المقدّمة
المقدّمة
الحمد لله الذي أنار القلوب بنور أبي عبد الله الحسين %، وأيقظ الضمائر بنداء كربلاء، وشرّفنا بأن نكون من جنود المنبر الحسينيّ، نُبلِّغ رسالتَه، ونحمل لواءَ دمه الطاهر في ساحة الكلمة والبيان، والصلاة والسلام على جدّه الرسول الأعظم محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
في كلّ عامٍ تُقبِل عاشوراء، ويعود شهر محرّم الحرام، يحمل معه نداء النهضة الحسينيّة، ويضع على عاتق الخطباءِ والمبلِّغين مسؤوليّة تجديد العهد، وإحياء القضيّة، وبثّ الوعي، وربط الناس بنهج الإمام الحسين % وأهداف ثورته المباركة.
من هذا المنطلق، وبدافع الشعور بهذه الأمانة العظيمة، واستناداً إلى أولويّات الخطاب الثقافيّ العاشورائيّ، قام مركز المعارف للتأليف والتحقيق بإعداد هذا الكتاب الذي يضمّ مجموعةً من المواعظ العاشورائيّة، والتي تتنوّع موضوعاتُها بين بيان معالم النهضة في ضوء القرآن، وتجذير مفاهيم الصبر، والجهاد، والتضحية، والتكليف، وربط كربلاء بالمشروع الإلهيّ الممتدّ من الأنبياء ( إلى الإمام المهديّ ..
إنّها مواعظ كُتبت بروح البصيرة والولاء، تخاطب العقل والوجدان، وتستند إلى النصوص الموثوقة في الكتاب والسنّة، وتتّجه نحو صناعة وعيٍ عاشورائيٍّ مسؤول.
يُمكن للعلماء والخطباء الأفاضل قراءتها كما هي، أو استلهام لبِناتٍ منها، أو تطويرها بما يناسب الجمهور والسياق الزمنيّ والمكانيّ. وما نرجوه هو أن تكون عوناً في أداء الرسالة، وزاداً روحيّاً وفكريّاً يرتقي بالمنبر العاشورائيّ، ويُقرّب الناس من خطّ الإمام الحسين %.
سائلينَ اللهَ تعالى القَبول والتوفيق، وأن يجعلنا وإيّاكم من خُدّام الإمام الحسين % الصادقين.
3
الموعظة الأولى: نهضة الحسين في ضوء القرآن الكريم
الموعظة الأولى
نهضة الحسين % في ضوء القرآن الكريم
هدف الموعظة
إبراز العلاقة الوثيقة بين نهضة الإمام الحسين % والقرآن الكريم، وبيان أنّ ثورته كانت تجسيداً حيّاً لأوامر الله تعالى في مواجهة الظلم والانحراف، وقراءة حركة كربلاء من منطلق قرآنيّ يتّصل بجذور الإصلاح في الأمّة.
محاور الموعظة
1. عاشوراء بين القرآن والحسين %
2. القرآن في قراءة نهضة الحسين %
3. نهضة تتجاوز الزمان والمكان
4. مناقب أهل البيت ( ورفض بيعة الطغاة
5. التوكّل والتوسّل بالله في حركة النهضة
6. عاشوراء مدرسة قرآنيّة للحرّيّة والإصلاح
تصدير الموعظة
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾[1].
عاشوراء بين القرآن والحسين %
يُشكّل الإسلام مشروعاً حضاريّاً لإصلاح الواقع البشريّ بجميع أبعاده، ومن أبرز أهدافه إصلاح الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وهو مشروعٌ لا يتوقّف عند عصرٍ دون آخر، ولا عند ساحة دون أخرى، بل يمتدّ بنفَسه العالميّ الحيّ، حتّى يتحقّق العدل الإلهيّ في الأرض. وقد سار النبيّ الأكرم - والأئمّة الهداة ( على هذا النهج، متّخذين من القرآن الكريم مرجعاً ومعياراً في كلّ مواقفهم.
وفي هذا السياق، كانت نهضة الإمام الحسين % استجابة قرآنيّة خالصة، عبّر فيها عن مواجهة الحقّ للباطل، وأعلن أنّ من أهمّ أهداف خروجه: الدعوة إلى كتاب الله وسنّة النبيّ الأكرم -، كما في وصاياه وكلماته ومواقفه.
القرآن في قراءة نهضة الحسين %
لقد مثّلت نهضة الإمام الحسين % أرقى مصاديق التجسيد العمليّ لتعاليم القرآن الكريم؛ إذ تجلّت فيها المبادئ الإلهيّة التي تحثّ على رفض الظلم، ومقاومة الفساد، وإصلاح الواقع المنحرف. فالقرآن الكريم لا يقدّم مشروعاً تعبّديّاً فحسب، بل يُحمّل الإنسان المؤمن مسؤوليّة التصدّي للطغيان، ويُعلي من شأن مَن ينهض في سبيل الحقّ والعدل.
في ضوء هذا الفهم، تتجلّى نهضة الحسين % بوصفها مظهراً ناطقاً بالقرآن، لا على مستوى الشعارات فحسب، بل على مستوى الموقف والتضحية والتكليف الشرعيّ. إنّ الإمام الحسين % كان القرآن مجسَّداً في كربلاء، فمواقفه وكلماته تعبّر بوضوح عن الروح القرآنيّة الأصيلة.
نهضة تتجاوز الزمان والمكان
لم تكن نهضة الحسين % مجرّد ردّ فعلٍ على حادثة آنيّة، بل كانت رسالةً ممتدّة عبر الزمن، تُمثّل خطّ المواجهة المستمرّ بين الإسلام المحمّديّ الأصيل والإسلام الأمويّ المنحرف؛ إذ أدّت ممارسات بني أميّة، منذ استيلائهم على الحكم، إلى تشويه هويّة الإسلام الحقيقيّة، ومسخ القِيَم المعنويّة للمجتمع، ويصف الإمام الحسين % هذا الواقع المرير بقوله: »إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ«[2].
فحيثما يُطمس الحقّ ويُرفع الباطل، هناك ينبغي أن يُتّخذ الموقف الحسينيّ. وحيثما يُجاهر بالظلم، ويُحكم بالاستبداد، ويُحرّف شرع الله، هناك يبدأ طريق كربلاء من جديد.
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «إنّ نداء الحسين % يوم العاشر من محرّم في ساحة كربلاء سوف يبقى يتردّد في الأجيال كلّها، الماضية والحاضرة والآتية، وسيبقى نداء «لبّيك يا حسين» ما بقي الدهر إلى يوم القيامة»[3].
مناقب أهل البيت ( ورفض بيعة الطغاة
في مطلع أحداث النهضة الحسينيّة، واجه الإمام الحسين % محاولة فرض البيعة ليزيد بن معاوية، وهي الخطوة التي أراد بها الحكم الأمويّ أن يُضفي الشرعيّة على سلطته المنحرفة. فقد كان الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك، ولم يتمكّن بالأساليب المعتادة من انتزاع البيعة من الإمام %. وعندما عجز عن ذلك، تدخّل مروان بن الحكم، متوسّلاً لغة التهديد، طمعاً في انتزاع الإقرار من الحسين % بشرعيّة يزيد.
لكنّ الإمام الحسين % واجه هذا الإكراه السياسي بالموقف القرآنيّ الواضح، فقرأ قوله تعالى: ﴿إنّما يريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكمْ تطهيرًا﴾[4]، في تأكيدٍ على طهارة موقعه الرساليّ، وعلى عدم شرعيّة من يقف في المقلب الآخر من تاريخ الإسلام. لقد رفض الإمام % البيعة بصلابة؛ لأنّها كانت تعني تسويغ الباطل، وإضفاء قداسة زائفة على مشروع يزيد المنحرف عن خطّ النبوّة.
ثمّ أردف قائلاً: «أولم يبلغكم قولٌ مستفيضٌ فيكم أنّ رسول الله -، قال لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه...»، ثمّ قال %: «فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيّكم خاصّة، أخبروني، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه؟ أو مال لكم استهلكتُه؟ أو بقصاص من جراحة؟»[5].
هذا الموقف ليس موقفاً شخصيّاً، بل هو موقف مبدئيّ، يرفض منح الشرعيّة لحكمٍ ظالمٍ يُمثّل رِدّة على الإسلام المحمّديّ.
التوكّل والتوسّل بالله في حركة النهضة
لقد كانت كلمات الإمام الحسين % مشبعة بالروح القرآنيّة في كلّ مفصل من مفاصل نهضته، تعكس توكّله الكامل على الله وتسليمه المطلق لإرادته، في موقف قلّ نظيره في التاريخ. لم تكن نهضته مجرّد حركة اعتراضيّة، بل كانت استجابة واعية لهدي الله، وامتثالاً صادقاً لآيات الكتاب العزيز.
ففي وصيّته التي كتبها قبل خروجه من المدينة، استهلّ كلامه بقوله تعالى: ﴿وَما تَوْفيقي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنيب﴾[6]، ليؤكّد أنّ خطواته لا تقوم على تقدير شخصيّ أو اجتهاد فرديّ، بل على الهداية الإلهيّة المطلقة، والتسليم لما يرضاه الله عزّ وجلّ.
ولمّا طُلب منه أن يبايع يزيد، وهو يعلم فساد هذا الحاكم وجُوره، رفض البيعة وعبّر عن موقفه بكلمات القرآن، مستحضراً صورة نبيّ الله موسى % حين فرّ بدينه من الظالمين، فقال: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[7]. لقد شبّه خروجه من المدينة بهجرة الأنبياء حين يُضطهدون في مواقفهم الحقّة، وهنا يظهر البُعد الرساليّ في حركته.
وحين اتّجه إلى مكّة المكرّمة، أرض الأمان والبركة، لم ينظر إليها فقط كملاذ جغرافيّ، بل توجّه بقلبه إلى الله راجياً الهداية والسداد، فتلا قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[8]، ليبيّن أنّ وجهته الحقيقيّة هي الهداية الربّانيّة، لا النجاة الجسديّة.
وحين واجه القوم يوم عاشوراء في كربلاء، وهو في أقسى لحظات التهديد، واجههم بنفس النَفَس القرآنيّ، فقال: ﴿إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾[9]. لقد تحدّاهم بثبات الأنبياء، وبثقة مطلقة بالله، غير آبهٍ بكثرتهم، ولا متردّدٍ أمام سيوفهم، فهو على بيّنة من أمره، ومتوكّل على الله وحده.
ثمّ ختم موقفه بقوله تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾[10]، ليجعل ولايته لله عنواناً لمشروعه، وحصناً لموقفه، ومرجعاً في كلّ خياراته.
لم تكن هذه الآيات مجرّد استشهادات لفظيّة، بل ترجمةً صادقة لما كان يجري في وجدان الإمام الحسين % من توكّل وتسليم، ومن وعيٍ قرآنيّ جعل كلّ لحظة من نهضته شاهداً على صدقه وانتمائه لمحور الهداية الإلهيّة.
عاشوراء مدرسة قرآنيّة للحرّيّة والإصلاح
إنّ الإمام الحسين % لم يخرج طالباً ملكاً ولا جاهاً، بل خرج ليُحيي في الأمّة معاني التوحيد، والعدل، والكرامة، ويُعيدها إلى القرآن الذي حاول الطغاة تحريفه.
فكلّ من يقف في وجه الظلم، ويتحرّك من موقع الإيمان، ويجعل القرآن ميزان الموقف، فهو في خطّ الحسين %.
إنّ نهضة الحسين % هي النداء القرآنيّ في وجه كلّ يزيد عبر التاريخ، وهي صرخة الحقّ التي لن تموت. فالقرآن والحسين صنوان لا يفترقان، وكلّ من أراد أن يُدرك كربلاء، فليبدأ من القرآن، وليجعل الحسين % دليله فيه.
[1] سورة هود، الآية 113.
[2] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1404ه ـ- 1363ش، ط2، ص245.
[3] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 10 محرّم 1432هـ.
[4] سورة الأحزاب، الآية 33.
[5] الطبريّ، محمّد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبريّ)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط4، ج4، ص323.
[6] سورة هود، الآية 88.
[7] سورة القصص، الآية 21.
[8] سورة القصص، الآية 22.
[9] سورة يونس، الآية 71.
[10] سورة الأعراف، الآية 196.
5
الموعظة الثانية كربلاء معراج العزّة والكرامة
الموعظة الثانية
كربلاء معراج العزّة والكرامة
هدف الموعظة
تعرّف معالم العزّة والشموخ في النهج الحسينيّ، وموقعها في القرآن الكريم، وامتدادها في كربلاء، ودورها في صياغة شخصيّة المؤمن العزيز القويّ.
محاور الموعظة
1. العزّة والشموخ في اللغة
2. العزّة في القرآن الكريم
3. العزّة لله، ثم لمن يشاء
4. كربلاء عنوان العزّة الحسينيّة
5. النهج القرآنيّ يصون عزّة المؤمن
6. المؤمن الحسينيّ عزيزٌ صابر
تصدير الموعظة
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[1].
العزّة والشموخ في اللغة
تدلّ العزّة لغةً على القوّة والشِّدّة والممانعة، فيُقال: «حصنٌ منيع»؛ أي حصنٌ بلغ في القوّة والعزّة حدّاً لا يُنال. وفي القرآن الكريم ورد قوله تعالى: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾[2]؛ أي قوّينا وشدّدنا.
أمّا الشموخ، فهو من العلوّ والارتفاع، ويُقال: «شَمَخَ الجبل»؛ أي علا وارتفع. قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾[3].
..0العزّة في القرآن الكريم
إنّ العزّة من صفات الله تعالى وأسمائه، واسم «الْعَزِيزُ» تكرّر في القرآن نحو تسعين مرّة، وهو يدلّ على الغلبة والقهر، وعلى أنّ الله يُعِزُّ من يشاء من عباده.
وإنّ الإيمان بهذا الاسم يزرع في قلب المؤمن قوّة وثقة، إذ يعلم أنّ الله غالبٌ على أمره لا يُغلَب، ولا يُمانع أمره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقد عدّ القرآن العزّة خُلقاً يجب أن يتحلّى به المؤمن، فقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[4].
العزّة لله، ثم لمن يشاء
قد يتساءل المرء: إذا كانت العزّة كلّها لله وحده كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾[5].
فكيف يقول أيضاً: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[6]؟
والجواب هو أنّ الله سبحانه هو المالك المطلق للعزّة، وله أن يُسبغها على مَن شاء من عباده، فهي ليست ممنوعة عنهم، بل مشروطة بأن تُطلَب منه وحده.
قال العلّامة الطباطبائيّ !: «إنّ قوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾[7] ليس بمسوق لبيان اختصاص العزّة بالله، بحيث لا ينالها غيره، وأنّ من أرادها فقد طلب محالاً وأراد ما لا يكون، بل المعنى: من كان يريد العزّة فليطلبها منه تعالى؛ لأنّ العزّة له جميعاً، لا توجد عند غيره بالذات»[8].
ويقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «هذه العزّة يمنحها الله حين نعمل بإخلاص. يلجأ بعض الأشخاص، ابتغاءً للعزّة، إلى الأدوات والوسائل الخطأ، يقول الله في القرآن: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾[9]. يذهبون إلى الكفّار والأفراد المنافقين لكي يستجدوا العزّة! ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾. العزّة بيد الله ومِلكُه، وهي في تصرّفه. كانت هذه الآية من سورة النساء. الآية الأخرى في سورة فاطر: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾. العزّة بيد الله، وهذا ما ينبغي فهمه
في نمط العيش وتوجّهه، ولنجعل هذه المعارف والمعلومات مؤثّرة فيهما وحاضرة أيضاً. إذا كنا نسعى وراء العزّة، [فلنعرف] أين هي العزّة وأين معدنها»[10].
كربلاء عنوان العزّة الحسينيّة
لقد قدّمت كربلاء تجسيداً حيّاً لمعنى العزّة بأسمى صورها، حيث لم تكن العزّة فيها شعاراً مجرّداً، بل كانت روحاً حيّة تنبض في كلّ موقف من مواقف الإمام الحسين % وأهل بيته وأصحابه. لقد بلغ الإمام الحسين % بالعزّة أوج الكرامة الإنسانيّة والروحيّة، فسطّر ملحمة لا نظير لها في التاريخ، أظهر فيها أنّ العزّة الحقّة ليست في كثرة العدد والعدّة، بل في الثبات على المبدأ، واليقين بنُصرة الله تعالى، والتشبّث بقيم الدين مهما عظُمت التضحيات.
لم يُقِم الإمام % ثورته من أجل جاهٍ أو سلطان، ولا لأجل خصومةٍ شخصيّة أو انتقامٍ دنيويّ، وإنّما كانت قيامته نصرةً خالصةً لدين الله تعالى، وإنقاذاً للأمّة من الضلال والانحراف، فوقف شامخاً أبيّاً ضدّ طغاة بني أميّة، رافضاً مبايعة يزيد الطاغية الذي مثّل الفساد والانحراف عن خطّ النبوّة. وأطلق كلمته الخالدة التي أصبحت نهجاً للأحرار: «مِثْلِي لا يُبَايِعُ مِثْلَهُ»[11]، في إعلانٍ صريح أنّ الحقّ لا ينحني للباطل، وأنّ الإمام المعصوم لا يمدّ يده في مهادنةٍ تجلب الذلّ وتُسقِط هيبة الدين.
ورفع راية الكرامة بقوله المشهور الذي بات شعاراً خالداً لكلّ حرّ: «هَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّة»[12]، ليعلّم الأجيال أنّ المؤمن لا يرضى بالهوان، وأنّ العزّة لا تُشترى ولا تُمنَح، بل تُؤخَذ بثبات الموقف وصدق النيّة وعلوّ الهمّة.
لقد كانت معرفته بالله تعالى، وإيمانه العميق بعظمته، سرّ شموخه ومفتاح عزّته، فقد ملأ قلبه يقينٌ بأنّ العزّة كلّها لله، وأنّ من توكّل عليه فلن يُخذَل، ومن استنصر به فلن يُغلب، ومن اعتزّ به فلن يُهان. ويشهد لذلك موقف أبي الفضل العبّاس % عند نهر العلقمي، حيث بلغ منه العطش مبلغاً شديداً، فأخذ الماء بيده ليروي ظمأه، ولكنّه تذكّر حال أخيه الإمام الحسين % وأهل بيته العطاشى، فرمى الماء من يده غير آسف، مردّداً كلمته العظيمة: «يَا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ هُونِي، وَبَعْدَهُ لا كُنْتِ أَنْ تَكُونِي»[13].
فما أروع هذا المشهد! قلبٌ عطشان، ويدٌ تمسّ الماء، لكنّ العزّة تمنعه من أن يقدّم نفسه على إمامه، ومن أن يشرب
فيما الحسين % ظامئ، فكان موقفه هذا تجلّياً نقيّاً للعزّة المستمدّة من الولاء لله وللحسين %.
ثمّ لما قُطعت يمينه، لم يزدْهُ ذلك إلّا صموداً، فأنشد بثباتٍ وإباء: «وَاللَّهِ إِنْ قَطَعْتُمُ يَمِينِي، إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي»[14].
فأيّ عزّة هذه؟! وأيّ كرامة أعظم من أن يُضحّي المرء بنفسه، في سبيل حفظ الدين والدفاع عن الإمام المفترض الطاعة؟!
هكذا تجلّت العزّة الحسينيّة المستمدّة من العزّة الإلهيّة، وهي عزّة لا تعرف الضعف ولا التراجع ولا التردّد، عزّةٌ يغذّيها الإيمان، ويرويها اليقين، وينبتها الصدق مع الله.
وقد لخّص الإمام الحسين % هذه الحقيقة في دعائه يوم عرفة، حين قال: «يَا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَأَوْلِيَاؤُهُ بِعِزَّةٍ يَعْتَزُّونَ، يَا مَنْ جَعَلْتَ لَهُ الْمُلُوكَ نِيرَ الذُّلِّ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ خَائِفُونَ»[15].
النهج القرآنيّ يصون عزّة المؤمن
إنّ القرآن الكريم لم يرضَ لأتباعه الذلّ والهوان، بل دعاهم إلى الإعداد لحماية عزّتهم، فقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[16].
فالقوّة ليست دعوةً للبغي، بل هي لصون الكرامة، ودفع العدوان. ولذلك قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾[17].
وهذا ما فعله الإمام الحسين % وأصحابه؛ أعدّوا العدّة، وخاضوا المعركة، برغم قلّة العدد وكثرة العدوّ. ثبتوا على مبادئهم، وارتقَوا شهداء شامخي الرؤوس، فصارت كربلاء ميداناً للعزّة الخالدة.
المؤمن الحسينيّ عزيزٌ صابر
إنّ كلّ مؤمنٍ يسير على نهج الإمام الحسين %، لا يرضى الدنيّة في دينه، ولو ابتُلِي بالمحن والشدائد، فهو يعلم أنّ الصبر خيرٌ من الذلّ، والثبات خيرٌ من الانكسار.
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[18].
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «إنّ المؤمن مهما كانت المصائب والمصاعب، ومهما أحاطت به الظروف القاسية، لا يمكن أن يضعف، لا يمكن أن يَهين، لا يمكن أن يستسلم، لا يمكن أن يُظهِر أيَّ علامة من علامات الخضوع والذلّ... بل ينظر بعين الله إلى كلّ الأيّام والسنين والقرون الآتية، لا يمكن أن ييأس، ولا يمكن أن ينتهي الأمل؛ لأنّه ينطلق من الثقة بالله سبحانه وتعالى وبِوعده»[19].
[1] سورة فاطر، الآية 10.
[2] سورة يس، الآية 14.
[3] سورة المرسلات، الآية 27.
[4] سورة المنافقون، الآية 8.
[5] سورة يونس، الآية 65.
[6] سورة المنافقون، الآية 8.
[7] سورة فاطر، الآية 10.
[8] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417ه، ط5، ج17، ص22.
[9] سورة النساء، الآية 139.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 01/01/2025م.
[11] الحسينيّ الموسويّ، محمّد بن أبي طالب، تسلية المجالس وزينة المجالس (مقتل الحسين %)، تحقيق وتصحيح كريم فارس الحسون، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قم، 1418ه، ط1، ج2، ص152.
[12] الطبرسيّ، الشيخ أحمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق وتصحيح محمد باقر الخرسان، نشر المرتضى، إيران - مشهد، 1403ه، ط1، ج2، ص300.
[13] السماوي، الشيخ محمّد، أبصار العين في أنصار الحسين %، تحقيق الشيخ محمّد جعفر الطبسيّ، مركز الدراسات الإسلاميّة لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلاميّة، إيران، 1419هـ - 1377ش، ط1، ص62.
[14] أبو مخنف الأزديّ، لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزديّ الغامديّ، مقتل الحسين %، تعليق الحسن الغفاريّ، المطبعة العلميّة، إيران - قمّ، 1398ه، لا.ط، ص179.
[15] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق جواد القيّوميّ الاصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ج2، ص80.
[16] سورة الأنفال، الآية 60.
[17] سورة النساء، الآية 71.
[18] سورة البقرة، الآية 155 - 156.
[19] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 17/09/2022م.
8
الموعظة الثالثة التضحية مدرسة الأنبياء وميراث كربلاء
الموعظة الثالثة
التضحية مدرسة الأنبياء وميراث كربلاء
هدف الموعظة
بيان المعاني الإيمانيّة العميقة في مفهوم التضحية في سبيل الله تعالى، من خلال النماذج القرآنيّة والتاريخيّة، وتفعيل هذه القيم في حياة المؤمن عبر ربطها بخطّ كربلاء والمقاومة المعاصرة.
محاور الموعظة
1. مشهد التضحية في قصّة النبيّ إبراهيم %
2. ميادين التضحية في سبيل الله
3. كربلاء قمّة التضحية
4. استمرار نهج التضحية في زمننا
تصدير الموعظة
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[1].
مشهد التضحية في قصّة النبيّ إبراهيم %
إنّ التضحية ليست حدثاً عابراً في حياة الأنبياء والأولياء، بل هي سُنّة إلهيّة تمرّ من خلالها النفوس المؤمنة في اختبار الطاعة والتسليم. وتجسِّد هذه الآية الكريمة قمّة هذا المعنى؛ إذ يقف النبيّ إبراهيم % أمام امتحانٍ عسير، وهو أن يقدِّم ابنه الوحيد إسماعيل قرباناً لله، من دون أن يتردّد أو يتأخّر.
لقد عزم على تنفيذ الرؤيا؛ لأنّها عنده أمرٌ إلهيّ، كما نقلها لابنه بصدق: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾. ولم يكن موقف النبيّ إسماعيل % أقلّ إيماناً، بل كان قمّة في التسليم والرضا: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
هذا المشهد إنّما يرسم للمؤمنين طريقاً واضحاً في الطاعة لله تعالى، حيث تتراجع العاطفة الأبويّة، وتتقدّم إرادة الله في القلوب، لتصبح محلّ الرضا والقبول. وهنا، تصبح الأضحية شعيرةً تربويّة، لا مجرّد ذبحٍ لبهيمة، بل رمزاً للتجرّد عن الدنيا
والتعلّق بالله.
ميادين التضحية في سبيل الله
تتعدّد صور التضحية، ولا تقتصر على بذل النفس، بل تشمل كلّ ما يملكه الإنسان من مالٍ وجهدٍ وراحة، إذا كان في سبيل رضا الله. وهذه الميادين متاحة أمام كلّ مؤمن، مهما كان موقعه وظرفه.
1. التضحية بالمال
إنّ المال أعزّ ما يمتلكه الإنسان في دنياه، وقد جعله الله وسيلةً للبلاء، وامتحاناً لصدق العبوديّة، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[2]، وهو مثلٌ يُظهر عاقبة المنفقين في نيل البركة والأجر، كما قال أيضاً: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾[3]، فالله تعالى يشبِّه من ينفق في سبيله بالمُقرِض، وهو وعدٌ ضمنيٌّ بالجزاء الكريم.
