الجامعة في فكر الإمام الخميني


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


الفهرس

 الفهرس

المقدمة

11

القسم الأول: منابع المعرفة في منطلقاتها الإسلامية

17

تمهيد

18

الفصل الأول: أهمية العلم في الإسلام ومنهج الإستنهاض عند الإمام الخميني قدس سره

23

أهمية العلم في الإسلام

23

الارتباط بين العلم والإيمان

29

ماهية العلم في فكر الإمام الخميني

38

تحرير الأفكار من التبعات (العقل والحرية)

41

وهم التقليد

41

وهم الحرية

44

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

كسر الأنماط والأطر الفكرية التقليدية

49

علوم العصر وتحريك المقدس في التكامل الإنساني

52

الفصل الثاني: الجامعة عند الإمام الخميني قدس سره

61

 اهتمام الإمام الخميني قدس سره بالجامعيين

62

علاقة الجامعة بالحوزة الدينية

70

الوحدة الإسلامية

74

مقارعة إسرائيل

76

بناء شخصية الأستاذ

78

مبادئ التربية وأساليبها

81

التفكر

81

التلاوة والدعاء

82

ترك الأخلاق الذميمة

82

 تعزيز الإيمان

84

ترك المحرمات وملازمة الواجبات

84

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع

89

الفصل الاول: الهدف من التعليم والتربية

90

دعوة الأنبياء إلى التوحيد وهداية الناس

90

دعوة الأنبياء إلى بناء الإنسان وتزكيته

95

بناء الإنسان في ظل الحكومات الإلهية

99

الفصل الثاني: ماهية خطاب الإمام لمستضعفي ومسلمي العالم

102

ماهية الحضارة الإسلامية

102

الإمام الخميني قدس سره والثنائية القطبية في العالم

107

الفصل الثالث: رسالة الجامعة في فكر الإمام الخميني قدس سره

115

وظيفة الجامعة هي بناء الإنسان

117

الاستقلال وعدم الاعتماد على الخارج

120

الجامعة النموذجية

132

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

قطع الاحتياج العلمي والعملي بتأمين أفراد على كافة المستويات في مجالات الاختصاص

134

 التأكيد على خلق مناخ آمن في الجامعات.

134

القسم الأول: الأستاذ والطالب

138

الفصل الأول : الأستاذ الجامعي في فكر الإمام الخميني قدس سره

138

دور أستاذ الجامعة والمسؤولية الملقاة على عاتقه

138

الدور التربوي والتوعوي

139

المشاركة في الحفاظ على الدين والوطن

140

الخطوات العملية المطلوبة

141

مواجهة الانحرافات

142

الاستقلال الثقافي

144

توقع الإمام قدس سره من أساتذة الجامعات

146

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

إبعاد اليأس عن قلوب الطلاب

146

إصلاح البرامج والمناهج الدراسية

147

الحفاظ على المبادئ والثورة

153

التربية الأخلاقية والتربية الصحيحة

154

الفصل الثاني: مسؤولية الطالب الجامعي

158

مسؤولية الطالب الجامعي بالنسبة للمجتمع

158

إيقاظ الغافلين

159

طرد المتعلمين المنحرفين

160

 الدفاع عن الإسلام

162

 الدفاع عن الوطن

165

التوقعات والآمال المعلقة على الجيل الجامعي

166

الوحدة

166

تزكية النفس

167

الجدية في تحصيل العلم

169

 التدخل في القضايا المصيرية للبلد

170

الاستمرار في الدفاع عن الإسلام والثورة

174

 اللجان والتشكيلات داخل الجامعة

175

خلاصة عامة

179

 

 

 

 

9


5

المقدمة

 مقدمة


لا شك أن الثورات الكبرى في التاريخ حملت إلى عصرها تغييراً كبيراً امتد ليستوعب كافة مناحي وشؤون الحياة, وترك آثاراً عميقة في التطورات السياسية-الاجتماعية على مستوى الإنسانية كافة.

والثورة الإسلامية في إيران. والتي حدثت أواخر القرن الماضي، كان شأنها شأن الثورات الاجتماعية في أنها حملت مفردات وأفكاراً جديدة بل قيماً ومبادئ, انعكست تغييرا في النظام السياسي, وفي المؤسسات والبنى الطبقية, وفي كثير من مفردات الأيديولوجيا الحاكمة في حياة الناس.

والجامعة، باعتبارها إحدى المؤسسات التي طالها التغيير, كانت وما تزال مسرحاً وأرضاً خصبة مهيأة للتفاعل، سواء من حيث الإمكانيات والطاقات المتوفرة لديها، أم من حيث الاستقطاب والعطاء. وإذا كان حالها كذلك، فمن المفيد أن تتجه المقاربة نحو موقع الجامعة ضمن إطار المشروع العام للإمام الخميني الذي تجسد بالثورة الإسلامية التي استندت إلى منطلقات دينية إسلامية ورسمت لنفسها مساراً مستقلاً عن التبعية للغرب أو للشرق. وبالتالي فنحن في مواجهة معرفة الدور الذي تلعبه الجامعة والمسؤولية المجتمعية والحضارية الملقاة على عاتقها. انطلاقاً من ذلك تتجه المقاربة نحو صياغة نظرة تأسيسية شاملة لنكتشف، من خلال أقوال الإمام، أن الدور الذي تلعبه الجامعة في تشكل مجتمعها وفي رسم حاضر ومستقبل بلدانها يعد دوراً خطيراً.
 
 
 
 
 
 
11

6

المقدمة

 كان الإمام يؤكد دائماً أنه إذا صلح العالِم صلحت الأمة أو العالَم ويجدر بنا أن نضيف أنه إذا صلحت الجامعة صلح المجتمع، ففي الجامعة تُناقش هموم البلاد وقضايا المجتمع الأساس، وتُطرح الحلول والمشاريع, وتُقَّدم في مراكز بحوثها الحلول لمشاكل المجتمع، فهناك علاقة تأثير وتأثر بين الجامعة والمجتمع، فمن ناحية هي انعكاس لحاجات وتطور المجتمع، ومن ناحية أخرى هي المطبخ الفكري الذي يصوغ النظريات في جو من الحرية الفكرية، حيث تتلاقح الأفكار فيما بينها لتوّلد الأمثل والأنجع في عملية دفع لمجتمعها نحو التقدم والرقي والرفاهية.


ما نرمي إليه في هذه الدراسة المختصرة هو أن نسلط الضوء على الجامعة في فكر الإمام الخميني قدس سره لنستنبط المنهج الكلي لهذا الدور من كلمات ووصايا وتوجهات الإمام ضمن نظراته الشاملة إلى الوجود والإنسان ومن خلال مشروعه الحضاري ألاستنهاضي الذي أسسه عبر قيام دولة حديثة أصبحت تنافس بجدية النظم القائمة و"المتحضرة" في العالم بل وتتفوق عليها في الكثير من المجالات.

أهمية المقاربة

تنبع أهمية هذه المقاربة من الإشكالية المطروحة التي حاولت تبيان البعد العلائقي للجامعة مع الرؤية العامة للإمام الخميني قدس سره، أي مع مشروعه الإسلامي الذي استندت إليه الثورة الإسلامية الإيرانية، لا سيما وأننا نزعم أن 
 
 
 
 
 
 
12

7

المقدمة

 ما كُتب عن الجامعة في فكر الإمام الخميني قدس سره ليس سوى محاولات متواضعة جرى خلالها إعادة تصنيف أقوال الإمام مع إضاءات قصيرة خصوصاً من باحثين غير إيرانيين، علماً أن هذه الإضاءات وفرت موئلاً لإغناء معلومات ومعارف الهادفين للبحث ممن لم يتوفر لديهم اطلاع على اللغة الفارسية خصوصاً إن ما ورد في صحيفة النور التي جمعت أقوال الإمام. مع ذلك يقتضي التواضع العلمي القول أن هذه المقاربة مع مراعاتها لأصول البحث وللموضوعية العلمية تحتاج لاستكمال وإلى رؤيتها من زوايا وأبعاد أخرى تضيف إليها الكثير من الإغناء المعرفي. كذلك فإن اشتراك ثلاثة باحثين في مقاربة واحدة، وإن جعلها محتاجة نوعاً ما إلى سياق يسير وفق تجانس حاد كما هو معمول به في الأطروحات الجامعية، لكنه يوفر للقارئ الوقوف على تنوع المعالجة التي تجعلها تحمل الكثير من الغنى المعرفي.


ولهذا الاعتبار نجد في المقاربة ما يفسح المجال أمام باحثين آخرين ممن لديهم تضلُّع بسبر أغوار المعرفة لاستكمال ما قد يجدونه قاصراً عن الرؤية ولإعداد أبحاث أخرى متكاملة لا سيما حول التجربة الراهنة للجامعة بعد رحيل الإمام الخميني? باعتبار أن الجهد كان قد انصب على العنوان المطروح في زمن وجود الإمام الخميني ليس إلا. أخيراً نزعم في مجال الأهمية أن المقاربة استطاعت إبراز بعض معالم رؤية الإمام الخميني للجامعة باستلهامها من مشروعه الخاص باعتبار أن المشروع العام يشكل العناوين العريضة في حين أن البحث في تفاصيل المشروع معقود اللواء للمفكرين الثوريين وللأساتذة أنفسهم ممن ساهم في نجاح تجربة انتصار الثورة الإسلامية انطلاقاً من المنطلقات ومن العناوين التي كان قد رسمها الإمام الخميني هو نفسه.
 
 
 
 
 
 
13

8

المقدمة

 المنهجية العلمية


في سبيل الرد على الإشكالية المطروحة عمدت المقاربة إلى تقسيم العمل إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الذي حمل عنوان " منابع المعرفة في منطلقاتها الإسلامية"، تمت معالجته في فصلين شمل الفصل الأول من هذا القسم التعرف إلى أهمية العلم في الإسلام وأهميته كمنهج للاستنهاض وفق نظرة الإمام الخميني قدس سره، وهي خطوة منهجية كان لا بد لها حين التأسيس النظري الذي يمهد لسياقات المقاربة على أن يليه الفصل الثاني الذي ركز بصورة أساس على الجامعة نفسها لجهة اهتمام الإمام الخميني بها ولجهة الوظيفة التي يراها الإمام لهذه الجامعة من منظور علاقتها بالحوزة الدينية ودورها في ترسيخ أواصر الوحدة، فضلاً عن التعرض لمبادئ التربية وأساليبها لكونها تشكل أحد مداميك بناء شخصية الإنسان وفق الإمام الخميني قدس سره، وبينها الأستاذ الجامعي الذي يضطلع بدور تعليمي وتربوي.

القسم الثاني: حمل عنوان "الإمام الخميني على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي"، جرى تفريعه إلى عناوين تناولت الهدف من التربية والتعليم و ركزت على دعوات الأنبياء إلى التوحيد وبناء الإنسان وتزكيته ومن ثم ربطها بعناوين فرعية أخرى مكملة حاولت تبيان خطاب الإمام لمستضعفي العالم خصوصاً في ظل الثنائية القطبية السائدة في العالم آنذاك غير المعتمدة على المنهج التوحيدي بل المقتصرة على البعد المادي للإنسان.
 
 
 
 
 
 
 
14

9

المقدمة

 القسم الثالث: حمل عنوان " الأستاذ والطالب الجامعي في فكر الإمام الخميني قدس سره"، وفيه عناوين فرعية تركزت بشكل أساس على المسؤولية الملقاة على عاتق الأستاذ لجهة دوره التوعوي والتحصيني للمجتمع أي بمعنى ما هو متوقع من الأستاذ من دور لا سيما لجهة الحفاظ على مبادئ الثورة.


كما في كل مقاربة لا بد من الحصول على المعطيات المتوفرة التي تشكل أساساً صلباً للتحليل والاستنتاج. لقد جرى الحصول على هذه المعطيات من خلال النظر في كلمات ونصوص الإمام بهذا الشأن من مصادر عدّة شكلت ركيزة أساسياً ومن بين هذه المصادر صحيفة النور وهي تتضمن أجزاء عدّة باللغة الفارسية التي أتاح اطلاعنا عليها ومعرفتنا بها الولوج إلى عمق هذه النصوص فضلاً عن المصادر المعربة على غرار كتاب منهجية الثورة الإسلامية الذي تولت نشره مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، وفيه غالبية خطب الإمام إن لم نقل كلها حول الجامعة وعناوين أخرى. وهناك المصادر الكثيرة التي يحسن النظر إليها في هوامش الصفحات حيث لم يُترك قول أو خطبة للإمام إلا وتم النظر فيها لتوظيفها في مقتضيات إشكالية البحث.

المشكلات والصعوبات

كما في كل بحث برزت صعوبات متنوعة تركزت بشكل أساس في الحصول على المعطيات المتوفرة.

فقد تم جمع العديد من الكتب التي جمعت أقوال الإمام باللغة العربية ولكن 
 
 
 
 
 
 
 
15

10

المقدمة

 غالباً ما كانت مكررة، وتلافياً للنقص جرى الاطلاع على المصادر الفارسية كصحيفة النور وجرت ترجمتها التي احتاجت إلى جهد مضاعف تطلّب المزيد من الوقت وإن كان من صلب الجهد البحثي المطلوب.


كذلك تمثلت الصعوبات من التعرف إلى ما كُتب حول الإمام في هذا السياق أي في موضوع الجامعة، ولكن الغرابة كانت حين قراءة بعض الكتب التي حملت عناوين كبرى وضخمة ضمت مئات الصفحات قالت أشياء كثيرة ولكنها حول عنوانها المطروح لم تحمل إلا النزر القليل علماً بأنه لم يكن المقصود لدينا بالذات ما كتب حول الإمام تجنباً للتكرار وإنما التعرف إلى أقوال الإمام نفسه لإغناء الدراسة بالنظر والمعالجة والتحليل.

من جهة أخرى تجلت إحدى المصاعب في الجهد المبذول للتنسيق بيننا كباحثين من أجل الوصول إلى سياق واحد ومنسجم وبين الحفاظ على خصوصية الباحث لجهة طريقته في المعالجة التي تستند إلى تجربته ولزاوية مقاربته، ونزعم أنها كانت مقبولة ومعقولة وإن لم تصل إلى مستوى الطموح الخالص والمصفى.
 
 
 
 
 
 
 
16

11

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 تمهيد
 
 
القضية الأساس التي تواجه الإنسان منذ فجر التاريخ هي محاولته الدائبة لسبر أغوار نفسه، وعلاقته بالوجود لناحية دوره وغايته فضلاً عن علاقته بمحيطه الاجتماعي.

هذه المحاولات لم تكن سوى وليدة الدافع المعرفي الذي استودعه الباري في طبيعة الإنسان خلافاً لغيره من المخلوقات التي كرمه ورفعه فوقها من خلال العقل، والذي من خلاله استحق الإنسان أن يكون خليفة لله في الأرض. ولم يترك الله الإنسان وحده في معركة الاستخلاف وإثبات جدارته في هذا الوجود، فرفده بالأنبياء والرسالات السماوية لإقامة الحضارة البشرية على أساس التوحيد والعدل وإرساء القيم الإنسانية السامية.

غير أن تاريخ البشرية، رغم ذاك، لم يكن ليسير سيراً مطرداً باتجاه تحقيق العدالة الإنسانية والارتقاء نحو المطلق المتعالي. ففي عالم الاعتقاد كان الكفر، وكان الشرك كما كان التوحيد. بنى الإنسان لنفسه عالماً من الأفكار والفلسفات المتناقضة التي تعكس نظرته لوجوده ولغايته في الوجود ، وقامت حضارات واندثرت أخرى لنشهد أكبر حضارة في تاريخنا البشري هي الحضارة المادية بوسائلها وقيمها التي تطرح نفسها بوصفها حضارة عالمية شاملة.

لقد كانت تلك الحضارات بمثابة معركة العقل إزاء التحدي الذي تطرحه العلاقة مع الطبيعة ومحاولة الإنسان لتلبية حاجاته المادية. لقد حاول تلبيتها من خلال الوسائل التي راح يكتشفها بإعمال العقل ومن خلال معرفته بقوانين
 
 
 
 
 
 
 
18

12

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  الطبيعة التي انتهى في صراعه معها إلى تطويعها والسيطرة عليها. فمن عصر الصيد بوسائله البدائية إلى عصر اكتشاف الزراعة وتدجين المواشي مروراً بخوضه أعماق البحار وسبر أغوار المحيطات وصولاً إلى عنان السماء.
 
وفي مجال ترتيب العلاقات الاجتماعية كانت النظم الاجتماعية والسياسية التي استندت إلى منظومات من القيم حيث اختلفت وتنوعت عبر مراحل طويلة من التطور البشري والتي تشهد من خلالها محاولة إرساء العدالة ومنع الظلم والتجاوز فكانت رؤى الفلاسفة والمفكرين الذين كانت لهم إسهامات كبيرة في رفد الحضارات البشرية بأفكار تعينها على إرساء نظمها، كتلك التي كانت في بلاد ما بين النهرين مع الحضارة السومرية والبابلية في الألفية الثانية قبل الميلاد، ومن ثم الحضارات الأخرى الفارسية والهندية والفرعونية، فاليونانية والرومانية والإسلامية، وصولاً إلى العصر الحديث. رغم ذاك حفل تاريخ البشرية بالكثير من الحروب والمجازر والتنكيل، ولم تستقرّ المسيرة الطويلة لحياة البشر على منوال واحد، بل تراوحت بين العزلة، والاحتكاك، بين العنف والتلاقح الثقافي، والاندماج الجغرافـي والديمغرافي. وارتبطت هذه العلاقات برؤى ومواقف متباينة من الاحتلال والاستعمار، بين الرفض والتأييد والذي يجد تعبيراته ومتعيناته بشكل خاص عبر الاحتكاك بين الحضارة الإسلامية وحضارة الغرب، التي ما زالت تطرح السؤال على المسلمين حول أفق هذه العلاقة وحدودها، كما تطرح السؤال أيضاً على شعوب العالم الثالث في ميدان سيرها في ركاب التطور، وفي موضوع صلتها بالحضارة على المستوى الوطني والقومي والإنساني، وصلتها بتاريخها وتراثها وطبيعة قيمها وأساليبها 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 ومناهجها ورؤاها في مجالات العقيدة والتشريع والثقافة وكل أساليب العيش.


وبطبيعة الحال لم تطرح هذه المواقف والتساؤلات خصوصاً في عصرنا الراهن لولا وجود حضارات بإزاء بعضها بعضاً مع وجود تبيانات في درجة الارتقاء الحضاري الذي يستند إلى معايير تختلف باختلاف المنطلقات والرؤى حول هذه المعايير. ومع ذلك فإن انفتاح العالم الناتج عن مسيرة التطور البشري، تبقي هذه التساؤلات ماثلة خصوصاً في مجال حدود العلاقة ومجالات الانفتاح، والإسهامات الحضارية الخاصة وغاياتها المنشودة.

ففي العالم الإسلامي ومنذ لحظة الاصطدام بالاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر تراوحت المواقف بين اتجاهات ثلاثة، اتجاه منفتح بشكل مطلق على الغرب يدعو إلى تعميم ثقافة الغرب واستلهام تجربته كما هي، واتجاه آخر يتراوح بين التراث والحداثة أي بين ما هو موجود وأصيل وتوليفه مع الوافد، واتجاه ثالث يدعو للانفتاح على التراث ومحاولة التطوير من الداخل دون الحاجة إلى الغرب.

وأما الخيط الذي يوصل بين هذه المواقف فهو الإحساس بالعجز الحضاري مقابل الغرب بغض النظر عن كيفية اللحاق بركب التطور.

ومع الإحساس بهذا العجز، يطرح التساؤل في مكان آخر. لماذا كان هذا الإخفاق الحضاري؟ وقد كانت الإجابات كثيرة ومتنوعة، غير أننا وفي مجال التركيز حول أهمية العلم في مسيرة التطور البشري، لا بد لنا من محاولة تبيين نظرة الإسلام للعلم والعقل وكيفية التعامل مع المعرفة انطلاقاً من النصوص وصولاً إلى التجربة التاريخية مقارنة مع الحاضر للوقوف فيما بعد على رؤية
 
 
 
 
 
 
 
20

14

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الإمام الخميني في مجال التحديات التي تواجه الثورة الإسلامية باعتبارها ثورة تطرح نفسها في إطار التحديات الرؤيوية للحضارة الإنسانية، من خلال المزج العضوي بين الدين والعلم لعلاج مشكلة الإنسان في عصرنا الراهن، ولمعالجة تحديات التطور.

 

 

 

 

 

21


15

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الفصل الأول:

 
أهمية العلم في الإسلام ومنهج الاستنهاض عند
 الإمام الخميني قدس سره
 
1 - أهمية العلم في الإسلام
 
تبييناً لأهمية التعليم في الإسلام يكفي الإشارة إلى أن أول آية نزلت على النبي محمد‘ هي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾1 , ومن ثم ما ورد من آيات كثيرة تحث على إعمال العقل وطلب المعرفة والعلم لأنه بالعلم وحده يُعرف الله ويوحَّد ليصل الإنسان إلى تحقيق دوره في الاستخلاف. وقد اقترن هذا الإلحاح بكون العلم يشكل المدخل الأول للتعرف إلى الباري سبحانه وتعالى إلى حد إرجاع الخشية من الله إلى العلماء. ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾2. وفرق بين من يعلمون وبين من لا يعلمون ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾3. ولأهمية ما ورد في القرآن الكريم حول أهمية العلم حث الرسول الأكرم‘ المسلمين على الاهتمام بهذا الأمر وجعله واجباً وفريضة "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" "اطلب العلم من المهد إلى اللحد...".
 
 

1- العلق/1
2- فاطر/28
3- الزمر/9
 
 
 
 
 
 
 
23

16

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 بهذه الدعوة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية المأثورة والتي باتت معروفة لدى عموم المسلمين، نتبين الدعوة إلى الثورة الثقافية التي أولاها الإسلام حيزاً كبيراً من الاهتمام وجعل الانشداد إليها محل تقدير إلى الحد الذي جعلها قرينة للعبادة بحد ذاتها.

 
وبطبيعة الحال، ولأن الإسلام خاتم الديانات، وأنه نزل للناس كافة ولم يقرن بعصر نزوله فحسب وإنما جعل ليكون هداية وشرعة للبشرية على امتداد الأزمنة، نجد أن تلك الدعوة تشكل ضرورة لإحداث التغيير النوعي في المجتمع الجاهلي الذي كان يحفل بالأساطير وبالجهل والانشداد إلى تقليد الآباء والأجداد وقصور النظام الاجتماعي عن التطور ورزوحه تحت وطأة العادات القبلية والعصبية والجاهلية. كان ذلك مدخلاً ضرورياً لإحداث هذا التغيير، غير أن عالمية الإنسان وإفصاح القرآن الكريم عن فلسفة الخلق وغاية الإنسان في الوجود ما يؤكدان على أن دعوة القرآن الكريم إلى المعرفة غير مقرونة بالزمان أو المكان وهي دعوة يراد لها بناء النموذج الحضاري الإسلامي ليكون عاماً بين الناس، وليكون أساساً في مسيرة البشرية في ارتقائها نحو الله ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه﴾1 ليُسأل الإنسان حينذاك عما قدمه لنفسه وما قدمته الأمة في معتركها الإنساني.
 
وبوصف الإنسان بالمعنى العام خليفة لله في أرضه، تزود بقدرة العقل وأُمر بإعمار الأرض على أساس التقوى وإقامة العدل وأُنزلت له الرسالات السماوية مع الأنبياء لإعانته على أداء هذا الدور المنشود، في الإعمار والإبداع والوصول
 
 
 

1- الانشقاق/6
 
 
 
 
 
 
 
24

17

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  إلى أقصى ملكاته كممكنات مفتوحة على الارتقاء والصعود في مسيرة التكامل البشري.

 
إذن المرتكز الأساس للدعوة الإسلامية العامة، أنها تقوم على الإيمان بالعقل والاستناد إليه في تثبيت عقيدة الإيمان بالله والانطلاق نحو بناء الحضارة الإنسانية. فأول ما نزل به القرآن الكريم كان الدعوة إلى القراءة والعلم، والدعوة إلى معرفة الله من خلال النظر بحقائق الوجود وتبيان ما فيه من إبداع ومن سنن وقوانين. وبطبيعة الحال، هي دعوة عامة مفتوحة على التعرف الدائم إلى حقيقة الكون، وهي أكبر وأعمق من أن يحدها جيل من البشر في مرحلة تاريخية واحدة لما فيها من أسرار تعيَّن على الإنسان إدراكها من خلال منهج الملاحظة وإعمال العقل بالنظر أولاً إلى حقيقة خلق الإنسان بحد ذاته ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾1 وما يحيط به من وجود ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾2 ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ...﴾3 والدعوة إلى النظر بأحوال الأمم والاستفادة من التجارب والوقوف على فلسفة تاريخ قيام هذه الأمم واندثارها ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾4 ومن ثم تحكيم العقل والركون إليه فضلاً عن كونه معياراً للمفاضلة بين الناس ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ
 
 
 

1- الطارق/5-6
2- ق/6
3- الروم/8
4- الانعام/11

 
 
 
 
 
 
25

18

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 تَتَفَكَّرُونَ﴾1. وعلى هذا الأساس انطلق العالم الإسلامي باحثاً عن أحوال النجوم والفلك والرياضيات والهندسة والطبيعيات، والنظر بفلسفة الوجود وسلك مناهج التأمل والتفكير والملاحظة عاملاً على التطوير المطّرد لهذه العلوم.

 
لقد إقتبس المسلمون بعضاً من هذه العلوم ثم أضافوا اكتشافاتهم ومناهجهم بحيث يغدو مستحيلاً درس تاريخ العلم بمعزل عن مساهمات المسلمين النوعية والمتعددة، فقد ترجم محمد بن إبراهيم الفرازي كتاب "برهمبكت" المشهور: "السد هانتا أو سند هند" الذي أهداه الفلكي الهندي "كانكا" إلى الخليفة المنصور وهو الكتاب الذي يتضمن أهم ما احتواه تراث الهنود في الفلك والرياضيات.
 
وترجم إسحق بن حنين كتاب "الأصول والأركان" لاقليدس وهو خلاصة الهندسة اليونانية. كما ترجم إسحق نفسه كتاب "المجسطي" الذي يحوي أهم ما توصل إليه "بطليموس" في الفلك والرياضيات.
 
وبذلك يكون المسلمون قد أخذوا عن الهنود الأعداد والنظام العشري وعن الإغريق حساب "فيتوغوراس" وهندسة أقليدس وفلك بطليموس2. ومن ثم أعادوا كتابة الحضارة اليونانية كلها باللغة العربية، فترجموا كتب أفلاطون وأرسطو وتلامذتهما في الفلسفة، كما ترجموا كتب أبقراط الطبية وجميع ما كتبه جالينوس في الطب وكتب أخرى ذكرها ابن النديم وخاصة في صناعة
 
 

1- الانعام /50
2- د. علي الشامي، الحضارة والنظام العالمي، دار الإنسانية، بيروت 1995، ص262.
 
 
 
 
 
 
26

19

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 العقاقير وطرق الاستشفاء، ونقلوا عن حضارة الفرس الأدب والشعر والتاريخ والسياسة والإدارة وعلم النجوم. 

 
في حين دخلت الحضارة الهندية بعلومها وأخلاقها وكانت حضارة الفرس دخلت الإسلام عن طريقين الترجمة والإيمان بعدما أعطوا لحضارتهم انتماءً جديداً. أما علماء الهنود أنفسهم فمنهم من بقي هندوسياً ومنهم من اختار الإسلام دينا1
 
إن اقتباس المسلمين عن غيرهم قد يطرح إشكالية حول أصالة الحضارة الإسلامية كما دأب بعض المستشرقين علي القول معتبرين الحضارة الإسلامية قد تأسست على معطى خارجي.
 
غير أن الإسلام عندما أخذ عن هذه الحضارات عمل على استيعابها بروحية الإسلام التوحيدية فضلاً عن تكييفها مع الشريعة. صحيح أن المسلمين استفادوا من تجارب الآخرين ولكنهم أعطوا للآخرين ما أبدعوه في مجالات كثيرة وقد برز ذلك في شواهد كثيرة فعلى سبيل المثال:
 
أبو بكر الرازي كان كتاباه رسالة في الجدري والحاوي... مرجعاً لدراسة الطب في الغرب لعدة قرون.وقد برع في خياطة الجروح، إذ كان أول من استعمل أمعاء الحيوان في التقطيب، وكان أول من عالج أمراض الجدري والحصبة.
 
من جهته ظل كتاب "القانون" لابن سينا متربعاً على عرش المعرفة الطبية في العالم حتى القرن السابع عشر، إذ احتوى على 760 عقاراً للمعالجة. وكان ابن الهيثم قد أثبت بطلان نظرية "بطليموس" حول الانعكاس الضوئي
 
 


1- المصدر نفسه، ص254.
 
 
 
 
 
 
27

20

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  عندما اعتبر الرؤية نتيجة لانعكاس الضوء الخارجي في العين بدل العكس، بالرغم من أن الغرب ينسب نظريات ابن الهيثم في القرن العاشر الميلادي حول انعكاس وانكسار الضوء إلى نيوتن في القرن السابع عشر كما نسب إلى "وليم هارفي" اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي توصل إليها "ابن النفيس" الذي كان أول من تحدث عن تنقية الدم في الرئتين وانتقد نظرية "جالينوس" المتعلقة بمجرى الدم الوريدي من البطين الأيمن والبطين الأيسر1.

 
لم يقتصر الأمر على المعارف الطبية وإنما تعداه إلى حقول معرفية متنوعة فقانون الجاذبية عرف تطوراً ملحوظاً على يد "الخازن" الذي كان أول من تحدث عن جذب الأجسام إلى الأرض وحدد قوانين الجاذبية انطلاقاً من سرعة تساقط الأجسام وأوزانها قبل نيوتن بعدّة قرون.
 
وهو الذي اكتشف الضغط الجوي قبل "تورشيلي". وكان البيروني وابن سينا قد اكتشفا أن الضوء أكبر من سرعة الصوت ومثله في الرياضيات والهندسة حيث ظل جبر الخوازمي طاغياً على كل ما سبقه، إضافة إلى اكتشاف العدد "الصفر" والكسور العشرية، والمتواليات الحسابية والهندسية، وحسابات التكامل والتفاضل، واللوغاريتم، والمضلعات وتصنيف المساحات والأحجام2. كذلك كان المسلمون قد صنعوا الروافع والطواحين، ومضخات المياه، والموازين وأنابيب السوائل والساعات المائية والشمسية ورقاص الساعة، والدمى والفوانيس الزيتية، وأبدعوا في صناعة المراصد والآلات الفلكية
 
 
 

1- المصدر نفسه ص261.
2- المصدر نفسه، ص262.

 
 
 
 
 
 
28

21

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  والأسطرلاب إضافة إلى معرفة متنامية بمواقع الكواكب والنجوم1، والكثير من الإبداعات التي لا يعتري الشك الباحثين في نسبتها إليهم، رغم المنطق الإنكاري لدعاة تمايز الحضارة الأوروبية.

 
2 - الارتباط بين العلم والإيمان
 
لتفسير معالم الارتباط بين العلم والإيمان ومن ثم الوقوف على رأي الإمام الخميني يقتضي الأمر أولاً عقد مزاوجة بين العمل والعلم باعتبار أن العلم هو مختصات العقل. علماً أن كلمة عقل لم ترد في القرآن، بل وردت كلمة القلب كدلالة على تلك العلاقة التي أسسها الإسلام بين العقل والإيمان.
 
القلب كما ورد في القرآن الكريم هو عقل يتدبر به المسلم أمور دينه ودنياه."من كان له قلب" هو بحسب المفسرين من كان له عقل و"أولي الألباب" يعني أولي العقول. والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب.وحسب تفسير العلامة الطباطبائي المراد به في القرآن هو الشعور والفكر. والقلوب الواردة في القرآن مرادفة للعقول وإليها تعود مهمة التعقل والتفقه بحسب الآية 179 من سورة الأعراف "لهم قلوب لا يفقهون بها"2.
 
والقرآن الكريم كان قد حدد غايات العقل بتوجيهه نحو معرفة علمية بالكون والطبيعة والإنسان من خلال التبصر والنظر.وإنما حث أيضاً البشر
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص262.
2- المصدر نفسه، ص220.
 
 
 
 
 
 
 
29

22

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 على تشغيل العقل في معرض تنظيم شؤون دنياهم على قاعدة الالتزام بما جاء به الوحي من هداية والتمييز بين الخبيث والطيب من خلال ما جاء به النبي من تشريعات.

 
العقل بحسب القرآن الكريم يمثل جزءاً لا يتجزأ من الكائن البشري وبالتالي يمثل المساواة الإلهية في تكوين المخلوق. فهو واحد لدي الأفراد ولكن يختلف عقل فرد عن آخر في خاصية التفكير في حكمة الخلق من ناحية، وفي كيفية السلوك الدنيوي المجتمعي من ناحية ثانية. فإذا حقق العقل قدرته عمل الاستدلال والربط بين الظواهر الطبيعية من خلال ما تراه الحواس ظاهراً وبسيطاً ومرتبطاً بها يصل إلى معرفة الخالق فيتدعم الإيمان بالتدبير الإلهي، وكذلك إذا تعقل الإنسان الأوامر والنواهي، يضع في سياق واحد العقل والإيمان، وهو يضع تجربته في الحياة، بحيث يصبح قادراً على تنظيم الاجتماع البشري تنظيماً عقلياً يأخذ من الإيمان تفريقه بين الحق والباطل، والخير والشر، ويقيم معرفة مؤمنة ترشد العمل وتحدد غاياته، وينتهي العقل هكذا إلى تأسيس مسؤولية مزودجة، مسؤولية الإنسان تجاه الله، ومسؤوليته تجاه نفسه والمجتمع والطبيعة1.
 
أما حول نظرة الإنسان نفسه للعقل كعقل مستقل عن الإيمان الديني، فنجده في مسار تاريخي طويل يمتد إلى عهد اليونان حين كان هناك علماء يعتبرون أن الإنسان مقياس كل شيء، وكانوا يرون هذا في مجال الفلسفة والعلم وأن معيار الواقعية والحقيقة هو الإنسان وما يراه. فإن رأى هذا الشيء حق، فهو حقاً وإن
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص213.
 
 
 
 
 
 
 
30

23

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 رآه باطلاً فهو باطل. الإنسان معيار الحقيقة وليس العكس فلو كنا نقول إن الله موجود فبما أن الإنسان يراه كذلك فهو حقيقة، وإن قيل غير موجود، فإن الله معدوم وهكذا1.

 
في القرون الوسطى - مع سيطرة الكنيسة طوال هذه العصور - خضع العقل لسلطة تفسير النص الديني. ومع عصر الحداثة كان الغرب قد أعطى في صراعه مع الكنيسة للعقل سلطة عليا بمعزل عن أي ارتباط بالنص الديني التأويلي. ولكن سيتكرر مع الغرب هذا الإنسان كمقياس للحقيقة، وسيتوحد الإنسان مع الطبيعة وفق مبدأ الواحدية المادية في عالم مادي لا يشير إلى شيء خارجه هو عالم تم إلغاء الثنائيات داخله، ثنائية الإنسان والطبيعة، وثنائية الخالق والمخلوق. وفي مثل هذا العالم المادي لا يوجد شيء للوهم القائل إن الإنسان والطبيعة يحويان من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه، وإن فيه جوانب غير خاضعة للقوانين المادية. كما يمكن إخضاع كل شيء للمقاربة التجريبية ويصبح العالم الطبيعي المصدر الوحيد للمنظومات المعرفية والأخلاقية ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق وعن الغائيات الإنسانية والدينية. وقد أحرز هذا النموذج المادي التفسير شيوعاً غير مسبوق وشاعت معه قدرة العلم على تفسير كل ما يحيط بالإنسان وقدرته على حل مشاكله بمعزل عن أي مطلقات2.
 
حتى القرن السابع عشر أي قبل بروز ما يسمى عصر الأنوار، كان الإنسان الغربي يفكر انطلاقاً من الله. لقد كان أولاً هناك الخالق، الكائن المطلق اللامتناهي. وبالعلاقة معه، كان الكائن البشري يعرف نفسه كنقص متناه
 
 
 

1- مرتضى مطهري، التربية والتعليم في الإنسان، دار الهادي، بيروت، ص90.
2- عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، دمشق 2003، ص39.
 
 
 
 
 
 
 
31

24

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  مقابل الكامل اللامتناهي. وكان الله يأتي منطقياً، أخلاقياً وميتافيزيقياً قبل الإنسان. كان لا يزال يتوافق مع التأسيس الديني للأخلاق. في عصر الأنوار شهدنا العودة إلى تأكيد الكائن البشري في كل ميادين الثقافة، إلى حد أن الله بدأ يظهر كفكرة عند الإنسان. برزت فكرة احترام الإنسان للآخر من المنظور القيمي المادي، إذ لا حاجة للدين لكي نكون نزهاء مستقيمين، ولا حاجة بنا إطلاقاً للإيمان بوجود إله للقيام بالواجب الأخلاقي، ولم يعد الإيمان بوجود الله يحكم الفضاء السياسي في عالم علماني اختفى فيه الله كلياً وأصبح شأناً شخصياً ينتمي إلى الحياة الخاصة، فيما فرض على المجال العمومي أن يتخذ بهذا الصدد موقفاً خاصا.1

 
وبهذا المعنى شكلت المادة عصب النهضة، وأرخت بكل أثقالها على نهضة المعرفة وتربعت العقلانية على قمة النظام الفكري حيث لم يعد العقل مقموعاً من الكنيسة، ولم يعد الاهتمام موجوداً حول جدوى الإيمان بألوهية تنتظم وفق مبادئها حركة البشر والعالم، فقد افترض العلم أن الواقع هو ما يثبته العلم وحده وانتهى الأمر إلى انكسار العلاقة بين العقل والإيمان لصالح الأول، بحيث بات العقل تعبيراً عن سيادة المادة التي أنتجت مفهوماً للدولة بدون حاجة إلى مرجعية دينية، وأسس لتوازن مجتمعي وفق مبادئ السوق والثروة والملكية والمصلحة الشخصية والتقدم المجتمعي، دون انتظار تعويض ما في مملكة السماء2.
 
