المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
الحمد لله الذي فضّل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعله شهر رحمةٍ ومغفرةٍ وعتقٍ من النار، والصلاة والسلام على نبيّه الأعظم محمّد، خير من صام وقام، وعلى آله الطيّبين الأطهار.
أمّا بعد، فإنّ هذا الكتاب هو زادٌ روحيٌّ، يتضمّن مواعظ قيّمة لشهر رمضان المبارك، عملنا على جمعها وإعدادها لتكون معيناً على تدبّر هذا الشهر العظيم، واغتنام لحظاته المباركة في طاعة الله تعالى والتقرّب إليه؛ فإنّ شهر رمضان هو محطّة إيمانيّة كبرى، يتزوّد فيها العبد من الخير الجزيل، ويجدّد فيها العهد مع الله، ليرتقي بنفسه ويسمو بروحه.
في صفحات هذا الكتاب «زاد المُتهجِّدين في شهر الله» مواعظ تعين على الصبر، وتذكّر بفضل الصيام والقيام، وتحفّز على الصدقة والإحسان، وتدعو إلى تدبّر القرآن؛ لتكون هذه الأيّام والليالي المباركة عامرةً بالطاعة، مشرقةً بالنور.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به علماءنا ومبلّغينا في ما يبذلونه من جهد وقدرات في عمليّة التبليغ والوعظ والإرشاد.
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
4
الموعظة الأولى: البرنامج العباديّ في خطبة النبيّ
الموعظة الأولى
البرنامج العباديّ في خطبة النبيّ -
هدف الموعظة
بيان فضل شهر رمضان المبارك، وأهمّيّة العبادة فيه، وشمول جوانبها، في ضوء خطبة النبيّ - في استقبال شهر رمضان المبارك.
محاور الموعظة
1. المبادئ العامّة للبرامج العباديّ
2. البرنامج العباديّ
3. البرنامج الأخلاقي
4. البرنامج الاجتماعيّ
تصدير الموعظة
الإمام الرضا %، عن آبائه (، عن أمير المؤمنين %: «إنّ رسول الله - خَطَبنا ذات يوم، وقال: أيُّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة...»[1].
المبادئ العامّة للبرامج العباديّ
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «شهر رمضان المبارك، شهر العبوديّة، شهر الإخلاص، شهر الاتّصال بمعدن العظمة والقدرة، وشهر الطمأنينة والسكينة الناشئتَين من الذكر، إذ يقول تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾»[2]؛ ولكي نحقّق أقصى استفادة من شهر رمضان المبارك، وبركاته، لا بدّ لنا من مراعاة أمور ذكرها النبيّ - في خطبته:
1. اغتنام فرصة هذا الشهر المبارك: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ».
لقد استهلّ رسول الله - خطبته بتعريف هذا الشهر المبارك، وبيان قيمته ومنزلته؛ فإنّ قيمة الزمان الذي نعيشه إذا كانت عالية جدّاً، فسوف نستفيد منه أقصى الاستفادة.
2. إخلاص النيّة: «فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ»؛ إذ التوفيق إلى الصيام الحقيقيّ يحتاج إلى عناية من الله تعالى للصائم، فعلينا أن ندعوه ليوفّقنا في أداء هذه الفريضة على أكمل وجه.
3. تحسين الخُلُق: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَن حَسَّنَ مِنكُم فِي هَذَا الشَّهرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَومَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقدَامُ»؛ فإنّ حُسن الخُلُق أحد أهداف الصوم الكبرى.
4. ترك الذنوب: «... وقَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عليُّ بن أبي طالب %: فَقُمتُ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَفضَلُ الأَعمَالِ فِي هَذَا الشَّهرِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا الحَسَنِ، أَفضَلُ الأَعمَالِ فِي هَذَا الشَّهرِ: الوَرَعُ عَن مَحَارِمِ الله عزَّ وجلَّ»؛ وهو الهدف النهائيّ للصوم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[3].
5. تذكُّر الآخرة: «وَاذكُرُوا بِجُوعِكُم وَعَطَشِكُم فِيهِ، جُوعَ يَومِ القِيَامَةِ وَعَطَشَهُ»؛ إذ «مَن أكثر من ذكر الآخرة قلّت معصيته»[4].
البرنامج العباديّ
1. الصلاة الواجبة: «وَمَن تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلاةٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَمَن أَدَّى فِيهِ فَرضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَن أَدَّى سَبعِينَ فَرِيضَةً فِي مَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ». وهذا يشجِّع مَن عليه قضاء صلوات، أن يقضيها في شهر رمضان.
2. الصلاة المستحبَّة: «ومَن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءةً من النار». فيا لها من فرصة، أن يكتب الله لنا براءةً من النار بإزاء صلاة مستحبّة أدّيناها في هذا الشهر.
3. قراءة القرآن الكريم: «وَمَن تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ القُرآنِ، كَانَ لَهُ مِثلُ أَجرِ مَن خَتَمَ القُرآنَ فِي غَيرِهِ مِنَ الشُّهُورِ». فما أعظم هذا العطاء لمن قرأ آية! فكيف بمَن وفّقه الله لختم القرآن الكريم!
4. الدعاء: «وَارفَعُوا إِلَيهِ أَيدِيَكُم بِالدُّعَاءِ فِي أَوقَاتِ صَلاتِكُم؛ فَإِنَّهَا أَفضَلُ السَّاعَاتِ، يَنظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُم إِذَا نَاجَوهُ، وَيُلَبِّيهِم إِذَا نَادَوهُ، وَيُعطِيهِم إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَستَجِيبُ لَهُم إِذَا دَعَوهُ»؛ فلا تبخلوا على أنفسكم بالدعاء، بل أكثروا منه؛ فإنّه مقبولٌ ومُجاب، إن شاء الله.
وقد ذكر النبيّ - بعضاً من مضامين الدعاء التي ينبغي للمؤمن التوجُّه بها إلى الله سبحانه وتعالى، فقال -: «فَاسأَلُوا اللهَ رَبَّكُم بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَن يُوَفِّقَكُم لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ غُفرَانَ الله فِي هَذَا الشَّهرِ العَظِيمِ».
وقال -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغْلِقَهَا عَلًيكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يَفْتَحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ».
5. كثرة الصلاة على محمّد وآل محمّد -: «وَمَن أَكثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ، ثَقَّلَ اللهُ مِيزَانَهُ يَومَ تَخِفُّ المَوَازِينُ»، فعن الإمام الباقر %: «أثقل ما يوضَع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمّد وعلى أهل بيته»[5].
6. طول السجود وكثرته: «وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ أَقسَمَ بِعِزَّتِهِ أَن لا يُعَذِّبَ المُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَن لا يُرَوِّعَهُم بِالنَّارِ يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ».
البرنامج الأخلاقيّ
1. حفظ اللسان: «وَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم». وحفظ اللسان هو صيانته عن الحرام، كالكذب والغيبة والبهتان والنميمة والسبّ والبذاءة وما شاكل.
عن الإمام الصادق %: «سمع رسول الله - امرأة تسبُّ جاريةً لها وهي صائمة، فدعا رسول الله - بطعام، فقال لها: كُلي، فقالت: إنّي صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتك؛ إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب»[6].
وعن أمير المؤمنين %: «صيام اللسان خيرٌ من صيام البطن»[7].
2. غضّ البصر: «وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيهِ أَبصَارَكُم». وغضُّ البصر هو أن يتجنّب الصائم النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه، كالنظر إلى الأجنبيّة بشهوة، أو إلى ما يُخفيه الناس، ولا يقبلون النظر إليه.
عن الإمام الصادق %: «إذا أصبحتَ صائماً فليصُم سمعك وبصرك من الحرام»[8].
3. حفظ السمع: «وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاستِمَاعُ إِلَيهِ أَسمَاعَكُم». وغضُّ السمع يكون بتجنّب استماع المحرّمات، كالغناء، والغيبة، والنميمة، والفاحشة، ونحو ذلك.
عن الإمام الصادق %: «إذا صمتَ، فليصُم سمعك وبصرك...»[9].
ولا يخفى أنّه - قد ذكر اللسان والعين والأذن من باب المثال لا الحصر، ولربّما لكونها تُوقع صاحبها في الذنوب أكثر من غيرها، أو كون الذنب الذي تقترفه لا يحتاج إلى جهد أو مؤونة، كما تحتاج إليه اليد أو القدم؛ وإلّا فالمطلوب صوم جميع الجوارح.
عن السيّدة الزهراء &: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يَصُنْ لسانه وسمعه وبصره وجوارحه»[10].
وعن الإمام الباقر %: «قال رسول الله - لجابر بن عبد الله: يا جابر، هذا شهر رمضان؛ مَن صام نهاره، وقام وِرداً من ليله، وعفَّ بطنه وفرجه، وكفَّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسنَ هذا الحديث! فقال رسول الله -: يا جابرـ وما أشدَّ هذه الشروط!»[11].
4. التوبة: «وَتُوبُوا إِلَى الله مِن ذُنُوبِكُم»؛ فإنّ «مَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ»[12].
5. الاستغفار: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم»؛ فإنّ «مَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ»[13].
البرنامج الاجتماعيّ
1. توقير الكبار: «وَوَقِّرُوا كِبَارَكُم»؛ فإنّ «مِن إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم»[14].
2. الرحمة بالصغار: «وَارحَمُوا صِغَارَكُم»، فعن أمير المؤمنين %، وقد التفت إلى بَنيه: «يا بَنِيَّ، ليبرّ صغارُكم كبارَكم، وليرحمْ كبارُكم صغارَكم»[15].
3. صلة الرحم: «وَصِلُوا أَرحَامَكُم»؛ فإنّ «صلة الرحم والبرّ، لَيهوّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب»[16].
وقد أشار النبيّ - إلى فضل صلة الرحم وأثره في الآخرة، فقال: «وَمَن وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ بِرَحمَتِهِ يَومَ يَلقَاهُ». وفي المقابل، بيّن - حرمة قطيعة الرحم، وآثارها السيّئة يوم القيامة، فقال -: «وَمَن قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللهُ عَنهُ رَحمَتَهُ يَومَ يَلقَاهُ».
4. التحنُّن على الأيتام والعطف عليهم: «وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّن عَلَى أَيتَامِكُم». وأشار النبيّ - في مقطع آخر إلى فضل إكرام اليتيم، فقال: «وَمَن أَكرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكرَمَهُ اللهُ يَومَ يَلقَاهُ».
5. الصدقة: «وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُم وَمَسَاكِينِكُم»؛ فـ«الصدقة تدفع ميتة السوء»[17].
6. إفطار الصائمين: «أيّها الناس، مَن فَطَّرَ مِنكُم صَائِماً مُؤمِناً فِي هَذَا الشَّهرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِندَ الله عِتقُ نَسَمَةٍ، وَمَغفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِن ذُنُوبِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، فَلَيسَ كُلُّنَا يَقدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ -: اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشَربَةٍ مِن مَاءٍ».
7. كفُّ الشرّ عن الناس: «وَمَن كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللهُ عَنهُ غَضَبَهُ يَومَ يَلقَاهُ»؛ إذ «المؤمن نفسُه منه في تعب، والناس منه في راحة»[18].
إنّ هذه العبادات المتنوّعة إذا روعيَت في هذا الشهر، وأدّاها المؤمن، كانت حرزاً له من الشيطان ووسوساته، فعن الإمام الصادق % أنّ النبيّ - قال لأصحابه: «ألا أُخبركم بشيءٍ إنْ أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يُسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله، والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه[19]، ولكلّ شيءٍ زكاة، وزكاة الأبدان الصيام»[20].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص154.
[2] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 10/09/2010م.
[3] سورة البقرة، الآية 183.
[4] الكفعميّ، الشيخ إبراهيم، محاسبة النفس، الشيخ فارس الحسّون، مؤسّسة قائم آل محمّد .، إيران - قمّ، 1413، ط1، ص97.
[5] الحميريّ القمّيّ، قرب الاسناد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1413هـ، ط1، ص14.
[6] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج4، ص87.
[7] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418هـ، ط1، ص305.
[8] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج93، ص292.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص295.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87.
[12] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ %)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص494، الحكمة 135.
[13] المصدر نفسه، ص494، الحكمة 135.
[14] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص165.
[15] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج34، ص263.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص157.
[17] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج34، ص2.
[18] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص17.
[19] الوتين عرقٌ في القلب إذا انقطع مات صاحبُه.
[20] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص62.
5
الموعظة الثانية: دعاء الافتتاح: علاقة المنتظرين بالله
الموعظة الثانية
دعاء الافتتاح: علاقة المنتظرين بالله
هدف الموعظة
تبيين أهمّيّة دعاء الافتتاح الهادف إلى بناء علاقة إيجابيّة وسليمة بين العبد وربّه، قائمة على تصحيح السلوك واستثماره في عمليّة تربية المنتظرين في مرحلة الغيبة.
محاور الموعظة
1. دعاء الافتتاح عمليّة بناء وتوجيه
2. الجانب الوجدانيّ في الدعاء
3. مبادئ من دعاء الافتتاح
تصدير الموعظة
«اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ...»[1].
دعاء الافتتاح عمليّة بناء وتوجيه
لقد حَظي هذا الدعاء الشريف، المنسوب إلى الإمام المهديّ .، باهتمام في المصادر الشيعيّة الإماميّة؛ وذلك أنّه ليس المأمول منه أن يُقرأ كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك لتحصيل البركة ولمناجاة الله سبحانه فحسب، بل للتدبُّر في مادّته المعرفيّة والروحيّة وفَهمها، والاستفادة منها في بناء علاقة سليمة مع الله، وتصحيح أخطائنا وتوجيه سلوكنا، واستثمار ذلك في عمليّة «تربية المنتظرين» وتكوينهم الإيمانيّ والعقيديّ والمعرفيّ والنفسيّ في مرحلة الغيبة الصغرى، والإعداد الذاتيّ لظهوره المبارك.
وقد توسّل الإمام المهديّ . الدعاءَ في عمليّة التوجيه الاجتماعيّ والنفسيّ، وسبيلاً لعلاج النفس من عيوبها وموبقاتها، تمهيداً لتزويدها بالسمات الأخلاقيّة السويَّة، وإمداد الفرد المنتظر بالمفاهيم العقائديّة والاجتماعيّة التي تعينه على مواجهة حركة الحياة مدّة غيبته.
الجانب الوجدانيّ في الدعاء
يتجلّى الجانب الوجدانيّ في دعاء الافتتاح الشريف بوضوح، وهذه فقراتٌ منه:
1. «وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتي»
في بداية الدعاء، يخاطب الإمام المهديّ . ربّه بصفة «الغفور»: «وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتي»؛ ليمكِّن عباد الله، من جموع المنتظرين، من إقالة عثراتهم، والسيطرة على أنفسهم.
2. «فَكَمْ يا إِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها»
ثمّ يخاطب . ربّه عزّ وجلّ بلغة تعزّز علاقته وعلاقتنا به، فيذكر . عمليّة تفريج همومنا، وكشف الكربات التي تواجه المنتظرين، ورفع زلّات أخطائهم، ونشر الرحمة، «فَكَمْ يا إِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاٍ قَدْ فَكَكْتَها»؛ ليوجد توجّهاً إيجابيّاً في نفوس المنتظرين، وهو أنّه مهما مررنا بكُرب أو هموم أو بلاءات؛ فإنّ الله سبحانه سيفرّجها، ويكشفها ويفكّها؛ وهذا يجعلنا نتخطّى اليأس والإحباط، ونرى الأمل أمامنا؛ الأمر الذي يتيح لنا بناء علاقة أفضل مع الله متى وقعت هذه الأمور في حياتنا.
3. «فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً»
ومن ألفاظ الدعاء التي تنحو إلى بناء علاقة إيجابيّة صادرة عن العبد تجاه ربّه، قوله .: «رَزَقْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَرَيْتَنِي مِنْ قَدْرَتِكَ، وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ»؛ فيحدُث تحوّل إيجابيّ في نفسيّة الداعي وسلوكه، ويعكس علامة على صلة وثيقة بينه وربّه سبحانه، «فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً، وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً... فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يا رَبِّ».
4. «الحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ»
ومن النماذج التي تعبّر عن الرحمة الإلهيّة؛ قوله .: «الحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ... وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي... فَكَمْ مِنْ مَوْهِبَةٍ هَنِيئَةٍ قَدْ أَعْطانِي، وَعَظِيمَةٍ مَخُوفَة قَدْ كَفانِي، وَبَهْجَةٍ مونِقَةٍ قَدْ أَرانِي»؛ فإنّ هذه الحالات من الرحمة، والحلم عن قبيح العمل، والبهجة، ناتجها كفّ النفس عن الوقوع في الخوف، ومنح فرص البهجة في حياة المنتظرين، وهي تشهد على حكمة الله ورحمته ورعايته لنا؛ لنعيد تصحيح العلاقة بالله تعالى التي يرسمها لنا الإمام ..
مبادئ من دعاء الافتتاح
1. مبدأ الستر الأخلاقيّ
تنبع أهمّيّة مبدأ «الستر الأخلاقيّ» في تحقيق الأمن النفسيّ للفرد، وتربيته على ستر عيوب الآخرين؛ وهذا يوفّر ركيزةً من ركائز الأمن المجتمعيّ بين أفراد المجتمع.
وفي هذا الدعاء، يلفت الإمام المهديّ . نظرنا إلى الإجراء الإلهيّ الحكيم بـ«ستْر عيوبنا»، وإخفاء قبائح أعمالنا عن الأنظار، فيقول .: «اللّهُمَّ إِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبِي، وَتَجاوُزَكَ عَنْ خَطِيئَتِي، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمِي، وَستْرَكَ عَلَى قَبِيحِ عَمَلِي، وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي عِنْدَما كانَ مِنْ خَطَأي وَعَمْدِي... الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُجِيبُنِي حِينَ أُنادِيهِ، وَيَسْتُرُ عَلَيَّ كُلَّ عَوْرَةٍ وأَنا أَعْصِيهِ».
وإنّ عمليّة الستر هذه تستوجب من الناس أن يردّوا الجميل لله تعالى؛ بطاعته وعبادته على أتمّ وجه؛ لأنّ عمليّة الستر وفّرت لهم حمايةً وأمناً، «وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ، فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً، وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً»؛ وهذا يعزّز العلاقة بالله تعالى، وينمّيها.
2. مبدأ تدعيم السلوك الإيجابيّ
إنّ تدعيم السلوك بإثابة مُجزية هو من أقوى العناصر اللازمة لبناء العادة، فلا يكفي تكرار السلوك من قبل الأفراد لتكوين العادة الحسنة إذا لم يتبع كلّ استجابة سلوكية صادرة عنهم تدعيمٌ إيجابيّ، فالمكافأة تؤدّي إلى تكوين السلوك المرغوب فيه[2].
وقد عرض دعاء الافتتاح نماذج من التدعيم الإيجابيّ:
أ. «الحَمْدُ للهِ خالِقِ الخَلْقِ، باسِطِ الرِّزْقِ»
كبسط الرزق والنعم، وما تفضّل به الله من خيرات وحاجات ماديّة ومعنويّة على جموع عباده، طائعين كانوا أم عاصين مسيئين؛ فاشتمل الدعاء على وصف الله سبحانه بـ«بالرازق، وباسط الرزق، وكثير العطاء، والباسط بالجود، والوهَّاب، وصاحب الجود، والتفضّل والمنّ»، وكلّها تعبّر عن توفير مختلف حاجات الإنسان وتأمينها من الله عزَّ وجلّ، وتدخل ضمن «التدعيم الإيجابيّ».
ب. «فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِداً»
الصيغة الثانية للتدعيم الإيجابيّ هي تكرار الثناء على الله وحمده، «الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، الحَمْدُ للهِ، فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِداً، وَأَذْكُرُهُ مُسَبِّحا»، وهو تعبير عن شكر الإنسان لربّه على ما أنعم ورزق.
وقد كرَّر الإمام المهديّ . هذا الأمر على امتداد دعائه؛ فلا يمرّ بنعمة أو رفع نائبة أو سَتر قبيحة إلّا وذكر الثناء والحمد؛ بغرض تحقيق هدف تربويّ، وترسيخ مفهوم عقائديّ يخصّ توحيد الله، أو لإقرار اعتراف أخلاقيّ بنعمةٍ، أو لشكره تعالى على تجاوز محنةٍ، يوصل إلى تعزيز علاقة الإنسان بربّه؛ وتحقيق أهداف تربويّة تعكس آثارها على المنتظرين؛ إذ «أهمّيّة التكرار في بناء العادة الحسنة أنّه يؤصِّل السلوك الطيّب بالنفس، فيجعلها ميَّالة إليه لا بالتعوُّد، بل بالتفاتة واعية من القلب»[3].
ومن الملاحظ، أنّ هاتين الصيغتين تعبّران عن حركتَين؛ أولاهما هابطة من الله تجاه الناس، وهي ما توافَرَ من رزقه تعالى لهم، والأخرى حركة شكر من الناس المؤمنين والمنتظرين للإمام المهديّ ولظهوره لله تعالى.
ج. «أَشَدُّ المُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ»
ولكن في مقابل ذلك، تتحرّك النفس المنتظرة الراغبة في علاقة طيّبة بالله مع هذا المعتقد بوعي آخر، يرى أنّ الله سبحانه «أَشَدُّ المُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ (العقوبة) وَالنَّقِمَةِ»؛ ما يدفعه إلى التفكير الجدّيّ بالتوبة، وطلب العفو وطلب رضا الله سبحانه، ويؤدّي به إحساسُه بالتقصير إلى العمل على تصحيح السلوك، فلا يطمئنّ العبد إلى الرحمة الإلهيّة وحدها، بل يخشى كذلك غضبه تعالى. وهذا التذكّر بأنّ الله سبحانه وتعالى «أَشَدُّ المُعَاقِبِينَ» يجعل الفرد المسلم المنتظِر يستثمر ما تبقّى من حياته، ويستعدّ لبُعْدِ السفر، ولجلسة يوم الحساب التي قد تكون طويلة.
بعد هذه الجولة مع دعاء الافتتاح، ندرك مدى أهمّيّته في بناء الشخصيّة المؤمنة؛ فبمجرّد أن يكون الدعاء مؤقّتاً بوقت معيّن، يعني أنّه يمكن أن يحقّق -في بناء الشخصيّة- ما لا يحقّقه أيّ دعاء آخر، فشهر رمضان أفضل الشهور، واختيار هذا الدعاء ليُقرَأ كلّ ليلة، يعني أنّه من أفضل الأدعية؛ ومعنى ذلك أنّ من يحرم نفسه من التفاعل معه ليليّاً، يحرم نفسه من خير كثير؛ لأنّ دعاء الافتتاح في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بمجموعه، له نتيجة لا تحصَّل إذا لم يواظب المؤمن على قراءته.
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج3، ص108.
[2] انظر: الدكتور يوسف مَــدَن، العلاج النفسيّ وتعديل السلوك الإنسانيّ بطريقة الأضداد، ص416.
[3] المصدر نفسه، ص415.
12
الموعظة الثالثة: دعاء الافتتاح: العلاقة بين المنتظرين وإمام زمانهم
الموعظة الثالثة
دعاء الافتتاح: العلاقة بين المنتظرين وإمام زمانهم
هدف الموعظة
معرفة دور دعاء الافتتاح الشريف في رسم علاقة الانصهار والاندماج بين المنتظرين وإمام زمانهم في عصر الغيبة، من حيث الأهداف المنشودة، وطلبها، والسعي إلى تحقيقها.
محاور الموعظة
1. مطلب المنتظرين بلسان الإمام .
2. الدولة الكريمة مطلب المنتظرين
3. الإمام . وهموم المنتظرين
تصدير الموعظة
«اللّهُمَّ إِنا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِها الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِها النِّفاقَ وَأَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فِيها مِنَ الدُّعاةِ إِلى طاعَتِكَ، وَالقادَةِ إِلى سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ»[1].
مطلب المنتظرين بلسان الإمام .
في دعاء الافتتاح، يخاطب الإمام المهديّ . ربّه بلسان عباده، ويؤكّد ويكرّر مطلبهم الذي يخدم أهدافهم كمنتظرين لإمام زمانهم .، فيسأل اللهَ التمكينَ في الأرض، وإظهارَ الدين الذي ارتضاه، «اللّهُمَّ، وَصَلِّ عَلى وَلِيِّ أَمْرِكِ القائِمِ المُؤَمَّلِ، وَالعَدْلِ المُنْتَظَرِ... اللّهُمَّ اجْعَلْهُ الدَّاعِيَ إِلى كِتابِكَ، وَالقائِمَ بِدِينِكَ، اسْتَخْلِفْهُ فِي الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفْتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ»؛ هذه المفردات من الدعاء تؤكّد العلاقة الخاصّة بوليّ الأمر وصاحب الزمان .، وتبثّ في المنتظرين شعاع الأمل، وتدعوهم إلى الاندفاع والحركة والنشاط، وتحول دون وقوعهم تحت وطأة اليأس والقنوط، وتحيي فيهم روح التحرُّك في المجتمع.
يقول الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه): «يجبُ علينا أن نكرّس مفهوم العدالة والسعي لإنجازها، غايةٌ تُبذَلُ في سبيلِها كلُّ المهج والأرواح والتضحيات؛ وبهذا المعنى، يصبح الارتباط بالإمام الحجّة . ارتباطاً بالقائدِ الأعلى الذي يستحقُّ هذه الأمنيّة الغالية على قلب كلّ حُرٍّ وشريفٍ وإنسانٍ يعشق الحرّيّة في طريق الإيمان، وتحقُّق قِيَم السماء على الأرض»[2].
الدولة الكريمة مطلب المنتظرين
بعد تأكيد العلاقة والارتباط بإمام الزمان .، يصل . بالدعاء إلى تحديد المسار العمليّ والمسار السياسيّ، «اللّهُمَّ إِنا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِها الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِها النِّفاقَ وَأَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فِيها مِنَ الدُّعاةِ إِلى طاعَتِكَ، وَالقادَةِ إِلى سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ».
وهذه الرغبة مردّها الإيمان الحقيقيّ بقدرة الإمام . على تحقيقها؛ فـ«إنّنا نؤمن... أنّ الإمام المهْديّ . هو صاحب القدرة على التغيير، وأنّ كلّ الواقع المنكسر من حولنا، مهما كانت هويّته، ومهما كان جاثماً على أرض الواقع، سوف يقتلعه إمامنا المهْديّ . من جذوره ليغيّره بواقع الإسلام»[3].
ويطلب . من الله أن يعينه على تحقيق هذه الدولة، ويُعجّل له ذلك: «وَأعِنّا عَلى ذلِكَ بِفَتحٍ مِنكَ تُعَجِّلُهُ، وَبِضُرٍّ تَكشِفُهُ، وَنَصرٍ تُعِزُّهُ، وَسُلطانِ حَقٍّ تُظهِرُهُ، وَرَحمَةٍ مِنكَ تُجَلِّلُناها، وَعافيَةٍ مِنكَ تُلبِسُناها، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ»؛ وهو . بذلك يريد منّا أن نشاركه في الدعاء، ونعينه على تحقيق هذه الدولة المباركة؛ بالانتظار والتمهيد.
الإمام . وهموم المنتظرين
في دعاء الافتتاح الشريف، مشاركةٌ وجدانيّة بين الإمام المهديّ . كقائد تاريخيّ منتظر، وجماهيره من المنتظرين في عصور متعاقبة من تاريخهم. وقد عبَّر الإمام . في أكثر من مورد عن التلاحم العاطفيّ والذهنيّ، والتوادّ القلبيّ في حالات وجدانيّة مختلفة؛ باستخدامه لغةً موحّدةً من القائد والمنتظرين معاً، وكأنّه . في نصّ دعائه قد نظر إلى الجميع ككيانٍ واحد، «اللهُمَّ ما عَرَّفتَنا مِنَ الحَقِّ فَحَمِّلناهُ، وَما قَصُرنا عَنهُ فَبَلِّغناهُ، اللهُمَّ الْـمُمْ بِهِ شَعثَنا، وَاشعَب بِهِ صَدعَنا، وَارتِق بِهِ فَتقَنا، وَكَثِّر بِهِ قِلَّتَنا، وَأعزِز بِهِ ذِلَّتَنا...». وفي هذا المقطع من الدعاء، يتحدّث . بلسان الجميع، ويعبّر فيها عن وحدته الشعوريّة والفكريّة معهم، فيستخدم . «نون الجماعة» التي تعبّر عن الجماعة. وقد تكرّر هذا الأمر في الدعاء بوضوح.
إنّ التلاحم التاريخيّ بين القائد والمنتظرين، وما انطوى عليه من وحدة شعوريّة وفكريّة وروحيّة واجتماعيّة، جعل الإمام المهديّ . يتحدّث عن هموم المنتظرين ومشاعرهم وآمالهم بلسانهم، وكأنّهم -كجماعة واحدة- يتحدّثون مع الله، ويخاطبونه سبحانه مباشرةً بأن يُحقِّق آمالهم بتمكين إمامهم في الأرض والاستخلاف، وارتضاء دينه ونصره... فالروح الجماعيّة في حالات مختلفة جسّدت مظاهر «مشاركة وجدانيّة» حيَّة بين المنتظرين وقائدهم المؤزّر في غيبتَيه الصغرى والكبرى لأكثر من أحد عشر قرناً من الزمان؛ هذه المشاركة تأخذ بالقائد والمنتظرين معاً في اتّجاه تحقيقٍ مشتركٍ لأهداف المنتظرين، والارتقاء بالذات ومجتمع المنتظرين، والسير بهما في طريق التربية العباديّة الراشدة والناضجة.
وفي آخر الدعاء، يدعو . الله بلسان منتظريه بأن يهديهم إلى الحقّ، ويعصمهم من الانحراف والضلال؛ إذ ستكثر الفِتن والشبهات قبل ظهوره الشريف، فيضلّ فيها كثيرون، ولا ينجو منها إلّا من رحم الله، «وَاهْدِنا بِهِ لِما اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ».
[1] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج3، ص111.
[2] من وصيّته (رضوان الله عليه).
[3] من خطبة لسيّد شهداء المقاومة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، بتاريخ 25/04/1986م.
17
الموعظة الرابعة: التدبّر في القرآن الكريم
الموعظة الرابعة
التدبّر في القرآن الكريم
هدف الموعظة
بيان أهمّيّة التدبّر في القرآن الكريم، وبيان بعض تطبيقاته.
محاور الموعظة
1. التدبّر في القرآن الكريم
2. يتدبّرون
3. طبّق آيات الله على نفسك
تصدير الموعظة
﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1].
التدبّر في القرآن الكريم
إنّ تلاوة القرآن الكريم مع ما لها من فضل، وفي شهر رمضان بشكل آكد، ينبغي أن تكون مع تدبُّر وتأمّل؛ لأنّ آيات القرآن الكريم، مع التدبّر فيها، توضّح نفسها؛ فيتمكّن القارئ من تحصيل المعاني الأصليّة ولبّ الآيات القرآنيّة؛ فيحصل له نوعٌ من الهداية التي تعينه في طريق التزكية والقرب، ويستضيء بنوره في سلوكه إلى أخراه.
وقد حثّ القرآن الكريم قارئيه على تدبّر آياته، وتكشّف معانيه، وفهم مقاصده، فقال تعالى:
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه لَوَجَدُوا فِيه اخْتِلافاً كَثِيراً﴾[2]، وقال: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناه إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِه ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ﴾[3].
كما وبّخ الذين لا يتدبّرونه، فقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾[4].
وقد عنيت أحاديث أهل البيت ( بالدعوة إلى التدبّر:
1. عن أمير المؤمنين %: «ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهُّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبُّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقُّه»[5].
2. عن الزهريّ قال: سمعت عليّ بن الحسين ' يقول: «آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»[6].
3. سأل أبو بصير الإمام الصادق %: أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: «لا»، قال: ففي ليلتين؟ قال: «لا»، قال: ففي ثلاث؟ قال: «ها»، وأشار بيده، ثمّ قال: «يا أبا محمّد، إنّ لرمضان حقّاً وحرمة، لا يشبهه شيء من الشهور، وكان أصحاب محمّد - يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقلّ، إنّ القرآن لا يُقرأ هَذْرَمة[7]، ولكن يُرتّل ترتيلاً، فإذا مررتَ بآية فيها ذكر الجنّة، فقف عندها، وسل الله عزّ وجلّ الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار، فقف عندها، وتعوّذ بالله من النار»[8].
4. عن ابن مسعود، أنّ رسول الله - كان يُقرئهم العشر[9]، فلا يجاوزونها إلى عشرٍ أخرى حتّى يتعلّموا ما فيها من العمل، فيُعلّمهم القرآن والعمل جميعاً[10]. فكان النبيّ - يريد منهم أن يفهموا آيات الكتاب العزيز فهم دراية، ويطبّقونه تطبيق رعاية.
يقول الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه): «الآيات القرآنية ذاخرة بذكر الجنة والنار وأهوال يوم القيامة لتزرع في النفوس هذا المعتقد وليتهيأ المؤمن لملاقاة ربّه»[11].