2. التضحية بالنفس
وهي أرقى مراتب التضحية، حين يبلغ المؤمن من الإخلاص حدّاً يجعله يقدِّم روحه في سبيل الله، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا المقام بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾[4]، وهذا البيع هو قمّة القرب والمحبّة لله، وعن الإمام الصادق %: «قال رسول الله -: فوق كلّ ذي برّ برّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتِل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[5].
3. التضحية بالأهل والعيال
فمَن يُهاجر بدينه ويترك وطنه، أو يُقدِّم أولاده وأعزّ ما عنده في سبيل الحقّ، إنّما يُقدِّم أنموذجاً راقياً من الفداء. وقد فعل ذلك النبيّ إبراهيم % في تركه لزوجته هاجر وولده إسماعيل في صحراء قاحلة، كما فعل رسول الله - في هجرته، حيث ترك الديار والأحباب، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[6].
كربلاء قمّة التضحية
ليس هناك مشهد يُجسِّد معنى التضحية مثل كربلاء، فالحسين % خرج وهو يعلم أنّه مقتول، ومع ذلك، لم يتردّد،
بل خرج ومعه أهل بيته وأصحابه ليُقدِّموا أرواحهم على مذبح الشهادة، دفاعاً عن الدين، وطلباً للصلاح.
قال % لأمّ سلمة: «يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً، ظُلماً وعدواناً...»[7]. فلم تكن كربلاء ساحة مواجهة فحسب، بل كانت ساحة تربيةٍ ووعي، حيث شارك في التضحية الصغير والكبير، والعبد والحرّ، والشيخ والطفل، والمرأة والرجل، كلّهم وقفوا وقفة عزٍّ وشموخ في وجه الظلم.
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «الإمام الحسين % تقدّم بالتضحية، كلّ شيء يستطيع أن يقدّمه لله عزّ وجلّ، وفي سبيل الله، ودفاعاً عن دين الله عزّ وجلّ، قدّم. هل هناك قولٌ أو فعلٌ أو مالٌ أو دمٌ أو عزيزٌ أو موقفٌ أو... يمكن أن يقدّمه الحسين % وبخل به؟ أبداً، قدّم كلّ شيء، وفي قمّة الألم. ومن أجل أيّ شيء؟ رضا الله عزّ وجلّ، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، ودفاعاً عن دين الله»[8].
وهنا، يتجلّى البُعد الإيمانيّ للتضحية، فهي ليست انتحاراً، بل وعياً واستشرافاً لمقام الشهادة، الذي قال عنه أمير المؤمنين %: «وَاللَّهِ، لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ»[9].
استمرار نهج التضحية في زمننا
ما زال خطّ كربلاء حيّاً، لم يمت بواقعة عاشوراء، بل امتدّ إلى حاضرنا، حيث ترى في المجاهدين والمقاومين مَن يحملون فكر الإمام الحسين %، ويسيرون على دربه.
لقد شهدت الأمّة محطّات عظيمة من الفداء، رأينا فيها شباباً وقياداتٍ يُقدِّمون أرواحهم في سبيل الله، مُلبِّين نداء الإمام الحسين %، كما فعل شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وهو القائل عمّن نال رتبة الشهادة: «كانوا لائقين بهذه الكرامة؛ لأنّهم أهل الإيمان وأهل اليقين وأهل الجود والعطاء وأهل التضحية، ولأنّهم الصادقون المُخلِصون، ولأنّهم المجاهدون الذين بذلوا مُهَجهُم كالإمام الحسين %»[10]، فتحوّلت ثقافة الشهادة إلى منظومة تربويّة تُنشِئ الأجيال على البذل والصبر.
قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[11]. وهذا الوعد الإلهيّ لا يتخلّف، ما دام في الأمّة مَن يحمل روح التضحية والولاء لله ولرسوله وأوليائه.
الخاتمة
إنّ التضحية في سبيل الله عنوانٌ خالدٌ لحياة الأنبياء والأوصياء (، وهي الطريق الأقصر للوصول إلى رضا الله تعالى، والوسيلة الأنبل لإحياء القِيم الإلهيّة في الأرض. فلنكن من أهل البذل، ولنجعل من كربلاء مشعلاً يُضيء دربنا، ولنعاهد الله أن نكون من السائرين في ركب الإمام الحسين %، الذين لا يبيعون دينهم بدنيا، ولا يرضون إلا بالعزّ تحت راية الحقّ، ولا نكون من مصاديق قول الإمام الحسين %: «إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ»[12].
[1] سورة الصافّات، الآية 102.
[2] سورة البقرة، الآية 261.
[3] سورة البقرة، الآية 245.
[4] سورة التوبة، الآية 111.
[5] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص348.
[6] سورة الأنفال، الآية 74.
[7] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج44، ص331.
[8] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 18/10/2015م.
[9] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ %)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص52، الخطبة 5.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 10/11/2017م.
[11] سورة الحجّ، الآية 40.
[12] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، مصدر سابق، ص245.
13
الموعظة الرابعة: التسليم في سبيل الله مدرسة كربلاء
الموعظة الرابعة
التسليم في سبيل الله مدرسة كربلاء
هدف الموعظة
بيان منزلة التسليم في بناء العلاقة مع الله، والتأسّي بمواقف الإمام الحسين وأهل بيته ( في كربلاء كأنموذجٍ أعلى للتسليم المطلق في أشدّ المواطن.
محاور الموعظة
1. التسليم جوهر الإسلام وروحه
2. معنى التسليم ومقامه في السلوك
3. التسليم أمام قضاء الله
4. التسليم بين البلاء والنعمة والقضاء
5. الدعاء لا يُنافي التسليم
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين %: «لَأَنْسُبَنَّ الْإِسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، الْإِسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ»[1].
التسليم جوهر الإسلام وروحه
في أعظم تعريفٍ للإسلام، يقف أمير المؤمنين % ليجعل «التسليم» مرادفاً للدين كلّه، فيقول: «الإِسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ»، وليس ذلك من باب المجاز أو التوسعة، بل من باب الحقيقة الصريحة؛ فالصراط المستقيم، والطريق إلى الله، وبناء الإنسان، كلّها تبدأ من هذا المعبر: «التسليم».
وهذا المعنى يختزنه مشهد كربلاء بكلّ تفاصيله؛ فكلّ قطرة دمٍ أُريقت هناك، وكلّ موقفٍ من مواقف أبي عبد الله الحسين %، كان تعبيراً عمليّاً عن هذا التسليم. لم يكن الإمام الحسين % يرى في نحره المهدور إلّا إرادة الله تتجلّى، ولم تكن الحوراء زينب & ترى في الأسر والسبي إلّا امتداداً لعزّة الطاعة. وهنا عظمة كربلاء: أنّها آية التسليم البشريّ المطلق لله.
معنى التسليم ومقامه في السلوك
التسليم، كما يعرّفه الإمام الخمينيّ !، هو «الانقيادُ الباطنيُّ والاعتقادُ القلبيُّ في مقابلِ الحقِّ»[2]، وهو من أعظم الخصال التي يتوسّل بها العارفون لسلوك دروب القرب والمعرفة. فمن سلّم لله ولأوليائه، ولم يُنازع في حكمهم، كان قد وضع قدمه على طريقٍ يُفضي إلى الله دون تعثّر.
وهذا ما عبّر عنه بقوله: «فالذي يتجلّى بالتسليمِ للحقِّ تعالى ولأوليائِهِ، ولا يُناقِشُ لهمْ أمراً، يطوي سيرَهُ الملكوتيَّ بأقدامِهِم؛ ولذلكَ فهوَ يصلُ بسرعةٍ إلى مقصدِهِ»[3]، وكأنّه يقول: التسليم ليس تعطيلاً للعقل، بل تصعيدٌ له في مدارج الإيمان.
التسليم أمام قضاء الله
عندما يُنزلُ اللهُ تعالى قضاءَه على عبده، لا يُنتظر من العبد أن يُعارض أو يُجادل، بل يُطلب منه خُضوعٌ وتسليم. فليس المقام مقام اعتراض، لأنّ العبدَ في حضرة المولى لا يملك من أمره شيئاً، وقد جاء في الرواية القدسيّة التي أوحى اللهُ فيها إلى نبيّه داوود %: «تُرِيدُ وَأُرِيدُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا أُرِيدُ، فَإِنْ سَلَّمْتَ لِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ مَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْ لِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِي مَا تُرِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ»[4].
إنّ هذه الروايةَ تُجسّدُ بوضوحٍ فلسفةَ العبوديّة الحقيقيّة، حيثُ لا ينظر العبدُ إلى مرادِه، بل إلى مراد الله، لا إلى ما يُريحُه ويُوافقُ طبعه، بل إلى ما يختاره له مولاه، لأنّه يعلم أنّ الخيرَ كلَّ الخيرِ فيما يختاره اللهُ لا ما يختارُه هو.
يقول شهيد الأمّة (رضوان الله عليه): «﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾ ليست مجرّد كلمة تُقال. ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾ تعني نحن ملكه، ونحن عبيده، ونحن ملك يمينه. نَوَاصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[5]، فعندما نكون عبيداً له، نرضى بما يرضاه لنا»[6].
ولعلّ أعظمَ تجلٍّ لهذه المدرسةِ الربّانيّةِ في التسليم، هو ما ظهر في كربلاء، في أقدسِ المواقفِ وأشدّها فداحةً وألَماً. فقد كان الإمامُ الحسينُ % في عاشوراء يعيشُ ذروةَ الابتلاءِ، يُشاهدُ فلذاتِ أكبادِه يتساقطون واحداً بعد آخر، ويُقتلُ أحبُّ الخلقِ إلى قلبه بين يديه، من أصحابه وأهل بيته وأطفاله، حتّى الرضيع منهم، ومع ذلك لم تصدرْ منه كلمةُ جزعٍ
أو اعتراضٍ على قضاءِ الله، وهو القائل: «اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمّن سواك«[7].
إنّ تسليمَ الحسينِ % لم يكن تسليمَ العاجزِ أو المضطر، بل تسليمَ العارفِ الواثقِ بربّه، فقد كان يعلمُ أنّ هذا الدمَ الذي يُسفكُ على رمضاءِ كربلاء، هو الذي سيُبعثُ في الأمّةِ حياةً، وأنّ هذا القربانَ هو السبيلُ إلى إحياءِ الدينِ وإقامةِ العدلِ الإلهيّ.
هذا هو دربُ كربلاء، دربُ التسليمِ لله، حتّى في أشدّ مواضعِ الابتلاءِ والامتحان، دربٌ سارَ عليه الحسينُ % ليُعلِّمَنا أنّ تمامَ الإيمانِ لا يُنالُ إلّا بتمامِ التسليم، كما قال أميرُ المؤمنينَ %: «الْإِيمَانُ لَهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ، وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[8].
التسليم بين البلاء والنعمة والقضاء
الحياةُ في عينِ الإيمانِ ليست ساحةً من النعيمِ فحسب، ولا ميداناً للبلاء فقط، بل هي تقلبٌ دائمٌ بين البلاءِ والقضاءِ والنعمة، وعلى العبدِ أن يكون في كلِّ حالاته عبداً لله، لا عبداً للظروف. وقد لخّص الإمامُ الصادقُ % هذه الحقيقة في حديثٍ بليغٍ وجامعٍ، فقال: «الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثٍ: بَيْنَ بَلَاءٍ وَقَضَاءٍ وَنِعْمَةٍ، فَعَلَيْهِ لِلْبَلَاءِ مِنَ اللَّهِ الصَّبْرُ فَرِيضَةً، وَعَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ مِنَ اللَّهِ التَّسْلِيمُ فَرِيضَةً، وَعَلَيْهِ لِلنِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ الشُّكْرُ فَرِيضَةً»[9].
إنّ هذا الحديث لا يُحدّد سلوك العبد في موضعٍ دون آخر، بل يرسم له خارطة السلوك الروحيّ في كلّ لحظات وجوده؛ فإن نزل البلاء، فلا بدّ من الصبر، لا صبرَ المُكرَه، بل صبرُ العارف الذي يرى في البلاء طريقاً إلى التهذيب والاصطفاء.
وإن صدر القضاء، فلا مجال للاعتراض، بل هو موضعُ التسليم، لأنّ القضاء هو مشيئةُ الحكيم العليم.
وإن تنزّلت النعمة، فهاهنا موطنُ الشكر، لا الغفلة، فكما يُبتلى الإنسان بالبلاء، فإنّه يُبتلى أيضاً بالنعمة.
وقد جسّد الإمامُ الحسينُ % هذه الفروضَ الثلاثة في كربلاء بكلّ أبعادها ودرجاتها؛ فقد صبر على البلاء صبرَ الأبطال، لا صبرَ المقهورين، بل صبرَ من يعلم أنّ في البلاء رفعةً وسموّاً، وسلّم للقضاء الإلهيّ تسليمَ من لا يرى في الوجود إرادةً سوى إرادةِ الله.
وحين وقف في ليلة عاشوراء للدعاء، وحين أوصى أهل بيته وأصحابه، وحين حمد الله على كلّ ما مرّ به، فقد كان في موطنِ الشكر، حتّى في اللحظةِ التي لا تُرى فيها النعمة بعين المادّة، بل تُدرك بعين البصيرة.
الدعاء لا يُنافي التسليم
وقد يظنُّ بعضهم أنّ التسليمَ لله يعني أن يرضى العبدُ من غير أن يطلب، وأن يستسلم بلا حراك، لكنّ هذا فَهمٌ ناقص، لأنّ الدعاءَ نفسهُ عبادة، والله يحبُّ من عبده أن يسألَه ويرجوه، والتسليم لا يُعارض الطلب، بل يُنقّيه من الاعتراض ويُطهّره من السخط.
وقد جسّد لنا الإمامُ الباقرُ % هذا التوازنَ الرفيع بين الدعاء والتسليم، ففي روايةٍ مؤثّرة، أنّه مرض له ولدٌ فجزع عليه، فأكثر الدعاء له، فلمّا مات، رآه الناسُ منبسطَ الوجه، مطمئنَّ القلب، فسألوه عن ذلك، فقال: «إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ نُعَافَى فِي مَنْ نُحِبُّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ سَلَّمْنَا فِي مَا أَحَبَّ»[10].
إنّها كلمةٌ تختصرُ مقامَ المحبّةِ مع الله؛ نحن نحبُّ أن يُعافى مَن نحبّ، ولكننا لا نُقدّم مرادَنا على مراد الله، فإذا حكمَ قضاؤه، سلّمنا له، ورضينا، لأنّنا نعلم أنّ حكمه هو الخير وإن لم نُدرك وجهه.
وهكذا يكونُ الدعاءُ تجلّياً للتوحيد، لا خروجاً عنه، ويكون التسليمُ أوجَ الإيمان، لا تعطيلاً للحركة، فادعُ الله، وابكِ بين يديه، وارجُه في كلّ شدةٍ ونعمة، ولكن لا تجعل قلبَك معترضاً إذا جاء ما لا تهوى، فإنّ المحكّ الحقيقيّ للعبوديّة هو في لحظةِ التسليم.
لا حول ولا قوّة إلّا بالله
وإذا أردت أن تُوجز مقامَ التسليم في كلمةٍ، فاقرأ ما رواه الإمام الصادق %: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: اسْتَسْلَمَ عَبْدِي، اقْضُوا حَاجَتَهُ»[11].
إنها ليست مجردَ عبارة، بل هي إعلانُ فقرٍ مطلقٍ إلى الله، وتخلٍ عن حول النفس وقوّتها، والتجاءٌ كاملٌ إلى الحولِ والقوةِ الإلهيّة.
فاجعلها وردَك في الرخاءِ والبلاء، واملأ بها قلبك في لحظاتِ الضعفِ والانكسار، وذكّر بها نفسك دائماً في درب الحسين %، ذاك الدرب الذي يبدأ بالعشق وينتهي بالتسليم، لأنّه لا طريق إلى الله إلّا بالتسليم.
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص491، الحكمة 125.
[2] الخمينيّ، روح الله، جنود العقل والجهل، تعريب أحمد الفهري، مؤسسة الأعمليّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، لا.ط، 1422ه - 2001م، ص357.
[3] المصدر نفسه، ص358.
[4] الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مُسكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد، بصيرتي، إيران - قم، لا.ت، ط1، ص86.
[5] سورة البقرة، الآية 156.
[6] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 24/02/2003م.
[7] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الحسين %، مصدر سابق، ص115.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص47.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج79، ص129.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص226.
[11] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370هـ - 1330ش، لا.ط، ج1، ص42.
17
الموعظة الخامسة: ثباتُ العمل بين ساحة الدنيا وميدان كربلاء
الموعظة الخامسة
ثباتُ العمل بين ساحة الدنيا وميدان كربلاء
هدف الموعظة
بيان أهمّيّة المواظبة على العمل الصالح بوصفه قرين الإيمان ومظهراً من مظاهر الثبات في طريق الحقّ، وربط هذه الحقيقة بساحة كربلاء التي جسّدت قمّة العمل الصالح والإخلاص لله.
محاور الموعظة
1. العمل الصالح طريق النجاة ورفيق الإيمان
2. الدنيا دار العمل لا دار راحة
3. الاستمرار على العمل الصالح مبدأ إلهيّ
4. أهل البيت قدوة في المداومة على الطاعة
5. الوعد الإلهيّ لأصحاب العمل: طوبى
تصدير الموعظة
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾[1].
العمل الصالح طريق النجاة ورفيق الإيمان
لم يفصل القرآن الكريم بين الإيمان والعمل، بل جعلهما وجهين لحقيقةٍ واحدةٍ في حياة الإنسان المؤمن؛ فلا إيمانَ صادقٌ بلا عمل، ولا عملَ مقبولٌ بلا إيمان. ولذلك، جمع بينهما في عشرات المواضع، وكأنّه يُرشدنا إلى أنّ الإيمان إنْ لم يتحوّل إلى حركةٍ عمليّةٍ في الواقع، فهو إيمانٌ ناقص، وربّما مزيّف.
ومن تلك المواضع قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾، فالعاقبة الحسنى لأهل الإيمان لا تُبنى على ادّعاء الإيمان فحسب، بل على الثبات في خطّ العمل الصالح الذي يُجسّد هذا الإيمان في سلوك الإنسان واختياراته ومواقفه.
وقد ورد في حديث الإمام الصادق %: «دعا اللهُ الناسَ في الدنيا بآبائِهم ليتعارفوا، وفي الآخرةِ بأعمالِهم ليُجازَوا، فقال: ﴿يَا أيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿يَا أيُّهَا الَذِينَ كَفَرُوا﴾»[2]، فالمقياس الحقيقيّ عند الله هو العمل لا الانتساب،
والسيرة لا السيرة الذاتيّة، والواقع لا الاسم. فكم من منتسبٍ إلى الإيمان حُرم القبول لفراغ عمله، وكم من مجهولٍ عند الناس قدّمه الله يوم القيامة لأنّه حمل الإيمان بصدقٍ، وعمل بمقتضاه خالصاً لله.
إنّ هذا الميزان القرآنيّ يجعلنا نُراجع علاقتنا بالإيمان، لا بوصفه مجرّد اعتقادٍ قلبيّ أو لسانٍ ناطق، بل بوصفه روحاً دافعةً نحو الخير، ومحرّكاً داخليّاً يدفع إلى أداء الواجبات وتحمّل المسؤوليّات. وهذا هو الإيمان الذي كان يحمله الإمام الحسين % وأصحابه، إيماناً حرّكهم نحو التضحية والفداء، لا مجرّد كلماتٍ تُقال في ساعة رخاء.
الدنيا دار العمل لا دار راحة
إنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وهي دار اختبارٍ وعمل، لا دار راحةٍ وسكون، وقد قرّر أمير المؤمنين % هذه الحقيقة بعبارةٍ جامعةٍ حين قال: «فاعملوا، والعملُ يُرفَع، والتوبةُ تنفع، والدعاءُ يُسمَع، والحالُ هادئة، والأقلامُ جارية...»[3]؛ أي إنّ صفحة الحياة ما زالت مفتوحة، وأبواب التوبة مشرعة، وفرصة التغيير متاحة، فلا ينبغي للعاقل أن يُفوّت هذا الوقت الثمين في الغفلة والتسويف.
ومن الغبن العظيم أن يغفل الإنسان عن حقيقة وجوده، ويُسلِم نفسه للهوى والدعة والراحة المؤقّتة، وينسى أنّه مخلوقٌ لتحمّل مسؤوليّة، وأنّ عليه أن يزرع بيديه ليحصد غداً ما زرع. فالدنيا ليست دارَ قرار، بل هي معبر، فيها نُكتب ونُقوَّم ونُبنى أو نُهدم.
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «الدور الأساسيّ للحياة الدنيا هذه، هي أنّها الدار التي يُعطى فيه للإنسان كامل الحرّيّة والاختيار، وتُوفَّر له كلّ الأسباب، ويُسخَّر له كلّ الوجود؛ من أجل أن يُثبِت لياقته واستحقاقه للحياة الحقيقيّة في العالم الآخر، ليصنع مستقبله هناك؛ لذلك هي دار الممرّ والمعبر، وهي باب العمل، وهي المزرعة»[4].
ولو تأمّلنا في كربلاء، لوجدنا النموذج الأكمل لهذا الفهم. فسيّد الشهداء % لم يكتفِ بإعلان الموقف والحقّ، ولم يقف عند حدود الكلمات والخُطب، بل تحوّلت كلماته إلى أفعال، ومواقفه إلى دماء، وسيرته إلى منهجٍ خالد. لقد وعى الإمام الحسين % أنّ العمل هو الذي يُنقذ الرسالة من التحريف، وأنّ الجهاد هو الثمن الطبيعي لحماية الدين، فقال بكلّ وعيٍ ويقين: «وإنّي لا أرى الموتَ إلّا سعادة، والحياةَ مع الظالمينَ إلّا بَرَماً»[5].
فكانت حركته في كربلاء تجسيداً صادقاً لمعنى العمل في سبيل الله، لم يُثنه قلّة الناصر، ولا كثرة العدوّ، ولا هول المصيبة،
لأنّه كان يرى بعين الإيمان لا بعين الحسابات الدنيويّة، وكان يعلم أنّ كلّ خطوةٍ يُقدِم فيها هي زراعة في مزرعة الآخرة، وأنّ دماءه الزاكية ستُثمر عزّاً وهدًى لكلّ الأجيال من بعده.
الاستمرار على العمل الصالح مبدأ إلهيّ
إنّ العمل في الإسلام لا يُختزل في موسم أو زمن خاصّ، بل هو مسؤوليّة دائمة ما دام الإنسان حيّاً، قال الإمام عليّ %: «المُداوَمَةَ المُداوَمَةَ! فإنَّ اللَّهَ لَم يَجعَلْ لِعَمَلِ المُؤمِنينَ غايَةً إلّا المَوتَ»[6].
فما دامت النفس تتردّد في الصدر، فباب العمل مفتوح، والميزان مفتوح، والفرصة قائمة. والموفق من يحافظ على صلاته، وصدقاته، ونيّته، ولا يجعل عمله متقلباً.
وقد أرشد الإمام الصادق % إلى منهج عمليّ، فقال: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلى عَمَلٍ، فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً، ثُمَّ يَتَحَوَّلْ عَنْهُ إِنْ شَاءَ إِلى غَيْرِهِ...»[7]، فالثبات على العمل أقرب للإخلاص، وأدعى للقبول.
أهل البيت ( قدوة في المداومة على الطاعة
يروي الإمام الباقر %: «إنِّي أُحِبُّ أنْ أدومَ على العملِ إذا عوَّدَتْنِي نفسي، وإنْ فاتَني مِنَ الليلِ قضيتُه مِنَ النهار، وإنْ فاتَني مِنَ النهارِ قضيتُه بالليل، وإنَّ أَحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دِيْمَ عليها»[8]، فالمؤمن ليس موسميّاً، بل قلبه موصولٌ بالله في كلّ وقت.
وتأمّل حال زينب الكبرى & في ليلة العاشر من المحرّم، وهي تُحيي الليلَ بالصلاة والدعاء، على الرغم من شدّة المصيبة، فما منعتها الفاجعة من طاعة ربها، بل كانت صابرةً محتسبة، تواسي الإمام الحسين % وتشدّ من عزيمته.
الوعد الإلهيّ لأصحاب العمل: طوبى
وإذا كانت الدنيا مزرعة الآخرة، وكان العمل فيها هو معيار النجاة والكرامة، فما الذي ينتظر أهل الإيمان والعمل الصالح بعد هذا الجهد؟ إنه وعدٌ عظيمٌ، وبشارةٌ إلهيّةٌ لا تُدانيها بشارة، أطلقها الله جلّ شأنه في محكم كتابه فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾، طوبى التي حيّرت أهل البيان في وصفها، ففسّرها أئمّتنا ( بوجوهٍ متعددة: فهي الخيرُ والبركة، وهي الكرامةُ والنِّعمة، وهي الجنّةُ نفسها، وهي شجرةٌ عظيمةٌ أصلها في دار رسول الله -، وفي دار كلّ مؤمنٍ غصنٌ منها، يستظلّ به في دار الخلود، ويقطف من ثمار صبره وثباته.
وهكذا رسم الإمام الباقر % ملامح أهل طوبى، أولئك الذين شغلتهم آخرتهم عن دنياهم، فقال: «ألَا في هذا فارغَبُوا. إنَّ المؤمنَ، نَفْسُه مِنْهُ في شُغُل، وَالنّاسُ مِنْهُ فى رَاحَةٍ، إذا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَرَشَ وَجْهَهُ، وَسَجَدَ لِلّهِ بِمَكارِمِ بَدَنِهِ، يُناجِي الَّذي خَلَقَهُ في فَكاكِ رَقَبَتِهِ؛ ألَا فَهكَذا كونوا»[9].
