درب الهداية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطاهرين.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "خرج الحسين بن عليّ عليهما السلام على أصحابه وقال: أيّها النّاس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"1.

 

فلا قيمة ولا معنى لأيّ عبادة إن لم تكن مقرونة بالعلم والمعرفة، بل إنّ العبادة الصحيحة والمقبولة شرطها الأساسي المعرفة الصحيحة. ومن هنا نفهم معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ2 أي ليعرفون كما جاء في التفاسير، لأنّ قيمة العبادة بحسب المعرفة التي تختزنها، حتّى جعل أمير المؤمنين عليه السلام قيمة كل إنسان مقدار ما يعلمه: "قيمة كلّ امرئ ما يعلمه"3 .

 

بل وجعل عليه السلام كمال الدين بطلب العلم والعمل به كما قال عليه السلام: "أَيها الناس اعلموا أَن كمال الدين طلب العلم والعمل به، أَلا وإنّ طلب العلم أَوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسومٌ مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أَهله وقد أمرتم بطلبه من أَهله فاطلبوه"4.

 

إنّ هذا لأمرٌ صريح وواضح من مولى الموحّدين بضرورة طلب العلم وعدم التساهل أو الاستخفاف فيه، لأنّه لا نجاة للإنسان إلا بالعلم والتعلّم، كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: "يا هشام لا نجاة إلا بالطّاعة والطّاعة بالعلم والعلم بالتّعلّم والتّعلّم بالعقل يُعتقَدُ


1-م.ن، ج5، ص 312.

2-الذاريات، 56.

3- بحار الأنوار، ج1، ص 165.

4- الكافي، ج1، ص 30، باب فرض العلم.

6


1

المقدمة

 ولا علم إلّا من عالم ربّانيّ ومعرفة العالم بالعقلِ"5.

 

وهذا المتن الثقافيّ هو محاولة لإزكاء روحية طلب العلم في النفوس وإبقاء شعلته مضيئة. والأمل كلّ الأمل أن تغدو هذه الكلمات شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي ثمارها الطيبة في الدنيا والآخرة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء6.

 

وقد حرصنا في كتابة هذا المتن على إعداده بطريقة هادفة ومدروسة، حيث رتّبت دروسه بأسلوب منهجيّ ومترابط، لذا من الضروريّ المحافظة على التسلسل من أجل بلوغ الأهداف المتوخّاة من هذا المتن، والتي يمكن أن نختصرها بالتالي:

- تثبيت روحية الارتباط بالله سبحانه وتعالى في النفوس.

- معرفة أنّ الارتباط الصحيح بالله تعالى يكون من خلال الإيمان والعمل الصالح.

- بيان أنّ الذنوب والمعاصي هي من أهمّ الموانع والعوائق التي تحول دون تحقّق هذه الروحية.

- التأكيد على أنّه من المستحيل تحقيق الرابطة السليمة بالله تعالى من دون تهذيب النفس وطلب العلم.

- التعرّف إلى جملة من الرذائل والفضائل الأخلاقية التي بمعرفتها يتّقي الإنسان من الوقوع في الفاسد منها والتحلّي بالصالح منها.

- التأكيد على أن شرط الارتباط السليم بالله تعالى موقوف على الارتباط السليم أيضاً بكتابه الكريم وأئمة الهدى والدين.

- بيان أنّ عبادة الحقّ تعالى هي براق العروج إليه وأنّ الصلاة والدعاء هما أفضل وسيلة لعروج الروح إليه.


5- وسائل الشيعة، ج27،ص19.

6- ابراهيم، 24.

 

7


2

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 القسم الأول


السبيل إلى الله

 

8


3

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 الدرس الأول:


الإرتباط بالله تعالى

 

على الطالب مع نهاية الدرس ان:
1- يتعرّف إلى هدف الإسلام من خلق الإنسان.

2- يبيّن كيفية تحقّق هذا الهدف السامي في الحياة الإنسانية.

3- يشرح أنّ الحكمة من إيجاد الفطرة الإنسانية وإرسال الأنبياء هو تذكير الناس بالهدف النهائيّ للخلقة.

10


4

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 هدف الإسلام

إذا أردنا أن نختصر الهدف الأساس للإسلام ولكلّ الأديان السماوية بكلماتٍ بسيطةٍ يمكن أن نوجزها بجملةٍ واحدة هي: ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى وبعالم الآخرة. هذا الارتباط الذي يتجلّى من خلال معرفة الله والإيمان به: "أوّلُ الدّين معرِفَتهُ وكمال معْرِفتِه التّصديق1 بِه وكمالُ التّصديق به توحيدُه"2.

 

الإنسان هو الوحيد من بين جميع مخلوقات الله الذي استحقّ هذه الكرامة والمنزلة لما حباه الله تعالى من نعمة العقل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا3، وأفاض عليه من روحه: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي4، فاستحقّ بذلك لقب خليفة الله في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً5.

 

فالارتباط بالله هو الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان، والغاية التي من أجلها أوجد في هذه الحياة الدنيا. وقد سخّر الله تعالى للإنسان كلّ شيء، ووهبه كلّ ما يلزمه ويحتاجه لبلوغ هذا المقصد الشريف: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً6.

 

الدنيا ليست هي الهدف

ولم تكن هذه الحياة الدنيا الفانية والزائلة بحالٍ من الأحوال مستقرّ الإنسان الدائم وهدفه النهائيّ، بل هي بمثابة الممر الإجباريّ والمعبر الوحيد إلى المقصد النهائيّ والنعيم الباقي، وهي مزرعة الآخرة التي فيها يكون الزرع وفي الآخرة حصاده: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا


1-التصديق، الإيمان.

2-نهج البلاغة، خطبة 39.

3-الحج، 46.

4- الحجر، 29.

5- البقرة، 30.

6- لقمان، 20.

12


5

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ7، وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "إنّما الدّنيا دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذوا من ممرّكم لمستقركم" 8. وهو عزّ اسمه لم يسخّرها للإنسان إلّا لأجل بلوغ هذا الهدف السامي دون سواه، فهذه الدنيا هي فرصة الإنسان الوحيدة والسانحة والتي من خلالها يمكنه أن يعرج الى جنة الآخرة ولقاء الحق: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ9. ونصيب الإنسان من الدنيا هو ما قسمه الله له وقدّره له من رزقٍ فيها، من الصحة والمال وغيرهما من النّعم التي يفترض أن يسخّرها الإنسان لدار بقائه. فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تنس صحتك وقدرتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة" 10.

 

وأمّا الذين نسوا الآخرة، ورضوا بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، فقد ظلموا أنفسهم واستحقّوا العقاب الإلهيّ لأنّهم استبدلوا الدنيا بالآخرة، فكان العذاب من نصيبهم مرّتين؛ عند فراقهم للحياة الدنيا، وعند دخولهم النار: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ11.

 

معنى الارتباط بالله تعالى

الارتباط بالله سبحانه وتعالى يعني حضوره الدائم في حياتنا، وعدم الغفلة عنه أبداً، والتوجه إليه دائماً. فلا نعبد غيره، ولا ندعو سواه، ولا نطلب حوائجنا إلّا منه. فالإنسان عندما يدرك أنّ الله تعالى خالقه وهو مالكٌ لكلّ شيء وبيده كلّ شيء وله الأمر كلّه وهو ربّ العالمين، فمن الطبيعيّ أن يتوجّه إليه بالعبودية والتسليم: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ12. وحضور الله تعالى في حياتنا يتحقّق من خلال أمرين أساسيّين هما:

- الإيمان.

- والعمل الصالح.


7- النحل، 30.

8- غرر الحكم، ص 149

9- القصص، 77

10- معاني الأخبار، تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 139.
11- يونس، 7 و8.

12- الانعام، 102.

13


6

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 وبمراجعة الآيات الشريفة التي تحدثت عن شروط الفوز بالجنة والنجاة من العذاب، نجد أنّ الإيمان والعمل الصالح هما العاملان الأساسيان بل الوحيدان لأنّ إيمان الإنسان بشيءٍ هو الدافع والموجه نحوه. فمن آمن بالله عزَّ وجلَّ توجّه إليه وطلبه وسلك طريقه: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى13. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ14.

 

ومن سياق هذه الآيات وغيرها الكثير التي وصفت أهل الجنة وشروط الدخول إليها، ومن خلال التأكيد المتكرّر على العمل الصالح عند ذكر أهل الجنّة من المؤمنين، نجد أنّ الإيمان دون العمل الصالح لن يكون كافياً للفوز بالجنة ولقاء الحقّ، فالإيمان شرطٌ أساسيّ في التوجه إلى الله. وكلّما ازداد الإيمان قوي التوجه إلى الله أكثر. والعمل الصالح بدوره وسيلةٌ لتثبيت هذا الإيمان في القلب والازدياد منه: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾15. ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ16.

 

كلّ ما في الوجود يدعو إلى الله

إنّ من له أدنى إلمام بتعاليم الإسلام وأحكامه يعلم أنّ الأصل الأوّليّ والمحور المركزيّ الذي تدور حوله جميعها هو تحقيق الارتباط الصحيح والعميق بالله تعالى.

1- الآيات الآفاقية والأنفسية:

فنحن إذا تأملنا في السماوات والأرض وفي جميع الحقائق التي ذكرت في الإسلام من قبيل الجنة والنار والآخرة والأنبياء والأوصياء، لوجدنا أنها جميعها بمنزلة الآيات الدالّة على الله سبحانه وتعالى. فهي آيات الحقّ سبحانه التي تدفع وتوجّه الإنسان نحو المبدأ الأول


13- طه، 75 - 76.

14- النور، 55.

15- الكهف، 110.

16- البقرة، 62.

14


7

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 لتجعل تفكيره وتوجّهاته مركّزة وسائرة باتّجاه المطلوب، والتي تهدف إلى ربط الإنسان فكرياً وعقائدياً وقلبياً بالحقّ سبحانه، فيزداد إيمان الإنسان بالله ويقوى تعلّقه به أكثر: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ17. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾18. ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ19.

 

2- الأحكام والتشريعات الإلهية:

وإذا جئنا إلى الأحكام المنبثقة من تعاليم الإسلام، من عباداتٍ وطاعات، وأوامرَ عليه السلامونواهٍ، لوجدنا أيضاً أنّ كل حكم فيها إنّما يهدف إلى ربط الإنسان بالحقّ تعالى. فما تشريع الصلاة، والصوم، والحجّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والخمس، وغيرها من الأحكام إلّا لإحكام هذه العلاقة بين الإنسان وخالقه. فعندما يلتزم الإنسان بأوامر الحقّ الشرعية وأحكامه العملية وينتهي عن نواهيه فهو في حالة ارتباط به، كونه ينفّذ أوامره وينتهي عن نواهيه . والحكمة من هذه الأحكام الإلهية والهدف منها ربط الانسان عملياً بالحقّ.

إذاً، فالحقائق التي هي آياتٌ والأعمال التي هي طاعاتٌ وقربات، كلها تريد أن تُحكِم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وليس الإسلام سوى هذا. وإنّ أية سعادة أخرى إنّما تنبع من هذه السعادة الواقعية، ودونها لا يبقى للسعادة معنىً سوى الوهم.

 

اللطف الإلهيّ

من عناية الله بعباده ورحمته بهم، ولبيان الأحكام والحقائق الإلهيّة وكشفها للناس حتّى يكونوا على بيّنة من أمرهم، وليعرفوا الهدف من وجودهم، ولإتمام الحجة عليهم فلا يقولوا: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى20 كان لا بدّ من أمرين أساسيين لكي تكتمل الحجّة على الناس هما:


17- فصلت، 53.

18- آل عمران، 190.

19- الرعد، 2.

20- طه، 134.

15


8

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 1- الأنبياء والرسل:

 

أرسل الله عز وجل رسله إلى الناس وبعث فيهم الأنبياء مبشّرين ومنذرين لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الحيرة والشقاء إلى نور السعادة والتوحيد، ولتخليص الناس من مستنقع الدنيا وفسادها ليصلوا إلى أعلى مراتب الرقيّ والكمال الإنسانيين. فخاطبوا فطرة الإنسان وتوغّلوا في أعماق رغباته وبيّنوا له الطريق: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أَنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبلِيغ ويثيروا لهم دفائِن العقول"21، فكان هدفهم الأساسي هداية الإنسان إلى الله وإيصاله إلى السعادة الحقيقة بجوار الرب الودود. وحمّلهم عز وجل القوانين والتشريعات اللازمة التي تضمن للناس في حال التزموا بها الوصول إلى هذا الهدف السامي والفوز العظيم: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ22.

 

2- الفطرة الإنسانية:

ومن عناية الله تعالى أيضاً ورحمته الواسعة بعباده، أن خلق الإنسان وكوّنه بنحوٍ خاص وطريقةٍ فريدة، ليسهّل عليه عناء البحث عن مطلوبه من جهة، ولإتمام الحجّة عليه من جهة أخرى فلا يتذرّع بعدها بالحجج الواهية والأعذار البالية، حيث زوّده تعالى بفطرة التوحيد؛ وهي بمثابة النداء الباطني والتوجّه المعنوي الذي جعله الله تعالى داخل كل إنسانٍ ليهتدي من خلاله إلى ما تريده روحه وتبحث عنه. وهي من أهم القوى التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، فهي تحثّه دائماً وتطلب منه التوجّه إلى مصدر كل كمالٍ وأصل كل جمالٍ ومنبع كل سعادة، وقد أودعها الله نفس كل إنسان بعد أن أخذ منها صكّ الاعتراف أنه ربها وخالقها وإلهها الأوحد: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ23. ولمّا سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى:


21- بحار الأنوار، ج11، ص61.

22- الطلاق، 10 - 11.

23- الروم، 30.

16


9

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، ما تلك الفطرة؟ قال عليه السلام: "هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد"24.

 

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأَنَّ الله عز وجل خالقه كذلك قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ﴾"25.


24- الكافي، ج2، ص12.

25- م.ن، ص 13.

17


10

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 المفاهيم الرئيسة

1- الهدف الأساسي للإسلام هو ربط الإنسان بخالقه.

2- جميع الحقائق والأحكام الإلهية تدور حول محورٍ واحد أيضاً هو ربط الإنسان بالخالق جل وعلا.

3- المقصود من الارتباط بالله سبحانه وتعالى توجّهنا إليه وحضوره الدائم في حياتنا.

4- التوجه إلى الله يتحقق من خلال أمرين: الإيمان والعمل الصالح.

5- خلق الله تعالى الإنسان على فطرة التوحيد، وأرسل إليه رسله لتذكيره بأن مراده الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.



 

 

أسئلة حول الدرس

1- هل لوجود الإنسان هدف في هذه الحياة؟ وما هو هذا الهدف؟

2- ما المقصود من الارتباط بالله عز وجل؟ وهل هو ارتباط مادي أم معنوي؟

3- ما هو الهدف الأساسي من إرسال الأنبياء و الرسل إلى الناس؟

4- ما هي الفطرة؟ وما هي أهمّ ميّزاتها؟

18


11

الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى

 للمطالعة

الإنسان بفطرته يحب الله 26

إعلم أن للإنسان إن لم أقل كل موجود حباً فطرياً للكمال المطلق وحباً للوصول إلى الكمال المطلق. وهذا الحب يستحيل أن ينفصل عنه. كما أن الكمال المطلق محالٌ أن يتكرر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحق جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون. فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور، ولهذا فهم يتوهمون أنهم يطلبون شيئاً آخر وهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال ولا بالحصول على أي جمالٍ أو قدرةٍ أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالّتهم المنشودة. فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى هم في سعيٍ دائمٍ للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة. وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك. ولو أُعطي الساعون إلى القدرة والسلطة التصرف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرّات وكل ما فوقها ثم قيل لهم: إن هناك قدرة فوق هذه القدرة التي تملكونها وهناك عالمٌ أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم فهل تريدون الوصول إليها؟

 

فإنهم من المحال أن لا يتمنّوا ذلك، بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضاً! وهكذا طالب العلم فهو إن ظن أن هناك مرتبة أخرى غير ما بلغه فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي القدرة للوصول إليه، أو يا ليت لي سعة ً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!

 

إن ما يُطمِئنُ الجميع ويخمد نيران النفس المتمرّدة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلّ وعلا؛ إذا كان مظهراً له، فإن الاستغراق فيه يبعث الطمأنينة والهدوء وكأن قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ27 هو نوع من الإعلان أن: انتبه انتبه! عليك أن تلجأ إلى ذكره حتى تحصل على الطمأنينة لقلبك الحيران الذي يواصل القفز من مكان إلى مكان والطيران من غصنٍ إلى غصن.

الإمام الخميني قدس سره


26- وصايا عرفانية، ص20.

27- الرعد، 28.

 

19


12

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 الدرس الثاني:

طريق الارتباط بالله

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يشرح الطريق الصحيح للارتباط بالله عزّ وجلّ.

2- يتعرّف إلى حقيقة الإنسان.

3- يبيّن أهميّة طلب العلم في الوصول إلى الهدف المنشود.

20 


13

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 ما هو السبيل إلى معرفة الله والإيمان به؟

إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية تهدف بدورها إلى تحقيق هذه الرابطة بين الخالق والمخلوق، فما هو السبيل إلى ذلك؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لنا اتّباعه ليغدو قربنا من الله تعالى أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق؟

 

هذا السؤال جوهري وأساسي، ومن دون الإجابة عنه سيبقى الإنسان حائراً وتائهاً في هذه الحياة. فمن غير الممكن أن يهاجر الإنسان إلى ربه وهو لا يعرف السبيل إلى ذلك. لذا على الإنسان المخلص والصادق في طلبه أن يتعرف إلى الطريق الذي يوصل إلى الحق. والله سبحانه وتعالى قد بيّن ذلك ولم يجعله خافياً: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى1، ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ2.

 

معرفة النفس

لكي نجيب عن هذا السؤال علينا أن نبدأ من الطريق السهل والذي لن يكلفنا عناء البحث كثيراً. علينا أن نبدأ من أنفسنا التي سوّاها الحق ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا3، لأن الجاهل بنفسه بالآخرين أجهل، والعارف بها قد أُعطيَ فرصةً قلَّ نظيرها لاكتشاف الكثير مما قد خفي عنه.

 

إذا رجع الإنسان قليلاً إلى هذه النفس، وأعطى لفكره وقتاً للتأمل في أعماقه، ومحاسبة كل حياته ونشاطاته، فسوف يقف على حقيقةٍ مهمةٍ جداً تعتبر عند أهلها أساس كل خيرٍ وراحة في هذه الحياة. سوف يدرك أنه طالبٌ لأشياء يحتاجها ويرى فيها لذةً لنفسه أو راحةً أو

22


14

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 منفعة. ثم إذا حاول أن يفهم سر كل حركةٍ يؤديها أو مشروعٍ يقوم به فسوف يجد أن احتياجه وفقره هو الذي يدفعه للقيام به. فالإنسان قد فطر على أساس الطلب والحاجة، ووجوده فقيرٌ لا ينفكّ عن السعي للغنى والطلب للقدرة. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة بأروع صورة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ4، ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ5.

 

حقيقة الإنسان

من المؤكد أن الفقر المقصود هنا في الآية ليس الفقر المادي، لأن بعض الناس بطبيعة الحال أغنياءٌ على المستوى المادي. بل المراد منه شيءٌ آخر يمسّ جوهر الإنسانية وحقيقتها. فهذه الآيات الآنفة الذكر تشير إلى أن الضعف والاحتياج هما حقيقة الإنسان ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا6.

 

فلو فكّر الإنسان ساعةً واحدة في نفسه وفي موجودات هذا العالم كله فسوف يكتشف أن أي موجودٍ ليس لديه شيءٌ من نفسه، وأن كل ما حصل عليه الإنسان ووصله هو ألطافٌ ومواهب مستعارة وهي ليست منه، سواء قبل أن يأتي إلى هذه الحياة أم خلال حياته فيها، أم حتى بعد الممات. وإذا تأمل الإنسان في كيفية خلقه منذ أن كان طفلاً إلى أن تحين لحظة وفاته وفكّر قليلاً في كل مرحلة وما أُعطي فيها من نِعمٍ وقوىً متنوعة من الفكر والعقل والخيال والقلب والأعضاء والجوارح المختلفة وغيرها من النعم والألطاف، لدهش وتحيّر لأنه في لحظةٍ من اللحظات لم يكن شيئاً مذكوراً ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا7 ثم أتى من أفاض عليه الحياة والروح ووهبه من ألوان النعم التي تبهر العقول وسخّر له كل هذا الوجود. فالإنسان إذاً في الأصل لا يملك شيئاً، فمن تراه يكون المالك الحقيقي والرازق والمعطي!؟


1- طه، 50.

2- التوبة، 115.

3- الشمس، 7.

4- فاطر، 15.

5- القصص، 24.

6- النساء، 28.

7- الدهر، 1.

23


15

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾8، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ9.

 

 

فالأمور كلها بيد الله وليس للإنسان من حولٍ وقوة إلا به، وهذا عين الضعف والعجز: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ10، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ11، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً12.

 

سبيل الله بالتفكر والطاعة

من هنا كان الارتباط بالحق تعالى مطلب كل إنسان لأنه لن يجد أغنى منه ولا أكمل ولا أقدر، ومطلب الحق أيضاً لأنه يريد الخير لعباده والنفع لهم، وهو يعلم أن ما يبحث عنه الإنسان موجود عنده فقط، وليس سواه تعالى من يستطيع تأمين احتياجات الإنسان وحل مشاكله. لذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "إن ما يطمئن الجميع ويخمد نيران النفس المتمردة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جل وعلا"13.

 

فالطريق الوحيد لخروج الإنسان من عجزه وضعفه هو بالتوجّه الى الغني الذي لا يفتقر، والكمال الذي لا نقص فيه على الإطلاق، وطلب العون والمدد منه. وهذا الالتجاء لا يتحقّق إلا بالطاعة والتفكر، لأن حضور الحق في حياتنا وتوجّهنا إليه ينبغي أن يتحقق على المستويين:

الفكري: من خلال التفكّر في آياته. لأنه بالتفكّر ينبّه الإنسان عقله وقلبه ويحملهما إلى حيث يدنوان أكثر فأكثر من الباري عز وجل، من خلال التفكر في صفاته وأفعاله، وفي روائع صنعه وإتقانه: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ14، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا


8- المائدة، 17.

9- يونس، 31.

10- آل عمران، 154.
11- الذاريات، 58.

12- فصّلت، 15 .

13- وصايا عرفانية، ص 21.

14- آل عمران، 191.

24


16

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ15. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته"16، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فِكْرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة"17.

 

العملي: من خلال الطاعة والتقوى. فالطاعة بما تعنيه من الالتزام والانقياد لأحكام الله تعالى، والتقوى بما تعنيه من وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه، هما البرنامج العملي الذي ينبغي العمل به واتّباعه للقاء الحق والتقرّب إليه. لأن الإنسان عندما يرى كمالاً ما في موجودٍ فسوف يتوجه إليه، وسيترجم توجهه هذا بالخضوع والطاعة له، والابتعاد عن كل ما يخالف إرادته، لأنه يأمل بذلك أن ينعم عليه بما يسدّ به عوزه ويرفع عنه نقصه. وهذا هو السبيل الأوضح والطريق الأوحد لنيل السعادة الأخروية والكمال الإنساني. فمقتضى الفقر والعجز هو طاعة الغني والكامل والمقتدر، ولهذا السبب أمر الله الناس بطاعته: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُون َ* أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ18، حتى جعل عبادته تعالى هدف الخلقة والإيجاد فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ19، وقال عز اسمه: ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ20.

 

طاعة الله بالعلم والتعلم

طاعة الله عز وجل لا تتحقق إلا بمعرفة أوامره ونواهيه ومن ثم العمل على تطبيقها. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "وجدت عِلْمَ النّاس كلَّهُ في أربَعٍ: أولها أن تعرف ربّك، والثّاني أن تعرف ما صنع بك، والثّالث أن تعرف ما أراد منك، والرّابع أن تعرف ما يخرِجُكَ من دينك"21.


15- الجاثية، 13.

16- الكافي، ج2، ص 55.

17- مستدك الوسائل، ج2، ص 105.

18- الشعراء، 131 الى 133.

19- الذاريات، 56.

20- هود، 123.

21- أصول الكافي، ج1،ص50.

25


17

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 فمن يُرد طاعة الله عليه أولاً أن يعرف ما يريده منه. ومعرفة ما يريده تتحقق بالرجوع إلى أحكامه وقوانينه، وأوامره ونواهيه المتمثّلة بشريعته، فيلتزم بها ويقوم بتطبيقها حتى تسري هذه الشريعة في كل تفاصيل حياته، فتصبح حياته عامرةً بطاعات الله وقرباته، فلا يغفل عنها طرفة عينٍ أبداً، فيستحق عندها أن يكون من "المتقين"، وهم قومٌ اشتدت طاعتهم لله وحذرهم من مخالفة أوامره إلى الحد الذي باتت حياتهم كلها عبادة، فغدوا محبوبين عند الحق، ومن أوليائه المقرّبين: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ22، ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ23. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس"24. وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى: "ما تحبب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه"25.

 

ومن هنا أيضاً تبرز أهمية طلب العلم كوسيلةٍ مهمة لمعرفة أحكام الله، وفرصةٍ شريفة للتفكّر في آياته أيضاً. فالإسلام يمثّل مجموعةً كبيرةً من التعاليم التي تفسّر لنا هذا الوجود وظواهره، وتجيب عن الأسئلة المصيرية التي تقلق الإنسان وتتعلّق بمصيره، ويتضمّن أيضاً مجموعةً كبيرة من الأحكام الشرعية التي تدلّه على كيفية العمل والتصرف في كل شأنٍ من شؤون حياته سواء مع الحق أم مع الخلق. لذا كان طلب العلم واجباً على كل مسلم ومسلمة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم. ألا إن الله يحبّ بغاة العلم"26، لأنه لا يمكن أن تصحّ عبادةٌ وطاعة من دون معرفة، والمعرفة لا تتحقّق إلا بطلب العلم. عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "نُصِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم"27. فطلب العلم هو السبيل الوحيد للتعرف إلى أحكام الحق الشرعية، ومقدمةٌ لتحصيل الواجبات وترك المحرمات، وفي نفس الوقت بابٌ مهمٌّ جداً للتفكر في آياته الآفاقية والأنفسية. وهذه المعرفة هي المدخلية الصالحة التي تخوّل الإنسان الدخول في سلك المطيعين والعابدين والمتفكرين، وبالتالي الارتباط الحقيقي بالله سبحانه وتعالى.


22-آل عمران، 76.

23-الأنفال، 34.

24- أصول الكافي، ج2، ص 109، ح4.

25- م.ن، ح5.

26- م.ن، ج 1، ص 30.

27- م.ن، ص 17.

26


18

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 المفاهيم الرئيسة

1- حقيقة الإنسان هي الفقر والاحتياج والنقص على الدوام.

2- فقر الإنسان وضعفه يدفعانه للبحث عن الغنى والكمال.

3- الله سبحانه وتعالى هو الغني الذي لا حدّ لغناه والكمال الذي لا حدّ له.

4- كمال الإنسان وغناه لا يتحققان إلا بطاعة الله الغني والقدير، والتفكر في آياته.

5- طلب العلم مقدمة أساسية ليتمكّن الإنسان من القيام بالطاعات, والتفكر في الآيات.

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- أذكر شاهداً من القرآن على فقر الموجودات وبالخصوص الإنسان.

2- ما هي العلاقة بين فقر الإنسان والارتباط بالحق عز وجل؟

3- ما هو الطريق العلمي للارتباط بالله عزَّ وجلَّ؟

27


19

الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله

 للمطالعة

فقر الموجودات28

إعلم أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنها جميعاً محتاجة، لأن الوجود ليس ذاتياً لها. ولو تفكرت وأحطت عقلياً بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثّل الكمالات عين ذاته. ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقلياً وسألتها: أيتها الموجودات الفقيرة من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟ فإنها ستردّ جميعاً بلسان الفطرة: إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود. وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ29 من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدّل إلى غنيّة بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرةٌ بذاتها ومحتاجة فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها.

 

كما أن هذا الفقر الذي هو لازمٌ ذاتي لها هو صفة دائمة أيضاً سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها. كذلك فإن أي كمالٍ أو جمالٍ ينطوي عليه أي موجودٍ ليس منه ذاتاً، إنما هو مظهرٌ لكمال الله تعالى وجماله، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى30. حقيقةٌ تصدق على كل شيءٍ وكل فعلٍ وكل قولٍ. وإن كل من يدرك هذه الحقيقة ويتذوّقها لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجو غيره تعالى.

الإمام الخميني قدس سره


28- وصايا عرفانية، ص12.

29- الروم، 30.

30- الأنفال، 17.

28


20

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 الدرس الثالث:

الذنوب والمعاصي

 

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يستدل أن الذنوب هي من أهم الموانع التي تحول دون وصول الإنسان إلى الغاية السامية من خلقه.

2- يبيّن منشأ الذنوب وأهم آثارها السلبية.

3- يشرح كيفية التخلّص من هذا المانع.

30


21

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 المعاصي هي المانع الأكبر

إذا كان الإنسان باحثاً عن الله بحكم فطرته، والأنبياء يسعون على الدوام إلى ربطه بخالقه وحثّه على التوجه إليه، وإذا كانت سعادة الإنسان وتحققّه بالكمال والغنى الواقعيين لن يتحققا إلا في ظلّ ولاية الحق وطاعته، فلماذا نجد أن قلّةً من الناس جعلوا الحق تعالى وجهتهم، وأن قليلين هم الذين وصلوا إلى هذا المقصد الشريف والهدف السامي، مع أن الله تعالى زوّدهم بكل ما يلزم للوصول إلى هذه السعادة المنشودة؟!

 

في الواقع هناك سببٌ أساسي يحول دون تحقق ذلك وهو الذنوب والمعاصي. فكما هو معروفٌ لدى كلّ مسلمٍ أن لله تعالى أحكاماً وحدوداً شرعية على الإنسان أن لا يتعدّاها ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ1 وإلا فإن العذاب المهين سيكون من نصيب من يفعل ذلك ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا2. وهذه الأحكام الشرعية تنقسم إلى خمسة أقسامٍ معروفة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح. والإنسان إنما يعدّ عاصياً إذا ترك الواجب وفعل الحرام. أما المستحب فجائزٌ تركه وكذا المكروه جائزٌ فعله لأن الأمر فيهما لم يصل إلى حدّ الإلزام كما في الواجب والحرام. ففي الواجب إلزامٌ بالفعل، وفي الحرام إلزامٌ بالترك. والعاصي هو الذي يخالف الحكم الشرعي بحيث يستحقّ العقاب على مخالفته هذه، لأنه خروجٌ عن طاعة الله سبحانه وتعالى. فالمعصية في الواقع هي نوعٌ من الرفض والإعراض عن الله تعالى. والعاصي بمعصيته كأنه يقول له: لا أريدك، وبإمكاني أن أتدبر أموري بنفسي! وهذا هو التكبّر بعينه، إذ كيف يمكن لمخلوقٍ ضعيف ومحتاج أن يعرف ما هو خيرٌ له من تلقاء نفسه؟! وهل صار الإنسان أعرف بما ينفعه وما يصلحه من خالقه وموجده؟! فالمعصية في الواقع هي جحودٌ بربوبية الحق وإنكارٌ لألوهيّته المطلقة. وعبادة الحق لا تتحقق بشكلها الصحيح إلا

32 


22

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 بالالتزام التام بالشريعة المقدسة، وهو أصدق تعبيرٍ عن الالتفات والتوجّه إلى مصدر الخير والسعادة والكمال. أما المعصية فهي إعلان حالة الرفض والتمرد وطلب الخير من مصدرٍ آخر.

 

منشأ الذنوب

إن منشأ الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان يمكن اختصاره بكلمةٍ واحدة وهي: رؤية الإنسان كماله وسعادته وغناه في أمورٍ أخرى لا ارتباط لها بالحق تعالى والآخرة، بل يجد أن سعادته تكمن في ملذّات الدنيا وشهواتها، فيسعى خلفها دون أيّ وازعٍ ولا رادعٍ، حتى إذا أسرف وخالف أمر الله فيها وقع فيما لا تحمد عقباه. لذا قالوا إن منشأ الذنوب والمعاصي يعود في الأساس إلى حب الإنسان للدنيا وانغماسه فيها، كما في الحديث عن الإمام الصادق: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"3. فالإنسان إذا سعى وراء شهوات الدنيا أعمته عن الحق تعالى وعن الآخرة حتى ينساها، والنتيجة: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ4.

 

وليس المقصود من حب الدنيا حب الطبيعة من الجبال والأنهار وغيرها أو حب الناس، بل المراد بحب الدنيا تعلق القلب بها بحيث تشكل عائقاً أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الحق تعالى. وبشكلٍ أدقّ إن تعلق القلب بملذات الدنيا وشهواتها وأموالها وزينتها الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله الى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه للوقوع في الحرام هو المذموم وهو الدنيا التي ورد ذكرها في الروايات الشريفة أنها رأس كل ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنه ممّا وعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: "يا عيسى... واعلم أَن رأس كل خطيئة وذنب هو حبّ الدنيا فلا تحبّها فإني لا أحبّها"5. وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "حبّ الدنيا يفسد العقل ويصمّ القلب عن سماع الحكمة ويوجب أَليم العقاب"6. وأَوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: "إن كنت تحبني فأَخرج حبّ الدنيا من قلبك فإن حبّي وحبّها لا يجتمعان في قلب"7.


1- البقرة، 229.

2-النساء، 14.

3- وسائل الشيعة، ج16، ص 9.

4- السجدة، 14.

5- الكافي، ج8،ص 131.

6- مستدرك الوسائل، ج12، ص 41.

7- م.ن، ج12، ص39.

33


23

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 الآثار السلبية للمعاصي

للذنوب آثارٌ سلبيةٌ تمنع الإنسان وتحول دون ارتباطه بالحق وتوجّهه إليه، نذكر أهمها:

1- العداوة والكفر بالله: إن حالة الرفض والابتعاد عن الله إذا ازدادت وكثرت فإنها تشكّل في القلب حالةً من النّفور والكره للحقّ. وإذا قويت حالة البغض هذه أكثر تتحوّل إلى عداءٍ ومحاربة للحق سبحانه والعياذ بالله. وهي حقيقةٌ صرّح بها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون8.

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عباد الله احذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها، فإن المعاصي تستولي الخذلان على صاحبها، حتى توقعه في رد ولاية وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع نبوة نبي الله، ولا تزال أيضاً بذلك حتى توقعه في دفع توحيد الله والإلحاد في دين الله"9.

 

2- قسوة القلب: في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"10. وقساوة القلب تعني عدم تأثّره بالمواعظ، وعدم خشوعه عند ذكر الله أو الموت، وكل ما يوجب وجل القلوب وخوفها. وهي من المفاسد العظيمة التي ذمّت النصوص الشرعية الاتصاف بها:﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ11.

 

3- خروج روح الإيمان: روح الإيمان هي قوة الإيمان والملكة التي تدعو الإنسان إلى الخير والطاعة وتزجره عن الشر والمعصية. وروح الإيمان هذه تفارق الإنسان حين تلبّسه بالذنب والمعصية. فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "إن الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروحٍ منه تحضره في كل وقت يُحسن فيه ويتقي، وتغيب عنه في كل وقت يُذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته"12.

 

4- الخشية من الموت: قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ


11- الزمر، 22.

12- الكافي، ج2، ص 268.

34


24

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ13. تبيّن الآية الشريفة أن الإنسان يكره في بعض الأحيان لقاء الله ولا يتمنى الموت نتيجةً لما قدّمت يداه من أعمالٍ سيئة وأفعالٍ قبيحة يخجل أن يقابل ربّه وقد تحمّل وزرها وتقلد شنارها.

 

5- الحرمان من الخيرات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتّقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه، وإن العبد ليذنب الذنب فيمنع به من قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به الرزق وقد كان هنيئاً له ثم تلا: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْآيَات"14. إن للذنوب أثراً في تسويد القلب وظلمته. وكلّما كثرت ذنوب العبد وعظمت خطاياه زاد احتجابه عن الحق تعالى وحرم من عطاياه. ومن أعظم هذه المنن العلم والمعرفة التي هي منبع الخشية من الله جلّ وعلا، وبها يرفع الله درجات العبد، والتوفيق للعبادات المقرّبة من الله، والرزق الحسن الذي يغنيه عن السؤال والطلب.

 

6- رد الدعاء وتأخير الإجابة: الذنوب والمعاصي توجب أيضاً إما عدم قبول الله تعالى لدعاء الإنسان أو تأخير الإجابة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني"15.

 

7- تسلّط الأعداء والأشرار: في الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام: "يقول الله عز وجل: إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني"16. هذا الحديث يكشف لنا بوضوح أن الذنوب هي عاملٌ مهم في تسلط الأعداء وغلبتهم وصيرورة الحكم بأيديهم.

 

التوبة كفّارة الذنب

صحيح أن للمعصية آثاراً سلبيةً في حياة الإنسان، وهي سببٌ في انحطاط الإنسان وتسافله وبالتالي استقراره في دركات الشقاء والحرمان. ولكن هذا لا يعني أن العذاب


13-الجمعة، 6 - 7.

14-بحار الأنوار، ج70،ص 77.

15- الكافي، ج2، ص271.

16- م.ن، ص276.

35


25

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 أصبح أمراً واقعاً ولا مفرّ منه أبداً، بل لدى الإنسان فرصةٌ حقيقيةٌ لتدارك الأمر وإصلاح ما فسد، بل وللارتقاء مجدداً في مدارج الكمال والقرب من الله الرحيم لأن رحمته تعالى وسعت كلّ شي: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ17، وذلك عندما يتوب الإنسان العاصي من معصيته ويرجع إلى ربّه، فإنه سيجد عندها ربّاً توّاباً رحيماً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ18.

 

وهذا الباب من نعم الله الكبرى وألطافه العظمى التي وهبها لعباده، لأنه لو يؤاخذ الله عباده بذنوبهم لهلكوا ولما نجا منهم إلا القليل ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ19، ولكن رحمته تعالى سبقت غضبه لذا ﴿يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى20 رأفةً بهم وإحساناً إليهم، لأنه لطيفٌ بعباده، عطوفٌ عليهم. والرحمة الإلهية لم تقتصر على المغفرة في حال تاب العبد ورجع إلى ربه، بل وعد الله المنيبين إليه بأن يكفّر عنهم سيئاتهم ويسترها عن الناس، ويدخلهم الجنة أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ21. ولكن للتوبة النّصوح شروطاً ينبغي مراعاتها حتى تصبح مقبولةً عند الله وبالتالي تؤتي ثمارها الطيبة وهي:

أولاً: الندم على ما اقترفه الإنسان وأقدم عليه.

ثانيا: العزم على عدم الإتيان بالذنب مجدداً.

ثالثاً: الدعاء والتوسل والبكاء، وطلب المغفرة بصدق.

رابعاً: قضاء ما فاته من الواجبات، ورد الحقوق إلى أهلها ما استطاع إليه سبيلاً وطلب المسامحة منهم، وفي حال تعذّر عليه ذلك تماماً استغفر لأصحابها. وهذا ما بيّنه أمير المؤمنين علي عليه السلام في ردّه على من قال في حضرته: "أستغفر الله" حيث أجابه عليه السلام: "ثكلتك أمك ... أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم


17- الأعراف، 156.

18- الزمر، 53.

19- فاطر، 45.

20- فاطر، 45.

21- التحريم، 8.

36


26

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى. الثاني: العزم على ترك العودة إليه. الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها. الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. السادس: أن تذيق الجسد ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية"22.

 

وفي الختام نلفت النظر إلى ثلاثة أمورٍ في غاية الأهمية لها علاقة بالتوبة وهي من أهم آثارها، وهي:

أولاً: أن الله تعالى يحب عبده التائب والعائد إليه بعد طول انقطاعٍ عنه:﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ23.

ثانياً: أن التائب من الذنب في الحقيقة كمن لا ذنب له. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"24.

ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تساعد الإنسان على التخلّص من آثار وتبعات الذنوب والمعاصي، وتعوّض عليه شيئاً مما فات: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ25.

 


22- بحار الأنوار، ج6، ص 36.

23- البقرة، 222.

24-وسائل الشيعة، ج16، ص75.

25- هود، 114.

37


27

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 المفاهيم الرئيسة

1- الذنوب والمعاصي تمنع من الارتباط الصحيح بالحق تعالى.

2- للذنوب آثارٌ سلبية تحول دون ارتقاء الإنسان في مدارج الكمال الإنساني ولقاء الحق.

3- منشأ الذنوب حب الدنيا واتّباع الشهوات والملذات المحدودة والزائلة.

4- التوبة هي كفّارة الذنب ولا طريق للرجوع إلى الله إلا من خلالها.

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- لماذا اعتبرت الذنوب المانع الأكبر الذي يحول بين الإنسان والارتباط بربه؟

2- ما هي أهم آثار الذنوب السلبية على النفس؟

3- ما هو منشأ الذنوب والمعاصي؟

4- ما هي أهم شروط التوبة النصوح؟

38


28

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 للمطالعة

أفضل أيام التوبة 26

على سالك طريق الهداية والنجاة الانتباه إلى نقطة هامة: هي أن التوفيق إلى التوبة الصحيحة الكاملة مع توفير شرائطها من الأمور الصعبة، وقليلاً ما يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا المقصد. بل إن اقتراف الذنوب وخاصة المعاصي الكبيرة يجعل الإنسان غافلاً عن ذكر التوبة نهائياً. وإذا ما أثمرت وقويت شجرة المعاصي في مزرعة قلب الإنسان واستحكمت جذورها، ستكون لها نتائج وخيمة؛ منها حثّ الإنسان على الانصراف كلياً عن التفكير في التوبة، وإذا تذكّر أحياناً تكاسل في إجرائها وأجّلها وقال: اليوم أو غداً، وهذا الشهر أو الشهر المقبل، ويخاطب نفسه قائلاً :إنني أتوب آخر العمر وأيام الشيخوخة توبةً صحيحة، وإنه يغفل عن أن هذا مكرٌ مع الله ﴿وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ27. فلا يتوقّع الإنسان أنه بعد أن تقوى جذور الذنوب في نفسه يستطيع أن يتوب أو يقوم بتوفير شروط التوبة.

 

إن أفضل أيام التوبة وربيعها هو فترة أيام الشباب، لأن الذنوب أقلّ وشوائب القلب وظلمات الباطل أخفّ، وشروط التوبة أسهل وأيسر. وقد يكثر في سن الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبه للمال ويزداد طول أمله، وقد أثبتت التجربة ذلك. وإذا افترضنا أن الإنسان يستطيع القيام بهذا العمل (التوبة) في سن الشيخوخة، فما هو الضمان للوصول إلى سن الشيخوخة وعدم إدراكه الأجل المحتوم أيام الشباب على حين غرّة، وهو مشغولٌ بارتكاب الذنوب؟

 

إن انخفاض عدد المسنين دليلٌ على أن الموت أقرب إلى الشباب منه إلى الشيخ. فيا أيها العزيز كن على حذرٍ من مكائد الشيطان ولا تمكر على الله ولا تحتل الأهواء عليه بأن تقول أعيش خمسين عاماً أو أكثر مع الأهواء، ثم أستغفر ربي لدى الموت وأستدرك الماضي، لأن هذه أفكارٌ واهية. هل تظن أن التوبة مجرد كلامٍ يقال؟ إن القيام بالتوبة لعملٌ شاق. إن الرجوع إلى الله والعزم على عدم العودة إلى الذنب يحتاج إلى رياضةٍ علمية وعملية، إذ نادراً ما يحدث


26- الأربعون حديثا، ص306.

27- آل عمران، 54.

39


29

الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي

 للإنسان أن يفكر وحده بالتوبة أو يتوفق إليها أو يتوفق إلى توفير شرائط صحة التوبة وقبولها أو إلى توفير شرائط كمالها. إذ من الممكن أن يدركه الموت قبل التفكير في التوبة أو إنجازها وينقله من هذه النشأة مع المعاصي التي ينوء بها الإنسان ومع ظلمات الذنوب اللامتناهية. وفي ذلك الوقت يعلم الله وحده المصائب والمحن التي سوف يواجهها!.

 

الإمام الخميني قدس سره

 40


30

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 الدرس الرابع:

 

تهذيب النفس

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يشرح المراد والمقصد الواقعي لتهذيب النفس.

2- يشرح طبيعة العلاقة التي تربط الأخلاق بالعمل.

3- يبيّن أن تهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل شرطٌ أساسي للسعادة في الدنيا والآخرة.

42 


31

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 معنى تهذيب النفس

التهذيب في اللغة بمعنى التنقية والتطهير، وهذّب الشيء بمعنى نقّاه وأخلصه، وهذّب النخلة أي نقّى عنها الليف، والرجل المهذّب هو مطهّر النفس والباطن من الأخلاق الرذيلة والصفات الذّميمة. فالإنسان ذو جنبتين: جنبة روحية معنوية وجنبة جسمانية مادية، فبالجزء الجسماني يعيش في عالم الدنيا لفترةٍ محدودة، وبالجزء الروحاني ينتقل إلى عالم الآخرة ويقيم فيه أبداً: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ1.

 

العمل ومصير الإنسان

من الحقائق الأساسية التي تؤثّر تأثيراً جذرياً في حياة الإنسان حقيقة الموت والحياة الخالدة بعد الموت. فالإنسان ميتٌ لا محالة ومفارقٌ لهذا العالم المادي وتاركٌ له، أما روحه فتعرج إلى عالمٍ آخر وتبقى فيه. وفكرة الموت والخلود بعده تجعل الحياة الدنيا أمراً تابعاً ومحطةً عابرة. والعاقل وحده الذي يتوجّه الى تلك الحياة ويبني على أساسها كل شيء. والحياة في الآخرة على نحوين: إما جنةٌ ونعيم، أو جهنمٌ وعذاب. فالمؤمن بالله وشريعته وأنبيائه ورسله مآله إلى الجنة، والكافر بالله وبرسله وأنعمه مآله إلى النار. فالإيمان والكفر بالله هما ما يحدّدان وجهة سير الإنسان ومصيره في الآخرة.

 

وهناك عاملٌ آخرُ أساسي هو الذي سيخبرنا إذا ما كان الإنسان من أهل الإيمان الحقيقي أم لا، وهو العمل. فالعمل هو الذي يكشف لنا حقيقة الأمور ويبيّن لنا تمام الصورة. ومن هنا نفهم لماذا قرنت آيات القرآن الكريم الإيمان بالعمل الصالح، لأنه بالعمل الصالح يرسخ الإيمان ويتجذّر في النفس لينمو ويقوى، ومعه يصبح الإنسان مؤهلاً لدخول الجنة. فعن الإمام


1- السجدة، 7 - 9.

44


32

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 الصادق عليه السلام قال: "الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلا بعمل"2. إذاً فعيش الإنسان في الحياة الآخرة يحدّد وفق عمله في الحياة الدنيا، فبعمله الصالح يبني جنّته وبعمله السيئ يبني جهنمه. والإنسان سوف ينتقل إلى دار الآخرة حاملاً معه أخلاقه، وأعماله، ومعتقداته والتي على أساسها سوف يحشر ويحاسب. فادّعاء الإيمان وحده لا يكفي ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ3، بل لا بد أن يُتبع الإيمان بالعمل الصالح لكي يؤتي ثماره الطيبة في الدنيا والآخرة.

 

إذاً هناك رابطةٌ حقيقية وقوية بين العمل والجزاء الأخروي، فالإنسان بفعله يحصل على ما يستحقّه من الجزاء الحقيقي إما الجنة والسعادة وإما جهنم والعذاب. والإنسان سوف يرى نتيجة عمله يوم القيامة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ4، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى5. ولشدّة أهمية العمل وتأثيره في مصير الإنسان ذُكر في الأذان لكل صلاة.

 

وعن الإمام علي عليه السلام قال: "العمل الصالح حرث الآخرة"6، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن مع العزّ ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شي‏ء حسيباً، وإن لكل أَجل كتاباً، وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ وتُدفن معه وأَنت ميّت، فإن كان كريماً أَكرمك‏، وإن كان لئيماً أَسلمك. ثم لا يُحشر إلا معك ولا تُحشر إلا معه ولا تُسأَل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً فإنه إن صلح آنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك"7.

 

الأخلاق منشأ الأعمال

والأعمال هي أول ما يظهر من الإنسان عند تفاعله مع أحداث الحياة وشؤونها، والتي يستخدم لأجل القيام بها أعضاء بدنه. إذا قمنا بدارسة منشأ هذه الأفعال والتصرفات وسبب تمايزها بين شخصٍ وآخر لوجدنا أن وراءها مجموعةً من الصفات والميول النفسية التي يعبّرون عنها بالملكات أو الأخلاق. لذا عرّفوا الخلق بأنه عبارة عن: "ملكة للنفس مقتضية


2- الكافي، ج2، ص 38.

3- يوسف، 106.

4- الزلزلة، 7 ـ 8.

5- النجم، 39 ـ 40.

6- الكافي، ج5، ص 57.

7- بحار الأنوار، ج7، ص 229.

45


33

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية"8. فصدور أي فعلٍ عن الإنسان سببه مجموعةٌ كبيرة من الصفات النفسية والخُلقية. ويعرّف الإمام الخميني قدس سره الخُلق فيقول: "إعلم أن الخُلق عبارة عن حالة نفسية تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروٍّ وتفكّر. فمثلاً، إن الذي يتمتع بالسخاء يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدمات وترتيب مرجحات. وكأن هذا الخُلُق غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل النظر والسمع. وهكذا النفس العفيفة التي اصبحت العفة خُلقاً لها وجزءاً طبيعياً لها"9. وعليه نصل إلى هذه القاعدة: إنّ الأخلاق والصفات النفسية هي منشأ الأعمال والأفعال الإنسانية في الخارج. من هنا نستطيع أنّ نقول إن أخلاق الإنسان إذا كانت فاضلةً فسوف تنعكس على أعماله لتصنع منها أعمالاً صالحة وبالتالي يضمن لنفسه الآخرة السعيدة، وإذا كانت رذيلةً فسوف تكون سبباً في فساد أعماله وبالتالي سبباً للعذاب والشقاء في الآخرة.

 

وقصة إبليس اللعين خير شاهد، فهو بحسب ما يروى أنّه عبدَ الله تعالى سبعة آلاف سنةٍ لا يُعلم أنها من سنيّ الأرض أم من سنيّ السماء، ولكن عندما أمره الله تعالى بالسجود لآدم عصى وخالف التكليف: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ10. ولما سأله الحق تعالى عن السبب في عدم سجوده: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾11. هذه الآية تحكي عن أول معصية عُصيَ الله تعالى بها وسببها: التكبر ومنازعة الله في كبريائه حيث قال لعنه الله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الاستكبار أول معصية عصي الله بها"12. إذاً، هي صفة التكبر وخلق الاستعلاء اللذان أبلساه من رحمة الله وأخرجاه من مقام المطيعين وأدخلاه في زمرة العاصين: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ13.


8- جامع السعادات، ج 1، ص 26.

9- الأربعون حديثاً، ص546.

10- الحجر، 28 ـ 31.
11- الأعراف، 12.

12- بحار الأنوار، ج11، ص 141.

13- الحجر، 34 ـ 35.

46


34

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 تهذيب النفس ضمانة العمل الصالح

الأخلاق الفاضلة والحميدة تنجي صاحبها وتوصله إلى السعادة الأبدية. والأخلاق الرذيلة تهلك صاحبها وتؤدّي به الى الشقاء والعذاب الأليم. من هنا يتحتّم على كل عاقلٍ أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها. ومن هنا أيضاً كان التأكيد على مسألة تهذيب النفس وتطهيرها، والتي تعني تخلية النفس من الصفات الرذيلة وتحليتها بالصفات والأخلاق الحميدة والفاضلة، لأنها ضمانة العمل الصالح الذي هو بدوره ضمانة الحياة الأخروية السعيدة.

 

إذاً، فسالك طريق الآخرة بحاجةٍ إلى معرفة أخلاقه وتهذيبها، لكي لا يوصله عمله المتولّد منها إلى سوء العاقبة. لأن الرذائل الأخلاقية كالحسد والغضب والعجب وغيرها ليست كالشبهات الفكرية التي تزول بمجرد المعرفة، بل هي صفاتٌ نفسانية ترسخ في النفس إلى درجةٍ تحتاج إلى جهدٍ متكرر وعملٍ شاق لكي تخرج منها، وهذا ما يعبّر عنه بالمجاهدة والرياضة.

 

والأمر شبيهٌ بمن يريد أن يحصل على الليونة الجسمانية أو المهارات البدنية، فإن عليه أن يمارس الرياضة والتمرين لمدّة زمنيّة غير قصيرة، وعليه أن يتخلّص من الأمور التي تعيقه مثل السمنة والبدانة، ومن ثم يكرّر القيام بالحركات المطلوبة حتى يصبح أداؤها أمراً سهلاً عليه. وهكذا الأمر في ترويض النفس وتهذيبها، فالأخلاق التي كانت راسخةً في النفس يتطلّب التخلص منها الرياضة والمجاهدة النفسية وبعدها عليه أن يروّض نفسه على الأخلاق الفاضلة. وما يزيد الأمور تعقيداً أن الرذائل الأخلاقية أمراضٌ قد يصعب اكتشافها أحياناً، لأجل ذلك نحن بحاجة إلى معرفةٍ دقيقة بهذه الرذائل، وآثارها، وعلاماتها، ومراتبها. مثلما هو الحال في ضرورة الرجوع إلى الطبيب عند المرض، فإذا كانت نتيجة إهمال معالجة الأمراض الجسمانية قد تؤدي بالإنسان إلى الموت، فإن عاقبة إهمال معالجة الأمراض القلبية هي الخيبة والخسران في الآخرة.

 

تهذيب النفس شرط للارتباط بالله

بعد اكتشاف الأمراض القلبية نحتاج إلى الإحساس بخطرها وقبحها وآثارها السلبية في النفس لكي ننهض بعزمٍ لإزالتها، لأن القيام لتهذيب النفس أمرٌ شاقٌّ، وغالباً ما يتطلب وقتاً

47


35

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 مع ما ينجم عنه من آلامٍ ومراراتٍ لا حد لها. وقد أشارت الروايات الشريفة إلى الحالة التي تصيب النفس عندما تتّصف بالرذائل على أنها حالة عداء، وأن النفس تصبح أعدى أعداء الإنسان كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"14، ما يعني أن الإنسان سيواجه حالةً في غاية الصعوبة وشديدة الوطأة عليه. وغالباً ما نسمع من المجاهدين الذين قاتلوا أشد القوى الكافرة تسلّحاً بأنهم يرون هذا القتال ضد أعداء الله أسهل بكثيرٍ من مجاهدة النفس!!

 

وقد حثّت الآيات والروايات الإنسان كثيراً على جهاد النفس وتزكيتها وتطهيرها من الأخلاق الرذيلة، منها صراحةً قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا15. فالحق تعالى يقسم بالنفس الإنسانية التي ألهمها وألقى في روعها وعرّفها بحسب فطرتها طريق الفجور والتقوى وطريق الخير والشر، وبالقدرة والعلم والحكمة التي خلقت هذه النفس وسوّتها وعدلت بين قواها، أن الفلاح والظفر بالسعادة الأبدية عماده وشرطه الأساسي زكاة النفس وطهارتها من الأخلاق الرذيلة، وأن الخيبة والخسران هما من نصيب كل من يستخف بهذا الشرط ويدسّ نفسه تحت تراب الأهواء والشهوات. إنها دعوةٌ من الحقّ لكلّ صاحب نفس والهة لكي يسلك طريق الطهارة بالمجاهدة والتزكية، حتى تصفو روحه بالكامل ويصبح مؤهلاً للفوز بنعم الحق وألطافه التي لا حد لها.

 

كما أن الروايات الشريفة استفاضت هي الأخرى أيضاً في التأكيد على ضرورة إخراج الأخلاق السيئة من النفس وتطهيرها بالكامل، لأن سوء الخلق يفسد العمل كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن سوء الخلقِ ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل"16. ولأن التحلي بالصفات الكريمة والفاضلة كما ذكرنا هي مقدمة للأعمال الصالحة، والتي هي بدورها طريق بناء الآخرة السعيدة. من هنا صار التحلي بمكارم الأخلاق وإيصال الناس إلى المقامات المعنوية هدف بعثة الأنبياء. وسرّ هذا الأمر يعرف من خلال معرفة العلاقة التي تربط بين الصفات النفسية والأخلاق وبين الإيمان والعمل الصالح.


14- بحار الأنوار، ج67،ص 64.

15- الشمس، 7 - 10 .

16- الكافي، ج2، ص 321.

48


36

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عليكم بمكارم الأخلاق فإن الله عز وجل بعثني بها"17، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"18، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق"19. حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الدين مساوقاً لحسن الخلق، فقد جاءه يوماً رجلٌ يسأله ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: "حسن الخلق"20.

 

وهذا الأمر طبيعي لأن جهاد النفس وتحلّيها بالأخلاق الفاضلة يعتبران مقدمة أساسية للارتباط الصحيح والعميق بالحق سبحانه وتعالى والظفر برضاه. فقد روي أن رجلاً اسمه مجاشع دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة النفس، فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: مخالفة النفس"21. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "طوبى لعبدٍ جاهد لله نفسه وهواه. ومن هزم جند هواه ظفر برضى الله"22.

 

حتى صار جهاد النفس أمراً واجباً على كل إنسان يبحث عن لقاء الله بصدقٍ وإخلاص ويتوق إلى الآخرة السعيدة. فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "يا هشام...وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنه واجب عليك كجهاد عدوّك، قال هشام: فقلت له: فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟ قال عليه السلام: أقربهم إليك وأعداهم لك وأضرّهم بك وأعظمهم لك عدواة وأخفاهم لك شخصاً مع دنوه منك"23.


17- بحار الأنوار، ج 69، ص 375.

18- مستدرك الوسائل، ج2، ص 282.

19- الكافي، ج2، ص 100.

20- بحار الأنوار، ج 68، ص 393.

21- م.ن، ج70، ص 72.

22- م.ن، ج 70، ص 65.

23- م.ن، ج78، ص 315.

49


37

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 المفاهيم الرئيسة

1- تهذيب النفس هو تطهيرها من الأمراض والرذائل الأخلاقية.

2- إيمان الإنسان وأعماله في الدنيا هي التي ترسم مصيره في الآخرة.

3- أخلاق الإنسان وصفاته النفسية هي مصدر أفعاله في الخارج.

4- تهذيب النفس من الأخلاق الفاسدة شرط لصحة الأعمال والقرب من الله.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما معنى تهذيب النفس؟ ومن ماذا على الإنسان أن يهذّب نفسه؟

2- هل صحيحٌ أن عمل الإنسان في الدنيا هو الذي يحدّد مصيره في الآخرة؟ لماذا؟

3- يقول الإمام الخميني: "الخُلق عبارة عن حالة نفسية تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروٍّ وتفكر"، إشرح مُراد الإمام قدس سره الدقيق من هذا القول.

4- لماذا هذا التأكيد في الشريعة على مسألة تهذيب النفس وتطهيرها؟

50


38

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 للمطالعة

درب الكمال24

إعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية. وإن الأمراض النفسية أشدّ فتكاً آلاف المرات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسميّة والاختلافات المادية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنه إذا كان ذا أمراضٍ روحية وأسقامٍ نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنه ما إن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها...

 

إن الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطفٍ ومحبة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد. "إننا أطبّاء وتلاميذ الحق" وإن الأعمال الروحية القلبية والظاهرية والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض، كما أن التقوى، في كل مرتبةٍ من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحة.

 

قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسميّة حتى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأن الطبيعة هي نفسها حافظةٌ للصحة ودواءٌ لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب، وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ25. وعليه، فإن من يتهاون في الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتى تقضي على صحته قضاءً مبرماً. إذاً، فالإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفّق بحاله، إذا تنبّه أن وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر


24- الأربعون حديثاً، ص240.

25- يوسف، 53.

51


39

الدرس الرابع: تهذيب النفس

 في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمةً، والآخر، هو الامتناع عن كل ما يضرّها ويؤلمها.

 

ومن المعلوم أن ضرر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة. كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبةً وأفضل من أي شيء، ومقدمةً على كل هدف، وممهّدةً للتطوّر إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث إن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات، وإنّ أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدمة على المرحلة الأولى، إذ يتّضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب "نهج البلاغة" أن المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيراً بهذه المرحلة.

 

الإمام الخميني قدس سره

52


40

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 الدرس الخامس

طريق تزكية النفس

 

 

 

على الطالب في نهاية الدرس أن:

1- يستدل أن الهدف الأساسي لإرسال الأنبياء والرسل هو الدعوة إلى تهذيب النفس.

2- يشرح حقيقة أمّارية النفس بالسوء.

3- يبيّن الطريق العملي الذي أمرت به الشريعة للتخلّص من أمّارية النفس بالسوء.

54


41

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 الهدف من إرسال الأنبياء

جاء الأنبياء ليرشدوا البشر إلى طريق بناء النفس وتزكيتها. جاءوا ليطهّروا النفوس الإنسانية من الرذائل والأخلاق السيئة والصفات الحيوانية، وليعلّموهم الفضائل ومكارم الأخلاق: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1. جاءوا ليرشدوا الناس إلى طريق طيّ مدارج الكمال ونيل مقام القرب الإلهي، وليأخذوا بأيديهم إلى مقام الإنسانية الشامخ، وليقولوا لهم إنكم لستم كالحيوانات بل يمكنكم أن تكونوا أفضل من الملائكة أيضاً، وإن زخارف الدنيا الفانية والمظاهر الحيوانية من شهواتٍ وأهواء لا تنسجم مع مقامكم الملكوتي الشامخ. لقد اهتمّ الإسلام بالأخلاق اهتماماً خاصاً، حتى أن أكثر القصص القرآنية لو تأمّلنا فيها جيداً لوجدنا أن أهدافها في الحقيقة أخلاقية. كما أن الأجر والثواب الذي ذكر للأخلاق الحسنة ليس أقلّ من الثواب الموضوع لسائر الأعمال، والعقاب والوعيد الذي جاء لذوي الأخلاق السيئة ليس أقل من التهديد الوارد في حق سائر الأعمال السيّئة، حتى قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"2. والسبب في ذلك أن الأمور الأخلاقية تشكّل أساس الإسلام، بل هي الدين بعينه كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله أحدهم: "يا رسول الله ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: حسن الخلقِ"3.