يتدبّرون
إنّ دأب المتّقين أن يتلوا كتاب الله بتدبُّر وتفكُّر، وأن يعيشوا معه وكأنّ الله قد تجلّى لهم، فعن أمير المؤمنين % في وصف المتّقين: «أَمَّا اللَّيْلَ، فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ، رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»[12].
إنّ حال هذه المتقين أثناء تلاوتهم القرآن، هي حصيلة تدبّرهم وتفكّرهم في كتاب الله سبحانه؛ وهذه بعض الموارد لتأثير القرآن الكريم في نفوس المتدبّرين والمتفكّرين:
1. عن زرّ بن حبيش، قال: قرأت القرآن من أوّله إلى آخره على عليّ بن أبي طالب، فلّما بلغتُ الحواميم: قال: «لقد بلغت عرائس القرآن»، فلّما بلغت رأس ثنتين وعشرين آية من حمعسق ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾[13]، بكى حتّى ارتفع نحيبه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «يا زرّ، أمِّن على دعائي»، ثمّ قال: «اللهمّ إنّي أسألك إخبات المُخبِتين...»[14].
2. عن حفص بن غياث عن الإمام الصادق % في حديث، قال: ... ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[15]، وجعل يبكي ويقول: «ذهبت -واللّه- الأماني عند هذه الآية»[16].
3. روي أن رجلاً تعلّم من النبيّ - القرآن، فلّما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿فمَن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره﴾[17]، قال: يكفيني هذه، وانصرف، فقال رسول الله -: «انصرف الرجل وهو فقيه»[18].
طبّق آيات الله على نفسك
من التدبُّر في قراءة القرآن الكريم، التي لها استفادات كثيرة، أن يُطبّق القارئ الآيات القرآنيّة على نفسه. وقد بيّن الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) ذلك، بقوله: «حينما يتفكّر [القارئ] في كل آية من الآيات الشريفة، يُطبّق مفادها في حاله، ويرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق، ويشفي أمراضه به، مثلاً: في قصّة آدم % الشريفة، يتفكّر: إنّ مطروديّة الشيطان عن جناب القدس مع تلك السجدات والعبادات الطويلة لماذا؟ فيطهّر نفسه منه؛ لأنّ مقام القرب الإلهيّ مقام المطهّرين، فمع الأوصاف والأخلاق الشيطانيّة لا يمكن القدوم إلى ذلك الجناب الرفيع. ويستفاد من الآيات الشريفة، أنّ مبدأ عدم سجود إبليس هو رؤية النفس، والعُجب، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[19]. فهذا العُجب صار سبباً لحبّ النفس والاستكبار، وصار سبباً للاستقلال والاستكبار وعصيان الأمر، فصار مطروداً عن الجناب، ونحن خطبنا الشيطان من أوّل عمرنا ملعوناً ومطروداً، واتّصفنا بأوصافه الخبيثة، ولم نتفكّر في أنّ ما هو سبب المطروديّة عن جناب القدس إذا كان موجوداً في أيّ شخص، فهو مطرود، وليس للشيطان خصوصيّة، فما كان سبباً لطرده عن جناب القدس يكون مانعاً من أن نتطرّق إليه، وأنا أخاف من أن نكون شركاء إبليس في اللعن الذي نلعنه...
وبالجملة، من أراد أن يأخذ من القرآن الشريف الحظّ الوافر، والنصيب الكافي، فلا بدّ له من أن يُطبّق كلّ آية شريفة من الآيات على حالات نفسه؛ حتّى يستفيد استفادة كاملة. فوظيفة السالك إلى الله هي أن يعرض نفسه على القرآن الشريف؛ فكما أنّ الميزان في صحّة الحديث وعدم صحّته، أن يُعرَض على كتاب الله، فما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف، كذلك الميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاوة والسعادة، هو أن يكون مستقيماً وصحيحاً في ميزان كتاب الله»[20].
[1] سورة المائدة، الآيتان 15 - 16.
[2] سورة النساء، الآية 82.
[3] سورة ص، الآية 29.
[4] سورة محمّد، الآية 24.
[5] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1379هـ - 1338ش، لا.ط، ص226.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص609.
[7] الهَذْرَمة: السرعة في القراءة.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص617.
[9] أي عشر آيات.
[10] ابن أبي حاتم الرازيّ، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن أبي حاتم)، أسعد محمّد الطبيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.ت، لا.ط، ج1، ص5.
[11] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الحادية والعشرون، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص304، الخطبة 193.
[13] سورة الشورى، الآية 22.
[14] المتّقيّ الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، لا.ط، ج2، ص351.
[15] سورة النساء، الآية 41.
[16] القمّيّ، عليّ بن إبراهيم بن هاشم، تفسير القمّيّ، تصحيح وتعليق وتقديم السيّد طيّب الموسويّ الجزائريّ، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1404هـ، ط3، ج2، ص146.
[17] سورة الزلزلة، الآيتان 7 - 8.
[18] الشهيد الثاني، زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ، رسائل الشهيد الثاني (أسرار الصلاة)، منشورات مكتبة بصيرتي، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ص140.
[19] سورة الأعراف، الآية 12.
[20] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، الآداب المعنويّة للصلاة، تعريب العلّامة أحمد الفهريّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1406هـ – 1986م، ط2، ص353 - 354.
21
الموعظة الخامسة: القرآن الكريم كتابُ هداية
الموعظة الخامسة
القرآن الكريم كتابُ هداية
هدف الموعظة
بيان أحد أهمّ وظائف القرآن الكريم، وهي أنّه كتاب يهدي الإنسان إلى كماله وسعادته في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. القرآن كتابُ هادٍ
2. القرآن وهداية الإنسان
3. في زمن الفتنة، عليكم بالقرآن
تصدير الموعظة
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[1].
القرآن كتابُ هداية
شهر رمضان هو شهر القرآن، أنزل الله فيه القرآن الكريم على قلب رسول الله -؛ ليخرج الناس من ظلمات الجهل، وورطات المعاصي، إلى أنوار اليقين، وقرب المتّقين.
ولقد جاء هذا الكتاب السماويّ هادياً لكلّ أحد؛ فلا يُعدم من فوائده أحد؛ العامّيّ والعالِم. وقد نطق الله تعالى بهذه الحقيقة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...﴾[2].
ويبيّن العلّامة الطباطبائيّ (قُدِّس سرّه) وجه التقابل في الآية بين كون القرآن ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾، وكونه ﴿بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾: «الناس هم الطبقة الدانية من الإنسان، الذين سطح فهمهم المتوسّط أنزل السطوح، ويكثر إطلاق هذه الكلمة في حقّهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[3]، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ﴾[4].
وهؤلاء أهل التقليد، لا يسعهم تمييز الأمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، ولا فرْق الحقّ من الباطل بالحجّة إلّا بمبيِّن يبيّن لهم، وهادٍ يهديهم، والقرآن هدىً لهم، ونِعمَ الهدى؛ وأمّا الخاصّة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدّون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهيّة، والركون إلى فرقان الحقّ، فالقرآن بيّنات وشواهد من الهدى والفرقان في حقّهم، فهو يهديهم إليه، ويميز لهم الحقّ، ويبيّن لهم كيف يميز، قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[5]. ومن هنا، يظهر وجه التقابل بين الهدى، والبيّنات من الهدى، وهو التقابل بين العامّ والخاصّ؛ فالهدى لبعض، والبيّنات من الهدى والفرقان لبعضٍ آخر»[6].
من هنا، تأتي الدعوة إلى قراءة القرآن الكريم وتلاوته، وعدم الركون إلى وسوسات الشيطان الذي يريد أن يصدّك عن قراءته بحجّة عدم فهمك أكثر مطالبه.
وقد صرّحت طوائف من الآيات القرآنيّة، مضافاً إلى الروايات الشريفة بأنّ الهدف النهائيّ من القرآن هو الهداية، من قبيل أنّ القرآن:
1. نور: ﴿فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[7].
2. هدى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[8].
3. يهدي للتي هي أقوم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...﴾[9].
4. يهدي إلى سُبُل السلام: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ...﴾[10].
5. يهدي إلى الصراط المستقيم: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ... وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[11].
6. يهدي إلى الحقّ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ﴾[12].
فالقرآن الكريم مُبينٌ، وتبيانٌ لكلّ شيء، يهدي إلى كلّ خير يوصل إلى مقام القرب من الله تعالى.
أمّا في الروايات الشريفة، فالقرآن:
1. يُؤمِن من الضلال: عن رسول الله -: «أيُّها الناس، إنّي تاركٌ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي، أمرين: أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، حبلٌ ممدودٌ ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض»[13].
2. أفضل الهدايتين: عن الإمام عليّ %: «القرآن أفضل الهدايتين»[14].
3. حبل الله: عن الإمام زين العابدين %: «... فقيل له: يابن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن، والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[15]»[16]. وفي ذلك إشارة إلى مضمون حديث الثِقْلَين المتقدّم.
4. يهدي للتي هي أقوم، ويوفّق للرشاد: عن الإمام عليّ %: «مَنِ انتصح لله، واتّخذ قوله دليلاً، هداه للتي هي أقوم، ووفّقه للرشاد، وسدّده، ويسّره للحسنى»[17].
5. الهادي الذي لا يضلّ: عن أمير المؤمنين %: «وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدًى، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى»[18].
يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) في وصيّته لابنه أحمد: «بني: تعرّف القرآن -كتاب المعرفة العظيم- ولو بمجرّد قراءته، واجعل منه طريقاً إلى المحبوب، ولا تتوهّمنَّ أنّ القراءة من غير معرفة لا أثر لها، فهذه وساوس الشيطان. فهذا الكتاب كتاب من المحبوب إليك وإلى الجميع -وكتاب المحبوب محبوبٌ، وإن كان العاشق المحبّ لا يدرك معنى ما كُتب فيه- وقد جاء إليك هادفاً إلى خلق هذا الأمر لديك «حُبّ المحبوب» الذي يُمثّل غاية المرام، فلّعله يأخذ بيدك. واعلم أنّنا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدة شكر واحدة على أنّ القرآن كتابنا؛ لما وفّينا هذه النعمة حقّها من الشكر»[19].
القرآن وهداية الإنسان
التغيير وهداية الإنسان عمليّة تبدأ من النفس، وَفق سنّة التغيير: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[20]، وعبر عمليّة تكامليّة، هي تزكية النفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾[21].
ولقد استطاع القرآن أنْ يحقّق ذلك من خلال عمليّة تغييريّة تحرّريّة نفسيّة ذات أبعاد ثلاثة:
البُعد الأوّل: تحرير القرآن للإنسان من الوثنيّة والشرك، وتركيز فكرة الإيمان والتوحيد في نفسه، وزرع روح العبوديّة لله وحده لا شريك له.
البُعد الثاني: تحرير القرآن للعقول من الأساطير، والأوهام، وذلك عبر:
1. الدعوة إلى التفكير واعتماد العقل: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ﴾[22].
2. اعتماد الأدلّة والبراهين: ﴿أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[23].
3. تأكيد أهمّيّة العلم والمعرفة: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[24].
ولقد أرشد القرآن إلى موانع العلم والمعرفة: ومنها:
1. اتّباع الظنّ وإنزاله منزلة اليقين: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾[25].
2. التقليد الأعمى للآباء: ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَان آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[26].
3. اتّباع ذوي القدرة من الكبراء والسادات: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾[27].
4. اتّباع هوى النفس: ﴿فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَن أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَالِمِينَ﴾[28].
5. الانشغال بالحياة الدنيا وزينتها: ﴿أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ﴾[29].
البُعد الثالث: تحرير إرادة الإنسان من سيطرة الشهوة، وتربيته على مقاومة شهواته وضبطها، والصمود في وجه الإغراء وألوان الهوى المتنوّعة.
في زمن الفتنة، عليكم بالقرآن
إنّ هداية القرآن الكريم دائمة مستمرّة ما دامت السماوات والأرض؛ ومن هنا جاء التأكيد على التمسّك به في زمن الفتن المُضلّة؛ كونه سبب نجاة، وحيل خلاص، فعن رسول الله -: «إذا التبست عليكم الفتن كقِطَع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدق[30]، ومَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل...»[31].
[1] سورة البقرة، الآية 185.
[2] سورة البقرة، الآية 185.
[3] سورة الروم، الآية 30.
[4] سورة العنكبوت، الآية 43.
[5] سورة المائدة، الآية 16.
[6] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط5، مصدر سابق، ج2، ص23.
[7] سورة الأعراف، الآية 157.
[8] سورة البقرة، الآية 2.
[9] سورة الإسراء، الآية 9.
[10] سورة المائدة، الآية 16.
[11] سورة المائدة، الآية 16.
[12] سورة الجنّ، الآيتان 1 - 2.
[13] السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص60.
[14] التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد مهدي رجائي، نشر دار الكتاب الإسلاميّ، إيران - قم، 1410هـ، ط2، ص89.
[15] سورة الإسراء، الآية 9.
[16] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص132.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص389 - 390.
[18] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص251، الخطبة 176.
[19] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، المظاهـر الرحمانيـّة (رسائل الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) العرفانيّة)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، إيران - طهران، 1995م، ط1، ص12.
[20] سورة الرعد، الآية 11.
[21] سورة الشمس، الآية 9.
[22] سورة الرعد، الآية 19.
[23] سورة النمل، الآية 64.
[24] سورة الزمر، الآية 9.
[25] سورة الأنعام، الآية 148.
[26] سورة البقرة، الآية 170.
[27] سورة الأحزاب، الآية 67.
[28] سورة القصص، الآية 50.
[29] سورة التكاثر، الآيتان 1 - 2.
[30] يمحل بصاحبه؛ أي يسعى به إذا لم يتّبع ما فيه إلى الله تعالى.
[31] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص599.
27
الموعظة السادسة: الإسلام دين التكافل
الموعظة السادسة
الإسلام دين التكافل
هدف الموعظة
معرفة أهمّيّة التكافل الاجتماعيّ في الإسلام، وضرورته، وأجره العظيم في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. الإسلام دين التكافل
2. أحبُّ الأعمال وأحبُّ الناس
تصدير الموعظة
الإمام الباقر %: «والله، لأنْ أحجَّ حجّةً أحبُّ إليَّ مِن أنْ أعتق رقبة ورقبة [ورقبة] ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها حتّى بلغ السبعين، ولأنْ أعُولَ أهلَ بيتٍ من المسلمين؛ أسدَّ جَوعتهم، وأكسوا عورتهم، فأكفَّ وجوههم عن الناس، أحبُّ إليَّ مِن أنْ أحجَّ حجّةً وحجّةً [وحجّةً] ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها حتّى بلغ السبعين»[1].
الإسلام دين التكافل
التكافل الاجتماعيّ فريضة إلهيّة تهدف إلى الإحساس بالآخر، وخلع ربقة الأنانيّة، والاندماج بالمجتمع، والشعور بالمسؤوليّة تجاه أفراده؛ مسؤوليّة قائمة على الحبّ، والإيثار، والبذل والعطاء، والبرّ والإحسان والمواساة.
وإنّ مبدأ التكافل الاجتماعيّ في الإسلام جوهره أنّه يحقّ لكلّ فرد في المجتمع أن يومّن حاجاته الضروريّة؛ حتّى يعيش عيشة عزيزة كريمة لا يداخلها أيّ إذلال أو إيهان.
ومن يطالع كتاب الله تعالى، والنصوص الدينيّة، يجد -بوضوح- عنايةً خاصّة وكبيرة بالمجتمع والآخرين؛ من خلال التكاليف الاجتماعيّة العباديّة؛ كالحجّ، أو التكاليف الماليّة؛ كالخمس والزكاة والكفّارات وغيرها، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾[2]، ويقول: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[3].
وعن الإمام الباقر %: «من حقّ المؤمن على أخيه المؤمن: أن يشبع جوعته، ويواري عورته، ويفرّج عنه كربته، ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده»[4].
وعن الإمام الصادق % -في بيان حقوق المؤمن على المؤمن- قال: «أيسرُ حقٍّ منها أن تحبَّ له ما تحبُّ لنفسك، وتكرهَ له ما تكرهُ لنفسك»[5].
أحبُّ الأعمال وأحبُّ الناس
تندرج العديد من العناوين المحبوبة لله تعالى تحت التكافل الاجتماعيّ، كقضاء حاجة المؤمن، وإدخال السرور عليه، وتنفيس كربته، وإطعامه، وكسوته، وإكرامه وغيرها الكثير.
ولكون هذه العناوين موصلة إلى الله، ونيل رضاه، كان أئمّة أهل البيت ( من المداومين عليها، المُجدّين في تحقيقها، والمساهمة في التخفيف عن كاهل الفقراء والمحتاجين، وكلّ من يمكنهم إسداء خدمةٍ له.
ورد أنّ الزُهريّ رأى عليّ بن الحسين ' في ليلة باردة ممطرة، وعلى ظهره دقيق، يريد أن يتصدّق به على الفقراء، فقال: يا بن رسول الله، ما هذا؟ قال %: «أُريد سفراً أُعدُّ له زاداً، أحمله إلى موضع حريز»[6]، قال: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، فقال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفعك عن حمله، فقال %: «لكنّي لا أرفع نفسي عمّا يُنجيني في سفري، ويُحْسن ورودي على ما أرد عليه، أسألكَ بحقّ الله لما مضيت بحاجتك وتركتني»، فانصرفتُ عنه. فلمّا كان بعد أيّام قال: يابن رسول الله، لستُ أرى لذلك السفر الذي ذكرتَه أثراً، قال %: «بلى، يا زُهريّ، ليس ما ظننتَ، ولكنّه الموت، وله كنتُ أستعدُّ، إنّما الاستعداد للموت تجنُّب الحرام، وبذل النَّدى[7] في الخير»[8].
وقد وردت الأخبار الكثيرة في عناوين التكافل الاجتماعيّ:
1. ففي قضاء حاجة المؤمن: عن الإمام الصادق %: «... ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله عزَّ وجلَّ له يوم القيامة مئة ألف حاجة؛ من ذلك أوّلها الجنّة، ومن ذلك أن يُدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنّة بعد أن لا يكونوا نصّاباً...»[9].
2. وفي إدخال السرور على المؤمن: ورد عن الإمام الباقر %: «إنّ مؤمناً كان في مملكة جبارٍ فولع[10] به، فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك، فأظلَّه وأرفقه وأضافه، فلمّا حضره الموت، أوحى الله عزّ وجلّ إليه: وعزّتي وجلالي، لو كان [لك] في جنّتي مسكن لأسكنتُك فيها، ولكنّها محرّمةٌ على مَن مات بي مشركاً، ولكن يا نار هِيدِيه[11] ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفَي النهار»[12].
3. وفي تنفيس كربته، وإطعامه وسقايته: عن الإمام الصادق %: «مَن نفّس عن مؤمن كربة، نفّس الله عنه كُرب الآخرة، وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد[13]، ومن أطعمه من جوع، أطعمه الله من ثمار الجنّة، ومَن سقاه شربة، سقاه الله من الرحيق المختوم[14]»[15].
4. وفي إكرامه: عن الإمام الصادق %: «مَن أتاه أخوه المسلم فأكرمه فإنّما أكرم الله عزَّ وجلَّ»[16].
وليُعلم أنّ تماسك المجتمع واتحاده وقوّته؛ أمورٌ تتعدّى المؤازرة المادّيّة لتشمل كلّ ما يحافظ على كرامة المؤمن وعزّته معنويّاً، ومن ذلك ما عن رسول الله -: «مَن ستر على مؤمن عورة يخافها، ستر الله عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة»[17].
ولا ننسَ أنّ «أحبَّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً. ولأَن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضًى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتّى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزلّ الأقدام...»[18].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص195.
[2] سورة البقرة، الآية 195.
[3] سورة البقرة، الآية 261.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص169.
[5] المصدر نفسه، ج2، ص169.
[6] أي حصين.
[7] الجود والكرم.
[8] ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1376هـ - 1956م، لا.ط، ج3، ص293.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص193.
[10] أي استخفّ.
[11] أي أزعجيه وأفزعيه وحرّكيه وأصلحيه.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص189.
[13] أي فرح القلب مطمئنا واثقا برحمة الله.
[14] الرحيق المختوم: الرحيق من أسماء الخمر يريد خمر الجنّة. والمختوم: المصون.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص200.
[16] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص298.
[17] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1368ش، ط2، ص135.
[18] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج15، ص917.
33
الموعظة السابعة: حسن العبادة
الموعظة السابعة
حسن العبادة
هدف الموعظة
تعرّف جوانب من فضل العبادة وآثارها وآدابها المعنويّة.
محاور الموعظة
1. ما هي العبادة؟
2. فضل العبادة وأثرها
3. كيف أكون عبداً؟
4. إخلاص النيّة بوّابة العبادة
5. الطمأنينة روح العبادة
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «قال رسول الله -: أفضل الناس من عَشِقَ العبادة فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشَرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر»[1].
ما هي العبادة؟
العبادة في الأصل معنى مأخوذ من الذلّ، يُقال: طريق معبّدٌ، إذا كان مُذلّلاً قد وطئته الأقدام. غير أنّ العبادة في الشرع لا تقتصر على معنى الذلّ فقط، بل تشمل معنى الحبّ أيضاً؛ فهي تتضمّن غاية الذلّ لله وغاية المحبّة له، فيجب أن يكون الله أحبَّ إلى العبد من كلّ شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كلّ شيء، عن أمير المؤمنين %: «إذا أحبّ الله عبداً، ألهمه حسَن العبادة»[2].
فضل العبادة وأثرها
يكفي في فضلها ما ورد في الحديث القدسيّ: «وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»[3].
ويمكن أن نحصي لعبادة الله سبحانه آثاراً عديدة أخرى على الإنسان، نذكر منها:
1. غنى القلب: عن الإمام الصادق %: «في التوراة مكتوب: يابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبكَ غِنىً، وَلا أَكِلكَ إلى طلبك، وعليّ أن أسُدّ فاقتك، وأملأ قلبكَ خوفاً منّي، وإن لا تَفَرَّغ لعبادتي أملأ قلبكَ شغلاً بالدنيا، ثمّ لا أسدّ فاقتك، وأَكِلكَ إلى طلبك»[4].
2. يباهي الله به الملائكة: عن رسول الله -: «إنّ الله تعالى يُباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، ترك شهوته من أجلي»[5].
3. ينصره الله على الشيطان: عن الإمام الصادق %، عن آبائه (: «قال رسول الله - لأصحابه: ألا أُخبركم بشيء، إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه، ولكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام»[6].
كيف أكون عبداً؟
العبد هو الإنسان المملوك لمولاه، الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والذي تكون إرادته تابعةً لإرادة مالكه، فلا يطلب شيئاً إلّا تبعاً لطلبه ومشيئته، ولا يعصي له أمراً ولا يتمرّد على حكمه.
والعبوديّة هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، والتسليم له، وامتثال الطاعة والانقياد له، بلا قيدٍ ولا شرط. والمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين؛ هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه.
يقول شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «إِنَّا لِلَّهِ، ليست مجرّد كلمة تُقال. إِنَّا لِلَّهِ، تعني نحن ملكه، ونحن عبيده، ونحن ملك يمينه. نَوَاصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[7]، فعندما نكون عبيداً له، نرضى بما يرضاه لنا»[8].
فمعنى أن أكون عبداً؛ أن لا أقوم بأيّ فعل حتّى أعلم حكم الله فيه، فأعمل وفقه، وأن لا تكون لي إرادة في مقابل إرادة الخالق، وأن لا أريد إلّا ما أراده، ولا أرى لنفسي حولاً ولا قوّةً على شيء إلّا بتوفيقه تعالى ومَنّه.
عن الإمام الصادق % لمّا سُئِل عن حقيقة العبوديّة: «ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه في ما خوَّلهُ الله ملكاً؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملكٌ، يرَون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يُدَبِّرُ العبد لنفسه تدبيراً، وجُملَة اشتغاله في ما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوَّلَه الله تعالى ملكاً، هان عليه الإنفاق في ما أمره الله تعالى أن يُنفِق فيه، وإذا فوَّضَ العبد تدبير نفسه على مُدَبِّره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما إلى المِرَاءِ والمباهاة مع الناس»[9].
إخلاص النيّة بوّابة العبادة
عن رسول الله -: «إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لامرأة يتزوّجها أو لدنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»[10].
وعن الإمام الصادق %: «صاحب النية الصادقة، صاحب القلب السليم»[11]، وسُئل % عن العبادة وحدِّها، فقال: «حسن النية بالطاعة، من الوجوه التي يُطاع الله منها»[12].
فالنيّة إذاً هي مصدر قيمة الفعل، وعليها يتوقّف مدى قبوله عند الله، ونيل ثوابه؛ لذا كان المؤمن الحقّ بعيداً عن التناقض والنفاق، وانقسام الشخصيّة، وهو يعبّر بممارسته عن ذاته حقّاً، ويرسم صورة توجّهاته الذاتيّة الباطنة، من غير نفاق ولا رياء، قال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا﴾[13].
لذلك، فإنّ الهيكل الشكليّ الظاهريّ للفعل العباديّ لا يعبّر عن إيمان صاحبه، حتّى وإن توافق مع الشروط الفقهيّة والمظهر الخارجيّ للعبادات، إلّا إذا كان صادراً عن نيّة صادقة مخلصة.
الطمأنينة روح العبادة
من الآداب المعنويّة المهمّة للعبادات، ولا سيّما التي يطغى فيها طابع الذِّكر كالصلاة، أدب الطمأنينة. وأداء الصلاة أو أيّ عبادة أخرى بحال الطمأنينة، يعني أن يؤدّيها العابد وهو في حالٍ من سكينة القلب واطمئنان البال. وهذا يعني أن يكون قلب الإنسان هادئاً مطمئناً غير مضطربٍ لأيّ سببٍ من الأسباب، وساكناً غير متزلزلٍ بأيّ عاملٍ من العوامل.
لماذا يُعَدّ هذا الأدب في غاية الأهمّيّة؟ وما فائدته بالنسبة للعبادة؟
عن أمير المؤمنين %: «إنّ الله تعالى ما فرض الإيمان على جارحة من جوارح الإنسان، إلّا وقد وُكِلَتْ بغير ما وُكِلَتْ به الأخرى؛ فمنها قلبه الذي يعقل به، ويفقه ويفهم، ويحلّ ويعقد ويريد، وهو أمير البدن وإمام الجسد، الذي لا تُورَدُ الجوارح ولا تصدر إلّا عن رأيه وأمره ونهيه»[14].
على ضوء هذه الحقيقة، يمكن لنا أن نفهم إحدى علل تكرار العبادات، كالصلاة اليوميّة مثلاً؛ إذ إنّ تكرارها وترديد أذكارها وإعادة أورادها يهدف إلى زيادة أثرها في قلب الإنسان وتعميقه، فينفعل بها، ويتّحد بروح العبادة، ويسري هذا الأثر إلى كلّ باطنه، ثمّ إلى أعضائه الخارجيّة، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق %: «فاجعل قلبك قبلةً للسانك، لا تحرّكه إلّا بإشارة القلب، وموافقة العقل، ورضا الإيمان»[15].
فإذا كان هذا هو الواقع، فيمكن لنا أن نستنتج أهمّية كون القلب في حالٍ من الطمأنينة عند العبادة؛ فإنّ القلب المتزلزل المضطرب لا يمكن له أن ينفعل بالعبادة مهما بلغت وعظمت. ويمكننا لتوضيح الصورة أن نشبّه القلب المتزلزل بالأرض المهتزّة والمتزلزلة التي نريد أن نشيّد فيها بنياناً، فهل يمكن ذلك في حالٍ من الاضطراب والاهتزاز؟ أم أنّ جميع جهود البناء وكلّ الموارد والموادّ التي تُستثمر سوف تذهب سدىً؟ والأمر سيّان بالنسبة للقلب، فلكي ينفعل ويتأثّر بالعبادة وتؤتي فيه العبادة أكلها، لا بدّ من أن يكون ساكناً، هادئاً، مطمئناً، فينتقل هذا الأثر بالتدريج، وعلى أثر تكرار العبادة من القلب إلى الجوارح، ويظهر عليها.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص83.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص135.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص352.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص83.
[5] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج15، ص776.
[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص118.
[7] سورة البقرة، الآية 156.
[8] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 24/02/2003م.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص225.
[10] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن عليّ أصغر فيضي، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383هـ - 1963م، لا.ط، ج1، ص4.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سباق، ج67، ص210.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص83.
[13] سورة الإسراء، الآية 84.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سباق، ج66، ص74.
[15] الإمام الصادق، جعفر بن محمّد ' (منسوب)، مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1400هـ - 1980م، ط1، ص55.
38
الموعظة الثامنة: الورع عن محارم الله
الموعظة الثامنة
الورع عن محارم الله
هدف الموعظة
بيان مقام الورع عن محارم الله، وضرورته في السير إلى الله تعالى، ونيل رضاه.
محاور الموعظة
1. الورع بابُ التقوى
2. الورع أفضل القُربات
3. الورع ذِكرُ الله
4. ورع يوسف %
تصدير الموعظة
بعد أن بيّن رسولُ الله - فضل شهر رمضان، سأله أميرُ المؤمنين %: «يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟»، فقال -: «يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ»[1].
الورع بابُ التقوى
يبيّن لنا رسول الله - في خطبته الشهيرة في استقبال شهر رمضان، بعد أن بيّن فضل العديد من العبادات، وحثّ عليها، أنّ أفضل الأعمال فيه، الورع عن محارم الله، وهجران الذنوب، والابتعاد عنها.
والورع هو الانزجار عن متابعة النفس الأمّارة بالسوء؛ ما يشكّل حصانة أخلاقيّة في النفس، ورادعاً لها من تقحُّم الذنوب، وباباً لتقوى الله تعالى؛ لأنّ مقام التخلية -بلا شكّ- مقدّمٌ على مقام التحلية؛ فكان الورع أفضل الأعمال، وأصل الدين[2]، وثبات الإيمان[3]، وأزيَن الأخلاق[4]، ومصباح النجاح[5].
الورع أفضل القُربات
عدّت الروايات الورع عن محارم الله سبحانه أفضل الأعمال، وأولاها، وخيرها، وأحبّها إلى الله تعالى؛ وهذه بعضها:
1. أحبُّ إلى الله من صلاة ألفَي ركعة تطوّعاً: عن رسول الله -: «تَرْكُ لقمة الحرام أحبُّ إلى الله من صلاة ألفَي ركعة تطوّعاً»[6].
2. أفضل عبادة: عن أمير المؤمنين %: «غَضّ الطَرْف عن محارم الله أفضل عبادة»[7].
3. أفضل القُربات: عن الإمام الصادق %: «فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى %: يا موسى، ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل الورع عن محارمي»[8].
4. علامة الموالين: عن الإمام عليّ %: «مَن أحبّنا فليعمل بعملنا، وليستعن بالورع؛ فإنّه أفضل ما يُستعان به في أمر الدنيا والآخرة»[9].
وعن الإمام الصادق %: «عليكم بالورع؛ فإنّه الدين الذي نلازمه، وندين الله به، ونريده ممّن يوالينا»[10].
وعن الإمام الباقر % -لخيثمة، لمّا دخل عليه ليودعه-: «أبلغ موالينا السلام عنّا، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأعلمهم يا خيثمة أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، ولن ينالوا ولايتنا إلّا بورع»[11].
الورع ذِكرُ الله
إنّ تذكُّر الله تعالى، واستحضاره سبحانه عندما تدعو النفس الأمّارة بالسوء إلى ارتكاب الذنب، لهو رادعٌ لها عن ذلك، ومنجيها منه.
وقد ورد في هذا المعنى روايات عدّة، منها:
1. عن رسول الله - لأمير المؤمنين %: «يا عليّ، ثلاث لا تطيقها هذا الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه، خاف الله عزّ وجلّ عنده، وتركه»[12].
2. عن الإمام الصادق %: «مِن أشدِّ ما فرض الله على خلقه، ذكرُ الله كثيراً، ثمّ قال: لا أعني سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكر الله عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها»[13].
ورع يوسف %
وفي القرآن الكريم شاهدٌ عمليّ للورع، ذكره الله تعالى في قصّة النبيّ يوسف (على نبيّنا وآله وعليه السلام)، ولا بأس بذكر شيء من التفصيل عن ملابسات الحدث:
امرأة العزيز، وهي عزيزة مصر، وصّاها العزيز بيوسف أن تُكرم مثواه، فلم تزل تُكرمه، وتُحسن مثواه، وتهتمّ بأمره، لا كما يُهتَمّ بأمر رقيق مملوك، بل كما يُعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد، وتحبّه لبديع جماله، وغزير كماله، وتزداد كلّما مضت الأيّام حبّاً إلى حبّ، حتّى إذا بلغ الحُلم، واستوى على مستوى الرجال، لم تملك نفسها دون أن تعشقه، وتُذَلّ على ما لها من مناعة الملك والعزّة، وعصمة العفّة والخدارة تجاه هواه القاطن بسرّها، الآخذ بمجامع قلبها.