 
 
 

1- لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2003، ص26.
2- علي الشامي، الحضارة والنظام العالمي، مصدر سابق، ص394.

 
 
 
 
 
32

25

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 وهكذا لعبت أصولية المادة دوراً حاسماً في سيادة المطلق الرأسمالي وحلت مطلقات العقل التي باتت توظف في كل شيء.في القدرة على معرفة قوانين الوجود، في التقدم، وفي وسائل قيام نظم اجتماعية تعكس الرفاهية والسلام بدون ضوابط إنسانية أو محرمات دينية.


لكن السحر سرعان ما انقلب على الساحر وسرعان ما وقع العلم في المصيدة التي أعدّها بنفسه، فلقد تحول العلم إلى نقيضه أي صار غير علمي حين دخل في دوامة النسبية. فبالنظر إلى التحولات التي طرأت في ميدان الفيزياء، وأهمها ظهور نظرية النسبية وبطلان مبدأ الحتمية، أصبح من الممكن إعادة النظر في صدق النظريات العلمية ومناهج العلوم الطبيعية. كما أنه أصبح من المشكوك فيه إمكانية تفسير الوجود بالانطلاق من العلم وحده. ولقد لعب الفلاسفة الفرنسيون والألمان على وجه الخصوص دوراً هاماً في عملية نقد العلم هذا، ودحض النظريات العلمية وتجريدها مما نسب إليها من قيم مطلقة وروجوا لمذهب في النسبية داخل العلم، ومن بين هؤلاء كان كارل بوبر، وتوماس كون وباول فاير. وبنظر هذا الأخير كان العلماء وفلاسفة العلم قبل ذاك، يدافعون عن العلم برغبة جامحة لفرض سيطرتهم على العقول. كان العلم بنظر هؤلاء وحده هو الصحيح، وقد استطاع أن يحقق نتائج باهرة أو يتفوق على غيره، لأنه كان بمنأى عن النقد نتيجة ارتباطه بمراكز القرار التي تستعمله لأغراضها الخاصة.

لا يشذ موقف الإمام الخميني قدس سره عما انتهى إليه الذين نظروا إلى العلم بعين الشك والريبة، بل إنه مضى حتى أقصى الممكنات التي تصل العلم
 
 
 
 
 
 
33

26

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 بالإنسان في فهم الطبيعة لينتهي به إلى عالم مجهول هو عالم ما وراء الطبيعة حيث لا تستطيع العقول مهما بلغت من قدرة على التفسير الإحاطة بهذا العالم. إن هذا القصور هو عند الإمام الخميني قدس سره بمثابة أحد معالم الارتباط بين الإيمان بالعلم من جهة، وعدم تجرد العقل عن الإيمان الديني. فلو جمعت كل طاقات البشرِ ووضعت فوق بعضها بعضاً لتمكنت من فهم خاصية الطبيعة فقط، علماً أن خصائص الطبيعة لم يكتشفها البشر بأجمعها ولكن الإمام الخميني قدس سره كان أكثر تفاؤلاً في هذا المجال من علماء النسبية أنفسهم حيث يرى أن ما يجهله العلماء حول الطبيعة يمكن أن يكتشف فيما بعد، ولكن مهما يكن من أمر، فإنه لن يخرج عن إطار الطبيعة، لأن الشيء الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يدركه يدخل ضمن حدود إدراكه الطبيعي. فلو تمكن من فهم كل خصوصيات عالم الطبيعة وكل ما يرتبط بكمالها، ولو حاول الإنسان حتى النهاية وبذل جهده، فإنه يتمكن من معرفة تلك العلاقات التي بين الأشياء في الطبيعة، والعلة والمعلول، والسبب والمسبب، فلو اكتشف الزلزلة وعلاقتها بالأرض، ومتى تحدث وما هو نوعها وقوتها واكتشف كل ما تبقى من علاقات ولم يبق مجهول أمامه، فإنه سيبقى ضمن إطار الطبيعة ولا يمكنه أن يتحرك خارج حدودها وفوقها ويدرك ما وراءها. ومن هذا الاستدلال يربط الإمام الخميني قدس سره بين الإيمان بقدرات العلم المحدودة، والإيمان الديني أو الإيمان بالوحي, لأن عالم ما وراء الطبيعة بحاجة إلى معانٍ أخرى في العمل، تقوم على أساس الاعتقاد بما جاء به الأنبياء الذين بعثوا لتربية الجانب الآخر من

 

 

 

 

34


27

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  الإنسان1.

 
تتضح منهجية الإمام الخميني قدس سره في الربط بين العلم والإيمان من خلال مسيرة العلم نفسه سواء في المراحل التي أعلن فيها الإنسان الغربي عن تقديسه للعقل وللإنسان نفسه من خلال هذا العقل، والذي انتهى إلى المزيد من التوجه نحو مركزية الإنسان في الكون. فبمجرد أن بدأ العلم يفقد جدارته، اتجهت الأنظار إلى التوابع السلبية الممكنة للعلم على الوجود الإنساني، وبدأنا نسمع منذ نهايات ثمانينات القرن العشرين، خطاباً أخلاقياً يعلن نفسه في العلم ويتعلق بحفظ البشر من الأضرار المحتملة الصادرة عن العلم نفسه، فظهرت اللجان الأخلاقية، المكلفة بتقييم نتائج وعواقب التقدم العلمي. أما في الفلسفة التي كانت قد بشرت بمجيء الإنسان الأعلى، والتي شرطت التخلص من فكرة الإله التي تقف عقبة في سبيل حرية الإنسان وقوته الإبداعية فسرعان ما فشلت في محاولاتها، إذ عرف الفكر الفلسفي المعاصر ابتداءً من الستينات تيارات فلسفية جديدة راحت تردد بأصوات عالية " إن الإنسان كما تصورناه، وكما أحببناه فينا وفي غيرنا، ودافعنا عنه وعن قضاياه، لم يعد له وجود أو هو على وشك الاختفاء والموت، لأنه لم يعد بالإمكان الدفاع عن تصورات مثالية للإنسان أو التبشير بها، إذ يكفي استحضار ما وقع بين الحربين العالميتين الماضيتين، أو في راوندا، أو في البوسنة، أو في العراق ليبرز لنا أنه بدل أن يحل الإنساني محل الإلهي حل محله الشيطاني، وأننا ما زلنا على حد تعبير لوك فيري بعيدين عن القضاء على الشيطان لأن الفلاسفة بدل أن يشغلوا بالقضاء على الشيطان انشغلوا بالقضاء
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني قدس سره، طهران 1996 ، ص44.
 
 
 
 
 
 
 
35

28

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 على الله بعدما كان لآلاف السنين يلهم كل مجالات الثقافة البشرية من الفلسفة إلى الفن إلى الأخلاق1.

 
لم يكن ذلك ليحدث في مسارات العلم والفلسفة لولا الارتكاز على الفصل بين قدرة العقل الإنساني على حل كل الألغاز المحيطة بعالم الإنسان وقدرة العقل على الارتقاء وحيداً، ولكنه ما زال يحصد الإخفاق تلو الإخفاق طالما لم يحضر البعد الإيماني ولم يكن رديفاً للعقل.
 
كان الإمام الخميني قدس سره على غرار سائر الفلاسفة والعلماء يؤمن بقدرة العلم وبقدرة العقل، ولكنه لم يكن على الإطلاق ليجعل منه عقلاً مجرداً بل مسنوداً إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها. هذه الفطرة هي التي تقود الإنسان نحو الله فاطر السماوات والأرض، فطرة المعرفة التي تقود الإنسان نحو الكمال المطلق وأصل حقيقة الوجود وإلى العلة التامة.
 
يستند الإمام الخميني قدس سره إلى ما ورد من آيات في القرآن الكريم ليربط بين العلم وضرورة الإيمان ليس فقط من أجل ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، وإنما من أجل تفسير أسباب ارتكابات الإنسان للظلم جراء عدم تربية النفس وعدم الإقرار بتعاليم الأنبياء^، فالآية الأولى في القرآن الكريم هي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾1 فدُعي َ الرسول الأكرم منذ البداية للقراءة، و جاء في نفس هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾2. يرى الإمام الخميني قدس سره أن تحول الإنسان إلى طاغوت هو من أخطر الأمور، وللتخلص من 
 
 
 

1- جمال مفرج، الفلسفة المعاصرة، الدار العربية للعلوم، بيروت 2009 ، ص18.
2- سورة العلق، الآية 1.
3- سورة العلق، الآية 7.
 
 
 
 
 
 
36

29

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 هذه الحالة، لا بد من تعليم الكتاب والحكمة، لأن الإنسان بنظر الإمام يطغى بمجرد أن يستغني. الاستغناء المالي يجره إلى الطغيان بقدر هذا الاستغناء، ويطغى الإنسان عندما يستغني علمياً، وعندما يحصل على مقام بمقدار ذلك المقام، بل إن سائر الأمور الدنيوية تجره إلى الطغيان فيما لو لم يزك ِّ نفسه.

 
وإن جذور جميع الاختلافات بين البشر وبين السلاطين وبين أصحاب النفوذ تعود إلى الطغيان الموجود في النفوس، وغاية البعثة تزكية الناس حتى يتعلموا ولو تزكوا لما حصلت كل الاختلافات بين البشر.
 
وعلى هذا الأساس فإن حصر الإنسان بالبعد المادي وحده، والإيمان بحريته وإمكاناته على حل مشاكله الخاصة ومشاكل وجوده الاجتماعي، يبقى قاصراً عن بلوغ المراد. يشير الإمام الخميني قدس سره إلى نتائج تفرّد الإنسان بالعقل العلمي وحده بالقول "هؤلاء الذين يدّعون أنهم عرفوا العالم، فقد عرفوا جانباً متدنياً من العالم، واكتفوا بذلك، وأولئك الذين يقولون بأنهم عرفوا الإنسان، فإنهم عرفوا شبحاً من هذا الإنسان، وليس الإنسان نفسه، لقد عرفوا شبحاً من حيوانية الإنسان، وظنوا أن هذا هو الإنسان". 
 
وبهذا المعنى، نجد أن الإمام الخميني قدس سره يشدد من خلال ربط العقل بالإيمان على تفوق العلم الإلهي ويجعله فوق المعرفة البشرية، وتابعاً للوحي ، في معرض بحثه عن الحقيقة، ويجعله مكملاً للإيمان في حقل التشريع. ومعه يظل هذا العقل خلقاً إلهياً مهمته التفكر في تجليات الألوهية في هذا الوجود بدون أن ينتهي إلى تعظيم الإنسان ومعارفه على حساب العلم الإلهي المطلق، وهي الرؤية التي
 
 
 
 
 
 
 
 
37

30

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  تظهر بصورة معكوسة في الغرب منذ صراعه مع الكنيسة وانتهاءً بعصرنا الحالي...


إن الربط بين العلم والإيمان وفق الإمام الخميني قدس سره، تبرز فيه توحيدية الإسلام على أساس نظامه الفكري الذي ينعكس في صميم الفعل الإنساني ورؤيته لعلاقته مع الله ومع ذاته ومع العالمية الإنسانية كرؤية للأخوة في الدنيا والآخرة، على النقيض من الرؤية المادية التي تجعل الإنسان سلعة خاضعة لمقاييس الاستخدام المادي، والاستغلال في دنيا منفصلة عن الآخرة. يقدم الإمام الإسلام بوصفه رؤية عامة للوجود وبوصفه قيمة مرجعية للعلاقات بين البشر وبين الإنسان والطبيعة، والإنسان مع المطلق المتعالي اللامتناهي وحضوره في التجربة البشرية من خلال الأنبياء والرسل لكي يوصلها في نهاية الأمر إلى الكمال عبر اتباعها الصراط المستقيم الذي يخرجها من الظلمات والشكوك والتمزق.

3 - ماهية العلم في فكر الإمام الخميني

قبل أن يشهد العلم هذه التخصصية الموجودة في عصرنا الحالي كانت الفلسفة هي أم العلوم، وكان موضوعها هو الوجود، وما وراء الوجود، والإنسان.25 مع التطور انقسمت هذه العلوم إلى قسمين علوم طبيعية وأخرى إنسانية، ضمت العلوم الطبيعية. الفلك، والفيزياء، والرياضيات والكيمياء، والطب وغيرها، وصارت العلوم الإنسانية تضم الفلسفة، والسياسة، والتاريخ، وعلم الاجتماع والنفس وغيرها من العلوم ، وأصبح لكل فرع من فروع هذه
 
 
 
 
 
 
 
38

31

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  العلوم فروع متخصصة. وقد حققت هذه العلوم جراء تطورها وتخصصها، الكثير من الإنجازات والكشوفات. ومعها ساد الشعور أن العلوم قادرة على حل كل مشاكل الإنسان، في رؤيته لنفسه، ورؤيته للعالم المحيط به، ولتفاعلاته مع سائر البشر.


لم يقف الإسلام متفرجاً إزاء هذه العلوم بل كانت له إسهامات كبيرة وجادة في تطورها. غير أن إشكالية هذه العلوم لم تقف عند حدود إنجازاتها، وإنما عند النتائج التي توصلت إليها، ومن بينها التشكيك بما جاءت به الأديان وعالم النبوات، والفصل بين عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة، وفصلها عن منطق التوحيد الإلهي في عالم الوجود.

الإسلام بنظر الإمام الخميني قدس سره إذ يفتح العقل على باب النظر والتقصي في حقيقة هذا الوجود، جاء ليعيد جميع المحسوسات وجميع العالم إلى مرتبة التوحيد، فتعليماته ليست تعليمات طبيعية أو تعليمات رياضية أو طبية أو التي تدرس في ميادين شتى، إنها تشمل كل تلك، ولكنها مرتبطة بالتوحيد الذي ينتهي إلى مقام الألوهية. 

فالمعنى ـ وفق الإمام الخميني قدس سره ـ الذي تبتغيه العلوم الجامعية هو ذو قيمة كبيرة، ولكن ثمة فصل بين المعنى الظاهري وهو معنى مشترك بين كل العاملين في حقل هذه العلوم، والمعنى الذي يبتغيه الإسلام، وهو أن ترتبط جميع هذه العلوم الطبيعية أو غير الطبيعية بالتوحيد أي أن يكون لكل علم جانب إلهي، فيرى الإنسانُ الله عندما ينظر إلى الطبيعة، ويرى الله عندما ينظر إلى المادة، وسائر الكائنات. مع أنه لا بد من وجود
 
 
 
 
 
 
39

32

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  الطب، ووجود العلوم الطبيعية، والعلاج البدني إلا أن المهم هو مركز الثقل هو التوحيد الذي ينظر إلى تلك المعنويات بتلك المرتبة العالية، أي حين يستحضر صورة الألوهة من خلال الطبيعة، وأنها موجهة من عالم الغيب، ولو نظر الإنسان إلى الطبيعة بهذا العنوان كان يمكنه أن يكون كائناً إلهياً.1

 
أن يكون الإنسان كائناً إلهياً يعني تحسس كل ما في الوجود من عظمة ليجد فيه تجليات النور الإلهي، والتفكر في طبيعة التجربة البشرية لاستخلاص ما في أحوال الأولين من عبر. وهو ما نجده في مقاصد القرآن الكريم حيث كثرت فيه الدعوة إلى التفكر وتمجيده ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2 وكذلك في موارد أخرى ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾3.
 
ومن خلال الربط بين العقل والإيمان يرى الإمام الخميني أن هناك الكثير من الآيات التي فيها مدح عظيم للتفكر. وينقل الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في معرض إيضاحه للآية 190 من سورة آل عمران ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ حيث يقول الرسول الأكرم "ويل لمن قرأها ولم يتفكر بها". والعمدة التي يراها الإمام في هذا الباب أن التفكّر هو تلمّس البصيرة للوصول إلى المقصود وهو السعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلمي والعملي إلى السلامة المطلقة وعالم النور
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص132.
2- سورة النحل، الآية 44.
3- سورة الأعراف، الآية 176.
 
 
 
 
 
 
40

33

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  والطريق المستقيم1.

 
4 - تحرير الأفكار من التبعات (العقل والحرية)
 
إن معالم الارتباط التي تجسدت بين الإيمان والعقل الذي استلهمه الإمام الخميني من رؤية الإسلام لتلك العلاقة وهي تعبير عن نظرة محددة للإنسان ببعديه الروحي والمادي، وبالفطرة المستودعة لديه من الباري تعالى هي فطرة معرفة الله وتعقل الموجودات، وسعيه نحو الارتقاء في مدرجات الكمال.
 
ولما كان العقل الخاصية المميزة للإنسان عن سائر الموجودات، غير أن هذا العقل في ممارسته لوظيفته وفي احتكاكه مع عالم الطبيعة وتعقله للتجربة الذاتية ولتجربة الآخرين، سرعان ما يلحق به الكثير من التبعات التي تحرفه عن الغايات المنشودة من وراء ممارسته لوظيفته. ولذلك كان الإمام الخميني قدس سره قد عمد وفي مناسبات متنوعة إلى الدعوة إلى تحرير هذا العقل من القيود وهي كثيرة وهي بمثابة أوهام لا بد من إزالتها من عالم التأثير الذي يحجب الإنسان عن أن يكون إنساناً إلهياً وإنساناً مستخلفاً لله في أرضه.
 
أ- وهم التقليد
 
من المعلوم أن الإنسان أكثر ما يؤثر ببنائه العقلي والوجداني هو الثقافة السائدة التي يكتسبها بالتنشئة، فالثقافة في أي مجتمع كان هي التي تشكل 
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، المصدر أعلاه، ص110.
 
 
 
 
 
 
41

34

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 هوية ذلك المجتمع، وإن أي انحراف ثقافي يؤدي إلى خواء المجتمع وشعوره بالفراغ رغم أنه قد يكون مقتدراً في المجال الاقتصادي والسياسي والصناعي والعسكري.

 
وقد كان للإمام الخميني قدس سره اهتمام خاص في تحقيق الاستقلال الثقافي الذي غاب عن العالم الإسلامي بفعل تبعية المسلمين للثقافة الغربية. رفع الإمام شعار لا شرقية لا غربية الذي يحمل دلالات متنوعة، بينها الدعوة إلى الاستقلال الثقافي والفكري والدعوة إلى التحرر من وطأة تبعية المسلمين للغرب. وقد استوحى هذا الشعار من إحدى آيات القرآن الكريم:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾1.
 
ومن خلال هذا الشعار كانت الدعوة للاستقلال الفكري لأن الارتباط بالثقافة المخالفة يُفقد الثقافة الأصلية وجودها، ولذلك فإن من السذاجة وفق رأيه أن نتصور إمكانية تحقيق الاستقلال في أبعاده المختلفة مع وجود التبعية الثقافية التي دأب الاستعمار على إحلالها محل ثقافة المجتمعات.
 
ولفهم موقف الإمام الخميني قدس سره من مسألة التبعية في أسبابها ومظاهرها وأبعادها يمكن الوقوف على نصوص من كلام له، حيث يرد أسباب هذه التبعية إلى ارتباطها بالبعد النفسي والثقافي. وبالتالي هي مسألة تعود إلى فقدان
 
 
 

1- سورة النور، الآية 35.
 
 
 
 
 
 
 
42

35

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الشعب ثقته بنفسه من جهة، وانبهاره المطلق بالشعب المتبوع إلى درجة التقليد والأتباع الأعمى من جهة ثانية1. أما مظاهرها فتبدو في مواضع متفرقة ففي خطاب ألقاه بتاريخ 5 أيلول عام 1979 قال: إن جميع مشاكلنا ومصائبنا هي أننا فقدنا أنفسنا وجلس غيرنا في مكاننا. إن ثقافتنا واقتصادنا كانا غربيين، ولقد نسينا أنفسنا حقاً.لقد نسي الشرقيون مفاخرهم كلها ودفنوها ووضعوا الآخرين مكانها. وعندما يذكرون الموضوعات يستشهدون بأقوال الغربيين، وهذا هو العيب، إنهم متأثرون بالغرب، إنهم نسوا ألفاظهم ولغتهم، وما دامت هذه التبعية موجودة فلن يكون هناك استقلال2.

 
ويقول في هذا المجال: لا تشتبه عليكم الأمور عندما تشاهدون تقدم الغربيين في مجال الصناعة، ولا تتصوروا أنهم متقدمون في مجال الثقافة أيضاً، ينبغي لكم أيها الطلبة الجامعيون الأعزاء، أن تفكروا بكيفية التخلص من هذا التغرب والعثور على ما ضيعتموه وأن نكون مستقلين وأحراراً.3
 
الاعتماد على الذات تلزمه خطوات متضافرة ليست محصورة بالجامعيين وحدهم وإنما بكافة مكونات المجتمع من أجل بناء الإنسان. يقول الإمام في هذا الصدد: لا يمكننا إصلاح الأمور ما لم نبنِ على أننا بشر، ويمكننا العمل لأنفسنا، وأننا مستعدون لتناول الخبز المصنوع من الشعير هنا ولا نريد شيئاً من الخارج. لا يمكننا أن نحقق الاستقلال ما لم يصمم هذا الشعب على أن يكون كل شيء من عنده، وأن تكون ثقافته من عنده واقتصاده من عنده. إن الدعاية
 
 
 

1- السيد محمد حسين فضل الله، كتاب المنطلق، 1990، ص49.
2- المصدر نفسه، ص47.
3- الإمام الخميني قدس سره?، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص354.

 
 
 
 
 
43

36

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 سلبت منا آدميتنا وأوجدت عندنا يقيناً بأنهم كل شيء. بم تختلفون عن سائر البشر؟ البشر في كل مكان من جنس واحد ومن نوع واحد... إنهم لم يسمحوا للأفضل عندنا أن يكون، ولهذه العقول المفكرة أن تعمل. إن العقول المفكرة التي هربت من إيران إنما كانت أفكارها تعمل لخدمة الأجانب، ولكن الحمد لله فقد أثبتم وأثبت شبابنا قدرتهم على العمل. ثقوا أنكم قادرون على القيام بجميع الأعمال في المستقبل الطويل. وآمل أن تُعملوا العقول، وتنزعوا عنكم تلك المخاوف التي أوجدها الغرب والشرق في بلادنا.مارسوا عملكم الثقافي بشجاعة أيضاً، ومارسوا أعمالكم بأنفسكم، وقللوا اتكالكم على الأجانب34 .لقد نجوتم إلى حدٍ كبير من تلك المصائد والشباك حيث هبّ الجيل المعاصر إلى العمل والإبداع.وقد رأينا ما أنجزه في العديد من المصانع وفي أجهزة الطائرات وغيرها في وقت لم يكن يتصور أن الخبراء الإيرانيين قادرون على تشغيل المصانع وأمثالها في ظل المقاطعة المفروضة والحرب الاقتصادية. أوصيكم أن تقطعوا دابر التبعيات بإرادتكم الصلبة شريطة التوكل على الله والاعتماد على النفس1.

 
ب ـ وهم الحرية
 
اقترنت الدعوة عند الإمام الخميني قدس سره إلى الاستقلال الثقافي كمقدمة للتخلص من سائر أشكال التبعية بإبراز مظاهر هذه التبعية وخطورتها على
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص356.
2- المصدر نفسه، ص357.
 
 
 
 
 
 
44

37

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 هوية المجتمع الإسلامي. ومن بين مظاهر هذه التبعية كان وهم الحرية وهو المفهوم الذي ساد في الأوساط الأوروبية بعد الثورة الثقافية في القرن الثامن عشر في أوروبا عندما برز المفكرون بأفكارهم المناهضة للكنيسة في معركة استقلال العقل عن المؤثرات الدينية وتزامن ذلك مع نظرة جديدة للإنسان اقترنت مع ماعرف بالحقوق الطبيعية وعلى رأسها الحرية.


وفي أعقاب امتدادات الثورة في القرن التاسع عشر/ كان الغرب قد نظم مجتمعاته على أساس الفهم الجديد للحرية التي سرعان ما شكلت موئلاً للمثقفين في عالمنا الإسلامي الذي راح يستلمهم الغرب في مناهجه التعليمية مركزاً على إبداعات الغرب خصوصاً في المجال الثقافي والفكري، وترافق الأمر مع بروز سلوكات جديدة نابعة من الدعوة إلى التنميط الثقافي الذي يحاكي الغرب كتعبير عن حق الإنسان في حريته.

ولما كان هذا التنميط هو بمثابة أحد أهم عناصر الثقافة المكتسبة من خلال الأطر التربوية والتعليمية، كان الإمام الخميني قدس سره شديد الحرص على تنقية المناهج والجامعات من رواسب هذه التبعية، لا سيما أن هذه المراكز تضطلع بتخريج الكفاءات العاملة في ميادين شتى في المجتمع و منها وسائل الإعلام، والفن، والإدارات التي تضطلع بصناعة الرأي العام.

وبطبيعة الحال وقف الإمام الخميني قدس سره في مواجهة سائر أشكال التبعية.ولم يكن يعمد لذلك إلا بعد توضيح ملابسات وتعقيدات نتائج هذه التبعية وبينها وهم الحرية السائد كما في الغرب. دون أن يعني هذا الأمر أن للإمام الخميني نظرة سلبية لمفهوم الحرية بقدر ما يعبر عن نظرة خاصة متوائمة مع 
 
 
 
 
 
 
45

38

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 تأصيله الإسلامي لكل ما يمت للإنسان بصلة.


الحرية بنظر الإمام الخميني قدس سره هي نعمة إلهية ممنوحة للبشر، وهو يجدها قد تحققت مع انتصار الجمهورية الإسلامية، وهذه الجمهورية ليست سوى ثمرة شعور الأفراد بالتحرر من كم الأفواه الذي كان سائداً في زمن الشاه. ومع تحقق نجاح قيام الجمهورية الإسلامية، تبقى هذه الحرية مصونة ارتكازاً على تعاليم الإسلام التي تمنح الإنسان حرية العمل والاعتقاد.

ولكن للإمام الخميني قدس سره نظرة مغايرة لمفهوم الحرية كما هو سائد وفق الطراز الغربي الذي يراه يؤدي إلى الانحراف وتدمير الشبان والشابات، وهذا الطراز الذي أذن له أن يكون سائداً في جامعات ومدارس إيران كما في سائر زوايا المجتمع.

من بين أكثر ما يتم من خلاله التنظير لهذا الطراز وسائلُ الدعاية والخطابات والكتب والصحافة. وبطبيعة الحال إن الفئة المولجة بهذا الأمر، هي فئة المثقفين والجامعيين الذين يضطلعون بأدوار تناسب مؤهلاتهم. استناداً إلى هذا الأمر، كان الإمام الخميني قدس سره شديد الحرص على دعوة هذه الفئات كما سائر أفراد المجتمع، إلى التنبه لخطورة هذه المسألة. يقول في هذا السياق "إننا ومنذ اليوم الأول الذي تحققت فيه ثورتنا كانت جميع الحريات موجودة، ولكن هل من الصحيح أن يتحدث الإنسان بما يشاء تجاه الآخرين بحيث تدب الفوضى؟ هل هذا هو معنى الحرية؟ هل الحرية في الغرب التي تريد نهبنا هي على هذه الشاكلة؟.. إنهم أرادوا الحرية التي تمكنهم من إفساد إخواننا وشبابنا، إنهم يريدون حرية الفحشاء بكل أنواعها... في حين 
 
 
 
 
 
 
46

39

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 أن الحرية الأولية لأي شعب من الشعوب هو حق تقرير المصير. فهل هذا كان سائداً خلال الحكم البائد الذي عمل على كم الأفواه من جهة وإحلال ثقافة الحرية الفاسدة وفق النمط الغربي؟ متى كان الناس والشبان وطلاب الجامعات وطلبة العلوم الدينية أحراراً مع وجود الويلات التي لحقت بنا من الشرق والغرب ؟1

 
وبهذا المعنى نجد الإمام الخميني قدس سره يقف صلباً أمام تأكيد نزعة الحرية التي كان الناس يفتقونها. ولكنه مع ذلك يقف بمواجهة المفهوم السلبي للحرية وفق النمط الغربي حيث لم يتم الاستفادة منها بشكل صحيح والتي من بين نتائجها إفساد الجيل الشاب حيث طاولتهم البرامج الثقافية والفنية في مراكز التعليم التي كانت بمعظمها استعمارية.
 
 
وعلى هذا الأساس، نجد أن الإمام الخميني قدس سره يعطي للحرية مفهوماً أكثر انسجاماً مع تعاليم الوحي حيث يرى من خلاله، أنه لا يحق لأي إنسان أن يفرض على الآخرين أن يخضعوا له، وأنه لا يحق لإنسان أن يسلب حرية إنسان آخر أو مجتمع معين فيضع له القانون أو ينظم علاقاته بموجبه وبموجب ميوله ورغباته.
 
يقدم الإمام الخميني قدس سره نموذجاً آخر حول معنى الحرية خصوصاً مع تقدم العلوم وتقدم وسائل الاتصال، وخصوصاً في ميدان الفن الذي كان قد اكتسب حرية جديدة في إيران قبل الثورة الإسلامية، والذي كان أكثر تأثراً بالغرب. علماً أن الفن المتلازم مع الحرية يحاط اليوم بشكوك كثيرة حول
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص361.

 
 
 
 
 
47

40

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 جدواه بعدما سيطر مبدأ المردود الاقتصادي، وهيمنته على مختلف أشكال الحياة الإنسانية، وبعدما استخدمت السلطة والشركات الاستهلاكية الفنون كأدوات لترويج منتجاتها وأصبح الفن مرادفاً للدعاية والإعلان، وتعميم أشكال السلوك المتلازم مع الرؤية المادية للإنسان، وتقديم ثقافة هي من إنتاج المجتمع الصناعي والتكنولوجي الذي تغدو فيه الثقافة ممثلةً الواقع الصناعي المغترب عن البعد الروحي للإنسان لأنها تحاول صياغة وجدان الجماهير في سياق يتفق مع مصالح المؤسسات السائدة. وحين يتداخل الفن مع هذه الثقافة التي تصنعها أجهزة التسلط والهيمنة، فإن الفن كجوهر لفعل التحرر يتحول إلى سلعة استهلاكية، وأداة لتخدير الجماهير وتدجينها في صورة معينة، وفق أشكال فنية ممزقة لمجتمع ممزق إذ لم يعد الحلم الإنساني موضوعها وإنماالأشياء1.

 
وبهذا المعنى ونظراً لتلازم الفن مع مبدأ الحرية كما هو سائد، ونظراً لتأثيره الكبير في صياغة الإنسان، بالاستفادة مما توفره العلوم الحديثة من منجزات، كان للإمام الخميني قدس سره سلسلة من الآراء حول هذه الصناعة الخطيرة. فالفن كما يراه الإمام، يحظى بالقبول القرآني، لكنه الفن الكاشف عن حقيقة الإسلام، تجاه قضايا الفقراء والبؤساء والمضطهدين على مر التاريخ. الفن الجميل يجده في الفن النقي الذي يشخص ويشير إلى غوامض ومبهمات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، هو صورة واضحة للعدالة والكرامة والقسط. وموجبات الفن تستتبع بنظر الإمام الخميني موجبات تجب مراعاتها من قبل الفنانين حيث لا يمكنهم التخلي عن
 
 

1- جمال مفرج، الفلسفة المعاصرة، مصدر سابق، ص25.

 
 
 
 
 
 
48

41

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  مسؤولياتهم والأمانة التي حملوها على عاتقهم1. وعلى هذا النحو، تظهر خطورة الدور الذي يضطلع به الفنانون وليس هؤلاء سوى خريجي الجامعات والمعاهد العليا التي تعدهم لهذا النوع من الاختصاص. وهو دور البرامج والبحوث ذات الطابع الاجتماعي والنفسي والتربوي التي من شأنها تحسس قضايا المجتمع والتي تشكل مورد استفادة في ميادين شتى، خصوصاً الفن ،وليس الفن السائد الذي كان يراه الإمام أشياء مبتذلة تربي الشباب سواء في الجامعات أم خارجها بشكل يكونون فيه جميعاً منحرفين2.

 
وبهذا المعنى أيضاً، نجد تلك المعالم التي تربط عالم الفن ليس بمنظور الحرية السائدة ونمط الاستهلاك كما هو في عصرنا الراهن، وإنما بمعايير أخلاقية وإنسانية سامية يعيش معها الإنسان حريته الحقيقية، وليست الحرية الموهومة التي تجعل منه إنساناً ميتاً أسيراً لثقافة الموضة وعالم الإثارة والاستهلاك.
 
5 - كسر الأنماط والأطر الفكرية التقليدية
 
تقدم في سياق السطور السابقة معنى العلم في القرآن الكريم وتلك العلاقة الناشئة بين العقل والإيمان، وهي أطروحة كامنة في الجانب النظري الذي يرتبط بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في مقام علاقته المعرفية بالوجود. غير أن ثمة أشكالاً سائدة لأنماط فكرية تتراوح بين الفصل في مقامي العلم والإيمان، وبين التلازم المشوه أو القاصر عن المعنى الحقيقي للملاءمة بين
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص306.
2- المصدر نفسه، ص307.

 
 
 
 
 
 
49

42

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  العقل والإيمان. وهو ما يمارسه المسلمون أنفسهم في ميادين شتى، خصوصاً خلال سلوكاتهم العملية تجاه القرآن الكريم وما ورد فيه من آيات كثيرة تدعو إلى التفكر وتمجد التفكير من قبيل ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾1. ومن شدّة اعتناء القرآن الكريم كان هذا التمجيد للتفكر لكونه يرتبط بغايات ومقاصد إلهية ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.

 
التفكر في مقاصد القرآن الكريم كان موجوداً لدى المسلمين ولكن العمل بهذا الموجب لم يكن بنظر الإمام الخميني قدس سره ليصل إلى كنه تلك المقاصد وحقيقتها. ولذلك عمل على تبيان تلك الأطر وإبراز خصائصها، ومن ثم وضعه لقواعد التفكير المتجاوزة لما هو سائد في النظر للقرآن الكريم الذي فيه تبيان لكل شيء. ففي وصفه لأنماط التفكير التي سادت فيما مضى، يحدد الإمام معالم الفصل السائد في التعاطي المعنوي مع القرآن الكريم أو التعاطي الظاهري، حيث يعتبر أنه بعد مضي مدّة من نزول القرآن الكريم اهتمت مجموعات من أهل العلم بمعنويات الإسلام وركزوا أنظارهم على تلك الآيات المرتبطة بالمعنويات وتهذيب النفس وعالم الغيب، فيما كان الاهتمام معدوماً بتلك الأحكام الاجتماعية والسياسية الواردة في الإسلام. ثم برزت تدريجياً مجموعات اهتمت بالمسائل الاجتماعية والسياسية وقضايا الساعة، واقتصرت نظراتهم على تلك المسائل فقط. أصحاب الاتجاه الأول كان بينهم الفلاسفة
 
 
 

1- سورة النحل، الآية 44.
2- سورة الأعراف، الآية 176.
 
 
 
 
 
 
 
50

43

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  والعرفاء والمتصوفة وأمثالهم، حيث كان جل كلامهم يدور حول المعنويات. والابتلاء الآخر للإسلام كما يراه الإمام، هم فئة الشباب والمثقفين والعلماء الذين تعلموا العلوم المادية فحاولوا تفسير القرآن تفسيراً طبيعياً أو غفلوا عن المعنويات وهؤلاء مهتمون بالإسلام، ولكنهم ينظرون إليه من جانب واحد في حين أن الإسلام يدعو إلى كليهما لكونه جاء من أجل بناء الإنسان وتربيته في جميع أبعاده1.

 
كذلك يرى الإمام أن ثمة أنماطاً سائدة في التعاطي مع القرآن الكريم، هذه الأنماط هي بمثابة حجب تجب إزالتها ليحصل المقصود من النظر في القرآن الكريم ككتاب للمعارف والأخلاق والدعوة إلى السعادة والكمال. وقد سرد الإمام في هذا المقام موارد عدّة هي بمثابة التبيين لطرق الاستفادة التي يتعين على المتعلم اتباعها وهي كثيرة نورد منها الآتي:
 
من الحجب العظيمة المانعة من الاستفادة حجاب رؤية النفس حين يرى المتعلم بواسطتها نفسه مستغنية أو غير محتاجة للاستفادة وهذا من مكائد الشيطان الذي يزين للإنسان الكمالات الموهومة. مثلاً يقنع أهل التجويد بذاك العلم الجزئي، ويسقط سائر العلوم عن أعينهم، ويقنع أهل العلوم بعلم فنون الدلالات فقط ووجوه الاحتجاجات وأمثالها، ويرضى أصحاب الأدب بتلك الصورة بلا لب، ويحبس الفيلسوف والحكيم والعارف الاصطلاحي في 
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص102.
 
 
 
 
 
 
51

44

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الحجاب الغليظ للاصطلاحات والمفاهيم وأمثال ذلك1.

 
ومن الحجب: حجاب الآراء الفاسدة والمسالك والمذاهب الباطلة. والأغلب أنه يوجد من التبعية والتقليد، مثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد فاسد بمجرد الاستماع من الأب أو من الأم أو بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبة بينها وبين الآيات الشريفة2.
 
 
6 - علوم العصر وتحريك المقدس في التكامل الإنساني
 
منذ فجر البشرية وعالم الإنسان تحيط به الكثير من المقدسات سواء منها ما جاء به الأديان السماوية أو تلك الأوهام التي صنعها الإنسان لنفسه وجعل منها مقدسات.
 
والمقدس في الفهم البشري هو الحقيقة الثابتة التي لا يشوبها الالتباس والغموض، أضفى الإنسان عليها طابع القداسة لأنها تسمو عليه وتؤثر في مجرى حياته.
 
