كشف الريبة في أحكام الغيبة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-11

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين للإنسان في النظرة الإسلامية حرمته وكرامته، فليس لإنسانٍ أن يسيء إلى حرمة إنسان آخر أو يعتدي على كرامته أو يريق ماء وجهه بذكر عيوبه وسلبياته.

وقد جاءت الأخبار والنصوص الإسلامية لتؤكد إرساء هذه النظرة ولتقيم مبدءاً اجتماعياً في السلوك وفي العلاقات يقوم على احترام حياة الآخرين وكراماتهم، وعدم انتهاك حرمات الناس بإظهار عيوبهم والتحدث عن أسرارهم ونقاط ضعفهم الخفية.

ونظراً للنتائج السيئة والمدمّرة التي تتركها الغيبة في حياة الناس حيث تؤدي في كثير من الحالات إلى إشعال نار العداوة والبغضاء وإشاعة الفحشاء في المجتمع. فقد حرّمها الإسلام واعتبر المغتاب الذي يتناول أعراض الناس ويكشف عن عيوبهم كمن يتناول لحم أخيه ميتاً.
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ ولا يَغْتَبْ بعْضُكُم بَعْضاً أيُحبُّ أحدُكُم أن يأكُل لَحْمَ أخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه واتقُوا اللهَ إن اللهَ توابٌ رحيمٌ"1.
 
والرسالة التي بين يديك ـ عزيزي القارىء ـ من أهم الرسائل التي صُنفت للدلالة على شناعة الغيبة وانعكاساتها السيئة على المستويين الفردي والاجتماعي، وهي من تأليف عالم كبير من علمائنا الأبرار المجاهدين هو العلامة الجليل الشهيد السعيد الشيخ زين الدين العاملي المعروف بـ (الشهيد الثاني).

وقد ذكر قدس سره في المقدمة أن السبب الذي دفعه لتأليف هذه الرسالة ما رآه من شيوع الغيبة بين المؤمنين الذين يصرفون كثيراً من أوقاتهم في ذكر سلبيات الآخرين وعيوبهم، ويتفكهون في مجالسهم ومحاوراتهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين.

ونعتقد أن هذا المرض لا يزال مستشرياً في مجتمعنا في أيامنا هذه، وهذا ما دفعنا إلى تجديد طباعة هذه الرسالة بحلة جديدة علّها تُسهم في توعية إخواننا إلى مخاطر هذه الرذيلة السلوكية بما يدفعهم الى الإبتعاد عنها والتخلص منها واللَّه من وراء القصد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


6

1- الحجرات:12
 
 

2

المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله الذي طهَّر ألسنة أوليائه عن اللغو والغيبة والنميمة وزكَّى نفوسهم عن الأخلاق الدنيَّة والشّيم الذّميمة، والصلاة على نبيّه المصطفى المبعوث بالشريعة الحنيفة والملَّة القويمة وعلى عترته الطاهرة التي هي على منهاجه مقيمة وبسنّته عليمة وعن رذائل الأخلاق معصومة وبمكارمها موسومة.

وبعد، فلمّا رأيت أكثر أهل هذا العصر ممَّن يتَّسم بالعلم ويتّصف بالفضل ويُنسب إلى العدالة ويترشَّح للرِّياسة، يحافظون على أداءِ الصلوات والدؤب في الصيام وكثير من العبادات والقربات ويجتنبون جملة من المحرَّمات كالزِّنا وشرب الخمر ونحوهما من القبائح الظاهرات، ثمَّ هم مع ذلك يصرفون كثيراً من أوقاتهم ويتفكَّهون في مجالسهم ومحاوراتهم ويغذُّون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين ونظرائهم من المسلمين ولا يعدُّونه من السيِّئات ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبَّار السماوات.
 
 
 
 
 
7
 

3

المقدمة

في سبب إقدام الناس على الغيبة
والسبب المقدَّم لهم على ذلك دون غيره من المعاصي الواضحة، إمَّا الغفلة عن تحريمه وما ورد فيه من الوعيد والمناقشة في الآيات والروايات وهذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات، وإمَّا لأنَّ مثل ذلك في المعاصي لا يخلّ عُرفاً بمراتبهم ومنازلهم من الرياسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو أزنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة وسقوط محلّهم به لديهم بل عند متعاطي الرذائل الواضحات.

ولو راجعوا عقولهم واستضاؤوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين فرقاً بعيداً وتفاوتاً شديداً، بل لا نسبة بين المعاصي المستلزمة للإخلال بحقّ الله سبحانه على الخصوص وبين ما يتعلَّق مع ذلك بحقّ العبيد خصوصاً أعراضهم.

فإنَّها أجلّ من أموالهم وأشرف، ومتى شَرُف الشّيء عظم
 
 
 
 
 
9
 

4

المقدمة

الذنب في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلّي كما ستقف عليه إن شاء الله، أحببت أن أضع في هذه الرسالة جملة من الكلام على الغيبة وبما ورد فيها من النهي في الكتاب والسنَّة والأثر ودلالة العقل عليه وسمّيتها (كشف الريبة عن أحكام الغيبة) وأتبعتها بما يليق بها من النميمة وبعض أحكام الحسد، وختمتها بالحثّ على التواصل والتحابب والمراحمة ورتّبتها على مقدّمة وفصول وخاتمة.
 
أما المقدّمة: ففي تعريفها وجملة من الترهيب منها:

فنقول الغِيْبَة بكسر الغين المعجمة وسكون الياء المثنَّاة التحتانيَّة وفتح الباء الموحدة اسم لقولك اغتاب فلان فلاناً إذا وقع في غيبته، والمصدر الاغتياب يقال اغتابه اغتياباً والاسم الغيبة1.

هذا بحسب المعنى اللغوي وأمَّا بحسب الاصطلاح فلها تعريفان:

أحدها: المشهور وهو ذكر الانسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممَّا يُعدّ نقصاناً في العرف بقصد الانتقاص والذمّ، فاحترز بالقيد الأخير وهو قصد الانتقاص عن ذكر العيب للطبيب مثلاً أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حقّ الزّمن والأعمى بذكر نقصانهما، ويمكن الغناء عنه بقيد (كراهة) نسبته إليه.



1- لسان العرب، ج1، ص456.
 
 
 
 
 
10
 

5

المقدمة

الثاني: التنبيه على ما يكره نسبته الخ، وهو أعمّ من الأول لشمول مورده اللسان والاشارة والحكاية وغيرها، وهو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان.
 
وقد جاء على المشهور قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا (فقالوا) الله ورسوله أعلم.

قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول.
 
قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه1.
 
وذكر عنده صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقالوا ما أعجزه.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : اغتبتم صاحبكم.
 
فقالوا: يا رسول الله قلنا ما فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم : إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه2.

وتحريم الغيبة في الجملة إجماعيٌ بل هي كبيرة موبقة للتصريح بالتوعيد عليها بالخصوص في الكتاب والسنَّة.

وقد نصَّ الله تعالى على ذمّها في كتابه وشبّه صاحبها بأكل لحم أخيه الميتة فقال: "ولا يَغْتَبْ بعْضُكُم بَعْضاً أيُحبُّ أحدُكُم أن يأكُل لَحْمَ أخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه واتقُوا اللهَ إن اللهَ توابٌ رحيمٌ"3.


1- تنبيه الخواطر، ج1، ص811، والترغيب والترهيب ج3، ص515.
2- الدرّ المنثور، ج6، ص69.
3- الحجرات:12.
 
 
 
 
11
 

6

المقدمة

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"1.
 
والغيبة تناول العرض، وقد جمع بينه وبين الدّم والمال، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً"2.

وعن جابر وأبي سعيد الخدريّ قالا: قال صلى الله عليه وآله وسلم : "إيَّاكم والغيبة فإنَّ الغيبة أشدّ من الزنا، إنَّ الرجل قد يزني (فيتوب) فيتوب الله عليه وإنَّ صاحب الغيبة لا يُغْفَرُ له حتى يَغفِرَ له صاحبه"3.

وفي خبر معاذ الطويل المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الحفظة تصعد بعمل العبد وله نور كشعاع الشمس حتى إذا بلغ السماء الدّنيا والحفظة تستكثر عمله وتزكّيه فإذا انتهى إلى الباب قال الملك الموكّل بالباب: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من يغتاب الناس يتجاوزني إلى ربي4.

وعن أنس: قال صلى الله عليه وآله وسلم : "مررت ليلة أسري بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"5.



1- تنبيه الخواطر، ج1، ص115.
2- تنبيه الخواطر، ج1، ص115.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص511، وإرشاد القلوب 116.
4- أنظر الترغيب والترهيب، ج1، ص47.
5- تنبيه الخواطر، ج1، ص511، وإرشاد القلوب 116.
 
 
 
12
 

7

المقدمة

وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنَّه من تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته"1.

وقال سليمان بن جابر: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلتُ: علّمني خيراً ينفعني الله به.

قال صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تحقّرن من المعروف شيئاً ولو أن تصبّب من دلوك في إناء المستقي وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإذا أدبر فلا تغتابه"2.

وعن أنس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الرّبا وعظَّم شأنه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الدرهم يصيبه الرجل من الرّبا أعظم عند الله في الخطيئة من ستّ وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربى الرّبا عرض الرجل المسلم"3.

وقال جابر: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى على قبرين يعذَّب صاحبهما، فقال: إنهما لا يعذَّبان في كبيرة.

أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتنزّه من بوله.


1- تنبيه الخواطر، ج1، ص115.
2- تنبيه الخواطر، ج1، ص115.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص116.
 
 
 
13
 

8

المقدمة

ودعا صلى الله عليه وآله وسلم بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثمَّ أمر بكلِّ كسرة فغرست على قبر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أما أنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبين أو ما لم ييبسا"1.
 
وقال أنس: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بصوم يوم، وقال: لا يفطرنَّ أحدٌ حتى آذن له، فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء ويقول: يا رسول الله ظللت صائماً فأْذَن لي لأفطر، فأذن له (لا الرجل)2. حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلَّتا صائمتين وإنَّهما تستحيان أن تأتيانك، فأذَن لهما أن تفطرا، فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه ثم عاوده، فقال: إنهما لم تصوما وكيف صام من ظلَّ هذا اليوم يأكل لحوم الناس، إذهب مُرْهُمَا إن كانتا صائمتين أن تستقيئا، فرجع إليهما فأخبرهما، فاستقاءتا، فقاءت كلُّ واحدةٍ منهما علقةً من دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "والذي نفس محمد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار".

وفي رواية أنه لمَّا أعرض عنه جاءه بعد ذلك وقال: يا رسول الله إنهما والله لقد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ائتوني بهما، فجاءتا ودعا بعسّ أو قدح، فقال لإحديهما: قيئي، فقاءت من قيح ودم صديد حتى ملأت القدح، وقال صلى الله عليه وآله وسلم للأخرى:

 

1- تنبيه الخواطر، ج1، ص116.
2- ليس في بعض النسخ لا الرجل.
 
 
 
 
 
14
 
 

9

المقدمة

قيئي، فقاءت كذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ هاتين صامتا عن ما أحلَّ الله لهما وأفطرتا عمَّا حرَّم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس1.
 
وروي مرفوعاً: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرَّب إليه لحمه في الآخرة، فقيل له: كله ميتاً كما أكلته حيَّاً فيأكله فيصيح ويكلح2.
 
ولمَّا رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرَّجل في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب، فمرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهما بجيفة فقال: إنهشا منها، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه"3.

وقال الصادق عليه السلام : "الغيبة حرامٌ على كل مسلم، وإنَّها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"4.

وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام قال: "قال رسول الله: أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى: يُسقَونَ من الحميم في الجحيم، ينادون بالويل والثبور يقول: أهل النار بعضهم لبعض، ما بال هؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى، فرجُلٌ مُعلَّق على تابوت من جمر، ورجل يجرُّ أمعاءه، ورجلٌ يسيل فوهُ دماً وقيحاً، ورجل يأكل لحمه، فيُقَالُ لصاحب التابوت: ما بال الأبعد فقد

 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص431، الدر المنثور، ج6، ص96.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص135.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص116.
4- مصباح الشريعة، ص204 ـ 205.
 
 
 
 
15
 
 

10

المقدمة

آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداءً ولا وفاءً، ثم يقال للذي يجرُّ أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ 
 
فيقول: إنَّ الأبعد كان لا يبالي أيْنَ أصاب البول من جسده، ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فقال: إنَّ الأبعد كان يحاكي، ينظر إلى كل كلمة خبيثة فيشيّدها ويحاكي بها، ثم يُقالُ للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فقال: إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة"1.

وبإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من مَشى في غيبة أخيه وكشف عورته كانت أوَّل خطوة خطاها وضعها في جهنم، وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق2 ومن اغتاب مسلماً بطل صومه ونقض وضوءه فإن مات وهو كذلك مات وهو مستحلٌ لما حرَّم الله"3.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"4.

وقال عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الجلوس في المسجد انتظاراً للصلاة عبادة ما لم يحدث".


1- عقاب الأعمال، ص492.
2- عقاب الأعمال، ص733.
3- عقاب الأعمال، ص233.
4- الكافي، ج2، ص753، وانظر الاختصاص، ص822.
 
 
16
 

11

المقدمة

فقيل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب1.
 
وروى ابن أبي عمير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله: (إن الذين يُحبُّونَ أَنْ تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)"2.

وعن المفضّل بن عمر قال: قال أبو عبدالله عليه السلام : "من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقطه من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان"3.

وأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى موسى بن عمران أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة وإن لم يتب فهو أوَّل من يدخل النار4.

وروي أنَّ عيسى عليه السلام مرَّ والحواريّون على جيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا، فقال عيسى عليه السلام : ما أشدّ بياض أسنانه5، كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب وينبّهُهُم على أنَّه لا يُذكر من خلق الله إلاَّ أحسنه.

 

 
1- روضة الواعظين، ص074، وانظر الكافي، ج2، ص257.
2- النور، آية91، الكافي، ج2، ص357.
3- الكافي، ج2، ص853، وانظر الاختصاص، ص32.
4- مصباح الشريعة، ص205.
5- تنبيه الخواطر، ج1، ص117.
 
 
 
17

12

المقدمة

وقيل في تفسير قوله تعالى: "ويلٌ لِكلِّ هُمَزة لُمَزة"1: الهُمزة الطعّان في الناس، واللّمزة الذي يأكل لحوم الناس2.
 
وقال الحسن: والله الغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده3.

وقال بعضهم: أدركنا السَّلف لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكفّ عن أعراض الناس4.