وقد كان يوسف يلازمها في العشرة، ولا يفارقها، وكانت عزيزةً لا يُثنّى أمرُها، ولا تُردّ عزيمتها، وكانت -فيما تزعم- سيّدةَ يوسف، وهو عبدها المملوك، لا يسعه إلّا أن يطيعها، وينقاد لها، ولبيوت الملوك والأعزّة أن تحتال لشتّى مقاصدها ومآربها بأنواع الحيل والمكائد؛ فإنّ عامّة الأسباب، وإنْ عزّت وامتنعت، ميسّرةً لها، وكانت العزيزة ذات جمال وزينة؛ فإنّ حريم الملوك لا تدخلها كلُّ شوهاء دميمة، ولا تحلّ بها إلّا غوان ذوات حسن فتّانات.
ولم تزل عزيزة مصر تعدّ نفسها وتمنّيها بوصال يوسف، والظفر بما تبتغيه منه، وتلاطفه في عشرته، وتشفع ذلك بما لربّات الحسن والزينة من الغنج والدلال؛ لتصطاده بما عندها، كما اصطادها بما عنده. ولعلّ الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته، كان يغرّها فيما ترومه، ويغريها عليه.
حتّى إذا تاقت نفسها له، وبلغت بها وأعيتها المذاهب، خلت به في بيتها، وقد غلّقت الأبواب، فلم يبقَ فيه إلّا هي ويوسف، وهي لا تشكّ في أنّ يوسف سيطيعها في أمرها، ولا يمتنع منها؛ لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة، وتشاهد أنّ الأوضاع والأحوال الحاضرة تقضي بفوزها، ونيلها ما تريده منه.
إنّها فتاة تائقة في غرامها، مشغوفة بحبّ يوسف، تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها، وتتوسّل إلى ذلك بتغليق الأبواب، ومراودته عن نفسه، والاعتماد على ما لها من العزّة والملك، حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر: «هَيْتَ لك»؛ لتقهره على ما تريده منه.
وأمّا هو، فقد قابلها بقوله: معاذ الله، فلم يجبها بتهديد، ولم يقل إنّي أخاف العزيز، أو لا أخونه، أو إنّي من بيت النبوة والطهارة، أو إنّ عفّتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، ولم يقل إنّي أرجو ثواب الله، أو أخاف عذابه، إلى غير ذلك، ولو كان قلبه متعلّقاً بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره، وبدا به عند مفاجأة الشدّة، ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان، بل استمسك بعروة التوحيد، وأجاب بالعياذ بالله فحسب، ولم يكن في قلبه أحد سوى ربّه، ولا تعدّى بصره إيّاه إلى غيره؛ فهذا هو التوحيد الخالص، الذي هدتْه إليه المحبّة الإلهيّة، وأولهه في ربّه، فأنساه الأسباب كلّها، حتّى أنساه نفسَه، فلم يقل: إنّي أعوذ منكِ بالله، أو ما يؤدّي معناه، وإنّما قال: معاذ الله[14].
إنّه الورع الذي لا يُباع بثمن، عن أمير المؤمنين %: «واللّه، لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّه فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه، وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى، ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى»[15].
وعنه %: «من أفضل الورع أن لا تبدي في خلوتك ما تستحيي من إظهاره في علانيتك»[16].
اللهمّ، صلِّ على محمّد وآل محمّد، وأعنّي على صلاة الليل وصيام النهار، وارزقني من الورع ما يحجزني عن معاصيك!
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص155.
[2] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392هـ - 1972م، ط6، ج2، ص376.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص365.
[4] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص149.
[5] المصدر نفسه، ص30.
[6] الحلّيّ، ابن فهد، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تصحيح أحمد الموحّديّ القمّيّ، مكتبة وجداني، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ص128.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص349.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص80.
[9] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص614.
[10] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ص281.
[11] المصدر نفسه، ص135.
[12] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، مصادقة الإخوان، إشراف السيّد عليّ الخراسانيّ الكاظميّ، مكتبة الإمام صاحب الزمان العامّة، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص38.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص80.
[14] انطر: العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج11، ص123.
[15] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص347، الخطبة 224.
[16] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص677.
43
الموعظة التاسعة: حُسن الظنّ أفضل الورع
الموعظة التاسعة
حُسن الظنّ أفضل الورع
هدف الموعظة
معرفة أهمّيّة حُسن الظنّ كقيمة أخلاقيّة، وأثره في علاقة الإنسان بالله وبالآخرين، وبعض ضوابطها.
محاور الموعظة
1. حُسن الظنّ بالله من علامات الإيمان
2. معنى حُسن الظنّ بالله
3. حُسن الظنّ بالناس
4. الإمام المهديّ . مصداق حُسن الظنّ بالله
تصدير الموعظة
الإمام زين العابدين % في دعاء أبي حمزة الثماليّ: «أفَتُراكَ يا رَبّ تُخلِفُ ظُنونَنا أو تُخَيّبُ آمالَنا؟ كَلّا يا كَريمُ لَيسَ هذا ظَنُّنا بكَ، ولا هذا فيكَ طَمَعُنا، يا رَبّ، إنَّ لَنا فيكَ أمَلاً طَويلاً كَثيراً، إنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً»[1].
حُسن الظنّ بالله من علامات الإيمان
إنّ حُسن الظنّ بالله تعالى قيمة تربويّة وأخلاقيّة عالية، ناجمة عن اعتقاد سليم بأنّه تعالى يفعل الأصلح بعباده في الدنيا والآخرة، فيرضى بقضاء الله وقدره، وأنّه تعالى يتجاوز ويصفح عن العاصين، فيكبر أملُه برحمته، ويصحّح سيرته، وأنّ بيده تعالى تبديل الأحوال نحو الأفضل، فيجدّ ويعمل... وهكذا. وبكلمة موجزة: إنّ حُسن الظنّ بالله ورحمته ووعده وكرمه ولطفه وعنايته من علامات الإيمان، ومن الأسباب المؤثّرة في النجاة والسعادة يوم الحزن الأكبر.
وقد ورد في فضل حُسن الظنّ أنّه:
1. «أفضل الورع»[2].
2. «مِن أحسن الشيم»[3].
3. «من أفضل السجايا وأجزل العطايا»[4].
4. «راحة القلب، وسلامة الدين»[5]، و«يخفّف الهمّ، ويُنجي من تَقلُّد الإثم»[6].
وقد ورد في مضمون الكثير من الروايات، أنّ الله تعالى عند حُسن ظنّ عبده به، فعن رسول الله -: «ليس من عبد يظنّ بالله خيراً إلّا كان عند ظنّه به»[7].
وقد بلغ حُسن ظنّ العبد بربّه، «أنّ الله إذا حاسب الخلق، يبقى رجل قد فضُلت سيّئاته على حسناته، فتأخذه الملائكة إلى النار وهو يلتفت، فيأمر الله بردّه، فيقول له: لِمَ التفتَّ؟ -وهو تعالى أعلم به- فيقول: يا ربّ، ما كان هذا ظنّي بك، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي، وعزّتي وجلالي وآلائي وعلويّ وارتفاع مكاني، ما ظنَّ بي عبدي هذا ساعةً من خيرٍ قطّ، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما ودعته بالنار، أجيزوا له كذبه، وأدخلوه الجنّة»[8].
وقد صدّر الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) وصيّته بحُسن الظنّ بالله: «إنّي أكتبُ هذه الكلماتِ، وينتابُني قلقٌ كبيرٌ في أنْ لا تكونَ عاقبَتي حَسَنَةً، نتيجةَ ذنوبي أو تقصيري أو عدمِ استحقاقي، وإنْ كانَ الأملُ عامراً في قلبي بأنْ لا ألقى اللهَ تعالى إلّا وأنا مستبشِرٌ بشهادةٍ، أسألُ اللهَ تعالى أنْ لا أُحرَمَ منها. وهذا ما يبعثُ فِيَّ الراحةَ والطمأنينةَ؛ لأنّي عرفتُ أنّ اللهَ عِنْدَ حُسْنِ ظنِّ عبدِه، وأنا المُقِرُّ بالعبوديّةِ له، والحامدُ والشاكرُ على نعمائِه وابتلاءاتِه كلِّها، ولم أعهَدْه إلّا وهو أكرمُ الأكرمينَ، ولطالما تلطّفَ عَلَيَّ بسترِ ذنوبي، وترفَّقَ بي مع قلّةِ حيائي وضعفي»[9].
معنى حُسن الظنّ بالله
حتّى لا يخطئ المرء فهمه لحُسن الظنّ بالله، ويغترّ به؛ فتسوّف له نفسه التقليل من الخير أو تأخير التوبة والإنابة، فسّر لنا أهل البيت ( المراد منه:
عن الإمام عليّ %: «حُسن الظنّ أن تُخلص العمل، وترجو من الله أن يعفو عن الزلل»[10].
وعن الإمام الصادق %: «حُسن الظنّ بالله أن لا ترجو إلّا الله، ولا تخاف إلّا ذنبك»[11].
لذا، المطلوب من المؤمن أن يجسّد حديث الإمام عليّ %: «وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ، فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ»[12].
وكذلك حديث الإمام الصادق %: «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يُشرف على النار، ويرجوه رجاءً كأنّه من أهل الجنّة»[13].
حُسن الظنّ بالناس
إنّ حُسن الظنّ مطلوبٌ تجاه الناس؛ بأن يكون الأصل عند أحدنا هو حمل أفعال الآخرين وأقوالهم على الأفضل والأحسن ما لم يتيقّن سوء نيّاتهم أو تبدو له أمارات ذلك.
عن الإمام عليّ %: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظُنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»[14].
وينهانا أمير المؤمنين % عن التسرُّع في إساءة الظنّ بالمؤمنين، وتصديق ما يُقال في حقّهم ممّا يُعيب ويقدح؛ اتكاءً على أقاويل الرجال؛ فإنّ ذلك قد يُعقب ظلماً في حقّه من جهة سوء الظنّ، فعنه %: «مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ، وَسَدَادَ طَرِيقٍ، فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وَتُخْطِئُ السِّهَامُ»[15].
الإمام المهديّ . مصداق حُسن الظنّ بالله
إنّ حُسن الظنّ بالله تعالى يجعلنا مؤمنين ومتيقّنين بأنّ فرج البشريّة وخلاصها ونجاتها ستتحقّق -في نهاية المطاف- على يدي الإمام المهديّ . بعون الله تعالى، وسواعد المجاهدين، وتضحيات المخلصين، وصبرهم؛ وأنّ المستقبل للمؤمنين والصالحين؛ وهذا وعد الله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[16].
يقول الشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «في أخبار الغيب، وعدنا الله سبحانه وتعالى أنّ هذه الأرض في نهاية المطاف سيرثها الصالحون والصدّيقون والمبارَكون، وسيُقام فيها العدل، وتتحقّق فيها العدالة والسلام والأمن والاستقرار والسلامة والعافية، وستنفتح فيها الكثير من أبواب الخير للبشريّة. هذا وعد إلهيّ، على الرغم ممّا ستمتلئ به على مدى آلاف السنين من ظلم وفساد وسفك للدماء وعلوّ وعتوّ واستكبار واستضعاف وحروب وفتن وصراعات»[17].
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411هـ - 1991م، ط1، ص586.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص119.
[3] المصدر نفسه، ص228.
[4] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج11، ص252.
[5] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص229.
[6] المصدر نفسه، ص227.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص384.
[8] الديلميّ، الحسن بن محمّد، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1408هـ، ط1، ص256.
[9] من وصيّته (رضوان الله عليه).
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص229.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص72.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص382، الكتاب 26.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص302.
[14] المصدر نفسه، ج2، ص362.
[15] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص198، الخطبة 141.
[16]سورة الأنبياء، الآية 105.
[17] من كلمة له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 07/04/2020م.
48
الموعظة العاشرة: أكرموا شهداءكم
الموعظة العاشرة
أكرموا شهداءكم
هدف الموعظة
الحثّ على طلب الشهادة، وواجباتنا تُجاه الشهداء.
محاور الموعظة
1. كونوا شهداء
2. واجباتنا تجاه الشهداء
تصدير الموعظة
رسول الله -: «أشرف الموت قتل الشهادة»[1].
كونوا شهداء
للشهادة مقامٌ سامٍ عند الله تعالى، لا يبلغها إلّا ذو حظٍّ عظيم، مَنَّ اللهُ عليه بهذه النعمة؛ فإنّه «فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[2].
وإنّ نعمة الشهادة ينبغي لكلّ أحد أن يسعى إليها، ويدعو الله أن ينالها بكرمه وجوده.
ونحن نقرأ في سورة الحمد التي نكرّرها كلّ يوم: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾[3]؛ فإنّنا ندعو الله أن يرزقنا مقام الشهادة؛ لأنّ الشهداء من الذين أنعم الله عليهم: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾[4]؛ فلنضع نصب أعيننا هذا المقام السامي للشهداء، ونطلبه بصدق عند قراءتنا سورة الحمد.
وفي الروايات حثٌّ على طلب الشهادة؛ بأن يجاهد المرء في سبيل الله طامعاً في الشهادة، وأن يدعوَ الله أن يرزقه إيّاها، فعن رسول الله -: «مَن طلب الشهادة صادقاً أُعطيها، ولو لم تُصبه»[5].
وعنه -: «مَن سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»[6]، و«مَن سأل الله الشهادة مخلصاً، أعطاه الله أجر شهيد، وإن مات على فراشه»[7]. فينبغي للمؤمن أن يوطّن نفسه على الشهادة، وأن يملك هذه الروحيّة، وأن يُخلص النيّة لله تعالى؛ فإنّه كما عن رسول الله -: «كم ممّن أصابه السلاح ليس بشهيد ولا حميد، وكم ممّن قد مات على فراشه حتْفَ أنفه عند الله صِدّيقٌ شهيد»[8]. ومن هنا، يحقّ القول: إنّ الشهداء عاشوا الشهادة قبل أن تفارق أرواحُهم أبدانَهم؛ فتخلّقوا بأخلاق الشهداءـ وعملوا أعمالهم، واتّصفوا بهم.
وقد أفصح أمير المؤمنين % عن شوقه إلى الشهادة، وحبّه لقاءَ الله، والرغبة في ما عنده، فعنه % عندما وبّخ أصحابه على التواني عن الجهاد: «وَإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ»[9].
وعنه %: «فوالله، إنّي لعلى الحقّ، وإنّي للشهادة لمُحبّ»[10]، و«وَإِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ لَمُشْتَاقٌ، وَحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ»[11].
واجباتنا تُجاه الشهداء
لأنّ الشهداء باعوا أنفسهم لله تعالى، وأرخصوا حياتهم في سبيله، وفارقوا الدنيا بأجسادهم دفاعاً عن دينه، أحياهم الله حياةً خاصّة عنده، وأبدلهم أعماراً مديدة بدل أعمارهم القصيرة في الدنيا، ونشر أريجهم وعطرهم وذكرهم بين الناس، ورزقهم رزقاً كريماً، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[12]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾[13]. وفي هذا تأكيدٌ منه تعالى على أنّ الشهداء أحياء عند ربّهم، ويُرزقون رزقاً إلهيّاً باستمرار، فما أهنأ هذه الحياة! وما أكرم هذا الرزق!
ونحن مدينون بإنجازاتنا إلى الشهداء والمجاهدين الأبطال الذين كشفوا عن صدورهم، وشهروا سواعدهم، وهبّوا لدفع الأخطار الماحقة، وقاوموا بوعي وصبر في أشدّ الأيام تأزّماً، وأصعب المواقف امتحاناً واختباراً.
وفي هذا المقام، يمكننا أن نردّ بعض الجميل لمن قدّموا أنفسهم في سبيل الله لنبقى أحياء، بأن نساهم في إبقاء ذكرهم حيّاً، من خلال:
1. بيان المقام العظيم للشّهداء: فإنّ هذا الأمر يُشجّع على الإقدام على الشهادة، وبقاء الشباب في الساحة، والدفاع عن الدين، والقيم، والمبادىء، والمُثُل العليا.
2. إقامة ذكراهم: عندما يُذكَر اسم الشهداء بالعظمة والإجلال، ويُحترم ذكرهم بين الناس، فإنّ المرء سينحو نحو الشهادة، وسيعشق السير إلى ساحة الجهاد، وسينهض ويذهب إلى أرض المعركة، ويقاتِل ويستشهد.
3. البقاء في الساحة: من واجب الشهداء علينا أن لا نخلي ساحة الجهاد والشهادة التي سلكوها وبذلوا مُهجهم فيها، وعم يدعوننا إلى ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَيَستَبشِرونَ بِالَّذِينَ لَم يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[14]؛ ويؤكّدون أنّنا إذا نزلنا إلى ساحة الجهاد والشهادة، فإنّ الله سيُبعد عنّا الخوف والحزن واليأس، ﴿ألّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنون﴾. هذه هي رسالة الشهداء.
4. بيان دوافعهم وأهدافهم: من واجبنا أن نبيّن لماذا ذهب الشّهداء إلى ساحة المعركة؟ وما الدافع من استشهادهم؟ وما المبادىء والقيم التي دافعوا عنها؟ هذا وغيره يُبقي قضيّة الشهادة مقدّسة وناصعة وحيّة.
ومن الضروريّ هنا نشر وصاياهم التي تتضمّن دوافعهم وأهدافهم التي حدت بهم إلى أن يذهبوا ويقفوا أمام العدوّ ويصدّوه، ويُستشهَدوا من أجلها.
5. بيان سيِرَهم وقصصهم وفضائلهم: إنّ بيان حياة الشهداء، والإفصاح عنها، ونشر القصص التي تُبيّن فضائلهم وشمائلهم، وارتباطهم بالله، وعشقهم لخدمة الناس، وارتيادهم المساجد، وتربيتهم في البيت، وعلاقاتهم مع أهاليهم، وزوجاتهم، وأبنائهم، وأقرانهم، ... وغير ذلك، يُبقي ذكرهم حيّاً، ويجعل منهم قدوة للشباب والمجاهدين.
ومن المطلوب أن نعزّز هذا الأمر بكلّ ما نملك من أدوات؛ كإعداد الكتب والقصص والنتاجات الثقافيّة، أو الأفلام والمقاطع التصويريّة أو الأناشيد واللطميّات أو المقاطع القصيرة المكتوبة على وسائل التواصل، وما إلى ذلك ممّا يبيّن عظمتهم، وقيمتهم، وفضلهم علينا، وفضلهم عند الله سبحانه وتعالى.
وعلى كلّ من يملك معلومة أو قصّة أو حادثة مرتبطة بالشهداء أن ينشرها ولا يحتكرها لنفسه، أو يوصلها إلى أيّ جهة تُعنى بهذا الأمر.
6. إكرام عوائلهم: إنّ الشهداء هم نتاج عوائلهم، ونتاج تربية آبائهم لهم، وتضحياتهم، وتضحيات زوجاتهم وأبنائهم، وصبرهم على غيابهم، وعلى صعوبات الحياة، وتحمّلهم فقدَه، واحتسابه عند الله تعالى من أجل الأهداف التي مضَوا من أجلها؛ فهم شركاء في الأجر، وفي الشهادة، ومن حقّهم علينا أن نُكرمهم، ونحترمهم، ونقف إلى جانبهم، ونقضي حوائجهم، ونراعي مشاعرهم، ونسدّ بعضاً من الفراغ الذي تركه شهداؤهم.
ويوصي الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) بأن لا ننسى عوائل الشهداء يوم العيد؛ فإنّ «من مظاهر الفرح هو صلة الرحم، وتفقُّد الفقراء والأيتام والمرضى والجرحى، والتوجّه إلى عوائل الشهداء»[15].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص8.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص348.
[3] سورة الحمد، الآيتان 6 - 7.
[4] سورة النساء، الآية 69.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص201.
[6] المصدر نفسه، ج67، ص201.
[7] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج4، ص408.
[8] المصدر نفسه، ج4، ص419.
[9] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص259، الخطبة 180.
[10] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفيّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج6، ص100.
[11] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص452، الكتاب 62.
[12] سورة آل عمران، الآية 169.
[13] سورة البقرة، الآية 154.
[14] سورة آل عمران، الآية 170.
[15] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الرابعة والعشرون، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
53
الموعظة الحادية عشرة: محبّة أهل البيت
الموعظة الحادية عشرة
محبّة أهل البيت
هدف الموعظة
بيان مكانة أهل البيت ( ومنزلتهم عند الله تعالى، وخصائصهم، ووجوب معرفتهم ومحبّتهم (.
محاور الموعظة
1. مكانة أهل البيت ( ومنزلتهم
2. خصائصهم (
3. وجوب معرفتهم ومحبّتهم (
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين %: «أسعدُ الناس مَن عرف فضلنا، وتقرّب إلى الله بنا، وأخلص حبَّنا، وعمل بما إليه ندَبْنا، وانتهى عمّا عنه نهينا، فذاك منّا، وهو في دار المقامة معنا»[1].
مكانة أهل البيت ( ومنزلتهم
إنّ لأهل البيت ( مكانةً سامية، ومنزلةً سامقة عند الله سبحانه، ويكفي بعض ما جاء في حقّهم أنّهم:
1. مثَلُ سفينة نجاة: عن رسول الله -: «نحن سفينة النجاة، مَن تعلّق بها نجا، ومَن حاد عنها هلك، فمَن كان له إلى الله حاجة، فليسأل بنا أهل البيت»[2].
وعنه - لأبي ذرّ: «واعلم -يا أبا ذرّ- أنّ اللَّه عزّ وجلّ جعل أهل بيتي في أمّتي كسفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق»[3]. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
2. مثَلُ باب حطّة: عن رسول الله -: «مَثَل أهل بيتي فيكم كمَثل باب حِطّة في بني إسرائيل، الذي مَن دخله غُفرت ذنوبه، واستحقَّ الرحمة والزيادة من خالقه، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾[4]»[5].
3. مثَلُ بيت الله: عن رسول الله - في قوله لعليٍّ %: «مثَلُكم -يا عليّ- مثَلُ بيت الله الحرام، مَن دخله كان آمناً، فمَن أحبَّكم ووالاكم كان آمناً من عذاب النار، ومَن أبغضكم ألقِيَ في النار»[6].
4. مثَلُ النجوم: عن رسول الله -: «... مثَلُهم (أهل بيتي) في أمّتي كمثَل نجوم السماء، كلّما غاب نجمٌ طلع نجم، إنّهم أئمّةٌ هداةٌ مهديُّون»[7].
تفيد هذه الروايات وغيرها الكثير أنّ طريق النجاة والفوز برضا الله مرهونان بالتمسّك بأهل البيت (؛ ومن هنا وجبت معرفتهم ثمّ محبّتهم ومودّتهم .
خصائصهم
امتاز أهل البيت ( بخصائص عدّة لم يشاركهم فيها أحدٌ من الخلق؛ فأهل البيت لا يُقاس بهم أحد[8]؛ لذا كانوا:
1. مطهّرين من الرجس: يقول الله تعالى: ﴿إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً﴾[9].
2. عدل القرآن: عن رسول الله -: «... هم حجَجُ الله في أرضه، وشهداؤه على خلقه، مَن أطاعهم أطاع الله، ومَن عصاهم عصى الله. هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقهم ولا يفارقونه حتّى يردوا عليَّ حوضي»[10].
3. سادة الأوصياء: عن رسول الله -: «أنا سيّد الأنبياء والمرسلين وأفضل من الملائكة المقرّبين، وأوصيائي سادة أوصياء النبيّين والمرسلين»[11].
4. صفوة الخلق: عن رسول الله -: «أنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه»[12].
5. أعلام الحقّ: عن الإمام الحسين %: «إنّا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحقّ الذي أودعه الله عزّ وجلّ قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا»[13].
6. أهل سرّ الله: عن الإمام الحسين %: «نحن الذين عندنا علم الكتاب وبيان ما فيه، وليس لأحد من خلقه ما عندنا؛ لأنّا أهل سر الله»[14].
مضافاً إلى ذلك، جاء في حقّهم ( أنّهم أولو الأمر، أهل الذكر، حفَظَة الدين، أبواب الله، عرفاء الله، خزّان علم الله، أعلم الناس، الراسخون في العلم، معدن العلم... وغير ذلك ممّا يُنبئ عن معدنهم، ويكشف عن منزلتهم وعظمتهم.
وجوب معرفتهم
إنّ التوفيق لمعرفة أهل البيت ( لمنحةٌ ومنّةٌ إلهيّة، تجمع أطراف الخير كلّه؛ فعن رسول الله -: «مَن مَنّ الله عليه بمعرفة أهل بيتي وولايتهم، فقد جمع الله له الخير كلّه»[15]؛ وهي براءةٌ من النار، فعنه -: «معرفة آل محمّد براءة من النار، وحبّ آل محمّد جواز على الصراط، والولاية لآل محمّد أمان من العذاب»[16]؛ وهي سببُ السعادة، فعن الإمام عليّ %: «أسعد الناس مَن عرف فضلنا، وتقرّب إلى الله بنا، وأخلص حبَّنا، وعمل بما إليه ندبنا، وانتهى عمّا عنه نهينا، فذاك منّا، وهو في دار المقامة معنا»[17].
وفي وجوب معرفتهم (، سئل الإمام الحسين %: فما معرفة الله؟ قال: «معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته»[18]؛ لأنّ الإمام منهم ( هو الموصل إلى الله والدالّ عليه، عن الإمام الباقر %: «إنّما يعرف الله عزّ وجلّ ويعبده مَن عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت»[19]، و«... فمَن آمن بالله، وبمحمّد رسول الله، واتبعه وصدّقه، فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه»[20].
وفي الختام، يخبر رسول الله - أمير المؤمنين عليّاً % بأنّ الله يعذر في الحجّ ولا يعذر في موالاتهم ومحبّتهم (، بقوله -: «... يا عليّ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[21]، ومَن كان له عذر فله عذره، ومَن كان فقيراً فله عذره، ومَن كان مريضاً فله عذره، وإنّ الله لا يعذر غنيّاً ولا فقيراً، ولا مريضاً ولا صحيحاً، ولا أعمى ولا بصيراً في تفريطه في موالاتكم ومحبّتكم»[22].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص124.
[2] الشيخ الماحوزيّ، كتاب الأربعين، تحقيق السيّد مهدي رجائي، لا.ن، لا.م، 1417هـ، ط1، ص396. نقلاً عن: الجوينيّ، فرائد السمطين، ج1، ص37.
[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص495.
[4] سورة البقرة، الآية 58.
[5] النعمانيّ، الشيخ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق فارس حسون كريم، أنوار الهدى، إيران - قمّ، 1422هـ، ط1، ص51.
[6] السيّد الرضيّ، محمّد بن الحسين الموسويّ، خصائص الأئمّة (، تحقيق محمّد هادي الأمينيّ، مجمع البحوث الإسلاميّة - الآستانة الرضوية المقدسة، إيران - مشهد، 1406هـ، ط1، ص77.
[7] الشيخ النعمانيّ، الغيبة، مصدر سابق، ص51.
[8] كما هو مضمون العديد من الروايات.
[9] سورة الأحزاب، الآية 33.
[10] ابن عقدة الكوفيّ، فضائل أمير المؤمنين %، تجميع عبد الرزاق محمّد حسين فيض الدين، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص159.
[11] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص245.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج23، ص74.
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص216.
[14]ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص211.
[15] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص561.
[16] القندوزيّ، الشيخ سليمان بن إبراهيم الحنفيّ، ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق السيّد عليّ جمال أشرف الحسينيّ، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1416هـ، ط1، ج1، ص78.
[17] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص124.
[18] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص9.
[19] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص181.
[20] المصدر نفسه، ج1، ص181.
[21] سورة آل عمران، الآية 97.
[22] السيّد الرضيّ، خصائص الأئمّة، مصدر سابق، ص77.
58
الموعظة الثانية عشرة: البكاء من خشية الله
الموعظة الثانية عشرة
البكاء من خشية الله
هدف الموعظة
بيان فضل البكاء من خشية الله تعالى، وآثاره على الداعي في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. فضل البكاء من خشية الله
2. بكّاؤون من خشية الله
3. من آثار البكاء من خشية الله
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «ما من شيءٍ إلّا وله كَيلٌ ووزن، إلّا الدموع، فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يُرهق وجهَه قَتَرٌ ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أمّة لرُحموا»[1].
البكاء من خشية الله
البُكاء من خشية الله سبحانه وتعالى ممدوحٌ شرعاً، ومرغوبٌ لدى المولى، وله تأثيرٌ عظيم في نفس الداعي، وآثار معنويّة على الباكي؛ فإنّه «يُنير القلب، ويعصم من معاودة الذنب»[2].
وقد عُدَّ البُكاء من خشية الله من علامات شيعة أمير المؤمنين %، فعنه % قال: «قال رسول الله -: يا عليّ، كذب مَن زعم أنّه يحبّني ويُبغِضك، يا عليّ، إنّه إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ من بَطنان العرش: أين محِبُّو عليّ وشيعتُه؟ أين محِبُّو عليّ ومَن يُحبُّه؟ أين المتحابّون في الله؟ أين المتباذلون في الله؟ أين المؤثرون على أنفسهم؟ أين الذين جفّت ألسنتهم من العطش؟ أين الذين يصلّون في الليل والناس نيام؟ أين الذين يبكون من خشية الله؟ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أنتم رفقاء محمّد -، قرّوا عيناً، ادخلوا الجنّة أنتم وأزواجكم تُحبَرون»[3].
والمؤمن قريب الدمعة، رقيق القلب، يبكي عند ذكر الوعد والوعيد، ويبكي اعترافاً بتقصيره، وتواضعاً لربّه تعالى، وعند حصول المصائب على المسلمين.
والبكاء من خشية الله دليل خير، وآية عافية على سلامة القلب ورقّته؛ إذ ما «ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب»[4]، كما عن الإمام عليّ %.
وعلى المؤمن أن يغتنم رقّة قلبه، فيبادر إلى الدعاء، والتضرّع إلى الله تعالى، فعن الإمام عليّ %: «بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء»[5].
أمّا من لم يجد في نفسه تلك الرقّة، فليُجدّ في تحصيلها، وليتباكَ، فعن الإمام الصادق %: «إنْ لم يجبْك البكاء فتباكَ، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخٍ بخٍ»[6].
بكّاؤون من خشية الله
يطول الحديث عن البكّائين من خشية الله تعالى، وعلى رأسهم رسول الله -، وأهل بيته (، فقد كان البكاء من خشية الله سجيّتهم، ورفيق دربهم، وقرين عباداتهم.
ومِن البكّائين مِن خشية الله:
1. رسول الله -: كان رسول الله - عندما يقف بين يدَي الله يبكي «حتّى تبتلّ مصلّاه خشيةً من الله عزّ وجلّ من غير جُرم»[7].
وكان - يبكي عند استماعه للقرآن الكريم، فعن ابن مَسعود: قال لي النبيُّ -: «اقْرَأْ عليَّ القُرآنَ»، قلتُ: يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً﴾[8]، قال: «حَسْبُكَ الآن، فَالْتَفَتُّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفان»[9].
2. أمير المؤمنين %: عن عروة بن الزبير قال: كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله - فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم، ألا أُخبركم بأقلّ القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: مَن؟ قال: عليّ بن أبي طالب %.
قال: فوالله، إن كان في جماعة أهل المجلس إلّا مُعرِضٌ عنه بوجهه، ثمّ انتدب له رجل من الأنصار، فقال له: يا عويمر[10]! لقد تكلّمتَ بكلمةٍ ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها.
فقال أبو الدرداء: يا قوم، إنّي قائل ما رأيت، وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا، شهدتُ عليّ بن أبي طالب % بشويحطات النجّار[11]، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل[12]، فافتقدته، وبَعُدَ عليَّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ، وهو يقول: «إلهي! كم من موبقةٍ حَمَلْتَ عنّي فقابلتها بنعمتك، وكم من جريرةٍ تكرّمتَ عن كشفها بكرمك، إلهي! إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي؛ فما أنا مؤمِّلٌ غير غفرانك، ولا أنا براجٍ غير رضوانك». فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب % بعينه، فاستترتُ له، وأخملتُ الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فزع إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى. فكان ممّا ناجى به الله أن قال: «إلهي! أُفكّر في عفوك؛ فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك؛ فتعظُم عليَّ بليّتي، ثمّ قال: آهٍ إن أنا قرأتُ في الصحف سيّئةً أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذٍ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء»، ثمّ قال: «آهٍ من نارٍ تُنضج الأكباد والكلى، آهٍ من نارٍ نزّاعةٍ للشوى، آهٍ من غمرةٍ من ملهبات لظى».
قال: ثمّ أنعم في البكاء؛ فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أُوقظه لصلاة الفجر.
قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزوِ، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مات -والله- عليّ بن أبي طالب %! قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة &: «يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومِن قصّته؟»، فأخبرتها الخبر، فقالت: «هي -والله، يا أبا الدرداء- الغشية التي تأخذه من خشية الله»، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي، فقال: «مِمَّ بكاؤك، يا أبا الدرداء؟»، فقلت: ممّا أراه تُنزله بنفسك، فقال: «يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتَني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكةٌ غلاظ، وزبانيةٌ فِظاظ، فوقفتُ بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنتَ أشدّ رحمةً لي بين يدَي من لا تخفى عليه خافية». فقال أبو الدرداء: فوالله، ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله -[13].