فبمعزل عن عالم النبوات في عصور تاريخية موغلة في القدم جعل الإنسان من بعض مظاهر الطبيعة مقدسات ونسب إليها صفات عليا وجعل منها آلهة تؤثر في مجرى حياته كالمطر والشمس وغيرهما من
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص101.
2- المصدر نفسه، ص103.
 
 
 
 
 
 
 
52

45

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 المظاهر الطبيعية فخضع لها وقدم القرابين وهاله إغضابها. ومع تطور العلوم، وخصوصاً لدى الغرب ، نسب الغرب أسباب بروز الأديان وما ينفرع عنها من مقدسات إلى الجهل بعوامل وبقوانين الطبيعة وإلى الخوف منها جراء عدم قدرته على السيطرة عليها، وراحت هذه المقدسات تتداعى شيئاً فشيئاً ليحل محلها العقل الإنساني، الذي غدا مقدساً لما له من قدرة على كشف كل ما يحيط بالإنسان، ولا قداسة إلا لما جاء به العقل. حلّ العقل محل المقدسات الأرضية، كذلك حل محل الإله الواحد الحقيقة المطلقة المقدسة التي دعت إليها الأديان التوحيدية المسنودة إلى الوحي. غدا الله بنظر المدارس المادية مقدساً ولكنه عديم التأثير في عالم الطبيعة والإنسان.الله بنظر بعض اتجاهات هذه المدارس برأ الكون ولكنه كصانع الساعة، التي تشير إلى التناهي في الدقة والاختراع ولكن بعد صنعها أصبحت الساعة مستقلة بحركتها عن صانعها وكذلك الإنسان.


العقل هو الوحيد القادر على إدراك قوانين الطبيعة والإنسان ،وهو القادر على أن يعمل في ضوء صعوده التكاملي على كشف كل حقائق الوجود، وعلى بناء التجربة البشرية التي تؤمن السعادة والرفاه للإنسان بمعزل عن تعاليم النبوات وبمعزل عن تأثير المقدس الإلهي، في حياة البشر.

المقدس الإلهي أي الله في عقيدة التوحيد، هو حضور فطري لدى الإنسان الذي استودعه الباري التعرف الى المطلق المتناهي. وقد أرسل
 
 
 
 
 
 
 
53

46

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 أنبياءه ورسله لإثارة ولإلفات الإنسان إلى فطرته هذه. وهو يتجلى في عالم الوجود، وفي عالم الإنسان في شدّه نحو الوصول إلى الكمال من خلال الارتقاء نحوه.


وقد تقدم في الصفحات السابقة هذا الأمر لدى البحث حول رؤية الإمام الخميني لطبيعة العلاقة بين العلم والإيمان، وهي رؤية تستند بصفائها إلى ما جاء به الدين الإسلامي الحنيف.

غير أنه في معرض البحث عن معالم الارتباط بين علوم العصر والتكامل البشري ودور المقدس في التجربة البشرية يستوجب الوقوف مرّة أخرى عند آراء الإمام الخميني? حيال هذا الموضوع.

يرى الإمام أن الكمال البشري سواء على النحو الفردي أو النحو الاجتماعي هو أمر فطري بمعنى أن الله هو من برأ الإنسان وفطره على النحو الذي يسعى فيه لبلوغ الكمال. غير أن الفارق يكمن في إدراك الإنسان لأسباب هذه الحقيقة ولغاياتها ومقاصدها الأصلية.

يرى الإمام بأنه من الأمور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها "عشق الكمال" الذي يحرك الإنسان ويدفعه في سكناته وتحركاته وفي جهوده المضنية التي يبذلها في مجال علمه وعمله وتخصصه على 
 
 
 
 
 
 
54

47

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الرغم من الاختلاف بين بني البشر. ومن خلال هذه الفطرة تكون حال العلوم والصنائع والفلسفات الأخلاقية.

 
بعض الناس يرون الكمال في السلطان والنفوذ واتساع الملك فإذا ملكوا سلطان دولة ما توجهت أنظارهم إلى دولة أخرى وإذا بسطوا سلطانهم على الأرض واحتملوا وجود مكان للتسلط على الكواكب الأخرى سعوا إليها. وعلى هذا الحال أصحاب العلوم والصناعات كلما وصلوا فيها إلى مرتبة سعوا إلى أخرى، وكذلك هي حول الحال بالنسبة إلى الجمال ونضارة الوجوه، فكلما عثر الإنسان على وجه جميل توجه نحو الأجمل ليصل إلى الأكمل1.
 
الكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى والكمال الإنساني يبقى أمراً موهوماً. ولإدراك حقيقة هذا الفارق، يشرط الإمام الخميني قدس سره العودة إلى فطرة المعرفة والدعوة إلى التأمل في حال النقص الذي يعتري الإنسان، وفطرة التأمل بالوجود كتجلٍّ للمطلق وحضوره فيه، وهي دعوة تتوجه نحو الإنسان للتبصر في خيالاته الموهومة وكبريائه المزعوم.
 
العشق الفعلي للكمال بنظر الإمام الخميني قدس سره لا يكون شيئاً متوهماً لأن كل موهوم ناقص والفطرة إنما تتوجه إلى الكامل، ولا معشوق غير الذات الكاملة التي تتجه إليها الفطرة، ولازم عشق الكامل المطلق وجود الكامل المطلق2.
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، حقيقة الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص5.
2-  المصدر نفسه، ص7.

 
 
 
 
 
55

48

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 ومن خلال هذه الكلمات، نجد الإمام الخميني قدس سره بتركيزه على فطرة المعرفة وهي الفطرة المتاحة لكل إنسان مهما بلغ من مراتب العلم، يعمد إلى إبراز وتأكيد المقدس وهو كذلك في ذات الإنسان نفسه، وكذلك في الطبيعة وغاية الخلق.


ومن المسلم به أن المعرفة التي تتأتى عن طريق الحواس هي كذلك متاحة لكل إنسان يستطيع من خلالها إدراك بدائع عالم الوجود.ولكن علوم العصر أيضاً تحمل الكثير من الممكنات التي تكشف الحضور الإلهي في عالم الوجود، في حين أن أوهام الإنسان أوقعته في كبرياء العلم الذي أوصله للإعتقاد بتراجع عالم اليقينيات والخضوع لمبدأ النسبية في المعرفة. ففي مجال إلفاته إلى دور العلوم في إدراك الكمال الإلهي يقول الإمام في هذا الصدد: دع عنك الأمور المعنوية أي عالم الروح والقوى الروحية للنفس التي جعلت لها الحواس الباطنية.

واتجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطبيعي، والخصائص لكل عضو من الأعضاء الظاهرة والباطنة، انظر ما أغرب هذا النظام. وعلى الرغم من أن علم البشر لم يصل حتى بعد مائة قرن إلى معرفة واحدة من الآلاف منه والاعتراف الصريح بأفصح لسان من جميع العلماء بعجزهم، مع أن جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا يزيد عن مجرد ذرة تافهة، وأن الأرض وجميع كائناتها لا تعدل شيئاً إزاء المنظومة الشمسية، وأن كل منظومتنا 
 
 
 
 
 
 
 
56

49

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الشمسية لا تعادل وزناً إزاء المنظومات الشمسية، تقف أمامها عقول البشر عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها أفي الله شك فاطر السماوات والأرض?1

 
مثال آخر يمكن عرضه عن الفارق بين عالم الفطرة وعالم المقدس المادي الذي حل محله الله وهو وقوف الغرب أمام الأسباب التي تدفع الإنسان إلى عالم الكمال من خلال الجمال الطبيعي أو الجمال الناتج عن الفن. ولعل أهم مشكلة شغلت الفلاسفة المهتمين بعالم الجمال هو السؤال لماذا يثير الجمال الطبيعي اهتمامنا؟ وهل الاعتبارات الجمالية هي الاعتبارات الوحيدة التي تدفعنا نحو تقدير الجمال الطبيعي، وتوجب المحافظة على الطبيعة، أم هناك اعتبارات أخرى هي التي تدفعنا إلى ذلك؟
 
بطبيعة الحال سوف نجد أنفسنا أمام إجابات كثيرة ومتنوعة ولكنها بمجملها تبتعد عن مقاربة الفطرة الإنسانية نحو الكمال الإلهي. لقد ثبتت فلسفة الغرب في أغلب مراحلها الرأي القائل بأن الاهتمام بالجميل هو دلالة على طبع الخير أي أن الأخلاق هي التي تدفعنا إلى تقدير الجمال الطبيعي، بمعنى أنه العلامة على وجود نفس خيرة (بمعزل عن
 
 

1- المصدر نفسه، ص7.

 
 
 
 
 
 
56

50

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الله) أو هو دلالة على استعداد أخلاقي ولكنه استعداد ليس عاماً وإنما يخص فقط أولئك الذين تدربوا على الخير أو الذين لديهم استعداد لتلقيه. وادعوا من جهة أخرى أن الطبيعة تتحدث إلينا بلغة أخلاقية عبر أشكالها الجميلة. غير أن بعض المفكرين المعاصرين اعتبر أنه حتى لو أن استحساننا لبيئة جميلة أو لموقع جميل يثير فينا اللذة التي نشعر بها أمامه، فإن ذلك يظل غير كافٍ ما لم تكن هناك أخلاق اجتماعية تشير لإصلاح موقعٍ متردٍ أو إزالة موقع متلوث لأن التلوث مرذول أخلاقياً. ولكن الاعتبارات الأخلاقية قد لا تجد استحساناً لدى بعض المفكرين حيث يمكن مخالفة هذا الرأي من خلال اعتبار أن مهرة الذوق هم عادةً أناس "لا أخلاقيون مستسلمون للشهوات المفسدة"1.

 
وعلى هذا الأساس فإن النظرة إلى الحس الجمالي سواء كان يعود إلى النفس الخيرة بطبيعتها أم إلى النفس التي تركن إلى المتع الحسية المبتكرة من أصحاب الذوق الرفيع، تجد لها جواباً آخر لدى الإمام الخميني قدس سره هو الحضور الإلهي المقدس في عالم الطبيعة وعالم الإنسان الذي ينزع نحو الكمال الإلهي دون أن يجد ضالته لدى الإنسان المادي الذي راح يفتش عن معنى الكمال من خلال إجابات تعكس حضور المادة في عالم الوجود والإنسان.
 
 
 

1- جمال مفرج، الفلسفة المعاصرة، مصدر سابق، ص42.

 
 
 
 
 
 
58

 


51

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 مثال آخر يقدمه الفيلسوف الألماني كانط، حينما يرى الاهتمام بعالم الجمال الطبيعي مرتبطاً بعالم التمدن حيث يعتبر أن الإنسان لو ترك لوحده في جزيرة مقفرة لم يتزين ولن يزين كوخه بل يعي أن عليه أن يكون راقياً في مجتمع متمدن، لا يشعر فيه بعالم الرضا إلا بإبلاغ شعوره إلى الآخرين الذين ينال تقديرهم. غير أن هذه الأطروحة التي يقدمها كانط يمكن مخالفتها هي الأخرى. فهذه الأطروحة التي تجعل التمدن شرطاً ضرورياً لتقدير الجمال الطبيعي تعني من الناحية التاريخية أنه كان يستحيل على البشر قبل تمدنهم التوصل إلى تقدير جمالي لبيئتهم الطبيعية، وهو ما يمكن دحضه بالرجوع إلى روسو الذي برهن على أن اهتمام الإنسان بجمال الطبيعة ظهر في المجتمعات البدائية وأن التمدن حرم الإنسان من التمتع بحلاوة الطبيعة.


وخلال تتبع هذه الآراء المتناقضة في الشروع نحو الجمال كمطلق مادي نصل إلى موقعية العلوم في هذا النزوع تبييناً للفارق بين الركون إليها وبين تلازمها مع الإيمان الديني حيث كان الإمام الخميني قدس سره قد ربط ومن موقع منطلقه الإيماني بينها وبين المطلق اللامتناهي. 


استكمالاً لمقاربة موضوع الجمال ومن منظور آخر، نقف مع "آلن كارلسون" الذي يعتقد أن الجمال الطبيعي واستحسانه يتطلب بعض المعارف العلمية
 
 
 
 
 
 
 
59

52

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 لأننا نتعامل مع مواضيع بيولوجية أو جيولوجية وليس مع الطبيعة المجردة. وهذه المواضيع تكون وفق رأيه موضع استحسان عندما تُعرف لأن الذات التي تمتلك المعارف سيكون كل ما في الطبيعة جميلاً بنظرها، وسيكون حكمها الجمالي حكماً صادقاً كونياً، لأنه سيرتكز على معارف علمية أو على معرفة موضوعية، كما أن مبررات احترامنا للطبيعة لن تكون أخلاقية أو اجتماعية وإنما ستكون علمية.


وبالعودة إلى رأي الإمام الخميني قدس سره في السطور السابقة حول قصور الإنسان عن معرفة كل الظواهر المحيطة به، نجد أن ربط كارلسون النزوع نحو تقدير الجمال الطبيعي يبقى قاصراً عن إدراك المعنى لأن ذلك يحملنا على الاعتقاد بأنه من المتعذر على البشر تقدير الجمال الطبيعي قبل تقدم العلوم أو أنه يرتقي معها في مدارج الكمال كلما تقدم العلم في شروحاته الطبيعية.

في حين أن الفطرة البشرية في النزوع نحو الكمال ومن خلال ربطها بالمقدس الإلهي وفق رؤية الإمام الخميني تكون قد عبرت الطريق نحو النزوع الفردي نحو الكمال وكذلك التجربة البشرية في مراحلها المختلفة دون أن تحتاج إلى كل هذه المتاهات المتخبطة جراء الركون إلى عالم المادة التي أصبحت معها كل المقدسات هي مقدسات أرضية غير مرتبطة بعالم الغيب.
 
 
 
 
 
 
60

53

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الفصل الثاني: 


الجامعة عند الإمام الخميني قدس سره

 
1 - اهتمام الإمام الخميني قدس سره بالجامعيين

إن العدّة والأدوات المستخدمة في الجامعة هي الأفكار والمعارف سواء النظرية منها أم تلك التي تتصل بعالم الواقع أي بما لها من انعكاس عملي في حياة الجماعة العلاقات بين الأفراد في منظورها القيمي وفي توافقات هذه العلاقات وتعارضها.

فميدان التخصص في مجالات العلوم الإنسانية يتيح للإنسان بشكل خاص الإحاطة بالتجارب البشرية وبحوادث التاريخ وحركة صعود وهبوط الحضارات واختلافات الرؤى والمدارس والمذاهب في الفلسفات الإنسانية وتنوعات العلوم.

وبطبيعة الحال فإن هذه الإحاطة يتولد منها المعرفة والفهم وهو ما لا يتيسر عادةً إلا للمشتغلين بمجال العلوم.

قد يتيسر هذا الأمر لطلاب المعرفة المشغوفين بالإطلاع على كل جديد في عالم الأفكار ولكن خصوصية الأستاذ الجامعي تبقى أهميتها ماثلة بين الإحاطة والفهم الممنهج الذي يستند إلى مناهج البحث والتفكير والأساليب المتبعة والاستخدام العلمي للعبور من الجهل بموضوع ما إلى المعرفة أو إلى الحقيقة.

فالأفكار والتجارة وتعددية الرؤية، وبروز الظواهر الاجتماعية والأمراض الاجتماعية ليست سوى مادة خام ينبغي الإحاطة بها، والتي تعد مقدمة بحد ذاتها وليست غاية نهائية في معرض البحث عن القوانين المتحكمة بالظواهر
 
 
 
 
 
 
 
 
62

54

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  الاجتماعية. ومن هنا يصح القول إن العاملين بهذا الحقل هم منتجو المعرفة وليسوا مستهلكيها. وهنا يكمن الفارق بين الإحاطة وبين الفهم، وبين دور الأستاذ الجامعي وبين مستهلكي المعرفة، وبينه وبين غيره ممن يضطلعون بوظائف وأدوار مختلفة.


لما كان الأستاذ الجامعي منتجاً للأفكار فإنه بلا شك سيشكل إحدى الدعامات التي تضيف المزيد من الاستنارة والإغناء لسجل المعارف الإنسانية وللتجربة الحضارية سواء كان متخصصاً في حقل العلوم الإنسانية، أم في ميادين العلوم الطبيعية لأن كليهما مفتوحان على عالم الإبداع إذ ليس تصور الحضارات سوى نتاج ذلك التراكم من الإبداعات التي تفتقت عنها عقول الرواد الكبار في عالم الفكر والمعرفة بشتى صنوفها. وبطيعة الحال فإن الجامعة تشكل إحدى الحاضنات الرئيسة لمثل هذه الإبداعات، والتي لعبت دورها التاريخي المتصاعد في الارتقاء الحضاري، بغض النظر عن أزمة الإنسان الناتجة عن أزمة الحضارة الراهنة التي لم تبدد قلق الإنسان في علاقته مع وجوده ومع الطبيعة وعالم الخلود والتي سنفرد لها مبحثاً مستقلاً في هذا الميدان حين الولوج إلى آراء الإمام الخميني قدس سره.

الإبداعات هي إحدى العلل الرئيسة للتغير العام. ولكن بما أن الأستاذ الجامعي ومن موقعه ووظيفته المركوزة في عالم الأفكار، فلا بد أن يكون له دور تغييري في ميدانه الخاص أي في الحقل الجامعي الناتج عن علاقته التفاعلية مع الطلاب، هذا الدور هو دور تغييري بامتياز ولا يعوقه أو يدحضه ذلك الفصل العميق بين التصنيف المعمول به حديثاً عبر التقسيم بين حقل
 
 
 
 
 
 
 
 
63

55

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  تربوي ما قبل التخصص الجامعي أي في المدرسة وحقل التعليم الذي يبدأ مع المرحلة الجامعية. وملاك هذا التقسيم يعود إلى الاعتقاد بأن التربية إنما تكون في المراحل الدراسية حيث يتم فيها صياغة الفرد بتنشئته الاجتماعية والوطنية من خلال التعرف إلى المحيط أو الوطن الذي يعيش فيه، حيث ينبغي له أن يكوم متوافقاً ومتآلفاً معه، تقدم له المعارف المتصلة بالبيئة وبالقوانين السائدة. وبطبيعة النظام السياسي الذي يعيش في وسطه، وتاريخ تشكل نظامه، وعلم بلاده وسائر رموز وطنه وحدوده الجغرافية، ومجمل حقوقه وواجباته كإنسان.


في حين أنه في المرحلة الجامعية يكون قد حسم خياراته التربوية من خلال ما يقدم له من معارف في طفولته ليبدأ رحلة التعرف إلى تخصصه الجديد إيذاناً بالاضطلاع بدور بعد التخرج يخدم من خلاله مجتمعه ووطنه.

ملاك الفارق بين التربية والتعليم، هو التحول في الميدان التربوي من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي متوالف مع محيطه وليس غريباً عنه في حين تتم صياغته في الميدان التعليمي للاضطلاع بوظيفة منسجمة مع حقل تخصصه.

غير أن ملاك الاختلاف يكمن في موضع آخر، وهو أن التنشئة بحسب علماء النفس ترافق الفرد منذ ولادته وحتى مماته، في حين أن مرحلة التعليم الجامعي يمكن أن تشكل المرحلة التي لا تخلو من أهمية في حياة الفرد من حيث الممكنات العقلية في مرحلته العمرية الجامعية التي تكون بلا شك مفتوحة على الفهم والاستيعاب والمراجعة والنقد أكثر مما كانت عليه في مرحلة الطفولة وهي مرحلة التلقي لما يقدم له من معلومات. يساعد على ذلك أن
 
 
 
 
 
 
 
64

56

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  المرحلة الجامعية توفر منهجية التعرف إلى أسس العلوم والطرق المستخدمة في الوصول إليها فضلاً عن احتواء المناهج خصوصاً في ميدان العلوم الإنسانية على آراء ونظريات قد تتعارض وتتباين فيما بينها، الأمر الذي ينمي عنده ملكة المقاربة والتحليل والاستنتاج. وفي هذا السياق بحال كان الأستاذ الجامعي ناقلاً للأفكار ليكون صلة الوصل بين الطالب وما يدرسه أو يتعلمه فيكون تأثيره معدوماً أما بحال كان ناقداً ومبدعاً للأفكار سيدخل ميدان التأثير في مسار العملية التعليمية وإن تفاوت حجم هذا التأثير بين المحدودية المطلقة وبين التوسعة. غير أن هذا التأثير فيما لو انتقل إلى أذهان الطلاب سيترك أثره كعامل مساعد في اتجاهات الطالب وسيكون للأستاذ الجامعي دعاة هم الطلاب أنفسهم بحال كان متميزاً في إبداعاته.


قد يطرح التساؤل حول مجافاة الموضوعية جرّاء حشر ذاتية الأستاذ في العملية التعليمية وعدم أمانته العلمية فيما يطلب منه كدور في نقل المعلومات وشرحها. ولكن الموضوعية وعدمها سيطول فيها النقاش حتى بين مبدعي النظريات في ميدان العلوم الإنسانية نفسها لا سيما و أن إعمال النقد وإبداع ،المفاهيم والأفكار إذا ما استند إلى المبادئ العلمية، مهما كانت نتائجه سيكون موضوعياً بلا شك في حين أن الذاتية ستبرز مع عدم مراعاة جوانب العلم وإطلاق المشاعر في التحكيم وعدم احترام الآراء الأخرى والتعامل معها بكثير من التوهين والتسخيف الذي يخلو من المنطق.

أما الموضوعية بالمعنى السلبي، فستكون شديدة التأثير والخطورة مع التعامل مع الأفكار على أنها مسلمات مما يسد أفق تطوير العلم ويقفل أبواب
 
 
 
 
 
 
 
65

57

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الإبداع. وهل المطلوب من الجامعات في العالم غير الأوروبي أن تكون مجردة من وظيفتها الأساس حين تكون بمثابة الناقل لما أبدعه الآخرون؟

 
من جهة أخرى يرجع اهتمام الإمام الخميني قدس سره بأساتذة الجامعة إلى طبيعة الدور الذي يضطلع به الأستاذ الجامعي بغض النظر عما إذا كان هؤلاء الجامعيون مناضلين ثوريين أم غير ثوريين، ومن ثم تصوره للدور الذي ينبغي لهم الاضطلاع به في مرحلة تحقق الثورة وترسيخ دعائمها. مردّ هذا الاهتمام إلىأن الأستاذ الجامعي لا ينبغي له أن يكون معزولاً عن الشعب، فهو كفرد مكلف بأداء دوره في المجتمع فضلاً عن أنه يستحوذ على اختصاص يضيف الكثير إلى دوره هذا.ومع أن خطاب الثورة كان يشمل جميع الشرائح، ولكن الجامعيين كان لهم خصوصية في خطاب الإمام، فحين خاطب الإمام الخميني قدس سره الجامعيين بالقول "أيتها الأمة الإسلامية العالمية، السلام على الجامعيين والطلبة الأعزاء يا من تكونون جنوداً للإسلام"1. فإنه كان قد قرن هذا الخطاب بالإشارة ابتداءً إلى عالمية الإسلام كدين شامل يختزن رؤية عالمية، أي رؤية إنسانية وحضارية شاملة، ومن ثم عبرَّ عن كينونة الجامعيين انطلاقاً من الدور المحدد لهم وهو أن يكونوا جنوداً مجندة للإسلام، وهو يعبر عن مدى الدور الذي ستضطلع به هذه الفئة المثقفة. وليس لهم أن يكونوا على الحياد إزاء التغيير الذي تنشره الثورة.وهذا الاهتمام نجده من خلال دور هذه الفئة الذي يعول عليه الإمام.
 
يقول الإمام "إن النقطة المضيئة التي تمثل الأمل في نهاية حياتي هي وعي الجيل الشاب ويقظة ونهضة المثقفين المتسارعة 
 
 
 

1-  الإمام الخميني قدس سره، م. منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص271.
 
 
 
 
 
 
 
66

58

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 المتنامية. وإن شاء الله تصل إلى نتائجها والتي هي قطع يد الأجانب وبسط العدالة. أنتم أيها الشباب الطاهرون مكلفون بتوعية الشعب وكشف الستار عن الحيل المختلفة للجهاز الحاكم، وتعريف العالم بالإسلام الذي يريد نشر العدالة"1.

 
حين يكون الأستاذ الجامعي محايداً في مرحلة اتقاد جذوة الثورة أي مع عدم تسلل الوعي الثوري إلى عقول هذه الفئة المستنيرة(الأساتذة الجامعيين) يعني أن الثورة كمنظومة من الأفكار الرائدة والهادفة نحو تغيير الوضع المتردي نحو وضع أفضل، يشوبها الكثير من الضعف والعجز وعدم الوضوح. في حين أن الثورة الإسلامية بمنطلقاتها وغاياتها كانت قد استندت إلى رؤية مستمدة من فهمها للإسلام كعقيدة وشريعة، وكحركة شاملة نحو بناء الحضارة الإنسانية باتجاه المطلق. فليس من المعقول والحال كذلك، أن يكون الأستاذ الجامعي محايداً. فما هو موقفه من الظلم؟ ومن ضرورة الارتكاز إلى مبدأ العدالة الإنسانية؟ ومن الأمان والرفاه والتنمية وغير ذلك مما ينشده الإنسان بطبعه وتحث عليه الديانات السماوية؟ قد تستشير هذه الأفكار من هم في دائرة المعاناة، ومن رزحوا طويلاً تحت سلطة الظلم والتعسف والاضطهاد والفقر، وتتحرك باتجاهها مشاعرهم قبل عقولهم. ولكن الثورة بحال اقتصارها على مخاطبة الوجدان قد لا يؤذن لها في النجاح، بل قد لا يعدو كونها زوبعة في فنجان لا تلبث أن تهدأ خلال المنعطفات الخطيرة لأحد مراحلها مهما طال أمد أوارها.
 
 
 

1-  المصدر نفسه، ص279.
 
 
 
 
 
67

59

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 حين تخاطب الثورة الوعي والوجدان، تكون أكثر صلابة وتجذراً، فالوعي بمنطلقات الثورة وبمعقولية أهدافها، هو سابق على وجود الإنسان الثوري، بمعنى أنه صنيعة أفكار الثورة وهو يحتاج إلى جهد من رواد الثورة الأوائل لنقله إلى الآخرين، ومن أكثر ما تجذب هذه الأفكار بحال منطقيتها ومشروعية غاياتها وأهدافها، المثقفين والمستنيرين. ولكن مع ذلك، قد يكون هؤلاء أشد أعدائها خصوصاً الأساتذة الجامعيون، لما لديهم من ديمومة الاحتكاك مع عالم الأفكار ومع تجارب الأمم.


ليس من السهل إقناع من داوم على النقد والتحليل، بفكرة العدالة والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية لمجرد طرحها. فهذه مفاهيم بالنسبة لهؤلاء، قد تكون مفاهيم عائمة تفتقد إلى الصلابة لتغير النظرة ونسبيتها حولها بين الأمم. كذلك فإن ترسيخ دعائم الحرية وقيام نظام جديد على أنقاض النظام البائد، دونه الكثير من تجارب الأمم خصوصاً في المجتمعات الحديثة التي تقدم نفسها كنموذج في الديمقراطية والمساواة. وهي نظم لا زالت تتراءى أمام ناظرَيْ وأمام عقل الأستاذ الجامعي، بمقابل حال التردي والعجز التاريخي على امتداد التجربة التاريخية، أو على الأقل منذ الاصطدام مع الحضارة الغربية والتي ما زالت مصدر معاناة مجتمعاتنا من الدكتاتورية ومن حال الفقر والتخلف والإخفاق في بناء نموذج حضاري ملائم ومتوافق مع المنطلقات الإسلامية.

فإن لم تكن أفكار الثورة قادرة على مخاطبة عقل ووجدان الشريحة الواعية فقد تجعلهم عرضة للشك وللخوف من تكرار النماذج البائدة. في حين أن 
 
 
 
 
 
 
68

60

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 العكس قد يحول هذه الشريحة إلى كتلة من اللهب الثوري لا تهدأ ولا تكل مهما عانت الثورة من منعطفات صعبة في مراحلها الأولى.

 
على هذا الأساس، كان الإمام الخميني قدس سره شديد الاعتناء بهذه الفئة لخطورة دورها في نقل أفكار الثورة إلى الشرائح المستنيرة والمثقفة، إذ لا ينبغي لها والحال كذلك، أن تكون محايدة وإنما يجب أن تكون منخرطة في صفوف الثوار من خلال ما تقدمه من تنظير ومن شرح وتعليل لأهداف الثورة ومن قدرتها على كشف عيوب النظام القائم والمستبد وفضح أساليبه التعسفية.
 
حيادية الجامعيين ليست وحدها كانت قد دفعت الإمام الخميني قدس سره لإيلائهم هذا الاهتمام، بل أيضاً من خلال الدور السلبي الذي لعبه بعض الأساتذة الجامعيين قبل الثورة سواء جراء عدم الوعي، أم جراء تأثرهم بالغرب، وجراء تعدد آرائهم وأفكارهم المستمدة من الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. وفي هذا الصدد يقول الإمام "لو كانت جامعاتنا قائمة على ترتيب أصولي، لما كان لدينا طبقة من المثقفين الجامعيين تبتعد عن الشعب في أشد الأزمات التي مرّت بإيران والصراعات وعدد الطوائف، ولا تبالي بما يحدث للناس وكأنها لا تعيش في إيران. إن سبب التخلف يعود إلى سبب عدم المعرفة الصحيحة لأكثر مثقفينا الجامعيين بالمجتمع الإسلامي الإيراني، وهذا مع الأسف موجود، وإن أكثر الضربات المهلكة التي لحقت بشعبنا كانت بيد هؤلاء المثقفين الذين تخرجوا من الجامعات"1.
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص278.
 
 
 
 
 
 
 
69

61

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 2 - علاقة الجامعة بالحوزة الدينية

 
الجامعة والحوزة صرحان تعليميان تربويان سبق أن اضطلعا بوظيفة رائدة في هذا المجال. غير أن واقع الحال جعل كلاَّ منهما صرحاً مستقلاً بذاته ويخلو من تلك العلاقة التفاعلية المطلوبة. بل أكثر من ذلك، فإن ركون الحوزة إلى التراث بحجة الأصالة وإحجامها عن تطوير مناهجها، وانفصام المناهج الجامعية عن أصالة المنطلقات الإسلامية، جعل الإمام الخميني? ينظر بعين الإصلاح لكل من هذين الصرحين ليس على نحو التجديد والتطوير المنفصل وإنما أيضاً في مجال العلاقة التفاعلية بينهما والوظيفة المنشودة لهذه العلاقة في سبيل النهوض بالمجتمع وتحصينه من الانحرافات السلوكية والفكرية.
 
لقد سبق أن بينا رؤية الإمام الخميني قدس سره لإصلاح الجامعة، وهو سلك هذا المسلك نفسه في ميدان الحوزات الدينية التي شابها الكثير من المعوقات إن لناحية المناهج، أو لناحية وظيفة العلماء الروحانيين، فضلاً عن تلك العلاقة المفترض قيامها بينهم وبين الجامعات.
 
فبنظر الإمام الخميني قدس سره لعبت الحوزات العلمية على مرّ التاريخ، وقبل تأسيس الصروح الجامعية، كأهم قاعدة للإسلام، دوراً كبيراً في الوقوف أمام الهجمات والانحرافات، وبذل علماء الإسلام جهدهم طوال التاريخ للترويج لمسائل الحلال والحرام الإلهية دون تدخل أو تصرف. وبرأيه "لولا الفقهاء لما كنا ندري اليوم ما هي تلك العلوم التي كانت تقدم للناس في عصرنا تحت عنوان علوم القرآن وأهل البيت عليهم السلام"1.
 



1-  الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص296.
 
 
 
 
 
70

62

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 وقد لعبت الحوزة هذا الدور في ظروف تاريخية صعبة وفي ميادين علمية شتى من جمع علوم القرآن والمحافظة عليها وتدوينها وتبويبها وتنقيحها، وهو عمل ليس من السهل القيام به في ظروف كانت فيها الإمكانات قليلة، وكان السلاطين الظالمون يعملون كل ما في وسعهم لمحو آثار تلك الرسالة. وهذه الجهود التي قام بها العلماء، لا تزال ماثلة، ككتب المتقدمين والمتأخرين في الفقه والفلسفة والرياضيات والفلك والأصول والكلام وعلم الرجال، وعلم الحديث، والتفسير والأدب والعرفان واللغة وتمام فروع العلوم المتنوعة1. والحديث يطول عند الإمام في الخدمات العلمية التي قدمتها الحوزات الدينية ليصل إلى الدور الذي لعبه علماء الدين في انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية.

 
مع ذلك يرى الإمام أن الحوزة الدينية الراهنة باتت تقتصر على تقديم الثقافة النظرية والفلسفية، في حين أن ثقافة الجامعات والمراكز غير الحوزوية اعتادت على التجربة ولمس الواقعيات، وهو ما دفعه إلى الدعوة " للتوفيق بينها لكي تذوب الجامعات العلمية والدينية في بعضها بعضاً لفتح المجال أكثر لنشر وشرح المعارف الإسلامية"2، وبانفتاح الحوزات على ثقافة العصر عبر تجديد وتنويع مناهج. وإذ يدافع الإمام الخميني قدس سره عن الفقه التقليدي كأسلوب لاستنباط الأحكام الشرعية من المصادر المعتبرة والمنابع الفقهية، فإنه يدعو إلى اعتماد الفقه المتحرك الذي يأخذ عنصري الزمان والمكان
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص296.
2- لمصدر نفسه، ص277.

 
 
 
 
 
71

63

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  في الاعتبار في الاجتهاد كممكنات تعين المجتهد على الإحاطة بمسائل زمانه، وإبداء وجهة النظر في المسائل السياسية والاقتصادية، وإدراك مواقع القوة والضعف لكلا القطبين الرأسمالي والشيوعي اللذين يرسمان الاستراتيجيات المتحكمة بالعالم1.

 
وبما أن شخصاً واحداً لا يمكنه التكفل بجميع الأبعاد التي جاء بها الإسلام، فلا بد من وجود التخصصية لدى الدارسين في الحوزة، كأن تتصدى بعض المجموعات الدارسة إلى الاهتمام بالجوانب العقلية، والأخرى بالجهات السياسية، والثالثة في مجالات أخرى، وهو ما لا يكون إلا بتدريس سائر علوم الإسلام في أبعاده المختلفة مثلما تعلم الفقه بأنحائه المختلفة2.
 
إن دعوة الحوزة للانفتاح على ثقافة العصر الموجودة عادة في مناهج العلوم الحديثة التي تدرس في الجامعة، لا تعني نقل الجامعة إلى الحوزة وإنما تتناسب تماماً مع الدور المنشود لعلماء الدين في مقام الافتاء في سائر الميادين الحياتية، ومع دعوته لمراعاة الزمان والمكان وأخذهما بعين الاعتبار في الاجتهاد الذي يقع على عاتق المجتهدين والأصوليين لمواجهة متطلبات الحياة الجديدة التي تتطور مع تطور العلوم وكشوفاتها في البيولوجيا والاقتصادات المالية والاحتكارات وسائر الأمور الاجتماعية والتعاقدية.
 
أما فيما يختص بعموم الحوزة والجامعة، فالجامعة بنظر الإمام يراد لها أن تبقى جامعة والحوزة كذلك، ولكن اقتضاء التعاون والانفتاح بينهما، ليس
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص300.
2- المصدر نفسه، ص303.
 
 
 
 
 
 
72

64

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  فقط لأسباب موضوعية تستهدف إغناء الثقافة وتنوعها بما يخدم أهداف الإسلام، وإنما أيضاً لشعور الإمام الخميني قدس سره بتلك العلاقة المأزومة بينهما في زمن الشاه جراء هذا الفصل بل النظرة المتناقضة بينهما. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال: "كانوا يريدون منذ البداية أن يجعلوا جامعتنا هكذا، فلم يكن ممكناً ذكر عالم الدين في الجامعة ولا ذكر اسم الجامعي أيضاً في المدرسة الدينية، فكل واحد من هذين كان يشعر بالغربة في حال ذهابه إلى المكان الآخر، يشعر بنفسه أنه لا شيء، ويشعر إلى أي مكان سيىء قد دخل. لقد أرادوا لهاتين الجبهتين اللتين يمكنهما حفظ البلاد وإنقاذها من المشاكل أن يكونا عدوَّين فيما بينهما، فهذا يقضي على ذاك والآخر كذلك، ورأيناهم كيف حصدوا النتائج... لماذا كل هذا العداء في كل مكان ضد طبقة العلماء المظلومين؟ وفي الطرف الآخر الدعاية للجامعي والجامعة. لماذا كل ذلك؟ لأنهم يخافون أنه لو حصل التقارب والتفاهم بين هؤلاء لأدى إلى فهمهم للإسلام"1.

 
وبهذا المعنى يتضح حرص الإمام الخميني قدس سره على ضرورة العلاقة هذه،و مدى الأهمية التي تشكلها في نزع فتيل النزاع الذي ساد لعقود من الزمن بما فيه من تأثيرات سلبية على المجتمع ولما للجامعة والحوزة من أهمية بمعالجة مشاكل البلاد وتحصينها من المتربصين بها، ولو تمكنت هاتان الفئتان من التنسيق بينهما، لما شعر الإمام الخميني قدس سره بذلك النقص السائد في هذين الصرحين العلميين، إلى الحد الذي دفعه إلى وصف هذه الحال مؤكداً في هذا
 
 

1- المصدر نفسه، ص185.
 
 
 
 
 
 
73

65

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  المجال، " ما ورد في الحديث المأثور عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "إذا فسد العالِم فسد العالَم " فعامة الناس بنظر الإمام الخميني قدس سره استناداً إلى الحديث المأثور، لا تفسد العالَم بل ما يفسده هو العالم"1.

