الربيّون عطاء حتى الشهادة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-11

النسخة: 2014


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

11

المقدمة

13

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

15

المحور الأول: قيمة التعبئة ومميّزاتها

15

تعريف التعبئة

16

المميّزات الأساسية للتعبئة الجهادية

16

الميّزة الأولى: التعبئة، ديناميكية دائمة

17

الميّزة الثانية: التعبئة حركة شاملة

17

الميّزة الثالثة: التعبئة حركة ذات هدف

17

الميّزة الرابعة: التضحية والإيثار

18

ما هي الغاية من معرفة هذه المميّزات؟

21

المحور الثاني: التعبئةُ ورجال الله

21

صفات أبناء التعبئة

22

الاستقامة والصمود

24

التعطّش للمغفرة الإلهية

25

طلب النصر والثبات

26

الحب المتبادل

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

28

التواضع للمؤمنين والشدة على الكافرين

29

الاتكال على القدرة الإلهية

30

1- ما هو شرط استدامة النصر والعناية الإلهية؟

31

2- نموذج قرآني لتضييع النعم

34

التمسّك بالولاية واتباعها

37

المحور الثالث: التعبئة على ضوء نهج البلاغة

39

عشق الجهاد والشهادة

42

الأنس بالقرآن الكريم

43

الصّيام

44

قيام الأسحار والأنس بالدعاء والمناجاة

49

إحياء الشعائر الإلهية والابتعاد عن البدع

50

تشخيص التكليف الصحيح

52

القيادة والالتزام

56

تذكّر الشهداء وإحياء ذكراهم

59

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

61

المحور الأول: الأساليب التربوية العامة

61

مدخل

62

أسلوب التبشير والإنذار

63

1- البشارة بالنعم الأخروية

69

2- البشارة بالنعم الدنيوية

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

71

الإنذار من عذاب الله

76

أسلوب المدح والثناء

78

أسلوب التوبيخ واللوم

81

المحور الثاني: الأساليب التربوية الخاصة

81

تحريك حس إحقاق الحق والدفاع عن النفس

85

دفع الظلم عن المستضعفين

87

بيان أهداف الجهاد المقدّسة

88

المجاهدون وسيلة لتحقّق الأهداف الإلهية

91

المحور الثالث: مُثبطات الجهاد وطرق معالجتها

91

مدخل

92

الوعد بالتعويض عن الخسائر

94

الارتكاز إلى مبدأ القضاء والقدر

97

البلاء يشمل الكافر أيضاً ويفيد المؤمن

100

توضيح حقيقة الموت والشهادة

100

محدودية العمر وحتمية الموت

104

الموت انتقال إلى حياة أهنأ

106

مصير الشهيد

111

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

113

المحور الأوّل: المدد الإلهي وأنواعه

113

مدخل

114

الإمداد الباطني

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

115

الإمداد الظاهري

116

الشواهد القرآنية على الإمداد الباطني

118

1- قذف الرعب في قلوب الكفار والأعداء

118

2- إنزال السكينة والطمأنينة على قلوب المؤمنين

118

أ- آيات مختصة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم

118

ب- آيات تشمل الرسول والمؤمنين

119

ج- آيات تختص بالمؤمنين

119

3- المدد الغيبي وارتباطه بالنفس

120

الشواهد القرآنية على الإمداد الظاهري

120

1- الإمدادات الطبيعية

120

أ- الرياح الشديدة

122

2- إمدادات غير طبيعية

125

السرُّ الحقيقي في امداد الغيب

127

هل النصر حليف المؤمنين دائماً؟

137

المحور الثاني: شروط المدد الإلهي

137

مدخل

137

تهيئة العديد الكافي

142

الجهاد المالي

145

تهيئة المعدّات الحربية والوسائل العسكرية

146

طاعة القيادة

148

الاستفادة من العلوم العسكرية والفنون الحربية

149

معرفة العدو والحذر منه

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

150

تحصيل المعارف السليمة والعقائد الصحيحة

152

التحلّي بالتقوى

152

التحلّي بالصبر والثبات

153

التوكّل على الله والثقة المطلقة به عز وجل

155

الدعاء والاستغاثة بالله

156

ذ كر الله تعالى

156

الخلاصة

159

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

161

مدخل

161

أبعاد الجهاد في المفاهيم القرآنية

169

أهل البيت عليهم السلام المصداق الكامل لحزب الله

170

شروط صيرورة الفرد حزب اللّهيّاً

173

خاتمة

 

 

 

 

 

 

9


5

المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد.

الجهاد في سبيل الله تعالى والدفاع عن دينه الأغرّ، مسؤولية تجتمع فيها عناصر إيمانية عدّة، بدءاً من الفكر الرسالي الصحيح، والوعي السياسي، والإيمان الحقيقي بالله، والتّقوى التي تضفي على العمل صبغة الخلوص لله.

فالجهاد حركة ثورية رسالية لأنّها ترفع علم الحق، وتنشر النور على وهج النار. والمجاهد بالتالي هو مشروعُ مصلحٍ ثوري لا مجرّد مقاتل يحمل السلاح!.

من هذه الرؤية، كانت فكرة هذا الكتاب في جمع عدد من الأفكار المتسلسلة من ثلاثة كتب لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه المولى)، نعرض فيها لعدد من الدوافع والعقائد الإيمانية والأساليب التربوية المؤثّرة في بناء الشخصية الجهادية للإنسان المؤمن. وقد تفضل بترجمتها مشكوراً سماحة الشيخ عباس
 
 
 
 
 
 
 
11

6

المقدمة

 غزال بالتنسيق مع مؤسسة الإمام الخميني قدس سره في قم المقدسة.


فالكتاب إذاً، يتوزّع على محاور متعدّدة يبحث كل واحد منها في جانب خاص من جوانب بناء شخصيّة الإنسان المجاهد في سبيل الله، ويتوخّى في ذلك السير على ضوء هدى القرآن الكريم وكلام الأئمة الأطهار عليهم السلام، وبالخصوص، ما ورد في نهج البلاغة، والذي يمسُّ مسائل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله. ولا يخفى على اللبيب أثر كلام الله سبحانه وتعالى وأمير المؤمنين علي عليه السلام في بعث الروح المعنوية الفوّارة في نفوس المجاهدين.

والله من وراء القصد..

مركز نون للتأليف والترجمة

 
 
 
 
 
 
 
12

7

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 المحور الأول: قيمة التعبئة ومميّزاتها

إنّ حركة التعبئة الجهادية المنتشرة في صفوف المجاهدين وأماكن عيشهم ووجودهم في المجتمع، هي حركة أساسية في رفد مجمل قضية الجهاد في الإسلام، بالعدد الوافي من الرجال المتأهبّين للقتال في سبيل الحق، وبالتالي فهي حركة تهدف إلى بناء الشخصية الملائمة للخط الجهادي.

لذا كان من الضروري أن نقوم بتسليط الضوء على معنى التعبئة الجهادية وصفات الأشخاص الذين تتوجّه إليهم عملية التعبئة والتربية هذه. وهذا ما سنتعرّف عليه بالترتيب في المحاور الآتية:

تعريف التعبئة
مقصودنا هنا تعريف التعبئة بمميزاتها وخصائصها والإضاءة على الجوانب المشرقة في تربية الشباب المجاهد وتأهيلهم للقيام بمسؤولياتهم.
 
 
 
 
 
 
 
15

8

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 فالتعبئة هي حركة اجتماعية شاملة، تجمع المجاهدين الملتزمين الساعين نحو هدف سام ورفيع، والذين ينطلقون من بين أناسهم وأهلهم ومجتمعهم بكل صدق وإخلاص وحماس ليشكلوا حركة واعية تهدف إلى الوقوف بوجه الطاغوت وأتباعه، ونصرة الحق وأهله.


المميّزات الأساسية للتعبئة الجهادية
التعبئة الجهادية لها مميّزات أساسية، تُشكّل محور الفكر التعبوي الجهادي الراقي والجميل، وتوضح لنا بالتالي دور هذه الحركة في التحوّلات والتغيرات الثقافية والسياسية في المجتمع.

الميّزة الأولى: التعبئة، ديناميكية دائمة
لا ينسجم الفكر التعبوي مع السكون والركود، لذلك فالتعبئة هي حركة ونشاط دؤوب، لأنّ القضية سامية والهدف كبير وخطير، خاصة في ظل التقاعس واللامبالاة من قبل الكثيرين في المجتمع، وعليه كان تشكيل التعبئة منذ البداية مندرجاً تحت شعار مقاومة الظلم والاستكبار والتصدّي لذلك بكل شجاعة ووعي وصدق.

ومن مميّزات التعبئة أيضاً أنّها حركة هادرة لا توقّف فيها، تنسجم مع الواقع وتتأقلم مع المخاطر والمسؤوليات وتأخذ دورها المفترض حسب تغيّرات الزمان والمكان، ويجب أن يصل هدير حركتها وصدى فعاليتها دائماً إلى كل من هو حولها.
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الميّزة الثانية: التعبئة حركة شاملة

ليست الحركة الظاهرية لمجموعة ما من الناس دليلاً على وجود فكرٍ ووعي أصيل خلفها، بخلاف حركة التعبئة التي تهدف إلى بناء شخصية مجاهدة. فالتعبئة حركة شاملة وسريعة في المجتمع تسعى لاستيعاب أكبر قدر من الناس لضمهم تحت لواء التعبئة الجهادية ضد أعداء الله.

وهي حركة تهدف إلى أن تضمّ تحت لوائها كلّ ما يسير بالأمة نحو كمالها وسعادتها، خاصّة وأنها تحمل راية الحق.

الميّزة الثالثة: التعبئة حركة ذات هدف
هذه الميزة تساهم بشكل أكبر في توضيح مفهوم التعبئة الجهادية: فالتعبئة حركة واعية، عارفة، وليست مجرّد تحرّك عبثي وعشوائي.

وتتميّز بشكل أساسي عن كلّ التشكيلات والتحرّكات الأخرى بأنّها تتحرّك نحو هدف معلوم، محدّد مسبقاً.

هي إذاً، حركةٌ هادرةٌ لها هدفها ولها مُحرّكها ولها دوافعها، فلذلك هي تسير بانتظام ودقّة وببصيرة ووضوح، وبثبات ويقين ببركة وجود الهدف الواضح والسليم.

الميّزة الرابعة: التضحية والإيثار
تسعى حركة التعبئة الجهادية إلى بناء روحية التضحية في الإنسان
 
 
 
 
 
 
 
17

10

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 المؤمن. فالمجاهد هو شخص يُضحّي بالمال، بالروح، بكلّ ما يتعلّق أو يُحبّ، ويُقدِّمه رخيصاً في سبيل تحقيق ذلك الهدف المنشود، فأمام سمو الهدف كل شيء يصغر في عين التعبوي المجاهد، ولا تُعدّ له أية قيمة، ولا تحزنه أو تضايقه التضحيات ومواجهة بعض الخسارات، أو فقدان بعض الملذات الدنيوية، لذلك لا معنى عند المجاهد للتوقّف مهما بلغت المصائب وحلّت الابتلاءات وعظمت التضحيات.


في الخلاصة، التعبئةُ هي حركة ثورانٍ داخليٍّ ظهر من حضنِ المجتمعِ الإسلاميّ، لتصبح ظاهرةً عامَّةً لها دورُها وأثرُها وعواملها، وقد شاهدنا بأم العين أثر هذه التعبئة الجهادية في المقاومة وصنع الانتصارات وفي مساعدة النّاس أيضاً للحفاظ على حقوقهم والدّفاع عن كراماتهم.

ما هي الغاية من معرفة هذه المميّزات؟
إنّ معرفة مميّزات التعبئة وخصائص الفكر التعبوي عامل مهم وطريق أساسيٌّ للتعرّف على مدى التأثير والدور الذي يلعبه هذا الفكر التعبوي الجهادي من الناحية التربوية في نهضة المجتمع، وإيقاظه من سباته العميق. كما ويتضح بذلك دوره المستقبلي في تحديد الوظيفة المطلوبة وتشخيص التكليف المُلقى على عاتق المجاهدين في التعبئة.
 
 
 
 
 
 
 
18
 

11

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 فالتعبئة هي حركة اجتماعية هادرة، نرى شبيهاً لها في الطبيعة، ومثلها كمثل الماء، فالماء لو ترك راكداً هامداً، فإنّ الطاقة العظيمة الموجودة فيه لن تظهر ولن تثمر، إلا في حال تمّ تفعيلهاوتحريكها, فهي تصبح عند ذلك قادرة على فتح الأخاديد العقيمة وابداع طاقات عظيمة تنير المدن الكبيرة.


وكما هو معروف باصطلاح الفلسفة: أنّ الماء الراكد فيه طاقة، بالقوة، فإنّ فيه الإمكانية ليصبح طاقة حقيقية بالفعل, فكذلك التعبوي، الذي هو شاب في حالة همود وركود، لكن عندما تفعّل طاقاته وقدراته يصبح محركاً ثورياً للأمّة.

فقوّة التعبئة الجهادية مثل قوة هذا الماء الجاري من الينابيع الهادرة: قوةٌ ذات مسيرٍ متَّصلٍ له صدى صارخ، وغليان فائر، لا تتوقف عن الحركة والنشاط، كما لا يطرأ عليها التحلل ولا يصيبها عفن العوامل الخارجية.

هذه القوة التي كانت ـ ولقرون مضت وبفعل عوامل عديدة ـ مخبّئة ومدفونة في قلب مجتمعنا، كانت بحاجة إلى من يُحرّكها حتى تصبح حرّة وفعالة، وبعناية إلهية كان هذا المُحرّك هو (الثورة المباركة في إيران) التي غيّرت حال التاريخ المعاصر، وأخضعت رقاب القوى الكبرى، وهدمت وزلزلت قصور الاستبداد والاستكبار.

إنَّ الإمام الخميني قدس سره كان يعرف جيداً قيمة التعبئة والتعبوي،
 
 
 
 
 
 
 
19

12

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 والتعبئة أيضاً بدورها كانت تعرف إمامها جيّداً، وهذه الرّابطة هي رابطةُ حبٍّ أبديَّة، فمن الطّبيعي أن ترتبط الجماهير بعلاقة حب أبدية بمن أيقظها من سباتها، وأرجع لها عزّتها.


واليوم ما زالت التعبئة المباركة تكمل دور الإمام الخميني قدس سره في الهداية وإيقاظ النائمين لتمهِّد الأرض إن شاء الله تعالى لدولة الحق والعدل الإلهي.

 
 
 
 
 
 
20
 
 

13

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 المحور الثاني: التعبئةُ ورجال الله


صفات أبناء التعبئة
مع أخذنا بعين الاعتبار الأدوار الخطيرة والتكاليف الصعبة التي تواجهها الأمّة، فإنّ السؤال يحضر عن العناصر الكفيلة بإعداد أفراد على مستوى القضية، أي إعداد رجال الله والتعبويين الذين يحقِّقون إرادة الله تعالى في إزالة الموانع عن طريق الهداية، والذين هم في الحقيقة يقومون بدور الأنبياء والأئمة عليهم السلام. لذلك أليس من الواجب وجود مستوى من الأخلاق والسلوك والعلم والمعرفة يليق بهذا المستوى من الدور؟

إنّ الذي آمن بالإسلام قلباً وقالباً، عقيدةً وأحكاماً، بشكلٍ صادق ويقينيّ سوف يكون جاهزاً وحاضراً ـ وبكامل قوّته ـ لأداء التّكليف في طريق الإسلام الأصيل وهذه هي ميزة التعبوي المجاهد، وأفضل 
 
 
 
 
 
 
 
21

14

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 تعبيرٍ ورد في القرآن الكريم يمكن أن يُرادف لفظ التعبويين هي كلمة ﴿رِبِّيُّونَ﴾، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾1.

 
ومعنى هذه الآية، أنّه في الوقت الذي أمر به الله تعالى الأنبياء بالجهاد، برز رجال لله شديدو الإخلاص، واستجابوا لنداء الجهاد وقاتلوا في ركاب الأنبياء ضد الكفار والمشركين.
 
فما هي صفات هؤلاء الربّانيين المجاهدين في القرآن الكريم؟ لنتعرَّف من خلالها على الصفات المطلوبة في التعبويين ليكونوا في صفوف المجاهدين الربيين في وقت الحاجة.
 
الاستقامة والصمود
لقد أثبت القرآن الكريم لهؤلاء المجاهدين في ركاب الأنبياء ميزة خاصة، وهذه الميزة تصدق بشكل دقيق على التعبوي اليوم، لأنَّه يواجه نفس الظروف والمصاعب، وإن اختلفت المظاهر والأشكال. فالله تعالى يقول في وصف هؤلاء المجاهدين: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾2.
 
ومعنى الآية، أنّه في ميدان الحرب يواجه المجاهدون القتل والجرح والكثير من الصعوبات والظروف القاسية، ويمكن أن تُتحمل





1 سورة آل عمران، الآية 146.
2 سورة آل عمران، الآية 146.
 
 
 
 
 
 
 
 
22

15

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الحوادث المريرة والعذابات والمشقات والمصائب إلى حدود معينة ولمدة قصيرة، فكلُّ إنسان محدود بطاقة تحمُّل وسعة صبر معينة.

 
لكن عندما تطول الحرب: تضعف الإرادات بالتدريج ويصبح تحمّل المشكلات أمراً غير ممكن، ومع طول مدة المعارك يشيع الفقر والخراب والمرض والتشرّد وغياب الآباء عن العائلات، وهذا ما يُنتج ضغوطاً نفسيةً وآثاراً سلبية.
 
ومن جهةٍ أخرى، قد تضعف قدرةُ المجاهدين شيئاً فشيئاً، ويبدأ إحساسهم بفقدان القدرة على إدامة الحرب والصمود مقابل الأعداء، وبالنتيجة إذا استمرّت تلك الحالة من التداعي في أنفسهم فسوف نراهم - لا سمح الله - يخضعون للأعداء ويتهيّأون للاستسلام النهائي.
 
لكنَّ القرآن الكريم يصفُ أولئك المجاهدين في ركاب الأنبياء وضدَّ أعداء الله بأنهم أقوياء، ومدحهم بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾1.
 
فمع طول مدة الحرب وقسوتها والمصائب النازلة والعذابات المختلفة لا ترى أثراً أو علامة للضعف أو الوهن أو الاستسلام عندهم، لذا بشّر القرآن هؤلاء الصابرين والمُتحمّلين للمشكلات والمصائب ووعدهم بأعلى منزلة يمكن تصوّرها، ألا وهي: الحبّ 





1 سورة آل عمران، الآية 146.
 
 
 
 
 
 
 
23

16

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الإلهي لهم. قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾1.

 
هذا الحبّ هو ثواب إلهي أعطي للتعبويين المجاهدين الذين صبروا في الجبهات، ويُعطى لكل من يثبت في طريق الحقّ، وفي الحقيقة لا يمكن تصوّر أيّ ثواب أعلى من الحب الإلهي، لأنَّ الذي يصبح محبوباً لله تعالى سوف يكون مورداً للنِّعَمِ الكُبرى ومحلاً للفيوضات الإلهيَّة.
 
التعطّش للمغفرة الإلهية
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾2.
تريد الآية الشريفة أن تشير إلى مسألة قد يظنّها البعض تناقضاً في شخصية المجاهدين، وهي أنّ لسان حال أتباع وأنصار الأنبياء عليهم السلام في مقابل المصائب والعذابات هو طلب الغفران لذنوبهم ولإسرافهم، لكن لماذا؟
 
لأنّ الذين كانوا في ركاب الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أناساً معصومين، بل كانت لديهم هفوات وزلات، وأخطاء وسكرات، هؤلاء يطلبون من الله تعالى أن يغفر لهم زلاتهم ويُوفقهم ليقدموا كامل وجودهم في طريق نصرة الأهداف الإلهية، وبالمقابل فإنّ الله تعالى





1 سورة آل عمران، الآية 146.
2  سورة آل عمران، الآية 147.
 
 
 
 
 
 
 
24

17

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 يتجاوز - نتيجة صبرهم وتحملهم - عن إفراطهم وتفريطهم وما سلف من ذنوبهم.

 
طلب النصر والثبات
إنّ المجاهدين يواصلون السير في طريق الهداية بالرغم من كل النقائص والهفوات، والأمواج الشديدة والفتن التي تعترض طريقهم. لكن أشد ما يُقلقهم في هذا المسير وبشكل دائم هي (الحيل الشيطانية), إذ أنهم يخافون الوقوع في خُدع الشَّيطان فيلينون للباطل، وتضعف إرادتهم عن نُصرة الحقّ وبالتّالي هم دائماً في خطر الانحراف عن مسير الهداية.
 
وبعد مرحلة طلب المغفرة من الله تعالى, ينتقل المجاهد إلى استنزال النصر من عند الله, عبر الدعاء والتوسّل إليه, يقول الله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾1.
 
فبالتثبيت الإلهي والتسديد الربّاني يستطيع المجاهدون إكمال المسيرة للوصول إلى الهدف المنشود والانتصار على الكفر والكافرين، لأنّه بحسب تربيتهم لا ملجأ لهم إلا إلى الله فهو القوّة العظمى والمطلقة, وهو كهفهم الحصين, وملاذهم الآمن وغياثهم عند الضرورة.





1 سورة آل عمران، الآية 147.
 
 
 
 
 
 
 
25

18

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الحب المتبادل

إذا تتبّعنا الصّفات التي وردت في القرآن لأنصار الأنبياء عليهم السلام ومن زمن بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، فإننا سنجد التعبويين المجاهدين مصداقاً جميلاً لهذه الصفات في زماننا.
 
نعم، لقد كانت في صدر الإسلام ثلَّةٌ أو مجموعة من أفضل الأصحاب والأنصار حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت مُجاهدة، مُضحّية، يملؤها الإخلاص والحبّ وقد حاربت حتى النهاية. أو كأنصار سيد الشهداء الذين حاربوا وثبتوا حتى النهاية واستشهدوا. لكن الآية الشريفة تقول: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ يعني مجاهدون كثر، وبناءً عليه يمكن القول: إنه لا مصداق لهذه الآية في عصرنا أبرز وأوضح من هؤلاء التعبويين، لأنّنا شاهدنا هؤلاء الشهداء بأعداد كثيرة وبمئات الآلاف قد قدّموا أنفسهم وأرواحهم قرابين لله تعالى خلال الحرب الدّامية على إيران أو في لبنان على مرّ سنين الاحتلال والمقاومة.
 
فعلى هذا النحو يوجد آيات عديدة في القرآن، وقد وردتْ في تفسيرها روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام مفادها أنها نزلت في شأن مجموعة من شيعة الإمام علي عليه السلام سوف تظهر في آخر الزمان.
 
ومن جملة الآيات التي يمكن تطبيقها على مصداق ﴿رِبِّيُّونَ﴾ في المجتمع الإسلامي، إضافة إلى أنّ شأن النُّزول يؤيّد هذا المطلب، هي الآية التالية حيث يقول الله تعالى:

 
 
 
 
 
 
 
26

19

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾1.

 
فإنّ لَحْنَ هذه الآية يفيدُ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من حوله كانوا يعانون من وجود أفرادٍ ضعيفي الإيمان ومُزلزلي العقيدة، يغيّرون عقيدتهم ومواقفهم بين لحظة وأخرى.
 
والجدير بالذكر أنَّ عدَّةً من هؤلاء المسلمين كانوا يشاركون في صلاة الجماعة، ويصومون ويقومون بأعمال عبادية أخرى، لكنهم فيما بعد تراجعوا عن دينهم وتخلوا عن عقيدتهم, عندئذٍ أنزل الله هذه الآية لتعطي البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له: لا تقلق ولا تحزن، وتخاطب المؤمنين الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مُحذّرة لهم:
 
لا تتوهّموا أنّ دين الله لن يقوم إلا بكم! وبدونكم سوف يُمحى هذا الدين! فحتَّى لو تخلى عدَّةٌ من النَّاس عن نُصرة دين الله، فلن يمض ِالوقت حتّى يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه، يعشقونه ويعشقون الشهادة في سبيله، هذا العشق وهذا الحبّ قد استقر من كلا الطرفين: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، لا يَلجُون ساحات الجهاد أداءً للتكليف فقط بل لأنّهم أهل الحب الإلهي أيضاً, وهذه هي نيّتهم وغايتهم الأسمى.





1 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
27

20

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 وهذه في الحقيقة بشارة عظيمة، تقوى بها العزائم والإرادات، وتجعل أصحاب الإيمان الضعيف يندفعون إلى ساحات العمل والحركة في سبيل الله لعلّهم يحظون بالحبّ الإلهي.

 
التواضع للمؤمنين والشدة على الكافرين
ومن العلامات المهمّة والصفات المميّزة للذين يُحبّهم الله ويحبونه: أنّهم أهل تواضع للمؤمنين، لا يعاندون أو يتكبّرون عليهم. غير أنهم في مقابل الأعداء والكفار والذين يعاندون الحقّ هم أهل شدّة وبأس، فلا ترى فيهم أيَّ خضوع أو استكانة، ولا تلمس في طرفهم أيّ لين وعطف، فهم كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾1.
 
وقد أعطى القرآن الكريم للذين يأتون في آخر الزمان، أربع ميزات:
أ- ميزتان باطنيتان: لا يمكن لأحد تشخيصهما ومعرفتهما سوى الله تعالى.
الأولى: أنّهم يحبّون الله فهم (عشَّاق الله).
الثانية: أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحبُّهم.
 
وهاتان الميزتان سرّيتان، باطنيتان، خاصّتان فيما بين هؤلاء العشاق وبين ربهم.





1 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
28

21

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ب- ميزتان ظاهريتان:

الأولى: التواضع واللين مع المؤمنين من ناحية.
الثانية: والشدة والبأس على الكافرين من ناحية أخرى.

فهذه المواصفات الهامة جداً, والدقيقة, والجميلة, هي مواصفات من الواجب على التعبوي الجهادي أن يتصف بها, والحقيقة أنّ كثيراً من المجاهدين يتحلّون بهذه الصّفات.

الاتكال على القدرة الإلهية
في نظر التعبويين الجهاديين تعد أقوى القدرات وأعتاها في الدنيا ضعيفة، لأنّهم في الحقيقة لا يعبأون ولا يبالون بأي قدرة على وجه الأرض، لاتكالهم على القوة العظمى الإلهية. وعلى سبيل المثال: بعد اقتحام وكر التجسّس الأميركي في طهران، شاع آنذاك في المجتمع أنَّ أميركا تريد إرسال أسطولها الحربيّ إلى الخليج الفارسيّ، وتشنُّ حملةً عسكرّيةً على إيران، لكنّ الإمام الخميني قدس سره تحدّث وبكل اقتدار وواجه أميركا قائلاً: بأن تلك القوى لا قدرة لها على فعل أيّ شيء!.