3. أبو ذرّ الغفاريّ: عن الإمام الصادق %: «بكى أبو ذرّ (رحمة الله عليه) من خشية الله عزّ وجلّ حتّى اشتكى بصرَه، فقيل له: يا أبا ذرّ، لو دعوتَ الله أن يشفي بصرك، فقال: إنّي عنه لمشغول، وما هو من أكبر همّي، قالوا: وما يُشغلك عنه؟ قال: العظيمتان: الجنّة والنار»[14].
من آثار البكاء من خشية الله
للبكاء من خشية الله تعالى آثار عدّة في الدارَين، نذكر منها:
1. مفتاح الرحمة: عن الإمام عليّ %: «البكاء من خشية الله مفتاح الرحمة».
2. إنارة القلب، والعصمة من الذنوب: عن الإمام عليّ %: «البكاء من خشية الله ينير القلب، ويعصم من معاودة الذنب»[15].
3. الأمن يوم الفزع الأكبر: عنّ النبيّ -: «مَن خرج من عينَيه مثلُ الذباب من الدمع من خشية الله، آمنه الله به يوم الفزع الأكبر»[16].
4. تُطفئ بحاراً من نار: عن الإمام الصادق %: «ما من شيءٍ إلّا وله كيلٌ ووزن، إلّا الدموع، فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار»[17].
5. السرور يوم القيامة: عن الإمام الباقر %: «كلُّ عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: ... وعينٌ فاضت من خشية الله...»[18].
6. المقام الرفيع: عن رسول الله -: «طوبى لصورةٍ نظر الله إليها تبكي على ذنبٍ من خشية الله عزَّ وجل»[19].
7. بكلّ قطرة قصرٌ في الجنّة: عن النبيّ -: «ومَن ذرفت عيناه من خشية الله، كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصرٌ في الجنّة، مكلّلٌ بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنُ سمعت، ولا خطر على قلب بشر»[20].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص481.
[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق ج11، ص245.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج7، ص212.
[4] المصدر نفسه، ج93، ص333.
[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص317.
[6] المصدر نفسه، ص317.
[7] الطبرسيّ، الشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج على أهل اللجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص331.
[8] سورة النساء، الآية 40.
[9] النوويّ، أبو زكريا يحيى بن شرف الدمشقي، التبيان في آداب حملة القرآن، محمّد الحجّار، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414، ط3، ص113.
[10] هو اسم أبي الدرداء.
[11] الشوحط: شجر يُتّخَذ منه القسي.
[12] المُغيل: النابت في الغيل والداخل فيه. والغيل: الشجر الكثير الملتفّ.
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص137.
[14] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص40.
[15] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق ج11، ص245.
[16] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص316.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص481.
[18] المصدر نفسه، ج2، ص80.
[19] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص167.
[20] المصدر نفسه، ص292.
63
الموعظة الثالثة عشرة: التضحية في سبيل الله
الموعظة الثالثة عشرة
التضحية في سبيل الله
هدف الموعظة
تعرّف أشكال التضحية وأنواعها، وبيان الأثر الذي يترتّب عليها.
محاور الموعظة
1. التضحية بالمال
2. التضحية بالنفس
3. التضحية بالأهل والأحبّة
تصدير الموعظة
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[1].
عزم النبيّ إبراهيم الخليل %، على ذبح ولده وثمرة فؤاده؛ وذلك بأمرٍ من الله تعالى، تبلّغ به في منامه، بأن يذبح ولده، فلم يسأل، ولم يعترض، بل توجّه في الحال إلى ولده، قائلاً: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فأجابه النبيّ إسماعيل % ملبّياً أمر الله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
نعم، لم يكن من النبيّ إبراهيم % إلّا امتثال التكليف الإلهيّ، والاستجابة السريعة لتلبية أمر الله تعالى، وما كان من ولده إسماعيل % إلّا الاستجابة الفوريّة الحاسمة لأمر الله ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾؛ إذ إنّ الأمر ليس أمرك، فأنت الحنون الشفيق، وأنت الرحيم الرقيق، ولكنّ الله أرحم الراحمين، وأشفق منك وأكرم، وبما أنّه تعالى قد أمر نبيّه وخليله بذبح ولده، فهي الرحمة بعينها.
من أجل ذلك، فإنّ على المسلم أن ينظر إلى هذا الحدث بعينٍ ملؤها العِبرة والاتّعاظ، وبعقلٍ ملؤه التدبّر والتفكّر.
وإنّ الأضحية هنا رمز، والرمز يحمل في طيّاته الكثير من المعاني، فهي تمثّل لإبراهيم % ذبح أغلى ما يملك ويحبّ من أجل الله تعالى، وذلك ليخرج من قلبه كلّ شهوة وكلّ حبّ سوى الله تعالى، فهل نفطن إلى هذا الدرس، ونضحّي بشهواتنا وكلّ ما نحبّ إذا تعارض أيٌّ من ذلك مع مراد الله تعالى؟
أنواع التضحية وأشكالها
ويتّسع لفظ التضحية لكثيرٍ من الأنواع والأشكال؛ فالتضحية تكون بالمال والوقت والجهد، بل بالنفس والأهل والأحبّة في سبيل الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، ونشراً للدعوة، وإقامةً للدين، وحفظاً له.
التضحية بالمال
إنّ من أنواع التضحية أن يقدّم المرء مالَه في سبيل الله تعالى، سواء أكان على سبيل الواجب المقدَّر شرعاً، من الخمس والزكاة، وما فرضه الله للفقراء والمساكين... أو في صورة الصدقات المستحبّة التطوعيّة التي يُخرجها المسلم طائعاً مختاراً، طمعاً في ما عند الله تعالى من الثواب الجزيل، يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[2].
وقد بيّن سبحانه أنّ الذي يُنفق في سبيله، إنّما يُقرِض الله تعالى قرضاً حسناً، فقال: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[3].
التضحية بالنفس
وإنّ أعلى أنواع التضحية وأرقاها هي التضحية بالنفس، إذ فيها يجود المسلم بنفسه لله سبحانه وتعالى، ويقدّم روحه رخيصةً في سبيله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[4].
ولا يوجد معروف وبرّ فوق هذه التضحية، فعن الإمام الصادق %: «قال رسول الله -: فوق كلّ ذي برّ برّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتِل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[5].
التضحية بالأهل والأحبّة
وإنّ من مصاديق التضحية، أن يقدّم المرء أهله وأحبّته في سبيل الله تعالى، وهذا ما حدث مع الأنبياء (، فقد هاجر إبراهيم الخليل % بإسماعيل وأمّه هاجر، وهو رضيع ضعيف لا يقوى على شيء، ووضعهما في صحراء قاحلة، لا زرع فيها ولا ضرع، ولا أنيس فيها ولا جليس.
وقد هاجر النبيّ الأعظم - بأهله وصحبه، من مكّة المكرّمة، وهي أحبّ بلاد الله إليهم، هاجروا طاعةً لله تعالى، وقطعوا علاقاتهم بأهلهم وذويهم وأبنائهم وأحبابهم، استجابةً لنداء الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[6].
وقد بشّر الله تعالى المهاجرين والمجاهدين في سبيل، بل والذين آوَوا ونصروا، بأنّهم هم المؤمنون حقّاً، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[7].
وهكذا كانت تضحيات الأئمّة (، ولا سيّما الإمام الحسين % في كربلاء؛ إذ قدّم أهله وعياله وأحبّته وأصحابه شهداء في سبيل الله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وهو القائل لأمّ سلمة (رضوان الله عليها): «يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً، ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون، فلا يجدون ناصراً ولا معيناً»[8].
وهذا هو حال من تبعهم من المسلمين إلى يومنا هذا، فقد أُقيم المجتمع المسلم الأوّل على أكتاف رجال ضحَّوا بكلّ أنواع التضحية، من إنفاقٍ للمال، ومفارقةٍ للأهل والولد، وبذلٍ للوقت والجهد، إلى التضحية بالأرواح والأنفس، ذلك كلّه في سبيل الله تعالى، وقد تبعهم بإحسان رجالٌ واصلوا المسيرة من التابعين وتابعيهم، وإلى يومنا هذا، بل وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فلن تخلو الأرض يوماً من هذه الفئة المخلصة، ليكونوا جند الله في أرضه، وتكون بهم المبادئ والقيم والعقائد واقعاً ومساراً ومنهجاً على هذه المعمورة.
وإنّ ما نشهده اليوم من تضحيات عظيمة وجسيمة، في خطّ المقاومة الإسلاميّة، دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، تضحيات بالقادة العظام، ولا سيّما سماحة الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) ومَن معه من القادة الجهاديّين، ومن المجاهدين، ومن عموم الناس الحاضنين لهذه المقاومة، إنّما هو امتدادٌ لهذا النهج والفداء الحسينيّ في سبيل الإسلام المحمّديّ الأصيل، وهو من أبرز مصاديق الانتصارٌ لله تعالى ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[9].
[1] سورة الصافّات، الآية 102.
[2] سورة البقرة، الآيتان 261 – 262.
[3] سورة البقرة، الآية 245.
[4] سورة التوبة، الآية 111.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص348.
[6] سورة التوبة، الآيتان 23 - 24.
[7] سورة الأنفال، الآية 74.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص331.
[9] سورة الحجّ، الآية 40.
69
الموعظة الرابعة عشرة: مع دعاء أبي حمزة الثماليّ
الموعظة الرابعة عشرة
مع دعاء أبي حمزة الثماليّ
هدف الموعظة
بيان فضل دعاء أبي حمزة الثماليّ، وأهمّيّته، ومَن هو ناقل الدعاء، وإطلالة على أهمّ معارف هذا الدعاء، ومضامينه.
محاور الموعظة
1. فضل دعاء أبي حمزة الثماليّ
2. مَن هو أبو حمزة الثماليّ
3. في آفاق الدعاء
تصدير الموعظة
عن أبي حمزة الثماليّ (رضوان الله عليه) قال: كان زينُ العابدين % يصلّي عامّة الليل في شهر رمضان، فإذا كان في السحر دعا بهذا الدعاء: «إِلهِي، لا تُؤدِّبْنِي بِعُقُوبَتِكَ، وَلا تَمْكُرْ بِي فِي حِيلَتِكَ، مِنْ أَيْنَ لِيَ الخَيْرُ -يا رَبِّ- وَلا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ عِنْدِكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إِلَّا بِكَ؟»[1].
فضل دعاء أبي حمزة الثماليّ
إذا حلّ شهر الله، وبدأت بركات لياليه، يجتمع المؤمنون؛ ليغتنموا ساعات المغفرة بالدعاء والمناجاة والابتهال. ومن بين أدعية شهر رمضان، يبرز دعاءٌ ذو مضامين عالية؛ إنّه دعاء أبي حمزة الثماليّ، الذي تضمّن الكثير من المفاهيم العقليّة والمعاني الروحيّة، وبيان الطريق للسلوكات العمليّة.
يتحدّث الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) عن هذا الدعاء وكلماته، ويعلّق على هذه الفقرة منه: «فَقَدْ هَربتُ إِلَيْكَ، وَوَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيكَ»، فيقول: «هذه عبارات وكلمات نابعة من أرقّ القلوب وأبلغ الألسنة... فلا تغفلوا عن الدعاء في هذا الشهر».
ويضيف (دام ظلّه): «جاء في دعاء أبي حمزة الثماليّ: «بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ، وَدَعَوْتَنِي إِلَيْكَ، وَلَوْلاَ أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْتَ». وكم لهذا الارتباط المعنويّ اللطيف بحضرة الحقّ، وبمبدأ المحبّة والعزّة من قيمة وأهمّية بالغة! حقّاً، إنّه يُحيي القلوب المرهفة، ويثبّتها، ويمنحها الأمل، ويكون ملجأً وسنداً لها»[2].
ويقول (دام ظلّه): «هذه الأدعية المعروفة، كدعاء عرفة، ودعاء أبي حمزة، والمناجاة الشعبانيّة، وأدعية الصحيفة السجّاديّة، فاخرة بالمفاهيم الراقية، وفائضة بالمعارف الإسلاميّة الرفيعة؛ وللإنصاف، فإنّها قد طُرحت بأجمل الألفاظ وأحسنها»[3].
فعلاً، «إنّ ما توفّر لدينا من أدعية أئمّتنا ( وتوجيهاتهم هو الحجّة الأبلغ والأتمّ لسلوك طريق التوبة»[4]، كما قال الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه).
مَن هو أبو حمزة الثماليّ
أبو حمزة الثماليّ هو من الأوفياء لأئمّة أهل البيت (، كانت حياته عامرة بخدمة علومهم (، وقضى نحبه من دون أيّ تبدّل أو تحوّل عمّا كان عليه من استقامةٍ وصدقٍ ووفاء.
وفي ما يلي نزرٌ يسيرٌ عنه:
1. الثّقةُ العدْل
هو أبو حمزة، ثابت بن دينار الثماليّ، ودينار يكون أبا صفيّة، وهو من حيّ من بني ثعل، ونُسب إلى ثمالة؛ لأنّ داره كانت فيهم، وهو ثقةٌ عدلٌ[5].
وذكره الشيخ عبّاس القمّيّ (رحمه الله)، فقال: «الثقة الجليل، أبو حمزة الثماليّ، ثابت بن دينار، صاحب الدعاء المعروف في أسحار شهر رمضان»[6].
كان له ثلاثة من الذكور وهم: نوح ومنصور وحمزة استشهدوا مع زيد الشهيد[7].
2. العالم الزاهد
لأبي حمزة الثماليّ ثلاثة كتب نُقلت عنه، وهي: «كتاب تفسير القرآن»، و«كتاب النوادر»، و«رسالة الحقوق» عن الإمام زين العابدين %. وقد ذكر الشيخ عبّاس القمّيّ (رحمه الله) أنّه «كان من زهّاد أهل الكوفة»[8].
3. سلمانُ زمانِه
لقد شبّهه الإمام الصادق % بسلمان المحمّديّ؛ لورعه، وتقواه، وقربه من أهل البيت (، كما كان سلمان المحمّديّ قريباً من النبيّ - والإمام عليّ %؛ إذ قال %: «أبو حمزة في زمانه مثلُ سلمان في زمانه»[9].
وروي عن الإمام الرضا % قوله: «أبو حمزة في زمانه كلقمان في زمانه؛ وذلك أنّه خدم أربعةً منّا: عليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وبرهة من عصر موسى بن جعفر (»[10].
وكان الإمام الصادق % يُرسل له السلام والتحيّة مع أصحابه[11].
4. عالمٌ بزمان وفاته
كان الإمام الصادق % قد أخبره بتاريخ وفاته، فعن أبي بصير: دخلت على أبي عبد الله %، فقال: «ما فعل أبو حمزة الثماليّ؟»، قلت: خلّفتُه عليلاً، قال: «إذا رجعت إليه فاقرأه منّي السلام، وأعلمه أنّه يموت في شهر كذا في يوم كذا...»[12].
5. كرامة له
مَن كان مثل أبي حمزة، فلا عجب أن تجري له أو على يديه بعض الكرامات! فقد جاء عن أبي حمزة: «كانت صبيّة لي، سقطت فانكسرت يدها، فأتيت بها التميميّ، فأخذها، فنظر إلى يدها، فقال: منكسرة، فدخل يُخرج الجبائر، وأنا على الباب، فدخلتْني رقّةٌ على الصبيّة، فبكيتُ ودعَوت، فخرج بالجبائر، فتناول بيد الصبيّة، فلم يرَ بها شيئاً، ثمّ نظر إلى الأخرى، فقال: ما بها شيء. قال أبو حمزة: فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله %، فقال: «يا أبا حمزة، وافق الدعاء الرضا، فاستُجيب لك في أسرع من طرفة عين»[13].
في آفاق الدعاء
الغوص في دعاء أبي حمزة، وتكشّف معانيه ومضامينه، والعيش معه؛ مسألةٌ تُكسر بها الأقلام، ويقصر معها المقام، ولكن من باب الاطلاع اليسير على بعض ما فيه، نقول:
1. «اَللّهُمَّ ارْحَمْنِي إِذا انْقَطَعَتْ حُجَّتِي...»
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): في دعاء أبي حمزة الثماليّ، يخاطب الإمام % ربَّه قائلاً: «اَللّهُمَّ ارْحَمْنِي إِذا انْقَطَعَتْ حُجَّتِي، وَكَلَّ عَنْ جَوابِكَ لِسانِي، وَطاشَ عِنْدَ سُؤْالِكَ إِيّايَ لُبِّي»؛ ارحمني في ذلك الوقت الذي تسألني فيه ولا يوجد لديّ جوابٌ أقدّمه بين يدَيك: «انْقَطَعَتْ حُجَّتِي»، و«كَلَّ عَنْ جَوابِكَ لِسانِي»؛ إذ لكلّ إنسان أدلة يقدّمها: قمتُ بهذا العمل لهذا الدليل ولذاك السبب، ولكن بعد أن تُردَّ كلّ واحدة منها، يبقى صفر اليدين: «وَطاشَ عِنْدَ سُؤْالِكَ إِيّايَ لُبِّي»، وبقي عقلي وقلبي وروحي أمام هذه الأسئلة المتتالية في حَيرة وضياع؛ هذا ما يحدث.
أنا العبد لله قد جرّبته بنفسي، وكنتُ ناوياً أن لا أذكرها، ولكنّها الآن خطرت على بالي، وجرت علی لساني، وسأذكرها لكم: عندما تعرّضتُ لمحاولة الاغتيال عام 1981م، أصابتني حالة الإغماء. خلال الفترة التي حملوني فيها من داخل المسجد إلى السيّارة، استفقتُ مرّتين أو ثلاثاً. في إحدى الحالات التي استرجعت فيها وعيي، شعرت بأنّ هذه هي لحظات الموت. فجأة، تجسّدت كلّ حياتي السابقة أمام عينَيّ، وفكّرت في نفسي: ماذا لديّ الآن لأعرضه؟ فكّرت وفكرّت كثيراً، وجدت أنّ أعمالي كلّها بالإمكان أن تتعرّض للبحث والنقاش. حسناً، لقد جاهدنا، ودخلنا السجون، وتعرّضنا للتعذيب، وقمنا بالتعليم والتدريس، بذلنا جهوداً، ولكنّي رأيتُ في تلك اللحظة أنّ بالإمكان أن يناقشوني في كلّ واحدة منها، قائلين: إنّك في القضيّة الفلانيّة من الممكن أن تكون قد خلطت نيّتك بنيّة غير إلهيّة؛ وبهذا يتبدّد العمل! فجأة أحسستُ بأنّي معلَّقٌ بين السماء والأرض، كالإنسان الذي لا يجد لنفسه أيّ ملجأ ولا مأوى، فقلت: يا إلهي! إنّ وضعي هو هذا، وأنت ترى حالي، الظاهر أنّي لا أملك شيئاً، وحين أحاسبُ نفسي، أجد أنّني صفر اليدين، إلّا أن ترحمني أنت[14].
2. «اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صَبْراً جَمِيلاً...».
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): في أسحار شهر رمضان، نقرأ جملة لطيفة من دعاء الإمام زين العابدين %، وكلّ جمله لطيفة: «اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صَبْراً جَمِيلاً، وَفَرَجاً قَرِيباً، وَقَوْلاً صادِقاً، وَأَجْراً عَظِيماً؛ أَسْأَلُكَ -يا رَبِّ- مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ ما عَلِمْتُ مِنْهُ، وَما لَمْ أَعْلَمُ».
يبدأ الدعاء: «إِنِّي أَسْأَلُكَ صَبْراً جَمِيلاً»؛ لأنّ الصبر الجميل هو مفتاح الفرج القريب، والصبر الجميل هو الذي يجعل الإنسان صادقاً في القول، فلا يزلّ لسان ولا قدم، والصبر الجميل عاقبته الأجر العظيم، ونحن مسيرة هذا الصبر الجميل منذ الأيّام الأولى؛ بالصبر، والثبات، والدعاء، والتضحية، والتوكّل على الله سبحانه وتعالى، واحتساب شهدائنا وجرحانا وآلامنا وما يصيبنا في عين الله سبحانه وتعالى، كنّا نشهد بأمّ العين الفرج القريب الذي كان يعبّر عنه الإنجاز تلو الإنجاز، والانتصار تلو الانتصار؛ ولذلك كانت مسيرتنا من أهل القول الصادق، وإن شاء الله، الله يعطينا ويعطيكم جميعاً الأجر العظيم، إنْ لم نُحبط عملنا بالتعلُّق بشيء من حطام هذه الدنيا، من خلال الإخلاص، والثبات على القول، والثبات على العمل نصل إلى النتيجة.[15]
[1] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص582.
[2] من كلمة له (دام ظلّه)، بتاريخ 01/07/2015م.
[3] من كلمة له (دام ظلّه)، بتاريخ 2016/06/20م.
[4] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الرابعة، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
[5] انظر: الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص444.
[6] القمّيّ، الشيخ عبّاس، الكنى والألقاب، إيران - طهران، مكتبة الصدر، لا.ت، لا.ط، ج2، ص132.
[7] انظر: النجاشيّ، الشيخ أحمد بن عليّ الكوفيّ، فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (رجال النجاشيّ)، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1416، ط5، ص116.
[8] الشيخ عبّاس القمّيّ، الكنى والألقاب، مصدر سابق، ج2، ص132.
[9] الشيخ النجاشيّ، فهرست أسماء مصنّفي الشيعة، مصدر سابق، ص116.
[10] الحلّيّ، العلّامة أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسديّ، خلاصة الأقوال، الشيخ جواد القيوميّ، مؤسّسة نشر الفقاهة، 1417هـ، ط1، ص86.
[11] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّيّ)، تصحيح وتعليق مير داماد الأسترابادي، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، لا.م، 1404، لا.ط، ج2، ص458.
[12] المصدر نفسه، ج2، ص458.
[13] المصدر نفسه، ج2، ص456 - 457.
[14] انظر: كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 05/06/2016م.
[15] انظر: كلمة شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، بتاريخ 24/06/2016م.
74
الموعظة الخامسة عشرة: صلح الإمام الحسن
الموعظة الخامسة عشرة
صلح الإمام الحسن %
هدف الموعظة
الكشف عن بعض ملابسات ظروف صلح الإمام الحسن % مع معاوية بن أبي سفيان.
محاور الموعظة
1. الإمام المجتبى % في كلام رسول الله -
2. أساب الصلح
3. لولا الصلح
تصدير الموعظة
الإمام المجتبى %: «يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله - لبني ضُمْرة، وبني أشْجَع، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية...ولولا ما أتيت، لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتِل»[1].
الإمام المجتبى % في كلام رسول الله -
من الأسس التي ينبغي الانطلاق منها في قراءة أحداث الصلح ومجريات الأحداث في عهد الإمام الحسن المجتبى %، أنّ الإمام الحسن والإمام الحسين ' هما «إمامان قاما أو قعدا»[2] كما رُوي عن رسول الله -، وأنّه - يقول في الإمام المجتبى %: «هو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي. مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي»[3].
وفيه يقول - لأنس بن مالك، عندما أراد أن يُميط الإمامَ الحسن % عن صدر النبيّ -: «ويحك يا أنس! دع ابني وثمرة فؤادي، فإنّه مَن آذى هذا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»[4].
وفي حبّه يقول -: «اللهمّ، إنّ هذا ابني، وأنا أحبّه، فأحبّه وأحبّ مَن يحبّه»[5].
إنّ هذا جزء يسير من تراث النبيّ -، يبرز شيئاً من منزلة الإمام الحسن % ومكانته وعظمته، ويبيّن بما لا يدع مجالاً للشكّ عصمته %.
لكن، وعلى الرغم من ذلك كلّه، لم يسلم هذا الإمام العظيم من التطاول والتشويه والافتراء، ولا سيّما في ما يتعلّق بصلحه مع معاوية. وفي ما يأتي نستعرض بعضاً ممَّا يساعد في فهم الحيثيّات التاريخيّة للصلح، والأداء الفذّ للإمام % بإزاء الأحداث العظيمة آنذاك؛ لأخذ العبر والدروس، والاستفادة منها في التعامل مع مجريات عصرنا وأحداثه.
أسباب الصلح
1. الأسباب غير المباشرة
بويع أمير المؤمنين % للخلافة في أواخر ذي الحجّة عام 35 هـ[6]، واستشهد % في شهر رمضان عام 40 هـ.
خاض خلال هذه السنوات الخمس تقريباً ثلاث حروبٍ، كانت من أعظم الحروب آنذاك؛ فكانت حرب الجمل التي حصلت عام 36هـ، والتي حصدت ما يزيد عن ثلاثين ألف قتيل[7]، وكان على رأسها إحدى من زوجات النبي وبعض كبار الصحابة، وقد سُمّيت حرب الناكثين.
ثمّ كانت حرب صفِّين عام 37هـ مع معاوية وأهل الشام، وقد قُتل في هذه الحرب من الفريقَين في مئة يوم وعشرة أيّام مئة ألف وعشرة آلاف، من أهل الشام تسعون ألفاً، ومن أهل العراق عشرون ألفاً[8]، وقد سُمّيت هذه الحرب حرب القاسطين.
وخاض الحرب الثالثة مع الخوارج في النهروان، وكانوا أربعة آلاف، خرجوا عليه بسبب قَبوله بالتحكيم في صفِّين، بعد أن فرضوا عليه إيقاف الحرب، عندما انطلت عليهم خديعة رفع المصاحف من قِبل جيش الشام. كانت هذه الحرب أوائل العام 39هـ، ولم يفلت من صفوف الخوارج إلّا أقلّ من عشرة، ولم يُقتَل من أصحاب عليّ إلّا أقلّ من عشرة[9]، وقد سُميت هذه الحرب حرب المارقين.
مرّت ما يقرب من خمس سنوات على أصحاب الإمام علي %، وهم لا تضع حربٌ أوزارها عندهم حتّى يشهروا أسلحتهم لحرب أخرى. وكانوا من جهة أخرى لا يحاربون على جبهات الكفر والشرك، إنّما كانت الأطراف الأخرى بوجههم من عشائرهم وإخوانهم، ومن عرفهم وعرفوه، والذين تحوّل جزء كير منهم إلى جبهة جيش الشام. وقد خلّفت هذه الحروب المتوالية عند جيش الإمام الحسن % ميلاً إلى الراحة والموادعة والسلام، ومن جهة أخرى ولّدت عصبيّات وضغائن وأحقاداً، أين منها أحقاد بدر وخيبر وحُنين.
الجيش المفكّك
برزت ظاهرة التفكّك كما ينقل الشيخ المفيد، عندما بدأ التحضير للحرب، فأرسل الإمام % حجر بن عديّ الكنديّ يأمر العمّال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثمّ خفّ معه أخلاط من الناس:
أ. بعضهم شيعة له ولأبيه '.
ب. وبعضهم محكّمة (خوارج)، يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة، بغضاً لمعاوية لا حبّاً بالإمام الحسن %.
ج. وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم.
د. وبعضهم شكّاك، لا يرون للإمام الحسن % أيّ أفضليّة على معاوية.
ه. وبعضهم أصحاب عصبيّة، اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين[10].
ويلخّص هذا المشهد المرير كلام الإمام % في المدائن: «وكنتم في منتدبكم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ألا وإنّا لكم كما كُنَّا، ولستم لنا كما كنتم. ألا وقد أصبحتم بين قتيلَين: قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثاره؛ فأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر»[11].
2. الأسباب المباشرة
أ. خيانة القادة: وجّه الإمام الحسن عبيد الله بن العبّاس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة... فوجّه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني؟! فيقال: إنّه أرسل إلى عبيد الله بن عبّاس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته[12].
قد يقول قائل: كيف يثق الإمام بهذا الرجل؟
إنّ عبيد الله هو ابن العبّاس بن عبد المطلب، وشقيق عبد الله بن العبّاس، وهو أحد قادة جيش أمير المؤمنين %. وقد قام بسر بن أرطأة أحد عمّال معاوية بقتل ولديه[13].
ب. الإهانات والمؤامرات: انطلق الإمام من المدائن نحو ساباط، فكمنت له مجموعة من الخوارج الذين كانوا في صفوف بعض ألوية الجيش، فجرحه الجرّاح بن سنان الأسديّ بمعول في فخذه، ونزف % نزفاً شديداً، واشتدّت به العلّة[14].
وقد أرسل معاوية لمن تبقّى من الجيش بعض مَنْ رافق عبيد الله بن العبّاس ليبثّ بين صفوفهم الشائعات الكاذبة، وخرج بسر بن أرطأة، فصاح إلى أهل العراق: ويحكم، هذا أميركم عندنا قد بايع، وإمامكم الحسن قد صالح، فعلامَ تقتلون أنفسكم[15].
ومع ذلك، فقد خطب فيهم الإمام % تلك الخطبة في المدائن، وقد تقدّم بعضها، وممّا قاله: «ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس عزّ ولا نصفة؛ فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عزّ وجلّ بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا»، فناداه القوم من كلّ جانب: البقيّة، البقيّة[16].
فازدادت بصيرة الحسن % بخذلان القوم له، وفساد نيّات المحكمة فيه بما أظهروه له من السبّ والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبقَ معه مَن يُأمَن غوائله، إلّا خاصّة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين %، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام[17].
وقد جهد الإمام % مع ذلك، في سبيل حفظ ما أمكن وفضح معاوية؛ فكان من بنود الصلح: واشترط عليه ترك سبّ أمير المؤمنين %، والعدول عن القنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته (رضي الله عنهم)، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقٍّ منهم حقّه[18].
لولا الصلح
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لولا لجوء الإمام الحسن % إلى الصلح، لكانوا قضَوا على وجود آل النبيّ - تماماً، ولما بقي مَن يحفظ النظام القيميّ الأصيل للإسلام، ولكان انتهى كلّ شيء، ولانمحى ذكر الإسلام، ولما كان الدور ليصل إلى حادثة عاشوراء. فلو كان الإمام المجتبى % قد قرّر الاستمرار في الحرب ضدّ معاوية وانتهت (الحرب) باستشهاد آل النبيّ -، لكان الإمام الحسين % قُتل في تلك الحادثة نفسها، ولحصل الشيء نفسه لكبار الأصحاب، أمثال حجر بن عديّ، ولكان مات الجميع، وما بقي مَن يستفيد من الفرصة للمحافظة على الإسلام بإطاره القيميّ. لقد كان للإمام المجتبى % حقٌّ عظيم على بقاء الإسلام»[19].
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص211.
[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت ( لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج2، ص30.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص176.
[4] الهيثميّ، الحافظ نور الدين عليّ بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1988م، لا.ط، ج1، ص284.
[5] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج1، ص36.
[6] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص178.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص183.
[8] المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، منشورات دار الهجرة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363 ش - 1984م، ط2، ج2، ص393.
[9] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص193.
[10] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص10.
[11] ابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن الشافعي، ترجمة الإمام الحسن %، الشيخ محمّد باقر المحمودي، مؤسّسة المحمودي للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1400هـ - 1980م، ط1، ص179.
[12] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص214.
[13] راجع: الأصفهانيّ، أبو فرج، الأغاني، دار إحياء التراث العربي، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج16، ص444.
[14] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص215.
[15] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص42.
[16] ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن %، مصدر سابق، ص179.
[17] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص13.
[18] المصدر نفسه، ج2، ص14.
[19] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، إعداد ونشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، 2015م - 1437هـ، ط2، ص167.
80
الموعظة السادسة عشرة: أهل البيت أهل العبادة
الموعظة السادسة عشرة
أهل البيت ( أهل العبادة
هدف الموعظة
حثّ المكلّفين على الاجتهاد في العبادة في هذا الشهر الكريم، عبر تعرّف عبادة أهل البيت (.
محاور الموعظة
1. إخلاصهم ( لله في العبادة
2. اجتهادهم ( في العبادة
3. نماذج من عباداتهم (
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين % في وصف عبادة رسول الله -: «كان إذا قام إلى الصلاة سُمع لصدره وجوفه أريزٌ كأريز المِرجَل على الأثافي من شدّة البكاء[1]، وقد آمنه الله عزّ وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشَّع لربّه ببكائه؛ فيكون إماماً لمَن اقتدى به، ولقد قام - عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورمّت قدماه، واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع، حتّى عوتِب في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى﴾[2]، بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتّى يُغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله، أليس الله غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: بلى أفلا أكون عبداً شكوراً؟»[3].
إخلاصهم ( لله في العبادة
إنّ الله سبحانه وتعالى لا يقبل من عبده إلّا ما كان خالصاً له، وابتغى به وجهه الكريم. وليست صلاة العبد قيامه وقعوده، إنّما الصلاة إخلاصه، وأن يريد بها الله وحده. هكذا كانت عبادة أهل البيت ( خالصةً لوجه الله، لا يبتغون إلّا مرضاته ورضوانه.