 

أمّارية النفس بالسوء مرض خطير

إن النفس الإنسانية وصفاتها هي منشأ الأعمال والأفعال والأقوال لدى الإنسان، وإذا صلحت هذه النفس وصلحت صفاتها وأخلاقها، صلحت بالتالي الأعمال الصادرة عنها، وكانت منشأ للحسنات والنجاة في الدنيا والآخرة، وإذا فسدت صفاتها وأخلاقها كانت منشأ للسيئات والهلاك. وسوء الخلق في الحقيقة مرضٌ يصيب النفس فتصبح أمّارة بالسوء، أما


1- مستدرك الوسائل، ج2، ص282.

2- الكافي، ج2، ص 99 .

3- بحار الأنوار، ج68، ص393 .

56


42

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 النفس الإنسانية في الأصل فهي مفطورةٌ على التوحيد وحب الخير ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ4، بل هي جوهرةٌ ثمينة وأمرٌ ملكوتيُّ شريف، وهي منشأ كل الفضائل والقيم الإنسانية كما عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها"5. ولكن بسبب انغماس الإنسان في الشهوات الحيوانية والإسراف في الملذّات الدنيويّة الفانية فإن نفسه تمرض فتصبح أمّارةً بالسوء.

 

فالنفس مثل البدن، فكما أن بدن الإنسان يُبتلى بالعلل والأمراض، كذلك نفسه أيضاً - التي يعبّر عنها أحيانا في الآيات والروايات بالقلب أو الروح - تصاب هي الأخرى بالمرض، وما لم يبادر الإنسان إلى علاجها ومحاربة آفاتها، فإنها تصبح موجوداً شريراً وعدواً للإنسانية ومنشأً للسيئات والأعمال القبيحة، وسبباً في شقاوة الإنسان وتعاسته. يقول إمامنا الخميني قدس سره: "مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة"6. فانصياع الإنسان لأهوائه النفسية (من الأنا وحب النفس والجاه والمنصب و..)، وشهواته الحيوانية (من المأكل والمشرب وغريزة الجنس) وانجرافه خلفها من دون أي وازعٍ أو رادعٍ سيؤدّي إلى مرض قلبه ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً7. وكما نعرف فإن الحياة الحقيقية في الآخرة، وسعادة الإنسان وشقاءه، مرتبطة بشكل أساسي بأوضاع القلب وحالته، فكل الجوارح والأعضاء مسخّرة له، وكل الأعمال والحركات نابعة منه، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ8. ولما سُئل إمامنا الصادق عليه السلام عن القلب السليم في الآية الشريفة، قال عليه السلام: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا"9.

 

فالمشكلة إذاً تكمن في الغرائز الحيوانية والأهواء النفسية لأنها لا تتوقف عند حدّ معيّن، وليس لها هدفٌ إلا الإشباع الكامل. فالالتذاذ بالمأكولات والمشروبات، وحب الإنسان للمال والجاه والمنصب والشهرة وزينة الحياة وشهوة الغضب لا يتوقف عند حدّ. وإذا انقاد الإنسان


4- الروم، 30.

5- غرر الحكم، ص 226.

6- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.

7- البقرة، 10.

8- الشعراء، 88 ـ 89.

9- مستدرك الوسائل، ج 12، ص 40.

57


43

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 لهذه الشهوات الحيوانية والأهواء النفسية صار عبداً مقهوراً لها، وأسيراً خاضعاً لإملاءاتها، إلى أن تتحكّم به وتصبح هي الآمر الناهي في مملكة وجوده فيخرج بذلك عن عبودية الحق ويدخل في طاعة النفس التي تأمره بما يخالف أمر الإله وأحكامه المقدسة، فيقع في الذنب والمعصية، ويصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ10.

 

ويقول الإمام الخميني قدس سره مبيّناً هذه الحقيقة:

"اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه. ومعنى العبودية لشخصٍ هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات، المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة، ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي"11. وإذا أصبح الإنسان عبداً لأهوائه وشهواته وصارت نفسه أمّارة بالسوء عندها لن تكون مصدراً للملكات والأخلاق الفاضلة وبالتالي الأعمال الصالحة وهو الخسران المبين كما يقول الإمام قدس سره أيضاً: "إن الملكات إنما تكون فاضلةً حين لا تتصرّف النفس الأمارة بالسوء فيها، ولا يكون لخطوات النفس دورٌ في تشكيلها"12.

 

من هنا فإن سيطرة الإنسان على أهوائه وضبط رغباته يعدّان أمراً ضرورياً. فنفس الإنسان كفرسٍ جموح غير مروّض، إذا لم يعمل على تهدئته بالرياضة والتمارين فلن يتمكّن من الاستفادة منه، وإذا بقي على اضطرابه وهيجانه فسيؤدي به إلى الهاوية حتماً، كما قال مولى الموحدين عليه السلام: "إغلبوا أهواءكم وحاربوها، فإنها إن تقيّدكم توردكم من الهلكة أبعد غاية"13.

 

إذاً، لا نجاة للإنسان إلا بجهاد النفس وتهذيبها. وترويضها ليس بالأمر السهل، فهي سوف تقاوم في البداية ولكن لو صبر الإنسان وبقي يقظاً فستستسلم للحق في النهاية. وهذا أفضل


10- الجاثية، 23.

11- الأربعون حديثاً، الحديث السادس عشر، في بيان أن أسر الشهوة مصدر كل أسر.

12- م.ن، الحديث الثاني، الرياء في العمل.

13- غرر الحكم، ج1، ص 138.

58


44

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 من تركها لأن النفس الأمّارة إذا تركت وشأنها دفعت الإنسان وأوقعته في المفاسد. والسؤال الملحّ الذي يطرح نفسه الآن أنه كيف يجاهد الإنسان نفسه؟ وما هو السبيل الأفضل إلى ذلك؟

 

جهاد النفس لا يتحقّق إلا بأمرٍ واحد, هو مخالفة هذه النفس والعمل على خلاف ما تريده وترغب به كما يبيّن الإمام قدس سره: "فإن الأسلوب الوحيد للتغلب على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما"14. ولكن السؤال المهم هنا أنه كيف يخالف الإنسان نفسه وهواه؟ بمعنى آخر ما هو البرنامج العملي الذي ينبغي للإنسان اتّباعه لكي يخرج من أسر الهوى والنفس الأمّارة؟ الجواب: إن الطريق العملي يكمن في أمرٍ واحدٍ هو:

 

اتّباع الشريعة الإلهية

لأن الطبيعة البشرية إذا تُركت وشأنها واتّبعها الإنسان بلا حسيبٍ ولا رقيب أعمته عن الحق وشغلته بغيره. حتى إذا استحكمت فيه هذه الطبيعة جرّته نحو الفساد وجعلته عرضةً للأمراض المختلفة. فهذه النفس كما قيل إن لم تشغلها شغلتك، وليس هناك أفضل من شريعة الحق ليشغل الإنسان نفسه، الشريعة بما تعنيه من تركٍ للمحرمات التي نهت عنها، والإتيان بالواجبات التي أمرت بها.

 

بمعنى آخر، إن طاعة الله والالتزام بأحكامه هما الطريق الأسلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يخالف نفسه فيكون على الدوام في حالة طاعة وعبودية لله عز وجلّ لا للنفس الأمّارة، وهو ما يعرف بالتقوى أيضاً. فالتقوى من مادة الوقاية، وتعني وقاية النفس وحفظها والسيطرة عليها، وهي "تقيّد الإنسان وتعهده بطاعة القوانين والالتزام بأحكام الشرع"15.

 

وعرّفت في الآيات والروايات بأنها أفضل زاد الآخرة، والسبيل الوحيد للسعادة والراحة الأبدية: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى16، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ17. ولقد عرّف أمير المؤمنين التقوى بأنها رئيسة الأخلاق وأفضل وسيلة لنيل السعادة حيث قال عليه السلام: "التقى رئيس الأخلاق"18، وقال عليه السلام أيضاً: "فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم


14- الأربعون حديثاً, الحديث الرابع, في بيان معالجة الكبر.

15- تزكية النفس وتهذيبها, ابراهيم الأميني، ص105.

16- البقرة، 197.

17- الطور، 17.

18- غرر الحكم, ص 271.

59


45

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء غشاء أبصاركم"19.

 

فبالتقوى والطاعة المستمرة لله تعالى يخرج الإنسان من سلطان النفس والأهواء ويدخل في سلطان الحق ويصبح عبداً له. ومن خلال الاستعانة بإرشادات الشرع تفنى الأهواء والشهوات في السلطة الإلهية المطلقة، ويسيطر الإنسان على غرائزه وأهوائه النفسية ويحول دون حصول الإفراط أو التفريط فيها، وينجي نفسه من الوقوع في براثن شرورها ومفاسدها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنما هي نفسي أَروضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأَكبر"20. وهي الوسيلة الوحيدة للخلاص من العذاب والطريق الوحيد لنيل الكمالات المعنوية والإنسانية الرفيعة كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر هو الامتناع عن كل ما يضرّها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبةً وأفضل من أي شيء، ومقدمةً على كل هدف، وممهدةً للتطور إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث إن من يواظب عليهما يكن من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات"21.

 

فالتقوى هي بمثابة الوقاية للنفس من الأمور التي يمكن أن تضرّها وتسبب الأذى لها، والمتّقي في حالة إشغالٍ دائمة للنفس فيما يرضي الله، من خلال الاتباع الدائم لأوامره ونواهيه، وبذلك يبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالتخلص من سلطة النفس الأمّارة بالسوء، وإذا استمر على هذه الحال فترةً وداوم عليها بجدّ وإخلاص فمن المتوقّع أن تتعافى هذه النفس بالكامل فتصبح مطمئنةً وتدخل جنته راضيةً مرضيةً طاهرةً مطهّرةً من كل رجزٍ وسوء،﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي22.


19- نهج البلاغة, خطبة 198.

20- نهج البلاغة، خطبة45.

21- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.

22- الفجر، 27 - 30.

60


46

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 المراقبة

إن سعي الانسان لاتّباع الشريعة يفرض عليه أن يراقب نفسه. والمقصود من المراقبة مراقبة العبد لربه في نفسه وفي أعماله وسكناته وقلبه، وهي من العوامل المهمة والفعّالة في عملية بناء النفس وتهذيبها. فالإنسان الراغب في تطهير نفسه ونيل السعادة الحقيقية لا يمكن أن يغفل عن عيوبه وأمراض نفسه، بل عليه أن يكتشف هذه العيوب ليتمكّن من معالجتها. ولا سبيل أمام الإنسان لمعرفة هذه العيوب إلا بالمراقبة، بحيث تكون ملكاته وأخلاقه وأعماله وحتى أفكاره تحت مجهره ونظره بالكامل. وإمامنا الخميني قدس سره يؤكد على وجوبها حين يقول: "فيجب على الإنسان في هذه الدنيا أن يراقب النفس الأمارة كثيراً، إذ ربما تقوم بعملية التعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصعوبات وتسهيلها، مع أنها توجب الشقاء الدائم والخذلان الأبدي"23. والمراقبة لا تكشف العيوب فقط، بل أثناء المراقبة إذا لاحت له معصيةٌ تذكّر الله وحساب يوم القيامة فوراً فيتركها. وهكذا يكون المراقب لنفسه في حالة سيطرةٍ دائمةٍ على نفسه يملكها ويمنعها من السيئات. وهذا البرنامج من أفضل وسائل تهذيب النفس.

 

بالإضافة إلى أن المراقب لنفسه يكون طوال اليوم مستذكراً للواجبات والأعمال الصالحة وفعل الخيرات فلا يضيع وقته فيما لا فائدة منه لآخرته فتصبح حياته كلها عامرةً بطاعة الله وذكره. وبذلك تكون المراقبة عاملاً مساعداً في عملية تهذيب النفس ومجاهدتها.


23- الأربعون حديثاً, الحديث التاسع والعشرون, بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة.

61


47

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 المفاهيم الرئيسة

الهدف من بعث الأنبياء والرسّل إخراج الناس من ظلمة أهواء النفس والرذائل الأخلاقية إلى نور التوحيد والفضائل الأخلاقية.

1- النفس عندما تنغمس في الأهواء النفسية والشهوات الدنيوية تصاب بالمرض وتصبح أمّارة بالسوء.

2- العلاج الوحيد لحالة أمّارية النفس بالسوء يكمن في مخالفتها وعدم اتّباع ما تأمر به.

3- أفضل وسيلة يخالف بها الإنسان نفسه هي اتباع أوامر الشريعة ومراقبة النفس كي لا تقع مجدداً في فخ الأهواء والشهوات الرخيصة.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما الفائدة الأساسية التي تستنتجها من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؟

2- متى وكيف تصبح النفس الإنسانية أمارة بالسوء؟

3- ما هو السبيل الشرعي لمعالجة مشكلة النفس التي تأمر بالسوء؟

4- ما معنى المراقبة؟ وأين تكمن أهميتها في عملية تهذيب النفس؟

62


48

الدرس الخامس: طريق تزكية النفس

 للمطالعة

برنامج الإمام الخميني للتحلي بالأخلاق الفاضلة24

أفضل علاجٍ لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزمٍ على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة.

 

وعلى أيّ حال, اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد. ولا شك في أن هذا الخُلُق القبيح، سيزول بعد فترةٍ وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ محلهم الجنود الرحمانية.

 

فمثلاً من الأخلاق الذميمة التي تسبب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة. فإذا كان الإنسان المجاهد يفكّر في السموّ والترفع، عليه ـ عندما يعترضه أمرٌ غير مرغوب فيه حيث تتوهج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيئ من القول ـ أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكر سوء عاقبة هذا الخلق القبيح، ويبدي بالمقابل مرونةً، ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.

 

إني أتعهّد لك بأنك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإن الخلق السيئ سيتغيّر كلياً، وسيحلّ الخلق الحسن في عالمك الباطن. ولكنك إذا عملت وفق هوى النفس، فمن الممكن أن يبيدك في هذا العالم نفسه، وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي يهلك الإنسان في آنٍ واحد في كلا الدارين فقد يؤدّي ذلك الغضب ـ لا سمح الله ـ إلى قتل النفس. ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة الغضب على النواميس الإِلهية. كما رأينا أن بعض الناس قد أصبحوا من جراء الغضب مرتدّين. وقد قال الحكماء "إن السفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب" .وعلى كل حال, ينبغي للإنسان أن يأخذ بعين الإعتبار حدّ كل واحدٍ من الأخلاق القبيحة الفاسدة، ويخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندما يخرج الغاصب يأتي صاحب الدار نفسه.

الإمام الخميني قدس سره

63


49

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 الدرس السادس:

 

طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 

 

 

على الطالب مه نهاية الدرس أن:

1- يشرح أهمية طلب العلم والغاية الحقيقية منه.

2- يعدّد أهم آداب وسنن طلب العلم.

3- يستدل على أن طلب العلم تكليف وواجب شرعي.

64


50

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 تمهيد

تهذيب النفس شرطٌ أساسي لبلوغ المقامات الإنسانية الشامخة، والكمالات المعنوية الرفيعة، والسعادة الأبدية الخالصة. وهو بالدرجة الأولى تخلية النفس من الصفات والأخلاق السلبية والرذيلة والتحلي بالأخلاق الحسنة والفاضلة. والتقوى والطاعة لله سبحانه وتعالى هما الطريق الأسلم والمنهج الأقوم لمخالفة هذه النفس وترويضها حتى تصبح طيّعةً لأمر الحق فلا تعمل بخلاف إرادته ومشيئته، فتدخل بذلك في عباد الله الصالحين وتصبح مؤهّلة للتحلي بالأخلاق الحميدة والصفات الإلهية. ولكن تحقق هذا الشرط متوقفٌ على أمرٍ أساسيٍ ومهمٍ جداً، من دونه يصبح الوصول إلى هذا المقصد الشريف أمراً متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، وهو المعرفة الصحيحة. فالمعرفة الصحيحة هي مقدمة لكل إصلاحٍ نفسي، وعبادة شرعية، وعمل صالح. وأما اكتساب المعرفة فطريقه الوحيد هو طلب العلم.

 

طلب العلم تكليف إلهي

الإسلام هو الطريق للوصول إلى السعادة الحقيقية. وهو يمثّل مجموعة كبيرة من التعاليم والأحكام الشرعية، والعقائدية، والأخلاقية وغيرها.. ولن يصل الإنسان إلى مبتغاه من السعادة والكمال إلا في ظلّ الطاعة لله والالتزام التام بقوانين الحق وأحكامه. والالتزام بالأحكام الإلهية بحاجة إلى معرفةٍ وعلمٍ بهذه الأحكام لكي يتمكّن الفرد المسلم من تطبيقها والعمل بها فيغدو مسلماً بحق. لذا كان طلب العلم واجباً على كل مسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"1، لأنه الباب الذي من خلاله يعرف المسلم دينه، والمعرفة الصحيحة بالدين مقدمة للإيمان الصادق والحقيقي، والعمل الصحيح والمقبول.


1- بحار الأنوار، ج1، ص 172.

66


51

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

  وعن أَمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أَيها الناس اعلموا أَن كمال الدين طلب العلم والعمل به، أَلا وإن طلب العلم أَوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسومٌ مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أَهله وقد أُمرتم بطلبه من أَهله فاطلبوه"2.

 

 

ولأن الطاعة التي هي الطريق الوحيد للنجاة من العذاب غير ممكنة من دون المعرفة بمن تجب علينا طاعته، وبما يريده منا، كان طلب العلم واجباً كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "نُصِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم"3.

 

العلم غاية وجود الإنسان

لقد بلغ فضل العلم وأهميته إلى الحد الذي جُعل الهدف من خلق الإنسان والغاية من وجوده في هذا العالم، فعن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "خرج الحسين بن عليّ عليهما السلام على أصحابه وقال: أيّها النّاس إن اللّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"4.

 

من هنا نفهم معنى قوله تعالى حيث قال في معرض تعليله للهدف من خلق الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ5، حيث فسّر بعض المفسرين6 قوله تعالى: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ أي ليعرفون، لأنه لا عبادة من دون معرفة، فالمعرفة بالمعبود سابقة على العبادة له، فلا يمكن أن تصحّ عبادةٌ من دون معرفة.

 

وقد جعل الله سبحانه وتعالى العلم أول منّة امتنّ بها على آدم بعد خلقه لما للعلم من فضلٍ وأهمية حيث قال في أول سورة أنزلها على نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ7، فاختصّ الله تعالى الإنسان بوصف الأكرمية لأنه علّمه العلم وفتح له بابه، حتى جعل أمير


2- الكافي، ج1، ص 30.

3- م.ن، ص17.

4- بحار الأنوار، ج5، ص 312.

5- الذاريات، 56.

6- تفسير المعين، ج3، ص1413.

7- العلق، 1 - 5.

67


52

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 المؤمنين علي عليه السلام قيمة المرء مقدار ما يعلمه حيث قال: "قيمة كل امرئ ما يعلم"8.

 

وقد حذّر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من مغبّة الاستخفاف بالعلم أو إهماله لأن من دونه يكون الهلاك: "اغدُ عالما أَو متعَلما أَو مستمعا أَو محباً لهم ولا تكن الخامس فتهلك"9.

 

أهمية طلب العلم

1- طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض:

الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمتلك الأحكام الشاملة لكل شأنٍ أو حادثةٍ في الحياة، ولهذا فهو البرنامج الأوحد لمخالفة النفس لأنه البرنامج الصادر عن خالق الخلائق أجمعين الذي يعلم حاجاتنا وشؤوننا كلّها. وهذا البرنامج ليس سوى الشريعة التي هي عبارة عن الأحكام الصادرة عن المولى القدير في كل شأنٍ من شؤون حياتنا. والطاعة لله عزّ وجلّ لن تتحقّق إلا باتّباع هذه الشريعة والعمل بأركانها. واتّباعها يحتاج إلى المعرفة المسبقة بأحكامها وقوانينها لكي يُصار إلى تطبيقها والالتزام بها. فالصلاة، الصوم، والحج، والخمس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطهارات والنجاسات وغيرها من الفرائض، كلها أحكامٌ فرضها الله تعالى علينا وحثّنا على الإتيان بها وعدم التخلف، لأنها أصل كل سعادة ومنبع كل خير. من هنا كانت الحاجة إلى طلب العلم وتعلّم الأحكام والمسائل الشرعية، لأنها الباب الذي من خلاله نلتزم بما فرضه الله علينا، فنحظى بفرصة الدنوّ منه والتقرّب إليه كما قال تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرب إليّ عبدٌ بشي‏ءٍ أَحب إلي مما افترضت عليه‏"10. أما الجهل بأحكام الله وحقوقه علينا فإن صاحبه لا يُعذر بل سيكون الباري تعالى خصيمه يوم القيامة، فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ11، فقال: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلًا، قال: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، وتلك الحجّة البالغة"12.


8- غرر الحكم، ص42.

9- بحار الأنوار، ج1،ص195.

10- الكافي، ج2، ص 352.
11- الأنعام، 149.

12- بحار الأنوار، ج1، ص178.

68


53

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 2- طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية:

 

من يريد أن يهذّب نفسه عليه أولاً أن يشخّص عيوبها بدقّة، من خلال التعرّف إلى هذه العيوب عن طريق معرفة الصفات الذميمة والأفعال القبيحة، ليتمكن لاحقاً من معالجتها. فالمعرفة المسبقة بالأخلاق الفاضلة والصفات الرذيلة، أنواعها، مناشئها، آثارها، طرق معالجتها، تساعد الإنسان على تشخيص عيوب نفسه واكتشاف أمراضه الأخلاقية. وباكتشافه للمشكلة يكون قد قطع نصف الطريق ويبقى عليه النصف الآخر وهو العمل على تطهير هذه النفس من هذه الآفات. فالمبتلى بمرض الحسد أو البخل أو الغيبة مثلاً، كيف له أن يعرف أنه كذلك إن لم يكن على اطّلاعٍ ومعرفةٍ بهذه الأمراض وبمدى خطورتها وتأثيرها الهدّام على إيمانه وارتباطه بالله تعالى!؟ إذاً، تهذيب النفس غير ممكنٍ من دون المعرفة بعلل وأمراض هذه النفس. من هنا وجب على كل سالكٍ لطريق الحق والمجاهدة أن يسلك طريق العلم أيضاً لأنه السبيل الوحيد لمعرفة الشوائب والعوائق التي تحول بين الإنسان وربه. كالطبيب الذي يريد أن يعالج داءً ما، حيث من المتعذّر عليه أن يعطي الدواء المناسب إذا لم يكن على علمٍ ودرايةٍ بالمرض ونوعه ليحدّد بعد ذلك كيفية معالجته. من هنا يتعيّن على كل من يريد تهذيب نفسه وتشخيص عيوبها أن يتعرّف إلى ما ورد عن الشارع المقدّس في تحديد العيوب النفسية وإلا فقد يجاهد نفسه ويتعبها فترةً وهو يضاعف عيوبها من حيث لا يعلم. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه"13، لأن الجهل بالنفس منشأ كل الشرور والمفاسد.

 

3- طلب العلم باب الاعتقاد الصحيح:

النفس الإنسانية كما أنها بحاجة إلى التنقية والتهذيب من الرذائل والأخلاق السيئة، هي بحاجة أيضاً إلى التنقية والتطهير من العقائد الباطلة والأفكار الخاطئة والمنحرفة التي يمكن أن تحرف الإنسان عن جادة الحق والصواب. والعقيدة هي البناء الفكري الذي يتضمن مجموعةً كبيرة من المسائل التي تعتبر أهم ما في حياة الإنسان ولا يوجد أهم منها على الإطلاق، لأنها ترتبط بمصيره النهائي في الدنيا والآخرة، والتي على أساسها سيحدّد أنه من

 


13- غرر الحكم، ص233.

69


54

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 أهل السعادة أم الشقاوة. فعلى سبيل المثال تتناول العقيدة مسألة وجود الحياة بعد الموت.

 

وهذه القضية على درجةٍ عالية من الخطورة والأهمية، فإذا لم يلتفت الإنسان أو يعتقد بوجود الحياة بعد الموت. والحساب الأخروي سيتصرّف بطريقةٍ يهمل فيها العقاب ويرتكب الجرائم والمعاصي التي تؤدّي إلى شقائه الأبدي ودخوله نار جهنم.

 

فالعقائد الباطلة والأفكار الضالة أمورٌ تسبب ظلمة النفس وتحرف المرء عن صراط التكامل المستقيم والقرب من الله. وأصحاب العقائد الباطلة لا يمكن أن يعرفوا طريق التكامل أو أن يهتدوا إليه، بل هم تائهون في أودية الضلالة والضياع، وغير قادرين على الوصول إلى الأهداف الإلهية السامية. وعندما يحصل خللٌ في فهم العقيدة الصحيحة فإن ذلك سوف يؤدي إلى الوقوع في الذنوب والمعاصي ثم إلى نشوء مشاكلَ أخلاقية كثيرة. فالعقيدة الصحيحة تقول إن الله تعالى لا يظلم أبداً ولكن الناس يظلمون أنفسهم، وإن الله قد يسّر لكل إنسانٍ سبيل الهداية والصلاح. والإنسان عندما لا يعتقد بهذا الأمر سوف يسيء الظنّ بخالقه وربما يعتقد والعياذ بالله أنه يظلمه، وهكذا بدل أن يلتفت الإنسان إلى تقصيره ويعمل على إصلاح ذاته نراه يقع في مشاكل كثيرة.

 

والعقيدة الصحيحة تقول إن النفس باقيةٌ وإن الآخرة هي دار المقرّ التي تحيا فيها النفس حياةً خالدة. والإنسان الذي لا يؤمن بهذه الحقيقة سوف ينطلق في الحياة على أساس أن الدنيا هي كل شيء وربما يقول كما قال بعض الناس ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ14، عندها يرى أن عليه أن يتزوّد بكل ما يستطيع من قوة من ملذّاتها ويندفع لإشباع رغباته الدنيوية مهما كلّف الأمر.

 

العقيدة الصحيحة تقول إن الأرض لا تخلو من إمامٍ معصوم يمثل القدوة الحقيقية لكل البشر، يقودهم نحو الصلاح والسعادة اللامتناهية، والإنسان الذي يخالف هذا الرأي لن يبالي بوجود الإمام المعصوم، وربما يتبع غيره من الرؤساء والزعماء فيفقد بذلك القدوة الصالحة والحقيقية ويكون مثله كمن ركب في السفينة فسارت به وهو لا يدري إلى أي شاطىءٍ تحمله. لذا أول خطوةٍ في طريق تحقيق السعادة تكمن في التعرف إلى العقيدة الصحيحة، وهذا يتطلب السير في طريق طلب العلم.


14- الجاثية، 24.

70


55

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 آداب طلب العلم

إن لطلب العلم شروطاً وأحكاماً، من دون تطبيقها ورعايتها لن تحصل الثمرة الطيّبة المرجوّة، أو ربما نحصل على ثمرةٍ فاسدة تكون وبالاً علينا في الآخرة. فليس كل من سلك طريق العلم نجا من الهلاك، بل يذكر القرآن الكريم لنا قصصاً عن بعض العلماء الذين لم ينفعهم علمهم بل كان سبباً في هلاكهم أيضا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ15.

 

لذا على طالب العلم والمعرفة أن يلتفت إلى مجموعةٍ من الشروط والآداب، ويعمل على مراعاتها بدقّة لكي لا تزلّ قدمه من حيث لا يشعر ولا يحتسب. ومن أهم هذه الآداب والشروط:

1- الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:

لأن الشيطان يدخل إلى مجالس العلم موسوساً لأصحابها، كلاًّ بحسب حاله، فيقول لبعضهم؛ من هو هذا الشخص حتى يعطيكم درساً؟! ويقول لبعضهم: ليس العلم مهماً بل يكفي النية السليمة، ويقطع الطريق على الآخرين بقوله: لن تفهموا هذه الدروس فهي تحتاج إلى ذهنية خاصة ومقدمات كثيرة.. وعشرات المكائد الأخرى التي ابتكرها هذا اللعين لإضلال الناس عن جادة الحق والصراط المستقيم. ونحن لن نتمكّن من التخلّص من هذه الوساوس إلا بالاستعاذة بالله واللجوء إليه تعالى، وهذا القرآن رغم أنه كتاب الهداية والنور فإن الله تعالى يأمر من يقرأه أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ16.

 


15- الاعراف، 175 - 176.

16- النحل، 98.

71


56

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 2- الطهارة من الذنوب:

 

قد يسلك طالب العلم الطريق الصحيح لطلب العلم ولكن بسبب التهاون في أحكام الله وارتكابه للذنوب يقع في الضلالة بدلاً من الهداية. ومن الآثار البغيضة للذنب في طلب العلم النسيان الذي يعدّ آفة أساسية للعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا أحسب أحدكم ينسى شيئاً من أمور دينه إلا بخطيئة أخطأها"17.

 

3- سلامة النية:

لأن مدار الأعمال على النيات فهي التي تعطي العمل قيمته الواقعية، فالذي يطلب العلم للتفاخر والاستعلاء أو الظهور والجدل فإنه يجعل بينه وبين الحق حجاباً غليظاً، لأن غاية العلم أن يصبح الإنسان عبداً حقيقياً لله. والله تعالى إنما أمرنا بطلب العلم لنتقرّب إليه ونعبده حق عبادته. والوصول إليه لا يحصل إلا بالعبودية له وترك الهوى. لذا على طالب العلم أن لا يكون قصده من طلب العلم إلا وجه الله، وامتثال أمره، وإصلاح نفسه، وإرشاد عباد الله إلى معالم دينه، فلا يقصد بذلك المآرب الدنيوية، والأغراض الفاسدة التي توجب الخذلان والمقت عند الله تعالى. عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوّأ مقعده من النار إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها"18.

 

4- الصبر والتحمّل:

غالباً ما يتطلب العلم منا أن نتنازل عن الكثير من المسائل المتعلقة بنا، أو أن نتحمل المشقّات والتعب. لذا لن ينال الإنسان شرف العلم إلا بالصبر والتحمّل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"19. بل على طالب العلم أن يبذل جهده في الاشتغال بالقراءة والمطالعة وأن يكون طلب العلم مطلوبه ورأس ماله الدائم.

 

5- حسن اختيار المدرّس:

للمدرس دورٌ أساس في تربية المتعلّم وهدايته، فإذا لم يكن المعلم تقياً عادلاً ملتزماً

 


17- مستدرك الوسائل، ج11،ص 326.

18- الكافي، ج1، ص47.

19- بحار الأنوار، ج1،ص177.

72


57

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 بأحكام الله وشريعته من الممكن أن يحرف التلميذ عن الحق. فعن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ قال عليه السلام: "عِلمهُ الذي يأخذهُ عَمَّنْ يأخذهُ"20.

 

6- التواضع للمدرّس والتأدب في محضره:

على طالب العلم أن ينظر إلى أستاذه بعين الاحترام والإجلال، وأن يتغاضى عن عيوبه ونواقصه، فإن ذلك يجعله أكثر قدرةً على الانتفاع به وترسيخ ما يسمعه منه في ذهنه. وعليه أن يتواضع لأستاذه، ويعظّم من شأنه، ويراعي الأدب في مجلسه فإنه لن ينال العلم إلا بالتواضع. والتواضع في مثل هذه الحالة ليس ذلاً بل رفعة وشرف. قال الإمام الصادق عليه السلام: "اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم"21.

 


20- أصول الكافي، ج1،ص49.

21- م.ن، ص 36 .

73


58

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 المفاهيم الرئيسة

1- طلب العلم مقدمةٌ أساسية لتهذيب النفس، وهو تكليف شرعي على كل مسلم.

2- طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض.

3- طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية.

4- طلب العلم وسيلة لتحصيل الاعتقاد الصحيح.

5- لطلب العلم آدابٌ يجب مراعاتها للوصول إلى الأهداف المرجوّة.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هي العلاقة بين طلب العلم وتهذيب النفس؟

2- كيف تستدلّ على أن العلم والمعرفة غاية وجود الإنسان في عالم الدنيا؟

3- كيف يكون طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض الإلهية؟

4- كيف يكون طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية والباطنية؟

5- كيف يكون طلب العلم وسيلة لامتلاك المعتقد الصحيح بالله تعالى؟

74


59

الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس

 للمطالعة

علامات أهل العلم22

لأصحاب الفقه والعقل ـ الذين يقصدون التفقه في الدين وإدراك الحقائق ـ أيضاً علامات وآثار، عمدتها ما ذكره الإمام عليه السلام: منها: أنه ينجم عن هذا العلم في قلبه الحزن والهم والانكسار. ومن الواضح أن هذا الانكسار والفزع لا يكون لأجل الأمور الدنيوية الدنيّة الزائلة، بل إنه ناجمٌ عن الخوف من المعاد، والتقصير في وظائف العبودية. وإن الانكسار والحزن مضافاً إلى أنهما ينيران القلب ويجلّيانه، يكونان مبدأً لإصلاح النفس، ومنشأً للنهوض بوظائف العبودية. وإن هذا النور ـ نور القلب ـ يسلب السكون والقرار من النفس، ويعرّف قلبه إلى الحق سبحانه وإلى دار كرامته. ويجعله مستمتعاً في مناجاته مع الحق المتعالي فيحيي لياليه ويقوم بوظائف العبودية. كما قال عليه السلام: "قَدْ تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ، وَقامَ اللَّيْلَ في حِنْدِسِهِ"23 فإن الجملة الأولى كناية عن ملازمة العبادة.

 

ومن علامات هذا العالم الرباني أنه رغم قيامه الكامل بوظائف العبودية يعيش حالة الفزع، لأن نور العلم يهديه إلى أنه كلما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنه لا يستطيع أن يخرج من مسؤولية شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءاً من الخوف والخشية. وقد قال الحق جل جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء24.

إن نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطلب من الله في أن يصلحه، ويحذّره من الإنشغال بغير الحق، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أن أهل الدنيا قد يمنعونه من السير إلى الله، والسفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدنيا ولذائذها في عينه. والحق سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة. فَيَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَهُمْ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً.

الإمام الخميني قدس سره

 

 


22- الأربعون حديثاً، ص412.

23- الكافي، ج1، ص49.

24- فاطر، 28.

75


60

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 الدرس السابع:

الجهاد أفضل ميدانٍ لتزكية النفس

 

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يتعرّف إلى أهمية الجهاد في سبيل الله.

2- يبيّن العلاقة التي تربط الجهاد في سبيل الله بتهذيب النفس وتزكيتها.

3- يشرح الأهداف الأساسية للجهاد في سبيل الله.

76


61

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 أهمية الجهاد

مشكلة كل زمانٍ في طاغيته الذي يستعبد الناس ويسلب حقوقهم ويصدّ عن طريق الحق، ويمنع من وصول شرع الله وأحكامه إليهم، ما يؤدّي إلى شيوع المفاسد وانتشار المظالم في الأرض، والتعدّي على حريات الآخرين، وانتفاء العدالة والمساواة في المجتمع، ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ1. فكان الوقوف بوجه الظالم وردعه وثنيه عن أهدافه ومخططاته أمراً لا بدّ منه من أجل تحرير البشرية وعتقها من إفساده وإضلاله. من هنا يأخذ الجهاد في سبيل الله دوره الشريف والمقدس لأنه الأسلوب الوحيد الرادع الذي يحول دون بلوغ الظالم أهدافه المضلّة. فعبر التاريخ الممتدّ على طول البشرية لم نسمع أن طاغيةً ما ترك قهر الناس وغصب حقوقهم بملء إرادته، أو أنه عاد إلى رشده فجأة وحكّم ضميره وأدرك فظاعة ما اقترفته يداه الملوثتان بالدماء والمحرّمات، بل على العكس تماماً نجد أنه مع مرور الأيام يزداد في إجرامه وطغيانه: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ2. فالحوار والمنطق لم يكونا في يومٍ من الأيام مفيدين مع الظالم الذي يقتل ويهجّر ويغصب ولا يلتزم بأي قانونٍ ومنطق لا لسببٍ سوى طمعه وجشعه وأنانيته المفرطة واستئثاره بالخيرات والملك. بل الحلّ الوحيد لردع هؤلاء الطغاة والمجانين كان ولا يزال بالسلاح والقوّة. فالجهاد وسيلةٌ إذاً لرفع الموانع والأشواك من أمام طريق الحق، وتحرير الإنسان من سطوة الظالم وإرادة المستكبر وإدخال الناس في رحمة الحق وإرادته، لذا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخير كله فيه وتحت ظله: "الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي السَّيْفِ وَتَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَلَا يُقِيمُ النَّاسَ إِلَّا السَّيْفُ وَالسُّيُوفُ مَقَالِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ"3.


1- النمل، 34.

2- البقرة، 205.

3- الكافي، ج5،ص2.

78


62

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 من هنا صار الجهاد في سبيل الله أول التكاليف الإلهية ومن أعظم الطاعات وأشرف القربات لأنه باب تحرير الناس من عبودية غير الحق، ولأن بقاء الإسلام وانتشاره وتنفيذ قوانين الشريعة يقوم على هذه الفريضة، لذا كان طريق أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عليهم اتّباعه لنيل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لكل أمةٍ سياحة (أي طريق) وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله"4. ولأجل ذلك أيضاً أصبح الباب العظيم الذي لا يدخل منه إلا خواصّ الأولياء فيعرجون من خلاله إلى ربهم المتعال حيث السعادة العظمى وما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: "إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة"5.

 

الهدف من الجهاد

جميع الرّسل قاتلوا في سبيل الله لأن مشكلتهم الأساسية كانت مع الطواغيت والظالمين، الذين يقطعون طريق الله باستعبادهم للناس وجعل قلوبهم تهوي إليهم بدل أن تتوجّه نحو خالقها وبارئها. فالنبي يريد أن يحرّر الناس ويأخذ بأيديهم الى الحق، والظالم يريد أن يسخّرهم لنفسه ليطيعوه. فحركة الأنبياء الجهادية كانت حركةً مدروسة وذات أبعادٍ هادفة وغايات سامية، ولم تكن عبثيةً على الإطلاق أو لأجل التسلّط والاستيلاء كالحروب التي يشنّها الطواغيت والمستكبرون. ونحن بدورنا علينا الالتفات إلى هذه الأهداف كي لا نحرف الجهاد عن مساره الإلهي والمقدّس، ولكي ننعم في نهاية المطاف بثماره النورانية الطيّبة، وهي:

1- كفّ بأس الكفار:

من الأهداف الأساسية للجهاد في سبيل الله، ردّ كيد الكفار وبأسهم الى نحورهم:

﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً6، فبعد أن أمر الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة أعدائه وجهادهم رغم قلّة الناصر، بيّن له أحد الأهداف الأساسية لهذا التكليف المقدس. فالجهاد في سبيل الله هو الطريق لكسر شوكة الظالمين وقوّتهم، وكفّ أذاهم

 


4- مستدرك‏ الوسائل، ج11،ص14.

5- الكافي، ج5،ص4.

6- النساء، 84.

79


63

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 وشدّتهم وبأسهم عن المؤمنين الموّحدين. ولذا أُمر الرسول بالالتزام بهذا التكليف ولو كان وحيداً فريداً، وبالاعتماد على الله تعالى مصدر كل قدرةٍ وقوة في هذا العالم، فهو عز اسمه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من مكائدَ ودسائسَ بوجه دعوة الحق.

 

2- محو آثار الشرك:

من أهداف تشريع الحق تعالى للجهاد أنه يريد أن يكون المعبود الأوحد على هذه الأرض: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه7، والفتنة هنا هي الشرك بالله. فاللّه عزّ وجلّ أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس. وإذا وقف شخصٌ ما بوجه دعوة الأنبياء فلهم الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة سلميّة أوّلاً، وإلا فعليهم استخدام القوّة لإزالتها. فالناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة التوحيد، ولو تصدّى فردٌ أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت التوحيد من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من أغلال الشرك وقيود العبوديّة لغير الحق تعالى، فلأتباع الدين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة.

 

3- إبقاء ذكر الله حيّاً:

من الأهداف الأساسية لتشريع القتال في سبيل الله، إعلاء ذكر الحق: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا8. فتشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شرّ أعداء الدين الذين يسعون في إطفاء نور الله وذكره. ولولا ذلك لانهدمتِ المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك، لأنّ الله تعالى لو لم يدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أماكن العبادة والمساجد التي يذكر فيها اسم الله. ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين وأولوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله. لأنّهم سيجدون الساحة خاليةً من العوائق فيعملون على تخريب المعابد

 


7- الأنفال، 39.

8- الحج، 40.

80


64

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّئهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده تعارضها دعوة المتجبّرين الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبُّهاً منهم بالحق تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته. من هنا كان صدّهم والوقوف بوجههم من الأهداف الأساسية لتشريع الجهاد في الإسلام.

 

4- الدفاع عن المجتمع الإسلامي:

هذا النوع من الجهاد يمثّل الطابع الأبرز لأغلب حروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي خاضها مع المشركين والكفّار الذين حاولوا هدم المجتمع الرسالي الجديد الذي أقامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة، فأذن الله للمسلمين بأن يدافعوا عن أنفسهم ويحموا مجتمعهم الديني الحديث النشأة من أذى الكفار وكيدهم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ9. فكان جهادهم لأجل الدفاع عن أنفسهم ضد الجيوش الزاحفة التي تريد أن تستأصل جذور الإسلام وتمحق شريعة القرآن وتقضي على دولته: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ10.

 

الجهاد الأصغر أفضل ميدانٍ للجهاد الأكبر

الجهاد في سبيل الله تكليف إلهي، فالله تعالى أمر الناس بالقتال والجهاد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ11. قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إشارة إلى أنه حكمٌ وتشريع إلهي حتميّ ومقطوع، وهو فرضٌ على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجهاً إليهم جميعاً إلا مَن كان معذوراً. وهو كرهٌ لكون القتال يستلزم إفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، ولاقترانه بأنواع المشقات والمصائب، وغير ذلك مما تكرهه النفس الإنسانية وتجده شاقاً ومتعباً.

 

فالذين لا يرون في الجهاد سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعي أن يكون مكروهاً لديهم، أمّا الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف

 


9- الحج، 39.

10- التوبة، 32.

11- البقرة، 216.

81


65

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا يرحّبون به ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابي على سلامتهم وصحتهم يتقبّلونها برحابة صدر.

 

من هنا يشير الحق تعالى إلى مبدأ أساسي حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾، فلا عبرة بما يكرهه الإنسان أو يحبه لأنه ربما يخطئ في تشخيص الواقع والمصلحة، وهو غير قادرٍ في كثيرٍ من الأحيان أن يهتدي بنفسه إلى حقيقة الأمر. لذا على البشر أن لا يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عز وجل: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾. فالناس لأنهم لم يدركوا إلا القليل من أسرار الخلقة والقوانين والتشريعات الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة، لأنهم جاهلون بكثيرٍ من المصالح والمفاسد الموجودة فيه. لذا قد يكرهون شيئاً في حين أنّ سعادتهم تكمن فيه، أو يفرحون لشي‏ءٍ ويطلبونه في حين أنّه يستبطن شقاءهم. لذا لا يحق للإنسان مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحق اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أن الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرع لهم تشريعاً ما كالجهاد مثل, فإنه لا يشرّعه إلا لأنّه يرى فيه خيرهم وسعادتهم ونجاتهم. لذا على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول. وإذا التزم الإنسان بأحكام الحق فالنفع والفائدة يعود إليه لأن الحق تعالى غنيّ عن العالمين: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ12.

 

الخير كل الخير في الجهاد

فالجهاد في سبيل الله تكليف إلهي بل ومن أعظم الطاعات، فالخير كله معه وفيه لأنه ما صلحت الدنيا ولا الدين إلا به كما قال أَمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي بن أبي


12- العنكبوت، 6.

82


66

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 طالب عليه السلام: "إن الله عز وجل فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره. والله ما صلُحت دنيا ولا دين إلا به"13. وطاعة الله وأداء التكليف الشرعي كما ذكرنا سابقاً هما الباب الوحيد لجهاد النفس وتهذيبها وتخليصها من الشوائب الخلقية والأمراض الباطنية، والذي هو الجهاد الأكبر، وهو الطريق الأمثل للخروج من سيطرة أهواء النفس والشهوات.


والجهاد في سبيل الله هو أهم وأشرف التكاليف الشرعية كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام وهو قِوَامُ الدِّين والأَجْرُ فيه عظِيمٌ مع العزّة والمَنَعَةِ وهو الكَرَّةُ فيه الحسنات والبُشْرَى بالجنّة بعد الشّهادة وبالرّزق غداً عند الرَّبِّ والكرامة"14. وعليه يكون الجهاد في سبيل الله بدوره أهم ميدانٍ لجهاد النفس وتصفيتها من الأهواء والأمراض الخلقيّة. وهو مهمٌّ إلى درجةٍ عرّفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد الأكبر، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس"15.

 

فالمجاهد يكون أثناء جهاده في حالة مخالفة دائمة لنفسه ولأهوائها لكونه مطيعاً لأمر الحق وأحكامه لا لأمر النفس وأهوائها. وهو عند أدائه للتكليف الشرعي سوف يكتشف عيوب نفسه وعللها، وسوف تخرج خبايا نفسه إلى العلن.

 

والمجاهد أثناء أدائه لتكليفه سوف تعترضه الكثير من المواقف التي لو كان صادقاً في جهاده ومراقبة نفسه، فسوف يلاحظ ما إذا كان يؤدّي هذه الأعمال لوجه الله وتقرّباً إليه، أم والعياذ بالله من أجل كسب الشهرة والجاه، أو حباً بالظهور والرياء أو لكسب المقام والمال وغير ذلك من الأغراض النفسية.

 

وباكتشافه لأمراضه الأخلاقية يكون المجاهد قد قطع نصف الطريق وبقي عليه النصف الآخر وهو التصدّي لمعالجة هذه الأمراض، والمداومة على العمل وأداء التكليف بعزم أكيد ونيّة خالصة لله وعدم تركه أو التخلف عنه مطلقاً. ومن المتوقع بعد فترة من المداومة على العمل أن يزول هذا المرض الخبيث والخلق الفاسد بتوفيق الله وعنايته. فساحات الجهاد

 


13- الكافي، ج5،ص8.

14- م.ن، ص36.

15- وسائل الشيعة، ج11، ص124.

83


67

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 التي هي ساحاتٌ مقدسة ومباركة والتي هي محطّ عناية الله وملائكته وتأييده وتسديده، إذا خلصت فيها النوايا وصفت فيها النفوس وتوجّهت نحو بارئها مستسلمةً خاضعةً نالت الرفعة والعزة في كلا الدارين، وفازت بإحدى الحسنيين. فالجهاد الأصغر إذاً هو أفضل ساحةٍ لتطهير النفوس وتكاملها وتزكية القلوب وتصفيتها لتصبح مؤهلةً للقاء المحبوب الأوحد وهي مطمئنة، راضية. إنه باختصار أفضل ميدانٍ للجهاد الأكبر.

84


68

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 المفاهيم الرئيسة

1- الجهاد وسيلةٌ شريفة لرفع الموانع التي يضعها الظالمون لأجل الصدّ عن طريق الحق.

2- للجهاد أهدافٌ مقدسة لا بدّ من فهمها والالتفات إليها حتى يكون الجهاد هادفاً وعن وعي.

3- من أهداف الجهاد نشر التوحيد، وإبقاء ذكر الله حياً، والدفاع عن المسلمين والمجتمع المسلم.

4- أداء التكليف الشرعي هو السبيل لتهذيب النفس، والجهاد في سبيل الله تكليفٌ شرعي بل من أفضل التكاليف.

5- النتيجة والمحصّلة النهائية أن الجهاد في سبيل الله سبيل لتهذيب النفس وتزكيتها أيضاً.

 

أسئلة حول الدرس

1- كيف يمكن أن يكون الجهاد في سبيل الله مدخلاً أساسياً لتهذيب النفس؟

2- للجهاد في سبيل الله أهدافٌ عديدة أذكرها وتحدث عن اثنين منها.

3- لماذا اعتبر أمير المؤمنين علي عليه السلام الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام؟

4- قيل "إن المجاهد أثناء جهاده هو في حالة مخالفةٍ دائمةٍ لنفسه ولأهوائها"، لماذا؟

5- كيف يكون الجهاد في سبيل الله عاملاً في اكتشاف أمراض النفس؟

85


69

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 للمطالعة

الجهاد الإلهي16

هناك شروط وأصول للجهاد في سبيل الله ينبغي تحصيلها، كما يجب الحذر من الموانع والعراقيل الموجودة في طريقه. إلا أن الركن الأهم والشرط الأساسي هو تجارة الدنيا والآخرة، أي بيع الدنيا وشراء الآخرة. والمقصود من الدنيا التي هي رأس كل خطيئة هو التوجه إلى غير الله تعالى. فكما أن للآخرة درجات فكذلك للدنيا دركات متفاوتة فيما بينها، فبعضها أنزل وأحطّ من البعض الآخر.

 

والشرط الأساسي للجهاد في سبيل الله هو الاجتهاد في تشخيص الدنيا بجميع دركاتها، وتمييز الآخرة بجميع درجاتها، والشروع بالمعاملة بترك الدنيا والذي هو في الحقيقة الخلاص من دركاتها، وتحصيل الآخرة والذي هو في الحقيقة نيل درجاتها والنجاة، وقد ذكر هذا السر المكتوم في قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا17.

 

يعني أن الأشخاص الذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وكل من اختار هذه المعاملة والتجارة وجاهد في سبيل الله فأمامه واحدٌ من طريقين لا ثالث لهما، أحدهما الشهادة والآخر النصر. ولا وجود لطريقٍ ثالث باسم المصالحة والتسليم وأمثال ذلك.

 

إن ترك الدنيا هو الشرط الوحيد للجهاد والثمن الوحيد للجنة, بمعنى أن الجهاد من دون بيع الدنيا لا يتّصف بالصبغة الإلهية، ولا ينتهي بانتصار الحق. وبدون ترك الدنيا لا يمكن الدخول إلى الجنة كما قال الإمام علي عليه السلام: "طلاق الدنيا مهر الجنة".

 

 

 


16- الحماسة والعرفان، ص31.

17- النساء، 74.

86


70

الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس

 ومن المعلوم أن الحصول على الجنة يكون بمقدار المهر، لأن البعض يترك لذائذ الدنيا لكي يحصل على لذات الجنة الحسّية، أو الخيالية، أو العقلية، ولكن البعض الآخر يصرف النظر عن جميع اللذات لتحصيل اللذات الإلهية. فلا يستوي الزهّاد والعبّاد والعرفاء في الجنة، كما أن العرفاء لا يستوون فيما بينهم أيضاً. ومن الواضح أن جهاد الزهاد يختلف عن جهاد العبّاد، وجهاد هاتين الطائفتين يختلف عن جهاد العرفاء، كما جهاد العرفاء أنفسهم له درجات كثيرة بمقدار تفاوت مراتبهم.

آية الله جوادي الآملي

87


71

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 الدرس الثامن:

 

صفات المجاهد في سبيل الله

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يذكر أهم الصفات التي ينبغي للمجاهد في سبيل الله التحلّي بها.

2- يستدل على ضرورة اتصاف المجاهد بهذه الصفات لأهمّيّتها.

88


72

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 تمهيد

صحيحٌ أن الله تعالى فضّل المجاهدين في سبيله على القاعدين ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا1، ولكن ليس كل من حمل السلاح وانطلق لقتال العدو نال بركة الجهاد وحصل على آثاره الطبيّة. فكثيرون هم الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن عندما وافته المنيّة انقلبوا على أعقابهم خاسرين، ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ2. بل للجهاد في سبيل الله تعالى شروطٌ أساسية بمراعاتها ينال المجاهد ما وعده الله من الفضل العظيم، والزلفى والمغفرة، وجنة النعيم ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ3. وأهم هذه الشروط:

 

القتال تحت راية الحق

الجهاد في سبيل الله واجبٌ إلهي لا يجوز أن يشرع فيه الإنسان من نفسه وبالرجوع إلى أهوائه. بل عليه أن يتبع أوامر الشريعة فيما تأمر به وتنهى عنه في هذا المجال. وأول ما تأمر به هذه الشريعة الغرّاء أن يكون جهاد المرء مرتكزاً على أساس ديني، بمعنى أن يكون قتاله لأجل الأهداف الإلهية، وتحت راية الحق، وبقيادة المعصوم عليه السلام أو نائبه بالحق الذي ينوب عنه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ4. لأن الله عز وجل لن يقبل عمل من يوالي عدوّه ويقاتل تحت رايته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء5، بل ستكون أعماله باطلة ولا قيمة لها أيضا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ6.

 


1- النساء، 95.

2- المائدة، 21.

3- القلم، 34.

4- النساء، 59.

5- الممتحنة، 1.

6- محمد، 33.

90


73

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 طاعة القائد

من أهم الشروط التى يجب على المجاهد في سبيل الله الالتزام بها طاعة القيادة. وهي من الواجبات الشرعية التي أكد عليها الإسلام بشدة، لأن حفظ النظام وديمومته ونجاح الأعمال شرطها الأساسي طاعة القائد ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ7.أما التمرّد على القيادة الشرعية وعدم طاعتها فيدلّ في الواقع على عبادة النفس والتعصب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم للحق والطاعة له. إن أول عملٍ ركّز عليه الإسلام في بداية ظهوره هو الطاعة لله ورسوله، ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ8، فالفوز في الدنيا والآخرة مرهونٌ بطاعة الله وطاعة رسوله والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ9‏. لذا عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأئمة عليهم السلام قادةً لأمّته بعد وفاته، والإمام الثاني عشر الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف عيّن نائباً عنه وقائداً للأمة في غيبته هو الوليّ الفقيه الجامع للشرائط، حيث أمر الناس بالرجوع إليه وأوجب عليهم طاعته كما جاء في التوقيع المقدّس عن إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث قال لسائلٍ أشكل عليه بعض المسائل: "وأَما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأَنا حجة الله عليهم"10. واستناداً إلى ما تقدّم فإن عدم الطاعة للولي الفقيه يعني الاستخفاف الصريح بحكم الله تعالى، لأن الرادّ على الولي الفقيه رادّ على حكم الأئمة والرادّ على حكمهم رادّ على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالتالي رادّ على الله ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ11.

 

ومما يجدر الانتباه إليه هنا أيضاً هو وجوب طاعة القادة والمسؤولين المعيّنين من قبل الولي الفقيه، فهؤلاء القادة تجب طاعتهم ما داموا مؤيّدين من قبل نائب الإمام المعصوم في عصر الغيبة. ومجريات التاريخ تحكي بوضوح عن كثيرٍ من الهزائم والويلات التي مُني بها المسلمون والتي كان السبب الأساسي فيها عصيان أوامر القيادة الإسلامية. وهذا ما تدعمه


7- الأنفال، 46.

8- النور، 52.

9- النساء، 59.

10- بحار الأنوار، ج53،ص 189.
11- النساء، 80.

91


74

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 وتؤيده النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة. وقصة معركة أحد خير شاهدٍ على ذلك. كما ويروي التاريخ لنا حادثة مهمة جداً ومعبّرة تحكي عن فداحة التخلّف عن أوامر القيادة لما له من عواقب وخيمة جداً، حين أعدّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً قبل وفاته وعيّن قائداً عليه لم يتجاوز من العمر أكثر من عشرين سنة، وكان ذلك سبباً عند بعض المسلمين للتخلف والعصيان، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر وقال جملته المشهورة: "لعن الله من تخلف عن جيش أسامة"12.

 

التقوى

من يخشَ الله تعالى ويتّقه حق تقاته يجتنب ما حرّمه ونهى عنه، ويؤدّ ما فرضه وأوجبه. وهذا هو الإنسان المتّقي الذي يخاف الله ويحرص على عدم معصيته ومخالفة أمره، فتكون بذلك أعماله مورد قبول الحق ورضاه ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ13. أما الأعمال التي لا ترتكز على التقوى فتشبه البناء القائم على حافة جرفٍ هارٍ والذي لن يصمد طويلاً أمام التهديد وسرعان ما سوف يهوي بأهله ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ14.

 

فالتقوى تعدّ شرطاً أساسياً لأن الله لا يطاع من حيث يعصى. وإذا لم يحافظ المجاهد في سبيل الله على حدود الله عند أدائه لواجباته فلن يتقبل الله جهاده، ويُخشى أن يسلب منه فضل الجهاد والتوفيق إليه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ15. لأن المجاهد إذا لم يكن مراعياً لحدود الله وملتزماً بشريعته فسيكون عرضةً لفتن النفس الأمّارة بالسوء والأهواء المضلّة، ما سينعكس سلباً على عمله وجهاده حتماً ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ16. فساحات الجهاد يجب أن تكون طاهرة وخالية من المعاصي وبذورها المكدّرة وآثارها الهدّامة التي تحول دون نشوء جبهة مباركة نورانية وقوية، لتكون أرضاً خصبة لفيوضات الحق وكراماته ونعمه المطلقة ومحلاً لعروج الإنسان وارتقائه.

 


12- بحار الأنوار، ج 30، ص 423.

13- النور، 52.

14- التوبة، 109.

15- المائد، 27.

16- القصص، 50.

92


75

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 الإخلاص

الإخلاص من الصفات الهامة التي ينبغي للمجاهد التحلي بها لأنها منشأ كل هداية وتوفيق. فالله سبحانه وتعالى أمر الناس بالعبادة ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ17 ‏وجعلها شرطاً أساسياً للارتباط به وتحقق العبودية والوصول إلى مقامها الشامخ، ولكنه لم يأمر بأي عبادة بل أمر عز وجل بالعبادة الخالصة له التي لا يشاركه فيها أحدٌ أبداً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ18‏، وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه"19. فالإخلاص هو روح العبودية لله وجوهرها، وحقيقته تخليص النية والدافع نحو العمل من كل شيء ما عدا الله سبحانه وتعالى. فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أي عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصدٌ أو دافعٌ سوى رضاه والتقرّب إليه.

 

إن الأعمال مرهونةٌ بالنيات وإذا لم تكن النوايا خالصة فهذا يعني أنه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾‏20، ولا يقبل إلا ما كان له خالصاً كما في الحديث القدسي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يقول الله عز وجل: أَنا خير شريك من أَشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أَقبله إلا ما كان لي خالصاً"21. وعليه فكل عملٍ لا يكون خالصاً لوجه الله تعالى فهو شرك، والشرك ظلمٌ عظيم ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ22، والله تعالى لا يهدي القوم الظالمين ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ23.

 

والمجاهد في سبيل الله عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة هو في حالة عبادة، ولأعماله بعدٌ إلهي يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين ويقرّبه من الحق نجيّاً في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص. أما إذا لم تكن النوايا خالصةً ولم يكن الدافع الأساسي من وراء الجهاد رضا الله وأداء التكليف الشرعي فلن تكون الأعمال مقبولةً وبالتالي لن ينال الأجر والثواب الذي


17- الإسراء، 23.

18- البينة، 5.

19- الكافي، ج 2، ص16.

20- النساء، 48.

21- الكافي، ج2، ص 295.

22- لقمان، 13.

23- الصف، 7.

93


76

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 يستحقّه. لأن الذاهب إلى ميادين الجهاد لن يصدق عليه وصف المجاهد في سبيل الله ما لم تكن هجرته إلى الله، وما لم يكن دافعه الأساسي وهدفه النهائي هو الحق سبحانه وتعالى لا غير، ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا24.

 

الصبر

الصبر من صفات المجاهد الأساسية ومن دونه لن يتمكّن من مواجهة الصعاب وتحمّل المشاكل التي تنتظره. لذا أمر الله تعالى به عباده المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ25، وجعله أساس الإيمان ودعامته الرئيسة كما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأْس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له"26. والصّبر لا يعني تحمّل الشقاء وقبول الذلة والاستسلام للعوامل الخارجية، بل على العكس، الصبر يعني القدرة على التحمل والمقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع. وتاريخ العظماء يؤكد أن أحد أهم عوامل انتصارهم هو صبرهم واستقامتهم، أما الفاقدون لهذه الصفة فسرعان ما ينهارون وينهزمون.

 

ومن الخصائص الأساسية للصبر، أن بقية الفضائل متوقفةٌ عليها لأنها سندها ورصيدها الأساسي، والأهم من ذلك كله أن الله تعالى يحب الصابرين ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ27 وهو معهم ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. فمن صبر على الجهاد ولم يشكُ ولم يجزع واستقبل البلايا بصبرٍ وسكينة، فنصيبه أن الله تعالى معه وسوف يؤيّده بالنّصر.

 

ويكفي للدلالة على مدى أهمية الصبر بالنسبة للمجاهد ما ذكره القرآن الكريم حين أمر الله النبي بالقتال وتحريض المؤمنين عليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ28. فالآية الكريمة تشير إلى ما يشبه المعجزة


23- الصف، 7.

24- الكهف، 110.

25- البقرة، 153.

26- الكافي، ج2،ص 87.

27- آل عمران، 146.

28- الأنفال، 65.

94


77

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 التي يمكن أن تحصل مع المؤمنين المجاهدين في الحرب إذا ما التزموا الصبر وكانوا من المتصبّرين في ميادين القتال. فقد وعدهم الله تعالى بأن يغلب الرجل منهم عشرةً من الكفار في حال كانوا من الصابرين، بل حتى لو كانوا عشرة أضعاف عددهم. وممّا يسترعي الانتباه أنّ أغلب المعارك التي جرت بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّة غالباً. والسبب الرئيس الذي يقف وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك هو صبرهم وتجلدهم أمام عدو يفوقهم عدداً وعدّة، وتمتّعهم بروحية الثّبات والاستقامة التي هي ثمرة شجرة الإيمان.

 

التوكل

التوكّل على الله يجب أن يكون أقوى وأمضى أسلحة المجاهد في سبيل الله، لأنه يؤمن بأن الحول والقوة بيد الله، وأنه المؤثر الحقيقي والوحيد في هذا العالم، وأن الأمور كلّها في الحقيقة ترجع إليه، وليس على الإنسان الصادق في إيمانه سوى أن يعبد الله فيما أمره وأن يتوكّل عليه، فلا يعتمد على نفسه إطلاقاً ولا يكون همّه نتائج أعماله بل جلّ اهتمامه يكون منصبّاً على طاعة ربه وأداء تكليفه بصدق وإخلاص، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ29. أما النتائج فأمرها موكولٌ إلى الله تعالى ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ30. فالتوكل هو الاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور، والاعتقاد بأنه مسبب الأسباب والمتسلّط عليها، وأن بإرادته ومشيئته تتحقّق هذه الأسباب.