واعلم أنَّ السَّبب الموجب للتّشديد في أمر الغيبة وجعلها أعظم من كثير من المعاصي الكبيرة هو اشتمالها على المفاسد الكليّة المنافية لغرض الحكيم سُبحانه بخلاف باقي المعاصي فإنَّها مستلزمة لمفاسد جزئيَّة.

بيان ذلك أنَّ المقاصد المهمة للشارع اجتماع النفوس على همّ واحد وطريقة واحدة وهي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر والنواهي، ولا يتمّ ذلك إلاَّ بالتعاون والتعاضد بين أبناء النوع الانساني، وذلك يتوقَّف على اجتماع هممهم وتصافي بواطنهم واجتماعهم على الألفة والمحبَّة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، ولن يتمَّ ذلك إلاَّ بنفي الضغاين والأحقاد والحسد ونحوه، وكانت الغيبة من كُلٍّ منهم لأخيه

 

 
1- الهمزة:1.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص135.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص135.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص135.
 
 
 
18
 

 
 

13

المقدمة

مثيرة لضغنه ومستدعية منه لمثلها في حقِّه لا جَرَمَ كانت ضدَّ المقصود الكلِّي للشَّارع وكانت مفسدة كليَّة، فلذلك أكثر اللهُ ورسوله من النهي عنها والوعيد عليها، وبالله التوفيق.
 
وحيث أتينا على ما يُحتاج إليه في المقدِّمة فلنشرع في الفصول.
 
 
 
 
 
19
 

14

الفصل الأول: في أقسامها

لمَّا عرفت أنَّ المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه أو الإعلام به أو التنبيه عليه، كان ذلك شاملاً لما يتعلَّق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خُلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دُنياه حتى في ثوبه وداره ودابَّته.

وقد أشار الصادق عليه السلام إلى ذلك بقوله: "وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه"1.

فالبدن كذكرك فيه العَمَش والحَوَل والعِوَر والقَرَع والقِصر والطُول والسواد والصُّفرة وجميع ما يتصوّر أن يوصف به ممَّا يكرهه.

وأمَّا النّسب بأن يقول أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكافي أو تاجر أو حائك أو جاهل أو نحو ذلك ممَّا يكرهه كيف كان.
 
 
 

 
1- مصباح الشريعة، ص205.
 
 
 
 
21
 
 

15

الفصل الأول: في أقسامها

وأما الخلق بأن يقول إنه سيئ الخلق محيل متكبِّر مرائي شديد الغضب جبان ضعيف القلب ونحو ذلك.
 
وأمَّا في أفعاله المتعلِّقة بالدِّين كقولك سارق كذَّاب، شارب الخمر، خائن، ظالم، مُتهاون بالصلاة، لا يحسن الركوع والسجود، ولا يحترز من النجاسات، ليس بارَّاً بوالديه، لا يحرسُ نفسه من الغيبة والتعرُّض لأعراض الناس.

وأمَّا فعله المتعلِّق بالدنيا كقولك: قليل الأدب، متهاونٌ بالناس، لا يرى لأحد عليه حقاً، كثير الكلام، كثير الأكل، نؤوم، يجلس في غير موضعه، ونحو ذلك.

وأمَّا في ثوبه كقولك: إنَّه واسع الكمّ، طويل الذيل، وسخ الثياب، ونحو ذلك.

واعلم أنَّ ذلك لا يقصر على اللسان بل التلفّظ به، إنَّما حُرِّم لأنَّ فيه تفهيمُ الغير نقصان أخيكَ، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والرمز والإيماء والغمز واللمز والكتابة والحركة، وكلّ ما يُفهم المقصود داخل في الغيبة مساوٍ للسان في المعنى الذي حُرِّم التلفُّظ به لأجله.

ومن ذلك ما رُويَ عن عائشة أنها قالت: دخلت علينا امرأة فلمَّا وَلَّت أومأْتُ بيدي، أي قصيرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم : اغتبتها1.



1- تنبيه الخواطر، ج1، ص811.
 
 
 
 
22
 
 

16

الفصل الأول: في أقسامها

ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل أشدّ من الغيبة، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتاب، فإنَّ الكتاب كما قيل أحد اللسانين. ومن ذلك ذكر المصنّف شخصاً مُعيَّناً وتهجين كلامه في الكتاب، إلاَّ أن يقترن به شيء من الأعذار المحوِجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لا يتمّ الغرض من الفتوى وإقامة الدليل على المطلوب إلاَّ بتزييف كلام الغير ونحو ذلك، ويجب الاقتصار على ما يندفع به الحاجة في ذلك وليس منه قوله: قال قوم كذا ما لم يصرّح بشخص معيَّن.
 
ومنها أن يقول الانسان بعض من مرَّ بنا اليوم أو بعض من رأيناه حاله كذا إذا كان المخاطب معهم ليفهم منه شخصاً معيَّناً، لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهّم، فأما إذا لم يفهم عنه جاز.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كرِهَ من إنسانٍ شيئاً قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا1، ولا يعيِّن، ومِن أضرِّ أنواع الغيبة غيبة المتّسمين بالفهم والعلم المرائين، فإنهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنَّهم جمعوا بين فاحشتين: الرِّياء والغيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان


1- إحياء علوم الدين، ج3، ص731.
 
 
 
 
23
 

17

الفصل الأول: في أقسامها

فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحبّ الرياسة أو حبِّ الدُّنيا، أو بالتكيّف بالكيفيَّة الفُلانيَّة أو بقول نعوذ بالله من قلَّة الحياء أو من سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرَّد الحمد على شيءٍ إذا عُلمَ منه إتّصاف المحدَّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنه يغتابه بلفظ الدعاء وسمت أهل الصلاح، وإما قصده أن يذكر عيبه بضربٍ من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل في أفحشها ومن ذلك أنَّه قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصّر في العبادات ولكن قد اعتراه فتورٌ وابتُليَ بما يُبتلى به كلّنا وهو قلَّة الصبر، فيذكر نفسه بالذمّ ومقصوده أن يذمّ غيره وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمّ أنفسهم فيكون مغتاباً مرائياً مزكّياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش وهو يظنّ بجهله أنَّه من الصالحين المتعفّفين عن الغيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير أن يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم.
 
ومن ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغي الغافل إلى المغتاب، ويعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله، وهو يمنُّ على
 
 
 
 
24

18

الفصل الأول: في أقسامها

الله بذكره جهلاً وغروراً، ومن ذلك أن يقول: جرى من فلان كذا أو ابتُلِيَ بكذا، بل يقول جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا، تاب الله عليه وعلينا، يُظهر الدّعاء له والتألّم والصداقة والصحبة، والله مطَّلِعٌ على خُبث سَريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنَّه قد تعرَّض لمقتٍ أعظم مما يتعرض له الجهَّال إذا جاهروا بالغيبة.
 
ومن أقسامها الخفيَّة الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجُّب، فإنه إنما يظهر التعجُّب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق، فيقول: عجبت ممَّا ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب واستدعاء الزيادة منه باللّطف والتصديق لها غيبة بل الاصغاء إليها بل السكوت عند سماعها.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "المستمع أحد المغتابين"1.

وقال علي عليه السلام : "السامع للغيبة أحد المغتابين"2.

ومراده السَّامع على قصد الرِّضا والإيثار لا على وجه الاتّفاق، أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل. ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين لمشاركتهما للمغتاب في الرضا وتكيّف ذهنهما بالتصوّرات المذمومة التي لا تنبغي وإن 
 
 
 

 
1- تنبيه الخواطر، ج1، ص119.
2- غرر الحكم، ص47، ح1686، ط القارىء.
 
 
 
25
 

19

الفصل الأول: في أقسامها

اختلفا في أنَّ أحدهما قائل والآخر قابل، لكن كلَّ واحد منهما صاحب آلة عليه، أمَّا أحدهما فذو لسان يعبِّر عن نفس قد تنجَّست بتصوّر الكذب والحرام والعزم عليه، وأمَّا الآخر فذو سمع تقبَل عنه النّفس تلك الآثار عن إيثار وسوء اختيار فتألفها وتعتادها فتمكّن من جوهرها سُموم عقارب الباطل، ومن ذلك قيل: السامع شريك القائل، وقد تقدَّم في الخبر السالف ما يدلّ عليه حيث قال للرجلين اللذين قال أحدهما اقعص الرجل كما يقعص الكلب إنهشا من هذه الجيفة، فجمع بينهما مع أنَّ أحدهما قائل والآخر سامعٌ، فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلاَّ بأن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه، ولو قال بلسانه اسكت وهو يشتهي ذلك بقلبه فذلك نفاق وفاحشة أخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه.
 
وقد رُويَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "مَن أُذِلَّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره أذلَّه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق"1.

وعن أبي الدّرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "مَن رَدَّ الخلائق عن عرض أخيه بالغيب كان حقَّاً على الله أن يَردَّ عن عرضه يوم القيامة"2.


1- إحياء علوم الدين، ج3، ص138.
2- تنبيه الخواطر، ج1، ص119.
 
 
26

20

الفصل الأول: في أقسامها

وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم : "مَن رَدَّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقَّاً على الله أن يعتقه من النار"1.
 
وروى الصدوق بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "مَن تُطُوِّلَ على أخيه في غيبة سمعها عنه في مجلس فرَّدها عنه، ردَّ الله عنه ألف باب من الشرِّ في الدنيا والآخرة، وإن هو لم يردّها وهو قادرٌ على ردِّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرَّة"2.

وبإسناده إلى الباقر عليه السلام أنَّه قال: "مَن أُغْتِيبَ عنده أخوه المؤمن فَنَصَره وأعَانَه، نَصَرهُ الله في الدُّنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه حفِظه الله في الدنيا والآخرة"3.

واعلم أنَّه كما يَحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وأن يحدّث غيره بلسانه بمساوي الغير، كذلك يَحرم عليه سوء الظنّ وأن يحدِّث نفسه بذلك، والمراد من سوء الظنّ المحَرَّم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين.

وأمَّا الخواطر وحديث النفس فهو معفوّ عنه، كما أنَّ الشّك أيضاً معفوٌ عنه، قال الله تعالى: "اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِثْم"4، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلاَّ إذا
 
 

1- تنبيه الخواطر، ج1، ص119.
2- أمالي الصدوق، ص350.
3- المحاسن، ص301، ح81.
4- الحجرات:12.
 
 
 
27
 

21

الفصل الأول: في أقسامها

انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، وما لم تعلمه ثمَّ وقع في قلبك فالشَّيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذّبه فإنَّه أفسق الفُسَّاق، وقد قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً بِجَهَالَةٍ"1، فلا يجوز تصديق إبليس.
 
ومن هنا جاء في الشرع أنَّ من عُلِمت فيه رائحة الخمر لا يجوز أن يحكم عليه بشربها ولا يحدّه عليه لإمكان أن يكون تمضمض به ومجَّه أو حُمِل عليه قهراً وذلك أمرٌ ممكن فلا يجوز إساءة الظنّ بالمسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ الله تعالى حرَّم من المسلم دمه وماله وأن يظنّ به ظنَّ السُّوء"2، فلا يستباح ظنّ السوء إلاَّ بما يستباح به الدم والمال، وهو متيقّن مشاهدة أو بيّنة عادلة أو ما جرى مجراهما من الأمور المفيدة لليقين أو الثبوت الشرعي.

وعن أبي عبدالله عليه السلام : "إذا اتَّهَمَ المؤمن أخاه ينماث الإيمان من قلبه كما ينماث3 الملح في الماء"4.

وعنه عليه السلام : "من اتَّهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما"5.

 

 
1- الحجرات:6.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص142.
3- ماثه موثاً ومثاناً محركة: خلطه. انماث أي اختلط وذاب.
4- الكافي، ج2، ص361.
5- الكافي، ج2، ص361. فلا حرمة بينهما- أي انقطعت علاقة الأخوة وزالت الرابطة الدينية بينهما.
 
 
 
 
 
28
 
 

22

الفصل الأول: في أقسامها

وعنه عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير مَحمَلاً"1.
 
وطريق معرفة ما يخطر في القلب من ذلك هل هو ظنُّ سُوءٍ أو اختلاج وشكّ أن تختبر نفسك، فإن كانت قد تغيَّرت ونفر قلبك عنه نفوراً واستثقلته وفترت عن مراعاته وتفقّده وإكرامه والاهتمام بحاله والاغتمام بسببه غير ما كان أولاً فهو امارة عقد الظنّ.

وقد قال عليه السلام : "ثلاثة في المؤمن وله منها مخرجٌ، فمخرجه من سوء الظن أن لا تحقّقه"2, أي لا تحقّق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح. أمَّا في القلب فبتغيّره إلى النّفرة والكراهة، وفي الجوارح بالعمل بموجبه. والذي ينبغي فعله عند خطور خاطر سوءٍ على مؤمن أن يزيد في مراعاته ويدعو له بالخير، فإنَّ ذلك يُغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يُلقي إليك بعد ذلك خاطر سوءٍ خيفةً من اشتغالك بالدُّعاء والمراعاة، وهو ضدّ مقصوده
 
 
 

 
1- الكافي، ج2، ص362. "ضع أمر أخيك" أي احمل ما صدر عن أخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته وإن كان مرجوحاً عن غير تجسس حتى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله فإن الظن قد يخطىء والتجسس منهيّ عنه.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص143.
 
 
 
 
29
 
 

23

الفصل الأول: في أقسامها

ومهما عرفت هفوة من مؤمن فانصحه في السرّ ولا يخدعنَّك الشيطان فيدعوك إلى إغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرورٌ بإطّلاعك على نقصه لينظر اليك بعين التعظيم وأنت تنظر اليه بعين الإستصغار وترتفع عنه بدالَّة الوعظ بل ليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزينٌ كما تحزن على نفسك إذا أدخل عليك نقصان.
 
 
وينبغي أن يخطر بقلبك أن تركه ذلك من غير نصيحتك أحبّ إليك من تركه بالنصيحة، فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغمّ بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.

ومن ثمرات سوء الظن التجسيس، فإنَّ القلب لا يقنع بالظنّ ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسيس وهو أيضاً منهيٌ عنه.

قال الله تعالى: "وَلَا تَجَسَّسُواْ"1، وقد نهى الله سبحانه في هذه الآية الواحدة عن الغيبة وسوء الظنّ والتجسيس، ومعنى التجسُّس أن لا تترك عباد الله تحت ستر الله فيتوصّل إلى الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك كان أسلم لقلبك ولدينك فتدبَّر ذلك راشداً، وبالله التوفيق.
 
 
 
 

 
1- الحجرات:12.
 
 
 
 
30
 

24

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

إعلم أن مساوىء الأخلاق كلَّها إنَّما تُعالَج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كلِّ علَّةٍ بمضادّ سببها.
 
فلنبحث عن سبب الغيبة أولاً ثم نذكر علاج كفّ اللسان عنها على وجهٍ يناسب علاج تلك الأسباب.

فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء قد نبَّه الصادق عليه السلام إليها إجمالاً بقوله: "أصل الغيبة يتنوّع بعشرة أنواع: 1 ــ شفاء غيظ، 2 ــ ومساعدة قوم، 3 ــ وتصديق خبر بلا كشفه، 4 ــ وتهمة، 5 ــ وسوء ظنّ، 6 ــ وحسد، 7 ــ وسخرية، 8 ــ وتعجّب، 9 ــ وتبرّم، 01 ــ وتزيّن"1.

ونحن نشير إليها مفصَّلة:

الأول: تشفّي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه
 
 
 

 
1- مصباح الشريعة، ص502.
 
 
31
 
 

25

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

فإذا هاج غضبه يشفى بذكر مساويه وسبق اللسان إليه بالطّبع إن لم يكن ديِّن ورِعٌ، وقد يمتنع من تشفّي الغيظ عند الغضب فيتحقَّق في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوىء. فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
 
الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنَّهم إذا كانوا يتفكَّهون بذكر الأعراض فيرى أنَّه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظنّ أنَّه مجاملة في الصُّحبة، وقد يُغضِب رفقاءه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم اظهاراً للمساهمة في السرَّاء والضرَّاء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوىء.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أنَّه سيقصده ويطول لسانه فيه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل ذلك ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته وفعله أو يبتدي بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به فيقول ما من عادتي الكذب فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن يُنسب إليه شيءٌ فيريد أن يتبرأ منه، فيذكر الذي فعله وكان من حقِّه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله ولا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنَّه كان مشاركاً له في الفعل ليمهِّد بذلك عذر نفسه في فعله.
 
 
 
 
 
32

 
 

26

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

الخامس: إرادة التصنّع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أفضل منه أو يحذر أن يعظّم مثله تعظيمه فيقدح فيه لذلك.
 
السادس: الحسد، وهو أنَّه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبّونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إليه إلاَّ بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفُّوا عن إكرامه والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له، وهذا هو الحسد وهو عين الغضب والحقد والحسد، وقد يكون مع الصديق المحسن والقريب الموافق.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجّب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له، فإنَّ ذلك قد يجري في الحضور فيجري ايضاً في الغيبة ومنشؤُه التكبّر واستصغار المستهزَء.

التاسع: وهو مأخذ دقيق ربَّما يقع فيه الخواصّ وأهل الحذر من مزالّ اللسان، وهو أن يغتمّ بسبب ما يبتلي به أحد فيقول: يا مسكين فلان قد غمّني أمره وما ابتُليَ بهِ، ويذكر سبب الغمّ فيكون صادقاً في اغتمامه ويلهيه الغمّ عن الحذر 
 
 
 
 
 
33

 
 

 


27

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

من ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مُغتاباً، فيكون غمّه ورحمته خيراً، ولكنَّه ساقه إلى شرّ من حيث لا يدري، والترحّم والتغمّم ممكن من دون ذكر اسمه ونسبته إلى ما يكره فيُهيّجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحّمه.
 
العاشر: الغضب لله تعالى، فإنَّه قد يغضب على منكر قارفه انسان فيظهر غضبه ويذكر اسمه ليبطل به على غير وجه النّهي عن المنكر، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصَّة وهذا ممَّا يقع فيه الخواص أيضاً فإنهم يظنّون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان عُذراً كيف كان وليس كذلك.

إذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة، فاعلم أن الطريق في علاج كفّ اللسان عن الغيبة يقع على وجهين:

أحدهما: على الجملة والآخر على التفصيل.

أمَّا على الجملة، فهو أن يعلم تعرّضه لسخط الله تعالى بغيبته كما قد سمعته في الأخبار المتقدمة وان يعلم أنَّه (أنَّها) تحبط حسناته، فإنَّها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلاً عمَّا أخذ من عرضه فإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيِّئاته وهو مع ذلك متعرّضٌ لمقت الله تعالى ومشبّه عنده بأكل الميتة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد"1.
 
 

1- إحياء علوم الدين، ج3، ص041.
 
 
 
34
 

28

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

ورُويَ أن رجلاً قـال لبعض الفضـلاء: بلغـني أنَّك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أن أحكّمك في حسناتي فمهما آمن العبد بما وردت به الأخبـار لـم ينطلـق لسانـه بالغيبة خوفاً من ذلك، وينفعه ايضاً أن يتدبَّر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذمَّ غيره، بل ينبغي أن يعلم أنَّ عجز غيره عن نفسه في التنزُّه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبـاً يتعلَّـق بفعلـه واختياره، وإن كان أمراً خلقيَّاً فالذمّ له ذمّ للخالق، فإنَّ مـن ذمَّ صنعـةً فقد ذمَّ الصانع.
 
قال رجل لبعض الحكماء: يا قبيح الوجه، فقال: ما كان خلق وجهي إليَّ فأحسّنه. وإن لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله ولا يتلوَّث نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب فيصير حينئذٍ ذا عيب، بل لو أنصف نفسه لعلم أن ظنَّه بنفسه أنه بريء من كلّ عيبٍ جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.

وينفعه أن يعلم أنَّ تألّم غيره بغيبته كتألّمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتابَ فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
 
 
فهذه معالجات جميلة.

وأما التفصيل فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فإنَّ علاج العلَّة بقطع سببها.

وقد عرفت الأسباب الباعثة.
 
 
 
35

 

29

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

أما الغضب فيعالجه بأن يقول: إن أمضيت غضبي عليه لعلَّ الله تعالى يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاستجرأت على نهيه واستخففت بزجره، وقد قال عليه السلام : "إنَّ لجهنَّم باباً لا يدخلها إلاَّ من شفى غيظه بمعصية الله تعالى"1.
 
وقال عليه السلام "من اتَّقى ربَّه كلّ لسانه ولم يشف غيظه"2.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مَن كَظمَ غيظاً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى خيَّرهُ الله من أيّ الحور العين شاء"3.

وفي بعض كتب الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق4.

وأمَّا الموافقة فبأن تعلم أنَّ الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقّر غيرك وتحقّر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلاَّ أن يكون غضبُك لله تعالى، وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوءٍ، بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً لرفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنَّهم عصوا ربّك بأفحش الذُّنوب وهو الغيبة.
 
 
 
 

 
1- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
2- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
4- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
 
 
 
 
36
 

30

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

وأمَّا تنزيه النفس بنسبة الخيانة إلى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشدّ من التعرّض لمقت الخلق، وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى يقيناً ولا تدري أنَّك تتخلّص من سخط الناس أم لا فتخلّص نفسك في الدُّنيا بالتوهّم وتهلك في الآخرة أو تخسر حسناتك بالحقيقة وتحصّل ذمّ الله نقداً وتنتظر رفع ذمّ الخلق نسيةً وهذا غاية الجهل والخذلان.
 
وأمَّا عُذْرك كقولك إن أكلتُ الحرام ففلان يأكل، وإن فعلتُ كذا ففلان يفعل كذا، وإن قصّرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر، ونحو ذلك فهذا جهل لأنَّك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإن من خالف أمر الله لا يُقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته سفه عقلك، فما ذكرته غيبةً وزيادة معصيةٍ أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجّلك مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغَباوتك، وكنتَ كالشَّاة تنظر إلى العنز تردّى نفسه من الجبل فهي أيضاً تردّى نفسها ولو كان لها لسان وصرّحت بالعذر وقالت العنز أكيس منّي وقد أهلك نفسه فكذا فعل لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها. ثم لا تتعجّب ولا تضحك من نفسك.

وأمَّا قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك، فينبغي أن تعلم أنَّك بما ذكرته أبطلت فضلك عند
 
 
 
37

31

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك تثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوق وهماً ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.
 
وأمَّا الغيبة للحسد، فهو جمع بين عذابين لأنَّك حسدته على نعمة الدنيا وكنت معذّباً بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسراً في الدُّنيا فجعلت نفسك خاسرة في الآخرة لتجمع بين النّكالين فقد قصدت محسودك وأصبت نفسك وأهْدَيت إليه حسنتك فأنت إذاً صديقه وعدو نفسك إذ لا تضرّه غيبتك وتضرّك وتنفعه إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيّئته ولا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة، وربَّما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك، فقد قيل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أناح لها لسان حسود.

وأمَّا الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله وعند الملائكة والنبيين، فلو تفكَّرت في خزيك وحيائك وحسرتك وخجلتك يوم تحمل سيّئات من استهزأت به وتُساق إلى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك، ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منه، فإنَّك سخرت به عند نفر قليل وأعرضت نفسك لأن يأخذ بيدك يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيّئاته كما
 
 
 
 
 
38

 

32

الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

يساق الحمار الى النار مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله إيَّاهُ وتسليطه على الانتقام.
 
وأمَّا الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس واستنطقك بما تنقل من حسناتك إليه مما هو أكثر من رحمتك فيكون جبراً لإثم المرحوم ليخرج عن كونه مرحوماً وتنقلب أنت مستحقَّاً لأن تكون مرجوماً إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك. وكذلك الغضب لله لا يوجب الغيبة فإنَّما حبّب الشيطان إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لغضب الله تعالى بالغيبة.

وبالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة والتحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكفَّ عن الغيبة لا محالة.
 
 
 
 
 
39




 

33

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

إعلم أنَّ المُرخَّص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشّرع لا يمكن التوصّل إليه إلاَّ به فيدفعُ ذلك إثم الغيبة وقد حصروها في عشرة:
 
الأول: التظلّم، فإنَّ من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً، فأما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلّم إلى من يرجو منه إزالة ظلمه وينسب القاضي إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقّه إلاَّ به.

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "لصاحب الحقّ مقال"1.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مطل الغنيّ ظلم"2.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مطل الواجد يحلّ عرضه وعقوبته"3.
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص144.
2- العوالي، ج4، ص27، ح45.
3- إحياء علوم الدين،ج3، ص144.
 
 
41
 
 
 
 
41
 

34

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى منهج الصلاح، ومرجع الأمر في هذا الى القصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.
 
الثالث: الاستفتاء كما تقول للمفتي قد ظلمني أبي أو أخي فكيف طريقي في الخلاص.

والأسلم هنا التعريض بأن تقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه.

وقد رُويَ أنَّ هنداً قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ أبا سُفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، أفآخذ من غير علمه؟ فقال: خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف1. فذكرت الشحّ لها وولدها ولم يزجرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء.

الرابع: تحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشرّ ونصح المستشير، فإذا رأيت متفقّهاً يتلبّس بما ليس من أهله فلك أن تنبّه الناس على نقصه وقصوره عمَّا يؤهّل نفسه له وتنبّههم على الخطر اللاحق لهم بالإنقياد إليه. وكذلك إذا رأيت رجلاً متردّداً إلى فاسق يُخفي أمره وخفت عليه من الوقوع بسبب الصُّحبة في ما لا يوافق الشرع، فلك أن تنبّهه على فسقه مهما كان الباعث لك الخوف على افشاء البدعة وسراية الفسق وذلك موضع الغرور والخديعة من الشيطان إذ قد
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص144.
 
 
 
 
 
42
 
 

35

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

يكون الباعث لك على ذلك هو الحسد له على تلك المنزلة فيلبّس عليك الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق. وكذلك إذا رأيت رجلاً يشتري مملوكاً وقد عرفت المملوك بعيوبٍ منقصةٍ فلك أن تذكرها للمشتري فإنَّ في سكوتك ضرراً للمشتري، وفي ذكرك ضرراً للعبد، لكنَّ المشتري أولى بالمراعاة ولتقتصر على العيب المنوط به ذلك الأمر فلا تذكر في عيب التزويج ما يخلّ بالشركة والمضاربة أو السفر مثلاً بل تذكَّر في كلِّ أمر ما يتعلَّق بذلك الأمر ولا يتجاوزه قاصداً نصح المستشير لا الوقيعة، ولو علم أنه يترك التزويج بمجرَّد قوله لا يصلح لك فهو الواجب، فإن علم أنَّه لا ينزجر إلاَّ بالتصريح بعيبه فله أن يصرّح به.
 
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "أترعون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه يحذره الناس"1.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت قيس حين شاورته في خطَّابها: "أمَّا معاوية فرجل صعلوك لا مال له، وأمَّا أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه"2.

الخامس: الجرح والتعديل للشاهد والراوي، ومن ثم وضع العلماء كتب الرجال وقسّموهم إلى الثقات والمجروحين وذكروا أسباب الجرح غالباً.
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص144.
2- العوالي، ج1، ص834، ح155.
 
 
 
43
 
 

36

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

ويشترط إخلاص النصيحة في ذلك كما مرَّ بأن يقصد في ذلك حفظ أموال المسلمين وضبط الألسنة وحمايتها عن الكذب، ولا يكون حامله العداوة والتعصّب. 
 
وليس له إلاَّ ذكر ما يخلّ بالشهادة والرواية منه ولا يتعرّض لغير ذلك مثل كونه ابن ملاعنة أو شبهة، اللهمَّ إلاَّ أن يكون متظاهراً بالمعصية كما سيأتي.

السادس: أن يكون المقول فيه مستحقاً لذلك، لتظاهره بسببه كالفاسق المتظاهر بفسقه بحيث لا يستنكف من أن يذكر بذلك الفعل الذي يرتكبه فيذكر بما هو فيه لا بغيره.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له"1، وظاهر الخبر جواز غيبته وإن استنكف من ذكر ذلك الذنب، وفي جواز اغتياب مطلق الفاسق احتمال ناشىء من قوله لا غيبة لفاسق2.

ورُدَّ بمنع أصل الحديث وبحمله على فاسق خاصّ أو بحمله على النهي وإن كان بصورة الخبر.

وهذا هو الأجود، إلاَّ أن يتعلَّق بذلك غرض دينيّ ومقصد صحيحٌ يعود على المغتاب بأن يرجو ارتداعه عن معصيته بذلك فيلحق بباب النهي عن المنكر.

السابع: أن يكون الانسان معروفاً باسم يعرب عن عيبه
 
 
 
 

 
1- العوالي، ج1، ص772، ح105.
2- العوالي، ج1، ص834، ح153.
 
 
 
44
 

37

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

كالأعرج والأعمش فلا اثم على من يقول ذلك، وقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأنَّه صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به.
 
والحقّ أنَّ ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك يجوز التعويل فيه على حكايتهم.

وأمَّا ذكره عن الاحياء فمشروط بعلم رضا المنسوب إليه لعموم النهي، وحينئذٍ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان فلو وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى.

الثامن: لو اطَّلعَ العدد الذين يثبت بهم الحد والتعزير على فاحشةٍ جاز ذكرها عند الحكَّام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل وغيبته ولا يجوز التعرّض إليها في غير ذلك إلاَّ أن يتَّجه فيه أحد الوجوه الأخر.

