القدوة الاهمية وتحولات الدور


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


الفهرس

 الفهرس

مقدمة

9

المقال الأول: القـــدوة ضرورتهــــا وتحولاتهــــا

13

القدوة فكرة

16

المراهقة والقدوة

18

القدوة التربوية

20

القدوة السلبية

23

القدوةً الناعمةً

25

العنف قدوة

31

القدوةً الملتبسةً

34

المقال الثاني: القـــدوه أهميتهــــا ودورهــــا

41

معنى القدوة

41

القدوة في النص الديني

42

أهمية القدوة

44

أركان القدوة

48

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

55

ومن سمات القيادة لدى الصغار

56

كيف ننمّي القيادة لدى أبنائنا

58

كلمة من القلب إلى القلب

65

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

69

العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية

70

البيئة المعرفية كعامل مولد للشخصية الإنسانية

70

المفاهيم ودورها في تأسيس البيئة المعرفية

71

كيف تبنى المفاهيم

73

المفاهيم القدوة

74

نماذج من المفاهيم القدوة قرآنيا

74

نماذج معاصرة للغزو المفاهيمي

76

سبل مواجهة المفاهيم الوافدة

80

الحذر اليقظة والوعي في مواجهة الغزو المفاهيمي

82

المقال الخامس : مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني

87

الجهوزية والتنظيم والانضباط

87

التفاعلية، عمومية الطابع

90

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

التشدد تجاه الذات - الاحتياط والتنزه والتعفف

93

المسلكية، والاعداد الاخلاقي

94

النجاعة في العمل التبليغي

97

استشعار خطر المسؤولية

98

الروح التربوية

100

التسلح العلمي

101

الامتثالية

103

الانسانية

103

الانقطاع واخلاص النية

104

الهدفية

106

الاعداد والاستعداد

108

التواضع

110

الوعي واليقظة

112

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

119

كيف السبيل؟ بل أين المفر؟

119

الموت الذي تحقق بفعله انتصار القيم والمبادئ

125

 

 

 

 

 

 

7


3

المقدمة

 مقدمة


يأتي الحديث عن القدوة ومواصفاتها ودورها وأهميتها في إطار البحث عن واحدة من ابرز احتياجات الإنسان على مستوى الفرد والمجتمع مع الأخذ بعين الاعتبار أن القدوة هي الصورة الأولى والكاملة التي تنطبع أمام أعين البشر . فيحاول كل شخص بما لديه من استعداد وقدرة الوصول إلى ذاك المقام العالي الذي يشاهده كمثال ونموذج وأسوة.

ويبحث الإنسان عن القدوة عندما يشعر بان في داخله شيء يدفعه نحو ما من اجله كمال شخصيته . وقد تكون القدوة شخص ما ، وقد تكون فكرة معينة وقد تكون عقيدة ...بغض النظر عما إذا كان هذا الشخص وهذه الفكرة والعقيدة أمراً مطلوبا أو غير مطلوب . فان كانت القدوة تجسد المثل العليا وتحمل من الصفات الأخلاقية والإنسانية كان المقتدي يتوق إلى الرفعة والرقي على المستوى الأخلاقي والإنساني ، وان كانت مثلاً أعلى من جهة السلطة والرئاسة والجاه والمقام ، كان المقتدي يتوق إلى تلك الجوانب أيضا. لذلك يمكن القول أن القدوة تتطور وتتحول عند الإنسان بناءً على البيئة المحيطة التي كانت السبب الحقيقي في وجود مجموعة من القيم التي يرنو الإنسان للوصول إليها . 

إذاً تتشكل القدوة في أجواء القيم (مهما كان نوع هذه القيم) وتساهم في موضوع التربية والوصول إلى الكمال وتساعد في عملية إقناع الآخرين بالأفكار والآراء وما شابه ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
9

4

المقدمة

 وبحث القدوة واسع ذو جوانب متعددة ، يمكن أن يطال دورها وأهميتها وخصائصها وما لها من امتداد في الفكر الديني وقد يجري البحث عنها بما لها من آثار على مستوى ثقافة التغرب والابتعاد عن القيم وبناء الشخصية الإنسانية ...وما إلى هنالك من أبحاث سنحاول الإجابة عنها في كتابنا الذي نضعه بين يدي القارئ الكريم عله يكون الخطوة الأولى في إدراك حقيقة القدوة واختيار النموذج والمثال على مستوى العمل.


منتدى الفكر اللبناني
 
 
 
 
 
 
 
10

5

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 المقال الأول




القدوة
 ضرورتها وتحولاتها




د. طلال عتريسي
 
 
 
 
 
 
 
11

6

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 الدكتور طلال عتريسي1

 
القدوة
 ضرورتها وتحولاتها
 
لم تترك القدوة الإنسان وحيداً. فما ان يتفتح وعيه منذ سنواته الأولى حتى يجد أمامه قدوة هي الوالدين ينشدّ إليها ويتأثر بها ويعتقد أنها أفضل ما يراه وما يبحث عنه. ومن خلال هذه القدوة تتشكل الصور الأولى للطفل عن العالم فيراه هانئاً منسجماً أو قاسياً مضطرباً. لذا توافقت كل الدراسات التربوية والنفسية على أهمية وجود الأسرة بالنسبة إلى الإنسان ،في حين تقدم الإسلام خطوة إضافية في هذا المجال عندما أكد على ربط وجود هذه الأسرة بشروط اختيار الزوجين،وليس كيفما اتفق، (تخيروا لنطفكم..إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه...).
 
ولا يختلف الباحثون حول أهمية الأسرة وأهمية ما يجري فيها وتأثيراته القوية على شخصية الإنسان اللاحقة. لكن قدوة الوالدين المهمة جداًبالنسبة إلى الطفل،لا تبقى غالباً على حالها في مراحل العمر اللاحقة.
 
 
 

1- أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 فمن المؤكد أن الإنسان عندما يصبح اكبر سناًً وأكثر تجربة وأوسع اطلاعاًً ستتغير نظرته إلى القدوة، والى شروطها ومواصفاتها، التي كان يتطلع إليها. فالطفل الذي يتخذ والديه أول قدوة له في سنوات عمره الأولى سينتقل لاحقاًً إلى قدوة أخرى قد تكون معلم المدرسة أو رفيق الصف، أو أي شخصية أخرى رياضية أو سياسية وفقاًً للبيئة التي سيعيش فيها أو يتأثر بها...كما أن هذا الاختيار قد يتغير أيضاًً في مراحل "النضجًً الأخرى بحيث تصبح القدوة فكرة أو عقيدة، أو حزباًً ينتمي إليه الإنسان... ما يزيد من أهمية "القدوةًً ومن ضرورة متابعة تحولاتها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان في مراحل عمره المختلفة وفي أدواره المتعددة في المجتمع.مع الالتفات إلى أهمية هذه القدوة والى أهمية تأثيراتها بحسب كل مرحلة من مراحل العمر.


ولذا لا يمكن أن يقتصر الاهتمام بالقدوة كما يحصل عادة على البعد التربوي فقط على الرغم من أهمية هذا البعد خصوصاًً في طفولة الإنسان ...بل يفترض أن يكون هذا الاهتمام أكثر اتساعاًً وشمولاًً من خلال الدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والثقافية والانتروبولوجية التي يمكن أن تقدم زوايا نظر مختلفة ومهمة ومتعددة لدور القدوة ولتأثيراتها على مستوى بناء الفرد التربوي وعلى مستوى تشكيل اتجاهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية... وصولاًً إلى أدوارها المحتملة على بنية المجتمع وتأثيرها على مصادر قوته وتماسكه...
 
 
 
 
14

8

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 تشترك معظم الدراسات الغربية التي تناولت موضوع القدوة ومعها الأدبيات العربية المترجمة عنها أو المتأثرة بها،في أهمية القدوة وفي تأثيراتها على الإنسان خصوصاًً في مرحلتي الطفولة والمراهقة. لكن قلة هي الدراسات التي التفتت إلى شروط القدوة ومواصفاتها.ويكاد هذا الأمر يقتصر على الاتجاه الديني الذي اهتم كثيراًً بالجوانب الاخلاقية للقدوة منذ مراحل العمر الأولى.لذا دعا الاسلام على سبيل المثال الى تجنب رفاق السوء والابتعاد عن مواضع التهم ومصاحبة اهل العلم خصوصاًً في مرحلة الشباب انطلاقاًً من المعرفة الأكيدة بصعوبة تغيير ما نكتسبه في هذه المرحلة.ولذا نلاحظ ان معظم العلماء وخصوصاًً اهل العرفان منهم يؤكدون على التمسك المبكر بالفضائل وعلى الابتعاد عن المعاصي حتى الصغيرة والبسيطة وعلى عدم تأجيل هذا الأمر الى المراحل اللاحقة من العمر لأن القدرة على تغيير العادات والسلوك تصبح أكثر صعوبة نظراًً لتمكن هذه العادات من نفوسنا وطباعنا ... اي ان المنظور الاسلامي للقدوة لا يكتفي بالحض على بعدها الايجابي فقط، بل يريد في الوقت نفسه ان نتجنب السلبيات التي قد تنجم عن القدوة السيئة.لأن الانسان بحسب الرؤية القرآنية المعروفة هو على استعداد للانحراف مثل ما هو على استعداد للرقي والتكامل. وهذا الأمر منوط بالبيئة التي يعيش فيها وبالتربية التي يتلقاها فإما ان تأخذه هذه التربية ومعها القدوة المرتبطة بها بعيداًً نحو الانحراف واما ان تدفعه قدماًً نحو الرقي والتقدم والتكامل...


 
 
 
 
 
15

9

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 القدوة فكرة


من المهم ان نلاحظ ان القدوة ليست دائماًً شخصاًً نقتدي به، قد يتغير بحسب الظروف والمراحل . فهي قد تكون ايضاًً فكرة دينية أو سياسية يحملها الانسان ويتأثر بها ويحاول تقليدها والعيش وفقاًً لمقتضياتها. وقد يتبناها الانسان ثم يتخلى عنها الى فكرة أخرى، فيغير طريقته في التفكير،وفي التصرف.من ذلك على سبيل المثال من يقتدي بالفكرة السياسية التي تدعو الى الاحتجاج السلمي والى التظاهر والى المشاركة في الانتخابات وغير ذلك مما نعرف عن معظم الأحزاب والحركات السياسية في عالمنا المعاصر.وما يشيع في اوساط المنتمين الى هذه الحركات من عادات مشتركة ومن زي متشابه ومن طريقة في السلوك وفي العلاقات بين الجنسين وفي احياء المناسبات السياسية والاجتماعية... وبين من يقتدي باتجاهات سياسية اخرى دينية او غير دينية تدعو الى العنف او الى التكفير وتفرض على اتباعها العزلة عن المجتمع وزياًً خاصاًً يتمايز به اتباع هذه القدوة عن غيرهم... وقد تكون القدوة بيئة ثقافية غير محددة المعالم ،(يبدو التعرف عليها اكثر صعوبة واكثر تعقيداًً) مثل ما تفعل وسائل الاعلام التي تبث طوال اليوم ومن دون توقف كل ما يمكن ان يشكل عناصر هذه البيئة الثقافية بمضامينها الفنية والاخلاقية والترفيهية والاجتماعية وسواها...وهي بيئة يصعب حصر اولها من آخرها وضبط ما يدور فيها...اذاًً القدوة ليست دائماًً شخصاًً أو نموذجاًً محدداًً يمكن ان نتعرف عليه

 
 
 
 
16

10

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  ونشير الى مواصفاته المحددة،على الرغم من أهمية الشخص/القدوة ودوره التاريخي في كل المجتمعات دون استثناء.بل هي أكثر من ذلك ايضاًً. فهي فكرة وهي بيئة وهي اطار يحيط بالانسان.وما يزيد من اهمية ومن خطورة هذه الفكرة او هذه البيئة انها باتت بفضل وسائل الاعلام الحديثة غير محددة المعالم تماماًً،وتتوجه الى أكثر من جيل، والى اكثر من فئة اجتماعية في وقت واحد...فباستطاعة وسائل الاعلام اليوم ان تتوجه الى كل افراد الاسرة في وقت واحد. وهي تتوجه اليهم في كل ساعات اليوم.وبات بمقدور الاغنياء والفقراء ان يشاهدوا الافلام والمسلسلات نفسها والنماذج القيمية والثقافية التي تبثها الفضائيات ومواقع الانترنت المختلفة من دون تمييز بين من يقدر على تقليد ما يدور فيها وبين من لا يجد قوت يومه لاشباع عياله... ما يجعل "القدوةًً التي تبثها تلك الوسائل "قدوة عالميةًً على مستوى الزي والأفكار والثقافة والسلوك والعلاقات ...تتجاوز الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لهذا البد أو ذاك..بحيث نشهد الاعلانات نفسها حول مساحيق التجميل وحول عروض الازياء والعلاقات بين الجنسين والفنانيين والممثلين ..من الولايات المتحدة الى الصين وصولاًً الى بنغلادش وأفريقيا وباقي الدول الاسلامية...


 
 
 
 
17
 

11

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 المراهقة والقدوة


تختلف ما اصطلح على تسميته مرحلة "المراهقةًً عن ما سبقها من مراحل لاسباب معروفة في الادبيات التربوية والنفسية،خاصة ما يتعلق بالادوار الجديدة التي يتوقعها المجتمع من المراهق والتي يتوقعها المراهق من نفسه ...إن المهم هنا هو كيف سيتعامل المجتمع مع هذه المرحلة وكيف سيقبل التغيرات التي يمر بها الانسان في هذه المرحلة. لأننا نعتقد ان المشكلة ليست في التغيرات الفيزيولوجية نفسها،بل في استعداد المجتمع أو في عدم استعداه لتوفير الفرص لدمج المراهق من دون أي تأخير أو تردد... عندما يخرج المراهق من نطاق العائلة الى نطاق المجتمع يجد امامه خيارات كثيرة: القدوة التربوية تتحول تدريجاًً من الوالدين الى شخصيات اخرى. لماذا يختار المراهق قدوة له ،شخصاًً لم يلتق به ولم يسبق ان تحدث اليه مباشرة؟ ولماذا يتعلق بشخص موجود في بلد آخر. قد يذهب الى قدوة سياسية او دينية او فنية او رياضية... ما يجعل القول بمواصفات نهائية للقدوة في مرحلة المراهقة امراًً صعباًً. فقد يعتبرالبعض ان الاسلام هو القدوة التي يبحث عنها،فيحاول ان يقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام وبسواه من الائمة والمصلحين. وقد يعتبر آخر ان فكرة العدالة أو مواجهة الظلم او الاحتلال التي تنادي بها حركات سياسية او اجتماعية هي تلك القدوة.فيقلد رموز وقادة تلك الحركات... هكذا سيكون غاندي الزعيم الهندي رمزاًً يٌقتدى به وبحركته السلمية في مواجهة 
 
 
 
 
 
18

12

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 الاحتلال والظلم. كما سيكون المناضل غيفارا الذي عاش في الغابات في اميركا اللاتينية وقاتل القوات الاميركية رمزاًً وقدوة لكثير من الشباب في الزي وفي السلوك..في حين سيجد كثيرون في بطولات المقاومة لبنان او في فلسطين التي عبر عنها الشهداء أو تجلت في الانتصارات ،قدوة تثير الاعجاب والتقدير...وهذه مسألة مهمة جداًً في واقعنا المعاصر،بحيث لا نستطيع ان نفصل غالباًً بين الفكرة وبين من يعبر عنها.


ما يمكن ملاحظته ايضاًً ان الشخص نفسه قد يكون قدوة في جوانب مختلفة من شخصيته.فهذا يتخذه قدوة بسبب وسامته وآخر لشجاعته وثالث لدماثة اخلاقه،أو لأفكاره ونظرياته، وهكذا... ونادراًً ما تجتمع مواصفات عدة في شخص واحد. وهو ما يطلق عليه "الكاريزماًً التي تلخص حضور هذه الشخصية الطاغي والمحبب في جوانبها كافة. الجانب الآخر لهذه المسألة الذي لا يقل خطورة وأهمية هو ما نسمية القداسة التي تسبغ على القدوة التي يتخذها الانسان نموذجاًً له بحيث يفقد في هذه الحالة أي حس نقدي تجاهها، بحيث لا يرى لتلك القدوة أي خطأ ، ولا يرى في سلوكها أي نقص . من هنا ذلك التأثير القوي للقدوة على اتباعها.ومن هنا ضرورة الاهتمام بالقدوة المناسبة التي يفترض الاقتداء بها.
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 القدوة التربوية 


لا شك ان التدخل التربوي او التوجيهي من جانب الاهل أوالمربين يفترض اعتماد الطريقة الملائمة وفي الوقت المناسب لتقديم "القدوة الايجابيةًً او التمهيد للإبتعاد عن "القدوة السلبيةًً. والاسلوب المعروف هو الحوار والاقناع.وما ينبغي مناقشته هنا هو الاسلوب التربوي الشائع في كثير من المؤسسات التربوية والعائلية حتى قبل مرحلة المراهقة.إذ ينبغي بالنسبة لنا ان ندمج بين الحوار مع الطفل او حتى المراهق وبين الحزم لتنفيذ ما يطلب منه. لأن الحوار في مرحلة الطفولة هو لتنفيذ الأمر تحت سقف الحزم وليس تحت سقف استمرار الحوار الى ما لا نهاية،حتى يقتنع الطفل بما سيقوم به.فماذا نفعل على سبيل المثال لو لم نتمكن من إقناع الطفل بالقيام بما ينبغي؟ الحزم هو الذي سيساعد على تنفيذ الأمر في هذه المرحلة كما سيساعد على تقبل التوجيه نحو القدوة الايجابية في مرحلة لاحقة . لذا نحن لا نستطيع ان نترك المراهق يفعل ما يشاء او ان ينجرف خلف تجربة كل شئ. التدخل ضروري لمنع هذه الانجراف من جانب الاهل ومن جانب كل من هو في موقع المسؤولية والقدوة. 

يمكن ان نلاحظ ايضاًً على المستوى التربوي كيف تتشكل القدوة كفكرة او كمثال اعلى من خلال ما هو مألوف من تشجيع الاهل والمعلمين الابناء والتلاميذ على الاقتداء بالناجحين.لأن ما يريده هؤلاء في هذه المرحلة من العمر هو النجاح المدرسي والتفوق. وهذا أمر ايجابي ولا يمكن
 
 
 
 
 
 
 
20

14

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  الاعتراض عليه او مخالفته. لكن الوجه الآخر لهذه المسألة لا يكمن فقط في احتقار الفشل والابتعاد عنه بل في ما يدعو اليه البعض من احتقار الفاشلين انفسهم الذي لم يتمكنوا من النجاح والتفوق. في هذه الحالة تخسر قدوة النجاح الكثير من مضمونها الاخلاقي.لأن المطلوب في حالة مماثلة ان يفهم الابناء والطلاب شروط النجاح وان يعرفوا شروط الفشل. وأن يطمحوا الى ان يكونوا من الناجحين وان يبذلوا الجهد حتى لا يكونوا من الفاشلين. لكن ذلك لا يفترض ان يؤدي الى احتقار الفاشلين على المستوى الانساني والاخلاقي. فللفشل اسباب كثيرة قد تكون خارجة عن ارادة الانسان،مثل الفقر والمشاكل العائلية وضعف القدرات الذهنية،وسواها... ولذا ينبغي ان نربي الاولاد ليس فقط على قيم النجاح بل وعلى قيم مد يد العون لمن هوبحاجة الى المساعدة لأنه لم يتمكن من النجاح مثلنا. وهذه الفكرة هي قدوة نضعها امام ناظري الابناء والتلاميذ.وبهذا المعنى ان ما تفعله الكثير من المدارس حول اعلان نسب النجاح التي تبلغ عادة نسبة المائة في المائة هي حافز وقدوة سواء للمدارس الأخرى في إطار التنافس الايجابي وفي اطار تشجيع الطلاب على النجاح كقيمة وقدوة لا يمكن التفريط بها في المراحل الدراسية كافة. لكن الوجه السلبي لهذه القدوة هو ما يجري في بعض تلك المدارس عندما تقوم بمنع الطلاب ذوي المستويات المتوسطة من تقديم الامتحانات الرسمية مع اقرانهم المتفوقين.او عندما تعزل هؤلاء في صفوف خاصة وتفصلهم عن رفاقهم الذين قضوا معهم سنوات طويلة خلال المراحل الدراسية.بحيث نصبح امام تمييز

 
 
 
 
 
 
21

15

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  واضح بين القوي والضعيف. فنعزل الضعيف ونترك القوي في مواقعه.القدوة هنا هي في هذا السلوك الذي تقوم به المدرسة التي تساهم من حيث لا تدري في وأد روح التعاون بين المستويات المعرفية-الدراسية المختلفة (المتفوق والمتوسط والضعيف...) .أي ان على القوي –المتفوق- بحسب هذا المنطق الا يلتفت الى الضعيف والا ينتظره والا يفكر بما سيفعله لأنه لن يراه امامه.فما هي القدوة التي نربي الاولاد عليها في مثل هذه الحالة ؟ هل هي قدوة التفوق فقط ام هي ايضاًً وفي الوقت نفسه قدوة الترفع والتعالي والابتعاد عن الضعيف وعن من يحتاج الى مد يد المساعدة؟ فأي قدوة يقدم الصف ومن خلفه ادارة المدرسة لتلامذته في هذه الحالة؟وماذا يمكن ان نتوقع من هؤلاء ان يفعلوا في المجتمع؟ سوف يكونوا على الارجح الى جانب الاقوياء وسوف يبتعدوا عن الضعفاء بدلاًً منأن يكون نجاحهم وتفوقهم فرصة لمساعدة الآخرين ولمد يد العون الى الضعفاء والى الوقوف بجانبهم. إن القدوة التي تقدم في هذه الحالة ليست شخصاًً او فرداًً بل هي فكرة وهي بيئة من التصرف ومن الممارسة وهي قيم سلبية نربي الاولاد عليها ،ولكن تحت راية وقدوة النجاح والتفوق...! وهذا احد اوجه القدوة بوجهيها السلبي والايجابي من الناحية التربوية.ولعل ما يجري على هذا المستوى متأثر بتلك القدوة /الفكرة المهيمنة التي نشرتها العولمة المعاصرة والتي جعلت البقاء للأقوى ثم تحولت عنه الى البقاء للأسرع. بمعنى اننا نقتدي هنا بفكرة القوة التي لا ترحم والتي تسحق من هو اضعف والتي لا تعترف بأي بعد أخلاقي أو بأي رحمة في العلاقات بين الناس أو بين القوي


 
 
 
 
 
22

16

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  والضعيف... القدوة الفكرة أكثر خطورة لأننا لا نرى من نقتدي به. في حين ان القدوة الشخص أكثر وضوحاًً، ويمكن ان ننتقل منه الى شخص آخر عندما يخيب أملنا من هذا الشخص. لكن القدوة الفكرة أكثر تعقيداًً وليس من السهل ان نلاحظ كيف تصبح هذه الفكرة قدوة لنا ،ولا كيف تمارس نفوذها علينا، ولا كيف يمكن التخلص منها والانتقال الى سواها...


إن خطورة القدوة واهميتها في الوقت نفسه تكمن في مرحلة الشباب. ففي الطفولة على سبيل المثال ستقتصر القدوة على الوالدين ،ثم على المدرسين لاحقاًً. ونادراًً ما يتعرض الطفل لقدوة سلبية في هاتين المرحلتين الأسرية والمدرسية.وحتى عندما يحصل ذلك فإن الأثر السلبي سيقتصر غالباًً على الطفل نفسه.أما في مرحلة الشباب فإن التعرض للقدوة بوجهيها السلبي والايجابي هو أوسع بكثير واحتمالاته متنوعة ومتعددة: من الأصدقاء الى المؤسسات التعليمية ومن المؤسسات الثقافية والسياسية ،الى المؤسسات الدينية والفنية وغيرها...بحيث يتجاوز أثر القدوة الفرد الشاب الى المجتمع بأسره، خصوصاًً وان الشباب هم أهم قوة تغيير في أي مجتمع من المجتمعات...

القدوة السلبية:

تتشكل هذه القدوة غالباًًمن خلال البيئة التي تحيط بالشاب، ومن خلال القيم التي ترتبط بهذه البيئة.فمن المعلوم ان كل بيئة مهما كان نوعها سياسية او دينية او فنية او رياضية تنتج غالباًً قيماًً خاصة بها.

 
 
 
 
 
23

17

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 وتتحول هذه القيم الى قدوة يلتزم بها اعضاء هذه البيئة او المؤيدين لها . بهذا المعنى قد يكون للمراهق اكثر من قدوة في وقت واحد. ومن الملاحظ ايضاًً في مجال الدراسات ذات الصلة بالمراهقين والشباب في هذه المرحلة شدة تأثرهم برفاقهم وبمن حولهم...لذا قد يلتحق المراهق بنموذج سلبي في السلوك وفي التفكير وفي العلاقات مع نفسه ومع الآخرين. ومن المؤكد ان أغلب حالات الانحراف مثل الادمان والجنوح وحتى السرقة وسواها لا تتم الا في بيئة جماعية. بمعنى ان الانحراف او تعاطي المخدرات لا يمكن تفسيره من خلال البعد الفردي فقط (أي من خلال مشكلة نفسية او عائلية ...) بل ينبغي الالتفات ايضاًً الى بيئة الرفاق والى الجماعة التي يمضي فيها الشاب أوقات فراغه وتسليته بعيداًً من رقابة الاهل او مؤسسات المجتمع الأخرى.ما يعني ان الانحراف هو حالة جماعية وهو نتيجة لقدوة سلبية تشكلت في بيئة جماعية من الرفاق الذين يشجعون على تعاطي المخدرات او على التدخين او على السهر بعيداًً عن المنزل او على ترك المدرسة والذهاب معاًً الى اماكن اللهو أو التسلية وسواها...إذاًً القدوة السلبية هي نتاج بيئة جماعية.وهذا يفترض في كثير من الاحيان ان نبدأ بتغيير هذه البيئة ، وتفكيك القيم والقدوة المرتبطة بها ،قبل تغيير سلوك الافراد انفسهم.


