الفهرس
الفهرس
المقدمة
|
5
|
بقايا خبز ورماد
|
7
|
رحلة الحرية
|
23
|
ملاحظة: إن أرقام الصفحات الموجودة في النص مطابقة للكتاب الورقي.
3
1
المقدمة
إهداء
حيّرتني دروب الحياة..حيّرني عمر بكى على صخرة حزن عميق..ولفّني صمت يشبه صمت الأموات.. وأسكت من حولي كل الأصوات إلاّ صوت القلم، ربما لأني أرى فيه عمراً، أملاً، حلماً، غفا فوق كفّ النسيان.. وربما لأني لا أملك إلا كلمات طواها الزمن، فغدت بين طياته ذكرى لخبز ورماد، وصدى لرحلة نحو الحرية.
هذا العمل هو بداية المشوار بالنسبة لي وإني أرجو اللَّه أن يكون بداية لعطاء أكبر...
فاسمحوا لي أن أهديه:
إلى كل من عاش الوطن داخله.. فوقف عند أعتاب المجد.. ينتظر شروق الشمس بعد المغيب ، ينتظر الأمل بالخلاص...
إلى رسالة الطهر في الزمن الصعب... الشهيدة "أم ياسر" رضوان الله عليه.
إلى كل من ساعدني وشجعني إلي اللجنة النسائية لحزب اللَّه - بيروت، التي فتحت لي الأفق لكتابة هذه القصة.
منال أحمد الزين
5
2
بقايا خبز ورماد
تغيرت أيامي وسادها صمت حزين، وقلق دفين، وذاكرة لا تموت، كان ذلك يوم ذهبت إلى الجنوب لأزور القرى وأقبّل تراب الأرض التي حرمنا منها سنوات طوال مع أنّها تعيش بين الضلوع.
ورحت أجول بين القرى، لأتعرّف على تلك الأراضي منذ أن سلبها العدوّ من أيدينا غصباً وحتّى اللّحظة المليئة بالعزّ والكرامة وأشياء كثيرة لا توصف.
تعرّفت في إحدى القرى إلى عجوز تدعى "أم سالم" تعيش وحدها وقد أطلق عليها أهل القرية "أم سالم" لأنّها لم تنجب في حياتها. وكان زوجها قد توفّي، فبقيت وحيدة.. وقرّرت البقاء في أرضها رغم كلّ الضّغوط عليها وعلى كل من في القرية.. وبدأت تحدثني عن كل بيت من بيوتها حتى صبّت أنظاري على عائلة تعيش بالقرب منها... ألا وهي عائلة "أمينة".
شعرت برغبة في الذّهاب إلى هناك..لا أدري لماذا.. ربّما لأنّي أردت أن أبحث عن طريق للجهاد.. أو للعظمة.. أو ربّما للصّبر..
كان قلبي يحمل دقّات غريبة ما عرفت سببها، ولكنّي أحسست بأن شيئاً سيحرك فيّ ماضياً قديماً أو شجناً عتيقاً.. أو حزن تعب فغفا على وسادة ألم.. فقررت المغامرة والذّهاب.. تقدّمت قليلاً من ذلك الباب الذي بدت عليه قسوة الزّمن.. طرقته وإذ بي أراها وقد قارب عمرها الخمسين ولكن نور وجهها الذي استقبلني، خفف علي وطأة الخوف المسيطر على ملامحي تماماً..
7
3
بقايا خبز ورماد
استقبلتني أمينة كما لو كانت تعرفني منذ زمن طويل ولا عجب في ذلك، فتلك هي عادات أهل القرى، خاصّةً أولئك الذين شهدوا أيام عذاب طويل وشربوا كأس الهموم فوجدوا في الزّائرين ذلك الحنان الذي طالما افتقدوه..
دعتني للجلوس بعد أن عرّفتها بنفسي وأخبرتها بأنّي أودّ التّعرّف اليها فرحّبت بي وذهبت لتقدم لي شيئاً من كرم الضّيافة رغم بساطة العيش.. ومع تلك البساطة التي وجدتها، شعرت بالأمان.
وأول ما لفت أنظاري هي تلك الصّور المعلّقة على جدرانٍ ظهر عليها أثر تعب قديم وحزن طويل بان واضحاً في زوايا المكان. بعض الصّور المعلّقة كانت لأشخاص أعرفهم وبعضها الآخر كانت لأشخاص لم أرهم من قبل..