عن الإمام زين العابدين %: «إنّي أكره أن أعبد الله لا غرض لي إلّا ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطيع، إنْ طمع عمل، وإلّا لم يعمل. وأكره أن أعبده إلّا لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء؛ إن لم يخَف لم يعمل، قيل له: فلِمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله بأياديه عليَّ وإنعامه»[4].
اجتهادهم ( في العبادة
كان دأب أهل البيت ( عبادة الله تعالى؛ فملأت أدعيتهم الكتب، وعباداتهم الدنيا، وتناقلت على الألسن، وأقرّ بها المحبّ والمبغض، وقد أجهدوا أنفسهم فيها؛ شكراً له تعالى، وتحبُّباً إليه سبحانه؛ حتّى قيل لهم فيها.
عن الإمام الصادق %: «كان عليّ بن الحسين ' شديد الاجتهاد في العبادة؛ نهاره صائم، وليله قائم، فأضرّ ذلك بجسمه، فقلت له: يا أبه، كم هذا الدُؤوب؟! فقال: أتحبّب إلى ربّي لعلّه يُزلفني»[5].
وعن الحسن البصريّ: ما كان في هذه الأمّة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتّى تورمّت قدماها[6].
وعن يحيى العلويّ: كان موسى بن جعفر ' يُدعى «العبد الصالح» من عبادته واجتهاده[7].
نماذج من عباداتهم (
يُشكّل الاطلاع على عبادات أهل البيت ( حافزاً لنا لنشمّر عن ساعد الجدّ، ونمتطي جواد الكدّ؛ مستعينين في ذلك بالله تعالى وتوفيقه.
وهذه نماذج من عباداتهم:
1. الصلاة: عن السيّدة عائشة، أنّ نبيّ الله - كان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فقلت: لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحبّ أن أكون عبداً شكوراً!»[8].
وعن أبي حمزة الثماليّ (رضوان الله عليه) قال: قال: كان عليّ بن الحسين سيّد العابدين (صلوات الله عليهما) يصلّي عامّة الليل في شهر رمضان[9].
وقد حثّ الأئمّة ( شيعتهم على زيادة الصلاة في شهر الله، فعن الإمام الصادق %: «كان رسول الله - إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة، وأنا أزيد، فزيدوا»[10].
2. الصوم: عن أبي سلمة: سألت عائشة كيف كان رسول الله - يصوم؟ فقالت: كان يصوم حتّى نقول: لا يفطر، ويفطر حتّى نقول: لا يصوم...[11].
وعن عليّ بن أبي حمزة: سألت مولاةً لعليّ بن الحسين ' بعد موته، فقلت: صفي لي أمور عليّ بن الحسين '، فقالت: أطنب أو أختصر؟ فقلت: بل اختصري، قالت: ما أتيتُه بطعامٍ نهاراً قطّ، ولا فرشت له فراشاً بليلٍ قطّ»[12].
3. قراءة القرآن: ينقل إبراهيم بن العبّاس لنا علاقة الإمام الرضا - بالقرآن وتلاوته له، فيقول: كان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثيله بآيات من القرآن، وكان % يختم القرآن في كلّ ثلاث، ويقول: لو أردتُ أن أختم في أقلّ من ثلاث لختمت، ولكن ما مررتُ بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أُنزلت، وفي أيّ وقت، فلذلك صرتُ أختمه في ثلاث»[13].
4. الاعتكاف: عن الإمام الصادق %: «كان رسول الله - إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضربت له قبّة من شعر، وشَمَّر المئزر، وطوى فراشه»[14].
5. ذكر الله: عن الإمام الصادق %: «كان أبي % كثير الذكر؛ لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يُحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلّا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا، ومَن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر»[15].
وعنه %: «كان عليّ بن الحسين ' إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير»[16].
6. السجود: روي أنّ الإمام الكاظم % دخل مسجد رسول الله - فسجد سجدة في أوّل الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: «عظيم الذنب عندي فليحسُن العفو عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة». فجعل يردّدها حتّى أصبح[17].
7. الاستغفار: عن الإمام الصادق %: «إنّ رسول الله - كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مئة مرّة من غير ذنب»[18].
[1] الأريز: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. والمِرجَل: القدر. والأثافي: الأحجار التي يوضَع عليها القدر.
[2] سورة طه، الآيتان 1 - 2.
[3] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج1، ص326.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص210.
[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص294.
[6] المصدر نفسه، ج3، ص119.
[7] الطبريّ، محمّد بن جرير، دلائل الامامة، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1413هـ، ط1، ص310.
[8] الفيروز آباديّ، السيّد مرتضى الحسينيّ اليزديّ، فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، 1393هـ - 1973م، ط3، ج1، ص170.
[9] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص582.
[10] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج3، ص60.
[11] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص143.
[12] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص518.
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص758.
[14] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الاستبصار، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط4، ج2، ص131.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص498.
[16] المصدر نفسه، ج4، ص88 - 89.
[17] الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1417هـ - 1997م، ط1، ج13، ص29.
[18] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص45.
86
الموعظة السابعة عشرة: بين عليّ والقرآن
الموعظة السابعة عشرة
بين عليّ % والقرآن
هدف الموعظة
بيان فضل القرآن وصفاته في كلام أمير المؤمنين %، وكذلك فضائله % في القرآن.
محاور الموعظة
1. عليّ % قرين القرآن
2. القرآن على لسان عليّ %
3. القرآن يتحدّث عن عليّ %
4. مودّته % من الرحمن
تصدير الموعظة
رسول الله -: «عليّ مع القرآن، والقرآن معه، لا يفترقان حتّى يردا عليَّ الحوض»[1].
عليّ % قرين القرآن
رافق أمير المؤمنين % نزول القرآن، يسمعه بعدما يُوحى إلى النبيّ - من فمه، تنساب مفرداته وآياته وسوره، معارف وقيماً وهدى من قلب النبيّ - إلى فيه، فإلى الأذن الواعية لعليّ %؛ إذ لمّا نزلت: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾[2]، قال رسول الله -: «دعوتُ الله أن يجعلها أذنك يا عليّ»[3].
لذا، فإنّ أمير المؤمنين % كان حافظ القرآن والعالم بتأويله وحافظ أسراره، وأكمل الخلق بعد رسول الله - فهماً للقرآن؛ فعند باب عليّ % يقف مريدو التفسير والتأويل، وإلى نبعه % يرد العطاشى إلى معين الكتاب العزيز.
وأيضاً، إنّ مَن أراد الاقتراب من مقام أمير المؤمنين % ليعرف شيئاً من فضائله، عليه أن يرجع إلى القرآن، ويعرف ما نزل فيه من آيات كريمة، تبيّن فضائله ومقاماته وأياديه وجهده وجهاده وغير ذلك.
القرآن على لسان عليّ %
1. الكتاب الخالد: يقول %: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْه الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُه، وسِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُه وبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُه، ومِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُه، وشُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُه، وفُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُه، وتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُه، وشِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُه»[4].
2. عزّ لحامله: يقول %: «وعِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُه، وحَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُه»[5].
3. بحر لا ينفذ: يقول %: «وبَحْرٌ لَا يَنْزِفُه الْمُسْتَنْزِفُونَ، وعُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، ومَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ»[6]، ويقول كذلك: «لا يفنى عجائبه، ولا ينقضي غرائبه، ولا ينجلي الشبه إلّا به»[7].
4. من بركات القرآن: يقول %: «واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، والْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، والْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، ومَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى، واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، ولَا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوه مِنْ أَدْوَائِكُمْ، واسْتَعِينُوا بِه عَلَى لأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيه شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وهُوَ الْكُفْرُ والنِّفَاقُ والْغَيُّ والضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللَّه بِه، وتَوَجَّهُوا إِلَيْه بِحُبِّه، ولَا تَسْأَلُوا بِه خَلْقَه، إِنَّه مَا تَوَجَّه الْعِبَادُ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِمِثْلِه، واعْلَمُوا أَنَّه شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وأَنَّه مَنْ شَفَعَ لَه الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيه»[8].
5. لا بدّ للقرآن من المعصوم: وهذا يمكن استفادته من قوله تعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾[9]. وقوله كذلك: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾[10]؛ لذا نجده % يشير بل يصرّح بأنّه هو من هؤلاء الذين عندهم علم القرآن، وقد وكّلوا ببيانه، يقول %: «أَرْسَلَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، وانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ، فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه، والنُّورِ الْمُقْتَدَى بِه ذَلِكَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَنْطِقُوه، ولَنْ يَنْطِقَ، ولَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْه، أَلَا إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا يَأْتِي، والْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»[11].
لذا، نجد أنّ أمير المؤمنين % اعتزل الناس مدّة من الزمن بعد رحيل الرسول الأكرم -، يعمل على جمع القرآن؛ إذ رُوي أنّه % رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ -، فأقسم أنّه لا يضع عن ظهره رداءه حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام حتّى جمع القرآن[12].
القرآن يتحدّث عن عليّ %
ثمّة علاقة تبادليّة بين أمير المؤمنين % والقرآن، فكما أنّه % القرآن الناطق ومظهره وحامله ومفسّره ومبيّنه وحارسه وحافظ علومه، كذلك كان القرآن في العديد من آياته وبياناته مرافقاً له %، ومبيّناً لبعض فضائله ومقاماته، نذكر من ذلك:
1. نفس رسول الله: عن الإمام الرضا % في مناظرته مع جماعة من علماء أهل العراق وخراسان: «فحين ميّز الله الطاهرين من خلقه، فأمر نبيّه بالمباهلة بهم في آية الابتهال، فقال عزّ وجلّ: يا محمّد ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبينَ﴾[13]، فبرّز النبيّ - عليّاً والحسن والحسين وفاطمة (صلوات الله عليهم)، وقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون ما معنى قوله: ﴿وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ﴾؟»، قالت العلماء: عنى به نفسه، فقال أبو الحسن %: «لقد غلطتم، إنّما عنى بها عليّ بن أبي طالب % وممّا يدلّ على ذلك قول النبيّ -، حين قال: لينتهين بنو وليعة[14]، أو لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي؛ يعني عليّ بن أبي طالب %، وعنى بالأبناء الحسن والحسين ' وعنى بالنساء فاطمة &»[15].
2. خير البريّة: عن ابن عبّاس: قد نزل في عليّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾[16]، وروى الخطيب عن جابر: أنّه لمّا نزلت هذه الآية، قال النبيّ: «عليّ خير البريّة»، وفي رواية جابر: كان أصحاب رسول الله - إذا أقبل عليّ، قالوا: جاء خير البريّة[17].
3. صالح المؤمنين: عن الإمام الباقر % في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[18]: «صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب %»[19].
4. الهادي: عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله %: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[20]؟ فقال: «رسول الله - المنذر، وعليّ الهادي»[21].
مودّته من الرحمان
لمّا كان لأمير المؤمنين % ذلك الفضل وذاك المقام وتلك الأيادي على الدين وأهله، ثبت له في رقابهم دَين وحقّ، ما طلبه ولا رغب فيه، ولكنّ الله تعالى لا ينسى، ولا يضيع حقوق عبيده وأوليائه؛ لذلك فقد خصّ عليّاً % بواجب المودّة بعد ولايته، عن رسول الله - لأمير المؤمنين %: «يا عليُّ، قل: اللهمّ اجْعَل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك وُدّاً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة»، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[22]، نزلت في عليّ بن أبي طالب %[23].
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص460.
[2] سورة الحاقّة، الآية 12.
[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا %، تصحيح الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج2، ص67.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص315، الخطبة 198.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص542.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص252، الخطبة 176.
[9] سورة الواقعة، الآية 79.
[10] سورة آل عمران، الآية 7.
[11] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص223، الخطبة 158.
[12] ابن النديم البغداديّ، فهرست ابن النديم، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص30.
[13] سورة آل عمران، الآية 61.
[14] حيٌّ من كِندة.
[15] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا %، مصدر سابق، ج1، ص210.
[16] سورة البيّنة، الآية 7.
[17] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج2، ص267.
[18] سورة التحريم، الآية 4.
[19] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، مصدر سابق، ج2، ص377.
[20] سورة الرعد، الآية 7.
[21] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص192.
[22] سورة مريم، الآية 96.
[23] ابن المغازليّ، مناقب عليّ بن أبي طالب %، انتشارات سبط النبيّ -، إيران، 1426هـ - 1384ش، ط1، ص257.
90
الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر وإمام العصر
الموعظة الثامنة عشرة
ليلة القدر وإمام العصر
هدف الموعظة
معرفة ارتباط ليلة القدر العظيمة بالإمام المهديّ .، والأدعية المختصّة به فيها، وأهمّيّة الدعاء له
محاور الموعظة
1. ليلة القدر ليلة الإمام المهديّ .
2. تنزّل الملائكة والروح فيها
3. سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر
4. الدعاء للإمام في ليلة القدر
تصدير الموعظة
الإمام الباقر %: «... إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور سَنَةً سَنَةً، يؤمَر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا...»[1].
ليلة القدر ليلة الإمام المهديّ .
ذكر الشيخ حسين الطبرسيّ في كتابه «النجم الثاقب» أنّ أوّل الأزمنة والأوقات المُختصّة بالإمام المهديّ . هي ليلة القدر، بل الليالي الثلاثة المردّدة بينها. وهي ليلةُ تجلّي منزلةِ إمام العصر .، وقدْره ويُمنه وسُلطته وعظَمته وجلاله، لنزول الروح والملائكة عليه، بما تضيقُ به الأرض؛ لتقدير أمور سنة العباد، كما جاء في أخبار كثيرة[2].
ومن الأخبار، ما عن الأئمّة الباقر والصادق والكاظم (، أنّهم قالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[3]: «يُقدّر الله كلَّ أمرٍ من الحقّ ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة؛ يُقدِّم ما يشاء، ويؤخِّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويُزيد فيها ما يشاء، ويُنقص ما يشاء، ويلقيه رسول الله - إلى أمير المؤمنين %، ويلقيه أمير المؤمنين % إلى الأئمّة ( حتّى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان %»[4].
وعن الإمام الصادق % -في حديثه عن معراج رسول الله -- قال: «ثمّ أوحى الله عزّ وجلّ إليه: اقرأ -يا محمّد- نِسبةَ ربِّك تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾[5]... ثمّ أوحى الله عزّ وجلّ إليه: اقرأ إنّا أنزلناه؛ فإنّها نسْبَتُك ونِسبَة أهل بيتك إلى يوم القيامة»[6].
ومعنى أنّ سورة القدر نسْبَةُ النبيّ - وأهل بيته، أنّها «مُبيِّنة شرفك وكرامتك وكرامة أهل بيتك، أو مشتملة على نسبتك ونسبتهم إلى الناس وجهة احتياج الناس إليك وإليهم؛ فإنّ نزول الملائكة والروح بجميع الأمور التي يحتاج الناس إليها إذا كان إليك وإليهم، فبهذه الجهة أنّهم محتاجون إليك وإليهم»[7].
وعن الإمام الصادق %: «قال لي أبي محمّد بن عليّ: قرأ عليّ بن أبي طالب % ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[8] وعنده الحسن والحسين '، فقال له الحسين %: يا أبتاه، كأنّ بها من فيك حلاوة، فقال له: يابن رسول الله، وابني، إنّي أعلم فيها ما لم تعلم؛ إنّها لمّا نزلت، بعث إليَّ جدُّك رسول الله فقرأها عليَّ، ثمّ ضرب على كتفي اليمنى، وقال: يا أخي ووصيّي... هذه السورة لك من بعدي، ولولدك من بعدك...»[9].
تنزَّل الملائكة والروح فيها
إنّ قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها﴾[10] يدلّ على أنّ ليلة القدر لها ارتباط وثيق بالإمام المهديّ .؛ من خلال:
1. إنّ صيغة ﴿تنزَّل﴾ تدلّ على دوام نزول الملائكة، واستمراره في كلّ ليلة قدر، وهذا ما أجاب به النبيّ - أبا ذرّ عندما سأله عن بقاء: ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء، ينزل فيها، فإذا قُبضوا رُفعت، قال: «لا، بل هي إلى يوم القيامة»[11]. فما دامت ليلةُ القدر باقية، دلّ ذلك على وجود حُجّة على الأرض -سواء كان نبيّاً أو وصيّاً- تتنزّل عليه الملائكة، ونحن نعلمُ أنْ لا حُجّةَ على الأرض غير الإمام المهديّ .، فهو بكلِّ تأكيدٍ الحُجّة الذي تنزّلُ عليه الملائكة؛ لتقرير مصير الأمّة والعباد.
2. الروايات الواردة في نزول الملائكة على الإمام %، منها:
أ. عن الإمام الباقر %: «... إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور سَنَةً سَنَةً، يؤمَر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا...»[12].
ب. عن الإمام الصّادق %: «إنّ النّاس في تلك الليلة في صلاة، ودعاء، ومسألة، وصاحب هذا الأمر في شُغل تَنَزَّلُ الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها»[13].
3. يؤكّد الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) أنّ تنزُّل ملائكة بما أنّه ليس مادّيّاً؛ لكونها مجرَّدة، فلا بدّ من أن يكون تنزّلها على مَن يناسب التجرُّد، وبما أنّ نفس الإنسان الكامل يمكن أن تتروَّح؛ أي تصعد كروح مبتعدة عن المادّة، فإنّ تنزُّل الملائكة يكون على النفس المتروّحة للإنسان الكامل، وهذا يعني أنّ ليلة القدر هي ليلة الوصال بين الملائكة والوليّ الأعظم[14].
سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر
قال القمّيّ في تفسيره: إنّ السلام الوارد في الآية هو تحيّة يُحيّى بها الإمام إلى أنْ يطلعَ الفجر[15]. وقد استند بعض المفسّرين إلى روايات تفسّر مطلع الفجر بخروج القائم .، منها:
1. الرواية التي ذكرناها عن الإمام الصادق %: «قال لي أبي محمّد بن عليّ... ولها (سورة القدر) نورٌ ساطعٌ في قلبك وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائم»[16].
2. وعنه % -في تفسير قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْر﴾[17]- قال: «يعني حتّى يخرج القائم %»[18].
الدعاء للإمام في ليلة القدر
يُلفتنا الميرزا الطبرسيّ (رضوان الله عليه) إلى أنّ الدعاء للإمام . «مُقدَّمٌ على دعاء الإنسان لنفسه، والإمامُ % مشغولٌ في هذه الليلة بهذا الأمر الإلهيّ العظيم... فأحسنُ دعاء هو طلبُ النصرة له، والإعانة، والحفظ الإلهيّ، كما ورد في دعاء الليلة الثالثة والعشرين أن يُقرأ في جميع الحالات: في الركوع وفي السجود وقائماً وقاعداً، بل في كلّ الأوقات هذا الدعاء الذي مضمونه، بعد حمْدِ الله تعالى والصّلاة على رسول الله وآله صلوات الله عليهم، اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ المَهْدِيِّ، صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِه، فِي هذِهِ السّاعَةِ وَفِي كُلِّ ساعةٍ، وَلِيّاً وَحافِظاً، وَقائِداً وَناصِراً، وَدَلِيلاً وَعَيْناً... إلى آخره.
ثمّ تتوسّلُ وتستغيثُ به %، وتطلبُ الإعانةَ والشفاعةَ لأداء ما يريده، وما يجري على يديه، وينتهي إلى نظره الأنور. وكذلك التضرّع والإنابة أن لا يرفع نظر لُطفه ورأفته عنك، وأن تُذكر عنده % بالحُسنى، فتتعامل معه بما يليق بعظَمته صلوات الله عليه، فزمام الأمور في هذه اللّيلة بيد قدرته الإلهيّة.
وفي خبرٍ معتبَر[19]: «لَوْ قَرَأَ رَجُلٌ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾[20] أَلْفَ مَرَّةٍ، لِأَصْبَحَ وَهُوَ شَديدُ اليَقينِ بِالاعْتِرافِ بِما يَخْتَصُّ فِينَا»[21]»[22].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص248.
[2] لمزيد اطّلاع، ولمعرفة الأزمنة والأوقات المختصّة به .، انظر: الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، النجم الثاقب، تقديم وترجمة وتحقيق وتعليق السيّد ياسين الموسويّ، أنوار الهدى، لا.م، 1415هـ، ط1، ج2، ص511 - 512.
[3] سورة الدخان، الآية 4.
[4] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، مصدر سابق، ج2، ص290.
[5] سورة التوحيد.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص486.
[7] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول -، تصحيح السيّد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1404هـ - 1363ش، ط2، ج15، ص475.
[8] سورة القدر، الآية 1.
[9] العلّامة المجلسيّ، مرآة العقول، مصدر سابق، ج25، ص71.
[10] سورة القدر، الآية 4.
[11] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج10، ص406.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص248.
[13] الصفّار، محمّد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلميّ، إيران - طهران، 1404هـ - 1362ش، لا.ط، ص240.
[14] انظر: الإمام الخمينيّ، الآداب المعنويّة للصلاة، مصدر سابق، ص510 - 512.
[15] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، مصدر سابق، ج2، ص432.
[16] العلّامة المجلسيّ، مرآة العقول، مصدر سابق، ج25، ص71.
[17] سورة القدر، الآيتان 4 - 5.
[18] فرات بن إبراهيم الكوفيّ، تفسير فرات الكوفيّ، تحقيق محمّد الكاظم، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران - طهران، 1410هـ - 1990م، ط1، ص581.
[19] رواه الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ بإسنادهما إلى أبي يحيى الصنعانيّ عن الإمام الصادق %.
[20] سورة القدر، الآية 1.
[21] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، المقنعة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1410هـ، ط2، ص313.
[22] الميرزا الطبرسيّ، النجم الثاقب، مصدر سابق، ج2، ص515 - 516.
95
الموعظة التاسعة عشرة: مع الإمام زين العابدين في دعاء التوبة
الموعظة التاسعة عشرة
مع الإمام زين العابدين % في دعاء التوبة
هدف الموعظة
بيان أنّ الله يدعونا إلى التوبة، ويحبّ التوّابين، وبيان الطريق إلى التوبة وآدابها في دعاء التوبة للإمام السجّاد %.
محاور الموعظة
1. الله يدعونا إليه
2. في طريق التوبة
3. التوبة توفيقٌ من الله
تصدير الموعظة
الإمام زين العابدين % في ذكر التوبة وطلبها: «اللَّهُمَّ... هَذَا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْه أَيْدِي الذُّنُوبِ، وقَادَتْه أَزِمَّةُ الْخَطَايَا، واسْتَحْوَذَ عَلَيْه الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِه تَفْرِيطاً، وتَعَاطَى مَا نَهَيْتَ عَنْه تَغْرِيراً.... حَتَّى إِذَا انْفَتَحَ لَه بَصَرُ الْهُدَى، وتَقَشَّعَتْ عَنْه سَحَائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِه نَفْسَه، وفَكَّرَ فِي مَا خَالَفَ بِه رَبَّه، فَرَأَى كَبِيرَ عِصْيَانِه كَبِيراً، وجَلِيلَ مُخَالَفَتِه جَلِيلًا، فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلًا لَكَ، مُسْتَحْيِياً مِنْكَ، ووَجَّه رَغْبَتَه إِلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمَّكَ بِطَمَعِه يَقِيناً، وقَصَدَكَ بِخَوْفِه إِخْلَاصاً»[1].
الله يدعونا إليه
من أسماء الله سبحانه وتعالى «الغفور»، وقد بلغت رحمته عزّ وجلّ حدّاً تشْرَئبُّ لها عُنق إبليس يوم القيامة؛ طمعاً بها. وقد دعانا الله سبحانه إلى التوبة والعودة إليه، واللجوء إلى رحمته: ﴿نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[2].
وزِيادةً في الترغيب في التوبة، وبثّ روح الأمل في نُفوس المذنبين والمسرفين، خاطبهم سبحانه: ﴿قُل يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِم لَا تَقنَطُواْ مِن رَّحمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ ٱلغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[3].
وتأكيداً على قَبول توبة عبده، قال عزّ وجلّ: ﴿وَهُوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ﴾[4].
وفوق ذلك كلّه ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ﴾[5].
وعن رسول الله -: «ليس شيء أحبُّ إلى الله من مؤمنٍ تائبٍ أو مؤمنةٍ تائبة»[6].
في طريق التوبة
شهر رمضان شهر التوبة والاستغفار، وشهر الإنابة إلى الله تعالى، وشهر التضرّع والدعاء. وقد علّمنا الأئمّة ( كيف نتوب إلى الله توبةً صادقة. وممّا فاضت به كلماتهم (، دعاء «التوبة» الشريف على لسان الإمام زين العابدين %.
يعلّمنا %، في هذا الدعاء، خطوات الوصول إلى مقام التوبة:
1. الاعتراف بالذنب، والإقرار به: «اللَّهُمَّ... هَذَا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْه أَيْدِي الذُّنُوبِ، وقَادَتْه أَزِمَّةُ الْخَطَايَا، واسْتَحْوَذَ عَلَيْه الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِه تَفْرِيطاً، وتَعَاطَى مَا نَهَيْتَ عَنْه تَغْرِيراً، كَالْجَاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْه، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إِحْسَانِكَ إِلَيْه».
إنّ ندم العبد على الذنب، ووقوفه بين يدَي الله موقف الذليل المسكين المستكين، والاعتراف بذنبه، هي الخطوة الأولى والأساس في طريق التوبة، عن الإمام زين العابدين % في مناجاة التائبين: «إِلهِي، إِنْ كانَ النَّدَمُ عَلى الذَّنْبِ تَوْبَةٌ، فَإنِّي وَعَزَّتُكَ مِنْ النَّادِمِينَ»[7]. وعن الإمام الباقر %: «كفى بالندم توبة»[8].
يقول الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه): «الاعتراف بين يديّ الله حيث لا يسمعك أحد ولا يراك أحد غير الله تعالى من أهمّ الأمور في التوبة النصوحة والحقيقية»[9].
2. الاستيقاظ مِن الغَفْلة: «حَتَّى إِذَا انْفَتَحَ لَه بَصَرُ الْهُدَى، وتَقَشَّعَتْ عَنْه سَحَائِبُ الْعَمَى».
بعد الاعتراف بالذنب، ينقشع السحاب عن الغفلة التي كانت سبباً في اقترافه، وتأتي «اليقظة» و«الصحوة»، التي هي المسلك الأوّل في منازل السالكين لدى أهل السير والسلوك؛ لتكون وقوداً يُكمل سير العبد في طريق التوبة.
عن الإمام عليّ %: «فأفِق -أيُّها السامع- من سكرتك، واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك»[10].
وحتّى تبقى اليقظة مؤثّرة، ومستمرّة، ونافعة، ولا يعود الإنسان إلى الغفلة، كان لا بدّ من:
أ. إحصاء الذنوب: «أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِه نَفْسَه».
من موجبات اليقظة، الالتفات إلى الذنوب السالفة؛ لأنّ الغفلة تُعمينا عن رؤيتها، وعن ضرورة تصحيحها؛ أمّا اليقظة، فتوجب علينا إحصاء الذنوب؛ لنتوبَ منها؛ فيعود القلب إلى نقاوته وطهارته.
إنّ الغفلة عن إحصاء الذنوب، حجاب كثيف يحول بين المرء والتوبة، ويوم القيامة، عندما تزول الغشاوة عن بصائرنا، سنرى في صحائف أعمالنا العجب العجاب، حينها لا تنفعنا توبة، ولا يُنجينا ندمٌ على حَوبة.
ب. التفكّر في ما اقترَفَه: «فَرَأَى كَبِيرَ عِصْيَانِه كَبِيراً، وجَلِيلَ مُخَالَفَتِه جَلِيلاً».
إنّ رؤية الذنب كبيراً، ومخالفة المولى جليلة، تكشفان له واقعه المزري والمأزوم، وعواقبه الوخيمة عليه؛ فيشعر بالخطر، ويبحث عن الملجأ والمأوى؛ كي لا يكرّر تجاربه السابقة في البُعد عن الله تعالى؛ لأنّ التوبة ليست مجرّد ندم وأسف، بل هي عمليّة تغيير شاملة.
بعد هذا، ولكي يرفع الإمام % اليأس من قلب المذنب، أو الشكّ في قَبول التوبة من الله، يدعوه أن يُقبل إليه بلا تردّد.
3. اللجوء إلى الله: «فأقْبَلَ نَحْوَكَ».
بعد الاعتراف بالذنب، واليقظة، ومعرفة الواقع المزري الذي يعيشه، يبحث التائب عن المؤمِّن من العواقب، والمُعين على الخلاص، والمُساعد في الإصلاح؛ فيُقبل على الله، بعد أن عرف أنّ خلاصه به، «سبحان الذي لا ملجأ منه إلّا إليه»[11].
وعلى المذنب، بعد أن وجد في نفسه الرغبة في التوبة، أن يغتنم الفرصة، ويُقبل على الله، ولا يسوّف ويؤخّر التوبة؛ لأنّه قد لا يوفّق إليها مرّة أخرى، فكم من معترف بالذنوب، ومقرّ بها، لم تولَد في نفسه هذه الرغبة في التوبة!
هذا اللجوء الله مصحوب بِجُملة أمور:
أ. الحياء: «مُسْتَحْيِياً مِنْكَ».
إنّ الحياء والخجل من الله، أحد موانع الذنوب، ويستجلب عطف الله سبحانه. يقول الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه): «يجب الاستحياء والخجل من الله؛ لِما أعطانا من قدرات، فعصيناه بها»[12].
ب. الإخلاص في العودة إلى الله، والثقة بكرمه ووعده: «ووَجَّهَ رغبته إليك، ثِقةً بك».
إنّ إخلاص التوبة لله تعالى يمنع من معاودة التجرّؤ على حرمه، وارتكاب الموبقات، ويحصّن من الرجوع إلى الحالة السابقة. والثقة بالله تعزّز الطمأنينة في قلب التائب بأنّ الله سوف يقبل توبته، وتعني أنّ التائب لا يرى مُنقذاً ولا ملاذاً إلّا باللجوء إلى الله، وفي كنفه وجواره.
4. بين الرجاء والخوف: «فَأَمَّكَ بِطَمَعِه يَقِيناً، وقَصَدَكَ بِخَوْفِه إِخْلَاصاً».
من أهمّ شروط استمرار التوبة، ودوامها، وعدم العود إلى الذنب، أن يعيش التائب حالتَي «الرجاء والخوف»، كما فسّر ذلك الإمام الصادق %: «اُرجُ الله رجاءً لا يُجرِّئك على معاصيه، وخَفِ الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته»[13].
5. الدعاء: «فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَضَرِّعاً».
بعد أن وثق التائب بإجابة الله[14]، رفع يدَيه بالدعاء، وطلب العفو والمغفرة؛ فـ«خَيرُ الدُّعاءِ الاِستِغفار»[15].
وقد بيّن الإمام % جملة من آداب الدعاء:
أ. أن يعيش الداعي حالة الانكسار والمسكنة بين يدَي الله: «وغَمَّضَ بَصَرَه إِلَى الأَرْضِ مُتَخَشِّعاً، وطَأْطَأَ رَأْسَه لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً».
ب. أن يٌفصِح عن ذنوبه: «وأَبَثَّكَ مِنْ سِرِّه مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِه مِنْه خُضُوعاً، وعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِه مَا أَنْتَ أَحْصَى لَهَا خُشُوعاً».
ج. أن يطلب الغوث والعون من الله: «واسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِه فِي عِلْمِكَ، وقَبِيحِ مَا فَضَحَه فِي حُكْمِكَ؛ مِنْ ذُنُوبٍ أَدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ».
د. أن يعيش حالة التوازن بين عدل الله وعفوه: «لَا يُنْكِرُ -يَا إِلَهِي- عَدْلَكَ إِنْ عَاقَبْتَه، ولَا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْه ورَحِمْتَه؛ لأَنَّكَ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَتَعَاظَمُه غُفْرَانُ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ».
هـ. أن يأمل إجابة الله: «اللَّهُمَّ فَهَا أَنَا ذَا قَدْ جِئْتُكَ مُطِيعاً لأَمْرِكَ فِيمَا أَمَرْتَ بِه مِنَ الدُّعَاءِ، مُتَنَجِّزاً وَعْدَكَ فِيمَا وَعَدْتَ بِه مِنَ الإِجَابَةِ؛ إِذْ تَقُولُ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[16]. اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، والْقَنِي بِمَغْفِرَتِكَ كَمَا لَقِيتُكَ بِإِقْرَارِي، وارْفَعْنِي عَنْ مَصَارِعِ الذُّنُوبِ كَمَا وَضَعْتُ لَكَ نَفْسِي، واسْتُرْنِي بِسِتْرِكَ كَمَا تَأَنَّيْتَنِي عَنِ الِانْتِقَامِ مِنِّي».
و. أن يعزم على عدم العود إلى الذنب: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ... تَوْبَةَ مَنْ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَه بِمَعْصِيَةٍ، ولَا يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَةٍ».
هذه إطلالة صغيرة على بعض ما ورد في دعاء التوبة للإمام زين العابدين %. نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لقراءته في ليلة القدر؛ ليلة طلب التوبة والمغفرة والاعتذار إلى الله عزّ وجلّ.