عندما يكون البيت قدوة سلبية (مشاكل بين الزوجين، اضطراب العلاقات العائلية...) سيهرب المراهق الى قدوة اخرى.قد تكون غالباًً
 
 
 
 
 
 
 
24

18

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 قدوة سلبية لأنها ستكون مجرد بديل من دون التدقيق في محتوى هذا البديل اذا كان ايجابياًً او سلبياًً. كما ان الشاب او المراهق قد لا يملك القدرة او حتى الاستعداد للتمييز بين السلبي والايجابي في القدوة اذا كا الهدف هو الهروب من قدوة عائلية ...لذا هو يحتاج دائماًً الى الاهتمام والمتابعة والرعاية.


القدوةً الناعمةًً

والمقصود بذلك هو القدوة التي تتسلل الينا بهدوء وتدريجاًً ومن دون أي ضجيج من خلال وسائل الاعلام التي لا تتوقف عن البث طوال ساعات اليوم وطوال ايام السنة. هذه القضية من اهم واصعب القضايا التي تؤثر بشكل كبير على القدوة التي تقدم الينا.أولاًً لأنها لا تتوجه الى مرحلة عمرية محددة بل الى كل مراحل عمر الانسان. وثانياًً لأنها لا تقدم القدوة غالباًً بشكل مباشر، بل تتشكل عناصر هذه القدوة من خلال التكرار والايحاءات والصور التي تتحول بمرور الوقت الى قدوة. ومصدر هذه الخطورة هو في ما يمكن ان نسميه التسلل الهادئ والناعم للأفكار وللنماذج التي تتحول بمرور الوقت ومن خلال التكرار الى قيم جديدة نقتدي بها فتغير ليس فقط من طريقة تفكيرنا وبل من طريقة تصرفنا في الحياة. بحيث لا ننتبه في معظم الاحيان الى ان مواقفنا تجاه هذه القضية او تلك قد تغيرت. او ان اعجابنا بهذه الفكرة قد تبدل الى فكرة أخرى جديدة لم نكن نقبل بها سابقاًً.
 

 
 
25

19

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 قبل نصف قرن لم يطرح هذا السؤال. هذه الوسائل تقدم نماذج تصبح قدوة تكون غالباًً قدوة سلبية. لأن هذه الوسائل تفرض علينا طوال ساعات طويلة في اليوم ... هنا علينا ان نحد من تأثير هذه الوسائل . أن نختار ما نرى , لا ان نكتفي بتلقي كل ما يعرض علينا من دون توقف.


ثمة أمثلة كثيرة تفسر لنا هذا التشكل "الناعمًً للقدوة على مستوى السلوك والأفكار.فالصور التي لا تتوقف معظم الفضائيات ومواقع الانترنت عن تقديمها عن الشباب ( من الذكور والاناث) الذي يعيش منفرداًً بعيداًً من اهله ومن دون أي رقابة اجتماعية، ويتنقل من هذا العمل الى ذاك ومن هذه العلاقة الى تلك ...ولا يكترث للروابط الاسرية، ولا للعادات او التقاليد ...سوف يشكل هذا النموذج –الفكرة- قدوة لشباب وشابات العالم الآخرين،خصوصاًً في المجتمعات الاسلامية، الذي يشاهدون هذا النمط من الحياة ويقارنون بينه وبين حياتهم حيث الضوابط الاخلاقية والدينية والسلوكية والاسرية المختلفة. بحيث يتوق الشاب او الفتاة الى تقليد ذلك النموذج ويطمح الى الاقتداء بما يراه. وهذا الأمر هو أحد اهم اسباب تلك الرغبة الجامحة لدى الكثير من الشباب في البلدان الاسلامية لمغادرة بلدانهم الى الغرب ظناًً منهم بأن ما يرونه في السينما وفي الفضائيات هو حقيقة سهلة يمكن الحصول عليها بمجرد ان تطأ اقدامهم تلك البلاد... وهكذا يتحول الغرب الى "قدوةًً.يعبر الشباب عن التعلق بها من خلال الرغبة في الهجرة التي تزداد نسبة ارتفاعها يوماًً

 
 
 
 
 
26

20

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  بعد آخر، وعاماًً بعد عام.وصولاًً الى ما يطلق عليه البعض "نزيف الادمغةًً.وهذه الظاهرة تثير القلق على مستويات عدة خصوصاًً وان فرص جذب "العمالة الماهرةًً من العالم النامي إلى الغرب المتقدم رفعت أعداد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين من 175 مليوناً إلى نحو 190 مليوناً في العقد الأخير. ويقدر أن ما يزيد على 80% من هؤلاء المهاجرين هم من بلدان نامية نحو أوروبا وأميركا وكندا. كما أن ثلث تدفقات المهاجرين من البلدان النامية تتراوح أعمارهم بين 12 و 24 عاماً.

إن ما يحصل على هذا الصعيد ان نظاماًً جديداًً من القيم يحل تدريجاًً محل نظام آخر.ونظام القيم هو مجموعة من العادات والافكار ومن المفاهيم ذات الصلة بثقافة المجتمع .وعندما يختار الشاب الغرب قدوة له فإن الأمر سيؤدي تدريجاًً الى الالتحاق بنظام القيم المرتبط بهذا النموذج. ولأن هذا الانتقال لا يحصل بسهولة ولأن الانسان لا يتخلى ببساطة عن نظامه القيمي الذي تربى عليه وعاش في ظله سنوات فإننا نشهد حالات كثيرة من الارتباك ومن القلق لدى الكثيرين حتى بعد اختيارهم الغرب قدوة ونموذجاًً لهم. ليس فقط لأنهم قد يكتشفوا ان هذه القدوة لم تكن كما توقعوا بل لأن الانتقال نفسه من قدوة الى أخرى ومن نموذج قيمي الى آخر يترافق مع مخاض صعب يتأرجح فيه الانسان بين هذا وذاك قبل ان يستقر في مرحلة لاحقة على قدوة محددة، وقد يبقى في مثل هذا التأرجح النفسي والقيمي سنوات طويلة من دون أي استقرار... 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 الاستهلاك هو نموذج آخر "للقدوة الناعمةًً. وهو الذي يتحول الى طريقة في التفكير،والى سلوك يقود تصرفاتنا . الاستهلاك هو الرغبة في الشراء وفي اقتناء الاشياء المختلفة حتى لو لم نكن بحاجة اليها. ونقيض الاستهلاك بهذا المعنى هو ان نشتري ما نحتاج. أي ان المواجهة هي بين الرغبة وبين الحاجة. الرغبة عادة لا حدود لها. أما الحاجة فمحدودة . الاستهلاك يحرض الرغبة التي لا حدود لها بحيث يندفع الانسان الى الاقتناء والى الشراء حتى لو يكن بحاجة الى ما سيشتريه...هكذا تنشأ عادات وقيم جديدة تصبح بمرور الوقت والتكرار مثابة قدوة في التعامل مع الذات و مع الآخرين ... ومن هنا تنشأ قيم التباهي وقيم التملك بحيث تصبح القدوة هنا هي النماذج التي تنسجم مع تلك القيم. 

وهذا بدوره يفترض المزيد من الشراء ومن الاستهلاك طالما ان الاسواق تضخ من دون تدفق السلع التي يرتبط الحصول عليها بالمكانة الاجتماعية.عندما يتحول الاستهلاك الى سلوك او عادة والى وسيلة للترقي الاجتماعي يصبح قدوة "ناعمةًً تمارس نفوذها من دون أي صخب أو ضجيج . 
وربما يصعب ان نفصل بشكل واضح بين القدوة التي نريد ان يقتدي بها الانسان في أي مرحلة من مراحل العمر وبين المثال الأعلى الذي يتخذه قدوة له يحاول ان يفعل مثله ويقتدي به ويسير على هدي سلوكه وافكاره...والمثال الأعلى هو غالباًً شخص محدد ولكنه قد يكون،كما أشرنا،فكرة في الوقت نفسه. بمعنى ان المثال الأعلى الذي يفترض الاقتداء به قد يكون
 
 
 
 
 
 
28

22

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 نمط حياة أونموذج للعيش أوطريقة في السلوك او في الاستهلاك او حتى طريقة في التفكير وفي التعامل مع الآخرين ...


لذا تثير قضية الشباب اهتماماً مشوباً بالقلق في معظم بلدان العالم، نظراً للدور المتزايد لهذه المرحلة في التغيير السياسي والاجتماعي؛ وفي التأثير على مستقبل أي أمة في مشروعاتها وخططها للتنمية من جهة،أو لحماية نفسها من الاخطار أو التهديدات المختلفة.التي قد تواجهها. و يعتبر الشباب من مصادر القوة الاستراتيجية في أي مجتمع، يحرص على تعزيزها، وعلى عدم التفريط بها أو خسارتها... لذا كان الشباب على الدوام موضع اهتمام الاحزاب والحركات السياسية والاجتماعية في معظم المجتمعات قديماًً وحديثاًً. وقد انصرفت الكثير من المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات إلى الاهتمام بهذه القضية على المستويات النّظرية والعملية ومن جوانبها النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية... لكن التفاوت في هذا الاهتمام، يعود إلى ما يريده أو ما يتوقعه كل مجتمع من الشباب.

ففي حين تشكو أوروبا على سبيل المثال تراجع أعداد هؤلاء الذين سيجعلونها "قارة عجوزًً في العقود القليلة المقبلة. تبحث دول أخرى عن الحلول الاقتصادية والتنموية والسياسية لمعالجة ارتفاع نسبة الشباب التي تجاوزت أكثر من نصف عدد السكان كما هي الحال في كثير من البلدان العربية والإسلامية وفي أفريقيا...

 
 
 
 
 
 
29

23

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 ولا شك أن "الثورة التكنولوجيةًً التي يشهدها عالم اليوم جعلت قضاياه ومشاكله أكثر ترابطاً وتأثيراتها متبادلة أكثر من أي حقبة أخرى في التاريخ. حتى ان تطلعات الشباب في كثير من بلدان العالم تأثرت بشكل أو بآخر بأنماط حياة الشباب في الغرب، بعد ان تعرفوا عليها عبر وسائل الاتصال وتحولت الى قدوة لهم يريدون تقليدها والتشبه بها. وفي مقابل ذلك فشلت معظم حكومات البلدان العربية والاسلامية في تقديم نفسها او سياساتها منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي إلى اليوم "قدوةًً لشبابها او حتى لمواطنيها في تحقيق التنمية المنشودة، المستقلة والمتوازنة، وفي تقديم نموذج لتداول السلطة وللحريات او للديمقراطية، أو حتى لمواجهة التحديات الخارجية او لبناء الاقتصاد القوي... ما جعل العلاقة بين هذه الحكومات المتعاقبة وبين أجيال الشباب علاقة أزمة وعدم ثقة، ونموذج للقدوة السلبية التي تنفجر مواجهات مختلفة بين حين وآخر ... وتشير أرقام اليونيسف على سبيل المثال إلى أن نحو 50% من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم تحت سن 24 سنة. ما يعني أن 160 مليون منهم (من أصل 300 مليون) سوف يحتاجون إلى العمل في عام 2010 . كما يشير تقرير آخر إلى أن الشباب ما بين 15-24 سنة في المنطقة العربية يقعون تحت ضغط الإحباط والتوقعات التي تحدثها بشكل جزئي مؤثرات الإعلام والتكنولوجيا والديناميكيات التحولية في البنى الأسرية، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والأزمات المستمرة التي يعيشها معظم بلدان المنطقة... ولا يفوت التقرير نفسه الإشارة إلى تأثير


 
 
 
 
 
30

24

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 العولمة على الشباب الذين نشأوا على مفردات جديدة تختلف عن تلك التي تعرفت عليها الأجيال السابقة – ما يزيد من صعوبة التواصل بين الجيلين ،بحيث نجد انفسنا امام ما يمكن ان نسميه "القدوة الملتبسهًً. ولعل هذا الالتباس في نموذج القدوة هو ما يواجهه شباب اليوم، ومعهم المجتمع الذي ينتمون اليه. خصوصاًً وأن التداخل بين القيم وبين الثقافات وبين مرجعيات السلوك الغربية والشرقية بات امراًً شائعاًً الى حد الصعوبة في التمييز بين ما ينتمي الى هنا وما ينتمي الى هناك.وليس من الصعب ان نواجه يومياًً في مجتمعاتنا العربية والاسلامية من يطرح من الشبان والشابات اسئلة كثيرة في لحظات محددة عن مصدر القيم التي تؤثر على سلوكهم وعلى خياراتهم وعلى طريقتهم في التفكير تجاه انفسهم وتجاه الآخرين في المجالات كافة.

 
 
العنف قدوة
إذا كانت هذه الأزمات التي يعيشها الشباب في مجتمعاتنا العربية، دفعت ببعضهم إلى اليأس أو الإحباط، والرغبة في الهجرة وترك البلاد، (الغرب ونمط الحياة الغربية قدوة جديدة مفترضة) فإنها دفعت بالبعض الآخر إلى محاولة تغيير الواقع باليد، وليس فقط بأضعف الإيمان (القلب) أو بالكلمة.كما فعل أولئك الذين التحقوا بما عرف بظاهرة التطرف والعنف التي شهدتها البلدان العربية والإسلامية منذ مطلع الثمانينيات إلى اليوم, وهؤلاء ذهبوا تارة بدافع من عقيدتهم الدينية إلى قتال "الاحتلال الكافرًً

 
 
 
 
 
31

25

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 في افغانستان ، وطوراً إلى مواجهة "الأنظمة الكافرةًً في بلدانهم والتي "لا تحكم بما أنزل اللهًً وفقاًً لرؤيتهم لها. وقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة التي وفرته العولمة التواصل اليسير وحتى غير المكلف مع كل ما يجري في العالم، (عبر الأنترنت) والتعرف إلى أنماط ثقافية جديدة غيرت في بعض مفاهيم الشباب حول التقاليد وسلطة الأهل والعلاقات بين الجنسين والرغبة في الهجرة إلى "مكان افضلًً.


لكن هذه الوسائل أتاحت في الوقت نفسه التعرف الى المشاكل التي يعيشها الشباب امثالهم في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. وأن يشاهدوا بأم أعينهم المآسي الإجتماعية والظلم وعمليات القتل التي يتعرض لها الفلسطينيون، والعراقيون واللبنانيون... ما أثار النقمة والغضب في نفوس هؤلاء الشباب، ليس فقط على من يتسبب بهذا القتل وتلك المآسي (الولايات المتحدة وإسرائيل...) بل وعلى الحكومات التي لا تفعل شيئاً لمنع ذلك... وساعدت وسائل الاتصال الحديثة الجيل الشاب على تجاوز القيود المعرفية والإعلامية التي تفرضها عليه معظم الحكومات التي يعيش في ظلها. وبات يشعر بأنه يمتلك قوة المعرفة التي تحولت لدى قسم من هؤلاء الشباب إلى "معرفة القوةًً بعد أن ارتبطت معرفتهم بالبعد الديني – الأيديولوجي الثابت الذي لا يتبدل... والتي أفضت إلى الالتحاق بنموذج تطبيقي عملي يجسد تلك القوة وتلك المعرفة الدينية المرجعية على أرض الواقع من خلال تنظيمات دينية قامت بممارسة العنف في أكثر من

 
 
 
 
 
 
32

26

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

  اتجاه وعلى أكثر من ارض عربية واسلامية وغربية..هكذا صار العنف في موقع القدوة التي تجاوزت ما عداها من وسائل ومن اساليب ومن افكار في التعامل مع الواقع...


ولعل أي مراجعة لأدبيات المنظمات الإسلامية التي شغلت الناس، وبرامج الفضائيات، وأقلقت الحكومات، مثل "تنظيم الجهادًً، و "القاعدةًً، و "فتح الإسلامًً، وسواها... تكشف لنا هذا البعد العنفيًًالتكفيريًً لهذه المنظمات لبناء "إمارة إسلامية نقيةًً... وما يفترض أن يثير انتباه الباحثين، وليس فقط الأجهزة الأمنية، أو العسكرية، إن ظاهرة العنف/القدوة، التي ارتبطت "بالسلفية – الجهاديةًً، لم تجذب إليها، الفقراء واليائسين من الشباب فقط. (وفقاً للفرضية التي تربط الإرهاب والتطرف بالفقر والحرمان). بل جذبت أيضاً من ينتمي من الشباب إلى الطبقات الوسطى، وحتى إلى الطبقات الميسورة خاصة في بعض بلدان الخليج مثل المملكة السعودية وغيرها...وهذا نموذج "للقدوة/ الفكرةًً التي اشرنا اليها .هكذا بات "الشيخ أسامةًً (أسامة بن لادن) الشخص ، قدوة وحافزاًً لكثير من الشباب في العالمين العربي والاسلامي.لأنه تحول الى رمز "متخفًً في مواجهة الغرب والقوات الاميركية...مثلما تحولت المقاومة الاسلامية في لبنان الى فكرة وقدوة وتحول رمزها وقائدها السيد حسن نصر الله قدوة جذابة ومحط اعجاب وتقدير ليس للشباب فقط بل لاجيال مختلفة وجدت فيه نموذجاًً للقائد الذي يحقق الانتصارات بعدما ارتبط تاريخ القادة

 
 
 
 
 
33

27

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 العرب المعاصرين بالهزائم ... ان القائد الشخص هنا لا يقل أهيمة على الاطلاق عن الفكرة القدوة. لا بل هو الذي يعطي لتلك الفكرة/القدوة صدقيتها وقوتها اذا تمكن من التعبير الفعلي قولاًً وعملاًً عن تلك الفكرة التي يحملها ويدافع عنها ويدعو اليها... 


القدوةً الملتبسةًً

إن الجانب الأشد خطورة في ما نطلق عليه "القدوة الملتبسةًً ، ليس تلك الصلة بين شباب اليوم وبين تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت قدوتهم المرجعية في جوانب كثيرة من حياتهم غير واضحة تماماًً . بل تكمن الخطورة في حصول ذلك الالتباس في مجتمعنا نفسه عندما نقدم نموذجاًً فكرياًً او سياسياًً او دينياًً او سلوكياًً ولا نلتزم تماماًً بما يفترضه هذا النموذج.أي اننا نكون في هذه الحالة مثل الذين يسألهم القرآن الكريم "لم تقولون ما لا تفعلونًً؟ .وقد شهدت حركات سياسية ودينية واجتماعية كثيرة عبر التاريخ في بلدان الشرق والغرب مثل هذه القدوة الملتبسه التي ادت الى خسارة تجربتها والى تراجع النموذج الذي قدمته تلك الاحزاب والحركات في مرحلة معينة.بمعنى ان قادة هذه الحركات الذين كانوا قدوة في الزهد او التواضع أو التضحية على سبيل المثال تحولوا الى حب التملك وحب الشهرة والى التعلق بالمكانة الاجتماعية. لكنهم استمروا في الحديث مع الناس وفي الكتابة عن فضيلة الزهد وعن قيمة التواضع.

 
 
 
 
 
34

28

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 ولعل من المفيد في هذا المجال ان نذكر "التجربة الأفغانيةًً التي تحول فيها بعض قادة المجاهدين الى البحث عن الثروة والمكانة وًًحب الدنياًً بعدما كانوا "قدوةًً الجهاد في أودية افغانستان وجبالها قبل سنوات . وبحسب بعض التقارير،(الحياة 10/9/2009) يتحدث الناس بحسرة عن "ثروات تقدر بمئات الملايين من الدولاراتًً كدسها قادة أحزاب "المجاهدينًً الذين تصدوا للغزو السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين. هؤلاء القادة تحولوا بغالبيتهم الى إقطاعيين جدد، يمتلكون كثيراً من المجمعات السكنية...

وتعتبر ضاحية "وزير أكبر خانًً أرقى أحياء العاصمة كابول. واستولت أحزاب "المجاهدينًً على منازل الحي أول مرة بعد دخولها كابول عام 1992، علماً ان لهذه المنازل مالكين اصليين يحتفظون بأوراق ملكيتهم القانونية. واستولى أحد قادة "المجاهدينًً على أكثر من مئة منزل في حي "وزير أكبر خانًً، إضافة إلى عدد من الفنادق والأسواق التجارية، مع أن هذا القائد لا يكف عن انتقاد الغرب والدول المجاورة لتدخلها في أفغانستان.

ويقدر البعض ثروة قائد آخر لـ "المجاهدينًً بما لا يقل عن بليون ونصف بليون دولار،علماًً بأن هذه الثروة لم تجمع كلها من أموال "الجهادًً فحسب، بل أيضاً من تجارة الأحجار الكريمة. 

ينطبق ما تقدم ،أي مبدأ "تقولون ما لا تفعلونًً في التجربة الأفغانية ،على الشخصيات الدينية ايضاًً التي تتحدث عن فضائل الآخرة وهي

 
 
 
 
35

29

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 احرص الناس على الدنيا وما فيها. وعلى الهيئات المدنية التي ترفع شعار محاربة الفساد ،وتحوم حولها الشبهات والتهم . إن الالتباس ينشأ من التداخل الذي يحصل بين "الصح والخطأًً او بين الحق والباطل. بين ما يدعو اليه هؤلاء من حق وبين ما يمارسونه من باطل او من خطأ.ًً بين ما يقولون وبين ما يفعلونًً في الوقت نفسه... وحتى بين ما يقوله بعضهم وما يفعله البعض الآخر في الجمعية نفسها، أوفي التنظيم الحزبي نفسه،او في الهيئة الاجتماعية نفسها . عندما تبلغ القدوة هذه الحالة تصبح "قدوة ملتبسةًً،وتفقد تدريجاًً البريق الذي كان لها،ولكن من دون ان تفقد تماماًً الاقتداء بها.وهذا جوهر الالتباس المقصود.أي التساؤل عن مدى استمرار صدقية تلك القدوة، وفي الوقت نفسه استمرار الالتزام بها وتأييدها كشخص أو كفكرة.ويشير الامام الخميني في كتاب " الجهاد الأكبرًً الى هذه الظاهرة عندما "يفقد العلماء ثقة الأمةًً.أي عندما "لا يكون توجههم الى الله ،وعندما يهتمون ببهارج الدنيا، وعندما يكون همهم المصالح الشخصية كما يفعل الآخرون ،...ويقول الآمام لهؤلاء العلماء :ًًأن الأمة اذا رأتكم متنازعين على الدنيا ومتخاصمين من اجل اهوائكم واتخذتم الدين دكاناًً ومتجراًً ..فإن الأمة ستنحرف...وتسئ الظن بكم ،وأنتم المسؤولون حينئذ عن ذلك كله.ًً(ص 29).اي ان الأمة ستكف عن اعتبار العلماء قدوة لها.وقد تتخذ رموزاًً أخرى قدوة بديلة.


 
 
 
 
 
36

30

المقال الأول: القدوة ضرورتها وتحولاتها

 إن التجارب السابقة كلها في بلاد الشرق والغرب من دون استثناء ،تقول لنا بأن القدوة كشخص، أوكفكرة، وخصوصاًً كبيئة من السلوك ومن القيم، تفقد بريقها وًًقدسيتهاًًمتى تعرضت للتساؤل عما "يقولون وعما يفعلونًً. أو عندما تعجز تلك القدوة عن تحقيق الاهداف التي وضعتها لنفسها ،أو عندما تهتز الصورة التي تشكلت عن تلك القدوة من خلال تجربتها "الملتبسةًً، كما في نموذج بعض المجاهدين الأفغان...وفي نماذج أخرى كثيرة . هذا ما حصل عبر التاريخ وهذا ما سيحصل في المستقبل،حيث ستخلي مثل هذه القدوة ورموزها مكانها ومكانتهم لقدوة أخرى....

 

 

 

 

 

37


31

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 المقال الثاني




القـدوه
 أهميتهـا ودورهـا





د. علي الحاج حسن
 
 
 
 
 
 
 
 
39

32

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 د. علي الحاج حسن1

 
 القـدوه أهميتهـا ودورهـا
 
معنى القدوة
 
القدوة هو الذي يقتدى ويحتذى به من حيث جعله أسوة ومثالاً ونموذجاً لسلوكيات وتصرفات الآخرين. وفي لسان العرب : يقال قدوة لما يقتدى به. وقال أيضا: والقدوة ما تسننت به2
 
والإقتداء هو طلب موافقة الغير في فعله، واتّباع شخصية تنتمي إلى نفس القيم التي يؤمن بها المقتدي، وعادة ما يمثل شخص المقتدَى به قدراً من المثالية والرقي والسمو عند أتباعه ومحبيه، والقدوة تنطوي في داخلها على نوع من الحب والإعجاب الذي يجعل المقتدِي يحاول أن يطبق كل ما يستطيع من أقوال وأفعال.
 