 

وهذا لا يعني ترك العمل والإعداد وتهيئة السلاح والمعدّات وزيادة القوة العسكرية وتطوير الكفاءات والحرص على التنظيم وغيرها من الأمور. بل كل هذه الأمور ضرورية وأساسية ويجب الاهتمام بها وتوفيرها بحسب القدرة والوسع كما يقول الله تعالى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ31، ‏فالتوكّل لا يعني ترك العمل والأخذ بالأسباب على الإطلاق. ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى قوماً لا يزرعون فقال لهم: "ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوَكِّلُونَ، قال: لا بل أنتم الْمُتَّكِلوُن"32. فمن أضحى عنده


29- هود، 123.

30- الأنفال، 10.

31- الأنفال، 60.

32- مستدرك الوسائل، ج11،ص217.

95


78

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 معرفة بالله تعالى يعلم أن مقتضى الحكمة الإلهية أن الأمور تتحقق بواسطة الأسباب، ولكن على قاعدة أن جميع تلك الأمور لا تعدو كونها وسائل لا أكثر، وأن العبودية لله وأداء التكليف الشرعي أهم من تحقيق النصر، وأن هذه الأمور ليست هي من يحسم النتائج ويحقّق النصر ويضمن الوصول إلى الأهداف المنشودة، بل الاعتماد والتوكل يجب أن يكون أساساً على من بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير لا على الأسباب الظاهرية ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ33، فهو في الحقيقة الناصر والمعين، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ ومَنِ اعْتَصَمَ بِاللهِ لَا يُهْزَم"34.

 

ذكر الله

لقد أمر الله تعالى المجاهدين أن يذكروه عند لقائهم العدو ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ35. وليس المراد بالذكر هنا الذكر اللفظي فحسب، بل المقصود منه أيضاً الذكر القلبي بمعنى حضور الله تعالى في قلوبنا بحيث لا نغفل عن علمه وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة. ومثل هذا التوجه إلى اللّه يقوّي من عزيمة المجاهد في ميدان القتال، ويُشعره على الدوام بأنّ هناك سنداً قويّاً يدعمه في ساحة المواجهة، لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه. فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفس المجاهد ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ36.


33- الملك، 1.

34- بحار الأنوار، ج68، ص 151.

35- الأنفال، 45.

36- الرعد، 28

96


79

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 المفاهيم الرئيسة

1- إن للجهاد شروطاً وآداباً على المجاهد أن يراعيها حتى يكون جهاده في سبيل الله، ويفوز بما وعده الله من الفضل العظيم، والكرامة في الدنيا والآخرة.

2- من أهم هذه الشروط: القتال تحت راية الحق، طاعة القيادة، التقوى، الإخلاص، الصبر، التوكّل على الله، ذكر الله دائماً.

3- التمرّد على القيادة وعدم طاعتها يدل على عبادة النفس والتعصّب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم والعبودية.

4- المجاهد إذا لم يكن مراعياً للحدود والواجبات الإلهية فسوف يكون عرضة لفتن النفس والأهواء المضلّة.

5- الأعمال مرهونة بالنيات وإذا لم تكن النية خالصة فهذا يكشف عن وجود الشرك في القلب.

6- الصبر الذي يعني القدرة على التحمّل والمقاومة والثبات مقدمة لبقية الفضائل والصفات.

7- التوكل لا يعني ترك العمل بل استفراغ الوسع وبذل الجهد الأقصى والنتائج بيد الله وحده.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- متى يكون جهاد المرء في سبيل الله؟

2- ماذا يكشف التمرد على القيادة وعدم الالتزام بأوامرها؟

3- لماذا تعتبر التقوى شرطاً أساسياً من شروط الجهاد في سبيل الله؟

4- ما هي حقيقة الإخلاص؟ وكيف يكون الإنسان المجاهد مخلصاً؟

5- ما هي العلاقة بين النصر والصبر؟ اذكر أمثلة على ذلك.

97


80

الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله

 للمطالعة

أداء التكليف أهم من النصر37

أيها المجاهدون... إصبروا في مواطن الجهاد، وتواصوا بالصبر، وادعوا الآخرين إلى التمسك بالصبر والاستعانة به... لا تتزلزلوا ولا تهنوا تجاه الهزائم الظاهرية فقد قال إمامنا الخميني العظيم: "نحن لم نقم من أجل أن ننتصر أو نُهزم، بل إن علينا تكليفاً ويجب أن نؤديه".

 

ولهذا نهض إمام الأمة لوحده، وما كانت انتفاضته من أجل الانتصار أساساً، بل من أجل أداء الواجب الإلهي.. وكلما كان البعض ينصحونه كما يدّعون بترك الثورة كان يرفض ما يقولون ويردّ قائلا: "لدي تكليفٌ شرعيٌّ عليّ أن أؤديه، فإذا تمكنت من الوصول إلى ثمرته فقد حصل المطلوب، وإذا لم أصل ولم أحقّق شيئاً فقد عملت بواجبي الشرعي على كل حال".

 

في الحرب أيضاً كذلك، فالمهم فيها أداء الواجب الشرعي.. وحسنٌ جداً إذا فتحتم البلاد، أما إذا حقّقتم فتحاً كبيراً ولكن لم يكن هذا الفتح بنيّة أداء التكليف الشرعي، فاعلموا أن هذا الإنجاز ليس له أيّة قيمة عند الله، بل على العكس فإن جزاءه النار والعذاب. وإذا كان الرأي الشخصي لأحد المجاهدين يتعارض مع أوامر القيادة فعليه أن يضحّي بالتنازل عن رأيه وقناعته حرصاً على مصلحة الإسلام. قتل العدو ليس مسألة مهمة جداً، العمل الصعب والمهم هو تحمّل الرأي المخالف للقناعة الشخصية، والتنازل عن الرأي الشخصي حرصاً على مصلحة الإسلام. اصبروا وصابروا. ليكن لديكم صدرٌ واسعٌ بحيث تلتزمون الهدوء وتعملون لله سبحانه وتعالى... وتصبرون حتى لو أساء البعض ممّن تحت إمرتكم القول، فإن السكوت هنا لرضا الله.

 

أيها المجاهدون الأعزاء في ساحات المواجهة، إصبروا أمام المصاعب والمحن لكي تستقبلكم الملائكة بالسلام والصلوات عليكم، ولكي تصلوا إلى الدرجة التي يأتيكم معها الخطاب الإلهي: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي38.

 

الأستاذ مظاهري

 

 


37- الأستاذ مظاهري, خصال الجهادين, ص 24.

38- الفجر، 27 - 30.


81

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 الدرس التاسع:

 

الرذائل الأخلاقية (1) (هوى النفس - الحسد)


على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يشرح معنى وحقيقة كلّ من اتّباع الهوى والحسد.

2- يعدّد بعض الآثار السلبية لاتّباع الهوى والحسد.

3- يبيّن دوافع اتّباع الهوى والحسد وطرق معالجتها.

100


82

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 تمهيد

إن سلوك طريق الله والآخرة للوصول إلى الكمال الإنساني والسعادة الأبدية عند مليكٍ مقتدرٍ غير ممكنٍ من دون جهاد النفس وتهذيبها من الأمراض والرذائل الأخلاقية. وأوّل ما يحتاجه الإنسان المؤمن الحريص على آخرته هو معرفة هذه الموانع والعوائق التي تحول بينه وبين لقاء ربه، والتي تحرمه من فيضه الجزيل، وعطائه العميم. فالمعرفة الدقيقة والصحيحة بهذه الموانع هي المدخل الصحيح لإزالتها والتخلّص منها، لأنه من غير الممكن معالجة الداء ما لم نكن على معرفةٍ به وبآثاره ونتائجه. لذا كانت المعرفة المسبقة بهذه الأمراض والرذائل أمراً لا بدّ منه لمن يريد أن يهذّب نفسه ويطهّرها. وفي هذا الفصل والفصلين اللاحقين سوف نذكر بعض هذه الأمراض، مبيّنين خطرها الداهم على سلوك الإنسان، وكيفية معالجتها.

 

هوى النفس

1- حقيقة الهوى:

الهوى هو حب الشيء والميل إليه والتعلّق به واشتهاؤه، من دون فرقٍ بين أن يكون متعلقّه أمراً حسناً أو قبيحاً. وهوى النفس هو عبارة عن حب النفس وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً. واتّباع أوامر النفس يعدّ شركاً بالله لأن المطاع فيه هو النفس وليس الله، فالأمر الصادر عن النفس إن كان خيراً ولم يكن في طاعة الله ولأهدافٍ إلهية فهو مخالفٌ لإرادة الله وبالتالي باطل، وإن كان شراً فهو صادرٌ عن النفس الأمّارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالسوء دائماً وتدفعه إلى معصية الرب ومخالفة أمره. وقد تحدّث الله تعالى عن هذه الحقيقة وأشار إلى أن المتّبع لهواه في الحقيقة عابدٌ لغير الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ1. فأشار بشكلٍ واضحٍ إلى أن الإنسان يمكن أن يتسافل

 


1- الجاثية، 23.

102


83

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 إلى الحدّ الذي تصبح فيه نفسه هي المعبودة والمطاعة وليس الحق عز وجل. والمشكلة الكبرى في هذه التبعيّة للنفس تكمن في أنها تضلّ الإنسان عن جادّة الحق والصّراط المستقيم، كما قال عزّ اسمه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ2. والأخطر من ذلك أن اتّباع الهوى يصدّ عن سبيل الحق، ويحول دون الوصول إليه، وهل بعد سبيل الحق إلا الضلال!؟ فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنما أَخاف عليكم اثنتين‏, اتّباع الهوى وطول الأَمل أَما اتّباع الهوى فإنه يصدّ عن الحق وأَما طول الأَمل فينسي الآخرة"3. لذا كان أمر الله وحكمه واضحاً وصريحاً بضرورة تجنّب هوى النفس وطاعتها، لأنها لن تورث الإنسان إلا العذاب والضّلال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ4.


والمؤمن الصادق يكفيه أن يعرف الأضرار والمساوئ الناجمة عن اتّباع الهوى وحب النفس، وما وعد الله به الذين يخافونه في الغيب من الجنان، حتى يقلع عنه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى5.

 

2- آثار اتّباع هوى النفس:

أ- عدم الإيمان بالآخرة: اتّباع الهوى يمكن أن يحول بين الإنسان والإيمان الصحيح بالآخرة: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى6.

 

ب- أسوأ الضلال: اتّباع الهوى أسوأ الضلال، فهو يخرج الإنسان عن طريق الله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ7.

 

ج- إنتفاء العدالة: اتّباع الهوى مانعٌ من العدل والإنصاف: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ8.

 

د- فساد الكون: إن نظام السماء والأرض خاضعٌ لإرادةٍ حكيمة وعادلة، فلو دار حول محور

 


2- الأنعام، 119.

3- الكافي، ج 2، ص 355.

4- ص، 26.

5- النازعات، 40 - 41 .

6- طه، 15 ـ 16.

7- القصص، 50.

8- النساء، 135.

103


84

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 أهواء الناس وشهواتهم لعمّ الفساد كلّ ساحة الوجود: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ9.

 

هـ- مصدر الغفلة: اتّباع الهوى يحجب عن سبيل الحق ويورث الغفلة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا10.

 

و- فساد العقل: اتّباع الهوى يفسد العقل ويضعفه ويمنعه من التمييز بين الحق والباطل: فعن الإمام علي عليه السلام قال: "طاعة الهوى تفسد العقل"11، وفي حديثٍ آخر عنه قال: "الهوى عدوّ العقل"12.

 

ز- التلوّث بالكبائر: إن الإفراط في طلب اللذة وعبادة الهوى يسوق الإنسان باتّجاه منزلقات الإثم وارتكاب الذنوب، كما حدث مع بني إسرائيل: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ13.

 

ح- أسّ المحن: اتّباع الهوى سببٌ أساسي للمحن والبلاءات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "الهوى أسّ المحن"14.

 

3- علاج اتّباع الهوى:

إذا عرفنا أن اتّباع الهوى يكون باتّباع أوامر النفس دون الله والانصياع التام لتلبية رغباتها، فإن العلاج الأساس يكون بمخالفة هذه الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة في كافة شؤون حياتنا لأنه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾15، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النفس. فمن يشعر بوجود الله دائماً في حياته ويره حاضراً وناظراً إلى سلوكياته وأفعاله، ويرَ محكمة العدل الإلهية يوم


9- المؤمنون، 71.

10- الكهف، 28.
11- غرر الحكم، ص 64.

12- م.ن.

13- المائدة، 70.

14- غرر الحكم، ص 306.

15- المائدة، 44.

104


85

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 القيامة بعين البصيرة لا يمكن أن يتجرّأ على كسر طوق الحدود الإلهية ويتجاوز التشريعات الدينية ويتلوث بمفاسد الشهوات والرذائل. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "خالف نفسك تستقم وخالط العلماء تعلم"16. فمخالفة النفس وإشغالها دائماً بالطاعات والواجبات الشرعية بحيث لا يعود لها منفذٌ للجري وراء تلبية الأهواء والشهوات هي السبيل الوحيد للتكامل والرقيّ الإنساني. كما أن معاشرة الصالحين وترك صحبة رفاق السوء لها الأثر الأكبر في توجيه الإنسان نحو معالي الأخلاق وعدم التلوّث في مستنقع الرذائل.

 

الحسد

1- حقيقة الحسد:

الحسد حالة نفسانية يتمنى معها صاحبها سلب النعمة التي يتصوّرها عند الآخرين، سواء نالها أم لا. وهي من أبشع الرذائل وأبغض الصفات. وهو يختلف عن الغبطة لأن الغبطة هي تمنّي النعمة التي لدى الغير ولكن دون تمنّي زوالها عنهم. والحسد آفة الدين كما جاء عن الإمام علي عليه السلام: "آفة الدّين الحسد وحسب الحاسد ما يلقى"17، ورأس العيوب والرذائل لأنه تتولّد منه أمراضٌ ومفاسد أخرى كالعجب وفساد الأعمال وغيرها، لذا قال أميرالمؤمنين عليه السلام: "رأس الرذائل الحسد"18. والأخطر من كل ذلك أن الحسد لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع الحسد والإيمان في قلب امرئ"19.

 

2- دوافع الحسد:

للحسد أسبابٌ كثيرة أهمها قلّة الإيمان وضعفه في النفس. فالحسود ساخطٌ على الله، غير مؤمنٍ بعدله وحكمته ورحمته وحسن تقديره. مع العلم أن تقسيم النّعم والأرزاق إنما جاء على خير تقديرٍ وأجمل نظامٍ وهو يتطابق تماماً مع المصالح التامة والنظام الكلي. والحاسد في حقيقة نفسه رافضٌ لهذا النظام الأصلح، ولا يرى أن الله عادلٌ قي تقسيمه للنعم والمواهب وحكيم في تقديراته، وهو في قرارة نفسه لا يؤمن بأن من يتمتع بالقابلية واللياقة ويطلب من

 


16- غرر الحكم، 237.

17- مستدرك‏ الوسائل، ج 12، ص17.

18- م.ن، ص23.

19- م.ن، ص18.

105


86

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 الله أن يرزقه فإن الله سيرزقه حتماً لأنه الجواد المطلق. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام: يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمتي الذي قسمت بين عبادي ومن يك كذلك فلست منه وليس مني"20.

 

وهناك عوامل أخرى منها:

أ- رؤية ذلّ النفس: عندما يعجز الإنسان عن الوصول إلى المراتب السامية، سوف يشعر في نفسه بعقدة الحقارة والدونيّة فيتمنى زوال النعمة عن غيره ليكون معهم سواء.

ب- العداوة والحقد: عندما يبغض الإنسان شخصاً آخر، ويسعى للانتقام منه، فإنه يتمنى أن تحيط به البلايا وتزول عنه النّعم.

ج- الكبر والغرور: عندما يرى المتكبر أن غيره يتمتّع بنعمٍ أكثر منه، فإنه يتمنّى زوالها بل ويسعى في إزالتها لكي يحرز تفوّقه وتقدمه عليه.

د- حب الرئاسة: لكي يبسط الإنسان سيطرته على الآخرين، يجب أن تكون إمكاناته وثرواته أكثر، لذا يتمنى زوال النعم عن غيره ليتمكن هو من السيطرة.

هـ- الخوف من عدم الحصول على المقاصد الدنيوية: لأن الحسود يتصور أن النّعم الإلهية محدودة فلو حصل الآخرون عليها فهذا يعني حرمانه هو منها، أو حصوله على القليل منها في أحسن الأحوال، لذا يتمنى زوال النعم عن الآخرين كي لا ينافسه أحدٌ فيها.

 

3- عواقب الحسد:

يترتّب على الحسد نتائجُ سلبية كثيرة أهمها:

أولاً: يشعر الحسود بالهمّ والغمّ دائماً، وهو يعيش حالةً شديدة من الانقباض والحزن والكآبة، فهو يشعر دائماً بالضيق والاختناق، ويتألم لمجرّد سماعه بنعمةٍ تصيب غيره، وهذا ما يسلبه هدوءه واستقراره. لذا نراه يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الخصومة والعداوة والتعرّض لهم وذكر عيوبهم من أجل الانتقاص من سمعتهم ومكانتهم. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحسود كثير الحسرات متضاعف السيئات"21.


20- الكافي، ج2، ص 307.

21- مستدرك ‏الوسائل، ج 12، ص22.

106


87

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 ثانياً: الحسد يأكل دعائم الإيمان ويوهن علاقة الإنسان مع ربّه، بحيث يدفع الإنسان إلى أن يسيء الظن بالله تعالى وحكمته، لأن الحسود في أعماق قلبه معترضٌ على الله تعالى. عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب اليابس"22.

 

ثالثاً: الحسد يحجب العقل عن إدراك حقائق الأمور، فالحسود لا يستطيع أن يرى نقاط القوة عند المحسود حتى ولو كان قائداً عظيماً ومصلحاً اجتماعياً كبيراً. بل يبحث دائماً عن نقاط ضعفه وعيوبه.

 

رابعاً: يسلب الحسد الإنسان أصدقاءه ورفاقه، ويؤدي إلى تمزق روابط الألفة والمحبة بين الناس، كما جاء عن الإمام علي عليه السلام: "الحسود لا خلّة له"23. فمن العوامل الأساسية التي تؤدي إلى هزيمة المسلمين وانتصار الكافرين عليهم، هو تشتّت كلمتهم وتخاصمهم فيما بينهم.

 

خامساً: يؤدي الحسد إلى تلوّث صاحبه بأنواع الذنوب الأخرى، من قبيل الظلم، والعدوان، والغيبة، والتهمة، والكذب، والبهتان وغيرها من أجل الوصول إلى مقصده. فهو رأس العيوب كما قال الإمام علي عليه السلام: "الحسد رأس العيوب"24.

 

4- علاج الحسد:

لعلاج الحسد طريقان، طريقٌ علمي وآخر عملي.

أ- الطريق العلمي: بأن يتأمّل الإنسان جيداً في أمرين:

الأول: في النتائج السلبية والعواقب الضارّة للحسد على المستوى الروحي والبدني. إذ من المهم أن يعلم الحسود أن هذا المرض الأخلاقي سوف يؤدّي إلى هلاكه في الدنيا والآخرة كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة"25. وسيحول دون إشراق نور الإيمان في قلبه، ويسلب منه الراحة والنوم وسيحوّل حياته إلى حزنٍ وغم دائمين.


22- مستدرك الوسائل، ص17.

23- م.ن، ج 12، ص21.

24- م.ن، ص21.

25- م.ن، ص23.

107


88

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 الثاني: أن يتأمّل في جذور ودوافع حصول هذه الحالة في النفس. فإذا كان السبب ضعف الإيمان وعدم المعرفة الصحيحة بالله، فعليه أن يعمّق أسس المعرفة والتوحيد والإيمان بالله في قلبه. أما إذا كان السبب الشعور بعقدة الحقارة والدونيّة فعليه أن يعالجها في ظل الثقة بالله وحسن الظن به، ومن خلال الإدراك بأن الكمال الحقيقي هو في التحلّي بمكارم الأخلاق والقرب من الله وهو ميسّر لكل إنسان.

 

ب- الطريق العملي: وهو أن يتكلّف الحاسد بدايةً في إظهار المحبة للمحسود. فإذا كانت نفسه تدعوه لإيذائه واعتباره عدواً وتدفعه إلى هتك حرمته وكشف عيوبه للآخرين، فعليه أن يعمل خلاف ما تريده نفسه، فيثني عليه مثلاً ويذكر صفاته الإيجابية ويحسن إليه ويدعو له بالخير ويقدّمه أمامه. ومع تكرار مثل هذه الأعمال تزول آثار الحسد من النفس شيئاً فشيئاً، ويعيش الإنسان حالةً من الرضا والصفاء والسلام الروحي مع نفسه ومع الآخرين.

108


89

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

المفاهيم الرئيسة

1- هوى النفس هو حب النفس وميل الإنسان لاتّباع الأوامر الصادرة عنها، وهو ما يعدّ شركاً بالله لأن المُطاع هو النفس وليس الحق عز وجل.

 

2- علاج الهوى يكون بمخالفة الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة في كافة شؤون حياتنا.

 

3- الحسد آفة الدين ورأس العيوب والمفاسد، لأن صاحبها يتمنى زوال الخير عن الآخرين، وله دوافع عديدة أهمها ضعف الإيمان في النفس.

 

4- علاج الحسد بالتعرف إلى آثاره المهلكة أولاً، وبِتَكُّلف إظهار المحبة والخير للمحسود ثانياً.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما معنى اتّباع الهوى؟ ولماذا يعدّ اتّباع الهوى شركاً؟

2- اذكر أربعة آثارٍ سلبية لاتّباع الهوى وتحدث عن واحد منها بالتفصيل.

3- كيف يتخلّص الإنسان من أهواء النفس؟

4- ما هو الفرق بين الحسد والغبطة؟

5- لماذا لا يمكن أن يجتمع الإيمان والحسد في القلب؟

 

6- لعلاج الحسد طريقان علمي وعملي، تحدث عنهما بإيجاز.

109


90

الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)

 للمطالعة

جذور المفاسد الأخلاقية26

سبق القول بأن الإيمان، الذي هو حظ القلب، غير العلم الذي هو حظ العقل. ثم إن جميع المفاسد الأخلاقية والعملية تنشأ عن كون القلب غافلاً عن الإيمان، وأن ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقلي أو عن طريق أخبار الأنبياء لم يوصله إلى القلب، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه شيئاً. إن من بين المعارف التي يصدّقها الحكماء والمتكلّمون وعامّة الناس من أهل الشرائع، ولا يشكّون فيها أبداً، هو أن ما جرى به قلم الحكيم المطلق جلّت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النعمة وتقسيم الآجال والأرزاق، جاء على خير تقديرٍ وأجمل نظام، وهو يتطابق كل التطابق مع المصالح التامة والنظام الكلّي لأتمّ نظامٍ متصور. ولكن يعبّر كل واحد ـ من الحكماء والمتكلمين ـ بلسانه الخاص واصطلاحه الذي يختصّ بفنه الذي اتخذه وسيلةً لتبيان هذه النعمة الإلهية والحكمة الكاملة...

 

وليعلم من يحسد الناس ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النّعم، أنه لا إيمان له بأن اللّه عزّ وجل من باب معرفة الصالح أسبغ نعمه على أولئك، وأن إدراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضاً أنه لا يؤمن بعدل الله تعالى ولا يرى التقسيم عادلاً. إنك في أصول العقائد تقول إن الله عادل، وما هذا إلاّ مجرد لفظة على لسانك. إن الإيمان بالعدل يناقض الحسد. إنك إذا كنت ترى الله عادلاً، لرأيت تقسيمه عادلاً أيضاً. وقد جاء في الحديث الشريف: "يقول الله عزّ وجل: إن الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط على نعمي".

 

إن القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور. إن من الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حب العدل والرضى به، وكراهة الظلم وعدم الانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أن في المقدمات نقصاً. فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنه لا يرى ذلك عدلاً، بل يراه ـ والعياذ باللّه ـ جوراً. وليس معناه أنه يرى القسمة عادلةً ثم يعرض عنها، أو أنه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الأتم والمصلحة التامة، ثم يسخط عليها بل يرى أن هذا جورٌ ومغاير للعدل. أسفاً علينا! إن إيماننا ناقص، ولم تخرج أدلّتنا العقلية من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسماع والمطالعة والمباحثة والنقاش فحسب وإنما يتطلب أيضاً خلوص النية. إن الباحث عن الله يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾27، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ28.

الإمام الخميني قدس سره

 


26- الأربعون حديثاً، ص 138.

27- الاسراء، 72.

28- النور، 40.

110


91

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 الدرس العاشر:

 

الرذائل الأخلاقية (2) (التكبر - الجبن)

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يفسّر كيف أن الكِبر والجبن مانعان حقيقيان للجهاد في سبيل الله.

2- يذكر أهم أسباب ودوافع كل من التكبّر والجبن.

3- يبيّن كيفية معالجة كل من الكبر والجبن.

112


92

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 الكبر

1- حقيقة الكبر:

الكبر حالة في النفس تدعو إلى التعاظم على الغير والتعالي عليهم، لما يراه الإنسان في نفسه من التفوّق والتقدّم على الآخرين. وهو غير العجب، لأن العجب هو الإعجاب بالذات، أما التكبّر فهو التعالي على الناس والترفّع عليهم. وهو من أخطر الأمراض الخلقية، وأشدّها فتكاً بالإنسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به ونفرتهم منه. وهي من الصفات التي يبغضها الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ1، لأنها صفة وخُلق أهل جهنم: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ2. وقد ذمّ الحق تعالى التكبر كثيراً حيث خاطب المتكبر قائلاً: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ3.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كبر ساعة واحدة"4.

 

2- علامات الإنسان المتكبّر:

غالباً ما تكون الأمراض الأخلاقية مصحوبةً بآثارٍ وعلائم تظهر على ملامح الوجه وفي الأقوال والأفعال. فمن علامات الإنسان المتكبّر أنه يتخايل في مشيته، وتراه مقطّب الجبين، عبوس الوجه، يشيح بوجهه عمّن يحدّثه ويشمئزّ من كل ما يدور من حوله، ويتحدّث كثيراً عن نفسه بعبارات فيها مبالغة، ويقطع كلام الآخرين باستمرار ولا يصغي إليهم معتبراً كلامهم

 


1- النحل، 23.

2- الزمر، 60.

3- لقمان، 18.

4- نهج البلاغة، خطبة287.

114


93

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 تافهاً وعديم الجدوى، وفي المقابل يتوقّع منهم الإصغاء لكلامه والثناء عليه. ولا يبادر إلى السلام، ويسعى ليجلس في الصفوف الأمامية في المجالس والمحافل، ويتجنّب معاشرة الفقراء والمحتاجين، ولا يساعد في قضاء حوائج الغير بل يتوقع من الجميع أن يقدّموا الخدمة له، ويهتم بارتداء أفخر الثياب واقتناء أفخم الحاجيات من الأثاث والمركوب.

 

3- دوافع الكبر:

للكِبر أسبابٌ ودوافع كثيرة تعود كلها إلى أن الإنسان يتصوّر لنفسه كمالاً معيناً، وبسبب حبه لذاته، ومغالاته في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الزهو بها، فإنه يرى نفسه الأكمل والأفضل والأعظم والآخرين أدنى منه، فيترفّع عنهم ويحتقرهم. وقد يكون هذا الكمال المتوهّم نابعاً من الأمور الدنيوية من قبيل: الحسب والنسب الشريف، كثرة الأولاد والأنصار، الجمال، المال، القوة الجسدية، النفوذ السياسي أو الاجتماعي وغيرها.. أو من الأمور الدينية حتى، كأن يتصوّر نفسه عالماً أو عابداً، ويرى في المقابل الآخرين جاهلين لا يعلمون شيئاً عن حقائق هذا الدين، فيعتزّ بعلمه أو عبادته ويستعظم نفسه، ويحتقر غيره ويتعالى عليهم. كما ويمكن إضافة أسباب ومناشئ أخرى منها:

 

أ- الجهل وضعف العقل: إن جهل الإنسان بحقيقة ضعفه وعجزه، وغفلته عن حقيقة أن كلّ نعمة أو كمالٍ إنما هي بالأصل من الله تعالى، من شأنه أن يورث الكبر في القلب. فما يتوهّمه في نفسه من كمال إنما هو من الله وليس من نفسه، وهو لا يكاد يساوي شيئاً أمام الكمالات المبسوطة في عالم الوجود. ولو رخّص الكبر لأحدٍ لكان الأنبياء أحقّ به من غيرهم، كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: "لو رَخَّص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلقِ لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع"5.

 

ب- رؤية ذلّة النفس: فعندما يرى المتكبّر الذلّ والنقص في نفسه فسيدفعه حاله هذا إلى الاستعلاء على الآخرين ظناً منه أنه بذلك تعلو درجته، ويحصل على ما ينقصه من كمال، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما من رجلٍ تكبر أو تجبر إلا لذلّة وجدها في نفسه"6.


5- مستدرك الوسائل، ج12، ص29.

6- الكافي، ج2،ص 312.

115


94

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 ج- العجب: تؤدي رذيلة العجب إلى نشوء رذيلة الكبر المهلكة في النفس. فعندما يتوهّم الإنسان أنه يتمتّع بصفةٍ من صفات الكمال تنتابه حالةٌ من السرور فيُصاب بداء العجب. وإذا أعجب الإنسان بأعماله استصغر أعمال الآخرين، بل احتقرها واعتبرها بلا قيمة، وعندها يجد نفسه أفضل من غيره وأعظم، فيقع في شراك التكبر.

 

د- الحسد: قد يتكبّر الإنسان الفاقد للكمال على من هو واجدٌ له، كأن يتكبّر الفقير على الغني، والجاهل على العالم. لأن الذي يفتقر إلى كمالٍ ما يراه موجوداً عند غيره، يمكن أن يدفعه حسده إلى التكبّر عليه، بهدف إذلاله وإهانته.

 

4- مفاسد الكبر:

من الواضح أن التكبّر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة والشائعة والتي لها آثارٌ مدمّرة على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره وعلى مصيره أيضاً، ومن مساوئ هذه السجيّة:

أ- الكفر: قد يؤدي التكبّر بصاحبه إلى الكفر بالله واليوم الآخر: ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ7.

 

ب- الحرمان من الجنة: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"8.

 

ج- المذلّة يوم القيامة: فمن وصايا الإمام الصادق لأصحابه: "إياكم والعظمة والكبر، فإن الكبر رداء الله عزَّ وجلَّ، فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة"9.

 

د- دخول النار: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إن في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له (سقر)، شكى إلى الله عز وجل شدة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم"10.

 

هـ- الحرمان من العلم والمعرفة: فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "يا هشام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا


7- النحل، 22.

8- وسائل الشيعة، ج17، ص7.

9- م.ن، ج15، ص376.

10- الكافي، ج2،ص310.

116


95

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 تعمر في قلب المتكبر الجبار لأَن الله تعالى جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبر من آلة الجهل"11.

 

و- إرتكاب المعاصي: قال الإمام الكاظم عليه السلام: "إن الفرح والمرح والخيلاء كل ذلك في الشرك، والعمل في الأرض بالمعصية"12. وعن الإمام علي عليه السلام: "التكبر يظهر الرذيلة"13.

 

المقت لصاحبه ونزول النقم عليه: فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إياك والكبر فإنه داعية المقت، ومن بابه تدخل النقم على صاحبه، وما أقل مُقامَهُ عنده وأَسرع زواله عنه"14.

               

5- علاج الكبر:

إذا أراد المرء أن يعالج نفسه من داء الكبر فعليه اليقظة من الغفلة، ومن ثم تطهير القلب بنار الندامة، وهي بمثابة الخطوة الأولى لاستئصال هذه الرذيلة من جذورها، وأما الدواء والعلاج فهو على قسمين:

أ- العلاج العلمي: وهو بأن يتفكّر الإنسان المتكبّر بحال نفسه، وبمفاسد الكبر وآثاره السلبية. فمن المفيد للتخلّص من آفة الكبر أن يتفكّر الإنسان أولاً في حقيقة نفسه وفقره. كيف خُلق من نطفةٍ مهينة يستقذرها الناس، ومن ثم أصبح طفلاً ضعيفاً لا يقوى على شيء، وحتى عندما أصبح بالغاً وقوياً فإن قواه ليست تحت تصرفه، فلا يمكنه المحافظة على شبابه وجماله وصحته، أو دفع المرض أو البلايا عنه. وتستمرّ مسيرته إلى أن يبلغ سن الشيخوخة فيكون ضعيفاً عاجزاً لا يستطيع السير خطواتٍ معدودة بمفرده. إلى أن توافيه المنيّة فيصبح جيفةً نتنة رائحتها تزكم الأنوف وثرواته يتناقلها الورثة. عن الإمام الباقر عليه السلام: "عجباً للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به"15. وإذا ما انتقل إلى العالم الآخر ولم يتخلص من رذيلة الكبر واستحكمت به آثارها المهلكة، فإنه سيلاقي


11- مستدرك الوسائل، ج11، ص299.

12- بحار الأنوار، ج70،ص 232.

13- غرر الحكم، 310.

14- مستدرك الوسائل، ج12،ص30 .

15- بحار الأنوار، ج70،ص229.

117


96

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 من أنواع العذاب ما لا يمكن وصفه.

 

ب- العلاج العملي: بعد أن يرى الإنسان خطورة بقاء هذه الرذيلة الأخلاقية على إيمانه ومصيره في الآخرة، لا بد له من السعي بجدّ للتخلّص منها. وأفضل سبيلٍ هو أن يعمل بما يضادّها. أي كلّما دعته نفسه ليتكبر على الآخرين، يقمعها ويخالف أوامرها بأن يتواضع لهم، فعن الإمام علي عليه السلام: "ضادوا الكبر بالتواضع"16. فإذا رأى أن سبب تكبّره ارتداء الملابس الفاخرة أو اقتناء الحاجيات الفخمة، فعليه أن يبادر إلى ارتداء الملابس البسيطة، وإن لاحظ في نفسه نفوراً من مجالسة الفقراء، فيصرّ على مجالستهم ومساعدتهم. وإن كان يحب أن يتقدم القوم، فليعمد إلى تقديمهم على نفسه، وإن كان لا يصغي إلى كلام الآخرين، أو لا يقضي حوائجه بنفسه دون الاعتماد على الآخرين، فعليه العمل بخلاف ذلك. وإذا حدّثته نفسه بالتعالي على غيره والسعي لإذلالهم أو الاعتداء على حقوقهم، فليتذكر ما أعدّه الله من عذابٍ للمتكبّرين الظالمين: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ17.

 

الجبن

1- حقيقة الجبن:

من الرذائل الأخلاقية صفة الجبن وهو الخوف غير المنطقي والتي تقابل الشجاعة والجرأة، ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"18. وهي صفة تورث الإنسان المذلة والمهانة وسوء العيش، وتحطّ من منزلة صاحبها، وتؤدي إلى هدر طاقاته، وتفضي إلى أن يتسلط عدوّه عليه. والمجتمع الذي يتّصف أفراده بالجبن يكون مجتمعاً خنوعاً ذليلاً خاضعاً لسياسة الظالمين غير قادرٍ على مواجهة التحديات الكبرى وتقديم الحلول الناجعة، ولا يُرجى له الرقي والتكامل في كافة مجالات الحياة، ويكون بعيداً عن تحقيق الأهداف الإلهية الكبرى من قبيل بسط الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. والمراد بالجبن هنا هو الخوف غير المنطقي من المواقف أو المظاهر


16- الكافي، ج2، ص329.

17- الزمر، 72.

18- بحار الانوار، ج72،ص301.

118


97

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 التي لا تستبطن خطراً حقيقياً، بل يتصورها الإنسان الجبان ويتوهم أنها أمور خطيرة، مع أنها ليست كذلك. وهذا بخلاف الخوف من الأمور التي تتضمن خطراً واقعياً على حياة الإنسان أو أنها يمكن أن تسبب الضرر والأذى له، فإن الاندفاع نحو هذا النوع من المخاطر دون تفكيرٍ ورويّة يوقع الإنسان في مفسدة أخرى لا تقل خطراً عن الجبن وهي التهور، وهو القائل في كتابه العزيز: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ19.

 

2- دوافع الجبن:

أ- ضعف الإيمان وسوء الظن بالله: لأن الشخص الذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكل على الله والتصديق بوعده، لن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولن يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة، ولن يتزلزل أمام التحديات، ولن يهاب أحداً من الأعداء لأنه يرى أن قدراتهم محدودة ولا تعادل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله"20.

 

ب- ضعف النفس: من أهم خصائص الإنسان الجبان ضعف نفسه وعجزها عن مواجهة الصعاب والتحديات المختلفة، لذا نراه يلجأ دائماً إلى التذرع بالأعذار الواهية هرباً من المسؤوليات أو الواجبات المطلوبة منه. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين"21.

 

ج- الجهل وقلة المعرفة: حيث غالباً ما يسبب للإنسان الخوف الموهوم، كما يلاحظ في حالة خوف الإنسان من الموارد التي لا يعرفها جيداً. أما عندما تتضح له الصورة جيداً فإن حالة الخوف ستذهب من نفسه تدريجياً.

 

د- طلب الراحة والعافية: وهو من أحد الأسباب التي تكون منشأ للخوف غير المبرر، لأن خوض أي معتركٍ يتطلب من الإنسان أن يُقحم نفسه في دوامة من المشاكل والصعاب، ما يعني أن يتخلى عن حظوظه من الراحة.


19- البقرة، 195.

20- نهج البلاغة، خطبة 53.

21- غرر الحكم، ص 263.

119


98

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 هـ- الآثار الناجمة عن خوض تجاربٍ مؤلمة: فالحوادث المرّة غالباً ما تترك في نفس الإنسان حالةً من الخوف والرعب لأنها تترسخ في ذهنه وتحول دون إقدامه على خوض تجارب جديدة.

 

و- الإفراط في توخي الحذر: إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً لأنه يدفع بالإنسان إلى توقّي كل ما يحتمل فيه الخطر، فيعيش التردد والخوف من الإقدام دائماً.

 

3- علاج الجبن:

إنّ إحدى الطرق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية كما في سائر الرذائل الأخرى هي التفكر في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على صعيد الفرد والمجتمع. فعندما يتعرف الإنسان إلى الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من مذلّة وحقارة وتخلّف وحرمان، فإنه سيتحرك حتماً لإزالة هذه الرذيلة من نفسه. أما الطريق العملي لعلاج هذه الآفة فهو بالسعي إلى قطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس. فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظن بالله من سماء القلب، وتشرق شمس الإيمان والتوكل على الله في فضاء الروح الإنسانية، فإن ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة من النفس. ومن الطرق الأخرى المفيدة في العلاج أيضاً، هي أن يورّط الإنسان نفسه في الميادين المثيرة للخوف والوحشة، ويعمل على إقحام نفسه فيها مرات عديدة، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس حتماً. ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شِدَّة توَقّيه أعظم مما تخاف منه"22.


22- بحار الأنوار، ج 68، ص362

120


99

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 المفاهيم الرئيسة

1- التكبر هو الاستعلاء على الناس، لما يراه الإنسان في نفسه من التفوق والتقدم عليهم. ودوافعه الجهل وضعف العقل، والعجب بالنفس، وحسد الآخرين.

2- علاج الكبر أولاً بالتفكر في مساوئه، وبحمل النفس وإكراهها على التواضع للآخرين.

3- الجبن من الصفات التي تقابل الشجاعة وهي صفة تورث صاحبها المذلّة والمهانة وتسلط عدوه عليه.

4- علاج الجبن بقطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس، وبإقحامها في المواقف الخطيرة والموحشة حتى تتعوّد.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- لماذا لا يكون المؤمن جباناً؟

2- هل مطلق الخوف يعدّ جبناً؟ ولماذا؟

3- ما هو علاج الجبن؟

4- ما هي أسباب التكبر ودوافعه الأساسية؟

5- ما هو الحل العملي لمشكلة التكبر؟

121


100

الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)

 للمطالعة

موعظة23

لا بُدَّ من المجاهدة الخالصة الصادقة وبها يمكن إصلاح النفس. إن جميع الصفات النفسانية قابلة للإصلاح، إلاّ أن الأمر في البداية يتطلب بعض العناء، ولكن ما أن يضع قدمه على طريق الإصلاح حتى يسهل عليه الأمر. إنما المهم هو أن يشرع في التفكير في تطهير نفسه وإصلاحها، والاستيقاظ من النوم.

 

إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية هي "اليقظة" وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة من سكر الطبيعة، والإدراك أن الإنسان مسافرٌ، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زادٍ وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي هذه الطريق الضيقة، على الصراط الذي هو أحدُّ من السيف وأدقّ من الشعرة، هي همّة الرجال وعزمهم. والنور الذي ينير ظلام هذا الطريق، هو نور الإيمان والخصال الحميدة. فإذا تقاعس الإنسان ووهنت همّته أخفق في العبور، وانكبّ على وجهه في النار، وساوى تراب الذل، وانقلب في هاوية الهلاك. فمن لم يستطع اجتياز هذا الصراط لا يستطيع اجتياز صراط يوم القيامة أيضاً. فيا أيها العزيز، اشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجهل، وانج بنفسك من هذه الورطة المهلكة! كان إمام المتقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: "تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ"! وما زادٌ ينفعك سوى الكمالات النفسانية، وتقوى القلب، والأعمال الصالحة، وصفاء الباطن، وخلوص النية من كل عيب وغش.

 

الإمام الخميني قدس سره

 

 


23- الأربعون حديثاً، ص 124.

122


101

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 الدرس الحادي عشر:

 

الرذائل الأخلاقية (3) (الغيبة - النميمة)

 

1- يبيّن حقيقة كلّ من الغيبة والنميمة والفرق بينهما.

2- يذكر دوافع الغيبة والنميمة وأهم آثارهما السلبية على صعيد الفرد والمجتمع.

3- يبيّن العلاج المناسب للغيبة والنميمة.

124


102

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 الغيبة

1- حقيقة الغيبة:

الغيبة هي ذكر المؤمن بما يكره، سواء كان ذلك في خَلقه أم خُلُقه أم إحدى مختصاته. وليست الغيبة محصورة باللسان، بل يمكن أن تشمل كل ما يشعر بانتقاص الغير، قولاً أو عملاً، كتابةً أو تصريحاً. وقد عرّفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره"1. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستر الله عليه وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا"2. وهي من أخسّ الأفعال وأخطر الآثام، وكفاها ذمّاً أن الله تعالى ذمّها في كتابه الكريم وشبّه صاحبها بآكل لحم الميتة حيث قال: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ3، وأنّه ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع وبين الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾"4.

 

لذا من الحريّ بالمؤمن العاقل أن يترفّع عن هذه السجيّة وعن مجاراة المغتابين وصحبتهم، والاستماع إليهم، لأن المستمع للغيبة صنوّ المستغيب وشريكه في الإثم أيضاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "السامع للغيبة أحد المغتابين"5. ولا يخرج المستمع للغيبة عن إثمها إلا أن ينكر على مرتكبها بلسانه، أو يقطع كلامه بكلامٍ آخر، أو يقوم من مجلسه، وإن لم يقدر على كل ذلك فعليه بالحد الأدنى أن ينكر ذلك بقلبه.

 


1- بحار الأنوار، ج72، ص222.

2- الكافي، ج2، ص357.

3- الحجرات، 12.

4- الكافي، ج2،ص357.

5- مستدرك الوسائل، ج9، ص133.

 

126


103

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 2- دوافع الغيبة:

 

إن للغيبة عواملَ كثيرةً ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لارتكابها. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب، وتبرم، وتزين. فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير ذلك مكان الغيبة عِبرة، ومكان الإثم ثواباً"6. إذاً، فالحسد والأنانية وحب النفس، والغرور والتكبر، والعجب بالنفس، ونصرة العشيرة ومجاملة الأصحاب ومجاراتهم دون وجه حق، والحقد، والتشفي وإطفاء سورة الغضب، وسوء الظن بالآخرين، والسخرية والاستهزاء بهم، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية كلها عوامل تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في هذه الرذيلة المهلكة.

 

3- العواقب السلبية للغيبة:

للغيبة آثارٌ سلبية ونتائج مدمّرة كثيرة على الفرد والمجتمع كونها سبباً أساسياً في نشر سموم البغض والفرقة في صفوف المسلمين فتعكّر صفو المحبة والألفة فيما بينهم، وتفصم عرى الأخوّة والصداقة، وتقطع وشائج القرابة. هذا بالإضافة إلى العواقب المعنوية الوخيمة، والعقوبات الإلهية المترتّبة على هذه المعصية، ويمكن الإشارة إليها باختصار:

أ- الغيبة تأكل الحسنات: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغيبة حرام على كل مسلم، وانها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"7.

 

ب- انتقال حسنات المستغيب إلى المستغاب: فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يُؤتَى بأحدكم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول: إلهي هذا كتابي فإني لا أرى فيه طاعتي، فيقول له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيها طاعات كثيرة، فيقول: إلهِي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول: إن فلاناً اغتابك فدفعت حسناته إليك"8.

 


6- بحار الأنوار، ج72، ص257.

7- كشف الريبة، ص9.

8- مستدرك الوسائل، ج121، ص 9.

127


104

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 ج- خروج المستغيب من ولاية الله ودخوله في ولاية الشيطان: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط عن أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان"9.

 

د- الإصرار على الغيبة يؤدّي إلى دخول النار: روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل النار، ومن مات مصراً عليها فهو أوّل من يدخل النار"10.

 

هـ- الغيبة سببٌ لعذاب القبر: فعن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسير فأتى على قبرين يعذّب صاحبهما، فقال:أما إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبيرة، أما أحدهما فكان يغتاب الناس..."11.

 

و- الغيبة سببٌ لفساد الدين: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"12.

 

ز- الغيبة تؤدي بصاحبها إلى الفضيحة: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً قائلاً: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته"13.

 

ح- لا يغفر للمستغيب حتى يعفو عنه المستغاب: فعن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل يزني‏ ويتوب‏ فيتوب الله عليه‏، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه"14.


9- الكافي، ج2، ص358.

10- مستدرك‏ الوسائل، ج9،ص126.

11- م.ن، ص120.

12- الكافي، ج2،ص356.

13- منية المريد، ص327.

14- مستدرك الوسائل، ج9،ص119.

 

128


105

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 ط- الغيبة سببٌ في عدم قبول العبادات: فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة إلا أن يغفر له صاحبه"15.

 

4- مستثنيات الغيبة:

الغيبة المحرّمة هي ما قصد بها انتقاص المؤمن وإذلاله، أما إن لم يكن القصد ذلك وتوقّف عليها غرضٌ وجيه فلا حرمة فيها. ومن هذه المستثنيات:

أ- شكاية المتظلّم لإحقاق حقه ورفع الظلامة عنه، وهو قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا16.

ب- في موارد النهي عن المنكر، التي يمكن أن يؤدي السكوت عنها إلى الوقوع في مشاكل أكبر من مفسدة الغيبة نفسها.

ج- عند المشورة ونصح المستشير في أمرٍ كالتزويج، أو لتحذير المؤمن من صحبة فاسق أو مضلّ لحفظه من شرّهما، في هذه الحالة يحق للمستشار أن يذكر مثالب الشخص الآخر.

د- في مورد الشهادة عندما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم مثلاً أو ما شابه.

هـ- في الموارد التي يكون فيها الإنسان متجاهراً بالفسق، كشرب الخمر ولعب القمار بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به إذ ليس لفاسقٍ غيبة.

 

5- علاج الغيبة:

إن علاج هذه الآفة الخطيرة يشبه علاج سائر الأمراض الأخلاقية، والذي يمكن أن نختصره بأمرين أساسيين هما العلم النافع والعمل الصالح:

أما العلم: فهو أن يتفكّر الإنسان في الآثار الشّنيعة والعواقب الوخيمة المترتّبة على هذه الرذيلة، من التعرض لسخط الله والخروج من ولايته، وذهاب حسناته، والعذاب الأليم الذي ينتظره وغيرها من الآثار التي ذكرناها مفصلاً. لأن الإنسان العاقل متى ما أدرك عواقب الغيبة فسوف يرتدع عنها حتماً ولن يجرؤ على اقترافها. كما أنه من المهم أيضاً على المبتلى بهذه الآفة أن يبحث في أعماق نفسه عن جذورها وأسبابها ليتمكّن من علاجها. وبما أن دوافع الغيبة متعددة عليه أن يبحث عن أيها هو السبب والدافع: هل هو الحسد، أم الحقد، أم


15- م.ن، ص 122.

16- النساء، 148.

 

129


106

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 الأنانية، أو التكبر مثلاً وأمثال ذلك، لأنه ما دامت الدوافع والأسباب موجودةً فلن يتمكّن من إزالة هذه الرذيلة والتخلّص منها.

 

أما العمل: فمن خلال ترويض النفس وتهذيبها وحملها على صون اللسان والكفّ عن الغيبة، من خلال مخالفة النفس وعدم الانصياع لأهوائها لأن علاج كل علّة بمضادّة سببها. فكلما حملته نفسه على الإتيان بهذه الموبقة خالفها مذكراً نفسه بعواقبها، ومشتغلاً بعيوبه عن عيوب الآخرين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس"17.

 

النميمة

1- حقيقة النميمة:

النميمة هي نقل الأحاديث التي يكره الناس إفشاءها ونقلها من شخصٍ إلى آخر بهدف الإيقاع بين الناس وإيجاد الاختلاف وإثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم. وهي من الذنوب الكبيرة وأقبح الصفات الأخلاقية سواء كان الكشف بالقول أم بالكتابة أم بالرمز والإيماء، وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً على المنقول أم لم يكن. بمعنى آخر هي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره الإنسان كشفه بهدف التفريق بين الناس والأحبة. وقد حذّر الله تعالى في كتابه الكريم من هذا الصنف من الناس الذي يمشي بالنميمة فقال عزّ اسمه: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ *هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ *مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ18. وعدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرار القوم فقال: "ألا أنبئكم بشراركم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبُرآء المعايبِ"19. فالنمّام يتألم لما يراه من خير لدى الآخرين، أو لما يجد من المحبة والألفة والتكاتف بين الناس فيسعى لإفساد ذات البين والتفريق، لإيقاع العداوة والحقد بينهم، مدفوعاً بعقدة الحقارة والذلة.


17- مستدرك الوسائل، ج1،ص116.

18- القلم، 10 - 13.

19- الكافي، ج2، ص 369.

130


107

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 2- الآثار السلبية للنميمة:

 

تجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين وهما: الغيبة والنَمّ. فكل نميمةٍ غيبة وليست كل غيبة نميمة، فمساوئها كالغيبة بل أشد لاشتمالها على إذاعة السر، وهتك المحكي عنه، والوقيعة به. ومن أهم آثارها:

أ- نشر الفساد في المجتمع: لأن النميمة من العوامل المهمة في إيجاد التفرقة وسوء الظن بين أفراد المجتمع وتفضي إلى العدواة وتعميق حالة الحقد والضغينة بين الناس، لذا تعدّ الروايات الشريفة الشخص النمام أشرّ أفراد المجتمع وأسوأهم. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله والناس"20. ويمكن أن يصل الأمر بالنميمة إلى سفك الدماء وهتك الأعراض، فعن الإمامالصادق عليه السلام قال: "إن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابّين، ويجلب العدواة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم الدور، ويكشف المستور، والنمام أشر من وطِئَ على الأرض بقدم"21.

 

ب- الحرمان من الجنة: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "محرمة الجنة على القتّاتين المشّاءين بالنميمة"22. والحرمان من الجنة يعني بطبيعة الحال النار والعذاب الأليم وهذا هو حال النمّام في يوم القيامة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يدينه بها يوم القيامة في النار"23.

 

ج- البغض الإلهي: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أحبّكم إلى الله أحاسِنُكم أخلاقاً الموطَّئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرّقون بين الإخوان الملتمسون للبرآء العثرات"24.


20- غرر الحكم، ص 222.

21- بحار الأنوار، ج60، ص21.

22- الكافي، ج2،ص369.

23- كشف الريبة، ص42.

24- بحار الأنوار، ج68،ص 383.

131


108

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 3- دوافع النميمة:

 

دوافع النميمة عديدة ومتنوعة نذكر بعضها وهي:

أ- الحسد: لأن الشخص الحسود لا يمكنه أن يتحمل سعادة الآخرين وراحتهم والمودة فيما بينهم. لذلك يسعى من خلال النميمة إلى زرع بذور الفرقة والعداوة وسوء الظن بين هؤلاء الناس.

 

ب- حب الدنيا: لأن المحب للدنيا والعاشق لها يرى أن مكانته وكسبه وعمله الاقتصادي والاجتماعي يتوقف على تقوية عناصر الشرّ والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد.

 

ج- النفاق: يعدّ عاملاً آخر من عوامل النميمة، لأن جُلّ عمل المنافق هو إيجاد الفساد والفتنة بأي وسيلة كانت، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "علامة النفاق الحث على النميمة"25.

 

4- علاج النميمة:

أغلب المفاسد الأخلاقية ناشئة من ضعف الإيمان، فكلما سعى الشخص إلى تقوية دعائم الإيمان بالله واليوم الآخر فإن هذه الرذائل سوف تتلاشى وتزول تدريجياً والنميمة واحدة منها. ومن جهة أخرى التأمل في الآثار السلبية الكثيرة للنميمة على صعيد الفرد والمجتمع وما تورثه من دمارٍ وخراب من شأنه أيضاً أن يردع الإنسان ويصدّه عن هذه الرذيلة. كما وأن لعشرة المؤمنين والصالحين الأثر المهم والبالغ لأن الشخص المبتلى بهذا المرض إذا رأى أن من يعاشرهم لا يعتنون بكلامه ولا يهتمّون بأقواله بل وقد يطردونه من مجالسهم فإنه سيتوقف بسرعة عن عمله هذا. ويبقى أن على الإنسان المبتلى أن يجاهد نفسه ويخالفها كلما سعت في هذه المعصية لأنه الطريق الوحيد للتخلص من هذا المرض، ومن دون المجاهدة والمخالفة الدائمة للنفس لن يتمكن من تطهير باطنه أبداً.


25- م.ن، ج69،ص207.

132


109

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 المفاهيم الرئيسة

1- الغيبة هي ذكر المؤمن بما يكره، ولها آثار سلبية ونتائج مدمّرة كثيرة على الفرد والمجتمع.

2- للغيبة دوافع عديدة يكاد كل واحد منها أن يكون سبباً كافياً لارتكابها منها؛ الحسد، والتكبر، والعجب وغيرها...

3- للغيبة عواقب وخيمة عديدة منها؛ أنها تحبط العمل، وتؤدي إلى النار، وسبب فساد الدين.

4- علاج الغيبة بالتفكر بآثارها الشنيعة على النفس والمجتمع، وبمخالفة النفس كلما همّت بالغيبة.

5- النميمة تشبه الغيبة والفرق أن النمّام لديه هدف وهو إيقاع الفرقة والاختلاف بين الناس.

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف الغيبة وبيّن معناها الدقيق.

2- اذكر بعض الآثار السلبية للغيبة على الفرد والمجتمع.

3- للغيبة مستثنيات تحدث عنها بإيجاز.

4- بيّن العلاج العلمي والعملي للغيبة.

5- ما هو الفرق بين الغيبة والنميمة؟

133


110

الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)

 للمطالعة

الهدف الإلهي الكبير26

إن من الأهداف الكبيرة للشرائع الإلهية والأنبياء العظام سلام الله عليهم توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والاتفاق في الأمور الهامة، والحدّ من ظلم الجائرين الباعث على فساد بني الإنسان ودمار المدينة الفاضلة.

 

ولا يتحقق هذا الهدف الكبير المصلح للمجتمع والفرد إلا في ظلّ وحدة النفوس واتّحاد الهمم والتآلف والتآخي، والصداقة القلبية والصفاء الباطني والظاهري، وتربية أفراد المجتمع على نمطٍ يساهم كلهم في بناء شخص واحد، يحوّل المجتمع إلى فرد، ويجعل الأفراد بمنزلة الأعضاء والأجزاء لذلك الفرد وتدار كافة الجهود والمساعي حول الهدف الإلهي الكبير...

ومن المعلوم أن كل ما يبعث على ازدياد هذه الصفات، يكون محبوباً ومرغوباً فيه وكل ما ينقض هذه الأخوة ويفرط عقد التواصل ويدفع نحو التمزّق، يعتبر مبغوضاً عند صاحب الشريعة ومناقضاً لأهدافه الكبيرة.

 

ومن الواضح لدى الجميع أن هذه المعصية الكبيرة الخطيرة - الغيبة - إذا أشيعت في المجتمع، أصبحت سبباً للضغينة والحسد والعداوة والبغض وترسيخ جذور الفساد في المجتمع، وغرس شجرة النفاق فيه، وضعضعة وحدة المجتمع وتضامنه، ووهن أساس الديانة، وفي النهاية تزداد في المجتمع القبائح والفساد.

 

الإمام الخميني قدس سره


26- الأربعون حديثاً، ص342.

134


111

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

  

الدرس الثاني عشر

الفضائل الأخلاقية (1) (الصدق - العدل)



على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يتعرّف إلى صفتي الصدق والعدل وبيان معناهما.

2- يبيّن أهمية الصدق والعدل وأنواعهما.

136


112

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 تمهيد

لا بد لكل إنسانٍ تائقٍ إلى الكمال والسعادة الحقيقية أن يبحث عنهما أولاً في نفسه، فإذا وجدهما ارتاحت نفسه واطمأنت وعاشت السلام الذي تنشده وتبحث عنه على الدوام. وكمال كل نفس وقيمتها ما تختزنه من الفضائل الأخلاقية والصفات الحميدة. فكلما تخلقت هذه النفس بالصفات الحميدة والأخلاق الإلهية كلما صفت وطهرت وتنوّرت، وبالتالي ارتقت في مراتب الكمال الإنساني وتدرّجت في المقامات المعنوية الرفيعة. فصفات النفس هي التي تحدد جوهر ومعدن هذه النفس، وترسم للإنسان صورة مصيره بعد أن يغادر هذا العالم وليس في جعبته سوى صورته الخلقية وما عمله من أعمالٍ في هذه الدنيا. لذا من منطلق الأهمية التي تشكّلها هذه الصفات والأخلاق لا بد للإنسان التائق إلى لقاء ربه من أن يجهد نفسه في التعرف إلى هذه الفضائل ويسعى للتخلق بها. وسنحاول في هذه الفصول أن نسلّط الضوء على بعض هذه الشمائل ونكمل ما سبق وبدأنا به عندما تحدثنا عن صفات وخصال المجاهدين الأساسية، ونذكر منها:

 

الصدق

الصدق هو مطابقة القول للواقع، وهو من أشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع. فهو أساس الإيمان، ورمز استقامة المجتمع وصلاحه، وسبب كل نجاح ونجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلامية وحرّضت عليه، قرآناً وسنة.

 

1- فضيلة الصدق:

أ- في القرآن:

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ

138


113

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 الْمُتَّقُونَ *لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ1.

 

وقال عز اسمه: ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾2.

وقال عزّ وجلّ في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ3.

 

ب- في الروايات:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أَربع من كنَّ فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك. قال: وهو الصدق وأَداء الأمانة والحياء وحسن الخلقِ"4.

وعن عمرو بن أَبي المقدام قال: قال لي الإمام الباقر عليه السلام في أَوَّل دخْلَةٍ دخلت عليه: "تعلَّموا الصدق قبل الحديث"5.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوصيك يا عليّ في نفسك بخصال، اللَّهم أَعنه، الأولى الصِّدق ولا يخرج من فيك كذبة أَبداً" 6.

وعن أَبي جعفر ابن محمّد عليه السلام قال: "أَحسن من الصدقِ قائله وخيرٌ من الخير فاعله"7.

 

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "الصدق يهدي إلى البر والبر يدعو إلى الجنة وما يزال أَحدكم يصدق حتى لا يبقى في قلبه موضع إبرة من كذب حتى يكون عند الله صادقاً"8.

 

جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله ما عمل أَهل الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصِّدق. إذا صدق العبد برَّ وإذا برَّ آمن وإذا آمن دخل الجنة"9.


1- الزمر، 33 - 34.

2- المائدة، 119.

3- التوبة، 119.

4- الكافي، ج2، ص99.

5- وسائل الشيعة، ج12،ص 163.

6- م.ن.

7- م.ن، ج16،ص292.

8- م.ن، ج8،ص455.

9- مستدرك الوسائل، ج8، ص457.

 

139


114

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تحرَّوا الصدق فإن رأَيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة"10.

 

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَيّ الأخلاقِ أَفضل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الجود والصدق"11.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من صدق لسانه زكى عمله"12.

 

2- أهمية الصدق:

إن من ضرورات الحياة الاجتماعية ومقوّماتها الأصلية شيوع التفاهم والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، ليتمكّنوا من النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، لينعموا بحياةٍ هانئة وكريمة، ملؤها المودة والسلام. وهذا لا يتحقق إلا بالتفاهم، والتعاون الوثيق وتبادل الثقة والائتمان بين الأفراد. ومن البديهي أن اللسان هو أحد أهم أدوات التفاهم والتواصل بين البشر، والترجمان العملي لأفكارهم وما يدور في خلدهم، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع والأفراد. وعلى صدق اللسان وكذبه تبنى سعادة المجتمع وشقاؤه، فإن كان اللسان صادق القول، وأميناً في الشهادة والنقل، كان عاملاً مهماً في إرساء السلام في المجتمع، وزيادة أواصر التفاهم والتعاضد بين أفراده، وكان رائد خيرٍ ورسول محبة بين البشر. وأما إن كان متصفاً بالخداع والتزوير، والخيانة والكذب، غدا رائد شر، ومدعاةً للتباغض بين أفراد المجتمع، وسبباً لخرابه وفساده. لذا كان الصدق من ضرورات الحياة الاجتماعية والفردية لما له من انعكاساتٍ مباشرة على كل منها، فهو نظام عقد المجتمع السعيد والمسالم، ودليل استقامة أفراده والمؤكد على صحة وقوة إيمانهم. لذا كان التأكيد والحثّ الشديد في الآيات والروايات عليه، لأنه باختصار العمود الفقري لمجتمعٍ معافى وسليم من الأحقاد والتنازع، وإيمان خالص وصادق بالله.