[1] الإمام زين العابدين %، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418هـ، ط1، ص140، الدعاء31.
[2] سورة الحجر، الآية 49.
[3] سورة الزمر، الآية 53.
[4] سورة الشورى، الآية 25.
[5] سورة البقرة، الآية 222.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص21.
[7] الإمام زين العابدين %، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص402، مناجاة التائبين.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص426.
[9] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الرابعة، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
[10] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص214، الخطبة 153.
[11] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الدروع الواقية، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ص112.
[12] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الرابعة، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص65.
[14] عن الإمام الصادق %: «إذا دعوتَ فظُنّ أنّ حاجتك بالباب»؛ الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص473.
[15] كما عن الإمام الصادق %؛ الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص504.
[16] سورة غافر، الآية 60.
100
الموعظة العشرون: شهر رمضان شهر الأمل
الموعظة العشرون
شهر رمضان شهر الأمل
هدف الموعظة
معرفة دور الأمل وأهمّيته في تجاوز الإنسان مِحَن الحياة، ومصاعبها، والتخلّص من اليأس والإحباط وبراثن الشيطان، وأنّ شهر رمضان شهر الأمل.
محاور الموعظة
1. لولا الأمل
2. شهر رمضان شهر الأمل
3. ليلة القدر والأمل
تصدير الموعظة
الإمام زين العابدين %: «أفَتُراكَ يا رَبّ تُخلفُ ظُنونَنا، أو تُخَيّبُ آمالَنا؟ كَلّا يا كَريمُ، لَيسَ هذا ظَنُّنا بكَ، ولا هذا فيكَ طَمَعُنا؛ يا رَبّ، إنَّ لَنا فيكَ أمَلاً طَويلاً كَثيراً، إنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً»[1].
لولا الأمل
إذا أردنا أن نعرّف الأمل؛ فإنّه تلك الشحنة المعنويّة التي تشحذ الإنسان بالطاقة الإيجابيّة، ورؤية الخير في المستقبل، وتجعله يتجاوز مطبّات الحياة وصعوباتها، ومثبّطات العمل والتقدّم، والوقوع في اليأس والتقوقع على الذات، والاستسلام للشيطان والخضوع له.
وقد ورد أنّ الأمل:
1. رحمة: عن رسول الله -: «الْأَمَلُ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِي، وَلَوْلَا الْأَمَلُ مَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَداً، وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَراً»[2].
فالأمل هو الذي يحمل الأمّ لترضع ولدها رجاء أن تراه في المستقبل كبيراً، والأمل هو الذي يحدو بالمزارع أن يغرس ويزرع رجاء أن تنمو وتثمر في المستقبل.
2. رفيق مؤنس: عن الإمام عليّ %: «الأمل رفيقٌ مؤنس»[3].
فالحياة فيها الكثير من المتاعب والمصاعب والتقلّبات، والأمل يهوّن الخطب، فيكون كالطبيب المُشفق، فيؤنسك في وحشة هذه الحياة، وصعوباتها؛ وعلى حدّ قول الشاعر: قال الشاعر: ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل![4]
3. وقود العمل: جاء في البحار: «بينما عيسى بن مريم جالس وشيخ يعمل بمسحاة ويثير الأرض، فقال عيسى %: «اللهمّ انزع منه الأمل»، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة. فقال عيسى: «اللهمّ اردُد إليه الأمل»، فقام فجعل يعمل. فسأله عيسى عن ذلك، فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل، وأنت شيخ كبير؟ فألقيتُ المسحاة واضطجعت، ثمّ قالت لي نفسي: والله، لا بُدّ لك مِن عيشٍ ما بقيتَ، فَقُمتُ إلى مسحاتي»[5].
شهر رمضان شهر الأمل
شهر رمضان محطّة إلهيّة، تتجلّى فيه الرحمة بمداياتها الواسعة والفسيحة؛ رجاء أن يثوب العبد إلى مولاه، ويركب جادّة الصواب، الموصلة إلى حُسن المآب.
وقد حفلت أدعية شهر رمضان بمضامين تدعو إلى الأمل، وتجاوز الحاضر، والتقدّم، والارتقاء في كلّ ما هو محبوب ومطلوب ومرغوب؛ ففي دعاء أبي حمزة الثماليّ، الذي كان الإمام زين العابدين % مواظباً على قراءته في ليالي شهر رمضان المبارك، يقول % بلغة الواثق بأنّ الله تعالى لن يخيّب آمال عباده: «أفَتُراكَ يا رَبّ تُخلفُ ظُنونَنا، أو تُخَيّبُ آمالَنا؟ كَلّا يا كَريمُ، لَيسَ هذا ظَنُّنا بكَ، ولا هذا فيكَ طَمَعُنا؛ يا رَبّ، إنَّ لَنا فيكَ أمَلاً طَويلاً كَثيراً، إنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً»[6].
وقد جاء في خطبة النبيّ - في استقبال شهر رمضان[7]، أنّه:
1. شهر البركة والرحمة والمغفرة: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ»؛ فلنغتنم هذه الفرصة بما يقرّبنا إلى الله، ويبعدنا من الشيطان.
2. أفضل الشهور: «شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ»؛ فلا نتوانَ عن التزوّد منه في جميع أوقاته.
3. شهر ضيافة الله: «هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ»؛ فاعلموا أنّكم مكرّمون عند الله تعالى، فما أجملَ هذه الضيافة! وما أكثرَ عطاياه فيها!
4. «أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ»؛ فحتى العمل غير الإراديّ (التنفّس) يثيبُ الله عليه في هذا الشهر.
5. «وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ»؛ وكذلك النوم يؤجَرُ عليه؛ خاصّةً إذا كان نوماً للتقوّي على طاعة الله.
6. «وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ»؛ فالعمل الصالح مهما كان صغيراً ومتواضعاً؛ فإنّه مقبولٌ عند الله؛ فلا تستصغروه.
7. «وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ»؛ فلندعُ الله متيقّنين إجابته.
وبعد هذه المعرفة المفعمة بالأمل عن شهر رمضان المبارك، يأتي التوجيه العمليّ من النبيّ - بأن نشحذ الهمم، ونطلب من الله تعالى التوفيق والسداد أن يعيننا على أداء فرائضه بإخلاص، «فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ». والتوفيق للصوم هو أن نؤدّي حقّه، ونحقّق أهدافه، لا مجرّد الإمساك عن الطعام والشارب؛ والتوفيق لتلاوة كتاب الله بأن نعمل بمضمونه، وننهل من معينه ما يقرّبنا إلى الله على مستوى المعرفة والعمل والروح.
وبناءً على هذا الأمل؛ «فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ»[8]؛ فإذا لم نغتنم شهر البركة، والرحمة، والمغفرة، والضيافة والكرامة الإلهيّتين، والأجر العظيم، سنخرج من هذا الشهر ولم يُغفر لنا؛ وفي هذا كلّه دعوة إلى عدم الاستسلام والركون إلى الشيطان، والفرار منه إلى رحمة الله الواسعة.
وممّا تقدّم، يظهر لنا أنّ الأمل داعٍ إلى العمل، بل الإسراع فيه؛ إذ الفرص تمرّ مرّ السحاب، والموت يطلب الإنسان كلّ آن؛ فلا تدري نفسٌ متى يأتيها الأجل وهي بعدُ لم تبادر إلى العمل.
عن رسول الله - أنّه «أخذ ثلاثة أعواد، فغرس عوداً بين يدَيه، والآخر إلى جنبه، وأمّا الثالث فأبعده، وقال: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل، وهذا الأمل يتعاطاه ابن آدم ويختلجه الأجل دون الأمل»[9].
ولتعلموا «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ وَأَنْ لَا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»[10].
[1] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص586.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص173.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص29.
[4] الأمين، السيّد حسن، مستدركات أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، لا.ط، ج1، ص215.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج14، ص329.
[6] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص586.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.
[8] من خطبة النبيّ - في استقبال شهر رمضان؛ الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.
[9] المالكيّ الأشتريّ، الأمير ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1368ش، ط2، ج1، ص280.
[10] من خطبة النبيّ - في استقبال شهر رمضان؛ الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.
106
الموعظة الحادية والعشرون: أمير المؤمنين إمام المجاهدين
الموعظة الحادية والعشرون
أمير المؤمنين % إمام المجاهدين
هدف الموعظة
بيان قيمة الجهاد والشهادة في كلام أمير المؤمنين %، وصور من جهاده وتفانيه في سبيل الله في الظروف المختلفة.
محاور الموعظة
1. الجهاد والشهادة على لسان أمير المؤمنين %
2. سابقته % في الجهاد
3. شجاعته %
4. عليّ % لا يُداهن
5. لا يُضعفه الخذلان
تصدير الموعظة
رسول الله - لأمير المؤمنين %: «أنت... أشجعهم قلباً في لقاء الحرب، وأجودهم كفّاً، وأزهدهم في الدنيا، وأشدّهم جهاداً»[1].
الجهاد والشهادة على لسان أمير المؤمنين %
الجهاد والشهادة كلمتان محبّبتان إلى قلب أمير المؤمنين %، فكان مجاهداً مقداماً، عاشقاً للشهادة، وهو القائل: «فوالله، إنّي لعلى الحقّ، وإنّي للشهادة لمُحبّ»[2].
وقد كثُرت الروايات عن الجهاد والشهادة على لسانه الشريف، منها:
1. الجهاد صلاح الدنيا والدين: «إنّ اللّه فرض الجهاد، وعظّمه، وجعله نصره وناصره. واللّه، ما صلُحت دنيا ولا دين إِلّا به»[3].
2. الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ»[4].
3. فضائل لا تُحصى: «إنّ الغُزاة إذا همّوا بالغزو، كتب الله لهم براءة من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت. ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحيّة من سلخها، ويوكّل الله بكلّ رجل أربعين ملكاً يحفظونه من بين يدَيه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنةً إلّا ضُعّفت له، ويُكتَب له كلّ يوم عبادة ألف رجل، يعبدون الله ألف سنة، كلّ سنة مئة وستّون يوماً، واليوم مثل عمر الدنيا، وإذا صاروا بحضرة عدوّهم، انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، فإذا برزوا لعدوّهم، وأشرعت الأسنّة، وفوّقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل، حفّتهم الملائكة بأجنحتها، ويدعون الله لهم بالنصر والتثبيت، فينادي منادٍ: الجنّة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة أهون على الشهيد من شرب الماء البارد في اليوم الصائف...»[5].
4. أفضل الموت القتل: «أيّها الناس، إنّ الموت لا يفوته المُقيم، ولا يُعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومَن لم يمت يُقتَل، وإنّ أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده لألفُ ضربةٍ بالسيف أهون عليَّ من ميتةٍ على فراش»[6].
5. أحبُّ قطرةٍ إلى الله: «ما مِن قطرةٍ أحبُّ إلى الله من قطرة دمٍ في سبيل الله...»[7].
سابقته % في الجهاد
من كلامٍ لأمير المؤمنين % يوبّخ به الناس على خذلانهم وعدم إجابتهم له، بعد أن بلغه % مقتل عامله حسّان البكريّ: «... حتّى لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً منّي! لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستّين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع»[8].
شجاعة عليّ %
عند ذكر اسم عليّ تتبادر إلى الأذهان معاني الشجاعة والتفاني ورباطة الجأش، كيف لا وقد عرف شجاعتَه الصديق والعدوّ، والقريب والبعيد!
وإنّ الحافز والمحرّك لبطولاته % العظيمة، وثباته وتضحياته في كلّ موقف، هو الإيمان بالله تعالى، وصدق اليقين، وعمق الاستعانة والتوكل على الله، والعبوديّة له، مضافاً إلى ما يتمتّع به % من علوّ الهمّة، وقوّة العزيمة، ورباطة الجأش، وسموّ النفس.
ولقد قيل في شجاعته % الكثير، ونُقل منها ما لا يسعه المقام، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه؛ ومن ذلك:
1. عليّ أشجعهم قلباً: عن رسول الله - لعليٍّ %: «أنت... أشجعهم قلباً في لقاء الحرب، وأجودهم كفّاً، وأزهدهم في الدنيا، وأشدّهم جهاداً»[9].
2. وهل الجهاد إلّا له: عن ابن أبي الحديد في شرح النهج: «وأمّا الجهاد في سبيل الله فمعلومٌ عند صديقه وعدوّه أنّه سيّد المجاهدين، وهل الجهاد لأحدٍ من الناس إلّا له!»[10].
3. عليّ % لا يفرّ: في معركة أُحد، بعد أن أُصيب أمير المؤمنين % بجراحات عدّة في وجهه ورأسه، وصدره وبطنه ويدَيه ورجلَيه، حتّى أوصلها بعضهم إلى تسعين جراحة، دخل النبيّ - والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة، فجعل النبيّ - يمسحه بيده، ويقول: إنّ رجلاً لقي هذا في الله، لقد أبلى وأعذر، فكان يلتئم. فقال عليّ %: الحمد لله الذي لم أفرّ ولم أولِّ الدُبُر[11].
وفي نقلٍ آخر: انصرف عليُّ بن أبي طالب % من وقعة أُحد وبه ثمانون جراحة، تدخل فيها الفتائل، فدخل عليه رسول الله - وهو على نطع، فلمّا رآه بكى، وقال: «إنّ رجلاً يُصيبه هذا في سبيل الله لحقٌّ على الله أن يفعل به ويفعل».
فقال عليّ % مجيباً له، وبكى: «بأبي وأمّي أنت يا رسول الله، الحمد الذي لم يرَني ولّيتُ عنك، ولا فررتُ بأبي وأمّي، كيف حُرمت الشهادة!».
فقال له -: «إنّها من ورائك، إن شاء الله».
ثمّ قال له النبيّ -: «إنّ أبا سفيان قد أرسل يوعدنا ويقول: ما بيننا وبينكم حمراء الأسد». فقال عليّ %: «لا، بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله، لا أرجع عنهم ولو حُملت على أيدي الرجال...»[12].
4. يخرج حاسر الرأس إلى الرجل الدارع فيقتله: عن ابن عبّاس، وقد سأله رجل: أكان عليٌّ يباشر القتال يوم صفّين؟ قال: والله، ما رأيت رجلاً أطرحَ لنفسه في متلَفٍ من عليّ، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس إلى الرجل الدارع فيقتله[13].
5. درعه لا ظهر لها: قال مصعب الزبيريّ: كان عليّ بن أبي طالب حذراً في الحرب، شديد الروغان من قرنه، إذا حمل يحفظ جوانبه جميعاً من العدوّ، وإذا رجع من حملته يكون لظهره أشدَّ تحفّظاً منه لقدّامه، لا يكاد أحد يتمكّن منه، فكانت درعه صدراً لا ظهر لها، فقيل له: ألا تخاف أن تؤتى مِن قِبل ظهرك، فقال: «إن أمكنتُ عدوّي من ظهري، فلا أبقى الله عليه إن أبقى عليّ»[14].
6. لا يركب الخيل: قيل لأمير المؤمنين %: لِم لا تركب الخيل وطلّابُك كثير؟ فقال: «الخيل للطلب والهرب، ولستُ أطلب مُدبراً، ولا أنصرف عن مقبل»[15].
عليّ % لا يُداهن
نادى حَوشَب الخيريّ عليّاً يوم صفّين، فقال: انصرِف عنّا يابن أبي طالب، فإنّا ننشدك الله في دمائنا ودمك، نخلّي بينك وبين عراقك، وتخلّي بيننا وبين شامنا، وتحقن دماء المسلمين.
فقال عليّ: «هيهات يابن أمّ ظليم! والله، لو علمت أنّ المداهنة تسعني في دين الله لفعلت، ولكان أهون عليَّ في المؤونة، ولكنّ الله لم يرضَ من أهل القرآن بالإدهان والسكوت إذا كان الله يُعصى وهم يطيقون الدفاع والجهاد حتّى يظهر أمر الله»[16].
لا يُضعفه الخذلان
كتب عقيل بن أبي طالب إلى أمير المؤمنين % حين بلغه خذلان أهل الكوفة وعصيانهم إيّاه، أن يكتب له برأيه، أجابه %: «... وأمّا ما سألتني أن أكتب إليك برأيي فيما أنا فيه، فإنّ رأيي جهاد المحلّين حتّى ألقى الله، لا يزيدني كثرة النّاس معي عزّةً، ولا تفرُّقهم عنّي وحشة؛ لأنّي محقّ والله مع الحقّ، ووالله ما أكره الموت على الحقّ، وما الخير كلّه بعد الموت إلّا لمَن كان مُحقّاً»[17].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج29، ص462.
[2] إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ، الغارات، تحقيق السيّد جلال الدين الحسينيّ الأرموي المحدث، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج1، ص321.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص8.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص69، الخطبة 27.
[5] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ح2، ص445.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص54.
[7] الكوفيّ، حسين بن سعيد، الزهد، تحقيق ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399هـ، لا.ط، ص76.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص70 - 71، الخطبة 27.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج29، ص462.
[10] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص24.
[11] انظر: مرتضى العامليّ، السيّد جعفر، الصحيح من سيرة الإمام عليّ %، نشر ولاء المنتظر .، 1430هـ - 1388ش، ط1، ج3، ص222 - 223.
[12] انظر: السيّد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة الإمام عليّ %، مصدر سابق، ج3، ص223 - 224.
[13] المحبّ الطبريّ، أبو جعفر أحمد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص205.
[14] ابن حمدون، محمّد بن الحسن بن محمّد بن عليّ، التذكرة الحمدونيّة، تحقيق احسان عبّاس وبكر عبّاس، لبنان - بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، 1996م، ط1، ج2، ص400.
[15] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص84.
[16] ابن عبد البرّ، الاستيعاب، تحقيق عليّ محمّد البجاويّ، دار الجيل، لبنان - بيروت، 1412هـ - 1992م، ط1، ج1، ص411.
[17] إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ، الغارات، مصدر سابق، ج2، ص433.
111
الموعظة الثانية والعشرون: الوعي والبصيرة في مسيرة الجهاد
الموعظة الثانية والعشرون
الوعي والبصيرة في مسيرة الجهاد
هدف الموعظة
بيان أسس الوعي والبصيرة في المسيرة الجهاديّة.
محاور الموعظة
1. أهمّيّة الوعي والبصيرة
2. أسس البصيرة في المسيرة الجهاديّة
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين %: «إنّ اللهَ كتب القتلَ على قومٍ والموتَ على آخرين، وكلٌّ آتيةٌ منيّتُهُ كما كتب اللهُ لكم، فطوبى للمجاهدين في سبيلِ الله والمقتولين في طاعتِه»[1].
أهمّيّة الوعي والبصيرة
إنّ المعرفة والوعي والبصيرة، هي من أهمّ الصفات التي ينبغي للمسلم أن يتمتّع بها؛ إذ إنّها تشكّل تلك القدرة التي تمكّن صاحبَها من اتّخاذ القرارات الصائبة في أمور حياته، فيتعامل معها بحكمة ورويّة، تدفعان عنه عواقب السوء. وتزداد البصيرة أهمّيّةً وضرورةً في مواطن الخطر ومكامن التهديد؛ إذ إنّ في هذه الدنيا أحداثاً ومواقف، يتعرّض لها المرء، قد تطاله في عقيدته ودينه، في عرضه ونفسه، في ماله وممتلكاته... فهنا، ينبغي أن يكون أشدّ حذراً وأكثر وعيّاً وأعمق بصيرةً؛ فساحات الجهاد والمواجهة تترتّب عليها آثار وتبعات عظيمة، وقد تكون عواقبُها وخيمة؛ لذا يصف أمير المؤمنين % حالَ المجاهدين مع رسول الله -، فيقول: «حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ، ودَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ»[2].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إذا لم تكن لدينا بصيرة، ولم تكن لدينا رؤية صحيحة وأعين مفتّحة ويقظة لازمة، فسوف لن نحدّد مصالحنا بشكلٍ صحيح، ولن نشخّص الطريق لتحقيق تلك المصالح بشكلٍ صحيح... عندما لا تكون هناك بصيرة فسيكون أمرنا كالإنسان الفاقد للبصر، إنّه لن يرى الطريق»[3].
أسس البصيرة في المسيرة الجهاديّة
فالبصيرة ينبغي أن تُحمَل مع السيف، ولا تنفكّ عنه، وللبصيرة في أمور الجهاد أسسها وثوابتها ومنطلقاتها التي ينبغي الاستناد إليها، نذكر منها:
1. الإيمان بالله والتوكّل عليه
إنّ هذا العالم كلّه هو فيضٌ من فيوضات الله وألطافه، بل إنّ ديمومة الحياة والوجود مرتبطة به تعالى، لحظةً بلحظة؛ إذ هو الخالق، ولا منبع للقدرة والكمال سواه، ولا مُعتمَد غيره، ولا ناصر للمؤمنين والمجاهدين في سبيله سواه.
وإنّ من أكثر الناس إيماناً بهذه العقيدة المجاهدَ في سبيل الله، هذا الإنسان المستعِدّ لترك الدنيا وما فيها من زخارف ومباهج ومغريات وملذّات، والسعي لتحصيل مرضاة الله، مُشتاقاً إلى لقائه، لا يبتغي سواه، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[4].
إنّ مثل هذا المجاهد، لا يتوكّل إلّا على الله، فهو نعم المولى ونعم النصير، ولا يستمدّ العون من أحدٍ سواه؛ إذ إنّ ما في هذا الوجود كلّه خاضعٌ لإرادته سبحانه، فالمجاهد من أكثر الناس رضا بقضاء الله وقدره، يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[5].
من هنا، وانطلاقاً من هذا الأساس، ونظراً للبصيرة التي ينبغي أن يتمتّع بها هؤلاء المجاهدون، فإنّهم يكونون أبعد الناس عن المفاسد الأخلاقيّة، من عجبٍ وغرور وما شاكل؛ وذلك لمعرفتهم الفعليّة بأنّ الأمور كلّها بيد الله تعالى، وأنّ الأسباب والنتائج هي تحت نظره وسلطته سبحانه، وأنّهم وسائط ينفّذون إرادة الله ومشيئته، يعتقدون فعلاً بمضمون قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[6].
2. حقيقة الموت وأشرفه
في عقيدتنا أنّ الموتَ جسرُ عبورٍ من هذه الدار الفانية إلى الدار الخالدة، والمجاهد ينظر إلى هذه الحياة في ضوء هذه العقيدة، فلا يخشى الموت، بل يستقبله بشوقٍ إذا ما تتطلّب الواجب منه ذلك. قد أعدّ نفسه لأيٍّ من أنواع الموت، ولكنّ عشقه أن يكون خروجه من هذه الدنيا عن طريق الشهادة، وأن تُختَم حياته بهذا الشرف العظيم، الذي يعبّر أمير المؤمنين % عن شوقه له، فيقول: «إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ. والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِه، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّه»[7]، وفي عهده إلى مالك الأشتر، يسأل % اللهَ لنفسهِ ولصاحبه مالك الأشتر الشهادةَ في سبيله، فيقول: «وأَنَا أَسْأَلُ اللَّه بِسَعَةِ رَحْمَتِه وعَظِيمِ قُدْرَتِه عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاكَ لِمَا فِيه رِضَاه... وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ»[8].
وإنّ التسابقَ إلى الشهادة ناشئٌ من إدراك هذه الحقيقة، ألا وهي أنّها أشرف الموت، كما في الرواية عن الإمام الصادق %، عن رسول الله -: «أشرف الموت قتل الشهادة»[9].
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، مبيّناً حقيقة الشهادة بأنّها تجارة مع الله تعالى: «إنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي وهبنا الأنفس، وهو الذي أعطانا الأموال، هي ملكه، وليست ملكاً لنا، بكرمه وجوده ولطفه أعطانا، ثمّ بلطفه جاء إلينا ليشتري منّا، وطلب أن نبيعه هذه الأنفس وهذه الأموال، وفي المقابل لم يُعطِنا أو لم يعدنا بثمن يتناسب -كما هو حال أيّ بيع وشراء- مع حجم ما نقدّمه، إنّما وعدنا بما هو أعظم وأكبر بكثير ممّا نقدّم في هذه المعاملة الربّانيّة»[10].
3. عدم الخوف من قوّة العدوّ
إنّ أعداء الحقّ وأنصار الباطل كُثر عبر التاريخ، ولديهم قوّة مادّيّة عالية وعتاد كبير، وهذا الأمر من العوامل الفاعلة التي يمكن أن تؤدّي إلى الفشل أحياناً، وكثيراً ما يستفيد العدوّ من الدعاية الإعلاميّة والحرب النفسيّة للوصول إلى غاياته المنشودة، وإلحاق الهزيمة بأنصار الحقّ.
لكن، وفي تاريخ الإسلام، نجد أنّ رسولَ الله - قَلَب هذه المعادلة، وبيّن إمكانيّة التغلّب عليها وتغييرها، وذلك من خلال الوعي والبصيرة والصبر والتحمّل، فهذه معركة بدر، التي كان عدد جيش المسلمين فيها 313 رجلاً مقابل ألفٍ من المشركين تقريباً، ومع ذلك جاء الأمر الإلهيّ ليقول لرسول الله -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾[11]، وكذا الأمر في معركة أحد، فقد كان عمدة جيش المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، فيما كان المسلمون سبعمئة تقريباً، أمّا في الخندق، كان عدد المشركين يزيد على عشرة آلاف مقاتل، بينما لم يتجاوز عدد المسلمين ثلاثة آلاف. لكنّهم لم يهابوا كثرة الأعداء، ولم يخشَوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[12].
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «إنّ قاعدة الانتصار الأساسيّة لا تكمن في معادلة السلاح الذي نملكه ويملكه عدوّنا، ولا في العدد والعدّة، والمسائل هنا غير قابلة للقياس... قاعدة الانتصار الأكبر هي أنّ الذين يعشقون الموت، هَزَموا الذين يهابون الموت، هذه هي المعادلة؛ إنّ الذين يرَون في الموت والشهادة طريقَ الحياة الخالدة، هَزَموا الذين يرَون في الموت فناءً وضياعاً، هنا عظمة الإسلام»[13].
4. معرفة حقيقة النصر
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[14]، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أنّ تحقّق النصر الإلهيّ شرطه الأوّل والأساس هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام بالتكاليف الشرعيّة التي يحدّدها الله أو وليّه في الأرض بجدٍّ وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾[15].
إنّ المجاهدَ ينطلق من هذا المبدأ وهذا الأصل، إذ إنّه هو الأساس والحاكم في المسيرة الجهاديّة، ألا وهو الطاعة والعبوديّة لله سبحانه وأداء التكليف الشرعيّ، بصرف النظر عن النتائج؛ لأنّ النصر الحقيقيّ يكمن في التزام هذا الأصل، ونيل رضا الله عزّ وجلّ.
من هنا، ينبغي التنبّه إلى أنّ المجاهد إن قصّر في أداء تكليفه وبلوغ رضا الله سبحانه، فهو مهزوم، وإن تمكّن من الانتصار المادّيّ على العدوّ؛ لأنَّ امتحان الله لنا، إنّما هو في عبوديّتنا الخالصة له من دون شائبة.
وبناءً عليه، إنّ المجاهدَ الحقيقيّ يرى نفسه منتصراً دائماً، ولا وجود للهزيمة في قاموسه، فالله وعد المجاهدين بفضلٍ منه وقوّة، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[16]، وهذا العلوّ متحقّق حتماً، سواء أكان في النصر والغلبة على الأعداء أم في الشهادة التي يرجوها خاتمةً لحياته.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج32، ص403.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص209، الخطبة 150.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 30/10/2019م.
[4] سورة النساء، الآية 76.
[5] سورة التوبة، الآية 51.
[6] سورة الأنفال، الآية 17.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص180، الخطبة 123.
[8] المصدر نفسه، ص445، الكتاب 53.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص576.
[10] من كلامٍ له (رضوان الله عليه) في يوم الشهيد، بتاريخ 11/11/2010م.
[11] سورة الأنفال، الآية 65.
[12] سورة آل عمران، الآية 173.
[13] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 25/05/2002م.
[14] سورة محمّد، الآية 7.
[15] سورة آل عمران، الآية 160.
[16] سورة آل عمران، الآية 139.
117
الموعظة الثالثة والعشرون: الذنوب داءٌ مُهلك
الموعظة الثالثة والعشرون
الذنوب داءٌ مُهلك
هدف الموعظة
معرفة قبح الذنوب، وأنّ العاقل لا يقتحمها، وعاقبتها، وكيف نتجنّبها.
محاور الموعظة
1. العاقل لا يذنب
2. من آثار الذنوب
3. من مكفّرات الذنوب
تصدير الموعظة
الإمام الكاظم %: «يا هشام، إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب! وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض»[1].
العاقل لا يذنب
إنّ الإنسان العاقل إذا علم أنّ الدنيا فانية، وما هي إلّا سبيلٌ لحياةٍ أخرى باقية، وأنّ طاعة الله هي مفتاح الفوز برضوانه وجنّته، وأنّ معصيته توجب غضبه، وطرده من رحمته، وخسارته الحياة الأبديّة، أذعن بوجوب الطاعة، والابتعاد عن المعصية، وترك كلّ ما يُبعده عن ربّه، والتزوّد لدار القرار ومحلّ الأخيار؛ إذ ليس من العقل في شيء أن يبيع المرء آخرتَه بدنياه!
وقد أرشدت روايات عدّة إلى ذلك، نذكر منها:
1. العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب: في رسالة الإمام الكاظم % لهشام بن الحكم، عن أهمّيّة العقل ودوره في حياة الإنسان وتكامله: «يا هشام، إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفَهم في كتابه، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾[2]... يا هشام، إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب! وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض»[3].
2. العاقل يتزوّد لآخرته: عن رسول الله -: «ألا وإنّ من علامات العقل: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوّد لسكنى القبور، والتأهّب ليوم النشور»[4].
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «وهبنا الله تعالى العقل لنفكّر به، ونفهم، ونقدّر العواقب والمخاطر، ونكتشف الأساليب، والوسائل، والحبائل والخدع، ولنواجه به إبليس. بالعقل تبدو قيمة الإنسان الحقيقيّة والأساسيّة، فالذي لا يستخدم عقله، كمَن لا عقل له»[5].
3. اللبيب لا يتأثّث في دار النقلة: عن سويد بن غفلة قال: دخلت على أمير المؤمنين %، بعدما بويع بالخلافة، وهو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال ولستُ أرى في بيتك شيئاً ممّا يحتاج إليه البيت! فقال %: «يابن غفلة، إنّ اللبيب لا يتأثّث في دار النقلة، ولنا دارُ أمن قد نقلنا إليها خير متاعنا، وإنّا عن قليل إليها صائرون»[6].
وقد ورد العديد من الروايات أنّ العقل داعٍ إلى العلم والحكمة، معرفة الله، كمال الدين، مكارم الأخلاق، محاسن الأعمال، اختيار الأصلح، اغتنام العمر، صواب القول، حُسن التدبير، الزهد في الدنيا، النجاة، الختم بالجنّة، صلاح كلّ أمر، خير الدنيا والآخرة وغيرها الكثير ممّا تصلح به شؤون العبد في الدنيا والآخرة.
من آثار الذنوب
إنّ منشأ الذنوب هو مخالفة التكاليف التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشر وإسعادهم. ولهذه الذنوب أضرار سيّئة، وآثار خطيرة قد تصل إلى درجة لا يفلح معها العلاج أبداً، عن الإمام الصادق %: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتّى تغلب على قلبه، فلا يُفلح بعدها أبداً»[7].
إنّ الذنوب -كبيرها وصغيرها- تبدأ على شكل فعل، ثمّ تتحوّل إلى حالة، ومع الاستمرار والإصرار تتحوّل إلى ملكة، وعند اشتدادها تغمر وجود الإنسان، وتصبح عين وجوده؛ عندئذٍ لا تجدي مع صاحبها موعظة، ولا يؤثّر فيه توجيه ولا نُصح؛ إذ إنّه عمل -عن اختيار- على قلب ماهيّته، فمثَلُه مَثَلُ دودة القزّ التي تلفّ حولها من نسيج الحرير حتّى تُمسي سجينة عملها.
وإنّ آثار الذنوب التي ذكرتها الآيات والروايات كثيرة، منها:
1. عدم المغفرة: عن الإمام الصادق %: «مَن همَّ بسيّئةٍ فلا يعملْها؛ فإنّه ربّما عمل العبد السيّئة، فيراه الربّ تبارك وتعالى، فيقول: وعزّتي وجلالي، لا أغفر لك بعد ذلك أبداً»[8].
2. موت القلب: عن الإمام الباقر % قال: «قال رسول الله -: أربَعٌ يُمِتنَ القلب: الذنب على الذنب...»[9].
3. نسيان شيء من الدين: عن الإمام عليّ %: «لا أحسَبُ أحَدَكُم ينسى شيئاً من أمر دينه إلّا لخطيئةٍ أخطأها»[10].