 
 

1- استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية.
2- ابن منظور ، لسان العرب ، الناشر ادب الحوزة ، قم ، ايران ، 1405 هـ ق ،ج15 ، ص17.
 
 
 
 
 
 
 
41

33

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الإقتداء إلغاءً أو مصادرة للرأي والإرادة، أو ممارسة لضغط ما، أو قسر المقتدي على أمر معين؛ لأن الإقتداء ينطلق من قناعة صاحبه؛ فهو جزء من إرادته.

 
القدوة في النص الديني
 
تحدثت آيات القرآن الكريم والروايات الواردة عن أهل البيت حول القدوة وأهميتها ودورها ومن جملة ذلك:
 
قال الله تعالى : ﴿أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه‏﴾1.
 
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بالاقتداء بالأنبياء السابقين. والآية الشريفة تجعل منهاج الأنبياء العظام قدوة ترافقها الهداية لا بل هي من لوازمها غير المنفكة. يقول صاحب تفسير الأمثل: "تؤكد هذه الآية مرة أخرى على أن أصول الدعوة التي قام بها الأنبياء واحدة، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق... ولكن ما المقصود من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتدي أولئك الأنبياء. يقول بعض المفسرين إن المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل ويقول بعض آخر انه التوحيد وإبلاغ الرسالة ولكن يبدو أن للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية كما يشمل الصبر..."2
 
 
 

1- الأنعام/90
2- الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ،مكتبة اهل البيت عليهم السلام ، ج4 ، ص373-374
 
 
 
 
 
 
 
42

34

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 وحث الله سبحانه الأمة على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيراًً﴾1

 
يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره: " والمعنى من حكم رسالة الرسول وإيمانكم به أن تتأسوا به في قوله وفعله وانتم تروون ما يقاسيه في جنب الله وحضوره في القتال وجهاده في الله حق جهاده..."2 وقال صاحب تفسير الأمثل : " فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير نموذج لكم ، لا في هذا المجال وحسب ، بل وفي كل مجالات الحياة3 كما حث الله تعالى الناس على الاقتداء بالأنبياء والرسل وطلب إتباعهم: ﴿ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في‏ إِبْراهيمَ والَّذينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه‏﴾4
 
وهناك العديد من الآيات الشريفة التي تحدثت عن الاقتداء بالأنبياء والرسل والمؤمنين لما يشكلون من قيمة في حياتهم سواء على مستوى السلوك أو الفكر . فإذا كان هدف الأنبياء هداية البشر فإنهم سيؤدون هذا الدور بسلوكهم وأفكارهم إذ ينبغي أن يكون وجودهم وسيلة للهداية.
وقد تناولت العديد من الروايات مسألة القدوة لناحية أهميتها ودورها,  عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: " من سنّ سنة حسنة فله أجرها واجر من
 
 
 

1- الأحزاب/21
2- الطباطبائي ، محمد حسين ،الميزان في تفسير القرآن ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم ، ج16 ، ص288
3- الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، ج13 ،ص197
4- الممتحنة/4
 
 
 
 
 
 
 
 
43

35

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شئ"1. وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال أيضا: " في القلوب نور لا يضيء إلا من إتباع الحق 

وقصد السبيل وهو نور من المرسلين الأنبياء مودع في قلوب المؤمنينًً 2
 
عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: " لا طريق للأكياس من المؤمنين اسلم من الاقتداء لأنه المنهج الأوضح والمقصد الأصح. قال الله عز وجل لأعز خلقه محمد ﴿أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهًً فلو كان لدين الله تعالى عز وجل مسلك أقوم من الاقتداء لندب أنبياءه وأولياءه إليهًً﴾1 والروايات في موضوع القدوة كثيرة نكتفي بما اشرنا إليه.
 
أهمية القدوة
 
إذا كانت الأديان السماوية قد أعطت أهمية كبيرة وواضحة للقدوة وبالأخص القدوة الحسنة لما تمثله هذه القدوة على مستوى تقريب الأفراد من الغاية أو الهدف (القرب من الله تعالى)، فان للقدوة أهمية واضحة على مستوى الحركة الاجتماعية والتربوية. لان الوصول إلى مرحلة من مراحل التكامل البشري حيث ينتفي الشر ويسود العدل والوئام وبالتالي بناء مجتمع سليم يقوم على أساس المبادئ والقيم والأفكار التي من شأنها
 
 
 

1- الكليني الرازي ، محمد بن يعقوب بن اسحاق ،الكافي ، مطبعة حيدري ، طهران ، الطبعة الخامسة ، 1363هـ ش ،ج5 ،ص9
2- المجلسي ، محمد باقر، بحار الأنوار ، مؤسسة الوفاء ، لبنان ، الطبعة الثانية ، 1983 ،ج2 ، ص265
3- الكاشاني، محمد محسن الفيض ، التفسير الأصفى ، مركز الابحاث والدراسات الاسلامية،مكتب الاعلام الاسلامي ، قم، 1376هـ ش، ج 1 ، ص332
 
 
 
 
 
 
 
44

36

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  السمو إلى أعلى المستويات ، كل ذلك يقتضي وجود قدوة يتبعها الأفراد وتشكل نموذجا فريداً وهاماً على مستوى المجموع ، وذلك بغض النظر عما إذا كانت القدوة تتمثل في شخص بشري تشكل سلوكياته وأفكاره وممارساته وحركة حياته والقيم التي يتبعها ، قدوة للآخرين؛ أو أن تتجلى القدوة في عقيدة أو فكر أو نموذج أو مثال معين.

 
وتبرز أهمية القدوة في الجوانب التالية:
 
القدوة واحدة من أهم وابرز أساليب التربية. وإذا كان المقصود في الاجتماع البشري الوصول إلى مرحلة إنتاج فرد سليم ومفيد للمجتمع فإن ذلك لن يتحقق من دون العمل على جعل الأفراد سالمين مفيدين فتكون القدوة أهم وسيلة لتحقيق ذلك. ولو عدنا إلى التاريخ البشري وتاريخ الأديان لوجدنا أن القدوة قد لعبت هذا الدور التربوي إذ أنها تفيد في نقل الأفكار والقيم والسلوكيات الصحيحة إلى الآخرين. وقد تشير هذه المسألة إلى عدم جدوائية التلقين الذي يتبعه البعض في العملية التربوية. فقد لا يقتنع ولا يؤمن الفرد إذا وجد أن الملقن لا يؤمن ولا يعتقد ولا يوقن، أما عندما نقدم القدوة كنموذج أساسي للتربية فإن التأثير في النفوس سيكون اقوي لا محالة. 
 
وفي هذا الإطار يفيد التذكير بما توجه به الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه ﴾ على أساس أن المهتدين من المتقدمين على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحملون من القيم والسلوكيات والعقائد السوية
 
 
 
 
 
 
 
 
45

37

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  ما يجعل ما يحملون محل تقدير وأهمية على مستوى الواقع لذلك طلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الاقتداء بهم والسير في نفس الطريق السوي والسليم الذي يعبر عن حقيقة رسالة الله تعالى والتي جوهرها الهداية للمجتمعات البشرية.


والقدوة بهذا المعنى وهذه الصورة حالة ضرورية لجميع الأفراد بغض النظر عن الكبير والصغير والمتعلم والأمي، بل هي ضرورية للجميع إذ كما قلنا تقدم نموذجا تربويا تحتاجه البشرية في جميع تفاصيل الحياة.

ليس بعيداً عن ما تقدم من البعد التربوي المتقدم، فإن الأشخاص يميلون ويرغبون في أن تكون حياتهم مجبولة بالبطولات والكمالات، ولا يمكن لأي شئ أن يترك آثاره على الشخص كما يتركه العمل. فالبشر تبتعد بطبيعتها عن المجردات والأساطير والأمور التي لا اثر لها على ارض الواقع وتميل نحو الكمالات والبطولات الواقعية لأنها تحاكي الحقيقة التي تعيش بينها.

من هنا يمكن الحديث عن القدوة على أساس أنها مدرسة تقدم للأشخاص والأفراد نماذج واقعية عن تلك الكمالات والبطولات وما يريد أن يصل إليه الإنسان فيتقدم الشخص نحو القدوة ويتأثر منها وينهل من مضمونها عله يتمكن بذلك من الوصول إلى ما يصبو إليه.

وإذا كانت القدوة تلعب هذا الدور، فإنها ستكون مطلوبة بشكل اكبر عند الأفراد إذا علموا وجود كمالات حقيقية اكبر وارفع واهم من التي اعتادوا عليها في حياتهم المادية. وبعبارة أخرى إذا أدرك الشخص وجود كمال
 
 
 
 
 
 
 
46

38

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  اكبر من الكمال المادي وأدرك حقيقة وجوده في الشخص الفلاني والمكان الفلاني والعقيدة الفلانية... فإنه يسعى نحو ذلك بهدف تحصيل ذلك الكمال والوصول إليه . ومن هنا نقول ان الدين قدم نظاما متكاملاً يهدف قبل أي شئ إلى نقل الإنسان نحو الكمال اللامتناهي، وقدم الدين أيضا النماذج الحقيقية التي يتجلى فيها ذاك النظام. فعمل هؤلاء الأشخاص بكل وجودهم على تكريس حقيقة الدين. فكانوا القدوة وكانت أفكارهم قدوة أيضا لذلك فإن من يتذوق طعم تلك الكمالات لا بد ان يسعى نحوها.


وتبرز أهمية القدوة بالإضافة إلى ما تقدم على مستوى إقناع الآخرين بإمكانية الوصول إلى الفضائل. فإذا سلمنا بان الشخص الفلاني يشكل قدوة للآخرين لما يتمتع به من فضائل وأخلاقيات وصفات حسنة، فإن قبول الآخرين لوجود الفضائل وتصديقهم بإمكانية الوصول إليها والتحلي بها موقوف على وجودها في شخص معين. وهذا يعني القبول بواقعية تلك المفاهيم التي يظنها البعض من نسج الخيال أو من مكان بعيد عن الواقع.

من جهة أخرى قد لا يترك الكلام أثره على الشخص مهما طلب من الناس التحلي بالفضائل والإقبال عليها ولعل السبب في ذلك يعود إلى صعوبة التصديق بها والاقتناع بجدواها ، إلا ان العمل بها ووجودها في شخص القدوة يدفع الإنسان للرضوخ لها لا بل فهمها والعمل بها . ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يُقبل على أي عادة أو فكرة إلا بعد ان يدرك ويفهم أنها حقيقة واضحة وواقعية.
 
 
 
 
 
 
47

39

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 أركان القدوة

 
لا تتحقق القدوة في الشخص إلا إذا اجتمعت لديه مجموعة من الأركان والخصائص التي تجعله قدوة في نظر الآخرين ومن جملة ذلك:
 
الصلاح 
 
وهي حالة أو هيئة تظهر عند الشخص تكون نتيجة عوامل متعددة من أبرزها (عند أصحاب الأديان): الأيمان وحسن الاعتقاد بالدين الذي ينتسب إليه والفضائل التي ينادي بها . وكذلك لا بد من توفر العبادة وهي العمل بأحكام ذاك الدين والشرائع التي سُنّت فيه، وبالتالي الابتعاد عن كل ما هو مخالف لهذه الشريعة، ثم ان الصلاح يحصل من خلال الإخلاص والذي هو الأساس الهام للصلاح لأنه هو العنصر الذي يظهر ويتجلى في حركات وسكنات المقتدى. فبواسطته يبتعد المقتدى عن الأهواء النفسانية والأغراض الدنيوية قولاً وعملاً، وبه تتجلى حقيقة العبادة.
 
حسن الخلق
 
لعل حسن الخلق عامل أساسي في شخصية القدوة، يتجلى ويظهر عند تعامل المقتدى مع الناس. ومن هنا جاء قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"1 للدلالة على جوانب القدوة في شخصيته إذ يبين ما تحتويه وما تختزنه هذه الشخصية من مكارم وفضائل ولتبين أهداف
 
 
 
 

1- المجلسي ، محمد باقر، بحار الأنوار ،ج16 ، ص210
 
 
 
 
 
 
 
 
48

40

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  البعثة والتي هي إيصال الأخلاق إلى أوجها، مما يجعل هذه الشخصيات محط أنظار الغير ومؤثرة في حركتها وحياتها الاجتماعية.

 
من جهة أخرى فقد تحدث الإسلام وحدد بعض المفاهيم التي تندرج في إطار تحسين الأخلاق في التعامل مع الآخرين ومن ابرز ما جاء: الصدق، الصبر، الرحمة، الرأفة، الشفقة، التواضع...
 
موافقة القول العمل 
 
ان من المقتضيات الأساسية لصيرورة الشخص قدوة ان يشاهده المقتدون وقد توافق قوله مع عمله لان الناس تدرك حقيقة المفاهيم والفضائل إذا تجلت افعالاً.
 
وقد تحدث القرآن الكريم حول أهمية الموافقة بين القول والعمل موجهاً خطابه إلى المؤمنين : ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُون‏كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾1 وقد توجه النبي شعيب عليه السلام إلى قومه كما يحدثنا القرآن الكريم: ﴿ وَما أُريدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْه﴾2.
 
الابتعاد عن مواطن الشبهات 
 
قد يكون الشخص صالحا حسن الأخلاق عاملا بما يقول ولكنه لا يؤثر
 
 

1- الصف/2-3
2- هود/88
 
 
 
 
 
 
 
49

41

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

  في الآخرين لكثرة اقترابه من مواطن يشتبه بها بحيث لا يمكن للآخرين التمييز فيها بين الحق والباطل وبين نسبة الفعل الباطل إلى فلان أو إلى فلان، فقد ينسبون ذلك إلى الإنسان الصالح جهلاً، وهنا يترتب على الإنسان مسؤولية الابتعاد عن مواطن الشبهات :ًً من وضع نفسه في مواطن الشبهة فلا يلومن من أساء به الظن1

 
طبعا المسؤولية هنا مزدوجة حيث ينبغي على المؤمن الابتعاد عن مواطن الشبهة وعليه أيضا الابتعاد عن سوء الظن والتسرع في نسبة الأحكام.
 
عدم التكلف
 
من جملة الأمور التي يمكن الحديث عنها كأساس واصل للقدوة، ان لا يتكلف الشخص ذلك فلا يفعل ليرى الناس وليماري في عمله ، بل القدوة هو الذي يؤمن ويعتقد ويعمل بذلك من دون تكلف ولا مجاراة ولا طلب من احد ، فهو شخص يعيش ضمن إطار قناعاته فبتصرف على أساس ذلك في السر والعلن . ولعل هذا الأمر موقوف والى درجة كبيرة على مقدار تربية الشخص نفسه وجعلها تتحرك في إطار الكمالات وذلك في كافة تفاصيل الحياة الاجتماعية.
 
 
 

1- نهج البلاغة, خطب الإمام علي, شرح الشيخ محمد عبده, مطبعة النهضة قم. الطبعة الأولى, ص41
 
 
 
 
 
 
 
 
50

42

المقال الثاني: القـدوه أهميتهـا ودورهـا

 الخاتمة


إذا كان للقدوة ذاك الدور الهام والضروري فان الأهمية والضرورة تبرز عند الحديث عن دين الهي يحمل في طياته القيم الإنسانية الراقية التي ترتفع بالإنسان إلى أعلى مستويات الصفاء والطهارة والرقي فتجعله في مصاف الأخيار والصالحين والمفيدين على مستوى الاجتماع البشري ، ولكن وقبل كل شيء وكما نلاحظ من بعض الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين فإنهم كانوا عليهم السلام يدعون أتباعهم ليجسدوا الدين والدعوة الإلهية بأعمالهم وأفعالهم قبل الأقوال وهذا يعني أن دين الله تعالى يتجسد بشكله الواقعي إذا كان مدّعوا الأديان يجسدون حقيقة الدين بشكل عملي . من هنا ينبغي القول أن نشر دين الله تعالى لن يتحقق بشكله الحقيقي إلا إذا عمدنا إلى تربية أشخاص يجسدون القدوة في حياتهم وممارساتهم العملية ، وهذا يعني أن الشخصانية يجب أن تبرز في المستوى الضروري لتقديم صورة عن الدين وبذلك نضمن قبول الآخرين وإيمانهم وثباتهم.
 
 
 
 
 
 
 
51

43

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 المقال الثالث:



تنمية القيادة لدى الأطفال



أ‌- سوزان الخليل
 
 
 
 
 
 
 
53

 


44

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 سوزان الخليل1

 
تنمية القيادة لدى الأطفال
 
القيادة كما هو معروف هي ملكة ترؤس وتوجيه المجموعات، وتؤتى إما بالقوة والسطوة، وإما بالمقدرة والحكمة. والقيادة بالنسبة للطفل هي شكل من أشكال حب السيطرة والظهور، وقد تبدأ روح القيادة عند الطفل في المنزل، حيث يفرض سيطرته على إخوته ويلقي عليهم الأوامر والتعليمات، إما بسبب أنه أكبرهم في حالة غياب الأب أو لشعور في داخله بأنه أقدرهم ويجب عليهم الإنصياع له، أو لأن والده قد كلّفه بذلك، إن روح القيادة عند الطفل شيء محمود إذا لم تتجاوز حدودها بالسيطرة والعنف، فالقياديون الصغار تماماً كالقياديين الكبار، فمنهم من يسوس بحكمة العقل والشعور بالمقدرة على ذلك، ومنهم من يسوس بالقمع والقوة.
 
 
 

1-إعلامية/أخصائية تربوية
 
 
 
 
 
 
 
 
55

45

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 ومن سمات القيادة لدى الصغار:


قد يشعر الطفل بأنه الأقوى بُنية وعليه فإنه يعتقد أن هذه السمة تخوّله أن يسيطر على أترابه.. أو أشقائه سواء في البيت أو الملعب، أو المدرسة.

قد يكون الطفل متمتّعاً بذكاءٍ وحكمة وموهبة يفتقر إليها الأطفال الآخرون، وفي هذه الحالة سيقبل الأطفال قيادته لهم دونما عصيان أو رفض، ويرون فيه قدوتهم.

قد يكلّف الطفل بهذه المهمة سواء من والده في المنزل أو مدرب في الرياضة في الملعب، أو مربي صفه فيجعل منه عريفاً على الطلبة، وبتكرار هذه التكليفات فإنها تُرسّخ شعور القيادة لدى هذا الطفل المكلّفًً وتصبح صفة ملازمة له، وفيما بعد يقبل زملاؤه بها.

قد تلجأ مجموعة من الأطفال إلى اختيار رفيق لهم يرون فيه قدوة، وذا مقدرةٍ على قيادتهم، لا تتوفّر في أحد منهم. ويقول مختصّو تربية الأطفال إن هذه هي أفضل أنواع القيادة لأنها مُنحت للطفل القائد "ديمقراطياًًً من أقرانه.

إن النزعة إلى السيطرة وحب الظهور، هي نزعة فطرية لازمت الإنسان منذ نشأة الكون، فكان هناك رؤساء القبائل، وأمراء الأرض في المجتمع الزراعي، والمخاتير في المجتمع القروي، وهذه صفات مقبولة إذاً كانت تُعنى بشؤون المرؤوسين وتحقّق أحلامهم. والطفل بطبيعة تكوينه كإنسان ليس بعيداً عن حب نزعة الرئاسة والقيادة.. وهنا لا بُدّ من ترشيد هذه النزعة 
 
 
 
 
 
 
 
56

46

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 وتنميتها إيجابياً، وتحبيبها إلى المرؤوسين باعتبارها شكلاً من أشكال التنظيم والإنتظام الإجتماعي بين الأطفال.


ويجب على الأب أو المدرّب الرياضي أو مربّي الصف أن يعملوا على أن تكون هذه القيادة قهرية على الآخرين، بمعنى أن يخلقوا شعوراً من القبول لها من قبل الأطفال الآخرين. بحيث تسود روح الألفة والرضى بين الطفل القائد وأقرانه. وعلى المربين بكافة مواقعهم أن يراقبوا هذا "الطفل القائدًً بحيث لا يتسلّط على أقرانه. وأن تكون قيادته لهم مقبولة مرضية، وأن يعمل المربون على خلق روح تقبّل النقد والتوجيه لدى الطفل القيادي. وفي تدريب ديمقراطي لا بأس لو قام المشرفون على الإلتقاء بهذه المجموعة من الأطفال والإطلاع على رأيها في قيادة زميلها لها، سواءً قيادة كرة القدم في المدرسة أو اللجان التي تشكّلها المدرسة ضمن النشاطات اللامنهجية.. وأن يعمل المربون على صقل موهبة القيادة لدى الطفل المكلّف بها.

إن القيادة عند الأطفال إذا ما رُوقبت ووجّهت، تؤتي أكلها بحيث ينشأ هذا الطفل.. وينمو ويتطوّر حاملاً في فكره مفهوم القيادة. إن القيادة شكل من أشكال التنظيم الإجتماعي الذي لا بدّ منه وفي الحديث "إذا كنتم ثلاثة فأمّروا واحداً عليكمًً.

وما الكشافة وفرقها وقياداتها المتسلسلة إلاّ دليل على ذلك، فالنظام الكشفي، يعتبر مقدمة للحياة القيادية، والنظام الإجتماعي.. وقيادة الطفل لأقرانه قد تكون في هذا السياق، وتعتبر تجربة لما بعدها من مراحل العمر.
 
 
 
 
 
 
 
57

47

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

  ولنتذكر أن كثيراً من قادة الدول، كانوا قياديين في مدارسهم ونواديهم وتنظيماتهم الطلابية، وعليه فلا بأس من تنمية روح القيادة لدى الطفل.

 
كيف ننمّي القيادة لدى أبنائنا؟
 
إن المعرفة البسيطة بالأمهات والأباء تبيّن لنا أن معظمهم يطمحون إلى تنشئة أبناء أسوياء على كافة المستويات منها الذهنية والإجتماعية والنفسية، ولكننا نجدهم في غالب الأحيان يستثمرون أوقاتهم ومجهودهم وطاقاتها بالتركيز على تنمية الجوانب الذهنية وتحديداً التحصيلية، ولا يكرّسون وقتاً أو مجهوداً كبيراً في تنمية الطفل بشرياً وتطوير قدراته الشخصية ليصبح شخصاً يتحلّى بسمات حيوية وذات أهمية والتي من خلالها سينجح في تحقيق النجاحات الباهرة حقاً.
 
مهم جداً:
 
أن نحاول الإجابة على خمسة أسئلة أساسية من خلال هذا المقال لكي نؤدّي مهمتنا التربوية على أتمّ حال:
 
ما أهمية أن ننمّي في أبنائنا روح القيادة؟
 
وما معنى القيادة؟
 
وما هي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها القائد؟
 
وكيف يمكننا أن ننمّي فيه هذه الصفات ليصبح بذلك من القادة البارزين؟
 
 
 
 
 
 
 
 
58

48

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 ما أهمية أن ننمّي في أبنائنا روح القيادة؟


نجد أن الأباء والأمهات يكونون على رضى تام إن كان الأبناء قادة "وزعماءًً في مدارسهم وبين زملائهم وأصدقائهم، والجدير بالذكر أن هذا الرضى يأتي في الغالب بسبب أن سمة القيادة تجعل الأبناء بارزين ومحط أنظار المحيطين بهم والتالي فسيشكلون مصدر فخر واعتزاز للأهل.

ونحن بدورها إذ نطرح هذا الموضوع ونتعمّق مع قرائنا فيه ليس فقط لطموح ورغبة الأهل بوجود ابن قائد بينهم للظهور والبروز، وإنما لأن سمة القيادة هي إحدى السمات الهامة جداً والتي نتمنى أن يتحلّى بها معظم أبنائنا خاصة في زمننا هذا، ذلك أن هذه الصفة تساعد الأبناء على النجاح في كافة الأصعدة بحيث أنها تؤهّلهم ليكونوا أصحاب شخصية قوية قادرة على اتّخاذ القرارات، وتحدّي العقبات التي تعترض طريقهم وما أكثر هذه العقبات في أيامنا هذه التي تريد أن "تسوّقًً جيلاً كاملاً نحو إتجاهات محدّدة غالباً ما تكون منافية لشرعنا ومخالفة لعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة لذا فمن الضروري خاصة في هذا الزمان أن نعمل وبكل كدّ وجدّ وجهد على إعداد جيل قائد، لنزرع فيه القدرة على الثبات وامتلاك المؤهلات الضرورية للحافظ على هويته وهوية أمته.
 