وهكذا تكون السيرة، وهكذا يكون الطريق... طريقُ الساجدين في الظلام، والصامدين في وجه الظلم، والعاملين على بصيرة. إنه الطريق الذي تجسّد في أسمى صوره في كربلاء.
كربلاء التي لم تكن مجرّد فاجعةٍ أو صرخةٍ عابرة، بل كانت ميداناً لصناعة «أهل طوبى»، ورسم المنهج الكامل لديمومة الإيمان في وجه الانحراف. هناك، في تلك الأرض المقدّسة، رأينا تجلّي دوام العطاء في أبهى صوره، وثبات القلوب في أحرج اللحظات، واستمرار السجود رغم السيوف والدماء. كربلاء ليست ذكرى، بل دعوةٌ مفتوحةٌ لكلّ من أراد أن يكون من أهل «طوبى».
[1] سورة الرعد، الآية 29.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص208.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص351، الخطبة 230.
[4] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 12/10/2018م.
[5] ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب (، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1376هـ - 1956م، لا.ط، ج3، ص224.
[6] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج1، ص130.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص82.
[8] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، مصدر سابق، ج1، ص129.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص240.
21
الموعظة السادسة: الصبر خُلُق الإيمان
الموعظة السادسة
الصبر خُلُق الإيمان
هدف الموعظة
بيان حقيقة الصبر باعتباره خلقاً جوهريّاً في بناء شخصيّة المؤمن ومجتمعه، وضرورة مستمرّة في مواجهة الابتلاءات والنزاعات الداخليّة والخارجيّة، مع تسليط الضوء على أنواعه، وآثاره الفرديّة والاجتماعيّة، وأبعاده الاستراتيجيّة في تحقيق الغايات الإلهيّة الكبرى.
محاور الموعظة
1. تعريف الصبر
2. أنواع الصبر
3. جزاء الصبر والصابرين
4. ديمومة حاجة الإنسان إلى الصبر
5. الصبر الاستراتيجيّ واقع وخيار
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «إنّا صُبَّر وشيعتنا أصبر منا»، قال الراوي: جُعلت فداك! كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟! قال: «لأنّا نصبر على ما نعلم، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون»[1].
تعريف الصبر
الصبر هو احتمال المكاره من غير جزع[2]، أو هو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب[3].
وعليه، فالصّبر هو قوّة تحمّل الإنسان وثباته، وعدم اضطرابه عند مقاومته لأهواء النفس وشهواتها، أو عند إتيانه بالعبادات والطاعات وانتهائه عن المعاصي والمخالفات، أو عند تعرّضه لأنواع الشدائد ونزول المصائب عليه. فلا يجزع ولا يشتكي ولا يأتي بالأفعال غير الملائمة، بل يثبت ويتحمّل ويقاوم حتّى تنفرج الأمور وتنجلي الظلمة، فيؤتيه الله
تعالى أجره مرّتين جزاءً بما صبر: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾[4].
أنواع الصبر
يظهر من الآيات والروايات وكلمات علماء الأخلاق، أنّه يمكن تقسيم الصبر إلى صبر محمود وصبر مذموم:
1. فالصّبر المذموم يعني تحمّل الشقاء، وقبول الذلّة والاستسلام للعوامل الخارجيّة، من دون مرجّح شرعيّ أو عقليّ، فهناك موارد لا يُعَدّ الصبر فيها إلّا حمقاً أو جُبْنَاً، منها: أن يصاب المرء بمرض وهو قادر على علاجه، أو أن يُسلب منه حقّ وهو قادر على استرداده، أو أن يصبر على الفقر وهو قادر على العمل والتكسّب.
2. والصبر المحمود: يعني القدرة على التحمّل والمقاومة، والثبات أمام جميع المشاكل، والصمود أمام الحوادث المرّة، وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع، لأجل بلوغ الأهداف الإلهيّة العليا والغايات الإنسانيّة السامية، ومنه:
أ. الصبر على ما تحبّه النفس، وهو جامع لملذّات الدنيا، من مال وجاه وسلامة وأولاد وزوجة... وهذا الصبر هو الأصعب؛ لأنّ النفس بتركيبتها تميل إلى التعلّق بهذه الأمور، فإذا لم يضبط المرء نفسه بها بطر وطغى، ويصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾[5].
ب. الصبر على ما تكره النفس: كالصبر على الطاعة، والطاعة في الأمور التي أوجبها المولى تعالى من عبادات، كالصلاة والزكاة والحجّ... فالنفس بطبيعتها تنفر من العبوديّة وتميل الى الربوبيّة، عن رسول الله -: «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر عند الطاعة، وصبر عن المعصية... ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش...».[6]
ج. الصبر على المعصية، والمعاصي مثل الغيبة والكذب والرياء والعجب... أيضاً يحتاج المرء صبراً في الابتعاد عنها؛ لأنّ النفس تغفل عنها. وفي رواية رسول الله - المذكورة قوله: «... فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض... ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمئة درجة، ما بين درجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش»[7].
د. الصبر على الابتلاءات والمصائب، من فقد عزيز أو خسارة مال أو مرض... وفيها قال الرسول الأكرم -: «إذا وجّهت على عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم
القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً»[8]، وعن الإمام الصادق %: «الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَن جميل، وأفضل من ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجلّ، ليكون لك حاجزاً»[9].
جزاء الصبر والصابرين
تحدثّ الآيات القرآن الكريم في موارد كثيرة عن الصبر، ومن جملتها ما ورد في فضيلة الصّبر وتأثيره على حياة الإنسان وعلى مصيره في الدنيا والآخرة:
1. الصابرون مُعفَون من الحساب: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[10].
2. الله يصلّي على الصابرين: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[11].
3. الله يحبّ الصابرين: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[12].
4. الصبر مفتاح النصر والغلبة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾[13].
5. الله مع الصابرين: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[14].
6. ذنوب الصابرين مغفورة: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[15].
7. الله يثيب الصّابرين بأفضل ممّا كانوا يعملون: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[16].
8. الله يرزقهم الجنّة: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾[17].
ديمومة حاجة الإنسان إلى الصبر
لقد أمر الله تعالى الإنسان بالاستعانة بالصبر في شؤون ومجالات حياته كافة، بلا فرق بين موارد الصبر المذموم والصبر الممدوح بكلّ مصاديقهما؛ لأنّ الإنسان بحسب تركيبة خلقه الجامعة بين العقل وقوى النفس المتصارعة، إذ إنّ النفس الإنسانيّة وصفاتها هي منشأ الأعمال والأفعال والأقوال لدى الإنسان، وإذا صلحت هذه النفس وصلحت صفاتها وأخلاقها، صلحت بالتالي الأعمال الصادرة عنها، وكانت منشأ للحسنات والنجاة في الدنيا والآخرة، وإذا فسدت صفاتها وأخلاقها كانت منشأ للسيئات والهلاك.
ولهذا كانت حاجة الإنسان إلى خُلق الصبر من الثوابت التي يقرّها العقل، ويحثّ عليها الشرع، فهو يحتاج إلى الصبر ليحبس نفسه عن الجزع عند المصيبة، ويحتاج إليه في الحرب ليحبس نفسه عن الجبن ويحافظ على الشجاعة، ويحتاج إليه في حبس الغضب وكظم الغيظ ليحفظ خلق الحلم، ويحتاج إليه في حبس الضجر إن كان في نائبة مضجرة وليحفظ رحب الصدر، ويحتاج إليه في حبس النفس عن الجرأة في ارتكاب المعصية، ويحتاج إليه في حبس الشَرَه وحفظ القناعة. ويحتاج إليه في الطاعة ليؤدّيها مقبلاً ومخلصاً ومتقرّباً إلى الله تعالى.
الصبر الاستراتيجيّ واقع وخيار
صحيح أنّ الصبر هو قوّة تحمّل الإنسان وثباته، وعدم اضطرابه في الشدائد والمصائب، وعند مقاومته لأهواء النفس ومتطلّباتها التي لا تنتهي ولا تهدأ. ولكن هذا لا يعني أبداً انحصار فائدة الصبر في سلوك الفرد المؤمن، بل لعلّ الفائدة الأهمّ للصبر ترتبط بسلوك المجتمع وسيره نحو التماسك والتكامل والثبات في تحقيق الأهداف.
فإنّ القدرة على التحمّل والانتظار لتحقيق أهداف طويلة الأمد، حتّى في ظل الظروف الصعبة والمعقّدة أو التحدّيات الكثيرة يصنّف ضمن الصبر الاستراتيجيّ، المبني على وجود رؤية واضحة للأهداف المستقبليّة وهو حاجة لا بدّ منها في الكثير من الظروف[18]، وهو عنصر أساسيّ للنجاح في العديد من المجالات، حيث يساعد الأفراد والمؤسّسات على التغلّب على التحدّيات وتحقيق أهدافهم على المدى الطويل؛ وذلك لأنّه يساعد على التكيّف مع الظروف المتغيّرة، مع الحفاظ على التركيز على الأهداف الاستراتيجيّة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لقد فقدنا شخصيّات إيرانيّة ولبنانيّة عظيمة، وكانت هذه خسارة فادحة بالنسبة إلينا، كما حدث في قضيّة النبيّ موسى %... قال بنو إسرائيل له: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا﴾[19]؛ أي إنّهم، قبل أن يقف النبيّ موسى % في وجه فرعون بصفته نبيّاً، كانوا يتعرّضون للتعذيب، وبعد مجيئه استمرّ تعذيبهم.
قال لهم النبيّ موسى %: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾[20]؛ أي استعينوا بالله المتعالي، واطلبوا منه العون، واصبروا واستقيموا، فالأمور ستسير على ما يرام، وقد سارت كذلك.
الأشخاص أنفسهم الذين كانوا يشتكون من التعذيب المستمرّ، رأوا بأعينهم كيف غرق فرعون والفرعونيّون في الماء بمنتهى الذلّ. لقد أُبيدوا، ولم يبقَ لهم أيّ أثر، ولم يبقَ من سلطانهم سوى أجسادهم، على مرأى من العيون، ليصبحوا عِبرةً.
انظروا بهذه العين إلى الأحداث التي تحصل، وكذلك إلى المصاعب والمشقّات»[21].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص93.
[2] الصدر، السيّد مهديّ، أخلاق أهل البيت (، دار الكتاب الإسلاميّ، لا.ت، لا.ط، ص101.
[3] النراقيّ، الشيخ محمّد مهدي، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيّد محمّد كلانتر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج2، ص438.
[4] سورة القصص، الآية 54.
[5] سورة العلق، الآيتان 6 - 7.
[6] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج15، ص238.
[7] المصدر نفسه، ج15، ص238.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج78، ص209.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص91.
[10] سورة الزمر، الآية 10.
[11] سورة البقرة، الآيتان 156 - 157.
[12] سورة آل عمران، الآية 146.
[13] سورة الأنفال، الآية 65.
[14] سورة الأنفال، الآية 46.
[15] سورة هود، الآية 11.
[16] سورة النحل، الآية 96.
[17] سورة الإنسان، الآية 12.
[18] مثل: نموذج صبر الإمام عليّ % في قضيّة الخلافة/ ونموذج صبر المقاومة في المرحلة الراهنة.
[19] سورة الأعراف، الآية 129.
[20] سورة الأعراف، الآية 128.
[21] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 21/03/2025م.
25
الموعظة السابعة: اصبروا وصابروا ورابطوا
الموعظة السابعة
اصبروا وصابروا ورابطوا
هدف الموعظة
تسليط الضوء على الصبر كقيمة تأسيسيّة في صناعة الفلاح الفرديّ والجماعيّ، ودوره في إعداد الأمّة للمرابطة في عصر الغيبة بانتظار الإمام المنتظَر ..
محاور الموعظة
1. الصبر مفتاح الظَفَر
2. الصبر فرديّ ومجتمعيّ
3. جهاد النفس باب مواجهة الأعداء
4. ورابطوا إمامَكم المنتظَر
تصدير الموعظة
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[1].
الصبر مفتاح الظَفَر
إنّ الحديث عن الصبر لهو حديثٌ عن مدماك أساسيّ في نجاح الإنسان على الصعد كافّة مادّيّاً ومعنويّاً، وفي فلاحِه في الدنيا والآخرة؛ الصبر على مضاضته هو «أعون شيء على الدهر»[2]، و«مطيّة لا تكبو»[3]، و«خير مركب»[4] يوصِل إلى الغاية والمقصد.
والصبر ليس سلاح الضعيف، بل «الصبر شجاعة»[5]، وهو بالنسبة إلى المرء «من خير جنوده»[6]؛ وهذا يعني أنّ الصبور
هو في ساحة جهاد ومواجهة مع ما يعايشه من أحداث ووقائع واختبارات وبلاءات؛ جهادٍ نتيجته الفوز والفلاح؛ إذ «مَن ركِب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر»[7]، و«لا يُعدَم الصبور الظَفَر، وإن طال به الزمان»[8].
والصبر «زينة البلوى»[9]، يجعل البلاء في عينَيك جميلاً، كما قالت مولاتنا زينب & بعد كلّ ما أنابها: «ما رأيت إلّا جميلاً»[10].
وفوق هذا، للصابر عند الله أجرٌ عظيم، وثوابٌ جزيل، فـ«مَن ابتُلي من شيعتنا، فصبر عليه، كان له أجر ألف شهيد» و«لو يعلم المؤمن ما له في المصائب من الأجر لتمنّى أن يُقرَض بالمقاريض».
الصبر فرديّ ومجتمعيّ[11]
في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[12]، خطابٌ للمؤمنين بأنّ فلاحهم مرهونٌ بالصبر على المستويات كافّة، بالتوضيح الآتي:
أ. ﴿اصْبِرُوا﴾: المراد به -بمقتضى المقابلة بين الصبر والمصابرة في الآية- صبر الفرد المؤمن على الشدائد، وصبره في طاعة الله، وصبره عن معصيته.
ب. ﴿وَصابِرُوا﴾: المصابرة هي التصبُّر، وتحمُّل الأذى جماعةً، باعتماد صبر بعض على صبر آخرين؛ فتتقوّى الحال، ويشتد الوصف، ويتضاعف تأثيره. وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتُبرت شخصيّته في حال الانفراد، وفي حال الاجتماع والتعاون؛ بإيصال القوى بعضها ببعض.
والمصابرة -هي من باب المفاعلة- بمعنى الصبر والاستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين، وثباتهم، واستقامتهم؛ فهي دعوةٌ للمسلمين إلى أن لا يتخلّفوا عن ركب الآخرين، فإذا كان الكفّار يدافعون عن كفرهم، ويُقتلون، وينفقون الأموال، فأولى بكم أن تدفعوا عنكم العدوَّ بالأموال والأنفس، وكلّ وسيلة متاحة لكم.
وتفيد كذلك، أنّ على المسلمين أن يتحمّلوا مشاكل بعضهم بعضاً، ويصابر بعضهم بعضاً.
ج. ﴿وَرابِطُوا﴾: للرباط معنى أعمّ من المصابرة، وهو إيجاد الجماعةِ الارتباطَ بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم
الدينيّة، الأعمّ من حال الشدّة وحال الرخاء.
و«رابطوا» مشتقّة من مادّة «الرباط»، وتعني ربط شيء في مكان -كربط الخيل في مكان- ولهذا يقال لمنزل المسافرين «الرباط»، وربط الله على قلبه؛ أي أعطاه السكينة، وملأه بالطمأنينة، وكأنّ قلبه انشدّ إلى مكان، وارتكز على ركن وثيق.
و«المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها؛ لأنّ فيها يربطُ الجنودُ أفراسهم.
وفي هذه العبارة -إذاً- أمرٌ صريحٌ إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفّز وتيقُّظ ومراقبة مستمرّة لثغور البلاد الإسلاميّة وحدودها؛ حتّى لا يفاجؤوا بهجمات العدوّ المباغتة.
وفيها -أيضاً- حثٌّ على التأهُّب الكامل لمواجهة الشيطان، والأهواء الجامحة؛ حتّى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرّة وغفلة؛ ولهذا جاء عن الإمام عليّ % تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ لأنّ من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجنديّ المتأهّب لمواجهة الأعداء على الدوام.
هذا، وقد أُطلق على العلماء صفة المرابط، فعن الإمام الصادق %: «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلّط عليهم إبليس...»[13].
فتحصّل ممّا مرّ، أنّ للمرابطة معنى وسيعاً يشمل كلّ ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع.
د- ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: إنّ ما مرّ من الصبر والمصابرة والمرابطة، لا يتحقّق به إلّا بعض الدنيا؛ ولمّا كان الهدف النهائيّ للمؤمنين هو تحصيل السعادة الحقيقيّة في الدنيا والآخرة، عقّب تعالى على الأوامر السابقة بـ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وفيها تنبيهٌ للمسلمين على أن يمتزج الصبر والمصابرة والمرابطة بعنصر التقوى، ولا يشوبها شيء من أنانيّة أو رياء أو دوافع شخصيّة.
جهاد النفس باب مواجهة الأعداء
إنّ وصيّة الله للمؤمنين -أوّلاً- بالصبر والاستقامة (التي تشمل كلّ ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثمّ وصيّته -ثانياً- بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، تفيدان أنّ الأمّة ما لم تتغلّب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخليّة، يستحيل انتصارها على الأعداء؛ وهذا يعني أنّ أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما سببه ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس، وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنّ المهمّ في الجهاد، وفي كلّ مواجهة، هو مجاهدة النفس، والتغلّب على الذات، فمَن لا يستطيع التغلّب على نفسه، ومواجهة الوحوش الضارية التي تستبدّ بالنفس الإنسانيّة، وتميل بها إلى الشهوات ورغد العيش، لا يمكنه الوقوف في ميدان الحرب ولا الثبات في مواجهة العدوّ.
إذاً، الشرط الأوّل للجهاد في مواجهة «عدوّ الله» هو جهاد «العدوّ الباطنيّ»؛ فإذا لم تنتصر على هذا العدوّ الأخير، لا يمكنك التصدّي للعدوّ الأوّل؛ هذا هو أصل الجهاد»[14].
ورابطوا إمامَكم المنتظَر
جاء عن الإمام الباقر % -في معنى: ﴿وَرابِطُوا﴾[15]- قوله: «ورابطوا إمامَكم المنتظَر»[16]، وعن الإمام الصادق % -عندما سُئل عن قوله تعالى: ﴿وَرابِطُوا﴾- قال: «المقام مع إمامكم»[17].
ويُفهم من هذا، أنّ «المرابطة» في غيبة الإمام المنتظر .، تعني امتلاك الأمّة رصيداً كبيراً من الإحساس بالمسؤوليّة، يحملها على تحصين ساحتها بالإعداد العسكريّ، الذي يُمكّنها من حماية ثغورها، والمرابطة عليها في مواجهة كلّ قوى الكفر والنفاق.
وخلاصة القول: إنّ المجتمع الذي يريده صاحب الزمان . هو المجتمع الذي يحمل أفراده مشعل الصبر في طريق تزكية النفس ومحاربة إبليس وجنوده، ومواجهة نوائب الدهر، ويُصابِر بعضُهم بعضاً، ويوجدون الوحدة والاتحاد بينهم، ويرابطون على الثغور الفكريّة والعسكريّة، ويستعدّون على أمل ظهوره المبارك.
[1]سورة آل عمران، الآية 200.
[2] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص46.
[3] المصدر نفسه، ص18.
[4] الشهيد الثاني، مسكّن الفؤاد، مصدر سابق، ص50.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص469، الحكمة 4.
[6] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص146.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص96.
[8] السيد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص499، الحكمة 153.
[9] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت ( لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج1، ص300.
[10] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1369هـ - 1950م، لا.ط، ص71.
[11] ما تحت هذا العنوان، مستفاد من تفسير الآية في: تفسير الميزان، والأمثل، والنور (بتصرُّف)؛ فراجع.
[12] سورة آل عمران، الآية 200.
[13] الطبرسيّ، الشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج على أهل اللجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج2، ص155.
[14] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، تفسير سورة براءة، ص513.
[15] سورة آل عمران، الآية 200.
[16] النعمانيّ، الشيخ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم، الغَيبة، تحقيق فارس حسون كريم، أنوار الهدى، إيران - قمّ، 1422ه، ط1، ص34.
[17] العيّاشيّ، محمّد بن مسعود بن عيّاش السلميّ السمرقنديّ، تفسير العيّاشيّ، تحقيق الحاج السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1422ه، ط1، ج1، ص213.
30
الموعظة الثامنة: دور عاشوراء في التمحيص والابتلاء
الموعظة الثامنة
دور عاشوراء في التمحيص والابتلاء
هدف الموعظة
تسليط الضوء على البعد القياديّ في شخصيّة الإمام الحسين %، وبيان فرادة هذه القيادة في مواجهة الظلم والانحراف، مع توضيح الرؤية الإصلاحيّة التي حملها الإمام % كهدفٍ محوريّ لنهضته، والإشارة إلى موقع التمحيص والابتلاء في هذا المسار، وما يترتّب عليه من نتائج تربويّة وإيمانيّة في بناء الأمّة الحسينيّة الرافضة للذلّ والخضوع.
محاور الموعظة
1. الحسين % القائد
2. الثورة وتجلّيات القيادة الحسينيّة
3. الحسينيّون أهل العزّة
4. عاشوراء والتمحيص والابتلاء
تصدير الموعظة
مسلم بن عوسجة: «أنخلي عنك، ولَمَّا نُعذَرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك؟! أَمَا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نُخْلِيْكَ حتّى يعلمَ الله أنْ قد حفظنا غيبة رسول الله - فيك. والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً»[1].
إنّ ثورة الإمام الحسين % نموذج من الثورات الفريدة في تاريخ البشريّة؛ إن لجهة مبادئها، أو لجهة أهدافها، أو لجهة قائدها وشهيدها سيّد شباب أهل الجنة، أو لجهة تفاني شهدائها، أو لجهة نتائجها وآثارها... وهذه الفرادة الناصعة جعلت من عاشوراء مدرسةً في مواجهة الظلم والظالمين في كلّ زمان ومكان، وأسّست لنهج التضحية والإيثار في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى مهما علت درجة التمحيص والابتلاء.
الحسين % القائد
صحيح بأنّ ذكر الإمام الحسين % يحرّك في النفوس جنبة اللوعة والحزن، لكن من الخطأ اختصار هذه الشخصيّة بالمصيبة والعزاء والحزن، مع كلّ ما في العزاء من قيمة وأثر في النفوس والقلوب. كيف ذلك وهي الشخصيّة التي تجلّى فيها خصال أبيه أمير المؤمنين % وأمّه فاطمة &، وجدّه رسول الله -، فهو مجمع الطهر والكمال. وهذا ما يتطلّب الارتباط بكلّ جانب من جوانب شخصيّته المشرقة التي يمكن جمعها في جنبتين:
الأولى: الإطلالة على شخصيّته القياديّة %؛ التي اجتمع فيها إلى جانب الإيمان، قوّة الإرادة، الإباء عن الضيم، الشجاعة والثبات، الصراحة، الصلابة في الحقّ، الصبر. وقد وصفه ابن أبي الحديد المعتزليّ بقوله: «سيّد أهل الإباء، الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف اختياراً على الدّنيّة، أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عُرِض عليه الأمان هو وأصحابه، فأنف من الذلّ...»[2].
الثانية: الإطلالة على الخصال الجامعة في شخصيّته %؛ من خلال معرفة الحسين العابد والعارف، والحسين القائد، والحسين الثائر على الظلم، والحسين المجاهد الشجاع الذي لا يأبه الموت ولا يخافه، والحسين المصلح الاجتماعيّ، والحسين المربّي والمرشد الأخلاقيّ، والحسين حامل راية الدفاع عن الإسلام والمقدّسات والأنفس والأعراض، والحسين صاحب المشروع التغييريّ والرؤية الثاقبة لإصلاح دين جدّه رسول الله -.
الثورة وتجلّيات القيادة الحسينيّة
كثيرة هي المواقف التي تتجلّى فيها عظمة الشخصيّة القياديّة الجامعة للإمام الحسين %، ومن أبرزها:
1. تحديد هدف خروجه المبارك
أعلن % بعد الشّهادة بوحدانيّة الله ورسالة النبيّ - أهدافه بوضوح قائلاً: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد -...»[3]، ومن الواضح أنّ الإصلاح ليس بالأمر الهيّن، لأنّه يعبّر عن ثورة ومواجهة مع أعتى طواغيت الأرض في ذلك الزمان الذين حرّفوا دين الإسلام، وعاثوا في الأرض فساداً، وأفسدوا الحرث والنسل... والإصلاح يقتضي اجتثاث الظلم والفساد وإرساء العدل والصلاح؛ ولهذا يكمل % بقوله: «أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ ﴿وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾[4]»[5].
وهذا ما نفهمه من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في سياق حديثه عن أهداف ثورة الإمام الحسين %، حيث رأى: «أنّ ثورة الإمام الحسين % كانت لتأدية واجبٍ عظيمٍ، وهو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ إلى الخطّ الصّحيح أو الثّورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلاميّ. وهذا ما يتمّ عن طريق الثّورة وعن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تكون نتيجتها إقامة الحكومة، وقد تكون الشهادة، وقد كان الإمام الحسين % مستعدّاً لكلتا النتيجتين. والدليل على ذلك هو ما يُستنتج من أقوال الإمام الحسين %»[6].
ومن الواضح أنّ مثل هذا الخيار محفوف بالتضحيات وعظيم التمحيص والابتلاء، والذي تجلّى بارتقاء الإمام الحسين % وخيرة أبناء الرسالة من أصحابه وأنصاره وأهل بيته من بني هاشم شهداء في سبيل الإسلام.