4. الاحتجاب عن الله: عن الإمام زين العابدين % في دعاء أبي حمزة الثماليّ: «وأَعْلَمُ أنَّكَ لِلرَّاجين بِمَوْضِعِ إِجَابَة... وإِنَّ الرَّاحِلَ إِلَيكَ قَريبُ المُسافَةِ، وإِنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَن خَلقِكَ إِلَّا أَن تَحجُبَهُمُ الأَعمالُ دونَكَ»[11].
5. نسيان العِلم: عن رسول الله -: «إنّ العبد ليُذنب الذنب فينسى به العلمَ الذي كان قد علمه»[12].
6. الحرمان من قيام الليل: عن رسول الله -: «... وإنّ العبد ليُذنب الذنب فيمتنع به من قيام الليل»[13].
7. الحرمان من الرزق: عن رسول الله -: «... وإنّ العبد ليُذنب الذنب فيُحرَم به الرزق وقد كان هنيئاً له»[14].
8. عدم إجابة الدعاء: عن الإمام الباقر %: «إنّ العبد يسأل اللهَ الحاجةَ فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريبٍ أو إلى وقتٍ بطيء، فيُذنب العبدُ ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها؛ فإنّه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان منّي»[15].
من مكفّرات الذنوب
إنّ أنجع دواء للذنوب هو التوبة النصوح، وهجران المعاصي، والاستغفار الجِدِّيّ، وإتيان الأعمال الصالحة، عن الإمام عليّ %: «الذنوب الداء، والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا تعود»[16].
وفي سبيل التخلّص من الذنوب والمعاصيّ، والسير في طريق القرب، يرشدنا الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) إلى الأمور الآتية:
1. بالعزم نستطيع رمي أثقال الذنوب، وقلع الأدران العالقة في أنفسنا.
2. إنّ خطّ السير الصحيح يبدأ من خلال النيّة الخالصة، والعزم على التخلُّص من المعصية.
3. يجب النظر إلى مدى رسوخ المعصية في نفوسنا، وحقيقة امتلاكنا القدرة على تركها.
4. الإيمان بالقدرة على مواجهة الشيطان عامل أساسيّ لقلع جذور المعاصي من قلوبنا وأنفسنا.
5. لنستفِد في شهر رمضان من سكون النفس وراحتها؛ لإخماد المعاصي والشهوات، والنأي بالنفس عنها.
6. يجب العمل على التخلّص من أعباء المعاصي، ومحو آثارها؛ لكسب مغفرة الله؛ فالشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر[17].
وقد ورد في الروايات بعض الأعمال التي من شأنها تكفير الذنوب والمعاصي، منها:
1. الصلاة على محمّد وآل محمّد: عن الإمام الرضا %: «مَن لم يقدر على ما يُكفِّر به ذنوبَه، فليُكثر من الصلاة على محمّدٍ وآله؛ فإنّها تهدم الذنوب هدماً»[18].
2. تَكرار قول: «لا إله إلّا الله»: عن رسول الله -: «لقّنوا موتاكم «لا إله إلّا الله»؛ فإنّها تهدم الذنوب، فقالوا: يا رسول الله، فمَن قال في صحّته؟ فقال: ذاك أهدم وأهدم»[19].
3. حُسن الخُلق: عن الإمام الصادق %: «إنّ حُسن الخُلق يُذيب الخطيئة كما تُذيب الشمسُ الجليد»[20].
4. إغاثة الملهوف: عن الإمام عليّ %: «مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ: إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ»[21].
5. استغفار الملائكة: عن الإمام الصادق %: «إنّ لله عزَّ ذِكرُه ملائكةً يُسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما تُسقط الريحُ الورقَ من الشجر في أوان سقوطه، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا﴾[22]؛ واللهِ ما أراد بهذا غيركم»[23].
6. كثرة السجود: عن الإمام الصادق %: «جاء رجل إلى رسول الله - فقال: يا رسول الله -، كثُرت ذنوبي، وضعُف عملي، فقال رسول الله -: أكثِر السجود؛ فإنّه يحطّ الذنوب كما تحطّ الريحُ ورقَ الشجر»[24].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص18.
[2] سورة الزمر، الآيتان 17 - 18.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص18.
[4] الديلميّ، الشيخ أبو محمّد الحسن بن محمّد، إرشاد القلوب، انتشارات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1415هـ - 1374ش، ط2، ج1، ص45.
[5] من كلمة له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 4 محرّم 1438هـ.
[6] ابن فهد الحلّيّ، عدّة الداعي ونجاح الساعي، مصدر سابق، ص109 - 110.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص271.
[8] المصدر نفسه، ج2، ص272.
[9] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص228.
[10] الميرزا الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص326.
[11] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص583.
[12] ابن فهد الحلّيّ، عدّة الداعي ونجاح الساعي، مصدر سابق، ص197.
[13] المصدر نفسه، ص197.
[14] المصدر نفسه، ص197.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص271.
[16] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص129.
[17]مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتّقون»، الحلقة الثالثة، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
[18] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا %، مصدر سابق، ج2، ص265.
[19] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص2.
[20] حسين بن سعيد الكوفيّ، الزهد، مصدر سابق، ص30.
[21] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص472، الحكمة 24.
[22] سورة غافر، الآية 7.
[23] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص304.
[24] ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمّد القمّيّ، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيّوميّ، مؤسّسة نشر الفقاهة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص411.
123
الموعظة الرابعة والعشرون: في مواجهة البلاء (1)
الموعظة الرابعة والعشرون
في مواجهة البلاء (1)
هدف الموعظة
معرفة التعامل مع البلاء، والموقف السليم منه؛ لنفوز برضا الله ورضوانه في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. اختيار الله هو الأفضل
2. هكذا نواجه البلاء (1)
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبَّ العبد أو كره، ولا يرضى عبدٌ عن الله فيما أحبَّ أو كره إلّا كان خيراً له فيما أحبَّ أو كره»[1].
اختيار الله هو الأفضل
إنّ مجاري الأمور كلّها بيد الله سبحانه وتعالى، وخاضعة لقدرته وسلطانه، فلا يقهره شيء، ولا يعجزه، ولا يفوته شيء، ولا يعزب عن علمه شيء؛ يقول تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[2]، ويقول في خصوص المصائب: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلّاَ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[3].
وإذا خُيِّر المؤمن، في الحال التي يكون عليها، بين اختيار الله له، وبين اختياره هو، فإنّه يختار ما اختاره الله له؛ لأنّه الأعلم بما يُصلحه ويُنجيه، فعن الإمام الحسن %: «منِ اتّكل على حُسن الاختيار من الله، لم يتمنَّ أنّه في غير الحال التي اختارها الله له»[4].
وعن الإمام الكاظم %: «المؤمن يعترض كلّ خير، لو قُرِّضَ بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له»[5].
وعن الإمام الصادق % قال: «إنّ المؤمن لو أصبح له مُلك ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيراً له، ولو أصبح وقد قُطّعت أعضاؤه كان ذلك خيراً له، إنّ الله عزّ وجلّ لا يصنع بالمؤمن إلّا ما هو خير له»[6]. فعلى المؤمن أن يحمد الله تعالى على حياةٍ يدبّرها بيد رحمته وسلطانه.
وعن أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر %، فقلت له: أنتم ورثة رسول الله -؟ قال: «نعم»، قلت: رسول الله - وارث الأنبياء، علم كما علموا؟ قال لي: «نعم»، قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرئوا الأكمه والأبرص؟ قال: «نعم، بإذن الله»، ثمّ قال لي: «ادنُ منّي يا أبا محمّد»، فدنوت منه، فمسح على وجهي وعلى عيني، فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكلَّ شيء في البلد، ثمّ قال لي: «أتُحبُّ أن تكون هكذا، ولك ما للناس، وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنّة خالصة؟»، قلت: أعود كما كنت، فمسح على عيني، فعدتُ كما كنت. قال: فحدّثت ابن أبي عمير بهذا، فقال أشهد أنّ هذا حقّ، كما أنّ النهار حقّ[7].
هكذا نواجه البلاء
بعد وقوع البلاء، وحلول القضاء، على المؤمن أن يواجه البلاء من خلال:
1. التوجّه إلى الله
عند وقوع أيّ بلاء ومصيبة، علينا بالتوجّه إلى الله بالدعاء والذكر، متيقّنين بأنّا ملكُه وعبيده، وفي قبضته؛ ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[8].
عن هارون ابن الفضل قال: رأيت أبا الحسن عليّ بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر %، فقال: «إنّا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر %...»[9].
وقد أرشدنا أئمّتنا ( إلى ذكر الله عند كلّ شدّة، فعن الإمام عليّ %: «قل عند كلّ شدّة: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» تُكفِها»[10].
وعن الإمام الرضا %: «رأيتُ أبي % في المنام، فقال: يا بُنيّ، إذا كنت في شدّة فأكثِر أن تقول: «يا رؤوف، يا رحيم»...»[11].
2. الصبر
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «الصبر هو أن تكون لدينا طاقة لتحمُّل نتائج البلاءات وتبعاتها، وأن لا نضعف وننهار، وننحرف ونكفر... الصّبر تُحفةُ المؤمنين وميزتُهم وعنوان إيمانهم. وفي بعض الآيات الشريفة، نقرأ أنّ نوعاً من المصائب الشديدة إذا صبر الإنسان عليها فله أجرُ ألف شهيد! وأنّ الله تعالى يأتي بالصابرين والمحتسبين الذين نجحوا في امتحان البلاءات، ويُعطيهم درجاتهم وجزاءَ أعمالهم، فيتمنَّى لو أنَّهم في الدنيا قد تعرّضوا لمصائب أشدّ وبلاءات أكبر؛ لعظمة الثواب الذي وجدوه أمامهم يوم القيامة»[12].
عن رسول الله -: «ليودّنّ أهل العافية يوم القيامة أنّ جلودهم قُرِّضت بالمقاريض لِما يرون من ثواب أهل البلاء. قال الله تعالى: يا داود: قل لعبادي: يا عبادي، مَن لم يرضَ بقضائي، ولم يشكر نعمائي، ولم يصبر على بلائي، فليطلُب ربّاً سوائي»[13].
عن الإمام عليّ %: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر»[14]، وعن الإمام الصادق %: «ما من مؤمن إلّا وهو مبتلى ببلاء، منتظَر به ما هو أشدّ منه، فإن صبر على البليّة التي هو فيها عافاه الله من البلاء الذي ينتظر به، وإن لم يصبر وجزع نزل من البلاء المنتظر أبداً حتّى يحسُن صبرُه وعزاؤه»[15].
3. الدنيا إلى زوال
أنْ نعلم أنّ هذه الدنيا زائلة فانية، وما فيها من لذّة ونعيم سينتهي وسيزول، وما فيها من بلاء إلى أفول، وأنّا إلى ربّنا راجعون، فلا شيء في الدنيا باقٍ، لا المال ولا البنون، ولا المصائب؛ وأنْ الهدف من هذه الدنيا هو نيل رضا الله، والعبور من بؤسها إلى نعيم الأبد؛ هذا كلّه يُهوّن علينا البلاء، ويصغّره في أعيننا.
عن أمير المؤمنين %: «مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ، وَكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ»[16].
وعنه % في صفة الدنيا: «تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ، وَلَا عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ، وَإِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا»[17].
4. الدنيا دار ممرّ
الدنيا ليست المكان المُعَدّ لتنعُّم المؤمن وسعادته، ولا الدار التي تستحقّ أن يبذل لها، أو أن يبيع نفسه من أجلها، فعن الإمام عليّ %: «مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَا»[18].
وعنه %: «الدنيا دار الأشقياء، الجنّة دار الأتقياء»[19].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص60.
[2] سورة الأنعام، الآية 59.
[3] سورة التغابن، الآية 11.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص106.
[5] علي بن بابويه القمّيّ، فقه الرضا (الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا %)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قم، 1406هـ، ط1، ص360.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص97.
[7] الإسكافيّ، محمّد بن همّام بن سهيل، التمحيص، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهديّ .، إيران - قم، 1404هـ، ط1، ص56.
[8] سورة البقرة، الآيتان 156 - 157.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص381.
[10] الحرّاني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول -، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط2، ص174.
[11] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، مهج الدعوات ومنهج العبادات، لا.م، كتابخانه سنائى، لا.ت، لا.ط، ص333.
[12] من كلمةٍ له (رضوان الله عليه) في الليلة الخامسة من محرّم 1432هـ.
[13] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص236.
[14] المتقيّ الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج1، ص36.
[15] محمّد بن همّام الإسكافيّ، التمحيص، مصدر سابق، ص56.
[16] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص544، الحكمة 387.
[17] المصدر نفسه، ص548، الحكمة 415.
[18] المصدر نفسه، ص544، الحكمة 385.
[19] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص33.
129
الموعظة الخامسة والعشرون: في مواجهة البلاء (2)
الموعظة الخامسة والعشرون
في مواجهة البلاء (2)
هدف الموعظة
معرفة التعامل مع البلاء، والموقف السليم منه؛ لنفوز برضا الله ورضوانه في الدنيا والآخرة.
محاور الموعظة
1. هكذا نواجه البلاء (2)
2. غيبة الإمام . البلاء الأكبر
تصدير الموعظة
الإمام عليّ %، وقد عزّى الأشعث بن قيس عن ابنٍ له: «يَا أَشْعَثُ، إِنْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِكَ، فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ مِنْكَ ذَلِكَ الرَّحِمُ، وإِنْ تَصْبِرْ فَفِي اللَّه مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ. يَا أَشْعَثُ، إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْجُورٌ، وإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وأَنْتَ مَأْزُورٌ»[1].
هكذا نواجه البلاء (2)
تحدّثنا في الموعظة السابقة عن ثلاثة أمور تساعدنا في مواجهة البلاء، ونستكمل البقيّة في هذه الموعظة:
5. الجازع مأزور
بعض الناس، عندما يحلُّ البلاء، وتقع المصيبة، كفقد عزيزٍ مثلاً، يبكون ويحزنون ويشعرون بإحباط ينافي الرضا بقضاء الله تعالى. وعلى هؤلاء أن يعلموا «أنّ الجزع قبيح مضرّ بالدين والدنيا، ولا يفيد ثمرة إلّا حبط الثواب، وجلب العقاب»[2]، وأنّ ما حصل قد حصل وانتهى، ولا يمكنهم إرجاع الأمر إلى ما كان قبل البلاء.
عن قُتَيبة الأعشى قال: أتيت أبا عبد الله % أعُود ابناً له، فوجدته على الباب، فإذا هو مهتمّ حزين، فقلت: جُعلت فداك! كيف الصبيّ؟ فقال: «والله إنّه لمَا به»[3]، ثمّ دخل فمكث ساعة ثمّ خرج إلينا وقد أسفرّ وجهه، وذهب التغيُّر والحزن، قال: فطمعت أن يكون قد صلُح الصبيّ، فقلت: كيف الصبيّ، جُعلت فداك؟ فقال: «قد مضى لسبيله»، فقلت: جُعلت فداك! لقد كنتَ وهو حيّ مهتمّاً حزيناً وقد رأيت حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟ فقال: «إنّا أهل البيت إنّما نجزع قبل المصيبة، فإذا وقع أمرُ الله رضينا بقضائه، وسلّمنا لأمره»[4].
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله % يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أحبّ عبداً، قبض أحبَّ ولدِه إليه»[5].
6. إنّه بعين الله
أن نعلم أنّ ما جرى ويجري علينا هو بعلم الله، وبعينه عزَّ وجلَّ، يهوّن علينا البلاء، بل يجعله جميلاً، وهذا ما تعلّمناه من قول الإمام الحسين % في كربلاء، بعدما توالت عليه الخطوب: «هوَّن ما نزل بي أنّه بعين الله»[6]، ومن السيّدة زينب & عندما سألها ابنُ زياد شامتاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً»[7].
7. كفّارة الذنوب
إنّ بعض ما يجري من مصائب وبلاءات على المرء هو تطهيرٌ للنفس، وكفّارة عن الذنوب، وتزكية للروح؛ لأنّ الله أراد أن يخفّف عن عبده المذنب تبعات الذنوب في الآخرة، فابتلاه في الدنيا رحمةً ورأفةً به، وهذا يهوّن الخطب، ويشدّ العزم.
عن الإمام عليّ %: «إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ -عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ- بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ، وَحَبْسِ الْبَرَكَاتِ، وَإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ؛ لِيَتُوبَ تَائِبٌ، وَيُقْلِعَ مُقْلِعٌ، وَيَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ، وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ»[8].
وعنه %: «الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم؛ لتسلم بها طاعاتهم، ويستحقّوا عليها ثوابها»[9].
8. البلاء باطنه خير
لو قُدِّر لنا أن نرى الأمور على حقيقتها، ونعلم مقاصدها، لوجدنا البلاء خيراً، يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[10].
عن الإمام الكاظم %: «لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة»[11].
9. البلاء تنبيهٌ من الغفلة
قد يكون البلاء من الله تعالى لعبده المؤمن بغرض تربيته، وإيقاظه من غفلته، ومنعه من الانزلاق أكثر نحو المعصية، والجنوح إلى الهاوية، ونسيان الله تعالى، وخسارة آخرته.
إنّ بلاءً كهذا مرحّبٌ به، ومشكورٌ الله عليه، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[12].
وعن أمير المؤمنين %: «إذا رأيتَ الله سبحانه يُتابع عليك البلاء فقد أيقظك»[13].
10. البلاء غذاء المؤمن
إنّ من البلاء ما يكون اختباراً للمؤمن؛ ليجتازه، وينجح فيه، فيصبح أقوى وأشدّ على مواجهة التحدّيات الآتية، وأكثر خبرةً وتجربةً وعلماً؛ أو ليستفيدَ من أخطائه، ويعمل على تصحيحها. وقد شبّهت الروايات البلاء بالتغذية باللبن الذي يقوّي جسد الإنسان، ويشدّ عوده.
عن رسول الله -: «إنّ الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تُغذّي الوالدةُ ولدَها باللبن»[14].
وعن الإمام الصادق %: «البلاء زين المؤمن، وكرامة لمَن عقل؛ لأنّ في مباشرته، والصبر عليه، والثبات عنده، تصحيحَ نسبة الإيمان»[15].
غيبة الإمام . البلاء الأكبر
إنّ غيبة الإمام المهديّ (أرواحنا فداه) أكبر بلاءٍ يمكن للمؤمنين أن يعيشوه، «اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا»[16].
إنّ غيبة مولانا صاحب الزمان . هي أكبر اختبار وابتلاء للمؤمنين في عصر الغيبة؛ لأنّهم سيتعرّضون لابتلاءات، وغربلة، وتمحيص، يتيه فيها خلقٌ كثير، ويضلّ كثيرون، فعن الإمام الكاظم %: «إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر مَن كان يقول به، إنّما هي محنةٌ من الله عزّ وجلّ امتحن بها خلقه»[17].
وعن أبي بصير عن الإمام الباقر % -في قول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾[18]- قال: «هذه نزلت في القائم، يقول: إن أصبح إمامُكم غائباً عنكم، لا تدرون أين هو، فمَن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض، وحلال الله وحرامه؟»[19].
وعن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر ' قال: قلت: ما تأويل قول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾[20]؟ فقال: «إذا فقدتُم إمامكم فلم تروه، فماذا تصنعون؟»[21]، وفي رواية أخرى عنه %: «إن فقدتم إمامكم، فمَن يأتيكم بإمام جديد؟»[22].
فلنعمل على رفع هذا البلاء عنّا بجدّ وعزم وإصرار؛ بالتمهيد له، وتهيئة الأرض لظهوره الشريف، وتعجيل فرجه الشريف، فعن الإمام الصادق %: «بنا يبدأ البلاء ثمّ بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثمّ بكم، والذي يُحلَف به لينتصِرَنَّ الله بكم كما انتصر بالحجارة[23]»[24].
نسأل الله سبحانه أن تنفعنا بلاءاته؛ إذ «مَن لَم يَنفَعُهُ اللهُ بِالبَلاءِ وَالتَّجارِبِ لَم يَنتَفِع بِشَيء مِنَ العِظَةِ»[25].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص528، الحكمة 291.
[2] النراقيّ، الشيخ محمّد مهدي، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيّد محمّد كلانتر، تقديم الشيخ محمّد رضا المظفّر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج3، ص240.
[3] كناية عن احتضاره، وإشرافه على الموت.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص225.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص219.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص46.
[7] المصدر نفسه، ج45، ص115.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص199، الخطبة 143.
[9] محمّد بن همّام الإسكافيّ، التمحيص، مصدر سابق، ص5.
[10] سورة البقرة، الآية 216.
[11] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، مصدر سابق، ص377.
[12] سورة الأعراف، الآية 130.
[13] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص135.
[14] الشهيد الثاني، زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ، مسكّن الفؤاد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1407هـ، ط1، ص58.
[15] المصدر نفسه، ص58.
[16] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص366.
[17] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1405هـ - 1363ش، لا.ط، ص360.
[18] سورة الملك، الآية 30.
[19] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص326.
[20] سورة الملك، الآية 30.
[21] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص360.
[22] البحرانيّ، السيّد هاشم الحسينيّ، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج5، ص450.
[23] أي في قصّة الفيل، كما في الكتاب العزيز: ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ سورة الفيل، الآية 4.
[24] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الأمالي، تحقيق حسين الأستاد ولي وعليّ أكبر الغفاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص301.
[25] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص254، الخطبة 176.
134
الموعظة السادسة والعشرون: نجاةُ المؤمن في حفظ لسانه
الموعظة السادسة والعشرون
نجاةُ المؤمن في حفظ لسانه
هدف الموعظة
بيان خطر اللسان على الإنسان، ووجوب حفظه، وخطورة ترك العنان له، وكيف أقلّل من آفاته، ومدى خطورة كشف الأسرار، وضرورة كتمانها.
محاور الموعظة
1. قيمة اللسان وخطورته
2. فكّر ثمّ انطُق
3. إفشاء السرّ وكتمانه
تصدير الموعظة
رسول الله -: «واحفظوا ألسنتكم، وغضُّوا عمّا لا يحلُّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلُّ الاستماع إليه أسماعكم»[1].
قيمة اللسان وخطورته
إنّ الإيمان موطنه القلب، الذي هو عرش الرحمن، واللسان هو مرآة لهذا القلب، تعكس ما فيه من خيرٍ أو شرّ، فاللسان ترجمان الجَنان.
وثمّة علاقة عكسيَّة بين اللِّسان والقلب، فاللِّسان من أشدِّ الجوارح تأثيراً في القلب وصحّته ومرضه؛ فكانت استقامةُ اللسان مفضية إلى استقامة القلب، واستقامة القلب مفضية بدورها إلى استقامة الإيمان، فعن رسول الله -: «لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتّى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتّى يستقيمَ لسانُه»[2].
ونتيجة خطورة هذه الجارحة، تنسب بقيّةُ جوارح الإنسان ما ترتكبه إليه؛ فعن الإمام زين العابدين %: «إنّ لسان ابن آدم يُشرف على جميع جوارحه كلَّ صباح، فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: اللّهَ اللّهَ فينا، ويناشدونه ويقولون: إنّما نُثاب ونُعاقَب بك»[3].
ومن هنا، يوصي الإمام الصادق % شيعته بأن يكونوا زيناً لأئمّتهم بأن يقولوا الحسنى، ويحفظوا ألسنتهم، عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمّد ' وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: «معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول، وقبيح القول»[4].
وتبدو خطورة اللسان بملاحظة بعض ما ورد في الروايات في حقّه، وما يمكن أن يُرتكَب بسببه من ذنوب، وقد جاء في الروايات عن اللسان أنّه:
1. أكثر خطايا ابن آدم بسببه: عن رسول الله -: «إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه»[5].
2. سبُع: عن الإمام عليّ %: «اللِّسَانُ سَبُعٌ إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ»[6].
3. يكُبُّ الناس في النار: جاء رجل إلى النبيّ - فقال: يا رسول الله، أوصني، فقال: «احفظ لسانك»، قال: يا رسول الله، أوصني، قال: «احفظ لسانك»، قال: يا رسول الله، أوصني، قال: «احفظ لسانك؛ ويحك وهل يكُبُّ الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»[7].
4. يُسفك به الدم: عن أمير المؤمنين %: «كم مِن دم سفَكَه فم!»[8].
5. أشدّ الجوارح عذاباً: عن رسول الله -: «يُعذِّب الله اللسان بعذابٍ لا يُعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربِّ، عذّبتني بعذابٍ لم تُعذِّب به شيئاً، فيُقال له: خرجت منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام، وعزّتي [وجلالي] لأعذِّبنَّك بعذابٍ لا أعذِّب به شيئاً من جوارحك»[9].
ولا يخفى، أنّ الذنوب التي تُرتكب بواسطة اللسان عديدة، منها:
1. الخوض في الباطل: يقول تعالى حكايةً عن بعض أهل النار: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين﴾[10].
2. المراء والمجادلة: عن رسول الله -: «لا يستكمل عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتّى يدعَ المراء والجدال وإن كان مُحقّاً»[11].
3. الفُحش والسبّ واللعن: عن رسول الله -: «ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعّان، ولا الفحّاش، ولا البذي»[12].
4. السخرية والاستهزاء: قال تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾[13].
5. إفشاء السرّ: والسر من أعظم الأمانات، وإفشاؤه خيانة، والله لا يحب الخائنين، وقد عبّر رسول الله - عن كتمان ما يسمع الإنسان في المجلس الذي يحضره، بقوله: «المجالس بالأمانات»[14].
6. الكذب: عن أمير المؤمنين %: «أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب»[15].
7. الغيبة: عن الإمام الصادق %: «مَن روى على مؤمن روايةً يريد بها شينه، وهدم مروّته؛ ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله»[16].
بعد هذا، على العاقل أن يخزن على لسانه، كما يخزن على ماله، وأن يُكثر من الصمت إلّا من الخير، عن أمير المؤمنين %: «إِنْ أَحبَبتَ سَلامَةَ نَفْسِكَ، وَسَترَ مَعايبِكَ، فَأقْلِل كَلامَكَ، وَأَكْثِر صَمْتَكَ، يَتَوفَّرْ فِكْرُكَ، وَيَستَنِر قَلْبُكَ»[17].
فكّر ثمّ انطُق
إذا فكّر المرء في ما يريد قوله، وفي دوافعه ونتائجه، فبإمكانه أن يَتجنّب كثيراً من الزلّات، والذّنوب؛ لأنّ إطلاق العنان للسان يؤدّي بصاحبه إلى المَهالك، ويوقعه في بحرٍ من الذّنوب، فعن أمير المؤمنين %: «احذروا اللسان؛ فإنّه سهمٌ يُخطئ»[18].
وقد جاء التأكيد إعمال الفكر قبل النطق، فعن رسول الله -: «إنّ لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلَّم بشيء تدبّره بقلبه، ثمّ أمضاه بلسانه، وإنّ لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همَّ بشيءٍ أمضاه بلسانه، ولم يتدبّره بقلبه»[19]، وعن الإمام العسكريّ %: «قَلْبُ الأَحْمَقِ في فَمِهِ، وَفَمُ الحَكِيمِ فِي قَلْبِهِ»[20].
إفشاء السرّ وكتمانه
إنّ مسألة كتمان السّر من مسائل الأخلاق العمليّة، التي ينبغي للمؤمن أن يربّي نفسه عليها؛ لما لها من آثار مهلكة على الفرد في الدنيا والآخرة، ومن ضرر بالغ على المجتمع.
والسرّ هو كلّ ما لا يرضى صاحبُه (الفرد أو الجهة) بكشفه وإظهاره، سواء أكان قولاً أو فعلاً أو حالة، وسواء أكان السرّ بين اثنين أو أكثر.
ولشدّة خطورة كشف السرّ، ورد عن الإمام الباقر %: «يُحشر العبد يوم القيامة وما نَدِيَ دماً، فيُدفع إليه شبهُ المِحْجَمة، أو فوق ذلك، فيُقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ، إنّك لتعلم أنّك قبضتني وما سفكتُ دماً، فيقول: بلى، سمعتَ من فلانٍ كذا وكذا، فرويتها عليه، فنُقلِت حتّى صارت إلى فلانٍ الجبّار، فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه»[21].
وعن الإمام الصادق %: «إفشاء السرّ سقوط»[22].
ولأهمّيّة كتمان السرّ، كان هذا الحوار الافتراضيّ:
1. أين توضَع الأسرار؟
الإمام عليّ %: «صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ»[23].
الإمام الصادق %: «سرُّك من دمك، فلا يجرينّ في غير أوداجك»[24].
2. وما فائدة كتمان السرّ؟
الإمام عليّ %: «أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان»[25].
3. وإذا كان لا بدّ من كشف السرّ؟
في الأصل عن الإمام عليّ %: «لا بأس بأن لا يُعلم سرُّك»[26]، وإن كان لا بدّ، فـ«لا تودِع سرَّك إلّا عند كلّ ثقة»[27].
4. وما المقدار الذي أكشفه من السرّ؟
الإمام الصادق %: «لا تُطلع صديقك مِن سرّك إلّا على ما لو أطلعتَ عليه عدوَّك لم يضرّك؛ فإنّ الصديق قد يكون عدوّاً يوماً ما»[28].
5. ومَن لا ينبغي إيداع السرّ عندهم؟
عن أمير المؤمنين %: «لا تودِعنَّ سرَّك مَن لا أمانة له»[29].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، فضائل الأشهر الثلاثة، تحقيق وإخراج ميرزا غلام رضا عرفانيان، دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1412هـ - 1992م، ط2، ص77.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص287.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص115
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص484.
[5] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، صحّحه وعلّق عليه عليّ أكبر الغفاري، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، إيران - قمّ، لا.ت، ط2، ج5، ص194.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص478، الحكمة 60.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص115.
[8] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص379.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص115.
[10] سورة المدّثّر، الآية 45.
[11] الشهيد الثاني، زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ، منية المُريد، تحقيق رضا المختاري، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران، 1409هـ - 1368ش، ط1، ص171.
[12] البيهقيّ، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1410هـ - 1990م، ط1، ج4، ص293.
[13] سورة الحجرات، الآية 11.
[14] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص163.
[15] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء، مصدر سابق، ج5، ص243.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص358.
[17] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص161.
[18] المصدر نفسه، ص103.
[19] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء، مصدر سابق، ج5، ص195.
[20] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسينيّ الأصفهانيّ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ % العامة، إيران - أصفهان، 1406هـ، ط1، ج26، ص285.
[21] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص370 - 371.
[22] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، مصدر سابق، ص315.
[23] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص469، الحكمة 6.
[24] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص287.
[25] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص123.
[26] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص269.
[27] المصدر نفسه، ج74، ص235.
[28] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص767.
[29] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص517.
140
الموعظة السابعة والعشرون: القدس في عين الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه)
الموعظة السابعة والعشرون
القدس في عين الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه)
هدف الموعظة
بيان مكانة القدس الشريف في فكر الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه)
محاور الموعظة
1. المسجد الأقصى أولى القبلتَين
2. إعلان يوم القدس العالميّ
3. خنوع الحكّام وضعفهم
4. تقاعس الشعوب وتفرّقها
5. حذارِ من أساليب التطبيع
تصدير الموعظة
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[1].
المسجد الأقصى أولى القبلتَين
إنّ للقدس وللمسجد الأقصى مكانةً مهمةً في ثقافتنا الإسلاميّة، وقد اتّخذت القدس هذه المكانة أوّلاً من وجود المسجد الأقصى فيها، وقد اتُّخذت قبلةً أولى لرسول الله - والمسلمين، فقد ورد أنّ المسلمين كانوا قد توجّهوا في صلاتهم إلى المسجد الأقصى لمدّة ستّة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، حتّى أنزل الله تعالى أمره على رسوله الأكرم - بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرّفة، كما في قوله سبحانه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون﴾[2].
وكذلك كان المسجد الأقصى محطّة من محطّات رسول الله - حين إسرائه ومعراجه، وقد صلّى فيه بصحبة جبرائيل %، وعدد من الأنبياء المكرّمين (عليهم الصلاة والسلام).
وإنّ ارتباط المسلمين بالأقصى والقدس، لا يرجع إلى كونه قبلة النبيّ الأولى، أو مسرىً له - فحسب، بل إنّ هذه البقعة من الأرض أيضاً إنّما هي أرض للمسلمين، ولهم فيها تاريخ لا يمكن إخفاؤه وطمسه.
إلّا أنّ يد الاستكبار العالميّ أرادت النيل من هذه البقعة الطيّبة وأهلها، فدعمت ثلّةً بغيضةً بالمال والسلاح والسياسة، حتّى استقرّت فيها، وما زالت تعمد إلى الاعتداء على أهلها ومقدّساتها ومساجدها، لعقود من الزمن.
إعلان يوم القدس العالميّ
ومن هذا المنطلق، ومن منطلق دينيّ وإنسانيّ، وفي ظلّ تخاذل دوليّ مقيت، عَمَدَ الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه) لدعم القدس ومسجدها، ليُعلن عن يوم خاصّ للقدس، عُرف بيوم القدس العالميّ، وليكون مفصلاً تاريخيّاً يشير إلى قضيّة فلسطين، وقضيّة المسلمين، فلا تضيع حينها بين أروقة الحكّام الذين خنعوا هنا أو هناك، والذين استسلموا هنا أو هناك.