ففي الوقت الذي تموضعت فيه كلّ القوى المستكبرة، ضدّ الثّورة الإيرانيّة المباركة ولم يكن هناك بعد أيّ تشكيلات عسكريّة نظامية في إيران سواء على مستوى الجيش أو الحرس أو التعبئة، لكن على الرغم من كل تلك الظروف، قال الإمام الخميني قدس سره وبكل قوة:
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 أميركا لا تستطيع أن ترتكب أية حماقة. لماذا؟

 
لأنّ المؤمنين لا يخضعون لأية قدرة شيطانية، ولأنّهم متّكلون على القدرة الإلهية اللامحدودة. هؤلاء المؤمنون هم أهل إيمان صادق ويقين جازم بقدرة الله المطلقة، ويعلمون أنّ الله سبحانه وتعالى والنبي والإمام الحسين وصاحب الزمان صلوات الله عليهم أجمعين لن يتخلوا عنهم، وسوف يكونون دائماً إلى جانبهم في أوقات الشدة، ولأنهم عليهم السلام هم خير ناصر ومُعين لتلك الثلة المجاهدة والمؤمنة.
 
مثل هؤلاء المجاهدين، ماذا يطلبون من الله؟ غاية طلبهم منه تعالى هو إلهامهم الثبات والنصر: ﴿...وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾1.
 
1- ما هو شرط استدامة النصر والعناية الإلهية؟
إنّ النّصر الإلهي إنّما يأتي لمن هم يتّكلون على القدرة الإلهية وحدها، ولا يرون ناصراً غير الله عزّ وجل، لكن لو استبدلنا توكُّلنا على القدرة الإلهية بتوكّلنا على كثرة النَّاس، والتكنولوجيا المتطوِّرة، والمساعدات الخارجية وغير ذلك، فإنّ المدد الإلهيّ سوف يقلّ أو ينتفي، لأنَّ المدد الإلهي مرهونٌ بمدى ارتباطنا نحن مع الله عز وجل.
 
ففي هذا الكون سنّة ٌحاكمةٌ وهي: أنَّ كلّ من ينصر دين الله وأحكامه وقيَمَه، سوف ينصره الله ولن يخذله، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا 



1 سورة آل عمران، الآية 147.
 
 
 
 
 
 
 
30

23

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1. كما أن الوعد الإلهي لا يمكن أن يتخلَّف أبداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾2.

 
لذا لا بدَّ من التنبيه هنا إلى أنَّ نصر الله تعالى في حال كان شاملاً لفردٍ أو مجموعةٍ ما, فإنّه لن يكون دائماً ومستمرّاً، ولن يكون هذا الفرد أو تلك المجموعةُ موردَ العنايّة الإلهيّة دائماً، لأنّ هناك شرطاً مهمّاً لاستدامة هذه العناية الإلهيّة وهذا النّصر، فما هو: هذا الشرط؟
 
إنّ هذا الشرط يتمحور حول حقيقة إقامة الناس لشعائر الله. فمتى ما كان الناس يُقيمون شعائر الله في المجتمع، ويُحيون ذكر الله في القلوب، فسوف يكونون دائماً مشمولين لرحمة الله ونصره وعنايته، أمّا لو اتكل النّاس على أنفسهم ولم يعبأوا ولم يلتفتوا إلى القدرة الإلهية المطلقة فعندها سوف يترك الله نصرة هؤلاء المغرورين بالكثرة والنّاس، ويكِلهُم إلى أنفسهم الضعيفة الفقيرة.
 
2- نموذج قرآني لتضييع النعم:
يتحدَّث القرآن عن تلك النِّعم التي أعطاها الله للعباد، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.



1 سورة محمد، الآية 7.
2 سورة آل عمران، الآية 9.
3 سورة الأنفال، الآية 53.
 
 
 
 
 
 
31

24

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 فبقدر محافظة النَّاس على لياقتهم المعنويّة والروحيّة لنيل تلك النِّعم والإمدادات الإلهيَّة، وعدم تبدّلهم عن الحقّ، ومعرفتهم بقدر تلك النّعم فإنّ الله يجزيهم بإبقائها ولا يسلبهم إياها.

 
إنّ القرآن ذكر لنا أنَّ الله أنعم على قومٍ, وبَدَلَ أن يشكروا نعمه قاموا بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾1.
 
لقد كان هؤلاء في البداية أصحاب ارتباط قوي ومُحكم بالله تعالى، لكن شيئا فشيئاً ضعفت هذه الرابطة إلى أن وصلوا إلى الحد الذي أضاعوا فيه الصلاة واتبعوا الشهوات، وبذلك أضاعوا نعمة الهداية وضلوا الطريق.
 
ولو نظرنا إلى حال المؤمنين كيف هي اليوم؟ حيث بتنا نستبدل العبادات، وقيام الأسحار، وتهجّد وبكاء الليل، ونترك زيارة عاشوراء ودعاء كميل، نستبدل كلّ أشكال الارتباط بالله تعالى، بقضاء الليالي بمشاهدة الأفلام، والاستماع إلى أنواع الموسيقى الصاخبة والرائجة، واللهو، واللعب، والثرثرة والغيبة وغير ذلك من الأمور. ففي هذه الحالة يُصبح حضور القلب في الصلاة ضعيفاً وتجف الدموع أو تقل، ويصبح روح عباداتنا فارغاً، ولونها باهتاً، وبالتالي سوف يضعف ارتباطنا بالله تعالى!.





1 سورة مريم، الآية 59.
 
 
 
 
 
 
 
32

25

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 وإذا ضعف الارتباط بالله عز وجل، فإنَّ المجتمع سيضلّ طريقَهُ وستحُرَم الأمّة في المستقبل من الإمدادات الإلهيَّة، لأنّها لم تحافظ على شروط النّصر الإلهي، ولم تعد لائقةً ومؤهّلة لنزول مدد ربّاني أو استقبال نصر جديد.

 
ومن المهم هنا أن نعرف، أنّ معارف وقصص القرآن الكريم ليست مجرّد نقل تاريخي، فالقرآن كتابُ نورٍ وهدايةٍ نزل للنَّاس كافّةً، مخاطباً أهل كلِّ زمان، ومن هنا جاء التّحذير القرآني في هذه الآية: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، ليقول إنّ أكثر ما يجب على الإنسان أنْ يقلقَ ويحذرَ منه وبشكل دائم، هو العاقبة! كيف ستكون هذه العاقبة؟ وهل سوف يبقى هذا الإنسان ثابتَ القدم إلى آخر الطريق؟ أم أنّه سوف يصبح رفيق نصف الطريق! على حد تعبير العالم العارف الشيخ بهجت قدس سره إذ يقول: إنّه كان هناك نماذجُ كثيرةٌ من أناس قاوموا لسنوات وسُجنوا وتعرّضوا للتّعذيب، وآخرون قاتلوا في الجبهات لكن انظر إلى عاقبتهم: بعد مدة رأيناهم قد اتخذوا طريقاً آخر وانحرفوا عن مسيرتهم الجهادية، لماذا؟ وما هي الظروف التي تجعل الإنسان المجاهد ينحرف؟
 
هذه الظروف ناتجة عن قطع الارتباط بالله تعالى وتخلّينا عن التوسّل بأوليائه الأطهار عليهم السلام، وبالتالي فإنّ شبهات الشيطان سوف تسلبنا ديننا وإيماننا، وسوف تجذبنا لارتكاب المحرّمات بل وإشاعة الفساد.

 
 
 
 
 
33

26

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 التمسّك بالولاية واتباعها

إنّ الناس متى ما كانوا مرتبطين ومتمسّكين بولاية الفقيه النائب عن إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنّهم سوف يأمنون نزول أنواع كثيرةٍ من الابتلاءات والعقوبات.
 
فعلى سبيل المثال فلننظر إلى العراق مثلاً، فرغم أنَّه بلدٌ مسلمٌ، والشّيعة فيه كُثر.
 
فلو عدنا إلى الماضي قليلاً. في زمان المرحوم آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره، وعندما بدأ حركته في العراق كانت ظروف حركته أفضل من ظروف قيام الإمام الخميني قدس سره في إيران، ففي البداية كانت كلُّ عشائر العراق مطيعةً للسيد الحكيم، لكن نتيجة لغلبة الشهوات وحبّ الدّنيا وصل الأمر إلى حدّ جعل السيد الحكيم يتوجّه بنفسه من النجف إلى بغداد لدعوة العشائر المُسلمة إلى القتال والمقاومة، لكنهم لم يستجيبوا لدعوته ولم يطيعوه، ولعل هذا التخاذل من الناس كان مورد انزعاج السيد الشديد وغصّته التي أثّرت فيما بعد على صحّته وأدّت إلى وفاته قدس سره.
 
والحاصل: إنَّ عدم طاعة هكذا أمرٍ من نائب إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف هو السبب في رزح العراق اليوم تحت هذا الوضع السيّء1!.



1 بالإشارة إلى مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق.
 
 
 
 
 
 
 
34

27

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ومن هنا نعلم أنّ الولاية هي الحبل المتين بين الله تعالى والأمة، وإذا ما وفّى الناس بعهدهم الذي قطعوه مع الله تعالى والأولياء، فإنّ الله سوف يتجاوز عن هفواتهم وزلاتهم وينجيهم من ابتلاءات عديدة. وأما فيما لو خان هؤلاء العهد وقطعوا تلك الرابطة، فإنّهم لن يأمنوا من مكر الله، ويجب أن لا يغتروا بنصر ومدد إلهي سابق، ويظنّوا بأن الابتلاءات لن تصيبهم من جديد.

 
ومن هنا أيضاً، ومن باب الحفاظ على الإسلام، على الإنسان المؤمن أن يجعل المستقبلَ نُصب عينيه، ويحتاط من الشبهات والانحرافات، خاصة الانحرافات الفكرية، وبالأخص تلك الآتية من بعض الذين يستخدمون حرية التعبير من أجل تبرير الانحراف. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾1، وفي آية أخرى يخاطب الله نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾2.
 
فالله تعالى هنا يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الجلوس في الأماكن التي تُوجّه فيها الإهانات للدِّين ويُستهزأ فيها بالمقدّسات، وهو خطاب عام لكل المؤمنين يُحرّم عليهم الاشتراك في أيّ تجمّع أو مجلس يقوم بالاستهزاء بالدين وتوهن فيه مقدّسات الإسلام، ويأمرهم 
 





1 سورة الأنعام، الآية 68.
2 سورة النساء، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
35

28

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 بالابتعاد عن المجالس التي تطرح فيها الشبهات على الدين، لأن مثل تلك المجالس ليست بمجالس المؤمنين ولا تليق بهم.


أضف إلى أنّه في كثير من الأحيان، لا يتوفّر الشخص القادر على ردّ تلك الشبهات والإجابة عنها، خصوصاً فيما لو طُرحت هذه الشبهات في قوالب مخادعة وماكرة، وعُرضت على الموجودين الذين لا ميزان لديهم لتشخيص الحق من الباطل. لذلك يحرّم الله على المؤمنين الحضور في مثل تلك المجالس، لأن النتيجة الطبيعية لذلك الجلوس والاستماع، هو إيجاد الترديد والشك في عقائد المسلمين ما يفتح الطريق للشياطين كي تسلب روح الإيمان من قلوبهم وتستبدله بالنفاق، 
وشيئاً فشيئاً سوف يتبدّل هؤلاء الأشخاص إلى أناس مسلمين ظاهراً، بينما قلوبهم خاليةٌ من الإيمان باطناً.

 
 
 
 
 
 
 
36

29

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 المحور الثالث: التعبئة على ضوء نهج البلاغة



مدخل
يذكر الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة صفات رجال الله عز وجل، الذين كانوا بمثابة التعبويين المجاهدين في صدر الإسلام، فيعدّد صفاتهم وخصائصهم التي يمكن أن تشكِّل اليوم مشعلاً للهداية لكلّ الباحثين عن الحقّ، ونوراً للهاربين من ظلمات الضياع والحيرة.

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام بنفسه أفضل نموذج للتعبويين الجهاديين الذين تربّوا في مدرسة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قال الإمام القائد الخامنائي دام ظله: "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل قدوة لكل التعبويين اليوم".

لو كان الإنجاز الوحيد للثورة العظيمة التي قام بها الإمام

 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

30

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

الخميني قدس سره، هو تربية هؤلاء الشباب التعبويين والمجاهدين فقط، لكان إنجازاً عظيماً ومشرِّفاً، وفي هذا الصدد يقول الإمام القائد دام ظله: "فَتْحُ الفتوح الذي أنجزه الإمام الخميني قدس سره كان صناعة شباب مؤمن، مخلص، طاهر، صادق، لا يعبأ بالشهوات، قلوبهم متوجّهة فقط نحو الله تعالى".

لقد كانت بياناتُ وخطب الإمام الخميني قدس سره ذات تأثير عجيب في قلوب التعبويين، إذ إنهم عندما كانوا يحضرون للقاء الإمام الخميني قدس سره، كنت ترى مشهداً عجيباً من البكاء والدموع التي تجري خاصة عندما قال الإمام قدس سره: "يا ليتني أنا أيضاً كنتُ واحداً من أفراد الحرس".

لقد كانت هذه الدموع تخرج من قلوب طاهرة، وبحماس وشوق لا يوصفان، كانت قلوبهم مشدودة ومرتبطة بالإمام الخميني قدس سره، وتلك الدموع الصادقة والقلوب المُحبة للولي الفقيه كانت تعطيهم القوة والطاقة، وتشحنهم بحماس وإيمان إلى مدّة طويلة. وقد تجلّى أوج هذه العلاقة بين الإمام الخميني قدس سره وبين هؤلاء التعبويين المجاهدين عندما قبّل الإمام سواعد وقبضات هؤلاء التعبويين.

وبناءً على ما تقدّم، سوف نستعرض في هذا الفصل لأهمّ تلك الخصائص والمميّزات لمجاهدي صدر الإسلام، والتي نستفيد منها لنطل على واقع المجاهدين والتعبويين اليوم، والتي وردت في نهج 

 
 
 
 
 
 
38

31

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 187، التي يقول في مطلعها: "ألا بأبي وأمي هم من عدّة أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة...".

 
عشق الجهاد والشهادة
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "دُعُوا للجهاد فأجابوا، وهِيجُوا إلى الجهاد فولِهُوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها"1.
 
فالتعبويون المجاهدون دائماً وعلى كل حالِّ يعشقون الجهاد والشهادة، وهم مستعدّون للقاء الله تعالى، ومن أجل ذلك تكون استجابتهم للقتال استجابة صادقة وسريعة ومطمئنة، لا يتخاذلون أو يتثاقلون، وفي عبارة (وهِيجُوا إلى الجهاد فولِهُوا) إشارة واضحة لهذا العشق للجهاد والشهادة.
 
إنّ تعبير "الهيجان" يعني: أنّهم لا يَرِدُون الجهاد إلا بحالة الهيجان والشوق، وهذا دليلُ معرفةٍ منهم بمقام المجاهدين ومكانة الشهداء عند الله تعالى، فالإقدام بوَلَهٍ هو دليل على العرفان وعلامة على العشق.
 
وقد شبّه الإمام علي عليه السلام حالهم بحال الفصيل الضائع، الذي تبحث أمه عنه بتيه وهيجان، وهو حال شبيه بحال التعبوي المجاهد عندما يُدعى إلى الجهاد فيسارع نحوالشهادة بشوق وهيجان.
 





1 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
 
 
 
 
 
 
 
 
39

32

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض، زحفاً زحفاً وصفاً صفاً. بعضٌ هلك وبعضٌ نجا، لا يُبشّرون بالأحياء ولا يُعزّون عن الموتى"1.

 
في الحالة الطبيعية يُبشَّر بالسلامة من يرجع من السفر معافى، فكلّ من حوله يكون مسروراً بعودته سالماً، وإذا ما تعرّض أحدٌ لحادث ما ثمّ خرج منه معافىً فكلُّ الأصدقاء والأقارب يُسرُّون لبقائه حياً.
 
لكن عند رجال الله: أن يبقى الإنسان حياً ويرجع من الجبهة دون وسام الشهادة فهذه ليست بشارة، وليست سبباً يبعث على الفرح والسرور.
 
هذا حال المجاهدين، وأما بالنسبة إلى عائلات الشهداء فلا حاجة لتعزيتهم لأنّهم أهلُ افتخار بشهدائهم، ولدينا نماذج كثيرة لهذه الروحية العجيبة في عائلات الشهداء، إذ إنّهم يتقبّلون التبريك لا التعازي، وكيف لا؟! وفي ثقافتهم وتربيتهم الجهادية القرآنية أنّ الشّهيد في الحقيقة هو الفائز الحقيقي، وأما من بقي حياً فأمره معلَّقٌ بين الفوز والخسران. فكيف يتقبّلون العزاء بينما شهيدهم فائزٌ بالرضوان والوسام الإلهي الرفيع؟!
 
ومن اللافت أن نرى في شبابنا التعبويين المجاهدين في زماننا هذا شيئاً مميّزاً، وهو تحرّقهم للقتال والجهاد، بل إنّهم ومع صغر
 





1  نهج البلاغة، الخطبة: 177.
 
 
 
 
 
 
40

33

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 عمرهم يبكون أمام آبائهم وأمهاتهم لأجل أخذ الإجازة والرِّضا للذَّهاب إلى الجبهات!


أين يمكن أن نجد نماذج تُقبِل على الشهادة بهذا الشوق والوله العجيب؟ بل أين يمكن أن نجد قلوباً تفيض بحب لقاء الله تعالى وهي في زهرة شبابها!؟

لقد سجّل تاريخ الجهاد أنّ الجبهات قد امتلأت وبإشارة واحدة من الإمام الخميني قدس سره بآلاف العاشقين للشهادة من التعبويين المجاهدين، إلى درجة أن المقرّات والمعسكرات لم تعد تتسع لأي مُلتحِقٍ جديد!.

حينها ضاقت المعسكرات برجال الله وعشّاق الجهاد، وكل أمانيهم كانت أمنية واحدة: أن تكون الشهادة من نصيبهم، بل كان البعض ينذر النّذورات لأجل الحصول على شرف الشَّهادة! إن مثل هذه النماذج لم تحصل في أيّة برهة من التاريخ. لقد ملأ هؤلاء الجهاديون المخلصون صفحات التاريخ بقصص المجد، بل إنّ مشاهد عشقهم لله تعالى تصدم كلّ الذين يستهزئون بالقصص المعنوية، هذه القصص قد حصلت فعلاً ووقعت في ساحات الحرب وميادين الجهاد.

وكما أن عشق الجهاد والشهادة ليس مختصاً بزمن الحرب فقط، بل إنّ التعبويين الجهاديين يتمنّون الشهادة في أي زمان ومكان،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

34

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ويتمنّون القتل أو الجرح في كل الميادين التي تكون مورداً للرضا الإلهي، فهم جاهزون على الدوام للجهاد ومشتاقون دائماً للشهادة بلا فرق بين زمن حربٍ وزمنِ سلمٍ.

 
الأنس بالقرآن الكريم
في حديث أمير المؤمنين عليه السلام عن الخُلّص من أنصاره يقول: "قرأوا القرآن فأَحكَمُوه"1.
 
وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام: "الذين تَلوُا القرآن فأحكموه"2.
 
والمستفاد من حديثه عليه السلام أنّ المجاهدين في صدر الإسلام، كانوا أهل أُنس بالقرآن، وكانوا يتلون آياته بتدبرٍ وتأمُّلٍ، ويعملون بأحكامه وتعاليمه، وهذا هو معنى الإحكام في كلامه عليه السلام.
 
أما اليوم، إذا أراد أحد من التعبويين أن يكون مثل هؤلاء الجهاديين الذين يقول فيهم أمير المؤمنين عليه السلام: "بأبي وأمي هم من عدة، أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة"3، فيجب عليه أن يأنس بتلاوة القرآن الكريم، ويتدبّر معانيه، وأن لا يُضيّع حقّ هذا الكتاب الإلهي خاصّة في مقام العمل. وعلى حد تعبير الأستاذ العارف الشيخ بهجت قدس سره: "نحن في إحياء ليالي القدر نضع القرآن فوق رؤوسنا، وفي مقام العمل نضع آيات الحجاب، 
 





1  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 10، ص 99.
2 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
3 نهج البلاغة، الخطبة: 187.
 
 
 
 
 
 
 
 
42

35

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 والغيبة، والكذب، والإحسان إلى الوالدين تحت أقدامنا! القرآن هو كتاب تربية الأنبياء عليهم السلام، والبرنامج القرآني هو البرنامج الأخير الذي وُضع بين أيدينا لتربية الإنسان القرآني، جامعُ كمالاتِ كلِّ أنبياء أولي العزم"1.

 
إذاً، هل يمكن أن نعدّ أنفسنا من أهل الجهاد في سبيل الله، أو من طلاب الشهادة الذين يدّعون حبّ لقاء الله عز وجل, ثم نبتعد كل هذا البعد عن كتابه ولا نأنس بتلاوة كلماته ولا نعمل بآياته؟
 
الصّيام
إنّ الشيعة الأصفياء والأصحاب الأوفياء لأمير المؤمنين عليه السلام هم أهلُ صيام، وفي ذلك يقول عليه السلام: "خُمص البطون من الصيام"2.
 
ليس المجاهد والتعبوي الصادق بعابد بطن! ولا يفكِّر في أنّ هذا الطعام ألذ ّمن ذاك، ولا تشغل باله كلّ تلك اللذائذ، فهو قليل الطعام، يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل! فهو يأكل بقدر حاجته، وبالمقدار الذي يساعده على التحمّل والصُّمود وإدامة المعركة، فالتخمة والشبع لا معنى لها عنده، ولا يصرف عمره بحثاً عن الأكل والشرب وأنواع اللذائذ.
 





1 نقلٌ مباشرة من المترجم عن المرحوم الشيخ بهجت قدس سره في درس خارج الفقه.
2  نهج البلاغة، الخطبة: 121.
 
 
 
 
 
 
43

36

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 قيام الأسحار والأنس بالدعاء والمناجاة

وفي سياق تعداد أمير المؤمنين عليه السلام لخصائص ومواصفات شيعته الخلّص يقول عليه السلام: "ذبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السّهر"1. إذاً من جملة خصائص هؤلاء الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين عليه السلام هي إحياء الليالي وقيام الأسحار والرجوع إلى ساحة الرحمة الإلهية.
 
والتعبوي المجاهد اليوم - واقتداءً بإمامه ومولاه علي عليه السلام - عليه أن يكون من الذين يُحيون الأسحار ويأنسون بالذكر والدعاء، والعبادة والمناجاة. فيُسمع في السَّحر أنينه وبكاءه، ويُشاهد تضرُّعه وخشوعَه أمام العظمة الإلهية وفي محراب العبادة.
 
ومن هنا يمكننا أن نفهم عدداً من المفاهيم الواردة في القرآن الكريم: كالدعاء، المناجاة، والبكاء من خوف الله تعالى. إنّ القرآن يمدح فئة مؤمنة تخرّ ساجدة وباكية عندما تُتلى عليها آيات الله خشية وهيبة، قال تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾2 وفي آية أخرى ورد هذا الوصف لأهل الإيمان في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾3.
 





1 نهج البلاغة، الخطبة: 121.
2  سورة مريم، الآية 58.
3 سورة السجدة، الآية 15.
 
 
 
 
 
 
 
44

37

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 وفي آية ثالثة ورد وصف لقوم يسجدون - بدون اختيار- عند سماعهم للآيات القرآنية: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾1.

 
فهذه الآيات تشير بوضوح إلى: أن عباد الله المخلصين، صلاة ليلهم متصلةٌ بسجود صباحهم. لكن، وللأسف، لقد أصبحت هذه العبادات والعادات متروكةً في أيامنا، وقليل هم الذين يُوصِلون صلاة ليلهم بسجدة صبحهم! بل إنَّ الذين يقضُون أسحارهم بالقيام والسجود هم قلّة قليلة.
 
فلننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام حيث يبيّن لنا معنى المجاهد التعبوي، ويعطينا ضابطةً لمواصفات ذلك الشّخص بأنّه حاضرٌ دائماً في ساحة المعركة بسلاحه الملقّم، فالمجاهد جاهزٌ في أية لحظة للجهاد والقتال في سبيل الله. ويُستفاد ذلك من قوله عليه السلام: "سلبوا السيوف أغمادها"2.
 
لكن في المقابل، يلفت أمير المؤمنين عليه السلام نظرنا إلى ليل المجاهد، فالمجاهد هو من أهل البكاء والعبادة في محراب المعشوق، يتلذّذ بمناجاته وينفرد بخالقه لذكر حوائجه وأمانيه. هذا ما أراد أن يُعلّمنا إيَّاه أمير المؤمنين سلام الله عليه من حقيقة المزج بين جنبة المقاتل العسكريّ في شخصيّة المجاهد، وجنبة الإيمان والعشق المشرقة في روحيته و شخصيَّته.
 



1 سورة الإسراء، الآية 109.
2 نهج البلاغة، الخطبة: 177.
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 إنّ هذه الفكرة المشرقة والجميلة عن صفات وخصائص هؤلاء المجاهدين، هي التي جعلت اللسان الشريف للإمام عليه السلام يتحرّك للحديث عن مقام هؤلاء بمثل هذه الكلمات الراقية:

"ألا بأبي وأمي هم من عدة"! فهذا هو حبه الشديد لهم، لدرجة أنه يفديهم بالأب والأم والروح.
 
لقد كان في التاريخ نماذج مشرقة لهؤلاء المجاهدين، لا سيما المجاهدين أثناء الحرب المقدّسة التي خاضها هؤلاء العظماء في إيران، حيث تأجّج العشق لله فيهم فصنع منهم رجالاً له تعالى، ملأوا الساحات بحضورهم المعنوي الكبير.
 
لقد كان الشوق لله تعالى عندهم عظيماً، حتى أن بعضهم كان ينذر النذورات له تعالى، ويقيم العبادات الشاقة كي يمنّ الله عليهم بوسام الشهادة المقدّس.
 
ومن باب المثال: لقد كان المجاهدون التعبويون يأتون، ولمدّة أربعين ليلةِ أربعاء، أو ليلة جمعة، من طهران إلى مسجد جمكران في قم المقدّسة (التي تبعد أكثر من 120 كلم)، وحاجتهم فقط أن يُستجاب دعاؤهم للالتحاق بركب الشهداء.
 
وفي سياق حديثه عليه السلام عنهم، يقول: "ذبل الشفاه من الدعاء"1.
 





1 نهج البلاغة، الخطبة: 177.
 