2. موقف الحسين %: مثلي لا يبايع مثله
ذكر المؤرّخون إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية- أن يأخذ على الحسين % بالبيعة له، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك[7]. وذكرت مصادر تأريخيّة اُخرى أنّه جاء في الرسالة: «إذا أتاك كتابي هذا، فأحضِر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث إليّ برأسيهما، وخذ الناس بالبيعة، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم»[8].
فأجابه الإمام الحسين % قائلاً: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح اللّه، وبنا ختم اللّه، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة»[9]. وقال % لمحمّد بن الحنفيّة: «يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى، لما بايعت -والله- يزيد بن معاوية أبداً»[10].
اعتبر % أنّ البيعة تعني إعطاء الشرعيّة لسلطة بني أميّة، ولذلك أعلن رفضها ليكون ذلك بمثابة عدم اعتراف بمشروعيّة السلطة والواقع ومنطق الغلبة المفروض.
وخلاصة الموقف: إنّ حركة الإمام % الإصلاحيّة تنظر إلى تحقيق الهدف المتمثّل بالإصلاح، بصرف النظر عن الوصول
إلى الحكم حتماً أو إلى الشهادة حتماً، فقد تساعد الظّروف بحيث يصل إلى سدّة الحكم ويمسك بزمام السلطة، وقد لا يمكنه ذلك ويستشهد، وفي كلتا الحالتين تكون الثورة لأجل الإصلاح. ويرافقها التمحيص والابتلاء للمسلمين جميعاً، إذ كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل، ألم يأتِ عن رسول الله -: «ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت»[11]، وعن الإمام الصادق %: «إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل»[12] من الأوصياء والأولياء، الذين نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كما نزلت في الرخاء[13].
الحسينيّون أهل العزّة
«هيهات منّا الذلة» ليست شعاراً شكليّاً رفعه الإمام الحسين %، بل هو نهج أرسى أسسه وخطّه بدمه الطاهر للأمّة ولكلّ الأجيال القادمة، بأن الذلّ والخضوع للظالم لا مكان له في قاموس المجاهدين الحسينيّين؛ لأنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما صرح الذكر الحكيم، وكما ورد عن رسول الله -: «مَن أصبح من أمّتي وهمّته غير الله فليس من الله، ومن لم يهتمّ بأمور المؤمنين فليس منهم، ومن أقرّ بالذلّ طائعاً فليس منّا أهل البيت»[14]؛ ولهذا أعلنها الإمام الحسين % عندما توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربة الإمام % وطاعة يزيد الفاسق، بقوله: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهُرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر»[15].
عاشوراء والتمحيص والابتلاء
1. مفهوم الابتلاء: جاءت كلمة الابتلاء في اللغة بمعنى: «بلوت الرجل وابتليته، اختبرته. وابتلاه الله امتحنه، والبلاء يكون بالخير والشرّ»[16]، وكلمة الابتلاء تتعلّق بالبلاء والامتحان والمصيبة، والاختبار في السرّاء والضرّاء، ويدلّ الابتلاء في الأصل على الاختبار والامتحان، «يُقال: بلوته أبليته وابتليته، والمعروف أنّ الابتلاء يكون في الخير والشَّرّ معاً من
غير فرق بين فعلهما، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[17]. وإنّ الابتلاء سنّة الله في خلقه، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[18]، وفي موضع آخر من سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[19]، وتمثّل سنّة الابتلاء سنّة اجتماعيّة تاريخيّة، لا تنفكّ عن كلّ إنسان، فهي ليس من سبيل الصدفة والعبثيّة، بل هي حكمة الله ومقاديره الجارية في الكون والحياة والتاريخ، تعقب تصرّفات الإنسان وأفعاله، وهي تتميّز بالاطّراد، والعموم والثبات، وهي ليست دوماً ضرباً من العقاب والخزي، بل امتحان من الله للتطهير والتهذيب والتمكين في الأرض؛ ليتبيّن في هذا الامتحان من يصبر في حالة الشدّة، ومن يشكر في حالة الرخاء والنعمة.
2. موقع عاشوراء في ضوء سنّة الابتلاء
ونكتفي بنموذج ولاية الأصحاب وتفانيهم: البيعة في الإسلام لا تعتبر طريقة في انتخاب الحاكم، بل هي أسلوب لترسيخ حكومة الإمام اللائق لهذا المنصب على أساس محور الشرع وحكم الله. وفي تاريخ الإسلام هناك بيعة العقبة، وبيعة الرضوان وغيرهما. ويحكم القرآن الكريم بأنّ مبايعة النبيّ مبايعة الله، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾[20]. وفي ليلة عاشوراء أثنى الإمام الحسين % على وفاء أصحابه، ودعا الله لهم بخير الجزاء، ثمّ إنّه رفع عنهم البيعة ليتّخذ كلّ من يشاء منهم ظلام الليل ستراً وينجو بنفسه، فقال لهم: «أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً»[21].
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ '، واتّبعته الجماعة عليه، فتكلّموا بمثله ونحوه. وهكذا قام أنصاره الواحد تلو الآخر، أعلنوا له وفاءهم بالعهد ووقوفهم إلى جانبه حتّى الشهادة. ويختصر هذا المشهد عظمة الولاية لإمامهم، ويبدّل المشهديّة من حالة الاختبار والامتحان إلى حالة التسليم والانقياد، مع اليقين بأنّ الشهادة على بعد خطوات منهم جميعاً.
[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص92.
[2] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفيّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج1، ص302.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.
[4] سورة الأعراف، الآية 87.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.
[6] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 09/06/1995م.
[7] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص215.
[8] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص32.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص325.
[10] المصدر نفسه، ج44، ص329.
[11] ابن شهرآشوب مناقب آل أبي طالب (، مصدر سابق، ج3، ص42.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص252.
[13] ابن همام الإسكافيّ، محمّد بن همام بن سهيل، التمحيص، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهديّ .، إيران - قمّ، 1404ه، ط1، ص4.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص162.
[15] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص59.
[16] راجع: ابن منظور، العلامة محمّد بن مكرم الإفريقي المصريّ، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قمّ، 1405ه، لا.ط، ج14، ص83.
[17] سورة الأنبياء، الآية 35.
[18] سورة الإنسان، الآية 2.
[19] سورة الملك، الآية 2.
[20] سورة الفتح، الآية 10.
[21] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص91.
34
الموعظة التاسعة: زينبُ الكبرى : صبرُ الرسالة وشجاعةُ البقاء
الموعظة التاسعة
زينبُ الكبرى &: صبرُ الرسالة وشجاعةُ البقاء
هدف الموعظة
إبراز شخصيّة السيّدة زينب & في صبرها وثباتها ودورها المحوريّ في كربلاء وما بعدها، باعتبارها أنموذجاً للجهاد بعد الشهادة، وتبيان عمق أثرها في حفظ الرسالة وإحياء الدين.
محاور الموعظة
1. تجلّي المعادن في المحن
2. زينب &: الصبر في عمق المصيبة
3. بين خطرين عظيمين
4. رؤية الحسين % للمستقبل
5. شجاعة وبيان لا نظير لهما
6. لا تمحو ذكرنا
7. الجمال في سبيل الله
تصدير الموعظة
قال الإمام زين العابدين % لعمّته زينب &: «وأنتِ -بحمدِ اللهِ- عالمةٌ غيرُ معلَّمة، فهِمةٌ غيرُ مفهَّمة، إنّ البكاءَ والحنينَ لا يردّانِ مَنْ قدْ أبادَهُ الدهرُ!»[1].
تجلّي المعادن في المحن
تمرّ على الإنسان في حياته محنٌ وأزمات، تختبر معدنه، وتُظهر جوهره، وتُفصح عن مدى صلابته في مواجهة التحدّيات. ففي لحظات المعاناة والشدّة، تحتدم المشاعر، وتُثار المشكلات، وتختلط الأمور، وتضيع البوصلة عند كثيرين، إلّا مَن ثبّت الله قلوبهم بالإيمان، وربط عليها بنور البصيرة، كما قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾[2].
بهذا الثبات، يظهر الفرق بين الذهب والحديد، بين مَن ينكسر في العاصفة، ومَن يصمد ويواجه. وقد قال الإمام
الصادق %: «الناسُ معادنُ، كمعادنِ الذهبِ والفضّةِ»[3].
زينب &: الصبر في عمق المصيبة
ومن أصفى تلك المعادن وأشدّها لمعاناً في تاريخنا، السيّدة زينب &، التي كانت النموذج الأتمّ للمرأة المسؤولة، الثابتة على المبدأ، الراسخة في الإيمان، الشجاعة في مواجهة الظلم، الواعية لمسؤوليّاتها في أحلك الظروف.
لقد مرّت بمراحل متعدّدة من الألم والعذاب، منذ خروج الإمام الحسين % إلى كربلاء، ومروراً بيوم العاشر، وما تبعه من سبيٍ وظلمٍ وجراح. واجهت كلّ ذلك من دون أن تتزلزل أو تتراجع، بل حملت شعلة الثورة في قلوب الظالمين.
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «السيّدة زينب & حفظت لنا كربلاء على مدى التاريخ وإلى قيام الساعة، وما قدّمته لم يكن من موقع المؤرِّخ ولا الشاهد الحياديّ، بل كانت في قلب الحدث، وقد استطاعت بصوتها ووقفتها وصرختها وصبرها، أن ترسم خطّاً ثابتاً طوال التاريخ، وأن يصبح موقفها مغيرِّاً لمعادلات الصراع والتاريخ، وأن تصبح أنّاتها وكلماتها باعثةَ هذا الشعور القويّ وهذا الصبر الجميل في قلوب النساء وأمّهات الشهداء طوال التاريخ»[4].
بين خطرين عظيمين
كانت السيّدة زينب & تدرك عِظَم التحدّي الذي تواجهه، إذ لم يكن الخطر مقتصراً على حياة أهل البيت (، بل كان أعظم من ذلك بكثير.
كان الخطر الأوّل: ضياع الإسلام ذاته، كما أشار الإمام الحسين % حين قال: «إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلامِ السلام، إذْ قدْ بُلِيتِ الأمّةُ براعٍ مثلِ يزيدَ»[5].
وأمّا الخطر الثاني، فهو اجتثاث الإمامة والوصاية من جذورها، وقتل النور الهادي الذي أودعه الله في عترة نبيّه. ولأجل ذلك، فإنّ زينب & لم تكن مجرّد أخت شهيد، بل كانت رأس الحربة في المعركة الثانية بعد عاشوراء، معركة الحفاظ على جوهر الثورة وهويّتها الرساليّة.
رؤية الحسين % للمستقبل
كان الإمام الحسين % يعلم بأنّ النصر الحقيقيّ لا يكون بالنجاة الظاهريّة، بل بالثبات على الحقّ. وقد كتب في
رسالته لبني هاشم: «مَن لحقَ بي استُشهد، ومَن تخلّفَ عنّي لم يبلغِ الفتحَ»[6]؛ أي إنّ الشهادة في ركب الحسين % هي عين الفتح، وأمّا السلامة من دون موقف، فهي خسران.
وحين سُئل % عن خروجه مع النساء، قال: «إنّ اللهَ قد شاء أن يراهُنّ سبايا»[7].
فسبايا أهل البيت لم يكن وجودهنّ عرضيّاً، بل جزءاً من التدبير الإلهيّ للثورة. وهنا كانت زينب & شريكةً في القيادة، تماماً كما كان الحسين % قائد المعركة العسكريّة.
شجاعة وبيان لا نظير لهما
لقد برزت زينب & في وجه الطغاة بكلماتها، كما برز أخوها بسيفه. يقول حذلم بن ستير: «لَمْ أَرَ خَفِرَةً قَطُّ أَنْطَقَ مِنْهَا، كَأَنَّهَا تُفْرِغُ عَنْ لِسَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ %... فَرَأَيْتُ النَّاسَ حَيَارَى، قَدْ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ»[8].
كانت صاحبة بيان يُزلزل العروش، وشجاعة تهزّ أركان الطغاة، ووعيٍ رساليّ لا يُقدَّر بثمن. وقد شهد لها الإمام زين العابدين %: «وأنتِ -بحمدِ اللهِ- عالمةٌ غيرُ معلَّمة، فهِمةٌ غيرُ مفهَّمة»[9].
لا تمحو ذكرنا
لقد اختزلت زينب & بعبارتها الخالدة في قصر يزيد كلّ معنى النصر والبقاء، فقالت: «فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا»[10].
فقد يُقتل الجسد، لكنّ الرسالة لا تُقتل. وقد يُسفك الدم، لكنّ النور لا يُطفأ.
إنّ ما قالته زينب & قد تحقّق؛ فقد بقي ذكر الإمام الحسين % مناراً، وبقيت كربلاء مدرسةً، وبقيت هي شاهدةً على الخلود.
الجمال في سبيل الله
وحين قيل لها: ما رأيتِ؟ قالت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً»[11]. لا لأنّها لا ترى المصائب، بل لأنّها تنظر بعين الإيمان، وترى في كلّ دمعة وجراح طريقاً إلى الله، وسُلّماً إلى الرضا الإلهيّ.
وهذا هو معنى الجهاد الأسمى، الذي عبّر عنه الإمام الخمينيّ !: «عندما يُصبح الدافعُ هو الإسلام، يشعر الإنسانُ باللذّة لا الحسرة»[12]؛ لأنّ التضحية في سبيل الله ليست خسارة، بل هي فوز عظيم.
ختاماً
في هذا الزمن، ومع هذه التحدّيات، يتجلّى ذكر كربلاء، وتنهض من جديد روح زينب &، في مقاومينا وشهدائنا وصبر أمّهاتنا. لقد تعلّمنا من زينب أن لا نجزع في المحن، وأن لا ننهزم في الشدائد، وأن لا نُبدّل تبديلاً.
يقول الإمام الخمينيّ !: «إنّ السيّدة زينب (سلام الله عليها) واجهَت يزيد، ووبّخته بشكل لم يسمع بنو أميّة مثله طوال حياتهم. كما إنّ ما تحدّثَت به في الطريق إلى الكوفة وفي الشام، وخطبة الإمام السجّاد % في مسجد الكوفة، أوضحا للناس أنّ القضيّة ليست قضيّة خوارج وخروج على سلطان زمانه خليفة رسول الله، مثلما حاول يزيد تصوير نهضة الإمام الحسين %؛ إذ كشف الإمام السجّاد عن دوافع موقف الإمام الحسين، وكذلك فعلَت الحوراء زينب»[13].
وإنّ ما قالته زينب & ليزيد، نقوله اليوم لكلّ طاغية: «لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا»[14].
[1] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص31.
[2] سورة الأحزاب، الآية 23.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص177.
[4] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 12/10/2018م.
[5] أحمد بن أعثم الكوفيّ، الفتوح، تحقيق عليّ شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1411ه، ط1، ج5، ص17.
[6] الطبريّ، محمّد بن جرير، دلائل الامامة، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1413ه، ط1، ص188.
[7] السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص40.
[8] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الأمالي، تحقيق حسين الأستاد ولي وعليّ أكبر الغفّاريّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص323.
[9] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص31.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.
[11] المصدر نفسه، ج45، ص116.
[12] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ !)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج20، ص170.
[13] المصدر نفسه، ج17، ص51.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.
40
الموعظة العاشرة: أحياءٌ عند ربِّهم
الموعظة العاشرة
أحياءٌ عند ربِّهم
هدف الموعظة
إبراز المقامات الربّانيّة التي يختصّ الله بها الشهداء، من خلال استقراء النصوص القرآنيّة والروائيّة في بيان الأثر الوجوديّ والتكريميّ للشهادة في سبيل الله، وتجلية أبعادها في الدنيا والآخرة، بما يعمّق في وجدان المؤمنين معنى الجهاد والتضحية.
محاور الموعظة
1. الشهادةُ في سبيلِ اللهِ عبورٌ إلى الكمالِ الإنسانيّ
2. مقامُ الهدايةِ والإصلاحِ بعدَ الشهادةِ
3. الجنّةُ الموعودةُ تعريفٌ خاصٌّ للشهداءِ
4. الشهداءُ حاملو سرّ الإحياء الإلهيّ
5. الشهادةُ في كربلاء رمزُ التضحيةِ والفداءِ للأمّة
تصدير الموعظة
﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[1].
الشهادةُ في سبيلِ اللهِ عبورٌ إلى الكمالِ الإنسانيّ
يعِدُ الله تعالى في كتابه الكريم الذين يُقتَلون في سبيله بثلاث عطاءات عظيمة. أوّل هذه العطاءات هي أنّ أعمالهم لا تُضَيّع، بل تُثمر في الدنيا والآخرة. والشهادة في سبيل الله تمثل أسمى صور البذل والعطاء، ومن بين أعظم من قام بذلك في التاريخ هو الإمام الحسين %، الذي استشهد في معركة كربلاء في سبيل إحياء الحقّ والعدل. كان يعلم أنّ مواقفه وأعماله لن تضيع، بل ستثمر في تحقُّق النصر الإلهيّ في النفوس، حتّى وإن كانت النتيجة الظاهرة هي القتل.
قال تعالى: ﴿فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾، وهذه الحقيقة تؤكّد لنا أنّ الأعمال التي تُؤدّى في سبيل الله لا تذهب سدى، بل تُنتج آثاراً عظيمة في الدنيا، حتّى وإن كانت النتيجة الظاهرة هي القتل والموت. فمواقفه % في كربلاء زرعت بذور الإيمان في قلوب المسلمين إلى يومنا هذا.
وكما قال أمير المؤمنين % في وصف الشهادة: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْمَوْتَ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ... وَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ»[2]، فما قدّمه الإمام الحسين % كان من أجل إحياء الحقّ، وما تحقّق من خلاله كان أكبر من مجرّد انتصار مادّيّ.
مقامُ الهدايةِ والإصلاحِ بعدَ الشهادةِ
بعد أن يؤدّي الشهيدُ مهمّته الإلهيّة، ويفارق هذه الحياة، يُغدِق الله عليه ببركات الهداية والإصلاح، إذ يقول تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾. هذه الهداية تأتي بعد الشهادة، ليجد الشهيد نفسه في حالة من السكينة والطمأنينة، يستحقّ بها المقام الرفيع عند الله.
في واقعة كربلاء، الإمام الحسين وأصحابه الأوفياء (، برغم ما لقوه من ألمٍ وعذابٍ، كانوا يُحيون بذلك المسار الجهاديّ الرفيع؛ فقد منحهم الله الهداية الكاملة، وأصّل في قلوبهم رسوخ الإيمان. ما فعله الإمام الحسين % في كربلاء كان أكثر من مجرّد معركة، كان فتحاً للقلوب والعقول، يُصلِح به الله حال الأمّة الإسلاميّة.
ويُشير الإمام عليّ % في حديثه عن فضل الشهادة: «لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى فِرَاشٍ»[3]، ويؤكد بذلك أنّ الشهادة ليست نهاية، بل بداية لإصلاح نفسيّ وروحيّ في القرب من الله.
الجنّةُ الموعودةُ تعريفٌ خاصٌّ للشهداءِ
لقد وعد الله الشهداء بالجنّة، وهي الجائزة الكبرى التي أعدّها الله لهم، وقد ورد في القرآن الكريم: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾. ومع أنّ الجنّة هي مكافأة لجميع المؤمنين، فإنّ للشهداء فيها منزلة خاصّة، حيث يُعرِّف لهم أماكنهم في الجنّة، وما هي إلّا دليل على المكانة الرفيعة التي يحتلّها الشهداء.
إنّ هذه الحقيقة تتجلّى في شجاعة الإمام الحسين % في كربلاء، الذي كان يعلم أنّ فدائيّته في سبيل الله ستؤدّي به إلى مكانة عظيمة في الجنّة. فقد كان يعرف مكانه في الجنّة ومكانة أصحابه الأوفياء، الذين ضحّوا بحياتهم من أجل نصرة الحقّ. وعندما خرج الإمام الحسين إلى كربلاء، كان يسير على يقين بأنّ هذا الطريق هو طريق الجنّة التي بشره الله بها، وقد كان مصير أصحابه من الشهداء كذلك.
قيل للإمام الصادق %: أخبرني عن أصحاب الحسين % وإقدامهم على الموت، فقال: «إنّهم كُشف لهم الغطاء،
حتّى رأَوا منازلهم من الجنّة»[4].
هكذا كان يعرف الإمام الحسين وأصحابه ما ينتظرهم، وهم يسيرون نحو مصيرهم المشرق برغم كلّ المحن التي واجهوها في كربلاء.
الشهداءُ حاملو سرّ الإحياء الإلهيّ
إنّ الشهداء عند الله أحياء يُرزَقون، كما قال تعالى: ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[5]. وهذه الحقيقة تُظهر أنّ الشهداء يعيشون حياةً معنويّة قريبة من الله، ويُرزَقون من نعم الله التي لا تُعدّ ولا تُحصى. فحياة الشهيد هي حياة متجدّدة في قربه من الله، وهو في حالة من الرزق الإلهيّ المستمرّ.
الإمام الخمينّي ! وصف هذا المعنى بالقول: «ما الّذي بوسعِ إنسانٍ قاصرٍ مثلي أنْ يقولَ عنِ الشهداءِ الأعزّاءِ، الّذين قالَ اللهُ تعالى في شأنِهِم: ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾؟ وهلْ يمكنُ بالقلمِ والبيانِ التعبيرُ عنِ الالتحاقِ باللهِ واستضافةِ مقامِ الربوبيّةِ للشهداءِ؟»[6].
وبهذا يكون الشهداء قد وصلوا إلى مقامٍ لا يمكن للبشر تصوّره، مقام الشرف الذي لا تدركه العقول إلّا عن طريق الإيمان الكامل بالله وبالرسالة.
الشهادةُ في كربلاء رمزُ التضحيةِ والفداءِ للأمّة
إنّ الشهادة في سبيل الله هي الرؤية الواضحة التي تسعى لتحقيق العدالة والمساواة في الأرض، ولا شكّ في أنّ كربلاء تمثّل هذه الرؤية في أبهى صورها. وما قدّمه الإمام الحسين وأصحابه ( في يوم عاشوراء هو أكبر من مجرّد حدث تاريخيّ، إنّه درس مستمرّ في التضحية والفداء.
فالشهداء في كربلاء قدّموا حياتهم ليعيش الإسلام، وتُحيي الأمّة من جديد، متمثّلة فيهم مواقف التضحية التي تجعلنا نستمرّ في مسيرتنا نحو الحقّ والعدل، مهما كانت الصعوبات. فالشهادة في سبيل الله ليست فقط موتاً، بل هي حياة في سبيل الله.
[1] سورة محمّد، الآيات 4 - 6.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص54.
[3] المصدر نفسه.
[4] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص229.
[5] سورة آل عمران، الآية 169.
[6] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج17، ص116.
44
الموعظة الحادية عشرة: الجهاد في سبيل الله بين فقه الشهادة ومقامات النصر
الموعظة الحادية عشرة
الجهاد في سبيل الله بين فقه الشهادة ومقامات النصر
هدف الموعظة
بيان منزلة الجهاد وأبعاده التربويّة والروحيّة والفقهيّة، وتسليط الضوء على صلته الوثيقة بالنهضة الحسينيّة المباركة، وبيان أثر الشهادة في تحقيق النصر، وربط ذلك بواقعنا المعاصر وحاجتنا إلى إحياء روح كربلاء في سلوكنا ومواقفنا.
محاور الموعظة
1. شروط الجهاد ومقوّمات النصر
2. الشهادة بوّابة النصر
3. شهداؤنا على نهج كربلاء
تصدير الموعظة
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾[1].
منزلة الجهاد في القرآن والروايات
الجهاد في سبيل الله بابٌ من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وسلكه الأنبياء والأوصياء، وجعل الله فيه عزّ الأمة وكرامتها، وذلّ من أعرض عنه وتخلّف عن ساحته. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[2]. وعن أمير المؤمنين %: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الْجِهَادَ وَعَظَّمَهُ، وَجَعَلَهُ نَصْرَهُ وَنَاصِرَهُ. وَاللَّهِ، مَا صَلَحَتْ دُنْيَا وَلَا دِينٌ إِلَّا بِهِ«[3].
وهو في ذاته تجارة مع الله، لا تبور، ولا يخسر فيها مَن باع نفسه لله، بل يربح فوزاً عظيماً لا يُقاس بالمقاييس المادّيّة. لذا، لا عجب أن يكون الجهاد في نهج كربلاء هو جوهر المسير، وعنوان النهضة، وسرّ البقاء.
شروط الجهاد ومقوّمات النصر
لكي يكون الجهاد في سبيل الله جهاداً مقبولاً ومؤثّراً، لا بدّ من توفّر شروط أساسيّة تضمن صحّته وثمرته. وقد بيّنت النصوص المباركة هذه الشروط وأكّدتها، وهي مترابطة ومتكاملة:
1. الانضواء تحت راية الحقّ
الجهاد لا يُشرَّع من ذات الإنسان، بل لا بدّ أن يكون تحت راية الحق. وهذا ما أوضحته دعوات الأئمّة (، كما في دعاء الإمام زين العابدين %: «أن تجعل وفاتي قتلاً في سبيلك مع أوليائك تحت راية الحقّ من أهل بيت نبيّك»[4]. راية كربلاء هي تجسيدٌ لهذه الحقيقة؛ لم يكن خروج الحسين إلّا لإحياء راية الحقّ بعدما خبا نورها، واندثر هدْيها تحت وطأة الانحراف الأمويّ.
2. الالتزام بطاعة القيادة
الجهاد لا يثمر إلّا تحت قيادة شرعيّة تحفظ وحدة الصف، وتسدّ أبواب الفشل، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[5]. ولذا، كان أصحاب الحسين % مثالاً في الطاعة والولاء، إذ سلّموا نفوسهم بين يدي قائدهم وارتقَوا في مدارج العشق واليقين.