 
 
 
 
 
 
 
59

49

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 ولعل هذا يقودنا إلى السؤال المحوري التالي:


ترى ما معنى القيادة؟ وما هي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها القائد؟

قد يظنّ البعض متأثّراً بنماذج سلبية من القادة بأن القيادة تعني التحكّم في الآخرين والتعالي عليهم، أو الأنانية هي إبراز الذات أو فرض الرأي والفكر. ونذكر أن من كان كذلك لم يبقَ لهم أي ذكر حول القيادة حين بقي ذكر وتأثير القادة الحقّ قائماً حتى يومنا هذا، لذا فيجب أن نصحّح ونؤكّد إن القيادة الصحيحة هي عكس التجبر والعنجهية والإستبداد بل هي مبنية على احترام الذات والآخرين والثقة بالنفس وتحمّل المسؤولية، والقدرة على إدارة الأمور والنجاح في الحياة والتأثير الإيجابي في الآخرين. وإذا ما نظرنا وتأملنا جليّاً في تلك النماذج من القادة الصالحين عبر التاريخ والذين قادوا مجتمعاتهم ودولهم وأحياناً أجيالاً كاملة لتأكّدنا أنهم لم ينجحوا في ذلك لولا أنهم تحلّوا بصفات خاصة وسمات مميّزة. والجدير ذكره إن على الأباء والأمهات الذين لديهم الإدراك لأهمية تنمية القيادة عند أبنائهم، أن يعرفوا الصفات التي تتطلّبها القيادة الصالحة من صاحبها وذلك لكي يدعموها ويقووها فيهم ومن هذه الصفات:

التفوّق العلمي والذكاء وسرعة البديهة والتمكّن من المعرفة والمعلومات في كافة المجالات.

الثقة بالنفس.

الطموح والهمّة العالية والنشاط.

العطاء المتواصل والإلتزام بالمسؤوليات أيّاً كان نوعها.
 
 
 
 
 
 
 
 
60

50

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 قوة الشخصية والإنطلاق في التعبير.


القدرة على تحديد ومعرفة الأهداف، وأيضاً الحسم في القرارات كما القدرة أحياناً على التنازل.

التأثير الإيجابي على من حوله.

القدرة على الإقناع وإدارة مجموعة.

التواضع والأمانة والصدق.

مراعاة مشاعر الآخرين ورغباتهم وعدم التعصّب للرأي وللرؤية الشخصية.

الإستقلال.

القدرة على الإختيار واتّخاذ القرارات.

القدرة على تحمّل المسؤولية.

القدرة على التعامل مع الآخرين على اختلاف شخصياتهم وآرائهم وتوجهاتهم.

الحضور وما يسمى "بـًًالكريزيما"ً.
 
 
 
 
 
 
 
61

51

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 إن عرض هذه الصفات يقودنا إلى التساؤل المركزي والأساسي:


إذاً ماذا علينا نحن الأهل فعله لكي ننمّي روح القيادة في أبنائنا؟

ولكل من يهمه الأمر وللأهل الحائرين نسدي هذه النصائح والتوجيهات العملية التي قد تساعد منفردة ومجتمعة على تنمية القيادة عند الطفل ليكبر وتزيد احتمالات تحوّله إلى قائد ليس في بيته أو بين أهله أو أصدقائه فحسب، بل حتى على مستوى المجتمع عامة.

أولاً: من المهم التوقّف كما فعلنا في مقدمة هذا المقال على معنى القيادة وما هي الصفات المطلوبة من القائد وذلك لكي لا يضلّ الأهل ويربون في بيوتهم أشخاصاً جبارين يفهمون معنى القيادة على أنها سيطرة والتحكّم بها عليهم أن يعوا السمات الحميدة التي يجب أن يتحلّى بها أبناؤهم لكي يعينوهم على التحلّي والتمسّك بها. حبّذا لو أدرك الأهل أيضاً أهمية تربية جيل قائد مؤمن ملتزم يدافع عن الحق ويصدّ كل تشويه لهويته وانتماءاته خاصة في زمننا هذا ليكون هدفهم خالصاً لله نقياً وليس فقط لتنمية أبناء قادة للبروز والظهور والتفاخر.

ثانياً: على الأهل السعي والعمل الدؤوب على تعليم أبنائهم وتحبيبهم في العلم والتعلّم والمعرفة وعدم الإكتفاء بالحصول على شهادات تؤهلهم للعمل فقط بل يجب محاولة دعم الأبناء للإرتقاء بالعلم والدرجات الأكاديمية والإنجازات العلمية والطموح الدائم للمعرفة، والتعطّش للتطوّر والإضافة للذات والآخرين فنحن في زمن يتميّز بالعلم والمعرفة والسبق للعلماء، فكيف لقائد في زمن كهذا أن لا يكون متمرساً بالعلم. كذل فعلى القائد
 
 
 
 
 
 
62

52

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

  كما ذكرنا في سمات القيادة، أن تكون لديه ثقافة ومعلومات عامة فكيف له أن يستقرئ الواقع ويتّخذ القرارات ويتبعه الناس ويؤثّر فيهم إن لم يكن كذلك، لذا فعلى الأهل تربية الأبناء على المطالعة وحب الإكتشاف وعدم الإكتفاء فقط في المواد التعليمية المدرسية.


ثالثاً: على الأهل توفير حاجيات الطفل العاطفية من حب وحنان وأمن وأمان واستقرار عائلي لكي يوجّه بدوره طاقاته إلى التطور والإرتقاء وليس إلى الإنشغال في المشاكل العائلية وإشباع رغباته العاطفية غير الملبّاة، ونذكر في هذا السياق أهمية قضاء الوقت مع الأبناء، فيه نلعب ونمرح ونربّي ونوجّه ونتحاور ونتناقش، فمن خلال قضاء هذا الوقت النوعي معهم نزيد من استقرارهم وحتى قد ننمي لديهم مهارات عدة مثل إبداء الرأي والتعبير عن الذات والعطاء فنحن قدوة لهم في ذلك إن أعطيناهم لم يتردّدوا أيضاً هم في العطاء.

رابعاً: على الأهل أن يكونوا قدوة صالحة لأبنائهم يتحلّون بصفات حميدة كالصدق والأمانة وحب الخير ومساعدة المحتاجين والإيثار والمسؤولية وكلها أساسية في شخص القائد ونحن نؤكّد هنا على أهمية حثّ الأبناء على التحلّي بهذه الصفات على أن يكون الأهل قدوة لهم في ذلك مما يزيد من احتمالات تذويب هذه الصفات أكثر فأكثر.

خامساً: من المهم تربية الطفل على المسؤولية منذ الصغر مع مراعاة قدراته وسنّه بحيث لا نحمّله ما لا يطيق فيتحوّل من مسؤول إلى لا مبال
 
 
 
 
 
 
 
63

53

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

  بل وأحياناً متمرّد. وتبدأ المسؤولية حين نربّي الطفل أن يحافظ على ممتلكاته وما يخصّه ومن ثم أن يكون مسؤولاً عن غرفته وصولاً بأن نجعله مسؤولاً عن شيء يخصّه كأن يربّي نباتاً أو حيواناً ويكون مسؤولاً عن رعايته والعناية به مما يصقل به سمة المسؤولية وذلك بأن نكلفه أداء مهمات معينة. وعلى الأهل زيادة مسؤوليته كلما كبر عمره يصبح أكثر مسؤولية وما أجمل أن يكون هذا مقروناً بأن نربي أبناءنا كجزء من مسوؤليتهم عن كل ما يخصهم، أنهم مسؤولون عن أبناء بيتهم ومجتمعهم وشعبهم وأمتهم أيضاً فيأخذون بذلك مسؤولية ولو ضئيلة عنهم وبهذا نربّي جيلاً واعياً مهتماً بالآخرين ليس متآكلاً تابعاً وغير مبال.


سادساً: إن أهمّ ما في القائد كونه مستقلاً، فعلى الأهل تربية الأبناء على الإستقلال منذ الصغر والإمتناع عن حمايتهم الزائدة، كذلك فإن لبنة الأساس في شخصية القائد كما سبق وذكرنا هي الثقة بالنفس.

سابعاً: إن من أهم صفات القائد القدرة على اتّخاذ القرارات خاصة الحاسمة والمصيرية منها، لذا من المهم أن نربيه كما قلنا على الإستقلال والثقة بالنفس وأيضاً يجب أن نحثّه على اتّخاذ القرارات منذ الصغر وكأننا نمرّنه على هذا الأمر حتى يكتسب هذه القدرة وتتثبّت لديه عند الكبر، وإذا كانت القرارات التي مكّناه من اتّخاذها في صغره مقتصرة على الملابس التي يرتديها، أو وجهة الرحلة التي سنخرج إليها، قد تصبح هذه القرارات في مواضيع أكثر جدّية وحتمية عند الكبر. لذا فإن إتاحة الفرصة للطفل بين الحين والآخر من اتّخاذ القرار تعلّمه المسؤولية
 
 
 
 
 
 
 
 
64

54

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

 والتفكير في أبعاد قراره ونعلّمه أن يستقرئ الواقع، وإن أراد المجازفة فيكون هو المسؤول وإن لم يكن جدّياً أو غير واقعي فتبعات قراره قد تعلّمه درساً لا ينساه أبداً وبهذا نصقل لديه القدرة ليس فقط على اتّخاذ القرار وإنما أيضاً القدرة على اتّخاذ القرارات السليمة. وكما من الطلاب الجامعيين من يشهدون أنهم تعرّضوا للأسف لانهيارات نفسية حين انتقلوا من بيوتهم بل لنقل من "حاضناتهمًً إلى الجامعات والحياة الجامعية التي تطلّبت منهم الإستقلال واتّخاذ القرار، فلا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت معهم.


وتجدر الإشارة هنا أننا من الممكن أيضاً أن نستشير الأبناء ومنذ الصغر بأمور تخصّنا أيضاً مع مراعاة العمر والحدود التي يجب أن تحفظ بين الآباء والأبناء، وهذه كطريقة أخرى نسهم من خلالها بتربية أبناء قادرين على اتّخاذ القرار وتحمّل المسؤولية.

ثامناً: تشجيع الأبناء على الإنخراط في فعاليات ونشاطات إجتماعية تساعدهم على التعرّف على الآخرين وكيفية التعامل مع نوعيات مختلفة من الناس ولكي يتعلّموا مهارات الإقناع واستقطاب الآخرين بالرغم من الإختلافات القائمة فيما بينهم.

تاسعاً: عرض النماذج القيادية للأطفال إما من خلال الحوار وإما من خلال القصص أو حتى من خلال لقاء مع هؤلاء والتحدّث إليهم والإمتثال بهم والإستماع إلى فكرهم وإنجازاتهم وتوصياتهم، فلقاء الناجحين قد
 
 
 
 
 
 
 
65

55

المقال الثالث: تنمية القيادة لدى الأطفال

  يجعلهم قياديين اعتنوا بها وركّزوا في نفوسهم مرضاة الله لأنها الإنطلاقة الأساسية إلى تربية سليمة.



كلمة من القلب إلى القلب:

إليكم أيها الأهل أقول أطفالكم هم أمانة لهم لديكم، هم نبتة صغيرة أنتم من زرعتموها. لذلك عليكم الإعتناء بها ليكون القطاف مثمر فمن بين أطفالكم العديد ممن يحملون صفات القيادة فتشوا عن تلك الصفات, يجعل الأبناء ناجحين، ولقاء المبدعين يجعلهم مبدعين ولقاء القياديين يجعلهم قياديين. 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

56

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 المقال الرابع:





البيئة المعرفية الإسلامية 
والمفاهيم الوافدة



السيد علي عباس الموسوي
 
 
 
 
 
 
 
 
67

57

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 السيد علي عباس الموسوي1

 

 البيئة المعرفية الإسلامية 
والمفاهيم الوافدة
 
رؤية في المفهوم القدوة
 
إذا كان الصراع قد احتدم بين مدرستين تبنّت إحداهما القول بأصالة الفرد والأخرى القول بأصالة المجتمع فإن الإسلام نادى بأصالتهما معا.
 
وهذا الصراع المرتبط بمعرفة الإنسان له تأثيراته على النظرة التي يملكها صاحب الرؤية عن دور الإنسان ومكانته في هذه الأرض وعن العوامل المكونة لهذا الإنسان. ونسعى في هذه الدراسة لتقويم دور المفاهيم لا سيما تلك التي تتحول إلى شعار تنادي به طائفة من الناس في داخل المجتمع
 
 
 
 

1-باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
 
 
 
 
 
 
 
69

58

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 1- في بناء الشخصية الإنسانية ولنعالج الخطر الذي يحدق بالإنسان المسلم جراء بعض المفاهيم الوافدة إلى مجتمعاتنا الإسلامية.


العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية

لا يسع لإنسان أن ينكر أن هذه الشخصية الإنسانية والتي لها وجودها الحقيقي في الخارج هي وليدة عوامل عديدة تؤدي إلى خروجها بالصورة التي هي عليه. 
نعم ما نؤكّد عليه هو أن هذه العوامل لا تسلب الإنسان حرية الاختيار او فقل لا تبرر له فراره من المسؤولية التي ألقاها الله عز وجل عليه وامره بأدائها وحدد له العقوبة او الثواب على ما يقوم به في سبيل ذلك.

إن نظرية الجبر الاجتماعي او غير الاجتماعي هي نظرية مرفوضة ومردودة في أبحاث العقيدة الإسلامية عندما أسس الكلام الإسلامي لحرية الاختيار الإنساني مؤكدا بالأدلة والبراهين على أن المحيط الاجتماعي بل وسائر العوامل المؤسسة للشخصية الإنسانية لا تصل في تأثيرها ولا في تأسيسها إلى درجة سلب الإنسان اختياره او حريته.

البيئة المعرفية كعامل مولد للشخصية الإنسانية

من العوامل المكونة للشخصية الاجتماعية ما يطلق عليه تسمية البيئة المعرفية. ونقصد من البيئة المعرفية هي مجموعة المفاهيم التي تحيط بهذا الإنسان والتي تتردد على الألسن المحيطة به فيؤدي ذلك إلى ولادة نسيج
 
 
 
 
 
 
 
70

59

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

  معرفي يكون له تأثيره المباشر او غير المباشر على سلوك الإنسان وعلى تصرفاته وعلى مواقفه وعلى آرائه وعلى مختلف ما يرتبط بحياته.


وتشتد أهمية هذه البيئة المعرفية ويعظم خطرها وتأثيرها متى ارتبطت بموضوع مصيري كتلك البيئة المعرفية المرتبطة بالرؤية الكونية أي النظرة إلى الكون وإلى الحياة وإلى وجود الإنسان نفسه والغاية من وجوده.

المفاهيم ودورها في تأسيس البيئة المعرفية

إذا كانت البيئة المعرفية هي عبارة عن مجموعة من المفاهيم المكونة لشخصية الإنسان فإن خطر هذه المفاهيم وأهميتها تظهر بملاحظة أهمية وخطر البيئة المعرفية.

والمفهوم وإن كان التعبير عنه يأخذ أكثر أنواع الاختصار ولكنه يختزن في داخله كما هائلا من المضامين المعرفية التي تحكي عن الإطار النظري للفكر الذي تنتمي إليه، يشهد لذلك الدلالات الكثيرة التي يحويها المفهوم على بساطته في التعبير بنحو يلتفت المتلقي لهذا المفهوم إلى هذه الدلالات بشعور منه او بغير شعور.

وتكمن أهمية المفهوم بأنّه يصبح القائد الذي تسير خلفه الناس، تتأثر به وتخضع له، وأهمية أي قائد لأي مجتمع ما تنبع من مدى قدرته على استخدام هذه المفاهيم في التأثير على الناس، وجعلها تسير خلفه، وتعلن الطاعة له.
 
 
 
 
 
 
 
71

60

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 وهذه المفاهيم المكونة للبيئة المعرفية اعتنى بها الاجتماع الإسلامي فسعى إلى الترويج لما يطلق عليه في المصطلح بـ (الشعائر) ووظيفة هذه الشعائر هي فرض هذه الحالة العامة من التعلق بالبيئة المعرفية للإسلام من خلال التأثير على عقلية الإنسان الذي يعيش في مجتمع المسلم بحيث يتقولب الفرد في هذا المجتمع ضمن ما تؤدي إليه هذه المفاهيم.

 
والذي يشهد بوضوح على دور المفاهيم في تكوين البيئة المعرفية ودور تبدل المفاهيم في تبدل الشخصية الإنسانية رواية فريدة في مضمونها ودلالاتها ومشهورة على الألسن وهي قول رسول الله في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : كيف بكم إذا فسدت نساؤكم ، وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ، ولم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له : ويكون ذلك يا رسول الله ؟ فقال : نعم وشر من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ فقيل له : يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال : نعم وشر من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا1 .
 
إذا تغير مفاهيم المعروف والمنكر أي تبدل البيئة المعرفية للإنسان سوف يؤدي بوضوح إلى تغير سلوكه الاجتماعي في تعامله مع الظواهر وتصرفه وموقفه اتجاهها وهو ما تشير إليه الرواية بوضوح. 
 
 
 

1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 16 ص 122
 
 
 
 
 
72

61

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 كيف تبنى المفاهيم


لو أردنا أن نسبر غور المفاهيم الموجودة في مجتمع ما فإننا نجد أن هذه المفاهيم على نوعين:

1ـ المفاهيم الوليدة: وهي عبارة عن المفاهيم التي تنشأ نتيجة المعرفة التي يملكها الإنسان، فإن تبني الإنسان للإسلام كدين سوف يفرض على الإنسان المسلم التعامل مع مجموعة من المفاهيم التي هي وليدة تلك العقيدة التي يحملها.

وخصوصية هذه المفاهيم هي أنها وليدة للاعتقاد الذي يحمله هذا الإنسان.

2ـ المفاهيم المستولدة: وهي عبارة عن المفاهيم التي لا تنشأ من اعتقاد مسبق وإنما هي مفاهيم تستولدها جماعات من الناس عن قصد ويراد منه أن تؤثر على فكر الإنسان لتقوم بعملية تغيير فيه بنحو يؤدي إلى تغيير سلوكه او موقفه او طريقة تعامله مع أي ظاهرة من الظواهر.

فهذه المفاهيم تسبق الفكرة في ذهن الإنسان، وهي في الغالب تكون مفاهيم مصممة عن سبق تصور للهدف الذي ترمي إليه من قبل صناعها.

المفاهيم القدوة

إذا كانت المفاهيم المستولدة ذات تأثير على شخصية الإنسان فإن هذه المفاهيم سوف تلعب دور القدوة في تحريك الإنسان ودفعه باتجاه محدد.
 
 
 
 
 
 
 
73

62

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 نعم ليس كل مفهوم يتحول ليشكل قدوة للسلوك الإنساني والاجتماعي، ولكن ثمة من المفاهيم ما يصبح شعارا يتم التداول به في المحيط الاجتماعي ويراد له أن يكون قدوة يستحضره الإنسان في كل سلوك يقوم به او موقف يسعى لاتّخاذه.

 
نماذج من المفاهيم القدوة قرآنيا
 
تعرض القرآن الكريم لمجموعة من المفاهيم التي كانت تشكل قدوة لبعض الأفراد جعلوها شعارا لهم في تبرير اتجاههم الذي يسيرون عليه ومن هذه المفاهيم ما تعرض له القرآن كنموذج سلبي ومنها ما تعرض له كنموذج إيجابي.
 
أ ـ اتباع الآباء أو السنن القومية
 
تتحدث آيات القرآن الكريم عن حجة المشركين في رفضهم لدعوة التوحيد التي جاءهم بها الأنبياء، وهذه الحجة كانت تقليد الآباء، او ما يطلق عليه اليوم في عنوانه الجديد (السنن القومية).
 
قال تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الزخرف، 21).
 
وهذا المفهوم ـ الشعار شكل في لغة كل أمة ترفض دعوة الأنبياء أساسا لتبرير رفض هذه الدعوة، بل واعتبر أساسا في نشر حالة الرفض بين الناس.
 
وهذا المفهوم الذي سعى الكفار لبثّه في مجتمعهم في سعيهم لثني الناس عن اتباع دعوة الأنبياء هو نفس شعار السنن القومية التي ينادي
 
 
 
 
 
 
 
 
74

63

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

  بها بعضهم اليوم لأجل مواجهة دعوة الإسلام التي تأتي ممن لا يرتبط بالقومية التي يصطلحون عليها1.

 
والقرآن يتحدث عن هذا كقاعدة عامة يتبعها الناس في كل أمة يرسل إليها رسول ليهديها إلى الحق ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ (الزخرف، 23).
 
ب ـ اتباع الحق
 
أسس القرآن الكريم في مقام رده على المفهوم ـ الشعار المتمثل بتقليد الآباء لمفهوم اتباع الحق الذي يصل إليه الإنسان من خلال التفكير بعقله دون تقليد الآباء، فقال تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾(الزخرف، 24).
 
نماذج معاصرة للغزو المفاهيمي
 
1ـ مفهوم السلام
 
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والذي شكل سقوطا للنظام الثنائي القطب عالميا، طرح الغرب الأمريكي شعار النظام الأحادي القطب، وابتدأ عصر الهيمنة الأمريكية على العالم، ورسمت السياسة الأمريكية سياستها للسيطرة على العالم، ومن ذلك العالم الإسلامي الذي كان ينأى بنفسه عن الصراع لاعبا على وتر الثنائية القطبية، ولكن المواجهة احتدمت والصراع أصبح مباشراً في ظل النظام العالمي الجديد.
 
 
 

1- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 14 ص 297
 
 
 
 
 
 
75

64

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 سعت الولايات المتحدة الأمريكية لغزو العالم الإسلامي بكل الوسائل المتاحة، وتمثل الغزو الثقافي المفاهيمي عبر طرح شعار السلام.


شعار السلام الذي أريد منه الخروج بإسرائيل الدولة المغتصبة من عزلتها قام على أساس حل المشكلة الفلسطينية، وسعى الغرب من خلال الترويج لمفهوم السلام إلى التوصل إلى مآربه.

السلام المطروح يتناسى كافة حقوق شعب أخرج من بلده، كما يتناسى تاريخا من المجازر التي ارتكبت في حقه. 

يكفي لمن يقرأ المشهد السياسي والفكري والثقافي في العالم العربي بعد مؤتمر مدريد للسلام أن يشهد كيف تحول مفهوم السلام الغربي إلى مفهوم لا يمكن لأحد أن يتجاوزه او يرفضه، بل إن الكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي أصبحت تراه ضرورة دون أن تدرك أبعاده، وأصبح رفض هذا المفهوم بالنحو الذي يروج له الغرب يعني الأصولية والتشدد، وهو مخالف لحالة الاعتدال. وتصدى الكثير من النخب للترويج لهذا المفهوم فكان بذلك خادما مخلصا للغزو المفاهيمي الغربي.

2ـ مفهوم الحرية

لعلنا لا نبالغ القول بأنّ هذا المفهوم هو من أكثر المفاهيم الغربية التي غزت عالمنا الإسلامي، فبعد قيام ما يسمى بعصر النهضة على أساس مفهوم الحرية، تم تصدير هذا المفهوم إلى العالم الإسلامي. ومفهوم الحرية في الغرب انطلق من نقطة رئيسة هي رفض الدين. فالحرية في الغرب هي حرية اتجاه القيود الدينية، وهي تحرر من قيود الكنيسة، وقد 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

65

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 أريد لهذا المفهوم أن يكون بابا لجعل المسلمين يبتعدون عن دينهم كما ابتعد الغربيون عن دينهم.


توسع استخدام مفهوم الحرية في العالم الإسلامي، فتمسك به دعاة التحرر واستخدموه أداة لأجل رفض بعض التعاليم الدينية، ويعود الكثير من التفلت (لا التحرر) الذي عاشته المرأة في العالم الإسلامي إلى استغلال بعض المستغربين لهذا المفهوم لدعوتها إلى رفض الكثير من القيم الدينية التي كانت تعيشها، فأصبحت الحرية تعني ترك الحجاب، وتعني الاختلاط ودخول المرأة في المجتمع دون مراعاة لخصوصيتها التي جعلها الإسلام لها، وصانها من خلال بعض الأحكام التي فرض التعامل بها، والنظم التي جعلها في داخل المجتمع الإسلامي.

3ـ مفهوم عيش حياتك

أدى التفكك الأسري في الغرب، ثم التفكك الاجتماعي إلى رفض أي نوع من التواصل الاجتماعي بين أفراده او الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع، فأصبح الفرد في الغرب مسؤولا عن نفسه فقط، لا تحركه سوى مصالحة الفردية، وفرض النظام الرأسمالي بما يحمله من قوانين اقتصادية جشعا لا حد له، ومن المفاهيم التي طرحها الغرب للتأثير على أنماط التفكير مفهوم (عيش حياتك) الذي نراه يحتل مساحة في الترويج الإعلامي مستخدما كافة الأساليب للتأثير على المجتمع المسلم.

وهذا المفهوم يقف في النقطة المقابلة تماما للتعليم الإسلامي الذي ركّز على المسؤولية الاجتماعية فيما فرضه من تربية الأبناء في الأسرة، وتربية
 
 
 
 
 
 
 
77

66

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

  المجتمع من خلال فريضة التعليم، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإسلام يرى أن صيانة المجتمع الإسلامي هو من الواجبات الكفائية التي تفرض على كل مسلم التفكير بمجتمعه وبأمته، وأنه جزء لا ينفصل عن المكون الاجتماعي العام، ولا يحق له إطلاقا الهروب من مسؤوليته، بل هو محاسب على أي تقصير في هذا المجال.


4ـ مفهوم (ثقافة الحياة) أنا أحب الحياة

من الأفكار التي تم الترويج لها للتأثير على السلوك الاجتماعي في الداخل الإسلامي مفهوم ثقافة الحياة، وأريد لهذا المفهوم أن يواجه ثقافة المواجهة والتحدي والإباء والرفض الذي سارت عليه حركات المقاومة في مجتمعنا المسلم أمام المشروع الصهيوني العالمي.