 
بهذا المعنى فإن تأكيد الإمام الخميني قدس سره على العلاقة بين الحوزة والجامعة يعبر عن محاولة إعادة ربط كل منهما بالجذور الفكرية للإسلام القائمة على الإيمان بالله والإيمان بالعقل بحيث يكون لكل فرد ولأي موقع انتمى، إنجاز ديني لكونه مبدعاً في مجال تخصصه بوحي من روح الإسلام الداعية إلى تطوير حياة الإنسان واستقامتها في ميادين الهندسة والطب والصناعة والعلاقات الاجتماعية وغيرها، ولا فضل لرجل من الرجال إلا بما يقدمه من منفعة للناس فكيف إذا كان متخصصاً مبدعاً؟ ولا معنى لهذا الإبداع إذا لم يكن تكاملياً تتضافر فيه جهود جميع أبناء المجتمع. أما انفتاح الحوزة على مناهج العلم الحديث، فلا يعني استبدالها وحلولها مكان الجامعة بقدر ما ينفتح الأمر على تأكيد التخصصية، ومواكبة الفقه لتطور الحياة الاجتماعية التي تتطور بتطور العلوم في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
 
3 - الوحدة الإسلامية
 
لطالما شكلت الوحدة الإسلامية هاجساً للإمام الخميني قدس سره بسبب حال التفرقة بين المسلمين في العالم الإسلامي والتي تتناقض في جوهرها مع دعوة القرآن الكريم إلى اعتصام المسلمين بحبل الله وأن لا تفرقهم بذور الفتنة
 
 

1- المصدر نفسه، ص186.
 
 
 
 
 
 
 
74

66

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  والاختلاف بعدما وحدّ الإسلام بينهم بالعقيدة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد استفاد الغرب من الفرقة بين المسلمين وراح يعمل على تنميتها عبر سياسة التفرقة التي اتخذها منذ وصوله إلى بلاد الشرق.

 
إن مهمة الدعوة إلى توحيد المسلمين هي مهمة كبيرة وتستلزم بنظر الإمام الخميني قدس سره تضافر جميع الجهود للعمل من أجلها فهي ليست محصورة بعلماء الدين بل بكل المفكرين والمستنيرين وبينهم الأساتذة الجامعيون وهي تحمل على معنى الوجوب والتكليف وليست من باب المستحبات وإنما هي واجب على كل ذي بصيرة. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد: " يجب أن ينتفض علماء ومفكرو الإسلام العظام في جميع أنحاء العالم وأن يكونوا قلباً واحداً في طريق إنقاذ البشرية من السلطة الظالمة التي فرضت سلطتها على العالم من خلال مختلف الدسائس والحيل"1.
 
فعالم الدين والمفكر والأستاذ الجامعي هم أكثر من يستطيع بفعل المتابعة والإحاطة، التعرف إلى هذه الدسائس أكثر من غيرهم. وهم أكثر قدرة على التعامل مع هذه الدسائس التي تثير التفرقة بين المسلمين، بفعل قدرتهم على الكتابة وإطلالاتهم في الإعلام. يقول الإمام الخميني قدس سره في معرض بيانه لهذا الدور: " يجب أن ينتفض العلماء والمفكرون ليزيلوا ببيانهم وقلمهم وعلمهم ذلك الخوف الكاذب المسيطر على المظلومين، وأن يقضوا على هذه الكتب التي انتشرت مؤخراً بواسطة الأيدي القذرة للاستعمار وعبيد الشيطان، والتي تهدف لزرع الفرقة بين طوائف المسلمين، وأن يقضوا على جذور الاختلاف
 
 

1- المصدر نفسه، ص426.
 
 
 
 
 
 
75

67

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 والذي هو منشأ مصائب جميع المظلومين والمسلمين، وأن يصرخوا جميعاً بوجه وسائل الإعلام التي تمضي عمرها في أغلب ساعات الليل والنهار، في إلقاء النفاق وزرع الفتن وإشاعة الأكاذيب، وأن يثوروا بوجه مصدر الإرهاب في البيت الأبيض"1.

 
إن الإرهاب الذي مصدره البيت الأبيض لمصادر أخرى لا تقل شأناً وهي إسرائيل التي يقف المسلمون عاجزون عن دحرها والذين كان يخاطبهم الإمام الخميني قدس سره بمقولته المشهورة لو أن كل فرد من المسلمين ألقى دلواً على إسرائيل لجرفتها السيول. إن وحدة المسلمين هي شرط ومقدمة لزوال إسرائيل. وكلُّ فرد مطلوب منه ذلك بحسب دوره، ودور الأستاذ الجامعي ببيانه وقلمه، من شأنه تسليط الضوء على الفتن التي يحولها هذا العدو، ومن شأنه العمل مع أقرانه علماء الدين على توحيد الكلمة.
 
4 - مقارعة إسرائيل
 
يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال: "هي وحدة الكلمة بوجه العدو الأجنبي الذي يريد إلحاق الضرر بكم، لو حافظتم عليها لما أمكن لمجموعة من اليهود السارقين لفلسطين أن تفرق ملايين المسلمين في حين أن الدول الإسلامية جلست مع بعضها بعضاًلتقيم المآتم، كيف استطاع هؤلاء أن يأخذوا فلسطين ولا تستطيعوا أن تعملوا شيئاً؟"2.
 
الأستاذ الجامعي بحكم عمله بمجال الأفكار يضطلع بدور هام ومميز في
 
 

1- المصدر نفسه، ص427.
2- المصدر نفسه، ص429.
 
 
 
 
 
 
76

68

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  هذا الصدد ولكنه أيضاً باعتباره فرداً من أفراد الأمة، فهو مشمول بالدعوة إلى تجهيز نفسه من خلال امتلاكه للروح الجهادية.كما ينبغي لكل أفراد الأمة الإعداد لمقارعة إسرائيل ليس لدوام احتلالها لفلسطين، وإنما لكونها غدة سرطانية باتت تنشر في جسد الأمة. وإسرائيل هذه يراها الإمام الخميني قدس سره بعين الواقع غدة سرطانية تثير المؤامرات وتحتل أجزاء من الشرق الأوسط ويقدم أفعالها كمثال لما يلحق المجاهدين في فلسطين ولبنان من قتل وتشريد فلا بد والحال كذلك من دعوته هذه إلى أنه يجب على كل واحد أن يجهز نفسه ضد إسرائيل وأن يدعم المجموعات المجاهدة التي تعمل على مقارعتها1.

 
إن الأستاذ الجامعي بفكره وقلمه وبروحه الجهادية يستطيع أن يقدم للأمة الكثير وفي محطات عدّة. لأن ما يمتلكه صرخته المدوية إلى جانب سائر إخوانه خصوصاً في يوم القدس ويضم صوته إلى ملايين المسلمين، عملاً برأي الإمام الخميني قدس سره حينما يقول "عندما يصرخ مليار شخص فإن إسرائيل تخشى صراخهم، إذا خرج المسلمون جميعاً يوم القدس من بيوتهم وصرخوا الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، فإن صرخة الموت تجلب الموت لهم... وإنه من الجيد أن نعتبر قليلاً من هؤلاء الشبان الذين هم في أمريكا وانكلترا وبلاد الغرب حين يتظاهرون ويقفون بوجه الشرطة وتوضع القيود في أيديهم وهم يصرخون أيضاً ويطالبون بإحقاق الحق، وأن نتعلم منهم"2.
 
 

1- المصدر نفسه، ص437.
2- المصدر نفسه، ص438.
 
 
 
 
 
 
77

69

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 5 - بناء شخصية الأستاذ


لم تقتصر دعوة الإمام الخميني قدس سره على إصلاح الجامعة بإصلاح المناهج وانفكاكها من التبعية للغرب، وإنما اقترنت بالدعوة إلى إعادة صياغة وبناء شخصية الأستاذ نفسه، نظراً لما للأستاذ من دور خطير سواء في المدرسة أو في الجامعة. فالأستاذ هو مرب ٍّ فضلاً عن كونه معلماً.ولا قيمة لمناهج خاصة بدون وجود أساتذة يحملون منطلقات إسلامية ويقومون بتربية أنفسهم قبل تربية غيرهم.

إن خطورة دور الأستاذ جعلت الإمام الخميني قدس سره يقف على جانب كبير من الحذر تجاه من يعملون في هذا الميدان لأنهم يؤثرون بطبيعة الحال على الأجيال المقبلة. يقول الإمام الخميني قدس سره: " إنه لمن السذاجة أن يجعل الإنسان من المعلم المنحرف والمعلم الذي يميل إلى الشرق أو الغرب، أن يجعله معلماً للأولاد الذين لهم نفوس صقيلة كالمرآة، وإنه لمن السذاجة أن نتصور أن التخصص هو المعيار فقط، وأن العلم هو المعيار، بل إن العلم الإلهي ليس معياراً، وعلم الفقه والفلسفة والتوحيد ليس معياراً، إنما المعيار هو سعادة البشر من ذلك العلم الذي فيه تربية والذي ُينقل عن المربي. إن من السذاجة أن نفكر بأنه يكفينا وجود أشخاص يملكون العلم بل يجب أن يملكوا العلم والتربية، أو على الأقل يمتلكوا العلم ولا يكونوا منحرفين... فلو شافى المتخصص مرضنا الظاهري، فإنه سيوجد لنا أمراضاً باطنية، إنه سيجرّنا من مرض ضعيف إلى مرض كبير. إذا لم يزك المعلم نفسه، ويربّها تربية تسير على الصراط المستقيم، فإن
 
 
 
 
 
 
 
78

70

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  بلادنا ستُجَرّ إلى الشرق أو الغرب "1. وبهذا النحو فإن الإصلاح لدى الإمام الخميني قدس سره يبدأ قبل إصلاح الجامعة من إصلاح الإنسان نفسه لكي يتمكن من تربية الآخرين. وهو إصلاح موجه للإنسان بشكل عام لأن لكل إنسان تكليفه الخاص في الميدان الاجتماعي. وهذا الإصلاح ليس ظاهرياً وحسب، وإنما هو إصلاح ينطلق من العقل والوجدان. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد: " يجب علينا أن نبدأ من عقولنا ومن قلوبنا وأن نكون بفعل مجاهدة النفس كل يوم أفضل من اليوم الذي سبقه "2.

 
فبناء الأستاذ هو مقدمة لبناء الطالب المتخرج لأن المدرسة والجامعة هما المركزا اللذان يعدّان الإنسان لأن المراد بحسب الإمام الخميني قدس سره الإنسان الجامعي المعلم والطالب، والجامعة عليها أن تخرج الإنسان لا المتعلم لأنها لو خرجت الإنسان فسوف لن يسلّم بلاده للآخرين لأن الإنسان لا يرضى الخضوع والذل. ويضرب الإمام مثلاً عن رضا خان والد آخر ملوك إيران وأنه كان في السابق يخشى من المدرِّس لأنه كان إنساناً، وكان رضا خان يعتبر منافسه هو المدرس الذي كان عندما يقف ليتحدث يزلزل الجميع. استمراراً لهذا الدور، يحث الإمام الخميني قدس سره أساتذة الجامعة على تجهيز أنفسهم لتربية أبناء إيران، وأن يغيروا تلك الأفكار التي دخلت عقول الشباب خلال عهود مضت، الأمر الذي أدى إلى توقف تلك العقول عن العمل والإنتاج3. وان هذا الأمر
 
 

1- المصدر نفسه، ص242.
2- المصدر نفسه، ص244.
3- المصدر نفسه، ص234.

 
 
 
 
 
 
79

71

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 لن يحدث على الإطلاق إذا لم يبذلوا همهم أولاً لجعل الجامعة مركزاً للعلم والتهذيب حتى تكون جميع الاختصاصات في خدمة البلاد لأن فقدان هذا الإحساس، سيجعل الجامعة أسوأ مركز يجر البلاد إلى الفساد. العلم بنظر الإمام الخميني قدس سره لا ينفع وحده. حتى علم العقائد والتوحيد الذي هو أسمى العلوم، قد يتراكم علم العقائد في عقل الإنسان وقلبه، ولكنه سيبعده عن الله لو لم يكن هذا الإنسان مهذباً، وعندما يكون العالم غير مهذب فإن فساده يكون أكثر من الآخرين1.

 
بناء على هذه التحديدات، فإن مهمة الأستاذ الجامعي والمربي لكونها تقوم على بناء الإنسان فإنه لا بد أولاً أن يقوم الأستاذ والمربي بتهذيب وتربية نفسه لأنه في مقام القدوة للآخرين. ولا يستطيع أن يقدم نفسه كقدوة إذا لم يهتم ببناء هذا الجانب. إن عملية بناء الأستاذ الجامعي وسائر المربين لأنفسهم هي مهمة طويلة وشاقة، ولا بد لها من أن تجري وفق برنامج سبق للإمام الخميني قدس سره أن وضع أسسه التي تقوم على خطوات متعينة ومتواكبة مع بعضها بعضاً سوف يتم تبيينها في السطور اللاحقة.
 
6- مبادئ التربية وأساليبها
 
يعتقد الإمام الخميني قدس سره أن إصلاح المجتمع يبدأ من بناء النفس أولاً. ومرَدّهذا الاعتقاد نابع من فهمه ومن رؤيته لتعاليم الدين الإسلامي، ومن
 
 

1- المصدر نفسه، ص235.

 
 
 
 
 
80

72

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  نظرته لدور الأنبياء في مقام بناء الإنسان. ولأنه لو لم يتربَّ الإنسان لم يتمكن من تربية الآخرين.

 
كان الإمام الخميني قدس سره وضع عدداً من المبادئ التربوية ،ولأنها تفيد الأستاذ الجامعي كما سائر الأفراد نورد بعضاً منها على الشكل الآتي:
 
أ- التفكر:
 
لقد جعل الإمام الخميني قدس سره من التفكر شرطاً لمجاهدة النفس. يقول في هذا الصدد: " اعلم أن أول شرط من شروط مجاهدة النفس هو التفكر. والتفكر في هذا المقام هو أن يفكر الإنسان في مولاه الذي خلقه وهيأ له كل أسباب الدعة والراحة. إن الإنسان العاقل لو فكر للحظة واحدة، عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأن الغاية من هذه الخلقة عالم أسمى وأعظم، وأن على الإنسان العاقل أن يترحّم على نفسه وعلى حاله المسكينة، لو فكر قليلاً في أحوال أهل هذه الدنيا من السابقين وحتى الآن وتأمل متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر وأكثر بالنسبة إلى هناءتهم في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لكل شخص. في كل حال ادع ربك بعجز وتضرّع أن يعرفّك على وظائفك فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يفتح لك هذا التفكر طريقاً آخر إلى منزل من منازل مجاهدة النفس "1.
 
 

1- المصدر نفسه، ص248.
 
 
 
 
 
 
 
81

73

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 ب- التلاوة والدعاء:

 
إن جميع العبادات وسيلة، وجميع الأدعية وسيلة لظهور لباب الإنسان وأن يصل ما هو بالقوة والإمكان إلى الفعل فيصبح الإنسان إنساناً ويصبح الإنسان الطبيعي إنساناً إلهياً. وبناء عليه يشدد الإمام الخميني قدس سره على هذه العبادات وبينها الدعاء. هذه الأدعية هي بنظره تنقذ الإنسان من الظلمة " إن هذه الأدعية وخطب نهج البلاغة ومفاتيح الجنان وسائر كتب الأدعية جميعها تعين الإنسان ليصبح إنساناً. وعندما يصبح الإنسان إنساناً يقوم بجميع تلك الأعمال فيزرع لله ويحارب لله". وتلاوة القرآن تأتي قبل الأدعية لأن غايتها هي تزكية النفس وتعليمها أيضاً، ومن أهدافها تصفية النفوس من ظلماتها الموجودة فيها حتى تصبح الأذهان والأرواح مستعدة بعد هذه التصفية لفهم الكتاب والحكمة1 .
 
ج - ترك الأخلاق الذميمة
 
إن أفضل العلاج لترك ودفع الأخلاق الذميمة هو مجاهدتها.
 
وهذه المجاهدة تسير بحسب الإمام الخميني قدس سره في خطوات متدرجة ومن هذه الخطوات: " هو أن تأخذ كل واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى مدّة، واطلب التوفيق من الله لإعانتك في هذا الجهاد. ولا شك أن هذا الخلق القبيح سيزول بعد فترة وسيفر
 
 

1- المصدر نفسه، ص252.

 
 
 
 
 
82

74

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 الشيطان وجنوده وتحل محلهم الجنود الرحمانية "1.

 
يقدم الإمام نماذج من الأخلاق الذميمة فمثالاً لا حصراً يقول: " من الأخلاق الذميمة التي تسبب هلاك الإنسان وتوجب ضغطة القبر وتعذب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار أو الجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلة، وهو وليد الشهوة والغضب. فإذا كان الإنسان المجاهد يسعى لمدّة أنه عندما يعترضه أمر غريب مرغوب فيه، حيث تتوهج نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيئ من القول، أن يعمل بخلاف النفس ويتذكر سوء عاقبة هذا الخلق ونتيجته القبيحة، ويبدي بالمقابل الشيء الحسن، ويلعن الشيطان في الباطن، ويستعيذ بالله منه، إني أتعهد لك أنك لو قمت بذلك السلوك، وكررته عدّة مرات فإن الخلق السيئ سيتغير كلياً، وسيحل الخلق الحسن في باطن مملكتك. استعذ بالله من الغضب الذي يهلك الإنسان في كلا الدارين، لأنه قد يؤدي إلى قتل نفس، ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حال الغضب على النواميس الإلهية "2.
 
هـ - تعزيز الإيمان
 
هناك فارق بين اعتناق الدين والإيمان بتعاليمه، فالدين يتحقق بالشهادتين وبأصول الاعتقاد، في حين أن الإيمان يزيد وينقص بحسب إتباع التعاليم.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص246.
2- المصدر نفسه، ص247.
 
 
 
 
 
 
 
83

75

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  ولذلك كانت دعوة الإمام الخميني قدس سره نحو تعزيز البعد الإيماني في الشخصية لأنه لو وجد هذا الإيمان لأعان الإنسان على ترك المعاصي. الإيمان بحسب الإمام الخميني قدس سره هو تصديق ووعي القلب لما أدركه العقل. وهو يحتاج إلى المجاهدة حتى تفهم القلوب أن العالم كله في محضر الله. وبافتقاده إلى هذه المشاهدة، يقترب الإنسان من ارتكاب المعاصي. ويقدم في هذا السبيل برهاناً على قوة الحضور الإلهي في القلب في ترك المعاصي حيث يقول " إن البرهان العقلي قائم على أن الله تبارك وتعالى حاضر في كل مكان. فالبرهان موجود وجميع الأنبياء قالوا بذلك، لكنه لم يصل إلى قلوبنا. حتى إذا ما أردنا أن نغتاب أو نتهم أو نعمل قبيحاً، نرى أننا في محضر الله، ولا بد أن نحترم هذا المحضر... فعندما يكون الإنسان في محضر عظيم يعتقد بعظمته، فإنه يحترم ذلك المحضر. إذا كان يوجد عندكم شخص وتعتقدون أنه عظيم، فإنكم لا ترتكبون أية مخالفة أمامه فضلاً عن مخالفته هو في محضره إذا كنتم عنده، في حين أن المحضر هو محضر الله تبارك وتعالى، والمعصية مخالفة مع من نحن في محضره ".


ز- ترك المحرمات وملازمة الواجبات

يدعو الإمام إلى التزام الواجبات ومراعاة التقوى لأنها السبيل إلى ترك المحرمات وخلاص النفس من أعراضها التي هي أقوى بكثير من أمراض الجسد لأن أمراض الأجساد إنما يكون بسبب اختلالها المادي الذي يعالج بالطبيعة وبالدواء في حين أن أمراض النفس تحتاج إلى علاج من سنخه
 
 
 
 
 
 
84

76

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

  معنوياً حتى تعود إلى صحتها وسلامتها، ومن علاماتها إتيان الواجبات وترك المحرمات. يقول الإمام: " الإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفق بحالها عليه المواظبة على الواجبات وترك المحرمات. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات هو من المفسدات النفسية ولهذا كانت محرمة. كما أن الواجبات هي من صلاحها ولذلك كانت واجبة. أيها العزيز اعلم إن هاتين المرحلتين أفضل من أي شيء ومقدمة للتطور وأن الطريق الوحيد إلى المدارك الإنسانية وأهمها التقوى من المحرمات. أيها العزيز اعتبر أن المرحلة الأولى مهمة جداً، وحافظ وراقب أمرها فإنك إن خطوت الحظوة الأولى بشكل صحيح وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات أخرى وإلا امتنع الوصول وصعبت النجاة "1.

 
إن ترك المحرمات والإتيان بالواجبات وحتى المستحبات، قد يكون في بدايته لعدم التعود عليه، مهمة غير يسيرة على الإطلاق، وسوف تحتاج إلى جهد غير عادي في هذا السبيل. وإدراكاً من الإمام الخميني? لصعوبة المهمة يعرض سبيلاً عملياً إلى ذلك فهو يقول: " اعلم أن بداية هذا الأمر صعبة وشاقة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة يتحول التعب إلى راحة، بل تتبدل إلى لذة روحية خالصة بحيث إن أهلها لا يقابلون تلك اللذة بغيرها، ويمكن إن شاء الله بعد المواظبة الشديدة والتقوى التامة أن تنتقل من هذا المقام إلى تقوى خالصة "1.
 
 

1- المصدر نفسه، ص228.
2- المصدر نفسه، ص230.
 
 
 
 
 
 
 
85

77

القسم الأول: منابع المعرفة في ميطلقاتها الإسلامية

 كذلك يقدم الإمام أحد النماذج في المجاهدة النفسية وهو ما كان يقوله العارف الجليل آية الله محمد علي الملك آبادي حول المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة مع تدبر معانيها في تعقيبات الصلوات وخصوصاً في آخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، وهي مؤثرة في إصلاح النفس وكان يوصي بالبقاء على الوضوء قائلاً "إن الوضوء مثل بزة الجندي". وعليك أن تطلب من القادر ذي الجلال والله المتعال جل جلاله في كل حال مع التضرع كي يوفقك ويعينك في الحصول على خالص التقوى1.

 
 

1- المصدر نفسه، ص229.

 
 
 
 
 
86

78

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 القسم الثاني:


رؤية الإمام للجامعة على ضوء
 المشروع الحضاري الإسلامي



بقلم: د. حسين صفي الدين
 
 
 
 
 
 
 
89

79

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 الهدف من التعليم والتربية

 
1- دعوة الأنبياء إلى التوحيد وهداية الناس
 
الإنسان كائن عجيب، يمتاز عن بقية الموجودات في إدراكاته وفي غاياتها. هو الموجود الوحيد الذي لا تقف إدراكاته عن حد ولا تنتهي قابلية التربية لديه. هذا الامتياز الذي فاق به الموجودات وافترق به عن سائر الحيوانات, هو امتلاكه لقوة عاقلة أعطته القدرة على التطور، ولولا هذا الامتياز لما بعث الله الأنبياء:
 
"إننا نحتاج للأنبياء لأننا لسنا مثل الحيوانات التي لها حدود حيوانية فقط وينتهي كل شيء"1.
 
والإنسان حقيقة مجردة عن عالم الطبيعة، مولودٌ على الفطرة التي فطر الناس عليها.وهذه الفطرة من لوازم وجود الإنسان، وليست مقتصرة على التوحيد، بل إن جميع المعارف الحقة هي من الأمور التي فطر الناس عليها:
 
"اعلم أن المقصود من فطرة الله التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس عليها، وهم متصفون بها، والتي تُعد من لوازم وجودهم، وقد (تخمرت) طينتهم بها في أصل الخلق"2.
 
 
 

1-  منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني قدس سره(قده), مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام، الطبعةالأولى، 1996م،
2- المصدر نفسه، ص207.
 
 
 
 
 
 
 
90

80

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 ويرى الإمام الخميني قدس سره أن الاختلاف أو الخلاف الموجود بين الناس في بلدانهم وبيئتهم وثقافتهم من آراء وعادات، وحتى اختلافهم في الأحكام العقلية، ليس لهذا الاختلاف أي تأثير في الأمور الفطرية. ومن أهم الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليها بعد التوحيد فطرة (عشق الكمال)، هذه الفطرة مشتركة بين جميع بني البشر وبمقتضاها يسعى الجميع إلى الكمال وإن اختلفت مصاديقه بين الحقيقي منه وغير الحقيقي، في هذا الصدد يقول الإمام:

 
"فكل ٌّ هوجد وظنَّ معشوقه في شيء، وتوهم كعبة آماله في أمر معين، فتوجه إليه وطلبه من قلبه وروحه، وإن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة ويجدون معشوقهم فيها... كن لا بد أن نعرف أن حب هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه أنهم معشوقهم، إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يُظهر العشق لشيء ما، فإنه يتحول فوراً عن هذا المعشوق إلى غيره، إذا وجد الثاني أكمل من الأول"1.
 
وبالرغم من أن الجميع يعشقون الكمال ويتوجهون إليه، إلا أنهم غافلون عن أنهم متفقون في هذا الأمر الفطري البديهي، "ومما يثير الدهشة والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية.... فإن الناس نوعاً غافلون عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون"2.
 
 
 

1- التربية والمجتمع، مظاهر عينية من فكر الإمام الخميني قدس سره - مركز الإمام الخميني قدس سره الثقافي، ص13.
2- منهجية الثورة الإسلامية، ص209.

 
 
 
 
 
91

81

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 ومن أهم مصاديق عشق الكمال هو العشق للعلم المطلق " جميع الكائنات والعائلة البشرية يقولون بلسان فصيح, وقلب واحد, وجهة واحدة: إننا عاشقون لكلمات المطلق, إنا نحب الجمال والجلال المطلق, إنا نطلب القدرة المطلقة والعلم المطلق"وكما امتاز الإنسان عن بقية الموجودات بقوته العاقلة كذلك امتاز بفطرته الخاصة علاوة عن عشق الكمال بطلب العلم والمعرفة. لكن رغم هذه السعة الوجودية للإنسان، فإنه مهما حاول جهده حتى نهاية عمره فجُلُّ ما يتمكن من معرفته هو العلاقات التي بين الأشياء المادية في عالم الطبيعة من علة ومعلول وسبب ومسبب، وأثر ومؤثر... إلخ.لكن هذا الإنسان يبقى عاجزاً في أن يتحرك خارج حدود الطبيعة أو يدرك ما وراءها، بل لو جمعنا كلَّ طاقات البشر وأضفناها إلى بعضها البعض لوقفت على أعتاب فهم هذه الطبيعة والعالم المادي فقط.

 
والسر في ذلك أن الوجود أعم من عالم الغيب وعالم الشهادة، وعالم الطبيعة الذي نعيشه يقع في نهاية موجودات عالم الوجود. وهذا بخلاف الماديين الذين قرنوا وساووا بين وجود المادة ووجود العالم، فعندهم ما لا مادة له لا وجود له، واستتبع ذلك أن قصروا المعرفة على الحس والحواس، في حين أن المعرفة الحسية تستند إلى المعرفة العقلية كما يتكئ عالم المادة على العوالم الأكمل منه.
 
"إن معيار المعرفة في الفلسفة الإلهية هو أعم من أداني الحس والعقل. فيدخل المعقول المدرك بالعقل دائرة العلم حتى لو انعدم إدراكه بالحس، ولما
 
 
 
 
 
 
92

82

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  كان الوجود أعم من عالمي الغيب والشهادة، فبالإمكان أن يكون لما لا مادة له وجود، وكما أن الموجود المادي يستند إلى المجرد كذلك حال المعرفة الحسية فهي مستندة إلى المعرفة العقلية"1

 
لكن السؤال الذي يُطرح أنه لو سلمنا بأن الإنسان ليس هو الموجود المادي فحسب وأن الوجود أعم من المادي والمجرد، وبالتالي فالمعرفة حسية عقلية, والحسي يستند إلى العقلي، فهل يستطيع هذا الإنسان أن يفهم العالم والوجود من حوله والتالي سيكون بغنى عن مساعدة السماء له؟
 
يرى الإمام أن العقول ما تزال حائرة وعاجزة عن إدراك عالم المادة والطبيعة بتمامه، فعالم الطبيعة هو العالم الأدنى، وإذا عجزت العقول عن إدراكه، كيف لها أن تدرك العوالم الأخرى؟ يقول في ذلك:
 
"هذا الوجود العظيم لا تتمكن العقول من الإحاطة به، ولا يقدر أي شخص أن يلمَّ بأجمعه، هو عالم الدنيا، والعالم الحقير. فهذا العالم رغم سعته هو عالم الدنيا، وهذه السموات وما اكتشفوه فيها لحد الآن هي السماء الدنيا كما يعبر عنها القرآن، أما تلك السموات العليا فلم يكتشفوها ولا يدرون ما فيها"2
 
فللإنسان عالم ما وراء الطبيعة، ولو كان كل شيء مقصوراً على هذا العالم، لما كان هناك حاجة إلى إرسال الأنبياء ليأخذوا بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم "لو كان الإنسان بهذا المستوى من الطبيعة، ولم يكن شيئاً أكثر من 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص29.
2- منهجية الثورة الإسلامية ، ص30.
 
 
 
 
 
 
 
93

83

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 هذا، فلم تكن هناك أية حاجة لإرسال شيء للإنسان من عالم الغيب لكي يربي الإنسان، ويربي الجانب الآخر منه"1.

 
وامتلاك الإنسان عقلاً مستعداً بالقوة، وهو الجانب المعنوي فيه، يفرض وجود المربي الذي يملك العلم الحقيقي بالبعد المعنوي للإنسان، بالبعد الذي يربط الإنسان بالطبيعة وما وراءها، والإنسان يملك قابلية أن يكون إلهياً أو شيطانياً "لا يوجد أي كائن مثل الإنسان، فهو أعجوبة لإمكانه أن يصبح كائناً إلهياً ملكوتياً، أو كائناً شيطانياً جهنمياً... وإن الأعمال التي تصدر عنه، فإن حسنها وقبحها وصلاحها وفسادها مرتبط بتلك الجهات المعنوية للإنسان"2.
 
فلا موجود يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الإنسان وميولاته ورغباته إلا الباري سبحانه، ولا لأحد أن يعرف العلاقات بين جميع الموجودات الخافية على البشر إلا الباري سبحانه، لأنه هو الذي خلق كل شيء، كل هذا اقتضى أن ينزل الوحي على أناس مؤهلين لنشر التوحيد وتربية الإنسان، هؤلاء نالوا الكمالات المعنوية، فكانت سبباً لتتحقق علاقة بينهم وبين عالم الوحي، فأوحى الله إليهم وأرسلهم لتربية الجانب الآخر من الإنسان3.
 
 


1-  المصدر نفسه ، ص44.
2- المصدر نفسه ، ص216.
3- المصدر نفسه، ص45.



 
 
 
94

84

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 2- دعوة الأنبياء إلى بناء الإنسان وتزكيته

 
إن أول آية نزلت على الرسول كما جاء في الأخبار ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾1. فرسالة الإسلام بدأت بالقراءة حتى سميت أمة الإسلام بـ(أمة اقرأ)، فدُعي الإنسان منذ البداية إلى القراءة والتعلم.
 
لكن الآيات التي تلت تتحدث عن أمرٍ خطير للغاية وهو الطغيان، وفي هذا الصدد يقول الإمام قدس سره:
 
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ فتبين أن الطغيان والتحول إلى طاغوت يعد من أخطر الأمور، وللتخلص من هذه الحالة لا بد من تعليم الكتاب والحكمة والتزكية"2.
 
فالإنسان عموماً يطغى حين يستغني، ويكون الطغيان بمقدار الاستغناء، فقد يطغى الإنسان عندما يستغني علمياً، أو عندما يحصل على مقام كما طغى فرعون، فالإنسان ما لم يزكِّ نفسه، فإن الأمور والمتعلقات الدنيوية سوف تجره إلى الطغيان، "لذلك كان هدف البعثة هو إنقاذنا من هذا الطغيان"3.
 
ولا يفرق الإمام بين طغيان وآخر، لأن هذا الطغيان من سنخ واحد مزروع في جبلة الإنسان ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾4 فلو ترك الإنسان وشأنه لأصبح كل فرد منه ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ لأن دافع الطغيان موجود عند الجميع، ولبغى بعضهم على بعض، يقول الإمام قدس سره.
 
 

1- سورة العلق, آية 1
2- منهجية الثورة الإسلامية ، ص64.
3- المصدر نفسه ، ص64.
4- سورة الشمس, آية 7 و8

 
 
 
 
 
95

85

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 "تعود جذور جميع الاختلافات الموجودة بين البشر وبين السلاطين، وبين أصحاب النفوذ إلى الطغيان الموجود في النفس، فالسبب هو أن الإنسان رأى نفسه صاحب مقام فطغى، ولأنه لا يقنع بهذا المنصب، فنرى أن الطغيان يجره إلى العدوان، وعندما يحصل العدوان يحصل الاختلاف، ولا يوجد فرق فهو كله طغيان سواء كان في مرتبة دنيا أم مرتبة عليا"1.

 
فجميع مشاكل الإنسان وأنواع الطغيان والعدوان بين البشر، سببه عدم تزكية النفوس، بل إن جميع المصائب التي حلت بالإنسانية نشأت من أنانية الإنسان، فالحروب التي نشأت في العالم سببها هذه الأنانية، فعندما لا يكون الإنسان مؤمناً ويريد كل شيء لنفسه، ينشأ التعارض والنزاع بين البشر، أما عند الأولياء فالأنانيات معدومة والحروب أيضاً معدومة، ولو اجتمع جميع الأولياء في مكان واحد لما شب بينهم أي نزاع. ولو أن الإنسان زكى نفسه لما رأينا الطغيان في حياته، فمصائب الإنسان ترجع في الحقيقة إلى أهوائه النفسية والتي لن تستقيم في حياته إلا إذا زكى نفسه ورباها، والأنبياء جاؤوا من أجل تزكية هذا الإنسان وبنائه، فما نادى به الأنبياء هو الإنسان ولا شيء غيره.
 
"إن ما نادى به الأنبياء هو الإنسان ولا شيء غيره، يجب أن يكون كل شيء على شكل إنسان، إنهم يريدون بناء الإنسان وسوف يصلح كل شيء عندما يتم إصلاح الإنسان"2.
 
 
 

1-  منهجية الثورة الإسلامية ، ص65.
2- المصدر نفسه، ص182.

 
 
 
 
 
96

86

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 فمن خلال إصلاح الإنسان سوف تثمر جهود الأنبياء في إنقاذ الناس من الظلمة إلى النور، وفي معرفة الناس بالعالم كما هو لا كما ندركه نحن ولا كما نريده. والظلمة عند الإمام نوعان، ظلمة النفس وظلمة الظلم، لذا يعتقد أن الهدف الأول للأنبياء يتشعب على هدفين آخرين: "لقد بعث الأنبياء من أجل تنمية معنويات الناس... وإنقاذ الضعيف من نير الاستكبار، وكان للأنبياء هاتان الوظيفتان، الوظيفة المعنوية لإنقاذ الناس من أسر النفس، من أسر ذاتها (لأن الذات هي شيطان كبير) وإنقاذ الناس والضعفاء من سلطة الظالمين"1.

 
ويرى الإمام أن القوانين الوضعية لا تهتم بالذات الباطنية للإنسان إنما تنظر إلى سلوكه الخارجي، فلا يهمهم البعد المعنوي، هل هو سعيد أو شقي، المهم أن لا يؤذي أحداً ولا يخل بالنظام العام، ولا يهتمون أبداً بما يفعله في بيته أو في خلواته وفي الخفاء، وهذا حال جميع المدارس غير التوحيدية، أما المدارس الإلهية فهي التي تبني الإنسان: "إن جميع الأديان النازلة من الخالق سبحانه وتعالى، وجميع الأنبياء العظام الذي أُمروا بالإبلاغ، إنما جاؤوا من أجل راحة الإنسان وبنائه، وأراد الباري من خلال الوحي للأنبياء العظام هداية الناس... جميع الناس... وبناء الإنسان في جميع أبعاده التي له. إن جميع القوى وسائر الدول لا تبالي بمعنويات الناس، وجميع المدارس الموجودة في الدنيا سوى مدارس التوحيد، لا تبالي بالذات الباطنية للإنسان، ما هي
 
 
 

1-  المصدر نفسه ، ص51.
 
 
 
 
 
 
97

87

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  نفسيته، فليعمل ما يشاء، ولا يهتمون إلا بالمحافظة على دنياهم"1.

 
من هنا كانت مهمة الأنبياء هي تعليم الناس وتربيتهم، فالنبي الأكرم‘ هو معلم البشرية ومربيها، والعلم بدون التزكية كالعلم بلا عمل، وعلماء السوء هم الذين يحملون العلم ولا يعملون به، لأنهم لم يقرنوه بالتزكية، هؤلاء شبههم القرآن بالحمار يحمل أسفاراً ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾2، فهؤلاء علماء لكن العلم لم يترك فيهم أي تأثير، وفي هذه الحال لا فرق أن يكون العلم على صدر الإنسان أو على ظهره3.
 
ويذهب الإمام أكثر من ذلك فيعتبر أن التربية والتزكية أهم من التعليم، لأن التعليم إذا لم يقترن بالتربية سيتحول إلى علم مضرٍ وهدام4 ، فالعالم الفاسد سيُفسد المجتمع ومن حوله، من هنا كان إصرار نبي الإسلام‘ على ﴿إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق﴾, فبتربية الإنسان يتم إصلاح العالم، و"إن مضار الإنسان الذي لم تتم تربيته في المجتمع لا تساويها مضار شيطان أو حيوان متوحش أو أي كائن آخر، وإن منافع الإنسان المتربي في مجتمعه؟ لا تضاهيها أي منفعة... فالإنسان هو عصارة جميع الكائنات وخلاصة لتمام العالم... ومحل تجلي النور المقدس لله تعالى"5.
 