3. إخلاص النيّة لله
النيّة أساس القَبول، ولا يُقبل من العمل إلّا ما كان خالصاً لله، كما جاء عن الإمام الصادق %: «قال الله عز وجل: أَنا خيرُ شريك، مَن أشرك معي غيري في عملٍ عَمِلَهُ لم أَقبله، إلّا ما كان لي خالصاً»[6]. فالجهاد لا يكون طاعةً إلّا إذا خُضْناه بعشق القرب، لا رياءً أو جاهاً.
4. الصبر روح الجهاد
الصبر أساس النجاح في ساحات القتال، قال تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[7]، وجاء عن الإمام الصادق %: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد»[8]. كربلاء مدرسة في الصبر، إذ صبر الحسين على عطش الأطفال، وصبر زينب على المصاب، وصبر العباس حتّى سقطت الراية.
5. التوكّل على الله
التوكل قوّة روحيّة تجعل المجاهد فوق الحسابات المادّيّة، وتربطه بالمدد الإلهي، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[9]. قال الإمام الكاظم %: «مَن أراد أن يكون أقوى الناس، فليتوكّل على الله»[10]. الحسين خرج وهو يعلم قلّة العدد، لكنّه خرج واثقاً بنصر الله، ومتوكّلاً عليه.
الشهادة بوّابة النصر
في المفهوم الإلهيّ، لا تعني الشهادة نهاية المعركة، بل هي ذروة النصر. فمَن قُتِل دون دينه أو عرضه أو وطنه فهو شهيد، كما في الحديث عن الإمام الرضا %: «وَمَنْ قَاتَلَ فَقُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَرَحْلِهِ وَنَفْسِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»[11]. والشهادة أرفع مراتب البرّ، قال رسول الله -: «فوق كلِّ ذي بِرٍّ بِرّ، حتّى يُقتَل الرجلُ في سبيل الله، فإذا قُتِل في سبيل الله، فليس فوقه بِرّ»[12].
كربلاء أكّدت هذه الحقيقة؛ لم يكن النصر فيها نصراً عسكريّاً، بل كان نصراً رساليّاً باهراً، لا يزال صداه يهزّ العروش، ويوقظ الضمائر. يقول الإمام الخمينيّ !: «كان يعلم [الإمام الحسين %] بأنّه لا يمكن مواجهة هذا الظالم بهذا العدد القليل... ولكنّه كان يعلم جيّداً أن الاستشهاد في سبيل الله هو الّذي يحقّق النصر»[13].
شهداؤنا على نهج كربلاء
في ظلّ راية الإمام الحسين %، مضى شهداؤنا من القادة والمجاهدين، يسيرون على خُطى الأوفياء، ويقارعون الظالمين. هؤلاء هم ورثة الحسين، يروْن دماءهم طريقاً للتمكين، ويوقنون أنّ العزّة لا تُنال إلّا بالتضحية.
يقول شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «شهداؤنا وجرحانا وأسرانا وعوائلنا المضحّية ومجاهدونا الذين ملؤوا الساحات الصابرون والثابتون في مواجهة كلّ فتنة، هم الشاهدون على وفاء بيعتنا للإمام الحسين %»[14].
[1] سورة الأنفال، الآية 65.
[2] سورة التوبة، الآية 111.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص8.
[4] الإمام زين العابدين %، الصحيفة السجاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحد الابطحي الأصفهانيّ، نشر مؤسّسة الإمام المهديّ % ومؤسّسة الأنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1411ه، ط1، ص262.
[5] سورة الأنفال، الآية 46.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص295.
[7] سورة البقرة، الآية 153.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص87.
[9] سورة هود، الآية 123.
[10] عليّ بن بابويه القمي، فقه الرضا (الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا %)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ( لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1406ه، ط1، ص358.
[11] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، مصدر سابق، ص419.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص348.
[13] راجع: الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج17، ص54.
[14] من كلامٍ له (رضوان الله عليه) في الليلة العاشرة من محرّم 1444هـ، بتاريخ 08/08/2022م.
47
الموعظة الثانية عشرة: معايير النصر في الميزان الإسلاميّ بين أداء التكليف وترسيخ الوعي
الموعظة الثانية عشرة
معايير النصر في الميزان الإسلاميّ
بين أداء التكليف وترسيخ الوعي
هدف الموعظة
تعريف مفهوم النصر والهزيمة من منظورٍ إسلاميٍّ قرآنيٍّ وروائيٍّ بعيدٍ عن المقاييس المادّيّة الظاهريّة، وذلك عبر إبراز المعايير الأساسيّة التي تشكّل حقيقة النصر في الميزان الإلهيّ.
محاور الموعظة
1. معايير النصر وفق الفهم الإسلاميّ
2. أداء التكليف
3. التزام المجتمع بإحقاق الحقّ وإبطال الباطل
4. ترسخ مشروع الحقّ وقضيّته في وعي الناس
5. انتصار إرادة الحقّ على قوة الباطل: شواهد من العصر الحديث
تصدير الموعظة
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[1].
معايير النصر وفق الفهم الإسلاميّ
كثيراً ما يُثار التساؤل بعد كلّ مواجهة أو صراع: هل انتصرنا أم هُزمنا؟ وقد طُرح هذا السؤال بإلحاحٍ كبير في الأوساط الفكريّة والثقافيّة والإعلاميّة بعد معركة «أولي البأس»، التي مثّلت محطّة مفصليّة في تاريخ المواجهة مع العدوّ؛ إذ لم يبقَ الحديث مقتصراً على أهل الاختصاص، بل شغل الرأي العامّ بكلّ فئاته، وصار كل فرد يُشكّل قناعة شخصيّة تجاه ما جرى، إمّا على أساس العاطفة والانتماء، أو بناءً على التحليل السياسيّ والعسكريّ.
لكنّ السؤال الأهمّ الذي يستدعي التوقّف عنده: ما معايير النصر والهزيمة في الفهم الإسلاميّ؟ هل يُقاس النصر بالسيطرة الجغرافيّة، أم بعدد الضحايا، أم بالتأثير المعنويّ والرمزيّ؟ وهل تعني الهزيمة دائماً تراجعاً وانكساراً؟
لذلك، نحاول نعيد صياغة السؤال في ضوء القرآن الكريم، وسنّة النبيّ الأكرم -، وروايات أهل البيت (، في محاولةٍ
لتأسيس فهم إسلاميّ أصيل لمفهومَي النصر والهزيمة، بما يتجاوز الأبعاد الظاهريّة. وسنعرّج على بعض النماذج التطبيقيّة من السيرة النبويّة والإماميّة.
أداء التكليف
ينبغي أن نُدرك جيّداً أنّ النصر في المنظور الإسلاميّ الواقعيّ لا يُقاس فقط بالنتائج الظاهرة أو الانتصارات الميدانيّة، بل يقوم على مجموعة من الأسس والمعايير التي تحدّد ما إذا كنّا حقّاً قد انتصرنا. وأوّل هذه الأسس أداء التكليف.
فالإنسان المسلم، حين ينهض بمسؤوليّته تجاه القضايا العادلة، ولا يتخاذل أمام الظلم، ولا يتردّد في قول كلمة الحقّ، يكون قد حقّق أولى درجات النصر. ونحن أبناء مدرسة تؤمن بأنّ الواجب الأوّل على كلّ مسلم في هذه الحياة هو أداء ما كُلّفنا به من الله، والسعي في طريق الحقّ، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، من دون أن نُشغل أنفسنا دائماً بنتائج العمل، فالثمرة النهائيّة بيد الله وحده.
إنّ هذا الفهم لا يعني التقاعس عن الإعداد أو التوكّل السلبيّ، بل يعني أن نبذل جهدنا ونُعدّ لعدوّنا ما استطعنا من قوّة، ثمّ نترك ما لا نملكه -وهو النتائج- إلى الله سبحانه. من هنا، فإنّ الالتزام بالتكليف يُعدّ في ذاته نصراً معنويّاً وروحيّاً، لأنّه يصبّ في مصلحة الدين والمجتمع، ويعزّز القيم العليا في الأمّة.
ولذلك، نجد أنّ القرآن الكريم قدّم لنا نماذج متعدّدة من المؤمنين الذين واجهوا الطغاة والجبابرة، وقاتلوا من أجل الحقّ، وبرغم اختلاف نهاياتهم وما وصلوا إليه في آخر المطاف -فمنهم من انتصر ظاهراً، ومنهم من استُشهد أو سُجن أو شُرّد- إلّا أنّ كلّ تلك النهايات كانت أشكالاً من النصر الحقيقيّ؛ لأنّها ساهمت في رفع الوعي، وتقوية جبهة الحقّ، وإحياء روح المقاومة والكرامة في الأمّة، والأهمّ من ذلك كلّه يكون الواحد منهم قد أدّى أمام الله تكليفه على أتمّ وجه لا يبتغي إلّا رضاه.
التزام المجتمع بإحقاق الحقّ وإبطال الباطل
من أبرز معايير النصر في الرؤية الإسلاميّة أن يسري الالتزام بالحقّ في وجدان الناس، ويترسّخ في سلوك المجتمع. فكلّما ازداد وعي الناس بأهمّيّة إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، وتدرّجوا في مواجهته -من التشكيك فيه، إلى رفضه، ثمّ تحدّيه، وصولاً إلى مقاومته وإزهاقه- كلّما اقتربوا من النصر الحقيقيّ، الذي لا يُقاس بعدد الغنائم أو حجم الدمار، بل بمقدار ما تغيّر في الوعي الجمعيّ واتّضح من الحقائق.
فالقرآن الكريم لا يصوّر الصراع في الحياة بوصفه صراعاً على الموارد أو الأرض فقط، بل هو في جوهره صراع على العقول والقلوب، وعلى الأفكار والمفاهيم التي تشكّل سلوك الإنسان ومواقفه. ومن هنا، فإنّ كل مواجهة عسكريّة أو سياسيّة، إن لم تترك أثراً في الوعي الإنسانيّ ولم تُفضِ إلى وضوحٍ أكبر بين معسكريّ الحقّ والباطل، فهي ناقصة أو غير مكتملة
في ميزان الإسلام. يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[2]، أي أنّ الغاية من القتال ليست سفك الدماء أو تحقيق انتصارٍ عسكريٍّ فقط، بل هي إزالة الفتنة التي تُضلّل الناس وتحجب عنهم الحقّ، وتثبيت الدين والحقّ في النفوس. وعليه، فإنّ النصر الحقيقيّ يبدأ حين يصبح الناس أكثر إدراكاً لحقيقة الصراع، ويميلون في قلوبهم وعقولهم إلى جبهة الحقّ، ويرفضون أن يكونوا أدوات بيد الباطل.
ومن هنا، تكتسب المعركة الجارية اليوم - نصرةً لغزّة ومواجهةً للعدوّ الصهيونيّ - طابعاً خاصّاً في هذا السياق؛ إذ إنها لا تكشف زيف الباطل فحسب، بل تُفرز المعسكرات بين من يقف مع قيم العدالة والحرّيّة، ومن يبرّر الاحتلال والظلم. إنّها بوابة تاريخيّة لكشف الأقنعة، وفرصة لتعزيز الاصطفاف الأخلاقيّ والروحيّ والدينيّ حول قضيّة الحقّ، ولو بأدنى أشكال المساهمة.
ترسخ مشروع الحقّ وقضيّته في وعي الناس
من أبرز علامات النصر الحقيقيّ في الرؤية الإسلاميّة أن تترسّخ قضيّة الحقّ ومشروعها في وعي الناس، وتتحوّل إلى خيارٍ جماهيريّ، لا مجرّد موقفٍ نخبويّ أو ردّ فعل عاطفيّ. إنّ ما يجب أن نرصده بعد كلّ مواجهة أو صراع، ليس فقط حجم الانتصارات الميدانيّة، بل مدى التغيّر في وعي الجمهور: هل ازداد تمسّكهم بخيار المقاومة؟ هل أصبحت القضيّة أكثر رسوخاً وتجذّراً في النفوس؟ وهل بدأ الحقّ يتمايز أكثر في عيون الناس ويتجلّى أمامهم؟
فإذا أصبحت فكرة المقاومة بعد الحرب أكثر قبولاً، ووجدنا إرادةً شعبيّةً صلبةً وعازمةً على رفض الباطل، ومواجهة الظلم، فهذا هو النصر الحقيقيّ والأعمق، لأنّه يمهّد لمرحلةٍ جديدة من الوعي، ويثبّت الجبهة الثقافيّة والعقائديّة للمواجهة، وهي الجبهة الأطول عمراً والأكثر تأثيراً، يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾[3]، فالحقّ -وإن بدا في لحظاتٍ ضعيفاً أو محاصراً- لكنّه هو ما يبقى، لأنّه يلبّي حاجة الوعي الإنسانيّ، ويجد طريقه في القلوب الصافية والعقول الباحثة عن المعنى، وفي الحديث عن أمير المؤمنين %: «إنما يُنصر الله عباده المؤمنين بما يخرج من قلوبهم من اليقين»[4]؛ فالانتصار لا يتحقّق بالسلاح وحده، بل بما يرسخ في القلوب من إيمانٍ ويقين، حيث يُحوّل الفكرة إلى التزامٍ، والموقف إلى مسيرةٍ، والتاريخ الإسلامي خير شاهد، فقد كانت الأزمات والمحن مفاصل حاسمة في تثبيت الوعي وترسيخ القيم في الأجيال الصاعدة. وكانت قضيّة الإمام الحسين %، رغم ما جرى فيها من مأساة، نصراً استراتيجيّاً للحقّ؛ لأنّها حوّلت القضيّة من معركة إلى مشروع دائمٍ في وعي الأمّة.
وعليه، فإنّ المعيار الثالث للنصر هو أن نرى البصيرة تتعمّق، والفكرة تتجذّر، والأجيال تتبنّى مشروع الحقّ بإصرار، وهذا
هو الرهان الطويل الذي تقوم عليه حركة الأنبياء والأولياء عبر الزمان.
انتصار إرادة الحقّ على قوة الباطل: شواهد من العصر الحديث
في الميزان الإسلاميّ، لا يُقاس النصر فقط بالتفوّق العسكريّ أو بالسيطرة الميدانيّة، بل يُقاس بمدى صمود إرادة الحقّ أمام جبروت الباطل. فالصراع الحقيقيّ هو صراع الإرادات، حيث تتواجه القيم والمبادئ مع القوى المادّيّة. وقد أكّد القرآن الكريم على هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[5]، وهذا يدلّ على أنّ الغلبة ليست مرهونة بالكثرة العدديّة أو بالقوّة المادّيّة، بل بإرادة الله ونصره لمن يحمل الحقّ. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب %: «الْحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، اعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»[6]، وتتجلّى هذه الحقيقة في هذا العصر في عدّة محطات:
- الثورة الإسلاميّة في إيران (1979م): رغم الحصار الشامل والحرب المفروضة من قبل النظام البعثي آنذاك المدعوم غربيّاً وعربيّاً، صمدت الثورة بفضل إرادة شعبها وتمسّكهم بمبادئهم الإسلاميّة، ممّا أدى إلى ترسيخ النظام الإسلاميّ وتعزيز دوره الإقليميّ والدوليّ.
- حرب اليمن: فقد واجه اليمن عدواناً أمريكيّاً بريطانيّاً مباشراً منذ كانون الثاني 2024م، بهدف إسناد العدوّ الإسرائيليّ. ورغم شراسة المعركة، نجحت القوات المسلّحة اليمنيّة في تنفيذ قرار حظر ملاحة السفن المرتبطة بالعدوّ الإسرائيليّ، وأثبتت فشل العدوان الأمريكيّ البريطانيّ على اليمن، وشهدت وقائع غير مسبوقة في تاريخ الحروب بمواجهة الغطرسة الأمريكيّة.
- المقاومة الفلسطينيّة: رغم التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ والدعم الغربيّ، استطاعت المقاومة الفلسطينيّة أن تُحدث توازناً جديداً في الردع، وتفرض معادلات جديدة في الصراع، ممّا جعل القضيّة الفلسطينيّة حاضرة في وجدان الأمة بل في وجدان العالم بأسره، فعادت قضيّة فلسطين جليّة واضحة رغم كلّ التحريف والتشويه الذي دام ما يقارب 75 سنة متواصلة.
هذه الشواهد تؤكّد أنّ النصر الحقيقيّ يتحقّق عندما تنتصر إرادة الحقّ، ويصمد أصحابها أمام التحدّيّات، ممّا يؤدّي إلى تغييرات استراتيجيّة في الوعي والواقع.
[1] سورة محمّد، الآية 35.
[2] سورة الأنفال، الآية 39.
[3] سورة الرعد، الآية 17.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص58.
[5] سورة البقرة، الآية 249.
[6] النيسابوريّ، الشيخ محمّد بن الفتال، روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، تقديم السيّد محمّد مهديّ السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ج1، ص31.
50
الموعظة الثالثة عشرة: معايير النصر في صراع الحقّ والباطل قراءة في فقه المواجهة والمقاومة
الموعظة الثالثة عشرة
معايير النصر في صراع الحقّ والباطل
قراءة في فقه المواجهة والمقاومة
هدف الموعظة
تسليط الضوء على المعايير الإسلاميّة الأصيلة للنصر في سياق الصراع بين الحقّ والباطل، وبيان الفارق الجوهريّ بين منطق النصر في الثقافة القرآنيّة، ومنطق النصر العسكريّ المجرّد، مع ربط ذلك بواقعنا المعاصر.
محاور الموعظة
1. معايير النصر في صراع الحقّ والباطل
2. مفهوم النصر في الحروب اللامتماثلة
3. معايير النصر في الحروب اللامتماثلة
تصدير الموعظة
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[1]
أمير المؤمنين %: «فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا»[2].
معايير النصر في صراع الحقّ والباطل
إنّ النصر في المفهوم الإسلاميّ ليس حكراً على المكاسب العسكريّة أو النتائج الميدانيّة التي تُقاس بعدد القتلى والأسرى أو حجم الأراضي المُحرّرة، بل هو مفهومٌ أشملُ وأعمق، يتجاوز هذه الأطر الضيّقة ليصل إلى الموازين الإلهيّة التي تقيس النصر بمدى تثبيت قيم الحقّ، وفضح جبهات الباطل، وزرع الوعي في ضمير الأمّة. فكم من معركةٍ انتهت بانكسارٍ ظاهريٍّ لقوّة الحقّ، ولكنّها خلّفت في وجدان الأمّة هزّةً عميقةً أيقظت فيها الإيمان، وأعادت تعريف المواجهة، وحدّدت بوضوحٍ من هو العدوّ ومن هو الحليف، ومن يُمثّل المشروع الإلهيّ، ومن يُجسّد مشروع الطاغوت.
وهذا الفهم العميق للنصر هو الذي ينبغي أن يحكم رؤيتنا للصراعات الكبرى، وخاصةً في الصراعات الوجوديّة، التي لا تنحصر في حدود جغرافيّة أو في نزاعٍ على موارد، بل تمثّل تحدّياً لهويّة الأمّة، ووجودها الحضاريّ، وكرامتها الإنسانيّة،
كما هو الحال في الصراع مع الكيان الصهيونيّ. ففي هذا الصراع تتجلّى معايير النصر الإلهيّ بأبهى صورها؛ إذ نرى أنّ كلّ مواجهة، وإن كانت محدودةً، تُسهم في كشف زيف هذا الكيان، وتعرّي حقيقته أمام العالم، وتُرسّخ في وجدان الأمّة ثقافة المقاومة، وتُحيي روح العزّة، وتُثبت أنّنا أمّةٌ لا تُهزم بالرصاص، بل تنتصر بالوعي والبصيرة والثبات على الموقف.
1. انتصار الفكرة وثبات المبادئ: فقد يُهزم أهل الحقّ عسكرياً، لكن تبقى أفكارهم ومبادئهم حيّة، وتنتقل من جيل إلى جيل، بينما يضمحلّ الباطل مهما بلغ من القوّة. قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾[3] فالآية تؤكّد أنّ الباطل زائل، مهما بدا قويّاً.
2. ثبات أهل الحّق وعدم استسلامهم: إنّ الثبات على المبدأ وعدم الانحناء أمام الضغوط يُعد نصراً بحدّ ذاته. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[4]، وعن أمير المؤمنين عليّ %: «أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ»[5].
3. كشف زيف الباطل وإضعاف شرعيّته: كلّما انكشف زيف الباطل وافتضحت أكاذيبه، كلّما اقترب النصر الحقيقيّ. قال تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾[6]، وهذا ما نراه اليوم في انكشاف جرائم الكيان الصهيونيّ أمام العالم.
4. استقطاب الناس إلى جانب الحقّ: كسب العقول والقلوب نحو قضيّة الحق يُعدُّ من أعظم صور النصر. قال تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[7]، وعن الإمام علي %: «وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً»[8].
5. استمرار حركة الحقّ رغم العقبات: استمرار مشروع الحقّ وتجدّده رغم كلّ التحدّيات يُعد نصراً استراتيجيّاً. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[9]، وهذا ما نراه في استمرار المقاومة رغم كلّ المؤامرات التي تحاك ضدّها.
6. تحقيق نتائج استراتيجيّة برغم التضحيات: فالنصر لا يُقاس بنتيجة معركةٍ واحدة، بل بما تحقّقه المعارك المتتالية على المدى الطويل.وفي جوانب متعدّدة، وهذا ما نراه في فشل مشاريع التطبيع رغم المحاولات المكثّفة، وانكشاف القناع
أمام العالم عن بشاعة الوجه الحقيقيّ المجرم للعدوّ الغاشم، والتصدّع الداخلي في الكيان المؤقت على كافة الأصعدة الاقتصاديّة والأمنيّة والسياسيّة، لا سيّما الاختلافات الداخليّة.
هذه المعايير تُبرز بوضوح أنّ النصر في الإسلام ليس مجرّد تفوّق عسكريّ، بل هو انتصار للحقّ في الوعي والواقع، وثبات على المبادئ، وكشف لزيف الباطل، واستقطاب للناس نحو الحقّ، واستمرار في مقاومة الظلم، وتحقيق نتائج استراتيجيّة رغم التضحيّات.
في سياق الحروب اللامتماثلة، حيث تتواجه قوى غير متكافئة من حيث العدة والعتاد، يتجلى مفهوم النصر بمعايير تختلف عن تلك المعتمدة في الحروب التقليديّة. ففي هذه المواجهات، يكفي أن تصمد المقاومة وتحافظ على قدرتها القتاليّة حتّى تُعتبر رابحة. ومن هنا نشأت القاعدة: «إسرائيل تخسر إذا لم تربح، والمقاومة تربح إذا لم تخسر».
مفهوم النصر في الحروب اللامتماثلة
في الحروب التقليديّة، تُقاس الهزيمة بتدمير الجيش أو سقوط الدولة، بينما في الحروب اللامتماثلة، بين جيش غازٍ ومقاومة، يكفي أن تصمد المقاومة وتحافظ على قدرتها القتاليّة حتّى تُعتبر رابحة. ومن هنا نشأت القاعدة: «إسرائيل تخسر إذا لم تربح، والمقاومة تربح إذا لم تخسر»، وذلك وفق المفهوم الآتي:
1. إفشال أهداف العدوّ الاستراتيجيّة: إسرائيل، كطرفٍ مهاجم، تخسر إذا لم تحقّق أهدافها ونصراً واضحاً ومباشراً؛ لأنّها تدخل الحروب لتحقيق أهداف استراتيجيّة مثل: التوسّع، الاحتلال، القضاء على المقاومة، أو تغيير المعادلات لصالحها. فإذا فشلت في ذلك، تُعتبر خاسرةً سياسيّاً وعسكريّاً.
2. صمود المقاومة واستمرارها: أما المقاومة، كطرفٍ مدافع، فيكفيها إفشال الهجوم عليها لتُحسب رابحة، لأنّها لا تحتاج إلى احتلال أراضٍ أو تحقيق مكاسب مادّيّة، بل يكفيها الحفاظ على وجودها واستمرارها في المواجهة، خاصّةً أنّ العدو يدخل الحرب بموارد هائلة ودعم دوليّ، ممّا يجعل صمود المقاومة إنجازاً كبيراً بحدّ ذاته. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمّيّة الصبر والثبات في مواجهة الأعداء، حيث قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[10]،كما ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب % قوله: «فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا»[11] ممّا يدلّ على أنّ النصر قد لا يكون دائماً في كلّ الحروب والصراعات، ولكن الثبات والصبر يؤدّيان في النهاية إلى النصر الحقيقيّ.
معايير النصر في الحروب اللامتماثلة
في هذا النوع من الحروب، لا يُقاس النصر فقط بالسيطرة الجغرافيّة أو عدد القتلى، بل بمعايير أخرى تتناسب مع طبيعة
الصراع، أبرزها:
1. إفشال أهداف العدوّ الاستراتيجيّة: ففي الحروب اللامتماثلة، يكون المعيار الأهمّ للنصر هو إفشال المخطّطات التي وضعها العدوّ في بداية الحرب. فإذا دخل العدوّ الحرب بهدف القضاء على المقاومة، أو فرض تغييرات سياسيّة، ولم ينجح، فإنّه يُعتبر خاسراً.
2. البقاء والاستمرار في القتال: في هذا النوع من الحروب، لا تحتاج المقاومة إلى تدمير جيش العدوّ، بل يكفيها أن تصمد وتبقى على قيد المواجهة. والعدوّ الذي يمتلك جيشاً قويّاً يُعتبر خاسراً إذا لم يستطع إنهاء وجود المقاومة، حتّى لو كان أقوى عسكريّاً.
3. كسر إرادة العدوّ للقتال: فإذا تمكّنت المقاومة من جعل العدوّ غير قادر على الاستمرار في الحرب بسبب الضغط النفسيّ، أو الخسائر الاقتصاديّة، أو الاضطرابات الداخليّة، أو تخلّف جنوده عن القتال، فإنّها عندئذٍ ستكون قد انتصرت.