 
 
 
 
 
 
46

39

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 فالإكثار من الدعاء، والمواظبة على الذكر، أذبلت شفاههم، وأصفرت ألوانهم من تعب قيام الليل وإحياء السحر بالعبادات والمناجاة.

 
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد بيان تلك الخصائص والمميّزات للمجاهد التعبوي: "أولئك إخواني الذاهبون"1، فتعبيره عليه السلام بأنهم إخوانه، تعبيرٌ عالي المضامين، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعاني من ضعفِ وعصيانِ وعدمِ وفاءِ وخذلانِ من كانوا يتواجدون معه وحوله، لذلك قارن عليه السلام بينهم وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأوفياء بقوله عليه السلام: "لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يُصبحون شُعثا غبراً"2.
 
ثم يقول عليه السلام: "وقد باتوا سجّدا وقياما يُراوِحُون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم"3.
 
ثم ينطلق أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته، ذاكراً خصائص وصفات أنصار وأصحاب الرسول قائلاً: "كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملتْ أعينهم حتى تُبلّ جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب"4.
 



1 نهج البلاغة، الخطبة: 177.
2 نهج البلاغة، الخطبة: 97.
3 م.ن.
4 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
47

40

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 إنّ الذي يلاحظُ بوضوح من خلال هذا المقطع، أنّ الإمام علي عليه السلام يستهدف إبراز الجانب المعنوي والروحي في شخصية هؤلاء المجاهدين، لذلك لم يذكر صفاتهم الجسدية والقتالية، والسر في ذلك، أنه يريد أن يشير إلى حقيقة دور ارتباط المجاهد بالله سبحانه وتعالى وإلى أهمية هذا الارتباط في تكوين الشخصية الحقيقية للمجاهد الإلهي.

 
فلولا هذا الارتباط الحقيقي بالله تعالى، ولولا اتصافهم بهذه الصفات الإيمانية والعبادية لم يكن ليرى المسلمون تلك الانتصارات الكبيرة في صدر الإسلام.
 
ونحن اليوم أيضاً إذا ما قضينا الليالي باللهو واللعب، والكلام والثرثرة، وقطعنا ارتباطنا بالله تعالى، فسوف لن نرى مجدّداً أي انتصارات.
 
فلهذه الصفحة النورانية المميّزة، أي الارتباط العشقي بالله تعالى، صدرت آهات الشوق من صدر أمير المؤمنين عليه السلام شوقاً لرؤيتهم، ولذلك يقول عليه السلام: "فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم!"1.
 
إنّ كل هذه الصفات التي جرى بيانها على لسان الإمام علي عليه السلام، كانت واضحة ومعروفة لدى الشباب المجاهد في أيام



1 نهج البلاغة، الخطبة: 121.
 
 
 
 
 
 
 
48

41

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 الحرب على إيران. إن الصحاري والجبال لا تزال تردّد أصداء بكائهم، وألحان أنينهم شوقاً إلى لقاء الله تعالى. ولا يزال الأمل أيضاً، بالشباب المجاهدين اليوم، أن يحافظوا على هذا الإرث الإيماني والمعنوي الكبير.


إحياء الشعائر الإلهية والابتعاد عن البدع
إن الوصول إلى الحقيقة الأصيلة، لا يكون إلا بسلوك طريق صحيح ومستقيم، مبنيٍّ على تعاليم الإسلام السماوية، ويمثّل رسول الله والأئمة الأوصياء من بعده عليهم السلامهذا الطريق الصحيح والمستقيم الخالي من الهفوات، والمُوصِل إلى الحقيقة، فلا طريق إلى الله عز وجل إلا من خلال هؤلاء المعصومين عليهم السلام.

وبناءً عليه، من يريد السير باتجاه الكمال والاستقامة عليه أن ينظر جيّداً إلى سيرة وسنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، وأن يتعلّمها ويعمل بها ويسعى لإحياء تلك السنن والشعائر في قلبه أولاً، ثم يحييها في مجتمعه وأمته ثانياً.

ومن هنا يجب على المجاهد أن يعرف البدع والانحرافات التي حدثت في تاريخ الإسلام، والتي كانت السبب في الانحراف عن طريق الهداية والصراط المستقيم, لأنّ هذه المعرفة سوف تساعده في القضاء على البدع الحادثة في مجتمعنا من جهة، ثم القيام بإصلاح ما فسد، ومعالجة العقائد الباطلة ودحضها من جهة أخرى.
 
 
 
 
 
 
 
 
49

42

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 وفي هذا المقام يقول أمير المؤمينن عليه السلام عند وصفه للمجاهدين: "أحيُوا السنّة وأماتوا البدعة"1.

 
فأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا متابعين ومتمسّكين بسنة الرسول وفكره الإلهي، لذلك لم يضلّوا وبقوا ثابتين في وجه أمواج البدع والضلال، أما بعض الشباب اليوم، فإنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة أوقات الصلوات واتباع الشهوات فهم اليوم يسيرون في أظلم الطرق ويعيشون أسوأ الضلال، بسبب إهمالهم للاقتداء بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعدم حفاظهم على الحدود التي أقامها النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك ظهرت في أفكارهم البدع، وانحرف سلوكهم بشكلٍ سيء.
 
تشخيص التكليف الصحيح
تسلك كلُّ مجموعة طريقاً خاصاً من أجل الوصول إلى هدفها الذي تنشده، لكن نجاحها وتطورّها في هذا السلوك والسير، مرهونٌ بعنصرين أساسيين:
أولاً: مدى معرفة الأفراد والعناصر للهدف بشكل جيد، ووعيهم الكامل به.
ثانياً: مدى معرفتهم الدقيقة، وتشخيصهم الصَّحيح للطّريق الموصِل إلى ذلك الهدف.
 



1 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
 
 
 
 
 
 
 
50

43

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ويرتبط النَّجاحُ في الوصول إلى الأهداف، وبشكل مباشر، بتشخيص كل عنصرٍ لدوره الخاص في تلك المجموعة، وبمعرفته للمسؤوليّة الملقاة على عاتقه التي يُطلب منه إنجازها على مستوى إمكاناته وطاقاته.


إنّ هذا الأمر يعتبر في المجتمع الإسلامي قاعدة ثابتة، فكلّ فرد عليه أن يعرف مسؤوليته، ويشخص تكليفه ليتميز كلُّ فردٍ بدوره وبمسؤوليّته عن الآخرين، ويكون لكلّ فردٍ عمله الذي يُنتظر منه تأديته، وإنجازُه على أحسن وجهٍ ممكن.

غير أنّنا نرى أنَّ هناك آفةً خطيرةً من بين عدّة آفات تهدّد الأمّة الإسلامية، وهي:
أن الفرد بدلاً عن توجّهه إلى وظيفته وتكليفه لينجزه ويهتمّ بإصلاح نفسه، فإنّه يقوم بتبرئة نفسه من العيوب فيُسقطَ التّكليف عن عهدته، وينصرفَ دفعةً واحدة عن تقويمه لنفسه ولطريقة أدائه لتكاليفه. بل إنه ينظر إلى أداء الآخرين لتكاليفهم، ويتهمهم بعدم إنجاز ما يتوجب عليهم، ويرى أن كلّ المشكلات والنّواقص والانحرافات إنَّما نشأت من إهمال أو تقصير الآخرين وأخطائهم.

إنّ وجود مثل هذه الأفكار يمنع أيّ إصلاحٍ وتطور، في عملنا, بل تزداد معها الحساسيّات والاختلافات وعوامل التفرقة في المجتمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
51

44

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 ومن هنا شخّص الإمام علي عليه السلام هذه المشكلة، وعلَّق حلها بالتفكّر والتدبّر، فقال: "وتدبّروا الفرض فأقاموه"1 ويقصد الأمير بذلك أنَّ هؤلاء الأصحاب فكَّروا جيِّداً، تأمّلوا، وبحثوا عن تكليفهم وماهيّة مسؤولياتهم تجاه دينهم وأمتهم، بعد المعرفة والتَّشخيص الصَّحيح، ثم اتّجهوا إلى إنجاز هذا التَّكليف، وإتمام تلك المسؤوليات بكل قدراتهم بدون كسلٍ أو مللٍ.

 
وفي مقامنا هنا في الحديث عن المجاهد والتعبوي، يرى أنَّ على المجاهد التَّعبوي، أن يسعى لتحصيل العلم والمعرفة بالأولويات والضروريات التي تهمّ مجتمعه وأمته، ثم بعد معرفة وتشخيص تلك الواجبات، يقوم بإعداد القدرات وتجهيز الإمكانات لإنجاز ما تم تشخيصه كواجب وكأولوية، فكلّ همّه وقدرته وفكره متعلّق بإنجاز التكليف الإلهيّ كاملاً في ميدان العمل.
 
القيادة والالتزام
لقد كان الإمام علي عليه السلام في أواخر أيام عمره الشريف، يتذكّر أصحابه الشهداء وأنصاره الأوفياء، ويتأوّه على فقدانهم ويتوق من أجل لقائهم. إن افتقاده لشيعته الخلّص كان يُظهره أنينه الواضح في كلماته النورانية، خاصة أنّ هؤلاء كانوا أكثر الناس اتبّاعاً لقيادته الشريفة، في مقابل من تخاذل عنه وطعنه في ظهره، لذلك يقول عليه السلام عنهم: "وثقوا بالقائد فاتبعوه"2.
 



1 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
2 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
 
 
 
 
 
 
52

45

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 نستفيد من هذه الكلمة النورانية، أن من أهم مميّزات المجاهدين التعبويين، بعد معرفة قائدهم الديني هو الاطمئنان له والثقة به. لذلك لا بد من الناحية العملية من تطبيق هذه الثقة بإطاعة أوامره وإتباعه بدون كثرة سؤال وتشكيك: كيف؟ ولم؟ ولماذا؟


لذلك فإنّ وحدة الصف والكلمة، ونبض القلب الواحد عند المجموعة في إطاعة القائد الواحد اللائق الكفؤ، تعتبر من أهم عوامل التوفيق والنجاح والنصر.

وفي المقابل فإنّ كلْ مجموعة - حتى ولو كانت على حق- إذا كانت التفرقة تملأ قلوب أفرادها، والأفراد بدورهم مشتتون على أهواء وسلائق مختلفة, فإن الانكسار والهزيمة سوف تكون هي النتيجة الحتمية لهم.

إنّ روح الأخوة والتعاون إذا فقدت، وانعدم التواصل والتنسيق المستمر بين المؤمنين, فمن الطبيعي أنْ تزداد الخلافات والحساسيّات بينهم، وتحصل التشقّقات في الصف الواحد، والأعداء في واقع الأمر يتربّصون بنا وينتظرون لحظات كهذه لينقضّوا على أصل وجود أهل الإيمان.

ومن هنا، نستطيع أن نقول إنَّ سياسة خلق العلل وصنع الذرائع، والتفتيش عن الأعذار، من قبل بعض جنود جيش الإمام علي عليه السلام، لأجل تبرير تقاعسهم عن تنفيذ أوامره، أو إعمال ذوقهم الشخصي 

 
 
 
 
 
 
 
53

46

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 في تنفيذ تلك التكاليف الموجّهة إليهم من قبله عليه السلام، مثل هذه الأعمال والتصرّفات هي التي أصابت المجتمعَ الإسلامي والمسلمين بنكساتٍ وخساراتٍ غير قابلةٍ للجُبران والتّدارك.

 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام حول هذا الموضوع، مخاطباً عسكره: "أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس أنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّي... لوددت والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم"1.
 
ويضيف الإمام علي عليه السلام في نفس السياق، مخاطباً أولئك المتخاذلين في أداء تكاليفهم: "استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا... أتلو عليكم الحِكَم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، وأحثّكم على جهادِ أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرِّقين أيادي سبأ. أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المُبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه"2.
 
وبناءً على ما تقدّم من الكلام النوراني لأمير المجاهدين عليه السلام،
 



1 نهج البلاغة، الخطبة: 96.
2 نهج البلاغة، الخطبة 97.
 
 
 
 
 
 
 
54

47

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 يمكن القول بأن الانسجام والتعاون بين الأفراد والمجاهدين في التعبئة، والطاعة المطلقة للقائد الثقة، الكفوء، بدون سؤال وتشكيك يُعدُّ من أهم الصفات والخصائص اللازمة للمجاهدين، لذلك نرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدّ أصحاب معاوية أفضل ممن حوله من الأنصار، فقال عليه السلام: "صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه"1.

 
ولو ألقينا نظرة سريعة على واقع الأمة الحالي، لرأينا أن كل مشكلاتها منبعها هو التفرّق عن القيادة الإسلامية الواحدة والواعية، ولذلك أمكن للجبروت الشيطاني الأميركي أن يتغلغل في جسد الأمة ويزيدها ضعفاً يوماً بعد يوم.
 
ولقد كان هذا الحال من الضعف هو ديدن الأمة لقرون طويلة. حتى جاء الزمن الذي اجتمعت فيه الأمة، وقلوب الشباب الطاهرة حول قائدٍ ديني ومعنوي عظيم هو الإمام الخميني قدس سره، واستطاعت أن تصل بعناية الله تعالى إلى النصر الذي وصل مداه إلى كل العالم.
 
إنَّ ثبات المجاهدين التعبويين على درب الطاعة لإمام الأمة الراحل قدس سره، نابع من معرفتهم به، ووعيهم وتسليمهم لقيادته الحكيمة للأمة، ومن عشقهم وتعلّقهم الروحي والوجداني المماثل له، دفعهم ذلك كله إلى تحقيق الانتصارات تلو الانتصارات. من
 



1 نهج البلاغة، الخطبة 97.
 
 
 
 
 
 
 
55

48

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 تلك القوّة هدرت موجة الثوار فأزالت الشاه من الوجود، ثم صفعت أميركا والعالم صفعة أليمة أثناء الحرب المفروضة.

 
وهكذا يجب أن يستمر التعبويون المجاهدون اليوم في السير على خطى القائد الحكيم قدس سره، وليعشقوا أداء التكاليف التي يلقيها على عواتقهم، فإنّ الانتصارات لا يمكن أن تتحقّق إلا بهذا الطريق.
 
تذكّر الشهداء وإحياء ذكراهم
سيرة الإمام علي عله السلام عابقة بشتى الاستفادات النورانية، ومن إحداها التي تتعلّق بشخصية المجاهد، هي شدّة حبه ووفائه لأصحابه حتى بعد شهادتهم ورحيلهم عن هذه الدنيا، لأنَّ الشهداء وبشهادة القرآن ﴿أَحْيَاء﴾1, يتنعَّمون برزقِ الله تعالى في عالمٍ غير عالَمنا. يقول أمير المؤمنين مخاطباً أصحابَه الأوفياء: "أولئك إخواني الذَّاهبون، فحقٌّ لنا أنْ نظمأَ إليهم ونعضَّ الأيديَ على فراقهم"2.
 
وفي مكانٍ آخر يتذكّر الإمام عليه السلام بكل شوق وحنين أصحابه الذين سالت دماؤهم الطاهرة في حرب صفين، قائلاً: "أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار وأين ابن التيّهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين 
 



1  سورة آل عمران، الآية: 169.
2 نهج البلاغة، الخطبة: 121.
 
 
 
 
 
 
 
56

49

الفصل الأول: التعبئة الجهادية

 تعاقدوا على المنية وأُبرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟"1.

 
ثم يضع الإمام عليه السلام يده على لحيته الشريفة ويبكي طويلاً ويقول: "أين إخواني...".
 
وفي اللغة العربية عندما تستعمل كلمة "أوّه" في الكلام فمعنى ذلك أنَّ القلب يتألَّمُ بشدّة، وهو تعبيرٌ عن غايةِ التأثُّرِ والتوجُّع.
 
بهذه الحالة الرقيقة كان أمير المؤمنين عليه السلام يتذكّر الأصحاب والشّهداء، لكي تكون قدوة أخلاقية وتربوية لكل أتباع الإمام عليه السلام، بما فيها من دعوةٍ إلى الحفاظ على ذكرى الشهداء وإحيائها بأفضل وجهٍ وأحسن أسلوب.



1 نهج البلاغة، الخطبة: 182.
 
 
 
 
 
 
 
57

50

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 المحور الأول: الأساليب التربوية العامة


مدخل
يعتبر إعداد الروح القتالية وإيجاد الدوافع والمُحرّكات الاعتقادية, من أهمّ مسائل الحرب لأنها هي التي تُرغّب وتُشجّع على الذهاب إلى الحرب، وتُشكّل بالتالي حافزاً للقتال والصمود واستمرار بذل الجهود.

بينما الذين لا يمتلكون روحاّ قتالية أو دافعاّ عقائدياّ ولا يتمتّعون بالدوافع اللازمة للحرب, فإنّ روحية التراجع والتقهقر هي التي ستكون حاكمة عليهم.

فالجيش الذي يمتلك الروح القتالية اللازمة والعقيدة الدافعة للمواجهة, سيتوجّه نحو الحرب, وسيكون قادراً على الوقوف والصمود بوجه عشرات الجيوش الفاقدة لهذه الروحية والعقيدة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

51

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وفي تاريخ الحروب يمكننا أن نقرأ ونشاهد نماذج من تلك الجيوش ذات الروح القتالية العالية، كما يمكننا أن نجد نماذجَ أخرى كانت فاقدة لتلك الروحية والعقيدة القتالية اللازمة.

 
ولأجل ذلك يجب اعتبار مسألة وجود الدافع عند المقاتل، وإعداده معنوياً وإبقائه جاهزاً للقتال على المستوى النفسي والروحي من أول أسباب النصر والنجاح. ومن هنا اهتم القرآن الكريم اهتماماً بالغاً بهذا الأمر، وطرح عدة أساليبَ وطرقٍ لأجل إيجاد الروحية والدافع، وتثبيت العزيمة وتقوية الإرادة لدى المجاهدين.
 
في هذا الفصل سنذكر بعض هذه الطرق والأساليب إضافة إلى ذكر نماذج قرآنية حول كل أسلوب على حدة.
 
أسلوب التبشير والإنذار
يعتبر التبشير والإنذار أحد الطرق والأساليب العامة التي اتبعها كل الأنبياء عليهم السلام من أجل دعوة الناس إلى الدّين، وتربيتهم وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، ولتثبيتهم على الالتزام بالتعاليم السماوية والتكاليف الإلهية.
 
ومن هذا المنظار أُطلق على أنبياء الله تعالى اسم: (المبشِّر والمنذر)، يقول الله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾1.
 
وفي لغتنا اليوم، يُعبّر عن مفهوم التبشير والإنذار باصطلاح 





1 سورة البقرة، الآية 213.
 
 
 
 
 
 
 
62

52

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 (الترغيب والترهيب)، ولكي يكون بحثنا أكثر وضوحاً سنتعرّض لشرح مفهوم التبشير ومفهوم الإنذار في ميدان الحرب، وسنذكر الآيات المتعلِّقة بهذين المفهومين:

أورد القرآن الكريم آياتٍ كثيرةً تحثّ الناس على الجهاد وتُشوقهم إلى القتال في سبيل الله تعالى. وفي مقابل هذا الحثّ، بيّن القرآن عدداً من المحفِّزات التي تشير إلى نعمٍ دنيوية ونعمٍ أخروية هي ثمار وعطاءات إلهية للمجاهد في سبيله تعالى.

وسنذكر ههنا نماذج من النعم الأخروية، ثم النعم الدنيوية، مع عدم الغفلة عن أن أكثر النفوس إنما تنجذب إلى النعم الدنيوية وملذّاتها لأنسها وإحساسها أكثر بالعالم المادي، غير أنّا هنا وبسبب مناسبة الكلام لمقام الجهاد والمجاهدين فإنا سنذكر النعم الأخروية أولاً.

فالتربية القرآنية الإلهية تعتبر السعادة الأبدية والنعم والملذات الأخروية المحور الأصلي في تعاليم الأنبياء عليهم السلام، وأما النعم والملذات الدنيوية فغير قابلة للمقايسة أساساً مع السعادة الأخروية الخالدة، وهذا بديهي وواضح في خطاب القرآن.
1- البشارة بالنعم الأخروية:
ورد في عدة آيات قرآنية، وبتعابير مختلفة، بشاراتٌ للمجاهدين بنعمٍ إلهية كبيرة، وبسعادة أخروية خالدة، شهداء كانوا، أم مقاتلين
 
 
 
 
 
 
 
 
63

53

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 أصيبوا بجروح بالغة وإعاقات، أم أسرى معذّبين، أم مجاهدين خاضوا غمار الحرب وضراوتها ثم عادوا غانمين سالمين.

 
هؤلاء المجاهدون هم أهلُ البشارة في القرآن الكريم، يقول تعالى:
الآية الأولى: 
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1.
 
لقد استُعملت في هذه الآية عبارة ﴿يَشْرُونَ﴾، وهي تعبّر بلسان المعاملة بالبيع والشراء، والمعنى المقصود فيها: أنّ من يبيع الدُّنيا ويشتري مقابلها الآخرة بنعمها الأبدية، فمن الطبيعيّ أن يُسارع إلى طلب الشَّهادة والذّهاب إلى الجهاد والقتال في سبيل الله.
 
الآية الثانية:
يقول الله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾2.





1 سورة النساء، الآية 74.
2 سورة النساء، الآية 95.
 
 
 
 
 
 
 
 
64

54

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 إنّ التدقيق في كلمات هذه الآية الشريفة، يُمكِّننا من تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول من المؤمنين: وهو قسم معذورٌ، لم يُوجَّه إليه التَّكليف بالجهاد بسبب هذا العذر، يقول الله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...﴾1 حيث إنّ هؤلاء، وبسبب نقصٍ في الأعضاء أو الحواس أو غيرها من القوى، أو بسبب الفقر وشظف العيش والضيق لا قدرة لهم على الجهاد المالي أو البدني ضد أعداء الله والدين. وبالتالي يعذرهم الله تعالى عن الحضور والمشاركة في جبهات القتال.
 
القسم الثاني من المؤمنين: يمتلكون القدرة على الجهاد المالي والبدني، لكنّ الجهاد ليس واجباً عينياً عليهم، ومن هذه الجهة لا يُؤاخذون أو يُحاسبون على تركهم للجهاد وبالتالي لا عذاب ولا عقاب على ذلك الترك.
 
القسم الثالث من المؤمنين: هم من لهم القدرة المالية والبدنية على جهاد الأعداء ويُوفّقون للعمل بهذه الفريضة الكبيرة.
 
إنّ المراد من المجاهدين الذين فُضّلوا في الآية على القاعدين، هو هذا القسم الثالث، بينما المراد من القاعدين هو القسم الثاني. لأنّ الجهاد لو كان واجباً عينياً عليهم وتركوه فإنهم سيكونون مورداً 





1 سورة البقرة، الآية 286.
 
 
 
 
 
 
 
 
65

55

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 للمؤاخذة، لأنَّ تارك الجهاد مُستحقٌّ للعقاب، لكن الآية الشريفة قالت بأن للقاعدين أيضاً أجراً وثواباً، وعبّرت بهذا التعبير: ﴿...وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى...﴾1 وهذا معناه أن هناك ثواباً للقاعدين لكنّه أقل من ثواب المجاهدين.

 
الآية الثالثة:
يقول الله تعالى ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾2.
 
تشير هذه الآيات إلى أحد المسائل العقائدية والثقافية التي وردت حول الحج في زمن صدر الإسلام. فالحجُّ كان له أهميةٌّ كبرى في نظر المسلمين والمشركين على حدٍّ سواء. والذين كانوا يتولون عمارة البيت الحرام "الكعبة" والقيام بمهمة سقاية الماء للحجيج وضيافتهم، كانت لهم مكانة ومنزلة اجتماعية خاصة، غير أنهم أصيبوا بالعجب والغُرور لتولِّيهم أمر العمارة أو السقاية, بل كانوا يعدّون أنفسهم طبقة أفضل وأرقى.



1  سورة النساء، الآية 95.
2 سورة التوبة، الآيات 22-19.
 
 
 
 
 
 
 
66

56

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 ولقد رفض الله تعالى في هذه الآيات، مباهاةَ وافتخارَ هؤلاء الأفراد بأعمالهم، وعلَّم المسلمين درساً مفادُه: بأَنَّ هذه الأعمال التي أصبحت سبباً للعُجب والغُرور عند البعض، ليست لها عند الله أي قيمة مهمَّةَ, ولا ترقى إلى مستوى عمل أهل الإيمان بالمبدأ والمعاد وأهل الجهاد في سبيل الله.

 
لكن يجب أن لا ينخدع أحد بقيمةِ مثل تلك الأعمال والمقامات والمناصب التي قد تعتبر سبباً للأفضلية. إذ كيف يمكن أن تكون قيمة مثل تلك الأعمال معادلةً ومساوية لقيمة الإيمان والجهاد في سبيل الله؟ خصوصاً وأن هذه الأعمال والمناصب كانت تحت عهدة أفرادٍ مشركين، ظالمين، فاسدين، بعيدين عن الهداية الإلهية.
 
فمقام المجاهد عند الله تعالى لا يرقى إليه أحد، إذ يُبشَّر من قبل المولى بالرضوان والجنات، والخلود وأعظم الدرجات.
 
الآية الرابعة:
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1.



1 سورة التوبة، الآيات 89-86.
 
 
 
 
 
 
 
 
67

57

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وهذه الآيات كسابقتها حيث وعدت المجاهدين بالفلاح والخيرات والفوز والجنات العظيمة.

الآية الخامسة:
يقول الله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1.
 
هذه الآيات أيضاً كالآية الأولى، تحدثت بلسان المعاملة والتجارة والشراء والبيع لتكون أكثر قابلية للفهم في أذهان الناس. في هذه المعاملة، المشتري هو الله عز وجل والثمن هو الجنة والنعم العظيمة مقابل الجهاد بالروح والمال من المؤمنين وهذا عهد ووعد إلهي نزل في الكتب السماوية وليس هناك من هو أوفى بوعده من الله عز وجل.
 
من هذه الجهة يجب أن لا يكون هناك أي ترديد أو شك في هذه التجارة، فهي تجارة مربحة وإذا ما أتم المؤمنون معاملتهم هذه بنجاح فإنهم سوف ينالون الفلاح والسعادة الأبدية الكبرى والفوز العظيم.
 
والمحصِّلة النهائية من كل الآيات التي ذكرناها, أن الله تعالى قد وعد المجاهد في سبيله بنعم أخروية عظيمة جاء التعبير عنها



1 سورة التوبة، الآية 111.
 