 

1-  المصدر نفسه، ص49.
2- سورة الجمعة، آية 5.
3-  الجامعة والجامعيون في فكر الإمام الخميني قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره, ص5.
4-  المصدر نفسه، ص7.
5- منهجية الثورة الإسلامية، ص224.
 
 
 
 
 
 
98

88

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 3 - بناء الإنسان في ظل الحكومات الإلهية

 
لقد قام الأنبياء ودعاة التوحيد ضد الظلم، وخاضوا حروباً كثيرة مع الأقوياء والظلمة والأثرياء والمترفين. قاموا ضد هؤلاء من أجل الوقوف في وجههم ومنعهم من نهب ثروات الشعوب ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع، ومن يستقرىء التاريخ سيجد أن الشعوب والجماهير المستضعفة والمحرومة هي التي قامت بالثورة ضد سلاطين الجور، والحفاة هم حملة راية الإسلام المحمدي الأصيل، الذي وقف في وجه المصالح الشخصية والذي منع المتخمين في حياة الترف والعيش أن يفعلوا ما يشاؤون، ويبين الإمام هذا المعنى إذ يقول:
 
" يا أبنائي الأعزاء في الجهاد، إن الشيء الوحيد الذي يجب أن تفكروا به هو إحكام أسس الإسلام المحمدي الأصيل... الإسلام الذي سيذل الغرب والشرق... الإسلام الذي يرفع لواءه الحفاة والمظلومون والفقراء في العالم، وأعداؤهم الملحدون والكافرون والرأسماليون وعبدة المال... والمتظاهرون بالتقدس والجاهلون"1.
 
وأساس البعثة ـ بعثة الرسول الأكرم‘ ـ هو رفع الظلم وتحقيق العدالة، وجاء النبي ليوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته، لينكشف لهم الطريق حتى يستطيعوا أن يواجهوا القوى الكبرى "جاءت بعثة رسول الله‘ لتوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته، وتكشف لهم الطريق، حتى يواجه الناس 
 
 
 

1- المصدر نفسه ، ص502.

 
 
 
 
 
99

89

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 القوى الكبرى، وتستهدف البعثة إنقاذ أخلاق الناس ونفوسهم وأرواحهم، وأجسامهم من الظلمات، وأن تزيل الظلمات ليحل محلها النور، لتزيح ظلمة الجهل وتأتي مكانها بنور العمل"1.

 
فالنبوة جاءت لتحطيم قواعد ظلم الأقوياء، وتحطيم قواعد قصور الظلم التي ارتفعت أعمدتها من خلال تعب المحرومين والمستضعفين. وما فعله إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء هو أنهم انتفضوا جميعاً بوجه الجور. ومن يتبع الإسلام، يجب عليه أن يقف ويعارض القوى العظمى، ويخلص المظلومين من مخالبها. وإن نداء عاشوراء هو الوقوف بوجه الظلم، لكن هذا الوقوف يجب أن يبدأ من النفوس ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾2 فإن هذا القانون الإلهي ينص على أنه لو حدثت تغيرات في شعب أو قوم معينين، فإن ذلك سيكون سبباً لحدوث تغيرات تكوينية، وتغيرات عالمية، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران هو رهن بهذا التغير الذي حدث.
 
" فقد حصل تحول في قومنا وتغيروا, وما لم يحصل هذا التغير النفساني فإن تغيراً حقيقياً ـــ والذي هو زوال النظام الطاغوتي، ومجيء النظام الإسلامي ـــ ما كان ليحصل... فلو غيرنا أنفسنا باتجاه قبول الظلم، فمن الطبيعي أن يحكمنا ظالم... إن شعبنا كان خلال سنوات طويلة خاضعاً للظلم والعذاب وذلك بسبب خروجه عن تلك الفطرة التي هي فطرة الله وسلك فطرة أخرى، وربى نفسه تربية أخرى، فأصبح جاهزاً لقبول الضغوط، وكنا لا أباليين"3.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص69.
2- سورة الرعد, آية 11.
3- منهجية الثورة الإسلامية، ص194.


 
 
 
 
100

90

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 إذاً التغيير عند الإمام يجب أن يبدأ من النفس ومن نفوس الناس في المجتمع، من النفس على المستوى الفردي والاجتماعي، وهنا يؤكد الإمام دائماً على هجرة النفس من النفس، هجرة النفس من بيتها الظلماني ومن أسر الذات "هناك أشخاص تحركوا وخرجوا من حفرة النفس وهاجروا، ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾ فأحد الاحتمالات أن هذه الهجرة هي من النفس إلى الله، والبيت هنا هو نفس الإنسان"1.

 
هذا يعني هجرة النفس من أسر الذات، وهجرة الناس من الظلمات إلى نور التوحيد والإسلام، ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال قيام الحكومة الإسلامية، لذا ركز الإمام في خطابة النهضوي على الشعب واعتبر ولأول مرة أن الشعب هو القائد وهو الذي يرسم طريق الثورة ومن خلفه النخب والمثقفون بعدما كانت العادة تقتضي أن يكونوا في مقدمة مسيرة الثوريين.
 
 
 

1- التربية والمجتمع، ص26.
 
 
 
 
 
 
 
101

91

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 الفصل الثاني:

ماهية خطاب الإمام لمستضعفي ومسلمي العالم
 
قبل الحديث عن ماهية خطاب الإمام لمستضعفي ومسلمي العالم لا يسع الباحث إلاّ أن يستعرض ماهية الحضارات والنماذج الحضارية التي اجتذبت إليها الأنصار والأتباع على مرّ التاريخ، وكذلك أن يبين العلاقة ما بين المستضعفين والمسلمين في العالم.
 
1ـ ماهية الحضارة الإسلامية 
 
لقد عُرِّفت الحضارة بأنها "تبصّرٌ بالغايات"1. والتبصر يعني أنها حركة معرفية واعية تتحرك من منطلقات معددة وتنتهج سلوكاً واعياً إلى أهداف مرسومة من قبل، ترتبط بمنطلقاتها ارتباط النتائج بالمقدمات. وإذا كانت العلل الغائية _بتعبير الفلاسفة _هي علل فاعلية الفاعل، أضحى التبصر بالغايات " فكراً ومعرفةً وأفعالاً ووسائل"2 حيث لا تنفك الأهداف عن وسائلها كما لا تنفك عن مناهجها لا منطقياً ولا أخلاقياً، فالجميع يتبع سنخاً واحداً.
 
 

1- سمير سليمان، الأندلس والغرب – صراع النموذجين الحضاريين وبدايات الإستشراق، ص18.
2- عبد الحليم صديقي، تفسير التاريخ، الترجمة العربية، ص33، نقلاً عن كتاب الإمام الخميني قدس سره والمشروع الحضاري الإسلامي.
 
 
 
 
 
 
102

92

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 بهذا المعنى تصبح الحضارة منهج معرفة وفهم الأمة لدور الإنسان في عالم الوجود والطبيعة. "وهذا يعني أن الحضارة هي منهج فكر واصل بالنتيجة إلى أنواع أو أنماط ومواقف سلوكية إنسانية تحاكي كيان الأمة الفكري وعلله ومصادره وتجلياته في القول والعمل والتطلعات ومعايير محاكمة للأشياء وعلاقات الناس والعالم "1

 
وعندما تختلف الأمم والشعوب في أصولها وأسسها ومكوناتها، يضحي النموذج الحضاري هو المظهر التي تعبر به الأمم عن مفهوم الحضارة ذاته، وتصبح عندئذٍ الحضارة الإسلامية تعبيراً عن نسيج الإسلام بما يمثل من رؤية كونية مختلفة إلى العالم والوجود ومن مشروع حياة ونظام اجتماعي "أيديولوجي" ذا بعدٍ إلهي.
 
وإذا كانت الغايات لا تنفك عن وسائلها كما مرَّ، أضحت الدولة الإسلامية أو الحكومة الإسلامية المتصدية لتنفيذ وتطبيق الشرائع لتنظيم شؤون المجتمع والسير به نحو التقدم والرقي والتكامل من الوجود المادي إلى ما وراءه، أضحت هي النموذج الحضاري الإسلامي. وبناء على ذلك لا يصح الحديث عن حضارات متعددة في تاريخ البشرية، وإن صح الحديث عن نماذج مختلفة اتفقت في الجوهر واختلفت في ظاهرها، فلا يوجد فروقات جوهرية أو بنيوية بين حضارات التاريخ من إغريقية يونانية أو فرعونية أو ساسانية، وإن ظهر اختلاف بين نماذج الإمبراطورية الرومانية أو الفارسية وقبلهما المصرية، لأن
 
 
 

1- محمد باقر الصدر، مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن، ص133.
 
 
 
 
 
 
 
103

93

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  هذه الحضارات والنماذج تتقاطع في توحد الغايات والمثل العليا، وفي الأساس هي تختزل البعد الإلهي ليحل محله البعد الفرعوني.

 
نتيجة لهذا الفصل بين أنواع الحضارات، فإن تاريخ البشرية ومنذ بدء الخليقة منقسم بين حضارتين لا ثالث لهما، حضارة الفطرة والتوحيد وحضارة الباطل المادية، بمعنى آخر إن تاريخ البشرية محكوم بثنائية قطبية ــ كالضدين لا يجتمعان ـــ متصارعة عبر التاريخ, ونوازع ذلك موجودة في أعماق الكائن البشري.
 
قال تعالى ﴿إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾1.
 
وقال أيضاً:  ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * َقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾2.
 
وقال أيضاً: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾3.
 
هذه القراءة لتاريخ الحضارات كما يسميها الباحثون في فلسفة الحضارات4 هي قراءة عمودية، فكلا الحضارتين تصدر عن أصل وتخضع 
 
 

1- سمير سليمان، الإمام الخميني قدس سره والمشروع الحضاري الإسلامي، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1990، ص25.
2- سورة الشمس , آية 7 و8و9.
3- سورة الإسراء، آية 7و8.
4- ...............
 
 
 
 
 
 
 
104

94

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 لسنن وقوانين وتحمل حقائق ومشروعاً مختلفاً.

 
حضارة الباطل تبدأ من هذا العالم، وتبقى فيه وتنتهي به. وإذا كان لأصحاب حضارة الباطل دين ما "فللغايات الدنيوية فقط" دون البحث عن حقانية هذا الدين، وإلى أي مدى سيرقى بوجود الإنسان. ويبقى الشغل الوحيد لهذه الحضارة هو تأمين حاجات الإنسان المادية، ويصبح الحكم بتقدمها ورقيها أو عدمه بمقدار ما حققته من وسائل الراحة والرفاهية وبمقدار ما أصبح الإنسان متسلطاً على الطبيعة من أجل تسخيرها لراحته ومنافعه.
 
إن عشق هذه المثل يتجلى في كل جوانب حياة الحضارة المادية، من فلسفتها وقوانينها وأخلاقها وممارساتها وحتى تقدمها العلمي والتقني، وبكلمة جامعة، إن حضارة الباطل ينبغي البحث عنها وعن آثارها في هذا العالم لأنها منه تبدأ وفيه تنتهي، أما حضارة الحق والفطرة الإلهية فتُصوِّر قبل هذا العالم وتتجلى فيه وتستمر مسؤوليتها بعده، فكل ما في الكون يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، والإنسان سيعيش المسؤولية تجاه نفسه وخالقه والكون المحيط به وبالأخص تجاه أخيه الإنسان, في هذا الصدد يقول الإمام الخميني قدس  سره:
 
“الإنسان المادي لا ينظر إلى جانب المادة ولا يهمه من أين جاءت هذه المادة... إنه يريد الأشياء لنفسها ولا يهمه مبدؤها. أما الإنسان الإلهي فلو أعطي شيئاً لسأل من أين؟ وماذا هو؟ وهل صحيح استخدامه؟ "... فهذا هو الإنسان الذي يفكر بهذه الأمور، ونحن نريد مثل هذا أيضاً"1.
 
فكل أجزاء الكون يترابط بعضها مع بعض ويؤثر بعضها في بعض، فلا
 
 
 

1- يطلق الدكتور سمير سليمان على هذه القراءة لتاريخ الحضارة بأنها " القراءة العمودية".

 
 
 
 
 
 
105

95

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  يوجد حادثة، في شرق الأرض أو غربها، ليس لها أدنى علاقة بأختها في أقاصي الأرض، لأن الجميع معلول لعلة واحدة، ويشترك كلها في هذه الناحية من السببية، لكن تأثير الإنسان كان تأثيراً مسؤولاً وافترق في ذلك عن غيره من الموجودات، قال تعالى:

 
 ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾1.
 
ومقتضى هذا التحمل للمسؤولية أن لا تتركه العناية الإلهيان لشأنه يواجه مصيره بنفسه دون إرشاد أو هداية، لا بالمعنى التكويني ﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ولا بالمعنى التشريعي، فالعناية واللطف الإلهي اقتضيا الهداية وقدّما دليلها التشريعي المتوافق مع الكتاب التكويني للوجود ،إنسانه وعالمه، فالإسلام بما هو روح الحضارة الحقيقية "حقيقة وله حكمٌ في جميع شؤون الإنسان المادية والمعنوية إلى حيث لا يصل إدراككم له"3.
 
"في الوقت الذي لم يكن في الغرب أي خبر يُذكر، وكان سكانه يعيشون في وحشية... وكانت الإمبراطوريتان الإيرانية والرومانية محكومتين للاستبداد والتبعيض، وتسلط أصحاب القدرة والإشراف، ولم يكن فيهما أثر من حكومة الناس والقانون، أرسل الله آنذاك تلك القوانين التي صدع بها النبي الأعظم محمد‘، والتي تحيّر بعظمتها الإنسان. وحدد لكل شيء الآداب والقوانين، فمن قبل تكوّن الإنسان وإلىحين نزوله في حفرته، وُضعت له قوانين خاصة،
 
 

1- سورة الاحزاب, آية 72.
2- الإمام الخميني قدس سره والمشروع الحضاري الإسلامي، ص24.
3- روح الله الخميني قدس سره، مختارات من أقوال الإمام الخميني قدس سره، ج2، ص84.
 
 
 
 
 
 
106

96

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  ورُسمت العلاقات الاجتماعية، ونُظمت الحكومة، إلى جانب ما رُسم من وظائف وعبادات"1.

 
فالإسلام فيه البرنامج والخطة التربوية الشاملة بشقيها النظري والعملي، وبناءً على هذه الخطة تشكلت في الحضارة الإسلامية النظرية السياسية في الحكم وتشكَّل نظام القيم في المجتمع.
 
في هذا النموذج الحضاري يتحول الاستخلاف الإلهي إلى حركة تكاملية مستمرة في عملية كدح ونصب وارتقاء نحو المطلق واللامحدود، كلٌّ في حدود قابلياته ومستوى الاختيارات الممنوحة له، فما من امرئ يولد إلا على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، لا يحمل بطاقة الخلود في النار ولا جواز العبور إلى الجنة، مصير الإنسان ما يقرره عمله ﴿ووجدوا ما عملوا حاضرا ً﴾2، واللطيف بعباده يبحث عن عذر لإدخال الناس إلى الجنة لا إلى الجحيم.
 
2ـالإمام الخميني قدس سره والثنائية القطبية في العالم
 
ما إن شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء حتى عُقدت اتفاقية "يالطا" والتي أرست نظاماً عالمياً جديداً، برز فيه قوتان عظيمتان هما الولايات
 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية، ص132.
2- الإمام الخميني قدس سره، الفكر والثورة – كتاب المنطلق، مقالة الإمام الخميني قدس سره ومشكلة التبعية، مصطفى الحاج علي، ص65.
 
 
 
 
 
 
 
107

97

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، حيث شكلتا مركزي استقطاب للعالم على كافة الصعد والمستويات. ومع هذا الاستقطاب ازدادت حدة التنافس والصراع على المناطق ذات النفوذ الاستراتيجي في العالم وبالأخص في عالمنا الإسلامي حيث يزخر بالخيرات ويختزن مصادر الطاقة من الغاز والنفط والماء مستقبلاً. هذا التجاذب الحاد برّز إلى العلن في العلاقات الدولية ما بات يعرف بقضية التبعية، والتي سرعان ما أصبحت مشكلة بحد ذاتها أدت إلى تصدع البنيان الحضاري والتاريخي للشعوب، وإلى فقدان الهوية والشعور بالانتماء الأصيل، فضلاً عن التخلف وسلسلة الحروب الطويلة المدمرة، وفقدت على أثر ذلك شعوب العالم الإسلامي أي قدرة على النهوض وإبداع الحلول لمشاكل مجتمعاتها.

 
وبعبارة أخرى فقد اكتسح مشروع الحضارة المادية صدر الأمة وتكرس كمشروع منتصر في العالم بعدما هزم كل الآخرين، "أما الإسلام فكان قد تحول إلى مجموعة من أسفار مجيدة تنوء بأثقالها الظهور المكسورة فأودعتها رفوف المكتبات الدهرية، أو فيما خلف الذاكرة مبددة التأثير أو متروكة لعبث مستشرقي الداخل والخارج، وأُخرج القرآن من الساحة حتى كأنه فقد دوره في الهداية لصالح مشروع الباطل"1. وقد بلغ الحد أن استُخدم نفس القرآن من أجل هدم قيم الإسلام، يقول الإمام:
 
"لقد استغل عباد الأنا والطواغيت القرآن الكريم واتخذوه وسيلة للحكومات المعادية للقرآن... فقد أخرجوا القرآن ـ الذي كان ولا يزال الدستور الأعظم
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره والمشروع الحضاري الإسلامي، ص24.
 
 
 
 
 
 
 
108

98

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 لحياة البشر وشؤونهم المادية والمعنوية ــ من الميدان وأبطلوا حكومة العدل الإلهي وهي أحد أهداف هذا الكتاب المقدس"1.

 
لم يكن للصمت أو السكون مكان في وجدان وشخصية الإمام الخميني? فسرعان ما عمل للخروج من دائرة الاستقطاب الدولي وذلك بإعادة رسم الخارطة من جديد، فقسم العالم تقسيماً جديداً:
 
عالم المستضعفين وعالم المستكبرين، عالمان لا يجتمعان ولا يتصالحان لأن أحدهما إلهي والآخر مادي، يقول الإمام?:
 
"إن الذين يعترضون علينا ويقولون لماذا لا تصالحون القوى الفاسدة، إنما ينظرون إلى جميع الأمور بنظرة مادية، ويفسرون الأمور من خلال العين المادية... إن مصالحة الظالم تعد ظلماً للمظلومين، وإن مصالحة القوى العظمى تُعدُّ ظلماً للبشرية. إن الذين يطلبون منا المساومة إما جهلة وإما عملاء"2.
 
إذن ثار الإمام كما قام حملة المشروع الإلهي وأصحاب عقيدة التوحيد على مر العصور ليشكل انعطافاً تاريخياً نوعياً وطفرةً حقيقيةً غيّرت المسار التاريخي للإنسانية في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، نظر الإمام فلم يجد سوى نموذجين حضاريين: نموذج الاستضعاف وفيه المسلمون وغير المسلمين، ونموذج الطاغوت الجامع لكل قوى الباطل وأتباعه في الأرض.
 
لقد استمد الإمام هذه المصطلحات، الاستضعاف والاستكبار أو الطاغوت
 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية، ص77.
2- منهجية الثورة الإسلامية ، ص425.
 
 
 
 
 
 
109

99

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 من عقيدة القرآن الكريم، وأراد بهذا التقسيم أن تكون رسالته أممية، حتى الثورة التي نجحت في إيران، يعتبرها غير محدودة بإيران ولا تنهي الصراع مع المستبكرين بنجاحها: "يجب أن يعلم مسؤولونا أن ثورتنا غير محدودة بإيران، إن ثورة الشعب الإيراني هي نقطة بداية لثورة عالم الإسلام الكبرى"1.

 
"إن الجميع مصممون على نشر التوحيد الأصيل بين الشعوب الإسلامية ودق رأس الخصم بالحجر، حتى يتحقق في القريب العاجل انتصار الإسلام في العالم"2.
 
صحيح أن كل تقسيم ثنائي للعالم يدور بين الإثبات والنفي سوف تستغرق دوائره وجه البسيطة، لكن كل تقسيم لن يكون أممياً في الجانب الإيجابي من خطابه، لقد رأى الإمام أن دائرة المستضعفين تشمل بعض المسلمين وغيرهم من بني البشر، كما أن دائرة الطاغوت والمستكبرين تشمل بعض المسلمين وغيرهم أيضاً، لذا نجد الإمام ميّز بين نوعين من الإسلام، الإسلام المحمدي الأصيل والإسلام الأمريكي. يقول في ذلك:
 
"إن طريق محاربة الإسلام الأمريكي له تعقيدٌ خاص يجب أن تتضح جميع زواياه... ومع الأسف فإن الكثير من الشعوب الإسلامية لم يتشخص لديها كاملاً الحد بين الإسلام الأمريكي والإسلام المحمدي الأصيل، إسلام الحفاة والمحرومين، وإسلام المتظاهرين بالتقدس والتدين والمتحجرين الرأسماليين الذين لا يعرفون الله والمرفهين الذين لا يعانون من شيء"3.
 
 

1- المصدر نفسه، ص444.
2- المصدر نفسه، ص445.
3- المصدر نفسه، ص502.
 
 
 
 
 
 
110
 

100

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 نجد أن الإمام لم يلجأ في تقسيمه للعالم إلى دار الكفر ودار الإيمان أو الإسلام كما فعل الكثير من الحركات الثورية الإسلامية، لأنه وجد أن الكفر الحقيقي ينبغي البحث عنه في الذهنية الطاغوتية والفرعونية, في تسلط الإنسان على أخيه الإنسان.

 
أما على مستوى الداخل فقد رفع الإمام شعاراً موازياً للشعار الذي رفعه للعالم، اتخذ شعار عدم الانحياز للشرق أو للغرب في تأسيسه للجمهورية الإسلامية، فاستوحى مرةً أخرى من القرآن الكريم  ﴿زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾1 فأعاد بذلك تشكيل الوعي بكل مستوياته ومفرداته ومفاهيمه2.
 
لذا تحرك الإمام لإقامة الحكومة الإسلامية والتي اعتقد أنها ستحقق العدل والقسط وحرية الشعب واستقلاله عن كل أنواع التبعيات الداخلية والخارجية، وكان يعتقد أن إقامة الجمهورية الإسلامية وتغيير السلطة في إيران ليس هو الغاية بحد ذاتها, وإنما "الاستيلاء على السلطة" هو الوسيلة التي يتم بها تنفيذ أمر الله في إجراء الكثير من الأحكام والشعائر الإلهية، وكان يعتبر أن جميع الأنبياء ومنذ بداية البشرية إلى خاتم الأنبياء‘ استهدفوا إصلاح المجتمع وأن يقوم الناس بالقسط فقد أُرسلوا بالبينات والحديد، وفي الإرتباط الحاصل في الآية  ﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ مع البينات يقول الإمام:
 
"إن ذلك يعني أن تحقق (هذه الأهداف) يكون بالحديد والبينات والحديد
 
 
 

1- سورة النور، آية 35.
2- الإمام الخميني قدس سره ومشكلة التبعية، مصطفى الحاج علي، ص66.

 
 
 
 
 
 
111

101

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 فيه ﴿بأس شديد﴾ أي إذا أراد شخص أو مجموعة معينة القضاء على المجتمع... فإنه ينبغي التحدث معها بالبينات، فإن لم ينفع ذلك، فبالموازين العقلية، وإن لم ترتدع وتتعقل فبالحديد"1

 
ويقول أيضاً:
 
"الأنبياء العظام السابقون والرسول الأعظم‘ في الوقت الذي يحملون فيه الكتب السماوية في يد من أجل هداية الناس، كانوا يحملون السلاح في اليد الأخرى، فإبراهيم عليه السلام كان يحمل الصحف في يد، والفأس في يد أخرى للقضاء على الأصنام، وكان كليم الله موسى عليه السلام يحمل التوراة في يد والعصا في يد أخرى، تلك العصا التي أذلت الفراعنة، وتحولت إلى أفعى وابتلعت الخائنين"2.
 
وكان الإمام يعتقد أن مهام الأنبياء هو تدمير ودك عروش ومعاقل الظالمين وبناء جيل مجاهد ومناهض للاستكبار ، يقول عن ذلك:
 
"لقد جاءت النبوة وبعُث النبي من أجل تحطيم معاقل الظالمين الذين يظلمون الناس. وإن معاقل الظلم هذه قد قامت أسسها على كدح هؤلاء الضعفاء وعلى دمائهم واستثماراتهم... كان مجيء النبي‘ لتحطيم هذه المعاقل وقلع جذور الظلم، ومن جانب آخر فلأن الهدف أيضاً بسط التوحيد، فقد قام بهدم مراكز عبادة غير الخالق جل وعلا ومراكز عبدة النار وأطفأ نيرانهم"3.
 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية، ص52.
2- المصدر نفسه، ص56 و57.
3- المصدر نفسه ، ص11.
 
 
 
 
 
 
 
 
112

102

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 وكان الإمام يعتقد أن نهضة عاشوراء نابعة مما يراه لدور الأديان ولما جاء به الأنبياء ولحركة أئمة الهدى من أهل البيت، من نشر عقيدة التوحيد وإقامة حكومة العدل الإلهي، فاستشهاد الإمام الحسين عليه السلام كان عنده من أجل القيام لله وإصلاح الأمة وتقويمها، وكان يعتقد أنه لأجل تحقيق هذه الأهداف العظمى تُسترخَص النفس ولو كانت نفس إمام معصوم، وعن ذلك يقول:

 
"لقد بُعث الأنبياء لإصلاح المجتمع وكلهم كانوا يؤكدون أنه ينبغي التضحية بالفرد من أجل المجتمع، مهما كان الفرد عظيماً، حتى ولو كان الفرد أعظم من في الأرض، فإذا اقتضت مصلحة المجتمع التضحية بهذا الفرد فعليه أن يضحي... وعلى هذا الأساس نهض سيد الشهداء عليه السلام وضحى بنفسه وأنصاره، فالفرد يقدَّم في سبيل المجتمع، فإذا اقتضت مصلحة المجتمع تضحيته وجب التضحية، إن العدالة ينبغي أن تتحقق بين الناس  ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾"1.
 
وكان الإمام يرى أن ما ينقصنا في العصر الحاضر هو عصا موسى وسيف علي "كل ما ينقصنا هو عصا موسى وسيف علي بن أبي طالب وعزيمتهما الجبارة، وإذا عزمنا على إقامة دعم إسلامي، فسنحصل على عصا موسى وسيف علي أيضاً"2.
 
وكان الإمام ذا ثقة كبيرة بتحقيق أهدافه وأن منطق التاريخ والسنن الإلهية كفيل بتحقيق هذا النصر، شرط أن يعمل رواد الأمة بتكليفهم الشرعي في
 
 
 

1- نهضة عاشوراء، ص46.
2- الحكومة الإسلامية، ص135.
 
 
 
 
 
 
 
113

103

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يعتقد أن هذه الفريضة الإلهية إنما شرعت لتستقيم الفرائض كلها كبيرها وصغيرها "ولهذه العظائم شرع الإسلام وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا لصغار الأمور فقط، مما نرى ونسمع يومياً، وإن وجب إنكارها وردعها"1.

 
بهذا الإيمان حقق الإمام الخميني? المشروع الإلهي في إيران، وكان قلبه النابض ، واستمر هذا المشروع يصدح في العالم من بعده، على أمل أن يسود الإسلام العالم وتنمحي آثار الكفر والاستكبار عن وجه الأرض، فهي الخطوة الأولى في المشروع الكبير، مشروع إقامة العدل من أجل جميع المستضعفين في العالم.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص112.
 
 
 
 
 
 
 
114

104

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 الفصل الثالث:

 
رسالة الجامعة في فكر الإمام الخميني قدس سره
 
يرى الإمام أن الجامعات يجب أن تكون مستقلة عن الشرق وعن الغرب شأنها شأن نفس نهج الجمهورية الإسلامية لكيلا يقع البلد في أيدي الأجانب والأعداء، لأن من وجهة نظر الإمام فإن أي تغيير في شؤون أي بلد يبدأ من الجامعة، فالجامعة تستطيع أن تكون المكان الذي يبدأ منه صلاح المجتمع ومن الممكن أيضاً أن تورده موارد الهلاك، وعلى الجامعة أن تحقق هدفين: تربية الإنسان وتقويمه، وتربية العلماء والمختصين، وهذان الهدفان يجب أن يتحققا جنباً إلى جنب.
 
ويركّز الإمام على أسلحة الجامعات، بمعنى أن العلوم التي تُعطى في الجامعة لا ينبغي النظر إليها على أساس أنها علوم مستقلة، وإنما يضيف إليها معنى آخر، معنىً يتعلق بالنظرة التوحيدية للإنسان المسلم إلى جميع موجودات هذا العالم "يعيد الإسلام جميع المحسوسات وجميع العالم إلى مرتبة التوحيد، فتعليمات الإسلام ليست تعليمات طبيعية ولا تعليمات رياضية، ولا تعليمات طبية، إنها تشمل كل تلك، ولكنها مرتبطة بالتوحيد وقد أمسك بزمامها"1.
 
فلا يوجد طب أمريكي ولا طب سوفياتي وكذلك لا توجد رياضيات إلهية 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية، ص133.
 
 
 
 
 
 
115

105

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 ولا رياضيات مادية، لأن العلوم الطبيعية علوم مشتركة بين الجميع لكنها تصبح إلهية أو شيطانية باختلاف ارتباطها بثقافة الإنسان وأهدافه وغاياته، فإذا ما كان الإنسان توحيديا فإن هذه العلوم ستصبح علوما إلهية شريفة ، فالإسلام لا ينظر إلى العلوم نظرة مستقلة، ومهما بلغت هذه العلوم من الرفعة والتقدم فإنها ليست ذلك الذي يريده الإسلام إن جميع العلوم التي تذكرونها وتثنون بسببها على الجامعات الأجنبية، وتستحق الثناء فعلاً، فإنها تمثل ورقة واحدة من العالم، هي الورقة الأدنى من جميع الأوراق... فالفرق بين الإسلام وبين سائر المدارس... هو أن الإسلام يطلب في نفس هذه الطبيعة معنىً آخر، ويقصد من هذه الهندسة معنى آخر، ويطلب في علم الفلك هذا معنى آخر.وإن الذي يقرأ القرآن الكريم يشاهد هذا المعنى وهو أن المطروح في القرآن من جميع العلوم الطبيعية هو جانبها المعنوي وليس جنبتها الطبيعية"1

 
لذا فقد أمرنا الإسلام بالتعقل والتدبر في آيات الله الأنفسية والآفاقية, قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾2.
 
هذه النظرة ـ نظرة الإمام إلى الجامعة ـ تحدد لنا دور ووظيفة.ورسالة الجامعة الذي يمكن أن تؤديه في مجتمعها، ويمكن لنا أن نستقرىءمن أقوال الإمام الأمور التالية:
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص133.
2- سورة فصلت, آية 53.
 
 
 
 
 
 
 
116

106

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 1- وظيفة الجامعة هي بناء الإنسان

 
أكد الإمام على أن بناء الإنسان هو القاعدة الأساس لبناء الأمة والتي كانت منذ بدء الخلق هدف الأنبياء العظام.وبناء الإنسان يجب أن يبدأ بإصلاح ثقافته وتربيته. وكان الإمام يشكو دائماً من التغرب الفكري الموجود في الجامعات والذي تم على يد النظام السابق ،يقول في ذلك:
 
"لقد غيروا الأجهزة المسؤولة عن التربية والتعليم، إلى أجهزة مضادة لها، فكانوا يلغون التعليم المفيد للإنسان والمفيد لشعب ودولة معينة، ويصنعون مكانه تعليماً يعاكس مسير الشعب، وكان يقوم على شهوات نفس الفرد، ولكنه كان مخالفاً لمسير الشعب"1. "وحاولوا أن لا تنمو طاقاتنا الإنسانية، ولا تنطلق. وحاولوا بمختلف الأساليب والخطط وركزوا جهدهم على الإنسان حتى لا ينمو الإنسان"2.
 
من خلال هذه الأساليب روجوا لثقافة الانهزام النفسي حتى بات الإنسان المسلم يصدق أنه لا يقدر على إنجاز أي شيء من دون مساعدة الأجانب.
 
ولم تمتد أيادي المتغربين إلى الجامعات فقط ، إنما استهدفوا أيضاً طلاب الثانويات في عمل مخطط ومرسوم "وكان قدر شبابنا الأعزاء والمظلومين أن يتربوا في أحضان هذه الذئاب العميلة للقوى الكبرى، وأن يتصدوا لمناصب التشريع والحكم والقضاء لينجزوا أعمالهم وفق أوامر النظام البهلوي الظالم"3.
 
 
 

1-  منهجية الثورة الإسلامية ، ص184.
2- المصدر نفسه، ص183.
3- المصدر نفسه، ص269.

 
 
 
 
 
 
 
117

107

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 وإذا دققنا نرى أنهم عندما نقلوا التمدن إلى بلاد المسلمين، فإن هذا التمدن لم تتم الاستفادة منه بشكل صحيح.

 
إنما تمت الاستفادة منه بطريقة فاسدة، فالسينما على سبيل المثال يمكن أن تعرض فيها أفلاماً أخلاقية وتعليمية، ويمكن أن تعرض فيها أفلاماً تحرف جيل الشباب. لكن للأسف جميع البرامج التي وضعوها في الثقافة والفن وغير ذلك كانت استعمارية، وأرادوا جعل الشباب وسيلة لتحقيق منافعهم الخاصة وليس من أجل منفعة أوطانهم. وذلك عن طريق جعلهم غير مبالين لا يفكرون إلا بفجورهم وتهتكهم، والمستعمر يريد أن تبقى هذه الثروة العظيمة من جيل الشباب متخلفة وعديمة الفائدة. فأرادوا تدمير جميع القوى التي من المحتمل أن تقف بوجه الأجانب، حتى الأفكار التي من المحتمل أن تقف في وجه أفكارهم سيحاولون القضاء عليها إن تمكنوا من ذلك.
 
"لقد عكفوا على دراسة أوضاعنا في النواحي المادية والمعنوية، وأجروا بحوثهم على أفرادنا، ولعل خبراءهم عاكفون على دراسة هذه الأمور منذ أكثر من مائتي عام، وقد طافوا ودرسوا كافة المجالات والأماكن في إيران ورسموا لها الخرائط وأجروا دراسات تتعلق بوضع الثقافة في البلدان التي يريدون الاستفادة منها، درسوا وضع جامعاتنا وأجروا دراسات بحوثاً كثيرة فيما يتعلق بأوضاع جامعاتنا الدينية"1.
 
ونتيجة هذا الوضع السيئ الذي وصلت إليه الجامعات في إيران أكد الإمام 
 
 
 

1- صحيفة النور، طبع وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، 1361هـ.ش, ج6، ص131، خطاب ص130.
 
 
 
 
 
 
118

108

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 على الأمور التالية للخروج من الأزمة1:

 
تربية الإنسان المؤمن وذلك بتغيير البرامج بما يتوافق مع النظرة التوحيدية للعلوم.
 
التأكيد على المعنويات قبل الماديات.
 
التغيير يجب أن يبدأ من الفرد وليس العكس.
 
التربية والتغيير يجب أن ينسجما ويتطابقا مع الفطرة الإنسانية.
 
التميز الذي ستحرزه الجامعة الإسلامية سيؤدي لأن تكون مرجعاً للمسلمين في كافة أنحاء العالم.
 
يرى الإمام أن هذه الأهداف تتحقق إذا ما عكفنا على تربية الجامعيين والحوزويين، فإذا ما تضافرت جهودالفريقين فإننا سنحصل على الإنسان المؤمن الذي لا يخضع للظلم ولا ينجر وراء المغريات ولا يخاف من التهديدات، فالتقوى عند الإنسان المؤمن هي التي ستمنعه من خيانة بلده وسيعتبر أن ذلك مخالف للتكليف الشرعي، أما إذا وحدنا الجهود بين الجامعيين والحوزويين وأنشأنا الجامعة الإسلامية، سيصبح الجميع يعتقدون بالله وهذا مبني بالدرجة الأولى على تغيير البرامج التي صنفها لنا الآخرون2. فالجامعة والحوزة يجب أن يتعهدا تربية الإنسان وهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتقهما، وإذا ما بنينا هذا الإنسان فإن كل الأمور ستصبح معنوية حتى الماديات ستسلك طريق المعنويات، لكن إذا أضعنا الإنسان فإننا سنضيع الماديات أيضاً 
 
 

1- الجامعة والجامعيون في فكر الإمام الخميني قدس سره، ص197 إلى ص201.
2-  المصدر نفسه، ص201.
 
 
 
 
 
 
 
119

109

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 وسنؤسس لطبقة جامعية شيطانية1.

 
فإذا ما أبعدنا الجانب المعنوي عن الجامعات فقد نخرج طبيباً ومن الممكن أن يكون هذا الطبيب من أفضل أطباء العالم، لكن هذا الطبيب سوف يبحث عن منفعته لا عن علاج المرضى، لأن همه الأساس منفعته وبالتالي سيقدمها على أي شيء آخر2.
 
نعم باستطاعة المسلمين تأسيس الجامعة الإسلامية المتميزة، من خلال التأكيد على القيم المعنوية في عملية التعليم والتربية، عند ذلك "سيتخرج منها الأفراد الذين سيحمون وطنهم وسيعتمدون على أنفسهم وليس على الخارج، وسوف يكون هؤلاء الأفراد مميزين إلى حدٍّ أن جميع مسلمي العالم سيأوون إليكم"3.
 