 

3- أقسام الصدق:

للصدق صورٌ وأقسامٌ أبرزها:

الصدق في الأقوال: وهو الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تحريفٍ أو تزوير.

الصدق في الأفعال: وهو مطابقة القول الفعل، كالبر بالقسم والوفاء بالعهد.

الصدق في العزم: وهو التصميم على أفعال الخير، فإن قام بإنجازها كان صادق العزم.


10- م.ن.

11- م.ن، ص458.

12- الكافي، ج2،ص 104.

 

140


115

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 الصدق في النية: وهو تطهير النية من شوائب الرياء وغيرها من الآفات، والإخلاص لله تعالى في القصد بحيث لا يكون الدافع ولا القصد سوى رضا الله والتقرب إليه.

 

العدل

العدل ضد الظلم، وهو مناعةٌ تردع صاحبها عن الظلم وتحفّزه على أداء الحقوق والواجبات. وهو سيد الفضائل وقوام المجتمع المتحضّر، والارتباط العميق والصحيح بالحق تعالى، وسبيل السعادة والسلام. وقد اهتمّ الإسلام اهتماماً شديداً بهذه الفضيلة وأمر بها في القرآن والسنّة:

1- فضيلة العدل:

أ- في القرآن:

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾13.

وقال عزّ اسمه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ14.

وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾15.

وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى16.

 

ب- في الروايات:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أَمير المؤمنين عليه السلام: "اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان"17.

وعنه عليه السلام أيضاً أنه قال: "إنّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى"18.


13- المائدة، 8.

14- النساء، 58.

15- النحل، 90.

141


116

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 روي أن أبي عبد الله عليه السلام رأَى زاملة قد مالت فقال: "يا غلام اعدل على هذا الحمل فإن الله تعالى يحب العدل"19.


عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة"20.

 

وعن الإمام الصادقِ عليه السلام أَنه سئل عن صفة العدل من الرجل، فقال: "إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآثم وكفه عن المظالم"21.

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنةً قِيامٍ ليلها وَصِيامٍ نهارها"22.

 

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "العدل ميزان الله في الأَرض فمن أَخذه قاده إلى الجنة ومن تركه ساقه إلى النار"23.

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "العدل رأس الإيمان وجماع الإحسان"24. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "شيئان لا يوزن ثوابهما العفو والعدل"25.

 

2- أهمية العدل:

النفوس السليمة فُطرت على حب العدل وبغض الظلم. وقد أجمع البشر على مرّ التاريخ ورغم اختلاف الشرائع والمبادئ على تمجيد العدل وتقديسه والتغني بفضائله ومآثره والتفاني في سبيله. وكيف لا وهو رأس الإيمان، ومن صفات أولي الأمر، وباب البركات ودوام النّعم، وميزان الله في أرضه الذي من تمسّك به قاده إلى جنة الرضوان والنعيم؟ وهو سر حياة المجتمعات، ورمز فضائلها، وقوام مجدها، وضمان أمنها ورقيّها ورخائها. وما دالت الدول الكبرى وتلاشت الحضارات العظمى إلا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ26. وقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت أقوالهم وأفعالهم دروساً خالدة تنير للإنسانية


19- من لا يحضره الفقيه، ج2،ص292.

20- مستدرك الوسائل، ج11،ص317.

21- مستدرك الوسائل، ج11، ص317.

22- م. ن.

23- م. ن.

24- م.ن، ص319.

25- م.ن، ص320.

26- النمل، 52.

142


117

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 مناهج العدل والحق والرشاد. وها هو سيّدهم أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "والله لئن أبيت على حَسَكِ السَّعْدان27 مُسَهَّداً28، أو أُجَرَّ في الأغلال مُصَفَّداً، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البِلَى قُفولُها، ويطول في الثرى حُلولُها؟"29.

 

3- أنواع العدل:

للعدل أشكالٌ وصورٌ متعددة، منها ما هو مرتبطٌ بالله عزّ وجلّ، ومنها ما هو مرتبطٌ بالمجتمع، ومنها ما هو مرتبطٌ بالولاية والحكم.

أ-ـ عدل الإنسان مع الله عز وجل: الذي خلق الإنسان وسوّاه وأفاض عليه من أنواع النعم والكرامات ما يعجز اللسان عن إحصائه ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا30. ومقتضى العدل والإنصاف أن يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الإله المنعم والتي تتلخص بالإيمان به، وتوحيده، والإخلاص له، والتصديق برسله وحججه على خلقه، وعبادته، وطاعته، وترك معصيته.

 

ب- عدل الإنسان مع المجتمع: من خلال رعاية حقوق أفراده وكفّ الأذى عنهم والإساءة إليهم، والتعاطي معهم بكرم الأخلاق، وحسن مداراتهم وحب الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم ونحو ذلك من محقّقات العدل الاجتماعي. وقد لخّص الله تعالى هذا النوع من العدل بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون31.

 

ج- عدل الحكام: بما أن الحكام هم ساسة الرعية وولاة أمر الأمة فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلي به، فبعدلهم يستتّب الأمن، وتشيع المساواة، ويسود الرخاء والسلام، وبجورهم تنتكس كل الفضائل، وتغدو الأمة في قلق وحيرة وضنك وشقاء: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ32.

 


27- السعدان، نبات له حسك، أي له شوك حادّ وقاس.

28- المسهّد، الممنوع من النوم.

29- نهج البلاغة، خطبة 224.

30- إبراهيم، 34.

31- النحل، 90.

32- الزخرف، 65.

143


118

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 المفاهيم الرئيسة

1- الصدق هو مطابقة القول للواقع، وهو أساس الإيمان، ورمز استقامة المجتمع وصلاحه.

2- أهمية الصدق أنه شرط أساسي لشيوع التفاهم والثقة في المجتمع.

3- العدل صفة تردع صاحبها عن الظلم وتحفّزه على أداء الحقوق والواجبات، وهو باب البركات ودوام النعم، وسر حياة المجتمعات، ورمز فضائلها، وضمان أمنها ورقيّها ورخائها.

4- العدل على أشكال وأنواع متعدّدة منها العدل مع الله والعدل مع المجتمع، والعدل في الأحكام وغيرها...

 

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف معنى الصدق.

2- أين تكمن أهمية الصدق بشكل أساسي؟

3- اذكر نوعين من أنواع الصدق.

4- بيّن أهمية العدل وسبب كونه رأس الإيمان.

5- تحدّث عن أقسام العدل الثلاثة بإيجاز.

144


119

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

 للمطالعة

مفاسد الكذب33

من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ملازمة الصدق والابتعاد عن الكذب: "فَالصدقُ ولا يَخْرُجَنّ مِنْ فِيكَ كِذْبَةً أبداً". ويستفاد من تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوصية على الوصايا الأخرى، أن هذه الوصية أهم من كافة الوصايا المذكورة. ونحن نقدّم مفاسد الكذب على مصالح الصدق. واعلم أن هذه الرذيلة من الأمور التي اتفق العقل والنقل على قبحها وفسادها وأنها في نفسها من الفواحش والمعاصي الكبيرة، كما تدلّ على ذلك الأخبار. وقد تترتب عليها مفاسد أخرى لا تقلّ عن هذه الموبقة، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط الاجتماعي على إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف، ولا يستطيع إلى نهاية العمر أن يجبرها. فإذا اشتهر إنسان لا قدّر الله بالكذب، فلعلّه لا يوجد شيءٌ آخر يسيء إلى شخصية الإنسان أكثر من الكذب. ومضافاً إلى ذلك فإن مفاسده الدينية وعقوباته الأخروية كثيرة أيضاً. ونحن نقتصر على ذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع. وحيث إن شناعة الكذب من الأمور الواضحة المعروفة، نبتعد عن الإسهاب في الحديث عنه. رُوي في الوسائل عن محمَّد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل جَعَلَ لِلشَّرِّ أقفالاً وَجَعَل مَفاتيحَ تِلْكَ الأقْفالِ الشَّرابَ، وَالكِذْبُ أشَرُّ مِنَ الشَّرَابِ"34.

 

والآن تدبّر في هذا الحديث الشريف المروي عن عالم آل محمد عليه السلام، والمذكور في كتاب يعدّ مرجعاً لجميع علماء الأمة، ويُتلقى بالقبول لدى كافة العلماء رضوان الله عليهم، وانظر هل يبقى سبيل للاعتذار؟ أليس هذا التهاون في الكذب إلاّ من جراء الضعف في الإيمان تجاه أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام؟ نحن لا نعرف الصور الغيبية لأعمالنا، ولا ندرك الارتباطات الغيبية بين المُلك والملكوت، ولهذا نبتعد عن مثل هذه الأخبار، ونحمل أمثالها على المبالغة.


33- الأربعون حديثاً، ص 501.

34- الكافي، ج2، ص338.

145


120

الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)

  

ولكن هذا المنهج باطلٌ وناتج من الجهل والضعف في الإيمان. فلو فرضنا أننا حملنا هذا الحديث الشريف على المبالغة، أليست المبالغة ذات شروط ووضع خاص؟ هل نستطيع أن نقول عن كل شيء إنه أسوأ من الخمر، أو لا بدّ وأن يكون الشيء ذا شرّ عظيم حتى نتمكن من المبالغة ونقول إنه أعظم من الشر؟ عن أبي جعفر عليه السلام قالَ: "الكِذْبُ هُوَ خَرَابُ الإِيمانِ".

الإمام الخميني قدس سره

 146


121

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 الدرس الثالث عشر:

الفضائل الأخلاقية (2) (القناعة - العفّة - الزهد)

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يبيّن فضيلة كل من القناعة والعفّة والزهد.

2- يذكر أهم الآثار الطيّبة للتحلّي بفضيلة القناعة والعفّة في الحياة.

3- يعدّد أهم علامات الزهد وشروطه الأساسية.

148


122

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 القناعة

هي الاكتفاء من المال والمأكل والملبس بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك. وهي صفة كريمة تعرب عن عزة النفس وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. فالقانع هو الذي لا يطمع في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم، ولا يتعدّى أمله يومه أو شهره، فلا يشغل قلبه بأزيد من ذلك لأن الشوق لتحصيل المزيد وطول الأمل يحرم الإنسان من نعمة الراحة وسكون القلب، ويشغل قلبه عن ذكر الله تعالى.

 

1- فضيلة القناعة:

أ- في القرآن:

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ1.

وقال عز وجل أيضاً: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى2.

 

ب- في الروايات:

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "القانع غنيّ وإن جاع وعري"3.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس‏"4.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام أَنه قال لرجل يعظه: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تتمن ما لست نائله فإنه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظك


1- التوبة، 85.

2- طه، 131 .

3- مستدرك الوسائل، ج15، ص 228.

4- الكافي، ج2، ص139.

150


123

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 من آخرتك"5.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حُرم الحريص خصلتين ولزمته خصلتان حُرم القناعة فافتقد الراحة وحُرم الرضا فافتقد اليقين"6.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "المستريح من الناس القانع"7، وقال عليه السلام: "القانع ناج من آفات المطامع"8.

 

2- أهمية القناعة:

للقناعة أهميةٌ كبرى وأثر بالغ في حياة الإنسان، فهي تحقق الرخاء النفسي والراحة الجسدية، وتحرّر الإنسان من عبودية المادة واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق وهوانهما المذلّ، وتفتح باب العزة والكرامة والإباء والعفة والترفع عن صغائر الأمور. والقانع بالكفاف أسعد حياةً وأرخى بالاً وأكثر دعةً واستقراراً من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه والذي لا ينفكّ عن القلق والمتاعب والهموم. والقناعة تمد صاحبها بصفاء ويقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب للآخرة، والقيام بالأعمال الصالحة. لذا صار القانع أغنى الناس لأن حقيقة الغنى هي غنى النفس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله تعالى وهو لا يحتاج أحداً ولا يسأل سوى الله تعالى. وأهمية القناعة تظهر بشكل جليّ عندما يتحرر الإنسان من قيود المادة، لأن التمسك بالمادة ذلٌّ على عكس القناعة التي تورث الإنسان العزة والكرامة. أما الثروة والمال فلا تعطي صاحبها الأفضلية على الآخرين سوى بالمال وليس بالمحاسن والفضائل المعنوية، لأن المال قابلٌ للزيادة والنقيصة بل والزوال أيضاً بعكس القناعة التي هي كنزٌ كما قال الإمام علي عليه السلام: "لا كنز أغنى من القناعة"9، بل وهي كنزٌ لا يفنى كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "القناعة كنز لا يفنى"10، لأنها كنز معنوي نتيجته تحصيل المقامات المعنوية الرفيعة، كيف لا وهي من أهم الأمور التي تعين الإنسان على صلاح نفسه كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعوَن شيء على صلاح النفس القناعة"11.


5- مستدرك الوسائل، ج15، ص223.

6- وسائل ‏الشيعة، ج16،ص 20.

7- غرر الحكم، ص 393.

8- م. ن.

9- بحار الأنوار، ج66، ص411.

10- مستدرك‏ الوسائل، ج 15، ص 226.

11- غرر الحكم، ص 391.

151


124

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 العفّة

1- معنى العفّة:

العفّة من أهم الفضائل الإنسانية والأخلاقية، ومن أنبل السجايا، وأرفع الخصائص الدالّة على سموّ الإيمان وشرف النفس. ولا يمكن لأي إنسان أن يسير نحو الكمال الإلهي ويسلك مسلك الانفتاح على الله من دون التحلّي بهذه الخصلة الشريفة. ولو تأمّلنا في حياتنا الدنيوية قليلاً لوجدنا أن كرامة الإنسان وعزته وسمعته الطيبة رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقية. والعفّة تعني الامتناع والترفّع عما لا يحلّ من شهوة البطن والنظر والفرج، والتحرر من استرقاقها المذلّ، وجعلها منقادةً للعقل على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنكاح، والاجتناب عمّا ينهاها العقل عنه. وهي تعتبر من الفضائل التي تساهم في ترشيد وتكامل المجتمعات البشرية، بعكس الشهوة التي تقع في مقابل العفّة والتي يوجب اتّباعها سقوط الفرد أخلاقياً وانحطاط المجتمع، والتي تعتبر منشأً ومصدراً للكثير من الجرائم والانحرافات الفردية والاجتماعية، فقد سُفك بسببها الكثير من الدماء وأُتلف الكثير من الأموال والثروات.

 

2- فضيلة العفّة:

أ- في الآيات:

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿  لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ 12 فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ13 يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ14 تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا15 وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ16. ويقول عزّ اسمه أيضاً: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ17.


12- أي شغلتهم الأعمال الهامة التي في سبيل الله كالجهاد، وطلب العلم وغيرهما من العبادات...

13- أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش‏.

14- بسبب تعفّفهم عن السّؤال‏.

15- أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف‏.

16- البقرة، 273.

17- الأعراف، 31.

 

152


125

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 ويقول عزّ وجل أيضاً: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ18.

 

ب- في الروايات:

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أفضل العبادة العفاف"19.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج"20.

 

وعن الإمام علي عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه"21.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر"22.

 

3- حقيقة العفّة:

ليس المراد من العفّة حرمان النفس من رغباتها المشروعة في المطعم والجنس، بل المقصود منها الاعتدال في تناولها وممارستها، إذ كل إفراطٍ أو تفريط مضرّ بجسد الإنسان وروحه وداعٍ إلى شقائه وبؤسه. فالإفراط في شهوات البطن والفرج سببٌ في الكثير من الأمراض والعلل الجسمية. كما أن الروح التائقة إلى عالم الملكوت ولقاء الرب الودود سوف تتأذى هي الأخرى بسبب كثرة الانشغال والتلهّي بالشهوات الحيوانية والأمور الدنيوية الزائلة التي لا تزيد الإنسان إلا بعداً عن الحق. والتفريط باعثٌ على الحرمان من متع الحياة ولذائذها المشروعة، وموجبٌ لهزال الجسد وضعف طاقته، مما ينعكس سلباً على روحه أيضاً. فالمطلوب الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس وهو الممدوح شرعاً وعقلاً، وهو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط إذ إن خير الأمور أوسطها. وحدّ الاعتدال في طعام الإنسان يكون بحيث لا يحسّ بثقل المعدة ولا بألم الجوع، فالهدف من الأكل بقاء الحياة واستمرارها، والحصول على القوى اللازمة للعمل والعبادة. أما ثقل الطعام فإنه يمنع من العبادة، كما أن ألم الجوع يشغل القلب أيضاً. وإليه


18- النور، 30.

19- الكافي، ج2، ص 79.

20- م.ن.

21- غرر الحكم، ص 399.

22- وسائل الشيعة، ج11، ص199.

 

153


126

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ23.

 

وخير مقياسٍ لذلك ما حدده أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه"24. وأما الاعتدال في الجماع فبأن يقتصرالإنسان فيه على ما لا ينقطع عنه النسل، وما يحصل له من خلاله التحصّن، وتزول به خطرات الشهوة، ولا يؤدي إلى ضعف البدن والقوة، ولا يكون سبباً في الانشغال عن الطاعة والعبادة.

 

الزهد

1- حقيقة الزهد:

الزهد في الدنيا مقامٌ شريف جداً ومن أعلى مقامات السالكين إلى الله تعالى، وهو أن لا يرغب الإنسان في الدنيا ولا يميل إليها بقلبه، ويتركها بجوارحه إلا بقدر الضرورة، بهدف العدول إلى ما هو خير منها وأشرف وأبقى، إلى الله تعالى والحياة الآخرة. فجميع الدعوات الإلهية والشرائع الربانية الحقّة هدفها الأساسي ربط الإنسان بالله عز وجل، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالإعراض عن غير الحق وكل ما سواه، مقدمة للوصول إلى جماله المطلق، كما قال إمامنا الصادق عليه السلام: "وإنما أَرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة"25.

 

فالرغبة في الدنيا موجبة للاحتجاب عن الحق تعالى. والمقصود من الدنيا كل ما يشغل الإنسان عن الحق عز وجل. وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام الصادق عليه السلام حين عرّف الزهد بأنه: "تركك كلّ شيء يشغلك عن الله"26. لأنه من المستحيل العروج إلى الكمالات الروحية والوصول إلى لقاء الحق مع التعلّق بغيره تعالى، والتبعية للشهوات والملذّات الفانية.

 

2- فضيلة الزهد:

أ- في الآيات:

قوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ


23- الأعراف، 31.

24- وسائل ‏الشيعة، ح24،ص 245.

25- الكافي، ج2،ص16.

26- مستدرك الوسائل، ج12، ص45.

154


127

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ27، حيث قال الإمام زين العابدين عليه السلام لرجلٍ سأله عن الزهد فأجابه أن الزهد في هذه الآية28. وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا29، حيث فُسّر أحسن العمل في التفاسير بأنه الزهد.

 

ب- في الروايات:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حرام على قلوبكم أَن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"30.

وعن أَمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إن من أَعون الأخلاقِ على الدين الزهد في الدنيا"31.

 

وجاء أَعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا محمد أَخبرني بعمل يحبني الله عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أَعرابي ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أَيدي الناس يحبك الناس"32.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من زهد في الدنيا أَثبت الله الحكمة في قلبه وأَنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأَخرجه منها سالماً إلى دار السلام"33.

وعن أَمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهد في عاجل زهرة الدنيا"34.

 

3- علامات الزهد:

للزهد ثلاث علامات أساسية كما أخبر الله تعالى في سورة الحديد المتقدمة آية 23. وهي:

أ- أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود

ب- أن يستوي عنده من يذمّه ومن يمدحه.

ج- أن يكون أنسه بالله هو الغالب، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.

 


27- الحديد، 23.

28- وسائل الشيعة، ج16، ص12.

29- الكهف، 7.

30- الكافي، ج2، ص128.

31- م.ن، ص 128.

32- وسائل ‏الشيعة، ج9، ص450.

33- م.ن، ج 16، ص 10.

34- م.ن، ص11.

155


128

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 4- شروط تحقّق الزهد:

 

يشترط في الزهد ثلاثة أمور:

أ- أن يترك الإنسان ما تحبّه النفس وترغب فيه وتطلبه، لأن من ترك ما ليس مطلوباً كتارك التراب والحشرات مثلاً لا يسمى زاهداً، بل من رغب عن الدراهم والذهب يسمى زاهداً.

ب- أن يكون زهده في أمرٍ بمقدوره نيله والوصول إليه، إلا أنه آثر تركه بملء إرادته واختياره. لأن ترك ما لا يقدر عليه الإنسان ولا يستطيع الوصول إليه لا يسمى زهداً.

ج- أن يكون الهدف من الزهد هو الله والدار الآخرة، أما لو كان لغرضٍ غير الله تعالى كاستمالة القلوب أو الاشتهار وأمثال ذلك لم يكن من الزهد أصلاً.

156


129

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 المفاهيم الرئيسة

1- القناعة هي أن لا يطمع صاحبها في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم. وهي تمدّ صاحبها بصفاء روحي، وبصيرة، وتحفّزه على التأهب للآخرة والقيام بالأعمال الصالحة.

2- العفّة هي الامتناع والترفّع عما لا يحلّ من شهوة البطن والفرج، وجعلها منقادة للعقل، وليس المراد منها حرمان النفس من رغباتها المشروعة، بل المقصود منها هو الاعتدال في تناولها.

3- الزهد هو أن لا يرغب الإنسان في الدنيا ولا يميل إليها بقلبه، بهدف العدول إلى ما هو خير منها وأبقى، إلى الله تعالى والحياة الآخرة.

4- للزهد علامات ثلاث أساسية من خلالها نتبيّن صحة الزهد من عدمه.

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف القناعة واذكر مثالاً على ذلك.

2- بيّن أهمية القناعة وتأثيرها على حياة الإنسان المعنوية.

3- عرّف العفة وبيّن المراد الدقيق منها.

4- بيّن معنى الزهد وحقيقته.

5- اذكر أهم شروط تحقق الزهد في النفس.

157


130

الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)

 للمطالعة

دواؤها الزهد فيها35

اعلم أن ما تناله النفس من حظٍ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثر القلب وتعلّقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث.

 

وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا - كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) - هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على وليّ نعمته.

 

إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إيقاظ للحفاظ على قلبه. فالعياذ بالله من إنسان يسخط على وليّ نعمته، مالك الملوك الحق، إذ ليس أحدٌ يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير الله تعالى. ويقول أيضاً شيخنا المعظّم ـ دام ظله ـ نقلاً عن أبيه المعظّم، إنه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك بالرياضات النفسية تخلّص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه. عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يُقتل".

 

الإمام الخميني قدس سره

 


35- الأربعون حديثاً، ص 150.

158


131

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 الدرس الرابع عشر:

 

الفضائل الأخلاقية (3) (الحلم - العفو - الإيثار)

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يشرح معنى وأهمية كلّ من فضيلة الحلم والعفو والإيثار.

2- يذكر نبذةٍ عن هذه الفضائل في الآيات والروايات.

3- يبيّن موارد استعمال العفو والعلاقة التي تربط الإيثار بتربية النفس.

160


132

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 الحلم

1- معنى الحلم:

الحلم من أشرف السّجايا وأعزّ الخصال الأخلاقية، ودليل على سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسبب للمودة والألفة بين الناس وفي المجتمع. لأن صاحب هذا الخلق يعيش السلام دائماً مع نفسه ومع الآخرين. والحلم هو اعتدال القوة الغضبية عند الإنسان وطمأنينة النفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة ودون مبرر، ولا يزعجها المكروه بسرعة. فالحليم إذا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه، أو وصل إليه مكروهٌ أو أمر غير مناسب، فإنه لا يخرج عن طوره، ولا يغضب، بل يكظم غيظه ويواجه الواقع بهدوء ورويّة وحكمة.

 

2- فضيلة الحلم:

أ- في القرآن:

مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم فقال عزّ وجلّ:

﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا1.

وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ2.

وقال عزّ وجلّ:﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ3.

وفي آية أخرى يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا4.


1- الفرقان، 63.

2- فصّلت، 34.

3- آل عمران، 134.

4- الإسراء، 44.

 

162


133

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 ب- في الروايات:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إن الله عز وجل يحب الحيِي الحليم"5.

عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً وإن الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يعدّ عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين"6.

 

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأَنت أَهل لما قلت ستُجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أَتممت ذلك قال فإن ردَّ الحليم عليه ارتفع الملكان"7.

 

سأل أحدهم الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن الحلم فقال: "هو أَن تملك نفسك وتكظم غيظك ولا يكون ذلك إلا مع القدرة"8.

 

3- مخاطر ترك الحلم:

ما دام الإنسان يعيش في هذه الدنيا فإن الأحداث المستجدّة والأمور المفاجئة والمواقف غير المتوقعة قد تطلّ برأسها في كل لحظة لتعكّر صفوه وتنغّص عيشه، فإذا لم يكن ذا حلم وسعة صدر في تحمّل الصعاب ومواجهة المشاكل، فسرعان ما قد تشتعل نار قوة الغضب في صدره، والتي إذا ما خرجت عن حدّ اعتدالها ومالت إلى حد الإفراط ربما أدّت بصاحبها إلى هلاك نفسه، أو فساد دينه وخراب دنياه، حيث يمكن أن توقعه والعياذ بالله في الطغيان والظلم، وهتك النواميس، وقتل النفوس المحترمة، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "أي شي‏ء أشد من الغضب؟ إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة"9. كما يمكن أن تؤدي إلى ضياع العقل كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله"10، وإلى إطفاء نور الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"11. فقوة الغضب تفوق سائر القوى خطراً لأنها قد تؤدي في لحظات


5- الكافي ج، 2، ص 112.

6- م.ن، 111.

7- م.ن، ص 112.

8- مستدرك‏ الوسائل، ج 11، ص 291.

9- بحارالأنوار، ج 70، ص274.

10- الكافي، ج 2، ص 305.

11- م.ن، ص 302.

163


134

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 قليلة إلى الكثير من المفاسد والشرور، وقد تخرج الإنسان في دقائق معدودة من هذا الوجود كله، وتحرمه من سعادة الدنيا والآخرة. لذا على الإنسان المؤمن الحريص على دنياه وآخرته أن يتحلّى بملكة الحلم لكي لا يصبح أسيراً لآفة الغضب المهلكة، ولكي يتمكن من مواجهة مخاطرها المحدقة. فإذا سعى الإنسان في حركاته وسكناته إلى العمل بهدوء وسكينة، وضبط نفسه وكظم غيظه مدة وتكلّف الحلم وحمل نفسه على التصرف كذوي الحلم، فإن ذلك يفضي به لا محالة إلى الحلم. وإذا واظب على هذا الأمر مواظبة كاملة لمدة معيّنة وراقب نفسه مراقبة صحيحة، فسيتحول هذا الذي يتكلّفه إلى أمرٍ عادي بالنسبة إلى النفس وسيحصل على النتيجة المطلوبة. كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن لم تكن حليماً فتحلَّمْ، فإنه قلّ من تشبّهَ بقوم إلا أوشك أن يكون منهم"12. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا لم تكن حليماً فتحلّم"13.

 

العفو

1- أهمية العفو ومنشؤه:

من أعظم الكمالات الإنسانية والفضائل الأخلاقية أن يتجاوز الإنسان عن الأشخاص الذين أساءوا إليه. فصفة العفو من الصفات الجمالية للحق تعالى والاتّصاف بها تشبّهٌ بالحق عزّ وجلّ. والإسلام أكّد كثيراً على هذه الفضيلة لأنها سببٌ رئيسيٌّ في بناء الفرد المعنوي وتكامله الإيماني، وعاملٌ رئيسي في استقرار المجتمع وثباته، وركنٌ من أركان الإصلاح وحسن التعايش بين الناس، وذهاب الضغينة والحقد فيما بينهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"14. لذا صار تاج المكارم كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العفو تاج المكارم"15، لأن جذور الصّفح والعفو إنما ترتوي من ترك حب الدنيا والنفس، كما أن جذور الانتقام والغضب ترتوي من حب الدنيا والنفس والتعلّق بالشهوات والمآرب الدنيوية، التي هي أسس كل المفاسد والشرور. إذاً، العفو من أهم صفات أهل الآخرة الذين طلّقوا الدنيا والتي


12- وسائل الشيعة، ج15، ص268.

13- الكافي، ج2، ص112.

14- كنز العمال، ج3، ص373.

15- ميزان الحكمة، ج1، ص805.

164


135

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 لم تعد تعني لهم سوى فرصةٍ للتزوّد، وساحةٍ للطاعة والعبودية. لذا تجدهم يتمسّكون بالعفو فكراً وعملاً لأن فيه رضا محبوبهم الأوحد، ولأنهم يعرفون أن حقيقة العفو هي العزّة في الدنيا والآخرة كما في الحديث: "من عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزاً في الدنيا والآخرة"16.

 

2- فضيلة العفو:

أ- في الآيات:

﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ17.

﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ18.

﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ19.

﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ20.

 

ب- في الروايات:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: أَلا أخبركم بخير خلائقِ الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك"21.

 

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الندامة على العفو أَفضل وأَيسر من الندامة على العقوبة"22.

عن أَمير المؤمنين عليه السلام أَنه قال: "إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه"23.

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنا أَهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا"24.


16- الآمالي، ص182.

17- البقرة، 219.

18- البقرة، 237.

19- النور، 22.

20- الشورى، 40.

21- الكافي، ج2، ص107.

22- م.ن، ص 108.

23- وسائل ‏الشيعة ج 12، ص 171.

24- م.ن، ص، 174.

165


136

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 3- العفو الجميل وموارده:

 

صحيحٌ أن العفو جميل ولكن ليس في كل الموارد والشؤون، بل هناك حالات يكون العفو فيها قبيحاً ولا يعدّ من الفضائل. فالعفو إذا كان عنصراً مساعداً على الإصلاح والبناء، ومعيناً على خط الاستقامة ولا يلزم منه الضرر فهو مطلوبٌ ومرغوب. وأما إذا كان يشكل عنصراً مساعداً على الانحراف وتشجيعاً على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق ويؤدي إلى الضرر، فهو في مثل هذه المواطن قبيحٌ وغير مرغوب. فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"25. وعن الإمام السجاد عليه السلام: "حق من أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أن العفو عنه يضر انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾"26. والعفو الجميل والممدوح هو العفو مع القدرة، أي حينما يكون بمقدور الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي بحيث كانت الظروف ملائمة والشروط متوفرة لكنه آثر أن يعفو عنه رجاء عفو الله عنه ورغبةً في ثوابه والنجاة من عقابه. وقد حثّت الروايات عليه كثيراً حيث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"27، وقال عليه السلام أيضاً: "العفو مع القدرة جنة من عذاب الله سبحانه"28.

 

الإيثار

1- حقيقة الإيثار:

الإيثار هو من أرفع درجات الجود والكرم. ولا يتحلّى بهذه الصفة إلا الذين بلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء وهم بأمسّ الحاجة إليه، وآثروا بالنوال وهم في ضنك العيش، لذا عدّت من أهم صفات الأبرار وشيم الأخيار كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيثار سجية الأبرار وشيمة الأخيار"29. والإيثار هو أن يجود الإنسان بالمال أو النفس أو الراحة أو ما إلى ذلك من النّعم مع الحاجة إليها، وتفضيل الإنسان الآخرين على نفسه، وتقديم حاجتهم على


25- غرر الحكم، ص 245.

26- من لا يحضره الفقيه، ج2، ص625.

27- غرر الحكم، ص246.

28- م.ن، ص342.

29- م.ن، ص396.

166


137

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 حاجته. بخلاف السخاء الذي هو عبارة عن بذل الإنسان وجوده بما لا يحتاج إليه، لذا كان الإيثار من أرفع درجات السخاء. كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الإيثار أعلى مراتب الكرم، وأفضل الشيم"30.

 

2- فضيلة الإيثار:

أ- في الآيات:

أثنى الله تعالى كثيراً في كتابه الكريم على الذين يؤثرون على أنفسهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ31.

 

ب- في الروايات:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إن لله عز وجل جنة لا يدخلها إلا ثلاثة رجل حكم على نفسه بالحق ورجل زار أَخاه المؤمن في الله ورجل آثر أَخاه المؤمن في الله"32.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من آثر على نفسه آثره يوم القيامة بالجنة"33. وعن الصادقِ عليه السلام أَنه سئل ما أَدنى حق المؤمن على أَخيه فقال: "أَن لا يستأثر عليه بما هو أَحوج إليه منه"34.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"35، وقال عليه السلام أيضاً: "الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان"36.


30- غرر الحكم، ص395.

31- الحشر، 9.

32- الكافي، ج 2، ص178.

33- مستدرك‏ الوسائل، ج7،ص249.

34- م.ن، ص212.

35- غرر الحكم، ص 395.

36- م.ن، ص 396.

167


138

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 3- الإيثار وتربية النفس:

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء"37. فالإيثار يكشف باطن الإنسان ويعرّفه حقيقة نفسه. لأنه ليس من السهل أن يقدّم الإنسان حاجة أخيه على نفسه، إلا إذا تجاوز عقبة حب الذات والدنيا، وآثر عليهما الله والدار الآخرة. فالإيثار من أهم العوامل التي تساعد على ارتقاء النفس وصفائها وبلوغها الدرجات العليا، لأنها تجرّد النفس من التعلقات الدنيوية والرغبات والأهواء النفسية التي لا تزيد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى إلا بعداً واحتجاباً. فالمطلوب من الإنسان في سيره إلى الله أن يتخفّف من أوزان وأثقال هذه الدنيا الفانية ليلحق بالصالحين الأبرار كما قال مولى الموحدين علي عليه السلام: "تخفّفوا تلحقوا"38. والتحلّي بصفة الإيثار يحتاج في البداية إلى ترويض ٍومجاهدة حتى تصبح هذه الصفة ملكةً راسخة في النفس، لذا في البداية يتكلّف الإنسان الإيثار ويجبر نفسه عليه لأن حب النفس ومصالحها ما زال موجوداً. من هنا يعتبر الإيثار من أنواع جهاد النفس أيضاً وثوابه عظيمٌ عند الله تعالى، إلى أن تطوّع النفس بشكل كامل بفعل المداومة على أعمال البرّ والإحسان فيصبح الإيثار عن طوعٍ ورضا ورغبة نفسية بعد أن كان عن كرهٍ وانزعاج.


37- غرر الحكم، ص396.

38- بحار الأنوار، ج6، ص135.

168


139

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 المفاهيم الرئيسة

1- الحلم صفة مَن إذا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه، أو وصل إليه مكروهٌ أو أمر غير مناسب، فإنه لا يخرج عن طوره، ولا يغضب، بل يكظم غيظه ويواجه الواقع برويّة وحكمة.

2- العفو مع القدرة من أهم صفات أهل الآخرة، وهو جميلٌ ومطلوب في الموارد التي يساعد فيها على الإصلاح والبناء، ولا يلزم منه الضرر، أو الوقوع في المفاسد.

3- الإيثار هو أن يجود الإنسان بما لديه من النّعم مع حاجته إليها، وتفضيله الآخرين على نفسه، وهو من أهم العوامل التي تساعد على ارتقاء النفس وصفائها وبلوغها الدرجات العليا.

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف المعنى الدقيق للحلم.

2- بيّن مخاطر ترك التحلّي بالحلم على الإنسان.

3- ما هي جذور ومناشئ كل من العفو والانتقام.

4- هل العفو حسنٌ مطلقاً أم له موارده الخاصّة؟ بيّن ذلك.

5- عرّف الإيثار وبيّن حقيقته.

6- اذكر أهمية التحلّي بفضيلة الإيثار على صعيد تهذيب النفس وتربيتها.

169


140

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 للمطالعة

جوامع الكلم39

لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم النفس، أن يكون على حذرٍ كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعلّه يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبه الله تعالى إيّاها لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقّها؟ وكم هو ظلومٌ جهول؟ لأنه لم يَصُنْ أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرأً هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي. ثم إن عليه أن يفكر في المفاسد العملية والأخلاقية التي تتولّد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا، وبالعذاب والعقاب في الآخرة.

 

أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم. وشدّة هذا القبح وهذه المفسدة واضحة للجميع. نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذلّ وقادته إلى أرض الهلاك الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره، وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب. وأما مفاسد الغضب المؤثّرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوّه بما فيه الارتداد أو سبّ الأنبياء والأولياء ـ والعياذ بالله ـ

 


39- الأربعون حديثاً، ص 164.

170


141

الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)

 وهتك الحرمات الإِلهية، وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذلّ ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تُحصى والتي يُبتلى بها الإنسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت. لذلك يمكن أن توصف هذه السجيّة بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. ويقابلها كظم الغيظ وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات.

 

 

الإمام الخميني قدس سره

171


142

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 الدرس الخامس عشر:

النظم والانضباط في الإسلام

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يستدلّ على أنّ الإسلام دينٌ محوره النظام وهو قائم على أساسه.

2- يشرح العلاقة التي تربط الإيمان بالنظام في الإسلام.

3- يتحدّث باختصار عن أهمّ الجوانب التي ينبغي أن يطالها النظام في الحياة.

172


143

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 الإسلام دين النظام

إنّ الإسلام يُنظّم الحياة البشريّة في مختلف ميادينها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام: البشر، الكائنات، الليل والنهار، السماء، الفلَك...

 

خلق الله عزّ وجلّ هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كلّ شيء في موضعه، وجعل له مهمّة، عليه أن يؤدّيها في هذه الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ1، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ2.

 

وكذلك نظرة الإسلام للنظام في تعاملات البشر واضحة، فالاستئذان شرط، ومن لا يؤذَن له لا يدخل، وللأكل آدابه، والالتزام بالعهود والعقود شرط، وفي السفر إن خرج اثنان في سفرٍ فليؤمِّروا أحدهما، ووصل النظام إلى ضرورة اختيار اسمٍ صالحٍ للأولاد بمجرَّد ولادتهم، ثمَّ حسن تربيتهم. ووضع الإسلام، كذلك، قواعد في آداب التحيَّة والسلام، وفي الصلاة: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينو3 بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان"4.

وفي الجهاد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا


1- يس، 37 - 40.

2- الروم، 22 - 24.

3- ومعنى "ولينوا..." إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتّى يدخل في الصف.

4- سنن أبي داوود، ج1، ص157.

174


144

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ5، وغيرها من الموارد. فهذا باختصار هو الإسلام، دين النظم والانتظام، نظام في كلّ شيء، منذ الولادة وحتى الممات، في الأمور الشخصيّة والمعاملات، وفي تكوين الأرض والسماوات.

 

النظام قرين التقوى والإيمان

ومن وصيّة للإمام علي عليه السلامللحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) على رأسه الشريف: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم ..."6.

 

ويحبُّ الله عزّ وجلّ - الذي خلق هذا الكون بهذا النظم العجيب - أن يكون الإنسان منظّماً في حياته الشخصيّة والعامة، وقد بيَّن طريق ذلك في رسالات السماء وبالخصوص دين الإسلام، وأمر برعاية ما بيّنه وأنزله.

 

وقد أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة، بأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة بهدف تحقيق امتثال التكليف الإلهي. ويتجلّى الالتزام بالنظام بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانيّة وتأمين السعادة للمجتمع البشري كلّه، وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في وصيّته لولديه، حيث قرن التقوى - التي تُعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العملي بأحكام الشريعة وقوانينها- بالوصيّة بنظم الأمر، لأنّه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلّى بالتقوى والإيمان الحقيقي دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلّا لابتُلي بالنفاق والكذب، ما يؤدّي إلى ضعف الإيمان والتديُّن، ولا يبقى عندها أيّ قيمة للتقوى والإيمان.

 

وجوب مراعاة النظام في الفقه الإسلامي

أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلاميّة، تجب مراعاتها على كل حال7، وليس لأيّ أحد أن يضع في الشوارع والطرقات العامّة ما يضرّ بالمارّة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأيّة وسيلة ممكنة، ولو بتسجيل عقوبة مادّيّة عليه


5- الصف، 4.

6- بحار الأنوار، ج42، ص256.

7- الإمام الخامنئي, أجوبة الاستفتاءات، ج2 ص324.

175


145

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 لحفظ المصالح العامّة، وكذا الحال في وضع القذارات فيها، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام، ولا سيّما مع حصول الإضرار بالجار8. ومن الطبيعي أنّ المحافظة على أنظمة وقوانين، مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى أنظمة السير والبناء والضمان الصحي والبيئة، وغيرها ممّا له جنبة مصلحة وفائدة اجتماعية عامّة، من المصاديق الطبيعيّة، التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.

 

النظم في العلاقات الاجتماعيّة

أولى الإسلام الآداب العامّة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمّيّة قصوى، تبرز في مختلف مرافق الحياة العامّة والاجتماعيّة, فقد جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته"9، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين، ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: "من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم"10.

 

فالمسلم مسؤول عن إصلاح وتحصين نفسه وأفراد مجتمعه، من خلال الالتزام بالأحكام الشرعيّة الاجتماعيّة المتعلّقة بالأسرة، والأرحام، والجيران والأبناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على النظام العام، ورعاية حقوق الآخرين، وعدم التهاون والتساهل بها, بالإضافة إلى المساهمة والحضور الاجتماعي بحسب المصلحة والوسع. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ11.

 

النظام في الحياة الفرديّة

تشتمل الحياة الشخصيّة للإنسان على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها... نشير بشكل مختصر إلى بعض هذه الموارد:

1- التجمّل: رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو إلى لقاء أصحابه،


8- مجمع المسائل, ج1، ص399، م16.

9- جامع الأخبار, 327.

10- الكافي, ج2, ص163.

11- الحجرات، 10.

176


146

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 ينظر في المرآة ويُرتِّب شعره ويتعطَّر، وكان يقول: "إنّ الله يُحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل"12.

 

2- النظافة: وممّا أمر به الإسلام أيضاً رعاية النظافة العامّة والشخصيّة, لما في ذلك من مظهر حضاري ومدني له العديد من الأبعاد التربوية بين الناس، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله طيّب يُحبُّ الطيّب، نظيف يُحبُّ النظافة"13، وفي كلام آخر له صلى الله عليه وآله وسلم قيّد الدخول إلى الجنّة بالنظافة: "تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتم, فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف"14، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من أخلاق الأنبياء التنظّف"15.

 

3- المظهر الحسن: إنّ تعاليم الإسلام كما أمرتنا برعاية النظافة والتجمّل والتطيّب، أمرتنا أيضاً بأن نراعي المظهر الحسن في الشكل واللباس، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى رجلاً شعثاً، قد تفرّق شعره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"16. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "من اتخذ ثوباً فلينظّفه"17، وعن الإمام علي عليه السلام حول لبس الحذاء قال: "استجادة الحذاء وقاية للبدن، وعون على الصلاة والطهور" 18.

 

الانضباط في الوقت

إنّ الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعيّة ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويكون ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصي له للعمل، وللثقافة وللزيارات. إنّ عدم وجود نظام يسير عليه الإنسان يوجب ضياع الفرص، وأمّا الانضباط والعمل ضمن برنامج معيَّن فهو موجب للاستفادة من طاقة الإنسان واستثمار نتائج عمله. ويأمر الإمام الكاظم عليه السلام الإنسان بتقسيم أوقاته أربعة أقسام، فقد ورد عنه عليه السلام: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة


12- وسائل الشيعة، ج5، ص11.

13- كنز العمال، ج15، ص389.

14- م.ن، ج9، ص277.

15- بحار الأنوار، ج11، ص66.

16- مستدرك الوسائل، ج4، ص186.

17- الكافي، ج6، ص441.

18- وسائل الشيعة، ج5، ص61.

177


147

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويُخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات"19.

 

الانضباط في العهود والوعود

من الموارد الأخرى التي لا بدَّ فيها من الانضباط، الالتزام بالعهود والدقّة في الوعود، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً20. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء بالعهد من لوازم الإيمان بيوم القيامة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد"21.

 

إنّ الاتّفاق المسبق عند كل عقد يمنع من وقوع الكثير من النزاعات، ورعاية ما اتّفق عليه يوجب المحبة والثقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ22، وفي الرواية عن أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام: "كنت مع الرضا في بعض الحاجة، فأردت أن أنصرف إلى منزلي، فقال لي: انصرف معي، فبت عندي الليلة، فانطلقت معه، فدخل داره مع المغيب، فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب أو غير ذلك، وإذا معهم أسود ليس منهم، فقال: ما هذا الرجل معكم؟! قالوا: يعاوننا، ونعطيه شيئاً. قال: قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا: لا، هو يرضى بما نُعطيه، فغضب الإمام، وقال لصاحبه: إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته، اعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة، ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف أجرته، إلّا ظنَّ أنّك قد نقصته أجرته، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أجرته، حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك، ورأى أنّك زدته"23.

 

النظم في العبادة

في العبادة أيضاً، لا بدَّ من مراعاة النظم والانضباط، وذلك بأداء كل عبادة في أوَّل وقتها، الصلاة جماعة، وصيام شهر رمضان، وقضاء ما فات المرء من الصوم في السنة نفسها التي فات فيها، وأداء الخمس والزكاة في وقتهما، والحذر من الإفراط أو التفريط في العبادة.


19- تحف العقول، ص410.

20- الإسراء، 36.

21- الكافي، ج2، ص364.

22- البقرة، 282.

23- بحار الأنوار، ج49، ص106.

178


148

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 إنّ رعاية الاعتدال والوسطيّة في العبادات له أثره في استمراريّة العمل وعدم الانقطاع عنه. إنّ الإفراط في العبادة والعمل والمستحبّات قد يوجب قسوة القلب، بل لعلّه يصبح عائقاً أمام قيام الإنسان بواجباته الاجتماعيّة، بل قد يجرُّ الإنسان إلى ارتكاب الذنوب، كأن يقوم بقراءة الدعاء أو العزاء أو سائر المستحبّات في وقت متأخّرٍ من الليل بما يوجب أذيّة الآخرين.

 

والعبادة إنما تكون بنّاءة ومفيدة متى صدرت عن رغبة وشوق ومحبَّة. إنّ قصّة ذلك الرجل الذي دعا جاره إلى الإسلام معروفة، حيث أخرجه من الدِّين كما أدخله، فإنّه عندما أسلم جاره اليهودي أخذه إلى المسجد في الصباح الباكر، وأبقاه هناك إلى الغروب في حالة الدعاء والذكر وقراءة القرآن، ولمّا جاءه في اليوم التالي ليأخذه إلى المسجد امتنع صاحبه من ذلك، وقال له: إنّي رجل ذو عيال، ولا بدَّ لي من تأمين معيشتي ومعيشة عيالي، وإنّي لا أريد ديناً كدينك، فاذهب وابحث عن رجلٍ غيري.

 

الانضباط في المصروف

لا بدّ للمسلم من رعاية الوسطيّة في اللباس والطعام وسائر مستلزمات الحياة، وفي الاستفادة من بيت المال والأموال العامّة، فلا يقع في الإفراط ولا في التفريط بما يوجب الشحّ والبخل.

 

إنّ الانضباط في المصروف يعني وجود حساب دقيق وبرنامج عملي فيما يحصّله الإنسان من مال - الواردات - وفيما يحتاجه من مصروف، وزيادة المصروف عن المدخول هو الإسراف. إنّ عدم وجود ضابطة لدى الإنسان فيما يصرفه أمر سيّئ، ويجرُّ الإنسان إلى الفقر. وقد ذمّ القرآن الإسراف والتبذير، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا24.

 

وقد وضع الإمام الصادق عليه السلاممجموعة من القواعد في باب الاقتصاد، ومن هذه القواعد قوله عليه السلام: "لا تكسل في معيشتك، فتكون كلّاً على غيرك"25، وقوله عليه السلام "ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر"26.

 

وقد كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أصحابه حول مورد مصرف بيت المال، فقال: "أدقّوا


24- الإسراء، 27.

25- الكافي، ج5، ص86.

26- وسائل الشيعة، ج17، ص64.

179


149

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، إيّاكم والإكثار, فإنّ أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار"27.

 

الانضباط والنظم في الأمور العسكريّة والحرب

للانضباط في الحرب وأثناء أداء المهام الجهاديّة أهميّة خاصّة. إنّ أساس النجاح في الحرب بعد الإيمان والاعتقاد الراسخ لدى المجاهدين والتدبير والطاعة هو الدقّة في العمل والانضباط العسكري، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ28.

 

إنّ من عوامل النصر والرقيّ هو النظم والانضباط في الحرب أثناء الهجوم وأثناء الانتقال وأثناء الانسحاب، بل وأثناء الاستراحة، وأمّا عدم الانضباط، فإنّه موجب لتلف القوى وللهزيمة. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يأمر بالهجوم، يعمل على تنظيم الجيش وتوزيع المهام، وكان يحذّرهم من مخالفة أمره.

 

ومن الأمور الحسّاسة والمهمّة في الحرب عنصر الطّاعة للقيادة ورعاية القوانين والمقرّرات. وفي التاريخ نماذج كثيرة كان السبب في هزيمتها عدم الانضباط ومخالفة أوامر القيادة. فهذه معركة أُحد شاهد من تاريخ المسلمين، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جماعة المسلمين على رأسهم عبد الله بن جبير بحماية المسلمين من الخلف، وبعد أن رأى هؤلاء بوادر نصر المسلمين تلوح في الأفق تركوا الجبل وعصوا أمر رسول الله ليفوزوا بالغنائم، الأمر الذي أدّى إلى قيام المشركين بعمليّة التفاف ومستفيدين من غفلة المسلمين، وكانت النتيجة هزيمة وخسارة المعركة وانتصار المشركين.

 

وعليه فلا بدَّ في الحرب من التزام أوامر القيادة بدقّة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ29.


27- مستدرك البحار، ج3، ص132.

28- الصف، 4.

29- النور، 62.

 

180


150

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 المفاهيم الرئيسة

1- الإسلام دين بُنِي كلُّه على النظام، وهو ينظّم الحياة البشرية في مختلف ميادينها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

2- لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلى بالتقوى والايمان الحقيقي دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس.

3- لا ينبغي لأحد مخالفة النظام ولا سيما مع لزوم الإضرار بالآخرين. وقد أفتى الفقهاء المسلمون بالمحافظة على الأنظمة والقوانين وبوجوب الالتزام بمقررات نظام المجتمع.

4- أولى الإسلام الآداب العامة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمية قصوى، وجعل كل مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية.

5- نظّم الإسلام الحياة الشخصيّة والخاصة للإنسان فأمره بالمحافظة على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها...

6- من الموارد الأخرى التي لا بدَّ فيها من الانضباط ومراعاة مبادئ النظم: الوقت، والعهود، والمال، لما لها من تأثير مباشرعلى حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية.

7- لكي تحقّق العبادة أهدافها الطيّبة لا من مراعاة النظام فيها أيضاً. ويتجلى الأمر من خلال مراعاة آداب العبادة المختلفة، من الوقت والاعتدال والرغبة وغيرها...

8- إن أساس النجاح في الحرب بعد الإيمان والاعتقاد الراسخ لدى المجاهدين والتدبير والطاعة هو الدقّة في العمل والانضباط، والالتزام بالأنظمة والقوانين العسكرية.

 

أسئلة حول الدرس

1- أوصى الإسلام بنظم الأمر في مختلف جوانب الحياة، كيف تستدل على ذلك؟

2- ما هو رأي فقهاء الإسلام في النظام العام؟

3- أعط أمثلة على النظم في الحياة الشخصية.

4- ما معنى مراعاة النظم في العبادة؟ بيّن المقصود؟

5- لماذا يعتبر الانضباط في الحياة العسكرية شرطاً أساسياً لتحقيق النصر؟

181


151

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

 للمطالعة

النظام أصل في الحياة العسكرية

في هذه الفترة الزمنية المصيريّة وفي ظل هذا الوضع الحسّاس للحرب المفروضة على القوات الإسلامية المسلّحة من قبل القوى الكبرى وأذنابها، يجب أن أذكركم وأحذّركم من أنّ التخلّف عن خوض هذه الحرب سيلحق أخطاراً كبيرة وجسيمة بالإسلام والدولة الإسلامية ويستحق الملاحقة القانونية والشرعيّة:

1- على القوات المسلّحة العسكرية وغير العسكرية بمختلف فئاتها، الالتزام بالانضباط بشكل دقيق والابتعاد عما يخالف الانضباط، والانتباه إلى المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقهم, فإن التخلّف والابتعاد عن الانضباط سيكون موجباً للملاحقة والمسؤولية.

 

2- من مصاديق الانضباط طاعة القادة، لذا يجب على جميع أفراد القوات المسلّحة إطاعة رؤسائهم وقادتهم- وبحمد الله هم يفعلون ذلك- والتمرّد ومخالفة أوامر القادة يستلزم الملاحقة والمسؤولية سواء كانت القوات عسكرية أو حرس ثورة أو تعبئة عامة وقوات شعبية.

 

3- وحدة القيادة من المسائل المصيريّة المهّمة التي لا يتحقّق النصر بدونها وعدم مراعاة ذلك سيؤدّي إلى خلق مشكلة.

 

4. الهروب من الحرب في الإسلام من الذنوب الكبيرة، ويستلزم الملاحقة والمسؤولية في الدّنيا والعذاب الكبير في الآخرة، لذا يجب على القادة إلقاء القبض على الأفراد الذين - لا قدر الله- يقدمون على الفرار- ولن يفعلوا ذلك- وإحالتهم إلى المحكمة.

 

5- التعاون والتنسيق بين جميع القوى العسكرية وغير العسكرية من أجل الحفاظ على العتاد والمعدّات العسكرية، وكل من يخلّ بهذا الأمر يجب الإبلاغ عنه وإحالته إلى المحكمة.

6- بما أن طاعة القادة أمرٌ واجب وعصيانهم ومخالفتهم جريمة، لذلك يجب في المقابل على القادة أن يعاملوا مرؤوسيهم معاملة إسلامية إنسانية وأن يحيطوهم بعواطفهم

182


152

الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام

  

فيؤجّجوا فيهم الحميّة والحماس وأن يصنعوا منهم فدائيين مضحّين من خلال أعمالهم الحسنة.

 

7- يجب على القادة وعلى جميع أفراد القوات المسلحة الانتباه بشكل دقيق إلى محاولات أعداء الثورة في التسلّل والنفوذ إلى جبهاتنا ليضعفوا قوة مقاتلينا بدعاياتهم المغرضة، وإذا ما حاول بعضهم الخيانة توجب على الجميع الإبلاغ عنهم واعتقالهم وتسليمهم إلى القادة ليتم إحالتهم إلى المحكمة30...


30- مقتطف من صحيفة الإمام الخميمني قدس سره، ج13، ص423.

183


153

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 الدرس السادس عشر:

الأمانة والخيانة

 

أهداف الدرس

1- يبيّن أهمية فضيلة الأمانة وآثارها الطيّبة على الفرد والمجتمع معاً.

2- يعدّد أهم أنواع ومصاديق الخيانة وآثارها السلبية كمقدمة لتركها وتجنّبها لاحقاً.

3- يتبيّن الطريق العملي للتخلّق والاتصاف بهذه القيمة الإسلامية الرفيعة.

184


154

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 مقدّمة

الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية، والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصيّة. وعلى العكس من ذلك (الخيانة)، التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي.

 

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني، والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيويّة والأُخرويّة، في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية، وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء، وبالتالي تخريب الأُطر الإنسانيّة والحضارية في المجتمعات البشرية.

 

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع الله تعالى، وتربطه مع غيره من أفراد البشر من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً ومع الطبيعة والبيئة كذلك، وقد اُعتبرت الكتب السماويّة، والشرائع الإلهيّة، أمانة بيد البشر.

 

إنّ جميع النعم الماديّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه، هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان. فالأموال والثروات الماديّة، والمقامات والمناصب الاجتماعيّة والسياسيّة هي أمانات بيد الناس، ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤوليّة.

 

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه الله تعالى من الكائنات الطبيعيّة لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا، كلّ ذلك يُعتبر أمانة غالية بيد الإنسان، ويُعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب، ومن الذنوب الكبيرة.

 

ونظراً إلى سعة مفهوم الأمانة والخيانة واستيعابها لأبعاد مختلفة وواسعة من حياة الإنسان، نُدرك جيّداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقيّة.

185


155

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 فضيلة الأمانة في القرآن والسنّة

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم والسنّة الشريفة لنستوحي منهما ما يُلقي الضوء على صفة الأمانة والخيانة في حركة الإنسان والمجتمع، فهناك آيات متعدّدة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي، نستعرض بعض هذه الآيات:

• ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ1.

• ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا2.

• ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ3.

• ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ4.

• ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا5.

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة، حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الأُصول والمبادئ الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية، وتارة أُخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة:

في حديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ"6.

وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن الإمام عليّ عليه السلامقال: "رَأَسُ الإسلام الأَمـانَةُ، رأس النفاق الخيانة"7.

 


 1- المؤمنون،8.

2- النساء، 58.

3- الأنفال،27.

4- البقرة، 283.

5- الاحزاب، 72.

6- بحار الأنوار، ج69، ص198.

7- ميزان الحكمة، ج2، ص1345.

187


156

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 وعن الإمام الصادق عليه السلامأنّه قال: "إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَث نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفـاجِرِ"8. وهذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق والأمانة جزءاً مهمّاً من تعليماتها الدينيّة والإنسانيّة، ومن الأُصول الثابتة في الأديان الإلهيّة.

 

ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام تعبير شديد، حيث قال: "لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ شَيءٌ اعتَـادَهُ فَلَو تَرَكَهُ استَوحَشَ لِذلِكَ، وَلَكِنْ اُنظُرُوا إلى صِدقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمـانِتِهِ"9. والهدف من هذا التعبير ليس تقليلاً من شأن الصلاة والركوع والسجود، بل الهدف هو أنّ هذه الأمور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد، بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص, أي الصدق والأمانة.

 

وفي حديث آخر بالغ الأهمّيّة عن الإمام الصادق عليه السلاميُستفاد منه بشكل واضح أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى للأئمّة المعصومين عليهم السلام يكون عبر صدق الحديث وأداء الأمانة، حيث يقول عليه السلام لأحد أصحابه: "اُنظُر مـا بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَالزَمهُ" ـ ثمّ قال : "فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ مـا بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمـانَةِ"10.

 

ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: "لا تَزَالُ اُمّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُّوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ، فَإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ ابتُلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ"11.

 

هذه الروايات ما هي إلّا موارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة، وتوضّح جيّداً أنّ هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمّيّة من بين التعليمات الإسلاميّة، وكذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة، أي الخيانة، ومدى إضرارها بدين الإنسان وشخصيّته من موقع تخريب الإيمان، وأنّها تورث الشقاء والبعد عن الله تعالى. وكلّ واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد والآثار البنّاءة للأمانة، أو الأبعاد والنتائج السلبيّة والمخرّبة للخيانة، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها والتأمّل والتدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلاميّة والقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة المهمّة والبنّاءة في حركة الحياة والمجتمع.


8- الكافي، ج2، ص104.

9- م.ن، ص105.

10- م.ن، ص104.

11- بحار الأنوار، ج72، ص115.

188


157

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 أنواع الأمانة

عندما نتحدّث عن الأمانة، فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأُمور الماليّة فقط، مع أنّها طبعاً من أبرز مصاديق الأمانة، كما هو مفهوم من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ12. لكن للأمانة مفهوماً واسعاً جدّاً، بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان. ففي الآية 8 من سورة "المؤمنون"، والتي تأتي بعد بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين وضمن تبشيرهم بالفلاح والنجاة في الآخرة، وبعد بيان أهميّة الصلاة والابتعاد عن اللغو وأداء الزكاة واجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي، في النهاية يشير القرآن الكريم إلى مسألة حفظ الأمانة والالتزام بالعهد، فيقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ13.

 

فالملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذُكرت بصورة الجمع، وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة. والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة الماليّة، بل يشمل الأمانات المعنويّة، كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعيّة، وكذلك النعم الإلهيّة المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادّيّة والمعنويّة. ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتّع باللياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة، ويهتمّ بالحفاظ عليها من موقع المسؤوليّة وأداء الوظيفة. إذاً النعم والمواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تُعدّ، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم والإسلام والإيمان والولاية، وحتّى إلى أقل النعم والمواهب المادّيّة والمعنويّة. وفيما يلي نذكر بعض أنواع الأمانة، بالإضافة إلى الأمانة المالية، وهي:

1- التكاليف الشرعيّة: من مصاديق الأمانة. التكاليف والأحكام الشرعية، من الصلاة والحج والزكاة وغيرها، فكلها ودائع وأمانات إلهيّة, لذا كان الإمام علي عليه السلامعندما يحين وقت الصلاة يتغير حاله، وعندما سُئِل عن ذلك، قال: "جَـاءَ وَقتُ الصَّلاةِ، وَقتُ أَمـانَة عَرضَهـا اللهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ مِنهـا"14.


12- البقرة، 283.

13- المؤمنون،8.

14- عوالي اللآلي، ج1، ص325.

189


158

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 2- ولاية أهل البيت عليهم السلام: في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلامأنّه قال: "إنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة بعدهم... ومن أقرّ بولايتهم، ولم يدعّ منزلتهم منّي ومكانهم من عظمتي، جعلته معهم في روضات جناني، وكان لهم فيها ما يشاؤون عندي، وأبحتهم كرامتي وأحللتهم جواري وشفّعتهم في المذنبين من عبادي وإمائي، فولايتهم أمانة عند خلقي..."15.

 

 

أعمال الإنسان: ومن أنواع ومصاديق الأمانة أيضاً عمل الإنسان، كما روي عن الإمام علي عليه السلام، حيث قال: "وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَة، وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمـانَة"16.

 

4. كتمان السرّ: وهو يعتبر من أعظم مصاديق حفظ الأمانة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المجالس بالأمانة، وليس لأحد أن يُحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا بإذنه، إلّا أن يكون ثقة أو ذكراً له بخير"17 ـ لأنّ في المجالس قد تُذكر أسرار تخصّ المجلس. وورد في الحديث النبوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر (رضي الله عنه): "يـا أبـا ذر، المَجـالِس بِالأمـانَةِ، وإفشَـاءِ سرّ أَخِيكَ خِيـانَة"18. وغيرها من المصاديق والعناوين الأخرى...