 
 
 
 
 
 
68

58

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 بألفاظ عالية المضامين مثل: (الأجر العظيم - الفوز العظيم - المغفرة - الرحمة - الدرجات - الخيرات - المفلحون- الرضوان - الخلود - الحب الإلهي...) وكلها تعابير تبيّن عظيم أهمية وفضل الجهاد عند الله تعالى وموقعه القوي في الدين الإسلامي.


2- البشارة بالنعم الدنيوية:
وقسم آخر من الآيات القرآنية، وبتعابير مختلفة أعطى, وعداً إلهيا للمجاهدين في سبيل الله بالفوز بنعمٍ دنيوية ليكونوا على علم ويقين بأنَّ جهادهم وسعيهم سوف يثمِرْ أيضاً في هذا العالم، فيتحوَّلُ هذا الوعد الإلهي مُحفِّزاً ودافعاً لهم إلى متابعة أعمالهم الخطيرة بجديةٍ أكبرَ، واتخاذ قراراتهم المصيرّيَة بيقين وبصيرة.

طبعاً، إذا لم يتوفّر في الجهاد الدافع الإلهي ونية أداء التكليف وقصد التقرّب إلى الله، وكان الدافع إلى العمل هو الدافع المادي والدنيوي فإن هكذا عمل وجهاد ليس له أيةُ قيمة تُذكر في الإسلام. فحقيقة أنّ كل عمل خال عن نية القرب والرضا الإلهي لا قيمة له قد ورد التأكيد عليها وتأييدها في روايات عديدة، فقد ورد:
"أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغزى علياً عليه السلام في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته فقال رجل من الأنصار لأخ له: اغزُ بنا في سرية علي عليه السلام لعلنا نصيب خادماً أو دابة أو شيئاً نتبلَّغُ به، فبلغ النبيَّ قولُه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

59

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 غزا ابتغاء ما عند الله عزّ وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى"1.

 
وكثير من الروايات التي مفادها أن من يُقاتل من أجل الحصول على مال أو كسب ثروة ويُقتل في تلك المعركة فإنه سوف يكون (قتيل المال)، وورد أيضاً في رواية أخرى وصف (قتيل الحمار) حول رجل قُتل في المعركة انتقاماً لحماره!.
 
فالوعدُ الإلهي بالنعم الدنيوية والمادية يمكن أن يكون مُؤثِّراً في عمل وسلوك كثير من الناس ويُقويِّ لديهم الدافع والمُحرِّك من أجل الحرب ضد الأعداء، لذلك لم يغفل القرآن الكريم عن ذكر هذا العامل وأعطى وعوداً بتحقيق ثمارٍ دنيويَّة.
ومن الموارد التي ذكر فيها القرآن هذا العامل, ما ورد في بعض الآيات من قبيل:
أ- خاطب الله المسلمين والمجاهدين بقوله تعالى: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا...﴾2.
ب- ثم في آية أخرى قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾3.





1 بحار الأنوار، ج 67، ص 212.
2 سورة الفتح، الآية 20.
3 سورة الفتح، الآية 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
70

60

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 ج- وفي آية ثالثة قال تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾1.

 
ففي هذه الآيات إشارة واضحة إلى وعد بالنعم الدنيوية ﴿...مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا...﴾2 ، وكذلك الوعد بالفتح والدخول إلى المسجد الحرام والوعد بالنصر وما يترتّب على هذا النصر من أمان وازدهار، ورفاه واستقرار.
 
الإنذار من عذاب الله
القرآن الكريم وكما استفاد من أسلوب التبشير والترغيب في حثّ المجاهدين، أشار أيضاً إلى أسلوب الإنذار أو التهديد فأنذر المتخاذلين من عذاب الله الشديد وعقابه الأليم في دار الآخرة. وحذّرهم من تبعات الخذلان وعواقبه وما يرافقه من الابتلاءات والمصائب في الحياة الدنيا.
 
ويكمن سرُّ أسلوب الإنذار أيضاً ـ وكما ذكرنا في أسلوب التبشير ـ في أنَّ كثيراً من الناس قد تتحرّك الدوافع لديهم أكثر، عند ذكر المُرهبات والمُرغّبات الدنيوية لأُنسهم الشديد بها من خلال تلمُّسها وحضورها أمام أعينهم، فتتحرّك لديهم الدوافع لما يرونه ويلمسونه من آثارها، أكثرَ من تحرُّكهم لذكر المرغِّبات أو المرهِّبات بالنِّعم والمصائب 



1 سورة الصف، الآية 13.
2 سورة الفتح، الآية 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
71

61

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الأخروية إذ إنَّها غيرُ محسوسةٍ لهم وليست تحت مشاهدتهم.

 
وها هنا بعضُ من النماذج القرآنية التي ذُكر فيها هذا العامل:
الآية الأولى:
قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾1.
 
إنّ لحنَ هذه الآية الشريفة يحمل تهديداً شديد اللهجة، فالله تعالى يُنذرهم من خراب المستقبل ويحذرهم من السخط والغضب الإلهي في حال كان التقصير أو الإهمال في أداء التكاليف ناتجاً عن تقديمهم حبّ العائلة والمال والتجارة على القتال، فيحذِّرهم من ترك أمر الجهاد المهمّ مقابل التعلقات الماديةِ وحبّ الرَّاحة.
 
فنستنتج من هذه الآية أنه لو أصبح حب تلك المسائل الدنيوية أكثر من حب الإنسان لله وأدّت هذه التعلّقات الدنيوية إلى اتباع القلب لها وتَرْ ك الجهاد في سبيل الله، عندها فلْيتوقَّع هذا الإنسانُ أو هذه الأمة غضب الله والعواقب الوخيمة جزاء خذلانه وتركه لواجب الجهاد.
 
إنَّ أدنى مراتب الحبِّ الإلهيِّ عند المؤمن, هي أن لا يكون حبُّ



1 سورة التوبة، الآية 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
72

62

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الله تعالى في قلب هذا المؤمن أقلَّ من حبِّه للأشخاص الأقرباء أو أشيائه المادية. وهل يُعقل من مؤمن بالله تعالى أن يحبّ سيّارته، وماله، أكثر من حبه لله تعالى؟ السيارة والمال مكانها في الكاراج وفي البنك لا في قلب المؤمن، لأن قلبَ المؤمن هو عرشُ الله، وما وسعتني أرضي ولا سمائي، لكن وسعني قلب عبدي المؤمن.

 
طبعاً في درجات أهلِ الإيمان العليا, قد يصلُ الإنسان المؤمنُ إلى مرحلةٍ لا يرى فيها وجوداً سوى الله تعالى، ولا محبوباً في قلبه غير الله عز وجل. نعم في هذه المرحلة تعلُّق قلبُ المؤمن بالموجودات الأخرى إنما يكون تحت شعاع الحب الإلهي وفي ضمن دائرته.
 
الآية الثانية:
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾1.
 
إنّ هذه الآيات هي خطابٌ لفريق من المؤمنين ضعيفي الإيمان، أو للمنافقين الذين يدَّعون الإيمان ظاهراً، وقلوبهم متعلِّقة بقوة بالدنيا والمادياتِ، ويظهرون العلل والأعذار حين صدور أمر الجهاد في سبيل الله من أجل أن لا تضيع عليهم تلك الماديات.



1 سورة التوبة، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
73

63

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الله تعالى يخاطب هؤلاء في تلك الآيات بلحنٍ ممزوجٍ بالعتاب:

لماذا تلتصقون بالأرض عند إعطاء الأمر بالجهاد ولا تتحركون إلى ساحات القتال؟
هل رضيتم بالتخلي عن السعادة الأخروية الخالدة مقابل متاع أيام قلائل في الحياة الدنيا؟
 
ثم يتوجّه الخطاب الإلهي إلى المؤمنين محذِّراً: إن لم تنهضوا لقتال الأعداء وتسارعوا إلى الجهاد فإن الله سوف يبتليكم ويعذبكم ويستبدل بكم غيركم ليكونوا أنصار دينه ومجرى لتحقُّق العدالة والإرادة الإلهيّة بقتل الكفار والمشركين بأيدي هؤلاء المؤمنين.
 
الآية الثالثة:
يقول الله تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾1.
 
تتوجّه هذه الآية إلى الذين يملكون القدرة على إنفاق أموالهم في سبيل الله، وبالتالي القدرة على تقوية الخطوط الخلفية للجبهة، فيحيوا في نفوس الجهاديين المتواجدين على خطوط الجبهة الأمامية الأمل بالنصر على الأعداء.


 

1 سورة محمد، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
74

64

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 لكن هؤلاء ومع عظيم خطر هذه المسؤولية، يبخلون ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعني الجهادُ الماليُّ لهم شيئاً.

 
ومن الواضح أنه في صدر الإسلام وفي زمن نزول هذه الآية كان أكثر الإنفاق والمساعدات المالية تُصرف من أجل تأمين وتغطية مصاريف الحرب والجهاد في سبيل الله، وكان المسلمون حينها في حاجة شديدة وضرورة أكيدة إلى تأمين مثل هذه المصاريف من أجل تحقيق انتصار الإسلام الحاسم على الكفر.
 
إنّ الله تعالى يخاطب هؤلاء الذين يبخلون بإنفاق أموالهم، ويحذّرهم من إجراء سنة الاستبدال فيما لو بخلوا ولم ينفقوا، إذ يستبدلهم الله تعالى بقوم لا يبخلون، بل يبذلون الأموال في سبيل الله بكل شوق ورغبة ونية خالصة، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..﴾1.
 
وهذه أيضاً من الآيات المتعلِّقة بالجهاد والتي تدل على حقيقة واحدة وهي أن المسلمين لو بخلوا ولم ينفقوا أموالهم في سبيل الله ولم يسعوا لتأمين تكاليف الحرب ضد الأعداء فإن النتيجة الطبيعية لمثل هذا الإمساك والبخل هي انتصار العدو في الحرب، وبالتالي سوف يقع المسلمون تحت قمع وعذاب هذا العدو، وستتلف أموالهم وتضيع.



1 سورة البقرة، الآية 195.
 
 
 
 
 
 
 
75

65

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وبناءً عليه: إنَّ البخلَ وعدمَ الإنفاقِ في سبيل الله ليس في نفع المسلمين على كل الصعد خاصة من الناحية الاقتصادية، لأنه سيجعل أموالهم وأرواحهم وأعراضهم وحرماتهم وماء وجههم وعزتهم وشرفهم ودينهم, تحت سلطة العدو المنتصر، وعندها لن يبقى لهم لا مال ولا شرف، ولا دنيا ولا آخرة أيضاً، فكل ذلك سوف يفنى ويهلك فيما لو بخلتم وأمسكتم عن الإنفاق, وسيكون سبباً طبيعياً ومباشراً لأن يُهزم المجاهدون وينتصر العدو لا سمح الله.

 
أسلوب المدح والثناء
من الأساليب الترغيبية والتبشيرية التي استفاد منها القرآن الكريم من أجل إيجاد روحية القتال في المجاهدين وتحريك الدافع فيهم إلى الجهاد هو أسلوب (المدح والثناء على الجهاديين، وفي هذا المضمار نشير إلى هذه الآية على سبيل المثال، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1.
 
إنّ هذه الآية تنطق بحقيقة أن الارتداد عن الدين وعدم العمل بالتكاليف الإلهية من قبل المسلمين لن يضر الله شيئاً، لأن الله تعالى غني عنهم وسوف يحقِّق ما يريده بواسطة أناس آخرين, يتمتّعون 



1 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
76

66

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 بصفات خاصة تمثل جوهر المدح لهم: فالله يحبهم، وهم يحبونه، أهل تواضع ولين مع المؤمنين، وأهل بأس وعزة، وغلظة وشدة على الأعداء والمعاندين للحق.

 
هم أهل الجهاد في سبيل الله، وأهل الصبر والثبات متى ما ساءت الأحوال واشتدت الظروف، أو حتى فيما لو هُزموا في جولة من جولات الحرب. لا يخافون لومة لائم، ولا يعبأون بالسخرية والشتيمة، ولا يتأثّرون بالاستهزاء والوقيعة، لأنهم في طريق الحق على بصيرة، لا يجد الهول والفزع، والخوف والوجع طريقاً إلى قلوبهم، بل إنّ كل همّهم وجهدهم قد صُرف إلى أداء التكاليف وإطاعة الأوامر الإلهية التي ائتمنوا عليها.
 
ثم يعدهم الله تعالى في ذيل الآية, ونتيجة مواجهتهم لكل تلك الأمور وتحمّلهم للصعاب, بأن يجعلهم مورداً للعناية الإلهية الخاصّة ومحلاً للفيض والكرم السّماوي. ولذا فإنّ الله تعالى قد ذكر المجاهدين في هذه الآية بلسان مدحٍ خاصًّ ووصفهم بخصائص مميزة جداً، ولعل أرفع تلك الخصائص قيمة هي أنهم: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾1.
 
لذا من الطبيعي أن يكون لمثل هذا الخطاب النوراني تأثيراً عميقاً جداً في روحية المؤمنين والمسلمين، ويكون مشجِّعاً ومرغِّباً لهم على الجهاد والقتال ضد أعداء الله.



1 سورة المائدة، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
77

67

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 أسلوب التوبيخ واللوم

ثمّة أسلوب آخر من أساليب الإنذار التي خاطب الله تعالى بها المسلمين، وجعله دافعاً ومحفِّزاً لهم إلى الجهاد, وهو توجيه التوبيخ واللّوم للذين يتساهلون أو يَضعفون في أداء تكليف الجهاد ضد الأعداء، بل وأحياناً يُضعِفون الآخرين عن المشاركة في القتال، يقول الله تعالى عن هؤلاء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾1.
 
إنّ هذه الآيات تشير إلى فئة من الناس كانت موجودة بين المسلمين، وكان يُعدّ الحضور في الجبهة صعباً وثقيلاً عليهم، وعلاوة على أنهم كانوا يتجنّبون المشاركة في الجهاد ويعتذرون عن المشاركة بألف سبب وعذر، كانوا يلعبون دور المبطئ والمثبِّط عن التوجه إلى القتال، ويُخوّفون المجاهدين ويُضعفونهم، بل ويمنعونهم لو استطاعوا عن الذهاب إلى الجبهة.
 
ثم لو انهزم المسلمون في الحرب وأصبح بينهم الشهيد، والجريح والأسير، ينبري هؤلاء للقول: بأن الله أكرمنا بحيث لم يبتلنا بما



1 سورة النساء، الآيات 73-71.
 
 
 
 
 
 
 
78

68

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 أصابكم، فلو ذهبنا إلى الجبهة لكنا قتلنا أو جرحنا كما حدث لكم لكن الله نجّانا من هذه المصائب!

 
وأما لو انتصر المسلمون على الأعداء، وأصبحت القضية في مصلحة المسلمين المجاهدين ثم شاهد هؤلاء الغنائم، فإنهم ينبرون للقول: يا ليتنا وُفّقنا نحن أيضاً للمشاركة في الحرب ورُزقنا مثل هذا النجاح الكبير. ولكن هل منعهم أحد عن الحضور في الجبهة؟ أم أنه لا علم لهم ولا خبر، بوجود ساحة حرب وقتال وبأنّ هناك جبهة جهاد وشهادة؟
 
لقد بيّن الله تعالى حالات هؤلاء القاعدين وفضح إدعاءاتهم، ووبّخهم على تركهم الجهاد، ولامهم على سعيهم بأشكالٍ مُنافِقة إلى اختلاق الأعذار لترك الجهاد، بل إنهم يجدون التّوجيه المناسبَ في كلا الحالتين سواء في حالة انتصار المسلمين أم في حال هزيمتهم.
 
وفي آية أخرى وردت المذمّة الإلهية لأولئك الذين يخافون ويستوحشون من المشاركة في الجهاد، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾1.




1 سورة النساء، الآية77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

69

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 ففي مرحلة الدعوة في مكة, لم يكن الجهاد حينها تكليفاً ملقىً على عاتق المؤمنين ولم يُتعرض وقتها لموضوع الجهاد بأي خطاب نبوي, بل كان جلّ الهم هو العمل على تربية هؤلاء المؤمنين وتزكية نفوسهم. وفي تلك المرحلة اعترض بعض المسلمين على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه: لماذا لا يقوم وينهض لمواجهة المشركين وقتالهم ؟ ولماذا لا يُعطي الإذن بالجهاد؟ ثم إن الكثير من هؤلاء المعترضين أنفسهم، وعند صدور الأمر بالجهاد فيما بعد، أخذوا يُفتِّشون عن الأعذار ويتحجّجون بعلل مختلفة ليمتنعوا عن المشاركة في الحرب وليفرغوا ذمتهم عن العهود السابقة بتحمل المسؤولية وأداء الأوامر والتكاليف الإلهية.


ففي هذه الآية يوبّخ الله تعالى هؤلاء المتخاذلين الذين كانوا قبل صدور الأمر بالجهاد يُنادون بالحرب ومواجهة الأعداء، لكنّهم وبعد صدور الأمر بالجهاد أخذوا يتذرّعون بعلل واهية لكي لا يحضروا في جبهات الحرب والقتال.
 
.
 
 
 
 
 
 
 
80

70

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 المحور الثاني: الأساليب التربوية الخاصة


إن الاستفادة من أسلوبي الترغيب والترهيب أو البشارة والتهديد, يعد من الطرق العامة في دعوة الأنبياء عليهم السلام، ولا خصوصية لهما في مورد الجهاد أو في مورد حثّ وتحريك الدوافع لدى المؤمنين للقتال.

لكن هناك بعض الطرق والأساليب الخاصة بمورد حثّ وتحريك المجاهدين نحو القتال، وردت في القرآن الكريم وسنتعرض لذكرها هنا:
 
 
تحريك حس إحقاق الحق والدفاع عن النفس
واحدة من الأساليب التربوية الجهادية الخاصة التي وَردتْ في القرآن الكريم لدفع المسلمين إلى الجهاد، هي إثارة غريزة فطرية عند الإنسان وهي حس الدفاع عن النفس والعرض والمال والدين، وتحريك حسّ الثأر للمظلومين وطلب القصاص والثأر للدماء البريئـة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

71

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 هذا الإحساس له جذوره الفطرية في طبيعة الإنسان، إذ أن كل إنسان، بل كلّ حيوان ذاتاً, ومن منظار أصل الخلقة, يقف في مواجهة المُعتدين عليه لينتقم منهم، ويدافع عن حقوقه. وفي هذه الجهة وردت بعض آيات الجهاد لجعل هذا الإحساس أكثر قوة وفاعلية وأكثر تحريكاً ودفعاً إلى إحقاق الحقّ والانتقام من الظّالم والمعتدي، وفي هذا المضمار يخاطب الله تعالى المسلمين: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾1.

 
لقد أشار الله تعالى في هذه الآية إلى حقيقة ثابتة في علم النفس وهي الدفاع عن النفس، والتذكير والتأكيد الإلهي على هذه الحقيقة كان من أجل تحريك حسّ الثأر من الأعداء الذين كانوا يهاجمون المسلمين ويقتلونهم ويعتدون عليهم، وحتى لا يتردَّد المسلمون مستقبلاً في حرب عدوّهم والانتقام ممن يقاتلهم ويقتلهم.
 
لقد كان من الممكن أن يُستفاد من تعابير مختلفة في الآية لأجل بيان حكم القتال، كأن يقال مثلاً: (قاتلوا في سبيل الله المشركين) أو (الذين أشركوا) أو (الكفار) ولكن لا يمكن لأيٍّ من هذه التعابير أن يفي ببيان تلك الحقيقة النفسية.
 
واصطلاحاً يمكن القول إن التعبير في هذه الآية بـ ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ...﴾ مشعر بالعلية يعني: بما أنهم يقاتلونكم عليكم أنتم أيضاً أن تقاتلوهم، وهذا تعبير وبيان عن حسّ الثأر الذي سيدفع المسلمين 



1 سورة البقرة، الآية 190.
 
 
 
 
 
 
 
 
82

72

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 للتحرّك والدفاع عن أنفسهم، والتجهيز لمحاربة الذين يحاربونهم انطلاقاً من هذه الحقيقة النفسية وهذا الحس الفطري بالدفاع عن النفس والثأر من الظالم.

 
وفي الآية التي تلتها أيضاً، ورد تعبير: ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾1 وهذا أيضاً فيه تحريك لروح الانتقام عند المسلمين أكثر فأكثر لينهضوا إلى حرب الأعداء بتصميم وجدية أكبر ولكي لا يبخلوا بتقديم أي تضحية في ذلك الطريق.
 
يقول الله تعالى: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾2
 
ففي هذه الآية الشريفة يدعو الله تعالى المسلمين إلى قتال المشركين الذين نكثوا الأيمان والعهود التي التزموا فيها بعدم التعدّي عليكم أو التعرّض لكم، فهم الذين أخرجوا نبيكم وقائدكم وأجبروه على الرحيل من مكة مهاجراً إلى المدينة تاركاً وراءه بيته وعائلته وكل ما يملك.
 
وهم أيضاً الذين بدأوكم بالحرب، وعليه لم يبقَ أمامكم مع هؤلاء طريق إلا الحرب والقتال، لذا عليكم أن تقاتلوهم بكل شجاعة وأن لا تخافوا منهم لأن الله أحق أن تخشوه.



1 سورة البقرة، الآية 191.
2 سورة التوبة، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
83

73

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 والملفت أنه قد أشير إلى هذه الحقيقة النفسية في آيات شريفة أخرى بعبارات أصرح وأوضح، قال تعالى: ﴿...وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾1 و ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾2.

 
إنّ هذه الحقيقة النفسية قائمة على إشباع روح الانتقام من أعداء الله، لأن في قتالهم شفاءٌ لصدور المؤمنين، وإخراجٌ للغيظ والغضب من قلوبهم فتصبح باردة، فرحة بقتل العدو والانتقام من ظلمه وتعديه.
 
وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...﴾3.
 
ففي هاتين الآيتين الشريفتين يُذكّر الله تعالى المسلمين بأحقّيتهم في قتال الأعداء، وأنّ المشركين لا يستحقون إلا المواجهة والحرب، وذلك لسببين:
الأول: أن المشركين هم من بدأوا الحرب أولاً.
الثاني: أن المشركين هم من اعتدوا على المسلمين وظلموهم، خاصة أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم وأهلهم وشرّدوهم وعذبوهم من دون ذنب أو جرم، إذ أنّ ذنبهم كان بأنهم وحّدوا الله 



1 سورة التوبة، الآية 14.
2 سورة التوبة، الآية 15.
3  سورة الحج، الآيتان 39 - 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
84

74

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وعبدوه، وهذا ذنب كافٍ لكي ُيصبّ الظلم على المسلمين بكل أنواعه.


بل ولقد أردف القرآن هذا التعليل، بالإشارة إلى أنّ الله تعالى، الذي لا يرضى بالظلم، سوف يمدّ المؤمنين بمددٍ يمكّنهم من الانتصار على ظالميهم.

وبناءً على ما مرّ: كانت أول مرحلة من المدد الإلهي لهم، هو صدور الإذن بالجهاد والدفاع كما ورد في الآية الشريفة، وطبعاً إن النصر سوف يكون مكتوباً ومُشرّعاً لهم بناءً على الوعد الإلهي لمن ينصره، ولم يُعطِ الله تعالى الإذن بالجهاد والدفاع فقط، بل أكّد على المجاهدين أن يُبادروا هم إلى الهجوم على الأعداء وأن يقودوا حرب الدفاع عن أنفسهم ومقابلة العدو بالمثل متنبهين إلى حقيقة هذا العدو الذي أخرجهم من ديارهم وأبعدهم عن أهلهم وشرّدهم من دون ذنب، فأيقظ الله تعالى في روح المجاهدين وفي قلوبهم غريزة الدفاع وطلب القصاص وحسّ الثأر ليكون دافعاً باطنياً عميقاً لهم للنهوض وعدم القبول بالذل والهوان.

دفع الظلم عن المستضعفين
إنّ تحريكَ العواطف والأحاسيس تجاه المستضعفين والمظلومين، هو أسلوب آخر من أساليب التربية الجهادية الخاصة في القرآن الكريم. وإنّ العواطف الإنسانية ليس لها بحد ذاتها أي قيمة (لا سلباً ولا إيجاباً)، فهذه العاطفة بنفسها ليست مورداً للمدح أو الذم لأنّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

75

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 قيمتها تتبَعُ لطريقةِ الاستفادة منها والهدف الذي تُحرَّك نحوه.

 
فكما يمكن لأي إحساس أو عاطفة أن تكون في المسير الصّحيح وأن تعمل في إطار الشرع والعقل، من الممكن أيضاً أن تكون تلك الأحاسيس والعواطف في مسار غير صحيح، فيبتعد الإنسان بها عن الخطّ المستقيم وعن أحكام الشّرع والعقل.
 
واحدةٌ من العواطف الإنسانية هي: عاطفةُ الإنسان تجاه أهله وأقربائه وخاصّته، وهي تُصنَّف ضمن العواطف الإيجابية الجيدة والمطلوبة، فكل إنسان يريد الخير والسعادة لأهله. والقرآن الكريم استفاد من هذه العاطفة ليجعل منها مُحرِّكاً للجهاد ومُقوِّياً لإرادة المسلمين ودافعاً لهم إلى حرب الظالمين والمستكبرين، الذين ظلموهم وأهلهم وخواصَهم، فكان هذا الترغيب لقتال الظالمين من جهة، ولحماية المستضعفين والمظلومين من جهة أخرى، كما ورد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾1.
 
ففي هذه الآية عتاب ولوم إلهي للمسلمين، إذ إنها تقول لهم بلسان العتاب: لماذا لا تحاربون الأعداء؟ ألا ترون هؤلاء الأعداء يظلمون


 

1 سورة النساء، الآية 75.
 
 
 
 
 
 
 
 
86

76

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 أهلكم وخواصكم من النساء والرجال، والأطفال الصغار، هم لا يرحمون أحداً منكم؟ ألا تسمعون صوت أنينهم ووجعهم، وصراخ استغاثاتهم؟


في الواقع إن ذكر هكذا مطالب إنما يهدف لتحريك تلك الفطرة الإنسانية، وأحاسيس الأخوة والمحبة بين المسلمين، مما يدفع بالمسلمين إلى التحرّك لتحرير هؤلاء المستضعفين من قيد الظلم والظالمين، وتقديم الحماية والمساعدة للذين لا قدرة لديهم - منفردين - لأن يدافعوا عن أنفسهم، بل هم بحاجة إلى من يساندهم ويساعدهم على التحرر من قيد المشركين المستكبرين، والكفار الظالمين.

بيان أهداف الجهاد المقدّسة
واحدة من الطرق التربوية الخاصة التي ذكرها القرآن الكريم لأجل تحريك المجاهدين ودفعهم إلى ساحة العمل هي بيان الأهداف السامية والمقدّسة للحرب والجهاد، وعلى رأس تلك الأهداف هو (التحرّر الإسلامي).