تم السعي من خلال هذا المفهوم واستخدام مختلف الأساليب لبثه في نفوس الناس إلى تصوير حركات المقاومة على أنها حركة تروج للموت، وإن الحياة لا قيمة لها لديهم، وأن الصحيح هو الموقف المقابل الذي يرغب في هذه الحياة ويرغب في العيش لا الموت.

5ـ مفهوم التنمية والتخلف

لهذا نجد مثلاً أن مفهومي (التنمية والتخلف) مرتبطان ارتباطا جوهرياً بالفضاء المعرفي الذي نشأ فيها.. فالتخلف يعني التأخر الزمني والحضاري عن الأمم الأوروبية.. والتنمية تعني وجود المظاهر الاقتصادية والاستهلاكية في المجتمع على شاكلة الدول الأوروبية.. وبهذا يصبح الناظم لدلالات المفاهيم هو الفضاء المعرفي والعقدي الذي نشأت فيه..
 
 
 
 
 
 
78

67

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

  لهذا نجد أقطاب الفكر التنموي الغربي، يرون أن التحديث من الناحية التاريخية، هو عملية التحول نحو تلك الأنماط من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تطورت في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.. ويرى (بارسونز وليرنرو باول) "أن التحديث عملية ثقافية تشمل تبني قيم ومواقف ملائمة للطموح العملي، والتجديد العقلاني وتجاه الإنجاز، بدلا من القيم السائدة في المجتمع التقليديًً. (راجع مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 39). 

 
وهذا يعني أن النموذج الغربي، أصبح معيارا تقاس عليه بقية النماذج والشعوب.. والسبب في ذلك، تلك الاستعارة المصطلحية والمفهومية، وتطبيقها على واقع ومنظومة معرفية واجتماعية مغايرة للمنظومة التي ولدت فيها تلك المفاهيم والمصطلحات المستعارة1.
 
سبل مواجهة المفاهيم الوافدة
 
1ـ الترويج للمفاهيم الإسلامية الأصيلة
 
إن تأصيل المفاهيم الإسلامية في البيئة المعرفية لمجتمعنا المسلم هو الخطوة الأولى الكفيلة بتحصين هذا المجتمع من خطر المفاهيم الوافدة. فعندما يعيش الإنسان المسلم المفاهيم الإسلامية في كيانه ويعي دلالتها وأبعادها يتمكّن من مواجهة الخطر المحدق به جراء هذه المفاهيم. 
 
 
 

1- محمد محفوظ، مقالة بعنوان المصطلح والبيئة المعرفية، جريدة الرياض، العدد 144144- المنشور بتاريخ 11ـ ديسمبر، 2007.
 
 
 
 
 
 
79

68

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 ففي مقابل مفهوم الحرية الوافد من الغرب ليشكل قدوة للتحرر من قيود الدين، يمكن لمفهوم العبودية لله عز وجل إذا تعمق معناه في النفس الإنسانية أن يحد من تأثير مفهوم الحرية. فالمعرفة بالخالق وإدراك الإنسان لحقيقة نفسه أمام خالقه تدفعه إلى إظهار تمام العبودية للحق تعالى وبهذا يأمن من خطر التمسك ببعض المفاهيم الوافدة التي تدعوه إلى رفض هذه العبودية؛ لأنّ الحرية بمفهومها الوافد من الغرب تقوم في الأساس على رفض العبودية حتى لله عز وجل بل وإنكار وجوده.


2ـ توضيح التباسات بعض المفاهيم

إن الكثير من المفاهيم الوافدة، التي أريد لها أن تكون حرابا في الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، تعتمد الالتباس المفهومي لكي يتم استغلالها في الوصول إلى الأهداف المطلوبة، فتبقى هذه المفاهيم بعناوينها القابلة للتقلب والتبدل خاضعة للمصلحة التي يراها مروجوها او السائرون خلفها، وكمثال على ذلك مفهوم الحرية التي أخذت مفعولها من الثورة الفرنسية وأحداث الانقلابات الجبارة في الدولة العثمانية والفارسية، والتأثير كله لإجمالها وجمالها السطحي الفاتن ، وإلا فلا يستطيع العلم أن يحدها بحد معقول يتفق عليه . ومثلها كلمة " الوطن " الخلابة التي استغلها ساسة الغرب لتمزيق بعض الدول الكبرى كالدولة العثمانية . وربما يتعذر على الباحث أن يعرف اثنين كانا يتفقان على معنى واحد واضح كل الاتفاق يوم ظهور هذه الكلمة في قاموس النهضة الحديثة ، فما هي مميزات الوطن ؟ 
 
 
 
 
 
 
 
80

69

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 أهي اللغة أم لهجتها ، أم اللباس ، أم مساحة الأرض ، أم اسم القطر والبلد ؟ بل كل هذا غير مفهوم حتى الآن على وجه تتفق عليه جميع الناس والأمم . ومع ذلك نجد كل واحد منا في البلاد العربية يدافع عن وطنه ، فلماذا لا تكون البلاد العربية أو البلاد الإسلامية كلها وطنا واحدا ؟1

 
إن مواجهة هذه المفاهيم لا بد وأن تعتمد أسلوب بيان ما يكتنف هذه المفاهيم من التباسات وطرق الخصم في الاستفادة من هذه الالتباسات.
 
3ـ الدلالة على مواطن الضعف في المفاهيم المستولدة
 
إذا كان توسل أصحاب المفاهيم الوافدة بهذه المفاهيم لأجل مآرب خاصة، فإن هذه المفاهيم فيها نقاط من الضعف التي يمكن من خلال الإشارة إلى هذه النقاط من القضاء على مآرب هؤلاء.
 
فمفهوم ثقافة الحياة أو أنا أحب الحياة، هو من المفاهيم التي تُغفل عمدا الدلالة على نوع الحياة او نحو الحياة التي يريدها الإنسان، فهل هي حياة عزة وكرامة، او أن المطلوب أن يحيا الإنسان هذه الحياة ولو كان في موقف الذل والخنوع؟
 
لا يشير هؤلاء إطلاقا إلى نوع الحياة الذي يسعون للترويج له، بل يضعون الحياة مقابل الموت، لدعوة الناس إلى الموازنة بين الأمرين، ولكن هل يستطيع هؤلاء أن يجدوا في حياة الذل او في ظل الاحتلال والتعدي الذي تقوم به الدول المستكبرة نوع الحياة المطلوب.
 
 
 

1- المنطق - الشيخ محمد رضا المظفر - ص 116
 
 
 
 
 
 
 
81

70

المقال الرابع: البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 الحذر اليقظة والوعي في مواجهة الغزو المفاهيمي


تشكِّل ثلاثية العناصر التالية: الحذر، اليقظة والوعي حصناً يؤمَن من خلاله على مجتمعنا الإسلامي من غزو المفاهيم الوافدة.

فالحذر عنصر مطلوب لأن الانسياق وراء بعض الشعارات الخلابة حتى من قبل بعض الأوساط التي تسعى لتحصين المجتمع يؤدي إلى تحويل هذه الشعارات إلى مفاهيم قدوة يسير الناس في ظلها مع عدم الأمن من المخاطر.

وأما العنصر الآخر فهو اليقظة والتنبّه للمخاطر التي تحاك من خلال ما يطلقه الغرب من مفاهيم، وهذه المفاهيم تدخل إلى مجتمعنا الإسلامي من أبواب مختلفة وبطرق متعددة، والغفلة عن المنافذ التي تدخل من خلالها سيفسح المجال أمامها للتأثير على فئات مختلفة من مجتمعنا الإسلامي.

وأما العنصر الثالث فهو الوعي، وهذا ما يجب أن تتمتع به النخب، فهي التي تستطيع بامتلاكها للوعي أن تلحظ ما لا يرصده الآخرون في الحراك الثقافي والفكري والاجتماعي.
 
 
 
 
 
 
 
82

71

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 الشيخ حسن بدران1

 
مواصفات القدوة
 في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني2


قد وصل الأمر بسبب ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، إلى أن تنفذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين وأبعدت الكثيرين عن الأجواء المعنوية والروحية بدرجة باتوا يجهلون: ماذا يعني عالم الدين أصلا؟ وما هو واجبه؟ وما هي المهام التي ينبغي له الاضطلاع بها؟
 
الجهوزية والتنظيم والانضباط: 
 
يمثل الموقع الذي يحظى به "العالم الدينيًً في المجتمع لبنة أساسية في جدار الحصانة الاسلامية، ويستدعي ذلك شروطا دقيقة ومواصفات
 
 
 

1- باحث وأستذ في الحوزة العلمية
2- عنوان الكتاب:  الجهاد الأكبر أو جهاد النفس, وأبحاث الكتاب عبارة عن تقريرات لدروس ألقاها الإمام في النجف الأشرف.
 
 
 
 
 
 
 
87

72

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 صارمة على مستوى الممارسة تسمح بالارتقاء الى موقع النموذج والمثال المحتذى. وهذا الموقع ليس مكسبا عشوائيا، وانما هو ضريبة مكلفة, تستدعي المداومة على الاصلاح، والتجهز، والتنظيم، والانضباط، والترتيب، والانتباه، والتحرك، والتحصين، والاستعداد.. وسائر المفردات المماثلة.


في المرحلة الأولى اهتموا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم.. خذوا بوسائل العصر.. نظموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط على كل شؤون الحوزات العلمية.. هذبوا أنفسكم، وتجهزوا واستعدوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يمكن أن تعترضكم. حصنوا الحوزات العلمية واجعلوها قادرة على التصدي للمشاكل التي ستواجهها.. فكروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم الدينية والعلمية.. فكروا وانتبهوا وتحركوا.. لا تتشبثوا بالذرائع وتخلقوا لأنفسكم الأعذار بأن المرحلة لا تقتضي ذلك.. 

وبنظر الإمام، لا يوجد أي عذر في الإخلال بهذه القواعد الضرورية، ذلك أن أي إهمال سوف يتسبب بثمن فادح, لا أقل القضاء على النفس وعلى أحكام الاسلام.. بحيث يصح القول هنا أن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير. 

إن عالم السوء العالم الغارق في حب الدنيا، العالم الذي لا يفكر بغير البقاء في مركزه والحفاظ على زعامته, إن مثل هذا العالم لا يستطيع مجاهدة أعداء الإسلام، وإن ضرره أكثر من غيره، فلتكن خطواتكم ربانية،
 
 
 
 
 
 
 
88

73

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

  أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، وآنذاك يمكنكم أن تجاهدوا.. لا تدعوا الآخرين يحاولون تنظيم هذه الحوزات، لا تسمحوا للأعداء أن يتسلطوا عليها زاعمين أن العلماء ليسوا أهلا لشيء ولا يقدرون أن يفعلوا شيئا، إنما هم مجموعة عاطلين عن العمل، إنهم بهذه الذرائع يريدون إفساد هذه الحوزات بذريعة إصلاحها وتنظيمها، يريدون أن يتسلطوا عليكم، فلا تدعوا لهم عذرا.. إذا نظمتم أموركم وهذبتم أنفسكم وضبطتم كل أوضاعكم فلن يطمع الآخرون بكم، ولن يعد بمقدورهم النفوذ إلى حوزاتنا العلمية ومؤسساتنا العلمائية.


في سبيل ذلك، يتوجب وضع طلبة العلم - في إطار المواجهة مع العدو المتربص شرا بالاسلام -، بين خيارين: إما العمل على الاعداد والتنظيم والتجهز, لاحباط مؤامرات العدو، وإما الإهمال وما ينتج عنه من الفناء والزوال.

إذا لم تصلحوا أنفسكم وتتجهزوا وتجعلوا النظام والانضباط حاكما على دراستكم وحياتكم، فإنكم محكومون بالفناء والاندثار.. إن عملاء الاستعمار يتطلعون للقضاء على الإسلام ومحو كل أثر له. ولابد لكم من الوقوف في وجه ذلك وقفة شجاعة. ولن يتسنى لكم ذلك مع وجود حب النفس والجاه والغرور والتكبر.. إن مستقبلكم مظلم, يحيط بكم أعداء كثيرون من كل صوب.. إذا لم تنظموا أنفسكم وتعدوا العدة للتصدي للضربات التي تكال كل يوم للإسلام، فسوف تقضون على أنفسكم وكذلك على أحكام الإسلام، وستكونون مسؤولين عن ذلك كله. إنكم لن تستطيعوا 
 
 
 
 
 
 
 
89

74

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 أن تتخلصوا من خططهم الشيطانية إلا في ظل بناء الذات والتهذيب والنظم والترتيب السليم. فبهذا وحده تستطيعون أن تحبطوا محاولاتهم المجرمة هذه.


التفاعلية، عمومية الطابع: 

نظرا لما يمثله عالم الدين من موقع متقدم، وطبيعة الدور الذي يقوم به، وهو دور يتجاوز مجرد التمثيل الرسمي والمهني، ويستوجب ايمانا رساليا وانتماءا نهائيا، بحيث يتحول العالم الى قدوة ونموذج ومثال أعلى في نظر العموم، وتتحول القيم التي يمثلها بتصديه للمنصب الى ايمان في وجدان الجماعة وكيانهم، لأجل ذلك فإن أي انحراف أو فساد يصدر عنه، سوف يترك تداعيات سلبية كبيرة يتعدى اثرها الوضع الشخصي إلى الوضع العام، وسوف ينجم عن ذلك تصدعات في بنية ايمان الجماعة قد لا يسهل جبرها، نتيجة فقدان الثقة. 

وإذا كان لا يصح تعميم السلوكيات الفردية في الحالات العادية، إلا أن المكانة العلمائية تفترض سلوكا مختلفا نظرا لحساسية الموقع، سيما وأن المرتجى من هذا الموقع هو مخاطبة الجماعة الاسلامية، ما يعني ضرورة أن تتحمل الجماعة العلمائية (كجماعة) نتائج الآثار السلبية الناجمة عن أي اختلالات جزئية قد تلحق بهذا الموقع.

يحذر الامام في هذا السياق إلى أن العمل القبيح من العالِم سوف ينسب الى الاسلام، لا الى فاعله. ولذلك يجب تنزيه ساحة العلماء من كافة أشكال التلوث، والتعفن، والفساد، والخبث، والانحطاط، واقتراف القبائح
 
 
 
 
 
 
 
90

75

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 والسيئات.. ويجب الحذر من الاندراج في علماء السوء. إن الأعمال التي تصدر عن العلماء لها طابع عام، ما يستوجب منهم العمل على تجاوز البعد الفردي إلى البعد العام.


إذا ارتكب العامي والجاهل معصية، فإنه يسيء إلى نفسه فحسب ويضرها، ولكن إذا ما انحرف العالم وارتكب عملا قبيحا فإنه سيحرف عالما، وأسيء إلى الإسلام وعلماء الدين.. إن ما ورد في الحديث من أن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، هو لأنه يوجد فرق كبير في الدنيا بين العالم والجاهل بالنسبة لنفعهم وضررهم للإسلام والمجتمع الإسلامي.. إن هذا التلوث هو الذي يتأذى من رائحة تعفنه أهل جهنم.. إن هذا التعفن والأعمال السيئة التي يجترحها عالم السوء والعالم غير العامل والعالم المنحرف في هذه الدنيا، هي التي تتحول إلى روائح كريهة تؤذي مشام أهل جهنم في الآخرة، دون أن يضاف لها شيء في تلك الدنيا. فالذي يحدث في عالم الآخرة الشيء ذاته الذي كان في هذه الدنيا, فلا يضاف شيء إلى أعمالنا وإنما تتحقق ذاتها.. إذا ما اتصف العالم بالإفساد والخبث فإنه سيجر المجتمع إلى الانحطاط والتعفن, غاية الأمر أن حاسة الشم في هذه الدنيا لا تشم رائحة تعفنه، ولكن في الآخرة تشم.. إن الشخص العامي ليس باستطاعته أن يوجد مثل هذا الفساد والتلوث في المجتمع الإسلامي. الشخص العامي لم يسمح لنفسه أبدا أن يدعي الإمامة والمهدوية والنبوة والألوهية. العالم الفاسد هو الذي يجر العالم إلى الفساد: إذا فسد العالم فسد العالم.
 
 
 
 
 
 
91

76

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 أنتم مرتبطون برسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم. إنكم بمجرد دخولكم الحوزات العلمية تكونون قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام وبالرسول الأكرم والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملا قبيحا فسوف يمس رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ويسيء إليه، ومن الممكن أن يلعنكم لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تحزنوا قلب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب الأئمة الأطهار، وتكونوا سببا في آلامهم. 


في المقابل، يؤكد الإمام على الطابع الايجابي لوجود العالِم الصالح في المجتمع، ومدى التأثير الاجتماعي البالغ لأخلاقية العالم الذي يتحلى بالتهذيب، والصلاح، والتقوى، والورع، والاستقامة.. إن مجرد وجود العالم الصالح في المجتمع سوف يبعث على هداية الناس ولو لم يمارس الوعظ والارشاد. 

إذا كان العالم الورع والصالح يعيش في مجتمع أو مدينة أو إقليم ما، فإن وجوده يبعث على تهذيب أهالي تلك المدينة وهدايتهم، وإن لم يكن يمارس الوعظ والإرشاد لفظا.. 

كنت أرى في بعض المدن التي كنت أذهب إليها في فصل الصيف، أهالي تلك المدن ملتزمين بآداب الشرع إلى حد كبير. والسبب في ذلك كما اتضح لي، هو أنه كان لديهم عالم صالح ومتق.. لقد رأينا أشخاصا كان وجودهم يبعث على الموعظة والعبرة.. إن مجرد النظر إليهم كان يبعث على الاتعاظ والاعتبار.. المنطقة التي يقطنها عالم ورع ومتق، يكون أهاليها مؤمنين صالحين..
 
 
 
 
 
 
 
92

77

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 إذا ما انحرف العالم فمن الممكن أن يضل أمة بأسرها ويجرها إلى الهاوية. وإذا كان مهذبا يراعي الأخلاق والآداب الإسلامية، فإنه يعمل على هداية المجتمع وتهذيبه.


(التشدد تجاه الذات) الاحتياط والتنزه والتعفف: 

يتميز الموقع الذي يتصدى له "العالم الدينيًً عن سائر المواقع الأخرى من حيث خطورة المسؤوليات، وحساسية الواجبات. ويفترض أن يتحلى العلماء بنمط خاص من اللياقات في سلوكهم بحيث تتماشى مع التوقعات المفترضة فيهم. 

إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية، وواجباتكم غير واجبات عامة الناس.. إن واجبات علماء الدين جسيمة للغاية، وإن مسؤولياتهم أعظم من مسؤوليات سائر الناس.. كم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم.. الناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم - لا سمح الله - الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين.

وفي هذا السياق ينبّه الإمام على خطورة هذه المسؤولية، وضرورة التمسك بعصا الاحتياط, فإن واجبات العلماء غير واجبات الناس، وقد يحرم عليهم ما هو مباح للناس. 

إذا شاهد الناس عملا أو سلوكا من أحدكم خلافا لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
93

78

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

  الشخص.. إذا ما رأى الناس تصرفا منحرفا أو سلوكا لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون.. إذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطار عملا قبيحا، فإنهم يقولون: إن العطار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون. 


المسلكية، والاعداد الاخلاقي: 

يمتلك الكثير من طلبة العلم تصورا خاطئا عن طبيعة الدور الموكل إليهم في أثناء تواجدهم في الحوزات، لهذا ينصرفون إلى تعلم المصطلحات، وحفظ القواعد العلمية، وتكديس المفاهيم.. وأما الجوانب الأخلاقية فتأتي في الدرجة الثانية! 

إن مجرد تعلم هذه المصطلحات لا يجدي نفعا.. لا تتصوروا أن كل واجبكم أن تحفظوا حفنة من المصطلحات، بل تقع على عاتقكم مسؤوليات أخرى أيضا.. طبعا إن كسب العلم واجب، ولكن مثلما تجدّون وتجتهدون في المسائل الفقهية والأصولية يجب أن تسعوا في طريق إصلاح أنفسكم أيضا.. إن الحوزات العلمية بحاجة إلى تعليم وتعلم المسائل الأخلاقية والعلوم المعنوية جنبا إلى جنب مع تدريس الموضوعات العلمية.. ينبغي لطلبة العلوم الدينية أن لا يتوانوا في سبيل اكتساب الملكات الفاضلة وتهذيب النفس، وأن يهتموا بالواجبات المهمة والمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتقهم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

79

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 هذا الخطأ يقع فيه غالبا القيّمون على العمل الحوزوي، ولذلك ينبه الإمام إلى أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه من التواني والاهمال، سوف تتضاءل المعنويات وسوف يأتي يوم تخلو فيه الحوزة من المربين، وسوف لن يعود بامكان الحوزة القيام بهذه المهمة الجليلة. ان اتمام الاخلاق كان على رأس أهداف البعثة النبوية الشريفة.

من المفيد أن يهتم الفقهاء العظام والمدرسون الأعلام ممن هم محط اهتمام الجامعة ـ الحوزة ـ العلمية، بتربية الأفراد وتهذيبهم خلال تدريسهم وأبحاثهم، وأن يركزوا أكثر على القضايا المعنوية والأخلاقية.. العلوم المعنوية والأخلاقية بدأت تتضاءل، وبات يخشى أن لا تتمكن الحوزات العلمية في المستقبل من تربية علماء أخلاق ومربّين مهذبين ومتقين ورجال ربانيين، إذ لم يبق البحث والتحقيق في المسائل المقدماتية مجالا للاهتمام بالمسائل الأصلية والأساسية التي ركز عليها القرآن الكريم واهتم بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء والأولياء.. لقد بعث أنبياء الله لبناء الإنسان وتربيته، وإبعاده عن القبائح والخبائث والنقائص والرذائل، وترغيبه بالفضائل والآداب الحسنة: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاقًً.

عندما يكون العلم في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نباتا خبيثا، وسوف تزداد الحجب أكثر فأكثر "العلم هو الحجاب الأكبرًً. من هنا، يدعو الإمام إلى ضرورة اقتران العلم بالتهذيب، وان يعمل طلبة العلم على التربية والتكميل الى جانب الدراسة العلمية.. إن كل خطوة وسعي علمي 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

80

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 يجب أن تقارنه خطوات في الجانب الاخلاقي. وإن مطلب رواج التعاليم الاخلاقية وشياعها في الحوزة هو مطلب ملح وضروري.


إن علما اهتم به الله تعالى كل هذا الاهتمام وبعث من أجله الأنبياء، أصبح الآن مهملا في حوزاتنا ولا نجد أحدا يهتم به الاهتمام الذي يستحقه.. العلم عندما يكون في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نبتا خبيثا ويصبح شجرة خبيثة.. أي خطوة تخطونها على طريق كسب العلم، ينبغي أن تقابلها خطوة أخرى على طريق استئصال الأهواء النفسية الخبيثة القوى الروحية واكتساب مكارم الأخلاق وتحصيل التقوى.. ينبغي أن تكون البرامج الأخلاقية والتربوية، ودروس التربية والتهذيب، وتعليم المعارف الإلهية التي مثلت الهدف الأساس من بعثة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ رائجة وشائعة في الحوزات العلمية. ولكن ما يؤسف له أن هذا النوع من البحوث المهمة والضرورية قلما يتم الاهتمام بها في المراكز العلمية.. كلما تكدست هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذب، ازدادت الحجب أكثر فأكثر: "العلم هو الحجاب الأكبرًً.

من هنا، يطلق الإمام ما يشبه صرخة مدوية داعيا إلى ضرورة أن تكون الأولوية في الحوزة للانجاز الاخلاقي على الانجاز العلمي، فلا يجوز الانهماك بالمقدمات على حساب الأهداف الأساسية، بل يجب أن يكون العلم مقدمة للأخلاق. 

إن تحصيل هذه العلوم هو في الواقع مقدمة لتهذيب النفس واكتساب الفضائل والآداب والمعارف الإلهية.. إذا لم يتخلص الإنسان من الخبائث،
 
 
 
 
 
 
 
96

81

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 فإن دراسته وتعلمه لا تجديه نفعا بل تلحق به أضرارا أيضا.. إن علم التوحيد إذا لم يقترن بصفاء النفس سيكون وبالا.. إذا تجردت هذه المصطلحات الجافة من التقوى وتهذيب النفس، فإنها كلما تكدست في الذهن أكثر، تعاظم التكبر والغرور في دائرة النفس أكثر فأكثر.. إذا ما بقيت الحوزات العلمية هكذا خالية من مدرسي الأخلاق ومجالس الوعظ والإرشاد فستكون محكومة بالفناء..


النجاعة في العمل التبليغي: 

يبتني صلاح المجتمع على صلاح الانسان، وعلى تهذيب النفس والاخلاص والصدق. إن النجاح في عملية التبليغ، والتوفيق في هداية الآخرين، يتوقفان على تربية النفس وتهذيبها. وإذا كان المرتجى من طالب العلم هو العمل على بناء الانسان وتربيته وتهذيبه.. فلا بد أن يستغل الفرص من خلال اعداد النفس اعدادا جيدا قبل مغادرة الحوزة للتبليغ. وقد تكفل الله تعالى للعلماء العاملين أن يستجيب الناس لهم، وأن يجعل القلوب تهفو إليهم.