4. ضرب أصول العدوّ وإفقاده التوازن: إنّ الهزيمة الحقيقيّة لأيّ طرف لا تتمثّل فقط في تكبّده خسائر عسكريّة، وإنّما في ضرب أصوله الاستراتيجيّة ومحور توازنه، بحيث يفقد القدرة على التركيز والمبادرة. حتّى لو امتلك بعض القوّة القتاليّة، فإنّه يصبح فاقداً للتوازن وغير قادر على الاستمرار في المواجهة بفعاليّة، ما يجعله عرضة للانهيار التدريجيّ. وقد أكّد الإمام عليّ % على أهمّيّة الوحدة وعدم التفرقة، حيث قال: «فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ»[12]، ممّا يوضح أن التماسك الداخليّ والثبات على المبدأ من أهمّ عوامل النصر في الحروب، وأنّ التفرقة تؤدّي إلى الهزيمة، وهو ما نشاهده بشكل واضحٍ في مجتمع العدوّ والذي ستظهر آثاره قريباً إن شاء الله تعالى.
في الختام، وبعد كلّ هذه المعايير، هل يمكن القول إنّ المقاومة هُزمت وإسرائيل انتصرت، كما يحاول الإعلام المدفوع والموجّه ترسيخ هذه النتيجة في النفوس؟ كّلا ما دام الإمام الحسين % يعيش في أرواحنا ويجري في دمائنا، وما دمنا نقول كلمة الحقّ ونرفض الذلّ والخنوع ونحمل المبادئ التي نهض من أجلها الحسين %، فإنّنا منتصرون بإذن الله تعالى، وكما قال سيّدنا الأقدس: «إذا انتصرنا فإنّنا منتصرون، وإذا استشهدنا فإنّنا منتصرون».
[1] سورة الحجّ، الآية 40.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص92، الخطبة 56.
[3] سورة الإسراء، الآية 81.
[4] سورة محمد، الآية 7.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص241، الخطبة 166.
[6] سورة الأنفال، الآية 8.
[7] سورة العصر، الآية 3.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص421، الكتاب 47.
[9] سورة الصافات، الآيات 171 - 173.
[10] سورة الحجّ، الآية 40.
[11] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص92، الخطبة 56.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص7092، الخطبة 27.
54
الموعظة الرابعة عشرة: بين البلاء والاستبدال
الموعظة الرابعة عشرة
بين البلاء والاستبدال
هدف الموعظة
بيان فلسفة البلاء في مسيرة أهل الحقّ، ورفض فكرة الاستبدال والخُذلان في ما يصيب المؤمنين من نكبات، وربط ذلك بنهج كربلاء، لتثبيت الإيمان والثقة بحسن العاقبة.
محاور الموعظة
1. ما البلاء؟ ولمن يكون؟
2. ما الحكمة من الابتلاءات المتعدّدة للمؤمن؟
3. البلاء تكريمٌ لا استبدال
4. بلاءٌ يتولّد منه النصر
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّهُ بِالْبَلَاءِ غَتّاً، وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ يَا سَدِيرُ لَنُصْبِحُ بِهِ وَنُمْسِي»[1].
قد يُخيّل لبعضهم أنّ الحرب الأخيرة التي وقعت في لبنان، وما نتج عنها من خسائر في الإمكانات والأماكن والتجهيزات، واستشهاد المجاهدين، ومنهم القادة، وعلى رأسهم سماحة سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله والسيّد هاشم صفيّ الدين، كلّ ذلك قد يُفهَم على أنّه ابتلاءٌ من الله لهذه الأمّة وللمقاومة على نحو العقوبة والخذلان، وصولاً إلى الاستبدال.
فما البلاء؟ ولمن يكون؟ وما أسبابه؟ وهل يمكن اعتبار ما حصل استبدالاً؟
ما البلاء؟ ولمن يكون؟
البلاء هو الاختبار والامتحان، ويكون في المرغوب وفي غير المرغوب، فليس البلاء منحصراً في الأمور السلبيّة فقط، كالمرض والفقر والموت، بل قد يكون في الأمور الإيجابيّة أيضاً، كالصحّة والغنى والحياة. فكلّ ما يختبر الله به عبده هو بلاء.
وقد يُعدّ الغنى لبعض الناس بلاءً، يُختبر فيه إن كان سيدفع الحقوق منهه، أو يُعين به الفقراء، أو يُنفق منه على الأرحام
وواجبي النفقة. بينما يُبتلى آخرون بالفقر، فهل يصبرون؟ وهل يدفعهم العوز إلى الحرام؟
من هنا، فإنّ البلاء لا يختصّ بالكافر أو مرتكب الذنب، بل يحصل للمؤمن أيضاً، بل المؤمن أولى بالبلاء؛ لأنّه مورد عناية الله واهتمامه، ففي الحديث عن الإمام الصادق %: «سُئِلَ رسولُ الله -: مَنْ أشدُّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال -: النبيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، ويُبتلى المؤمنُ بعدُ على قدر إيمانه وحُسن أعماله، فمَن صحّ إيمانه وحَسُن عمله اشتدّ بلاؤه، ومَن سَخُف إيمانه وضعُف عمله قلّ بلاؤه»[2].
وعنه % أيضاً: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّهُ بِالْبَلَاءِ غَتّاً، وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ يَا سَدِيرُ لَنُصْبِحُ بِهِ وَنُمْسِي»[3].
وقال %: «إِنَّ عَظِيمَ الْأَجْرِ لَمَعَ عَظِيمِ الْبَلَاءِ، وَمَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا إِلَّا ابْتَلَاهُمْ»[4].
بل يظهر من الروايات أنّ البلاء هو سُنّة مستمرّة في أهل الحقّ، قال الإمام الصادق %: « إِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ كَانُوا فِي شِدَّةٍ أَمَا إِنَّ ذَلِكَ إِلَى مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَعَافِيَةٍ طَوِيلَةٍ إنّ أهلَ الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة، أما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة، وعافية طويلة»[5].
ما الحكمة من الابتلاءات المتعدّدة للمؤمن؟
تُشير الروايات إلى حكم عديدة للبلاء، منها:
1. تنبيه المؤمن: عن الإمام الصادق %: «الْمُؤْمِنُ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِلَّا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ يَحْزُنُهُ يُذَكَّرُ بِهِ»[6]؛ فالبلاء يُوقظ القلب، ويعيد الإنسان من الغفلة، ويربطه بالله والآخرة.
2. الحماية من الدنيا: قال الإمام الباقر %: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَتَعَاهَدُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَعَاهَدُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِالْهَدِيَّةِ مِنَ الْغَيْبَةِ، وَيَحْمِيهِ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ»[7]؛ فالبلاء عطيّة رحمانيّة لحماية العبد من الدنيا، كما يمنع الطبيبُ مريضَه من بعض الطعام حفظاً لصحّته.
3. اختبار الجنّة: قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾[8]؛ فالجنّة ليست لكلّ مدّعٍ، بل لمن صبر وجاهد وصدّق دعواه.
4. إعطاء المنزلة الخاصّة: عن الإمام الصادق %: «إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَا يَنَالُهَا إِلَّا بِإِحْدَى خَصْلَتَيْنِ: إِمَّا بِذَهَابِ مَالِهِ أَوْ بِبَلِيَّةٍ فِي جَسَدِهِ»[9]؛ فالبلاء طريق الرفعة والدرجات العليا.
البلاء تكريمٌ لا استبدال
من هنا، وبعد استعراض هذه الروايات، يظهر لنا بوضوح أنّ البلاء ليس عقوبة، بل قد يكون تكريماً واصطفاءً، وأنّ الأمّة التي لا تُبتلى قد تكون محلّ سؤال، إذ قد يكون الله قد أعرض عنها.
هل ما حصل هو من سُنّة الاستبدال؟
لقد تحدّث القرآن عن الاستبدال في عدّة آيات، وبيّن شروطه وأسبابه، ومن هذه الموارد:
1. التمرّد والبُخل: قال تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[10].
2. التقاعس عن الجهاد: قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾[11].
3. الارتداد عن الدين: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[12].
أمّا في حالتنا، فإنّ الأمة المؤمنة في لبنان أطاعت الله ورسوله وأهل بيته (، والتزمت تكليفها الشرعي، وكانت سبّاقةً إلى الجهاد ونصرة المستضعفين، قدّمت الشهداء، وفي طليعتهم القادة، الذين ثبتوا وضحّوا وبذلوا أرواحهم.
وعن هذه الراية يقول الشهيد الهاشميّ (رضوان الله عليه): «إنّها رايةُ الهدى في منطقتِنا، وهِيَ الدالّةُ على الحقِّ، والداعيةُ إلى الإيمانِ، والحاملةُ لهمومِ المستضعَفينَ والمظلومينَ والمحرومينَ... ويكفينا فخراً أنّ حزبَ اللهِ هو النبتةُ الطاهرةُ التي غرسَتْها اليدُ المباركةُ للعالِمِ الربّانيِّ والعارِفِ الكاملِ والقائدِ المُلهِمِ في هذا العصرِ الإمامِ الخمينيِّ (رضوانُ اللهِ عليه)»[13].
فأيّ سببٍ من أسباب الاستبدال لم يتحقّق فيهم، بل العكس تماماً، إذ هم مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.
إنّ ما جرى ليس خذلاناً ولا استبدالاً، بل هو رفعةٌ وتمحيصٌ واصطفاء، وهو امتدادٌ لمسيرة الأنبياء وأولي البأس من أهل الحقّ الذين شملهم البلاء، فثبتوا وارتقوا، حتّى أصبحوا منارات في التاريخ.
إنّ الشهداء الذين ارتقوا إنّما رفعهم الله إلى المنازل التي لا تُنال إلّا بالبذل والفداء؛ أمّا الأمّة التي قدّمتهم، فهي اليوم أشدّ صلابةً وأوضح بصيرةً، وهي على موعدٍ جديدٍ مع النصر.
بلاءٌ يتولّد منه النصر
فهل الأمّة التي أطاعت الله ورسوله وأهل بيته (، ووقفت في خط الولاية، ونصرت المستضعفين، وجاهَدت ببأس، وتناثرت دماء قادتها وشبابها في ميدان الشرف، تكون ممّن تولّى أو ارتدّ أو تقاعس؟ حاشاهم! بل هي أمّة ممتحنة كأمّة كربلاء، ممسوسة بجذبة الغيب، يُعدّها الله لأعظم النصر، ولو بعد حين.
إنّ ما يجري اليوم هو سُنة الابتلاء لا الاستبدال، وهي البلاء الذي يتولّد منه النصر.
أليس الإمام الحسين % وأصحابه قد قُتلوا في ظاهر الأمر، لكنّه نصرٌ سرمديّ؟
ألم يُخذل الإمام الحسين % في الظاهر، ولكن خُلدت كربلاء في أعماق الزمن وأصبحت هي راية النهضة والعدل؟
إنّ خسارة القادة الشهداء ليست خسارة للخطّ، بل هي امتداد له. وهؤلاء القادة قد صاغوا بمعاركهم وكلماتهم وسيرتهم مدرسةً لا تزول، وأورثوا شباب الأمّة ميراث الوعي والبصيرة والثبات.
هي معركة أولي البأس، معركة الثابتين على ولاية الله، الذين لم يبدّلوا ولم يرتدّوا، بل ترقّوا إلى عليّين، ليُخلف الله بعدهم رجالاً أشدّاء، يُحسنون الجهاد والصبر والرباط، كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ﴾[14].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص253.
[2] المصدر نفسه، ج2، ص252.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص253.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص109.
[5] المصدر نفسه، ج2، ص255.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص254.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص255.
[8] سورة آل عمران، الآية 142.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص257.
[10] سورة محمّد، الآية 38.
[11] سورة التوبة، الآية 39.
[12] سورة المائدة، الآية 54.
[13] وصيّة الأمين العامّ لحزب الله الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين !، ص18.
[14] سورة العنكبوت، الآية 27.
58
الموعظة الخامسة عشرة: أبعاد التكليف ومسؤوليّة الإنسان
الموعظة الخامسة عشرة
أبعاد التكليف ومسؤوليّة الإنسان
هدف الموعظة
بيان أنّ الهدف الأساس من قيام الإمام الحسين % هو أداء التكليف الإلهيّ، وأنّ شهادته % لم تحُل دون انتصاره.
محاور الموعظة
1. التكليف هو المحرّك
2. التكليف بين المواجهة والصبر
3. شهداء كربلاء الأوفى والأبرّ
4. وانتصرت كربلاء
تصدير الموعظة
الإمام الحسين %: «أيّها الناس، إنّ رسول الله - قال: «مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»[1].
التكليف هو المحرّك
إنّ ثورة كربلاء الإمام الحسين % لهي مظهرٌ من أعظم مظاهر أداء التكليف الإلهيّ مع ما فيه من قتلٍ وسبيٍ وهتكٍ للحرمات، وأسىً ولوعةٍ وفقْدٍ ووجْد.
مع هذا كلّه، الذي كان معلوماً لسيّد الشهداء %: «... فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً... إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»[2]، سار سيّد الشهداء % نحو كربلاء مصمّماً على أداء تكليفٍ عظيم كان كفيلاً ببقاء الإسلام الحقيقيّ الذي بلّغه رسول الله - إلى يومنا هذا «حسينٌ منّي وأنا من حسين»[3].
ولقد بيّن الإمام الحسين %، في مواطن عدّة، أنّ التكليف الإلهيّ هو الذي حدا به للسير إلى كربلاء، والعزم على الشهادة، ومن ذلك:
أ. عندما كان الإمام % بمكّة، بعث بكتابَين:
الأوّل إلى رؤساء البصرة: «وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السُنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت، فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد»[4]. وهذا الكلام صريحٌ في أنّ الإمام الحسين % يريد أداء تكليف إحياء الإسلام وسنّة النبيّ -.
والثاني إلى رؤساء الكوفة: «فلعمري، ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائر بالحقّ، والحابس نفسه عن ذات الله»[5]. وهنا بيّن الإمام % هدفه من الخروج. وكان الإمام % يخاطب الناس في كلّ منزل ينزل فيه بعد خروجه من مكّة.
ب. في وصيّته % إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة عند خروجه من مكّة، يقول %: «وإنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح...» لا للوصول إلى الحكم حتماً أو للشهادة حتماً... «أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر...»[6].
ج. لمّا نزل الإمام الحسين % بـ«الغريب»، التحق به أربعة نفر، فقال لهم %: «أمّا والله، إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا؛ قُتلنا أم ظفرنا»[7]. وهذا دليل على أنّه % سيؤدّي تكليفه سواء انتصر أو قُتل.
ومن هنا، نخلص إلى إنّ الأصل الحاكم في حركته %، والذي يجب أيضاً أن يكون حاكماً على عمل الناس وحياتهم، هو أداء التكليف الإلهيّ وليس الميول والأهواء والمصالح الشخصيّة.
هذا، وقد بيّنت كلماته %، وطلبه المؤازرة في المنازل التي نزل بها وهو في طريقه إلى كربلاء أنّ تكليف المواجهة ليس تكليفه وحده، بل هو تكليف الأمّة والناس والمسلمين جميعاً.
التكليف بين المواجهة والصبر
المهمّ هو أداء التكليف، لا نوع التكليف؛ إذ لا وجودَ لشيء اسمه «تكليف مطلق»؛ فمواجهة الظلم -مثلاً- ليست تكليفاً بالمطلق، في كلّ زمان وفي كلّ مكان، بمعزل عن الظروف، وبمعزل عن الإمكانات، وبمعزل عن الهدف، وكذلك لا وجود لشيء اسمه «القيام بالسيف» في كلّ حال وفي كلّ ظرف. هذا المطلق هو أمر غير صحيح، ولو كان كذلك لقام النبيّ - بالسيف في مكّة.
في المقابل أيضاً، لا وجودَ لشيء اسمه الصبر مطلقاً، والصبر الدائم[8].
إنّ إداء التكليف يعني أن تكون حاضراً في المواجهة مهما اختلفت أشكالها، وأن لا تُذعن للعدوّ، ولا ترضخ لضغوطاته، وأن تُشعره بعدائك، وأنّك مصدر تهديد له، ولو لم تكن أصوات المدافع والصواريخ تُقرَع؛ هكذا نؤدّي تكليفنا.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «في كلّ زمان ثمّة حركة مطلوبة (متعيّنة) على المجتمع الإسلاميّ. ففي كلّ عصر، يوجد عدوّ وجبهة وخصم يُهدِّد الإسلام والمسلمين، ويجب أن يُعرف ذلك العدوّ. نحن اليوم مكلّفون بأن نتدارك بأعلى درجة ممكنة، تلك اليقظة والتنبّه والاهتمام ومعرفة الأعداء ومعرفة التكاليف بالنسبة إلى الأمّة الإسلاميّة والعالم الإسلاميّ»[9].
وفي زماننا القريب عندما تخلّى العالم كلّه عن الدفاع عن المظلومين في غزّة، بل وتآمروا عليهم، كان لا بدّ من قيام ثلّةٍ في مواجهة هذا الإجرام؛ لتقول للعالم كلّه إنّه ما زال موجوداً مَن يدافع عن المستضعفين، وما زال مشعل النور مضيئاً أمام درب التائقين، وما زالت أمامنا فرصة مناهضة المستكبرين والظالمين... فكان لا بدّ من أداء التكليف.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الجهاد وعدم الخوف من الغربة والوحدة: لقد ثار هذا النور المشعّ وحيداً في صحراء لا متناهية من الظلمة. وحتّى لو بقي الإمام الحسين % وحيداً في ذلك اليوم وتركه هؤلاء الـ72 نفراً لم يكن مستعدّاً لترك ثورته»؛ هذا ما تعلّمناه من الإمام الحسين %.
شهداء كربلاء الأوفى والأبرّ
لقد استحقّ شهداء كربلاء أن يكونوا خير الأصحاب وأبرَّهم؛ لأنّهم لم يتخلَّوا عن دينهم وإمامهم، على الرغم من أنّه % قد أحلّهم من تحمُّل المسؤوليّة، وأداء التكليف «إنّ هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً...»، بل ازدادوا عزماً وإصراراً على ملاقاة الحتوف دونه.
فكان ممّا قاله الأصحاب:
مسلم بن عوسجة: «أنحن نخلّي عنك، ولمّا نعذَر إلى اللّه في أداء حقك! أما واللّه، حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة؛ واللّه، لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللّه - فيك. واللّه، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أُحيى ثمّ أُقتل ثمّ أحرق ثمّ أُذرّى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً»[10].
سعد بن عبد اللّه الحنفيّ: «واللّه، لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللّه - فيك، واللّه لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق حيّا ثمّ أذرّ! يُفعَل ذلك بي سبعون مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!»[11].
وانتصرت كربلاء
إنّ الحركة الحسينيّة لم يكن مقدّراً لها النصر العسكريّ والمباشر، ولم يكن أحد يعي، بعد حادثة كربلاء، أنّ ثورة الإمام الحسين % قد انتصرت، لكنّ اليوم الكلّ يُدرك أنّ كربلاء حاضرة ومنتصرة، وأنّ مجالس سيّد الشهداء % تزداد حضوراً عاماً بعد عام طيلة نحو 1400 سنة، وأنّ الدين الذي أراد يزيد محوه ما زالت رايتُه خفّاقة.
والدليل على انتصار كربلاء هو ما أجاب به الإمام زين العابدين % لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله لمّا ساله حين رجوعه % إلى المدينة: مَن غلب؟، فقال الإمام السجّاد %: «إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذّن ثمّ أقم»[12]، تعرف مَنِ الغالب.
إنّ الانتصار قد يُرى سريعاً وقد يأخذ وقتاً لنرى تداعياته وآثاره، فما جرى في كربلاء من قتل وسفك دماء وتنكيل وسبي لم يكن مانعاً من انتصار سيّد الشهداء %، كذلك ما جرى في حرب أولي البأس من تدمير وقتل ليس مانعاً من انتصارنا؛ هذا ما نؤمن به جميعاً، وسنرى مفاعيله وتداعياته على أرض الواقع، بإذن الله.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لقد ضحّى الإمام الحسين % وأصحابه بأنفسهم، في مرحلة حالكة، شديدة الظلمة، مليئة بالقمع، لا يمكن تحمّلها، في مواجهة سلطة متجبّرة؛ فأمّا العيون التي لا ترى سوى الظاهر، فهي ترى أنّ الحسين % والحالة الحسينيّة قد انتهت؛ إلّا أنّه % بقي كبذرة ترقد تحت التراب لتنبت من جديد وتؤتي ثمارها»[13].
ونختم بما أوصانا به سيّد شهداء الأمّة !: «هذا الطريق سنكمله، لو قُتلنا جميعاً، لو استشهدنا جميعاً، لو دُمّرت بيوتنا على رؤوسنا، لن نتخلّى عن خيار المقاومة الإسلاميّة»[14]، و«نحن لا نُهزم؛ عندما ننتصر ننتصر، وعندما نُستشهد ننتصر»[15].
نعاهدك، يا سيّدَنا، أن نحمل دمَك، ورايتك، التي هي راية سيّد الشهداء %، ونذود عنها، ونبذل دونها الأرواح والمُهَج.
[1] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الحسين %، مصدر سابق، ص85.
[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص40.
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص127.
[4] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الحسين %، مصدر سابق، ص125.
[5] مثير الأحزان، ابن نما الحلّيّ، مصدر سابق، ص16.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.
[7] تاريخ الطبريّ، الطبريّ، مصدر سابق، ج4، ص306.
[8] من خطاب سماحة سيّد شهداء الأمّة !، الليلة الأولى من شهر محرّم 1439هـ/ 21 أيلول 2017م.
[9] من كلمته (دام ظلّه) في لقاء العلماء وطلّاب العلوم الدينيّة، بتاريخ 7/1992م.
[10] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص92.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص70.
[12] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص677.
[13] من كلمته (دام ظلّه) في حشد من فيلق الإمام الرضا %، بتاريخ 14/08/1989م.
[14] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 16/02/1992م.
[15] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 05/01/2020م.
62
الموعظة السادسة عشرة: لا حياد في معركة الحقّ والباطل
الموعظة السادسة عشرة
لا حياد في معركة الحقّ والباطل
هدف الموعظة
بيان الموقف من الحياد في زمن الفتن، وتوضيح خطورة الوقوف على الحياد في الصراعات بين الحقّ والباطل، انطلاقاً من النصوص الإسلاميّة الأصيلة.
محاور الموعظة
1. الموقف في زمن الفتنة: حيادٌ أم تواطؤ
2. أنواع الفتنة وموقف الإمام عليّ %
3. في صراع الباطلين: الصمت حكمة
4. حين يشتبه الحقّ والباطل: لا تكن حطباً للفتنة
5. لا حياد حين يظهر الحقّ: مسؤوليّة الانحياز للحقّ
6. حياديّة الأغلبيّة الصامتة: خيانة الأمّة
7. نحو أمّة واحدة لا تُهزم
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين %: «وَكُونَا لِلظَالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً»[1].
الموقف في زمن الفتنة: حيادٌ أم تواطؤ
في ظلّ الفتن المتنوّعة التي باتت تعصف بالمجتمعات، وتتوزّع بين حقٍّ وباطل، أو ظالمٍ ومظلوم، أو مستكبرٍ ومستضعف، وتلبس أحياناً لبوس الشبهات والدعاوى المتعارضة، يزداد المشهد تعقيداً ويغدو الموقف صعباً على الكثيرين. ولم يعُد التمييز بين المواقف أمراً يسيراً، خصوصاً حينما تختلط المفاهيم وتتعدّد الأصوات وتتقاطع الشعارات. في هذا الجوّ المضطرب، يُطرَح سؤال جوهريّ يستدعي التأمل: ما موقف الإسلام من الحياد؟ هل يمكن العمل بمبدأ «الجلوس على التلّ» بدعوى السلامة؟ وهل يُعتبر الحياد خياراً شرعيّاً عندما ينقسم الناس إلى أطرافٍ متصارعة؟ وهل يصحّ التذرّع بالغموض والتشويش والاشتباه لاتخاذ موقف اللاموقف؟
أنواع الفتنة وموقف الإمام عليّ %
قد يُتوهَّم أحياناً أنّ موقف الحياد هو المطلوب شرعاً في زمن الفتنة، ويُستدلُّ على ذلك بما ورد عن أمير المؤمنين %: «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ؛ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، ولَا ضرْعٌ فَيُحْلَبَ»[2]. وهي كلمة جامعة تنضح بالحكمة وتحتاج إلى تدبّر دقيق. فابن اللبون -وهو صغير الإبل الذي لا يصلح للركوب ولا يُنتَفع بدرّه- يُضرَب به المثل في العزوف عن التورّط في صراعات لا جدوى منها، ولا مكسب فيها سوى الخسارة.
لكن، لفهم مقصود أمير المؤمنين % لا بدّ من التمييز بين أنواع الفتن، فليس كل اضطرابٍ في الواقع يُوجب الانكفاء والانزواء. هناك نمطان بارزان من الفتن:
النوع الأوّل: فتنة قائمة على صراع بين باطلين، يتنازعان النفوذ والمكاسب، ويستخدم كلٌّ منهما أدوات الباطل وأساليبه لخداع الناس وجذبهم إلى صفّه. في مثل هذا المشهد، لا يكون الانحياز إلى أيّ طرفٍ من الأطراف إلّا مشاركة في الباطل، وهنا يكون الموقف السليم هو الاعتزال الواعي، لا من باب السلبيّة، بل من باب الرفض لكليهما.