إن معرفة هذه الأهداف والاطلاع عليها يقوِّي دافع القتال لدى المجاهدين، وتصبح سبباً لأن يَرِد المقاتلون إلى ميدان الحرب ضد الأعداء بروحية مطمئنة ونفس عازمة مصممة، غير قلقة أو متزلزلة. ومن جملة الآيات التي أشارت إلى هذا الأسلوب هذه الآية
 
 
 
 
 
 
 
 
87

77

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الكريمة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾1.

 
وقد تكرّرت نفس هذه العبارة في الآية 39 من سورة الأنفال لكن مع تفاوت، فبعد كلمة ﴿الدِّينُ﴾ أضيفت كلمة ﴿كُلِّهِ﴾.
 
لقد بيّن الله تعالى في هذه الآية هدفَ الجهاد، وهو استئصال الفتنة ونشر الإسلام وتثبيت حاكمية دين الله في الكون، لتكون هذه الأهداف هي الدّافع والمُحرّك للمسلمين إلى الجهاد والقتال، فإن المسلمين إذا ما عرفوا حقيقة أن القتال ضد أعداء الإسلام سوف يجرّ هكذا نتائج مهمة، فإنهم سوف يتوجّهون وبشكل أكيد إلى الحرب بقلوب عاشقة ومتحمسة، ويبذلون كل سعيهم وجهدهم، بل ويتحمّلون كل مشقات الحرب من أجل تلك الأهداف السامية.
 
المجاهدون وسيلة لتحقّق الأهداف الإلهية
ومن الأساليب القرآنية الخاصة في تربية المجاهدين، ما يشير إلى حقيقة عميقة وسامية وهي أنّ المجاهدين في سبيل الله هم واقعاً أيادي الله، ووسائل تتحقّق بها الأهداف الإلهية، وبعبارة أعمق: المجاهدون هم مجرى تحقُّق الإرادة الإلهية.
 
إنَّ استيعاب هذه الحقيقة، والتوجّه إلى هذا النوع العميق من المعرفة، لزيادة الوعي عند المجاهدين واطّلاعهم بحساسية عملهم وأهمية موقعهم، ما يجعلهم أكثر إقبالاً على الحرب وأصبر



1 سورة البقرة، الآية 193.
 
 
 
 
 
 
 
88

78

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 على تحمّل العذابات والابتلاءات التي تكون غالباً فوق طاقة تحمّل الأشخاص العاديين، بل إن المعرفة بهذه الحقيقة وعلو هذا المقام تجعلهم يستنزفون كل طاقاتهم في سبيل تحقيق الهدف الإلهي.

 
وهذه الآية الشريفة يمكن أن تُعد من مصاديق هذه الحقيقة، وإشارة إلى هذا الأسلوب الخاص في تربية القرآن للمجاهدين، قال الله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾1.
 
وهذه الآية تعني أن أيديكم أصبحت بمنزلة يد الله، وأن عملكم هو عمل الله عز وجل.
 
وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾2.
 
فالآية تشير إلى حقيقة أن المجاهدين هم وسيلة لتحقّق الإرادة الإلهية، وأن الله سبحانه وتعالى يُعذب الكفّار بواسطة الأيادي الجهادية التي تقاتل العدو.



1 سورة الأنفال، الآية 17.
2 سورة التوبة، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
89

79

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 المحور الثالث: مُثبطات الجهاد وطرق معالجتها



مدخل
هناك دائماً عوامل تلعب دور المانع والعائق عن الحضور في جبهة الحرب والجهاد، والقرآن الكريم - وأثناء تربية الجهاديين - لم يغفل عن تنبيههم إلى تلك العوامل المثبطة، بل أوجد علاجات وتعاليم خاصة لإزالتها.

فلكلّ حرب - سواء أردنا أم لم نرد - ضحاياها وعذاباتها، وآلامها وخسارتها، من تلف العنصر البشري والإنساني إلى المآسي الاجتماعية... الخ، ومثل هذه الحوادث القاسية والأحداث الأليمة في الحروب تصير - عادة - سبباً لخوف أكثر الناس من المشاركة في الحرب.

قلة قليلة تلك التي تتحمّل العذابات والآلام، بل حتى أنها تتقبّل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

80

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 القتل في سبيل الله وتراه فوزاً وفلاحاً، فلا يؤثّر القتل والجرح سلباً على مسيرتها، لأنها تتوجّه إلى الحرب متجاوزةً كلَّ تلك الحوادث المؤلمة، وتتابع الجهاد في سبيل الله بكلِّ ثبات وصبر.


القرآن الكريم، ولكي يُبعد الآثار السلبية لمثل تلك الحوادث والمصائب، ولكي يُزيل الوساوس الشيطانية من طريق المجاهدين نبّه إلى كل تلك الحوادث واحدة تلو الأخرى، وذكر لكل منها علاجاً حتى لا يبقى لها أيّ أثر سلبي يمكن أن يكون مانعاً للمسلمين عن أداء تكاليفهم والمشاركة في الجهاد والحضور في الجبهات، ونشير هنا باختصار إلى بعض تلك العلاجات.

الوعد بالتعويض عن الخسائر
إنّ الفقر المالي والحرمان الاقتصادي النّاشئ من الحروب، يشكِّل عنصراً أساسياً في رفض فكرة الحرب عند كثير من الناس، بل والوقوف ضدها. وهذه المسألة لها واقعها في الأفكار العامة للناس حتى ولو وصلت إلى حدّ غير مقبول، حيث نرى بعض الأمم والمجتمعات تقبل الرضوخ للآخرين والتسلّط على رقابهم والخضوع والذل، مقابل تجنّبهم الحرب مع المعتدين على أرضهم ومائهم ومقدساتهم.

والله تعالى وعد، ومن أجل إحباط عوامل السقوط هذه، المؤمنين المجاهدين بجبران ذلك الفقر، والتعويض عن الخسائر والحرمان الناتج عن الحرب، ومن باب المثال يمكن الإشارة إلى هذه الآية
 
 
 
 
 
 
 
 
92

81

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الشّريفة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾1.

 
تصرّح الآية بأنّ المشركين نجس، ولا يجب أن يقتربوا من المسجد الحرام، وهذا بنفسه مقدمة للحرب من خلال قطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع المشركين، وبالنتيجة سوف يجرّ ذلك إلى الحرمان من بعض المنافع الاقتصادية. وهذه المسألة بحد ذاتها من الممكن أن توجد التزلزل في إرادة المسلمين عند مواجهتهم للمشركين، وبالتالي يبدأ السُّؤال عن فائدة الحرب ومدى الضَّرر الذي يجب تحمّله أو يمكن تحمّله؟
 
لذلك كان الوعد الإلهي للمسلمين بالتعويض عن كلّ خسائرهم، لإزالة كلّ قلق في نفوسهم وإعطائهم الطمأنينة والثقة بالنفس، اللازمة لإتمام مسيرة الجهاد في سبيل الله عز وجل، عندها سوف يغنيهم الله من فضله بتهيئة الظروف المناسبة كإنزال النصر مثلاً فيما لو ثبتوا ونصروا دينه، قال تعالى: ﴿...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾2, وما يستتبع هذا النصر من رفاه وازدهار وأمن واستقرار، دليلٌ على تعويض الخسائر الاقتصادية، فضلاً عن فوزهم بالعزة والهيبة.



1 سورة التوبة، الآية 28.
2 سورة الحج، الآية 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
93

82

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الارتكاز إلى مبدأ القضاء والقدر

يعتمد القرآن الكريم أسلوب التنبيه على حقيقة ارتباط الحوادث والوقائع الحاصلة في العالم بالتقدير والتدبير الإلهي. لذلك، وبعد حصول الحقيقة هذه في القلب، لا تعود المصائب والشدائد مانعاً للمجاهدين عن الاستمرار في الجهاد.

فالمسلمين الذين تربّوا في مدرسة القرآن، يَعلمون أن الله تعالى خَلقَ كل الموجودات وجَعلَها في إطار إلهيٍّ قائم على أساس العدل والحكمة، فلا تخرج أيُّ حادثة في هذا الكون عن ذلك الإطار الذي نظّمه الله تعالى، لذلك فإن ما يُقدّره الله تعالى سيقع حتماً.

وهذا التقدير الإلهي مرتبطٌ بحكمته وعدله، وتيسيره للأمور بما يوافق النظام الإلهي العام والأصلح، لذلك يكون التسليم لأمر الله تعالى عاملاً مهماً في تقوية روحية المجاهدين.

إنَّ مثل هذه الرؤية الكونية وهذا الاعتقاد الصادق يزيل عن الإنسان أي شعور بالقلق والخوف من فقدان المال، أو السلامة، أو الأمن، أو الراحة، أو الطمأنينة، أو الزوجة والأولاد، أو...الخ، فالمؤمن الحقيقي لا يجزع من فقدان كلِّ هذه الأمور بحيث يمتنع - من هول فقدانها - عن المشاركة في الجهاد والحضور في الجبهات.

ولقد كان مجاهدو صدر الإسلام يتمتَّعون بروحيات ومعنويات عالية جداً، ففي الحروب كانوا يتميزون بقوة قلب وشجاعة فائقة،
 
 
 
 
 
 
 
94

83

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 كل ذلك كان بسبب إيمانهم الصادق وتوجّههم الخاص إلى عقيدة القضاء والقدر الإلهي. فهم يؤمنون ويعلمون بأن ما يريده الله تعالى سوف يحدث حتماً، وما هو مقدّر سوف يقع قطعاً، ومع هكذا اعتقاد صادق لا معنى للجزع من أي شيء، أو الهول مما يمكن أن يقع.

 
هؤلاء كانوا يعتقدون بأن أجَلَ الإنسان إذا حان فسوف يموت حتى ولو كان في منزله أو على فراشه بعيداً عن كل الأخطار! أما إذا لم يَحن أجله بعد، فإنه لن يموت حتى ولو كان في ميدان الحرب أوكانت تصب على رأسه نيران المدافع، بل بالعكس سيرجع سالماً معافى.
 
يقول الله تعالى في القرآن حول هذا الموضوع: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾1.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ...﴾2.
 
لو تفحصنا جيداً في الأسس والعقائد الإسلامية الأصيلة، ومددنا النظر إلى هذه التعاليم الإلهية فسوف نجد أن تلك التعاليم مبتنية على أصول علمية متينة، وحقائق نفسية دقيقة، أشار الله تعالى إليها في موارد كثيرة، كالآيات التي ذكرناها سابقاً، ففي تلك الآيات نكات:





1 سورة الحديد، الآيتان 23-22.
2 سورة التغابن، الآية 11.
 
 
 
 
 
 
 
95

84

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 منها أنّ الله تعالى يربي المسلمين على الإيمان بمسألة القضاء والقدر.

 
ومنها أنه يوجّههم إلى آثار معرفة النفس وحالاتها، لأن المسلمين لو اعتقدوا بصدق ويقين بمسألة القضاء والقدر فإن ذلك سيُحوّلهم إلى رجال شجعان، يملؤهم الهدوء والطمأنينة والوقار والسكينة، وسوف تجعل هذه العقيدة منهم أناساً متوازنين سواء في حال الخسارة وفقدان النعم أم في حال النصر ووفرة النعم، وبالتالي لن يبقى أي أثر سلبي لتلك الحوادث والمصائب على نفوسهم، وخاصّة في اتخاذ قراراتهم الأساسية والمصيرية.
 
ويقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾1.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾2.
 
لقد كان بين المسلمين من لا يستسيغ الجهاد، ولا يُحبّذ المشاركة في الحرب، وهؤلاء كانوا يكذبون على المجاهدين بقولهم: إننا لو كنا نقدر على الحضور معكم في الحرب ضد الأعداء لأتينا إلى الجبهات، بل يُقسمون بالله تعالى على إدعاءاتهم تلك!
 
والبعض الآخر كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعفاءهم من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب.





1 سورة آل عمران، الآية 166.
2 سورة التوبة، الآية 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
96

85

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وفريق ثالث كان يرى نصر المسلمين في الحرب سبباً لغمّه وعدم راحته، فلو واجه المسلمون هزيمة وانكساراً وحوادث موجعة، فهذا يُعدّ عندهم سبباً للفرح والسرور، بل كان هذا الفريق يستقبل المسلمين قائلاً: لقد عرفنا قبلاً بأن تلك الحوادث ستصيبكم، ونحن قد احتطنا لأنفسنا ولم نسارع إلى المشاركة في الحرب لذلك فإن الله أكرمنا بعدم إصابتنا بأي مكروه !.


أراد الله تعالى من نبيه الكريم أن يقول لكل تلك الفرق والفئات: إننا لا نخاف من الحوادث المُرّة والمصائب الدنيوية المؤلمة، لأننا نعلم أنها كلها تقع وفقاً للتقدير الإلهي، وطبقاً للقانون الحكيم الذي جعله الله مُسبقاً لهذا الكون، فما يهمنا، سواء عندنا النصر أم الشهادة.

البلاء يشمل الكافر أيضاً ويفيد المؤمن
من جملة المسائل التي ربّى القرآن الكريم عليها المؤمنين المجاهدين، هي الإيمان بأن المصائب المرّة والحوادث الأليمة أثناء الحرب والمعارك لا تختص بالمجاهدين في سبيل الله فقط، بل إن الأعداء أيضاً يواجهون مثل تلك الحوادث المؤلمة ويتوجّعون منها لذلك فإن كلا الطرفين مُشتركان بوقوع المشاكل والحوادث المؤلمة، من الحرمان والخراب وفقدان الأحبة... الخ.

لقد أشار الله تعالى إلى عمومية المشكلات والمصائب في
 
 
 
 
 
 
 
 
97

86

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الحرب وشمولها للجميع، مع مميزات خاصة للمسلمين، وقد أشارت الآية إلى ذلك، قال تعالى: ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾1.

 
وفي آية أخرى يواسي الله تعالى المسلمين بقوله: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾2.
 
فوقوع الجرحى والقتلى، والإحساس بالألم والمعاناة في الحرب وغيرها من الحوادث القاسية، ليست مختصة بالمسلمين فقط بل يشاركهم الأعداء فيها، فلذا يجب عليكم أيها المسلمون أن تتحملوا وتنتظروا اللطف والرحمة الإلهية والنصر والمدد الغيبي، ولا تديروا ظهوركم للجهاد وتُعرِضوا عن الحرب والقتال فيما لو أصابتكم الأحداث المؤلمة، خاصة أثناء احتدام الحرب وحدّة المعارك.
 
وهنا يوجد فارق مهم وأساسي يجعل وضع المسلمين يتمايز عن وضع الكفار، وهذا الفارق في الحقيقة يُشكِّل علامتين إيجابيتين للمسلمين:
الأولى: أن المسلمين في الحرب ينتظرون الإمدادات الغيبية والنصر الإلهي بخلاف الأعداء الذين لا يمتلكون مثل هذه العقيدة ولا ينتظرون مثل هذا الأمل والرجاء من الله عز وجل.



1 سورة النساء، الآية 104.
2 سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
98

87

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الثانية: أن المسلمين ينتظرون الثواب الأكبر من الله تعالى في حال مواجهتهم للمشاكل والشدائد في الحرب أو حتى في حال ارتفاع الشهداء إلى الملكوت الأعلى، فهم يترقّبون بشوق هذا الوسام الإلهي الرفيع وينتظرون الجزاء الكبير والأجر العظيم على الجهاد والشهادة، لكن في المقابل نرى أعداء المسلمين لا ينتظرون إلا العقاب والعذاب نتيجة قتالهم أو موتهم وهلاكهم، وحول هذا الموضوع يقول الله في الآية الشريفة: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾1.

 
وبناءً عليه: لا معنى لأن يخاطر أولئك السائرون على طريق الباطل بكل ما يملكون، فهم لا يتكّؤون على أية قدرة غيبية ولا أمل يلجؤون إليه.
 
بينما المسلمون، إما أنهم ينتظرون النصر الإلهي في هذه الدنيا، وإما أن قلوبهم معلقة بالرحمة الإلهية والثواب الكبير على الجهاد والشهادة في الآخرة.
 
لكن على الرغم من وجود هذه الثقافة الأصيلة والعميقة، نرى بعض المسلمين لا يتحمّلون شدائد الحرب ويتخلّون عن المشاركة في



1 سورة التوبة، الآية 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

88

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الجهاد تجنّباً لتلك الشدائد والمصائب، أفلا يلزم - على من لديه مثل هذه العقيدة: (فوز في الدنيا وفوز في الآخرة) - أن يكون دافعه للجهاد في طريق الحق أقوى من دافع أولئك الذين يقاتلون ويحاربون المسلمين من أجل الباطل؟!


توضيح حقيقة الموت والشهادة
لا شك ولا ريب أنّ أخطر مسألة في الحرب وأقلقها للنفوس هي مسألة الموت والقتل، أو ما يعبِّر عنه (بالمصير). ولخطورة هذه المسألة أعطى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بها، فهي حقيقة من أكثر المسائل التي تشغَلُ القلوب في الحرب.

وقد سعى القرآن الكريم إلى التقليل من فزع الإنسان من الموت، والتخفيف من هول القتل في نفسه خاصة في ميدان الحرب، وعمل على إزالة هذا الخوف والفزع بالكامل، ولأجل ذلك طرح القرآن الكريم دروساً وتعاليم خاصة كعلاج لهذا الخوف.

محدودية العمر وحتمية الموت
هذه المسألة مرتبطة بالإيمان والمعرفة بعقيدة القضاء والقدر ومدى رسوخها في ثقافة المؤمنين. فمع التوجّه إلى هذه العقيدة نعرف أن لكلٍّ منا عمراً محدوداً، وسوف يموت حينما يحين أجله المقدّر فقط، سواءٌ أكان يحارب في الجبهة أم كان نائماً في فراشه!
 
 
 
 
 
 
 
100

89

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وبالمقابل، إنَّ أي إنسان لم يحِن أجله بعد ولم ينته عمره، فسوف يبقى حياً تحت أي ظرف كان وفي أي مكان وُجد.

وبناءً على هذه التعاليم الإسلامية الإلهية، إذا كان عمر الإنسان قد انتهى وأجله قد حان فلا فائدة من تجنّب الذهاب إلى جبهة الحرب لأنّه بذلك لن يستطيع أن يُجنب نفسه الموت المقدّر، وأمّا إذا لم يكن قد انتهى عمره ولم يحن أجل موته بعد، فلا معنى أيضاً للخوف من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب. وحول هذا الاعتقاد، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً﴾1.
 
وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾2.
 
فمع التوجه إلى هذه الآيات التي تحدّثت حول موضوع الجهاد كان الخطاب الإلهي للمسلمين، أن لا تخافوا من الذهاب إلى الجبهة والمشاركة في الحرب والجهاد في سبيل الله، لأن موت أي أحد منكم تابع للإرادة والإذن الإلهي.
 
بعد انتهاء معركة أُحُد ادّعى فريق من المسلمين ـ ضعيفي الإيمان ـ بأن هزيمة معسكر الإسلام وقتل مجموعة من المسلمين كان سببه الرئيس هو سوء تدبير قادة الجيش الإسلامي وعلى رأسهم النبي


 

1 سورة آل عمران، الآية 145.
2 سورة آل عمران، الآية 154.
 
 
 
 
 
 
 
 
101

90

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

  الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ودعواهم كانت: بأنه ما كان ليُهزم جيش الإسلام ويقتل هذا العدد من المجاهدين لو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقادة جيشه كانوا قد تشاوروا معهم، فجاءت هذه الآية كجواب من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء المُدّعين، قائلة لهم: مشاركتكم أو عدم مشاركتكم في تدبير أمور الحرب سواء، لأنه لا قدرة لكم على تغيير مصير القتلى والشهداء، ولا دخل لكم في زيادة أو نقصان عدد الخسائر، فموت وحياة البشر تابع للإرادة والتقدير الإلهي والأمر كله بيد الله عز وجل ولذا لا معنى لتوجيه اللوم إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الآخرين في أمر القتلى والشهداء.


طبعاً ليس الأمر بمعنى أن لا نُجازي أو نُعاقب الأفراد الذين يتجاوزون حدود تكاليفهم ولا يأخذون المشورة الواجبة عليهم، أو فيما لو كان هناك شخص مُطّلع على الأوامر وامتنع بشكل متعمّد عن أداء تكلفيه في الحرب، أو ارتكب خيانة لا سمح الله.

وليس المقصود هنا أيضاً إنكار ضرورة التأمّل والتدبير، والتفكّر والتخطيط قبل اتخاذ القرارات العملية، بل المقصود هو إلفات المسلمين إلى حقيقة أن كل الحوادث والوقائع التي تحدث في عالم الطبيعة والتكوين ومن جملتها موت الإنسان كلها تابعة للتقدير والتدبير الإلهي الحكيم واضع نظام هذا الكون وخالق هذا الوجود.

و بناءً عليه لا معنى للخوف من الموت ولا يجب أن يجد الخوف
 
 
 
 
 
 
 
 
102

91

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 والفزع من الموت طريقه إلى قلب الإنسان، يقول الله تعالى في آية شريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1.

 
لقد أراد الله تعالى تنبيه المؤمنين إلى أن كلامكم هذا يُشبه خطاب الكافرين وهو لا يليق بكم أيها المؤمنون! ويريد الله تعالى منكم أن لا تُفكروا بمنطق الكفار والكافرين، لأن منطقكم هو المنطق التوحيدي الذي تعملون على أساسه، بوظائفكم إلى الحد الذي تسعه وتتحمله قدراتكم، وتعتقدون بصدقٍ أن المُقدَّر لكم من الله هو الذي سيقعُ حتماً سواءٌ أكان الموت في الجبهة أم الرجوع والبقاء أحياء.
 
هكذا إيمان وهكذا رؤية سوف تكون سبباً لأن يقتحم المؤمنون الحرب بدون تردّد أو تزلزل بل يَرِدُون الجبهة بنفوس مطمئنة، وإرادات قوية، وإيمان بعقيدة صلبة راسخة يواجهون المقدّر لهم والمكتوب عليهم.
 
نعم، إن المنطق الخاطئ والرؤية غير الصحيحة للكفار كانت نتيجتها دائماً الحسرة والندم، والتأسّف والألم، بل وحيرتهم في النتائج التي يَجنونها لأنفسهم، فهم يتساءلون دائماً لماذا حدث هذا؟ وكيف صار ذلك؟ ويا ليتنا فعلنا كذا ولم نفعل كذا!



1 سورة آل عمران، الآية 156.
 
 
 
 
 
 
 
 
103

92

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 الموت انتقال إلى حياة أهنأ

درسٌ آخر من تعاليم القرآن الكريم لمواجهة الخوف من الموت وهو:
تذكير المؤمنين والجهاديين في سبيل الله بحقيقة أن الإنسان عندما يموت أو يقتل، لا يفنى وينعدم، الموت هنا ليس معناه الفناء والانعدام، بل هو مقدمة لحياة أخرى جعلها الله لأولئك المؤمنين والجهاديين حياة نِعَمٍ إلهية وملذات، وسعادة وفيوضات، لا حدّ لها ولا نهاية.

إنّ الكافر الذي يعتبر الموت انعداماً وهلاكاً سوف يتجه إلى ميدان الحرب بصورة مترددة ومتزلزلة، يملؤه الهول من القتل والوحشة من الموت، أما المؤمن فهو يتوجّه إلى الجبهة عاشقاً لنيل مقام الشهادة، وينتظر لحظة الانتقال إلى الحياة الأبدية التي كلها لذائذ ومسرّات. وكما عبّر أمير المؤمنين في توجيهاته للمجاهدين: "أعر الله جمجمتك"1 يعني: لا تأبه لروحك وسلِّمها لخالقها.
 
بهذه العقيدة سوف ينتصر المجاهد على نفسه الخائفة من الموت ويندفع نحو الشهادة، وبهذه العقيدة أيضاً سوف يتحمل هذا المؤمن المجاهد في سبيل الله كل ضغط ومشقة. فلا طريق للخوف إلى قلبه لأنه يعلم أنه لو قتل أثناء سيره في الطريق الإلهي بيد الأعداء فهو سيحظى بمقام الشهادة التي يراها فوزاً عظيماً وهدية إلهية قيّمة.





1 نهج البلاغة، الخطبة 11.
 
 
 
 
 
 
 
104

93

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 العقيدة كان يتسلّح المسلمون والمؤمنون المجاهدون أمام الأعداء، وبهذا المنطق القاطع والمحكم كانوا يقارعون كل الكفار والمشركين، هذا المنطق الذي بيّنه القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾1.

 
فعلى أساس هذا البيان الإلهي يسير المجاهدون في سبيل الله على أمل النصر أو الشهادة، وفي كلا الأمرين فوز ومصلحة لهم:
- ففي نصر المسلمين والغلبة على الأعداء مصلحة الإسلام والمجتمع الإسلامي.
- وفي الشهادة والقتل في سبيل الله فوز بالسعادة الأبدية الدائمة وبالرضوان الإلهي.
 
وفي المقابل سوف يكون النصر في الحرب والهزيمة أيضاً منشأً للخسران والشقاء، والتعاسة والبلاء للأعداء في الحياة الأخرى.
 
فبالنصر الظاهري للأعداء على المسلمين لن يُكتب لهم إلا العذاب والعقاب الأخروي، وبسببه سوف يتابع المنحرفون سَيرهم في قطع الطريق إلى الله ومحاربة تعاليم الأنبياء، ومحاولتهم إفناء الدين لأنهم عطشى للمنصب والسلطة، وبالتالي لن ينتظر هؤلاء في الآخرة غير العذاب والعقاب.



1 سورة التوبة، الآية 52.
 
 
 
 
 
 
 
105

94

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وأما في حال انتصار المؤمنين المجاهدين في هذه الحياة الدنيا على الأعداء، فمن جهة أحيائهم -أي أحياء الأعداء - فإن النتيجة هي الحرمان من التمتع بالدنيا كما يريدون، ومن جهة أمواتهم وقتلاهم فإنّ مصيرهم النار والعذاب الأبدي في الآخرة.

 
وعلى كل حال، وبأي نتيجة انتهى الصراع، الفائزون حقيقة هم المؤمنون دنيا وآخرة، والخاسرون هم الكفار والمشركون قُطّاع الطريق إلى الله دنيا وآخرة أيضاً.
 
مصير الشهيد
إنّ الشهداء والقتلى في سبيل الله لا يموتون، بل هم أحياء يتنعمون في جوار الرضوان الإلهي، يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾1.
 
تبيّن الآية أنه ليس من الصحيح إطلاق اسم الأموات على هؤلاء الشهداء والقتلى في سبيل الله لأنهم وبكل ما لكلمة (حيّ) من معنى، هم الأحياء حقيقة وهم الفائزون واقعاً.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾2.