 

آثار الأمانة والخيانة

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي مسألةُ الاعتماد وكسب ثقة الناس. ونعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبنية على أساس التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع لحلّ المشاكل والتخفيف من تحدّيات الواقع والظروف القاهرة، والاستفادة الأفضل من مواهب الحياة والطبيعة. ولهذا فإنّ مسألة الثقة والاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي, لأنّه لولا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى مكان لا يطاق ولا يحتمل العيش فيه، وسوف يسود قانون الغاب، وبدلاً من أن تتكاتف القوى والطاقات على مستوى بناء المجتمع والتصدّي لتحدّيات الظروف القاهرة، فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك في الجهة المقابلة لتعميق الأنانيّة والانقسام في المجتمع. وفيما يلي نذكر بعض الآثار الطيّبة للأمانة:


15- بحار الأنوار، ج11، ص172.
16- بحار الأنوار، ج32، ص362.

17- الكافي، ج2، ص660.

18- وسائل الشيعة، ج12، ص307.

190


159

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

1- المحبّة: الأمانة سبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين الأفراد، في حين إنّ الخيانة تُعتبر عاملاً للكثير من الجرائم والحوادث السلبيّة وأشكال الخلل الاجتماعي. وإذا طالعنا وثائق المحاكم والسجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم مردّه إلى الخيانة. وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ، فَإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ ابتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ"19.

 

2- الصدق: الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث، كما إنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، والأمانة نوع من الصدق في العمل، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك وتُعبّران عن وجهين لعملة واحدة، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "الأمـانَةُ تُؤدِّي إِلى الصدقِ"20، وفي حديث آخر قال عليه السلام: "إذا قَويَت الأَمـانَةُ كَثُرَ الصّدقُ"21.

 

3- الهدوء والسكينة: عندما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكريّة والروحيّة, لأنّ مجرّد احتمال الخيانة سيكون مدعاة للقلق والخوف عند الناس، بحيث يعيشون حالة من الارتباك في علاقاتهم مع الآخرين، ومن الخطر المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية. ومن المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة والموحشة عسير جدّاً وقد يورثهم الكثير من الأمراض الجسميّة والروحيّة.

 

إفشاء السرّ خيانة

حفظ السرّ هو من الخصال الإلهيّة، ومن أوصاف المؤمنين الكاملين، وعلامة العقل ومنبع الخيرات. الإنسان الذي يحفظ السرّ وفيّ وأمين، وهو يحفظ منزلته بحفظ الأسرار، وهو يحترم أعراض ونواميس الآخرين. من هذه الجهة يؤكّد الإسلام على حفظ الأسرار، فعن


19- وسائل الشيعة، ج15، ص254.

20- ميزان الحكمة، ج1، ص215.

21- م.ن.

191


160

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 أمير المؤمنين عليه السلام: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ"22. ويقول عليه السلام في مكان آخر: "كن بأسرارك بخيلاً"23.

 

إنّ دور حفظ الأسرار في حياة الإنسان حيويّ، بمنزلة دمه الذي يجري في عروقه: "سرّك من دمك, فلا يجرينّ من غير أوداجك"24. يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّه كما إنّ جريان الدم في البدن موجب لاستمرار الحياة، فإذا أُريق إلى الخارج أدّى بالإنسان إلى الموت، فإنّ أسرار الإنسان أيضاً كذلك، إذا خرجت وسارت في غير مجراها الطبيعي، فإنّ حياة الإنسان ستتزلزل وستكون عرضة للخطر الجديّ.

 

فبنفس المقدار الذي يؤكّد فيه الإسلام على حفظ الأسرار وكتمانها، فإنّه في المقابل أيضاً نهى بشدة عن إفشاء الأسرار، وعدّها من مصاديق الخيانة، كما عن أميرالمؤمنين عليه السلام: "ولا تذع سرّاً أُودِعْتَه، فإنّ الإذاعة خيانة"25. وفي بعض الروايات عُدّ إفشاء الأسرار مشاركة في قتل النفس البريئة والأنبياء الإلهيّين، وعواقب هذا العمل كما هو معروف العذاب الأليم في نار جهنّم. فعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ26، قال عليه السلام: "أما والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولكن أذاعوا سرّهم، وأفشوا عليهم، فقُتلوا"27.

 

دوافع وأسباب الخيانة

عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث عن الأمانة والخيانة، يقول: "مَنْ اُؤتُمِنَ عَلى أَمـانَة فَأَدّاهـا، فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَة مِنْ عُقَدِ النّارِ، فَبـادِرُوا بِأَداءِ الأَمـانَةِ، فَإنَّ مَنْ اُؤتِمِنَ عَلى أَمـانَة وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِئةَ شَيطان مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ, لِيُضِلُّوهُ وَيُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه، إلّا مَنْ عَصَمَ اللهُ عَزّ َوَجَلَّ"28. إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكيّاتهم من موقع الخيانة ويفضّلونها على الأمانة، هم في الحقيقة مبتلون بضيق الأفق، ولا يفكّرون سوى في


22- سفينة البحار، ج7، ص436.

23- شرح غرر الحكم، ج4، ص610.

24- بحار الأنوار، ج75، ص71.

25- شرح غرر الحكم، ج4، ص215.

26- آل عمران، 112.

27- الكافي، ج2، ص371.

28- وسائل الشيعة، ج19، ص69.

192


161

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 مصالحهم الشخصية، ويسعون وراء المنافع العاجلة فحسب, لأنّ الخيانة توفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة، وتُحقّق لهم بعض المصالح الفرديّة على حساب الصدق والوفاء والسمعة الطيّبة، من دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستويين الدنيوي والأُخرويّ. فهؤلاء وبسبب ضعف الإيمان، وعدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً، ووعدت من يعيش الأمانة والصدق منهم بالثواب العاجل والآجل، فإنّهم قد سقطوا في شراك الخيانة وفخاخ الشيطان. وفيما يلي نذكر بعض وأهم دوافع وأسباب الخيانة، وهي:

1- ضعف الإيمان، وتزلزل عقيدة التوحيد الأفعالي لله تعالى، وحاكميته المطلقة على جميع الأشياء.

2- غلبة الأهواء والشهوات، وحبّ الدنيا.

3- تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان، والخوف الدائم من الوقوع في الفقر.

4- عدم التفكير الجدّي في نتائج وعواقب الخيانة، وآثارها الوخيمة على الحياة المادّيّة والمعنويّة للإنسان.

5- السعي المستمر والعمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق غير مشروعة، بسبب الكسل وحبّ الراحة وضعف الإرادة.

 

طرق الوقاية والعلاج

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنّى إلّا في ظلّ التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي, لأنّ أحد أهمّ جذور وأسباب الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة الله تعالى ورازقيّته. لذا فإنّ تقوية دعائم الإيمان في القلب، وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على الله تعالى، والثقة بوعده، تُعدّ الركيزة والدعامة الأولى لتصحيح هذا الخلل في النفس.

 

من جهة أخرى من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورّط بالخيانة، التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وما يترتّب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق، وبالتالي الابتلاء بالفقر الذي كان يسعى بالأساس إلى الفرار منه.

193


162

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 ومن المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج والعواقب السلبيّة لسلوك طريق الخيانة، سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها، كأن يتأمّل ويتفكّر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ"29، أو أن يستمع إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يتحدّث عن بعض عناصر الشرّ وعوامل الانحراف، حيث يقول: "أَربَعٌ لا تَدخُلِ بَيتاً وِاحدَةٌ مِنهُنَّ إلّا خَرَبَ، وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ، الخِيانَة والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنـا"30.

 

وفي النهاية، يبقى أنّ العلاج النهائي لهذه الآفة يكمن بأخذ المبادرة والقرار، بقوّة العزم والإرادة على ترك هذه السجيّة القبيحة، من خلال المخالفة الدائمة للنفس، وإرغامها على أفعال الصدق والأمانة فترة من الزمن، حتى تُقتلع جذور هذه الآفة من النفس بالصبر والتقوى الكاملة والتوكّل على الله، على القاعدة التي سنّها أمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي عليه السلام، عندما قال: "وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى, لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق"31.


29- مستدرك الوسائل، ج14، ص15.

30- بحار الأنوار، ج72ـ ص170.

31- م.ن، ج33، ص474.

194


163

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 المفاهيم الرئيسة

1- الأمانة هي رأس مال المجتمع الإنساني والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيوية والاُخروية.

2- جميع النعم المادية والمواهب المعنوية الإلهية التي منّ الله بها على الإنسان هي في الحقيقة أمانات أودعها الله لديه.

3- من أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي مسألة الاعتماد وكسب ثقة الناس، لهذا فإنّ لمسألة الثقة دور أساس في تأصيل الصدق والمحبّة والسكينة في المجتمع.

4- بنفس المقدار الذي يؤكد فيه الإسلام على حفظ الأسرار وأوصى بها، فإنه في المقابل أيضاً نهى بشدّة عن إفشاء الأسرار وعدّها من مصاديق الخيانة.

5- دوافع وأسباب الخيانة عديدة ومتنوّعة يأتي ضعف الإيمان واهتزازه في النفس على رأسها، بالإضافة إلى عوامل أخرى كحبّ النفس والدنيا والراحة.

6- تعميق روح الأمانة في النفس لا يتسنى إلاّ في ظل التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي.

أسئلة حول الدرس

1- أعط أمثلة وشواهد من الآيات والروايات تستدل من خلالها على فضيلة الأمانة.

2- للأمانة مصاديق متعدّدة اذكر أربعة منها.

3- لماذا يعتبر إفشاء السرّ من أعظم أنواع الخيانة؟

4- اذكر بشكل مختصر الطريق الأسلم للوقاية من الخيانة.

195


164

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 للمطالعة


مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة

كان في وصيّة النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام أن قال: "يا عليّ أوصيك في نفسك بخصالٍ فاحفظها عنّي، ثمّ قال: اللّهم أَعِنْهُ. أمّا الأولى فالصّدق ولا يَخْرُجَنَّ من فيك كِذْبةٌ أبداً. والثّانية الورع ولا تَجْتَرِئ على خيانةٍ أبداً..."32. توجد في المقام نكتة لا بد من الإشارة إليها، وهي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أوصى بالورع فرّع عليه قائلا "وَلا تَجْتَرِىء عَلَى خِيانَةٍ أبَدَا"، مع أنّ الورع يكون عن كل المحرمات، أو يكون أعمّ من الخيانة. وعليه لا بد من تَفسير الخيانة بمعنى أعم من التفاهم العرفي لها، حتى تتطابق مع الورع، بأن نقول إن مطلق المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع السير إلى الله خيانة، لأن التكاليف الإلهية أمانات للحق سبحانه كما ورد في الآية الكريمة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ33.

 

حيث فسّر بعض المفسرين الأمانة بالتكاليف الإلهية، بل إن جميع الأعضاء، والجوارح والقوى، أمانات للحق المتعالي واستعمالها على خلاف رضا الحق سبحانه، خيانة. كما أن توجيه القلب إلى غير الحق يعدّ من الخيانة. ومن يرجع إلى أخبار المعصومين عليهم السلام المأثورة في ردّ الأمانة والابتعاد عن الخيانة، يدرك حجم اهتمام الشارع المقدس بهذا الموضوع. ويضاف إلى ذلك هو أنّ قبحها الذاتي لا يخفى على أحد، وأنه يجب إخراج الإنسان الخائن من المجتمع البشري، وإلحاقه بأرذل الشياطين. ومن المعلوم أن الإنسان الذي يشتهر بين الناس بالخيانة، تضيق عليه الحياة وتصعب، حتى في هذا العالم أيضاً. إنّ البشر بصورة عامة يعيشون مع بعضهم البعض في ظلّ التعاون والتعاضد حياة سعيدة، ولا يمكن لأحد الحياة بصورة منفردة، إلاّ إذا غادر المجتمع البشري والتحق بالحيوانات الوحشية. ثم إن العجلة الكبيرة التي تدور لتحريك الحياة الاجتماعية، هي اعتماد الناس بعضهم على بعض، فإذا زال الاعتماد وتلاشت الثقة، لما تمكّن الإنسان أن يعيش هنيئاً


32- الكافي، ج8، ص79.

33- الأحزاب، 72.

196


165

الدرس السادس عشر: الأمانة والخيانة

 رغيداً. إن الركيزة الأساسية للاعتماد المتبادل بين الناس قائمة على الأمانة وترك الخيانة، فلا يحظى الخائن بالاطمئنان لدى الناس ويعدّ مارقاً على المدينة وخارجاً عن العضوية للمجتمع البشري وتكون عضويته مرفوضة لدى أصحاب المدينة الفاضلة.34.

 


34- الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث التاسع والعشرون، في بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة.

197


166

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 الدرس السابع عشر:

 

مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 

 

أهداف الدرس

1- يبيّن أهم صفات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام  في كربلاء والتي أهّلتهم ليكونوا من خيرة وأوفى الأصحاب.

2- يتعرّف إلى بعض مواقف الأصحاب المشرّفة في كربلاء كمقدمة للاتعاظ والاقتداء بهم.

3- يذكر كيف يمكن لكل مجاهد أن يسير على نهج هؤلاء الأصحاب ويصل إلى ما وصلوا إليه.

198


167

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 مقدّمة

هم أصحاب سيّد الشهداء الأوفياء، الذين عزموا على الاستشهاد معه، وكانوا نموذجاً بارزاً للإيمان والشجاعة والتضحية. ولهم من الفضل في المحافظة على السلام  والدِّين، ما لا تتّسع هذه الأوراق لبيانه.

 

وقد وردت روايات وأخبار كثيرة في خصالهم وشمائلهم حتى حازوا درجة الصحبة للإمام الحسين عليه السلام, فقد ورد عنه عليه السلام  حين خطب في أصحابه ليلة عاشوراء، وقال ضمن ما قال: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي"1.

 

وكان أن خاطبهم الإمام الصادق عليه السلام  وغيره من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين بالقول: "بأبي أنتم وأمي"، لما لهم من منازل الشرف ودرجاته، ما ربما لم يحصل عليه أحد من الحواريّين من قبل.

 

فالطاعة والتضحية والحبّ والصبر والإيثار، هذه الصفات التي أبدوها يوم عاشوراء، لم نر مثيلاً لها من أيّ واحد من الحواريّين. وحيث إنّ عظمة العظماء تتجلّى وتظهر في الأزمات والصعوبات، فقد ظهر من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في أصعب المواقف ما لم يظهر من غيرهم أبداً. وفيما يلي نستعرض نبذة من أبرز مواقف وصفات بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام  في كربلاء.

 

زهير بن القين، والطاعة الخالصة للإمام عليه السلام ‏

1- اللقاء بالإمام عليه السلام:

في الطريق إلى كربلاء كان اللقاء، وكأنّهما على موعد، الإمام الحسين ‏ عليه السلام متوجّه إلى الكوفة استجابة لطلب أهلها في مواجهته الظلم الأموي المتسلّط على رقاب المسلمين، وزهير بن القين ومعه جماعة من أصحابه في تلك البيداء. جمعتهما هناك الحاجة إلى الماء، لكي


1- الإرشاد، ج2، ص91.

200


168

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 يكمل كلّ منهما طريقه المحدّد قبل اللقاء. ذلك اللقاء الذي حصل‏َ من غير تحضير مسبق، غيَّر من اتجاه السير عند زهير بن القين، بل أبدل نمط حياته العادي بنمط آخر بعيد عمّا كان يخطر على باله أو تهفو إليه نفسه قبل ذلك.

 

لم يكن زهير في مجريات حياته العادية قريباً من الحسين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام  عموماً، كما تذكر المصادر التاريخية، بل كان أقرب إلى عثمان في المودّة، ولهذا كان يكره أن يجتمع مع الإمام عليه السلام في مكان واحد، حتى في ذلك المكان الذي التقيا فيه لم يشأ زهير إجابة الدعوة التي وجّهها إليه الإمام عليه السلام عبر رسول خاص، ولولا تشجيع زوجته لما أجاب الدعوة ولبَّى.

 

2- بداية التحوّل:

ما الذي حصل عندما اجتمع مع الإمام عليه السلام حتى صار مريداً ومحبّاً ووليّاً وناصراً، بشكل أثار الاستغراب ممّن كانوا في صحبته، إذ كيف يتحوّل إنسان بمثل هذه السرعة ويبدّل موقفه؟ لكنّه سرعان ما أجاب عن تساؤلاتهم واستغرابهم بقوله: "غزونا بلنجر، ففتحنا وأصبنا الغنائم وفرحنا بذلك، ولمّا رأى سلمان الفارسي ما نحن فيه من السرور، قال: "إذا أدركتم سيد شباب آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم"2. ثمّ استودع أصحابه وزوجته، فقالت له: "خار الله لك، وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام". وممّا لا شكّ فيه أنّ سلمان رضي الله عنه لا ينطق عبثاً أو لغواً، بل هذا ممّا تلقّاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وزهير يعرف ذلك جيّداً للمكانة القريبة التي كانت لسلمان عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو المقول فيه: "سلمان منَّا أهل البيت"3. وبذلك أدرك زهير رضي الله عنه أنّ الحقّ مع الحسين عليه السلام فلا يعدوه، ولا يمكن للإمام عليه السلام إلَّا أن يكون مع الحقّ كما كان أبوه عليه السلام كذلك، كيف لا، وهو ربيب النبوّة وسبط النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟

 

3- نصرة دين الحقّ:

لم يكن عند زهير شكّ بأنّ الذين هم في الموقع المقابل للإمام الحسين عليه السلام هم أهل الضلال والباطل والنفاق، وهو الذي يعلم من هو يزيد وابن من، ويعلم ما هي الصفات القبيحة

 


2- أعيان الشيعة، ج32، ص71.

3- الاختصاص، ص341.

201


169

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 واللئيمة المجتمعة في ذلك الشخص، الذي يحمل حقد آبائه وأجداده، الذين أنزلهم السلام  وأسقطهم عن زعامتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

 

لقد أدرك زهير أن المسألة المتنازع عليها لم تعد مسألة من يحكم أو لا يحكم، بل المسألة أصبحت متعلّقة ببقاء نفس السلام  كدين والمسلمين كأمّة موحَّدة، ولم تعد الأمور قابلة لأن يقف الانسان عند الآراء الشخصيّة والمواقف المتشنّجة. قد يتمكّن من خلال التفكير الهادى‏ء والعقلانية الواضحة أن يرى الفارق بين المسألة المبدئية والمسألة الشخصيّة، ويقدّم ما هو الأهم والأخطر في نظره، ولهذا سرعان ما فكَّر واتَّخذ القرار ليكون الى جانب الامام الحسين عليه السلام رفيقاً له في الدرب والشهادة.

 

4- الموقف المشرّف:

إنّ ذلك الموقف المشرّف من زهير لجدير بالمسلمين أن يقرؤوه بوضوح، ويتأمّلوا فيه برويَّة وتبصّر، لأنّه موقف الإنسان الذي لا يترك القضايا الصغيرة تأكل في نفسه، بل تُحرِّكه المواقف الكبيرة، ولا يُمكّن آراءه الخاصّة في بعض المسائل والقضايا من أن تسيطر على قلبه وعقله لتمنعه من الوقوف إلى جانب الحقّ وأهله، وهو يعلم تمام العلم من هو الإمام

الحسين عليه السلام وماذا يُمثّل عند الله وفي السلام, فكيف يترك تلك الفرصة في أن يكون إلى جانبه دفاعاً عن الدِّين وعن الأمّة التي يتحكَّم فيها الدعيّ ابن الدعيّ يزيد بن معاوية؟!

ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد من زهير، بل عمل يوم المعركة على إرشاد وهداية أولئك الضآلين الخارجين لقتال الإمام عليه السلام, لعلّ‏َ كلامه وموعظته يؤثّران فيهم ويردعانهم عن غيّهم وضلالتهم، ويعيدانهم إلى جادّة الحقّ والصواب، فوقف أمام ذلك الجيش رافعاً صوته: "إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد, فإنّكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كلّه إلّا ليسمّلان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل"4، فما كان من أولئك الذين أعمى النفاق قلوبهم إلَّا أن سبُّوه وشتموه وامتدحوا عبيد الله بن زياد، إلّا أنّه أجابهم: "عباد الله، إنّ ولد فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين


4- تاريخ الطبري، ج4، ص324.

202


170

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم، وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال له زهير: يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تُحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال له شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

 

قال: أفبالموت تخوّفني؟! فواللهِ، لَلموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته، فقال: عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه, فوالله لا تنال شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قوماً هراقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم، وذبّ عن حريمهم"5.

 

5- الطاعة والانقياد حتى الشهادة:

إلَّا أنّ الإمام عليه السلام عندما رأى من أجوبة القوم لزهير ـ وهو يدعوهم إلى الهدى ـ أنّها لن تردّهم عن الردى، أرسل بطلبه للعودة إلى المعسكر، وقال‏ عليه السلام مع من بعثه لإعادته: "إنّ أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ"6.

وبذلك ذاب زهير بن القين في حبّ الحسين عليه السلام بعد أن أزال من أمام ناظريه الغشاوة التي كانت تقف بينه وبين كونه مع الحقّ وأهله، مع أهل البيت عليهم السلام . ونرى هذا واضحاً عندما استأذن الإمام عليه السلام لقتال القوم، فأجابه الإمام عليه السلام حينها جواب من يريد تثبيت توجّهه وقراره، فقال له: "وأنا ألقاهما على إثرك". فقاتل حتى سقط شهيداً مضرّجاً بدمه، فوقف الإمام عليه السلام عند جسده، وقال: "لا يبعدنّك الله يا زهير، ولعن الله قاتلك لعن الذين مُسخوا قردة وخنازير"7.

 

وهكذا علّمنا زهير بشهادته أنّ الإنسان قادر في اللحظات التي تحتاج إلى اتخاذ القرار الجري‏ء، أن يكون مع الحق بأن لا يجعل للشبهات طريقاً إلى قلبه وعقله، لتمنعه من أن يكون مع الحقّ وأهله، فرحم الله زهيراً، وجزاه خير جزاء المحسنين.


5- تاريخ الطبري، ج4، ص324.

6- م.ن.

7- أعيان الشيعة، ج7، ص72.

203


171

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 حبيب بن مظاهر والحبّ الخالص للإمام عليه السلام

1- الشيخ الجندي:

حبيب بن مظاهر، من وجوه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ومحبّيه ومريديه. تفانى في خدمة أهل البيت عليهم السلام, ووقف المواقف الرساليّة التي تُخبر عن كونه ثابت الجنان، رابط الجأش، قويّاً في دينه وعقيدته. لم يمنعه كِبَرُ السنّ من أن يكون جنديّاً من جنود كربلاء، وشهيداً من شهدائها الكبار. تميَّز بصفاء الإيمان، وشدَّة الحبّ والولاء لأهل البيت عليهم السلام, ووضوح الرؤية التي تجلَّت في مواقفه الكربلائية المتعدّدة النابعة من وعيه وفهمه وإخلاصه، سعياً لتحصيل رضوان الله من الباب الذي يُحبّ الله دخول المؤمن إليه منه، وهو "باب الشهادة الحمراء" التي تحتاج إلى التسديد الإلهي والتوفيق الربّاني.

 

2- أوّل المبايعين والدّاعين لنصرة الإمام عليه السلام:

لقد كان من أوائل الذين بايعوا مسلم بن عقيل، عندما ورد الكوفة لأخذ البيعة لنصرة الحسين عليه السلام, وكان ذلك في دار المختار، وأعلن الولاء والطاعة لسبط النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع أنّ حبيباً لم يكن بحاجة لأن يبايع لإثبات ولائه، إلَّا أنّه أراد أن يُشجّع الآخرين من خلال ذلك، وليُفرح قلب الإمام الحسين عليه السلام بأنّه ما زال على العهد والطاعة، وما زال المحبّ والناصر لآل البيت عليهم السلام . وحبيب لم يكتفِ بأن يكون وحده من قومه مع الإمام عليه السلام, بل سعى إلى استثارتهم ليكونوا إلى جانبه أيضاً لحشد الأنصار والمؤيّدين، لعلمه بأنّ هذه الفرصة لن تتاح ثانية، للقتال مع صفوة الله من خلقه في الأرض. وتمكّن من ذلك أيضاً إلَّا أن الخيانة والنفاق لم يسمحا له بالنجاح في ذلك المسعى الخيّر الذي كان يهدف إليه, فرجع إلى الإمام عليه السلام, وأخبره بما جرى معه مع قومه، فقال‏ عليه السلام عند ذلك: "لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله".

 

3- المواسي لحرائر الرسول:

ومن المواقف المشرّفة جدّاً لحبيب رضوان الله تعالى عليه موقفه في ليلة العاشر من المحرَّم، حيث دخل الإمام الحسين عليه السلام على أخته العقيلة زينب عليها السلام، وكان نافع منتظراً له خارج الخيمة، فسمع العقيلة تقول للإمام عليه السلام: "هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟

204


172

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة" فقال لها الحسين عليه السلام: "والله، لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم إلَّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه"8.

 

لقد أبكى ذلك الحوار بينهما نافعاً، وسرعان ما هرع إلى حبيب دون غيره، ليُطلعه على ذلك، ولينظر فيما ينبغي أن يفعلا ليُطمئنا قلب زينب عليها السلام وقلوب نساء آل البيت عليهم السلام  القَلِقات من الحالة، والخائفات من أن يبقى الحسين عليه السلام وحيداً في الميدان. وسرعان ما تفتَّق ذِهنَاهُما عن أمرٍ فيه لله رضا وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المواساة، ولزينب  عليها السلام وللنساء إذهاب لخوفهنَّ وقلقهنّ‏َ، فاندفع حبيب ينادي: "يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة"، فخرج الأصحاب من خيامهم، وقال لهم ما أخبره به نافع، ثمّ عقّب بقوله: "هلمُّوا معي، لنواجه النسوة ونُطيّب خاطرهنّ‏َ"، فساروا جميعاً حتى وصلوا إلى خيم أهل البيت عليهم السلام, وصاح حبيب: "السلام  عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرّق بين ناديكم"9. عند ذلك خرجن النسوة من حجورهن، وقلن لأولئك الأنصار المحبّين الموالين: "حاموا عن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحرائر أمير المؤمنين عليه السلام". وضجّ‏َ الجميع ساعتئذٍ بالبكاء على المصاب الجلل الذي هم مقبلون عليه.

 

إنّ ذلك الموقف الرسالي المعبّر عن قمّة الحبّ والولاء للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام, هو مفخرة لذلك الإنسان الصابر المواسي، الذي عاش الصفاء والإخلاص والوفاء، فلم يهدأ ولم يسكن حتى أدخل الطمأنينة إلى قلوب نسوة أهل البيت عليهم السلام, لعلمه بأنّ في هذا الأمر رضا لله عزَّ وجلَّ ومواساة للزهراء  عليها السلام في الفاجعة العظمى.

 

4- الشهادة ليست حكراً على الكبار:

أمّا عن عشقه للشهادة، فهذا الموقف الرائع ممّا لا يجد الإنسان وصفاً يُعبّر به عن حالة العشق التي كانت تحملها تلك النفس الكبيرة التوَّاقة لسفك دمها على يد أخبث الخلق، لتحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ. وكيف لا يعشق الشهادة وهو الذائب في حبّ وعشق أهل البيت عليهم السلام


8- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، ص231.

9- م.ن.

205


173

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 الذين لا يُمكن إلَّا أن يكونوا جزءاً لا يتجزّأ من العشق الإيماني بالله سبحانه وتعالى؟ وقد عبَّر حبيب عمّا كان يختلج من ذلك في صدره، في مناسبات متعدّدة أثناء وجوده في كربلاء، فتارة يقول لنافع: "والله لولا انتظار أمره الإمام عليه السلام  لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة"، وأخرى يقول ممازحاً وضاحكاً: "وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ وما هو إلَّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، فنعانق الحور", مجيباً بذلك أحد أصحابه الذي تعجّب من ضحك حبيب في الوقت الذي ينبغي أن تكون الأنفاس فيه محبوسة والأفكار فيه مضطربة ومشوَّشة والأعصاب مشدودة، بينما نجد أنّ حبيباً متشوّق إلى تلك اللحظة التي تتقارع فيها السيوف لتخترق جسده ولترتفع روحه التي لم تعد تُطيق البقاء في هذه الدنيا، بل تريد الانطلاق إلى الله عن طريق الشهادة بين يدي الحسين عليه السلام, لتشكر تلك الروح خالقها على ما وفَّقها من السعادة الأبديَّة للقتال بين يدي سيّد شباب أهل الجنّة.

 

فحبيب ـ على كِبَرهِ في السن ـ لم يترك فرصة الوصول إلى الشهادة تمرّ دون أن يستفيد منها، لكي يرتحل إلى الله شهيداً مخضَّباً بدمائه، مع أنّه عاش حياته مؤمناً ملتزماً وفيّاً لدينه وإمامه, لأنّ السعي للجهاد والشهادة لا يحتكرهما الشباب المجاهدون، بل السلام  فتح الأبواب للشهادة، في أيّ مرحلة من مراحل العمر، طالما أنّ العروق تنبض بالدم، والأجساد تُحرّكها الأرواح المؤمنة الحرَّة من كل استعباد لطواغيت الأرض وشياطين الإنس والجان.

 

"جون" والإحسان الخالص للإمام عليه السلام ‏

1- "جون" المحسن:

في كربلاء الحسين عليه السلام صار كل شهيد من شهدائها معلّماً كبيراً، ورمزاً من الرموز، لأنّ كلّ واحد منهم كان جزءاً لا يتجزّأ من تلك الثورة الرسالية، التي صارت رمزاً أكبر لكلّ الثورات والمجاهدين إلى اليوم، وحتى قيام الساعة.

 

ومن أولئك الشهداء الذين ارتفعوا بالسلام  إلى المقامات العالية واستحقّوا درجة الشهادة عن أهليّة وجدارة، لأنّهم انتصروا على كل عوامل النقص وارتبطوا بالله العظيم، فعرفوا من خلال ذلك أنفسهم، ولو كان الآخرون لم يستطيعوا أن يفهموا منطقهم الذي هو منطق السلام  الإلهي، من أولئك الشهداء العبد "جون" الذي كان في خدمة الإمام الحسين عليه السلام,

206


174

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، ذلك الانسان الذي رافق الحسين عليه السلام فاكتسب منه، وعاش من خلال ذلك في حالة من المحبّة والصدق والوفاء لأهل البيت عليهم السلام, ما لم يتحقّق في الكثيرين ممّن كانوا يزعمون الانتماء إلى ذلك الخطّ والنهج.

 

إنّه نموذج للإنسان الذي قابل المعاملة الحسنة من الإمام عليه السلام بالإحسان، فعبّر بذلك عن نفس كبيرة لا تعرف اللؤم أو الجحود، فلم يتمرّد ولم يتردّد في نصرة الإمام الحسين عليه السلام, عندما رأى أنّ الظرف هو أنسب الظروف الممكنة لكي يُعبّر عمّا كان يجيش في صدره من مشاعر الحبّ والمودّة، بعكس الكثير من الساقطين الذين استسلموا للخوف الذي سيطر على نفوسهم قبل أن تصل الأمور إلى مستوى سفك الدماء وسقوط الشهداء، فعبَّروا بذلك عن شخصيّاتهم المهزوزة والضعيفة، بينما ذلك الإنسان الذي لم يكن أحد يحسب له حساباً لكونه عبداً مملوكاً بنظرهم، يكشف بوقفته المميّزة في كربلاء عن نفسٍ قويّة واثقة تعيش الطمأنينة والثبات، وما ذلك إلَّا بفضل السلام  وبركات الإمام الحسين عليه السلام التي كان يُعاينها هذا الخادم المخلص والأمين.

 

2- الثبات والإقدام:

لقد رأى "جون" الدماء وهي تسيل حمراء قانية من أجساد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام, فكان كلُّ شهيد يسقط يزيده إصراراً كما يتضح من كلماته التي قالها للإمام عليه السلام, فلقد شكَّلت تلك الدماء دافعاً وحافزاً قويّاً للبذل والعطاء. وهكذا وقف "جون" ذلك الموقف المشرّف في كربلاء، ليصبح في مصاف الشهداء العظام مع الحسين الشهيد عليه السلام، وليكون رفيقه في عالم الآخرة في جنان الخلد. وقيمة موقفه وعظمته نابعة من أنّه كان بمقدوره أن يُنقذ نفسه من القتل، وحجّته ودليله معه، فهو عبد لمولاه، وما للعبيد وللقتال؟ فهم مخلوقون للخدمة والقيام بالأعمال التي لا يقوم بها السادة والأحرار، وبالتالي لن يقيم له الجيش الأموي وزناً، إلَّا أنّه مع كلّ تلك المبرّرات ثبت وأقدم طائعاً مختاراً، وهو يرى أشراف القوم أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته يسقطون شهداء على أرض الصحراء اللاهبة، فلماذا يفوّت على نفسه الفرصة النادرة التي لن تتكرّر بنفس الظروف ومع نفس الأشخاص من ذلك الوزن النادر ليكون رفيق دربهم في الآخرة؟

207


175

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 3- الصدق والوفاء حتى الشهادة:

 

وبتلك الروحية، تقدّم من الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه النزول إلى الميدان لقتال ذلك الجيش. إلَّا أنّ الإمام عليه السلام يردّه ردّاً لطيفاً مليئاً بالحبّ والحنان والتقدير، قائلاً له: "يا جون، إنّما تبعتنا للعافية، فأنت في إذن منّي"، فوقع جون على قدميه يُقبّلهما، ويقول: "يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم؟! والله، إنّ ريحي لمنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنّة، فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ وجهي، لا والله لا أُفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم"10. عند ذلك سمح له الإمام عليه السلام بالقتال، فما هي إلَّا برهة حتّى سقط شهيداً مضرّجاً بدمه فداءً لدين الله وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضرب بذلك مثلاً للوفاء والصدق وتفوَّق على كل أولئك الذين تخلَّفوا عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وهم يزعمون أنّهم من أشراف المسلمين وعليّة القوم، بل ويزايدون على الآخرين بسبب بعض الاعتبارات الواهية التي أسقطتها دماء "جون" في كربلاء.

 

"الحرّ" قصّة توبة وشهادة

1- الضمير الحيّ:

إنّه الضمير الإنساني الذي يثور مجدّداً، ويتّقد عند تعاظم الجرائم وتفاقم الجرائر، إنّه الضمير الإنساني الحيّ، الذي صحا من ثبات الغفلة وغشاوتها، لينصر دين الحقّ وأولياءه قبل فوات الأوان، وليختم درب حياته بشرف الشهادة العزيز. إنّه الحرّ الرياحي الذي مثّل عنوان التوبة والرجوع إلى جادّة الصواب. إنّه ذلك الرجل الضرغام، المعروف بشجاعته وإقدامه، الذي أسراه عبيد الله بن زياد في ألف فارس إلى الإمام الحسين عليه السلام عندما بلغه خبر نزوله عليه السلام الرهيمة، فأجحف في حقّ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأوا منه الظلم والجور، ولكنّه ما إن بان له الحقّ وأهله حتّى اندفع نحو إمام زمانه منيباً تائباً.

 

2- التوبة النصوح:

فالحرّ بن يزيد الرياحي، لمّا رأى أنّ القوم قد صمّموا على قتال الإمام الحسين عليه السلام, قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، شوهد فجأة وهو يرتعد وقد تغيّر حاله، حتى

 


10- بحار الأنوار، ج45، ص22.

208


176

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 ظنّ الناس أنّه يهاب الحرب. إلّا أنّ الحرّ أخبر الناس من حوله أنّه ما خشي الحرب يوماً، ولكنّه صار على مفترق طريق الجنّة والنار، وأنّه يرى نفسه مخيّراً بينهما، ولا يدري ما يصنع، أيسلك هذا الطريق أم ذاك؟!

 

إلى أن حسم الحرّ أمره واتّخذ قراره النهائي، بأن يسلك طريق الجنّة، فتنحّى بفرسه عن القوم، وهم في غفلة عمّا أضمر وما هو عاقد العزم عليه، حتى بلغ موقعاً يتعذّر عليهم ردعه عن التقدّم، فضرب فرسه، وجاز عسكر عمر بن سعد إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام, وقد قلب درعه إعلاناً عن أنّه ما أتاهم محارباً، بل طالباً الأمان. حتى وقف بين يدي الإمام الحسين عليه السلام, وقال: "اللهمّ، إليك أنيب فتب علي, فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك، يا ابن رسول الله، هل لي من توبة؟ قال: نعم، تاب الله عليك"11.

 

3- الحياء ولحظات الشهادة:

وقبول الإمام الحسين عليه السلام  لتوبة الحرّ يكشف لنا عن بعض جوانب وأهداف حركة الإمام الحسين عليه السلام, وهو فسح المجال أمام الناس للرجوع مجدّداً إلى جادّة الحقّ وصراط الله المستقيم.

 

فالإمام لم يبادر بالأصل إلى هذه الحركة إلا طلباً لهداية الناس وإصلاح حالهم، لذا فإنّه كان سيقبل التوبة من عسكر ابن سعد جميعاً لو أرادوا التوبة بحقّ، لذا فإنّ الحرّ ما إن سمع جواب الإمام الحسين عليه السلام  حتى تنفّس الصعداء، واستبشر بحسن العاقبة بعد طول تردّد ومجاهدة. وللهفته ومسارعته إلى جبران ما قد بدر منه استأذن الحرّ الإمام عليه السلام  مباشرة لقتال جيش عمر بن سعد دون تردّد أو تأخير. وعبثاً حاول الإمام استمهاله ليمكث قليلاً ثم يمضي لمقصده، إلَّا أنّ الحرّ لم يصبر على المكوث لحظة واحدة ورجّح أن يأذن له الإمام عليه السلام بالانصراف، فقد تمكّن منه الخجل وغلبه الحياء، لِمَ تسبّب به من إرعاب لقلوب أولياء الله وأولاد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يحتمل أن يبقى لحظة واحدة في مجلس الحسين بن علي عليهما السلام, فمضى وما هنأ عيشه حتى رأى نفسه في محضر الإمام عليه السلام وبه رمق من الحياة والإمام عليه السلام يمسح التراب عن وجهه، ويقول: "أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرُّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة".

 

 


11- بحار الأنوار، ج45، ص314.

209


177

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 المفاهيم الرئيسة

1- الطاعة والتضحية والحب والصبر والإيثار الذي أبداه الأصحاب في يوم عاشوراء لم نر مثيلاً لها من أي واحد من الحواريين السابقين على مرّ التاريخ.

 

2- ما إن أدرك زهير وعاين أن الحق مع الحسين عليه السلام  وأن المسألة المتنازع عليها لم تعد مسألة من يحكم بل أصبحت متعلقة ببقاء نفس السلام  كدين والمسلمين كأمّة موحَّدة عندها هب ّ لنصرة الإمام عليه السلام  دون أدنى تردّد، حتى استشهد رضي الله عنه.

 

3- حبيب بن مظاهر من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنعه كبر سنّه من نصرة الإمام، بل كان من أوائل الذين بايعوا مسلم بن عقيل في الكوفة، وتميّز بمواقفه لحثّ المؤيدين وحشد الأنصار، وكانت مواقفه المواسية لحرائر بيت النبوة والرسالة علامة فارقة في مواقفه.

 

4- جون خادم الإمام الحسين عليه السلام  الذي لم يكن أحد يحسب له حساباً نموذج آخر للانسان الذي لم يرض إلا بأن يقابل الإحسان بالإحسان، معبّراً بذلك عن نفس كبيرة لا تعرف اللؤم أو الجحود.

 

5- الحر بن يزيد الرياحي مثال الضمير الإنساني الذي يثور مجدداً ويتّقد عند تعاظم الجرائم وتفاقم الجرائر. إنه الضمير الإنساني الحيّ، الذي صحا من سبات الغفلة وغشاوتها لينصر دين الحق وأولياءه قبل فوات الأوان.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هي نقطة التحوّل الأساسية التي دفعت بزهير بن القين إلى نصرة الإمام في كربلاء؟

2- ما هو أهم درس تعلمته من سيرة حبيب بن مظاهر ومواقفه في كربلاء؟

3- أين تكمن عظمة وقيمة موقف "جون" خادم الإمام الحسين عليه السلام؟

4- ما هو الدرس الأساسي الذي تعلّمته من موقف الحرّ بن يزيد الرياحي في كربلاء؟

210


178

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 للمطالعة

كربلاء والمخطّط الشيطاني

جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة السمحاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وجاهد ما جاهد، وتحمَّل ما تحمل من الأذى والضيق من جبابرة قومه حتى ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت"، وكانت نتيجة تحمّل كل تلك التضحيات أن فتح الله أمام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الافاق الرحبة انطلاقاً من المدينة المنوّرة التي قامت فيها النواة الأولى والركيزة الأساس لدولة السلام, ثم توالت الفتوحات، فتمّ‏َ فتح مكة وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية عصر عبادة الأوثان، وبداية عصر العبودية لله وحده سبحانه وتعالى.

 

إلاَّ أن مجريات الأمور بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تحصل بالطريقة التي أرادها صلى الله عليه وآله وسلم مما سمح لبعض الخلل أن يتسرّب إلى حياة المسلمين، وهم ما زالوا في بدايات معرفتهم بهذا الدين حيث تمكَّن البعض ممَّن كان قد دخل السلام  ليحقن دمه وليحفظ مصالحه كأبي سفيان ورهط من عشيرته الذين ما عرف الإيمان طريقاً إلى قلوبهم وسبيلاً إلى عقولهم، وإنما دخلوا فيه لاتخاذه وسيلة لعلَّهم من خلال ذلك يتمكنون ولو بعد حين من الانتقام من هذا الدين الذي أنزلهم من مقاماتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

 

وتشاء الظروف كما هو مخطط لها أو كما جرت انذاك بأن يتسلَّم معاوية خلافة المسلمين، وهو من هو، يحمل ثارات رهطه ضد السلام  ويتحيَّن الفرصة تلو الفرصة للوصول إلى ذلك، فقتل أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام, ولاحق كل أتباع أمير المؤمنين عليه السلام  في كل مكان، وابتدع سب أمير المؤمنين عليه السلام  من على منابر السلام  لتركيز ذلك في أذهان الأجيال السلام ية، كل ذلك كمقدّمات ضرورية لنيل مراده الأقصى وهو إعادة الناس إلى الجاهليَّة وزمن عبادة الأوثان والأصنام وإعادة أمجاد بني أميَّة الغابرة.

 

ويُشرف معاوية على الموت، والهدف لم يتحقق، مع أنه قام بخطوات كبيرة على هذا الصعيد، فأخذ البيعة من رؤوس الصحابة والتابعين لولده الفاسق الفاجر ليطمئن إلى الخليفة الذي يكمل تنفيذ المخطط الشيطاني الجهنمي الذي قطعوا شوطاً بعيداً للوصول


211


179

الدرس السابع عشر: مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء

 إليه. وهكذا تسلَّم يزيد من موقع فسقه وفجوره وتهتّكه واستهتاره بالسلام  وأحكامه مركز الخلافة السلام ية، ومع هذا سكتت الأمة التي لم تكن تشعر بالخطر على دينها ومقدّساتها، لأن يزيد من موقعه المنحرف ذاك كان جاهزاً للوصول إلى المدى الأبعد في مخالفته للطريقة السلام ية التي ينبغي أن يكون عليها الحاكم المسلم، وعلى عكس والده الذي كان يراعي ولو جزئياً بعض المظاهر التي توحي للمسلمين بأنه لا يخالف حكم السلام .

 

إلى هنا وصلت الأمور، فالخطر على السلام  كبير جداً وهو قريب، والمجال للمناورة صار ضيقاً لأن يزيد كان يشعر بأن الإمام الحسين‏ عليه السلام  ما زال العقبة الكبيرة التي ينبغي التخلّص منها لكي تستتب له الأمور توصُّلاً إلى هدف الآباء والأجداد. وهنا يطلق الإمام عليه السلام  كلماته المدوية الصارخة التي أعلن فيها رفضه القاطع لاستجابة ذلك الطلب الخسيس الذي يراد منه إعطاء الشرعية الإلهية لمغتصب الخلافة والمستهتر بها وبمقتضياتها "يزيد الفاسق الفاجر" وقال عليه السلام: "إنا أهل بيت النبوَّة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله"12.

 

مما لا ريب فيه أن استشهاد الامام الحسين عليه السلام  أزال الغشاوة عن بصر الأمة وجعلها ترى المؤامرة الأموية على السلام  والمسلمين، فبالتأمل فيما جرى بعد كربلاء، نرى أن الأمّة قد قامت من رقدتها، واستيقظت من سباتها ووعت المخاطر التي كانت تحيط بها، وصار الحسين عليه السلام  ومصيبته في كربلاء على كل شفة ولسان وتناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، ولم تمضِ سنوات قليلة على كربلاء حتى بدأت الثورات تتوالى، واحدة بعد أخرى، وفي كل ثورة كان الحكم الأموي يضعف ويهتز، إلى أن كانت الضربة القاضية التي أزالت حكم أولئك الذين سفكوا الدم الحسيني وإلى الأبد، وكان كل الذين يثورون يرفعون شعاراً واحداً "يا لثارات الحسين". فالثورة الحسينية أحيت السلام  وأبقت له وجوداً في حياة الأمة، وذلك الوجود المبارك الذي ننعم به اليوم ثمرة أساسية وكبرى من ثمرات تلك الثورة الرائدة، التي حمل فيها الحسين عليه السلام  كل التراث الإلهي معه إليها لينشره من هناك مع قطرات دمه ومع كلماته الخالدة التي ما زالت تهدي المجاهدين الثائرين عندما يدعوهم الواجب السلام ي إلى النهوض والقيام دفاعاً عن دين الله.


12- بحار الأنوار، ج44، ص324.

212


180

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 الدرس الثامن عشر:

 

مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 

 

أهداف الدرس

1- يحلّل أسباب ظاهرة قلّة الأنصار ويقدم الأجوبة الصحيحة بشأنها.

2- يذكر أهم العوامل التي كان من المفترض أن ترجّح كفّة الأنصار على المتخاذلين.

3- يبيّن أهم الأسباب التي أدّت إلى خذلان الإمام الحسين عليه السلام وترك نصرته.

214


181

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 ظاهرة قلّة الأنصار في كربلاء

من خطب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء قوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً"1.

 

لعلّ من أجلى ظواهر ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ومن أكثرها حرقة من جهة، وإثارة لسيل من الأسئلة من جهة ثانية، ودلالة على مستوى الهبوط والانهزامية التي مُنيت بها الأمّة أيّام الإمام الحسين عليه السلام من جهة ثالثة ظاهرة قلّة أنصاره عليه السلام وكثرة المتخاذلين عنه.

 

فلو حاولنا الوقوف عند هذه الظاهرة البارزة في أحداث كربلاء، ورمنا التأمُّل فيها، والنظر في الأسباب التي أدّت إليها، لبرزت أمامنا نقاط ونتائج من المفروض أن تكون على خلاف تلك التي وصلت إليها الأمّة آنذاك. فهي كانت نقاط قوّة وفي صالح النهضة الحسينية، ومدعاة لكثرة الأنصار لا لقلّتهم، ولقلّة المتخاذلين لا لكثرتهم، أي على خلاف الواقع المؤلم حينذاك. فما الذي أدّى إلى تغيُّر هذا الواقع بهذا الشكل الذي رأيناه؟!

 

عوامل إيجابية مرجّحة لكثرة الأنصار

ما كان يفترض أن يُرجّح كفّة كثرة الأنصار لا قلّتهم نقاط قوّة عديدة اتسمت بها نهضة الإمام الحسين عليه السلام، أبرز هذه النقاط:

1- نفس حضور الإمام الحسين عليه السلام:

إنّ نفس شخصيّة الإمام عليه السلام المتميّزة جدّاً في المجتمع الإسلامي، وبما تختزنه من أبعاد قرآنية ونبوية، وعمق وتجذّر في الموقعين الديني والاجتماعي للمسلمين، يُعدّ من أهمّ نقاط القوّة التي كان من المفترض أن تكون سبباً لكثرة الأنصار لا قلّـتهم. فقد كان الإمام الحسين عليه السلام في موقع لا يوازيه أحد في شرق الأرض وغربها، ولا تدنو إليه أية شخصية مهما


1- اللهوف في قتلى الطفوف،ص48.

216


182

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 بدت كبيرة ومميّزة. هو سيّد قريش وإمام المسلمين وسنام العرب، وكان عليه السلام يُنبّه دائماً إلى ذلك في مواقع عدّة، لعلّ من أبرزها خطبته عليه السلام يوم عاشوراء، بعد أن ذكّرهم ببعض ما قاله جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أخيه الإمام الحسن عليهما السلام، ثم أردف عليه السلام قائلاً: "فإن كنتم في شكٍّ من هذا أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟..."2.

 

2- وضوح أهداف النهضة وأحقيّتها:

من نقاط القوّة في حركة الإمام الحسين عليه السلام أيضاً أنّ أهداف الثورة الحسينية كانت معلنة، وشعاراتها التي رفعتها ونادت بها كانت واضحة وصريحة، وهي تنطلق من عقيدة الأمّة ودينها، وتهدف إلى عزّة المسلمين وقوّتهم، وإنقاذهم من ظلم الأمويّين وإجحافهم واستئثارهم بحقوق الأمّة وخيراتها. وقد كانت شعاراتها هي نفسها شعارات الهدى والقرآن ونهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وسنّته. وقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام كلّ ذلك، كلّما سنحت له فرصة، وذكر بعضها في أول بيان تركه في المدينة: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي صلى الله عليه وآله أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"3.

 

3- عامل الإيثار والتضحية منذ البداية:

لم يكتفِ الإمام الحسين عليه السلام بدعوة الناس إلى اتخاذ الموقف الذي يُمليه عليهم دينهم وانتماؤهم لنبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم جالساً في بيته، تاركاً الناس في المواجهة، كلّا، بل ألقى عليه السلامبنفسه بأهله ونسائه وعياله في ساحة التحديّ لظلم الأمويّين وطغيانهم، وهذا من شأنه أن يُثير العواطف الإسلامية النبيلة، ويُحرّك عوامل الشمم والإباء والغيرة على الدِّين في نفوس المسلمين، ويوقد نيران الغضب الرسالي الهادف في ضمائر الأمّة ومواقفها: "ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر"4.

 


2- بحار الأنوار، ج54، ص7.

3- م.ن، ج44،ص330.

4- بحار الأنوار، ج45، ص9.

217


183

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 4- وجود الوقت الكافي للدعوة والهداية:

 

إنّ الفترة الزمنية كانت طويلة نسبيّاً، وكانت كافية لمراقبة المواقف، ومناقشة الأفكار، وترجيح الاحتمالات. فقد خرج الإمام من المدينة نهاية رجب 60 للهجرة. وبقي في مكة إلى يوم التروية 8 ذي الحجة، والتقى بالمعتمرين والحجّاج، فأين أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تأييد حركة الحسين عليه السلام؟ وأين أهل مكة، أهل الوحي من ذلك؟ أين أفواج المعتمرين والحجاج؟ أين أهل العيون والمياه التي مرّ بها الحسين عليه السلام في طريقهِ إلى كربلاء وخطب فيهم ورأوه، وعرفوا أهدافه؟ وأين وأين... بل وأين أولئك الجند الذين خرجوا لحربه؟ أين وعيهم؟ وأين ضمائرهم؟ وأين دينهم، وهم يستمعون إلى الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، يوردون الأدلّة، ويقيمون الحجج، ويوضّحون الحقائق؟

 

هذه باختصار أبرز النقاط الإيجابية، التي ينبغي أن تجعل الموقف يميل نحو الإمام الحسين‏ عليه السلام لا ضدّه. وهناك نقاط أخرى، تصبّ في هذا الاتجاه. إذن المسألة بحاجة إلى تأمُّل ودراسة، فلماذا خُذل الإمام الحسين عليه السلام ولم يُنصر، وما هي الادّعاءات التي رآها المتخاذلون سبباً لعدم تأييده والنهوض معه؟

 

أسباب الخذلان ومنطلقاته

لقد كان وراء موقف الخذلان هذا، أسباب عدّة ومنطلقات متباينة، ولكن يمكن أن نختصرها، وتظهر لنا من خلال دراستنا لثلاثة نماذج من الذين خذلوا الإمام عليه السلام في كربلاء ولم ينصروه، من خلال بيان الأسباب ووجهات نظرهم ومنطلقاتهم.

 

النموذج الأول: عبد الله بن عمر والخوف

إنّ الذي منعه عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام ليس جهله به، ولا شكّه في شرعية نهضته، وسلامة منطلقاتها. كما لم يكن ظلم الأمويين واستيلاؤهم على مقدرات المسلمين بدون وجه حق خافياً عليه، ولا بعيداً عن فهمه. ولم تُمحَ من ذاكرته تصرُّفات معاوية وأساليبه الجاهلية، في إجبار المسلمين وساداتهم على قبول خلافة ولده الفاسق يزيد.

 

لكن الرجل كان يعيش حالة خوف على ما يبدو وهلع شديدين، فهو لم يُفكّر يوماً بالمواجهة، ولم يخطر على باله أن يقول لظالم كلمة (لا)، فقد كان الجبن والخوف يسيطران عليه بشكل واضح.

218


184

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 قد يكون لذلك سبب أعمق! ولكن سلوكه بقي هكذا مع كل حاكم ظالمٍ ومعتدٍ أثيم، كان يقول إنّه يدخل داره ويغلق عليه بابه، فإذا بايع الناس يزيد بايعه!! كان حريصا على متابعة الأمر الواقع ولو كان واقعاً منحرفاً، لا يرى وجهاً للخروج على ظالم متسلّط على رقاب المسلمين. فلم يكتف بعدم نصرة الإمام الحسين عليه السلام، بل راح يحاول ثني الإمام الحسين عليه السلام عن فكرته، وإقناعه بعدم الخروج على بني أمية، وكان الإمام الحسين عليه السلام يواجهه بلغة أخرى: "اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي"5.

 

ولمّا رأى ابن عمر إصرار الإمام الحسين عليه السلام على المواجهة، ماذا طلب منه؟ لقد طلب منه أن يكشف الحسين عليه السلام له عن بطنه، ليُقبّله في الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يُقبّل الإمام الحسين عليه السلام فيه. يريد التبرُّك بموضع شفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُفكّر بنصرة الإمام الحسين عليه السلام الذي نهض للدفاع عن سنّةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودينه وأمّته. بل كان ابن عمر غير راضٍ عن خروج الإمام الحسين عليه السلام، فعلى الإمام الحسين عليه السلام الصبر وتحمّل الأذى، وعبّر عن ذلك بقوله: "غلبنا حسين بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإنّ الجماعة خير"6.

 

وبقي ابن عمر على موقفه هذا، حتى بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. فلمّا تحرّك أهل المدينة ضدّ الأمويّين في السنة الثانية لحكم يزيد، وكان عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة يقود التحرُّك، كان عبد الله بن عمر يتحرّك بنشاط، إلى هذا الطرف وذاك لمنع التحرُّك، ولتثبيط الثورة وتهدئة الأوضاع لمصلحة الأمويّين!!

 

وحينما صلب الأمويون عبد الله بن الزبير، دخل عبد الله بن عمر على الحجّاج ليبايع عبد الملك بن مروان على يديه، فقال له الحجّاج، إنّ الذي جاء بك هذا المصلوب - أي الخوف من القتل والصّلب - وليس ما تقوله من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"7.

 


5- اللهوف في قتلى الطفوف، ص22.

6- خلاصة عبقات الأنوار، ج4، ص 244.

7- الكافي، ج2، ص20.

219


185

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 النموذج الثاني: عبد الله بن الزبير وحبّ السلطة

هو رجل لم يكن معروفاً بالخوف أو الهلع، على عكس ابن عمر، فهو رجل واجه الأمويّين، ورفض بيعة يزيد، وترك المدينة إلى مكة سالكاً طريقاً ملتوياً حتى وصل إليها. وبقي مواجهاً للأمويّين، حتى كاد يُطبق على حكم العالم الإسلامي آنذاك، ثم دارت عليه الدائرة وقُتل في قلّة حتى صُلب في الكعبة المشرّفة. وهو المصير الذي كان يُحذّره الإمام الحسين‏ عليه السلام منه، ومن أن يُقتل وتُنتهك بقتله حرمة الكعبة. قال له الإمام الحسين عليه السلام: "إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش"8.

 

إذن لم يكن الخوف هو الذي أعاق ابن الزبير عن نصرة الإمام الحسين‏ عليه السلام، بل أمر آخر، إنّه الطموح السياسي، والمجد الشخصي. إنّ لابن الزبير طرحاً خاصّاً به، ومشروعاً ليس لسواه. إنّه يريد الانفراد بالساحة لا أن يُشارك الآخرين، فكيف يكون تابعاً لغيره؟ إنّه يريد أن يكون الأبرز، هو القائد وصاحب المشروع والرأس، لا يهمُّه بقاء الأمويّين أو زوالهم بقدر ما يهمّه موقعه وطموحه ومشروعه، فكان يحثّ الإمام الحسين على الخروج من مكّة، فقد كان أثقل شي‏ء عليه وجود الإمام الحسين عليه السلام فيها، لأنّه عَلِم أنّ الناس لا يمكن لهم أن يوازنوا بينه وبين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أمر كان يعرفه الإمام الحسين عليه السلام، ويعرفه ابن الزبير ويعرفه كل أطراف النزاع، بل عامة الناس كذلك.

 

حينما قرر الإمام الحسين عليه السلام الخروج من مكّة، كان ابن الزبير يقترح عليه البقاء دفعاً لهذه الشبهة! ،ولم يدع الموقف دون أن يكشف عن ذلك الطموح، فقال للإمام الحسين عليه السلام: "أقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر فتُطاع ولا تُعصى" فأجابه الإمام عليه السلام: "وما أريد هذا أيضاً"9.

 

إنّ عداء ابن الزبير للأمويّين، لم يكن على أساس السعي لإنقاذ الأمّة من ظلمهم وجاهليتهم، وبالتالي نصرة الدِّين وأهله، ولو كان هذا هدفه لما تأخّر لحظة عن الانضمام لحركة الإمام الحسين عليه السلام ومؤازرته وتأييده، لأنّ الإمام هو خير من يمكن العمل معه للوصول إلى أهداف الإسلام الكبرى وإنقاذ الأمّة.

 


8- تاريخ الطبري، ج4، ص289.

9- تاريخ الطبري، ج4، ص283.

220


186

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 ولكن أنّى لابن الزبير أن يخطو هذه الخطوة؟ رغباته الشخصية نصب عينيه، وطموحه السياسي القديم ماثل أمامه... لقد وجد في خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة تقريباً لتلك الطموحات. إنّه يريد أن يكون صاحب مشروع خاص لا مشروع تابع لآخر، ولو كان الآخر هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنة.

إنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لا يعني أن تفرغ لابن الزبير ساحة الحجاز، أي مكّة والمدينة حاضرتَي الإسلام المتميزتين فحسب، بل يعني كذلك أنّ الإمام الحسين عليه السلام في طريقه لمواجهة حقيقية مع بني أميّة، وحسب موازين القوى من جهة، وشراسة الأمويين وحقدهم من جهة أخرى، وإصرار الإمام الحسين‏ عليه السلام ومبدئيته من جهة ثالثة، فإنّ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام يكاد يكون أمراً مفروغاً منه.

 

وهذا بحدّ ذاته يوفّر لابن الزبير أجواء مثالية لمواجهة الأمويّين مستغلّاً قتلهم للحسين عليه السلام، وما سيصابون به من ضعف وانكفاء المسلمين عنهم. وكل هذا سيسلّط عليه مزيداً من الأضواء. ولهذا صرّح الإمام الحسين عليه السلام وهو ينظر إلى ابن الزبير وطموحه: "ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وإنّ الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له"10.

 

ولهذا بادر بن عباس إلى ابن الزبير، بعدما عزم الإمام الحسين عليه السلام على الخروج من مكّة، وقال له: "قرّت عينك يا بن الزبير، هذا الحسين خارج إلى العراق ويُخلّيك والحجاز!"11. إذن عبد الله بن الزبير، النموذج الثاني لمن خذل الحسين ولم ينصره، بسبب طموحاته الشخصية ومشاريعه الخاصة.

 

النموذج الثالث: عبيد الله بن الحرّ الجحفي وحبّ الدنيا

وجيه من وجهاء الكوفة، ورجل مرموق فيها، يعرف قدر الإمام الحسين عليه السلام ومنزلته وأحقّية تحرّكهِ. لم يكن بالخائف الرعديد، فهو ممّن سيحمل السيف بعدئذٍ ويبقى مطارداً من قبل الأمويّين، وينتهي أمره بالقتل. كما لم يُعرف عن الجحفيّ هذا طموح شخصي ولا مشروع ذاتي به، يسعى لتحقيقه.


10- تاريخ الطبري، ج4، ص288.

11- الكامل في التاريخ، ج4، ص39.

221


187

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 ولكن الرجل أُصيب من مقتل ثالث، إنّه ابن نعمة، موفور الحال، واسع العيش رغيده، متعلّق بالدنيا ونعمائها، لا يُحبّ الموت، ويكره المواجهة، ويُحبّ أن يبقى بعيداً عن الأحداث لا يُشارك ولا يُعطي ولا يُضحّي، لكي يحافظ على رفاهيّته ونعمته ولذائذه.

 

ماذا يريد الإسلام منه؟ إنّه يُصلي ويصوم ويُزكّي ويؤدّي فريضة الحج، ويعين الآخرين من ذوي الحاجة. ألا يكفي ذلك كله؟ لماذا يُراد منه الحرب والمواجهة والدم؟ وهل الأمر مقتصر على مشاركته أو عدمها؟ وما تراه يمكن أن يفعل في مواجهة واقع فاسد مرير؟ ليبقَ هانئاً في نعمته، مرفّهاً في لذّته، وهو يعبد الله، العبادة الباردة الهادئة، بعيداً عن الصخب والمواجهة وقعقعة السلاح!!