التاسع: قيل إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنه لا يؤثّر عند السامع شيئاً وإن كان الأولى تنزيه النفس واللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض المذكورة خصوصاً مع احتمال نسيان المقول له لتلك المعصية أو خوف اشتهارها عنهما.

العاشر: إذا سمع أحد مُغتاباً لآخر وهو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة ولا عدمه، قيل لا يجب نهي القائل لإمكان استحقاق المقول عنه فيُحمل فعل القائل على الصحة ما لم
 
 
 
 
45
 

 


 

38

الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

يعلم فساده لأنَّ ردعه يستلزم انتهاك حُرمته وهو أحد المحرّمين. والأولى التنبيه على ذلك إلاَّ أن يتحقق المخرج منه لعموم الأدلَّة وترك الاستفصال فيها، وهو دليل إرادة العموم حذراً من الاغراء بالجهل، ولأن ذلك لو تمَّ لتمشَّى في من تعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة الى السامع لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله وهو يهدم قاعدة النهي عن الغيبة. وهذا الفرد يُستثنى من جهة سماع الغيبة، وقد تقدَّم أنه أحد الغيبتين.
 
وبالجملة فالتحرّز عنها من دون وجه راجح في فعلها فضلاً عن الإباحة أولى لتتّسِمَ النفس بالأخلاق الفاضلة.

ويؤيّده اطلاق النهي في ما تقدَّم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم :أتدرون ما الغيْبَة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "ذكرك أخاك بما يكرهه"1.

وأمَّا مع رجحانها كردّ المبتدعة واخزاء الفسقة منهم والتنفير منهم والتحرّز من إتباعهم، فذلك يوصف بالوجوب مع امكانه فضلاً عن غيره والمعتمد في ذلك كلّه على المقاصد فلا يغفل المستيقظ عن ملاحظة مقصده وإصلاحه، والله الموفق.


1- تنبيه الخواطر، ج1، ص118.
 
 
 
 
 
46

39

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وله اسمٌ خاصٌ وقد تعلَّق به نهي خاصّ لما عرفت أنَّ الغيبة تطلق على ذكر ما يسوء الغير ذكره ويكرهه ولا يؤثره، وعلى التنبيه عليه بمكاتبة وإشارة وغيرهما، وعلى حديث النفس به وعقد القلب عليه وإن لم يذكره ودخل في هذا التعريف أفرادٌ أُخر من المواضع المحرَّمة على الخصوص وهي أُمور:
أحدها: النميمة، وهي نقل قول الغير الى المقول فيه كما تقول فلان تكلِّم فيك بكذا وكذا سواء كان نقل ذلك بالقول أو الكتابة أو الإشارة والرّمز وكان ذلك النقل كثيراً ما يكون متعلّقة نقصاناً أو عيباً في المحكيّ عنه موجباً لكراهته له وإعراضه عنه وكان ذلك راجعاً إلى الغيبة أيضاً فجمع بين معصية الغيبة والنميمة فلا جَرَمَ حَسُنَ في هذه الرسالة التنبيه على النميمة وما ورد فيها من النهي على الخصوص فإنَّها إحدى المعاصي الكبائر كما ستسمعه.
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
 
 
 
 
47

 
 

40

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وثانيها: كلام ذي اللسانين الذي يتردّد بين المتخاصمين ونحوهما ويكلّم كلّ واحد منهما بكلامٍ يوافقه، فإنَّ ذلك مع ما ورد فيه من النهي الخاص يرجع إلى الغيبة بوجه ما، وإلى النميمة بوجه آخر، بل هو شرّ أقسام النميمة كما سيأتي من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "تجدون شرّ عباد الله يوم القيامة من يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء"1، فإنَّه كلام يكرهه كلُّ واحدٍ منهما لو بلغه، فإنَّ الانسان لا يحبّ من تكلَّم خصمه بما يرضيه ولا من يؤثر معه ما يبغيه بل هو معدود من جملة الأعداء فتعلّق الكراهة لذلك الكلام بكل منهما فلنتكلَّم فيه أيضاً على وجه الإيجاز ونذكر ما ورد فيه من النهي.
 
وثالثها: الحسد وهو كراهة النعمة على الغير ومحبَّة زوالها على المنعم عليه، وهو مع كونه أيضاً من المحرَّمات الخاصة والمعاصي الكبيرة يرجع إلى الغيبة القلبيَّة بوجه لأنَّه حُكْم على القلب بشيءٍ يتعلَّق بالغير يكرهه لو سمعه أشدّ كراهة وأبلغها، فيجمع بين معصيتين: الحسد والغيبة.

فلنذكر جملة من الكلام فيه وما ورد فيه من النهي بل هُوَ أوْلى الثلاثة بالذكر لكثرة وقوعه في هذا العصر وابتلاء الخواصّ به بل هو داؤهم ليس لهم عنه مناص وأولى ما يهتمّ 



1- القلم:11.
 
 
 
48

41

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

العاقل به دواء المرض الحاضر فيقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
 
الأوَّل: النّميمة، قال الله تعالى: "هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ"1.

ثمَّ قال: "عُتُلِّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ"2.

قال بعض العلماء: هذه الآية دلَّت على أنَّ من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة ولد زنا لأنَّ الزنيم هو الدعيّ.

وقال الله تعالى: "وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّـــمَزَةٍ"3، قيل الهمزة النمَّام.

وقال تعالى عن امرأة نوح وامرأة لوط: "فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين"، قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضّيفان وامرأة نوح تخبر بأنه مجنون.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "لا يدخل الجنَّة نمَّام"5.

وفي حديث آخر: "لا يدخل الجنَّة قتَّات"6، والقتَّات هو النمَّام.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أحبكم إلى الله تعالى أحسنكُم أخلاقاً الموطّؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإنَّ أبغضكم إلى الله تعالى المشَّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الاخوان، الملتمسون للبراء العثرات"7.
 
 

1- القلم:13.
2- الهمزة، رقم1.
3- التحريم:10.
4- الترغيب والترهيب، ج3، ص496.
5- العوالي، ج1، ص662، ح58.
6- العوالي، ج1، ص001، ح21 وإحياء علوم الدين، ج3، ص146.
 
 
 
 
 
49
 

42

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "المشَّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبَّة، الباغون للبراء العيْب"1.
 
وقال أبو ذرّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من أشار على مسلم بكلمة ليشينه بها بغير حقّ شانه الله تعالى في النار يوم القيامة"2.

وقال أبو الدّرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدُّنيا كان حقَّاً على الله عزَّ وجلَّ أن يدينه بها يوم القيامة في النار"3.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ الله تعالى لمَّا خلق الجنَّة قال لها: تكلَّمي، قالت: سَعد من دخلني، قال الجبَّار جلَّ جلاله: وعزتي وجلالي لا يسكن فيكِ ثمانية نفر من الناس، لا يسكن فيك مدمن خمر، ولا مصرٌ على الزنا، ولا قتَّات (وهو النمَّام)، ولا ديّوث، ولا الشّرطيّ، ولا المخنَّث، ولا قاطع رحم، ولا الذي يقول عليَّ عهد الله إن لم أفعل كذا أو كذا ثمَّ لم يفِ به"4.

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنَّة محرَّمة على القتَّاتين المشَّائين بالنميمة"5.

 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص146، وانظر الخصال، ج1، ص86.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص147.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص147.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص147.
5- الكافي، ج2، ص369.
 
 
 
50
 





 



 

 

43

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وعن أبي عبدالله عليه السلام أنَّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام : "شراركم المشَّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبَّة، المتّبعون للبراء المَعَايب"1.

ورُويَ أنَّ موسى عليه السلام استسقى لبني إسرائيل حين أصابهم قحط، فأوحى الله تعالى إليه: لا أستجيبُ لك ولا لمن معك وفيكم نمَّام قد أصرَّ على النميمة، فقال موسى عليه السلام : من هو يا ربّ حتَّى نخرجه من بيننا؟ فقال الله: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نمَّاماً فتابوا بأجمعهم فسقوا2.

ورُوي أن رجلاً تبع حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلمَّا قدم عليه قال: إني جئتك للذي أتاك الله تعالى من العلم، أخبرني عن السماء وما أثقل منها، وعن الأرض وما أوسع منها، وعن الحجارة وما أقسى منها، وعن النار وما أحرّ منها، وعن الزّمهرير وما أبرد منه، وعن البحر وما أغنى منه، وعن اليتيم وما أذلّ منه.

فقال الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السماوات، والحقّ أوسع من الأرضين، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحرّ من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم ينجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجارة، والنمّام إذا بان أمرهُ أذلّ من اليتيم3.
 
 
 

 
1- الكافي، ج2، ص369.
2- انظر إحياء علوم الدين، ج3، ص147.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص147.
 
 
 
51
 

 


44

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

واعلم أنَّ النميمة تُطلق في الأكثر على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه، كما يقول فلان كان يتكلَّم فيك بكذا وكذا وليست مخصوصة به بل تطلق على ما هو أعمّ من القـول، كما مرَّ في الغيبة وحدهـا بالمعنى الأعـمّ كشـف ما يكـره كشفه، سواءٌ كرهه المنقـول عنـه أم المنقـول إليـه أم كرهـه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أم بالكتابة أم بالإشارة أم بالرّمز أم بالايماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أم من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً أو نقصاناً على المنقول عنه أم لم يكن، بل حقيقة النميمة إفشاءُ السرّ وهتك السـتر عمَّا يكره كشفه، بل كلّ ما رآه الانسان من أحوال الانسان فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاةً لحقّ المشهود عليه.
 
وأمَّا إذا رآهُ يخفي مالاً لنفسه فذكره نميمة وافشاء للسرّ فإن كان ما ينمّ به نقصاناً أو عيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة.

والسبب الباعث على النميمة إمَّا إرادة السوء بالمحكيّ عنه أو إظهار الحبّ للمحكيّ له أو التفرّج بالحديث أو الخوض في الفضول.

وكلّ من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل فيك كذا وكذا وهو يدبّر في إفساد أمرك أو في
 
 
 
52

 

45

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

ممالاة عدوّك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستّة أمور:
الأول: أن لا يصدّقه لأنَّ النمَّام فاسق وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"1.

الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبّح له فعله، قال الله تعالى: "وَأْمُرْ بِالـْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْــمُنكَرِ"2.

الثالث: أن يُبْغضه في الله تعالى فإنَّه يُبغض عند الله ويجب بغض من يُبْغضه الله تعالى.

الرابع: أن لا تظنّ بأخيك السُّوء بمجرّد قوله لقوله تعالى: "اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ"3، بل يثبّت حتَّى يتحقق الحال.

الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسيس والبحث ليتحقّق قوله تعالى: "وَلَا تَجَسَّسُواْ"4.

السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نَهيْتَ النمَّام عنه فلا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي بكذا فتكون به نمَّاماً ومُغتاباً وقد تكون أتيت بما نهيت عنه.



1- الحجرات:6.
2- لقمان:17.
3- الحجرات:12.
4- الحجرات:12.
 
 
 
53
 
 

46

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وقد رُويَ عن علي عليه السلام أنَّ رجُلاً أتاه يسعى إليه برجل، فقال: يا هذا نحن نسأل عمَّا قلت فإن كنت صادقاً مَقَتْنَاكَ، وإن كنت كَاذباً عاقَبناكَ، وإن شئت أن نقِيلكَ أَقَلناكَ، قال: أقلني يا أمير المؤمنين1.
 
وقد تبعه في ذلك عمر بن عبدالعزيز، فقد روي أنه دخل إليه رجل فذكر عنده عن رجل شيئاً، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: 

"إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ"2، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: "هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ"3، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً4.

وقد رُويَ أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه وأخبره بخبر عن غيره، فقال له الحكيم: قد أبطأْتَ في الزيارة، وأتيتني بثلاث خيانات: بغّضت إليَّ أخي، وشغلتَ قلبي الفارغ، واتّهمت نفسك الأمينة5.

وروي أن بعض الخلفاء قال لرجل: بلغني أنَّك قلت فيَّ كذا وكذا، فقال الرجل: ما قلتُ وما فعلت، فقال: إنَّ الذي أخبرني صادق، فقال الزهري، وكان جالساً: لا يكون النمَّام صادقاً،


1- إحياء علوم الدين، ج3، ص841، وانظر الاختصاص، ص142.
2- الحجرات:6.
3- القلم:11.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
5- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
 
 
 
54
 

47

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

قال: صدقت اذهب بسلامة1, وقال الحسن: من نمَّ إليك نمَّ عليك2.
 
وهذه إشارة إلى أنَّ النمَّام ينبغي أن يُبْغض ولا يوثق بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفكّ من الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغلّ والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممن قد سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل، قال الله تعالى: "وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ َوَيُفْسِدُونَ فِي الَأْرْضِ"3، وقال تعالى: "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الَأرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ"4، والنمَّام منهم.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ من شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه"5، والنمَّام منهم.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "لا يدخل الجنَّة قاطع"6، قيل: قاطع بين الناس، وهو النمَّام، وقيل: قاطع الرَّحم.

وقال لقمان الحكيم لابنه: "يا بنيّ إنِّي موصيك بخلال إن تمسَّكت بهنَّ لم تزل سيداً، أبسط خلقك للقريب والبعيد،


1- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
3- البقرة:27.
4- الشورى:42.
5- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
6- إحياء علوم الدين، ج3، ص148.
 
 
 
55
 
 

48

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وامسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصِل أقاربك، وآمنهم من قبول ساعٍ أو سماع باغٍ يُريد إفسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك مَنْ إذا فارقتهم وفارقوك لم تغتبْهم ولم يغتابوك"1، وقال بعضهم: لو صحَّ ما نقله النمَّام إليك لكان هو المجري بالشّتم عليك والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يُقابلك بشتمك2.
 
وبالجملة فشرّ النمَّام عظيم ينبغي أن يُتوقّى. قيل: باع بعضهم عبداً وقال للمشتري: ما فيه عيب إلاَّ النميمة، قال: رضيت به، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال لزوجة مولاه: انّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتسرّى عليك، فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتى أسحّر عليها فيحبّك، ثم قال للزوج: إنَّ امرأتك اتَّخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتَناومَ، فجاءت المرأة بالموسى فظنَّ أنها تقتله فقام وقتلها، فجاء أهل المرأة وقتلوا الزوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر.

المقام الثاني: كلام ذي اللسانين الذي يتردّد بين اثنين سيّما المتعاديين، ويكلّم كلّ واحدٍ منهما بكلام يوافقه، وقلّ ما يخلو عنه من يشاهد متعاديين، وذلك عين النفاق وهو من المعاصي الكبائر المتوعّد عليه بخصوصه.