2 - الاستقلال وعدم الاعتماد على الخارج
 
وهي خطوة تهدف إلى استقلال الجامعة وعدم تبعيتها الثقافية، وهي الحالة التي كانت عليها الجامعة قبل الثورة بل حتى منذ تأسيسها في إيران وحتى بلوغ الثورة منعطفاتها الخطيرة. وقد أولى الإمام الخميني هذا الشأن اهتمامه بعدما كان وجد خطورة الثقافة المتسللة من الخارج، وهو ما كان يشكل له على الدوام قلقاً غير متناهياً لدرجة شعوره بثقل الخطر الذي يتهدد
 
 

1- المصدر نفسه، ص202.
2- المصدر نفسه، ص203.
3- المصدر نفسه، ص203.

 
 
 
 
 
 
 
120

110

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 المجتمع الإيراني بحال استمرت الجامعة على ما هي عليه.

 
يقول الإمام قس سره:
 
"إننا لا نخشى الحصار الاقتصادي، ولا نخشى التدخل العسكري، بل ما نخشاه هو التبعية الثقافية. إننا نخاف الجامعة الاستعمارية التي تربي شبابنا ليكونوا في خدمة الغرب ومن الجامعة التي تربي شبابنا ليكونوا في خدمة الشرق"1.
 
ندرك كلام الإمام الخميني قدس سره من خلال ما تكشفه العلاقة التاريخية التي ارتسمت منذ اصطدام العالم الإسلامي بالاستعمار ليس في إيران وحسب، وإنما في مجمل الدائرة الجغرافية التي طالتها يد المستعمرين. لقد وعي الاستعمار خطورة دور الجامعة بعدما ووجه بالرفض والمقاومة. هذا الرفض كان جراء موقف الشعوب الرافضة بطبيعتها للآخر الأجنبي الساعي إلى نهب خيراتها. لقد كان البديل عن تحمل المواجهة محاولة الاستعمار التغيير الثقافي من الداخل وهو تغيير يستوجب التأسيس على نحو خاص فكانت المدرسة والجامعة خير سبيل في هذا المجال. وقد ساعد في هذا الأمر أن الحكومات والسلطات الوطنية التي نشأت بفعل التدخل الاستعماري عملت عبر هؤلاء على المساهمة بفتح الجامعات الخاصة ومن ثم التعاون في بناء الجامعات الوطنية كشكل من أشكال التعاون غير البريء والإيحاء بالدور الحضاري الناتج عن تعميم ثقافة الحضارة ونقلها إلى البلدان المستعمرة بحجة الإسهام في التنمية والابتعاد عن الجهل والتخلف. وساهم في ذلك أيضاً حال التردي والتراجع
 
 
 

1-  منهجية الثورة الإسلامية ، ص274.
 
 
 
 
 
 
121

111

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  المشفوع بالأمل في اللحاق بركب الغرب، الأمر الذي أدى إلى الانطلاق من المناخات الملائمة لبناء الجامعة، في حين أن نجاح التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي كان قد شكّل موئلاً للاستلهام لدى بعض النخب التي تطلق العنان نحو الدعوة إلى بديل حضاري آخر بعدما كانت قد وجدت أن التجربة الرأسمالية يشوبها الكثير من العيوب. وبين هاتين الرؤيتين كانت الجامعة في عموم العالم الإسلامي قد رزحت التبعية عقوداً طويلة دون أن يتحقق النجاح في تحقيق أي من النموذجين، بل على العكس رزحت تلك البلدان تحت نير التبعية واستمر التخلف ولم تلحق الجامعة بركب التطور ولم يلحظ لها تأثير يعتد به في مجال التطوير الاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى استمرار التبعية، مع الحرص الشديد للدول المستعمرة على الإبقاء على الأطر التي من شأنها تسهيل هيمنتها على تلك الشعوب.


لقد كانت إيران بين تلك الدول التي عانت من التبعية للغرب سواء من خلال شاهها ونظامها وجامعاتها، أم من خلال الأساتذة المنبهرين بتجربة الاتحاد السوفياتي. لقد أدرك الإمام الخميني قدس سره الدور الخطير الذي تلعبه الجامعة في دوام ارتهان البلدان وخصوصاً إيران لهذه التبعية.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني قدس سره:

"ليس صدفة أن تتعرض مراكز التربية والتعليم في الدول بما فيها إيران من الابتدائية حتى الجامعة لهجوم المستعمرين وخاصة الغربيين وأمريكا والاتحاد السوفياتي أخيراً. وكانت ألسنة وأقلام المتغربين والمتشرقين في الجامعة طيلة تأسيسها، وخاصة في العقود الأخيرة، قد قدمت الخدمة الكبيرة
 
 
 
 
 
 
122

112

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  للغرب والشرق"1.

 
إزاء ذلك، ومن خلال معرفة وإدراك الإمام لحيثية الدور التاريخي الذي اضطلعت به الجامعة، كان لا بد من الدعوة إلى استقلالها، وتكييفها مع أصالة الإسلام كدين عالمي وبما ينبغي أن يعبر عن رؤيته الحضارية التي استلهمها من منطلقات الإسلام في تصوره لبناء المجتمعات.
 
ليست الرؤية التاريخية للإمام هي ما دفعه نحو الدعوة إلى استقلال الجامعة وإنما دورها الذي استمر ولو بنحو ضئيل بعد الثورة. يقول في هذا الصدد:
 
"مع الأسف وبعد ثلاث سنوات على انتصار الثورة، والمقاومة ووقوف الجمهورية الإسلامية إزاء الشرق والغرب ومدارسهم المنحرفة، ووفاء هذه الجمهورية للإسلام الذي يرفض جميع التبعيات، فلا نزال نعاني من المجموعات والفئات المرتبطة بأحد القطبين والمستسلمة للمدارس المنحرفة والمرتبطة بإحداها"2.
 
غاية الأمر أن الدعوة لاستقلال الجامعة لا تبنى على التمني أو لعلى مجردالوعي الناتج عن خطورة الاستمرار بالتبعية، وإنما من خلال خطوات أخرى لا بد لها أن تسير وفق رؤية وقواعد متدرجة لا بد من العمل عليها لتحقيق هذا الاستقلال.
 
من مظاهر الارتباط بالغرب الرأسمالي التي يقدمها الإمام الخميني قدس سره 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص274.
2- المصدر نفسه، ص275.

 
 
 
 
 
123

113

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 عن واقع إيران قبل الثورة الإسلامية، تدمير الجيل الشاب، وانعدام التنمية، وتدمير الملكات الفكرية والإنسانية والتبعية الاقتصادية ونهب بيت المال وغير ذلك من مظاهر لم تكن الحضارات السابقة التي تعامل معها الإسلام قد وصلت إليها الحد، حين تفاعل الإسلام مع الحضارات الفارسية واليونانية وغيرهما دون أن تتغير الخصائص الذاتية للمسلمين. ولم تؤدِّ إلى تدمير ثقافتهم سواء كان هذا الأمر جراء الروح الثقافية السائدة والتي بقيت هي المحرك للمجتمعات الإسلامية، أم جراء عدم وصول تلك الحضارات إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية من قدرة على إلغاء الخصوصيات الثقافية إبقاءً لعلاقتها القائمة على الاستتباع الحضاري.

 
الإمام الخميني قدس سره يرى "أن الثقافة هي أساس الشعب وأساس استقلاله، وهو ما حاول المستعمرون العمل عليه لمنع بناء الإنسان فخططوا للتعليم بشكل لا يحدث أي نمو علمي، ومارسوا دعاياتهم كي يخاف الشعب الإيراني من نفسه ولا يعتمد على ذاته. لقد أشرف الأجانب على الجيش وعلى النفط وغسلوا العقول. أرادوا أن لا يصلح الإنسان في عموم دول الشرق لأنه لو ظهر الإنسان فإنه لن يستسلم للظلم وسوف لن يقدم مصالح بلاده للأجنبي"1.
 
لقد اعتمد الاستعمار في سبيل ذلك على وسائله الخاصة بهذا المجال فضلاً عن مساعدة الحكومات والأنظمة التابعة. وفي معرض استدلاله يقدم الإمام الخميني أمثلة عن عدم الاستقلال من واقع إيران قبل الثورة يقول: "يوجد في بلادنا بين 45 إلى 60 ألف مستشار أمريكي وإن قدرة البلاد بيدهم ولو 
 
 
 

1-  منهجية الثورة الإسلامية ، ص182.
 
 
 
 
 
 
 
124

114

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 كانت إيران قوية ومستقلة لما سمحت بذلك"1. وقد ساعد على تفاقم دور النفوذ الاستعماري إعانة النظام وارتهانه إلى الحد الذي باتت معه التنمية في البلاد معدومة، فالاقتصاد بأجمعه مدمر ويعاني من الانهيار. لقد كانت الحكومة التابعة لنظام الشاه توهم الناس بإصلاح الاقتصاد فكان برنامجها هو التدمير، فقط "لقد أقرت البرامج الإصلاحية باسم إصلاح الأراضي سوقاً لأمريكا التي تمتلك فائضاً من القمح، وهي التي تريد إبقاء الزراعة في إيران وجميع الدول الأخرى التي تقع تحت نفوذها مدمّرة ومنهارة حتى تبقى تابعة.لقد وصلت البلاد إلى الحد الذي تستورد فيه كل شيء من الخارج، بعدما تم القضاء على تربية المواشي، وتم القضاء على الزراعة خلال خمسة عقود في حين كان يتعين على إيران تصدير ملايين الأطنان"2.

 
وقد حاول الاستعمار نهب بيت المال إلى حد صراخ الحكومة بأن الميزانية قليلة علماً أن عائدات إيران لم تكن قليلة لاسيما ميزانية النفط التي كانت تتسرب بفعل خيانة الملك الذي أراد صب ثروة النفط في حلقوم الأميركيين. يعطي الإمام الخميني قدس سره بعض الشواهد على هذا النهب بقوله "لاحظوا أنهم (أي حكومة الشاه) اشتروا أسلحة بقيمة 18 مليار دولار لكي تبني أمريكا قاعدة لها للوقوف بوجه المنافس السوفياتي. إنهم يبنون قاعدة لأمريكا بأموال هذا الشعب"3.
 
وإن هذا الحال لم يكن ليتم فقط وفق هذه الأساليب وإنما تعزز بفعل
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص181.
2- المصدر نفسه، ص180.
3- منهجية الثورة الإسلامية ، ص182.

 
 
 
 
 
125

115

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 التدمير المنهجي لثقافة المجتمع عبر تغيير الأجهزة المسؤولة عن التربية والتعليم إلى أجهزة مضادة لها. بل إن كل الأساليب والوسائل التي تعمل على التنشئة باتت تسير وفق الرؤية التي تصب في مصلحة الغرب. هذه الوسائل يجدها الإمام الخميني في الوسائل والمناهج التعليمية التي تقوم على شهوات الفرد وانحرافاته فضلاً عن المجلات التي كان ينبغي لها الوقوف على مصالح المجتمع وتربية الجيل الشاب ومثله يقال عن السينما وانتشار مراكز الفساد التي كادت تقضي على أصالة الشباب والتي باتت موجودة في طهران أكثر من وجود المكتبات1.

 
يعرّج الإمام الخميني قدس سره من وصف حال إيران، إلى وصف حال البلدان الإسلامية التي تعاني وبسبب ضعف الإدارة وصنعاً مؤسفاً، هو ما يتطلب وفق رأيه تقديم برامج ومشاريع تصون مصالح المحرومين والمستضعفين يقدمها علماء الإسلام والباحثون والخبراء المختصون لإحلالها محل النظام الاقتصادي غير السليم المخيم على العالم ومواجهة الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي،وهي بنظر الإمام في حال قدمت تعتبر أكبر هدية وبشرى لانعتاق الإنسان من أسر الفقر والفاقة2.
 
وبما أن المعركة هي معركة حضارية بامتياز ولا تختص ببلاد المسلمين وحدهم، يرى الإمام الخميني أن إحدى القضايا المهمة جداً التي تقع على العلماء والمختصين هي المواجهة الجدية مع الثقافتين الاقتصاديتين الظالمتين
 
 
 

1- لمصدر نفسه، ص177.
2- المصدر نفسه، ص498.
 
 
 
 
 
 
 
126

116

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  ومكافحة السياسات الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية في المجتمع، رغم ابتلاء جميع الشعوب بها والتي فرضت العبودية الجديدة على جميع الشعوب بحيث أصبحت غالبيتها اليوم ترتبط بأسياد القوة والمال أصحاب القرار حول شؤون الاقتصاد العالمي الذين انتزعوا زمام المبادرة من الشعوب رغم مصادرها الطبيعية وأراضيها الخصبة والشاسعة بأنهارها وبحارها وغاباتها وثرواتها الطائلة وأمسكوا بعصب الاقتصاد العالمي عبر إيجاد المراكز الاحتكارية المتعددة الجنسيات وربطوا جميع طرق الإنتاج والتوزيع والعرض والطلب وحتى أعمال الصرف والتسعير بأنفسهم وأقنعوا الشرائح المحرومة، بأفكارهم وأبحاثهم المصطنعة، بوجوب العيش تحت نفوذهم وأنه لا سبيل للحفاة والفقراء سوى العيش بفقر وفاقة في حين ضاقت الدنيا بقلة محدودة بسبب الإسراف والتخمة والتبذير وهذه مأساة فرضها الطغاة على البشرية1.

 
إزاء ذلك كان الإمام الخميني قدس سره حريصاً على حث المثقفين علىالاضطلاع بدور حضاري إنساني وعالمي فهو يقول "يجب على المثقفين ومن خلال الوعي والعلم أن يسلكوا الطريق الصعب لتغيير عالم الرأسمالية والشيوعية وأن يرسموا الطريق المطلوبة للشعوب الإسلامية المطلوبة ولشعوب العالم الثالث"2.
 
هكذا يُّفهم من دعوة الإمام الخميني قدس سره استقلال الجامعة عن الغرب
 
 
 

1- المصدر نفسه ، ص497.
2- منهجية الثورة الإسلامية ، ص277.

 
 
 
 
 
127

 


117

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 أو الشرق وأنها إحياء لتلك العلاقة بين الإيمان والعقل، بعدما كان الغرب والشرق قد جافيا الدين في إطار تحولهما الحضاري إلى البعد المادي الذي طبع تلك الحضارة، انطلاقاً من النظرة المادية للإنسان ومحوريته في الكون فتحولت النظرة المادية إلى طريقة حياة تحكم سلوك الإنسان وعلاقته الاجتماعية وسلوكه الاستهلاكي انطلاقاً من منظومة قيمية مادية صرفة. في الشرق الشيوعي أخضعت الدولة المجتمع إلى أيديولوجيتها المادية، وفي الغرب بدت الدولة صورة مطابقة في مؤسساتها ومصالحها وتشريعاتها وقوانينها للمنظومة القيمية التي طبعت الأفراد لكي تكون متناسبة مع قناعاتهم المادية. إن محاولة الإمام الخميني قدس سره معاودة الربط بين الإيمان والعقل هي من قبيل الدعوة الى استعادة رؤية الإسلام للتوازن المطلوب بين ما هو روحي وما هو مادي ومن ثم توجيه الرؤى نحو تقديم الإنجاز الحضاري الخاص للتأكيد علىأن معيار التطور الحضاري وإن قام لدى الغرب على تلك القطيعة بين الإيمان الديني والعقل، فإنه لا يعبر بالضرورة عن السنن الكونية الحضارية حيث قامت الحضارة الإسلامية في المراحل السابقة على هذه المزاوجة، في حين تحفل كتابات مفكري الغرب أنفسهم منذ قيام النهضة الأوروبية بنقدها الفهم اللاهوتي للدين المسيحي في القرون الوسطى وعجزه عن تقديم إجابات مقنعة حول الاكتشافات العلمية المذهلة للعلماء وعدم قدرة المسيحية على مواكبة التطور. لقد خضعت هذه العلاقة بين الدين والعلم في الغرب لقمع وانعزال متبادل بسبب قمع الدين لنتاجات العلم في العصور الوسطى وهو ما أعاق حرية العقل والتفكير وأدى إلى عزل الدين وعدم مواكبته للتطور الذي

 

 

 

128


118

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 أصبح معقود اللواء للعقل المادي.

 
في حين تختزن آراء الإمام الخميني قدس سره الدعوة إلى إعادة الالتصاق بين الدين والعلم فلا قمع للعلم باسم الدين ولا حالة إزدراء من قبل العلم للدين وعزله أو دعوة لانعزاله عن الواقع الاجتماعي والحضاري. وهذه المزاوجة هي دعوة حضارية أيضاً تطرح في مقاربة الرؤى العالمية على المستوى التنظيري ومن ثم إشفاعها بتقديم النموذج الحضاري الذي يمكن لإيران الإسلام أن تقدمه كتجربة للاستلهام بشكل مغاير لحضارة الغرب في ادعائها العالمية، في حين تتغذى على نهب خيرات الشعوب التي يراد لها البقاء على حالها طالما تؤمّن مصالح الغرب. في حين تزداد الهوة الحضارية بفعل اقتناع المسلمين بهذا العجز الحضاري، والرضى بمشاركة المستعمر جراء افتقاد الوعي الذاتي وإعانته على النهب من خلال القعود والتسليم بهذا العجز.
 
قد يسود الاعتقاد أن دعوة الإمام الخميني قدس سره هذه للاستقلال عن الشرق أو الغرب، ما تخالف بعض ما ورد في السنة النبوية عن طلب العلم ولو كان في بلاد الصين وهي بلاد لم تكن بطبيعة الحال تدين بالدين الإسلامي، وإن التجربة التاريخية للمسلمين في بناء حضارتهم الخاصة إنما كانت بفعل الاحتكاك بغيرهم. فهناك بعض المفكرين ممن يعبرون عن ذلك بالقول إن العرب مع بداية الدعوة وبعدها لم يكونوا يمتلكون تراثاً حضارياً خاصاً بهم في المجالات الإبداعية التي تعتمد على الإنسان مثل العمارة أو النحت، في حين أن المسجد النبوي الذي أسسه الرسول‘ بعد الهجرة كان يتسم بالبساطة ولم تعرف له مئذنة ولا قبة كما هي حال مساجد اليوم. كما أن الجزيرة
 
 
 
 
 
 
129

119

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  العربية كانت تخلو من الأبنية الفخمة كما هي حال بلاد الفرس واليونان، وإن العرب لم يستطيعوا بناء حضارتهم إلا بعد الاحتكاك بالفرس والروم في بلاد الشام، وإن سيادة روح التسامح التي تبناها خلفاء بني العباس لعبت دوراً كبيراً في دفع المسلمين إلى تقبل مفاهيم الحضارات الأخرى خاصة بعد عصر الترجمة ومزج هذه المفاهيم بالروح الإسلامية، ومن ثم تقديم حضارة جديدة خاصة بالمسلمين للعالم غير الإسلامي. ومن ينظر إلى زخرفة المساجد يجد فيها روحاً فارسية جاءت انعكاساً لروح الحضارة الفارسية في الفرس الذين اعتنقوا الإسلام. في حين أن فخامة المآذن والقباب والعمارة مأخوذة من التراث اليوناني والروماني. ويلاحظ في هذا الصدد اختلاف المساجد في فخامتها بين العصرين الأموي والعباسي إذ إن المساجد في العصر العباسي تحمل في فخامتها الأبهة الفارسية1.

 
قد يصح ما ورد في هذه السطور من ادعاء، ولكنه يفتقد إلى دقة المقاربة العلمية في حال التعميم أو المقارنة مع عصرنا الراهن حيث تسود أزمة العلاقة الحضارية مع الغرب. فالمسلمون سبق لهم الاستفادة من الحضارات الأخرى، ولكنهم أبدعوا في مجالات بعض العلوم وتفردوا بها كالطب والفلك والرياضيات والبصريات وغيرها. وهم حين الاحتكاك بالحضارات الأخرى، لم يشعروا بذلك العجز الحضاري أمام الحضارات المحيطة أو البعيدة. كما إن تلك الحضارات لم تكن تحمل في ذاتها دعوة عالمية على غرار الغرب كما هو اليوم حيث دأب الغرب على توظيف الحضارة في تورية أيديولوجية تستهدف
 
 
 

1- د. أحمد البغدادي، تجديد الفكر الديني، دار الانتشار العربي، لبنان 2998، ص28.
 
 
 
 
 
 
 
 
130

120

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

  تهذيب النهب وتسويق الغلبة. هذه الأيديولوجية قسمت العالم إلى عوالم أولى وثانية وثالثة، وعلى أساس هذا التقسيم شرع االغرب بإقامة نظامه العالمي منذ بداية التاريخ الاستعماري ووفق قاعدة المركز الذي هو الغرب ومن ثم الأطراف وفق مفهومه النابع من ذهنية تاريخية قامت على مفاعيل الثروة والقوة وتغذت دائماً من المادة، فكانت عالميته بحاجة وجودية دائمة لا يستطيع الغرب الحياة بدونها، وهي حاجته لخارج ينهبه بعدما بنى ذاته كمؤسسة عالمية للنهب والسيطرة وفق برنامج عمل ثابت في تحديده للأهداف المتناسبة مع الثروة المفقودة في الداخل التي تدفعه دوماً نحو الخارج، ومن أجلها استباح ثروات العالم وخص بها نفسه دون سواه1.

 
من هذه الرؤية لا يمكننا أن نعد دعوة الإمام الى استقلال الجامعة دعوة تستبطن الانغلاق الفكري والثقافي وعدم الإفادة أو الاستفادة من تجارب الإمم, بل أتى هذا التأكيد على استقلال الجامعة بإعتبارها النواة التي تتشكل منها الدولة, لذا سعى الإمام إلى تأمين استقلالها الفكري والعلمي, لأن ذلك من شأنه أن يؤمن استقلال الأمة, وهذا الأمر يبدأ من الاستقلال الفكري "لو كانت ثقافة مجتمع ما مرتبطة بالثقافة المخالفة وتستلهم منها، فإن الأبعاد الأخرى لذلك المجتمع ستميل بالضرورة إلى الجانب المخالف... وتفقد وجودها في جميع الأبعاد. إن موجودية أي مجتمع واستقلاله ينشأ من استقلاله الثقافي، وإن من السذاجة أن نتصور إمكانية تحقيق الاستقلال في الأبعاد الأخرى، أو في واحد منها مع وجود التبعية الثقافية"2.
 
 
 

1- د. علي الشامي، الحضارة والنظام العالمي، مصدر سابق، ص86.
2- منهجية الثورة الإسلامية، ص352.
 
 
 
 
 
 
 
131

121

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 من هذه الرؤية كان ينظر الإمام إلى ساحة الصراع إلى أن المستكبرين استهدفوا ثقافة المجتمعات وإذا ما تمت السيطرة على الثقافة فإن هذه المجتمعات ستصبح تابعة لهم وتؤمن منافعهم لذلك كان الإمام يتواضع للسواعد التي تعمل على إحداث أي نوع من أنواع الاستقلال في الأمة.


 
"إنني أقبل أيدي وسواعد كل الذين يعملون بإخلاص ودون ادعاء من أجل استقلال البلاد واكتفائها الذاتي"1
 
كان الإمام يعتقد أن السير في هذا الطريق وإن كان طويلاً لكننا في نهاية المطاف سوف نجد أنفسنا نقف على أقدامنا، مستقلين لا نحتاج إلى الشرق ولا إلى الغرب.
 
3 - الجامعة النموذجية
 
يأمل الإمام بصفته الأب لهذه الثورة والدولة معاً أن يجيىء اليوم الذي نحصل فيه على الجامعة النموذجية, وقد اعتبر أن هذه الجامعة أن يجب تتمتع بالصفات التالية:
أن تعمل على تبني وترويج الثقافة الإسلامية في الجامعات، هذا التأكيد سينعكس على إيمان الفرد بقدراته الذاتية على النهوض.
 
"ينبغي لكم أيها الطلبة الجامعيون الأعزاء أن تفكروا بكيفية التخلص من هذا التغرب والعثور على ما ضيعتموه، إذ إن الشرق (المسلم) 
 
 
 

1-  المصدر نفسه، ص353.
 
 
 
 
 
 
 
132

122

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 ضيع ثقافته الأصلية، وينبغي لكم يا من تريدون أن تكونوا مستقلين وأحراراً أن تقاوموا، ويجب على جميع الفئات أن تبني على أن تكون هي بنفسها"1.

 
ويبين الإمام أن الاستعمار عمل ليس فقط على أن لا تحتفظ الجامعة بثقافتها الدينية وإنما حاولوا وضعها في مقابل الدين وذلك بوضع علماء الدين مقابل الجامعيين ووضع الجامعيين مقابل علماء الدين2.
 
فالإمام يرى أن كثيراً من المصائب جاء نتيجة بعد الحوزة والجامعة عن بعضهما بعضاً، فلم يسمحوا لهما حتى بالالتقاء وجعلوهما ينظران إلى بعضهما بعين الريبة، وهل يمكن لشعب يرتاب أبناؤه أن يفعل شيئاً؟
 
"والمصائب التي عانينا منها ونعاني منها الآن كانت لأننا بعيدون عن بعضنا بعضاً، فنحن وإياكم لم نتحدث معاً في محفل من المحافل لنرى ما نقوله نحن وما تقولونه أنتم. لقد كنا بعيدين عن قضاة العدلية، كنا بعيدين عن الجامعة، لقد جعلوا الجامعيين في وضع دفعنا لإساءة الظن بهم، وجعلونا بوضع جعل الجامعيين يسيئون الظن بنا، لقد كنا متفرقين"3.
 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية ، ص354.
2- صحيفة النور، ج6، ص131.
3- صحيفة النور، ج6، ص191.
 
 
 
 
 
 
133

123

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 4 - قطع الاحتياج العلمي والعملي بتأمين أفراد على كافة المستويات في مجالات الاختصاص:

 
"يجب أن تكون الجامعة مستقلة لا تحتاج لعلم الغرب. علماؤنا يجب أن لا يخافوا من الغرب"1. ينبغي أن تعمل الجامعات على تأمين التخصص العلمي الذي يحتاج إليه المجتمع "إذا خلت الجامعات من العلماء والمتخصصين، فإن الأجانب والنفعيين سيمدون، كالسرطان، جذورهم إلى كل أرجاء البلد ويقبضون على زمام شؤوننا الاقتصادية والعلمية ويسيطرون عليها”2.
 
وفي موضع آخر يقول:
 
"أهم عامل في بلوغ الاكتفاء الذاتي والبناء هو تنمية مراكز العلم والبحث وتركيزها وتوفير الإمكانات والتشجيع بكل جوانبه للمخترعين والمكتشفين والقوى الملتزمة والمتخصصة ممن لديهم الجرأة على مكافحة الجهل، وممن حرروا أنفسهم من قيد النظرة الأحادية نحو الغرب والشرق، وأظهروا قدرتهم على إقامة البلد على قدميه"333
 
5 - التأكيد على خلق مناخ آمن في الجامعات.
 
أكد الإمام على توفير مناخ هادئ في الجامعات حتى يستطيع المفكرون طرح أفكارهم في أجواء سليمة وحتى يتسنى لمفكرينا أن ينقلوا أفكارهم إلى الأجيال الجديدة ليتخرجوا فيما بعد علماء ومتخصصين، فمن الطبيعي أن
 
 
 

1-  الجامعة والجامعيون في فكر الإمام الخميني قدس سره, ص 209 إلى 211
2- صحيفة النور، ج18، ص133.
3- صحيفة النور ، ج14، ص278.
 
 
 
 
 
 
 
134

124

القسم الثاني: رؤية الإمام للجامعة على ضوء المشروع الحضاري الإسلامي

 الجو المسموم يمنع الأساتذة والمفكرين من تربية الطلاب بطريقة صحيحة في اتجاهي التخصص والتهذيب.

 
"لكي نصل إلى تطور الأفكار وإلى جامعة جيدة وإسلامية، لا بُدَّ من استتباب الهدوء فيها، وإذا كانت هناك أفكار وعقائد متنوعة ومتعددة ـ وهي موجودة فعلاً يراد لها أن تطرح على الطلبة- فلا بد أن يهيأ جو مناسب ليستطيع أصحاب تلك الآراء عرضها في محيط هادئ وبحضور المفكرين الإسلاميين"1.
 
بهذه المواصفات ستكون الجامعة مفيدة للأمة جمعاء، جامعة تحوي مراكز التخصص العلمي لصنع الإنسان بكل ما للكلمة من معنى، الإنسان المتحضر والمتعلم والمتخصص.ويرجو الإمام أن يأتي هذا اليوم الذي سيتوجه فيه الطلبة من كل أماكن العالم للدراسة في إيران,حينها ستتحول الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى مركز الإشعاع الفكري والحضاري في العالم وستستعيد الأمة الإسلامية أوج تألقها، عندما تملأ الهوة التي أرساها الغرب بيننا وبين ثقافتنا وواقعنا.
 
 

1- المصدر نفسه، ج12، ص54.
2- المصدر نفسه، ج10، ص58.
 
 
 
 
 
 
 
135

125

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 القسم الثالث:




الأستاذ والطالب في فكر
 الإمام الخميني قدس سره




بقلم : د. علي الحاج حسن
 
 
 
 
 
 
 
137

126

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الفصل الأول :

الأستاذ الجامعي في فكر الإمام الخميني قدس سره

رسمت كلمات الإمام الخميني قدس سرهالتي تتعلق بالجامعة على وجه العموم والأستاذ الجامعي على وجه الخصوص، المعالم الأساس لحقيقة الأستاذ الجامعي والدور الذي يجب أن يقوم به وما هو المتوقع والمنتظر منه. وبالتالي يمكن قراءة واقع الرؤية الإسلامية للأستاذ الجامعي من خلال هذه الكلمات.

وإذا كان الإمام? تحدث في مناسبات عديدة حول الموضوع، فإنه بالإمكان ومن خلال رؤية تحليلية الوقوف على النقاط الرئيسة التي تشكل فكره فيما يتعلق بالأستاذ الجامعي. ومن هنا كان لا بد من التحدث حول عناوين عدة.

1 - دور أستاذ الجامعة والمسؤولية الملقاة على عاتقه

تتراوح الأفكار التي عرضها الإمام حول دور الأستاذ الجامعي ومسؤوليته بين الجانب التربوي والتوعوي والمساهمة في الحفاظ على الدين والبلد وتقديم المعارف الضرورية لنهوض الأمة وبالتالي المساهمة في الرقي النوعي ومواجهة الانحرافات التي قد تسببها بعض السياسات والمناهج التي كانت تسيطر على الجامعات.
 
 
 
 
 
 
 
138

127

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 أ- الدور التربوي والتوعوي

 
أكد الإمام في العديد من كلماته على هذا الدور وطالب أساتذة الجامعات بالوقوف عنده ملياً، فالأستاذ عليه أن يعمل جاهداً لإيصال الحقائق إلى الطالب، وعلى الأستاذ أن يتحمل مسؤولية تربيته، تربية إسلامية صحيحة. يعتقد الإمام أن التربية الإسلامية الصحيحة تحمل في طياتها الكثير من الفوائد والمصالح. يقول الإمام قدس سره: "لو تلقى المسلم تلك التربية التي يريدها الإسلام، فلن يخون وطنه، ولن يخون أخاه، وجاره وابن وطنه. بل الخيانة تنتفي كلياً من حياته العملية. ويجب أن نسعى لإيجاد أشخاص صالحين"1.
 
ويبين الإمام قدس سره أهمية التربية عندما يعتبرها عملاً امتهنه الأنبياء، لا بل والأولياء والفلاسفة والمفكرون. وهي بذلك مسؤولية كبيرة لا تصل إليها أي مسؤولية أخرى. وقد أوضح دور هذه المسؤولية عندما اعتبره تصب في مسألة صناعة الإنسان وهي مسألة شديدة الحساسية والأهمية لأن صناعة الإنسان تؤدي إلى صناعة المجموع والأوطان2.
 
ويترتب على عدم الاطلاع الصحيح على هذه المسؤولية ممارسة أكبر خيانة بحق الأنبياء، لا بل هي خيانة لله تبارك وتعالى. فإذا لم نعمل على التربية، فهذا يعني وجود أشخاص منحرفين.
 
في هذا الإطار يتوجه الإمام قدس سره مباشرة إلى العلماء وأساتذة الجامعات معتبراً أن مسؤولية هاتين الطائفتين أكبر بكثير من جميع المسؤوليات التي
 
 
 

1-  كتاب: "صحيفة نور"، ج6، ص477. هذا الكتاب عبارة عن مجموعة خطابات الإمام الخميني قدس سره قدس سره.
2-  صحيفة نور، ج7، ص428.
 
 
 
 
 
 
 
 
139

128

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 يضطلع بها الآخرون. والسبب أن عملهما شريف إذا كان يؤدي إلى صناعة الإنسان الذي تتوقف مقدرات الوطن عليه1.

 
ب- المشاركة في الحفاظ على الدين والوطن
 
يؤكد الإمام على ضرورة العمل من أجل الحفاظ على دين الأفراد بما يساهم في سلامة الوطن. فإن انحراف الإنسان الجامعي ليس كانحراف التاجر... وانحراف العالم غير انحراف باقي الأفراد في المجتمع. والحقيقة أن انحراف مجموعة، ستقوم بإدارة البلد في المستقبل، يؤدي بدوره إلى انحراف الأمة كل الأمة2.
 
نجد الإمام قدس سره يحاول الربط بين التربية الإسلامية الصحيحة التي تكون نتيجتها امتلاك الأفراد ديناً واقعياً وإيماناً حقيقياً، والمساهمة في إدارة البلد ورفده بعوامل التقدم والرقي، وهذا بدوره يؤدي إلى قيام الأفراد بكامل مسؤولياتهم تجاه وطنهم، وهكذا نتمكن من الحصول على وطن قويم وإدارة سليمة. في هذا الإطار يطلب الإمام من أستاذ الجامعة العمل على مواجهة الانحرافات. فالمنحرف لا يمتلك منطقاً قوياً، حيث يتمكن أستاذ الجامعة العارف بمسؤولياته من الوقوف في مقابله بالحوار والنقاش ورد ادعاءاته. ولعل هذه الخطوة الأولى في الحفاظ على التدين3. ويساهم هذا الأمر
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص467.
2- المصدر نفسه، ص468.
3- المصدر نفسه، ج9، ص543.
 
 
 
 
 
 
 
 
140

129

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  وبشكل أساس في الحفاظ على المقدرات العلمية وصيانة العقول البشرية التي يحتاجها الوطن: " يجب أن نسعى في الحفاظ على أذهان الشباب، ليتمكنوا في المراحل اللاحقة من الدفاع عن وطنهم"1.

 
ج- الخطوات العملية المطلوبة
 
إذا كان الحفاظ على الدين وبناء الوطن يتوقف على صناعة الفرد، وإذا كان الأستاذ الجامعي يساهم بدوره في هذا العمل العظيم، هنا نرى الإمام يدعو الأستاذ الجامعي طالباً منه وضع يده في يد العالم الحوزوي لإيجاد الإيمان عند الجيل الذي سيتولى مسؤولية الوطن في المستقبل. ويتوقف هذا الأمر على أن نقوم (الحوزوي والجامعي) بدورنا ومسؤوليتنا بشكل صحيح2. إن القيام بالمسؤولية بشكل صحيح ولائق والعمل على توأمة العلم والإيمان يؤدي إلى وجود أشخاص لائقين. وأما إذا كنا غير ذلك فقد يكون من بين الأفراد التي تربوا على أيدينا من هم فاسدون، ثم يصلون إلى المراتب العالية, فبعضهم قد يصبح رئيس جمهورية، أو وزيراً... في هذا الإطار شدد الإمام على مهمة الأستاذ الجامعي في إيصال التربية الإنسانية والإسلامية وهذا يعني أن الأستاذ سيكون شريكاً في كل عمل سيصدر عن الأفراد الذين تربوا ودرسوا على أيدينا3.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج11، ص401.
2-  المصدر نفسه، ج7، ص473.
3-  المصدر نفسه، ج14، ص33-35.
 
 
 
 
 
 
 
141

130

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 يجب على الأستاذ أن يدرك أنه يحمل أمانة كبيرة. وعلى الأستاذ أن تنبع روح الإيمان والتدين والإخلاص من خلال عمله العلمي، وليس هذا بالأمر السهل. قد يعتقد الأستاذ أنه يقوم بتقديم العلوم فقط، وقد يدعي أستاذ الدين، أن وظيفته تدريس الدين وهذا قد يكون خطأً إذا لم يلتفت إلى الأخلاق والروح الإسلامية التي يجب أن تنبع من ممارسة عمله العلمي.

 
في المجال العملي أيضاً يؤكد الإمام على ضرورة أن يقوم الأستاذ بتحرير ذهن الشباب من التبعية للشرق والغرب. يقول الإمام قدس سره: " نحن لا نخالف أي نوع من أنواع التخصصات، بل نحن نخالف أن تصبح أذهان شبابنا أسيرة للخارج"1. عندما يؤكد الإمام على هذه الأمور فهو يعتقد أن الاستقلال الفكري، والاكتفاء الذاتي من جميع النواحي يتوقف على الدور الذي يمارسه الأستاذ على مستوى الأذهان.
 
د- مواجهة الانحرافات
 
يتوجه الإمام إلى الأستاذ الجامعي طالباً منه مواجهة الانحرافات ومواجهة حالات عدم المبالاة التي قد تكون منتشرة في الجامعات. والأهم من ذلك يجب على الأستاذ والعالم أن لا يكونا غير مباليين بل مطلعين بشكل دقيق على وظائفهما ومسؤولياتهما وأن لا يتهاونا في مواجهة الانحرافات التي تحصل. هنا حاول الإمام توضيح قضية هامة وهي أن اللامبالاة والانحراف 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص360.


 
 
 
 
 
 
142

131

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 يؤديان إلى فقدان الوطن. وإذا لم يعمل الاثنان على الحفاظ على بلدهما فلن يكون هناك وطن على الإطلاق. إذاً وجود الوطن يتوقف على شخصية هذين الركنين1.

 
من جملة الأمور الأخرى التي يتوجب القيام بها في عملية مواجهة الانحراف، العمل على الإصلاح: "إن صلاح الجامعة يؤدي إلى صلاح الوطن"2، ويؤدي هذا الأمر إلى عملية تماهٍ كاملة بين الجامعة بما تملك من نخب وبين المجتمع.
 