1 سورة البقرة، الآية 154.
2 سورة آل عمران، الآيات 171-169.
 
 
 
 
 
 
 
 
106

95

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 تعتبر الرؤية القرآنية الشهداءَ أحياءً حقيقة، وإن كانوا قتلى وأموات ظاهراً، لأنهم ينعمون بأعلى مراتب ودرجات الحياة الحقيقية والملذّات الواقعية، والحياة الدنيوية بكل ملذّاتها غير قابلةٍ للمقايسة مع حياة الشهداء وملذّات ذلك العالم الأبدي، كيف ونحن في هذه الحياة الدنيا لسنا سوى ساعين نحو السعادة والملذات؟ وهل هناك لذة وسعادة أرفع وأسمى من أن ينال الإنسان الرضوان الإلهي وينعم بالرزق الرباني؟!!


إن معرفة المسلمين لهذه التعاليم القرآنية وترسيخها في عقولهم وقلوبهم وتربية المجاهدين على معرفة المقام السامي للشهيد والمكانة الرفيعة للشهادة، ومعرفتهم بمعنى حياة الشهداء والرزق الإلهي، كل ذلك سيكون علاجاً ناجحاً لمرض القلق من الموت، بل إنه سيطرد هول الموت من قلوب هؤلاء الجهاديين، ويكون باعثاً لهم إلى عشق الشهادة، والاقتحام على الأعداء بلا خوف على أرواحهم وسيُحوّلون هذا العجز والضعف في النفوس إلى قوة وحماس، وجرأة واندفاع.

ويمكن هنا أن يخطر بالذهن سؤال، بأنه إذا كانت الحياة بعد الموت لا تختصّ بالشهداء فقط، بل كلُّ البشر سوف يحيون بعد الموت ويذهبون إلى الحساب الإلهي، فلماذا إذن جعلنا الموضوع خاصاً بالشّهداء؟
 
 
 
 
 
 
 
107

96

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 وللجواب عن هذا السؤال نقول إنه، نعم، صحيح أن كلتي مرحلتي ما بعد الموت (الحياة البرزخية والحياة الأخروية) ليست مختصة بالشهداء فقط، بل هي حياة عامة لكل الناس، لكن هذه الحياة ليست هي نفسها وبمرتبة واحدة للكل. فالبعض له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالعذاب والحسرات، والبعض الآخر له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالسعادة والملذات، يقول الله تعالى عن أهل المعاصي والتعدّي على الحدود الإلهية، الذين سوف يكون مصيرهم إلى النار: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى﴾1.

 
و في آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾2.
 
وفي آية ثالثة قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾3.
 
ففي الوقت الذي نعلم فيه أن هؤلاء العصاة أموات لا إدراك ولا إحساس لهم، فإن الآية تثبت لهم حياة عذاب ومشقة، بحيث إنهم يتمنّون الخلاص منها ويخاطبون ملك العذاب بقولهم: ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ لأنهم يرون أنَّ الموت آلاف المرات أفضل من حياة العذاب هذه.



1 سورة طه، الآية 74.
2 سورة الأعلى، الآيات 13-11.
3 سورة الزخرف، الآية 77.
 
 
 
 
 
 
 
108

97

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 فمن هنا يمكننا أن نفهم المراد من تلك الآيات التي تتحدّث عن حياة أخرى، ويمكننا أن نفهم معنى حياة الشهداء وأنهم ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1، فبعد الموت والرحيل عن هذه الدنيا سوف يكون الشهداء أمام حياة برزخية وأخروية سعيدة، وسوف يلقون جزاء عذاباتهم وسعيهم ومجاهدتهم. حياتُهم هناك كلّها لذة وسعادة، خصوصاً أولئك الذين لم تتعلّق قلوبهم بمتاع الدنيا وجاهدوا أنفسهم بمشقة، وراقبوا أعمالهم وأدّوا تكاليف خالقهم، وهم صُفوة هذا الخلق من ﴿...النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾2.

 
وفي الحقيقة أننا لو أردنا المقايسة بين الحياة البرزخية والأخروية وبين الحياة الدنيوية فأقل ما يمكن قوله إنه لا يمكن إطلاق كلمة (حياة) على العالم الدنيوي، لأن الحياة الحقيقية والصادقة ليست إلا في الآخرة، فهي حياة خاصة بالإنسان الكامل والنزيه ـ خاصة الشهداء الذين هم مورد بحثنا ـ حياة خالصة صافية من الكدورات والمشقات، يقول الله تعالى: ﴿وَمَاهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾3.
 
بناءً على كل ما تقدّم نرى أن الشهداء عندما يسقطون ويسيل دمهم ويفوزون بمقام الشهادة في سبيل الله، لا يموتون حقيقةً، بل 





1 سورة آل عمران، الآية 169.
2 سورة النساء، الآية 69.
3 سورة العنكبوت، الآية 64.
 
 
 
 
 
 
 
 
109

98

الفصل الثاني: أساليب تربوية في بناء الشخصية التعبوية

 ينتقلون إلى حياةٍ أكثرَ خلوداً ونعيماً، حياةٌ تكون الدُّنيا بكلِّ زينتها وملذّاتها وبريقها كألعوبة قياساً بالحياة الأخروية.


لكن صدقاً: هل سيشعرُ من يمتلكُ هذه العقيدةَ الصادقة وهذا الإيمان الجازم بأدنى قلق أو اضطراب من الموت، أثناء المعركة!
 
 
 
 
 
 
 
 
110

99

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 المحور الأوّل: المدد الإلهي وأنواعه


مدخل
إنّ النصر النهائي في الحروب التي يخوضها البشر، وبمقتضى الحكمة الإلهية، سوف يكون حتماً لصالح الحق والحقيقة وأنصارهما.

يبشّر الله تعالى في القرآن الكريم أهلَ الحق، ومن أجل ترغيب وتشويق المسلمين إلى الجهاد، وفي ضمن الوعد بالنعم الدنيوية والأخروية، بالنصر النهائي، لكن يرد السؤال من هذه الجهة: بأنه كيف سيتحقّق انتصار الحق وأهله كما هو مقتضى الحكمة الإلهية ومقتضى الوعد والبشارة في القرآن الكريم؟

قد تخطر على ذهن أحدنا هذه الإجابة مباشرة: بأنّ الانتصار النهائي للمؤمنين وأهل الحق سوف يكون مُيسّراً بواسطة الإمدادات الغيبية الإلهية والتسديدات
 
 
 
 
 
 
 
 
113

100

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الربّانية، لكن هناك سؤالٌ آخرٌ يطرح نفسه هنا هو التالي:

هل التأييد والنّصر الإلهي لأهل الحق مُطلق لا قيد ولا شرط فيه؟ أم أن هذا النصر مشروط بشروط وقيود يلزم على المؤمنين معرفتها أولاً، ورعايتها والعمل بها ثانياً؟ وما هي طرق تحقق تلك الإمدادات والتسديدات الإلهية؟ وللإجابة على هذا السؤال, سنقوم بالتحقيق في الآيات الواردة في القرآن الكريم حول هذا الموضوع. بداية يمكننا أن نقسّم الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية إلى قسمين كلّيين:
القسم الأول: المدد الباطني.
القسم الثاني: المدد الظاهري.

الإمداد الباطني
هذا القسم من الإمدادات والتسديدات الإلهية له جنبة باطنية روحية نفسية، بمعنى أن الله تعالى يتصرّفُ في روح وقلب المؤمنين بحيث يجعل أنفسهم تحت تأثير الإحساس بالقدرة والمساندة الإلهية والاطمئنان بالنّصر, مما يهبهم روح الأمل ويرفع من معنوياتهم.

بهذه الروحية يمكن أنْ يرى المؤمنون الأعداءَ ضعفاء - على الرغم من كثرة عديد العدو وتطور عتاده وتجهيزاته المتفوقة ظاهراً - غير عابئين بقدرة هذا العدو الظاهرية لأنهم أصلاً لا يرونها 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

101

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 شيئاً، وهذا ما يدفع المجاهد ويشجعه على اقتحام الخطر والهجوم على الأعداء.


يؤثّر الله تعالى بواسطة هذا النوع من الإمداد الغيبي المستقيم في روحية الأعداء وفي نفوسهم أيضاً، مما يجعلهم يتصرّفون برعب وخوف، ويَرَوْن أنفسهم عاجزين وضعفاء وهم يشاهدون في المؤمنين والمسلمين صُوَر الاقتدار والقوة، مما يزيد إحساس المؤمنين بصدقية الوعد الإلهي.

وبالنتيجة: من الطبيعي أن تكون تلك الحالة الروحية والنفسية عند العدو في إحساسه بالضعف من جهة، وإحساسه بقوة المسلمين من جهة ثانية، سبباً لتقهقره وانكساره.

الإمداد الظاهري
هناك قسم آخر من الإمدادات والتسديدات الإلهية له جنبة خارجية ظاهرية، وهو بمعنى تهيئة بعض الظروف والحوادث في العالم الخارجي التي تصب في مصلحة نصر المؤمنين وهزيمة العدو. وقد أشار القرآن الكريم إلى شواهد على كلا هذين القسمين من الإمدادات الإلهية. وسنذكر هنا ثلاثة شواهد قرآنية على القسم الأول وشاهدين على القسم الثاني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115 
 

102

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الشواهد القرآنية على الإمداد الباطني

 
1- قذف الرعب في قلوب الكفار والأعداء:
واحدة من طرق الإمداد الباطني والروحي التي ينصر الله تعالى بها أهل الحق ويهزم بها أهل الباطل هي: إلقاء الرعب وإيجاد الخوف في قلوب الكفار والمشركين، بمعنى أن يُسيطر الرعب والخوف على نفوس الكفار في ميدان المعركة، ما يصيبهم بالاضطراب والقلق بحيث يفقدون القدرة على البقاء في الميدان.
 
وهذا الانهزام النفسي يؤدي إلى عدم الثبات في مواجهة المسلمين, فيُفضّلون الفرار والانهزام على الالتحام مع أهل الحق.
 
لقد ذُكر هذا العامل المهم والمدد الروحي في أربعة موارد من القرآن الكريم بشكلٍ مؤكدٍ وقاطع.
 
ففي موردين يَعِد الله المسلمين بأنّه سوف يُرعِب قلوب أعدائهم أثناء المعركة لسلب الشجاعة والجرأة منهم على قتال وحرب المسلمين.
 
وفي موردين آخرين تتحدَّث الآيات الشّريفة عن إرعاب وتخويفٍ مُسبَق للأعداء ليكون ذلك عاملاً مساعداً لغلبة المسلمين، ونكتفي هنا بالمرور على الآيات القرآنية مروراً سريعاً:
يقول الله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

103

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾1.

 
وفي آية أخرى يُبيّن الله تعالى عامل انتصار المسلمين بهذه الصورة، حيث يقول تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾2.
 
وتحدّثت آية ثالثة عن ذلك المدد الربّاني الذي كان سبباً في انتصار المسلمين وهزيمة الكفار، قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾3.
 
وفي آية رابعة إخبار آخر عن إلقاء الرعب، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ 


 

1 سورة آل عمران، الآية 151.
2 سورة الأنفال، الآية 12.
3 سورة الأحزاب، الآيات 25 - 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
117

104

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾1.

 
2- إنزال السكينة والطمأنينة على قلوب المؤمنين:
وههنا طريق آخر من طرق الإمداد الغيبي الباطني، وذلك بأنْ يُنزل الله تعالى السكينة على قلوب المؤمنين, مما ينعكس على نفوسهم طمأنينة وهدوءً. والآيات التي تحدثت حول هذا الموضوع يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
أ- آيات مختصة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
وفيها إخبار عن السكينة والطمأنينة التي أُنزلت على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله تعالى: ﴿فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾2.
 
ب- آيات تشمل الرسول والمؤمنين:
في هذا القسم من الآيات، يتحدث القرآن عن نزول السّكينة على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين، يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾3.





1 سورة الحشر، الآية 2.
2 سورة التوبة، الآية 40.
3 سورة التوبة، الآية 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
118

105

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾1.

 
ج ـ آيات تختص بالمؤمنين:
هنا تتحدّث الآيات عن إنزال السكينة والطمأنينة على قلوب المؤمنين، من دون ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾2.
 
و في آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾3.
 
3- المدد الغيبي وارتباطه بالنفس:
وهناك طريقٌ ثالثٌ من طرق الإمداد الغيبي الباطني, وهو عبارة عن التصرّف الإلهي في نفوس المؤمنين, فيجعل أعداد الكفار في نظرهم قلة، وقدراتهم ضعيفة حتى لا يخاف المؤمنون من مظاهر القوة والقدرة عند العدو فيهابوا ويتراجعوا.
 
ومن جهة أخرى, يتصرّف الله في نفوس الكافرين فيجعلهم





1 سورة الفتح، الآية 26.
2 سورة الفتح، الآية 18.
3 سورة الفتح، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
119

106

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 ينظرون باستخفاف إلى معسكر المسلمين ويعدّون جيش الإسلام قلّة وضعفاء، وهذا الاستخفاف يؤثّر في خطط الأعداء الحربية، من عدم نقل السلاح والتجهيزات الكاملة إلى ساحة المعركة وعدم إحضار كلّ الجيش إلى ميدان الحرب، وهذا ما يُوقعهم في سوء تقديرٍ لعدد الجيش الإسلامي وقدراته الحقيقية مما يجرُّهم في النهاية إلى الخسارة والهزيمة.

 
وحول هذا الموضوع يقول الله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ﴾1.
 
الشواهد القرآنية على الإمداد الظاهري
شواهد القرآن الكريم على طرق الإمداد الظاهري يُمكن تقسيمها إلى قسمين:
1- الإمدادات الطبيعية:
وقد أشار القرآن الكريم في هذا القسم إلى عاملين طبيعيين:
أ- الرياح الشديدة:
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ 





1 سورة الأنفال، الآيتان 43-44.
 
 
 
 
 
 
 
 
120

107

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾1.

 
أشارت هذه الآية الكريمة إلى معركة الأحزاب التي كانت فيها الرياح من جملة عوامل النصر للمسلمين والهزيمة للكفار، وفي هذه الآية أُشير أيضاً إلى مدد غيبي آخر وهو إرسال جنود غير مرئيين غير أنّه ليس محل بحثنا الآن، ولكن يُحتمل أن يكون المقصود من الجنود غير المرئيين في هذه الآية أيضاً (الرياح)، لأن الرياح وإن كانت أمراً محسوساً، لكنها تتحرّك بعنوان الجنود الإلهيين وتكون مدداً غيبياً من عند الله تعالى, لإنها لم تكن أمراً معروفاً ومتوقّعاً من قبل البشر.
ب- المطر:
من العوامل الطبيعية للمدد الإلهي والتي أشير إليها ففي القرآن الكريم هو المطر، ففي إحدى الآيات الشريفة تحدّث القرآن حول هذا الموضوع قائلاً: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾2.
 
إنّ هذه الآية تشير إلى أحداث معركة بدر، ففي الليلة التي سبقت





1 سورة الأحزاب، الآيتان 9-10.
2 سورة الأنفال، الآية 11.
 
 
 
 
 
 
 
121

108

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 المعركة أنزل الله مطر رحمته ما جعل الأرض تحت أقدام جيش الإسلام سهلة رطبة فسهّلت لهم طريقة الحركة والتنقّل في الأرض وإجراء المناورات اللازمة في الميدان، إضافة إلى التخلّص من آثار الغبار والتراب التي تعيق الحركة أثناء القتال وتعمي الأعين وتضر بالرؤية البصرية.

 
أما في معسكر الكافرين فقد كان المطر شديداً، مما جعل الأرض تحت أقدامهم موحلة غير مستقرة، فأعاق حركتهم ومناورتهم العسكرية، وكان ذلك عاملاً في هزيمتهم.
 
إن هذا المطر كان للمسلمين نوع إمداد غيبي ورحمة إلهية، ليصبح المجاهدون أكثر فعالية ونشاطاً وأشد حماسة وثباتاً، وكان سبب رحمةٍ خاصة لهم من جهة تحصيل الطهارة والنظافة الظاهرية والروحية وتأمين مياه الشرب وغير ذلك من النعم، وكل ذلك بفضل هذا المدد الإلهي.
 
2- إمدادات غير طبيعية:
أشار القرآن الكريم في معرض حديثه عن الإمدادات غير الطبيعية، إلى عاملين أيضاً:
أ- الجنود غير المرئيين.
ب- الملائكة.
 
يقول الله تعالى حول هؤلاء الجنود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

109

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾1.

 
هذه الآية تطرح عدة احتمالات، فمن المحتمل جداً أن يكون هناك جنود غير مرئيين من غير سنخ الملائكة، لكن الاحتمال الأقوى يبقى في أنّ هذين العاملين غير الطبيعيين هما إشارة إلى مصداق خارجي واحد، وبناءً على هذا الرأي يكون المقصود من الجنود غير المرئيين نفس الملائكة، لا شيئاً آخرَ.
 
لكن يبقى الاحتمال الآخر وارداً, وهو أن يكون المراد من هؤلاء الجنود غير المرئيين هو نفس العواصف والرياح، لأنه وإن كانت العواصف والرياح أموراً محسوسة، لكن عندما تأتي الرياح بعنوان الجند الإلهي والمدد الغيبي لأجل هزيمة العدو وكسر قدرته لن تكون تلك الرياح في تلك اللحظات أمراً متوقعاً ومحسوباً لدى البشر.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 





1 سورة الأحزاب، الآيات 9 - 11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

110

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾1.

 
ولقد صرّح القرآن الكريم في قسم آخر من الآيات, وفي مقام بيان الإمدادات الغيبية, بإرسال الملائكة. والجميل أنه قد صرح أيضاً عن أعدادهم، وكمثال نذكر هذه الآية الشريفة حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾2.
 
تحدّثت هذه الآيات الشريفة عن معركة بدر التي كانت أوّل الحروب الإسلامية، وفي بدايات تشكيل المجتمع الإسلامي حيث كان المسلمون من ناحية العديد والعتاد في أضعف حالاتهم، وقد أشار القرآن أيضاً لهذه الحالة بقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾.
 
ففي مثل هذه الحالة، نجد أنّه من الطبيعي أن يقلق المسلمون من مواجهة معسكر الكفّار بجيشٍ ضعيف, بل كان هذا القلق يكبر عند





1 سورة التوبة، الآيتان 26-25.
2 سورة آل عمران، الآيات 123 - 127.
 
 
 
 
 
 
 
124

 


111

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 مشاهدتهم لجيش العدو وتجهيزاته، لأن الكفار كانوا آنذاك ثلاثةَ أضعاف جيش الإسلام.


لكن الله نادى في وسط هذه الحال رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بأنّني سوف أمدّكم بثلاثة آلاف ملك لنصرتكم، وإذا اقتضى الأمر إرسال المزيد فسنرسله لكم، وفي نهاية المعركة كان النصر للمسلمين في معركة بدر بمساعدة المدد الإلهي بإرسال أفواج الملائكة وتحقق نصر قرّت به أعين المسلمين جميعاً.

ثم تتابع الآيات الشريفة ذِكْرَ سبب النصر والمدد الإلهي موضحة بأن الله تعالى قد كافأ المسلمين نتيجة صبرهم وتقواهم، والنكتة المهمة هنا تكمن في الإلفات إلى أن شرط النصر الإلهي كان هو ثبات المسلمين ورعايتهم لشرط التقوى، وفي صورة تحقّق هذا الشرط فإن الله تعالى وعلى أساس الحكمة والمصلحة الربانية لن يخذلهم ولن يترك نصرتهم.

السرُّ الحقيقي في امداد الغيب
إنّ التأمّل في هذه الآيات, والتدقيق في اسرارالمدد الغيبي, يطلعنا على نكتةٍ بالغة الأهمية.
وهي أن المدد الغيبي الذي ساهم في تحقيق النصر للمسلمين, هو عبارة عن مساعدة وواسطة في النصر. أما النصر الحقيقي, فإن أسبابه وحصوله إنما هو إلهي المنشأ أولاً وآخراً. لذلك يجب 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

112

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 على المجاهدين أن لا يتوجّهوا بقلوبهم وتعلّقاتهم إلى غير الله تعالى.

 
وهذه النكتة أكّد عليها القرآن الكريم في موارد مختلفة، وكان هذا التأكيد لأجل أن لا ينسى الناس أصل التوحيد، وأن يبقى راسخاً في أذهانهم مبدأ: (لا مؤثّر في الوجود إلا الله).
 
ففي الحرب لا مؤثّر حقيقي غير الذات الإلهية المقدسة، والملائكة لا يعملون إلا بأمر من الله عز وجل، ولا استقلال لهم في شيء لا في نصر المسلمين، ولا في أي أمر آخر، إذ أن كل الأمور حقيقة هي بيد الله تعالى، وتسير بأمره تبارك وتعالى.
 
يقول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾1.
 
فهذا المدد الغيبي بإرسال الملائكة, جعل المسلمين أكثر ثباتاً وصلابة في مواجهة أعداء الله وقد تحمّلَ الكفار هزيمة فاضحة



1 سورة الأنفال، الآيات 9 - 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
126

113

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 وثقيلة، بحيث إن تعداد قتلى المشركين في تلك المعركة كان ثلاثة أضعاف شهداء جيش الإسلام، لذا يلزم على المؤمنين أن لا يعتمدوا على غير الله تعالى، وليعلموا أن النصر هو فقط بإذن الله ومن عنده.


وبملاحظة ما ذكرناه سابقاً حول الإمدادات الغيبية الإلهية نفضي إلى ثلاث نتائج عامة:
- النتيجة الأولى: أن الحكمة الإلهية تقضي بأن ينتصر الحق على الباطل، وأن إرادة الله تعالى التكوينية قد تعلّقت بهذا الانتصار النهائي للحق لذلك فهو لا محالة واقع.
- النتيجة الثانية: أنه في كثير من الآيات القرآنية كما جاء الوعد الإلهي للمجاهدين بالنعم كذلك صدر وعد إلهي آخر بانتصار أهل الحق والجهاد على الأعداء.
- النتيجة الثالثة: لقد صرّح القرآن الكريم - على الأقل - بوقوع ستة أقسام من الإمدادات الغيبية وذكرنا بعض الشواهد القرآنية على بعض تلك الإمدادات.

هل النصر حليف المؤمنين دائماً؟
مع التوجّه إلى هذه النتائج الثلاث، يُطرح في المقام سؤال: هل يلزم من ذلك أن يكون النصر حليف المؤمنين دائماً؟

وهل يلزم أن تكون الإمدادات الغيبية إلى جانب هؤلاء المؤمنين
 
 
 
 
 
 
 
 
127

114

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 بشكل مطلق (في كل زمان ومكان وتحت أي ظرف وفي أي حال) أي من دون أي قيد أو شرط؟


وهل بمجرّد أن يتوجّه المؤمنون إلى الحرب يلزم أن ينزل النصر والمدد الإلهي عليهم؟

فلو أجبنا على هذا السؤال: بنعم، فإننا لن نستطيع توجيه الهزائم التي حصلت للمؤمنين في بعض المقاطع التاريخية، وسيكون هذا مورد نقض على جوابنا المثبت!

و لو أجبنا بلا، فسوف يتعارض هذا الجواب السلبي مع الآيات التي أوردناها والتي تحدّثت بشكل قاطع عن وعد الله للمؤمنين بالنصر!

والجواب الصحيح لحلّ هذا التعارض يكمن في فهم سر الحياة الدنيا, وأنه يتقوّم بكون الحياة الدنيا محلاً للابتلاء والاختبار. فالله تعالى خلق الإنسان وأعطاه الحرية والاختيار، وبمقتضى هذه الحرية يختار الإنسان خطّ مسيره في هذه الدّنيا، وفي نفس الوقت أرسل الله تعالى الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين لتعليم البشر على الخير والصّلاح، وكيفيّة الوصول إلى الكمال الإنساني الذي لا يكون إلا عن طريق طاعةِ الله والعبودية له.

والطاعة والعبودية ليس معناهما إلا التسليم المطلق والكامل لله تعالى وعدم الخوف من الشدائد والابتلاءات، والعمل بالأوامر الإلهية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

115

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 وترك نواهيه في كل الظروف.

 
إذاً، فهدف الإنسان الحقيقي في هذه الدنيا هو كسب الرضا الإلهي. ومن الطبيعي أنه كلما كان سير الإنسان لكسب رضا الحق تعالى يستلزم سعياً أكثر ومشقة أكبر، كان تأثير ذلك في كماله أعمق، وإنجازه للعمل أكثر توفيقاً، وسيثمر سيره وسلوكه هذا - برغم المشقات - ثماراً أزكى، ويعطي نتائج أفضل تظل في تزايد ونمو مستمر.
 
والرواية المعروفة "أفضل الأعمال أحمزها"1 عن المعصومين عليهم السلام, تشير إلى هذه الحقيقة.
أما إذا كان بناؤنا على أن المؤمنين يعلمون مسبقاً بأنّهم سوف يفوزون وينتصرون في كل الحروب على الأعداء فلا حاجة للجهاد والشهادة ولا معنى أصلاً للابتلاء والامتحان، بل لن يكون لعناوين التضحية والفداء، والإقدام والإيثار ذلك التأثير العجيب وتلك القيمة السامية، خصوصاً لو ترافقت مع ظروف مرفهة نسبياً وأوضاع مستقرة نوعاً ما، لا يسودها ذاك القلق الكبير والاضطراب العميق.
 
إن الذي يعلم مسبقاً أنه منتصر في الحرب لا محالة مئة في المئة، فإن اندفاعه للحرب لن يكون باعثاً للقلق الزائد، ولن تزعجه



1 بحار الأنوار: ج67، ص191.
 
 
 
 
 
 
 
 
129

116

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 مواجهة أي مشاكل أساسية، وعليه فبقدر انخفاض نسبة المشاكل والشدائد سوف تنخفض في المقابل درجة التكامل.

ومن هنا نستطيع أن ننظر إلى الصورة المعاكسة, وهي الحال التي يكون فيها المجاهد المؤمن وبقدراتٍ مادية متواضعة, غير واثقٍ من الفوز الظاهري, بل يحتمل الخسارة, فإنه وبسبب ارتباطه بالله, يقدم على المعركة باذلاً مهجته وكل ما يملك لأداء التكليف الالهي.

إن مثل هذه الظروف سوف ترتفع بهذا المؤمن المجاهد لنيل أعلى المنازل وأرقى المراتب في جوار الحضرة الإلهية، وسوف يطوي مدارج السلوك المعنوي بسرعة كبيرة، ولعل سرّ عظمة كربلاء وشهداء كربلاء يكمن في هذا الأمر.

