ص235، ح4.
[190] علل الشرائع، ج1، ص89، ح5. بحار الأنوار، ج52، ص313، ح8.
[191] سورة نوح، الآيات 12-10.
[192] سورة هود، الآية 52.
[193] سورة يونس، الآية 98.
[194] سورة الأعراف، الآية 96.
[195] السيّد ابن طاووس، الطرائف، ج1، ص177، ح280. ابن البطريق، العمدة، ص436، ح918.
[196] الطوسيّ، الغيبة، ص188. بحار الأنوار، ج51، ص146، ح17.
[197] وفي بعض المصادر ورد "زنبيلها" كما في تحف العقول ص115، و"زبيلها" كما في البحار ج52 ص317. والزَّبِيل والزِّنْبِيل: الجِراب، وقيل الوِعاء يُحْمل فيه، فإِذا جَمَعوا قالوا زَنابيل، وقيل: الزِّنْبِيل خطأ وإِنما هو زَبِيل، وجمعه زُبُل وزُبْلان (ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص 300).
[198] الخصال، ج2، ص610، ح10. ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص115. الرواية مُعتبرةٌ من جهة السند.
[199] تفسير القمّيّ، ج2، ص34.