وتبرز أهمية هذه القضية إذا ما علمنا أن المستعمرين يعملون جاهدين لتحقيق أهدافهم التسلطية من خلال تضعيف ثقافة البلد والتقليل من أهمية آدابه. ولعل الشاهد الأبرز على هذا الأمر هو الوضع المتردي الذي كانت تعيشه الجامعات في فترة ما قبل الثورة، حيث كان الإصلاح مفقوداً والاستقلال بتبعه غير موجود أيضاً، وبالتالي كان الطالب يشعر منذ بداية دخول الجامعة أنه تابع فكرياً لواحدة من القوى الغربية، والسبب في ذلك هو لامبالاة الأستاذ وفقدانه الثقة بالثقافة الإسلامية وثقافة البلد: "إذا أراد شعب إيران وسائر الدول المستضعفة، النجاة من شر شياطين القوى المستعمرة، فلا مجال لذلك إلا من خلال إصلاح الثقافة والعمل على استقلاليتها، وهذا لا يتحقق إلا على أيدي الأساتذة والمعلمين الملتزمين..."3.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج15، ص251.
2- المصدر نفسه، ص429-430.
3- المصدر نفسه، ص446-447.
 
 
 
 
 
 
 
 
143

132

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 على مستوى الإصلاح ومواجهة الانحراف يجب على الأستاذ أن يقرر بشكل جدي عدم العودة إلى الوضع السابق. ويجب عليهم الانتباه إلى أنفسهم في مجال التربية والالتفات إلى وضع الشباب1.

 
هـ - الاستقلال الثقافي
 
ركز الإمام قدس سره في العديد من كلماته على موضوع العمل الجدي من أجل الوصول إلى الاستقلال الثقافي ودور المثقفين وأساتذة الجامعة في ذلك حيث يلعب هذا العامل دوراً محورياً على مستوى تظهير الثقافة الذاتية على حقيقتها وعلى أنها وسيلة للاكتفاء الذاتي والوثوق بما نعتقد ونؤمن.
 
تنطلق رؤية الإمام قدس سره للاستقلال الثقافي من تجربة عميقة وواسعة عايش فيها ممارسات النظام وسيطرة القوى الأجنبية على جميع مقدرات البلد حيث تجلى البعد الثقافي في أكثر الصور بشاعة. من هنا رفض الانبهار بالشرق والغرب وهي عبارة كثيرة الوجود في كلمات الإمام قدس سره. ويقصد الإمام قدس سره من الانبهار بالشرق والغرب، التخلي عن ثقافتنا والارتباط بل التسليم أمام الثقافات المسيطرة على العالم.
 
يقول الإمام قدس سره: "من جملة المؤامرات التي تركت ـ للأسف ـ آثاراً كبيرة في مختلف البلاد وبلدنا العزيز، وما تزال آثارها قائمة إلى حد كبير جعل الدول المنكوبة بالاستعمار تعيش الغربة عن هويتها لتصبح منبهرة بالغرب والشرق بحيث إنها لا تقيم أي وزن لنفسها وثقافتها وقوتها"2.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج19، ص356.
2-  الوصية الإلهية السياسية، الإمام الخميني قدس سره، انتشارات اسوه-طهران، 1369 هـ.ش، ص39.

 
 
 
 
 
144

133

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 وإذا كانت الثقافة التي يمتلكها الشعب أو المجتمع هي العنصر الأساس في مقاومة أي شعب أو مجتمع في مقابل التسلط السياسي والاقتصادي للأجانب، فإن حذف هذا العنصر يدفع القوى المستعمرة والمتسلطة إلى عدم رؤية القوى المقاومة وعدم أخذها بعين الاعتبار وبالتالي يتمكن المستعمر من الوصول إلى أهدافه السياسية والاقتصادية بسهولة، حيث تعيش الأمة المغلوب على أمرها حالة من الغفلة.

 
يظهر من خلال وصية الإمام قدس سره مدى الدقة التي أظهرها في قراءة وتوضيح وتحليل هذه الإستراتيجية وتوضيحه سبب تفوق القوى العظمى. وقد أشار إلى الآثار السلبية لهذا النوع من السياسات على الشعوب الواقعة تحت التسلط والاستعمار، فعمد إلى توضيح الأساليب التنفيذية حيث يؤدي فهم المخاطبين وإدراكهم للخطر إلى انكشاف أساليب النفوذ ووسائل مواجهتها.
 
يؤكد الإمام قدس سره أن حضور الأساتذة والمعلمين المنبهرين بالشرق والغرب في المراكز التعليمية، هو من جملة الأساليب الثقافية التسلطية التي استخدمها المستعمرون ضد المجتمعات، فتُقدم ثقافتنا وحضارتنا في هكذا مراكز تعليمية على أنها أمور قديمة ارتجاعية، بعد ذلك يعمدون إلى تقديم الشرق والغرب باعتبارهما بديلين وحيدين لما تم نسخه. والنتيجة أن يتفاخر الطلاب والأساتذة والعلماء والمثقفون بتبعيتهم للشرق والغرب. ومن هنا تظهر عملية انزواء الثقافة الذاتية1.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص39-40.
 
 
 
 
 
 
 
145

134

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 وإذا كان هناك الكثير من الأمور التي تساهم في الغزو الثقافي، فإن الاستقلال يتحقق بدءً من الجامعات ومراكز التربية والتعليم ودور الأساتذة والبرامج التي تضع الجميع، تلامذةً وطلاباً، في المسير الصحيح الذي يجب أن ينتهي بمصالح البلد1. لا بل إن سلامة الاستقلال الثقافي وبقاءه إنما يحصلان في إطار الحفاظ على الجامعات ومراكز التربية والتعليم وإبقائها بعيدة عن نفوذ العناصر المنحرفة المنبهرة بالشرق والغرب.

 
2 - توقع الإمام قدس سره من أساتذة الجامعات
 
أ- إبعاد اليأس عن قلوب الطلاب
 
يؤكد الإمام قدس سره على ضرورة أن يعمل أساتذة الجامعات من أجل إبعاد اليأس عن قلوب الطلاب لما لهذا الأمر من أهمية محورية على مستوى قبول الأفكار والنظريات الإسلامية وتوضيح الواقع ودفع الطلاب إلى الثقة والإيمان بما يعتقدون. يقدم الإمام قدس سره مثالاً تاريخياً لهذه المسألة، وهو ما قدمه الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) عندما عمل على تبيين وتعيين قائد الأمة الإسلامية، فكان ذلك أساساً ثابتاً لمذهب التشيع، وقد ساهم هذا العمل في حالة الوعي التي انتشرت في العالم الإسلامي، ودفع الطبقات المثقفة إلى العمل الجدي من أجل إقامة الحكومة الإسلامية، وكأن الإمام قدس سره أراد القول إن تقديم ما يجعل الناس والأمة تعيش حالة الأمل، فهذا يعني حصول الأمر وتحققه مع انتشار الوعي2.
 
 
 

1-  المصدر نفسه، ص64.
2-  شؤون واختيارات الولي الفقيه، مبحث ولاية الفقيه من كتاب البيع، ج1ـ، وزارة الإرشاد الإسلامية.

 
 
 
 
 
 
146

135

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 ويعلق الإمام قدس سره حالة إعطاء الأمل للآخرين بأن يكون الأساتذة يعيشون حالة الأمل هذه أيضاً. فعلى الأستاذ أن يكون على درجة من الثقة والأمل والوعي حتى يتمكن من زرعها في قلوب الطلاب.


ب- إصلاح البرامج والمناهج الدراسية

إن الدعوة إلى استقلال الجامعة ينبغي أن تبدأ بعد تحديد الغاية من وجودها ومن دورها المطلوب، في سياق بناء المجتمع على قاعدة استقلالية مبادئ الثورة. ولا بد له وفق منهجية الإمام الخميني قدس سرهمن أن يبدأ من مناهج التعليم، لاسيما أن هذه المناهج فضلاً عن كونها قد شكلت على الدوام الأداة التي ينفذ من خلالها الاستعمار إلى عقول المثقفين وإلى عموم أبناء الشعب، فلا بد لها من أن توفر العامل الأساس لبناء الإنسان ولمواجهة التحديات التي ستقف أمامها الثورة، إن لناحية إعداد الإنسان العقائدي من خلال تضمنها لتعاليم الإسلام وقيمه ورؤيته في ترسيخ قواعد الأخلاق، أو انفتاحها على أفق تنمية الموارد والاقتصاد وإصلاح ما تم تدميره في زمن الشاه، ومرافقتها لسياقات التطور، والتنظيم والدراية بما يضمن حفظ النموذج الذي تقدمه الثورة. وعلى هذا الأساس ليست الدعوة إلى إدارة الظهر لمنجزات العلوم الحديثة أو إهمال الرؤى المغايرة بقدر ما هي دعوة إلى إعداد النموذج المنهجي الخاص والمترافق مع خصوصية الثورة النابعة من منطلقاتها الإسلامية، ونبذ الارتهان لما يقدمه الغرب أو الشرق من نماذج على أنها عامة وتصلح للبشرية،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

136

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  والسعي نحو إعادة بناء الإنسان في ظل خواء الجامعة وحتى المدرسة من المناهج التي تكفل إعداد الفرد إعداداً سليماً. هذا الخواء هو الذي دفع الإمام الخميني إلى القول إن هجرة الطلاب بعد طي المراحل الدراسية نحو الغرب أو نحو الشرق والذي يعد بحسب رأيه فاجعة عظيمة جعلت المجتمع الإيراني مرتبطاً بالقوى العظمى ومستسلماً لها دون قيد أو شرط، حتى بدا كأنه مجتمع إيراني إسلامي ظاهراً بينما كان محتواه ممتلئاً بالشرق والتغرب1. إذ ليس هذا الاندفاع سوى وليد ما يقدم من مناهج في التربية والتعليم وليس من المعقول وحتى بعد نجاح الثورة، بقاء تلك المناهج على حالها لأنها بالتأكيد ومن خلال معالم الارتباط بين الثقافة وارتهان المجتمع تضيع منجزات الثورة. وإن بقاء تلك المناهج على حالها سوف يؤدي إلى انحراف الجيل الصاعد الذي سيعاود الارتباط بالشرق وبالغرب في جميع المجالات إلى الحد الذي تضيع معه الجهود، ويضيع معه زخم الشعب ودماء شبابه هدراً.2

 
جراء هذه النظرة للإمام? كانت دعوته لإصلاح الجامعة. غير أن هذه الدعوة خصوصاً إصلاح المناهج، كانت قد أثارت بعض النقاشات في الأوساط الجامعية حول معنى إصلاح المناهج لاسيما أن هناك علوماً بحتة على غرار العلوم الطبيعية كالهندسة والرياضيات والفيزياء وغيرها، فهل يعني إصلاح المناهج إحلال علوم العقائد والفقه والتفسير وغيرها محلها؟ وجراء هذا النقاش كان توضيح الإمام الخميني قدس سرهحول المقصود من هذا الأمر بقوله:
 
 
 

1- الإمام الخميني منهجية الثورة الإسلامية, مصدر سابق ص 275
2- المصدر نفسه ، ص275.
 
 
 
 
 
 
 
148

137

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 " قد يتوهم بعضهم أن إصلاح الجامعات وجعلها إسلامية، يعني أن العلوم على قسمين فأحد أقسام علم الهندسة إسلامي والآخر غير إسلامي ولذلك فهم يعترضون بأنه لا يوجد في هذه العلوم ما هو إسلامي وغير إسلامي، وتوهم بعضهم أن المقصود من أسلمة الجامعات هو أن تدرّس علم الفقه والأصول والتفسير فقط، أي نفس الشيء الموجود في المدارس القديمة "1.

 
لم يقصد الإمام الخميني قدس سرهإحلال العلوم الإسلامية التقليدية محل ما هو سائد في الجامعات، ولقد بين مراده من هذا الأمر من خلال الوقوف على تجربة الجامعة بعد مضي عقود من الزمن على تأسيسها. هذا الدور كان محل تساؤل حول إنتاج الجامعة القاصر على إعداد متغربين وعدم تطورها الذاتي وارتهانها لنتاجات الغرب في شتى الميادين العلمية دون أن يكون لها إسهام في هذا المجال. يصرح الإمام حول هذا الأمر "إن ما نريد أن نقوله من أن جامعاتنا مرتبطة، هو أنها تربي أشخاصاً وتعلم أناساً متغربين، وإن جامعاتنا لا تنفع الشعب، فنحن نملك الجامعات منذ أكثر من خمسين سنة ولم نصل إلى الاكتفاء الذاتي في العلوم المكتسبة في الجامعات. فبعد خمسين سنة نشاهد بعض أطبائنا أو أغلبهم ينصحون المريض بالذهاب إلى انكلترا للعلاج، لا نملك الطبيب الكفوء الذي يلبي حاجة الشعب، إننا 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص271.

 
 
 
 
 
 
149

138

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 نملك الجامعات لكننا نحتاج إلى الغرب في جميع الأمور الضرورية لشعب حي، فعندما نقول يجب إحداث تغيير جذري في الجامعات وتغييرات أساسية وإسلامية، فلا نريد من ذلك أن ندرس العلوم الإسلامية فقط، ولأن العلوم على قسمين إسلامي وغير إسلامي، إننا نقول أين هي نتاجات الجامعة خلال هذه السنوات الخمسين؟"1.

 
وبذلك تتضح رؤية الإمام الخميني قدس سرهحول المناهج. فالعلوم برأيه هي نتاج إنساني وحضاري عام ومتكامل، وهو يريد من وراء ذلك الإسهام الخاص للجامعة بانفتاحها على ميادين التطور والتطوير، لا مجرد أن تكون مستهلكة لنتاجات الآخرين. إن الإسهام الخاص ينبغي أن يؤدي دوره بما يخدم حاجات المجتمع وحاجات البشرية في آن معاً، وإن الإسهام الفكري والحضاري لا ينبغي له أن يبقى أسير أمة بعينها خصوصاً الغرب الذي يسخر هذه العلوم ليس لخدمة البشرية بقدر ما يسخرها لأهدافه الخاصة في دوام تبعية الشعوب. وبذلك يكون الإمام قد وضع الجامعة أمام التحدي الحضاري، ومواجهة دورها في هذا الصعيد سواء بابتداع مناهج جديدة للتفكير من شأنها تطوير ما هو قائم، أو من خلال إقرانها برؤية إسلامية، كوعاء شامل يضم كل المرتكزات الاجتماعية والثقافية والتشريعية والعلمية والاقتصادية، ومن خلال انتهاج أسلوب جديد يتجاوز تلك العزلة القائمة بين مادة إسلامية معزولة كوحدة دراسية ولا أثر لها في بقية المعارف التي يتلقاها الطالب الجامعي ويتجاوز تشكيك المسلمين في قدراتهم الحضارية التي انفصلت عن واقع حياتهم، جراء الجهد الاستعماري الذي أدى إلى تقلص فاعلية الثقافة الإسلامية بعزلها عن الأخذ بزمام التغيير والتأثير في مجرى الحياة العامة وتفاعلها مع متطلبات المجتمع.
 
لقد استندت دعوة الإمام الخميني قدس سرهلإصلاح المناهج إلى محاولته العودة
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص271.

 
 
 
 
 
 
150

139

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  إلى الذاتية الحضارية للإسلام بعد أن تخلصت إيران عبر الثورة من الهيمنة السياسية للغرب، فكانت هذه الدعوة بمثابة معركة تحرير الثقافة من أجل استكمال واسترداد الفعالية الحضارية للإسلام، وهي دعوة تُحمل على معنى الوجوب، ولا ترتبط بفرد أو بمؤسسة بل تصل لديه إلى حد ارتباط الجامعة بمصير الإسلام. يتضح هذا الأمر حين يقول الإمام إنه "يجب على جميع الذين يهمهم أمر البلاد ويهمهم أمر الإسلام، ويهمهم أمر الشعب، أن يوحدوا قواهم من أجل إصلاح الجامعة، لأن خطر الجامعة هو أعظم من القنبلة العنقودية، كما أن خطر الحوزات العلمية أعظم من خطر الجامعة"1.

 
وهذا الوجوب مرتبط بأساتذة الجامعة أنفسهم فهو المولجون قبل غيرهم بهذا الأمر لكونهم أكثر دراية من غيرهم في هذا المجال، ولأنهم على احتكاك ومعرفة بطبيعة الواقع وبطبيعة منطلقات الثورة. ويحمل الإمام الخميني قدس سرهالأساتذة مسؤولية تغيير تلك الأفكار التي دخلت عقول الشباب خلال السنوات والعقود الأخيرة، والتي جعلتهم يعتقدون أنهم لا شيء، وأنه يجب استيراد شيء من الخارج، الأمر الذي أدى إلى توقف العقول عن العمل والإنتاج، وهؤلاء عليهم بذل هممهم لجعل الجامعة مركزاً للعلم والتهذيب، حتى تكون كل الاختصاصات في خدمة البلاد، لا أن يجر المتخصصون البلاد إلى أحضان أمريكا لاسيما الذين لا يشعرون بأنهم لهذه البلاد وأنهم استفادوا منها، ويجب أن يقدموا علمهم لخدمتها2. ولذلك فإن معركة إصلاح المناهج
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص 234.
2- المصدر نفسه، ص235.
 
 
 
 
 
 
151
 

140

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  ينبغي أن تبدأ من الأساتذة أنفسهم. وكي لا يُفهم الأمر خطأً ويُحمل على معنى إحلال علوم الدين مكان التخصصات التي هي شأن طبيعي للجامعة بحجة أسلمة الجامعة، لا ينبغي القول وفق رؤية الإمام إن الإسلام يرفض التخصص. يستند الإمام الخميني قدس سرهإلى القرآن الكريم من خلال حضّه على العلم على نحو الإطلاق أكثر من أي كتب أخرى. ويفهم من ذلك أن الإسلام يؤكد على التخصص والعلم ولكن بشرط أن يكون التخصص والعلم في خدمة الشعب وفي خدمة مصالح المسلمين. ويرد بذلك على الذين يفهمون خطأ كلامه حول إصلاح الجامعة ووجوب حدوث ثورة ثقافية إلى الحد الذي ينقلون الكلام أنه لا حاجة لنا لطبيب الجامعات وأننا لا نريد المتخصصين في الطب وفي الصناعات المتطورة. هذه الإدعاءات هي بنظر الإمام من الشيطنات التي يقوم بها بعض الأفراد والجماعات الذين ينسبون ويتحدثون عن الإسلام وعن الجماعات الإسلامية وعن الثورة الثقافية، هكذا يقول عن هؤلاء "إن هؤلاء لا يدرون أن هدفنا حينما نقول يجب أن تكون جميع الجامعات والمؤسسات، وخاصة الجامعة التي هي مركزللعلم والعقل المفكر للمجتمع، أننا عندما نقول إن الجامعة يجب أن تكون إسلامية لا يعني ذلك أننا لسنا بحاجة للمتخصصين. فالإسلام يهتم بالمتخصص،حتى في الأحكام العادية الشرعية المعيار فيها هو الأكثر تخصصاً. إننا نريد أن نقول شيئاً آخر، هوأن مشكلتنا هي أنه حين وطأ الأجانب بلادنا روّجوا وأرادوا إقناع شبابنا وشعبنا أن إيران وكذلك الإسلام، عاجزان عن إيجاد العلم والتخصص والصناعة وبأن علينا أن نمد أيدينا إلى الشرق السوفياتي أو إلى أمريكا والدول الغربية

 

 

 

152


141

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الرأسمالية"1. وعلى هذا الأساس نجد أن معيار إصلاح الجامعة هو في عدم تبعيتها للخارج، والإصلاح هو محاولة استنقاذ البلاد من التبعية الفكرية التي هي مقدمة على جميع التبعيات بل والأخطر منها جميعاً.

 
ج - الحفاظ على المبادئ والثورة
 
يؤكد الإمام قدس سره على الدور الهام الذي يجب أن يضطلع به أستاذ الجامعة في سبيل الحفاظ على المبادئ التي كانت سبباً في قيام الدولة والنظام وساهمت في صيرورة الحكومة الإسلامية. ويترتب على هذا الأمر فوائد متعددة لأن الحفاظ على المبادئ يؤدي إلى امتلاكنا جامعة مستقلة ومدرسة علمية مستقلة وجيشاً مستقلاً....2ولا يتحقق هذا الأمر إلا عندما يتعاون الجميع فيما بينهم، عندما يضع كل من الأستاذ والطالب والمفكر... يده في يد الآخر ويساهم الجميع في الحفاظ على المكتسبات الهامة لهذه الأمة. وهذا يعني رفض التهاون والخيانة والتبعية لأن المفروض عندها أن يساهم الجميع في بناء وطن مستقل خالٍ من الإشكالات3. وإذا كنا نمتلك فكراً وثقافة وتاريخاً فإن الرجوع إلى ذاك الموروث والإيمان به والعمل بما يقتضيه لا يتحقق إلا من خلال الحفاظ على المبادئ الأساس، عندها نشعر بالغنى ونشعر بالقدرة على التغيير، والقدرة على الحفاظ على المكتسبات.
 
وقد بلغت هذه المسألة درجة من الأهمية عند الإمام قدس سره عندما اعتبر أن 
 
 


1- المصدر نفسه، ص238.
2- صحيفه نور، ج8، ص439.
3- المصدر نفسه، ج10، ص439.

 
 
 
 
 
 
153

142

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الأمة الإسلامية (في إيران) قد خرجت من سجن كبير (بعد انتصار الثورة) ولكن هذا لا يعني انتهاء المشكلات، بل ما زال الكثير منها يقف حائلاً أمامها ومن جملة ذلك المشكلات الفكرية، وهنا يجب على أساتذة الجامعة والمعلمين بذل جهود كبيرة في حل المشكلات الفكرية وجعلها تتطابق مع المبادئ والقيم والأفكار1.

 
ومن جملة ما يتوجب القيام به في هذا الإطار الوصول إلى مرحلة الثقة بالذات وقطع الآمال التي نعلقها على الشرق والغرب، لا بل يجب قطع الآمال الفكرية من الشرق والغرب عندها نصل إلى مرحلة الثقة بإمكانياتنا وقدراتنا ونعزز نشاطاتنا في الوصول إلى مرحلة الرقي والتقدم. نرى الإمام قدس سره يشجع أستاذ الجامعة ليعمل وبشكل دقيق على جعل الطالب يثق بنفسه وبما ينتجه. وهذا لا يعني رفض كل ما هو في الغرب، فالعلوم والصناعات التي ترد من الغرب يجب أن نتعلمها ونتقنها، أما التغرب فهو قضية مرفوضة بالكامل، لأن تَعَلُّم مسألة من الغرب هو شيء وجعل الذهن غريباً شيء آخر، حيث يؤدي هذا الأخير إلى الغفلة عن الذات2.
 
د - التربية الأخلاقية والتربية الصحيحة
 
يؤكد الإمام قدس سره على دور الأستاذ في التربية الصحيحة والتربية الأخلاقية، فنراه يشدد على ضرورة وجود مربين أخلاقيين في جميع المراكز العلمية.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج11، ص181.
2- المصدر نفسه، ج12، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
154

143

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  ويطلب من جميع المتصدين لهذا الأمر العمل بشكل أساس على تربية الطلاب لما لهذا الأمر من أهمية على مستوى الحفاظ على الوطن. فإذا لم يمارس الأستاذ دوره التربوي، لا بل إذا كان الأستاذ خالياً من التربية الصحيحة والأخلاقية، فلا يوجد ما يضمن عدم دخول الفساد إلى جميع المراحل والمناهج والشخصيات. وبالتالي فإن الأوطان لا تبنى مع وجود حالات فساد، بل في ذلك مهلكة للأوطان والمجتمعات. هنا يشدد الإمام قدس سره على ضرورة أن يبدأ الأستاذ من نفسه مربياً لها محاولاً اكتساب الملكات الأخلاقية التي تؤهله لتعليم الآخرين1.

 
في هذا الإطار يتوجه الإمام إلى الأستاذ والطالب والتلميذ، لأنهم شركاء أساسيين في هذه القضية الهامة، فعليهم بذل جهود جبارة في تشخيص عوامل الفساد وإبعادها عن البيئة التعليمية سواء في المدارس والثانويات أم الجامعات.
 
طبعاً يؤكد الإمام قدس سره على ضرورة العمل الجدي من بداية المرحلة الابتدائية فالمتوسطة ثم الثانوية. لأن العمل في الوصول إلى جيل يمتلك القيم والمبادئ الأخلاقية ويحظى بدرجة عالية من التربية الصحيحة يستلزم أن يبدأ المعلمون والأساتذة بهذا العمل من البداية، أي من المراحل الأولى. عندها يمكننا الحديث عن جيل صحيح بعيد عن الفساد، وهذا يضمن استمراره في المرحلة الجامعية إذا ما توفرت له الشروط المطلوبة. وبعبارة أخرى التربية الأخلاقية في المرحلة الجامعية مهمة وأساس وضرورية ولكن كمالها أن يشرع 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج14، ص218.
 
 
 
 
 
 
 
155

144

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 بها المعلمون في المرحلة التي يكون فيها الطالب أكثر استعداداً لقبول القيم، في تلك المرحلة التي يكون فيها الطلاب قد انغمسوا في الأفكار والممارسات الفاسدة.

 
يقول الإمام قدس سره في خلاصة ما تقدم والنتيجة التي يمكن الوصول إليها: "... مما تقدم يجب على المؤسسات التعليمية الملتزمة أن تحمل مسؤولية نجاة الوطن، وأن تبذل جهوداً خاصة في حفظ الشباب الأعزاء الذين يتوقف استقلال الوطن وحريته في المستقبل، على تربيتهم الصحيحة. ومن هنا يظهر الدور الذي يقوم به المعلمون والأساتذة في تربية التلامذة والطلاب وتهذيبهم، على أنه دور أساس ومحوري ومؤثر. الجميع قد شاهد الفجائع التي كانت قد حلت بوطننا عندما كانوا تابعين للشرق والغرب..."1.
من جهة أخرى يبدي الإمام قدس سره اهتماماً واضحاً لوجود التقوى إلى جانب العلم. فالعلم لا قيمة له عند الإمام قدس سره إذا كان من دون تقوى ولو كان علم التوحيد أو علم الأديان. وإذا بلغ ضرر العلم بالنسبة للإنسانية والإسلام أكثر من نفعه، فإن عدم وجود التقوى يؤدي إلى زوال الإنسانية من الأساس ويقضي على الوطن. ويضيف الإمام في حساسية العلم، أن العالِم هو أفضل من يتمكن من إفساد الناس، لذلك يجب أن يترافق العلم مع التقوى. وتقدم التقوى للإنسان بمقدار سعته وظرفيته. وبعبارة أخرى تلعب التربية دوراً محورياً يتجلى في محاولات صناعة الذات وصناعة الآخرين بناءً على أسس
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج15، ص244-245.
 
 
 
 
 
 
 
156

145

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  سليمة1.

 
الخلاصة: للأستاذ أهمية خاصة عند الإمام قدس سره وله دور مميز، فعمله هو عمل الأنبياء، وتكمن مسؤوليته في هداية المجتمع وهي مسؤولية كبيرة لا يمكن أن يتحملها إلا أصحاب الكفاءات. لذلك فإن الأستاذ الذي يقوم بمهمته يقوم في الحقيقة بأسمى الأعمال.
 
أما هذه الوظيفة السامية فإنها تجعل الأستاذ مؤتمناً، وأمانته تختلف عن كافة الأمانات، فهو مؤتمن على الإنسان.
 
من جهة أخرى جعل الإمام قدس سره شقاء وسعادة الشعب بيد الطبقة المثقفة، فهؤلاء يجب عليهم أن يبذلوا جهدهم في سبيل تهذيب أنفسهم والتأثير لجهة تربية وتهذيب نفوس الآخرين، بالأخص فئة الطلاب2.
 
أخيراً يقول الإمام قدس سره: "أتمنى أن يتغير الوضع من خلال سعي الأساتذة والمعلمين بحيث يتمكن الفرد من إنهاء المرحلة الدراسية، ليكون بعدها شخصاً ملتزماً، وشخصاً يعرف أنه يجب أن يسعى من أجل خدمة وطنه وأن يبتعد عن رضا الدول الأجنبية"3.
 
 

1- المصدر نفسه، ج17، ص188.
2- الكلمات القصار، الإمام الخميني قدس سره، ص274-275.
3- صحيفة نور، ج19، ص222.

 
 
 
 
 
157

146

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الفصل الثاني:

مسؤولية الطالب الجامعي

الطالب الجامعي واحد من المرتكزات الأساس للحياة العلمية والفكرية في أي بلد من البلدان، فهو الذي سيتحمل مسؤولية رقي البلد وتطوره في المستقبل وعلى يديه ستتحقق الأمنيات والآمال، ومن خلال عمله ومواظبته يتحقق الإصلاح.

بناءً على ذلك ليس الطالب مجرد شخص يتلقى دروساً في اختصاص ما ثم يقدم امتحاناً ويحصل على علامة القبول أو الرفض. بل التعلم والتحصيل مقدمة للكثير من المسؤوليات والمهام والوظائف، التي تبدأ من صناعة الذات وتربيتها وتذكيتها ولا تنتهي عند إصلاح المجتمع ورفده بعوامل الرقي والتطور.

أما كلمات الإمام الخميني قدس سرهفقد صورت لنا جانباً هاماً من المسؤولية الملقاة على عاتق الطالب الجامعي بالأخص في الفترة التي تعرف بفترة أو مرحلة قيام الجمهورية الإسلامية. من هنا يمكن الإضاءة على عدد من العناوين الهامة في هذا الإطار.

1 - مسؤولية الطالب الجامعي بالنسبة للمجتمع

تحدث الإمام قدس سره حول عناوين هامة وأساس تتمحور حول الوظائف
 
 
 
 
 
 
 
 
158

147

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  والمسؤوليات الأساسية الملقاة على عاتق الطالب الجامعي، مشدداً على الدور الأساس لهذه الفئة في المجتمع:

 
أ- إيقاظ الغافلين:
 
يشدد الإمام قدس سره على الدور الهام للطالب الجامعي في رفع حجب الظلام والغفلة والانحراف التي تسيطر على عقول وقلوب الكثيرين الذين خدعتهم الدعايات وخدعهم الإعلام وخدعتهم الصورة الظاهرية للثقافات المنحرفة. ومن هنا كان على الطالب أن يساهم في إزالة الكثير من التوهمات والاشتباهات.ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان الطالب مسلحاً بالفكر والإيمان والتحصيل الصحيح وبالتالي المعرفة الصحيحة وسلامة الذهن وبذلك يتمكن من تشخيص الأمراض التي يعاني منها المجتمع الإسلامي ويقوم بدوره في مجال الهداية والإيقاظ ووضع الأمور في نصابها الصحيح.ولعل من أهم النقاط التي يشير إليها الإمام قدس سره في هذا الخصوص الشروع من الأهواء النفسية التي تعمي القلوب والعقول عدا عن الأبصار، لتشكل حاجزاً ومانعاً أمام وصول الحقيقة والهداية إلى المكان الحقيقي لها. لا بل يعتبر الإمام قدس سره أن هذا العمل هو عمل جهادي من الدرجة الأولى مستشهداً في هذا الإطار بقوله تعالى: ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾1.
 
من جملة الأمور التي يركز عليها الإمام قدس سره في خطابه للجامعيين سعيهم الدؤوب لتقديم المعرفة وإطلاع المسلمين على الحقائق وفضح مخططات
 
 

1- صحيفة نور، ج2، ص142-143.
 
 
 
 
 
 
 
159

148

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 المستعمرين، حيث يعتبر هذا الأمر أحد الجوانب الهامة في مواجهة الغفلة والانحراف، يقول الإمام قدس سره:

 
"يتوجب عليكم يا شباب الإسلام الأعزاء ـ وأنتم أمل المسلمين ـ توعية الشعوب الإسلامية وتبيين مخططات المستعمرين المشؤومة وإظهارها للعلن. اعملوا على التعريف بالإسلام. وانشروا تعاليم القرآن المقدسة، واسعوا من أجل نشر الإسلام وتقديمه للشعوب الأخرى والنهوض بالأهداف الإسلامية العالية وكل ذلك بإخلاص كامل. اهتموا بتحقق حكومة الإسلام ودراسة مسائلها. كونوا مجهزين ومهذبين, متحدين ومنظمين,رصوا صفوفكم لا تغفلوا عن فضح خطط النظام المتكبر في إيران (نظام الشاه) ضد الإسلام والمسلمين. واعملوا على إيصال صوت إخوانكم المسلمين المظلومين في إيران إلى العالم كله..."1.
 
ب- طرد المتعلمين المنحرفين
 
يتحمل الطالب الجامعي المثقف والواعي مسؤولية كبيرة على مستوى تشخيص الخلل الذي يوجده المتعلمون المنحرفون، الذين أضلهم واقع الدول المستعمرة وما تقدمه من مظاهر خادعة. هنا نرى الإمام يشدد على ضرورة أن يقوم المتعلمون ببذل أقصى جهودهم من أجل إيصال ما أراده الإسلام وأئمة المسلمين? وعظماؤهم إلى جميع الشعوب، لا بل يعتبر ذلك من المسؤوليات الخطيرة التي ينبغي القيام بها. ويلزم من هذا الأمر مواجهة العالم (سواء 
 
 


1- المصدر نفسه، ص439.
 
 
 
 
 
 
 
160

149

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 كان أستاذاً أو عالماً حوزوياً) المنحرف الذي يعمل بعنوان واعظ للسلطان يجيرون له كل ما يقع في مصلحته متناسياً الإسلام وغافلاً عن تعاليمه وعن حقوق المسلمين.

 
والسبيل لذلك الوقوف على مبادئ القرآن النورانية والاطلاع على وظائف أئمة المسلمين وعلمائهم حيث سيؤدي الأمر إلى سقوط كل من يدعي حمل رسالة الإسلام وهو ليس منها في شيء.
 
وإذا سقط مدعي الإسلام فهذا يعني أن شخصاً لن يتمكن من خداع المسلمين ولن يتمكن من تحوير أهدافهم العالية والراقية، ولن يتمكن من تقديم صورة سلبية عن أئمة المسلمين1.
 
يقول الإمام قدس سره: "يتوجب على الطلاب الثوريين أن يكونوا على يقظة تامة وأن لا يغفلوا عن هذه المسألة المهمة، وأن لا يسمحوا للجامعات والمدارس ولأولئك الذين ما زالوا يحلمون بالنظام السابق الذين ما زالت أذهانهم تميل للثقافة الشرقية، أن لا يسمحوا لهم بتقديم قضايا انحرافية خارجة عن إطار الدروس المكلفين تقديمها. لا بل يجب أن تعلموا أن المسامحة في هذا الأمر تؤدي إلى الانحراف في الجامعات والثانويات وتتحملون مسؤولية ذلك أمام الله تعالى"2.
 
على هذا الأساس يجب على الطلاب أن يكونوا أكثر التفاتاً إلى عدم الوقوع في المشكلات التي كانت الجامعات والمثقفون مبتلين بها من قبيل الانحراف
 
 

1- المصدر نفسه، ص489.
2- المصدر نفسه، ج3، ص262.
 
 
 
 
 
 
 
161

150

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  والتبعية... ويجب الاستفادة من الفرص الموجودة والسانحة للتعريف بالانحرافات الموجودة وسبل مواجهتها وكيفية بناء مجتمع متعلم سليم ومعافىً.

 
ج - الدفاع عن الإسلام
 
يعتبر الإمام الخميني قدس سرهأن مسؤولية الدفاع عن الإسلام تقع على عاتق عموم المسلمين وبالأخص العلماء والمفكرين والجامعيين، لما لهذه الوظيفة من تأثير على مستوى حفظ القيم وانتشارها وبالتالي المساهمة في حفظ استقلال البلد وحريته1. والسبب في ذلك يعود إلى الأصول التي أرادها الإسلام وزرعها في أتباعه. صحيح أن الإسلام يدعو إلى العبادة ولكنه يدعو أيضاً إلى أن تكون الترجمة العملية والحقيقية للعبادة في الخارج وبين أفراد المجتمع. فالإسلام يدعو إلى الإيمان ويدعو إلى التعاون والتواضع ورفع مشكلات المسلمين الآخرين ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم حتى جاء: "ليس منا من بات شبعانً وجاره جائع". والنتيجة أن الالتزام بتعاليم الإسلام يؤدي إلى وجود أشخاص واقفين على مسؤولياتهم ساعين بشكل جاد وحثيث في رفع مشكلات المجتمع الإسلامي.
 
وبعبارة أخرى فالإسلام والالتزام بتعاليمه يؤدي إلى صناعة إنسان يعمل جاهداً من أجل وطنه وأبناء طينته بما ينفعهم ويقع في مصلحتهم. ويطلب الإمام قدس سره من الطلاب العمل بشكل جدي للدفاع عن الإسلام لا بل يطلب منهم 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص443.
 
 
 
 
 
 
 
162

151

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الاستفادة من الفرص المناسبة والمؤاتية لإيصال صوتهم إلى الشعوب والأمم الأخرى وإسماعهم الممارسات التي كان يقوم بها نظام الشاه ضد البلد وحريته واستقلاله.

 
يقول الإمام قدس سره: "يجب على الطلاب الأعزاء في أنحاء إيران الاستفادة من كل مناسبة للحفاظ على شعار معارضة الشاه الذي هو شعار الإسلام. وينبغي على الطلاب والعلماء الملتزمين والمسؤولين خارج البلد، نشر جرائم هذا العنصر الخطير في الخارج والداخل، وتعريف الشخصيات المتحررة في أنحاء العالم بما يقوم به من ظلم..."1.
 