1- إحياء علوم الدين، ج3، ص149.
2- إحياء علوم الدين، ج3، 149.
 
 
 
 
 
56
 

 


49

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وروى عمَّار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان له وجهان في الدُّنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : "تجدون من شرّ عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء"2.

وفي حديث آخر: "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"3.

وقيل: مكتوب في التوراة: "بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين"4.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أبغض خلق الله إليه يوم القيامة الكذَّابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم، فإذا لقوهُمْ تخلّقوا لهم، والذين إذا دُعوا إلى الله ورسوله كانوا بطاء وإذا دُعُوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً"5.

وروى الصّدوق بإسناده إلى عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه، وآخر من قدَّامه يتلهّبان ناراً حتى يلتهبان جسده، ثم يُقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين يُعرف بذلك يوم القيامة"6.
 
 
 

 
1- الخصال، ج1، ص83، ح81، وإحياء علوم الدين، ج3، ص149.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص150.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص150.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص150.
5- إحياء علوم الدين، ج3، ص150.
6- الخصال، ج1، ص73، ح16.
 
 
 
57
 

 

50

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وبالاسناد إلى الباقر عليه السلام قال: "بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أُعطيَ حسدهُ وإن ابتلى خذله"1.
 
وباسناده عنه عليه السلام قال: "بئس العبد عبد همزة لمزة، يقبل بوجه ويدبر بآخر"2.

وبالإسناد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله تعالى لعيسى بن مريم: يا عيسى ليكن لسانُك في السرّ والعلانية لساناً واحداً وكذلك قلبك، إنِّي أحذّرك نفسك وكفى بك خبيراً لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان"3.

واعلم أنَّ الإنسان يتحقّق كونه ذا لسانين بأموره:

منها: أن ينقل كلام كلّ واحد إلى الآخر وهو مع ذلك نميمة وزيادة، فإنَّ النميمة تتحقق بالنقل من أحد الجانبين فقط.

منها: أن يُحَسِّن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة من صاحبه وإن لم ينقل بينهما كلاماً.

منها: أن يعد كلّ واحد منهما بأن ينصره ويساعده.

منها: أن يُثني على كلّ واحد منهما في معاداته وأولى منه أن يثني عليه في وجهه، وإذا خرج من عنده ذمَّه، والذي ينبغي
 
 
 

 
1- عقاب الأعمال، ص317، ح3.
2- عقاب الأعمال، ص317، ح4.
3- عقاب الأعمال، ص317، ح5.
 
 
 
58
 
 

51

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

أن يسكت أو يثني على الحقّ منهما في حضوره وغيبته وبين يدي عدوّه. ولا يتحقّق اللسانان بالدخول على المتعاديين ومجاملة كلّ واحد منهما مع صدقه في المجاملة، فإنَّ الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تصل الى حدّ الأخوّة إذ لو تحقّقت الصداقة لاقتضت معاداة العدوّ كما هو المشهور من أنَّ الأصدقاء ثلاثة: الصديق وصديق الصديق وعدوّ العدوّ والأعداء ثلاثة: العدوّ وعدوّ الصديق وصديق العدو1، فإن قيل كثيراً ما يتّفق لنا اختلاف اللسانين مع الأمراء وأعداء الدّين المتظاهرين، فهل يكون ذلك داخلاً في النهي والنفاق كما ورد من أنه سُئل بعض الصحابة إنَّا ندخل على أْمَرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره.
 
قلنا: إن كان القائل مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن مخالطة العدوّ للدّين واختار الاجتماع معه والصحبة له اختياراً طلباً للجاه والمال زيادة على القدر الضروري فهو ذو لسانين ومنافق كما ذكره الضحّاك وعليه يحمل الخبر.

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "حبّ الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"2، وإن كان محتاجاً إلى ذلك اتّقاءً ضرورة فهو معذورٌ لا حرج عليه فيه فإن اتقاء الشرّ جائز.


 
1- انظر نهج البلاغة، ص725، حكمة 295.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص150.
 
 
 
 
 
59
 
 

52

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

قال أبو الدّرداء: إنَّا لنكثّر الضحك في وجوه أقوام وإنَّ قلوبنا لتبغضهم.
 
وروي أنه مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بئس رجل العشيرة، فلمَّا دخل عليه أقبل عليه، فقيل له في ذلك، فقال: "إنَّ شرّ الناس الذي يُكْرَمُ اتّقاءً لشرّه"1.

المقام الثالث: الحسد، وهو من أعظم الأدواء وأكبر المعاصي وأشرّها وأفسدها للقلب، وهي أوَّل خطيئة وقعت في الأرض لمَّا حسدَ إبليسُ آدمَ فحمله على المعصية، فكانت البليّة من ذلك إلى الأبد، وقد أمر الله نبيّه بالإستعاذة من شرّه، فقال: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد"2، بعد أن استعاذ من الشيطان والساحر وأنزله منزلتهما، والأخبار النبويَّة فيه لا تحصى كثرةً.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"3.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "ستَّة يدخلون النار قبل الحساب بستّة: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبيَّة، والدَّهاقين بالكبر، والتجَّار بالخيانة، وأهل الرّسْتاق بالجهل، والعلماء بالحسد"4.



1- إحياء علوم الدين، ج3، ص151.
2- الفلق:5.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص126، وانظر جامع الأخبار، ص186.
4- تنبيه الخواطر، ج1، ص127.
 
 
 
60
 

53

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنَّة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابّوا ألا أُنَبّئكم بما يثبت ذلك لكم، افشوا السلام"1.
 
وفي خبر معاذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ الحفظة تصعد بعمل العبد تزفّ كما تزفّ العروس إلى أهلها، حتى إذا انتهوا إلى السماء الخامسة بذلك العمل الحسن من جهاد وحجّ وله ضوء كضوء الشمس فيقول الملك: أنا الملك صاحب الحسد إنّه كان يَحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله، ويسخط ما رضي الله، أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني الى غيره"2.

وقال الصادق عليه السلام : "الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة ولآدم الاجتباء والهدى والرّفع إلى محل حقائق العهد والاصطفاء، فكن محسوداً ولا تكن حاسداً، فإن ميزان الحاسد أبداً خفيفٌ يثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم فماذا ينفع الحسد الحاسد وماذا يضرّ المحسود الحسد، والحسد أصله من عمل القلب وجحود فضل الله وهما جناحان للكفر، بالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً، ولا
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص771، وتنبيه الخواطر، ج1، ص127.
2- انظر عدَّة الداعي، ص228.
 
 
 
61
 

54

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

توبة للحاسد لأنَّه مستمرّ عليه معتقد به مطبوع فيه يبدو بلا معارض به ولا سبب، والطّبع لا يتغيّر عن الأصل وإن عولج"1, وكفى بالحسد داءً ابلاغه العلماء النار كما ورد في الحديث السابق.
 
واعلم أن الحسد يهيّج خمسة أشياء:
أحدها: إفساد الطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"2.

والثاني: فعل المعاصي والشّرور وقد قال بعض الفضلاء: للحاسد ثلاث علامات يتملّق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة. وحسبك أنَّ الله أمر بالاستعاذة من شرّه وقرنه بالشيطان، والساحر النافث في العُقد كما تقدَّم.

والثالث: التّعب والغمّ من غير فائدة بل مع كلّ وزر ومعصية، قال بعضهم: لم أرَ ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد، نفس دائمٌ وعقلٌ هائم وغمّ لازم.

والرابع: الحرمان والخذلان، فلا يكاد يظفر بمراد ولا ينصر على عدوّ، وقد قيل: الحاسد غير منصور كيف يظفر بمراده، ومُراده زوال نعم الله عن عباده. 
 
 
وكيف ينصر على أعدائه وهم عباد الله الذين نظر الله إليهم وأسبغ نعمه عليهم سيّما إذا كانت النعمة نعمة العلم. والكلام في الحسد طويل


1- مصباح الشريعة، ص104.
2- تنبيه الخواطر، ج1، ص126.
 
 
 
62
 

55

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

لاعتناء عُلماء القلوب به وبحثهم عنه وقوَّة دائه في قلوب الخاصة دون العامة.
 
ولنقتصر هنا في البحث على مواضع:

الأول: في حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه:
فحقيقته انبعاث القوة الشهوية إلى تمنّي مال الغير أو الحالة التي هو عليها وزوالها عن ذلك الغير وهو مستلزم لحركة القوة الغضبيّة واثبات الغضب ودوامه وزيادته بحسب زيادة حال المحسود التي يتعلّق بها الحسد.

ولذلك قال علي عليه السلام : "الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له"1، وهو نوع من أنواع الظلم والجور، وقال عليه السلام أيضاً: "لا راحة مع حسد"2، ووجهه قد ظهر من حقيقته، فإن شهوة الحاسد وفكره في كيفيَّة حصول حال المحسود فيها وفي كيفيَّة زوالها عمَّن هي له المستلزمة لحركة آلات البدن في ذلك المستلزمة لعدم الراحة.

وقد اتَّفق العقلاء على أنَّ الحسد مع أنَّه رذيلة عظيمة للنّفس فهو من الأسباب العظيمة لخراب العالم إذ كان الحاسد كثيراً ما تكون حركاته وسعيه في هلاك أرباب الفضائل وأهل الشّرف والأموال الذين يقوم بوجودهم عمارة


1- جامع الأخبار، ص186.
2- غرر الحكم، ص525 "لا راحة لحسود".
 
 
 
63
 

56

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

الأرض إذ لا يتعلَّق الحسد بغيرهم من أهل الخسَّة والفقر، ثمَّ لا يقصر في سعيه ذلك دون أن تزول تلك الحالة المحسود بها عن المحسود، ويهلك هو في تلك الحركات الحسّية الفعليّة والقوليّة، ولذلك قيل: حاسد النعمة لا يرضيه إلاَّ زوالها1، وما دام الباعث في القوة الغضبية قائماً فهي قائمة متحرّكة ومحرّكة وكثيراً ما يؤثّر السعاية بين يدي الأمراء والمسلّطين لعلم الساعي بقدرتهم على تنفيذ أغراضه ولقرب طباعهم إلى قبول قوله من الغير لمشاركتهم في الطباع وغلبة القوى الشهوية والغضبية فيهم، ولكن كثيراً ما يؤثر حركة الحاسد في إزالة نعمة المحسود لمحة من لمحات الله للمحسود بعين العناية فيحرسهم ويزيد نعمتهم فلا يتوجّه للحاسد عليهم سبيل، وإنَّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ فيصير بغيهم سبباً لخراب الأرض فيفسد الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد.
 
وإذ قد عرفت أنَّه لا حسد إلاَّ على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:

إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحبّ زوالها، وهذه الحالة تسمّى حسداً.

والثانية: أن لا تحبّ زوالها ولا تكره وجودها ودوامها



1- إحياء علوم الدين، ج3، ص178.
 
 
 
 
64
 

57

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

ولكنّك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمّى غبطة وقد يخصّ باسم المنافسة.
 
قال الله تعالى: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْــمُـتَنَافِسُونَ"1.

وقد تسمّى المنافسة حسداً، والحسد منافسة كقول عبدالله الفضل وقثم ابني العباس لعلي عليه السلام حين أشار عليهما بأن لا يذهبا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسألانه الولاية على الصدقة، وقد كانا أرادا ذلك: ماذا منك إلاَّ منافسة، والله لقد زوّجك ابنته، فما نفسنا ذلك عليك2. وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "لا حسد إلاَّ في اثنين: رجل أتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحقّ ورجل أتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلّمه الناس"3، والمحرّم من الحالتين هو الحالة الأولى وهي المخصوصة بالذمّ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "المؤمن يغبط والمنافق يحسد"4. اللهم إلاَّ أن يكون النعمة قد أصابها فاجر يستعين بها على إيذاء الخلق وتهييج الفتنة وفساد الدين ونحو ذلك، فلا تضرّ الكراهة لها ومحبّة زوالها إذا لم يكن ذلك من حيث إنَّها نعمة، بل من حيث إنَّها آلة الفساد، ويدلّ على عدم تحريم الحالة الثانية الآية المتقدّمة والحديث.
 
 
 

1- المطففين:26.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص180.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص180.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص179.
 
 
 
65
 

58

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وإذ قد عرفت حقيقة الحسد، فاعلم أنَّ له مراتب أربع:
الأولى: أن يحبّ زوال النعمة عنه وإن كانت لا تنتقل اليه وهذا غاية الخبث وأعظم افراد الحسد.

الثانية: أن يحبّ زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة بحيث يكون مطلوبه تلك النعمة لا مجرّد زوالها عن صاحبها.

الثالثة: أن لا يشتهي عينها بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها يحبّ زوالها كي لا يظهر التفاوت بينهما.

وهذه الثلاثة محرَّمة وهي مترتّبة في القوة ترتّبها في اللفظ.

الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها فإذا لم يحصل فلا يحبّ زوالها منه.

وهذا هو المحمود المخصوص باسم الغبطة، بل المندوب اليه في الدين ونسمّيه حسداً تجوّزاً.

الثاني: في الأسباب المثيرة للحسد وهي كثيرة جداً إلاَّ أنها ترجع إلى سبعة:
1 ـ العداوة، 2 ـ والتعزّز، 3 ـ والتكبّر، 4 ـ والتعجّب، 5 ـ والخوف من فوت المقاصد، 6 ـ وحبّ الرياسة، 7 ـ وخبث النفس وبُخلها.

فإنه إنَّما يكره النعمة عليه:
1 ـ إمَّا لأنه عدوّ فلا يريد له الخير، وهذا لا يختصّ بالأمثال.
 
 
 
 
 
67

59

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

2 ـ وإما لأنه يخاف أن يتكبّر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وعظمته لعزّة نفسه، وهو المراد بالتعزّز.
 
3 ـ وإمَّا يكون في طبعه أن يتكبّر على المحسود ويمتنع ذلك عليه بنعمته، وهو المراد بالتكبّر.
 
4 ـ وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيراً فيتعجّب من فوز مثله تلك النعمة،وهو التعجّب.
 
5 ـ وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصّل به إلى مزاحمته في اغراضه.
 
6 ـ وإمَّا أن يكون يحبّ الرياسة التي تبتني على الاختصاص بنعمة لا تساوي فيها.
 
 
7 ـ وإمَّا أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل بخبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله.

وقد أشار الله سبحانه الى السبب الأول بقوله: "وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ"1.

وإلى الثانية بقوله: "وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ ِّمِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"2.

أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتّبعه إذا كان عظيماً.

وكانوا قد قالوا كيف يتقدَّم علينا غلام يتيمٌ وكيف نطأطئُ له رؤوسنا.
 
 
 
 

 
1- آل عمران:118.
2- الزخرف:31.
 