إن الأصل في كل أمور وشؤون الحياة هو بأن تجري الوقائع والأحداث طبق قانون العلل والأسباب وضمن مبدأ الاختيار والامتحان ولا خروج عن هذه القاعدة في الحياة الدنيا.

وفي نفس الوقت، ولأن المطلوب الحقيقي هو تحقيق الخير والوصول إلى الكمال. وقد تعلقت الإرادة التكوينية الإلهية بانتصار الحق، فقد جاء التحذير الإلهي للمؤمنين أن لا يتكلوا على أنفسهم وقدراتهم بشكل مستقل في حربهم ضد الأعداء.

نعم، إن الله سبحانه وتعالى قد يتدّخل في الموارد اللازمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

117

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 وبواسطة سلسلة من العوامل الباطنية والروحية، أو العوامل الظاهرية والعلنية الأعم أيضاً من الطبيعية وغير الطبيعية، فيجعلها عز وجلّ في خدمة المجاهدين ومُدبِّرة لأمورهم ليصبح السير الكلي للأمور في النهاية لصالح انتصار الحق وهزيمة الباطل.


لذلك يجب على المؤمنين:
أولاً: العمل دائماً بالتكاليف الإلهية والدينية التي يعرفونها والتي وَصلتهم بشكل يقيني.
ثانياً: في طريق العمل بالتكاليف يجب على المؤمنين الاستفادة من كل النعم المادية والأسباب والوسائل الطبيعية، الواقعة تحت تصرّفهم واختيارهم وأن لا يُقصّروا أو يتكاسلوا في تحصيل أية قدرة تساعدهم على إنجاز وظائفهم وأداء تكاليفهم.

وبعد التوجه إلى العمل بهذين الأمرين الواجبين:
فإن كانت النتيجة هي انتصار المسلمين على الأعداء، وكانت هذه القدرات والإمكانات كافية لتحقق هذا النصر بشكل كامل، فعندها لا حاجة لإرسال الإمدادات الغيبية، لأن المدد الغيبي ليس أمراً عبثياً وإنما يخضع للحكمة الإلهية ولحاجة المؤمن الفعلية.

أمّا لو استفاد المسلمون من كل الإمكانات والقدرات الموجودة وبذلوا كل المساعي والجهود ولم يُقصّروا في تحصيل ما يلزم، لكن بالنتيجة تبيّن أن تلك الأسباب والوسائل المادية والعادية قاصرة 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

118

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 ولا تفِ لبلوغ المقصود وتحقيق الهدف النهائي وهو (انتصار الحق) فعندها يُرسل الله تعالى الإمدادات والتسديدات الغيبية بمقدار الحاجة الفعلية أولاً، وبمقدار اللياقة المعنوية الموجودة لدى المجاهدين ثانياً.


أما فيما لو تهاون وتكاسل المؤمنون في الاستفادة من الأسباب والوسائل الطبيعية ولم يستعملوا القدرات الموجودة تحت اختيارهم، أو فيما لو قصّروا في تشخيص التكليف الصحيح أو العمل به فإنهم في مثل هذه الصورة سوف يفقدون اللياقة والأهلية لاستقبال الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية.

إن حال المؤمنين بالنسبة إلى هذا الموضوع، تماماً كوضع شخص مريض، فتكليف المريض أولاً أن يُراجع الطبيب وأن يعمل وفق أوامره الطبيّة، من أخذه للدواء وتجنبه للأطعمة المضرة والإحتياط في كل الأمور ذات الصلة بمرضه حتى يبلغ مرحلة التحسن والشفاء الكامل.

وأما في حال لم ينفع سلوك طريق الوسائل الطبيعية والأسباب العادية (من مراجعة الطبيب وتناول الدواء...) في شفاء المرض، فعندها من الممكن أن تقتضي الحكمة الإلهية أن يكون الشفاء بسلوك طريق الدعاء والتوسل بالذات الإلهية وبطريق الإعجاز الرباني.
 
 
 
 
 
 
 
132

119

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 لكن المريض الذي يجلس في بيته ويطلب الشفاء من الله تعالى من دون سلوك الطريق الطبيعي والاستفادة من الأسباب العادية التي جعلها الله تعالى فإن مثل هذا المريض لن يَرى أيّ تحسن في حاله ولا أمل له بالشفاء، ولن يجني من ذلك الجلوس في البيت أي نتيجة.


والحاصل في هذا المقام هو أن هناك قاعدة كلية عامة تقول: السنة الإلهية في هذه الدنيا قائمة على أن الأصل في تأمين احتياجات الإنسان هو الاستفادة من الأسباب والعلل الطبيعية والعقلائية، وعدم انتظار المعجزة من البداية لأن الطريقة الإلهية ليست مبنية على الاستفادة من المعاجز في كل زمان ومكان، وليس الأسلوب الإلهي في حل مشكلات العباد هو الطريق الإعجازي دائماً بتوزيع المعجزات يميناً وشمالاً، فمبدأ الإعجاز قائم على أساس الحكمة والمصلحة.

إن الرؤية التوحيدية تفرض علينا الاعتقاد بأن أيّة مشكلة من الممكن حلّها, بطرق عادية, أو بطرقٍ وأسباب إعجازية, غير أن القاعدة الحاكمة في كل هذه الحلول هي قاعدة حاكمية الله تعالى وأنه هو المؤثر الوحيد في كل الأسباب والمؤثرات.

ففي نفس الوقت الذي يلزم على الإنسان أن يستفيد من تلك الأسباب والعلل الطبيعية والعادية يلزم عليه أيضاً أن لا يغفل عن
 
 
 
 
 
 
 
133

120

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 التأثير الإلهي وأن يُبرز الحاجة والفقر دائماً إلى الذات الإلهية وأن يتوسل بالمدد الرباني لإتمام العمل أو حل المشكلات, وأن لا يغتر بنفسه, فيصيبه الغرور والاعتداد بالنفس, وهو مرض روحي قاتل.


وأمّا من ينتظر المدد الغيبي لإنجاز الأعمال وحل المشكلات من دون الاستفادة من الأسباب العادية التي وضعها الله تعالى من قبيل العمل والسعي، وإعمال الفكر والعقل، فهو يسير بخلاف ما أراد الله تعالى وبالتالي لن يصل إلى نتيجة.

فليس صحيحاً أن يجلس الإنسان في بيته ويطلب الرزق من الله تعالى من دون أية حركة أو سعي، أو يطلب المريضُ الشفاءَ من دون مراجعة الطبيب، أو يطلب المؤمن النصر من دون تهيئة أسبابه كشراء السلاح المناسب وإعداد العدّة والتدريب وتجهيز القوة اللازمة، فلو ذهب إلى المعركة من دون الأخذ بالأسباب التي جعلها الله تعالى, فإنه لن يجني إلا الخسارة لإخلاله بالشروط وعمله بخلاف السنة الإلهية واعتماده على سراب.

الخلاصة في الإمدادات الإلهية:
إنّ الخلاصة التي يمكن استفادتها تتجلّى في أنّ الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية للمسلمين أثناء جهادهم ضد الأعداء مشروطة بشرطين كليين:
 
 
 
 
 
 
 
 
134

121

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 ففي هذه الآية التي وردت ضمن آيات الجهاد، دعوة إلهية للمسلمين إلى الإنفاق وبذل الأموال في سبيل الله، من أجل تأمين مصاريف الحرب، ثم تُتبع هذه الدعوة بتعبير قرآني ملفت: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.

 
وفي الحقيقة، إنّ هذه العبارة هي تحذير وإنذار إلهي للمسلمين بأنهم في حال بخلوا ورفضوا الجهاد المالي ولم يقوموا من خلال إنفاق أموالهم بتأمين مصاريف الحرب فإن الهزيمة سوف تنتظرهم، وفي هذه الهزيمة لجيش الإسلام حقيقة مرّة وعاقبة وخيمة: وهي إلقاء المسلمين أنفسهم إلى التهلكة والدمار لأن انتصار الأعداء يعني تسلطهم على رقاب المسلمين وإذلالهم وسحقهم.
 
لذا ومن أجل تجنّب الهزيمة وبالتالي الهلاك، لا بد من النهوض بواجب (الجهاد المالي) لتأمين كل مستلزمات الحرب الاقتصادية.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1.
 
هذه الآية أيضاً وردت في سياق آيات الجهاد التي تُرغّب وتحرّض المسلمين على الإنفاق والجهاد المالي عن طريق القول بأن الأموال التي تُبذل في سبيل الله لن تذهب هدراً بل لها عوض عند الله عز وجل، وسيجزيكم في الآخرة أجر ما بذلتموه، هذا بالإضافة إلى



1 سورة الأنفال، الآية 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
134

122

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 أوّلاً: العمل على الاستفادة من كل قدراتهم المتاحة بين أيديهم في ساحة العمل.

ثانياً: انتظار المدد الغيبي الإلهي والمساعدة الربّانية، في حال لم تفِ تلك القدرات والطاقات الظاهرية في رفع حاجة المسلمين ومشكلتهم، لأنه في تلك الحالة سوف يضع الله تعالى تلك الطرق والأساليب الغيبية في خدمة المجاهدين, وذلك حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية والحاجة الفعلية.

وهذه النتيجة قد أيّدها القرآن الكريم حيث تحدّثت بعض الآيات الشريفة، عن أنّ الإمدادات الغيبية الإلهية ليست مطلقةً بل لها شروطُها وظروفها، ومن هنا ننتقل إلى البحث والتحقيق حول شروط الإمدادات الغيبية الإلهية التي وردت في القرآن الكريم.
 
 
 
 
 
 
 
 
135

123

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الثمرة الدنيوية المهمة التي ستقطفونها ألا وهي أن إنفاقكم هذا سوف يكون سبباً ومقدمة لانتصاركم على الأعداء في الحرب وهذا ما فيه صلاح دنياكم.


إذن، الحث على القيام بواجب الجهاد المالي وعدم البخل في إنفاق الأموال في سبيل الله من أجل تأمين تكاليف الحرب، هو أسلوب قرآني مؤثّر. والذين يبخلون عن الإنفاق ولا يجاهدون مالياً في إدارة الحرب ثم يستغيثون الله ويتضرعون إليه ويطلبون منه المدد والنصر هم في الحقيقة لا يملكون فهماً صحيحاً للقرآن الكريم، ولا معرفة لديهم بتعاليم الدين الإسلامي التي تبتني على أساس قيام الإنسان أوّلاً بأداء تكليفه وبعدها ينتظر المدد، وعلى كل حال، فمثل هؤلاء البخلاء لن يحصدوا إلا الخيبة والخسران في الدنيا قبل الآخرة.

تهيئة المعدّات الحربية والوسائل العسكرية
هذا الشرط مرتبط بالبعد العسكري والحربي، وهو عبارة عن تهيئة المعدات الحربية وتجهيز الوسائل والأدوات العسكرية اللازمة لمواجهة العدو. فالواجب يحتّم على جيش الإسلام إذا ما صمم على حرب وقتال الأعداء أن يكون مُجهزاً بالأسلحة العصرية المتطورة والمناسبة لحرب ذلك العدو، لأن تأمين السّلاح والعتاد والذخيرة وتوفير متطلّبات الحرب الضرورية, له دخل في صنع أسباب النصر.
 
 
 
 
 
 
 
135

124

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 المحور الثاني: شروط المدد الإلهي


مدخل
ذكَر القرآن الكريم إثني عشر شرطاً، يجب على المؤمنين رعايتها بشكل كامل لكي يتحقق الوعد الإلهي لهم بالنصر وبإرسال المدد، وتهيئة هذه الشروط بمنزلة تهيئة الأرضية اللازمة لنزول الإمدادات الغيبية الإلهية. وأما تفصيل تلك الشروط فهي كالتالي:
 
 
تهيئة العديد الكافي
يتعلّق هذا الشرط بالكم، وهو عبارة عن تأمين وتوفير الطاقات الإنسانية أو ما يُسمى (بالعديد البشري). ولبيان هذا الشرط بشكل أعمق وأوضح، نقول: إنه إذا أراد المؤمنون الإقدام على الحرب والجهاد، فلا بد لهم من تأمين المقدار المطلوب الكافي من الطاقات الإنسانية الحاضرة والجاهزة، لأنها تعتبر أول شروط الجهاد وأهم
 
 
 
 
 
 
 
 
137

125

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 أركانه في مواجهة الأعداء، فمع فقدان "العديد البشري" من الأنصار والأفراد هل يمكن مجابهة العدو؟

 
في بداية بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، لم يكن عديد المسلمين آنذاك يسمح لهم بقتال الأعداء، ولهذا السبب أُمِرُوا بتجنب الحرب والصِدام، وهذا ما يستفاد من الوصف الوارد في هذه الآية الشريفة، حيث يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾1.
 
فلقد كان البعض في صفوف المسلمين مستعداً للقتال والحرب, وقبل أن تتهيّأ الظروف المناسبة وتُستكمل شروط الجهاد والقتال، بسبب النقص في العديد أو عدم توفّر القدرات اللازمة كالسلاح والعتاد ونحوها.
 
لكن التكليف الإلهي كان يأمرهم بتجنّب إشعال أي حرب, والاكتفاء بدل ذلك ببناء الذات الإيمانية وإصلاح ما فسد منها، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خاطب الله تعالى المؤمنين بهذه الآية ﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾2.
 
ثم إنَّ الملفت فيما بعد: أن بعض هؤلاء الذين رفعوا شعار القتال وسَعَوا لإشعال فتيل الحرب، وتركوا التكليف الإلهي الذي أمروا به حينها ألا وهو تهذيب النفس، هم أنفسهم تراجعوا بعد 



1 سورة النساء، الآية 77.
2 سورة النساء، الآية 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

126

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 نزول الأمر الإلهي بالجهاد. أي بعد توفّر الإمكانات المطلوبة وبعد أن أصبحت الأرضية مُهيئة والظروف الإجتماعية تسمح بالإقدام على الحرب، أصدر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالجهاد والقتال، فاعترضوا عليه ورفضوه، وتجنّبوا الذهاب إلى ميدان الحرب. فالإذن بالجهاد وصدور الأمر الإلهي بحرب المشركين لم يُعط إلا حينما تمت تهيئة الظروف المطلوبة، ولكن مع مرور الزمن إزداد عديد المسلمين وأصبح الكم وافياً لتشكيل فرق إسلامية محاربة، وتوفرت الإمكانات المالية والعسكرية بشكل أكبر، عندها فقط أُعطي الإذن.


لكن لا بد من الالتفات إلى أن المقصود من هذا الشرط - وهو تأمين العديد البشري - ليس بأن يكون عديد المؤمنين مساوياً لعديد المشركين أو أكثر منه ليكون دخول الحرب جائزاً أو واجباً، إذ أنه هناك عوامل أخرى غير الكم والعديد البشري, تلعب دوراً في دعم ميزان القوى بين الطرفين ولا يجب إغفالها.

فمن الممكن مثلاً أن يكون عديد المؤمنين وطاقاتهم البشرية أقل بمراتب من عديد الكفار وطاقاتهم البشرية, لكن مع التوجه إلى العوامل الأخرى المادية والمعنوية ومع دراسة نقاط قوتها, فإننا سوف نستنتج أنّ قدرة المؤمنين العسكرية والجهادية من حيث المجموع هي أكبر من قدرة العدو الظاهرية، وهذه حقيقة قد أشار
 
 
 
 
 
 
 
 
139

127

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 إليها القرآن الكريم في آية شريفة، إذ قال الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾1.

 
والحاصل من هذا الكلام, أنه مع وجوب تأمين العديد البشري الكافي من المؤمنين، فهو لا يعني أنه يجب أن يكون مساوياً أو متفوقاً على عديد الكفار، إذ لا يمكننا أخذ هذا الشرط (تأمين الكم والعديد البشري) بشكل مطلق، ثم نغفل العوامل الأخرى المؤثرة في صنع النصر، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾2.
 
فلقد نزلت هذه الآية لتحرض المؤمنين على القتال، ولتوضح أن المؤمن الصابر الذي يحمل روحية الإيثار وطلب الشهادة بشكل صلب وراسخ هو في الحقيقة يمتلك أقوى سلاح لمواجهة الأعداء! وهو أثبت من الجبال، بل إن ثباته أرسخ وأعمق من الجذور الضاربة في باطن أعماق الأرض!.
 
إن القرآن الكريم, وبالنظر إلى العوامل والتغيّرات الحاصلة التي قد تؤثر على المؤمنين، قام بخطوات تخفيفية، يقول الله تعالى في
 




1 سورة البقرة، الآية 249.
2 سورة الأنفال، الآية 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

128

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 آية تلت آية التحريض السابقة: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1.

 
ففي الآية الأولى: يُعطي الله عز وجل الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض وترغيب المؤمنين على القتال والجهاد، ولأجل رفع توهم بعض الذين يظنون أن الظرف ليس ظرف حرب وقتال - باعتبار قلة عديد المسلمين أمام كثرة عديد الكفار - أوضح الله تعالى لهم حقيقة مهمة وهي: أنّ مُؤمناً واحداً صابراً، قادرٌ على مواجهة ومبارزة عشرة أشخاص من الكفار وينتصر عليهم.
 
ومن هذه الجهة ولأجل الخوض في الحرب, والأمل بالنصر, يكفي أن يكون عديد المؤمنين عُشر عديد العدو، فوجود هذا الكم من العديد البشري المؤمن كاف للشروع في الحرب بحسب المنطق القرآني (واحد مقابل عشرة) بل هو قادر على تسجيل النصر على الأعداء.
 
وأما الآية الثانية: فهي ناظرة إلى ظروف مختلفة عن ظروف الآية الأولى، إذ إنها مرتبطة بظرفٍ فقَدَ فيه المسلمون الإيمان القوي والإحساس بالقدرة، وأصبحوا أسرى ضعفهم ووهنهم، ولهذا السبب 
 



1 سورة الأنفال، الآية 66.
 
 
 
 
 
 
 
141

129

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 خفّف الله تعالى تكليفهم، وكان الكم المطلوب أن يكون تعداد مجاهدي جيش الإسلام نصف عديد جيش العدو حتى يكونوا قادرين على تسجيل النصر، فكل مجاهد مقابل اثنين من العدو، ويجب أن لا يقلق المسلمون من نقصان الطاقة البشرية وعليهم أن يعلموا أنهم قادرون, وبهذا الكم من العديد البشري, على حرب وقتال الأعداء بل وعلى تحقيق الانتصار.


ومن مجموع تلك الآيات نستفيد: بأن المؤمن إذا ما ارتقى إلى الكمال اللائق، وكان في أوج الإيمان الصادق والاعتقاد السليم لأمكنه - ولوحده - أن يواجه عشرة أضعاف العدو. وأما لو كان هذا المؤمن ضعيف الإيمان فسوف يُراعَى ظرفه النفسي ويخَفّف تكليفه - رحمة إلهية به - ويكون تكليف كل واحد من المؤمنين أن يقابل اثنين من الأعداء، وبالتالي يكفي في هذا الظرف أن يكون عديد معسكر الإسلام نصف عديد معسكر الكفار، ليبقى الأمل بالانتصار قائماً.

أما مع فقدان الكم والعديد اللازم، ومع عدم تهيئة الظروف المطلوبة لا يجب الإقدام على الحرب لأن الأمل بالنصر مع فقدان تلك الشرائط ضعيف جداً، ومع الإقدام سوف يكون ذلك سبباً لهلاك المؤمنين جميعاً من دون أية ثمرة.

الجهاد المالي
يتمحور هذا الشرط حول الشروط الاقتصادية للحرب, من تأمين تكاليف العمليات الحربية وتوفير المنابع المالية لشراء كافة
 
 
 
 
 
 
 
142

130

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الاحتياجات أثناء المعارك. فما لا شك فيه أن لكل حرب ظرفها الاقتصادي من السعة والضيق المالي, وفي بعض الموارد تكون عهدة تأمين بعض تكاليف الحرب على عاتق المسلمين كأمة.

 
ففي بعض المقاطع التاريخية كما في عهد صدر الإسلام، كان المسلمون فقراء ومعوزين إلى حد أن بيت المال كان خالٍ دائماً، فالحاجة والفقر كانا بحجم أن ما يُجمع من المال كان يُصرف بسرعة ويُقسّم بين الناس ليساعدهم على تأمين ضروريات حياتهم الشخصية والاجتماعية.
 
وفي مثل هذه الظروف إذا ما اعتدى الكفار على المسلمين، كان يُضطر المسلمون إلى تأمين تكاليف ومصاريف الحرب من عهدتهم الشخصية، ومن هذه الجهة نرى أن بعض آيات الجهاد كانت تأمر المسلمين مراراً وتكراراً بتأمين تكاليف الحرب من أموالهم الشخصية عبر جمع الأموال والمساعدات فيما بينهم، وكانت الآيات القرآنية تُرغبهم بذلك معتبرة هذا الإنفاق والبذل جهاداً في سبيل الله تعالى، وهذا ما اصطلح عليه (بالجهاد المالي)، ونمر هنا على ذكر بعض الآيات القرآنية التي تحدّثت حول موضوع الجهاد المالي.
 
يقول الله تعالى:﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
 



1 سورة البقرة، الآية 195.
 
 
 
 
 
 
 
 
143

131

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 فلا عيب أو حرج في أن تكون تجهيزات جيش الإسلام العسكرية أكثر كمّاً أو أحدث تطوراً من تجهيزات العدو، بل لا أقل أن تكون تجهيزات المجاهدين العسكرية مساوية لتجهيزات العدو, سواء اقتضى الأمر أن يصنع المجاهدون تلك الوسائل بأيديهم وبحسب قدرتهم وطاقتهم أم اقتضى الأمر تأمينها وتهيئتها من أماكنها ومصادرها بالشراء ونحوه, فالمهم هو الإعداد لما يلزم، يقول الله تعالى حول هذا الشرط: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾1.

طاعة القيادة
إنّ المؤمنين مُكلّفون دائماً بطاعة قادتهم الإلهيين، لكن إطاعة تكاليف وأوامر القائد الإلهي, أو من له حق الحكومة وولاية الأمر على نفوسهم في وقت الحرب أو الأزمات وحين الشدائد أو المشكلات، له خصوصيته وحساسيته وتأثيره المصيري في صنع النصر أو الهزيمة.
 
فإذا لم يكن المجاهدون والمقاتلون متمسّكين بالانضباط العسكري, وأراد كل واحد منهم أن يعمل برأيه بدلاً من إطاعة التكليف الصادر، فعندها لن نرَى المجاهدين صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، بل إنّ التفرقة والحساسيات ستعم محل الوئام والوحدة


 

1 سورة الأنفال، الآية 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
146

132

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 والانسجام، بل إنّها سوف تسبب ضعف وتشتت الصفوف وبالتالي الانكسار والهلاك في الجبهة.

 
ولذلك فإن مسألة (النظم والانضباط العسكري) في جيش الإسلام تعتبر من أهم المسائل, وخاصة في عصرنا الحاضر, حيث تمتاز الجيوش العالمية بانضباط شديد وحازم، وتخضع مسألة الانضباط العسكري لمقررات لا تقبل المسامحة ومخالفتها تؤدي إلى محاكماتٍ وعقوباتٍ شديدةٍ وشاقّةٍ، يقول الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾1.
 
وفي هذه الآية تأكيد على نقطتين أساسيتين:
الأولى: تأكيد على إطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كقائد عام، خاصة أثناء الحرب.
الثانية: تأكيد على وجوب الابتعاد عن الاختلاف، والتفرقة والجدال، وعن كل العوامل التي يُمكن أن تؤدّي إلى فشل المسلمين وكسر شوكتهم.
 
ومن أجل حساسية هاتين النقطتين كان التأكيد الإلهي بوجوب رعايتهما، فإن الطاعة للقائد من جهة، وحفظ الصفوف بالابتعاد عن التنازع وأسباب التفرقة من جهة ثانية، هما من أسباب النصر, وسيؤدي إهمالهما إلى ضعف جبهة الإسلام, بل الهزيمة.
 



1 سورة الأنفال، الآية 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
147

133

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الاستفادة من العلوم العسكرية والفنون الحربية

إن أي تحرّك للمؤمنين في الجبهة من دون حساب دقيق ودراسة واعية لا يُعد جرأة أو شجاعة, بل هو عمل خاطئ, خاصة في مواجهة عدو ظالم ومتعطش لسفك دمائهم.
 
لذا, من الواجب على المقاتلين المؤمنين تعلّم كل فنون وأساليب الحرب، وتنفيذها بحذافيرها والتموضع بحالة الجهوزية التامة، والالتصاق بالسلاح وجعله إلى جانبهم دائماً، حتى لا يُؤخذوا على حين غفلة. فالعدو يترصّد دائماً حالة الغفلة عن السلاح أو عدم الجهوزية لينقضّ على المؤمنين، لذا يُعدُّ بقاء المجاهدين في حالة الجهوزية التامة سبباً لإفشال كل محاولات العدو في الإجهاز عليهم وجعله يائساً من النيل منهم.
 
وعلى المقاتلين أيضاً أن يراقبوا دائماً الظروف المتغيّرة أثناء خوض المعارك لمعرفة الأسلوب المناسب للحرب في هذا الظرف أو ذاك، لتكون ضرباتهم موفّقة وناجحة، فيختاروا تكتيك الحرب المناسب لظرفهم الفعلي: إما حرب عصابات مثلاً أو حرب جيش نظامي, ونحوها من أساليب وتكتيكات الحروب.
 
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا﴾1.
 



1 سورة النساء، الآية 71.
 
 
 
 
 
 
 
148

134

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 معرفة العدو والحذر منه

إنّ هذا الشّرطَ مرتبطٌ بمعرفة المسلمين الدقيقة بعدوهم ووعيهم لمخططاته، والحذر الدائم منه وسوء الظن به.
يجب على جيش الإسلام, وبالخصوص قادته، أن يكونوا في أعلى درجات الوعي والإدراك والمعرفة والاطلاع على كل أحوال العدو وخططه حتى لا يقعوا في فخ مكر وخديعة ذلك العدو، فمن الطبيعي أن يسعى أعداء الإسلام إلى أي عمل أو سلوك يجر المسلمين إلى طريق الهزيمة ويُسهّل عليهم النيل من جيش الإسلام العزيز وتسجيل النصر عليه، وهناك نماذج عديدة من أوجه المكر والخديعة عند العدو:
فمثلاً قد يلجأ العدو إلى إعلان الصلح ظاهراً والدعوة إليه، مُخفياً النية بإدامة الحرب واقعاً بغية تحقيق هدف معين, إما لأجل التخفيف من تكلفة الحرب, وإما لأجل توجيه ضربة عسكرية قاسية وسريعة إلى المسلمين.

أو من أجل تخفيف ضغط الرأي العام فيعلن الصلح ظاهراً, لينخدع الرأي العام بفكرة الصلح فيميل إلى مصلحة العدو.