ومن هنا تظهر الوظيفة والمسؤولية الملقاة على عاتق الطلاب في مواجهة أي انحراف ديني أو وطني يصدر عن المخالفين للإسلام الذين يعملون للنيل من تعاليم الإسلام وتشويه صورته. ويؤكد الإمام قدس سره أن على الطلاب تقويم الاعوجاج والانحراف والتحدث بصراحة مع الناس عما هو واقع من انحراف وخلل.
 
مما لا شك فيه أن هذه الوظيفة والمسؤولية لن تكون مفيدة وفعالة إذا لم يحصل نوع من التعاون والتكامل بين طلاب الجامعات وطلاب العلوم الدينية.
 
بالإضافة إلى ما تقدم يفترض أن يعمل الطلاب، وفي سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين، على دعم ومساندة المجموعات الاجتماعية الأخرى كالعمال والمواطنين في مطالبهم المحقة. والسبب في ذلك أن الكثير من الحركات
 
 

1- المصدر نفسه، ص486-488.
 
 
 
 
 
 
 
163

152

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  التي تنهض في وجه الظلم تهدف إلى إقرار العدالة الاجتماعية والتي هي مطلب إنساني – عملت الأديان الإلهية على إيجاده. وبالتالي فإن مساندتهم وتأييد وجود العدالة الاجتماعية نوع من الوقوف إلى جانب الإسلام والدفاع عنه1.

 
يقدم الإمام قدس سره اقتراحاً للحركة في سبيل نشر الإسلام وتعاليمه يضمن سلامة الحركة ويجعلها تسير وفق الضوابط الإسلامية، وهو أن يتحرك الطلاب على الطريق الذي حدده الأنبياء. وهو بلا شك طريق الحق تعالى. وقد أوضح الأنبياء والأولياء حيثيات هذا الطريق الذي يجب أن يتحرك الجميع من خلاله وفي ذلك طلب مواجهة من يحاول تحريف حركة الناس وإبعادها عن المسير الذي تقتضيه فطرتهم2. يريد الإمام بذلك أن يؤكد على أن المعيار الأساسي لسلامة حركة الحفاظ على المسلمين وقيامهم، مطابقتها لحركة الأنبياء ودعوتهم والتي هي من دون شك رسالة الله تعالى.
 
من جملة ما يترتب على معرفة الإسلام والدفاع عنه أن يُعرض بشكل صحيح وأن يتلقاه الناس بالقبول لتناسبه مع فطرتهم وحاجاتهم ومن هنا يوضح الإمام قدس سره أن قيام الطلاب بتوضيح الإسلام وتبيين الحكومة الإسلامية كما هي فذلك يؤدي إلى قبول الجامعيين بها، لأن الطلاب يعارضون الاستبداد من الأساس، ويعارضون الحكومات التي يقف المستعمرون إلى جانبها. لا بل لا يوجد أي جامعة وأي طالب يعارض الإسلام في شكل الحكومة التي يقدمها3
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج13، ص174.
2-  ولاية الفقيه، ص130 (نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره(ره)، 1381هـ.ش).
3- صحيفة نور، ج11، ص16-17.
 
 
 
 
 
 
 
164

153

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 د- الدفاع عن الوطن

 
يتمكن الطلاب من تشكيل حالة وطيف واسع للدفاع عن الوطن، لما يحملونه من أفكار وقدرات واستعدادات تؤهلهم للعب هذا الدور الهام. فالوطن بحاجة إلى أشخاص عارفين مطلعين وأصحاب قدرات علمية واضحة. طبعاً ليس على المستوى العلمي والتقني فحسب، بل في مجالات أكثر من ذلك بالأخص عندما يكون الحديث عن بقاء البلد ووجوده وإعطائه كياناً وصورة خاصة.
 
في هذا المجال يتحدث الإمام مادحاً قيام الطلاب باحتلال وكر التجسس الأمريكي الذي شكل ضربة قوية للولايات المتحدة الأمريكية وأعطى الشعب المسلم في إيران العزة والشموخ. فالمركز الأمريكي كان محلاً للفساد والمؤامرات التي تطال الشعب الإيراني حيث كان يزاول أعمال التجسس ونشر الفساد عبر وسائل متعددة ومتنوعة. يقول الإمام قدس سره إنه لا يعرف هؤلاء الطلاب الذين قاموا باحتلال وكر التجسس بأشخاصهم ولكن يعلم أنهم أشخاص طاهرون والواضح أن عملهم عمل إنساني بكل ما للكلمة من معنى1.
 
ويؤكد الإمام قدس سره على أن العمل الذي قام به الطلبة المسلمون قد وجه ضربة قاسية إلى أمريكا الطامعة وإنهم رفعوا رؤوس أبناء الأمة2.
 
على كل حال يتوجب على الطلاب أن يبقوا على يقظة تامة مما يحاك للوطن وعليهم أن يراقبوا الأجواء بشكل دائم ودقيق حتى لا تعود مراكز التربية والتعليم إلى سابق عهدها وإلى الأجواء السلبية التي كانت تسيطر عليها وفي ذلك نجاة للوطن ودفعه نحو التقدم والرقي.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج12، ص162.
2- المصدر نفسه، ج1، ص267-268.

 
 
 
 
 
165

154

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 2 - التوقعات والآمال المعلقة على الجيل الجامعي


في خضم الأجواء العلمية التي تسيطر على فكر الطالب وسلوكه، وبالنظر إلى البيئة المحيطة التي تترك آثاراً متعددة على الطالب، ومع الأخذ بعين الاعتبار المسؤوليات الملقاة على عاتق الطالب الجامعي، تبرز قضية التوقعات والآمال التي ينتظر أن يطلع بها الطالب كعامل أساس من عوامل النهضة والإطلاع الدقيق على المسؤوليات. من هنا حدد الإمام قدس سره ومن خلال كلماته المتعددة الكثير من القضايا التي تندرج في إطار ما يتوقع من الطالب، وهي بشكل أو بآخر نابعة من العناوين المتقدمة الذكر.

أ- الوحدة

لعل العامل الأساس الذي يتوقعه الإمام قدس سره من الطالب الجامعي أن يعمل على إيجاد حالة من الوحدة وتكريسها بين مختلف التوجهات والحركات الطالبية حيث يجب أن تصب جميعها في خدمة البلد والإسلام، وإذا كان لكل شخص هدف وغاية تميزه عن غيره سيؤدي الأمر في النهاية إلى تشتت الجهود وضياع الأعمال.

فالوحدة في الظاهر عبارة عن توجيه جميع الجهود والأعمال لتصب في هدف واحد سينعكس على الوطن واستقلاله وعلى الإسلام وتكريس حيويته. على أساس أن للوحدة مظاهر متعددة تتجلى وتظهر فيها، فتارة يكون الاتحاد عبر الحوار والنقاش والوصول إلى قواسم مشتركة. وتارة أخرى تكون عبر
 
 
 
 
 
 
 
166

155

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  القيام بأعمال تكون نتيجتها تكريس واقع الوحدة.ومن هنا يشجع الإمام على تأدية صلاة الجماعة ورص الصفوف فيها لأن وجود الطلاب في صفوف متراصة أثناء الصلاة يعبر عن حقيقة الوحدة التي تتجاوز الأطر الظاهرة، بل يكون المقصود منها الوحدة الحقيقية1.

 
وفي هذا الإطار يتوجه الإمام قدس سره إلى المفكرين والعلماء والمدرسين والطلاب طالباً العمل على حفظ الانسجام فيما بينهم، إذ يؤدي الأمر في النهاية إلى الوحدة الحقيقية. فالوحدة والانسجام ليسا من مختصات الطلاب فقط بل تشتمل دائرتهما على كل من يدور في هذه الدائرة، وهي دائرة العلم والفكر والثقافة. ومن هنا يرفض الإمام قدس سره وجود عدد كبير من المجموعات الطالبية، لأن نتيجتها ستكون خلاف المطلوب. فإذا كان المطلوب من الوحدة الطالبية المساهمة في الوعي الشعبي، فإن وجود عدد كبير من الفرق والمجموعات سيؤدي إلى نتيجة معاكسة بالكامل. وقد شجع الإسلام على إيجاد هذه الحالة حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾. لأن التفرق والتشتت يحمل في طياته الفساد ويحمل في طياته الصعاب والمشكلات2.
 
ب- تزكية النفس
 
يؤكد الإمام قدس سره على دور تزكية النفس في صناعة الإنسان وإلى ما تشكله
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج8، ص315-316.
2- المصدر نفسه، ح9، ص3-5.

 
 
 
 
 
 
167

156

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 إلى جانب العلم من ثروة هامة تنقل الفرد والمجتمع إلى إطار أوسع من المصالح الآنية والفردية، إذ يساهم الاثنان معاً في سلامة المجتمع وتطوره ورقيه.


يتوجه الإمام إلى الطلاب والأساتذة مشيراً إلى أهمية التوأمة بين التربية الصحيحة والعلم. لا بل على الإنسان كلما تقدم خطوة في المجال العلمي، أن يخطو مثلها نحو العمل الباطني حيث التقوى والاستقامة والأمانة. والهدف أن يصل الشخص إلى مرتبة الإنسانية في نهاية المرحلة الدراسية. في هذه المرتبة يكون الإنسان قد امتلك المعلومات والمعارف وأصبح شخصاً أميناً، وبهذا يحقق الكثير من الأشياء التي ليس من السهل حصولها من دون أمانة.

يخاطب الإمام قدس سره الطلاب قائلاً: "... روضوا أنفسكم، فالنفس تقبل الانقياد، فإن لم تروضوها فقد تؤدي بكم إلى الهلاك. وكل خطوة تخطونها في سبيل التعليم والتعلم، يجب أن يرافقها خطوة أخرى في ترويض أنفسكم. لا ينبغي أن يشغلكم التدقيق في العلوم والغوص بها، والغفلة عن الجهالات الموجودة في النفس. فلو غفلتم عن أنفسكم، فإن كل خطوة ستخطونها في سبيل العلم ستؤدي إلى ابتعادكم عن الإنسانية. فللإنسانية مسير مستقيم، وكل من تحرك خلافه فهو يسير في خط معوج، لا بل سيكون أكثر بعداً كلما تحرك خارج الخط المستقيم...

أنتم الآن ما زلتم في عمر الشباب ولم تبتلوا بضعف الشيخوخة، يمكنكم إصلاح أنفسكم بسرعة. لا تتوقعوا أن يحصل هذا الأمر من خلال تأجيله إلى آخر العمر، فالتوبة غير ممكنة آخر العمر، فلو لم يسعَ الإنسان وراءها منذ بداية العمر، ولم يعمل على صناعة نفسه، فلن يتمكن من ذلك في نهاية عمره، لأن القوى الشيطانية قد تجذرت في الإنسان وأصبحت قوية وأصبحت قوى
 
 
 
 
 
 
 
168

157

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  الإنسان ضعيفة لا يتوقع منها أي عمل"1.

 
ويتابع الإمام قدس سره مقدماً نصيحة للطلاب بأن يعرفوا أهمية الشباب ويستغلوا الفرصة للعلم والتقوى لأن ذلك سيؤدي إلى وجود أشخاص صالحين أمناء. ووجود هكذا أشخاص يعني استقلال البلد وسلامته وعدم التبعية لأي جهة من الجهات. فالتبعية للشرق أو الغرب ستدفع الشخص للعمل من أجل مصالح الآخرين وترك مصالح البلد، لا بل والقضاء عليها2.
 
بشكل عام تؤدي التقوى إلى وجود إنسان شريف في عالم الدنيا، وفي الآخرة سيكون من الذين يقبلون على الله بوجه أبيض. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن التزكية والتقوى من جملة العوامل التي تساهم في توجيه العلم نحو الهدف الحقيقي المطلوب منه. ولا تحرفه نحو أغراض شيطانية خادعة ليس فيها سوى الضرر لأبناء البشر3.
 
ج- الجدية في تحصيل العلم
 
يؤكد الإمام قدس سره على الجدية في تحصيل العلم.ولا فرق في ذلك بين طلاب الجامعات وطلاب الحوزات العلمية، لا بل ويرفض كل الأقاويل والأفكار التي ينشرها بعضهم حول الفائدة من الدرس والتحصيل، لأن هذه المسألة مسألة تحمل في طياتها انحرافاً واضحاً لا بل الكثير من الجهل وسوء النية وهي من
 
 
 

1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه، ج12، ص403.
3-  المصدر نفسه، ج3، ص326-327.

 
 
 
 
 
 
 
169

158

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

  الأمور التي يروج لها أصحاب الأفكار الطاغوتية والشيطانية. والهدف من وراء ذلك إبعاد طالب العلوم الدينية عن التحصيل وبالتالي التخلي عن التدين وكل ما يشير إليه، وجعل طالب الجامعة يشعر بالتبعية والتعلق بالمستعمر.

 
إن المستعمر يعمل بشكل دؤوب على نشر فكرة الحاجة إلى الآخر وعدم القدرة على إنتاج أي سلعة أو مسألة بشكل ذاتي، وعندما يشعر الإنسان بحاجته الدائمة فيشعر أنه تابع بكل وجوده للآخر ويؤدي هذا إلى تأخر البلد.
 
يرفض الإمام قدس سره فكرة إخلاء الحوزة والجامعة من المحصلين المجدين والعلماء الواعين لأن وجود هؤلاء الأشخاص يعود بالنفع على البلد والشعب. فهم سيمتلكون مقدرات البلد في المستقبل، وتطوره يتوقف على ما سيتمتع به هؤلاء من علم وتخصص واجتهاد، فعلى الجميع أن يعملوا بجدية ونشاط في هذا الإطار1.
 
د- التدخل في القضايا المصيرية للبلد
 
يتوقف الإمام قدس سره ملياً أمام واحدة من الأمور المتوقعة من الطلاب لناحية التدخل في تحديد مصير البلد وعلى المستويات كافة، وذلك لما تملكه هذه الطبقة المثقفة من مخزون علمي وإمكانيات وقدرات وتجارب تجعلهم عناصر مفيدة وفعالة في البلد.
 
من جملة الأمور التي يؤكد عليها الإمام قدس سره، التدخل في القضايا السياسية 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج18، ص367-368.
 
 
 
 
 
 
 
170

159

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 التي تحدد مصير البلد. وقد حاول دفع بعض الشبهات والإشكاليات التي كان بعضهم يلقيها عبر القول إن الطلاب يجب أن يبتعدوا عن السياسة وعن المشاركة في الانتخابات لأنهم يحملون هموم التعليم والتحصيل. لذلك يعتبر الإمام أن القضايا السياسية والانتخابات، هي أمور تحدد مصير البلد، ومصير البلد يتعلق بكل شخص من أفراده ولا يمكن أن يتوقف على مجموعة خاصة، بل يشمل جميع أفراد المجتمع. وعليه فيجب على الجميع المشاركة ومن جملتهم الطلاب.

 
ثم يؤكد الإمام قدس سره أن الشبهة المذكورة ما هي إلا نوع من المؤامرة التي ما زالت تسيطر على العديد من البلدان منذ العديد من السنوات وهي بشكل عام تحمل في طياتها أضراراً متعددة. لذلك يقول الإمام قدس سره: "... يتوجب على الطالب الشاب أن يتدخل في الأمور التي تحدد مصيره... ويجب أن تكونوا يقظين لأنهم يريدون ما يريدون بمؤامراتهم، وحيث لا يمكنهم ذلك بالوسائل العسكرية، لذلك عملوا على إبعاد السياسة عن المذهب... ولكن باءت محاولاتهم بالفشل"1.
 
وتتجلى عملية مشاركة وتدخل الطلاب في جوانب أخرى عدا عن السياسية منها، حيث يؤكد الإمام قدس سره على ضرورة أن يقوم الطلاب بإفشال المخططات الاستعمارية التي تنال من البلد، ويرفض سكوتهم عما يدبر للبلد في الدول الأجنبية. يقول الإمام قدس سره: "... إنني أعلق آمالاً كبيرة عليكم أيها الطلاب في الداخل والخارج، ويتجلى هذا الأمل عندما أرى البلد قد طهر من وجود
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص171-172. 


 
 
 
 
 
171

160

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الأجانب وعملائهم، لا تدعوا اليأس يأخذ طريقه إلى نفوسكم، فالحق منتصر دائماً..."1. ومن هنا يفترض أن يمتلك طالب الجامعة ثقة عالية بقدراته وإمكانياته ويجعل الحق نصب عينيه ليواجه كل المؤامرات التي يحوكها الأجانب. ويشجع هذه الطبقة على سلوك طريق الحق ومقارعة الباطل وتوعية أفراد المجتمع لما يحيط بهم ، وإعلام الجميع بكل ما يدور حولهم أو يدبر لهم وفي النهاية ليكن الجميع على ثقة بأن الله تعالى هو ولي التوفيق2.

 
من جهة أخرى وفي الإطار نفسه يعطي الإمام قدس سره أهمية كبيرة لمواجهة المنحرفين. ولا تتحقق مواجهة الباطل والانحراف إلا إذا وضع الطلاب أيديهم في أيدي الشعب وتركوا الميل للشرق والغرب. طبعاً لن يترك الشرق والغرب الطلاب والشعب يحققون استقلالهم بل سيوجدون الكثير من العراقيل في الطريق، ويبقى أن الوحدة والاتحاد والتصميم هي من الأمور الكفيلة بالوصول إلى الاستقلال والاكتفاء الذاتي والخلاص من براثن المستعمرين والمستكبرين والالتفات إلى ما يتمتع به أبناء بلدنا من إمكانيات وقدرات.
 
بالإضافة إلى ذلك يشدد الإمام قدس سره على ضرورة أن ينهض الطلاب لمواجهة أي انحراف قد يحصل من بعض الأساتذة والقادة. فلا بد من إظهار الاعتراض الشديد على أعمالهم وتصرفاتهم، بل يجب إعلام الشعب بالمخططات الانحرافية، لأن المنحرفين هم في الواقع خائنون للشعب والدين والبلد3. وهنا تتجلى أفضل صورة لتدخل الطلاب في مصير البلد.
 
 
 

1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه، ج3، ص484-486.
3-  المصدر نفسه، ج10، ص80.
 
 
 
 
 
 
 
172

161

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 بشكل عام هناك العديد من العناوين الأساس التي تتجلى فيها عملية حضور الطالب الجامعي وفي مقاطع متعددة من الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية... ولكن الأهم من ذلك أن كل المحاولات لا يمكن أن تصل إلى مرحلة الإثمار ما لم ترتقِ الحركة الطلابية إلى مستوى الاتحاد وتجميع القوى وتشكيل تجمع طالبي يجعل نصب عينيه ثنائية الدين والشعب1.

 
من هنا يتوجب على الطلاب سواء طلاب العلوم الدينية أو طلاب الجامعات التدقيق والتعمق في الفكر الإسلامي، وترك شعارات ومنطلقات الحركات الطلابية المنحرفة ليتمكن هؤلاء من إحلال الإسلام العزيز مكان الانحرافات والاشتباهات التي أوصلت البلد إلى حافة الهاوية. يقول الإمام قدس سره: "ليعلم الجميع أن الإسلام مذهب غني لا يحتاج إلى ضميمة أيِّ من المذاهب الأخرى إليه، وليعلم الجميع أن التفكير الالتقاطي هو خيانة للإسلام والمسلمين حيث شاهدنا النتائج المريرة لهذا التفكير"2
 
في النهاية يعتبر الإمام أن حيثية الأستاذ والطالب الجامعي تجعل منهما شخصين يساهمان يساهمون في إصلاح البلد فيما لو كانا صالحين، وأما لو كانا غير ذلك فالنتيجة ستكون على العكس تماماً. فالطالب والأستاذ عند الإمام هما العقل المفكر للأمة، لذلك يجب أن يتحركا على الدرب الصحيح الذي يؤدي إلى وجود حقيقة الإنسان وتجليه في جميع الأفراد.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص484-486.
2- المصدر نفسه، ص262.

 
 
 
 
 
 
173

162

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 هـ - الاستمرار في الدفاع عن الإسلام والثورة

 
لعل من أهم الأمور التي يتوقعها الإمام من الطالب الجامعي والتي هي نتيجة حتمية لمجموعة من القضايا التي تقدم ذكرها وأهمها التزكية والعلم والمعرفة والالتفات إلى الحيثيات الحقيقية للطالب ودوره في عملية بناء المجتمع، أن يعمل على الدفاع عن الإسلام ويبذل قصارى جهده في الدفاع عن الثورة. لذلك يعتبر الإمام قدس سره:
 
"إن من واجب عموم المسلمين وبالأخص العلماء الأعلام والمثقفين وطلاب الجامعات، الاستفادة من كافة الفرص للدفاع عن الإسلام العزيز والحفاظ على أحكامه الحياتية التي هي في الواقع الضامن الحقيقي للاستقلال والحرية... وليتحدثوا ويصرحوا بما يجب التحدث به وليعملوا على إيصال صوتهم إلى جميع الدول والمنظمات الدولية والمجتمعات البشرية"1.
 
وإذا كان الدفاع عن الإسلام واجباً فلا بد من العمل على معرفة الأصول الأساس للإسلام وعلى رأسها التوحيد والعدل ومعرفة الأنبياء المؤسسين الحقيقين للعدالة والحرية. ولا بد من أن تشتمل المعرفة على جميع القضايا المعنوية، والأمور المتعلقة بتنظيم المجتمع والحكومة وشروط الإمام وولي الإمام، ولا تنتهي عن الولاة والقضاة والعلماء والمثقفين...، حيث يجب على الشخص أن يتعرف إلى رأي الإسلام في جميع هذه القضايا.
 
ويترتب على هذا الأمر أن يبتعد الطلاب والحوزويون عن اقحام سلائقهم
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص322-323.
 
 
 
 
 
 
 
174

163

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 وآرائهم الشخصية في تفسير القرآن الكريم وتأويل الأحكام الشرعية. بل لا بد من الالتزام بالإسلام في جميع أبعاده1.

 
أما في يتعلق بالثورة والتي هي النتيجة والثمرة الحقيقية لتحقق الإسلام.يوصي الإمام قدس سره بالحفاظ على هذا الانجاز العظيم الذي وضع بين أيدي الشعب وبالأخص الطلاب، والاستمرار في تحقيق أهدافها، ليكونوا بذلك ممن يساهم في تحقيق أهداف النبوة2.
 
3 - اللجان والتشكيلات داخل الجامعة
 
يتطلع الإمام قدس سره إلى اللجان الطالبية ودورها وأهمية وجودها انطلاقاً من الأهداف المطلوبة منها والدور الذي يجب أن تلعبه على مستوى تدعيم الأسس والمباني والقيم التي قامت الثورة من أجلها، وهي في الحقيقة قيم الإسلام والعدالة الواقعية.
 
وعلى هذا الأساس يمكن الوقوف عند أهمية اللجان الطالبية بالمقدار الذي تساهم فيه في ترويج وترسيخ قيم الإسلام ومعاداة الظلم والطغيان وإبعاد الانحراف والمنحرفين، لذلك يجب أن تكون هذه اللجان، عامل وعي ويقظة وحركة في الطريق الصحيح وليست عوامل انحراف وتأييد للمنحرفين.
 
لعل من أهم الأمور التي نلاحظها في تصريحات الإمام حول اللجان الطالبية، تشديده على الوحدة والاتحاد بجميع الأشكال التي تتجلى فيها. والوحدة ليست
 
 
 

1-  المصدر نفسه، ج14، ص1-2.
2- المصدر نفسه، ج3، ص211-212.

 
 
 
 
 
 
175

164

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 حالة مختصرة في الطلاب أو الأساتذة أو كليهما، بل تتعدى ذلك إلى وحدة المسلمين جميعهم. ويثني الإمام قدس سره على هذه الوحدة التي كانت وستكون حال تحققها كفيلةً بتحقيق الأهداف الإسلامية التي تؤمن سعادة البشر في الدنيا والآخرة1. طبعاً لا تتحقق هذه الأهداف إلا إذا وضعت اللجان الطالبية اختلافاتها جانباً، وتخلت عن المشاكل الجزئية وابتعدت عن النضال السلبي، بل النضال الإيجابي الفعال هو الذي يسمح بتحقيق تلك الأهداف2.

 
وإذا كان الإمام قدس سره قد أدلى بتصريحات متعددة خصَّ بها الطلاب واللجان الطالبية فقد قدم لها مجموعة من الوصايا الأساس التي تؤمن موفقيتها وتصحيح مسارها3:
 
أـ أوصى الإمام الطلاب بأن يجعلوا الإسلام وأحكامه العادلة على رأس اهتماماتهم. ولن تتمكن اللجان الطالبية من الوصول إلى هكذا هدف من دون حكومة إسلامية عادلة. والحكومة العادلة يترتب عليها نتائج وتبعات متعددة من أبرزها الالتزام بقوانينها ودساتيرها والعمل على تطبيق أحكام الإسلام، والبراءة من كل ما عداها.
 
ب ـ ويوصي الإمام قدس سره اللجان الطالبية بدعوة أصحاب التيارات الأخرى المخالفة إلى الإسلام أي إلى الدين الراقي العادل. وهذا يتطلب معرفة دقيقة بالإسلام لنتمكن من دعوة الآخرين إليه.
 
ت ـ يجب على الطلاب إعطاء قدر معين من أوقاتهم لمطالعة أصول الإسلام
 
 
 

1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه، ج3، ص321-327.
3- المصدر نفسه 

 
 
 
 
 
 
 
176

165

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 الأساس وعلى رأسها التوحيد والعدل ومعرفة الأنبياء. واستعلام حقيقة الأهداف التي جاء من أجلها الأنبياء بدءاً من المسائل المعنوية والتوحيد، إلى تنظيم المجتمع ونوع الحكومة وشروط الإمام وولي الأمر...


ث ـ ويطلب الإمام من اللجان العمل على إبعاد السلائق الشخصية في تفسير آيات القرآن الكريم، بل يجب الالتزام بالإسلام بجميع أبعاده وجوانبه. أما مصلحة المجتمع فهي من دون شك ستتحقق مع بسط العدالة ورفع الظلم وتأمين الاستقلال والحرية وتعديل الحركة الاقتصادية بشكل عاقل ومنطقي.

ج ـ الابتعاد عن كافة أنواع الاختلافات، لأن الاختلافات كالسرطان المهلك الذي يقضي على أي نجاح ويزيل أي هدف. ويشدد الإمام على ضرورة الاحترام بين اللجان الطالبية وبينهم وبين طلاب وعلماء الدراسات الدينية لما لذلك من أهمية في سبيل إعطاء صورة حقيقية عن الإسلام. 

ح ـ ويوصي الإمام قدس سره اللجان الطالبية أيضاً بضرورة الجدية في تحصيل العلم. لأن الإسلام يخالف كل من يدعو إلى الإهمال، بل الجدية تحمل فوائد متعددة على مستوى الأهداف الأساس التي يصبو إليها الإسلام.

خ ـ هذه خلاصة عن أهم وصايا الإمام قدس سره للجان الطالبية، وقد شدد في العديد من كلماته على ضرورة أن تكون جميع حركات ونشاطات
 
 
 
 
 
 
 
 
177

166

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 اللجان الطالبية ناشئة من الإسلام وتصب في خدمته. ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا كانت البداية من الأشخاص الذين إن حصلوا على فهم للإسلام في النظرية والتطبيق سيتمكنون لا محالة من إيجاد حركات طالبية مستقيمة ومفيدة.

 

 

 

 

178


167

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 خلاصة عامة


لم تكن رؤية الإمام الخميني قدس سرهللجامعة لتنفصل عن روح ومنطلقات الثورة الإسلامية الإيرانية التي قامت على نماذج من الأطر الناظمة للمجتمع من سياسية واقتصادية واجتماعية. أما الجامعة فهي لم تكن لتخرج عن المسار الذي اتخذته الثورة لنفسها وهو المضي في ترسيخ النموذج الإسلامي في المجتمع. أما المعالم والخطوط العريضة لرؤية الإمام الخميني حول الجامعة فهي تبرز من خلال تبديات ظهرت في الدعوة إلى استقلالية الجامعة عن الشرق والغرب ، وربط العلوم بغايات دينية ودنيوية و ثقافية وحضارية ،وهذا الربط يصبح أكثر انسجاماً مع ما طرحة الإمام حول وظيفة الأستاذ الجامعي في علاقته مع مجتمعه ومع النماذج الحضارية الأخرى. 

أما أهمية التعرف إلى رؤية الإمام فتقترن بالتعرف على المنطلقات اولاً ، ومن ثم الوقوف على عناوين الرؤية وقد تجلت بما يلي:

في المنطلقات 

تبين من سياق هذه الأقس أن الجامعة في فكر الإمام الخميني قدس سرههي الجامعة التي ينبغي لها الارتباط في منظورها الوظيفي وآفاق دورها بالرؤية الإسلامية الشاملة التي تنطلق من أصالة نظرة الإسلام إلى العلم والمعرفة والغاية الناتجة عن اقتران العلم بمسيرة التطور التاريخي للبشرية.

فخلال مقارنتنا لمنابع المعرفة في منطلقاتها الإسلامية وبعد تحديد الدوافع 
 
 
 
 
 
 
 
179

 


168

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 التي تشد الإنسان نحو المعرفة وهي دوافع فطرية بطبيعة الحال ومن ثم دوافع تتصل بحاجة الإنسان إلى المعرفة لتسيير أموره الحياتية ولمحاولة الانفكاك من أسر الطبيعة.

 
في المنطلقات الإسلامية كان للعقل الذي يعد بمثابة الأداة التي يختص بها الإنسان دون غيره في المعرفة يتبين مدى الأهمية التي يعيرها الإسلام للعقل باعتباره الأداة التي يعي من خلالها وجوده وإدراك كنه الأشياء وفلسفة وجودها وهو موكول إليه التعرف على بارئ الوجود.
 
في البعد الرؤيوي
 
- ربط العلوم بمنهج التوحيد الإلهي:
 
يعد ربط العلوم بمنهج التوحيد الإلهي أحد الأبعاد التي شكلت الدعامة الأساسية لنظرة الإمام الخميني قدس سرهللعلوم وبالتالي للجامعة كميدان وكحاضنة للفروع العلمية المتنوعة. لقد كان الإمام يجد أنه رغم التطور الهائل في تقدم العلوم فإنها لم تستطع تبديد القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان، هذا القلق ناتج عن تمحوره حول البعد المادي جراء انفصال العلوم عن مقام التوحيد وبالتالي اقتصارها على البعد الظاهري وخاصة العلوم الطبيعية. في حين يجعل الإمام لهذه العلوم بعدين أحدهما ظاهري والآخر باطني وهذان البعدان يراد لهما دوام الارتباط فيما بينهما أولاً لأن البعد الظاهري لا غنى عنه للإنسان سواء كان إلهياً أو مادياً لمواجهة تعقيدات الحياة وتطويرها نحو الأفضل في تلبية 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

169

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 حاجات الإنسان، ولضبط علاقته بأخيه الإنسان. في حين أن البعد الآخر أي الباطني لا بد أن يراعى حتى في العلوم الطبيعية كالطب والفيزياء والكيمياء وغيرها لكي يرى الإنسان عظمة الخالق في الوجود ولكي يكدح إلى بارئه في ارتقائه نحو الكمال سواء على نحو كونه فرداً أو سواء على نحو الكدح العام للبشرية في ارتقائها الحضاري نحو الكمال الإلهي من خلال الارتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وعالم الطبيعة وعالم الألوهة.


- وظيفة الجامعة في المجتمع:

الثورة كان لا بد لها أن تحدث في أوساط الجامعة في مناهجها وأساتذتها وطلابها بعد التخلص من دونية الإحساس إزاء الغرب ومحاولة تأجيل المفاهيم السائدة بردها إلى أصولها الإسلامية على غرار الحرية والفن والأخلاق وغيرها وهي مفاهيم ذات طابع إشكالي، فبعد التعرض لمساوئ التأثر بالغرب وللانعكاسات السلبية لهذه المفاهيم حين جعلها مورداً للتطبيق في المجتمع الإسلامي وبالتحديد في تجربة إيران خلال مراحل سبقت الثورة الإسلامية بعدها يجري الإمام الخميني مطالعة حول الانحرافات التي تم إحداثها لدى الجيل الشاب والنخب الجامعية جراء التأثر بتلك المفاهيم وهو إحداث مقصود من قبل السلطة القائمة قبل الثورة كمقدمة لدوام وجودها جراء تحويل الوعي إلى وعي مشوه يصرف الإنسان عن أصالة حركته المنشودة نحو دفع الظلم والارتقاء بمجتمعه نحو الأفضل في تحقيق العدالة والتنمية ومن ثم الانطلاق نحو تعميم النموذج الحضاري الإسلامي.
 
 
 
 
 
 
 
181

170

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 - تقديم النموذج الحضاري


لقد حملت الثورة الإسلامية في إيران كبقية الثورات في العالم أفكاراً وقيماً جديدة، انعكست على كافة مناحي وشؤون الحياة بما في ذلك المؤسسة الجامعية.وقد أولى الإمام هذه المؤسسة اهتماماً كبيراً واعتبر دورها خطيراً إلى درجة أنها تحدد مستقبل المجتمعات والأمم.

لكن الإمام في تأسيسه للنظرة الجديدة للجامعة ركز بداية على النواة الأولى وهي الإنسان، فاعتبره الموجود الوحيد الذي يعيش نهم المعرفة وقابلية العلم التي لا تنتهي عن حد، فهو حقيقة مجردة، مفطور على التوحيد وعاشق للكمال، لكمال المعرفة والعلم المطلق، لكن غاية ما وصل إليه جهد البشر العلمي معرفة الطبيعة دون العلم الحقيقي الذي يحتل البعد المعنوي للإنسان، لذا اقتضت الحكمة والعناية الإلهية إرسال الأنبياء ليؤسسوا مدرسة التوحيد لتزكية النفوس من جهة ومنع طغيان الإنسان من جهة أخرى.

فمن خلال إصلاح الإنسان تثمر جهود الأنبياء في إنقاذ الناس من أسر النفس وظلمتها ومن ظلمة الاستضعاف من ظلم المستكبرين.
فأساس البعثة ونهضة عاشوراء رفع الظلم وتحقيق العدالة والذي لن يتم إلا من خلال قيام الحكومة الإسلامية.
وقيام الحكومة الإسلامية هو النموذج الحضاري الإسلامي الذي يُعبر عن نسيج الإسلام بما يمثل من رؤية كونية مختلفة إلى العالم والوجود ومن مشروع حياة ونظام اجتماعي ذات بعد إلهي وهي التي تنجز حقيقة الاستخلاف الإلهي 
 
 
 
 
 
 
 
182

171

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 في الأرض وتحوله إلى حركة تكاملية مستمرة في عملية كدح وارتقاء نحو المطلق واللامحدود.


- الاستقلال وعدم التبعية

أراد الإمام في تأسيسه للحكومة الإسلامية أن تكون رسالته أممية تمتد لتُعيد رسم خارطة العالم وتخرجه من دائرة الاستقطاب الحاد الذي يعيشه، فقسم العالم إلى مستضعفين ومستكبرين، عالمين لا يجتمعان ولا يتصالحان، واعتبر أن الجمهورية الإسلامية بشعار لا شرقية ولا غربية هي النواة الأولى لتحقيق حكومة العدل الإلهي العالمي.

والجامعات يجب أن يكون شأنها شأن الجمهورية في استقلالها عن الشرق والغرب، وهذا يعني أسلمتها وذلك من خلال ارتباطها بثقافة الإنسان التوحيدي وأهدافه وغايته، وهذا لن يتم إلا من خلال بناء الإنسان الجامعي بإصلاح ثقافته وتربيته وإيجاد برامج تتوافق مع الرؤية التوحيدية للعلم بما يتفق مع الفطرة الإنسانية.

- في وظيفة الأستاذ والطالب

كذلك ومن جهة أخرى فإن الإنسان الجامعي أي الطالب أو الأستاذ ومن خلال الأفكار والكلمات التي قدمها الإمام قدس سره حظي بأهمية لافتة في هذا السياق حيث كان هذا الاهتمام يبرز على وجه الخصوص بتوجيهاته لهاتين الشريحتين حيث رسم الإمام قدس سره النقاط الهامة التي تجعل منه إنساناً يقوم 
 
 
 
 
 
 
183

172

القسم الثالث: الأستاذ والطالب في فكر الإمام الخميني قدس سره

 بالدور المطلوب منه بالأخص وأن رسالته على مستوى تربية الأجيال تتشابه من وجوه متعددة مع الرسالة التي من أجلها ضحى الأنبياء العظام. فالأنبياء جاءوا لصناعة الإنسان وجعله محور الهداية والسير نحو الكمال وهكذا يمكن للأستاذ أن يلعب الدور نفسه على مستوى الجامعة وتربية الطلاب وإعدادهم ليكونوا أفراداً نافعين في المستقبل. وعلى هذا الأساس تناولنا الأفكار التالية والتي تتعلق بالأستاذ: الدور التربوي للأستاذ الجامعي، مشاركته الفاعلة في الحفاظ على الدين والقيم، ودوره الهام في مواجهة الانحرافات ثم مساهمته العملية في الاستقلال الثقافي للبلد. بعد ذلك عرجنا على أهم القضايا التي يتوقعها الإمام قدس سره من الأستاذ على مستوى التربية ونشر الوعي وإصلاح المناهج والحفاظ على الثورة.


أما فيما يتعلق بالطالب الجامعي فقد أوضح الإمام قدس سره خلال كلماته المسؤولية الملقاة على عاتق الطالب الجامعي اتجاه المجتمع والبيئة المحيطة به وهي تتمحور حول اطلاعه العميق على دوره في التوعية ورفض المنحرفين والدفاع عن الوطن والإسلام. من جهة أخرى أوضح الإمام قدس سره في كلماته ما يتوقع من الطالب الجامعي على مستوى مساهمته في إيجاد حالة من الوحدة بين التشكلات والتجمعات الجامعية وجديته في تحصيل العلم والتدخل العملي والمثمر في قضايا البلد المصيرية.
 
 
 
 
 
 
 
184

173
الجامعة في فكر الإمام الخميني