 
 
68
 

60

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

إلى الرابعة بقوله: "قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا"1، "أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا"2، "وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لــَّخَاسِرُونَ"3، فتعجّبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وقالوا متعجبين: "أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً"4، فقال تعالى: "أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"5.
 
وأعظم الأسباب فساداً الخامس والسادس لتعلّقهما غالباً بعلماء السوء ونظرائهم. ومناط الخامس يرجع إلى متزاحمين على مطلوب واحد فإنّ كلاً منهما يحسد صاحبه في كلّ نعمة يكون عوناً له في الانفراد بمقصوده.

ومن هذا الباب تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصدالزوجية، والأخّوة في التزاحم على نيل المنزلة المطلوبة بها عند الأب، والتلامذة لاستاذ واحد في نيل المنزلة عنده، والعالمين المتزاحمين على طائفة من المحصورين إذ يطلب كلّ واحد منزلة في قلبهم للتوصّل بهم إلى أغراضه. ومرجع السادس إلى محبَّة الإنفراد بالرياسة والاختصاص بالثناء والفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر ولا نظير له، فإنّه
 
 
 
 

 
1- يس:15.
2- المؤمنين:47.
3- المؤمنين:34.
4- الاسراء:94.
5- الأعراف:63.
 
 
 
69

61

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

متى سمع بنظير له في أقصى العالم أساءه ذلك وأحبَّ موته أو زوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة.


وهذا زيادة على ما في قلوب آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصّل إلى مقاصد سوى الرياسة.

وقد كان علماء اليهود يعلمون رسـالة رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينكرونها ولا يؤمنون به مخافة أن يبطل رياستهـم وأن يصيروا تابعين بعد أن كانوا متـبوعـين مهمـا نسـخ علمهـم. وقـد يجتمـع بعـض هـذه الأسبــاب أو أكثرهـا أو جميعهـا في شخص واحد فيعظـم فيـه داء الحسـد ويتمكَّن فـي قلبـه ويقــوى قــوَّة لا يقـــدر معـــه علــى الاخفـاء والمجـاملـة، بـل ينهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة ولا يكـاد يزول إلاَّ بالموت. وقلّ أن يتّفق بالحاسد سبب واحد من هذه الأسباب بل أكثر.

وأصل العداوة والحسد التزاحم على غرضٍ واحد، والغرض الواحد لا يجتمع فيـه متباعـدان بـل متناسـبان فلذلك ترى الحسد يكثر بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العمّ والأقارب ويقلّ في غيرهم إلاَّ مع الاجتماع في أحد الأغراض المقرّرة، نعم من اشتدّ حرصه على الجاه وحبّ الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه، فإنه يحسد كلّ من هو في العالم وان يعدّ ممَّن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها.
 
 
 
 
 
70

 
 

62

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

ومنشأ جميع ذلك حبّ الدنيا فإنَّ الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين.
 
أمَّا الآخرة فلا ضيق فيها وإنَّما مثلها مثل العلم، فإن من عرف الله تعالى وملائكته وأنبياءه وملكوت أرضه وسمائه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك ايضاً لأنَّ المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعروف الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفته ويلتذّ به ولا ينقص لذَّة واحدة بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الإفادة والاستفادة، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأنَّ مقصدهم بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيه بل يزيد الأُنس بكثرتهم.

نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأنَّ المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنه يد الآخر، وكذلك الجاه إذ معناه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص منه لا محالة فيكون ذلك سبباً للمحاسدة.

وأمَّا العلم فلا نهاية له ولا يتصوّر استيعابه، فمن بذل جهده في تحصيله وأشغل نفسه في الفكرة في جلالة الله وعظمته صار ذلك ألذّ عنده من كلّ نعيم ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأنَّ غيره لو عرف أيضاً مثل معرفته لم ينقص لذّته بل زادت لذّته
 
 
 
 
 
 
 
71

 

 
 

63

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

بمؤانسته بل مثل العالمين بالحقيقة المتمسّكين بالطريقة كما قال الله تعالى عنهم: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ"1.
 
فهذا حالهم في الدنيا، فماذا تظنّ عند انكشاف الغطاء ومشاهدة المحبوب في العقبى، فلا محاسدة في الجنَّة أيضاً، إذ لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، فعليك أيّها الأخ وفَّقنا الله وإيَّاك، إن كنتَ بَصيراً وعلى نفسك مشفقاً، أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذَّةً لا مكدّر لها، والله ولي التوفيق.

الثالث: في إشارة وجيزة إلى الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب:

إعلم أنَّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تُداوى أمراض القلب إلاَّ بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعلم يقيناً أنَّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، ولا ضرر به على المحسود في الدنيا ولا في الدين، بل ينتفع به فيهما.

ومتى عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدوّ نفسك وصديق عدوّك فارقتَ الحسد لا محالة. أمَّا كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنَّك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في ملكه لخفيّ حكمته واستنكرت ذلك واستَشْنَعْتَه.
 
 
 
 

 
1- الحجر:47.
 
 
 
72
 

64

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الايمان، وناهيك بها جناية على الدّين، وقد انضاف إليه أنَّك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبّهم للخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفَّار في محبّتهم للمؤمنين البلاء وزوال النعم.
 
وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب وتمحوها كما يمحو الليل النهار.

وأمَّا كونه ضرراً عليك في الدُّنيا، فهو أنَّك تتألَّم بحسدك وتتعذَّب به ولا تزال في كدر وغمّ إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نِعَم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذَّب بكلّ نعمة تراها، وتتألَّم بكلّ بليَّة تنصرف عنهم، فتبقى مغموماً محروماً، منشعب القلب، ضيّق النفس، كما تشتهيه لأعدائك، وكما يشتهي أعداؤك لك، فقد كنت تريد المحنة لعدوّك فتنجَّزت في الحال محنتك وغمُّك نقداً ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته وعدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة، فما أعجب من العاقل أن يتعرَّض لسخط الله من غير نفع يناله، بل مع ضرر يحتمله، وألم يقاسيه، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة.

وأمَّا أنّه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه، فواضح لأنَّ 
 
 
 
 
73

 
 

65

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

النعمة لاتزول عنه بحسدك، بل ما قدّره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بدَّ وأن يدوم الى أجل قدّره الله تعالى، فلا حيلة في رفعه وإن كانت النعمة قد حصلت بسعيه من علم أو عمل فلا حيلة في دفعه أيضاً، بل ينبغي أن تلوم أنت نفسك حيث يسعى وقعدت، وشمَّر وكسلت، وسهر ونمت وكان حالك كما قيل:
هلاَّ سعوا سعي الكرام فأدركوا      أو ســلَّمــــوا لمـــواقــــع الأقـــــــــدار

ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود من ضرر في الدنيا ولا كان عليه إثمٌ في الآخرة، ولعلَّك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي.
 
وهذا غاية الجهل والغباوة، فإنَّه بلاءٌ تشتهيه أوَّلاً لنفسك، فإنَّك لا تخلو أيضاً من عدوّ يحسدك فلو كانت النعم تزول بالحسد لم يُبقِ الله عليك نعمة ولا على الخلق نعمة حتى نعمة الإيمان لأنَّ الكفَّار يحسدون المؤمنين عليه، قال الله تعالى: "وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"1.

وإن اشتهيت أن تزول نعمة الغير عنه بحسدك ولا تزول عنك بحسد الغير، فهذا غاية الجهل والغباوة، فإنَّ كلَّ واحدٍ من حمقاء الحسَّاد أيضاً يشتهي أن يخصّ بهذه الخاصة
 
 
 
 

 
1- آل عمران:69.
 
 
 
74
 

66

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله عليك في آنٍ لم تزل نعمة عليك بحسد غيرك من النعم التي يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.
 
وأمَّا أنَّ المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح.

وأمَّا منفعته في الدين فهو أنَّه مظلوم من جهتك لا سيَّما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك سرّه وذكر مساوئه، فهي هدايا تهديها إليه، فإنَّك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مُفلساً محروماً عن النعمة كما خرجت في الدنيا محروماً عن النعمة، فكأنَّك أردت زوال النعمة عنه فلم يزل نعمه وكان عليك نقمة إذ وفَّقك الله للحسنات فنقلتها إليه فأضفت له نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.

وأمَّا منفعته في الدُّنيا فهو أنَّ أهمَّ أغراض الخلق مساءة الأعداء، وغمّهم وشقاوتهم وكونهم معذّبين مغمومين فلا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غمّ وحسرة بسببهم وقد فعلت في نفسك ما هو مرادهم.

وقد قال علي عليه السلام : "لا راحة للحسود"1.

وقال عليه السلام : "الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له"2.
 
 
 

 
1- غرر الحكم، ص525.
2- جامع الأخبار، ص186.
 
 
 
 
75
 

67

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث وجه الكلمتين، ومن أجل ذلك ينبغي أن لا تشتهي أعداؤك موتك، بل تشتهي أن تطول حياتك في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله تعالى عليهم فينقطع قلبك حسداً، ولذلك قيل:
لا مات أعـداؤُكَ بل خلّـدوا     حتَّى يَروْا منكَ الَّذِي يَكْمـدُ
لا زلتَ محسوداً على نِعْمَةٍ    فـإنَّمــا الكـامـلَ مـن يُحْسَــدُ

ففرح عدوّك بغمّك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته.

فإذا تأمَّلت هذا عرفت أنَّك عدوّ نفسك، وصديق عدوّك، إذ تعاطيت مع ما تضررّت به في الدنيا والآخرة، وانتفع به عدوّك في الدنيا والآخرة، وصرتَ شقيّاً عند الخلق والخالق، مذموماً في الحال والمآل.

ثمَّ لم تقتصر على تحصيل مراد عدوّك حتى أدخلت أعظم السرور على إبليس الذي هو من أعدى أعدائك لأنَّك لم تحبّ ما أحبّه أهل الخير لأنفسهم، فتكون معهم لأنَّ المرء مع من أحبّ فأحبّك إبليس لذلك فكنت معه.

وقد تضافرت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ المرء مع من أحب1، وأنَّك وإن لم تكن عالماً ولا متعلِّماً فكن محبَّاً، فقد فاتك بحسدك ثواب الحبّ واللحاق بهم، وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحبّ أن يخطىء في دين الله وينكشف
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص186.
 
 
 
76
 
 

 


68

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

خطؤه ليفتضح وتحبّ أن يعرض له ما يمنعه عن العلم والتعليم، وأيّ إثم يزيد على هذا فليتك إذا فاتك اللحاق بهم ثم اغتممت به فاتك الإثم وعذاب الآخرة. وقد جاء في الأحاديث أنَّ أهل الجَّنة ثلاثة: المُحسن والمحبّ له والكافّ عنه1، أي من يكفّ عنه الأذى والحسد والبغض. فانظر كيف أبعدكَ إبليس عن المداخل الثلاثة، فقد نفذ عليك حسد إبليس وما نفذ حسدك على عدوّك بل على نفسك، فلو انكشفت حالك لك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي عدوّه بحجارة ليصيب بها مقلته فلا يصيبه بل يرجع حجره على حدقته اليمنى فيعميها فيزداد غضبه ثانياً فيعود الى الرمي أشدّ من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميها فيزداد غضبه فيعود ثالثة فيرجع على رأسه فيشجّه وعدوّه سالم على كلّ حال، وأعداؤه حوله يفرحون بما أصابه ويضحكون منه.
 
فهذه حال الحسود، لا بل حاله أقبح، لأنّ الحجر المفوّت للعين إنَّما يفوّت ما لو بقي لفات بالموت لامحالة بخلاف الإثم الحاصل للحسود فإنَّه لا يفوت بالموت، بل يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلئن تذهب عينه في الدنيا خير من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيعميها لهيب النار، فانظر كيف انتقام
 
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص187.
 
 
 
77
 

69

الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر

الله تعالى من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود، فأزالها عن نفسه إذ السلامة من الإثم نعمة، ومن الغمّ نعمة أخرى، وقد زالتا منه تصديقاً لقوله تعالى: "وَلَا يَحِيقُ الـْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ"1.

وربما يبتلى بعين ما يشتهيه لعدوّه إذ قلَّ ما شمت شامت بمساءة أحد إلاَّ وابتلى بمثلها، فهذه هي الأدوية العلمية، فمهما تفكَّر الانسان فيها بذهنٍ صافٍ وقلبٍ حاضرٍ انطفأ من قلبه نار الحسد، وعلم أنَّه مُهلكٌ نفسه، ومفرّح عدوّه، ومسخط ربّه، ومنغّص عيشه.

وأما الدواء العملي فبعد أن يتدبّر ما تقدَّم ينبغي أن يكلّف نفسه نقيض ما يبعثه الحسد عليه، فيمدح المحسود عند بعثه على القدح ويتواضع له عند بعثه على التكبّر ويزيد في الإنعام عند بعثه على كفّه فينتج هذه المقدّمات تمام الموافقة وتنقطع مادَّة الحسد ويستريح القلب من ألمه وغمّه. فهذه أدوية نافعة جدَّاً إلاَّ أنها مرَّة جداً، لكن النفع في الدواء المرّ، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم يظفر بحلاوة الشفاء.

والباعث على هذه الخصال الحميدة، الرغبة في ثواب الله تعالى، والخوف من عقابه، وفَّقنا الله وإياكم لاستعماله بمحمد وآله صلَّى الله عليهم أجمعين.
 
 
 
 

 
1- فاطر:43.
  
 
 
 
78
 

70

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج من حقّ الله تعالى، ثمَّ يستحلّ المغتاب عنه ليُحلَّه فيخرج عن مظلمته، وينبغي أن يستحلّه وهو حزينٌ متأسّف نادم على فعله، إذ المرائي قد يستحلّ ليظهر من نفسه الورع، وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارن معصية أخرى، وقد ورد في كفَّارتها حديثان:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "كفَّارة من استغبته أن تستغفر له"1.

الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض ومال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينارٌ ولا درهم يؤخذ من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فيزيد على سيّئاته"2.
 
 

1- إحياء علوم الدين، ج3، ص145، وانظر الكافي ج2، ص357. وانظر أمالي الشيخ المفيد، ص172.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص145.
 
 
 
 
 
79
 

71

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

ويمكن أن يكون طريق الجمع حمل الاستغفار له على من لم يبلغ غيبته المغتاب فينبغي الاقتصار على الدعاء له والاستغفار لأن في محالَّته إثارة للفتنة وجلباً للضغائن. وفي حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول اليه بموت أو غيبة وحمل المحالة على من يمكن التوصّل إليه مع بلوغه الغيبة. ويستحبّ للمستعذر إليه قبول العذر والمحالة استحباباً مؤكداً، قال الله تعالى: "خُذِ العَفْوَ"1 الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرائيل ما هذا العفو؟ قال: "إنَّ الله يأمرك أن تعفو عن من ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك"2.
 