 

وكان عبيد الله بن الحرّ الجحفي هذا مدركاً لسير الأحداث، وهو في قلبها بالكوفة، وراح يستقرئ الوضع ويدرس الاحتمالات، ويقوّم الأوضاع. فهذا مسلم بن عقيل رضوان الله عليه قد قُتل في الكوفة ومعه هاني بن عروة، ولم تنفع مسلم شيعته ولا دفعت عن ابن عروة عشيرته، وهذه الأخبار تُنقل. والمسألة لا تحتاج إلى تفكير كثير وتنظير واسع لمعرفة النتيجة الواضحة، من أنّ الحسين عليه السلام سيصل الكوفة، والمواجهة واقعة، والاصطدام وشيك لا محالة، فماذا يفعل الجحفي وهو في الكوفة، أمامه خياران لا ثالث لهما، إمّا أن ينصر الإمام الحسين عليه السلام ويقوم بواجبه الشرعي ويؤدّي وظيفته الرسالية، وهذا يعني أنّه سوف يُقتل، وهو المتعلّق بالحياة ونعيمها، وإمّا أن لا ينصر الإمام الحسين عليه السلام أو يكون مع أعدائه، وهذا يعني الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة؟

 

إذن الأفضل هو الهرب، وترك الساحة والنأي عن الأحداث، ومتابعة الأخبار من بعيد، حتى يتبين الموقف، وتنجلي الغبرة... وهكذا قرّر ابن الحرّ الجحفي ترك الكوفة واللجوء إلى البادية. ونصب فُسطاطاً كبيراً، وركز عند بابه رمحاً، يشير إلى أنّ صاحب الفُسطاط كريم وشجاع! ونأى عن الطريق العام إلى أعماق الصحراء غرب الكوفة ولم يعلم بالتغيّرات التي حدثت بعده.

 

حينما تحرّك الحرّ بن يزيد الرياحي ومعه ألف رجل بأمر من عبيد الله بن زياد، ليمنعوا الحسين عليه السلام وركبه، ومعهم الحرّ وجيشه، سلكوا طريقاً بعيداً عن طريق الكوفة وتياسروا الطريق، أي باتجاه الغرب، حتى صار طريقهم على المكان الذي اختاره عبيد الله بن الحرّ

222


188

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 الجحفي ونزل فيه، وظنّ أنّه سيكون فيه بمنأى وبعدٍ عن الإمام الحسين عليه السلام وحركته وركبه. فلمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام ذلك الفُسطاط، سأل عن صاحبه، فقيل: هو عبيد الله بن الحرّ الجحفي، فتعجّب الإمام الحسين عليه السلام من وجوده في هذا المكان النائي، واختار عليه السلام من أصحابه من يكون رسولاً إليه، وهو ابن عمه الحجّاج بن مسروق الجحفي، الذي ما أن دخل خيمة ابن الحرّ، حتى بادره الأخير عمّا جاء به إلى هنا وما وراءه.

 

فقال له الحجّاج: جئتك بخير الدنيا والآخرة. إنّهما الوعي وعمق النظر اللذان انطلق منهما الحجّاج بن مسروق الجحفي، الذي كان يُعرف بمؤذّن الحسين عليه السلام، فانتبه له عبيد الله وقال: وما ذاك؟ قال: هذا الحسين يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجرت، وإن قُتلت استشهدت. وهما الخياران اللذان هرب منهما عبيد الله من الكوفة بالأصل، فهو لا يريد القتال ولا يريد الموت، فوقع هذا الخبر عليه كالصاعقة، حيث إنّه قد رتّب أمره وخطّط على أن يكون مراقباً للأحداث من بعيد، وفي سلام وأمن، فإن كانت الدائرة للأمويّين لم يكن مشاركاً لهم في قتل الحسين عليه السلام، وإن كانت الدائرة للحسين عليه السلام جاءه مؤيّداً وناصراً. فقال عبيد الله بن الحرّ: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلّا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن يراني الحسين ولا أراه.

 

هكذا أفصح الرجل عن نظرته وموقفه. ورجع الحجّاج إلى الإمام الحسين عليه السلام وأخبره بمقالة ابن عمه، فما كان من الحسين عليه السلام إلّا أن مشى إليه بنفسه في جماعة من أهل بيته وأصحابه.

 

فالإمام الحسين عليه السلام صاحب رسالة، وهو لا يبالي أن يكون السبّاق والمبادر. دخل عليه الفُسطاط، فنهض له ابن الحرّ مرحّباً به ومستقبلاً، ووّسع له عن صدر المجلس. وقد نقل ابن الحرّ كيف كان ذلك اللقاء: "ما رأيت أحداً قطّ أحسن من الحسين عليه السلام، ولا أملأ للعين منه، وما رققت على أحد من قبل رقّتي عليه حينما رأيته يمشي والصبيان حوله"12.

 

فهل غيّر ابن الحر موقفه مع هذه الهيبة للإمام الحسين عليه السلام، وهذه الرقّة والتعاطف مع أطفاله؟ ولكي يؤخّر الموضوع الذي جاء الإمام الحسين لطرحه معه، راح يسأل الإمام الحسين عليه السلام عن سواد لحيته، وهل هي من سواد أو خضاب، وهل ذلك الموقف مناسب


12- أبصار العين في أنصار الإمام الحسين، ص152.

223


189

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 لطرح هكذا استفسار، بعيد كل البعد عمّا جاء لأجله الإمام عليه السلام؟ فأجابه الإمام الحسين عليه السلام مختصراً: "يا ابن الحرّ، عجّل عليّ الشيب". ثم إن الإمام الحسين عليه السلام حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا ابن الحرّ إنّ أهل مصركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم فقدمت... "13.


فألقى ابن الحرّ معاذيره الواهية فحرم نفسه السعادة والفوز بنصرة سبط الرسول، قائلاً: والله إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً؟

 

فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذه الملحقة والله ما طلبت عليها شيئاً إلا لحقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته فهي لك. ولكن ما قيمة فرسه عند الإمام؟ فردّ عليه قائلاً : "ما جئناك لفرسك وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك، ولم أكن بالذي أتخذ المضلّين عضداً، وإنّي أنصحك إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلّا أكبّه الله في نار جهنّم"14. فأطرق ابن الحرّ برأسه إلى الأرض وقال بصوت خافت حياء من الإمام: أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله تعالى. وهكذا ترك ابن الحرّ نصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وندم لاحقاً أشدّ الندم ولكن في وقت لم يعد ينفع فيه الندم.

 


13- من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام، البحراني، ص186.

14- م.ن.

224


190

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 المفاهيم الرئيسة

1- هناك عدّة عوامل كان من المفترض أن ترجّح كفّة الأنصار على المتخاذلين منها؛ نفس وجود شخص الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، بالإضافة إلى مقبولية أهداف الثورة عند

الجميع، وعامل الإيثار بحيث إن الإمام بدأ بنفسه وأهله أولاً، وأخيراً وجود الوقت الكافي للدعوة والهداية إلى الحق.

 

2- انتشار الخوف والهلع الشديدين، بالإضافة إلى الجبن وعدم التفكير بالمواجهة من الأصل، عوامل كلها أدت ببعض الناس إلى ترك نصرة الإمام عليه السلام وتجنّب حتى الالتقاء به.

 

3- الطموح السياسي، والمجد الشخصي، وحبّ السلطة والجاه كانت من أهم الأسباب التي دفعت ببعض الناس أيضاً إلى خذلان الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كما كان حال عبدالله بن الزبير.

 

4- صنف آخر من المتخاذلين كان ابن نعمة، موفور الحال، واسع العيش رغيده، متعلّق بالدنيا ونعمائها، لا يحبّ الموت، ويكره المواجهة، ويحبّ أن يبقى بعيداً عن الأحداث لا يشارك ولا يعطي ولا يضحيّ، لكي يحافظ على رفاهيته ونعمته ولذائذه الدنيوية.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- لخّص أهم العوامل التي كان من المفترض أن ترجّح كفّة الأنصار على المتخاذلين في كربلاء.

2- أين تكمن مشكلة عبد الله بن عمر والتي حرمته من نصرة الإمام في نهاية المطاف؟

3- ما هو الدرس الذي تعلمته من سيرة وموقف عبد الله بن الزبير في كربلاء؟

4- ما هو العامل الأساسي الذي حرم عبد الله بن الحر الجحفي من نصرة الإمام؟

 

 

225


191

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 للمطالعة

موقف أهل الكوفة

"إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضرَّ الجناب وأينعت الثمار وأورقت الأشجار أقدِم إذا شئت فإنما تُقدم على جندٍ لك مجنَّدة".

هذه الرسالة كانت آخر ما وصل إلى الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة، وتعبّر عن مدى استعدادهم لنصرته عليه السلام والقتال تحت رايته ضد يزيد بن معاوية الذي تسلَّم السلطة والخلافة. وقد بلغ مجموع الرسائل الواصلة إليه منهم اثني عشر ألف رسالة كما يذكر أغلب المصادر الإسلامية، ومنها ما كان يعبّر عن رأي شخص المرسل، ومنها ما يعبّر عن رأي جماعة، ما يعطي انطباعاً كافياً بأن الرأي العام في الكوفة كان يميل بنسبة كبيرة لصالح الإمام عليه السلام، وأن هناك حالة من الانفصال والانقطاع بين أهل الكوفة وبين النعمان بن بشير والي الأمويين عليها.

 

إلاَّ أن الإمام عليه السلام لم يكن مطمئناً كلياً لذلك، وأراد أن يحصل على اليقين من نصرة الكوفيين فكتب رسالة جوابية إليهم انتدب لحملها ابن عمه وثقته "مسلم بن عقيل" لكي يطَّلع على الأوضاع عن قرب. ومع دخول مسلم الكوفة صار الأتباع المخلصون يتّصلون به سراً لتهيئة القوة الكافية للتخلُّص من ابن زياد. وفي هذه الأثناء استطاع ابن زياد وعبر جواسيسه معرفة الدار التي يختبى‏ء مسلم فيها وهي دار "هاني بن عروة" فأرسل في طلبه ودار بينهما حوار كانت نتيجته أن حبس ابن زياد "هانياً" عنده، ما دفع مسلماً رضي الله عنه إلى أن ينظّم صفوف أنصاره الذين بلغوا أربعة آلاف ليهاجم قصر الإمارة. وفعلاً جرت محاصرة ذلك المكان الذي تمترس فيه ابن زياد وكاد أن يتحقق الهدف، لولا الغدر والخيانة والنفاق الذي جُبِلَ عليه أهلها ما أدى إلى إنقاص ذلك العدد الكبير إلى ثلاثمائة فقط. وهذا ما دفع كما تجمع المصادر بالرجل أن يأخذ ابنه والزوجة تأخذ زوجها والأم ولدها، كل ذلك خوفاً من التهديدات التي أطلقها ابن زياد وجلاوزته، وبذلك تفرَّقت الناس عن مسلم رضي الله عنه، فبقي معه ثلاثون رجلاً صلَّى فيهم في مسجد الكوفة وبعد الصلاة لم يبق معه إلاَّ ثلاثة فقط، ثم وصل الأمر إلى أن

226


192

الدرس الثامن عشر: مواقف وصفات المتخاذلين في كربلاء

 صار وحيداً فريداً لا يجد من يدلّه على الطريق الذي يتوجّب عليه سلوكه. وهذه التطورات كلها أتاحت لابن زياد الفرصة الثمينة للبحث عن مسلم واعتقاله ثم قتله رضوان الله تعالى عليه، بعد أن حاول مرات ومرات أن ينهض بأولئك الغادرين المنافقين الذين نكثوا البيعة وخانوا العهد. وقد عبَّر مسلم عن المرارة التي كانت في فؤاده بقوله: "اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا وكذَّبونا". وقد صدق الشاعر الفرزدق الذي التقى الإمام الحسين عليه السلامفي الطريق إلى الكوفة عندما أجابه بعد أن سأله عن خبر الناس في الكوفة "قلوبهم معك، والسيوف مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء" فقال له الإمام عليه السلام: "صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن".

 

إن ذلك الموقف هو الذي أعطى الفرصة لبني أمية لقتل الحسين‏ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه وبمشاركة منهم بل بأيديهم أيضاً عندما رضوا لأنفسهم عار الدنيا وذل الآخرة بنفاقهم وجبنهم وخضوعهم للظلم والظالمين وحبّهم للحياة وتفضيلها على القتل في سبيل الله بين يدي سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

لذلك، فإن موقف أهل الكوفة ينبغي أن يحذر من الوقوع في مثله المجاهدون المؤمنون لأنه موقف المتخاذلين الجبناء الذين لن يحصلوا على ما يأملون بنفاقهم وجبنهم لا في الدنيا ولا في الاخرة، تماماً كأهل الكوفة الذين غدروا بالحسين عليه السلام فاستحقوا غضب الله بسبب مرضاة المخلوق حفاظاً على دنيا لم تدم لهم بل لم يحصلوا عليها بالأصل.

227


193

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الدرس التاسع عشر:

إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 

 

أهداف الدرس

1- يشرح أهمية الإمامة ودورها الحقيقي.

2- يبيّن الأسباب التي أدّت إلى غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

3- يذكر وظيفة وتكليف الناس تجاه إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

228 


194

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الإمامة استمرار للهداية الإلهية

بعث الله الأنبياء والرسل عليهم السلام من أجل هداية البشر، فحملوا إلى الناس برنامج الإله وشريعته الكفيلة بإيصال الإنسان إلى السعادة الحقيقيّة في الدنيا والآخرة. وكان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم آخر نبيّ يبعثه الله إلى الناس في برنامج شريعة متكاملة هي صراط الله والطريق الوحيد للوصول إليه ولقائه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ1. ولما كانت الرحمة الإلهية الواسعة ولطف الله يقتضيان هداية الناس على الدوام، لأن من آمن بأن رحمة الله الواسعة لا تنقطع أبداً لا يقبل أن ينتهي الدور الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجله، ومن اعتقد بأن لطف الله بالعباد الذي يستلزم هدايتهم وبيان الطريق لهم لا انقطاع له ولا منع، فإنه لا يعتبر أن المهمة التي أرسل من أجلها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد توقفت. ولم يقل أحدٌ من المسلمين إن الناس بعد وفاة النبي لم يعودوا بحاجة إلى الهادي والمبيّن للأحكام والحافظ للشريعة: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾‏2. لذا انطلاقاً من أن الله تعالى لا يترك عباده دون هداية كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ3، فقد أمر الله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتعيين الهادي والحجّة من بعده: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ4، هذا الهادي الذي يمتلك المؤهلات اللازمة لمتابعة أهداف النبي والقيام بالمهمة النبوية والتي يمكن أن نختصرها بالتالي:

• استكمال عملية بيان الشريعة الإسلامية حتى تصل إلى جميع الناس.

• حفظ الشريعة من التحريف.

• قيادة المجتمع وتطبيق برنامج الشريعة الإلهية في المجتمع.


1- الأحزاب، 40.

2- آل عمران، 144.

3- الرعد، 7.

4- المائدة، 67.

 

230


195

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الإمام المعصوم من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يشكّ أحدٌ من المسلمين بأفضليته وعظمته وقدرته على القيام بهذه المهمة المقدسة. ومن بعده كان أولاده المعصومون عليهم السلام: الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجّة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف. وقد قام هؤلاء الأئمة بكل ما يلزم لبيان الشريعة للناس لأنهم عرفوها مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون إعمال رأيٍ أو اجتهادٍ خاص أو تحليلٍ شخصي. وجاهدوا بكل ما أوتوا من قوة لمنع تحريفها وتزويرها، من خلال الإبقاء عليها حيّة مضيئة لمن أراد أن يهتدي. وقد كلّفهم ذلك أن يقدّموا أغلى التضحيات، حتى قتلوا في سبيل الله واستشهدوا وبقي الإمام الثاني عشر حيّاً إلى يومنا هذا.


أسباب غيبة إمام الزمان

في زمن الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري عليه السلام اشتدّ ظلم الحكام الظالمين الغاصبين للخلافة، خصوصاً بعد أن انتشرت الأخبار التي تتحدث عن قرب ولادة الإمام الثاني عشر الذي سوف يهدم عرش الطغاة والظالمين ويعيد الخلافة إلى أصحابها الحقيقيين، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئت ظلماً وجوراً. فسجن جدّ الإمام المهدي الإمام الهادي عليه السلام وأبوه الإمام الحسن العسكري عليه السلام لفترات طويلة، ووضعت مراقبةٌ دقيقة على نسائهما، وكان الهدف من الحصار والمراقبة هو الوصول إلى الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف بهدف قتله والتخلّص منه. ولكن الله تعالى أخفى في نهاية المطاف أمر ولادة الإمام كما فعل مع النبي العظيم موسى عليه السلام، وعندها اقتضت الرحمة والحكمة الإلهية إخفاء الإمام وغيبته للأسباب التالية:

أولاً: للحفاظ على حياته من أيدي الجبابرة والطغاة، فحياته كانت في خطرٍ حقيقي، وكان مصيره سيؤول إلى مصير أجداده فيما لو وقع في أيديهم. ولأنه الإمام الثاني عشر والأخير من سلالة النبوة، وبوفاته تزول الحجة، وتنتفي الهداية فتسيخ الأرض بأهلها، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منا لساخت بأهلها"5،

 


5- بحارالأنوار، ج23،ص37.

 

231


196

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 فكان لا بد من إخفائه بهدف حفظه ليوم الوقت المعلوم كمخلّصٍ للبشرية من الظلم والطغيان. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: ولم؟ قال: يخاف على نفسه الذبح"6.

 

ثانياً: قلّة الناصر، فالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إذا أراد أن يحقّق المشروع الكبير الذي يحمله وهو إقامة الحكومة الإلهية العادلة على الأرض فهو بحاجة إلى الأنصار. والأنصار ينبغي أن يتحلّوا بمواصفاتٍ وخصائص تمكّنهم من حمل المشروع بأمانة تامة. لأنه مشروعٌ طويل الأمد وشديد الصعوبة، وهو يتطلّب استقامةً راسخة، وثباتاً، ويقيناً لا يتزلزل، وصبراً لا تهزّه الصعاب ولا الشدائد. وهذا ما لم يكن متحققاً على ما يبدو. فقد ورد في التوقيع الشريف بخط الإمام الحجة إلى الشيخ المفيد: "ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخرّ عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان"7.

 

ثالثاً: عدم وصول الناس بشكلٍ عام إلى الاستعداد المطلوب لتحمّل حكومته، التي هي حكومة العدل الكلّي. ولهذا لا بد من تهيئة الأرضية اللازمة وإيصال الناس إلى درجة المطالبة الصادقة بمثل هذه الحكومة لأنه لا إكراه في الدين: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ8. فاقتضى الأمر التمهّل والتدرّج حتى تصبح البشرية مؤهلةً لهكذا حدث.

 

ولاية الفقيه إمتداد لولاية إمام الزمان

أمام هذا الواقع كله أمر الله تعالى الإمام بالغيبة والاستتار عن الناس، حتى يصلوا إلى الاستعداد اللائق لظهوره والاستفادة المباشرة من حضوره. ولكن دون أن يؤثّر ذلك على استفادة الناس من وجوده المبارك، فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: "فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور، قال عليه السلام: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب"9، ولا على أداء دوره المطلوب منه في بيان الشريعة والدفاع عنها ولكن بعيداً عن الأنظار، وتهيئة

 

 


6- كمال الدين، ج 2، ص342 .

7- الإحتجاج، ج 2، ص325.

8- البقرة، 256.

9- بحارالأنوار، ج23،ص5.

232


197

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 المجتمع لعصر الظهور وللحكومة الإلهية المطلقة.

 

قلنا سابقاً إن الهدف من وجود الإمام المعصوم ناشئ من الرحمة واللطف الإلهيين، وهما من الصفات التي لا تتبدل. والرحمة الإلهية واللطف بالعباد يستلزمان بقاء من يحفظ الشريعة ويبيّنها للناس ويقود المجتمع نحو الأهداف الإلهية في زمن غيبة الإمام، لأنه من الواضح أن الإمام المهدي لا يقدر على بيان الأحكام بنفسه للناس ولا قيادة المجتمع بشكلٍ مباشر وظاهر لأنه غائبٌ عن الأنظار ومأمور بالاستتار. والقيادة تتطلب تواصلاً ظاهريا ًمع المجتمع وتفاعلاً مباشراً معه، فهل يعقل من اللطيف الخبير في هذه الحالة أن يترك الناس دون أن يبيّن لهم ما يقيم الحجّة عليهم ويكون فيه صلاحهم؟! وهنا نسترجع نفس الدليل الذي أقمناه لإثبات النبوة والإمامة، فما دلّ على لزومهما في حياة البشر يدلّ أيضاً على لزوم وضرورة وجود شخصٍ قادر على بيان الأحكام وقيادة المجتمع في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وبالنيابة عنه، وهذا الشخص يصطلح عليه بالولي الفقيه، الذي سيحتجّ به الإمام على الناس عندما يسألونه: لماذا تركتنا ولم تبيّن لنا ما هو مفروضٌ علينا؟ عندها سيكون الجواب بالتأكيد: لقد أمرتكم بالرجوع إلى الفقيه القائد العارف الورع، الذي يعدّ الرجوع إليه رجوعاً إلى المعصوم نفسه ومقدمة مهمة وشرطاً أساسياً للتمهيد لظهوره والتعجيل في فرجه. لأنه من لم يتحمّل حكم نائبه ولم يلتزم بأمره فمن المؤكد أنه لن يتمكّن من تحمّل حكم الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ولا أوامره.

 

وظيفتنا تجاه إمام الزمان

وفي عصر الغيبة يحتاج كل من يريد الاهتداء بهدي الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والاستفادة الحقيقيّة منه، إلى الحصول على لياقةٍ تامة لها شروطٌ عديدة تجتمع تحت عنوانٍ واحد هو السعي والتمهيد لظهوره, والذي يعبّر عنه بانتظار الفرج، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج"10. فالانتظار الحقيقي هو الذي يظهر في أعمال التمهيد والسعي بكل قوة لأجل ظهوره العظيم، وهو الذي يعدّ أفضل الطاعات وأعظم الأعمال التي تقرّب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى. وللتمهيد شروطٌ يجب مراعاتها ليصبح الإنسان ممهّداً حقيقياً، وهي:

 

 


10- بحارالأنوار، ج50، ص317.

 

233


198

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 1- معرفة إمام الزمان عليه السلام:

 

ليس المقصود بمعرفة الإمام معرفة اسمه وتاريخ مولده واسم أبيه وأمه لأنه من البديهي أن مثل هذه المعرفة لا تجعل الإنسان ممهّداً. بل المقصود من المعرفة هنا معرفة منزلته ومقامه عند الله ومعرفة صفاته وشمائله وأنه الحافظ للدين والدنيا، والهادي إلى الله، وأن له الولاية الكبرى، وهو الأمانة المحفوظة ومستودع الأنوار وخزانة علم الله عزّ وجلّ، وباب الله الذي منه يؤتى. ومن الأحاديث التي حثّت على أهمية معرفتهم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: "إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله"11. وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: "لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا"12.

 

2- التسليم والثبات على ولايته:

ومعناه الالتزام الدائم بأن تكون في صفّه وصفّ من يواليه ويتبعه ويمشي على نهجه. ففي الحديث عن الإمام الجواد عليه السلام أن رجلاً سأله: "لِمَ سُمِّيَ المُنْتَظَر؟ قال عليه السلام: لأن له غيبة تكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكذب به الوقاتون ويهلك فيه المستعجلون وينجو فيه المسلمون"13. فالتسليم لولايته من أصعب الأعمال، ويحتاج إلى تربيةٍ خاصّة وتدرّج. ومن سعة رحمة الله بعباده، أنه يربّينا قبل ظهوره على الولاية والتسليم من خلال نائبه الوليّ الفقيه الذي يدعو إليه. والثابت على أمر أهل البيت عليهم السلام هو الملتزم بمشروعهم لتغيير العالم واعتباره مشروع حياته.

 

3- البراءة من أعدائه:

والبراءة هي الرفض التّام والمواجهة. فإن العداء لأعداء إمام الزمان يقوّي الارتباط به، ويجعل صاحبه مستعدّاً ليكون في صفّه. والبراءة متمّمة للولاية وبدون البراءة لا تكون الولاية حقيقية. فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتم به في غيبته


11- أصول الكافي، ج1،ص181.

12- م.ن، ص 143.

13- بحار الأنوار، ج51، ص 157.

234


199

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 قبل قيامه، ويتولى أولياءه ويعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودتي وأكرم أمتي عليّ يوم القيامة"14.

 

4- الالتزام بالشريعة:

لا ننسى أن إمام الزمان عندما يظهر فإنه سيجعل شريعة الله القانون العام لحياة البشر وحكومة المجتمع العالمي. ومن الواضح أن الذي كان ملتزماً بهذه الشريعة في كل تفاصيل حياته قبل ظهوره الشريف سيكون مستعداً لتقبّل هذا القانون أكثر من غيره. نحن إذا نظرنا إلى خصائص وصفات أنصار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف الممهّدين له، نجد أن من أهمّ الصفات البارزة فيهم صفة التقوى التي تعني الالتزام بأحكام الله في جميع أبعاد الحياة.

 

5- الدعاء له:

للدعاء دورٌ عظيم في إبقاء الرابطة المعنويّة وتقويتها. فالدعاء يمدّ النفس بالمشاعر اللازمة لها لكي تثبت وتستمرّ، خصوصاً إذا التفتنا إلى أن الله تعالى وعد كل من دعاه بصدقٍ أن يستجيب دعاءه. فعندما يدعو المؤمن لإمام الزمان ويطلب تعجيل ظهوره فإنه يزيد من شعوره وإيمانه بأن إمام الزمان موجودٌ حيٌّ وحاضر. وهذا الشعور يثبّته على نهجه ومسيرته. فعن الإمام العسكري عليه السلام قال: "والله ليغيبن غيبة لا ينجو فيها من التهلكة إلا من يثبته الله على القول بإمامته، ووفقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه"15. وفي رسالةٍ موقّعة من الإمام المهدي نفسه جاء فيها: "أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإن ذلك فرجكم"16.

 

6- الجهاد تحت راية وليّه:

إن أفضل ما يمكن أن يقوم به الإنسان لأجل تعجيل الظهور هو الإعلان عن الاستعداد التّام لتحقيق الأهداف الإلهية التي سيظهر الإمام المهدي عليه السلام لأجلها، والتي على رأسها بسط العدل ونشر التوحيد والقيم الإلهية السامية. ويتحقّق هذا من خلال النزول إلى ساحات العمل الجهادي، لأن الانتظار الحقيقي يكون في خنادق المقاومة والجهاد. وهذا هو المعنى الحقيقي لانتظار الفرج، فالمنتظر الواقعي هو الذي يعمل كل ما بوسعه ويفتّش دوماً عن أفضل ما


14- بحار الأنوار، ج51، ص 72.

15- م. ن، ج52، ص23.

16- م. ن، ص92.

235


200

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 يحقق ذلك ولا يكتفي بالأعمال البسيطة. والعاقل الفهيم لا يحتاج إلى كثير تفكرٍ حتى يعرف أن الجهاد في سبيل الله هو أفضل الأعمال وأحمزها وأكثرها تأثيراً في الظهور المبارك. لذا كان انتظار الفرج أفضل العبادة، فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج"17.

 

7- تهذيب النفس:

عندما نعرف معنى تهذيب النفس ندرك تأثير هذا الأمر على العلاقة بإمام الزمان عليه السلام. لأن النفس الزكيّة والمهذّبة والمتّصفة بالأخلاق الحسنة تكون مستعدة دوماً لقبول الحق والعمل به بخلاف النفوس السيئة. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا"18.

 

8- الحزن والبكاء على فراقه:

فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم فينا، أولئك منا وإلينا"19.


17- بحار الأنوار، ج78، ص 326.

18- م. ن، ج52، ص 140.

19- م. ن، ج10، ص 114.

236


201

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 المفاهيم الرئيسة

1- الإمام المعصوم هو الذي يمتلك المؤهّلات اللازمة لمتابعة أهداف النبي والقيام بالمهمة النبوية، من هدايةٍ وحفظ للشريعة وبيان أحكامها، وقيادة المجتمع.

2- غاب الإمام الثاني عشر الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لأسبابٍ عديدة أهمّها قلّة الناصر، وعدم قدرة الناس على تحمّل حكومته.

3- أقام الإمام الحجّة على الناس نائباً له بالحق، هو الوليّ الفقيه المجتهد والورع، وأمر الناس بالرجوع إليه في مسائل دنياهم وآخرتهم.

4- على الإنسان الموالي وظيفة أساسية في زمن غيبة إمامه المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف يمكن أن نختصرها بكلمةٍ واحدة هي العمل والسعي الدؤوب للتمهيد لظهوره الشريف.


أسئلة حول الدرس

1- كيف تستدلّ على ضرورة وجود الإمام المعصوم بعد النبي؟

2- ما هي الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

3- ما هي وظيفتنا الأساسيّة في عصر غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

237


202

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 للمطالعة

انتظار الفرج20

ماذا يعني انتظار الفرج؟ وماذا يعني نص الحديث: "أفضل الأعمال انتظار الفرج"؟. البعض يتوهّم ويظن أن انتظار الفرج الذي هو أفضل الأعمال، يعني أن ننتظر ظهور إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مع جمعٍ من خواصّ أصحابه وأنصاره وعددهم (313) رجلاً، ومعهم جمعٌ آخر من غير الخواصّ، فيحاربون أعداء الإسلام ويطهّرون الأرض من دنسهم ويقيمون العدل والأمن في البلاد ويوفّرون الرفّاه والحرية بأكمل صورهما، وبعد ذلك يقولون لنا تفضّلوا!!

 

البعض يتوهّم أن انتظار الفرج هو هذا، ويصفونه بأنه أفضل الأعمال. ولكن الانتظار الحقيقي للفرج هو بانتظارنا ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف للانخراط في جيشه والقتال تحت إمرته حتى لو استشهدنا في هذا القتال.

 

الانتظار الحقيقي للفرج هو أن يكون أمل الإنسان كلّه وكلّ أمانيه حقاً الجهاد في سبيل الله، وليس الانتظار حتى يأتي الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف فتقول له: اذهب أنت وحدك فأنجز كل المهام الشاقّة وعندما يحين وقت جني الثمار سنأتي نحن. هذا هو منطق أصحاب موسى عليه السلام، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد قالوا له: يا رسول الله لا نقول لك ما قاله بنو إسرائيل لموسى عندما وصلوا إلى فلسطين بيت المقدس ورأوا فيها جنداً متأهّبين: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ21.

 

كان هذا هو منطق أصحاب موسى عليه السلام: اذهب أنت وربّك فقاتلا وطهّرا فلسطين من دنس الأعداء وسنأتي نحن بعد أن نطمئن إلى أنه لم يبق فيها خطر. إن موسى عليه السلام قد سألهم مستنكراً: فما هو واجبكم إذاً؟! عليكم أنتم أيضاً أن تُخرجوا من دياركم الغاصب الذي أخرجكم منها. أما أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمثال المقداد، فما كان قولهم كهذا،


20- كتاب الهجرة والجهاد.

21- المائدة، 24.

238


203

الدرس التاسع عشر: إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 وإنما قالوا: "لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً".

 

الشهيد مرتضى مطهري

239


204

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 الدرس العشرون:

 

التمسّك بالقرآن الكريم

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يستدل على أن معرفة حقيقة القرآن الكريم مقدمة أساسيّة للتمسّك به.

2- يبيّن أهم الآثار المترتبة على التمسّك بالقرآن على الصعيد الدنيوي والأخروي.

3- يبيّن أهم الآداب المعنوية للتمسّك بالقرآن الكريم.

240


205

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 حقيقة القرآن

القرآن الكريم أساس الدين وباب الإسلام، وهو كتاب الله الذي أودع فيه شريعته وحقائق دينه، أنزله للناس هادياً وسراجاً منيراً ليخرجهم من الظلمات إلى النور. وأمرهم بالتمسّك به لأنه كلمته التامّة وإرادته الكاملة للبشريّة في كل زمانٍ ومكان, ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ1، فمن أراد الوصول إلى الله ما عليه إلا أن يسلك سبيله ويهتدي بهداه، ومن اهتدى إنما يهتدي به ومن ضلّ فهو الذي يزيغ عنه.

 

فالقرآن كلام الله تعالى إلى خلقه. وهذا ليس أمراً عادياً، فأن يكلمنا الله تعالى نحن البشر ولو بالحروف والألفاظ فهذا ليس بالأمر البسيط بل هو الكرامة بعينها والشرف العظيم، فمن نحن حتى يكلّمنا رب السموات السبع والأرضين، وإله العالمين الذي لا حدّ لقدرته ولا منتهى لعظمته!؟ لذا كان عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار إلينا بأن نحفظه ونراعي حدوده فلا نضيّعها أبداً، لأنه نعمة الله الكبرى التي من تمسّك بها فاز ومن تخلّف عنها خسر. فقد سُئل إمامنا الرضا عليه السلام: ما تقول في القرآن؟ فقال: إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن أَردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان"2. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا"3.

 

وهو الكمال الحقيقي والغنى الذي لا غنى بعده. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده"4. فمن أُعطي القرآن فقد أُعطي الخير المطلق والكمال الذي لا حدّ


1- الأنعام، 155.

2- مستدرك ‏الوسائل، ج4،ص 232.

3- بحار الأنوار، ج 89،ص 117.

4- وسائل الشيعة، ج6،ص168.

242


206

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 له وأفضل ما في الوجود، لأنه لا غنى ولا كمال فوقه على الإطلاق، ففيه علم الأوّلين والآخرين، ومن تحقّق به كان من حملة القرآن وأولياء الحق المقرّبين. فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أَنه قال: "لا ينبغي لحامل القرآن أن يظن أَن أَحداً أُعطي أَفضل مما أُعطي لأنه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أَفضل مما ملكه"5.

 

وهو مأدبة الله تعالى إلى خلقه، التي زيّنها بأنواعٍ لا تُعدّ ولا تُحصى من الأطعمة العلمية والمعنوية التي هي غذاء الروح وكمالها الحقيقي، ووضع على هذه المأدبة كل ما يحتاجه الإنسان وما ينفعه. ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ6. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم"7.

 

وفيه خزائن العلم الإلهي، التي من استفاض منها كان من عرفاء أهل الجنة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة"8. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "آيات القرآن خزائن العلم فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر ما فيها"9.

 

آثار التمسّك بالقرآن

القرآن الكريم كلام الله وللتمسك بكلامه آثارٌ طيبة ومتنوعة منها:

1- الهداية من الضلالة:

القرآن الكريم مظهر هداية الله، وسرّ النجاة من الضلالة: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا10. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أَهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"11.

 


5- مستدرك ‏الوسائل، ج 4، ص237.

6- الزمر، 27.

7- مستدرك ‏الوسائل ج 4، ص 232.

8- م.ن، ص 243.

9- م.ن، ص 238.

10- الإسراء، 9.

11- وسائل الشيعة، ج27، ص33.

243


207

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 2- الارتقاء في مراتب الآخرة:

 

كل آية من آيات القرآن الكريم تمثّل درجةً من درجات الجنة، وكلما تحقّق الإنسان بآيةٍ من آيات الكتاب الإلهي كلما ارتقى في مراتب الجنة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عدد درج الجنة عدد آيات القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له: اقرأ وارق لكل آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة"12.

 

3- الشفاء:

القرآن هو الشافي الحقيقي لأمراض النفوس والمزيل لأمراض القلوب، وهو إكسير السعادة في الدّارين. فمن أراد أن يطهّر باطنه من الأمراض والرذائل الأخلاقية والذنوب الممحقة ما عليه سوى التمسّك بهذا النور الإلهي. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا13. وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له قال: "واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أَدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال"14. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "وتعلموا القرآن فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور"15.

 

4- حملته يحشرون مع الأنبياء:

من كرامة الله على حامل القرآن أن يرزقه ثواب الأنبياء ويحشره معهم، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن أَكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء ثم حملة القرآن يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء ويحشرون من قبورهم مع الأنبياء ويمرون على الصراط مع الأنبياء ويأخذون ثواب الأنبياء فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة والشرف"16.


12- مستدرك الوسائل، ج4، ص231.

13- الإسراء، 82.

14- نهج البلاغة، خطبة 252.

15- وسائل الشيعة، ج 6، ص167.

16- مستدرك الوسائل، ج4، ص244.

244


208

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 5- النجاة من العذاب:

 

لأن الله تعالى لا يعذّب من تلبّس برداء القرآن ظاهراً وباطناً وصار مظهراً للقرآن خَلقاً وخُلقاً، لأن القرآن هو الجنة نفسها. فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اقرأوا القرآن واستظهروه فإن الله تعالى لا يعذّب قلباً وعى القرآن"17.

 

6- الخروج من الظلمات إلى النور:

فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي يهدي إلى سبل الخير والسلام، وهو نور الله المتّصل بين الأرض والسماء، والصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن تخلّف عنه هلك: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ18.

 

7- الشفاعة:

من نعم الله السّابغة على المتمسّك بالقرآن الكريم أن يرزقه الشفاعة التي هي من أهم خصائص الأنبياء والأولياء والشهداء، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من استظهر القرآن وحفظه وأحل حلاله وحرّم حرامه أدخله الله به الجنة وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجب له النار"19.

 

8- الإيمان:

تجذّر الإيمان في النفس وتكامله هو من أهم الآثار المترتّبة على التمسّك الحقيقي بالقرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ20.

 

9- الخشوع:

من المواهب السنيّة التي يهبها الله تعالى للمتحقّق بآيات القرآن أن يلين قلبه ويجعله


17- مستدرك الوسائل، ج4، ص245.

18- المائدة، 15 - 16.

19- مستدرك الوسائل، ج4، ص245.

20- الأنفال، 2.

245


209

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 خاشعاً من خشيته: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ21.‏ وقال عز اسمه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ22.

 

آداب التمسّك بالقرآن الكريم

للتمسّك بالقرآن الكريم آدابٌ ظاهرية وباطنية من دون مراعاتها لن تتجلّى فينا آثار القرآن النورانية.

1- الآداب الظاهرية للتمسّك بالقرآن:

الطهارة: وهي من الأحكام الأساسية كما قال عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ23.

 

أ- الاستعاذة: لا بدّ قبل البدء بالقراءة من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم واللجوء إلى كهفه الحصين لأن الشيطان قد أقسم على القعود على الصراط المستقيم ليصدّ المؤمنين عنه: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ24. لذا أمرنا الله تعالى باللجوء إليه والاستعاذة من شرّه: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾25.

 

ب- الترتيل: قال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا26. والترتيل هو القراءة بتأنّ وتمهّل مصحوباً بالصوت الحسن، والقراءة الصحيحة والفصيحة الخالية من الأخطاء. والغرض من هذه القراءة أن يتدبّر القارئ معاني القرآن ومراميه، وينتفع بأحكامه وعظاته وبوعده ووعيده. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الترتيل أن تتمكث به وتحسن به صوتك، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل اللّه الجنّة"27.


21- الحشر، 21.

22- الزمر، 23.

23- الواقعة، 77 - 79.

24- الأعراف، 16.

25- النحل، 98.

26- المزمل، 4.

27- وسائل الشيعة، ج6، ص207.

246


210

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 2- الآداب المعنوية للتمسّك بالقرآن:

 

يقدّم لنا الإمام الخميني قدس سره برنامجاً تفصيلياً لتحقيق رابطة معنوية وعميقة بالقرآن. إذا راعينا بنود هذا البرنامج تصبح قراءة القرآن سبباً للوصول إلى معدنه وحقائقه، وهو يتضمّن النقاط التالية:

أ- تعظيم القرآن: عظمة كل شيء مرجعها في الحقيقة إلى كماله ومرتبته. وتأثير الأمور العظيمة على النفوس كبيرٌ جداً، وهو أشبه بالسحر الذي يخطف كل شيء ويجذبه إليه، ويدفع من حوله إلى الخضوع له. والقرآن الكريم هو الغنى والكمال الذي لا كمال فوقه، والذي حوى جميع مراتب العظمة الممكنة بل هو أعظم شيءٍ في الوجود. فمنزله هو الله سبحانه وتعالى، وحامله جبرائيل أمين وحي الله، وشارحه ومبيّنه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله، وخلفاؤه العظام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وأما وقت تنزيله فهو ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. وبمقدار ما تتجلّى عظمة القرآن في قلوبنا نتمكّن من الاستفادة منه والجلوس على مأدبته بخشوعٍ بهدف التعلم والهداية. فالاستفادة الحقيقية من القرآن الكريم غير ممكنةٍ من دون معرفة عظمته واستحضارها دائماً.

ب- معرفة أهداف القرآن: إن لمعرفة أهداف القرآن الأساسية واستحضارها دوراً فعالاً ومؤثراً في الاستفادة منه. لأن الله تعالى لم ينزل كتابه إلى الناس لغواً وعبثاً بل لأهدافٍ واضحة ومحددة. ويمكن أن نلخّص الهدف الأول والأخير لهذا الكتاب الشريف بأنه كتاب هداية الإنسان إلى الله تعالى. فكل آية من آياته إنما تهدف إلى توثيق الصلة وتعميقها بين الإنسان وخالقه لكي يهتدي في نهاية المطاف إليه. ويتفرّع عن هذا الهدف الأساسي أهدافٌ أخرى كل واحد منها يأخذ بيد الإنسان إلى المقصد النهائي، وأهمها:

• الدعوة إلى معرفة الله.

• الدعوة إلى تهذيب النفس.

• بيان كيفية تربية الأنبياء من جانب الحق تعالى.

• بيان كيفية سلوك الأنبياء الذين هم قدوة البشر.

247


211

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 • بيان أحوال الكفّار وأسباب انحرافهم.

 

• بيان قوانين الشريعة والآداب والسنن.

• ذكر المعاد وأحواله.

 

وما على قارئ القرآن أثناء تلاوته لكتاب الله سوى البحث عن مغزى كل آية ومقصدها والوقوف عند هذا المقصد ومن ثم ربطه بالهدف الأساسي وهو ربط الإنسان بخالقه لكي تتحقق الهداية المطلوبة والفائدة المرجوّة.

 

ج- التفكّر: التفكر هو البحث عن المقصد والمقصود في الآيات. وحيث إن مقصد القرآن هو الهداية إلى سبل السلام والخروج من الظلمات إلى النور، فعلى القارئ أن يتفكر في الآيات باحثاً عن الهداية والنور فيها. وقد جعل الله تعالى التفكّر غاية إنزال هذا الكتاب السماوي: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ28، ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ29، وذلك لسبب أساسي وجوهري هو أن التفكر حياة القلب كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن هذا القرآن فيه منارُ الهدى ومصابيحُ الدجى فَلْيَجْلُ جَالٍ بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكُّر حياةُ قلبِ البصير كما يمشي المستنيرُ في الظلمات بِالنورِ"30. لذا يحذّر الحق تعالى من عدم التدبّر في القرآن والتماس البصيرة والمعرفة المطلوبة للوصول إلى مقصد كل آية، لأن في ذلك الخسران المبين: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا31.

 

د- التطبيق: وهو من الآداب الأساسية، والمقصود منه تطبيق ما تعلّمه الإنسان من القرآن في حياته العمليّة. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من تعلّم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حب الدنيا وزِينتها استوجب سخط الله وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذين ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم"32. فعندما يتفكّر القارئ في الآيات الشريفة التي يمرّ عليها وينظر إلى أهدافها عليه أن يستخرج منها الأمور العملية ويقوم بتطبيقها على


28- النحل، 44.

29- الأعراف، 176.

30- الكافي، ج2،ص600.

31- محمد، 24.

32- وسائل الشيعة، ج6،ص183.

248


212

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 نفسه. فإذا قرأ قصة آدم عليه السلام وما جرى عليه وفكّر في سبب مطرودية الشيطان من مقام القرب مع كل عباداته الكثيرة وسجداته الطويله، فإنه سوف يتعرّف إلى الأوصاف الإبليسية والأخلاق الشيطانية ويعلم أن كل من يتّصف بها مطرودٌ لا محالة. فتكون العبرة والفائدة العملية هي: لزوم تطهير النفس من هذه الصفات لأن مقام القرب الإلهي مقام المطهّرين.

 249


213

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 المفاهيم الرئيسة

1- القرآن كلام الله المنزل إلى خلقه لأجل هدايتهم وتعليمهم وشفائهم من أمراضهم.

2- القرآن هو الكمال الحقيقي والغنى السرمدي الذي من تحقّق به وصل إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني.

3- أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بالقرآن الكريم، وللتمسّك به آدابٌ لا بدّ من مراعاتها لمن أراد أن يقرأ ويرقى.

4- للقرآن آداب معنوية وظاهرية ينبغي مراعاتها وإلا يكون التّمسك بالقرآن غير صحيح.


أسئلة حول الدرس

1- اشرح معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده".

2- كيف يكون القرآن شفاء للصدور؟ ومن أي الأمراض يشفي؟

3- اذكر أهم آثار التمسّك بالقرآن على حياة الإنسان ومصيره.

4- للتمسك بالقرآن الكريم آدابٌ معنوية، اذكرها وتحدث عنها بإيجاز.

250


214

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 للمطالعة

القرآن والشباب33

إن من وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بتلاوة القرآن: "وعَلَيْكَ بِتَلاَوَةِ القُرْآنِ عَلَى كُلِّ حَال". وإن عقلنا القاصر لا يستوعب فضيلة تلاوة القرآن وحمله وَتَعَلُّمهِ والتمسّك به وملازمته والتدبُّر في معانيه وأسراره. وما نقل عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في ذلك أكثر من طاقة هذا الكتاب على استيعابه. ونحن نقتصر على ذكر بعضها: عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية"34. وباسناده عن الزُّهريِّ قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: "آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر فيها"35.

 

والمستفاد من هذين الحديثين أنه حريّ بقرّاء القرآن التدبّر في آياته والتفكّر في معانيه، وأن التمعّن والتأمل في الآيات الكريمة الإلهية، واستيعاب المعارف والحِكَم والتوحيد من القرآن العظيم، لا يكون من التفسير بالرأي المنهيّ عنه الذي يلتجئ إليه أصحاب الرأي والأهواء الفاسدة، الذين لا يتمسّكون برأي أهل بيت الوحي، المخاطبين بالكلام الإلهي، كما ثبت ذلك في محلّه، ولا داعي للولوج في هذا الموضوع والإسهاب فيه. ويكفينا قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا36.

 

ووردت أحاديث كثيرة تأمرنا بالرجوع إلى القرآن والتعمّق في آياته. فقد نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر"37. وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله عز وجَل مع السَّفَرَةَ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة يقول: يا ربِّ إنّ كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطاياك. قال: فيكسوه الله العزيز


33- الأربعون حديثاً، ص532.

34- الكافي، ج2، ص 609.

35- ن.م.

36- محمد، 24.

37- الكافي، ج2، ص603.

251


215

الدرس العشرون: التمسّك بالقرآن الكريم

 الجبار حُلّتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا. فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة، فيقال له: إقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم، قال: ومن قرأه كثيراً وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عز وجل أجر هذا مرتين"38.

 

وتبيّن من هذا الحديث الشريف أن المطلوب من تلاوة القرآن الكريم هو تأثيره في أعماق قلب الإنسان، وصيرورة باطنه صورة كلام الله المجيد، وتحويل ما هو ملكة القلب من القرآن الكريم إلى التحقق والفعلية وذلك حسب ما ورد في الحديث المذكور: "من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه"، حيث يكون كناية عن استقرار صورة القرآن في فؤاده، بدرجة يتحوّل باطن الإنسان حسب استعداده وأهليّته، إلى كلام الله المجيد والقرآن الكريم.

 

الإمام الخميني قدس سره


38- الكافي، ج2، ص603.

252


216

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 الدرس الواحد والعشرون:

الصلاة معراج الروح

 

 

على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يستدل على أن الصلاة واجبٌ شرعي لا يجوز الاستخفاف به.

2- يبيّن أهمية الصلاة وأنها الذكر الأعظم للحق تعالى.

3- يذكر أهم العواقب الوخيمة للتّساهل والاستخفاف بالصلاة.

254


217

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

الصلاة تكليفٌ إلهي

أمر الله تعالى المسلمين بالصلاة والمحافظة عليها. وهي خمس صلوات جعلها فريضة على كل مسلم ومسلمة حيث قال عزّ اسمه: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ1، وقال أيضاً: ﴿فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا2. وسُئل إمامنا الصادق عليه السلام عن معنى قوله تعالى ﴿كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ فقال عليه السلام: "أي مفروضاً"3.

 

وسُئل الإمام الباقر عليه السلام عمّا فرض الله من الصّلوات فقال عليه السلام: "خمس صلوات في الليل و النهار، قلت: سمّاهن الله وبينهنّ في كتابه؟ قال عليه السلام: نعم، قال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ودلوكها زوالها فيما بين دلوك الشمس إلى غسقِ الليل أربع صلوات سماهنّ وبيّنهن ووقتهن، وغسق الليل انتصافه، ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ هذه الخامسة"4.

 

الصلاة هي الذكر الحقيقي

الصلاة هي الرابطة الوثيقة بين الإنسان والرب، بين المخلوق وخالقه. وهي الباعثة على اطمئنان القلوب، وهي أساس صفاء الروح وتنوّر الباطن. وهي تبعث في النفس رادعاً قويّاً للتخلّص من كل ما هو سيئ وقبيح، وتحصيل كل ما هو صالح وجميل. لذا قال عنها الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ5. وهي برنامج العثور على النفس ومن ثم صناعتها وتهذيبها كما قال إمامنا الخميني قدس سره: "الصلاة هي مصنع لبناء وتهذيب الإنسان"6.


1- البقرة، 238.

2- النساء، 103.

3- وسائل ‏الشيعة، ج4،ص8.

4- مستدرك ‏الوسائل، ج 3،ص10.

5- العنكبوت، 45.

6- صحيفة النور، ج 12، ص318.

256


218

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 وبكلمات موجزة هي رابطة الاستفاضة الدائمة من منبع ومبدأ كل الخيرات، من الله سبحانه وتعالى. وهي عدّت أفضل الأعمال، وأساس الدين لأنها باختصار تحقّق للإنسان الوصول إلى الهدف الذي خلق من أجله، وهو الرجوع إلى الله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ7. وأهم متاعٍ يحمله الإنسان للوصول إلى هذا الهدف هو ذكر الله. فذكر الله الدائم يجعل الهدف وهو الارتباط والاتّصال به نصب العين دوماً ويحول دون الضياع، ويجعل الإنسان حذراً، ويمنحه قوة القلب والاطمئنان والنشاط، ويحفظه من الانخداع بالمظاهر الخدّاعة للدنيا الغرور.

 

ومن أهم الأعمال المفعمة بالدوافع لذكر الله والتي يمكن أن تجعل الإنسان مستغرقاً بذكره تعالى، وتكون في نفس الوقت موقظةً للإنسان، وترشده إلى الصراط المستقيم، وتحفظه من الضياع والانحراف وتحول بينه وبين الغفلة, هي الصلاة، وقد خاطب الله نبيّه موسى عليه السلام فقال: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي8. لهذا السبب كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأن المصلّي كما أنه يوظّف كل قواه بحثاً عن طريق الحق والارتباط به، فإنه في نفس الوقت يسعى ليميت كلّ بواعث الفساد والشرّ في نفسه، ولإحراق جذور المعاصي التي تحول دون بلوغه الهدف المنشود. إذاً، فالصلاة بما فيها من تلقينٍ وتكرار لذكر الله، تربط الإنسان الضعيف والمحدود بالإله المطلق القوي، وتجعله على الدوام مستعيناً به ومتوكّلاً عليه.

 

أهمية الصلاة

1- أفضل العبادات:

إن حب الإله وعبادته والتّصاغر أمامه والتواضع لعظمته هي ثمرة معرفته، فمعرفة الله والإقرار بأنه خالق الكون والإنسان يدفع بالإنسان إلى طاعته وعبوديته، وهو سر خلق الإنسان والغاية من إيجاده: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ9. وهذه الحكمة الإلهية هي نفسها أساس بعث


7- البقرة، 46.

8- طه، 14.

9- الذاريات، 56.

257


219

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 الأنبياء عليهم السلام: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ10.

 

والصلاة هي العبادة الأولى من حيث الأهمية، والتي تتجلّى فيها العبودية بأبهى وأعمق صورها: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ11. وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "إنما أمروا بالصلاة لأن في الصلاة الإقرار بالربوبية وهو صلاح عام لأن فيه خلع الأنداد والقيام بين يدي الجبار"12.

 

2- عمود الدين:

وهي عمود الدين، وقوام الإسلام، الذي إن ثبت ثبتت معه كل أصول الدين وفروعه، وباهتزازه وتخلخله يهتزّ معه هذا القوام ويتخلخل. فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الصلاة عمود الدين مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب"13.

 

3- وصية الأنبياء:

وهي وصية الأنبياء عليهم السلام لقومهم وللناس، فهذا لقمان يوصي ابنه بالصلاة: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ14، وهي قرّة عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قرّة عيني الصلاة"15.

 

وأحبّ الأعمال إلى الله عز وجل، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام"16.

 

4- أفضل القربات:

وهي أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله عز وجل، حيث سُئل إمامنا الصادق عليه السلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وأحبّ ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال عليه السلام: "ما


10- النحل، 36.

11- البيّنة، 5.

12- وسائل الشيعة، ج4،ص10.

13- م.ن ، ص27.

14- لقمان، 17.

15- بحار الأنوار، ج77،ص77.

16- الكافي، ج3،ص264.

258


220

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. ألا ترى أن العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام قال: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾"17. وفيها يكون الإنسان أقرب ما يكون إلى الله عزّ وجلّ، فعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل وهو ساجد وذلك قوله عز وجل"18.

 

5- أول ما يحاسب عليه الإنسان:

وهي أول ما يُسأل عنه الإنسان يوم الحساب، فإن قبلت صلاته قبلت منه سائر أعماله، وإن ردّت ردّت إليه أعماله، فكان خالي الوفاض، يتحسّر على ما فّرط به في الحياة الدنيا. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل سائر عمله وإذا رُدّت رُدّ عليه سائر عمله"19.

 

6- باب الرحمة الإلهية:

وهي الرحمة الواسعة التي يظّلل الله تعالى بها عبده من فوق رأسه إلى أفق السماء وهو يصلّي، ووكّل الله تعالى به الملائكة تحفّه وتدعو له. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا قام المصلي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض وحفت به الملائكة وناداه ملك لو يعلم هذا المصلي ما في الصلاة ما انفتل"20.

 

7- كفّارة للذنوب:

وهي تحتّ الذنوب عن المصلّي وتكفّر عنه سيّئاته ما لم تكن من الكبائر، وقد شبّهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنهر الجاري الذي كلّما اغتسل منه الإنسان نقّى جسده وتطهّر من الأدران والأوساخ حيث قال: "إنما مثل هذه الصلوات الخمس مثل نهر جار بين يدي باب أحدكم يغتسل منه في اليوم خمس اغتسالات، فكما ينقّى بدنه من الدرن بتواتر الغسل، فكذا ينقّى من الذنوب مع مداومة الصلاة فلا يبقى من ذنوبه شي‏ء"21.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس

 

 


19- وسائل الشيعة، ج4،ص34.

20- الكافي، ج3،ص264.

21- مستدرك ‏الوسائل، ج3،ص15.

259


221

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 بينه وبين الله ذنب"22. وعن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام قال: "الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنب الكبائر وهي التي قال الله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾"23.‏

 

8- تنجي من العذاب:

إذا قبلت صلاة المؤمن فهي بمثابة صكّ براءةٍ له من العذاب في يوم القيامة كما جاء عن إمامنا الصادق عليه السلام حيث قال: "من قبل الله منه صلاة واحدة لم يعذبه ومن قبل منه حسنة لم يعذبه"24.

 

عاقبة التساهل بالصلاة

إذا اقتنع الإنسان بأن العبادة من الأمور الأساسيّة والهامّة في تكامله الروحي والمعنوي وعلاقته بربه، وأن الصلاة هي أهم العبادات، إذاً لكان شديد الحرص على الإتيان بها والمحافظة على أوقاتها وعدم تضييعها، لأن في تضييع الصلاة تهاوناً واستخفافاً بها، والمتهاون بصلاته لا حظّ له من الإسلام، كما قال إمامنا الباقر عليه السلام: "لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة"25، وهو للكفر أقرب منه للإيمان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا ترك الصلاة الفريضة متعمداً أَو يتهاون بها فلا يصليها"26. لأنه ليس بعد ترك الصلاة والاستخفاف بها إلا الغيّ والضلالة: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا27.

 

وفيما يلي نذكر بعض الآثار السلبية لترك الصلاة

1- يبتلى بخمس عشرة خصلة سيّئة:

عن سيدة النّساء فاطمة عليها السلام أنها سألت أباها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: "يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء


22- الكافي، ج3،ص266.

23- مستدرك‏ الوسائل، ج3،ص15.

24- الكافي، ج 3، ص 266.

25- مستدرك ‏الوسائل، ج3،ص45.

26- وسائل ‏الشيعة، ج4، ص43.

27- مريم، 59.

260


222

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ست منها في دار الدنيا وثلاث عند موته وثلاث في قبره وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره. فأما اللواتي تصيبه في دار الدنيا، فالأولى يرفع الله البرَكة من عمره ويرفع الله البرَكة من رزقه ويمحو الله عز وجل سيماء الصالحين من وجهه وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء والسادسة ليس له حظّ في دعاء الصّالحين. وأما اللواتي تصيبه عند موته فأولاهنّ أنّه يموت ذليلاً، والثانية يموت جائعاً، والثالثة يموت عطشانَ‏ فلو سُقِيَ من أنهار الدنيا لم يرو عطشه. وأما اللواتي تصيبه في قبره فأولاهنّ يوَكِّلُ الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية يضيَّقُ عليه قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره. وأما اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره فأولاهنَّ أن يوَكِّلَ الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه والثانية يحاسبه حساباً شديداً والثالثة لا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم"28.


2- يحرم من الشفاعة:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا والله"29.

 

3- يحبط الله أعماله:

فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾، فقال عليه السلام: "ترك العمل الذي أقرّ به، (و) من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقمٍ ولا شغل"30.

 

4- يتسلّط عليه الشيطان:

فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال الشيطان هائباً ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه فألقاه في العظائم"31. وقد قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي

 

 


28- مستدرك الوسائل، ج3،ص24.

29- وسائل ‏الشيعة، ج4، ص25.

30- مستدرك ‏الوسائل، ج3، ص46.

31- م.ن، ص27.

261


223

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ32.

 

5- يدخله النّار مع المنافقين:

فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تضيعوا صلواتكم فإن من ضيع صلاته حُشر مع قارون وهامان، وكان حقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ على صلاته وأداء سنته"33. وعندما يدخل المؤمنون الجنة يتساءلون فيما بينهم عن سبب دخول فئة من الناس نار جهنم، وسرعان ما يكتشفون أن السبب هو تركهم الصلاة، كما أخبر تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ34.


32- المائدة، 91.

33- وسائل ‏الشيعة، ج4، ص30.

34- المدّثر، 39 ـ 43.

262


224

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 المفاهيم الرئيسة

1- الصلاة هي الذّكر الذي يربط الإنسان الضعيف والمحدود بالإله المطلق والقوي، وهي رابطة الاستفاضة الدائمة منه تعالى، وهي سبب قبول الأعمال، وأساس تنوّر الباطن وطهارة الروح.

2- الصلاة عمود الدين، وأوّل ما يُسأل عنه الإنسان، وأفضل العبادات والقربات، وكفارة الذنوب، وباب الرحمة، ومنجّية من العذاب.

3- إن لترك الصلاة والتساهل فيها عواقب وخيمةً على الإنسان منها حرمانه من الشفاعة في يوم القيامة، والعذاب الأليم في النار، وتسلط الشيطان عليه، وإحباط الله لأعماله.

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هي حقيقة الصلاة؟

2- لماذا عدّت الصلاة أنها أفضل العبادات وعمود الدين؟

3- ما هي العلاقة بين الصلاة والذّكر؟

4- ما هي عاقبة التساهل والاستخفاف بالصلاة؟

263


225

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 للمطالعة

الوديعة الإلهية35

لا بدّ للإنسان المتعبّد أن يوظّف وقتاً للعبادة، وأن يحافظ على أوقات الصلاة التي هي أهمّ العبادات، وأن يؤدّيها في وقت الفضيلة، ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر. وكما أنه يخصّص وقتاً لكسب المال والجاه والدراسة والبحث، كذلك لا بدّ أيضاً من تخصيص وقتٍ للعبادات، حتى يكون خالياً من أي عملٍ آخر، ويتيسّر له حضور القلب الذي هو بمثابة اللبّ والجوهر.

 

ولكن إذا فرضنا أن شخصاً مثلي تكلّف في أداء صلاته، ورأى أن العبادة من الأمور الزائدة، لأجّل صلاته إلى آخر الوقت، ولأتى بها بكل فتورٍ ونقص، لما يرى حين التهيؤ للصلاة أن هناك أموراً أخرى في نظره أهم منها، وأنها تتزاحم مع هذه الأمور الهامّة، فيفضّل غير الصلاة عليها. وإن هذا الشخص مستخفٌّ بالصلاة ومتهاونٌ في أمرها، ومن المعلوم أن مثل هذه العبادة لا نورانية لها، بل تكون مثار سخط الله. أعوذ بالله من الاستخفاف بالصلاة وعدم الاكتراث بها، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لا تتهاون بصلاتك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته، ليس مني من شرب مسكراً، ولا يرد عليّ الحوض لا والله"36. وقال أبو الحسن الأول عليه السلام: "لما حضرت أبي الوفاة قال لي: يا بني لا ينال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة"37.

 

والأخبار كثيرة في المقام، ويكفي هذان الحديثان لمن يريد أن يعتبر ويتّعظ، ويعلم الله وحده حجم المصيبة العظمى الناشئة من الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والخروج من تحت ظلّ حمايته كما حدّد في الحديثين الشريفين. كما أن الله يعلم مستوى الخذلان عندما يُمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام. لا تظنّ أن أحداً يرى رحمة الحق سبحانه ووجه الجنّة من دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته ورعايته.

 

 


35- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص387.

36- الكافي، ج2، ص269.

37- م.ن، ج3، ص270.

 264


226

الدرس الواحد والعشرون: الصلاة معراج الروح

 والآن انتبه إلى أن تقديم أي عملٍ بسيط بل المصلحة الموهومة على الصلاة التي هي قرّة عين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والوسيلة الرفيعة لنزول رحمة الحق، وإهمالها وتأخيرها إلى نهاية وقتها من دون مسوّغ، وعدم المحافظة على حدودها، كل هذه الأمور تعتبر من التهاون والاستخفاف بالصلاة. فإذا كان هذا من التهاون في الصلاة فاعلم حسب شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة الأئمة الأطهار عليهم السلام، أنك قد خرجت عن ولايتهم، ولن تنالك شفاعتهم. انتبه, إذا أردت شفاعتهم ورغبت في أن تكون من أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اهتمّ بهذه الوديعة الإلهية، وعظّم أمرها، وإلا فأنت تواجه العقاب والعاقبة السيئة.