النوع الثاني: فتنة يلتبس فيها الحقّ بالباطل، ويختلط فيها الموقف المشروع بالموقف المدسوس، نتيجة الغموض المتعمّد أو التعمية الإعلاميّة أو الاستغلال العاطفيّ والدينيّ. وهنا تكمن الخطورة، إذ قد يُخدع الإنسان فيُستدرَج إلى صفّ الباطل تحت عنوان الدفاع عن الحقّ. وفي مثل هذا الحال، يدعونا الإمام % إلى التأنّي والحذر، وإلى التروّي قبل الانخراط في أي موقف أو اصطفاف، لأنّ التسرّع قد يُفضي إلى أن يُستغلّ موقفنا لخدمة الباطل دون أن نشعر.
فجوهر التوجيه في كلام الإمام % لا يعني الحياد المطلق، بل يعني التحرّر من الاستغلال، والحذر من أن يتحوّل الإنسان إلى أداة في مشروع لا يعرف أبعاده، أو يُحسَب على جهة لا يعرف حقيقتها. كما أنّ ابن اللّبون لا يُركب ظهره ولا يُحلب ضرعه، كذلك ينبغي للإنسان المؤمن ألّا يُركب موقفه ولا يُستغلّ موقعه لصالح جهات الفتنة، سواء كانت باطلة ظاهرة، أو باطلة مستترة.
في صراع الباطلين: الصمت حكمة
حينما ينشب الصراع بين جبهتين تمثّلان الباطل، لا يكون الحياد موقفاً سلبيّاً، ولا تخلّياً عن المسؤوليّة، بل قد يُعدّ عين الحكمة والبصيرة. ففي مثل هذه الحال، لا مصلحة للإسلام ولا لأهله في ترجيح كفّة أحد الباطلين، لأنّ كليهما يسعى لمصالحه الأنانيّة، ويستثمر في نزيف الأمة من أجل أطماعه. إنّ التدخّل هنا قد يعني الانخراط في معركة لا حقّ فيها، والوقوف في صفّ لا يستحقّ.
ومع ذلك، فإنّ الفقه الإسلامي لا يغفل عن واقع السياسة والمجتمع، فقد تُوجِب بعض الظروف أن يتدخّل المؤمن لا
نصرةً لطرفٍ ضدّ آخر، بل دفعاً لأخطر الفتنتين، وتقليلاً لضررٍ أعظم. لكن هذا التدخّل لا يكون اندفاعاً عاطفيّاً ولا اصطفافاً ساذجاً، بل يكون بحسابات دقيقة، وضوابط شرعيّة واضحة، تضمن عدم الانزلاق في خدمة مشروع ظالم تحت ذريعة مقاومة ظالمٍ آخر. فالمطلوب في هذا المقام هو التحرك الواعي لا الوقوف العشوائي، والعمل لحماية القيم والمصالح الإسلاميّة الكبرى لا لحماية جهة معينة.
حين يشتبه الحقّ والباطل: لا تكن حطباً للفتنة
وفي الحالات الأخطر، حيث تتشابك الخيوط، ويختلط الحقّ بالباطل، ويصبح تمييز الصواب من الخطأ عسيراً، يكون التريّث ضرورةً عقليّة وشرعيّة. فالفتن التي تلبس لبوس الدين أو العدل، وتروّج لمواقفها تحت عناوين أخلاقيّة، قد تستدرج الكثير من الطيّبين ليكونوا وقوداً لمعارك باطلة.
في هذا المشهد المربك، لا يُطلب من الإنسان أن يتّخذ موقفاً كيفما اتّفق، بل يُنهى عن التسرّع، ويُكلَّف بأن يجتهد في البحث والتأمّل والمشاورة، حتّى تتضح له معالم الحقّ. فإن عجز عن التمييز، فليس من الحكمة أن يقتحم ساحة الفتنة، بل عليه أن يتجنّب الانخراط إلى حين انكشاف الصورة. ذلك أنّ الانفعال العاطفي أو الانجراف مع التيار قد يجعل منه - من حيث لا يدري - حطباً يُلقى في نار الفتنة، ويغذّي أوارها ويزيد اشتعالها.
إنّ مسؤوليّة المؤمن في هذه اللحظات الدقيقة لا تقلّ عن مسؤوليّة المجاهد في ساحة القتال، فالسكوت الواعي في زمن الفتنة قد يكون جهاداً بصيراً، والوقوف موقف «اللاموقف» عن تأنٍّ قد يكون أنبل من موقفٍ متسرّعٍ يُستغلّ ضدّ الحقّ.
لا حياد حين يظهر الحقّ: مسؤوليّة الانحياز للحقّ
أمّا إذا كان الصراع واضحاً بين حقٍّ وباطل، فهنا لا مجال للحياد، ولا عذر للتخاذل.
نقرأ عن نموذج ذلك في موقف بعض الناس من حرب صفّين، إذ قال أحدهم: «الصلاة عند عليٍّ % أقوَم، والطعام عند معاوية أدسم، والجلوس على التلّ أسلم»[3].
وهذا على الرغم من أنّ النبيّ - قال: «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ %، يدور معه حيثما دار«[4]. فهل يُقبل مثل هذا التبرير في مواجهة بهذه الوضوح؟
الجواب جاء من أمير المؤمنين % عندما قال عن الذين امتنعوا عن القتال إلى جانبه: «خَذَلُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَنْصُرُوا
الْبَاطِلَ»[5]، وقال أيضاً: «إِنَّ [سَعْداً] سَعِيداً وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ وَلَمْ يَخْذلَا الْبَاطِلَ«[6]؛ أي إنّهما لم يُقاتلا إلى جانب معاوية، لكنّ امتناعهما عن نصرة أمير المؤمنين % يُعدّ خذلاناً للحقّ.
حياديّة الأغلبيّة الصامتة: خيانة الأمّة
إنّ من يتخذ موقف الحياد حين تتجلّى معالم المعركة بين الحقّ والباطل، يكون شريكاً في هزيمة الحقّ؛ فبمجرّد تنحّيه، يمنح الباطل قوّة سلبيّة، ويحرم الحقّ من الدعم.
وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين % بقوله: «أَيُّهَا النَاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلكُمْ»[7].
إنّ موقف الأغلبيّة الصامتة حين تملك النطق وتسكت، هو موقف خيانة. وقد جاء في كلام الإمام الكاظم %: «أبلِغ خيراً، وَقُل خيراً، ولا تَكُن إمَّعة»، قالوا: وما الإمَّعة؟ قال %: «لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحدٍ مِن الناس، فإنَّ رسول الله - قال: إنَّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يَكن نجد الشرّ أحبَّ إليكم مِن نَجدِ الخير»[8].
نحو أمّة واحدة لا تُهزم
الحياديّة في الصراع بين الحقّ والباطل ليست خياراً مشروعاً، بل هي مشاركة غير مباشرة في تقوية الباطل وإضعاف الحقّ.
ولذلك يؤكّد الله تعالى وحدة المسار ومركزيّة الموقف بقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[9]، ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[10].
فلا بدّ أن يكون الصوت صوتَ الحقّ، والموقف موقفَ المبدأ، وإلّا، فإنّ الجهل والتخلّف والجبن تحكم وتُسكت، وتصبح الأمّة كثرة بلا أثر: «ولكنَّكم غثاء كغثاء السَيل»[11].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص421، الكتاب 47.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص469، الحكمة 1.
[3] راجع: الحلبيّ، عليّ بن برهان الدين، السيرة الحلبيّة، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1400ه، لا.ط، ج3، ص367.
[4] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الفصول المختارة، تحقيق وتصحيح عليّ ميرشريفيّ، مؤتمر الشيخ المفيد، إيران - قم، 1413ه، ط1، ص135.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص471، الحكمة 18.
[6] المصدر نفسه، ص521، الحكمة 262.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص241، الخطبة 167.
[8] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، مصدر سابق، ص413.
[9] سورة الأنبياء، الآية 92.
[10] سورة آل عمران، الآية 103.
[11] ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، التشريف بالمنن في التعريف بالفتن (الملاحم والفتن)، تحقيق وتصحيح ونشر مؤسّسة صاحب الأمر .، إيران - قم، 1416ه، ط1، ص307.
67
الموعظة السابعة عشرة: آثار كربلاء في بناء الأمّة الإلهيّة
الموعظة السابعة عشرة
آثار كربلاء في بناء الأمّة الإلهيّة
هدف الموعظة
بيان الآثار العمليّة والنفسيّة والاجتماعيّة التي خلّفتها ثورة الإمام الحسين % في وعي الأمّة الإسلاميّة، وكيف رسمت ملامح مجتمع مؤمن ثائر على الظلم، ناصرٍ للمظلوم، متمسّكٍ بالولاية الحقّة، ومفوِّضٍ أمره لإمام زمانه، بوصف ذلك كلّه من ثمار المدرسة الحسينيّة وتجلّياتها الممتدّة عبر العصور.
محاور الموعظة
1. الثورة على الظلم والظالمين
2. وجوب نصرة المظلوم
3. مجتمع الولاية الحقّة
4. الولاية المطلقة لإمام زمانهم %
تصدير الموعظة
سلمان الفارسيّ )، قال: دخلت على النبيّ -، فإذا الحسين على فخذَيه، وهو يقبّل عينَيه... وهو يقول: «أنت سيّد ابن سيّد، أنت إمام ابن إمام، أنت حجّة ابن حجّة، أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم»[1].
لم تكن ثورة كربلاء حدثاً تاريخيّاً عابراً في التاريخ كما هو حال الكثيرة من الثورات، ولم يكن الإمام الحسين % وأصحابه وأهل بيته ( قتلى مظلومين في معركة حصلت يوم العاشر من المحرم، ولم تكن خطب الإمام الحسين % وكلماته قبل عاشوراء ويومها مواعظ وتوجيهات لأهل ذلك الزمان.
بل شكّلت ثورة عاشوراء، والشهادة العظيمة لسيّد الشهداء % وأصحابه، وإرث الإمام الحسين % الدينيّ، معالم ومسارات عدة أضاءت الدروب لكلّ الأجيال على مرّ الزمان في مواجهة الظلم والظالمين، والإصلاح، بصرف النظر عن النتائج. وهو ما سنبيّنه في بيان آثار هذه الثورة المخضّبة بالشهادة.
الثورة على الظلم والظالمين
إنّ الميزة الأساس التي تميّز ثورة عاشوراء أنّها ثورة الحقّ بكلّ تجلّياته على الظلم بكلّ أشكاله، وإنّ العنوان الكبير والجليّ لهذه الثورة هو عنوان الإصلاح في الدين والمجتمع، وإنّ اللون الذي صبغ أهداف هذه الثورة هو لون الشهادة الحمراء؛ إذ من الثابت أنّه من سنن الله تعالى أن لا يهلك الأمم بظلمها إذا قام فيها عباد مصلحون يأخذون على يدي الظالم، ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾[2]، ومن الواضح أنّه متى كان المجتمع ظالماً، ولكنّه مقبل على إصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إِذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه، فيصلحها أو يطهرها، فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك»[3].
وهنا يتجلّى الأثر الأول للثورة الحسينيّة، وما بقاء المجتمع المنتمي إلى الحسين % إلّا خير دليل على هذه السنّة الإلهيّة. وخير شاهد عليه ما ذكره الله تعالى في قصص الأمم السابقة الظالمة، وما حلّ بها من عقوبات، حيث كان يطغى فيها الظالمون ويعبث فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم وينصر المظلوم على الظالم فيصلح ما أفسدوا، فحقّت سنّة الله على تلك الأمم، إمّا بهلاك الاستئصال، وإمّا بهلاك الانحلال والاختلال، فقال سبحانه: ﴿كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾[4]، وقالَ أيضاً: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾[5].
وجوب نصرة المظلوم
لقد أرست ثورة عاشوراء قيمة عظيمة في دفاعها واستشهاد قائدها وسائر أصحابه في سبيل نصرة المظلومين من المسلمين والمؤمنين الموالين الذين تعرّضوا لشتى أنواع الظلم والاضطهاد الأمويّ؛ ولهذا كان من دأب خلّص الموالين لأهل بيت النبوّة والرسالة ( على مرّ التاريخ نصرة المظلوم على الظالم حتّى في أحلك الظروف ظلمة، وكان - يشحذ همم المسلمين ويحثّهم على نصرة المظلوم، فورد عنه: «ومن أخذ للمظلوم من الظالم، كان معي في الجنّة مصاحباً»[6]،
وورد عنه -: «ومن مشى مع مظلوم يعينه، ثبّت الله قدمَيه يوم تزلّ الأقدام»[7]، فمن مقتضيات العدل نصرة المظلوم، وتكون النصرة بتقديم العون له متى احتاج إليه، ودفع الظلم عنه إن كان مظلوماً، وردعه عن الظلم إن كان ظالماً، قال -: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً؛ إن يكُ ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يكُ مظلوماً فانصره»[8]، وعن أمير المؤمنين %: «أحسن العدل نصرة المظلوم»[9].
ويرشدنا الإمام عليّ بن الحسين % في دعاء مكارم الأخلاق للاعتذار من الله سبحانه إن لم تكن لنا القدرة على نصرة المظلوم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي، فَلَمْ أَنْصُرْهُ»[10]، وفي دعاء العهد المرويّ عن إمامنا الصادق %، والذي يقول في فضله: «من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا %[11]: اللَّهُمَّ وَاجْعَلْهُ مَفْزَعاً لِلْمَظْلُومِ مِنْ عِبَادِكَ، وَنَاصِراً لِمَنْ لَا يَجِدُ نَاصِراً غَيْرَكَ»[12].
وهكذا كان نداء شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) دائماً، وعلى طول مسيرته الجهاديّة، داعياً الأمّة وعلماءها وحكّامها وشعوبها إلى نصرة المظلوم وتلبية استغاثته متجاوزاً حدود الطوائف والمذاهب والجغرافيا، حتّى قضى شهيداً في هذا السبيل: «أيّتها الأمّة، يا علماءها وحكّامها وأنظمتها وأحزابها وحركاتها وشعوبها، تعالَوا... لنحملَ مسؤوليّة تلبية استغاثة هذا الشعب المظلوم والمضحّي في فلسطين، واستغاثة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومقدّسات المسلمين والمسيحيّين كلّها في هذا البلد المبارك»[13].
مجتمع الولاية الحقّة
لعلّه من أهمّ الدروس والنتائج الإيمانيّة التي أبرزتها ثورة العشق الحسينيّ في عاشوراء، وخضّبته بالدماء الزكيّة، أنّها حسمت المصداق الأجلى والأكمل للولاية بكلّ معانيه وتجلّياته؛ إذ ذكر القرآن والتاريخ الكثير من النماذج التي آمنت بالنبيّ وبدينه، ولكنها كانت ضعيفة ومهزومة عندما يصل الأمر إلى التضحية بالنفس والولد... ولكن عاشوراء الإمام الحسين قد علّمت الأجيال منهجاً جديداً في التضحية والإيثار، إذ تجد جميع من كان في كربلاء قد توجّه بقلبه وروحه إلى
معركة الفداء والشهادة بين يدي الإمام الحسين %.
ويكفي في الدلالة على هذه الميزة ما قاله الإمام الحسين % لأخته الحوراء زينب &، التي سألته قائلةً: «يابن أمّي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخاف أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة»، فبكى الحسين %، وقال: «أما والله لقد بلوتهم، فما رأيت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه»[14].
الولاية المطلقة لإمام زمانهم %
لقد امتاز أصحاب الإمام الحسين % بصفات ومزايا كثيرة، نذكر منها ما يدلّ على ولائهم المطلق لإمام زمانهم، ويقينهم وتسليمهم التامّ، منها: الوعي والبصيرة، والإخلاص، والتفاني، الحزم والإرادة الصلبة... وهو ما تجسّد في مواقفهم لما جمع الحسين % أصحابه قرب المساء. قال عليّ بن الحسين زينُ العابدين %: «فدنوتَ منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه:... أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي؛ فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أَذِنْتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم، فاتّخِذوه جملاً»[15].
1. موقف مسلم بن عوسجة: قام إليه مسلم بن عوسجة، فقال: «أنخلي عنك، ولَمَّا نُعذَرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك؟! أَمَا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نُخْلِيْكَ حتّى يعلمَ الله أنْ قد حفظنا غيبة رسول الله - فيك. والله، لو علمت أنّي أُقتل، ثمّ أُحيا، ثمّ أُحرق، ثمّ أُحيا، ثمّ أُذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً»[16].
2. موقف زهير بن القين: قام زهير بن القين البجليّ، فقال: «والله، لوددتُ أنّي قُتِلت، ثمّ نُشِرت، ثمّ قُتِلت، حتّى أُقتل هكذا ألفَ مرّة، وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك»[17].
3. قيل لمحمّد بن الحضرميّ [وهو مع الحسين في كربلاء]: أُسِر ابنك بثغر الريّ. قال: «عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبُّ أنْ يُؤسر، ولا أن أبقى بعده»، فسمع قوله الحسين %، فقال له: «رحمك الله! أنت في حلّ من بيعتي،
فاعمل في فكاك ابنك»، قال: «أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك»[18].
4. وهذا عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، الذي خاطب الإمام %، قائلاً: «أمّا بعد، فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرَّك منهم. والله، أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلّن معكم عدوّكم، ولأضربّن بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلّا ما عند الله»[19].
وفي موقف جامع لمّا خاطبهم % قائلاً: «إنّ هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يُقبِلوا إليكم، فالنجاة النجاة، وأنتم في حلّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم»، فقالوا: «لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك»[20].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا %، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج1، ص56.
[2] سورة هود، الآية 117.
[3] الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قمّ، 1426ه، ط1، ج7، ص97.
[4] سورة الأنفال، الآية 54.
[5] سورة هود، الآيتان 82 - 83.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج72، ص359.
[7] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور محمّد بن زين الدين، عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقيّ، دار سيّد الشهداء للنشر، إيران - قمّ، 1403هـ - 1983م، ط1، ج1، ص377.
[8] پاينده، أبو القاسم، نهج الفصاحة (الكلمات القصار للنبيّ -)، دنياى دانش، إيران - طهران، 1424ه، ط4، ص265.
[9] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص113.
[10] الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين '، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص168، الدعاء 38.
[11] ابن المشهديّ، محمّد بن جعفر بن عليّ المشهديّ الحائريّ، المزار الكبير، تحقيق جواد القيّوميّ الأصفهانيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم، إيران - قمّ، 1419هـ، ط1، ص663.
[12] المصدر نفسه، ص663.
[13] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 14/01/2001م.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج91، ص42.
[15] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص92.
[16] المصدر نفسه.
[17] المصدر نفسه.
[18] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص394.
[19] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج4، ص264.
[20] قطب الدين الراوندي، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق ونشر مؤسّسة الإمام المهديّ % بإشراف السيّد محمّد باقر الموحد الأبطحيّ، إيران - قمّ، 1409ه، ط1، ج1، ص254.
71
الموعظة الثامنة عشرة: علماء الإيمان وحرّاس النهج الحسينيّ
الموعظة الثامنة عشرة
علماء الإيمان وحرّاس النهج الحسينيّ
هدف الموعظة
تسليط الضوء على الدور الجهاديّ الرساليّ لعلماء الدين في قيادة الأمّة وحماية هويّتها، وبيان صلتهم بمنهج الإمام الحسين % في النهضة والتضحية، من خلال النماذج الحيّة: السيّد عباس الموسويّ، الشيخ راغب حرب، السيّد حسن نصر الله، السيّد هاشم صفيّ الدين، رضوان الله تعالى عليهم.
محاور الموعظة
1. الدين بحاجة إلى قادة يؤمنون ويفعلون
2. المرجعيّة العلميّة المجاهدة - السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)
3. صوت الكرامة - الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)
4. القيادة الرساليّة - السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
5. المفكّر البصير - السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه)
6. العلماء أمناء الرسالة وحملة الدماء
تصدير الموعظة
الإمام الحسين %: «أمّا بعد، فقد علمتم أنّ رسول الله - قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيِّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يُدخله مدخله»[1].
الدين بحاجة إلى قادة يؤمنون ويفعلون
إنّ الدين لا يُحفظ بالكلام وحده، بل بالرجال الذين يحفظونه في نفوسهم ودمائهم. منذ استشهاد الإمام الحسين % صار النهج واضحاً: الدين بلا تضحية يذبل، والمجتمع بلا مرجعيّة يُضلَّل. فكان العلماء على امتداد تاريخنا ورثة الأنبياء، وامتداد الإمام الحسين % في صوته وموقفه ودمه، لا يقبلون الذلّ، ولا يهادنون الباطل، ولا يتركون الأمّة وحدها في
ظلمات التيه.
عن الإمام الصادق %: «قال رسول الله -: ... فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورَّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»[2].
وقد اختصّ عصرنا بمجموعة من العلماء الذين جسّدوا هذا الدور الحسينيّ، وفي طليعتهم: الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ، والشهيد الشيخ راغب حرب، وشهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله، والشهيد الهاشميّ السيّد هاشم صفيّ الدين، الذين شكّلوا معاً حلقات متكاملة في مشروع المقاومة والإحياء.
المرجعيّة العلميّة المجاهدة - السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)
السيّد عباس، ابن الحوزة، وتلميذ النجف، حمل همّ الدين منذ نعومة أظفاره. لم يكن عالماً منطوياً على كتبه، بل نزل إلى الميدان، وقاد الناس إلى ساحة الجهاد، وأسّس المقاومة على قاعدة «العلم والدم».
في أوج الاحتلال الصهيونيّ للجنوب، وفي مرحلةٍ كان فيها الصوت المقاوم يُراهن عليه في رسم معادلات الكرامة والتحرير، وقف سماحة السيّد عباس الموسوي (رضوان الله عليه) مبلوراً لخطٍّ واضح لا لبس فيه، خطٍّ يرى في وحدة الصف والكلمة والبندقيّة، طريقاً لا غنى عنه لمواجهة العدو الصهيونيّ. ومن على منبر ذكرى استشهاد الشيخ راغب حرب، أطلق السيّد صرخته الراسخة، محدِّداً بوصلة الصراع، ومؤكِّداً وحدة الجبهة الداخليّة، وتركيز الجهد نحو العدوّ الحقيقيّ، قائلاً: «إنّنا نريد من الجميع أن يبقوا صفّاً واحداً، وأن يوجّهوا دماءهم ويوجّهوا سلاحهم في وجه إسرائيل... المهمّ أن لا يكون هناك تنازل عن البندقيّة الواحدة في وجه العدوّ الصهيونيّ»[3].
بهذه الكلمات، رسم السيّد معالم المرحلة: لا حياد في قضيّة المقاومة، ولا مكان للتنازلات، فكلّ بندقيّة لا تتوجَّه إلى العدوّ هي بندقيّة مشبوهة، وكلّ خلافٍ يُمزّق الصفوف هو خدمة مجانيّة للاحتلال.
في الرؤية الإيمانيّة التي قدّمها السيّد عبّاس الموسويّ، لم تكن كربلاء مجرّد واقعة تاريخيّة، بل كانت النواة التي تتكرّر في كلّ زمن حينما يواجه الحقُّ الباطلَ، وحينما يُراد للأمّة أن تنهض من جديد. من هنا، فإنّ السيّد الموسويّ ربط بين نهج الإمام الحسين % وبين كلّ حركة مقاومةٍ تحرّريّة، عادّاً أنّ روح كربلاء لا تقتصر على بقعة جغرافيّة أو زمن محدّد، بل تتجلّى حيثما وُجد الظلم والاستكبار والاحتلال. ومن صميم هذه الرؤية جاءت عبارته: «الحسين % هو أساس ثورتنا ومقاومتنا في لبنان»[4].
بهذا الربط العميق، أضاء السيد الموسوي على الامتداد الطبيعي لكربلاء في مقاومة الاحتلال الصهيوني، فكما فجّر الإمام الحسين % طاقات الأمة بدمه، فجّرها اليوم المجاهدون المقاومون بوعيهم وسلاحهم المستمدّ من تلك المدرسة.
صوت الكرامة - الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)
الشيخ راغب حرب لم يكن خطيباً عادياً، كان صاعقة في وجه المحتلّ، أوّل من قال، رافضاً وضع يده بيد الصهاينة: «الموقف سلاح، والمصافحة اعتراف»، فزرع في عقول الناس أنّ المواجهة ليست بالبندقيّة فحسب، بل بالكلمة التي تُسقط شرعيّة العدوّ.
لقد كان الشيخ راغب حرب يؤكّد على أنّ مقاومة الاحتلال الصهيونيّ هي امتداد لثورة الإمام الحسين %، وأنّ من يسير على درب الإمام الحسين % لا يمكن أن يرضى بالذلّ أو الاستسلام. ومن كلماته المعبّرة في هذا السياق: «نحن قلنا باسم الله كلمة سنقف عندها، إنّه لن نقبل بهذا الوضع (الاحتلال)... سنقف عند هذا الأمر، سنستمرّ به. ماذا سيكلّف؟ مئة ألف، مئتين؟ لا مانع»[5].
كما قال أيضاً: «نحن مرشّحون لأن نصبح جياعاً؛ لذلك علينا أن نقرّر موقفنا ونستمرّ بالمقاومة لهذا العدوّ، مهما كلّف الثمن. فإن استشهد منّا مئة ألف وبقينا أعزّاء، خير من أن نموت جوعاً، أو ننصاع لأوامر العدوّ»[6].
إنّ هذه المواقف تُجسّد الروح الحسينيّة التي كان يحملها الشيخ راغب حرب، وتُعبّر عن إيمانه العميق بأنّ اتّباع الإمام الحسين % يعني رفض الذلّ والتمسّك بالكرامة والعزّة، مهما كانت التضحيات.
القيادة الرساليّة - السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
السيّد حسن نصر الله هو الامتداد الحيّ لعلماء الحوزة الذين صنعوا المقاومة بالعقيدة أولاً، ثم بالبندقيّة. لم يأتِ من فراغ، بل تدرّب في مدرسة الإمام المغيَّب السيّد موسى الصدر والسيّد عبّاس والشيخ راغب، ونهل من فكر الإمام الخمينيّ !، وسار على خطى الإمام الحسين %.