ينبغي لكم أن تبنوا أنفسكم وتربوها في هذه الحوزات بحيث إذا ما ذهبتم إلى مدينة أو قرية وفقتم إلى هداية أهاليها وتهذيبهم.. يؤمل منكم عند مغادرتكم الحوزات العلمية أن تكونوا قد هذبتم أنفسكم وبنيتموها بنحو تتمكنون من بناء الإنسان وتربيته وفقا لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه الأخلاقية.. إذا خطوتهم من أجل الله تعالى، فإن الله مقلب القلوب،
 
 
 
 
 
 
 
97

82

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 يجعل القلوب تهفو إليكم: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا.


استشعار خطر المسؤولية: 

نظرا لخطورة المسؤولية، ينبه الإمام إلى أن مسؤولية العلماء وواجباتهم ثقيلة وجسيمة. وعلى الرغم من أن "كلكم مسؤول عن رعيتهًً إلا أن مسؤولية العلماء تأتي في الدرجة الأولى. إن العجز عن إصلاح النفس وعدم اكتساب الكمالات المعنوية والأخلاقية، سوف يؤدي إلى اضلال الناس، والاساءة إلى الإسلام وإلى علماء الدين. وأن يتحول طالب العلم إلى عنصر مضر للإسلام والمجتمع الإسلامي وحياة المسلمين وآخرتهم. ولن يقتصر الأمر على إفساد جموع غفيرة من الناس والتسبب في انحرافهم، بل سوف يتحول إلى عقبة في طريق تقدم المسلمين، ويحول دون نشر الإسلام والإطلاع على حقائق القرآن، وسوف يحول دون تعرف المجتمع على حقيقة الإسلام وواقع علماء الدين. 

تقع على عاتقكم مسؤولية ثقيلة وجسيمة.. إذا ما رجعنا إلى (أصول الكافي) وكتاب (الوسائل)، وتصفحنا الأبواب المتعلقة بواجبات علماء الدين فسوف نواجه بواجبات عظيمة ومسؤوليات خطيرة ذكرت لأهل العلم.. أنتم أيها العلماء، وأنتم أيها الطلاب، يا طلبة العلوم الدينية، ويا أيها المسلمون، كلكم مسؤولون، مسؤوليتكم أيها العلماء وطلبة العلوم الدينية تأتي في الدرجة الأولى، ثم مسؤولية بقية المسلمين. "كلكم راع وكلكم مسؤول
 
 
 
 
 
 
 
 
98

83

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 عن رعيتهًً.. نسأل الله تعالى أن يوفق العلماء وطلاب العلوم الدينية للتنبه للأخطار المحدقة بهم، ووعي مسؤولياتهم الجسيمة في عصرنا الحاضر.. إذا ما عجزتم - لا سمح الله - عن إصلاح أنفسكم خلال مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمالات المعنوية والأخلاقية، فإنكم أينما ذهبتم ستضلون الناس - والعياذ بالله - وتسيئون إلى الإسلام وإلى علماء الدين.. إذا لم تعملوا بمسؤولياتكم في الحوزات العلمية ولم تفكروا بتهذيب أنفسكم، واقتصر همكم على تعلم عدد من المصطلحات وبعض المسائل الفقهية والأصولية، فإنكم ستكونون في المستقبل عناصر مضرة - لا سمح الله - للإسلام والمجتمع الإسلامي.. من الممكن أن تتسببوا - والعياذ بالله - في إضلال الناس وانحرافهم.. إن هذه المصطلحات مهما كثرت وعظمت، إذا لم تكن مقرونة بالتهذيب والتقوى فإنها سوف تنتهي بضرر حياة المسلمين وآخرتهم.. ما أكثر الأشخاص الذين كانوا علماء في علم التوحيد ولكنهم كانوا سببا في انحراف جموع غفيرة من الناس.. كم من الأشخاص كانوا يتقنون هذه الدروس التي تدرسونها بنحو أفضل منكم، ولكن نظرا لأنهم كانوا منحرفين ولم يصلحوا أنفسهم ويهذبوها، فإنهم عندما نزلوا إلى المجتمع أضلوا الناس وأفسدوا كثيرين.. إن عالم السوء الذي سيطر عليه الغرور والتكبر، لم يتمكن من إصلاح نفسه والمجتمع، ولم يجلب غير الضرر للإسلام والمسلمين. وسوف يصبح بعد سنين من طلب العلم وإنفاق الحقوق الشرعية والتمتع بالحقوق والمزايا الإسلامية، عقبة في طريق تقدم الإسلام والمسلمين، ووسيلة في تضليل الشعوب وانحرافها, وتصبح ثمرة كل

 

 

 

99


84

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 هذه الدروس والبحوث والانشغال في الحوزات، أن يحول دون نشر الإسلام وإطلاع العالم على حقائق القرآن. بل قد يصبح وجوده حائلا دون تعرف المجتمع على حقيقة الإسلام وواقع علماء الدين.. فلو فكرتم قليلا بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماما أكبر للمسؤوليات الجسام الملقاة على عواتقكم.


إذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوك بعض العلماء وسوء عمله، فمن الصعب أن تقبل توبته، ذلك أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. لهذا لا بد من الابتهال الى الله تعالى للتوفيق والتنبه للأخطار المحدقة، ووعي المسؤوليات الجسيمة.

إذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوككم وسوء عملكم، فإنكم ترتكبون بذلك أعظم الكبائر، ومن الصعب أن تقبل توبتكم.. عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.ًً، لأن معصية العالم تسيء كثيرا للإسلام والمجتمع الإسلامي. 

الروح التربوية:

إن مهمة العلماء هي هداية المجتمع، والانقطاع الى الله تعالى في لباس خدمة الخلق، وهي مهمة الانبياء والاولياء. ذلك أن هداية انسان واحد خير مما طلعت عليه الشمس، ومن لا يستطيع إصلاح نفسه، فكيف يتسنى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟

لهذا، ينبغي ان يكون سلوك العالم في المجتمع مثاليا، وذلك من خلال تحسين السلوك مع عباد الله تعالى والنظر إليهم بعطف وحنان، واحترام 
 
 
 
 
 
 
 
100

85

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 العالم منهم لعلمه، وإكرام الصالح منهم لصلاحه وكذلك من كان في سبيل الهداية، والتودد إليهم، ومحادثتهم ومؤآخاتهم.. وكذلك الاقتداء بالأئمة الأطهار الذين كانوا يوضحون الكثير من المسائل عن طريق الأدعية والأعمال الصالحة. 


حسّنوا سلوككم مع عباد الله تعالى وانظروا إليهم بعطف وحنان.. أكرموا عباد الله الصالحين والطيبين, فاحترموا العالم منهم لعلمه، واحترموا من هو في سبيل الهداية لأعماله الصالحة.. توددوا إلى الناس وحادثوهم وآخوهم.. هذبوا أنفسكم وتحلوا بالصدق والإخلاص، أنتم الذين تريدون هداية المجتمع وإرشاده. فالذي لا يستطيع إصلاح نفسه، كيف يتسنى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟.. لقد كان الأئمة الأطهار يوضحون كثيرا من المسائل عن طريق الأدعية.. لو أن شخصا اهتدى بكم فإن ذلك خير لكم مما طلعت عليه الشمس.

التسلح العلمي: 

العلم سلاح خطير ذو حدين, ومآله إما إلى الخير وحسن العاقبة، وإما إلى الضلال وسوء العاقبة. وكلما ازداد العلم كلما ازدادت شوكة هذا السلاح وسطوته. ولهذا نجد أن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم, ذلك أن العلم إذا وقع في القلب الفاسد كان أخطر وأعظم من كل الشرور، فيجعل الظلمة أكثر عتمة، ويتحول إلى حجب ظلام، ولن يجني صاحبه سوى الحجاب
 
 
 
 
 
 
 
101

86

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

  والابتعاد عن الحق تعالى. فالعلم نور لا مكان له في القلوب الصدئة. ولأجل أهمية العلم، يدعو الإمام إلى تعزيز قواعد الفقاهة، وأن يصبح العلماء من أصحاب الرأي فيها.


إن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم. بعض هؤلاء درسوا في المراكز العلمية الدينية ومارسوا الرياضات النفسية.. إن مؤسس إحدى الفرق الضالة قد درس في حوزاتنا العلمية هذه، ولكن نظرا لأن دراسته لم تكن مقترنة بتهذيب النفس وتزكيتها، لم يخط على الصراط المستقيم، ولم يتمكن من إبعاد نفسه عن الرذائل، فكانت عاقبته كل تلك الفضائح.. شر العالم الفاسد بالنسبة للإسلام أخطر وأعظم من كل الشرور.. العلم نور، إلا أنه في القلب المظلم والقلب الفاسد، يجعل الظلمة أكثر عتمة.. العلم يقرب الإنسان من الله تعالى، إلا أنه في النفس الطالبة للدنيا يبعث على الابتعاد ـ أكثر ـ عن محضر ذي الجلال.. علم التوحيد أيضا إذا لم يكن خالصا لله فإنه يتحول إلى حجب ظلام، لأنه انشغال بما سوى الله.. لو أن شخصا حفظ القرآن بالقراءات الأربع عشرة لغير ـ وجه ـ الله تعالى وتلاها، فإنه لن يجني سوى الحجاب والابتعاد عن الحق تعالى.. أنا لا أقول: لا تدرسوا، لا تكسبوا العلم, بل ينبغي أن تلتفتوا إلى أنكم إذا أردتم أن تكونوا أبناء مفيدين وفاعلين للإسلام والمجتمع، وأن تتولوا قيادة الأمة وتوعيتها بالإسلام، وإذا أردتم أن تدافعوا عن حمى الإسلام وتذودوا عن حياضه, ينبغي لكم أن تعززوا قواعد الفقاهة وأن تصبحوا من أصحاب الرأي فيها.. إذا لم تدرسوا فإنه يحرم عليكم البقاء في المدرسة، ولا يمكنكم الاستفادة من الحقوق الشرعية المخصصة لدارسي العلوم الإسلامية.
 
 
 
 
 
 
102

87

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 الامتثالية: 


إن العالم القدوة يتجاوز الذات ويبذل العطاء والجهد والتضحية. ويعمل على توطين النفس على التضحية من أجل الإسلام، والاستعداد التام للبذل والعطاء. ولا يتوقع على عمله اجرا دنيويا، وإنما يطلب الأجر والثواب الأخروي, لأن الدنيا لا تعني له شيئا ولا قيمة لها، والأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حد.

ليحاول كل واحد منكم أن يلقن نفسه من الآن بأنه يتطلع لأن يكون جنديا يضحي من أجل الإسلام.. يتطلع للتضحية من أجل الإسلام.. إن كرامتكم وكيان الإسلام وكرامة الدول الإسلامية منوطة بمدى استعدادكم للتضحية والبذل والعطاء.. إذا ما جاهدتم في سبيل الله وضحيتم من أجله تعالى، فإنه سبحانه لم يترككم دون أجر وثواب. وإن لم يكن ذلك في هذه الدنيا فستحصلون عليه في الآخرة.. إذا لم تنالوا أجركم وثوابكم في هذه الدنيا فذلك أفضل لكم، لأن الدنيا لا تعني شيئا ولا قيمة لها. فكل هذا الصخب والضجيج وهذه الاعتبارات سوف تنتهي خلال أيام معدودات وتمر من أمام عين الإنسان كالحلم, بيد أن الأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حد.

الانسانية: 

على الرغم من وعورة طريق العلم وصعوبته، وتوقفه على الجهد والاجتهاد، ولكن يوجد فرق كبير بين أن تكون عالما وأن تكون مهذبا, وهو 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

88

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 فرق تختصره كلمة الامام: "من الصعب أن تصبح عالما ومن المستحيل أن تكون إنساناًً. لذلك كانت دعوته للعلماء إلى اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية والمعايير الآدمية: جدوا واجتهدوا لأن يكون كل واحد منكم إنسانا. 


لو درستم وتحملتم الصعاب في هذا السبيل، فقد تصبحون علماء، ولكن ينبغي أن تعلموا أن ثمة فرقا كبيرا بين "العالمًً وًًالمهذبًً.. كان أستاذنا المرحوم الشيخ الحائري (رحمه الله) يقول: "يقولون: من السهل أن تصبح معمما ـ رجل دين ـ ولكن كم هم صعب أن تكون إنساناًً. إلا أن هذا القول غير صحيح، إذ ينبغي القول: من الصعب أن تصبح عالما ومن المستحيل أن تكون إنسانا.. جدوا واجتهدوا لتكونوا في المستقبل نافعين للإسلام، وباختصار أن يكون كل واحد منكم إنسانا. إن اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية والمعايير الآدمية أصعب وأشق بكثير من التكاليف الملقاة على عاتقنا.

الانقطاع واخلاص النية:

يتمحور خطاب الإمام الى العلماء على مفردات من قبيل ضرورة الاخلاص، وقصد القربى، والنية الخالصة لوجه الله تعالى، وكمال الانقطاع، والانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه. ذلك أن السبيل إلى ترويض النفس غير اعتيادي، وتحقيق معنى الانقطاع إلى الله تعالى يحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، وتعويد اللسان على ذكر الله ومناجاته، وتأدية العمل بعيدا عن الرياء، والانقطاع عن شياطين 
 
 
 
 
 
 
 
104

89

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 الإنس والجن. ويحذر الإمام من الموانع التي قد تحول دون بلوغ هذه الذرى، فما دام في القلب مثقال ذر من حب الدنيا، وما دام لم ينقطع عن الدنيا ويجتنب لذائذها، وما دام يعمل لغير الله وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية.. فإن هذه العلوم لن تنفع شيئا، ولن نجني غير الوزر والويل والوبال والابتعاد عن عرش الربوبية. فلا بد من اجتناب كل ذلك في صورته الكاملة، وهي الانقطاع التام إلى الله تعالى. 


لا تتصوروا أنكم بانشغالكم الآن بطلب العلوم الشرعية ودراسة الفقه الذي هو أشرف العلوم، قد ارتحتم وعملتم بواجبكم وتكليفكم. فإذا لم يتوافر الإخلاص وقصد القربى، فإن هذه العلوم لا تنفع شيئا.. إذا كان تحصيلكم العلمي لغير الله والعياذ بالله، وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية، فإنكم لن تجنوا غير الوزر والويل والوبال.. إن هذه المصطلحات إن لم تكن لوجه الله تعالى، فستكون وزرا ووبالا.. ليكن الإخلاص رائدكم في درسكم وبحثكم لكي يقربكم من الله تعالى.. إذا لم تتوافر النية الخالصة في الأعمال، فسوف يبتعد الإنسان عن عرش الربوبية.. إن كمال الانقطاع لا يتحقق بهذه البساطة. إنه بحاجة إلى ترويض للنفس غير اعتيادي ويحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، لكي يمكن الانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وأن لا يكون هناك توجه لغير الله تعالى.. من
 
 
 
 
 
 
 
105

90

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 المستحيل أن يستطيع الإنسان بلوغ هذه الذرى مادام في قلبه مثقال ذر من حب الدنيا.. حاولوا قدر المستطاع أن تحققوا معنى الانقطاع إلى الله تعالى، وأن تؤدوا أعمالكم بعيدة عن الرياء، وخالصة لوجه الله تعالى، وانقطعوا عن شياطين الإنس والجن.. عوّدوا ألسنتكم على ذكر الله ومناجاته.. إن جملة (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك) ربما تريد أن توضح هذا المعنى، وهو أن الرجال الربانيين الواعين ينبغي لهم أن يعدوا أنفسهم ويهيئوها قبل حلول شهر رمضان، لصوم هو في الحقيقة انقطاع عن الدنيا واجتناب لذائذها (وهذا الاجتناب في صورته الكاملة هو هذا الانقطاع إلى الله). 


الهدفية:

يرى الإمام أن الهدف السامي والمقدس لطالب العلم يتمثل في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها. وتاليا، إصلاح المجتمع وبنائه، وخدمة الإسلام والمسلمين. من هنا يحذر الإمام من خطر المراوحة في المقدمات، ويحث طلبة العلم على مداومة التفكير في ثمرة عملهم ونتيجة جهدهم، وأن يبذلوا الوسع لتحقيق الهدف الأصلي والأساس. 

إن ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، يؤدي إلى نفوذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين، ويتسبب في عدم وضوح الرؤية، كالجهل بوظيفة عالم الدين، وواجباته، ومهامه.. وبكلمة واحدة الجهل بالهدف. فالبعض يسعى من وراء الدراسة للحصول على الجاه والمنصب
 
 
 
 
 
 
106

91

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

  والمقام والتملق للآخرين.. وقد لا يجني من دراسته غير جهنم، والبعد عن الله عز وجل. 


يذكر الإمام بحكاية ذلك الحجر الذي ألقي في جهنم وسمع صداه بعد سبعين سنة. وقد نقل عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إنه رجل هرم كان في السبعين من عمره، وخلال هذه السبعين عاما كان يسير نحو جهنم. 

لا مانع من أن يصبح طالب العلم صاحب مقام، لكن لا بد له من تهذيب النفس، حتى إذا ما أصبح رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضا.

حاذروا أن تبقوا إلى آخر العمر تراوحون في هذه المقدمة دون أن تحققوا النتيجة المرجوة.. إنكم تبغون من وراء كسب هذه العلوم هدفا ساميا ومقدسا يتمثل في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها.. لابد لكم من التفكير بثمرة عملكم ونتيجة جهدكم.. ابذلوا كل ما بوسعكم لتحقيق هدفكم الأصلي والأساس.. حاذروا أن تكونوا بنحو إذا ما فتحت صحيفة أعمالكم بعد سبعين سنة من العمر، يرى فيها ـ والعياذ بالله ـ أنكم أضحيتم سبعين سنة بعيدين عن الله عز وجل. لا شك أنكم سمعتم حكاية ذلك "الحجرًً الذي ألقي في جهنم وسمع صداه بعد سبعين سنة. وقد نقل عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إنه رجل هرم كان في السبعين من عمره، وخلال هذه السبعين عاما كان يسير نحو جهنم.. حاذروا أن تكون عاقبة أحدكم أن يقضي خمسين عاما ـ أو أكثر أو أقل ـ في الحوزات العلمية مع كد اليمين وعرق الجبين ولا يجني غير جهنم.. قد وصل الأمر بسبب ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، إلى أن تنفذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين وأبعدت الكثيرين عن الأجواء المعنوية والروحية بدرجة باتوا يجهلون ماذا يعني عالم الدين أصلا؟ وما هو واجبه؟ وما 
 
 
 
 
 
 
107

92

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 هي المهام التي ينبغي له الاضطلاع بها؟.. بعض ليس لهم غير تعلم بضع كلمات ثم الرجوع إلى مناطقهم أو أي مكان آخر للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملق للآخرين، مثلما كان أحدهم يقول: دعني أدرس "اللمعةًً وحينها سوف أفهم كيف أتصرف مع مختار القرية.. يجب أن لا يكون الأمر بنحو تتلخص نظرتكم وغايتكم من الدراسة منذ البداية في الحصول على المنصب الفلاني وكسب المقام الكذائي، أو أن تصبحوا رؤساء المدينة الفلانية أو شيوخ القرية الفلانية.. فمن الممكن أن تحققوا هذه الأهواء النفسية والأماني الشيطانية، ولكن لن تكسبوا لأنفسكم ولأمتكم ولمجتمعكم الإسلامي غير التعاسة والشقاء. فمعاوية ترأس وتأمّر لفترة طويلة إلا أنه ما جنى لنفسه سوى اللعن والذم وعذاب الآخرة.. لابد لكم من تهذيب أنفسكم، حتى إذا ما أصبح أحدكم رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضا.. حاولوا أن تخطوا على طريق إصلاح المجتمع وبنائه.. ليكن هدفكم خدمة الإسلام والمسلمين. 


الاعداد والاستعداد:

الانتساب الى الحوزة العلمية - برأي الإمام - يعني قبل كل شيء التفكير بإصلاح النفس، وتهذيبها قبل النزول إلى المجتمع. والسبب في ذلك: ليتسنى له هداية الناس، ويتسنى للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقية التي يتحلى بها ويتعظوا ويصلحوا أنفسهم بالتأسي به. 

إن عدم الاهتمام بالاعداد الآن – حيث يتسع الوقت والطاقة لذلك - 
 
 
 
 
 
 
 
108

93

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 سوف يحول دون الإصلاح لاحقا عندما يلتف الناس حول العالم وتصبح مسؤولياته جسيمة، وسوف يضيع نفسه ويخسرها. لهذا ينبغي المبادرة إلى بناء النفس واصلاحها قبل أن يفلت الزمام من الأيدي، فقد تتوافر الفرصة لأن يفعل شيئا لنفسه على الأقل. أما لو أصبحت اللحية بيضاء وكبرت العمامة قبل أن يتمكن صاحبها من اكتساب الملكات الخلقية الفاضلة وتنمية قواه الروحية، فسوف يبقى محروما من الاستفادات العلمية والمعنوية وجميع البركات.


أنتم عندما تنتسبون إلى الحوزات العلمية ينبغي لكم أن تفكروا بإصلاح أنفسكم قبل كل شيء.. ما دمتم في الحوزة فيجب أن تكونوا بصدد تهذيب أنفسكم وإصلاحها، لكي يتسنى لكم إذا ما تركتم الحوزة وأخذتم على عاتقكم هداية أبناء مدينة أو محلة ما، يتسنى للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقية التي تتحلون بها ويتعظوا ويصلحوا أنفسهم بالتأسي بها.. حاولوا أن تصلحوا أنفسكم وتهذبوها قبل النزول إلى المجتمع.. إذا لم تهتموا الآن ـ حيث تمتلكون متسعا من الوقت والطاقة ـ بتهذيب أنفسكم، فسوف لا تقدرون على إصلاح أنفسكم عندما يلتف الناس حولكم وتصبح مسؤولياتكم جسيمة.. لا قدر الله أن تصبح لحية طالب العلوم الدينية بيضاء بعض الشيء وتكبر عمامته، قبل أن يتمكن من اكتساب الملكات الخلقية الفاضلة وتنمية قواه الروحية، لأنه والحال هذه سوف يبقى محروما من الاستفادات العلمية والمعنوية وجميع البركات.. اغتنموا الفرصة وجدوا
 
 
 
 
 
 
 
109

94

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 واجتهدوا قبل المشيب، فإذا لم تحظوا باهتمام الناس وتوجههم، فقد تتوافر لكم الفرصة لأن تفعلوا شيئا لأنفسكم.. لا قدر الله تعالى أن يهتم المجتمع بشخص ما قبل أن يتمكن ذلك الشخص من تربية نفسه، ويصبح ذا نفوذ ومنزلة بين الناس، فعندها سوف يضيع نفسه ويخسرها.. ابنوا أنفسكم وأصلحوها قبل أن يفلت الزمام من أيديكم. 


التواضع:

يدعو الامام الى ضرورة أن يتحلى العالم بالتواضع العلمي، ويحذر من أنه إذا كبرت عمامة أحدهم وطالت لحيته، فيصعب عليه - إذا لم يكن قد هذب نفسه - أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مفيدا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة، وحضور درس أحد. إن بناء الإنسان لا يتحقق بدون معلم، والإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه، والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتخذ لنفسه مرشدا وموجها لا يصبح فقيها وعالما. إن علماء الاسلام الكبار كانوا يحضرون دروس الآخرين وهم في مرحلة متقدمة من العمر، فالشيخ الطوسي (رحمه الله) كان يذهب إلى درس السيد المرتضى كتلميذ وهو في سن الثانية والخمسين، في حين كان قد صنف بعض مؤلفاته ما بين سن العشرين والثلاثين. والشيخ الأنصاري (رحمه الله)، كان يحضر - وهو أستاذ الفقه والأصول - درس الأخلاق والمعنويات لدى سيد جليل.

ثمة أشياء كثيرة يبتلى بها الإنسان وتحول دون التهذيب واكتساب العلم. وإن أحد هذه الموانع ـ لبعض
 
 
 
 
 
 
 
110

95

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

  الناس ـ هي هذه اللحية والعمامة! فإذا كبرت عمامة أحدكم وطالت لحيته، يصعب عليه ـ إذا لم يكن قد هذب نفسه ـ أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مفيدا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة، وحضور دروس أحد.. الشيخ الطوسي (رحمه الله) كان يذهب إلى الدرس كتلميذ وهو في سن الثانية والخمسين، في حين كان قد صنف بعض مؤلفاته ما بين سن العشرين والثلاثين. ويبدو أنه صنف كتاب “التهذيب” في هذا السن. وفي سن الثانية والخمسين كان يحضر دروس السيد المرتضى (رحمه الله) وهذا ما أهّله لأن يصل إلى ما وصل إليه.. ليتخذ كل واحد منكم مدرسا للأخلاق، وشكلوا مجالس الوعظ والنصح والإرشاد.


فالإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه.. كما يحتاج علم الفقه والأصول إلى أستاذ ودرس وبحث، وكل علم وصناعة في الدنيا لابد لها من أستاذ ومدرس. والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتخذ لنفسه مرشدا وموجها لا يصبح فقيها وعالما، فكذلك العلوم المعنوية والأخلاقية التي هي هدف بعثة الأنبياء ومن ألطف العلوم وأدقها، بحاجة إلى تعليم وتعلم.. إن بناء الإنسان لا يتحقق بدون معلم.. لقد سمعت مرارا أن الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، وهو أستاذ الفقه والأصول، كان يحضر درس الأخلاق والمعنويات لدى سيد جليل. 
 