الإمام الخميني قدس سره

265


227

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 الدرس الثاني والعشرون

الدعاء سلاح المؤمن




على الطالب مع نهاية الدرس أن:

1- يبيّن حقيقة الدعاء وأهميته.

2- يذكر آداب الدعاء وشروطه الأساسية.

3- يعدّد أهم الموانع التي تحول دون استجابة الدعاء.

266


228

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 منشأ الدعاء

لمّا كان الإنسان عين الفقر والفاقة وبما أنه فُطر على أساس الطلب والحاجة إلى خالقه فهو قد فُطر على الدعاء. فالدعاء هو الالتجاء إلى الله تعالى وطلب سدّ النقائص وقضاء الحاجات منه. وفي الواقع إن هذه الحالة من التوجّه إلى الله واستمداد العون منه من خلال الدعاء غير مختصّة بالمؤمنين فقط بل حتى المشرك لا يخلو البتّة من هذه الحالة وإن أنكرها، فهو يختبرها عندما يقع في شدّة وتتقطّع به الأسباب ويزول كل ملجأ، عندها تتعلّق آماله به سبحانه تعالى وهذا ما أشارت إليه الآية الشريفة: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ1. فعندما أوشك هؤلاء على الغرق والهلاك توجّهوا بحسب فطرتهم بالدعاء إلى الله تعالى مسبّب الأسباب، وطلبوا منه النجاة.

 

فمنشأ الدعاء لدى الإنسان هو ضعفه واحتياجه الدائمان اللذان لا ينفكان عنه. وبمقدار ما يلتفت الإنسان إلى ضعفه ونقصه وحاجته يندفع إلى الدعاء مستمدّاً العون والقدرة والغنى من مالكها بشكلٍ مطلق وهو الله تقدست أسماؤه. فما لم يلتفت الإنسان إلى عجزه وضعفه وضعف سائر المخلوقات من حوله لن يعلّق آماله على رب الأرباب ويقصر طلب حاجاته عليه، فالاعتراف بالعجز مقدمة أساسية للدعاء.

 

أهمية الدعاء

والدعاء واحدٌ من أجمل وأرقى التعابير عن العلاقة بين العبد ومولاه عزّ وجلّ، فعندما يدعو الإنسان ربّه فهو يعبّر عن عبوديّته له تعالى ويعلن الخضوع أمامه والتسليم لقدرته. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "الدعاء استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في


1- يونس، 22.

268


229

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعاً وتسليم الأمور كلها ظاهراً وباطناً إلى الله تعالى"2. لذا جعل الله تعالى الدعاء عبادةً ووسيلةً شريفةً للاّتصال والارتباط به كما أخبر بذلك إمامنا الصادق عليه السلام حيث قال: "أدعُ ولا تقل قد فرغ من الأمر، فإن الدعاء هو العبادة، إن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾"3.‏ بل ومن أفضل العبادات أيضاً، فقد سُئل الإمام الباقر عليه السلام: أي العبادة أفضل؟ فقال: "ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يُسأل ويُطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده"4. وطالما أن الإنسان في هذه الدنيا فإنه لا يخلو من حالة نقصٍ وعوزٍ يحتاج معها إلى استمداد العون من الله تعالى، وهنا لا يملك إلا الدعاء الذي فيه مفاتيح الفلاح وقضاء الحاجات المعنوية والمادية على حدٍّ سواء. فهو سلاح الأنبياء الذي ينجي من الأعداء ويغسل الذنوب ويورث الطمأنينة والسكينة ويدفع البلاء ويدرّ الأرزاق وفيه الشفاء من كل داء . فعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء"5. وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء"6. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح"7، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "عليك بالدعاء فإنه شفاء من كل داء"8.

 

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل"9.

والمولى عزّ وجلّ يريد من عباده أن يدعوه وأن يتعلّقوا به وحده ويجعلوا رجاءهم عنده ويقصروا آمالهم عليه، وذلك لما للدعاء من تأثيرٍ بالغ في تعميق علاقة العبد بمولاه وتشديدٍ لعرى الإيمان به تعالى.

 

فإن التجربة المعنوية التي يختبرها الإنسان خلال دعائه الصادق


2- مستدرك الوسائل، ج5،ص271.

3- أصول الكافي، ج2، ص 467.

4- م. ن، ص 466.

5- م. ن، ص 468.
6- م. ن.

7- م. ن.

8- م. ن، ص 470.

9- م. ن، ص469.

269


230

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 ولاحقاً حين ينال إجابة دعائه تجعله أكثر ثقةً بالله وأشد تعلّقاً به. والمولى عزّ وجلّ أقرب إلى عباده من حبل الوريد، لا يحول بينه وبين عبده حائل، ولا يحتاج الإنسان إلى واسطة توصل صوته ونداءه وسؤاله إليه تعالى. فحتى لو أضمر الإنسان في قلبه سؤاله فإنه جلّ جلاله عليمٌ به وقد وعد عباده بإجابة دعواتهم فقال في كتابه العزيز: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ10. وهذا يعني أنه وعد بالإجابة بشكلٍ مطلق طالما أن الداعي يدعوه حقيقةً، وطالما أن لسانه ينطق بما في قلبه، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من فُتح له باب في الدعاء فُتحت له أبواب الإجابة"11. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة"12، فما أعظمها من بشرى تنطق بها الآية الكريمة وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إن من يُعطى الدعاء فقد أُعطي الإجابة حتماً.

 

آداب الدعاء وشروطه

لكل عبادة آدابٌ وشروطٌ لا بدّ من مراعاتها لتحقيق الثمرة المرجوّة منها، وكذلك الدعاء. فما لم يتأدب الإنسان بآداب الدعاء فلا ينتظر إجابة دعائه ولا السّكينة الروحيّة والراحة النفسية التي ينالها الداعي عادة. عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "احفظ أدب الدعاء وانظر من تدعو، كيف تدعو، ولماذا تدعو، وحقّق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك واطّلاعه على سرّك وما تكون فيه من الحقّ والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو الله تعالى بشيء فيه هلاكك وأنت تظنّ أن فيه نجاتك، قال الله تعالى ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾، وتفكّر ماذا تسأل ولماذا تسأل... فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، فلعلك تدعوه بشيء قد علم من سرك خلاف ذلك"13.


10- البقرة، 186.

11- م. ن.

12- بحار الأنوار، ج 67، ص 43.

13- مصباح الشريعة، ص53.

270


231

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 أما آداب الدعاء وشروطه فهي:


1- البدء بالبسملة والصلاة على محمد وآله والختم بها:

وهي من الآداب الضرورية، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يردّ دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم"14.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّي على محمد وآل محمد"15.

 

وعنه عليه السلام أيضاً قال: "من كانت له إلى الله حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد فإن الله أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط"16.

 

2- التوجّه إلى الله والثناء عليه:

عن أبي عبد الله عليه السلام: "إذا طلب أحدكم الحاجة فليثنِ على الله سبحانه وليمدحه فإن الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيّأ له من الكلام أحسن ما قدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة فمجّدوا الله عز وجل العزيز الجبار وامدحوه وأثنوا عليه"17.

 

3- الاستغفار والإقرار بالذنوب:

من آداب الدعاء أيضاً أن يستغفر المؤمن من ذنوبه بعد أن يقرّ بها، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما هي المدحة ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة، والله ما خرج عبدٌ من ذنب إلا بالإقرار"18.

 

4- الإخلاص:

على الداعي أن يخلص لله تعالى ولا يشرك في دعائه شيئاً، لأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان له خالصاً، فعن الإمام السجاد عليه السلام: "من لم يرجُ الناس في شيء وردّ أمره إلى الله عز وجل في جميع أموره استجاب الله عز وجل له في كل شيء"19.


14- بحار الأنوار، ج93، ص 313.

15- م.ن، ص312.

16- م.ن، ص316.

17- م.ن، ص315.

18- م.ن، ص318.

19- م.ن، ج75، ص110.

271


232

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 5- حضور القلب والتضرّع:

 

وهي من الشروط والآداب المهمّة ومن دونها لن يصل الداعي إلى ما يأمله من إجابة الدعوى، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا اقشعرّ جلدك ودمعت عيناك ووجل قلبك فدونك دونك فقد قصد قصدك"20، أي وصل دعاؤك.

6- حسن الظن بالإجابة:

لأنه كما جاء في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي فلا يظننّ بي إلا خيراً"21. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"22. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنّ حاجتك بالباب"23.

 

7- الإلحاح في الدعاء والمداومة:

فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "والله لا يلحّ عبد مؤمن على الله في حاجته إلا قضاها الله له"24. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحبّ ذلك لنفسه. إن الله يحب أن يُسأل ويُطلب ما عنده"25.

 

8- الإخفاء:

المقصود بالإخفاء دعاء السر، حيث يقول الله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ26، وعن الإمام الرضا عليه السلام: "دعوة العبد سراً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية"27.

 

9- ذكر الحاجة:

فتسمية الحاجة وتحديدها أفضل من الإجمال في الطلب، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن

 


20- الخصال، ج1، ص 81.

21- بحارالأنوار، ج90،ص305.

22- م.ن، ج93،ص305.

23- الكافي، ج2، ص 473.

24- م.ن، ص475 .

25- م. ن.

26- الأعراف، 55.

27- الكافي، ج2،ص476.

272


233

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعا ولكنّه يحبّ أن تبثّ إليه الحوائج"28. ومما ناجى به الله نبيّه موسى عليه السلام: "يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك"29.

 

10- التوجّه إلى معاني الدعاء:

فلا يدعو وهو غافلٌ عما يتلفّظ به ويطلبه، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة"30.

 

11- الدعاء بالمأثور:

أي بالأدعية التي وصلتنا من أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، ففي كلامهم أفضل تعبيرٍ عن العبودية والتضرّع والخضوع لربّ العالمين، وعنها يقول الإمام الخميني قدس سره: "إن الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمة المعصومين هي أعظم أدلة إلى معرفة الله جل وعلا وأسمى مفاتيح العبودية وأرفع رابطة بين الحق والخلق. كما أنها تشتمل في طياتها على المعارف الإلهية، وتمثل أيضاً وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلّت عظمته فضلاً عن أنها تمثل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك"31.

 

موانع الدعاء

وينبغي للمؤمن أن يحترز عن القيام بما من شأنه حجب دعائه وعدم استجابته مخافة أن يصل إلى الحدّ الذي لا يوفّق بعده للدعاء أصلاً، فيكون شقياً كما نقرأ في دعاء كميل: "فأسألك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي"، "واللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء". وقد أكّد أهل العصمة عليهم السلام على عدّة موانع تقف حائلاً دون إجابة الدعاء وهي:

1- الشرك:

فعندما يتوجّه الإنسان بالطلب إلى الله تعالى ولكنه في نفس الوقت يرى مؤثّريةً لغيره عزّ وجلّ في تدبير أموره وتسيير شؤونه فإنه في الواقع يشرك بالله. والنتيجة أن لا يكون دعاؤه مستجاباً، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: ما اعتصم


28- الكافي، ج2،ص476.

29- بحار الأنوار، ج 90، ص 303.

30- الكافي، ج2، ص473.

31- وصايا عرفانية، ص 19.

273


234

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ إلا جعلت له المخرج من بينهنّ. وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات والأَرض من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد هلك"32. والسبب في ذلك أنه عندما يسأل الإنسان ربه أمراً ما وقلبه متعلقٌ بالأسباب ومعتمدٌ عليها فهذا ينافي الإخلاص له تعالى وهو القائل: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ33‏.﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾34

 

2- الذنوب والمعاصي:

حيث تشكل حاجباً ومانعاً بين العبد ومولاه، لذا على الإنسان أن لا يتأخّر عن التوبة والاستغفار فيما لو وقع في هفوةٍ ـ لا سمح الله ـ لأن الذنوب تحول دون قضاء الحوائج واستجابة الدعاء، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن العبد يسأل الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقض حاجته واحرمه إياها فإنه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان مني"35.

 

3- سؤال ما فيه الضرر:

قد يظنّ الإنسان في أمرٍ ما خيراً له، فيسأل الله ويلحّ في طلبه ولكن الله اللطيف الحكيم لعلمه بعاقبة الأمور وخفاياها وبواطنها يمنع هذا الأمر عن عبده رفقاً به ورحمة، أو يؤخّره عنه لأن صلاحه لا يكون في العاجل وإنما في وقتٍ لاحق، أو قد يبدله بما هو أفضل منه. فيظنّ الجاهل حينها أن الله تعالى أخلف وعده في استجابة الدعاء. ولكن الواقع أن الله تعالى إنّما امتنع عن إيصال الضرر إليه والذي طلبه نتيجة جهله. يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً36.


32- الكافي، ج2، ص63.

33- غافر، 14.

34- يونس، 106.

35- الكافي، ج 2، ص 271.

36- الإسراء، 11.

274


235

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 4- عدم الصدق في الطلب:

 

فقد يطلب الإنسان من الله تعالى ويسأله وهو غير صادقٍ في طلبه، والاستجابة إنما تطابق الدعوة، فما يسأله السائل ويعقد عليه ضميره ونيّته هو ما سيناله وليس ما يسأله بلسانه ويظهره بلفظه دون أن يقصده حقّاً. فحقيقة الدعاء هي ما يحمله القلب دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أُدير صدقاً أو كذباً. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"37. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة"38.


37- وسائل الشيعة، ج7، ص53.

38- الكافي، ج2، ص473.

 

275


236

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 المفاهيم الرئيسة

1- الدعاء هو الالتجاء إلى الله وطلب الحاجات منه، ومنشؤه ضعف الإنسان واحتياجه الدائمان اللذان لا ينفكّان عنه. وبمقدار ما يلتفت الإنسان إلى ضعفه ونقصه يندفع إلى الدعاء .

2- أهمية الدعاء تكمن في أنه وسيلة شريفة للارتباط بالحق، وأن فيه مفاتيح الفلاح والنجاح لكل حاجةٍ يطلبها الإنسان، فمن يُعطَ الدعاء فقد أُعطي الإجابة حتماً.

3- للدعاء آداب ٌوشروطٌ لا بدّ من مراعاتها لتحقيق الثمرة المرجوّة منه، وهناك موانع تحول دون إجابة الدعوة لا بد من الاحتراز منها.

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هو السبب الأساسي الذي يحمل الإنسان على الدعاء؟

2- أين تكمن أهمّية الدعاء بالنسبة لسلوك الإنسان المعنوي؟

3- للدعاء شروطٌ وآدابٌ عدّدها، تحدث عن ثلاثة منها.

4- ما هي الموانع والعوائق التي تحول دون استجابة الدعاء؟

276


237

الدرس الثاني والعشرون: الدعاء سلاح المؤمن

 للمطالعة

وصال المحبوب39

احفظ أدب الدعاء وانظر من تدعو، كيف تدعو ولماذا تدعو. وحقّق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك واطّلاعه على سرّك وما تكون فيه من الحق والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو الله تعالى بشيءٍ فيه هلاكك وأنت تظنّ أن فيه نجاتك، قال الله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً40.

 

وتفكر ماذا تسأل ولماذا تسأل. والدعاء استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعاً وتسليم الأمور كلها ظاهراً وباطناً إلى الله تعالى. فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة فإنه يعلم السر وأخفى، فلعلّك تدعوه بشيء قد علم من سرّك خلاف ذلك. قال بعض الصحابة لبعضهم: أنتم تنتظرون المطر وأنا أنتظر الحجر.

 

واعلم أنه لو لم يكن الله أمرنا بالدعاء، لكنّا إذا أخلصنا الدعاء تفضّل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء؟ وسُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: كل اسمٍ من أسماء الله أعظم، ففرّغ قلبك عن كل ما سواه، وادْعُه بأي اسم شئت فليس في الحقيقة لله اسمٌ دون اسم، بل هو الله الواحد القهار. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يستجيب الدعاء من قلبٍ لاهٍ.

 

إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم ولا يكن رجاؤه إلا من عند الله عزّ وجلّ، فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء وأخلصت سرّك لوجهه فأبشر بإحدى ثلاث: إما أن يعجّل لك ما سألت، وإمّا أن يدّخر لك ما هو أفضل منه، وإمّا أن يصرف عنك من البلاء ما لو أرسله إليك لهلكت. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي للسائلين.

الإمام الصادق عليه السلام

 

 


39- مصباح الشريعة، ص132.

40- الاسراء،11.

277


238

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 الدرس الثالث والعشرون

آداب العشرة والصداقة

 

 

 

 

أهداف الدرس

1- يشرح أهمّية الأخوّة والعشرة الصالحة وتأثيرها على تفكير الإنسان وسلوكه.

2- يذكر أهم صفات الأخ الصالح والصديق الطالح.

3- يعدّد أهم حقوق الأخ على أخيه المؤمن.

278


239

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 الحاجة إلى الإخوان

الإنسان مدني بطبعه، ولا يستطيع اعتزال الناس والانفراد عنهم لأن اعتزالهم يبعث على الغربة والوحشة والإحساس بالوهن والخذلان إزاء طوارئ الأحداث وملمّات الزمان. لأجل ذلك كان الإنسان توّاقاً إلى اتّخاذ الخلاّن والأصدقاء، ليكونوا له سنداً وسلواناً، يسرّون عنه الهموم ويخفّفون عنه المتاعب، ويشاطرونه السرّاء والضرّاء. قال أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "عليك بإخوان الصدق، فأكثر من اكتسابهم، فإنهم عدّة عند الرخاء، وجنّة عند البلاء"1.

فمخالطة الإنسان ضرورة لا غنى له عنها، لأن من البديهي أن الإنسان المنفرد عاجزٌ عن أن يوفّر لنفسه مقومات بقائه وتطوّره واستمراره، لذا هو مدفوعٌ بطبيعته إلى مخالطة الآخرين من بني نوعه ليستعين بهم على توفير هذه المقوّمات.

 

تأثير الصداقة

الدين الإسلامي دين عشرةٍ وليس دين عزلةٍ ورهبنةٍ. وهو ينظر إلى الروابط البشريّة نظرة اهتمامٍ وتقديس. وهناك وصايا كثيرة بشأن الصداقة وانتخاب الصديق لما للصداقة من أثرٍ عميق على حياة الإنسان. فالصديق له أثرٌ بالغ على صديقه فكرياً وعملياً وأخلاقياً، لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثّر والانفعال بالقرناء والأخلّاء، ما يحفّزه على محاكاتهم والاقتباس منهم. لذا نرى أن التّجاوب قويّ بين الأصدقاء، وصفاتهم سريعة الانتقال والعدوى فيما بينهم، وهي تارة تنشر مفاهيم الخير والصلاح، وأخرى مفاهيم الشر والفساد تبعاً لخصائصهم وطباعهم الكريمة أو الذميمة، وإن كانت عدوى الرذائل أسرع انتقالاً وأكثر شيوعاً من عدوى الفضائل. فالصديق الصالح رائد خيرٍ يهدي إلى الرشد والصلاح، والصديق الفاسد رائد شرٍّ ويقود إلى الغيّ والفساد. وكم انحرف أشخاصٌ كانوا يعدّون مثاليين فكراً وسلوكاً، ولكن ما لبثوا أن ضلّوا في متاهة الغواية والفساد لتأثرهم بالأصدقاء والأخلّاء المنحرفين، فعن

 

 

 


1- البحار، ج71، ص186.

280


240

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من خير حظّ المرء قرين صالح، جالس أهل الخير تكن منهم"2. لذلك كله أكّد الإسلام على ضرورة إيلاء مسألة اختيار الأصدقاء الجدّية والأهمية المطلوبة لكي لا تصبح الصداقة عامل ضياعٍ وانحراف، فمن وصايا أمير المؤمنين عليه السلام: "صادق أهل الخير والصلاح وكن منهم". من هنا يتحتّم على العاقل أن يتحفّظ في اختيار الأصدقاء، ويصطفي منهم من تحلّى بالخلق المرضيّ والسمعة الطيّبة والسلوك الحميد. رُوي أن النبي سليمان عليه السلام قال: "لا تحكموا على رجل بشي‏ء حتى تنظروا إلى من يصاحب فإنما يُعرف الرجل بأَشكاله وأَقرانه ويُنسب إلى أَصحابه وأَخدانه"3.

 

صفات الأخ الصّالح

للأخ الصالح صفاتٌ ينبغي الوقوف عندها ومعرفتها ليجري على أساسها انتخاب الصديق، وأهم هذه الصفات:

1- أن يذكّرك بالله وبالآخرة: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الجلساء خيرٌ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من تذكركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله"4.

 

2- أن يعين على صلاح الدين: عن الإمام علي عليه السلام قال: "إنما سمّي الرفيق رفيقاً لأنه يرفقك على صلاح دينك، فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق"5.

 

3- أن يكون من أهل التقوى: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "اطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض، وإن أَفنيت عمرك في طلبهم فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض أَفضل منهم بعد الأنبياء والأولياء، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق بصحبتهم. قال الله عز وجل: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾"6.

 

4- أن يكون عاقلاً ولبيباً: عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "يا هشام إياك ومخالطة الناس والأنس بهم إلا أن تجد منهم عاقلاً مأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك


2- وسائل الشيعة، ج16، ص263.

3- مستدرك الوسائل، ج8،ص 327.

4- وسائل الشيعة، ج12،ص23.

5- غرر الحكم، ص424.

6- بحار الأنوار، ج71،ص 282.

281


241

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 من السباع الضارية"7. وعن الإمام علي عليه السلام قال: "عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول"8. وعنه عليه السلام قال: "عليك بمقارنة ذي العقل والدين، فإنه خير الأصحاب"9.

 

5- أن يكون ناهياً عن الظلم والعدوان: عن الإمام علي عليه السلام قال: "الصديق من كان ناهياً عن الظلم والعدوان، معيناً على البر والإحسان"10.

6- أن لا يقول فيك شرّاً إن غضب منك: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك شراً، فاتّخذه لنفسك صديقاً"11.

 

7- أن يكون ناصحاً عند رؤية العيب: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الصديق الصدوق من نصحك في عيبك وحفظك في غيبك وآثرك على نفسه"12.

8- أن يكون عالماً: عن الإمام علي عليه السلام قال: "لا تصحب إلا عاقلاً تقياً، ولا تخالط إلا عالماً زكياً، ولا تودع سرّك إلا مؤمناً وفياً"13.

9- أن يكون معيناً على الطاعة: فعن الإمام علي عليه السلام قال: "المعين على الطاعة خير الأصحاب"14.

 

أصدقاء السوء

بعد معرفة ما هي أهم صفات من ينبغي لنا معاشرتهم نتعرّض الآن لتعداد صفات أصدقاء السّوء الذين ينبغي لنا تجنّبهم وعدم معاشرتهم أو الاختلاط بهم وهي:
1- الذي يحفظ المساوئ وينسى الفضائل: فعن مولى الموحّدين الإمام علي عليه السلام قال: "لا تصحب من يحفظ مساويك، وينسى فضائلك ومعاليك"15.

 

2- أهل الدنيا: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لا تصحبن أبناء الدنيا، فإنك إن أقللت


7- بحار الأنوار، ج1،ص155.

8- غرر الحكم، ص429.

9- م.ن، ص 429.

10- م.ن، ص415.

11- وسائل الشيعة، ج12،ص147.

12- غرر الحكم، ص424.

13- م.ن.

14- م.ن، ص416.

15- م.ن، ص418.

282


242

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 استثقلوك، وإن أكثرت حسدوك"16.

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لا تصادق ولا تؤاخ أربعة: الأحمق والبخيل والجبان والكذاب، أما الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وأما البخيل فإنه يأخذ منك ولا يعطيك، وأما الجبان فإنّه يهرب عنك وعن والديه، وأما الكذّاب فإنّه يَصْدُقُ ولا يُصَدَّقُ"17.

 

3- الفاسق: فعن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك"18.

4- الفاجر: فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره"19.

5- الشرير: عن الإمام الجواد عليه السلام قال: "إياك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره"20.

6- الكافر: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يواخينّ كافراً"21.

 

7- الخائن والنمّام: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إحذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأن من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك"22.

 

8- متتبّع العيوب: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس فإنه لم يسلم مصاحبهم منهم"23.

9- سريع الانقلاب: عن الإمام علي عليه السلام قال: "شرّ الأصحاب السريع الانقلاب"24.

10- السبّاب: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قعد عند سبّاب لأولياء الله فقد عصى الله"25 .


16- غرر الحكم، ص434.

17- مصادقة الإخوان، ص 80.

18- بحار الأنوار، ج71، ص196.

19- م. ن، ص191.

20- م. ن، ص198.

21- م. ن، ص197.

22- م.ن، ج 75، ص 229.

23- غرر الحكم، ص 433.

24- م.ن.

25- الكافي، ج2، ص379.

 

283


243

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 حقوق الأصدقاء

المؤمنون إخوة تربطهم ببعض بعضاً علاقة المحبة والعطاء والإحسان. ولكل أخ حقوقٌ وعليه واجبات. فلا يمكن بناء صرح الصّداقة على أسسٍ سليمة، ولا يمكن توقّع نتائج إيجابية لمستقبل العلاقات الأخويّة ما لم تُراع الضوابط والشروط الأساسية لها، والتي تأتي حقوق الأخوّة على رأسها. فللمعاشرة وظائفٌ وحقوقٌ لا بدّ من معرفتها والتقيّد بها لكي تحقّق الصداقة أهدافها المنشودة وتصل إلى غاياتها، وإليك بيان لبعضها:

1- حبّه: الإسلام يوصي بأن يحب الأخ أخاه المؤمن. وقد عدّ بعض الروايات هذا الحب حقاً للمؤمن على أخيه، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره"26.

 

2- إدخال السرور عليه: عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن"27. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من سر مؤمناً فقد سرني ومن سرني فقد سر الله"28.

 

3- إطعامه وكسوته: من حق المؤمن على أخيه أن يطعمه إذا جاع وأن يكسوه إذا عرى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما آمن بالله من شبع وأخوه المؤمن جائع، أو كُسيَ وأخوه عريان"29.

 

قضاء حوائجه: على المسلم أن يقضي حوائج أخيه بحدود إمكانه، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة"30. وعن الإمام السجاد عليه السلام قال: "إن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم"31.

 

5- نصرته: يواجه الإنسان في حياته أحياناً بعض المواقف الصعبة التي يكون فيها بأمسّ الحاجة إلى المعين والناصر. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته إلا نصره الله في مواطن يحب


26- وسائل الشيعة، ج12،ص297.

27- الكافي، ج2، ص188.

28- م. ن.

29- مكارم الأخلاق، ص134.

30- الكافي، ج2، ص 194.

31- بحار الأنوار، ج1، ص318.

 

284


244

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 فيها، وما من امرئ خذل مسلماً في موطن ينتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته"32. وكل من يعمد إلى مساعدة أخيه المؤمن فسوف يساعده الله أيضاً، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله في عون المؤمن ما دام المؤمن في عون أخيه المؤمن"33.

 

6- العفو عند الزلل: من حق الأخ على أخيه المؤمن أن يغفر له زلّته ويتجاوز عن خطيئته، لأنه ليس ملكاً معصوماً بل هو بشر وقد يصدر عنه أحياناً بعض الأخطاء وقد يخطئ وقد يصيب. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "شرّ الناس من لا يعفو عن الهفوة ولا يستر العورة"34, وعنه عليه السلام قال: "شر إخوانك من أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار"35.

 

9- تنفيس كربته: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك"36.

 

10- تقديم النّصح: من الحقوق المتبادلة أيضاً بين الأصدقاء حق إسداء النصيحة. عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "عليك بالنصح في خلقه فلن تلقاه (تعالى) بعمل أفضل منه"37. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه"38.

 

11- حفظه في غيبته: على المسلم أن يحفظ أخاه المسلم في غيبته ويحول دون الإضرار به. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في شأن الإخوة: "كن له ظهراً فإنه لك ظهر، إذا غاب عنك فاحفظه في غيبته، فإذا شهد فزره، وأحله وأكرمه فإنه منك وأنت منه"39.

 

12- أن تحبّ له ما تحبّه لنفسك: فقد سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السلام أوصني، فقال عليه السلام: "أوصيك بتقوى الله وبر أخيك المسلم، وأحبّ له ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك"40.


32- المحجة البيضاء، ج3،ص394.

33- الكافي، ج2،ص200.

34- جامع أحاديث الشيعة، ج16، ص188.

35- غرر الحكم، ص 418.

36- الكافي، ج2، ص206.

37- م.ن، ص164.

38- م.ن، ص208.

39- م.ن، ج2، ص136.

40- الأمالي، ص94.

 

285


245

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 المفاهيم الرئيسة

1- مخالطة الإنسان ضرورة لا غنى له عنها، لأن الإنسان وحده عاجزٌ عن توفير ما يراه مقوّماً لبقائه وتطوّره واستمراره، لذا هو مدفوعٌ بطبيعته إلى مخالطة الآخرين ومعاشرتهم.

2- للمعاشرة والاختلاط مع الآخرين تأثيرٌ كبير على تفكير الإنسان وسلوكه العملي، لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثّر والانفعال بالقرناء والأخلاء.

3- من الأهمية بمكان حسن اختيار الخليل الصالح، بعد معرفة صفاته، ومراعاة حقوقه لأجل المحافظة عليه، لأن الأخوّة أمرٌ عزيز لن يكون بمتناول اليد دائماً.

أسئلة حول الدرس

1- لماذا تعتبر الأخوّة ضرورة لا غنى عنها بالنسبة للإنسان؟

2- ما هو أثر الأخوّة والصداقة على حياة الإنسان فكراً وعملاً؟

3- ما هي أهم صفات الأخ الصالح؟

4- اذكر بعض صفات الشخص الطالح.

5- ما هي حقوق الأخ على أخيه المؤمن؟ تحدث عنها بإيجاز.

286


246

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 للمطالعة

الحبّ الفطريّ للكمال 41

بنيّ:

من الأمور التي أودّ أن أوصيك بها وأنا على عتبة الموت أُصعِّد الأنفاس الأخيرة، أن تحرص ما دمت متمتعاً بنعمة الشباب على دقّة اختيار من تعاشر وتصاحب.

فليكن انتخابك للأصحاب من بين أولئك الصالحين المتديّنين والمهتمّين بالأمور المعنوية، ممن لا تغرّهم زخارف الدنيا ولا يتعلّقون بها، ولا يسعون في جمع المال وتحقيق الآمال أكثر مما هو متعارف أو أكثر من حدّ الكفاية. وممن لا تلوّث الذنوب مجالسهم ومحافلهم ومن ذوي الأخلاق الكريمة. فإن تأثير المعاشرة على الطرفين من إصلاحٍ وإفسادٍ أمرٌ لا شك في وقوعه.

 

واسعَ أن تتجنّب المجالس التي توقع الإنسان في الغفلة عن ذكر الله، فإن ارتياد مثل هذه المجالس قد يؤدّي إلى سلب الإنسان التوفيق، الأمر الذي يعدّ بحدّ ذاته خسارة لا يمكن جبرانها.

 

إعلم أنّ في الإنسان - إن لم أقل في كل موجود - حبّاً فطرياً للكمال المطلق وحبّاً للوصول إلى الكمال المطلق. وهذا الحبّ يستحيل أن ينفصل عنه كما أن الكمال المطلق محال أن يتكرّر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحقّ جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون. فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور، ولهذا فهم يتوهّمون أنهم يطلبون شيئاً آخر وهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أي جمال أو قدرة أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالّتهم المنشودة.

 

فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى، هم في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة. وطلّاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك.

 


41- وصايا عرفانية، ص 19.

 

 287


247

الدرس الثالث والعشرون: آداب العشرة والصداقة

 ولو أُعطي الساعون الى القدرة والسلطة، التصرّف في كل العالم المادّي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرات، وكل ما فوقها، ثم قيل لهم: إن هناك قدرةً فوق هذه القدرة التي تملكونها، وهناك عالماً أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنهم من المحال أن لا يتمنّوا ذلك، بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة: "ليتنا بلغنا ذلك أيضاً!" وهكذا طالب العلم، فهو إن ظنّ أن هناك مرتبة أخرى - غير ما بلغه - فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي القدرة للوصول إليه أو يا ليت لي سعةً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!

 

إن ما يُطمئن الجميع ويخمد نيران النفس المتمرّدة ويحدُّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلَّ وعل, إذا كان مظهراً له، فإن الاستغراق فيه يبعث الطمأنينة والهدوء... ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ42.

 

الإمام الخميني قدس سره

 

 


42- الرعد، 28

288


248

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

 القسم الثاني

 

 

فقه المجاهد

 

 

 290


249

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

 الدرس الرابع والعشرون

                                                   

 

التقليد

 

 292


250

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

 تعريف التقليد

هو العمل بالأحكام الشرعية طبقاً لرأي المرجع الجامع لشرائط التقليد، وهو واجب على كلِّ مكلّف غير مجتهدٍ ولا محتاط1.

 

شروط مرجع التقليد

لا بدّ أن يتوفّر في المجتهد عدة شروط لكي يصح لنا أن نقلده، وهي:

الحياة: فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً على الأحوط وجوباً. نعم يجوز البقاء على تقليد الميت الأعلم إذا أفتى الحي الأعلم بجواز البقاء على تقليده.

• البلوغ.

• العقل.

• الذكورة.

 

طهارة المولد: أي أن لا يكون متولّداً من زنا.

الضبط: أي أن لا يقل ضبطه عن المتعارف، والمقصود بقلة الضبط: كثرة النسيان الطارئ على المجتهد بنحو أزيد من المتعارف2.

 

الإيمان: أي أن يكون اثني عشرياً (الذي يعتقد بولاية الأئمة الاثني عشر عليهم السلام).

العدالة: وهي عبارة عن ملكة نفسيّة باعثة على فعل الواجبات الشرعيّة وترك المحرّمات، ويكفي في معرفتها حسن الظاهر.

 

التسلّط على النفس الطاغية: يشترط على الأحوط وجوباً التسلّط على النفس الطاغية، وعدم الحرص على الدنيا.

الاجتهاد: بمعنى القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المقرّرة شرعاً.

 

الأعلميّة على الأحوط وجوباً: والمرجع الأعلم هو الأقدر والأعرف بالقواعد التي على


1- وتعريفه العلمي، العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معين.

2- تهذيب تحرير الوسيلة، ج1، ص، 13.

294


251

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

 أساسها يجري استنباط الأحكام الشرعية، ولا بد أن يكون لديه اطلاع على أوضاع زمانه ومكانه بالمقدار الذي له مدخليّة في تشخيص موضوعات الأحكام.

 

طرق معرفة مرجع التقليد

1- البيّنة: والمقصود بها شهادة عدلين من أهل الخبرة على اجتهاد وأعلميّة المجتهد المراد تقليده، ولا يشترط أن تفيد البيّنة العلم، بل يكفي أن تفيد الاطمئنان بذلك.

2- الشّياع المفيد للعلم أو الاطمئنان: وهو أن يشتهر بين أهل الخبرة والاستنباط من العلماء وغيرهم، بأنّ ذلك العالم مجتهد أو ذلك الشخص من المجتهدين جامعٌ لشرائط التقليد.

3- الاختبار الشخصي: وذلك يكون مع قدرة المكلّف على الاختبار لمعرفة المجتهد أو الأعلم من المجتهدين.

 

أحكام الالتزام من غير تقليد أو بتقليد باطل

إذا عمل المكلّف من دون تقليداً أصلاً أو كان تقليده باطلاً، يوجد صورتان:

إذا كان جاهلاً مقصّراً3 فعمله باطل إلّا إذا كان عمله مطابقاً للواقع أو لفتوى المرجع الجامع للشرائط الواجب عليه أن يقلّده أو موافقاً للاحتياط.

 

إذا كان جاهلاً قاصراً4، فله صورتان:

أ- إذا كان حين تأديته لأعماله كالصلاة والصيام ناوياً القربة إلى الله تعالى، وكان عمله مطابقاً للواقع أو لفتوى المرجع الجامع للشرائط الواجب عليه أن يقلده، فعمله صحيح.

ب- إذا لم يكن حين تأديته لأعماله كالصلاة والصيام ناوياً القربة إلى الله تعالى، فأعماله باطلة.


3- الجاهل المقصّر، هو المكلّف الذي يعرف نفسه ويكون ملتفتاً إلى جهله، ويعرف الطرق والوسائل التي تمكنه من التعرف والتعلم لرفع جهله، ولكنه لا يسلكها.

4- الجاهل القاصر، وهو الشخص الذي لا يعرف أنه جاهل أو لا يعرف الطرق والوسائل التي تمكنه من التعرف والتعليم لرفع جهله.

295


252

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

 شهادات بأعلميّة السيّد عليّ الخامنئ دام ظله

إذا أراد المكلّف البحث عن مرجع التقليد الذي تتحقّق فيه شروط التقليد، فإنّه سوف يجد أنّ تلك الشروط تنطبق على سماحة الإمام السيد القائد دام ظله، حيث إنّ سماحة السيد القائد يتمتّع بدرجة عالية من التقوى والورع والعدالة والعلم، والمعرفة بأوضاع زمانه ومكانه، وقدرته العالية على فهم الدين، وفهم المصالح العليا للإسلام، وقد توافر الكثير من الشهادات الخطيّة (أكثر من ستين شهادة) من أهل الخبرة والاختصاص التي تشهد بمرجعيّة السيّد القائد وأعلميّته، وسوف نذكر منها ثلاث شهادات:

 

 

1- شهادة آية الله السيد جعفر الحسيني الكريمي5 بالأعلميّة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّي طيلة سنين أجالس السيّد القائد وأشترك في جلسة شورى الإفتاء بمحضر من جنابه، مع حضور عدّة من الفقهاء العظام المعروفين(دامت إفاضاتهم)، فرأيت السيّد القائد دام ظله أدقّ نظراً، وأسرع انتقالاً، وأقوى استنباطاً للفروع من الأصول من غيره من المراجع العظام (حفظهم الله تعالى).

 

فإن كان ذلك هو الميزان في الأعلميّة كما هو كذلك، فهذا الميزان قد لمسته من مباحثات السيّد القائد دام ظله .ومن هنا، أعترف وأشهد بأنّه أعلم من أقرانه المعاصرين. نفعنا الله تعالى وإيّاكم بزعامته وإفاضته وإرشاداته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



2- شهادة آية الله الشيخ أحمد جنّتي6 بالأعلميّة:

بسمه تعالى

ملاك الأعلميّة عندي أن يكون الفقيه أقدر على استنباط الأحكام من مصادرها وأدلّتها الشرعيّة مع ملاحظة الزمان والمكان والمقتضيات. وأنا لا أعرف في المرشّحين للمرجعيّة اليوم أقوى وأقدر من السيّد القائد دام ظله.

 

 


5- عضو جامعة المدرسين، وأحد أساتذة البحث الخارج في قم المقدسة، وعضو مجلس شورى الإفتاء في مكتب الإمام الخامنائي دام ظله ، حضر أبحاث السيد الخوئي دام ظله مدة 24 عاماً، وأبحاث الإمام الخميني قدس سره 14عاماً.

6- رئيس مجلس صيانة الدستور في الجمهورية الإسلامية، إمام جمعة طهران المؤقت، عضو مجلس الخبراء، عضو في جامعة المدرسين.

296


253

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

أضف إلى ذلك أنّ المسألة اليوم مسألة الإسلام والكفر، لا مسألة الأحكام الفرعيّة فحسب. فليتّقِ الله امرؤ ولينظر في عواقب الأمور، ومكائد الشياطين وعدائهم للإسلام، وعزمهم على هدم أركانه وتحطيم المسلمين الأصليين المحمديين.

 

والله من ورائهم محيط. ربّنا عليك توكّلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.

 

6 ـ رجب ـ 1414هـ

أحمد جنتي

 

3- شهادة آية الله مرتضى بني فضل7 بالأعلميّة:

عندما اجتمعنا في مجلس الخبراء أكثر من سبعين مجتهداً أُنتُخب سماحة السيّد القائد دام ظله، وعلى أساس الدستور الذي ينصّ على أنّ القائد لا بدّ أن يكون قادراً على استنباط في كثير من أبواب الفقه. ومن المعلوم أنّ معظم أبواب الفقه هي في مسائل الحكومة والمجتمع، ولعلّها أكثر من 80% من مجموع مسائل الفقه.فمن المؤكّد أنّ سماحة السيّد القائد هو الأعلم في هذه المسائل .وعليه، فإنّي أعتقد أنّ السيّد المعظّم هو الأعلم بعد الشيخ الآراكي.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

مرتضى بني فضل

 

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف التقليد شارحاً ذلك في سطرين.

2- هل حدد الإسلام شروطاً لمرجع التقليد؟ وما هي تلك الشروط؟

3- إذا عمل المكلّف من دون تقليد أو بتقليد باطل، ما هو حكمه؟

 297

 

 


254

الدرس الرابع والعشرون: التقليد

  

298


255

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 الدرس الخامس والعشرون

 

التخلّي

300


256

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 التخلّي وهو قضاء الحاجة من البول أو الغائط. ويجب فيه مراعاة الأمور الآتية:

 

ستر العورة

1- يجب حال التخلّي ستر العورة عن الناظر المميِّز (وهو الذي يستطيع أن يفرّق بين الحسن والقبح) رجلاً كان الناظر أو امرأة حتى عن الطفل والمجنون المميّزين، ويستثنى من ذلك الزوجان، فيجوز لكلّ منهما النظر إلى عورة الآخر.
 

2- يحرم النظر إلى عورة الغير رجلاً كان أو امرأة حتى في الطفل والمجنون المميِّزين.

3- العورة حال التخلّي في الرجل هي القبل والدبر والخصيتان، وفي المرأة هي القبل والدبر1، والأحوط وجوباً ستر الشعر النابت في أطراف العورة.

 

استقبال القبلة واستدبارها

يحرم حال التخلّي استقبال القبلة أو استدبارها بمقاديم البدن (وهي الصدر والبطن) وهو محرّم حتى لو أمال عورته عن القبلة.

لو اشتبهت القبلة على المكلّف، ولم يستطع التعرّف إليها ولا تأخير قضاء الحاجة، يعمل في هذه الحالة بظنّه، وإن لم يكن لديه ظنّ باتجاه معيّن للقبلة يتخيّر بين الجهات الأربع.

 

الاستنجاء

1- الاستنجاء: هو تطهير موضع خروج البول والغائط.

 

2- تطهير موضع خروج البول:

أ- لا يمكن تطهير مخرج البول إلا بالماء.

ب- الأحوط وجوباً غسل مخرج البول بالماء القليل مرّتين، ويكفي مرةً واحدةً بالماء الكثير

 

 


 1- هذا في المماثل مع مماثله.

302


257

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 من دون فرق بين الرجل والمرأة. 


ج- تطهير موضع البول مرّة أو مرّتين يتضمّن زوال النجاسة، أي لا يجب إزالة عين النجاسة ثمّ تطهير مخرج البول بالماء مرّة أو مرّتين.

 

3- تطهير موضع خروج الغائط:

يمكن تطهير مخرج الغائط بإحدى طريقتين:

الطريقة الأولى: الغسل بالماء إلى أن تزول عين النّجاسة وآثارها، ولا يجب التعدّد في الغسل.

يجب تطهير مخرج الغائط بالماء فقط، ولا يمكن تطهيره بالمسح (وهي الطريقة الثانية الآتية) في ثلاثة موارد، وهي:

أ- إذا خرجت مع الغائط نجاسة أخرى كالدَّم مثلاً.

ب- إذا وصلت إلى موضع الغائط(المخرج) نجاسة من الخارج (كالبول).

ج- إذا تعدّى الغائط عن المقدار المتعارف (يعني وصل الغائط إلى أماكن أخرى غير مخرجه).

 

الطريقة الثانية: المسح بشيءٍ قالع للنجاسة: يمكن تطهير مخرج الغائط بشيء قالع للنجاسة غير الماء كالحجر والقماش ونحوهما، إلى أن تزول عين النّجاسة. والقالع للنجاسة لكيّ يصحّ التطهير به لا بدّ أنّ تتوفّر فيه ثلاثة شروطٍ، هي:

أ- أن يكون طاهراً وجافّاً.

ب- أن لا يكون من الأشياء المحترمة (الخبز، الأحجار الكريمة، الورق المكتوب عليه آيات قرآنية).

ج- أن لا يكون من العظم أو الروث2.

 

الاستبراء

1- تعريفه: وهو تحرِّي موضع خروج البول للاطمئنان بعدم وجود بقايا من البول في المجرى، وهو من المستحبّات.


2- الروث، هو بعر (أوساخ) الحيوانات.

303


258

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 2- نوعاه:

 

النوع الأول: الاستبراء من البول: وهو استعمال الخرطات التسع، بالترتيب التالي:

أ- أن يمسح بقوّة ما بين المقعد وأصل الذكر ثلاثاً.

ب- ثمّ يضع سبّابته مثلاً تحت ذكره، وإبهامه فوقه، ويمسح بقوّة إلى رأسه ثلاثاً.

ج- ثمّ يعصر رأس الذكر ثلاثاً.

 

النوع الثاني: الاستبراء من المنيّ: ويكون بنفس البول أي التبول بعد حصول الجنابة.

 

3- فائدة الاستبراء:

أ- فائدته بعد البول: أنّ المكلّف لو رأى رطوبة وشكَّ في كونها بولاً أو غيره يحكم بطهارتها، وأنّ تلك الرطوبة المشكوكة لا تنقض الوضوء لو توضّأ مثلاً بعد البول.

ب- فائدته بعد المنيّ: أنَّ المكلّف لو رأى بللاً مشتبهاً به، فإنّه يحكم بطهارة تلك الرطوبة.

ج- أنواع البلل المشتبه به وحكمه: قد تخرج رطوبة يشتبه بها فلا يدري أنهّا بول أو غيره فهي محكومة بالطهارة، وهذه الرطوبة على أنواع، هي:

• الرطوبة التي تخرج أحياناً بعد المنيّ تسمّى بـ (الوذي).

• الرطوبة التي تخرج أحياناً بعد البول تسمّى بـ (الودي).

• الرطوبة التي تخرج أحياناً عند المداعبة بين الزوجين تسمّى بـ (المذي).

 

يكره قضاء الحاجة في الأماكن التالية:

1ـ الشوارع العامّة.

2- الأماكن التي يستريح فيها الناس كالحدائق أو تحت الأشجار.

3- الطرق المؤدّية إلى المسجد أو المنازل.

4- تحت الأشجار المثمرة.

5- بيوت الحشرات (كبيوت النمل).

6- في الماء الراكد.

7- الأرض الصلبة.

304


259

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 أسئلة حول الدرس

1- هل يجب ستر العورة حالّ التَخلّي؟ وضح ذلك، مع بيان مصداق العورة عند الرجل والمرأة.

2- اشرح كيف يجري تطهير مخرج البول والغائط بالماء.

3- بيّن ما هو الاستبراء وكيفيّته.

305


260

الدرس الخامس والعشرون: التخلّي

 

306


261

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 الدرس السادس والعشرون

 

 

النّجاسات

308


262

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 مقدّمة

لقد اهتمت الشريعة الإسلاميّة بكلّ جوانب المجتمع الإنساني، ومنها جانب الطهارة والابتعاد عن القذارات والنّجاسات. ولكيّ يحافظ الإنسان على هذه الحالة لا بدّ له من التعرّف إلى النجاسات والمطهِّرات التي حدّدتها الشريعة الإسلاميّة. ونبدأ بالنجاسات، وهي:

 

البول والغائط

وهما نجسان من كلِّ إنسان، وكذلك من كل حيوان له نفس سائلة، وغير مأكول اللحم، ويمكن توضيحهما في هذا الجدول:

 

جدول توضيحي للبول والغائط

حكمه

مثاله

البول والغائط

النجاسة

كل إنسان

إنسان

الطهارة

كالبقر

حيوان مأكول اللحم له نفس سائلة

النّجاسة

الأسد - الجرذ

حيوان غير مأكول اللحم  له نفس سائلة

الطهارة

السمك - الصرصار

حيوان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم  ليس له نفس سائلة

 

 

أحكام هامّة

1- يجب توفّر الشرطين (له نفس سائلة وغير مأكول لحم)معاً في الحيوان حتّى يكون البول والغائط من الحيوان نجسين، فلو لم يتحقّق الشرطان معاً فلا يحكم على بول وغائط الحيوان بأنهما نجسان.

310


263

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 2- الحيوان ذو النفس السائلة: هو الحيوان الذي يخرج منه الدم بدفق عند ذبحه، ويعبر بشخب الدم عند الذبح.

 

 

3- بول وغائط الطيور المحرّمة الأكل، كالغراب والصقر طاهران.

 

4- بول الحيوان مأكول اللحم طاهر، والأقوى حلّيته ولو مع عدم الضرورة، كما لا إشكال في حليّة بول الإبل للاستشفاء.

 

المنيّ

المنيّ نجس من الإنسان، ومن كل حيوان ذي نفسٍ سائلة على الأحوط وجوباً سواء كان مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم.

جدول توضيحي لحكم المنيّ

حكمه

مثاله

المنيّ

النّجاسة

رجل - إمرأة

إنسان

النّجاسة على الأحوط وجوباً

الخيل - الذئب

حيوان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ذو نفس سائلة

الطّهارة

أبو بريص (الوزغ) - الحيّة

حيوان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم  ليس له نفس سائلة

 

الميتة

1- ميتة الإنسان:

ميتة الإنسان نجسة ما عدا الأجزاء التي لا تحلّها الحياة.

 

2- أحكام هامّة لميتة الإنسان:

أ- يستثنى من نجاسة بدن الميت المسلم: الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، والشهيد الذي سقط في أرض المعركة، والميّت الذي جرى غسله بالأغسال الثلاثة الخاصة بالميت.

ب- الأجزاء التي لا تحلّها الحياة هي: الصوف، الشعر، السنّ، القرن، الوبر، الريش،

311


264

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 المنقار، الظفر، العظم، الحافر، محكومة بالطهارة (وهذه مشتركة مع ميتة الحيوان).


ج- ما ينفصل بنفسه من القشور الرقيقة من جلد اليدين أو الشفتين أو الرجلين أو سائر أجزاء البدن محكوم بالطهارة.

 

3- ميتة الحيوان:

ميتة الحيوان نجسة إذا كان له نفس سائلة سواء أكان محلّل الأكل أم محرّمه.

 

4- أحكام هامة لميتة الحيوان:

أ- إذا شكَّ المكلَّف في شيء أنّه من أجزاء الحيوان أو من غيره (كالصناعيّ) ولو كان من بلاد الكفّار يحكم بطهارته وتجوز الصلاة فيه. ولكن لو شكّ في أنّ تلك الأجزاء من حيوان له نفس سائلة أو ليس له نفس سائلة يُحكم بطهارته. ولكن لا تصحّ الصلاة فيه لعدم إحراز التذكية.

 

ب- الجلود أو اللحوم المستوردة من بلاد المسلمين أو من البلاد غير الإسلاميّة لها ثلاث صور:

الأولى: أن يعلم بأنّها مذكَّاة (مذبوحة على الطريقة الشرعيّة) فهي محكومة بالطهارة ويجوز أن نصلّي بها.

الثانية: أن يعلم بأنّها غير مذكَّاة فهي محكومة بالنّجاسة ولا يجوز الصلاة فيها.

الثالثة: أن يشكَّ في كونها مذكَّاة أو لا فهي محكومة بالطهارة، ولكن لا يجوز الصلاة فيها إن كانت من بلاد الكفار وإلاّ جاز.

جدول توضيحي لحكم الجلد

حكمه

مثاله

الميتة

النّجاسة

الدجاج - الدبّ

حيوان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ذو نفس سائلة

الطهارة

أبو بريص (الوزغ) - الحيّة

حيوان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم  ليس له نفس سائلة

 

312


265

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 الدم وأحكامه

1- دم الإنسان نجس مطلقاً.

2- دم الحيوان الذي له نفس سائلة نجس سواء أكان محللَّ الأكل أم محرَّمه.

3- الدم المتبقّي في الذبيحة بعد ذبحها طاهر، ويجوز أكله إذا صدق أنَّه جزء منها أو كان مستهلكاً.

4- نقطة الدم التي توجد في البيضة محكومة بالطهارة، ولكن لا يجوز أكلها فيجب إزالتها عند الأكل.

5- لو أدخلنا الإبرة في شريان الدم ولاقت الدم، ثمّ أُخرجت الإبرة من دون أيّ أثرٍ للدم عليها، فإنّها تكون طاهرة.

6- لو شُكَّ في شيء أنّه دم أو غيره يحكم بطهارته، ولا يجب التأكّد أو الفحص إذا كان دماً أم لا.

 

جدول توضيحي لحكم الدم

حكمه

مثاله

الدم

النّجاسة

كل إنسان

إنسان

النّجاسة

البقر

حيوان مأكول اللحم له نفس سائلة

النّجاسة

الأسد - الجرذ

حيوان غير مأكول اللحم له نفس سائلة

الطهارة

السمك - الصرصار

ليس له نفس سائلة اللحم مأكول أو غير  حيوان مأكول اللحم

 

الكلب والخنزير
1- الكلب والخنزير البريّان نجسان بجميع أجزائهما بدون استثناء.
2- ميتة الكلب والخنزير البريّان نجسة لجميع أجزائها حتّى التي لا تحلّها الحياة كالعظم, القرن, السن, الظفر, الحافر... إلخ.

313


266

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 أحكام عامة في النجاسات

1- كيفيّة تنجّس الأشياء: تتحقّق النجاسة للجسم الطاهر إذا لاقى نجاسة مع وجود رطوبة مسرية. فإن كان الجسمان جافّين أو لا رطوبة مسرية على أحدهما فلا تنتقل النجاسة.

 

2- يشترط في صحّة بعض العبادات طهارة البدن واللباس كالصلاة فلا يمكن أن يصلّى بالنجاسة إلاّ بما كان معفواً عنه فيها، وهو:

أ- الدم إذا كان بمقدار عقدة السبّابة (وهي الأصبع التي بجانب الإبهام) سواء أكان الدم على الثوب أم البدن.

ب- دم الجروح والقروح على البدن أو اللباس حتىّ تبرأ إذا كان في إزلتها حرج شديد على المكلّف.

ج- إذا كان ما تنجّس مما يُلبس ولا تتمّ به الصلاة منفرداً كالجوارب.

 

3- لا يجوز تنجيس المسجد والقرآن الكريم، ولو وقعت النجاسة وجب تطهير المتنجّس منهما فوراً.

4- لا يجوز للإنسان أن يأكل الأعيان النجسة كالدم ولا المتنجّسة كما لو تنجّس الخبز مثلاً.

 

طرق معرفة حصول النجاسة

يوجد ثلاث طرق، وهي:

1- العلم: أن يحصل لدى المكلّف علم بوجود النّجاسة على بدنه أو ثوبه أو أي شيء آخر.

2- البيّنة الشرعيّة: أي شهادة عدلين بحصول النّجاسة للإناء مثلاً.

3- إخبار صاحب الشيء1: فلو أخبر صاحب الشيء (الثوب) بأن هذا الشيء متنجّس يحكم بالنّجاسة.

 

 

أسئلة حول الدرس

عدد النّجاسات شارحاً ثلاثة منها.

الجلود واللحوم المستوردة من بلاد المسلمين وغيرهم لها ثلاث صور، وضحها.

ما هي طرق معرفة النّجاسة؟

هوامش

1- ما يصطلح عليه في علم الفقه إخبار ذي اليد.


1- ما يصطلح عليه في علم الفقه إخبار ذي اليد.

314


267

الدرس السادس والعشرون: النّجاسات

 

 

315


268

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 الدرس السابع والعشرون

                                                         

 

المطهّرات

 

 316


269

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 المطهّر الأول: الماء

 

1- أقسام الماء:

يقسم الماء إلى قسمين:

أ- الماء المضاف:

هو كل سائل لا يصحّ أن يطلق عليه عرفاً اسم الماء إلّا مع إضافة شيء آخر إليه (كماء الرمّان).

 

أحكامه:

طاهر في نفسه، ولكنّه غير مطهّر لا من الحدث ولا الخبث.

إذا لاقى الماء المضاف نجساً أو متنجّساً ينجس كلّه ولو كان أكثر من كرّ.

 

ب- الماء المطلق:

هو كل سائل يصحّ أن نقول عنه عرفاً إنّه ماء من دون إضافة شيء آخر إليه، كماء البحر والأنهار والمطر والآبار، والماء الراكد، وللماء الراكد نوعان:

الأول: الماء الكثير (الكرّ): وهو ما بلغ وزنه: 384 ليتراً من الماء تقريباً ويسمّى بالكرّ.

 

أحكام الماء الكثير:

الماء الكثير طاهر في نفسه، و مطهر لغيره من الحدث والخبث.

إذا لاقى الماء الكثير نجاسة، لا يتنجّس إلّا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة (الطعم، اللون، الرائحة) بوصف النّجاسة.

إذا تنجّس الماء الكثير يمكن تطهيره من خلال: زوال تغيّره الذي حصل بسبب النجاسة كما لو تغير لونه بسبب الدم، واختلاطه بالماء الكثير.

الثاني: الماء القليل: وهو ما كان مقداره أقلّ من الكرّ.

318


270

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 أحكام الماء القليل:

الماء القليل طاهر في نفسه، ويُطهَّر به من الحدث والخبث.

يتنجّس الماء القليل بمجرد ملاقاته للنّجاسة.

إذا تنجّس الماء القليل يمكن تطهيره من خلال اتصاله وامتزاجه بالماء الكثير.

 

2- كيفيّة التطهير بالماء:

أ- تطهير الأواني:

يختلف تطهير الأواني بحسب نوع النّجاسة الحاصلة، ويمكننا أن نطهّر الآنية بالطريقة الآتية:

ملاحظة

الماء القليل

الماء الجاري والكثير

بالمطر

نوع النجاسة

بعد إزالة النّجاسة والتعفير بالتراب

2

1

1

ولوغ الكلب

   بعد إزالة النّجاسة

7

7

1

موت الجرذ أو شرب الخنزير منه  

بعد إزالة النّجاسة

3

1

1

(كالدم والبول)  باقي النجاسات

 

 

ب- تطهير الثياب وغيرها:

يمكن تطهير الثياب وغيرها من الأشياء المتنجّسة بالطريقة الآتية:

إزالة عين النّجاسة.

التطهير بالماء الكثير مرّة واحدة.

 

إذا كان الماء قليلاً، وكانت النّجاسة بولاً فلا بدّ من تطهيرها مرّتين.

يجب العصر أو الدلك ونحوهما في الأشياء المتنجّسة التي تحتاج إلى عصر كالثياب.

 

319


271

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 المطهّر الثاني: الأرض

تطهّر الأرض باطن القدم، وأسفل الحذاء، ولكن بعد توفّر الشروط التالية:

1- إزالة عين النّجاسة.

2- أن تكون النّجاسة حصلت من الأرض على الأحوط وجوباً.

3- المشي على الأرض بمقدار عشر خطوات تقريباً أو أن يمسح على الأرض بنحو يطمئن المكلّف بحصول الطهارة.

4- أن تكون الأرض طاهرة وجافّة حين المشي أو المسح عليها.

5- ملاحظة هامة: الأرض المبلّطة بالزفت لا تطهر باطن القدم، ولا أسفل الحذاء.

 

المطهّر الثالث: الانتقال

وهو انتقال عين النّجاسة إلى جسم طاهر بحيث تصبح جزءً منه، كدم الإنسان الذي ينتقل إلى القمل أو البعوضة، فيحكم بطهارة ذلك الدم.

 

المطهّر الرابع: زوال عين النجاسة

وهو زوال عين النّجاسة عن بدن الحيوان أو بواطن الإنسان.

 

أحكام زوال عين النجاسة:

1- إذا تنجّس بدن الحيوان ثمّ زالت عين النّجاسة عنه يطهر.

2- لو تنجّس شيء من باطن الإنسان كباطن الأنف أو الفم يطهر بزوال عين النجاسة.

3- بواطن الإنسان طاهرة، فلو أكل أو شرب شيئاً نجساً (كالدم) أو متنجّساً (كالعصير إذا تنجّس بإحدى النّجاسات)، فإنّ باطنه طاهر بزوال النجس ولا يجب تطهير الفم.

4- إذا خرج دم من الأسنان وزالت عين النّجاسة بريق الفم طهر، وكذلك لو كانت النجاسة من الخارج وقد زالت عينها.

 

المطهّر الخامس: الغَيْبَة

وهي أن يعلم شخص بحصول نجاسة في بدن المسلم أو لباسه أو شيء آخر منه، ثمّ غاب عنه مدّة من الزمن، فيحكم بالطهارة مع توّفر الشروط الآتية:

320


272

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 1- أن يرى أن صاحب الشيء المتنجّس يتعامل معه معاملة الطاهر. مثاله لو تنجست آنية ثمّ رآه يأكل فيها مع الرطوبة المسرية.

 

2- أن يكون الشخص الذي حصلت عنده النّجاسة عالماً بحصول النّجاسة.

3- أن يكون صاحب الشيء المتنجّس عارفاً بأحكام الطهارة والنّجاسة.

4- أن يحتمل أنّه طهّر ذلك الشيء، وإلاّ فمع العلم بالنّجاسة يبقى الشيء متنجّساً.

 

المطهّر السادس: الاستحالة

1- الاستحالة هي تحوّل الشيء النّجس أو المتنجّس إلى شيء آخر، كأن يتحوّل الخشب المتنجّس إلى رمادٍ.

2- إذا تحقّقت الاستحالة يحكم بطهارة الشيء الذي كان متنجّساً.

3- إذا تغيّر بعض أوصاف الجسم النجّس أو المتنجّس لا يحكم بالطهارة، كما لو تنجّس الماء وتحوّل إلى ثلج فقط.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- عدّد المطهرات وتحدّث عن اثنين منها.

2- اشرح كيفية التطهير بالماء عند حصول النجاسة بالبول.

3- عرّف الغَيْبَة مع ذكر شروط حصول الطهارة بها.     

321 


273

الدرس السابع والعشرون: المطهّرات

 

322


274

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 الدرس الثامن والعشرون

 

الوضوء

324


275

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 الوضوء

يجب في الوضوء:

1- الغسل:

وهو عبارة عن غسل الوجه واليدين:

أ- غسل الوجه: يجب غسل الوجه طولاً ما بين قصاص الشعر إلى طرف الذقن، وعرضاً: ما دارت عليه الإبهام والوسطى.