وفي خبر آخر: "إذا جيء الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة نُودُوا: ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلاَّ من عفى في الدُّنيا"3.

وروي عن بعضهم أنَّ رجلاً قال له: أنَّ فلاناً قد إغتابك، فبعث إليه طبقاً من الرّطب وقال: بلغني أنَّك قد أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أُكافيك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافيك على التمام4. وسبيل المعتذر أن يُبالغ في الثناء عليه والتودّد ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب كان اعتذاره وتودّده حسنة محسوبة له، وقد تقابل سيّئة الغيبة في القيامة.
 
 

1- الأعراف:199.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص146.
3- إحياء علوم الدين، ج3، ص146.
4- إحياء علوم الدين، ج3، ص146.
 
 
 
80

 

72

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

ولا فرق بين غيبة الصغير والكبير، والحيّ والميّت، والذكر والأنثى، وليكن الاستغفار والدُّعاء له على حسب ما يليق بحاله، فيدعو للصّغير بالهداية وللميّت بالرحمة والمغفرة، ونحو ذلك.
 
ولا يسقط الحقّ بإباحة الانسان عرضه للناس، لأنَّه عفو عمَّا لم يجب، وقد صرَّح الفقهاء بأنَّ من أباح قذف نفسه لم يسقط حقَّه من حدّه، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إنِّي تصدّقت بعرضي على الناس"1.

معناه إنّي لا أطلب مظلمته في القيامة ولا أخاصم عليها لا ان صارت غيبته بذلك حلالاً، وتجب النية لها كباقي الكفَّارات والله الموفّق.

وأما الخاتمة:
فاعلم وفَّقك الله تعالى وإيَّانا أنَّ الغرض الكلّي للحق تعالى من الخلق، والمقصد الأول من بعثة الأنبياء والرسل بالكتب الإلهية والنواميس الشرعية، إنَّما هو جذب الخلق إلى الواحد سبحانه ومعالجة نفوسهم من داء الجهل، والتفاتها الى دار القرار ورفضها لهذه الدار وحمايتها أن ترد موارد الهلاك إذا
 
 
 

 
1- إحياء علوم الدين، ج3، ص146.
 
 
 
 
81
 
 

73

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

كانت من ذلك على خطر، وتشويقها إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
 
ثُمَّ ما يلزم ذلك المقصود من تدبّر أحوال المعاش البدني وسائر أسباب البقاء للنوع الانساني، وكان ذلك موقوفاً على الاجتماع والتعاون والتعاضد بالتعلّم والتعليم وتذكير المعارف للعاقل بالعهد القديم واستعانة كلّ واحد بالآخر في تحصيل نفعه إذ كان الانسان مدنيّاً بطبعه لا يستقلّ وحده بتحصيل معاشه ولا يقدر على استنباط جميع أغراضه من مأْكله ورياشه، فلا جرم توقّفَ غرض الحكيم جلّ جلاله على الاجتماع وتألّف القلوب والموادّة حالتي الحاضر والغيوب، فلذلك تضافرت الأخبار والآثار بالحثّ على المودّة والنَّهي عن المباينة والمحادَّة وأكثر على عباده لبعضهم بعضاً الحقوق وحذَّرهم من الكفران والعقوق ووعدهم على التآلف والتعاطف جزيل الثواب وأوعدهم على ترك ذلك مزيد النكال والعقاب، كما ستقف عليه إن شاء الله في ضمن ما نورده من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأخيار الأطهار، ولنذكر ما يناسب هذه الرسالة اثني عشر حديثاً للاختصار، ومن أراد الغاية في ذلك فليطالعه من كتب المصنّفة فيه ككتاب الإخوان للصدوق ابن بابويه، وكتاب الإيمان، وكتاب العشرة، وغيرهما من كتاب الكافي للكليني فإنَّ فيها بلاغاً وافياً لأهل الاعتبار ودواءً شافياً لأولي الأبصار.
 
 
 
82
 

74

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

الحديث الأول:
أخبرنا الشيخ السعيد المبرور نور الدين عليّ بن عبدالعالي الميسي قدّس سرّه ونوَّر قبره، إجازة عن شيخه المرحوم المغفور شمس الدين محمد بن المؤذّن الجزيني عن الشيخ ضياء الدين علي، ولد الامام العلاَّمة المحقق السعيد شمس الدين أبي عبدالله الشهيد محمد بن مكّي عن والده المذكور، عن السيّد عميد الدّين عبدالمطلب والشيخ فخر الدين ولد الشيخ الامام الفاضل العلاَّمة محيي المذهب جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر عن والده المذكور عن جدّه السعيد سديد الدّين يوسف بن عليّ بن المطهّر عن الشيخ المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّي جميعاً عن السيّد محيي الدين أبي حامد محمد بن عبدالله بن عليّ بن زهرة الحلّي، عن الشريف الفقيه عزّ الدين أبي الحرث محمد بن الحسن الحسيني البغدادي، عن الشيخ قطب الدين أبي الحسين بن سعيد بن هبة الله الراوندي، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن عليّ بن المحسن الحلبي، عن الشيخ الفقيه أبي الفتح محمد بن عليّ الكراجكيّ، قال: حدثني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الصيرفي البغدادي، قال: حدَّثني القاضي أبو بكر محمد بن الجعابي، قال: حدَّثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر من ولد عمر بن عليّ عليه السلام : قال: حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، قال عليه السلام : قال
 
 
 
 
 
 
83

 

 

75

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاَّ بأدائها أو العفو، يغفر زلّته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويردُّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته ويرعي ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديّته، ويكافىء صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالَّته، ويردّ سلامه، ويطيّب كلامه، ويبرّ انعامه، ويصدّق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأماَّ نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمَّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ولا يسلمه ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه"1.
 
ثم قال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالب به يوم القيامة فيقضى له عليه"2.

الحديث الثاني:
وبالإسناد المتقدّم إلى السيّد محيي الدين زهرة، قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن وهب بن سليمان بقراءتي عليه في شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، قال: أخبرنا القاضي فخر الدين
 
 
 

 
1- كنز الفوائد، ج1، ص306.
2- كنز الفوائد، ج1، ص307.
 
 
 
84
 

76

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

أبو الرضا سعيد بن عبدالله بن القاسم السّهروردي يوم الجمعة سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة بالموصل، قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو بكر وجيه طاهر الشحاميّ بقراءتي عليه يوم الأربعاء خامس شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الزكيّ أبو حامد أحمد بن الحسن الأزهري، قال: أخبرنا الشيخ أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد بن الحسن بن علي مخلّد المخلّدي العدل، قرأه عليه فأقرَّ به، قال: أخبرنا العباس محمد بن اسحاق بن إبراهيم الثقفي السرّاج في ما قرأته عليه لسنة اثني عشر وثلاثمائة فأقرَّ به.
 
وقال نعم، قال: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه، من كان في حاجة أخيه كان الله له في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَبِ يَوم القيامة، ومن سَتَرَ مُسلماً، سَتَره الله يوم القيامة"1.

الحديث الثالث:
وبالإسناد المتقدّم إلى السيّد محيي الدين قال: أخبرنا القاضي شيخ الاسلام أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم،



1- العوالي، ج1، ص128.
 
 
 
 
85
 
 

77

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

 بقراءتي عليه في الرابع عشر من جمادي الآخرة من سنة ثمان عشرة وستمائة، قال: أخبرنا القاضي الإمام فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبدالله بن القاسم السهروردي سماعاً عليه في الجمادي الأخرى سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو الفتح محمد بن عبدالرحمن الخطيب الكشمهيني بقراءتي عليه يوم السبت سابع عشر شوَّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.

قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن عبدالوارث بن عليّ بن أحمد الشيرازي أو كتبه لي بخطّه في شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبدالباقي بن الحسن بن طوق المعدّل، قال: أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد بن محمد الفقيه.

قال: أخبرني أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلّي التميمي.

قال هبة الله: وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز علي بن أحمد السكري، قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبدالرحمن بن العباس المخلص، قال: حدَّثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، قال: حدَّثني عبد الأعلى بن حماد التونسي، قال: حدَّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلمَّا أتى عليه
 
 
 
 
86


78

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

 قال: أين تريد؟ قال: أردت أخاً لي في قرية كذا وكذا، قال له: هل لك عليه من نعمة تريها، قال: لا إلاَّ انّي أحبّه في الله قال: إنّي رسول الله إليك إنَّ اللَّه تعالى قد أحبّك كما أحببته فيه"1.

الحديث الرابع:
وبالإسناد المتقدّم إلى القاضي فخر الدين السهروردي قال أخبرنا الشيخ الحافظ ثقة الدين أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد الشحَّام قراءة عليه وأنا أسمع يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شوَّال سنة خمس وعشرين وخمسمائة ببغداد.
 
قال: أخبرنا الشيخ أبو نصر عبدالرحمن بن عليّ بن موسى، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت القزويني ببغداد، قال: حدَّثنا أبو اسحاق ابراهيم بن عبدالصمد الهاشمي املاءً، قال: حدَّثني أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهريّ عن مالك بن أنس، عن أبي شهاب، عن أنس بن مالك، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال"2.
 
 

 
1- صحيح مسلم، ج4، ص8891، ح2567.
2- صحيح مسلم، ج4، ص3891، ح2559.
 
 
 
 
87
 

79

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

الحديث الخامس:
وبالاسناد المتقدّم إلى الشحّامي قال: أخبرنا الشيخ أبو سعيد محمد بن عبدالعزيز الصفّار، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبدالرحمن محمد بن الحسن السَّلمي، قال: أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن محبوب، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا محمد بن الأزهري، قال: حدَّثنا محمد بن عبدالله البصري، قال: حدَّثنا يعلى بن ميمون، قال: حدَّثنا يزيد الرّقاشي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من ألطف مؤمناً أو قام له بحاجةٍ من حوائج الدنيا والآخرة صغر ذلك أو كبر كان حقاً على الله أن يخدمه خادم يوم القيامة"1.

الحديث السادس:
وبالاسناد المتقدّم الى السلمي قال: أخبرنا عبدالعزيز بن جعفر بن محمد بن الحرابي ببغداد، قال: حدثنا محمد بن هارون بن بريّة، قال: حدَّثنا عيسى بن مهران، قال: حدَّثنا الحسن بن الحسين، قال: حدَّثنا الحسين بن زيد، قال: قلت لجعفر بن محمد: جعلت فداك، هل كانت في النبيّ مُداعبة؟ فقال: لقد وصفه الله بخلق عظيم في المداعبة، وإنَّ الله بعث
 
 
 

 
1- انظر الكافي، ج2، ص206.
 
 
 
 
 
88
 
 

80

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

أنبياءه فكانت فيهم كزازة، وبعث محمَّداً بالرّأفة والرحمة، وكان من رأفته لأمّته مداعبته لهم لكي لا يبلغ بأحد منهم التعظيم حتى لا ينظر إليه.

ثمَّ قال: حدَّثني أبي محمد عن أبيه علي عليه السلام عن أبيه الحسين عليه السلام عن أبيه علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليُسرُّ الرجل من أصحابه إذا رآه مغموماً بالمداعبة وكان يقول: "إنَّ الله يبغض المعبس في وجه إخوانه1.

الحديث السابع:
وبالاسناد المتقدّم إلى شيخ المذهب ومحييه ومحقّقه جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر عن والده السعيد سديد الدّين يوسف بن المطهّر، قال: أخبرنا الشيخ العلاَّمة النسّابة فخار بن المعد الموسوي عن الفقيه سديد الدين شاذان بن جبرائيل القمّي عن عماد الدين الطبري عن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي عن والده الشيخ قدّس الله روحه عن الشيخ المفيد محمّد بن محمد بن النعمان، عن الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، عن الشيخ أبي عبدالله جعفر بن قولويه، عن الشيخ أبي عبدالله محمد بن يعقوب الكليني، عن
 
 
 
 

 
1- انظر مكارم الأخلاق، ص21.
 
 
 
 
 
89
 



 

81

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن عبدالله بن بكر، عن معلَّى بن خنيس، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، قال: قلت له ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: "له سبعة حقوق واجبات، ما منها حقٌ إلاَّ وهو واجب إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه نصيبٌ".

قلت له: جعلت فداك، وما هي؟ قال: يا معلَّى إنِّي عليك شفيقٌ أخاف أن تضيّع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قال: قلت لا قوَّة إلاَّ بالله. قال:
الحق الأول: أيسرَُ حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك.

والحقّ الثاني: أن تتجنَّب سخطه وتتّبع مرضاته وتطيع أمره.
 
والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.
 
والحقّ الرابع: أن تكون عينه ومرآته ودليله.
 
والحقّ الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.
 
والحقّ السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب لك أن تبعث إليه خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهّد فراشه.
 
 
 
 
90
 
 

82

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

والحقّ السابع: أن تبرّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مرضته، وتشهد جنازته، وإذا عَلِمْتَ أنَّ له حاجة فبادر إلى قضائها، ولا تلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك1.

الحديث الثامن:
وبالاسناد إلى محمد بن يعقوب الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن محمد بن مروان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "إذا مشى الرجل في حاجة أخيه المؤمن تُكتب له عشر حسنات، وتُمحا عنه عشر سيِّئات، وتُرفعُ له عشر درجات ولا أعلمه، إلاَّ قال ويعدل عشر رقبات، وأفضل من اعتكاف شهر في المسجد الحرام"2.

الحديث التاسع:
بالاسناد عن الكليني ، عن علي بن إبراهيم بن الهاشم القمّي ، عن أبيه، عن محمد بن أبي عميد، عن حسين بن أبي نعيم، عن مسمع بن أبي سيَّار، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: "مَن نفَّس عن مؤمن كربة، نفَّس الله عنه
 
 
 

 
1- الكافي، ج2، ص169.
2- الكافي، ج2، ص196.
 
 
 
91
 

83

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

كربةً يوم القيامة، وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد، ومن أطعمه من جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنَّة، ومن سقاه شربةً سقاه الله من الرحيق المختوم"1-2.

الحديث العاشر:
رويناه بأسانيد متعدّدة أحدها الاسناد المتقدم في الحديث السابع إلى الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه محمد بن عيسى الأشعري، عن عبدالله بن سليمان النوفلي، قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، فإذا بمولى لعبدالله النجاشي قد ورد عليه، فسلَّم وأوصل إليه كتاباً، ففضّه وقرأه، فإذا أوَّل سطر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله تعالى بقاء سيّدي وجعلني من كلّ سوءٍ فداه، ولا أراني فيه مكروهاً، فإنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

واعلم سيّدي ومولاي انّي بُليت بولاية الأهواز، فإن رأى سيّدي أن يحدّ لي حدَّاً أو يمثّل لي مثالاً لاستدلّ به على ما يقرّبني إلى الله عزَّ وجل وإلى رسوله ويلخّص في كتابه ما يرى الى العمل به وفيما تبدله (ابذله) له وابتدله، وأين أضع
 
 
 

 
1- الرحيق المختوم: الرحيق من اسماء الخمر يريد خمر الجنة، والمختوم: المصون الذي لم يبتذل من أجل ختامه.
2- الكافي، ج2، ص200.
 