 
 
 
 
 
111

96

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 الوعي واليقظة: 


تتمتع الحوزات العلمية وعلماء الدين بدعم وتأييد الشعوب. ومادام هذا الدعم والتأييد قائمين فمن غير الممكن سحق الحوزات والقضاء عليها أبدا. وفي الحقيقة أن الحكومات تخشى الشعوب، ولهذا فهي تحتمل إذا ما أهانت وتجاسرت وتعرضت إلى أحد علماء الدين، أن ذلك سوف يثير سخط الأمة ويفجر غضبها ضدها.. ولكن إذا ما كان علماء الدين مختلفين فيما بينهم ويسيء بعضهم لبعض، ولم يكونوا متأدبين بآداب الإسلام، فإنهم سيفقدون اعتبارهم ويخسرون ثقة الأمة بهم. 

من هذا المنطلق، يحذر الإمام من التقليل من أهمية البرامج التربوية والأخلاقية. ومن الأيادي الخبيثة التي تبث السموم ودعايات السوء والأفكار الخبيثة في الحوزات لكي تجردها من المعنويات والأخلاقيات، فتصوّر مثلا ارتقاء المنبر للوعظ والإرشاد على أنه يتنافى مع المكانة العلمية، غافلين عن أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان منبريا، وكان يعظ الناس ويرشدهم من على المنابر.. 

ان الله تبارك وتعالى وضع الدين الإسلامي المقدس بمثابة أمانة بين أيدينا. فالقرآن الكريم أمانة الله الكبرى، والعلماء هم المؤتمنون عليها، وإن واجبهم الحفاظ على هذه الأمانة الكبرى وعدم خيانتها. وما التشتت والاختلاف واللغط والضجيج الذي لا طائل من ورائه، إلا خيانة للإسلام ولنبيه الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
 
 
 
 
 
 
112

97

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 أنا لا أدري لم هذه الاختلافات والتحزبات؟! فإن كانت من أجل الدنيا، فأنتم لا تملكون شيئا في الدنيا! وإن كنتم تتمتعون باللذائذ والمنافع الدنيوية، فإن ذلك لا يستحق الاختلاف. ألستم روحانيين، أم أنكم لم ترثوا من الروحانية غير العمامة والعباءة؟! إن عالم الدين الذي يؤمن بما وراء الطبيعة.. عالم الدين الذي يتحلى بتعاليم الإسلام الحية وأحكامه البناءة.. عالم الدين الذي يعتبر نفسه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام.. إن عالم الدين هذا من غير الممكن أن يهتم بشهوات الدنيا، ناهيك أن يثير الخلاف بسببها.. إن مثل هذه الصراعات والنزاعات تبدو مبررة طبقا لمنطق أهل الدنيا مع تلك العقول الملوثة. أما نزاعاتكم فإنها تفتقد للتبريز حتى بمنطق هؤلاء. 


فإذا سئلوا لماذا تتنازعون، سيقولون إننا نسعى للاستيلاء على البلد الفلاني، ولابد من فرض سيطرتنا على ثروات وموارد البلد العلاني. ولكن إذا سئل منكم: لم تتنازعون، ومن أجل أي شيء، ماذا ستجيبون؟ فما الذي تملكون من الدنيا ويستحق التنازع من أجله؟ إن مرتب أحدكم الشهري الذي يأخذه من المراجع، أقل مما ينفقه الآخرون على سجائرهم في الشهر الواحد. لقد قرأت في إحدى الصحف عن الميزانية التي يدفعها "الفاتيكانًً لقسيس في واشنطن، فعندما حسبت ذلك وجدت أنه أكثر من جميع الأموال التي تمتلكها الحوزات العلمية لدى الشيعة! فهل من المعقول مع هذه الحال التي عليه حياتكم من بساطة وزهد، أن تختلفوا 
 
 
 
 
 
 
 
113

98

المقال الخامس: مواصفات القدوة في كتاب جهاد النفسً للامام الخميني(قدس سره)

 فيما بينكم وتتكالبوا على الدنيا ويعادي أحدكم الآخر؟.. إن جذور كل الاختلافات التي تفتقد إلى الهدف المحدد والمقدس، تعود على حب الدنيا. وإذا ما وجدت الاختلافات في أوساطكم فهو لأنكم لم تخرجوا حب الدنيا من قلوبكم. ونظرا لأن المنافع الدنيوية محدودة، فإن كل واحد يتنافس مع الآخر للاستحواذ عليها. أنت تريد المقام الفلاني وغيرك أيضا يكافح من أجله، فمن الطبيعي أن يقود ذلك إلى التحاسد والاختلاف..


إن هذه الاختلافات خطيرة وتترتب عليها مفاسد لا تعوض. إنها تسيء إلى الحوزات العلمية وتدمرها، كما أنها تفقدكم مكانتكم الاجتماعية وتحقركم في عيون المجتمع.. إن هذه التحزبات والفئويات لا تنتهي بضرركم فحسب، ولا تسيء إلى سمعتكم وحدكم، بل تسيء إلى سمعة المجتمع وكيانه.. تسيء إلى الأمة وإلى الإسلام. وإن المفاسد التي تترتب على اختلافاتكم ذنوب لا تقبل العفو والغفران، وهي عند الله تبارك وتعالى أعظم من كثير من المعاصي، لأنها تفسد المجتمعات وتفتح الباب واسعا أمام تسلط الأعداء وبسط نفوذهم.. فليس مستبعدا أن تعمل أيادٍ خفية على إيجاد الفرقة والاختلاف لتداعي أركان الحوزات العلمية، وزرع النفاق والشقاق، وتسميم الأفكار والأذهان حتى يصبح التكليف الشرعي مشوبا بالنزاعات مثقلا بالاختلافات، وبذلك يوجدوا الفساد في الحوزات، وبهذه الوسيلة يتم تسقيط الأشخاص الذين يعلق الإسلام عليهم الآمال، لكي لا يكون بمقدورهم خدمة الإسلام والمجتمع الإسلامي في المستقبل.
 
 
 
 
 
 
 
114

99

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 المقال السادس





القدوة ضرورة ونجاة



الدكتورة باسمة زين الدين
 
 
 
 
 
 
 
 
117

100

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 الدكتورة باسمة زين الدين1

 

 القدوة ضرورة ونجاة
 
أمام ما يحيط بنا من تردّ، وأمام هذه الهجمة الشرسة على أمتنا، وفي ظل هذه الحراك الشعبي والثورات المناهضة للأنظمة الهرمة والمهترئة في عالمنا العربي، أضف إلى الانقسامات الفكرية التي تعصف بالعقول، والتي ربما تكون نتيجة لسياسة " الباب المفتوح " وعلى مصراعيه أمام الأفكار المعلّبة الجاهزة الغربية عن قيمنا وتقاليدنا وأعرافنا، كما الترويج لها عبر الضخ الإعلامي من خلال الحشد الهائل والزخم الكبير للفضائيات والانترنت في تقديم وجبات سريعة، إن للصغار أو للكبار في محاولة لإعادة برمجة الأدمغة وسوقها إلى حيث تشاء نكون أو لا نكون، حيرة أم عجز.
 
كيف السبيل؟ بل أين المفر؟
 
زمن يعيش فيه شبابنا وشاباتنا من أبناء الجيل في مأزق كبير وحيرة أكبر، أو ربما هو شعور بالعجز أو الضعف. هذه الحيرة في تحديد الأولويات
 
 
 

1- باحثة وأدبية.
 
 
 
 
 
 
 
119

101

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 أو حتى المهمات، أو الحيرة في تحديد مطالب الحاضر وكيفيّة التعامل معه، ناهيك عن النظرة إلى المستقبل، وهل بالإمكان الوصول إليه في ظل هذا الواقع المتردي المعاش؟


حجر نلقيه في حضن الكبار من أبناء أمتنا الذين نُعيب عليهم هذا التساقط الذليل، هذا العري الملتصق بالمخادعة للواقع في محاولة بائسة منهم لتغطية هذا العري بالنقوش، بالوشم، بالانزواء أو بالخوف من مواجهة الشمس. ولكن أي حجر،لا بل أية حجارة نرميها في دم متخثر، وهذا هو السؤال الذي يواجه الشباب والشابات، كيف يمكن أن ننقذ ما تبقى من إنساننا ومجتمعنا؟ وهل بإمكانًً القشةًً أن تنقذ الغريق؟

تجربة نخوض غمارها في الحياة، ونحاول الخلاص كي لا نمعن في الغرق، وكي لا يبقى الموت يحمل سكينه ويتهدد الأحياء، نفتش عن مفردات الحياة وعناصر البقاء، ربما يتطلب الأمر معجزة من السماء أو مخلصاً يعيد تركيب الأشياء، أو أنموذجاً ولو في الهواء، حلماً نعيشه ولو في العراء،من هنا نبحث عن حل،عن الخلاص، عن نور في نهاية الدهليز نريد أن نصل إليه ولو بعد عناء!. 

غريزة فطرية وطبيعة بشريّة، ملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، وخاصة الأطفال، فهم أكثر تأثراً لأنهم يعتقدون أنّ كلّ ما يفعله الكبار صحيحاً، فقد ورد في موسوعة العناية بالطفل:ًً يبدأ الطفل في سن الثالثة يدرك بوضوح أكثر أنه من الذكور، وأنه سيصبح يوماً ما رجلاً 
 
 
 
 
 
 
 
120

102

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره"1

 
من هنا فالإنسان لا يستطيع أن يبدأ من الصفر، بل لا بد من الإفادة ممن سبقوه في الحياة، وكانت لهم تجارب وخبرات يتوسم فيها من عرفها طموحه، ويلبي حاجاته ومن ثمة ينطلق.
 
إذن هي الحاجة التي تدفع بالإنسان العاقل لأن يتخذ أنموذجاً ومثالاً كاملاً وراقياً وواقعياً في آن معاً يُعجب به إما في حياته كلها أو في جزء منها، كأن تجد في الحياة من يمكن أن يُقتدى به في إنجاز معين، أو تطور ما، أو خبرة محددة، أو صفة من الصفات المحببة، كأن يقال مثلاً: فلان قدوة في البذل والتضحية، ولكنه لا يتصف بالعلم مثلاً، ويقال إن فلاناً قدوة في طلب العلم دون الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقال إن هذه السيدة قدوة في الأدب واللباقة ولكنها ليست على قدر من العلم.أما الموفق فهو من ضرب من كلّ خير بسهم فيكون له باع في كلّ فضيلة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
 
إذن الحياة بالنسبة للإنسان تعتبر تجربة جديدة، لأنه يأتي إليها لسفرة واحدة فقط، غير قابلة للتكرار، ويواجهها دون سابق خبرة أو معرفة، لذا فإن الفشل في تجربة الحياة لا يمكن تداركه أو تعويضه، وكما يقول القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينًًُ﴾2 ولكن كيف يُنجح الإنسان تجربته الواحدة والوحيدة في هذه الحياة، وهو يواجهها كمتاهة
 
 
 

1- أليسون ماكنوشي، موسوعة العناية بالطفلًً، الدليل العلمي للآباء والأمهات، دار الفاروق، ط2007، ص 58.
2- سورة الحج: آية:11.
 
 
 
 
 
 
 
121

103

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

  واسعة، مزروعة بالألغام، مليئة بالشهوات والمغريات، تتشعب فيها الطرق، وتتعدد الخيارات؟


إنه بأمس الحاجة إلى خريطة واضحة المعالم، تدله على طريق النجاة، وتنبهه على مناطق الخطر، هذه الخريطة تتمثل بذلك المخلص من المتاهة، أو ذاك النور المضيء وسط الظلام، أو ما نسميه بعبارة أخرى المرشد والدليل الذي نتتبع خطواته بدقة وحذر داخل حقل ألغام ومتفجرات.

إنها القدوة سبيلنا للوصول حيث الأمن والطمأنينة، فهي التي تشعرنا بالثقة وتحثنا نحو الخير وتدفعنا لتجنب العقبات ومحاولة الخروج من مهالك ومتاهات تعترض طريقنا وتخرب حياتنا. هذه القدوة التي نختارها بملء إرادتنا لا بانصياع أعمى، وقد يختلف بعضنا عن الآخر في اختياره القدوة وذلك حسب ميوله، فمنا من يجعل اللاعب الرياضي الفلاني قدوته لأن اهتمامه بالرياضة ومنا من يختار الفنان الكذا قدوته لأن اهتمامه بالفن كبير، ومنا ومنا القليل القليل من يعش دون قدوة.

نحن بشر والبشر بحاجة كي ترتقي وتتقدم، ليس إلى قيم مجرّدة، أو صور صامتة، أو حكايات خياليّة، أو نصوص شعريّة، أو حتى أغاني ثوريّة، بل نحن بأمس الحاجة إلى نماذج حيّة من البشر، يصح التماهي بها والاستنارة بهديها.

نحن البشر، بحاجة إلى بشر مثلنا، يجسدون القيم ويثبتون أنها قيم ملموسة ومعيوشة، وفي متناول الجميع، أما إذا لم يعشها بشر مثلنا، من لحم ودم، فإنها تبقى مفاهيم مبهمة غامضة، وتبدو نظريات غير واقعيّة، وهذا
 
 
 
 
 
 
 
122

104

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

  لا يعني إلغاء أو مصادرة لرأينا وإرادتنا، أو ممارسة لضغط ما علينا، بل يجب أن يصاحب هذا التتبع والاهتداء قناعة وتصميم ووعي وإرادة وعزم.

 
وإذا كان تعريف القدوة أتباع شخصية تُحدث انبهاراً وتترك آثاراً لتجذبك نحوها بفعل أفعالها وجمال أقوالها وحسن سيرها وسلوكها.
 
هذا ما دفعني إلى اتخاذ تجربة المقاومة مثالاً أجده الأقرب إلى الواقع، محاولة تقديم ثلاثة نماذج بشرية من تلك الروح الجهادية التي صدقت القول بالفعل لينطبق عليها قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"1
 
مثال حي من واقعنا اللبناني، حيث نقرأ المعاناة والظلم والقتل والموت حياة جديدة تفتح أمامنا بوابة كبيرة لها ألف باب وباب، وكلّ باب يدخلنا على ما هو أرحب وأغنى. إنها تمثل التجربة الحيّة الميدانية، بما تحمل من التزام بالقضيّة وتمسك بالقيم والمبادئ وتحقيق الأهداف النبيلة الساميّة، تجربة تحكي قصة قلة قليلة من الذين صدقوا العهد لأنهم آمنوا بربهم ونذروا النفس للفعل المغيّر المقاوم وما بدلوا تبديلاً.
 
نمر على معقل من معاقلهم لنربط جسور الحوار والتواصل، حوار ينفض غبار الموت والهزيمة، ويكتفي بمعانقة النصر بلغة الصمت والعزيمة.
 
 

1- نهج البلاغة- الخطبة 51، ص 25. 

 
 
 
 
 
 
 
123

105

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 الحديث عنهم تجده يسعى إليك ولا تسعى إليه،لذلك فهو يتدفق كالشلال قصيدة،والقصيدة لا نختار لها موعداً ولا نختار لها مكاناً،هي تحل متى تشاء وأنى تشاء،هي تحل في أي وقت وفي أي مكان،ولذلك ليس لدينا إلا أن نؤرخ حروفها بحبر العناق،وإلا فتنفلت وتذوب حيث الفراغ.


هؤلاء فتية تجمعوا في وديان الجنوب وقرى البقاع،حملوا الأيام ولم تحملهم الأيام، جسومهم مثقلة بالهم والأسى والمعاناة داخل بحر متلاطم الأمواج يريدون الوصول حيث الشاطئ شاطئ غربة ووحشة في حياة رصيدها ذكريات وأي ذكريات؟

في الزمن الصعب،لا بل في الزمن الأزرق الذي تُعقد فيه الصفقات، وتُباع في سوقة الكرامات ويتم فيه التنازل بسهولة عن كلّ القيم، عن كلّ المبادئ عن كلّ الشعارات، يبقى هؤلاء في كهوفهم، في عزلتهم التي أبعدتهم قسراً عن الأحبة والأصدقاء، عن متاع الدنيا يخترقون بإيمانهم الفرق السوداء ويكتبون بجهادهم ودمائهم لغة السماء،فهم أصدق من على الأرض،لأنهم تحولوا بفعل إيمانهم من أحياء إلى عالم الشهداء....

وسأكتفي في دراستي هذه وكما أشرت سابقاً بنموذج الشهداء، دون الأحياء لأن المقام لا يحتمل، فالشهداء ذهبوا لأجلنا ولأنهم وبإرادتهم ما تحملوا الحياة ذليلة، مستباحة، معطلة، بل أكثر من ذلك واجهوا الموت بابتسامة وإقبال لاعتقادهم بأن الموت يصنع الحياة، وأية حياة هي، إنها الحياة العزيزة الحرّة.
 
 
 
 
 
 
 
124

106

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 الموت الذي تحقق بفعله انتصار القيم والمبادئ


الموت الذي جعلنا نثق بقدراتنا وإراداتنا وعزمنا وتصميمنا.

الموت الذي أكد فعلنا ودورنا وتأثيرنا في الحياة.

الموت الذي رفعنا من أسفل درك إلى أعلى الدرجات

هذا الموت ألم يعطي معنى للحياة؟

ألا يستحق الشهيد أن يكون قدوة وبلا منازع هذه القدوة التي اتخذت لدورها قدوة وأية قدوة. 

" ولكم في رسول الله أسوة حسنةً ًهذا النبي الأمي الذي قرأ ونطق بما لم ينطق به أحد، وجاء بما لم يستطع أحد أن يأت به ولو اجتمعت الجن والأنس أو كان بعضهم لبعض ظهيراً، هذا النبي القائل:ًً إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابداًًً. ونحن نقول: نعم لقد تمسكوا بهما وساروا في الأرض وتفكروا في خلق الله وعرفوا سُبل الصراط. كيف لا وهم يقدمون لنا أغلى ما عندهم في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل .

هذا الشهيد الذي قدّم حياته رخيصة على مذبح الكرامة ، وهو لم يفعل هذا الأمر لأنه مستهتر بالحياة، أو لأن الحياة لا تعنى له شيئاً بدليل أن بين صفوف الشهداء نجد من هم في الطليعة، فمنهم من يحمل الإجازات الجامعية، ومنهم من كان يعمل في أماكن مهمة ويحملون ألقاب كبيرة ومنهم من ترك بيته وعائلته وهم أحوج ما يكونون إليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
125

107

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 إننا نقارب حالة إنسان ترفّع وسمى وصار في الدرجات العلى، ولم يعد باستطاعة نظرنا اللحاق به، أو النظر إليه، ولا يسعنا إلا أن نقول في ذلك لأهل الشهداء لا تحزنوا على من فقدتم، إنما الحزن لأن الكثير من الجهلة والأغنياء ما زالوا أحياء!

 
لقد حاول الأعداء وعملائهم استغلال الفرص وانتهازها ليعطلوا الذاكرة، في محاولة لكتابة تاريخ جديد بأصابع غريبة مأجورة تشحن النفوس حقداً وضغينة لتضيع القضية، ولكن أنى لهم ذلك وفي الأمة ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾1.
 
عندما ندخل عالم الشهداء،لا بد أن نسرع ويسرع الزمان ليلحق بخطواتهم، فهم استمرار فاعل ومتفاعل صعوداً في حركة التاريخ وحتى الجغرافيا. لو أردنا الاطلاع على مسالك دربهم لتقاسمنا مثلهم العليا، وأول ما يستوقفك إخلاصهم والوفاء " العمل بلا إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفقهًً"2 وهي صفة ملازمة أبداً لشخوصهم، وهي صفة تحمل كلّ الصفات، إن في العمل الذي أختصر مسافات ومسافات في العطاء والتضحيّة، وإن في عقولهم وتفكيرهم النّير العبقري نسخة مفردة،كفاءات وقدرات وهم وعزائم شباب التحموا في دائرة واحدة وكتبوا بأيديهم الشعار ليرسموا فيما بعد بدمائهم الزكيّة
 
 
 

1- سورة الأحزاب، الآية 23.
2- الفوائد، ص 67.
 
 
 
 
 
 
 
 
126

108

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 خريطة الوجود الإنساني المستحق فعلاً للعيش والبقاء فهم يبعثون اليقظة في الغفلة، ويفجرون الثورة في أعمق الأعماق: إنهم فعلاً أهل العطاء..

 
والسؤال: كيف نقرأ فيهم احتياجاتنا، وكيف نتوسم فهم طموحاتنا، وهم على ما هم عليه من الزهد والابتعاد عن كلّ ما يمت إلى هذه الدنيا بصلة، لإلى هذا العالم الدنيوي الذي يلتصق واحدنا به وكأنه باق أبد الدهر.
 
الجواب إن ما أذهب إليه في عرض هذه التجربة، هو أننا لا يجوز أن ننتظر ممن لم يُحسنوا تربية أنفسهم ودعوتها للعطاء والبذل وترويضها لجميل العمل وسمو التواصل مع الآخرين، لا يجوز أن ننتظر من هؤلاء الذين لم يُحسنوا لأنفسهم أن يُحسنوا لغيرهم ، لأن " فاقد الشيء لا يعطيهًً.
 
إنه لمن البديهي القول إن أخطر الناس وأشيدهم ضرراً للأمة أولئك الذين ساءت تصرفاتهم وأفعالهم، لدرجة أنهم فقدوا الإحساس والشعور بالآخرين واضعين نُصب أعينهم ذواتهم وأنفسهم الضالة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً،إنهم فقراء الأخلاق، فقراء حقاً ويستحقون منا الشفقة والدعاء لهم لأنهم، وكما جاء في القرآن الكريم: ﴿....الأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾1. وهذا لا يعني حتماً أننا نعطيهم الحق فيما يذهبون إليه أو نبرر أفعالهم، أبداً إنما هو محاولة إرجاعهم إلى جادة الصواب، والمحاولة يجب أن تتبعها محاولات، كنقطة ماء تستمر تساقطاً على

 
 

1- سورة الكهف، آية : 103.
 
 
 
 
 
 
 
 
127

109

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

  صخرة ، وهو الدور المنوط بنا لإنقاذ هذا الجزء المريض من جسمنا،لأن المنطق يحتم علينا ذلك فنحن وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

 
إن تجربة السادة الشهداء لا ندرسها وإن بشكل مختصر من أجل عرض بطولات أو سرد أحداث حصلت في لبنان، ولا من أجل المعرفة التاريخيّة لحقبة زمنّية من تاريخ هذا الوطن، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال. ذلك النوع من الدراسة سطحي وينم عن جهل بأصل مبدأ الإتباع والاهتداء والاقتداء، وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء فهم لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم، والاطلاع على جملة الدروس التي يمكن استخراجها واستنباط الفوائد والعظات منها واستخلاص العبر من درسها، كي نفهم كيف نتصرف أمام العقبات والصعوبات، وكيف نتخذ المواقف الصحيحة أمام الشدائد والفتن. وهنا لا بدّأن أذكر أن الكثير من سير عظماء التاريخ أصبحت أضحوكة على مر السنين، فأين النمرود الذي قال لإبراهيم النبي عليه السلام ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾1.
 
وأين جبروت فرعون وشأنه العظيم والذي قال:﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾2
 
وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾3. 
 
 
 

1- سورة البقرة، آية :258.
2- سورة النازعات، آية :24.
3- سورة القصص، آية :28
 
 
 
 
 
 
 
128

110

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير قبل الكبير، والجاهل قبل العالم ، فإذا كانوا قد داسوا على أقوامهم في زمنهم، واستخفوا بهم فأطاعوهم كرهاً وقهراً، فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل سخريّة واستهزاء على مدار الزمن.

 
إنّ دراسة تجربة المقاومة من الأهمّية بحيث أنها تجسّد صورة عمليّة تطبيقيّة فعليّة، وسير هؤلاء الأبطال سواء من بقي منهم على قيد الحياة، أو من تمرّغ في العذابات والقهر داخل سجون الطغاة من أسرى، أو من رحل بالجسد حيث العلى شهيداً، تاركاً أُسر وعائلات تُعطي أفضل الصور عن معنى وجوهر الحياة، هذه السير لا بد أن يستقي منها العطشى أساليب العيش لكل مراحل الحياة....
ويستقي منها الدعاة وكل منظمي حقوق الإنسان...
ويستقي منها المربون طرق التربية ووسائلها...
ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها...
ويستقي منها الزهاد معنى الزهد ومقاصده...
ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها...
 
ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات،  وتقوى عزائمهم على السير على نهجهم والثقة التامة بالتسديد والنصر من الله تعالى لأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾1 إنّ
 
 
 

1- سورة محمد، آية:7.

 
 
 
 
 
 
129

111

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 القدوة في التربيّة على الشهادة، تؤدي إلى فعاليّة التأثير والبنيّ لنهج الشهادة.1

 
وهكذا انطلقت مسيرة المقاومة، لينطلق الركب، وعلى رأسه قيادة حكيمة تجمع في شخصها بين اثنتين:إرادة قويّة لا تصدّ ولا تردّ لأنها انعكاس اليقين، ولأنها مستمدة من القوة الإلهيّة العليا التي بها تؤمن، وثانيها منهج متكامل حدّد الهدف وسمع تماماً لصوت العقل الراجح والراشد.
 