ب- غسل اليدين: يجب غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع.

 

2- المسح:

وهو عبارة عن مسح الرأس والقدمين:

أ- مسح الرأس: يجب مسح شيء من مقدّم الرأس بما يصدق معه المسح. ولا يجوز المسح على الشعر النابت على مقدّم الرأس إذا كان طويلاً بحيث يخرج عن حدّ الرأس.

ب- مسح القدمين: يجب المسح على ظاهر القدم من أطراف الأصابع إلى مفصل الساق على الأحوط وجوباً1، ويجوز النكس في مسح الرأس دون القدمين.

 

شرائط الوضوء

يشترط في الوضوء عدّة شروط، هي:

1- النيَّة: وهي قصد الوضوء قربةً لله تعالى مع استمرار نيّة الوضوء، بحيث لو سُئل عن عمله، يقول: أنا أتوضّأ.

2- طهارة الماء وإطلاقه وإباحته

3- طهارة أعضاء الوضوء: يجب أن تكون أعضاء الوضوء أي مواضع الغسل والمسح طاهرة.

 


 1- بمعنى وجوب إيصال المسح إلى المفصل، لكن الابتداء به من أطراف الأصابع على الأحوط وجوباً.

326


276

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 4- رفع الحاجب: يجب رفع ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة كالزيت والطِّلاء.

 

5- المباشرة اختياراً: بمعنى أن يباشر المكلّف الوضوء بنفسه فلا يستعين بشخص آخر لكي يوضأه، كأن يغسل له يده مثلاً إلّا مع عدم إمكان المباشرة بنفسه، لعارضٍ ما.

6- الموالاة: وهي التتابع العرفي في أفعال الوضوء، بمعنى أن لا يؤخّر غسل الأعضاء عن بعضها بعضاً حتىّ يحصل جفاف الأعضاء السابقة التي غسلها.

7- الترتيب بين أعضاء الوضوء: بمعنى أن يغسل الوجه أولاً، ثمّ اليد اليمنى، ثمّ اليد اليسرى، ثمّ مسح الرَّأس، ثمّ المسح على القدم اليمنى، ثمّ اليسرى، وإن جاز مسح القدمين معاً.

8- عدم المانع من استعمال الماء: أي أن لا يكون لدى المكلّف ما يمنعه من استعمال الماء كالخوف أو المرض أو العطش، بحيث تنتقل وظيفته إلى التيمّم.

 

نواقض الوضوء

هي الأمور التي تكون مزيلة للطهارة الحدثيّة ولآثارها2، وهي:

1- خروج البول وما في حكمه كالبلل المشتبه به.

2- خروج الغائط من الموضع الطبيعي أو من غيره.

3- خروج الريح من المعدة أو الأمعاء سواءً أكان له صوت أم لا.

4- النوم الغالب على حاستي السمع والبصر.

5- كلّ ما يزيل العقل مثل الجنون والسكر والإغماء.

6- ما يوجب الغُسل كالجنابة والحيض ومسّ الميت.

7- الاستحاضة للنساء بأقسامها الثلاثة.

 

ما يحرم على غير المتوضّئ

يحرم على غير المتوضّئ الأمور التالية:

1- مسّ كتابة القرآن الكريم، ولا فرق بين آياته وكلماته، بل والحروف والمدّ والتشديد وأعاريبها.

 

 


2- معجم المصطلحات الفقهية، ص، 181.

327


277

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 2- مسّ أسماء الله وصفاته الخاصّة، ولا فرق في لفظ الجلالة بين لغة وأخرى.

 

3- مسّ أسماء الأنبياء، الأئمة عليهم السلام، السيدة الزهراء عليها السلام، وأسماء الملائكة على الأحوط وجوباً في الجميع.

 

وضوء الجبيرة

1- الجبيرة:

هي ما يوضع على العضو المجروح أو المكسور، كالقماش أو الخرق وغيرها.

 

2- كيفية وضوء الجبيرة:

إذا كان على الجرح أو القرح أو الكسر جبيرة، فهنا حالتان:

أ- يمكن نزع الجبيرة:

- إن كانت في محلّ الغسل وجب نزعها وغسلها أو إدخال الماء تحتها.

- وإن كانت في محلّ المسح وجب نزعها ومسح ما تحتها.

 

ب- لا يمكن نزع الجبيرة:

- إن كانت في موضع المسح، مسح عليها.

- إن كانت في موضع الغسل وجب إيصال الماء تحتها إن أمكن وإلاّ مسح عليها.

 

3- أحكام عامة:

أ- لو كان على البشرة حاجب لا يمكن نزعه كالزفت ونحوه يكتفي بالمسح عليه.

ب- تترتب كافة الآثار الشرعية على وضوء الجبيرة، من جهة الصلاة، مسّ القرآن الكريم...إلخ.

ج- لو توضأ المكلّف وضوء الجبيرة لا يجب عليه إعادة الصلوات التي صلاّها، ويجوز له الإتيان بالصلوات التالية ما لم ينتقض وضوؤه.

د- حكم غسل الجبيرة هو نفسه حكم وضوء الجبيرة بلا فرق.

328


278

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 أسئلة حول الدرس

1- ما هي الأمور الواجبة في الوضوء؟

2- ما هي نواقض الوضوء عددها وتحدّث عن اثنين منها؟

3- اشرح كيفيّة وضوء الجبيرة؟

329


279

الدرس الثامن والعشرون: الوضوء

 

330


280

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 الدرس التاسع والعشرون

 

مقدّمات الصلاة (1)

332


281

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 لقد اهتمّ الإسلام اهتماماً بالغاً في مسألة علاقة الإنسان مع خالقه. وكان من جملة تلك الاهتمامات موضوع الصلاة التي تعتبر كما جاء في الروايات معراج المؤمن، وقربان كلِّ تقي. ولشدّة اهتمام الإسلام بها، جعل للمسلم قبل أن يدخل في صلاته بعض الأمور إمّا الواجبة أو المستحبّة التي تساعده على التهيّؤ والاستعداد للصلاة. وهذه الأمور هي التي يطلق عليها مقدّمات الصلاة.

 

المقدّمة الأوّلى أوقات الصلاة

1- طرق معرفة دخول الوقت:

يمكنُ للمكلّف معرفةُ دخول وقت الصلاة من خلال الطرق الآتية:

أ- حصول العلم أو الاطمئنان لدى المكلّف بدخول الوقت.

ب- أن يخبر رجلان عدلان بدخول الوقت.

ج- أذان المؤذِّن الثقة المطمأَنّ به، والعارف بالوقت (أي الذي يعرف أوقات الصلاة).

 

2- أوقات الصلوات:

أ- وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر الصادق1 إلى طلوع الشمس.

ب- وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى ما قبل المغرب بمقدار يصلّى فيه صلاة العصر.

ج- وقت صلاة العصر بعد الزوال بمقدار أداء صلاة الظهر إلى غروب الشمس لا أذان المغرب.

د- وقت صلاة المغرب من غروب الشمس2 إلى ما قبل منتصف الليل3 بمقدار أداء صلاة العشاء.

هـ- وقت صلاة العشاء بعد صلاة المغرب بمقدار أدائها إلى منتصف الليل.


1- الفجر الصادق، هو ظهور بياض ونور على الجهة الشرقية من البلد ينتشر في أفق السماء عرضاً بحيث يثبت النور ويمحى الظلام.

2- المغرب، هو زوال الحمرة المشرقية، ولا يكفي سقوط القرص لبدء صلاة المغرب.

3- منتصف الليل، هو الفترة الممتدة ما بين الغروب وطلوع الفجر على الأحوط، وأما طريقة احتسابه فهي، يقسم الوقت الممتد من الغروب إلى طلوع الفجر الصادق على اثنين ثمّ تزاد النتيجة على وقت

الغروب، مثال على ذلك: لو فرض أن الغروب هو الساعة الخامسة مساءً، والفجر الصادق هو الساعة السادسة صباحاً، فيكون منتصف الليل الساعة، الحادية عشر ونصفاً (13/2=6، 30+5=11، 30).

334


282

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 3- أحكام أوقات الصلوات:

 

أ- لا يجوز الشروع في الصلاة قبل دخول وقتها.

ب- أوّل الوقت (مقدار أداء الصلاة) مختصّ بالفريضة الأولى وآخره (مقدار أداء الصلاة) بالفريضة الثانية.

ج- الأحوط وجوباً لمن أخّر العشاءين عن نصف الليل أن يأتي بهما قبل طلوع الفجر بقصد ما في الذمّة4، سواء أكان التأخير اضطراراً (النوم، النسيان) أم عمداً. وإذا لم يأتِ بهما يجب عليه قضاؤهما، ولو أتى بهما بالنيّة المذكورة لم يجب عليه القضاء خارج الوقت.

 

د- الأحوط وجوباً في حساب منتصف الليل أن يحسب الليل من أول الغروب إلى أذان الصبح5.

 

المقدَّمة الثانية: القبلة وأحكامها

1- أحكام القبلة:

أ- يجب على المصلّي استقبال القبلة مع الإمكان في الصلوات الواجبة سواء أكانت يوميّة أم غيرها حتىّ صلاة الجنائز.

ب- الاستقبال في الصلاة هو الاتّجاه نحو جهة البيت العتيق من سطح الكرة الأرضيّة، وذلك بأن يتجّه المصلّي إلى جهة الكعبة المبنيّة في مكّة المكرّمة.

ج- يجب على المكلّف أن يعلم بالتوجّه إلى القبلة، ويكفي الاطمئنان في ذلك.

 

2- طرق معرفة القبلة:

يمكن معرفة القبلة من خلال الطرق التالية:

أ- العلم: أي علم المكلّف باتّجاه القبلة.

ب- شهادة عدلين: شهادة رجلين عدلين يعتمدان على أمور حسيّة تمكّنهما من معرفة القبلة.


4- عمّا في الذمة، وهو الإتيان بالعبادة عمّا اشتغلت ذمته به من أداء أو قضاء دون تحديد نية الأداء أو القضاء على الأحوط وجوباً.

5- تهذيب تحرير الوسيلة، ج1، ص، 243 - 247. تعليم الأحكام، ص، 164 - 165.

335


283

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 ج- الاعتماد على محاريب المساجد: فإنّ محاريب مساجد المسلمين تُبنى باتجاه القبلة.

د- الاعتماد على قبور المسلمين: فإنّ المسلمين يدفنون موتاهم باتّجاه القبلة من خلال وضع الميت على جانبه الأيمن باتّجاه القبلة.

هـ- الوسائل العلميّة: يمكن الاستفادة من الوسائل العلمية كالبوصلة في معرفة القبلة شرط حصول الاطمئنان.

و- الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة: كالشاخص6، والشمس، والنجوم (لمن كان خبيراً بكيفيّة الاستفادة منها) أو غيرها من الطرق الموجبة للإطمئنان.

 

3- أحكامُ طرق معرفة القبلة:

أ- إذا تعذّر على المكلّف معرفة القبلة يبذلُ تمام جهده ويعمل على ظنِّه.

ب- يجب على الأحوط وجوباً في حالة الجهل بجهة القبلة ولم يحصل ظنّ بأي جهة كانت أن يصلّي في هذه الحالة إلى الجهات الأربع مع سعة الوقت، وإن لم يسع الوقت يصلّي إلى الجهات المحتملة بما يسع الوقت.

ج- يشترط في الطريقين الأخيرين من طرق معرفة القبلة حصول الاطمئنان للمكلّف لجهة القبلة بهما كما ذكرنا.

4- حكم الانحراف عن القبلة:

أ- إذا صلّى المكلّف إلى غير اتّجاه القبلة عمداً فصلاته باطلة.

ب- إذا صلّى إلى جهة معيّنة بأحد الطرق المتقدّمة ثمّ تبيّن خطؤه، فهنا يوجد ثلاث صور:

الصورة الأولى: إذا كان الانحراف ما بين اليمين والشمال:

إذا كان منحرفاً عن القبلة إلى ما بين اليمين والشمال7 ولم يعلم إلّا بعد الصلاة صحّت صلاته.

إذا كان الانحراف إلى ما بين اليمين والشمال والتفت أثناء الصلاة مضى ما تقدّم منها واستقام في الباقي، وصحّت صلاته من غير فرق بين بقاء الوقت وعدمه.

 

الصورة الثانية: إذا تجاوز الانحراف عمّا ما بين اليمين والشمال:


6- له حالة خاصة وزمان خاص يمكن الاستفادة منه في تحديد جهة القبلة.
7- أي كان انحرافه أقل من، 90 درجة.

336


284

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 إذا التفت المصلي إلى ذلك بعدما أنهى صلاته، لكن أثناء الوقت أعاد الصلاة .وأمّا إذا انكشف في الأثناء فمع إمكان إدراك ولو ركعة واحدة، فإنّه يعيد صلاته، وإذا لم يمكن ذلك استقبل القبلة في الباقي من الصلاة وصحت صلاته، والأحوط استحباباً قضاؤها.

 

إذا التفت المصلي إلى ذلك خارج الوقت فصلاته صحيحة، ولا يجب عليه القضاء.

 

الصورة الثالثة: إذا كان المصلي مستدبراً القبلة:

إذا التفت المصلي في الوقت أنه مستدبر القبلة أعاد الصلاة.

إذا التفت المصلي إلى أنه مستدبر القبلة خارج الوقت صحّت صلاته ولا شيء عليه.

 

إذا التفت أثناء الصلاة أنه مستدبر القبلة، فإن كان لديه سعة من الوقت ولو لركعة واحدة قطع الصلاة، وأعادها مستقبلاً القبلة، وإذا لم يسع الوقت استقام في الباقي وصحّت صلاته.

 

المقدّمة الثالثة: الستر وأحكامه

1- الواجب ستره في الصلاة:

أ- يجب على الرجل أن يستر عورته في الصلاة، والعورة، هي: الدبر والقبل والخصيتان.

 

ب- يجب على المرأة ستر جميع بدنها في الصلاة ما عدا الوجه الواجب غسله في الوضوء، واليدين إلى الزندين، والقدمين إلى مفصل الساقين مع عدم وجود الناظر الأجنبي، ومع وجوده يجب سترهما (أي خصوص القدمين).

 

ج- لو انكشفت العورة (لريح أو غفلة) أو كانت منكشفة من أوّل الوقت، والمصلّي لا يعلم فصلاته صحيحة، ولكن لو علم أثناء الصلاة يجب عليه أن يبادر إلى الستر ويتابع صلاته8.

 

2- شرائط لباس المصلي:

يشترط أن يكون الساتر في الصلاة من اللباس مع الاختيار، ولا يكفي ما يمنع النظر إلى العورة كاليد أو الطين، ويشترط في لباس المصلي:

 


8- تهذيب تحرير الوسيلة، ج1، ص، 253 - 262. تعليم الأحكام، ص، 133 - 142.

337


285

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 أ- أن يكون طاهراً فلا تصحّ الصلاة بالنجس في حال الاختيار.

ب- أن يكون مباحاً(غير مغصوب).

ج- أن لا يكون من أجزاء الميتة.

د- أن لا يكون من حيوان محرّم الأكل كالسباع ونحوها.

هـ- أن لا يكون من غير المذكّى (حيوان زُهقت روحه على غير الطريقة الشرعيّة).

و- أن لا يكون ذهباً أو حريراً (حريراً خالصاً) بالنسبة للرجال، فلو صلّى الرجل بالذهب فصلاته باطلة9.

 

المقدِّمة الرابعة: مكان المصلي

المقصود بمكان المصلّي هو ما استقرّ عليه المصلّي، وما شغله من مكانه في قيامه وركوعه وسجوده. ويشترط في مكان المصلي أمور، وهي:

1- أن يكون مباحاً (غير مغصوب) فلا تجوز الصلاة في المكان المغصوب في حال الاختيار، ويجوز مع الاضطرار أو الإكراه (كالأسير إذا صلّى في مكان مغصوب)، وكذلك حال الجهل أو النسيان.

 

2- أن يكون مستقرّاً وغير مضطرب، فيجب أن يكون مكان المصلّي ثابتاً، فلا تصحّ الصلاة في الحافلة مثلاً مع الاختيار، أمّا في حالة الاضطرار تصحّ الصلاة مع مراعاة استقبال القبلة بما أمكنه من الصلاة، كما لو كان في الطائرة مثلاً فإنّه يتّجه ناحية القبلة قدر الإمكان وإذا لم يستطع إلَّا في تكبيرة الإحرام وجب عليه الاستقبال، ولو عجز عن ذلك صلّى بدون استقبال.

 

3- أن لا يكون ممّا يحرم الوقوف فيه، كالمكان الذي فيه خطر على حياة الإنسان، أو فراش مكتوب عليه آياتٌ قرآنية.

 

4- أن لا يكون متقدّماً على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمة عليهم السلام، ولا إشكال في الوقوف مساوياً له.

 


9- لا يجوز للرجل لبس السلسلة الذهبية والقلادة والخاتم وحزام الساعة، وتبطل الصلاة فيها على الأحوط وجوباً.

338


286

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 5- أن يكون موضع الجبهة طاهراً، نعم في مواضع السجود الأخرى يجب أن لا تكون هناك نجاسة مسرية تتعدّى إلى البدن أو اللباس.

 

 

6- الأحوط وجوباً أن تكون الفاصلة بين موقف الرجل والمرأة شبراً على الأقلّ.

 

7- أن يكون مستوياً، أي أن لا يكون موضع سجود المصلّي أعلى أو أخفض من موضع الركبتين والإبهامين واليدين بأزيد من أربعة أصابع مضمومة، فلو صلى المكلّف على جبلٍ عليه تسوية مكانه10.

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هي الطرق الشرعيّة لمعرفة دخول وقت الصلاة؟

2- ما هو الحكم الشرعيّ لمن أخر العشاءين عن نصف الليل؟

3- ما هي الطرق الشرعيّة لمعرفة القبلة؟

4- ما هي الأمور الواجب سترها في الصلاة؟

 


10- تهذيب تحرير الوسيلة، ج1، ص، 274 - 277. تعليم الأحكام، ص، 143 - 149.

339


287

الدرس التاسع والعشرون: مقدمات الصلاة (1)

 

340


288

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 الدرس الثلاثون

 

مقدّمات الصلاة(2)

342


289

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 الأذان والإقامة

1- أحكام الأذان والإقامة:

أ- يستحبّ قبل أن يؤدي المكلّف الصلاة اليومية أن يؤذِّن ويقيم للصلاة. ويكون هذا الاستحباب آكد في صلاتي الصبح والمغرب وخصوصاً في صلاة الجماعة.

ب- الأذان الإعلامي هو الأذان الذي يُرفع لإعلام الآخرين بدخول وقت الصلاة.

 

ج- يستحبّ ترديد الأذان من قبل المكلّف بصوت مرتفع.

د- يجوز بثّ الأذان للإعلان عن دخول وقت الصلاة من خلال مكبرات الصوت في المساجد وغيرها.

 

هـ- يسقط استحباب الأذان والإقامة معاً في صورتين:

الأولى: إذا أراد المكلّف الالتحاق بصلاة الجماعة التي قد أذَّنوا وأقاموا لها، سواء أكان حاضراً حين الأذان أم لا.

الثانية: إذا حضر المكلّف إلى مكان معيَّن، وكان قد أُقيمت فيه صلاة الجماعة التي قد أذّنوا وأقاموا لها، ولم يتفرَّق المصلّون بعد.

 

و- يسقط استحباب الأذان في الصلاة الثانية من الصلاة الرباعية حال الجمع بينهما، فيؤذن ويقيم لصلاة الظهر ثم يقيم لصلاة العصر، وكذا يفعل للعشاءين.

 

2- كيفيّة الأذان والإقامة:

يختلف الأذان عن الإقامة في الكيفيّة فلا بُدَّ من توضيح كل منهما:

أولاً: كيفيّة الأذان:

(الله أكبر)، (الله أكبر)، (الله أكبر)، (الله أكبر).

(أشهد أن لا إله إلا الله)، (أشهد أن لا إله إلا الله).

(أشهد أن محمّداً رسول الله)، (أشهد أن محمّداً رسول الله).

344


290

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 (أشهد أن عليّاً ولي الله)،(أشهد أن عليّاً ولي الله)1.

 

(حيّ على الصلاة)،(حيّ على الصلاة).

(حيّ على الفلاح)،(حيّ على الفلاح).

(حيّ على خير العمل)،(حيّ على خير العمل).

(الله أكبر)،(الله أكبر).

(لا إله إلا الله)،(لا إله إلا الله).

 

ثانياً: كيفية الإقامة:

(الله أكبر)،(الله أكبر).

(أشهد أن لا إله إلا الله)،(أشهد أن لا إله إلا الله).

(أشهد أن محمّداً رسول الله)،(أشهد أن محمّداً رسول الله).

(أشهد أن عليّاً ولي الله)،(أشهد أن عليّاً ولي الله)2.

(حيّ على الصلاة)،(حيّ على الصلاة).

(حيّ على الفلاح)،(حيّ على الفلاح).

(حيّ على خير العمل)،(حيّ على خير العمل).

(قد قامت الصلاة)،(قد قامت الصلاة).

(الله أكبر)،(الله أكبر).

(لا إله إلا الله).

 

ما يُعفى عنه في الصلاة من النّجاسات

وهو الذي لا يؤثّر على صحّة الصلاة مع وجوده في الثوب أو البدن، سواء أكان نجساً (كالدم) أم متنجّساً(كالجورب)3. وما يُعفى عنه من النّجاسات في الصلاة أربعة أمور، هي:


1- وهذه الشهادة ليست جزءاً من الأذان والإقامة، ولكن الإتيان بها بعنوان أنها شعار التشيّع أمرٌ مهمّ جداً ومُستحسن، ويجب أن يؤتى بها بقصد القربة المطلقة.(تعليم الأحكام، ص، 172).

2- يأتي فيه ما تقدم في الأذان.

3- الشهركاني، إبراهيم إسماعيل(الشيخ)، معجم المصطلحات الفقهية، باب الصلاة، ص، 286.

 

345


291

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 1- دم الجروح والقروح4 حتّى تبرأ:

 

يُعفى في الصلاة عن دم الجروح والقروح (كدم البواسير) في البدن واللباس حتّى تبرأ، قليلاً كان الدم أم كثيراً.

 

والقاعدة التي على أساسها يمكن أن نعرف متى يُعفى عن دم الجروح والقروح في الصلاة، هي: أنّ المكلّف لو أراد تطهير بدنه أو ثيابه أو تبديلها، فإنّ ذلك له صورتان:

أ- إذا لم يكن في التطهير أو التبديل حرجٌ عليه وجب التطهير أو التبديل.

ب- وإن كان فيهما حرجٌ عليه فلا يجب التطهير ولا التبديل.

 

2- الدم الأقلّ من سعة عقد السبّابة:

أ- يُعفى في الصلاة عن الدم في البدن واللباس إن كان مقداره أقلّ من عقدة السبّابة5.

 

ب- إذا كان الدم متفرّقاً في الثياب والبدن يمكن تقديره على الشكل التالي:

الأول: إن كان الدم مقداره أقلّ من سعة عقدة السبّابة، فإنّه من المعفوّ عنه في الصلاة.

الثاني: وإذا كان الدم أزيد من ذلك (أي بمقدار عقدة السبّابة وأزيد)، فلا يُعفى عنه في الصلاة.

 

ج- المتنجّس بالدم: إذا تنجّس شيء بالدم فله صورتان:

الأولى: المتنجّس بالدم كالدواء الذي تنجّس بالدم ليس له حكم الدم الذي بمقدار عقدة السبّابة، فإنّه غير معفو عنه.

الثانية: إذا كان الدم أقلّ من سعة عقدة السبّابة وقد أُزيل، ولكن بقي لونه، يكون معفّواً عنه في الصلاة.

 

د- أحكام الشكّ في الدم المُعفى عنه في الصلاة:

لو شكّ في الدم أنّه أقلّ من عقدة السبّابة أم لا، فيوجد عندنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: إن كان الدم سابقاً أقل من عقدة السبّابة أو أزيد (أي كان مسبوقاً بكونه أكثر من مقدار العفو) من عقدة السبّابة ثمّ شككنا أنّه أصبح أقل من عقدة السبّابة، فلا يُعفى عنه في الصلاة.


4-  القروح، جراح باطنيّة، تنزف إلى الخارج، كالبواسير، والتقّرحات.

5- ـالسبّابة، الإصبع التي بجانب الإبهام.

346


292

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 الصورة الثانية: إذا لم يكن سابقاً أزيد من مقدار العفو، وشكّ في أنّه أقلّ منه أم لا، فإنّه يُعفى عنه في الصلاة.

الصورة الثالثة: إذا كان مسبوقاً بكونه بمقدار العفو ثمّ شك في صيرورته أزيد منه، فإنّه يُعفى عنه.

3- ما لا تتمّ فيه الصلاة منفرداً:

أ- ما لا تتمّ الصلاة فيه منفرداً هو الذي لا يمكن للمكلّف أن يستر به عورتيه كالجورب.

ب- كلّ ما لا تتمّ به الصلاة منفرداً، فإنّه معفوّ عنه في الصلاة إذا كان متنجّساً ولو بنجاسة من غير مأكول اللحم.

 

ج- إذا كانت الأشياء (التي لا تتم بها الصلاة منفرداً) مأخوذة من نجس العين كالميتة أو كلب أو خنزير فلا يُعفى عنها في الصلاة (كالمحفظة لو كانت مصنوعة من جلد الخنزير)، وبالتالي لا تصحّ الصلاة فيها.

 

د- الأحوط وجوباً عدم حمل نجس العين في الصلاة كالدم، وكذا المحمول المتنجّس الذي تتمّ فيه الصلاة كالسروال. وأمّا ما لا تتمّ فيه الصلاة (مثل السكّين والدراهم) فيجوز حمله في الصلاة.

 

4- ما أصبح من البواطن والتوابع:

يُعفى في الصلاة عمّا صار من البواطن والتوابع، كالميتة التي أكلها الإنسان، والخمر التي شربها، والدم النجس الذي أدخله تحت جلده، والخيط النجس الذي خاط به جلده، فإنّ ذلك معفوٌّ عنه في الصلاة فتصحّ الصلاة به في هذه الحالة6.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما الأمور الواجبة في الوضوء؟

2- ما هي نواقض الوضوء؟ عدّدها وتحدث عن اثنين منها.

3- اشرح كيفيّة وضوء الجبيرة.


6- تهذيب تحرير الوسيلة، ج1، ص 265 - 282.

347


293

الدرس الثلاثون: مقدمات الصلاة (2)

 

348


294

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 الدرس الواحد والثلاثون

 

 

 

غسل الجنابة

350


295

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 الغُسل

هو غَسل تمام البدن بالماء بكيفيّة خاصّة1، وينقسم الغسل إلى قسمين:

1- غسل واجبٌ: غسل الجنابة، غسل مسّ الميت، غسل الأموات، و الأغسال الخاصّة بالنساء.

2- غسل مستحبٌّ: غسل الجمعة، غسل العيدين، غسل الزيارة وغيرها.

 

الجنابة

تتحقّق الجنابة بأحد سببين:

1- خروج المنيّ: بالاحتلام أو باليقظة بطريقة شرعية (مداعبة الزوجة) أو محرّمة (كالاستمناء).

2- الجماع: وإن لم يتحقّق منه الإنزال، ويتحقّق بغيبوبة الحشفة في القبل أو الدبر سواء أكان محللاً (كالزواج) أم محرّماً (كالزنا).

 

كيفيّة الغسل2

يوجد كيفيّتان للغسل:

الكيفيّة الأولى: الغسل الارتماسي:

وهو كون البدن كلّه في الماء دفعة واحدة في وقت واحد بنحوٍ يصل الماء إلى جميع أجزاء البدن مقارناً للنيّة، كأن يقفز في النهر أو البحر أو في مكان جرى تجميع الماء فيه، ولو تبيّن عدم وصول الماء إلى جزء من بدنه أعاد الغسل.

 

الكيفيّة الثانية: الغسل التَّرتيبي:

يتمّ الغسل الترتيبي: بالطريقة التالية:

• ابتداءً يغسل الرأس والرقبة.


1- سوف تأتي الإشارة إليها في كيفيّة الغسل.

2- كيفيّة الغسل، هذه الكيفية لا تختص بغسل الجنابة أو الأغسال الواجبة بل تشمل كل الأغسال بأنواعها المختلفة.

352


296

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 • ثمّ يغسل تمام الجانب الأيمن.

 

• ثمّ غسل تمام الجانب الأيسر.

 

أحكام الغسل الترتيبي

1- يجب غسل شيء زائد عن الحدّ المذكور، من أجل تحصيل العلم بغسل تمام العضو، فمثلاً يغسل الجانب الأيمن وشيئاً من الرقبة، والجانب الأيسر وهكذا في باقي أعضاء الغسل.
 

2- تدخل العورة في التَّنصيف، فيغسل نصفها الأيمن مع الجانب الأيمن، ونصفها الأيسر مع الأيسر ويجوز غسلها بتمامها مع كلٍّ من الجانبين.

3- لا يشترط الترتيب في الغسل الترتيبي بين أجزاء كلّ عضو، فله أن يغسل الأسفل قبل الأعلى، مثلاً أن يغسل قدمه قبل يده.

4- لا تجب الموالاة في الغسل الترتيبي، فيمكن للمكلّف أن يغسل الرَّأس والرقبة ثمّ بعد ساعتين مثلاً يغسل الجانب الأيمن، وهكذا.

 

5- لو تبيّن بعد الغسل الترتيبي عدم وصول الماء إلى جزء من بدنه يوجد ثلاثة احتمالات:

أ- أن يكون الجزء في الجانب الأيسر: يغسل ذلك الجزء فقط.

ب- أن يكون في الجانب الأيمن: يغسل خصوص ذلك الجزء، ويعيد غسل الأيسر.

ج- أن يكون في الرَّأس والرقبة: يغسل خصوص ذلك الجزء، ويعيد غسل الجانبين.

 

شرائط الغسل

1- النيَّة: وهي قصد الإتيان بالغسل قربة إلى الله تعالى.

2- غسل ظاهر البشرة: يجب غسل ظاهر البشرة.

 

3- رفع المانع: يجب رفع ما يمنع من إيصال الماء إلى البشرة كالحاجب.

4- الماء: إطلاق الماء وطهارته وإباحته.

 

5- المباشرة اختياراً: أي أن يقوم المكلّف بنفسه بالغسل إلّا مع الاضطرار فيمكن لغيره أن يساعده أي يستنيب من يباشر عنه الغسل.

353


297

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 6- عدم المانع من استعمال الماء: أي أن لا يكون هناك مانع من استعمال الماء كالخوف من العدو أو المرض ونحو ذلك.

 

 

7- طهارة البدن: يجب أن يكون جسد المكلّف طاهراً عند الغسل، وإذا لم يكن طاهراً وجب على المكلّف تطهير جسده أولاً ثمّ الغسل.

 

أحكام عامّة للغسل

1- إذا لم يتمكّن المكلّف من الغسل، وجب عليه التَّيمُّم بدلاً عن الغسل لأجل الصّلاة والصّيام وغيرهما مما يشترط فيه الطهارة من الحدث الأكبر.

 

2- غسل الجنابة يجزي عن الوضوء، وأمّا باقي الأغسال (واجبة أو مستحبة) فلا تجزي عنه.

 

3- من تيقّن بطلانَ غسله بعد الفراغ منه يجب عليه إعادته، ولو صلّى وجب عليه إعادة تلك الصّلاة التي صلاّها بالغسل الباطل، أو قضاؤها إن علم خارج الوقت بطلان غسله.

 

4- البلل الخارج بعد خروج المنيّ إن اشتبه في كونه منيّاً أو بولاً أو غيرهما، فله أربعة صور:

أ- إن لم يستبرئ بالبول من المنيّ: يحكم بكونه منيّاً، فيجب عليه الغسل.

ب- إن استبرأ بالبول ولم يستبرئ بالخرطات: يحكم بكونه بولاً، فيجب عليه الوضوء.

ج- إن استبرأ بالبول ثمّ الخرطات واحتمل أنّه غير بول وغير مني، ليس عليه شيء.

د- نفس الصورة الثالثة لكنّها مردّدة بين البول والمنيّ فقط، وجب عليه الاحتياط بالجمع بين الغسل والوضوء.

 

محرّمات الجنب

يحرم على الجنب عدّة أمور:

1- مسّ خطِّ القرآن والأسماء والصّفات الخاصّة بالباري تبارك وتعالى، والأحوط وجوباً إلحاق أسماء الأنبياء والأئمة عليهم السلام والسيدة الزهراء عليها السلام والملائكة بها.

2- دخول المسجد الحرام ومسجد النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان بنحو الاجتياز.

3- البقاء في المساجد أو وضع شيء فيها بل مطلق الدخول فيها. ويجوز المرور بها بأن يدخل من باب ويخرج من باب آخر. ويجوز له أيضاً أن يأخذ شيئاً منها.

 

354 


298

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 4- لا يجوز دخول الجنب إلى حرم الأئمة المعصومين عليهم السلام المعروفة بالمشاهد المشرّفة على الأحوط وجوباً، وكذلك مقامات الأنبياء عليهم السلام حيث قبورهم.

 

5- قراءة آيات السجدة فقط من سور العزائم (اقرأ، النّجم، فُصّلت، حم السّجدة)، وأما قراءة بقيّة الآيات من هذه السور وجميع السور الأخرى فلا إشكال فيه.

 

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- ما هي الأسباب التي تؤدي إلى حصول الجنابة؟

2- اشرح كيفية الغسل الترتيبي، مع توضيح الحكم فيما لو تبين عدم وصول الماء إلى أي جزء من بدن المغتسل.

3- عدد ما يحرم على المجنب فعله أو الإتيان به.

355


299

الدرس الوحد والثلاثون: غسل الجنابة

 

356


300

الدرس الثاني والثلاثون: التيمّم

 الدرس الثاني والثلاثون

 

التيمّم

358


301

الدرس الثاني والثلاثون: التيمّم

 مسوّغات التَّيمُّم1

1- عدم وجود الماء: إذا لم يتمكن المكلّف من الحصول على الماء، وجب عليه الفحص أولاً، فإن لم يجد أو وجد ما لا يكفيه بحسب حاله انتقل إلى التيمّم.

2- الخوف من الوصول إلى الماء: كالخوف من العدو أو السباع أو الخوف على النفس.

 

3- خوف الضّرر من استعمال الماء: لمرض أو رمد أو جرح.

4- خوف العطش عند فقدان الماء: كما لو كان عند المكلّف ماء يكفيه فقط للشرب، ولو توضّأ به، فإنّه يخاف على نفسه أو نفس محترمة العطش.

 

5- ضيق الوقت: وذلك بأن لا يكون أمام المكلّف وقت يكفيه للوضوء، فتنتقل وظيفته إلى التيمّم لتحصيل الصلاة في وقتها.

6- عدم كفاية الماء لتحصيل الطهارة: فيما لو أراد تطهير بدنه أو لباسه من النّجاسة للصلاة ونحوها بالماء الموجود لديه ولا يوجد ماء آخر غيره.

 

ما يُتيمّم به

ما يمكن أن يتيمّم به له أربع مراتب، ولا يمكن الانتقال إلى اللاحقة منها إلاّ بعد فقدان التي قبلها، وهي:

المرتبة الأولى: التيمّم بالصعيد: وهو مطلق وجه الأرض، منه: التراب، الصخور، الرمل، الأحجار ومنها حجر الكلس، المدر (وهي الكتلة من التراب).

1- يجوز التيمّم بالإسمنت والموزاييك، وإن كان الأحوط استحباباً عدم التيمّم بها.

2- لا يصحّ التيمّم على المعادن التي لا تعتبر جزء من الأرض كالذهب والفضة.

 

المرتبة الثانية: التيمّم بالغبار: التيمّم بالغبار بعد جمعه، كالغبار الموجود على الثوب أو الدابة، فيجمعه ثمّ يتيمّم عليه.

 


1- سوف يتم ذكر بعض مسوّغات التيمّم والتي هي مورد الحاجة والابتلاء.

 

360


302

الدرس الثاني والثلاثون: التيمّم

 المرتبة الثالثة: التيمّم بالغبار: إذا لم يستطع المكلّف جمع الغبار يتيمّم على ما كان عليه غبار من الأرض.

 

المرتبة الرابعة: الوحل: يمكن بعد فقد المراتب المتقدّمة أن يتيمّم على الوحل إذا لم يتمكن من تجفيفه ليصبح من المرتبة الأولى.

 

شرائط ما يتيمّم به

ما يتيمّم به له شرطان:

1- الطهارة: يشترط أن يكون ما يتيمّم به طاهراً، ولا يصح التيمّم على ما كان متنجّساً، ولا يشترط أن تكون أعضاء التيمّم طاهرة وإن كان الأحوط استحباباً طهارتها.

2- الإباحة: يشترط أن يكون ما يتيمّم به مباحاً، فلا يصحّ التيمّم بالمغصوب، وكذلك لا يصحّ التيمّم بما كان مشتبهاً بالغصبيّة.

 

كيفيّة التَّيمُّم

1- أن يضرب باطن الكفّين على ما يصحّ التَّيمُّم به دفعةً واحدة.

2- أن يمسح تمام الجبهة والجبينين بباطن الكفّين بدءاً من منبت شعر الرَّأس إلى طرف الأنف الأعلى والحاجبين.

3- أن يمسح تمام ظاهر كفّ اليد اليمنى إلى أطراف الأصابع بباطن كفّ اليد اليسرى، ثمّ مسح تمام ظاهر كفّ اليد اليسرى إلى أطراف الأصابع بباطن كفّ اليد اليمنى.

4- أن يضرب باطن الكّفين مرّة ثانية على الأرض، ويمسح اليدين بالنحو المتقدّم على الأحوط وجوباً.

 

شروط التَّيمُّم

1- النيَّة: يقصد التيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغسل، ويعتبر فيها قصد القربة.

2- المباشرة اختياراً: أي أن يقوم المكلّف بنفسه بالتيمّم ولا ييمّمه أحد إلا مع الاضطرار.

 

3- الترتيب بين أفعال التَّيمُّم: بمعنى أن يضرب بيديه على الأرض أولاً ثمّ يسمح بهما جبهته وهكذا.

361 


303

الدرس الثاني والثلاثون: التيمّم

 4- الموالاة: بمعنى عدم القيام بأي فعل يُمحى من خلاله صورة التيمّم، كأن يترك المكلّف التيمّم وينشغل بعمل آخر يستلزم الفصل المخلّ بصورته ثمّ يعود للتيمّم، فإن هذا الانشغال يمحي صورة التيمّم.

 

 

5- المسح من الأعلى إلى الأسفل في الجبهة واليدين.

6- رفع الحاجب عن الماسح والممسوح: كالزيت وغيره من الموانع التي تمنع من الملامسة المباشرة.

 

7- إمرار الماسح على الممسوح: فلا يصح تثبيت اليدين وتحريك الرأس بل يجب تثبيت الرأس ومن ثمّ تحريك اليدين.

8- مسح شيء زائد: يجب مسح شيء زائد على ظاهر اليد من جهة الزند لتحصيل اليقين بمسح تمام ظاهر اليد، ولا يجب مسح ما بين الأصابع.

 

 

 

 

أسئلة حول الدرس

1- أذكر ثلاثة من مسوّغات التيمّم.

2- أذكر مراتب ما يتيمّم به.

3- اشرح كيفية التيمّم.

362


304

الدرس الثاني والثلاثون: التيمّم

 

363


305

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 الدرس الثالث والثلاثون

 

 

صلاة الجماعة

364


306

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 تعتبر الصلاة في الإسلام من الأركان الأساسيّة التي يجب على المكلّف الالتزام بها. فالصلاة هي الميزان لقبول الأعمال، فقد رُوي عن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ عمود الدين الصلاة، وهي أوَّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نظر في عمله، وإن لم تصحّ لم ينظر في بقية عمله"1، ولذلك كان لا بدّ من الحديث حول أمرين مهمين يتعلقان بالصلاة، هما كيفيّة صلاة الجماعة، والشكوك حال الصلاة.

 

صلاة الجماعة

جاء في فضل صلاة الجماعة الكثير من الروايات التي تبيّن أهميّتها وفضلها. روى عبد الله بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: "الصلاة في جماعة تفضل على كلّ صلاة الفرد بأربع وعشرين درجة تكون خمساً وعشرين صلاة"2.

 

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكل خطوة سبعون ألف حسنة، ويرفع له من الدراجات مثل ذلك، فإن مات وهو على ذلك وكّل الله به سبعين ألف ملك يعودونه في قبره، ويبشرونه ويؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتىّ يُبعث"3.

 

1- شروط صلاة الجماعة:

أ- عدم الحائل: يجب أن لا يكون بين الإمام والمأموم أو بين المأمومين أنفسهم حائل يمنع المشاهدة بين المصلّين.

ب- عدم علوّ موقف الإمام: يجب أن لا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأمومين بشكل كبير، والأحوط وجوباً الاقتصار على المقدار الذي لا يرى العرف أنّه أعلى منهم ولو مسامحة، ويجوز علّو موقف المأموم على موقف الإمام علواً يسيراً كسطح البيت.


1- تهذيب الأحكام، ج2، ص 237.

2- وسائل الشيعة، ج8، باب تأكد استحباب صلاة الجماعة في الفرائض، ص 285

3- م. ن، ج8، باب تأكد استحباب صلاة الجماعة في الفرائض، ص 287.

366


307

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 ج- وحدة الإمام: يجب أن يكون الإمام واحداً، فلا يصحّ الإقتداء بإمامين معاً.

د- تعيين الإمام: يجب تعيين الإمام سواء بالاسم أم الوصف أم الإشارة الذهنيّة أم الخارجيّة كأن ينوي الاقتداء بهذا الإمام الحاضر الواقف أمامه.

 

هـ- نيّة الاقتداء من المأموم: لكي تنعقد الصلاة جماعة لا بدَّ من توفّر نيّة المأموم جماعة، وإذا لم ينوِ ذلك لا تنعقد جماعة، بل تتحوّل صلاة المأموم إلى فرادى. نعم لا يجب على الإمام أن ينوي نيّة أنّه يصلّي إماماً.

 

2- أحكام صلاة الجماعة:

أ- الاقتداء هو عبارة عن أن ينوي المأموم أن يصلّي مقتدياً بهذا الإمام أو مؤتمّاً به قربةً إلى الله تعالى.

ب- لا يتحمّل الإمام عن المأموم شيئاً غير القراءة (الفاتحة والسورة) في الركعتين الأوليين.

 

ج- إذا التحق المصلّي بالجماعة فعنده ثلاث صور:

الأولى: إذا التحق بالجماعة في الركعة الثانية فيكون المصلّي في الأولى، ثمّ بعد قيام الإمام للركعة الثلاثة يكون المصلّي في الثانية، فيجب عليه قراءة الفاتحة والسورة إخفاتاً والتشهّد في الركعة الثانية ثمّ يلتحق بالإمام بالركعة الرابعة التي هي ثالثة بالنسبة إليه.

 

الثانية: إذا لم يدرك الإمام في الركعتين الأوليين وجب عليه القراءة بهما، مثلاً إذا التحق بالإمام في الركعة الثالثة قبل الركوع وجب عليه قراءة الفاتحة والسورة إخفاتاً قبل أن يركع الإمام ثمّ يركع معه، وهكذا.

 

الثالثة: إذا التحق بالإمام وكان الإمام في حالة الركوع تُحسب له ركعة فتكون هي الركعة الأولى من صلاته، ثمّ يكمل صلاته بالنحو المتقدّم.

 

د- الأحوط وجوباً التجافي في تشهّد الركعة الثانية للمأموم حين تشهد الإمام إذا كان المأموم في الركعة الأولى، وأمّا كيفيّة التجافي فبأن يجلس على ركبتيه كمن يريد القيام فيضع يديه على الأرض، ويرفع ركبتيه عنها قليلاً قريباً من صدره.

 

هـ- لا يجب التجافي للمأموم حين تشهّد الإمام في الركعة الأخيرة، فيمكن للمأموم القيام مباشرة.

 

367 


308

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 و- يجب على المأموم متابعة الإمام في الأفعال، بمعنى أن لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر عنه، فيركع بعد أن يهوي الإمام للركوع، ويرفع رأسه من الركوع بعد أن يرفع الإمام رأسه من الركوع وهكذا.

 

ز- لا تجب متابعة الإمام في الأقوال، فيمكن أن يتقدّم عليه في الذكر إلاّ في تكبيرة الإحرام، فلا يمكن أن يسبق الإمام.

 

أحكام الشك في الصلاة

1- تعريف الشك:

هو تحيّر المكلّف والتباس الأمر عليه في وقوع الشيء وعدمه.

 

2- أنواع الشك في الصلاة:

أ- الشَّكّ في أصل الصّلاة: وهو شك المكلّف في أنّه صلَّى أو لا، ووظيفته إن كان خارج الوقت أن يبني على الإتيان بالصلاة، ولا يعتني بالشكّ، وإن كان في الوقت أتى بهذه الصّلاة، وإن لم يأتِ بها وجب قضاؤها.

 

ب- الشَّكّ في أفعال الصّلاة: وهو الشكّ في الإتيان بفعل من أفعال الصلاة أو صحّة فعلٍ ما من أفعال الصلاة. فإن كان شكّه في فعل من أفعال الصلاة وكان قد تجاوز محلّه ودخل في الفعل الذي يليه يبني على الإتيان به. وكذا الأمر فيما لو كان شكه في صحّة فعل معيّن من الصلاة وكان قد انتهى منه، ففي هذه الحالة يبني على صحّة ذلك العمل، وإن لم يكن قد دخل في الفعل اللاحق.

 

ج- الشك في ركعات الصلاة: وهو الشكّ الحاصل في عدد ركعات الصلاة، فإنّه مبطل إذا كان في صلاة الصبح أو المغرب أو الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعيّة، أمّا لو كان شكّه بغير ذلك، فإنّ وظيفة المكلّف مبيّنة في هذا الجدول.

 368


309

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 

جدول معالجة الشكّ في عدد الركعات

طريقة العلاج

الصورة

الرقم

يبني على الثلاث، ويأتي بالرابعة، ويتمّ صلاته، ثمّ يحتاط بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس5.

الشكّ بين الثانية والثالثة بعد إكمال السجدتين4

1

يبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ثمّ يحتاط بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس.

الشكّ بين الثالثة والرابعة في أيّ موضع كان

2

يبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ثمّ يحتاط بركعتين من قيام.

الشكّ بين الثانية والرابعة بعد إكمال السجدتين

3

يبني على الأربع، ثمّ يحتاط بركعتين من قيام، ثمّ بركعتين من جلوس، ويجب تقديم ركعتيّ القيام.

الشكّ بين الثانية والثالثة والرابعة بعد إكمال السجدتين

4

يبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ثمّ يسجد سجدتيّ السهو6

الشكّ بين الرابعة والخامسة بعد إكمال السجدتين

5

يجلس ويبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ثمّ يحتاط بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس.

الشكّ بين الرابعة والخامسة حال القيام

6

يجلس ويبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ويحتاط بركعتين من قيام.

الشكّ بين الثالثة والخامسة حال القيام

7

 

 

 

 

 

 

 


4- كيفيّة صلاة الاحتياط، بعد الانتهاء من الصلاة مباشرة، نيّة صلاة الاحتياط: تكبيرة الإحرام: الفاتحة فقط إخفاتاً مع البسملة، ركوع، سجود، تشهّد تسليم، سواء أكانت ركعة من قيام أم ركعتين من جلوس.

5- المراد من إكمال السجدتين، رفع الرأس من السجدة الثانية.

6- سجدتا السهو: يأتي بهما بعد الصلاة وقبل الاتيان بالمنافي، لا تكبير فيهما، ينوي أنه يأتي بسجدتي السهو للشك المذكور (بدون تلفّظ) ثم يسجد ويقول: بسم الله وبالله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (على الأحوط استحباباً) ثم يرفع رأسه ثم يسجد ويفعل كما في الأولى ثم يجلس فيتشهد ويسلم.

369


310

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

  

 

 

جدول معالجة الشكّ في عدد الركعات

طريقة العلاج

الصورة

الرقم

يجلس ويبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ويحتاط بركعتين من قيام، ثمّ بعدهما بركعتين من جلوس، ويقدّم ركعتي القيام

الشكّ بين الثالثة والرابعة والخامسة حال القيام

8

يجلس ويبني على الأربع، ويتمّ صلاته، ثمّ يسجد سجدتيّ السهو للشكّ المذكور.

الشكّ بين الخامسة والسادسة حال القيام

9

 

 

 

3- موارد وجوب سجود السهو:

بالإضافة إلى موارد سجود السهو الواردة في الجدول، نذكر الباقي منها: للكلام سهواً في الصلاة، عند نسيان السجدة الواحدة وفوات محلّ تداركها، عند نسيان التشهّد وفوات محل تداركه على الأحوط وجوباً، عند التسليم في غير محلّه على الأحوط وجوباً.

 

أسئلة حول الدرس

1- اشرح كيفية حصول الاقتداء بالإمام أثناء صلاة الجماعة.

2- ما هو المقصود بالتجافي أثناء صلاة الجماعة؟ وبيّن حكمه الشرعي.

3- عدّد صور الشك في عدد الركعات مع بيان كيفية العلاج في الصور الأربعة الأولى منها.

370


311

الدرس الثالث والثلاثون: صلاة الجماعة وأحكام الشك في الصلاة

 

371


312

الدرس الرابع والثلاثون: صلاة المسافر

 الدرس الرابع والثلاثون

 

صلاة المسافر

372


313

الدرس الرابع والثلاثون: صلاة المسافر

 صلاة المسافر

وهي أن يصلّي المكلّف الصلاة الرباعيّة صلاة ثنائيّة بعد تحقّق شروط السفر الشرعي.

 

شروط السفر الشرعي

1- قطع المسافة الشرعيّة للسفر: وتقدَّر بثمانية فراسخ، وتساوي خمسة وأربعين كلم (45كلم). ويمكن حساب المسافة ملفقةً ذهاباً وإيّاباً، على أن لا ينقص الذهاب عن نصف المسافة أي عن أربعة فراسخ (22.5).

 

2- قصد قطع المسافة الشرعية: لكي يتحقّق السفر لا بدّ أن يقصد المكلّف من حين خروجه قطع المسافة الشرعيّة، فلو قطعها غير قاصد لقطعها ولا عالم بأنه سيقطعها من بداية سفره لم يتحقّق السفر.

 

3- استمرار قصد قطع المسافة الشرعية: يجب بعد قصد قطع المسافة أن يكون هذا القصد مستمراً، فلو أخل المكلّف به لم يتحقّق منه قصد السفر.

4- عدم قطع السفر: إذا قطع المكلّف سفره بأحد قواطع السفر الآتية فلا يتحقّق منه السفر الشرعي، كنيّة إقامة عشرة أيّام على الأقل في مكان معين أثناء قطع المسافة.

 

5- الوصول إلى حدِّ الترخّص: وحدّ الترخّص هو المكان الذي يخفى فيه على المسافر صوت أذان البلد أو تتوارى عنه فيه جدرانه وأشكالها من الجهة التي يخرج منها، ويكفي في حدّ الترخُّص الاعتماد على عدم سماع صوت الأذان1.

 

6- أن لا يتّخذ السفر عملاً له أو مقدّمة لعمله (السفر الشغلي): كسائق التاكسي، أو ناقل البضائع، أو كبعض المجاهدين الذين يكون السفر مقدمة للوصول إلى أماكن عملهم. وهنا يوجد أمران:


1- المراد بالأذان، هو أذان المؤذن بالصوت العادي بدون مكبرات الصوت: ويكون من آخر بيوت البلد: مع الاعتدال في الصوت والهواء.

374


314

الدرس الرابع والثلاثون: صلاة المسافر

 أ- يتحقّق السفر الشغلي بشرطين:

الشرط الأول: أن يتكرّر السَّفر الشغلي من المكلّف إلى مكان العمل أو للعمل ولو مرّة في كلّ شهر بما يصدق معه تكرار السفر للعمل عرفاً بشرط أن يكون بين منزله ومكان عمله مسافة شرعيّة امتداديّة أو تلفيقيّة.

 

الشرط الثاني: أن لا يفصل بين سفرات العمل بإقامة عشرة أيام في مكان واحد، سواء كان هذا المكان وطنه أم مكان العمل أم أيّ مكان آخر أقام فيه عشرة أيام على الأقل ولو غير منويّة. ويمكن الإخلال بالإقامة بالخروج عن محل الإقامة ولو لنصف ساعة تقريباً دون المسافة الشرعيّة.

 

ب- حكم من يتّخذ السفر عملاً له أو مقدمة لعلمه:

يقصّر في السَّفر الشغلي الأول والسَّفر الشغلي الثاني، ثمّ يتمّ في السفر الشغلي الثالث وما بعده شرط أن لا يفصل بين أسفاره الشغليّة بالبقاء عشرة أيام في مكان واحد وإلاّ قصّر في السَّفر الأوّل فقط بعدها، ثمّ يعود إلى التمام في السفر الثاني.

 

أحكام المسافر

1- يجب حال السَّفر قصر الصلوات الرباعيّة (كالظهرين) بأن تصبح ركعتين، على أن تبقى صلاتا الصبح والمغرب بدون قصر، فتصلّى الصبح ركعتين، والمغرب ثلاث ركعات.

 

2- لا يشترط أن ينوي المكلّف نيّة السّفر في الليلة التي يرغب أن يسافر في صبيحتها أي لا يشترط تبييت النيّة.

 

3- إذا صلّى المسافر الصّلاة تماماً مكان القصر:

أ- نسياناً، فإن تذكّر في الوقت أعاد صلاته، وإن كان خارج الوقت لم يقضِ صلاته.

 

ب- وإن كان ذلك جهلاً:

إن كان عن جهل بأصل حكم المسافر وأن السَّفر يوجب القصر أو لا فلا شيء عليه.

إن كان جهلاً بالموضوع وهو السَّفر أو بحكمه الخاص في هذا السَّفر أعاد في الوقت، ويقضي خارجه.

375


315

الدرس الرابع والثلاثون: صلاة المسافر

 قواطع السفر

1- المرور بالوطن: فإذا مر المكلّف بوطنه قطع سفره فيصلّي تماماً.

 

2- أقسام الوطن: ينقسم الوطن إلى قسمين:

أ- الوطن الأصليّ: وهو المكان الذي ولد فيه الإنسان ونشأ وترعرع فيه فترة من الزمن مع عدم نيّة الإعراض عنه.

ب- الوطن المستجدّ: وهو المكان الذي يتّخذه الإنسان للسكن فيه مع صدق اتّخاذ الوطن عرفاً2. ويمكن أن يكون للمكلّف ثلاثة أوطان مستجدّة مع تحقّق أن ذلك المكان وطن له عرفاً.

 

3- إقامة عشرة أيّام في مكان واحد: إذا نوى المكلّف إقامة عشرة أيام في مكان معيّن من دون الخروج عن ذلك المكان بحيث يقطع الإقامة، فإنّه يصلّي تماماً.

4- البقاء ثلاثين يوماً في مكان واحد متردّداً، إذا سافر المكلّف إلى مكان معين ولم يدرِ أنّه سوف يبقى فيه عشرة أيام أو أكثر، أي كان متردّداً في تلك المدّة، فإنّه يبقى على حكم القصر إلى مدّة ثلاثين يوماً، وفي اليوم الواحد والثلاثين يصلّي تماماً.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- عدّد شروط السفر الشرعي وتحدث عن ثلاثة منها.

2- ما هي شروط تحقق السفر الشغلي؟

3- أذكر قواطع السفر، وتحدث عن الوطن باختصار.


2- بأن يقصد التوطن ولو لسبع سنوات فيه ويسكن بهذا القصد مدّة عرفية حتى يصدق أنه صار من أهل البلد.

376


316

الدرس الرابع والثلاثون: صلاة المسافر

 

377


317

الدرس الخامس والثلاثون: الجهاد

 الدرس الخامس والثلاثون

 

الجهاد

378


318

الدرس الخامس والثلاثون: الجهاد

 تعريف الجهاد

الجهاد هو قتال الأعداء لإعلاء كلمة الإسلام والدفاع عن الأرض والعرض والمستضعفين.

 

 

وجوب الجهاد

1- الجهاد واجب كفائي إذا قام به بعض الناس ممنّ به الكفاية سقط عن الجميع، وإذا لم يقم به أحد أو قام به من ليس به الكفاية دون الآخرين عُوقب المتخلّف عنه.

 

2- يجب على جميع المكلّفين الدفاع عن دين الله، ونظام الدولة الإسلامية بأيّ نحو ممكن، ولا يشترط في ذلك إذن المجتهد أو غيره.

 

3- إذا شكَّ المكلَّف في كفاية المجاهدين في قيامهم بالجهاد وجب عليه المشاركة معهم.

4- يجب على كلِّ مكلّف التعلّم على السلاح، وفنون القتال بما يتناسب مع عصره وزمانه ومكانه.

 

5- المكلّف الذي لا يمكنه المشاركة في الجهاد لعدم تمكّنه من ذلك أو لعدم تدرُّبه على السلاح، وفنون القتال، وجبت عليه المشاركة بكلّ ما يمكن كتقديم الخدمات وغيرها ممّا يساعد في ردّ وصدّ العدو على بلاد المسلمين.

 

6- يجب مواجهة ودفع العدو المهاجم على أيّ بلد من بلاد المسلمين على جميع المسلمين وجوباً كفائيّاًً ولا يختصّ بأهل ذلك البلد.

 

7- لا يجب الجهاد على النساء، وغير البالغين، ولا على المريض إذا كان مرضه يمنعه من المشاركة في الجهاد.

8- لا يجب الاستئذان من الوالدين في الجهاد إذا كان وجوبه عينياً أي يجب على المكلّف بعينه، ولا يكفي أن يقوم به غيره.

 

الدفاع عن النفس

1- لا إشكال في جواز دفاع الإنسان عن نفسه وماله وعرضه من العدو أو اللصّ.

 

2- لو هجم على الإنسان أو عرضه عدوٌّ أو لصٌّ أو محارب وجب عليه الدفاع عن نفسه وعرضه

380


319

الدرس الخامس والثلاثون: الجهاد

بأيّ وسيلة ممكنة حتىّ لو أدّى ذلك الدفاع إلى قتل المهاجم. نعم لو كان الهجوم على ماله أو مال عياله يجوز له الدفاع وإن كان غير واجب.

 

3- الأحوط وجوباً في مجال الدفاع عن النفس أن يبدأ في الدفاع مقدِّماً الأسهل فالأسهل، فلا يصل مباشرة إلى مرحلة القتل.

 

الفرار من الجهاد

1- لا يجوز الفرار من الجهاد في أيّ ظرف كان.

2- لا يجوز الانسحاب من أرض المعركة على خلاف الأوامر الصادرة عن القيادة.

 

 

طاعة القيادة

1- يجب على المكلّف المجاهد العمل طبقاً للأوامر والمقرّرات الصادرة عن القادة.

2- لا يجوز شرعاً التخلّف عن الأوامر والمقرّرات الصادرة عن القيادة وإن كان في تنفيذها ضرر على المكلّف.

 

3- يجب الاهتمام بالضوابط الأمنيّة والعسكريّة في كافّة شؤون العمل الجهادي، ويحرم التهاون والتساهل بها.

4- لا يجوز التقصير والإهمال في مراعاة الأصول والقواعد الأمنيّة والعسكريّة، ولو أدّى ذلك إلى استشهاد عدد من المجاهدين أو جرحهم فهو مشاركة في إراقة دمائهم.

 

واجبات المجاهد

1- يجب على المجاهدين في سوح الجهاد الالتزام بكافّة الواجبات الشرعيّة (الصلاة والصيام) وترك المحرّمات.

2- يجب على المجاهدين الالتزام بالأخلاق الإسلاميّة وترك رذائل الأخلاق.

 

3- لا يجوز أذيّة المجاهدين أو غيبتهم أو هتك أعراضهم ممّا لذلك من أثر واضح على المسيرة الجهادية.

4- يجب على المجاهدين الالتزام بكافّة مقررات القيادة العسكريّة ممّا يساعد في استمرار وحفظ وصيانة المسيرة الجهاديّة.

 

5- لا يجوز نقل وذكر المعلومات المتعلّقة بالعمل الجهادي مهما كان نوع وحجم تلك المعلومة،

381


320

الدرس الخامس والثلاثون: الجهاد

 وعبر أيّ وسيلة كانت ولأيّ شخص كان.

 

6- لو أدّى نقل المعلومات إلى أثرٍ ما على المسيرة الجهاديّة أو استشهاد أو جرح بعض المجاهدين، فإنَّ ذلك مشاركةٌ في إراقة دمائهم الطاهرة.

 

7- لا يجوز إخفاء المعلومات التي تتعلّق بالعمل الجهادي العسكري عن الإخوة المعنييّن في ذلك سواء أطلب ذلك من المجاهدين أم لم يطلب منهم.

 

8- لا يجوز التصرّف في ممتلكات الآخرين إلاّ إذا توقّف عمل الدفاع عن الإسلام على ذلك، كاستخدام البيوت أو بعض سلع التموين.

 

أحكام الشهيد

1- أرض المعركة: هي المكان الذي يصل إليه رصاص العدو في حدود المنطقة التي تحصل فيها الحرب، وأيّ مكان يصدق عليه أنه منطقة حربية وساحة للحرب.

 

2- الشهيد الذين لا يُغسَّل ولا يُكفّن هو الذي يُقتل في معركة قتال العدو بإذن الإمام عليه السلام أو نائبه الخاص أو العام في عصر الغيبة الكبرى (الولي الفقيه).

 

3- تجب الصلاة على الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة وإن لم يوجب الغسل والتكفين.

4- مسّ بدن الشهيد الذي سقط في أرض المعركة لا يوجب غسل مسّ الميت.

 

5- كلّ من يسقط في أرض المعركة لا يجب غسله ولا تكفينه مهما كان نوع عمله الذي يقوم به (تبليغ، دعم، حرس، زرع ألغام...إلخ).

 

6- الناس الذين يسقطون أثناء الحرب في المدن والقرى هم شهداء، ولكن يجب تغسليهم وتكفينهم والصلاة عليهم.

 

 

أسئلة حول الدرس

1- عرّف الجهاد مع بيان حكمه الشرعي.

2- أذكر ثلاثة من واجبات المجاهد.

3- عرّف مصطلح أرض المعركة مع ذكر حكم المجاهد الذي يسقط في هذه الأرض.

382


321

الدرس الخامس والثلاثون: الجهاد

382


322
درب الهداية