 
 
 
 
92
 

84

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

زكاتي، وفيمن أصرفها، وبمن آنِسُ، وإلى مَن أستريح، وبمن أثق وآمِنُ وألجأ إليه في سرِّي، فعسى الله أن يخلّصني بهدايتك ودلالتك فإنَّك حُجَّة الله على خلقه وأمينه في بلاده ولا زالت نعمته عليك. كذا بخطّه.
 
قال عبدالله بن سُليمان: فأجابه أبو عبدالله عليه السلام : "بسم الله الرحمن الرحيم، جامَلك اللَّه بصنعه ولطف بمنِّه وكلاك برعايته فإنَّه وليُّ ذلك.

أما بعد فقد جاءني رسولك بكتابك فقرأته وفهمته ما فيه وجميع ما ذكرته وسألت عنه وزعمت أنّك بُليت بولاية الأهواز فسرَّني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك وما سرَّني إن شاء الله تعالى. فأمَّا سُروري بولايتك فقلت عسى الله أن يغيث الله بك ملهوفاً من أولياء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويعزّ بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوّي بك ضعيفهم، ويطفىء بك نار المخالفة عنهم، وأمَّا ما ساءني من ذلك فإنّ أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليّ لنا فلا تشمّ رائحة حظيرة القدس، فإنِّي ملخّصٌ لك جميع ما سألت عنه إن أنت عمِلت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله. أخبَرَنِي يا عبدالله أبي، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لُبّه"1.
 
 
 

 
1- انظر البحار، ج27، ص401، ح36.
 
 
 
93
 
 

85

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

واعلم أنّي سأشير عليك برأيٍ، إن أنت عملت به تخلَّصت ممَّا أنت متخوفه. واعلم أنَّ خلاصك ونجاتك من حقن الدماء (في حقن الدنيا)، وكفّ الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعيَّة، والتأنّي، وحسن المعاشرة من لين في غير ضعف، وشدَّة من غير أنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من رسله، وارتق فتق رعيّتك بأن توقّفهم على ما وافق الحقّ والعدل إن شاء الله تعالى، وإياك والسّعاة وأهل النمايم، فلا يلتزقنّ منهم بك أحد، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً، ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك، واحذر مكر خوز الأهواز، فإنَّ أبي أخبرني عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إنَّ الايمان لا يثبت في قلب يهودي ولا خوزيّ أبداً1 فأما من تأنس به وتستريح إليه وتلجأ أُمورك إليه فذلك الرجل المستبصر الأمين الموافق لك على دينك وميّز أعوانك وجرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشداً فشأنك وإيَّاه، وإيَّاك أن تعطي درهماً أو تخلع ثوباً، أو تحمل على دابَّة في غير ذات الله لشاعر أو مضحك، أو ممتزج إلاَّ أعطيت مثله في ذات الله، ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقواد والرُّسل والأحفاد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أن تصرفه في وجوه البرّ والنجاح، والعتق، والصدقة،
 
 
 

 
1- راجع كتاب الأربعين، (مخطوط).
 
 
 
 
 
94
 
 

86

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

والحج، والمشرب، والكسوة التي تصلّي فيها وتصل بها، والهدية التي تهديها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أطيب كسبك".
 
يا عبد الله اجهـد أن لا تكـنز ذهـباً ولا فضَّـة فتكــون من أهل هذه الآية، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"1، ولا تستصغرنّ من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية يسكن بها غضب الله تبارك وتعالى.

واعلم أنّي سمعت أبي يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه يوماً: "ما آمَنَ بالله واليوم الآخر مَن باتَ شبعاناً وجارهُ جائع"، فقلنا: هلكنا يا رسول الله، فقال: "من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفئون بها غضب الربّ"2.

وسأنبّئك بهوان الدُّنيا وهوان شرفها على ما مضى من السلف والتابعين، فقد حدّثني محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال: لمَّا تجهَّز الحسين عليه السلام إلى الكوفة، أتاه ابن عبَّاس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ.

فقال: بمصرعي منك وما وكدي من الدنيا إلاَّ فراقها، ألا أخبرك يا ابن عباس بحديث أمير المؤمنين والدنيا؟ فقال له: بلى لعمري إنِّي لأحبّ أن تحدّثني بأمرها، فقال أبي: قال علي
 
 
 
 
 

 
1- التوبة:34.
2- الكافي، ج2، ص668.
 
 
 
95
 

87

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

بن الحسين عليه السلام سمعت أبا عبدالله يقول: حدَّثني أمير المؤمنين عليه السلام قال: إني كنت بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة عليها السلام ، قال: فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليَّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها، فلمَّا نظرت اليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبّهتها بثيْنة بنت عامر الجمحي، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة وأدلّك على خزائن الأرض فيكون لك الملكُ ما بقيت ولعقبك من بعدك، فقال لها علي عليه السلام : مَن أنت حتى أخطبك من أهلك؟ فقالت: أنا الدُّنيا، قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، وأقبلتُ على مسحاتي وأنشأت (أقول):
لَقَدْ خَابَ من غرّته دُنياً دَنِيَّة           ومَا هِيَ انْ غَرَّت قُروناً بتائل
أتتنا على زيّ العزيز بثينة            وزينتها في مثل تلك الشمائلِ
فقلت لها غرّي سواي فانّني           عزوفٌ عن الدُّنيا ولست بجاهل
وما أنا والدُّنيا فإنَّ محمداً              أحلَّ صريعاً بين تلك الجنادلِ
وهيهات أتتني بالكنوز وردّها         وأموال قارون ومُلك القبائل
 
 
 
 
 
96

 
 

88

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

أليس جميعاً للفناء مصيرها            ويطلب من خزَّانها بالطوائل
فغرّي سوايَ انّي غير راغب          بما فيك من مُلكٍ وعزّ ونائلِ
فقد قنعت نفسي بما قَد رُزِقْتهُ           فشأنكِ يا دنيا وأهل الغوائل
فإنِّي أخافُ يوم لقائِه                    وأخشى عذاباً دائماً غير زائل1

فخرج من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحدٍ حتى لقي الله محموداً غير ملوم ولا مذموم.

ثمّ اقتدت به الأئمّة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطّخوا بشيءٍ من بوائقها عليهم السلام أجمعين وأحسن مثواهم. وقد وجّهت إليك بمكارم الدُّنيا والآخرة وعن الصادق المصدّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثم كانت عليك من الذُّنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت الله أن يتجاوز عنك جلّ وعلا بقدرته، يا عبدالله إيَّاك أن تخيف مؤمناً فإنَّ أبي محمد بن علي عليه السلام حدَّثني عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أنه عليه السلام كان يقول: من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها، أخافه الله يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلّه، وحشره

 

 
1- انظر مناقب آل أبي طالب، ج2، ص102.
 
 
 
 
 
97
 

89

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

الله في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتى يورده مورده1.
 
وحدَّثني أبي عن آبائه عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال: من أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظلّ إلاَّ ظلّه وآمنه يوم الفزع الأكبر، وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله له حوائج كثيرة إحداها الجنَّة، ومن كسا أخاه المؤمن من عري، كساه الله من سندس الجنة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسوّ منها سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيِّبات الجنَّة، ومن سقاه من ظمأٍ سقاهُ الله من الرحيق المختوم ريَّهُ، ومن أخدم أخاه أخدمَهُ الله من الوِلدان المخلَّدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومن حمل أخاه المؤمن رحله حمله الله على ناقة من نوق الجنة وباهى به على الملائكة المقرَّبين يوم القيامة، ومن زوَّج أخاه المؤمن امرأةً يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح إليها زوَّجه الله من حور العين وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته واخوانه وآنسهم به.

ومن أعان أخاه المؤمن على سلطانٍ جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام2.
 
 
 

 
1- جامع الأخبار، ص451، في إيذاء المؤمن، وانظر الكافي، ج2، ص368.
2- جامع الأخبار، ص98، في عورة المؤمن أنظر ثواب الأعمال، ص117.
 
 
 
 
 
98
 
 

90

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجةٍ منه إليه كُتِبٍ من زوّار الله وكان حقاً على الله أن يُكرم زائره1.
 
يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه السلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول لأصحابه يوماً: "معاشر الناس إنّه ليس بمؤمن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه فلا تتّبعوا عثرات المؤمنين فإنَّه من اتّبع عثرة مؤمن اتّبع الله عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته"2.

وحدَّثني أبي عن آبائه عن علي أنَّه عليه السلام قال: "أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدّق في مقالته ولا ينتصف في عدوّه، وعلى أن لا يشفي غيظه إلاَّ بفضيحة نفسه لأنَّ كلَّ مؤمن ملجم وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة. أخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله يقول بمقالته فيفيه ويحسده، والشيطان يغويه ويمنعه، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته، وكافر بالذي هو مؤمن يرى سفك دمه ديناً وإباحة حريمه غنماً فما بقاء المؤمن بعد هذا"3.

يا عبد الله وحدَّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزل جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنَّ الله يقرأ عليك السلام ويقول: اشتققت للمؤمن إسماً من أسمائي
 
 
 
 

 
1- جامع الأخبار،ص09، في ادخال السرور على المؤمن وانظر الكافي، ج2، ص176.
2- انظر الكافي، ج2، ص355.
3- انظر البحار، ج57، ص276 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.30- انظر البحار، ج57، ص672 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.
 
 
 
 
99
 


 

91

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

سمّيته مؤمناً فالمؤمن منّي وأنا منه، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة1.
 
يا عبدالله وحدّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال يوماً: "يا عليّ لا تناظر رجلاً حتى تنظر في سريرته فإن كانت سريرته حسنة فإن الله جلَّ وعلا لم يكن ليخذل وليّه، وإن كانت سريرته رديّة فقد يكفيه مساوئه فلو جهدت ان تعمل به أكثر ممَّا عمله من معاصي الله عزَّ وجلَّ ما قدرت عليه"2.

يا عبدالله وحدّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أُولئك لا خلاق لهم"3.

يا عبدالله وحدَّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال: "مـن قـال فـي مـؤمـن مـا رأت عينـاه وسـمعت أذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال الله عزَّ وجل: "إِنَّ الـَّـذِيـنَ يُحِبُّـونَ أَن تَشِـيـعَ الْفَـاحِشـَةُ فِـي الَّـذِيـنَ آَمَنُــواْ لَهُـــمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ""4-5.
 
 
 

 
1- انظر البحار، ج57، ص276 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.30- انظر البحار، ج57، ص672 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.
2- المصدر نفسه.
3- انظر البحار، ج57، ص276، وانظر المحاسن، ج1، ص401، ح83.
4- جامع الأخبار، ص154، في إيذاء المؤمن، وانظر الكافي، ج2، ص357.
5- النور:19.
 
 
 
99
 
 

 


92

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

يا عبدالله، وحدَّثني أبي عن آبائه عليه السلام عن علي عليه السلام أنَّه قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها أن يهدم مروءته وثلبه أوقبه (أوبقه) الله تعالى بخطيئته حتَّى يأتي بمخرج ممَّا قال ولن يأتي بالمخرج منه أبداً، ومن أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل البيت سروراً، ومن أدخل على أهل البيت سروراً فقد أدخل على رسول الله سروراً، ومن أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سروراً فقد سرَّ الله، ومن سرَّ الله فحقيق عليه أن يدخله الجنَّة1.
 
ثمَّ إني أُوصيكَ بتقوى الله وإيثار طاعته والاعتصام بحبله فإنَّه من اعتصم بحبل الله فقد هُدي إلى صراط مستقيمٍ، فاتّق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه فإنَّه وصيّة الله جلَّ وعلا الى خلقه لا يقبل منهم غيرها ولا يعظم سواها.

واعلم أن الخلائق لم يوكّلوا بشيءٍ أعظم من التقوى، فإنه وصيّتنا أهل البيت فإن استطعت من أن لا تنال من الدُّنيا شيئاً تسأل عنه غداً فافعل. قال عبدالله بن سليمان فلمَّا وصل كتاب الصادق عليه السلام الى النجاشي نظر فيه وقال: صدق الله الذي لا إله إلاَّ هو ومولايَ فما عمل أحدٌ بهذا الكتاب إلاَّ نجا، فلم يزل عبدالله يفعل به أيَّام حياته2.

 

 
1- جامع الأخبار، ص90، في ادخال السرور على المؤمن، وانظر عقاب الأعمال، ص286، عقاب من روى على مؤمن رواية، وانظر الكافي، ج2، ص192.
2- الأربعين، ص79، مخطوط، ونقل الحديث بأكمله في البحار، ج57، ص172، ح112 عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد، ص264.
 
 
 
 
101
 
 

93

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

الحديث الحادي عشر:
بالاسناد إلى الكليني عن محمد بن يحيى، عن عليّ بن النعمان، عن ابن مسكان، عن خيثمة، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام أودّعه، قال عليه السلام : يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصيهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم وأن يتلاقوا في بيوتهم فإنَّ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا رحم الله عبداً أحيى أمرنا.

يا خيثمة أبلغ موالينا أن لا يغني عنهم من الله شيئاً إلاَّ بعمل وانّهم لن ينالوا ولايتنا إلاَّ بالورع، وأنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثمَّ خالفه إلى غيره1.

الحديث الثاني عشر:
بالاسناد عنه عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضل، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال: كان أبو جعفر صلوات الله عليه يقول: "عظِّموا أصحابكم ووقّروهم ولا يتّهم بعضكم بعضاً ولا تضادّوا ولا تحاسدوا وإيَّاكم والبخل وكونوا عباد الله المخلصين"2.


1- الكافي، ج2، ص175.
2- الكافي، ج2، ص637.
 
 
 
 
 
102
 

 


94

الفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

 وبهذا نختم الرسالة ونبتهل اليه تعالى بفضله العميم وكرمه الجسيم وبمحمد وآله عليهم أفضل الصلاة والتسليم أن يرزقنا العمل بما اشتملت عليه من الكمال، وأن لا يجعل حظَّنا منها مجرّد المقال ويصلحنا لأنفسنا وإخواننا ويصلحهم لنا إنَّه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين والحمدلله رب العالمين، وصلواته على سيّد رسله وخير خلقه محمد وآله الطاهرين.
 
 
 
 
 
103
 

95
كشف الريبة في أحكام الغيبة