وهكذا صار يوم القدس العالميّ عالميّاً، حتّى أصبحت سيرة القدس في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، من كلّ عام، حديث الناس ومحطّ اهتماماتهم، في الإعلام والصحف والمدارس والجامعات وما شاكل، فضلًا عن المسيرات العميمة التي تعمّ شوارع أهمّ مدن العالم، وعواصم البلدان في جميع العالم، والتي من خلالها تبقى القدس حيّةً في نفوس المسلمين، مهما تخاذل الحكّام وأصحاب السلطة.
أسباب استقواء الصهاينة وعدم وجود حلّ للقضية الفلسطينيّة
أوّلاً: خنوع الحكّام وضعفهم
لو أردنا قراءة ما حكاه الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) عن القدس وما يتعلّق بها، لوجدنا أنّها كانت محورَ فكره السياسيّ، فقد كان ينظر إليها على أنّها الركيزة الأساس التي ينبغي للمسلمين جميعهم أن يجتمعوا عليها ويوحّدوا فيها كلمتهم، ويُظهروا من خلالها قوّتهم وتعاضدهم وحرصهم على مقدّساتهم.
ولهذا، فإنّنا نجد في طيّات كلماته الكثير من التوجيهات، بل والتقريعات، التي أراد من خلالها أن يسلّط الضوء على مكامن ضعف الأمّة الإسلاميّة في ما يتعلّق بقضيّة القدس، وأُولى مكامنِ الضعفِ هذه كان يضعها على أصحاب السلطة والحكّام، وإنّنا نبيّنها هنا ضمن النقاط الآتية:
1. عدم أهليّة الحكّام، وعدم كفاءتهم في الصدّ عن الاعتداء على أرضهم ومقدّساتهم: «فلو كان حكّام البلدان الإسلاميّة ممثّلين حقيقيّين للناس، مؤمنين بأحكام الإسلام ومنفّذين لها، واضعين الاختلافات الجزئيّة جانباً، كافّين أيديهم عن التخريب والتفرقة، متّحدين فيما بينهم، لما استطاعت حفنة من اليهود الأشقياء أن يفعلوا هذه الأفاعيل كلّها، مهما كان الدعم الذي تقدّمه لهم أمريكا وإنكلترا، فما نراه من قدرتها -أي إسرائيل- وممارستها إنّما هو بسبب تهاون وعدم لياقة المتصدّين للحكم على الشعوب المسلمة»[3].
2. الخلافات بين قيادات الدول الإسلاميّة هي التي تحول دون علاج المشكلة بعد أن كانت سبباً في حصولها. يقول الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه): «إنّها اختلافات قادة الدول هي التي تعقّد المشكلة الفلسطينيّة، وتحول دون حلّها».
3. عمالة بعض القادة للاستكبار، وأنانيّتهم واستئثارهم بالحكم واستسلامهم: «إنّ الأنانيّة والعمالة واستسلام بعض الحكومات العربيّة للنفوذ الأجنبيّ المباشر يمنع عشرات الملايين من العرب من إنقاذ فلسطين من يد الاحتلال الإسرائيليّ».
4. التشتّت والانهزام النفسيّ لبعض القادة الذين يدينون للاستكبار في الحفاظ على عروشهم، ويدفعون ثمن ذلك ترسيخ الأوضاع المأساويّة في بلاد المسلمين. يقول الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه): «إنّ كثيراً من حكومات البلدان الإسلاميّة -ونتيجةً للانهزام النفسيّ، أو لعمالتها- تنفّد المخطّطات الخيانيّة، والرغبات المشؤومة الاستعماريّة المعادية للإسلام، والتي تهدف إلى ترسيخ هذه الأوضاع المأساويّة للمجتمع الإسلاميّ وإلى تسليط "إسرائيل" على أرواح وأموال وأراضي الأمّة الإسلاميّة».
5. انشغال أغلب الحكومات بالمفاوضات السياسيّة التي لا طائل منها: «إنّ أكثر الحكومات مشغولة بالقيام والقعود والمفاوضات التي لا نتيجة منها، تاركين المجاهدين الفلسطينيّين الشجعان الذين يقاومون إسرائيل برجولة لوحدهم».
6. تساهل بعض الرؤساء العرب، وعدم اهتمامهم بالقضيّة الفلسطينيّة، يقول الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه): «إنّ المشاكل جميعها التي يعاني منها إخواننا في القدس طوال هذه المدّة إنّما هي نتيجة لتساهل الرؤساء العرب».
ثانياً: تقاعس الشعوب وتفرّقها
وأيضاً، فكما أنّ هناك لوماً وانتقاداً للحكّام، فكذلك أيضاً هناك مسؤوليّة كبرى تُلقى على الشعب المسلم نفسه، من خلال فعاليّاته وطاقاته العلميّة والفكريّة والسياسيّة والفنيّة، وفئات الشعب المسلم جميعها، في أن يتّحد ويقوم بوجه المحتلّ الغاشم، ومن تلك الأسباب التي أشار إليها الإمام (قُدِّس سرّه)، وبأنّها تسهم في تقوية سطوة المحتلّين ما يأتي:
1. عدم الاعتماد والاستناد على الإسلام والقرآن، والتأثّر بالثقافة الغربيّة التي تعمل على تغيير معالم ثقافات الشعوب وأديانها للتسلّط عليها، وممّا قاله في ذلك: «لو أنّ الشعوب المسلمة وبدلاً من الاعتماد على المعسكر الشرقيّ، أو الآخر الغربيّ، اعتمدت على الإسلام، ووضعت تعاليم القرآن النوارنيّة والتحرّريّة نصب أعينها وعملت بها؛ لما وقعت أسيرةً للمعتدين الصهاينة».
2. التفرّق والتشرذم بين المسلمين، والتلهّي بالمسائل الخلافيّة: «لو اجتمعت هذه القدرة -أي قدرة المئة مليون عربيّ- فإنّ أمريكا لن تستطيع أن تفعل شيئاً».
3. التهاون والتقاعس وعدم القيام بأيّ فعل أو عمل في سبيل تغيير الواقع من قبل المسلمين: «يجب أن أقول: إنّ أعداء الإسلام كانوا رجال عمل لا كلام، والمسلمون كانوا رجال كلام لا عمل، فلو كان الأمر يخرج عن حدود الكلام، لما عجز أكثر من مئة مليون عربيّ إلى هذه الدرجة عن مواجهة إسرائيل».
حذارِ من التطبيع
إنّ الدفاع عن القدس وحمل قضيتها إنّما هو من منطلق دينيّ، يحتّم علينا العمل والتحرّك بكلّ ما أوتينا من قوّة لتحريرها من أيدي الغاصبين والمحتلّين، وإنما هذا امتثال لأوامر الله -تعالى- بل وهو حقّ إنسانيّ مشروع، لا يختلف فيه اثنان.
إلّا أنّ الذين يميلون للسلام مع الكيان الصهيونيّ، وبخطوات مدروسة يعمدون إلى تخفيف وطأة وعظمة هذا الأمر في نفوس الناس، وخاصّةً الشباب منهم، حتّى تصبح قضيّة القدس قضيّةً عابرةً، وأنّها أمر واقع لا مهرب منه ولا مفرّ، بل وأن يصبح وجود الصهاينة أمراً عاديّاً لا غرابة فيه ولا استهجان، وأنّه لا بد من التسليم به والتعايش معه! وهذا كلّه من سياسة التطبيع التي يجهد الاحتلال الإسرائيليّ قُصارى جهده على العمل به، مدعوماً من بعض الحكّام الخانعين؛ بهدف إرساء هذا الكيان الغاصب.
وإنّ هناك أساليب عديدة يعتمدها الصهاينة في إرساء التطبيع، أكان من خلال سفاراتها الواضحة المتواجدة في بعض العواصم العربيّة والإسلاميّة، أم من خلال التحرّكات والزيارات السياسيّة التي يقوم بها رجالات الكيان الغاصب إلى دولة هنا ودولة هناك، أو من خلال بعض الوسائل الإعلاميّة والقنوات التلفزيونيّة التي تستضيف بعض الشخصيّات الإسرائيليّة وإبداء رأيهم، وغير ذلك.
[1] سورة الإسراء، الآية 1.
[2] سورة البقرة، الآية 144.
[3] أقوال الإمام الخمينيّ الواردة في هذه الخطبة، نقلناها من كتاب «القدس في فكر الإمام الخمينيّ»، سلسلة الفكر والنهج الخمينيّ، إعداد ونشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة.
146
الموعظة الثامنة والعشرون: الخسارة خسارة الآخرة
الموعظة الثامنة والعشرون
الخسارة خسارة الآخرة
هدف الموعظة
التزهيد في الدنيا، وبيان أنّ خسارة شيءٍ من حطامها ليس بذي بال، وإنمّا الخسارة خسارة الآخرة، فلنحرص عليها.
محاور الموعظة
1. الدنيا دار ممرّ
2. مظاهر الحسرة والندامة يوم القيامة
3. أعظم الحسرات
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين %: «ليس عن الآخرة عِوض، وليست الدنيا للنفس بثمن»[1].
الدنيا دار ممرّ
إنّ المتأمّل في هذه الدنيا، والعارف بها، يدرك أنّها ليست مخلوقة ليعيش الإنسان فيها حياةً أبديّة، وأنّها دار فناء وزوال، لا تدوم لأحد، وأنّ الفطِن من يتزوّد منها لدار إقامته وظعنه، ويسعى لها حثيثاً.
عن أمير المؤمنين %: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا؛ لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا»[2].
وعنه %: «أخرِجوا من الدنيا قلوبَكم قبل أن تخرج منها أبدانُكم، ففيها اخُتبرتم، ولغيرها خلقتم»[3].
تُرشدنا هاتان الروايتان إلى أن نجعل الآخرة أكبر همّنا، ومُنى قلوبنا، ومنتهى مقصدنا، وأن لا نأسف شيءٍ من حطام الدنيا ومتاعها زُويَ عنّا أو أضعناه أو خسرناه، خاصّةً إذا كانت هذه الخسارة في سبيل قضايا دينيّة وشريفة يؤجَر عليها.
عن الإمام زين العابدين %: «مَن تعزّى عن الدنيا بثواب الآخرة، فقد تعزّى عن حقير بخطير، وأعظم من ذلك من عدّ فائتةً سلامةً نالها، وغنيمةً أُعِين عليها»[4].
مظاهر الحسرة والندامة يوم القيامة
الحسرة هي الشعور بالندم والخسارة يوم القيامة بسبب تقصير الإنسان في أداء واجباته الدينيّة، وابتعاده عن الطريق المستقيم، أو لعدم تزوّده واجتهاده أكثر في طاعة الله، حينما يرى ما فاته من الخير الكثير؛ لذا سُمّي يوم القيامة «يوم الحسرة».
قال تعالى: ﴿وأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾[5].
ولقد تعدّدت مشاهد الحسرة التي ذكرها القرآن الكريم والروايات الشريفة؛ بغرض إيقاظ الإنسان من غفلته، وتنبيهه إلى ضرورة التزوّد من الدنيا؛ حتّى لا تكون حسرته عظيمة يوم القيامة.
فمن الآيات، قوله تعالى:
1. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[6].
إذا مات الإنسان ينتبه من غفلته، ويرى تقصيره، وتضييع العمر في ما لا ينفعه في آخرته؛ فيتحسّر ويندم، فيطلب من الله سبحانه أن يعيده إلى الدنيا مرّةً ثانيةً، لكن هيهات أن يعود!
2. ﴿إِنَّ الْمُجْرِمينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فيهِ مُبْلِسُونَ... وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ﴾[7].
تُبيّن هذه الآيات أنّ أهل النار في عذابٍ دائم، لا يُخفّف عنهم بمرور الزمان، ولا تقلّ شدّته مع الوقت، وأنّهم آيسون من الخلاص والنجاة، يعيشون الذلّ والهوان إلى درجة أنّهم يطلبون من مالك خازن النار أن يميتهم الله ثانيةً من شدّة العذاب والآلام، وبعد قطع الأمل من كلّ شيء، فيأتيهم الجواب: ﴿إِنَّكُمْ ماكِثُونَ﴾.
عن ابن عبّاس أنّ خازن النار يجيبهم بعد ألف سنة[8]، وفي رواية أخرى بعد أربعين سنة[9] وهذا في ذاته احتقارٌ لهم، وعدم اهتمام بهم؛ فما أشدّ إيلام هذا الاحتقار!
3. ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾[10].
إنّ عضّ الظالم على كلتا يدَيه، لا على إصبعه أو يده، دليل على شدّة الحسرة والأسف والندم على اتباعه صديق السوء الذي أضلّه، وأخرجه عن سواء السبيل، وجعله من المخذولين المعذّبين.
4. ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾[11].
في يوم القيامة، يرى كلٌّ منّا نتيجة عمله، وما جنته يداه؛ فتشتدّ حسرة الظالمين والمذنبين، ويتمنَّون لو أنّهم كانوا تراباً، فما أشدّ حسرتهم وندمهم!
5. ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[12].
ما أشدّ حسرة الإنسان الذي يُحشر يوم القيامة أعمى؛ نتيجة إعراضه عن آيات الله، وابتعاده عن طاعته، وقد كان في الدنيا بصيراً!
6. ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾[13].
إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة لا تنفع يوم القيامة، ولا تدفع عن المذنبين عواقب أعمالهم، ولا نتيجة إسرافهم وتفريطهم؛ هذا ما يعترف به المذنبون أنفسهم في محكمة العدل الإلهيّ، فينتابهم شعور بالذل والخزي والندم حين لا ينفعهم الندم.
هذا، وقد بيّنت الروايات حسرة أهل النار، وفرحة أهل الجنّة، منها ما ورد عن الإمام الصادق %: «ما خلق الله خلقاً إلّا جعل له في الجنّة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنّةِ الجنّة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنّة أشرفوا، فيشرفون على النار، وتُرفع لهم منازلهم في النار، ثمّ يُقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم ربّكم دخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً؛ لِما صُرف عنهم من العذاب؛ ثمّ ينادون: يا معشر أهل النار، ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنّة، فيرفعون رؤوسهم، فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيُقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم دخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار ذلك اليوم حزناً، فيورَث هؤلاء منازل هؤلاء، وهؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[14]»[15].
أعظم الحسرات
بعض الناس أشدّ حسرةً وندامةً من غيرهم يوم القيامة، فاحرص أن لا تكون منهم. وقد كشفت أحاديث أهل البيت ( عنهم، منهم:
1. مَن رأى ماله في ميزان غيره: عن الإمام عليّ % -وقد سُئل من أعظم الناس حسرةً؟- قال: «مَن رأى ماله في ميزان غيره، فأدخله الله به النار، وأدخل وارثه به الجنّة»[16].
2. مَن وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره: عن الإمام الصادق %: «إنّ أعظم الناس يوم القيامة حسرةً مَن وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره»[17].
يقول صاحب البحار (قُدِّس سرّه): «وإنّما كانت حسرتُه أشدّ لوقوعه في الهلكة مع العلم، وهو أشدّ من الوقوع فيها من دونه، ولمشاهدته نجاة الغير بقوله، وعدم نجاته به»[18].
3. رجلٌ باع آخرته بدنيا غيره: عن رسول الله -: «إنّ أشدّ الناس ندامةً يوم القيامة، رجلٌ باع آخرته بدنيا غيره»[19]؛ كمن يشهد لغيره بالباطل.
ونختم بكلمة موجزة للشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) تستحقّ أن نقف عندها مليّاً، ونضعها نصب أعيننا، ونلقّن بها أنفسنا؛ كلمة صغيرة على اللسان، عميقة المعنى، وشديدة الأثر، ولها وقعها في النفس: «إنّ موقف الخجل أمام الله هو أصعب أنواع العذاب يوم القيامة»[20].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص411.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص446، الكتاب55.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص67.
[4] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص613.
[5] سورة مريم، الآية 39.
[6] سورة مريم، الآيتان 99 - 100.
[7] سورة الزخرف، الآيات 74 - 75 و77.
[8] أبو الليث السمرقنديّ، تفسير السمرقنديّ، تحقيق د. محمود مطرجي، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج3، ص252.
[9] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج9، ص96.
[10] سورة الفرقان، الآيتان 27 - 28.
[11] سورة النبأ، الآية 40.
[12] سورة طه، الآية 124.
[13] سورة الحاقّة، الآيات 25 - 29.
[14] سورة المؤمنون، الآيتان 10 - 11.
[15] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص259.
[16] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص142.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص176.
[18] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص224.
[19] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص353.
[20] مركز تبيان، من برنامج «لعلّكم تتقون»، الحلقة الرابعة، على الرابط: https://youtube.com/channel/UCUSADn4yevCSSV3bbrPdOvQ?si=2EcEs5AmBS6GPOAw
152
الموعظة التاسعة والعشرون: ثقافة الحياة والحياة الطيّبة
الموعظة التاسعة والعشرون
ثقافة الحياة والحياة الطيّبة
هدف الموعظة
معرفة أهمّيّة الثقافة لأيّ مجتمع، وضرورة الحفاظ عليها، والالتزام بها مقابل ثقافة الغرب الهابطة، وتوضيح بعض مفردات ثقافة الحياة، والحياة الطيّبة، اللتَين يدعو إليهما الإسلام مقابل ثقافة الموت التي تدعو إليها أمريكا والغرب.
محاور الموعظة
1. ثقافتنا هويّتنا
2. الجهاد والشهادة ثقافة حياة
3. الحياة الطيّبة
4. اعكسوا ثقتكم بالمقاومة
تصدير الموعظة
﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾[1].
ثقافتنا هويّتنا
إنّ ثقافة أيّ بلد هي أساس هويّته وعزّته. والثقافة أعمُّ من اللغة والخطّ واللباس وما شابه ذلك، فتشمل العادات الاجتماعيّة والقيم والخصال الحميدة؛ هذه الثقافة هي التي تدفع بأيّ مجتمع نحو التقدّم والعزّة والقدرة وإثبات الوجود في العالم؛ لكن «إذا أصيبت ثقافة بلد ما بالانحطاط، وفقد هذا البلد هويته الثقافيّة، حتّى لو وصل إليه التطوّر من البلاد الأخرى، فلن يستطيع أن يحظى بمكانة سامقة بين مجموع البشريّة، وأن يحافظ على مصالح شعبه»[2].
ويؤكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ضرورة التمسّك بالثقافة الأصيلة؛ إذ بقاء أي شعب رهنٌ ببقائها، فيقول: «إذا ما سمح شعبٌ بأن تُداس ثقافته الوطنيّة تحت أقدام الهجومات الثقافيّة الأجنبيّة؛ فإنّ ذلك الشعب سينتهي»[3].
الجهاد والشهادة ثقافة حياة
إنّ الإسلام بأحكامه وتعاليمه يعبّر عن ثقافة الحياة؛ فإنّ «مَن يقاوم ويصمد ويجاهد، ويقف في وجه الاحتلال والمشروع الأميركيّ والصهيونيّ في المنطقة -وهذه الثقافة التي ندعو إليها- من خلال المقاومة ينتمي إلى ثقافة الحياة الحقيقيّة التي نرى فيها أنّ المقاومة تصنع الحياة... وشهداء اليوم في كلّ المنطقة هم شهداء صنّاع نصرٍ، وصنّاع حياة، فيما أميركا هي التي تنشر ثقافة الموت»[4]. هكذا يصوّب شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) مفهوم ثقافة الحياة، الذي سعى الغرب إلى تشويهه، وتنفير الناس منه؛ إذ إنّ «جهوداً بُذلت لتنفير الناس من المقاومة والقيم المرتبطة بالجهاد، وقد ساعد على ذلك ظهور الجماعات الإرهابيّة التي هي صناعة المخابرات الأمريكيّة والبريطانيّة، والتي استخدمت أدبيّات تساعد على استهداف الثقافة الدينيّة والجهاديّة والقيم المرتبطة بها من الشهادة والشهداء والجهاد، وتنفير الناس منها لإبعادهم عنها»[5].
إنّ الشعب الذي يواجه المعتدين، ويضحّي، ويقدّم خيرة أبنائه ورجاله في سبيل العيش بحرّيّة، يُنشد ثقافة الحياة؛ لأنّه لا يرضى بأن يعيش ذليلاً خانعاً أسيراً للآخرين؛ فمثلاً «الشعب الفيتنامي استطاع أن يستعيد أرضه، والانتصار كان بالمقاومة والصبر وبالتضامن»، وكذلك «الصين بين أعوام 1937 و1945م عندما احتلّتها اليابان، قاوم الشعب الصينيّ، وقدّم الملايين، ولو بقي الشعب الصينيّ خانعًا، لكان اليوم تحت الاحتلال، وأسوأ من دول العالم الثالث، بينما هو قوّة عظمى في العالم»[6].
وفي معرض الترويج لثقافة حياة مزيّفة يرى بعضهم «أنّ ثقافة الحياة هي الذهاب إلى البحر، وتناول الخمر، وارتداء بعض الألبسة أو الخروج ببعض الرحلات»[7]، لكن ما نراه أنّ ثقافة الحياة تتمثّل «بالعلم وبالتكنولوجيا والتطوير العلميّ، وبالأمن الغذائيّ والصحّيّ، وبالتأكيد على سنّة الزواج، وبتكوين العائلة وكلّ ما يرتبط بتكوينها، والحثّ على الإنجاب، بينما ثقافة الحياة الثانية في الغرب تحدثنا عن عدم الإنجاب والغرب يعاني من هذه السياسة.
إنّ ثقافة الحياة تتمثّل أيضاً بالتعامل داخل العائلة بالمودّة والرحمة، وحسن العشرة، واستحباب التوسعة على العيال، وصلة الرحم، والعلاقة مع الجيران، واحترام الآخرين، والعمل والكدّ، وكسب الرزق الحلال، وإدخال البهجة إلى قلوب الناس، وتجاوز الأنانيّة للتفكير في الآخرين بحياتهم وبمعيشتهم، أما التفكير بطريقة «أنا وحزبي وعائلتي وبعدي الطوفان»، فليس ثقافة إنسانيّة»[8].
الحياة الطيّبة
إنّ الحياة الطيّبة هي الحياة الجميلة والمفيدة والمنشودة، الحياة الطاهرة والمرغوبة؛ لأنّها تساعد الإنسان في السير على صراط الكمال ونيل كلّ جمال وخير، في الدنيا والآخرة.
وفي بيانه للحياة الطيّبة، يقول سيّد شهداء الأمّة (رضوان الله عليه): «أحد عوامل الحفاظ على الحياة الطيّبة، هو عندما تتعرّض حياة مجتمع ما إلى الخطر والتهديد بالعدوان ومصادرة الإرادة والقرار، هنا يأتي تشريع الدفاع المقدّس والجهاد والشهادة والفداء، وكلّ هذه الثقافة تأتي كجزء من الحياة الطيّبة»[9]، وأنّه «لا يمكن أن تتحقّق الكرامة والعزّة إلّا من خلال امتلاك القوّة والمقاومة وقوّة الردع في مواجهة المعتدي والمتسلّط.
وإنّ الله يريد للإنسان حياة طيّبة في الدنيا والآخرة، وقد قرّ ر سبحانه في القرآن الكريم أنّ مَن قتل إنساناً واحداً كأنّما قتل الناس جمعياً، وأنّ مَن أحيا نفساً واحدة فكأنّما أحيا الناس جميعاً[10]. هذه هي ثقافة الحياة، التي يُقرَّر فيها أنّ قتل إنسان واحد يعادل إبادةً جماعيّة»[11].
اعكسوا ثقتكم بالمقاومة
إنّ حرباً ضروساً تُخاض على الساحة الثقافيّة، ويُنفق فيها الملايين لتشويه صورة المقاومة، وثقافتها، وثقة جمهورها بها، ولا نجانب الصواب إن قلنا إنّها لا تقلّ ضراوةً عن الحرب العسكريّة، لكن بصمت؛ وهنا تحضرنا وصيّة الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)، التي يقول فيها: «لطالما يُحاوَل الدخول إلى مجتمع المقاومة وثقافته، وإلى مفردات حياته، فلنعكس الصورة الأقوى والأنقى والأصفى التي تعّبر عن ثقة المجتمع المقاوم بمقاومته وعن ثقافة هذه المقاومة، كما يحصل -عادةً- مع عوائل الشهداء، كأن نضع كلمة لأمّ شهيد لا يمكن أن تقدّر بأيّ ثمن على مستوى تأثيرها المعنويّ والثقافيّ والعمليّ، بل هي أبلغ رسالة في مواجهة الحملات الدعائيّة كلّها... إذ إنّ أحد أهمّ أهداف الحملات الدعائيّة والنفسيّة والخبيثة لمجتمعنا المقاوم هو استهداف ثقافتنا الأصيلة؛ لأنّ ثقافتنا هي ركيزة هذه المقاومة، وركيزة هذه البيوت التي خرّجت الشهداء، وركيزة هذه المفاهيم والقيم كلّها؛ الشهادة، كربلاء التضحية، الفداء... وغير ذلك الكثير»[12].
والحياة الطيّبة هي في أن نتحرّك في حياتنا باتجاه الرفاهيّة والعدالة، والحيويّة والنشاط في العمل، وإنجازه بشوق ورغبة، والعلم والتقنية، إلى جانب البعد المعنويّ والروحيّ، والرحمة، والأخلاق الإسلاميّة، ونمط الحياة الإسلاميّة، والنظم والتنظيم... إنّ الحركة نحو الحياة الطيّبة دائمة ولا نهاية لها؛ ﴿أَلَا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾[13]؛ الحياة الطيّبة هي الصيرورة إلى الله، والتحوّل والانتقال من حال إلى حال، إيجاد التغيير في ذات الشيء وباطنه، فيصبح أفضل وأحسن يوماً بعد آخر[14].
[1] سورة النحل، الآية 97.
[2] من كلمة له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/05/2004م.
[3] من كلمة له (دام ظلّه)، بتاريخ 13/08/1993م.
[4] من كلمة له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 12/07/2024م.
[5] من كلمة له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 12/07/2024م.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] من كلمة له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 12/07/2024م.
[9] المصدر نفسه.
[10] يقول تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾؛ سورة المائدة، الآية 32.
[11] المصدر نفسه.
[12] من وصيّة الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه).
[13] سورة الشورى، الآية 53.
[14] انظر: كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 2016/07/25م.
158
الموعظة الثلاثون: الثبات على الحقّ
الموعظة الثلاثون
الثبات على الحقّ
هدف الموعظة
بيان أهمّيّة العقيدة في الثبات على الحقّ، وأنّه صفة أولياء الله، وأنّ المؤمن لا محالة مُبتَلى ومُختبر في إيمانه.
محاور الموعظة
1. ثبات العقيدة والموقف
2. الثبات على الحقّ صفة أولياء الله
3. المؤمن مُبتلى ومختبَر
تصدير الموعظة
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[1].
ثبات العقيدة والموقف
إنّ بناء الأعمال والمواقف إنّما هو على ما عُقد في قلب الإنسان، وإنّ كلمة «عقيدة» مشتقّة من المصدر «عقْد» الذي يعني الإحكام والشدَّ والربط؛ وعليه، إنّ المفاهيم الاعتقاديّة لدى أيٍّ منّا هي النظريّات والرؤى التي نتبنّاها ونؤمن بها في ما يخصّ بالمبدأ والمعاد وما بينهما، التي تكون معقودة بإحكام في الذهن والقلب.
وممّا تقدّم، نخلص إلى ضرورة أن تكون العقيدة المتبنّاة يقينيّة ومُحكَمة حتّى لا تتزلزل أو تزول في الامتحانات والمواقف التي تتطلّب التضحية والثبات.
إذاً، إنّ النكوص والتراجع عمّا نؤمن به مردّهما إلى ضعف الإيمان وتزلزل العقيدة، بينما ثبات العقيدة وقوّة الحجّة يفضيان إلى أن يقول رسول الله - -في بداية الدعوة- لعمّه أبي طالب عندما نَقل له تهديدَ قريش له بالقتل إن لم ينتهِ عن دعوته: «يا عَمّ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه، أو أَهلكَ فيه، ما تركُته»[2].
الثبات على الحقّ صفة أولياء الله
إنّ الثبات على الحقّ من الصفات البارزة لأولياء الله سبحانه الذين بذلوا مُهجهم في سبيل الله والحقّ والعقيدة والدين؛ وقد نقل لنا التاريخ أنّه لمّا قُبض أميرُ المؤمنين %، جاء رجلٌ باكياً مُسترجِعاً وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين %، فقال: «رَحِمَكَ اللَّه يَا أَبَا الْحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَاماً... قَوِيتَ حِينَ ضَعُفَ أَصْحَابُه، وبَرَزْتَ حِينَ اسْتَكَانُوا، ونَهَضْتَ حِينَ وَهَنُوا، ولَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِ اللَّه - إِذْ هَمَّ أَصْحَابُه... لَمْ تُفْلَلْ حُجَّتُكَ، ولَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ، ولَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ، ولَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ ولَمْ تَخُرْ... كُنْتَ كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُه الْعَوَاصِف، ولَا تُزِيلُه القَوَاصِف[3]...»[4].
وهذا الكلام يبيّن بوضوح أنّ الثبات على الحقّ كان متجذّراً وراسخاً لدى أمير المؤمنين %، حتّى بعد تسلّمه الخلافة، التي من الممكن أن يتخلّى المرء حينها عن بعض المبادئ من أجل ترسيخ حكمه وبقائه في السلطة، لكن هيهاتَ أن تسوّل له نفسه، فهو % في الثبات على الحقّ كالجبل، فكما لا تحرّكه قواصف الرياح وعواصفها، كذلك هو لا تحرّكه عن سواء السبيل مراعاة هوى لأحد أو اتّباع طبع يخالف ما يقتضيه سنّة اللَّه وشرعه، بل هو ثابت على القانون العدل وموافقة الأمر الإلهيّ.
ولمّا ولى أمير المؤمنين % بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبا الهيثم ابن التيهان، كتب: «العربيّ والقَرشيّ والأنصاريّ والعجميّ وكلّ مَن كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم [سواء]»، فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود، فقال: كم تعطي هذا؟ فقال له أمير المؤمنين %: «كم أخذت أنت؟»، قال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس، قال: «فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير»[5].
وهو % لمّا تفرَّق الناس عنه، وفرّ كثير منهم إلى معاوية، أتاه جمع من أصحابه، ونصحوه أن يُفضّل في العطاء الأشرافَ من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن يُخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم % كلمته المشهورة: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْه؛ واللَّه لَا أَطُورُ بِه مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه!»[6].
وكلُّنا يحفظ النداء المدوّي للإمام الحسين %، عندما طُلب منه مبايعة يزيد، وإغرائه بمتاع الدنيا: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»[7].
وإلى أمسنا القريب، بذل الشهيد المقدّس لمحور المقاومة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) نفسه الزكيّة في سبيل ثباته على نصرة المظلومين والمستضعفين في غزّة وفلسطين.
المؤمن مُبتلى ومختبَر
إنّ سلوك طريق الحقّ لم يکن يوماً سهلاً معبّداً؛ إذ الوصول إلى الكمال، ونيل العُلى، والفوز بالجنّة والرضوان يعترضه الكثير من الابتلاءات والصعاب؛ إذ «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر»[8]، كما عن الإمام الباقر %.
والبلاء للمؤمن هدفه تقويته وتنقيته وتقريبه روحيّاً ومعنويّاً، وتمييز المؤمن من غيره، وغير ذلك الكثير، الذي يظهر منه أنّ البلاء نعمةٌ يُنعم بها الله على عباده.
يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾[9].
عن الإمام الصادق %: «ما أثنى اللهُ تعالى على عبد من عباده من لدن آدم إلى محمّد - إلّا بعد ابتلائه ووفاء حقّ العبوديّة فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات، بداياتها البلاء»[10].
فالبلاء للمؤمن لا مفرّ منه، فليستعدّ له بالصبر والثبات؛ ليظفر بما هو خيرٌ منه في الدارَين، وليكن حامداً شاكراً عليه، وقد جاء في دعاء الندبة: «اللهمَّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك؛ إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال»[11].
وأيّ بلاء أعظم من غيبة إمامنا ووليّنا صاحب الزمان .، فلنرفع أيدينا بالدعاء: «اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا وَقِلَّةَ عَدَدِنا وَشِدَّةَ الفِتَنِ بِنا وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا»[12]، ولنعدّ أنفسنا لنرفع هذا البلاء عنّا بحول الله وقوّته.
[1] سورة الأنفال، الآية 45.
[2] ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ، السيرة النبويّة، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1396هـ - 1976م، لا.ط، ج1، ص474.
[3] القاصف: شديدُ الصوت.
[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص593.
[5] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الاختصاص، تحقيق عليّ أكبر الغفاري والسيّد محمود الزرنديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص152.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص183، الخطبة 126.
[7] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص224.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص89.
[9] سورة البقرة، الآية 214.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص305.
[11] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة في ما يُعمَل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيوميّ الاصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ج1، ص504.
[12] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مصدر سابق، ص581.