وبناءً على ذلك يلزم على المجاهدين والمقاتلين جميعاً التنبه والوعي، خصوصاً القادة العسكريين ومسؤولي الفرق.

وعلى القائد العام وبفضل تأثيره على الرأي العام من المؤمنين
 
 
 
 
 
 
 
 
149

135

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 والمسلمين, أن يعمل على فضح أهداف العدو ليحفظ المصالح الدنيوية والأخروية للمجتمع الإسلامي، ويحافظ على جيش الإسلام من الضياع والسقوط في متاهات المؤمرات والخدع.
 
يقول الله تعالى:﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾1.
 
فإلغاء العهد مع هؤلاء كان نتيجة خيانتهم للمسلمين ولا عهد لخائن.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾2.
والخطاب هنا يتوجّه إلى المجاهدين بأن لا تقبلوا السلم لأنكم أنتم الأعلون وأنتم المنتصرون، ولأنكم كذلك, يريد العدو أن يخدعكم بدعوتكم إلى السلم والصلح فلا تنخدعوا بهذه الدعوة.
 
تحصيل المعارف السليمة والعقائد الصحيحة
علّل الله تعالى في الآية 65 من سورة الأنفال التي ذكرناها في سياق بيان الشرط الأول، سبب ضعف الكفار عن مواجهة المؤمنين بأنهم قوم لا يملكون الفهم والإدراك العميق وبأنهم فارغون من المعارف والعقائد الصحيحة والسليمة, فوصفهم تعالى: ﴿بِأَنَّهُمْ 



1 سورة الأنفال، الآية 58.
2 سورة محمد، الآية 35.

 
 
 
 
 
 
 
150

136

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾1. إذاً, وفي المقابل, فإن الصفة التي تميز المجاهدين, هي انهم "يفقهون", أي أنهم مدركون وأذكياء, ورؤيتهم, وعقيدتهم صحيحة.

 
فالكفار يحاربون من أجل الأمور الدنيوية ولأجل كسب السلطة أو المنصب أو الثروة، ولا يلتفتون إلى الأمور المعنوية وإلى عالم الآخرة، ولا يعلمون ما هي نتيجة عملهم وإلى أين سيكون مصيرهم وماذا سيواجهون بعد الموت؟
 
لكن المؤمنين الذين يقاتلون بدافع كسب الرضا الإلهي، وبنية التقرب من الحضرة الإلهية, يعلمون بالتحديد ما هي نتيجة أعمالهم وأي مصير سيلاقون، ويَرَوْن المستقبل أمامهم مشرقاً وواضحاً، فهم يعلمون أنهم الفائزون دائماً سواء وُفقوا لتحقيق النصر الظاهري أم لم يُوَفقوا.
 
وفي المجموع يمكن أن نفهم من مفهوم ومنطوق هذه الآية الشريفة أن عامل القوة في المؤمنين هو امتلاكهم للفهم العميق والعقيدة الصحيحة، وفي المقابل فإن الفكر المنحرف والعقائد الملوثة والخرافية هي عامل الضعف والهزيمة عند الكفار.
 
وبناءً عليه يمكن القول بأن زيادة معرفة وعلم المؤمنين بدينهم وعقيدتهم هي في الحقيقة زيادة في قوتهم وقدرتهم، لذلك هم
 



1 سورة الأنفال، الآية 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

137

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 مُكلّفون بتجهيز الأسلحة والعتاد الحربي كمقدمة للنصر، كما هم مكلّفون أيضاً بزيادة ثقافتهم وعلمهم ومعرفتهم أكثر، لأن هذه المعارف هي مصدر قوة ضروري وأساسي للمؤمن المجاهد.

 
التحلّي بالتقوى
في هذه الآية الشريفة يقول الله تعالى: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾1.
 
بناءً على ما تقدّم في هذه الآية الشريفة, يُعدّ امتلاك التّقوى والطهارة الروحية شرطاً أساسياً وضرورياً للذين يُعلّقون قلوبهم بالإمدادات الغيبية الإلهية، إذ ليس صحيحاً أن يأمل المؤمنون المساعدة الغيبية من الله تعالى وهم بعيدون كل البعد عن التقوى واللياقة المعنوية.
 
التحلّي بالصبر والثبات
لقد ورد في الآية السابقة وصف للصبر حينما يقول تعالى:﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ وورد أيضاً وصف في آيات أخر حيث يقول الله تعالى:
 



1 سورة آل عمران، الآية 125.
 
 
 
 
 
 
 
152

138

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾1.

 
﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.
 
في كلا الآيتين تأكيد من الله تعالى على صفة الصبر التي تشكِّل شرطاً ضرورياً يجب أن يتحلَّى به الجهاديون والمقاتلون في سبيل الله، فبالصبر والثبات يرتفع المجاهدون إلى مستوى اللياقة المعنوية ليكونوا أهلاً لإرسال المدد الغيبي والنصر.
 
في موارد أعمّ من موارد الحرب, أصرّ القرآن الكريم على هذا العنوان وأكّد عليه كثيراً فيما يقرب من سبعين مورداً، لكن أوصى وكلّف بالصبر والثبات خاصة في الحرب والجهاد في سبيل الله لما لهما من الدور الفعال والأساسي في تحقيق النصر على الأعداء.
 
التوكّل على الله والثقة المطلقة به عز وجل
لقد أعطى الله تعالى صفة التوكل عليه والثقة به اهتماماً خاصاً, برز من خلال العديد من الآيات التي تتحدث عن الجهاد.
 
وخلاصة القول, إنه يجب على المؤمن أن يتوجه إلى حقيقة واحدة
 



1 سورة الأنفال، الآية 65.
2 سورة الأنفال، الآية 66.
 
 
 
 
 
 
 
153

139

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 وهي: أن النصر والفتح هو فقط من عند الله تعالى، فالمجاهدون وفي عرض استفادتهم من الأسباب والعلل المادية، يجب أن لا يغفلوا عن العون والمدد الإلهي، وأن لا تتعلّق قلوبهم بتلك الوسائل الماديّة بظن أنها تكفيهم وتغنيهم عن التوسّل بالله عز وجل، بل اللازم هو الاتكال على الله تعالى فقط مع استفادتهم من كل الإمكانات والقدرات المادية واستعمال الأسلحة والعتاد الحربي.

 
لكن الأهم في كل الأحوال: هو أن لا يَرَوْا مؤثِّراً حقيقياً غير الله تعالى، بل يبقى توكلهم معقوداً على الله تعالى فقط واعتمادهم على لطفه وعنايته, ثم فلينتظروا مدده ونصره لأنّ الأمور كلّها بيد الله.
 
وههنا نموذج تاريخي لأثر الغفلة عن الله تعالى, وهو ما حصل مع المسلمين في معركة حنين، ففي هذه المعركة وُجِّهتْ ضربة قاسية للمسلمين بسبب هذه المسألة ألا وهي غفلتهم عن العون الإلهي وغرورهم بكثرتهم وعديدهم كما صرّح بذلك القرآن الكريم.
 
لقد كان الانكسار نصيبهم لأنهم علّقوا قلوبهم بتلك القوى والقدرات الظاهرية واغتروا بكثرة العدة والعتاد وكان هذا الغرور قاتلاً وكانت الهزيمة هي النتيجة الطبيعية لهذه الغفلة وهذا الغرور، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾1.
 



1 سورة التوبة، الآية 25.
 
 
 
 
 
 
 
154

140

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الدعاء والاستغاثة بالله

في سياق بيان وذكر الإمدادات الإلهية والتسديدات الربّانية، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾1.
 
وفي آية أخرى ذ كر القرآن الكريم عباد الله الذين جاهدوا بين يدي الأنبياء الإلهيين ضد أعداء الحق، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾2.
 
ومفاد هذه الآيات أن الدعاء والاستغاثة بالله تعالى هو من متطلّبات النصر. ولا يخفى على المرء ما للدعاء من أهمية خاصة في الإسلام، وهذه ألسنة الأنبياء, كما نقل لنا القرآن الكريم التلهّج بالدعاء والاستغاثة إلى الله تعالى، وقد ورد في الروايات الشريفة أن الدعاء سلاح المؤمن، فسلاح الدعاء وإن لم يكن خاصاً بالحرب، لكن الإنسان المؤمن أكثر ما يحتاج إلى هذا السلاح وهو في وقت الشدائد كالحرب والقتال، فيكون الدعاء ملجأه إلى الله لإغاثته ومساعدته.
 



1 سورة الأنفال، الآية 9.
2 سورة آل عمران، الآية 147.
 
 
 
 
 
 
 
155

141

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 الدعاء والاستغاثة بالله

في سياق بيان وذكر الإمدادات الإلهية والتسديدات الربّانية، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾1.
 
وفي آية أخرى ذ كر القرآن الكريم عباد الله الذين جاهدوا بين يدي الأنبياء الإلهيين ضد أعداء الحق، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾2.
 
ومفاد هذه الآيات أن الدعاء والاستغاثة بالله تعالى هو من متطلّبات النصر. ولا يخفى على المرء ما للدعاء من أهمية خاصة في الإسلام، وهذه ألسنة الأنبياء, كما نقل لنا القرآن الكريم التلهّج بالدعاء والاستغاثة إلى الله تعالى، وقد ورد في الروايات الشريفة أن الدعاء سلاح المؤمن، فسلاح الدعاء وإن لم يكن خاصاً بالحرب، لكن الإنسان المؤمن أكثر ما يحتاج إلى هذا السلاح وهو في وقت الشدائد كالحرب والقتال، فيكون الدعاء ملجأه إلى الله لإغاثته ومساعدته.
 



1 سورة الأنفال، الآية 9.
2 سورة آل عمران، الآية 147.
 
 
 
 
 
 
 
156

142

الفصل الثالث: المدد الإلهي وأسباب النصر

 المؤمنون على المساعدة الإلهية لرفع مشاكلهم وسد حوائجهم وإكمال نواقصهم بالطرق غير العادية والأساليب الغيبية.


فالتقصير في تحقيق هذه الشروط وانتظار المدد والنصر, هو خلاف السنة الإلهية الجارية في هذا الكون، وهو كمن يطلب الماء في محل السراب!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157
 

143

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 الفصل الرابع: "حزب الله" في القرآن الكريم



مدخل
في هذا المحور سنتعرّض لشرح مفهوم حزب الله في القرآن، وأهمية النية والدافع الإلهي في الحركة نحو الله تعالى، وسنتعرض لشرح بعض المصطلحات القرآنية التي تُعنى بها الشخصية الجهادية الخاصة التي وردت في الكلام الإلهي (في سبيل الله - لله -) وكيف ترتبط هذه المفاهيم القرآنية بعقيدة المجاهدين بشكل خاص على مستوى النوايا والأهداف.

أبعاد الجهاد في المفاهيم القرآنية
1- الإصطلاح القرآني الأول: (في سبيل الله)
عبارة (في سبيل الله) اصطلاح خاص بالأدب والثقافة الإسلامية وهو يختزن معنىً لطيفاً جداّ.

وعلى الرغم من شيوع وشهرة هذا الاصطلاح بين المسلمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

144

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 واستعماله في المصادر الإسلامية كثيراً، كما هو الحال في القرآن وروايات المعصومين عليهم السلام، لكن قليلاً ما يتم التوجّه بشكل عملي إلى حقيقة ومغزى هذه العبارة.


ومن أجل بيان أفضل وتعريف أوضح لهذا المصطلح القرآني، الذي استعمل في موارد جهادية خاصة، نقول:
إن أي فعل يقوم به الإنسان سواء أكان من الأفعال الخارجية وما يسمى إصطلاحاً (بالأفعال الجوارحية) التي تكون الأعضاء الظاهرية وسيلتها وأدواتها، أم كان من الأفعال الداخلية وما يسمى إصطلاحاً (بالأفعال الجوانحية) التي ترتبط بروح وعقل وعقيدة الإنسان، فتبقى مخفية عن الأنظار كمثل الخيالات والأفكار والأوهام.

وهذه الأفعال بكلا قسميها مصاديق للحركة، وكل حركة تسير نحو جهة ومقصد خاص بها, فإذا كانت وجهة مسير هذه الأفعال وهدف حركتها الأصلي كمال الإنسان، فمن الطبيعي حينها بل من المتيقن أنّها ستتّجه بالإنسان إلى الخير والصلاح والسعادة والفلاح، وبالنتيجة سوف توصله إلى الحق والحقيقة.

أما لو كانت وجهة هذه الأفعال وحركة سيرها تتحرّك بغير اتجاه الكمال الإنساني فإنها تتجه بالإنسان إلى الابتعاد عن كماله الحقيقي، ومن الطبيعي أن توصله إلى جهة الشر والباطل، والفساد والشقاوة.
 
 
 
 
 
 
 
 
162

145

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 ومن جهة أخرى ومن منظار العقيدة الإسلامية, فإنّ معيار الكمال الحقيقي لكل إنسان يكون فقط في مدى قربه ودنوّه من حضرة الحقّ تعالى، وهذا هو عنوان المسير الصحيح من أجل صلاح الإنسان، فكلُّ سيرٍ إلى الله تعالى هو سيرٌ نحو الحقّ وكل سير إلى غيره تعالى هو سير نحو الباطل.

 
وهنا سنسأل, أنه لماذا قيّد الإسلام وجهة سير الأعمال الصالحة والأفعال اللائقة بالإنسان بشرط أساسي وهو كونها تحت عنوان: (في سبيل الله)؟
 
نستطيع أن نقول في معرض الإجابة, إنّ الهدف الأصلي من خلق الإنسان هو في جعل سيره متجهاً نحو الله، ولذلك فإن أي عمل وأي حركة بدون نية (في سبيل الله) سوف تبتعدُ بالإنسان عن الهدف ولن توصله إلى الله تعالى.
 
لقد ورد مضمون كلمة (في سبيل الله) في موارد متعدِّدة من القرآن الكريم, وكمثال نذكر منها:
أ- في بعض الآيات وُصف تحمّل الإنسان للتعذيب وأذية الأعداء بأنه (في سبيل الله) وعُدّ ذلك سبباً لخيره وسعادته، نظير هذه الآية من سورة التوبة: ﴿لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
 



1 سورة التوبة، الآية 120.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

146

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 ب- وفي آيات أخرى وصفت بعض الأحداث من قبيل الهجرة والجهاد والإيثار والشهادة بأنها (في سبيل الله): يقول الله تعالى ﴿...وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ...﴾1.

 
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾2.
 
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾3.
 
ج- وفي آيات أخر ذُكر الإنفاق والجهاد المالي مقيداً بهذا الشرط (في سبيل الله):
يقول الله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾4.
 
د- وهناك آيات ذكرت الحصار والفقر والضيق المالي والمعيشي تحت وصف (في سبيل الله).
 



1 سورة البقرة، الآية 218.
2 سورة البقرة، الآية 190.
3 سورة البقرة، الآية 154.
4 سورة البقرة، الآية 261.
 
 
 
 
 
 
 
 
164

147

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 يقول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ...﴾1.

 
2- الاصطلاح القرآني الثاني: (لله)
بعد أن تعرّفنا على مفهوم (في سبيل الله) بحسب الاصطلاح القرآني، نشير إلى اصطلاح قرآني آخر شبيه بالاصطلاح الأول وهو اصطلاح (لله)، مع الإشارة إلى الفارق بين الاصطلاحين.
 
إنّ أفعال الإنسان الاختيارية تكسب قيمتها فقط فيما لو كانت تمتاز بخصيصتين:
الخصيصة الأولى: الحسن الفعلي.
ومعناه: الفعل الصالح الذي يقوم به الإنسان ويكون بحد ذاته فعلاً حسناً ولائقاً، بغض النظر عن الدافع الحقيقي للفاعل.
 
الخصيصة الثانية: الحسن الفاعلي.
ومعناه: أن الإنسان عندما يقوم بعمل صالح، لا بد أن يكون الدافع لذلك العمل دافعاً صحيحاً وحسناً.
وبناءً عليه يلزم لاتصاف الفعل الأخلاقي بأنه (حسن) أن يكون نفس الفعل حسناً ومفيداً وأن تكون نية الفاعل حسنة ودافعه صحيحاً وخالياً من كل النوايا الباطلة مثل الغرور والرياء وطلب الشهرة.
 



1 سورة البقرة، الآية 273.
 
 
 
 
 
 
 
 
165

148

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 إذاً, فتعبير (في سبيل الله) دالٌّ على الحسن الفعلي, أي أنّ هذا الفعل بنفسه هو فعلٌ صحيحٌ ومفيد، أما تعبير (لله) أو (قربة إلى الله) فهو دال على الحسن الفاعلي, أي أن الفاعل قد أتم هذا الفعل المفيد والصحيح بدافع صحيح ونية سليمة ألا وهي نية التقرب إلى الله والعمل لله.

 
والمهم في المقام هو الحسن الفاعلي، لأن صحة الدافع أوعدم صحته في الحقيقة هو الميزان والمعيار في الأعمال، فالدافع الصحيح والنية السليمة هي منشأ الارتفاع بأي عمل والارتقاء به إلى أعلى المراتب، وفي المقابل إنّ عدم صحة الدافع وعدم سلامة النية تنحدر بالعمل إلى أسفل الدركات.
 
ولا قيمة عند الله لأي عمل مهما بلغ من دون "الدافع الإلهي والنية السليمة"! وتميّز هذه الأفعال الصالحة إنما يكون بوجهة سيرها نحو الله تعالى، ومدى تأثيرها ودفعها في تقرب الإنسان من الله تعالى.
 
3- الاصطلاح القرآني الثالث: (حزب الله)
لقد مرّ ذكر عبارة حزب الله في القرآن، في موردين اثنين، وجاء مترافقاً مع لفظ الولاية.
 
الآية الأولى:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

149

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾1. هذه الآية الشريفة التي نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه السلام في قصة تصدّقه بالخاتم في ركوع صلاته المباركة، وهي قصة مشهورة معروفة بين المسلمين جميعاً فقد اتفق المفسرون والمحدِّثون من الشيعة والسنة على أن مورد نزول هذه الآية كانت في شأن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد تصدّقه بالخاتم على ذلك السائل الذي دخل المسجد فلم يجبه أحد وكان الإمام علي عليه السلام راكعاً في صلاته فأشار عليه السلام للسائل إلى الخاتم الذي بيده أن خُذه، فأخذه السائل ورحل.

 
وعلى إثر هذا التصدّق من الإمام عليه السلام نزلت الآية في شأنه عليه السلام.
 
ثم بعد ذلك ساقت الآية ذكر أوصاف (حزب الله) وأنهم أهل الطاعة للولاية، ولذلك عدّ القرآن الكريم -  في هذه الآية - عنوان (أهل الولاية) وعنوان (حزب الله) عنواناً واحداً. مع الإشارة إلى أن كلمة (الزكاة) الواردة في هذه الآية ليست خاصة بالزكاة الواجبة، بل هي أعم من الإنفاق الواجب والمستحب.
 
الآية الثانية:
التعبير الثاني في القرآن عن (حزب الله) ورد في سورة المجادلة: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ 
 





1 سورة المائدة، الآيتان 55 - 56.
 
 
 
 
 
 
 
167

150

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.

 
في هذه الآية ذكر الله تعالى أوصاف (أهل الولاية) و(حزب الله) تحت عنوان واحد، فأوضح أنّ القوم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ليس في قلوبهم أي ودّ أو محبة لأعداء الله وأعداء رسوله حتى ولو كانوا أخص أهلهم من الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو الأقرباء...إلخ، فأهل الولاية الحقيقية لله وجنود حزب الله لا تربطهم مع أعداء الله ورسوله أي رابطة، لأن الإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع محبة أعداء الله.
 
ثم يقول الله تعالى بأن ثواب هؤلاء الولائيين الحقيقيين هو:
أولاً: أن يثبت الله الإيمان في قلوبهم، يقول تعالى: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾.
ثانياً: حصول تأييد روح الله لهم. وكما هو معلوم بأن روح الله مَلَك من أقرب الملائكة إلى الحضرة الإلهية، يقول تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾. وكلا هذين الثوابين مرتبطين بعالم الدنيا.
 
أما الثواب المرتبط بعالم الآخرة لهم فهو:
 



1 سورة المجادلة، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
168

151

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 أولاً: إدخالهم إلى الجنات، يقول الله تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾.

وثانياً: الفوز بمقام (رضوان الله)، هو الثواب الأعظم والأهم, يقول الله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
 
ومن وجهة النظر القرآنية, يعتبر الفوز بالرضوان الإلهي في الحقيقة أعظم وأكبر ثواب إلهي يمكن أن يعطى للعباد، يقول الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1.
 
لكن ما هي ماهية هذا الرضوان الإلهي؟ وما هي حقيقته؟ وكيف تظهر آثاره؟
 
وكيف تكون نعمة (الرضوان الإلهي) أكبر من كل النعم حتى من الجنة!
 
فهي أسئلة خارجة عن محل بحثنا فعلاً.
 
وعلى كل حال إنّ الثواب الإلهي لأهل الولاية وحزب الله هو الرضوان الإلهي وهو رضوان من الطرفين: من الله تعالى ومن أهل الولاية، يقول الله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
 
أهل البيت عليهم السلام المصداق الكامل لحزب الله
وبعد المطالعة الدقيقة في هاتين الآيتين السابقتين، نتوصّل إلى نتيجة أكيدة وهي: أن أهل البيت عليهم السلام هم المصداق التام
 



1 سورة التوبة، الآية 72.

 
 
 
 
 
 
 
169

152

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 والكامل لحزب الله في القرآن، لأنهم كانوا في الدنيا في أعلى مراتب الإيمان والاستقامة، وأصبحوا مورد التأييد الإلهي أيضاً، قال تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾1.

 
وليست جزافاً الدعوى, بأن التأييد بروح الله في الدنيا يُعد من أكبر النعم الإلهية، فصحيح أن هناك نعماً إلهية مشتركة بين المؤمن والكافر، كنعمة العقل والسلامة والأكل والمسكن واللباس..وغيرها، لكن بالمقابل هناك نعمٌ إلهية خاصة بأهل الإيمان والعقل الكامل، الذين يستفيدون من كل النعم الإلهية بصورة صحيحة.
 
وخلاصة الكلام, إن المجموعة اللائقة والمؤهّلة لتقبّل التسديدات الربّانية والتأييدات الإلهية هي فقط (حزب الله) لما تحمله من صفات الولاية والمحبة الإلهية.
 
شروط صيرورة الفرد حزب اللّهيّاً
إن ولاية الله تعالى وولاية الرسول والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم لها مراتب ودرجات مختلفة, وإن أتباع وأنصار هذه الولاية ليسوا على درجة واحدة، ولأجل الوصول إلى أعلى مراتب هذه الولاية لا بد من امتلاك عاملين مهمين:
1- العامل الأول: تحصيل العلم والمعرفة.
2- العامل الثاني: امتلاك الإرادة القوية والالتزام العملي.
 



1 سورة المجادلة، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
170

153

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 وفي التاريخ الإسلامي يمكن أن نرصد وجود ثلاث فرق, نستظهر من سيرتهم حقائق حول الولاية:

الفريق الأوّل: هم عدّة ممن عرفوا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآمنوا به وبرسالته وبذلوا كل ما كانوا يملكون، وكل ما كان تحت أيديهم في تصرف وخدمة الإسلام وتقويته ولم يُقصّروا في أداء أي تكليف، لكن مشكلتهم كانت في معرفة الوصي والنائب في حال غيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

طبعاً، بالنسبة للبعض, لم يكن عدم المعرفة تقصيراً منهم، غاية الأمر أنهم لم يُوفّقوا لمعرفة هذا الولي والوصي القائم مقام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن هؤلاء ما كانوا ليرفضوا إمامة وولاية لأهل البيت عليه السلام في حال عرفوا ذلك، أو توفّرت عندهم الظروف لثبوت تلك الولاية لهم عليه السلام، وعلى كل حال هؤلاء كانوا إما تحت ظرف الاستضعاف وإما تحت ظرف الجهل ونقص المعرفة.

الفريق الثاني: فريق آخر لم تكن مشكلته في معرفة الولي والوصي، بل كانت مشكلته تكمن في العامل الثاني وهو الالتزام العملي بالولاية، فهؤلاء قصّروا في أداء تكاليفهم ولم يُؤدّوا الوظيفة المطلوبة منهم, فتركوا الوصي لوحده.

الفريق الثالث: وهم الذين قاموا بتحصيل كل مراحل المعرفة بالله وبالنبي وعرفوا أوصياء النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيداً، فلم يُقصّروا في تحصيل المعرفة بالولي والوصي، وفي الحقيقة لقد كان هؤلاء - على
 
 
 
 
 
 
 
 
171

154

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 قلّتهم - أعرف الناس بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا في جانب المعرفة.

 
أما في جانب الالتزام العملي فقد قاموا بأداء تكاليفهم على أحسن وجه، وخرجوا من الامتحانات فائزين، مرفوعي الرأس. هؤلاء كانوا مصداق (حزب الله) ومصداق (الفلاح المطلق) الذي ورد في الآية، حيث يقول الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.
 
والنتيجة, لقد أصبح واضحاً لدينا أنه يلزم على الإنسان، ولأجل أن يدخل في زمرة (حزب الله) و(أهل الولاية)، أن يسعى لكسب هذين التوفيقين، ويطلب من الله تعالى أن يمنّ عليه بذلك:
الأول: توفيق كسب العلم والمعرفة بأهل البيت عليهم السلام.
الثاني: توفيق العمل والالتزام الحقيقي بالولاية، خصوصاً أن مقام العمل يتطلّب الخروج من امتحانات صعبة وشاقة تجبر الإنسان الولائي أحياناً، على التخلي عن كثير من ملذات الدنيا مقابل اعتقاده والتزامه بالولاية.
 
فهل يُقدّم الإنسان الولائي منفعته الشخصية وحبه للملذات على إيمانه وعقيدته؟
أم أنّه يصرف النظر عن بعض الملذات الدنيوية حفاظاً على التزامه وولايته؟
وهذا في الحقيقة يمثّل أصعب الامتحانات للولائي الملتزم.
 



1 سورة المجادلة، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
172

155

الفصل الرابع: حزب الله في القرآن الكريم

 خاتمة:


السؤال الأخير والمهم!؟

إذا ما صادفنا هكذا امتحان:
بين التزامنا بالولاية وبين بعض ملّذات الدنيا، فأيهما سنختار؟
وهل سنبقى أوفياء لعهدنا الذي قطعناه مع أولياء الله تعالى؟
نسأل الله المعرفة والعمل، والتوفيق والثبات، وحسن العاقبة
بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها..

والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
173

156
الربيّون عطاء حتى الشهادة