وهنا لا بد من فتح المزدوجين لأقول: هذا العقل الذي قرّر المصير، ووفر الإدراك الحقيقي للمعطيات الفعليّة تقرير المصير، وأمّن لنا الحكمة السياسيّة بل الحكمة الإنسانيّة ببساطة، وتبين في نفس الوقت كلّ التعقيدات والشوائب، ولذلك لا بدّ من أن نعي الصلة الحركيّة العضويّة بين الفكر والحياة وبين المفهوم والسلوك.
 
إن عقلاً كهذا شُرف به الإنسان عن سائر المخلوقات، يجب أن يكون موضوعياً ويعتمد الأسلوب الأخلاقي في غاياته، حتى تكون نتائجه يقينيّة، يربط الأسباب بمسبباتها، ويعتمد الحجج والبراهين والمقدمات ثم الأدلة والبراهين.
 
هذا العقل الذي يُلزم صاحبه بمسؤولية كبيرة تجاه نفسه وتجاه مجتمعه على اعتبار أنه خليفة الله تعالى على الأرض، وفي هذا السياق
 
 
 
 

1- نعيم قاسم،ًً حزب اللهًً، دار الهادي للمطبوعات، بيروت، 2009، ص 61.

 
 
 
 
 
 
130

112

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

  عبّر الإمام المغّيب السيد موسى الصدر بالقول:ًً إن الإنسان خليفة الله في الأرض بالعلم والإرادة فالوصول إلى هذا المقام المنشود، والتصرّف في الكون، والتسخير لقواه لا يمكن إلاّ بمعرفة الأسباب وتعلّم الأسماء ( على حدّ تعبير القرآن)،وكلّ خطوة في سبيل معرفة الحقائق، واكتشاف قوانين الكون، في أي حقل من الحقول، خطوة نحو الهدف المقدس المهيّأ للإنسان، وتحقيق الغاية التي خلق الإنسان لها، وأداء لواجبه الكوني.وقد كلف الله الإنسان السير في هذا الخط في مراحل ثلاث: بالفطرة، بدعوة الأنبياء، بالمصائب والمحن الناتجة عن تقصيره وقصورهًً. 1

 
إذن العلم هو الشرط الأول من شروط المسؤول والقائد، هو العلم الذي ينير ويضيء لا العلم الذي يهدم ويدمّر، فلا بد أن نضع مقاييس ومعايير ضمن دائرة الخير والتي لا تخدم إلا الخير ولا يمكن أن تصدر إلا عن خيريين. وتأتي بالدرجة الثانية الإرادة لأن حياتنا ليست صدفة ولم نخلق عبثاً، بل نحن نعيش مجموعة من الأقدار التي ترسم الكثير منها بأيدينا، وعليه فكل إنسان لديه إرادة مع أن هناك الكثير ممن يتحدثون في العلن أنهم لا يملكون إرادة وكأنهم يفتخرون بذلك، مع أنهم لو فكروا قليلاً لوجدوا أنهم بحديثهم هذا يقتلون العملاق الذي في داخلهم،يدمرونه، ويقتلون بالتالي الأمل.
 
 
 

1- من محاضرة للإمام السيد موسى الصدر:ًً الإسلام والثقافة في القرن العشرينًً- الندوة اللبنانية- 24 أيار 1969.
 
 
 
 
 
 
 
 
131

113

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 الأمل بيت القصيد،هذا المناخ الإيجابي الذي تركت آثاره الأعمال البشريّة على كلّ ما يحيط بها من مكونات وجودّية، هذا الأمل، هذا المناخ مطالبة به القيادة والتي نعود إليها بعد المزدوجين لنبّين عظمة القيادة والتي اتخذناها قدوة كأنموذج بشري كان حياً في وقت من الأوقات، وعاش مرحلة عصيبة من الزمن، قصدت شخص الأمين العام السابق سماحة السيد عباس الموسوي ( رضوان الله تعالى عليه)، هذه الشخصيّة العالمة المسرعة في خطواتها وليست متسرعة في استيعابها للمرحلة بكل مناخاتها وشروطها، رغم أن مناخاتها كانت أشكال وألوان، وشروطها كانت قاسية وصعبة،إضافة إلى أمراض مركبة ومتداخلة فحسبها التآكل الأخلاقي والإنساني في الممارسات التي كان يسود الأوساط، هذا فضلاً عن التشنجات الطائفيّة والصراعات الحزبيّة اللاموضوعيّة، ولعبة الثقافة المشبوهة والتي تمثل حرباً على الأصالة، ناهيك عن الهيمنات الخارجيّة، أو الحروب التي أرادها البعض على أرضنا ولأرضنا، لنعيش في وطن الغربة أو في غربة الوطن. كما أنه لم يغب عن بال هذه القيادة الحكيمة عند انطلاقة مسيرة المقاومة أن مثل هذه الخطوة ستعترضها مصاعب وعقبات ومطبات لا يمكن حصرها الآن في بعض من الصفحات، كما أنه لم يثن هذه القيادة فشل عمليّة هنا أو إخفاق في رد عدوان هناك، أو ما يصوّب إليها من سهام إلا أن تقف كوقفة ملهمها ومرشدها وباعث النور فيها الإمام الحسينعليه السلام عندما وقف وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين

 

 

 

132


114

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 يتلقى بجسده الطاهر السهام والحراب، وهو يتضرع إلى الله تعالى ويتوسل إليه القبول بكلمة: "أو رضيت يا رب"1

 
هذه حكمة القيادة وهذا دليل صبرها وتحملها، والحكمة تقتضي تحمل ما اتخذته من قرار مناسب في وقت مناسب، وحكمة اعتماد الموقف المناسب أيضاً في الزمن المناسب، وهي قضية أساس نثيرها من وراء انطلاقة المقاومة، ولا نثيرها إثارة كلاميّة بل إثارة وجوديّة، وهي دعوة مفتوحة للتحوّل من صناعة الكلمات الرنانة والكبيرة إلى صناعة الأشياء، وصناعة الوجود بإقامة الحدود العادلة والقويّة.
 
هذا وقد كان مسيطراً في تلك الحقبة من التاريخ حالة من الإحباط والشعور بالعجز إزاء الأخطار المهددة والخوف من مواجهتها مواجهة قديمة سببها الإخفاق الكبير وتتالي النكسات والنكبات التي أصابت وفي المقتل الأمة العربيّة لتتركها أسيرة الهزيمة وتأطرها بإطارها.
 
هذا وقد نفضت هذه القيادة الواعيّة والثابتة رغم كلّ المحاولات والتغييّرات والمخاطر، نفضت عنها غبار الماضي السحيق لترى وتحيا حركة الصيرورة المتدفّقة عبر الماضي والحاضر والمستقبل، لا أن تتخبط وراء وجهات نظر متخفيّة أو ضائعة، بل كانت تسابق إلى رؤية الحقيقة وتلتزم صناعة جديدة خالية من التوهّمات والترسّبات،والتي هي وليدة دخان الماضي أكثر مما هي من نار الحق.
 
 

1- علي أحمد العاملي، العزاء في رثاء سيد الشهداء، دار السيرة، بيروت، ط 1، 1998م، ص 256.

 
 
 
 
 
 
133

115

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 لقد كان على هذه القيادة أن تدفع عنها وعن مجموعها المقاوم هذه الغشاوة لتستمر في عملياّتها الاستكشافيّة للواقع الحقيقي ضمن إطار العمليّة الكاملة والمتكاملة حيث فرضت في أولوياتها مستلزمات عدة منها: منهجيّة المسار، وقيميّة الفعل، وقيادّية المرحلة، وبنيويّة القاعدة، وتربويّة الخط، وإعلاميّة الدفاع، لتقارب هذه الأمور مقاربة واحدة ولو بدت للوهلة الأولى متباعدة فإنها في حقيقتها متكاملة ومتلازمة.

 
لقد كانت هذه القيادة المخلصة للخط والنهج، والتي قدّمت خبرتها وتجربتها كأنموذج يُحتذى به، كيف لا، والسيد الأمين يدعو ربه بأن يُمزق جسده إرباّ إرباً، وكان له ما أراد. هذا السيد الشهيد كان مثال العالم الديني التقي الورع والقيادي المخلص والسياسي اللبق.
 
تدخل إلى شخصه الكريم فلا تجد سبيلاً للخروج ،وذلك في كلمته النابعة من علمه وإيمانه العميق وبشاشة وجهه وضحكته المتوسمة الأمل ونورانيّة قسماته، ثم خطابه الذي تتلمس بين سطوره الفائدة والحكمة والإيمان الصلب والعزم الوثيق، ثم تُختم رحلته المباركة بشهادة قلّ نظيرها،تبين صغر العدو وضعفه وقذارة أساليبه، لينقض بطائراته الحاقدة على موكبه وكأني به تألم لفراق حبيبه وصديقه الشهيد الشيخ راغب حرب في مناسبة استشهاده، والذي ذهب السيد الشهيد جنوباً ليحييها فيتعلق القلب بالقلب، وتصافح الروح تلك الروح التي رفضت أن تصافح العدو ووقفت وقفتها الأبيّة عند شيخ الكلام حيث قال: " الموقف سلاح والمصافحة اعترافًً1
 
 
 

1- من خطبة للشيخ الشهيد راغب حرب تتحدث عن الوضع اللبناني، لا تاريخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
134

116

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 نعم في مناسبة الاستشهاد ، استشهد السيد الأمين ليترك لنا تجربة زاخرة في مشروع مقاومته التي لم تتوقف بها الطريق وإن كثرت الأشواك والعقبات وزادت، فالمسافة الزمنّية الواعيّة والمتحرّكة الفاعلة والمتفاعلة كفيلة بالإقناع والاقتناع وكفيلة بالتعليم والتعلّم.

 
أما الحديث عن نشاطات هذا السيد الشهيد وموضوعات بحثه، فالعقيدة كانت عنده قطب الرّحى ، وقد تمثلت حضوراً شاخصاً بين الناس انتهت إلى حركة نوعيّة ومستجدة في أرضنا، حاول كفكفة الجراح وبلسمة الآلام وهو القائل: " سنخدمكم بأشفار العيونًً1
 
لقد كان منبره المعلم الذي يزرع في كلّ قرية صوتاً رافضاً "إسرائيل الشر المطلقًً 2،وان التعامل معها حرام، وقد اعتمد في محاضراته وندواته منهجيّة علميّة انسحبت زيارات يتفقد فيها كلّ مظلوم ومقهور ومعذب، وكلّ محروم، ولم تك في حساباته منطقة محددة أو قرية معينة، بل كان لبنان كله في لائحة مشروعة المتجوّل.
 
لقد استوعب مرحلة يصعب هضمها ، ويصعب التعامل معها بكل عقدها وغموضها وحساسياتها. لقد أدرك الداء وراح يشرح خطورة المرض وخطر استفحاله في جسد الأمة، وميزته لسانه الذي كان في قلبه ووعيه وكما يقالًً السهل الممتنعًً.
 
 
 

1- العبارة المشهورة لسيد شهداء المقاومة، أمير الذاكرة_ الوحدة الإعلامية المركزيّة- حزب الله.
2- م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
135

117

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 إنه النموذج في موضوعيته وتناميه، وحتى في استشهاده، حيث تحضر واقعة الطف بكربلاء من خلال مشاركة عائلته الكريمة الحاجة أم ياسر وابنه حسين، فهو كجده الحسين الذي شاركته عائلته والأطفال المصاب الجلل. لقد آمن بالدين قولاً وعملاً، وأخلص للنهج رؤية وممارسة لتتحول لحظة وداعه انتفاضة وثورة جعلت العدو ولو للحظة يندم على ما أقدم عليه، لأن الدماء الزكّية لا زالت متصلة بعضها ببعض من كربلاء الحسين حتى مجزرة الاستشهاد، لتعيد للأمة نبضها الحي حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً.


أفلا يستحق مثل هذا العظيم أن يُتبع ويُدرس في تفاصيل حياته الصغيرة بدءاً من ولادته المباركة وحتى يوم استشهاده؟ أليس حري بنا أن نجعله قدوة فنقتدي بهدية ونسير على دربه ونلتزم خطاه؟هذا على مستوى النموذج البشري الذي قدمته المقاومة في القيادة السياسيّة، أما على المستوى العسكري فالحديث يطول ولكن لا نستطيع الخوض في تفاصيل غير مسموح لنا الخوض فيها ، ولا نعرف دقائقها لأنها ملك فقط لأصحابها وهذا سر من أسرار النجاح.

إننا نقف عند قمة من قمم الشموخ، عند رجل جاء من أقصى المدينة يسعى، عند شاب فتح عينيه على قلب فلسطين وحب الوطن، عند هذا النموذج الفريد في عطائه وكفاحه،عنده وعنده فقط يحار الكلام ويعجز القلم وتختلط العبارات وتأخذها الدموع دونما قصد حيث كربلاء فتغُسل الذنوب وتُصفى القلوب وتخف المعاناة.
 
 
 
 
 
 
 
 
136

118

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 عرفناه عندما ودع الحياة، عرفناه بعد طول انتظار، عرفناه بعدما طاف بين الهضاب، يتسلل من دشمة هنا ليصل موقعاً هناك، يعرفه الظلام بدراً ينير كلّ دروب المجاهدين والأبطال، فهو قد خرج للتو من غربة الدنيا وعاش مناهج الأحرار ، صفع الغرور صفعة المختار وفاز بكبرياء الأحرار، هجر الاستقرار والأمن لينعم بالقلق الهادئ مطارداً حفنة من الأشرار.


آمن بالحريّة مذهباً ولم يخف في الله لومة لائم، سُجل أسمه في لائحة الإرهاب، وطُورد طويلاً حيث حيّر بتخفيّه كلّ أجهزة المخابرات والموساد، كلّ الظلام، مشى الطرقات بغير لون، بغير جواز سفر، لم تقيده بطاقة هويّة ولم تسقطه مسافة كونّية، راكب هو موج البحار، لم يقبل عن الوطن بديلاً ورفض الانتحار، ظلّ في عمقه مأسوراً مقيماً بعشق الأرض وبصدق الانتماء، يخلع عن وطنه تخوم الجغرافيا ليصبح تاريخاً لا تحدّه تضاريس مكان، فهو نبض لقلب حي، يعرف أوتار الحريّة بأجمل الأنغام.

إنه وباختصار شديد: الحاج عماد مغنيّة، هذا الرجل المحب للحياة، وخاصة الحياة الأسريّة، وإن أُبعد عنها قسراً، لكنه عاشها أملاً يتساقط على جنبات روحه، ليعيدها وعداً عصيّاً على الموت، حيث جسّد من خلاله طقساً من طقوس المعاناة في فيض من الآلام والمرارات حتى كأنني بسرمديّة حب البقاء ولم ولن تبددها أو تلفيها المسافات وكثرة الجراحات.

إنها القناعة العصيّة على الاضمحلال والعناء، مدعومة بحشد من العقائد والممارسات، والتي تتدثّر بدثار المنطق، لإثبات رسوخ هذا المبدأ
 
 
 
 
 
 
 
137

119

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 وهذا الحلم المتأجج الذي لا يستطيع المرء منه فكاكاً، ويرى جمره برداً وسلاماً لأن فيه عزوف نحو رب السماء أمناً والتجاءاً.

 
إنه عالم لا يدخله إلا الأصحاء، الأتقياء، إلا النجباء، ولا يمشيه إلا نخبة من العرفاء الأوفياء، فهو بجملته فضاء رحب واسع من الانعتاق تارة، وقيداً آسراً طوراً تحكمه المحبة والإخلاص والصدق والوفاء.
 
هذا هو عالم هذا الرجل الذي كان يتحكم بمسار اللعبة العسكريّة وكان وسط الميدان، يعمل على نقاط ضعف العدو ليزيد منها رصيد قوة المقاومة ويقرأ نقاط القوة عند أعدائه بكلّ جرأة وشجاعة فيحصن درع المقاومة ويشغل فكره وفكر إخوانه ليل نهار لمواجهتها والتصدي لها، ما أدى إلى هذا النصر الذي كسر شوكة الصهاينة الأعداء ورفع راية الدين عالية في مسيرة جهاديّة طويلة اختصرت شهادته عبارة واحدة قالها سيد الكلام:ًً بشارة النصر القادمًً 1.
 
هذه القيادة العسكريّة النموذجيّة دفعت العدو لتبديل كلّ استراتيجياته وخططه وخرائطه وكلّ منظومته العدائيّة تلك، ليستفيد هو من المقاومة، فتعطيه دون إرادة منها دروساً قد يفهم قسماً منها وبالتالي هو يعجز.
 
هذه القيادة النموذجيّة العسكريّة دفعت العدو لتبديل كلّ استراتيجياته وخططه وخرائطه، وتغييرها، وليس هذا فحسب، بل عمل جاهداً على الخوض في التفاصيل للاستفادة من الأخطاء ومن ثمة يسعى للتدقيق
 
 
 

1- من كلمة لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله في مناسبة استشهاد الحاج عماد مغنيه.
 
 
 
 
 
 
 
138

120

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 في كلّ تحركاته، وهكذا تنقلب المعادلة ويختلف الأمر بحيث تصبح القوة القاهرة قوة مقهورة بإذن الله تعالى وبسالة جنده وأكثر من ذلك، تصبح تخاف وتخشى الهجوم وتحذر التهديد، بعد أن كانت تهجم في الوقت الذي تريده وتحدده دونما وازع أو مانع، ويصبح الخوف ملازماً لقياداتها وجندها أينما اتجهوا وحلوا، هذا فضلا عن رأي المستوطنين تلك المبعثرات التي جمعها الحقد في بقعة من الأرض مستباحة سمّوها أرضهم وموطنهم، لكن عبثاً فعلوا فالأرض لله تعالى ولمن استخلفه بالحق وستعود إليهم إن عاجلاً أو آجلاً بإذنه تعالى.


لقد تحولت شهادة الحاج عماد مغنيّة( الحاج رضوان) إلى شبح يطارد هؤلاء القتلة المجرمين في كلّ مكان وزمان، لتنغص عليهم عيشهم وأمنهم الذي يزعمون، فهم على موعد معه، ينتظرون قيامته في كلّ لحظة، فهو الآن يخيفهم أكثر من قبل، وهذه نقطة قوته التي ما استطاع العدو قتلها رغم قتله.

أليست هذه القيادة النموذجيّة مدرسة يجب على الأجيال القادمة التأسي بخطواتها وبمناهجها وتعاليمها؟

وأخيراً وليس آخراً، ننتقل حيث العطاء نهراً لا ينضب، والكرم يد مفتوحة وباب مشرع وبيوت طعامها ليس لها، وقوتها ينتظر سائلاً أو ماراً وهي تقدّمه بكل حب وحياء ثم تحزن لصغر ما تُقدم وضعف الحيلة، وهذا إن دل ّ على شيء فهو يدل على أهميّة المدرسة التي تخّرج منها هؤلاء، والتعاليم التي شربوها مع الماء طهراً وطهارة، ثم الممارسة العمليّة التي
 
 
 
 
 
 
 
139

121

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 سوف يعجز علماء الأخلاق والقيم عن بحثها ومن ثمة جمعها لكثرتها وأهميتها.

 
نحن هنا لا نقول شعراً، ولا نكتب إنشاء نتغنى فيه بمجد أو شعار أو غير ذلك، نحن هنا أمام أمة فهمت ذاك الداء الذي جاهد من أجله العلماء والقادة والشهداء الذين كانوا من قلب هذه الأمة وعصارة نخبتها، وبحمد الله تعالى تركوا آثاراً لن يستطيع حقد طيران العدو ودباباته أو قذائفه محو معالمها أبد الدهر.
 
هؤلاء هم شعب المقاومة وجمهور المقاومة الذين فتحوا قلوبهم وعقولهم قبل أن يفتحوا بيوتهم للمجاهدين والأبطال، والذين منهم خرج عديد المقاومين الشرفاء ليتشرفوا بالشهادة. من هنا خرج المقاوم الشهيد، هذا الأصل والأساس الذي يمثل القاعدة والتي عليها سيقوم البناء السليم لأن القاعدة سليمة معافاة وهذا فضل من الله تعالى وبركة.
 
فالماء لا يحفظه إلا الوعاء، فكيف إذا كان الوعاء نظيفاً طاهراً، لذا كان العمل في المقاومة يسعى إلى تنظيم الجماعة والعمل على كلً عضو من أعضائها والتي تشكل بمجموعها مقاومة، والتي بدورها تحفظ وتساعد وتساند الجبهة العسكريّة وتقف وراء القيادة السياسية الشرعيّة وبذا تكون قد حافظت وحفظت الوصيّة كما أوصاها السيد الشهيدًً الوصية الأساس حفظ المقاومةًً 1.
 
 

1- أمير الذاكرة- إعداد الوحدة الإعلامية المركزية- حزب الله.

 
 
 
 
 
140

122

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 كان العمل على دعم هذه المقاومة من خلال تطوير المكونات والعناصر الأساسيّة فيها، فالأب الفاعل والمتفاعل مع أسرته، كما الأم المربية والزوجة الصالحة والمرأة المجاهدة تقف وراء عظمة وقوة هذه الأسرة، وبالتالي وراء قوة وعظمة المجتمع، والتي تربي بدورها الجيل الصاعد مستقبل الأمة، ثم المعلم الذي يكّون تلامذته بتدريسهم نهج الإباء ومناهج العزة والكبرياء ويدربهم على أهمية الولاء، والغلام الذي يحرث أرضه ويحرص على أن لا يحرث أراضي الآخرين، وأن يعمل لنمو هذه الأرض وعدم التفريط ولو بحبه تراب واحدة، والعامل الذي يتحرّك في مصنعه كأفضل ما يكون ويسخّر كل طاقته لتقدم هذه المصنع وتطوره.


أما الباحث الذي يُعمل العقل والفكر في استنباط النظرّيات القابلة للاختبارات والتجارب العمليّة، وأخيراً الفدائي الذي استرجع في عقله الوطن والحريّة والإباء، واستبق النظريّة بالفعل، وأسرع للتطبيق وأسرعت النتيجة وكان النجاح حليفه، لأنه من مجموع ما تقدّم شكّل فكرة الاستشهاد وقدّم نفسه طوعاً واختباراً ليحفظ هذا الوجود بأجمعه من كلّ الأعداء.

لقد صنع بموته المادي وجوداً وحياة غير قابلة لذلة هنا أو ضعف هناك، فأعطى من دمه فكراً أحمراً يرفض الانصياع ويرسم سلوكاً غير قابل للتلون أو الانحراف أو التبدل.

لقد برهن بأنه يثق بقابليّة جمهوره لكلّ تقدّم ينشده للحاق والتحضّر لكلّ التحديات، هذه التحديات التي تفرض خروجاً من الذات، من حدود قناعات هشة، وتفرض إزالة تامة لكلّ الفسادات والترسّبات حتى يعانق
 
 
 
 
 
 
141

123

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

  الكلّ الحياة، وحتى يتمكن الكلّ من تقبّل التغيرات شريطة أن يلازم هذا العناق وهذا التقبل الوعي والتبصر والتطور المدروس والمنظم.


لقد أمّن هذا العقل المقاوم للاستشهاديين والشهداء من أبناء المقاومة الغرّاء الحلّ الأفضل للأمة، وساعدها على توفير مقوّمات الغد الذي لا يشوبه القلق والأرق والتقوقع في دائرة عزلة الماضي وانطوائية الحاضر والرهبة في المستقبل.

لقد حمل هذا الفعل المقاوم للشهداء الطابع الإنساني وخدم قيم الإنسانيّة، وحمل في طيّاته الأمن والطمأنينة التي لم تقف يوماً لتعرقل مسيرة الإنسان.

لقد حمل لواء الحريّة ودق أبوابها بيدًً مضرّجة بالدماءًً، وترك الباب مفتوحاً لكلّ إبداع يعلو فوق العُقم ليخلق بالاختبار والابتكار والتجريب ويعطي ثماره المرجوّة ضمن مخطط مرسوم لإستراتيجية دفاع يقود زمامها سيد هُمام علم بأنه الحق من ربك، فلم يكترث إن وقع الموت عليه أو هو وقع على الموت.

وهنا لا بدّ أن ننهي باستحضار الخطاب الذي قطع أنفاس العالم للحظة، وكأن على رؤوس الأشهاد الطير، فنطق بكلام حوّلته الساحات إلى تراتيل صلاة. كيف لا ونصر الله هو القائد ينبري رغم القصف والقتل ورائحة الموت للتعبد في محراب العشق والمودة حيث يلثم جباهاً علت فوق قمم الجبال، ويقبل أيادٍ تضغط على الزناد، ثم ينحني 
 
 
 
 
 
 
142

124

المقال السادس: القدوة ضرورة ونجاة

 وهو حفيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقبل تلكم الأقدام الراسخة، الثابتة، وبهذا يختم إشارة منه لموضع الصلاة، وهو بذلك يُعلن مشروع التوراة، ويقدّم إنجيل الخلاص، وقرآن النجاة، وهو يصيب بلا شك ولا ريب الهدف لأن الأصل هم والأساس.


ألا يستحق بربكم هؤلاء الشهداء، منارة الدنيا وهم الأحياء أن نقتدي بنورهم ونسير بهديهم فلا نضل الطريق؟.
 
 
 
 
 
 
 
143

125
القدوة الاهمية وتحولات الدور