قاده تكليفه الشرعيّ إلى تولّي مسؤوليّة لا يتحمّلها إلّا من باع نفسه لله. لم يبحث عن شهرة، بل عن رضا الله، فجعل من المقاومة حركة إيمانيّة قبل أن تكون عسكريّة. وكلّ خطاب من خطاباته كان مشبعاً بحضور الإمام الحسين %، وملؤه يقين، وهو القائل: «أين الحسين اليوم في العالم؟ وأين يزيد اليوم في العالم؟ أليس هذا من معالم انتصار الدم الحسينيّ؟ هذه الظاهرة التي لا مثيل لها في التاريخ المعاصر... نحن ومَن معنا في العالم كلّه ممّن يحيي هذه المناسبة، عليهم مسؤوليّة تاريخيّة، هي الحفاظ على هذه المناسبة، وعلى إحيائها وعنوانها وصورتها وشعاراتها وشعائرها ومعناها ودلالاتها،
الحفاظ عليها وعلى مكانتها وعلى إشراقتها وعلى عظمتها وعلى حضورها الوجدانيّ وعلى قداستها وعلى احترامها»[7].
هو القائد الذي وعد فصدق، وانتصر فتواضع، وواجه فثبّت الأمّة، وكرّر دائماً وجوب الحفاظ على نعمة المقاومة، مهما كانت الظروف: «هذه النعمة، نعمة المقاومة، يجب أن نتمسّك بها بقوّة، ولا يجب أن يُتأثّر بكلّ هذه الأصوات التي لا تقدّم بديلاً على الإطلاق، تتحدّث إنشائيّات، تتحدّث خيالات، تتحدّث أوهاماً، تتحدّث سراباً، المقاومة قدّمت إنجازات، قدّمت انتصارات، قدّمت نتائج ملموسة»[8].
المفكّر البصير - السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه)
السيّد هاشم صفي الدين، رجل العقل والبصيرة، والكلمة المتّزنة العميقة. كان صوته نافذاً، يخترق الجهل والتضليل، وينير عقول السامعين بحكمة العلماء وبصيرة الأولياء.
هو مَن حمل على عاتقه مسؤوليّة التعبئة الفكريّة والإيمانيّة، فكان يواجه الحرب الناعمة بالكلمة الواعية، ويؤسّس لوعي حسينيّ يستمرّ في مواجهة الباطل مهما تغيّر شكله.
وفيه يقول الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلّه): «كانَ سماحتُه من أبرزِ الشخصيّاتِ العظيمةِ في حزبِ اللهِ، وكانَ الناصرَ والرفيقَ الدائمَ لسماحةِ السيّدِ حسن نصرِ اللهِ. بفضلِ حكمةِ وشجاعةِ قادةٍ مثلِ سماحتِه، استطاعَ حزبُ اللهِ أن يصونَ لبنانَ من خطرِ التقسيمِ والانهيارِ مجدّداً، وأن يُحبِطَ تهديدَ الكيانِ الغاصبِ».
عرفناه محاضراً وموجّهاً ومربّياً، يزرع في الشباب حبّ الدين والمقاومة، ويربّيهم على الصبر والبصيرة والولاية، وهو القائل: «إنّه لَمِن دواعي الفخرِ والاعتزازِ، أنْ ينتميَ الإنسانُ إلى هذه المسيرةِ الإلهيّةِ والجهاديّةِ المقاوِمةِ، وأنْ يبذلَ عمرَه وعِلمَه وكلَّ ما يملكُ ومَنْ يحبُّ في سبيلِ إعزازِ هذه المسيرةِ ورفعِ رايتِها؛ ذلك أنّها رايةُ الهدى في منطقتِنا، وهِيَ الدالّةُ على الحقِّ، والداعيةُ إلى الإيمانِ، والحاملةُ لهمومِ المستضعَفينَ والمظلومينَ والمحرومينَ... ويكفينا فخراً أنّ حزبَ اللهِ هو النبتةُ الطاهرةُ التي غرسَتْها اليدُ المباركةُ للعالِمِ الربّانيِّ والعارِفِ الكاملِ والقائدِ المُلهِمِ في هذا العصرِ الإمامِ الخمينيِّ (رضوانُ اللهِ عليه)»[9].
العلماء أمناء الرسالة وحملة الدماء
لقد جسّد هؤلاء العلماء عاشوراء في سلوكهم، وبنوا مجتمعاً مقاوماً، يعرف الحسين، ويحبّ الحسين، ويقتدي بالحسين، ويقاتل كما قاتل الحسين.
لقد أدركوا أنّ المشروع الحسينيّ لا يمكن أن يُختصر في البكاء، بل لا بدّ من أن يتحوّل إلى مشروع حضاريّ نهضويّ يُقاوم الظلم، ويُحرّر الإنسان من الجهل والتبعيّة، ويُعيد الدين إلى مركز الفعل الاجتماعيّ والسياسي.
حين نتأمّل في سيرة هؤلاء العلماء، ندرك أنّهم لم يكونوا رجالاً عاديّين، بل كانوا تجلّياً حديثاً لكربلاء. هم من حملوا السيف والكلمة، ووقفوا في وجه الظلم، وربّوا أجيالاً على منهج الإمام الحسين %.
إنّهم النموذج الذي تحتاج إليه الأمّة اليوم، في زمن التزييف والخذلان والتطبيع. إنّهم الذين حافظوا على الهويّة، وعلى الدماء الزاكية التي سالت على تراب الجنوب والضاحية وبنت جبيل ومروحين وصور والبقاع وسهل البقاع.
في الختام، إنّ الإمام الحسين % لم يُضحِّ فقط لينتصر على يزيد، بل ليُخلّد طريقاً تُكمل فيه الأجيال مسيرة الوعي والكرامة. وإنّ العلماء الربّانيّين هم حَمَلة هذه الرسالة، وهم أمناؤها، وهم الحصن الأخير في وجه كلّ سقوط وتطبيع وخيانة؛ فطوبى لمن سار على دربهم، وجعل من دمهم منارة تهدي في ليالي الفتن.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص382.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ص116.
[3] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 16/02/1991م.
[4] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 15/07/1991م.
[5] من موقع جمعيّة الإمام الصادق % لإحياء تراث جبل عامل.
[6] المصدر نفسه.
[7] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 19/09/2018م.
[8] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 01/10/2022م.
[9] وصيّة الأمين العامّ لحزب الله الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين !، ص18.
76
الموعظة التاسعة عشرة: الانتظارُ المهدويُّ وثمرةُ عاشوراء
الموعظة التاسعة عشرة
الانتظارُ المهدويُّ وثمرةُ عاشوراء
هدف الموعظة
ترسيخُ العقيدة المهدويّة في الوجدان الحسينيّ، وبيان أنّ الانتظار الفعّال لصاحب العصر والزمان % هو امتدادٌ حيٌّ لمسيرة الحسين % وثورته، ووسيلة لإعداد النفس والمجتمع لقيام دولة العدل الإلهيّ المنتظر.
محاور الموعظة
1. القضيّة المهدويّة في منظومة الدين
2. المهدويّةُ عقيدةٌ إسلاميّة جامعة
3. الانتظارُ فعلُ التمهيد وبناءُ الذات والمجتمع
4. المهدويّة امتدادٌ لعاشوراء
تصدير الموعظة
﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[1].
الإمام الباقر %: «وجدنا في كتابِ عليٍّ %: أنا وأهلُ بيتي الذين أُورِثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرضُ كلُّها لنا»[2].
القضيّة المهدويّة في منظومة الدين
تُعَدُّ القضيّةُ المهدويّةُ من أركانِ العقيدة الإسلاميّة، ومركزاً من مراكز الارتباط بالله وبالرسالات السماويّة، لأنّها تُبشِّرُ بتحقّق ما بُعِث من أجله الأنبياء (، ألا وهو إقامةُ عالمٍ موحَّدٍ يسودُه التوحيدُ والعدل.
إنّ عصرَ الظهور هو عصرُ حاكميّة الله، ومجتمعُ التوحيد العمليّ، حيثُ يُستقرُّ العدلُ الكاملُ والشاملُ في الأرض.
وقد كانت جميعُ التحرّكاتِ الإلهيّة في التاريخ، تحت راية الأنبياء (، تسير نحو هذه الغاية العظمى. فلو لم تكن دولةُ المهديّ %، لَما كان لتلك الجهودِ والدماءِ والتضحياتِ معنى، ولا لبعثات الأنبياء أثرٌ فعليّ.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «فالدعاةُ الإلهيّون لم تنقطع سلالتُهم اليوم، والوجودُ المقدّسُ لبقيّة الله الأعظم (أرواحنا
فداه) هو استمرارُ سلالة الدعاة الإلهيّين، إذ تقرؤون في زيارة آل ياسين: «السلام عليك يا داعيَ الله وربّانيَّ آياته»[3]»[4].
المهدويّةُ عقيدةٌ إسلاميّة جامعة
ليست المهدويّةُ شأناً خاصّاً بالشيعة فحسب، بل هي من القضايا المُسلَّم بها عند عامّة المسلمين، بل وأجمعت المذاهبُ الإسلاميّةُ على أنّ غاية العالم ستكون إقامة حكومة العدل الإلهيّ على يد رجلٍ من آل بيت النبيّ -.
غير أنّ ما تمتاز به المدرسة الإماميّة هو تحديدُ هويّة هذا القائد المنتظَر تحديداً واضحاً وقاطعاً، فهو:
- من أهل بيت النبيّ $
- من وُلدِ فاطمة &
- من ذرّيّة الحسين %
- آخر الأوصياء الاثني عشر (
- اسمه كاسم النبيّ -
عن النبيّ -: «وهو رجلٌ منّي، اسمه كاسمي، يحفظني اللهُ فيه، ويعمل بسنّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً بعدما تمتلئ ظلماً وجوراً وسوءاً»[5].
الانتظارُ تكليفٌ إيمانيّ وليس موقفاً سلبيّاً
ليس المقصودُ من المهدويّة الإيمانَ بوجود الإمام فحسب، بل يُلازمها موقفٌ عمليّ هو الانتظار. والانتظار في المفهوم القرآنيّ والروائيّ ليس انتظارَ الكسالى، بل هو حالةٌ من الترقّب الواعي، والعمل المستمرّ، والتهيئة الذاتيّة.
وقد شبّهت الروايات حال الإمام الغائب بحال يوسف %، الذي كان حاضراً بين إخوته، يروْنه ولا يعرفونه، عن الإمام الصادق %: «وأمّا سنّة من يوسف، فالستر، يجعل اللهُ بينه وبين الخلق حجاباً، يرَونه ولا يعرفونه»[6].
والانتظارُ ليس انتظاراً زمنيّاً، بل هو مسارٌ عمليّ يُمهّد لظهور الإمام، عن أمير المؤمنين %: «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من رَوحِ الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظارُ الفرج ما دام عليه العبدُ المؤمن»[7].
الانتظارُ فعلُ التمهيد وبناءُ الذات والمجتمع
عن أبي بصير قال: قلتُ لأبي عبد الله %: جُعلتُ فداك! متى الفرج؟ فقال: «يا أبا بصير، وأنت ممَّن يريد الدنيا؟! مَن عرف هذا الأمر، فقد فُرِّج عنه لانتظارِه»[8].
فالفرج ليس موقِعاً زمنيّاً فقط، بل هو حالٌ روحيّ ومعنويّ، يُحقّقه المؤمن بإعداد نفسه، وتنقية قلبه، والتخلّي عن الرذائل، والتحلّي بالفضائل، عن الإمام الصادق %: «مَن سرَّه أن يكون من أصحاب القائم، فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظِر»[9].
ويقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الانتظار يوجب على الإنسان أن يُعدَّ نفسَه بطريقةٍ وهيئةٍ وخُلُق، يقارب الشاكلةَ والهيئةَ والخُلُق المتوقَّع في الزمان الذي ينتظره»[10].
ويرى الشهيد الهاشميّ (رضوان الله عليه)، أنّ هذا التمهيد والإعداد هو من الوظائف الكبرى الملقاة على عاتق حزب الله، إذ يقول: «إنّ الوظيفةَ الكبرى الملقاةَ على عاتقِ حزبِ اللهِ، والتي وُفِّقَ إليها، هي كلٌّ مترابطٌ ومتسلسلٌ ومتناغمٌ، مِن بناءِ الشخصيّةِ، إلى بناءِ المجتمعِ الإيمانيِّ، مروراً بحفظِ الوطنِ والمقدّساتِ والقِيَمِ والكرامةِ الإنسانيّةِ، وصولاً إلى إنجازِ تجربةٍ إيمانيّةٍ-رساليّةٍ-جهاديّةٍ، على أملِ التوفيقِ بتمهيدِ الأرضِ لساعةِ الظهورِ المبارَكِ للإمامِ المهديِّ .»[11].
المهدويّة امتدادٌ لعاشوراء
إنّ عاشوراء لم تكن معركةً محدودةً في التاريخ، بل كانت رسماً لطريق التمهيد للعدل الإلهيّ، فالإمام الحسين % ثار ليُقيم الحقّ، ويُعيد الإسلام إلى نصابه، ويهيّئ الأرض للإمام القائم %؛ ولهذا قال الإمام الحسين %: «إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي -، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[12].
فنهضة الإمام الحسين % هي البذرة، وظهور الإمام المهديّ % هو الثمرة. والمؤمن الحسينيّ هو المنتظر الذي يحمل سيف الإمام الحسين % في قلبه، وراية المهديّ % في روحه، يربط بين الدم الزاكي في كربلاء، وبين نور العدل الإلهيّ في الظهور.
خاتمة
يا شيعة الحسين، ويا أنصار المهديّ، الانتظار ليس انكفاءً ولا تواكلاً، بل هو مسؤوليّة إيمانيّة كبرى، تُحتّم علينا التهيّؤ الشخصيّ، والاجتماعيّ، والأخلاقيّ، والسياسيّ، لزمن الظهور، وتُحوّل كربلاء من مأساةٍ إلى مشروعٍ، ومن دموعٍ إلى تخطيط.
اللهمّ اجعلنا من المنتظرين حقّاً، العاملين صدقاً، تحت راية وليّك الحجّة بن الحسن .، وارزقنا توفيق الثبات في زمان الغَيبة، واللحاق بنهضته عند الظهور، والموت على ولايته.
[1] سورة الأعراف، الآية 128.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص407.
[3] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص493.
[4] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، إعداد ونشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، 2015م - 1437هـ، ط2، ص456.
[5] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص161.
[6] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1405هـ - 1363ش، لا.ط، ص351.
[7] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص616.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص371.
[9] النعمانيّ، الغَيبة، مصدر سابق، ص207.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 09/07/2011م.
[11] وصيّة الأمين العامّ لحزب الله الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين !، ص66.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.
81
الموعظة العشرون: الغيبة الكبرى حكمةٌ إلهيّة واستمرارٌ لثورة كربلاء
الموعظة العشرون
الغيبة الكبرى حكمةٌ إلهيّة واستمرارٌ لثورة كربلاء
هدف الموعظة
بيان حكمة غيبة الإمام المهديّ .، واستعراض بعض الفوائد الروحيّة والتمهيديّة لهذه المرحلة، مع إبراز الصلة بين هذه الغيبة وبين ثورة الإمام الحسين % كرافدٍ أساسيٍّ للتمهيد للظهور الشريف.
محاور الموعظة
1. بداية الغيبة الكبرى: التوقيع الأخير
2. الغيبة سرٌّ من سرِّ الله
3. من حكم الغيبة وفوائدها
4. الانتفاع بالإمام في غيبته
5. كربلاء والغيبة: الامتداد الطبيعيّ للثورة
تصدير الموعظة
الإمام الصادق %: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبةً لا بدّ منها، يرتاب فيها كلُّ مبطل»[1].
بداية الغيبة الكبرى: التوقيع الأخير
في الرابع من شوّال سنة 329 للهجرة، ارتحل السفيرُ الرابع للإمام المهديّ .، الشيخ عليّ بن محمّد السمّريّ !. وقد صدر قبل وفاته بأيّام توقيعٌ شريفٌ من الإمام %، جاء فيه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، يا عليُّ بنَ محمّد السمّريّ، أعظَمَ اللهُ أجرَ إخوانِك فيك، فإنّك ميِّتٌ ما بينَك وبينَ ستّةِ أيّام، فاجمَع أمرَك، ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقوم مقامَك بعدَ وفاتِك، فقد وقَعَتِ الغيبةُ الثانية، فلا ظُهورَ إلّا بعد إذنِ اللهِ عزّ وجلّ، وذلك بعد طولِ الأمدِ، وقسوةِ القلوبِ، وامتلاءِ الأرضِ جوراً. وسيأتي شيعتي مَن يدّعي المشاهدة، ألا فمَنِ ادّعى المشاهدةَ قبلَ خروجِ السفيانيّ والصيحة، فهو كاذبٌ مُفترٍ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ العليّ العظيم»[2].
وهكذا ابتدأت مرحلة الغيبة الكبرى، التي ما زالت قائمة، بانتظار أن يُؤذَن للإمام % بالظهور المبارك ليملأ الأرض
قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً.
الغيبة سرٌّ من سرِّ الله
تتردّد على الألسنة أسئلة مشروعة: لماذا غاب الإمام؟ ما العلّة؟ ومتى ينتهي هذا الغياب الطويل؟
نحن نُؤمن بأنّ أفعال الله تعالى كلّها حكمة، وإن خفي علينا وجهُها. وقد جاء في حديث عبد الله بن الفضل الهاشميّ أنّه سأل الإمام الصادق % عن سبب الغيبة، فقال له: «لأمرٍ لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم».
ثمّ أوضح الإمام أنّ وجه الحكمة في غيبته كوجه الحكمة في أفعال الخضر %، والتي لم تتّضح لموسى % إلّا بعد افتراقهما، مضيفاً: «إنّ هذا الأمرَ أمرٌ من أمرِ الله، وسرٌّ مِن سرِّ الله، وغيبٌ من غيبِ الله...»[3].
من حِكم الغيبة وفوائدها
1. الامتحان والتمحيص
الغَيْبة فرصةٌ لتمحيص المؤمنين واستخراج الصفوة منهم، الذين سيكونون أركان دولة الإمام، عن رسول الله -: «والّذي بعثني بالحقّ بشيراً، إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزُّ من الكبريت الأحمر»، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله، وللقائم من ولدك غيبة؟ قال -: «إي وربّي، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾[4]»[5].
وكذلك عن الإمام الرضا %: «والله، لا يكون ما تمدّون إليه أعناقَكم حتّى تُميَّزوا وتُمحَّصوا، فلا يبقى منكم إلّا الأندر، ثمّ قرأ قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[6]»[7].
2. الحفظ من القتل
كان الأئمّة ( تحت الملاحقة الدائمة من الحكّام الظالمين، وقد استُشهد معظمهم بأيدي الطغاة. فلو كان الإمام المهديّ % ظاهراً، لقُتِل كما قُتل آباؤه، ولا سيّما أنّ السلطة العباسيّة كانت تعرفه بشخصه ومهمّته، عن الإمام الصادق %: «قال رسول الله -: لا بدّ للغلام من غيبة، فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل»[8].
3. عدم مبايعة الظالمين
من حكم الغيبة أيضاً أن لا يضطرّ الإمام إلى مبايعة حاكم جائر، كما ورد عن الإمام الصادق %: «يُبعَث القائم، وليس في عنقه بيعةٌ لأحد»[9].
4. قلّة الأنصار
عن الإمام أبي الحسن %: «يابن بكير، إنّي لأقول لك قولاً قد كانت آبائي & تقوله: لو كان فيكم عدّةُ أهلِ بدر، لقام قائمُنا»[10].
الانتفاع بالإمام في غيبته
إنّ غيبة الإمام المهديّ . لا تعني انقطاع الهداية الربّانيّة عن الناس، ولا تعطيل دور الإمامة في حياة الأمّة، بل يبقى الإمام الغائب واسطة الفيض الإلهيّ، وعين العناية الربّانيّة، ومصدر الهداية الباطنة للأفراد والمجتمعات.
وقد أكّد أهلُ البيت ( هذه الحقيقة في أحاديثهم، منها ما رُوي عن الإمام الصادق %: «لو بقيَت الأرضُ بغير إمامٍ، لساخت»[11]، وفي روايةٍ أخرى قال %: «ولم تخلُ الأرضُ منذ خلق اللهُ آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور...».
فسأله الأعمش: كيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب؟ فقال %: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»[12].
فكما أنّ الشمس تبعث النور والدفء والحياة، وإن غطّاها السحاب، فكذلك الإمام، فوجوده لطفٌ، وغيبته ابتلاء، ودوره مستمرّ في حفظ الدين، وهداية المؤمنين، ودفع البلاء، وتمحيص القلوب، وإن لم يكن ظاهراً للعيان.
وإنّ من لا يدرك كيف يُنتفع بالإمام الغائب إنّما يقيس الغيب بالحضور الحسّيّ، ويغفل عن أن لله سُبُلاً خفيّة في التأثير والتدبير، وكم من نِعَمٍ نعيشها لا نُبصر أسبابها، ولكنّنا نؤمن بوجودها.
لذلك، فإنّ الإيمان بالإمام في غيبته، والارتباط الروحيّ والعمليّ به، إنّما هو من علامات صفاء العقيدة وصدق الانتظار، كما في دعاء زمن الغيبة: «اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ، لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ، لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي»[13].
وعن هذا الارتباط يقول الشهيد الهاشميّ السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه): «إنّ الارتباطَ بالإمامِ المهديِّ . في عقيدتِنا وثقافتِنا، هو ارتباطٌ فعليٌّ وعاطفيٌّ ونفسيٌّ بإمامٍ وقائدٍ حيٍّ وموجودٍ، وبالتالي هو ليس عشقاً صنعَتْه الآمالُ، أو نزوحاً نفسيّاً ونزوعاً باطنيّاً يخفيان الضعفَ والقهرَ والعجزَ، إنّه ارتباطٌ عاطفيٌّ فيه كلُّ عواملِ التفاعلِ والمحبّةِ والانتظارِ، وفيه كلُّ معاني الواقعيّةِ والانشدادِ المحقَّقِ نحوَ القائدِ والإمامِ الذي ادّخرَه اللهُ تعالى للبشريّةِ كافّةً»[14].
كربلاء والغيبة: الامتداد الطبيعيّ للثورة
إنّ كربلاء لم تكن حادثةً عابرة في الزمن، بل كانت منعطفاً حاسماً في مسيرة الإمامة، ومُمهِّدة لمرحلة الغيبة الكبرى التي تلتها. ففي كربلاء، رسّخ الإمام الحسين % القيمَ الجوهريّة لمشروع الإمامة الإلهيّة: الصمود في وجه الانحراف، والثورة على الباطل، والدم المراق في سبيل الحفاظ على دين الله.
لقد واجه الإمام الحسين % مشروع تحريف الدين، ووقف سدّاً منيعاً أمام محاولات تشويهه وطمس معالمه، وبذلك حفظ مسار الإمامة من الضياع، ومهّد الأرضيّة لعصر الغيبة الذي لا يستقيم إلّا على قاعدة الولاء الصافي والوعي الرساليّ، اللذين بَذَرَ بذورهما في كربلاء.
فالغيبة الكبرى للإمام المهديّ . ليست انقطاعاً عن ذلك المشروع، بل هي امتداد طبيعيّ له، واستمرار لمعركة الإمام الحسين % ضدّ الظلم والفساد، والإمام المنتظر هو ثمرة تلك الدماء الزكيّة، وريث تلك الثورة المباركة، الذي سيظهر ليكمل المسيرة ويبلغ بها غايتها.
وقد عبّر الإمام الصادق % عن هذا المعنى العميق في زيارته لجدّه الحسين %: «أَشْهَدُ أَنَّكَ أَمِينُ الله وَابْنُ أَمِينِهِ، عِشْتَ سَعِيداً، وَمَضَيْتَ حَمِيداً، وَمُتَّ فَقِيداً مَظْلُوماً شَهِيداً، وَأَشْهَدُ أَنَّ الله مُنْجِزٌ ما وَعَدَكَ، وَمُهْلِكُ مَنْ خَذَلَكَ، وَمُعَذِّبُ مَنْ قَتَلَكَ»[15].
فدم الإمام الحسين % لم يُهدر، بل صار أمانةً ورايةً تُرفع في وجه الطغاة على مرّ العصور، وسيبقى هذا الدَّم حيّاً نابضاً إلى اليوم الموعود، حين يظهر القائم من آل محمّد . ليُنادي بشعار كربلاء الخالد: «يا لثارات الحسين»[16].
إنّ إحياء أمر الإمام الحجّة . ليس مجرّد شعيرة، بل هو مواصلة لخطّ كربلاء، وتأكيد الارتباط العميق بين الثورة الحسينيّة ومشروع الظهور المقدّس، حيث يُنتظر الإمام ليكون هو الآخذ بثأر جدّه، والمُقيم لعدلٍ طال انتظاره.
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص246.
[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص516.
[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص246.
[4] سورة آل عمران، الآية 141.
[5] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص288.
[6] سورة العنكبوت، الآيتان 1 - 2.
[7] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص375.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص90.
[9] ابن بابويه القمّيّ، عليّ بن الحسين، الإمامة والتبصرة، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ %، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط1، ص116.
[10] الطبرسيّ، الشيخ عليّ بن الحسن، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق مهديّ هوشمند، دار الحديث، لا.م، 1418ه، ط1، ص128.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص179.
[12] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص253.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص337.
[14] وصيّة الأمين العامّ لحزب الله الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين !، ص65.
[15] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج6، ص113.
[16] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص192.