أمّا الصّور الّتي عرفتها فهي صورة السّيد عبّاس الموسوي رضوان الله عليه ، سيد شهداء المقاومة الإسلاميّة وصورة للشّيخ راغب حرب رضوان الله عليه وكذلك صورة لامرأة خلّدها التّاريخ وكتب اسمها بين السّطور وحملها أملاً ومعنىً لكل النّساء.. عرفت معنى الجهاد.. وتربّت عليه وعلّمته لأولادها كما أرضعتهم حبّ أهل البيت عليهم السلام لتعيش حلقات العلم في بيتها وتنبع منه الدّروس والعبر.. أنّها صورة الشّهيدة "أم ياسر" لا أدري حينها لماذا اطمأنّ قلبي أكثر فأكثر، ولكن الجواب كان واضحاً لا يحتاج إلى الكلام..
وأمّا الصّور التي ما عرفتها فقد خجلت في بادىء الأمر أن
8
4
بقايا خبز ورماد
أسأل هذه السّيدة الفاضلة عنها خشية أن أفتح في قلبها جراحات قديمة، أو أن أهيّج في صدرها آلاماً ربّما أقفلت عليها صفحة من صفحات الزّمن ودفنتها في خبايا الرّوح، وبعدها تقدّمت منّي وفي صوتها لحن شجياً شعرني فجأة برغبة في البكاء، دمعت عيناي فرحت أداري تلك الدّموع وأتظاهر بالنّظر مرّة أخرى إلى الصّور..
أمّا أمينة فقد انشغلت عنّي أيضاً بسفر قصير إلى ماضيها القريب،فوددت عندها لو أنّي أعرف سرّهذه المرأة، سرّ هذه الصلابة الّتي أراها في وجهها، وفجأة، وجدتها قد فهمت مقصدي دون أن أتكلّم، وعرفت بأنّي أودّ الوصول إلى شيء مجهول، وكأنّي بها أرادت أن تتكلّم، ليس من الآن، بل من وقت بعيد، بعيد، لكن قسوة المكان قد حرمتها حتّى الأنفاس وعندما وجدت فرصة للحديث، كنت أوّل من رأته ففتحت دفتر الذّكريات السّاكن فؤادها، وبدأت تلقي عليّ بعض الصّفحات:
منذ زمن بعيد كنت فتاة عادية، وقد تزوّجت من زوج أكرمني اللّه به،إذ كان الأخ والصّديق، والزّوج والحبيب في الوقت ذاته، عشت معه حياة هنيئة رغم مرارة الفقروالحرمان وأنجبت خمسة أطفال، "محمد" وهو الكبير، ثم "حسين" الّذي يصغره بسنتين فقط، ثمّ "أحلام" وآخر العنقود التّوأم "علي وزينب"، عشنا أيّاماً صعبة لكنّنا بفضل اللّه وحده استطعنا أن نربّي أولادنا ونعلّمهم وندخلهم مدرسة القرية في ظل الأحداث الأمنيّة الّتي مرّت علينا ومنها ما حدث في 14 آذار 1978 حيث
9
5
بقايا خبز ورماد
اندفعت الدبّابات الاسرائيلية لتنفيذ اجتياحٍ كبيرٍ لاحتلال خمس مساحة لبنان..
دخلت القرية في هذه المعادلة، لنفهم جيّداً بأنّنا أصبحنا في قرية محتلّة.
بدأت عندها تصعب علينا الأيّام أكثر فأكثر مع الضّغوطات ومع صعوبة الحياة، فالأولاد يكبرون أمامنا وكلّما كبروا عاماً كبرنا نحن أعواماً ربّما كان ذلك خوفاً عليهم و ربّما كان خوفاً من هذا الزّمن الّذي لا نعرف ما كان يخفيه لنا.
وفي العام 1982 قام الصهاينة باجتياح بيروت وكانت تصلنا الأخبار مباشرة إلى القرية عبر الاذاعات فزادت مخاوفنا لكن الاتّكال على اللّه وإيماننا بأنّه سيحكم بيننا وبين القوم الظّالمين، طالما خفّف عنّا.
بعدها تعب زوجي كثيراً خاصّة أنّ المرض قد أنهكه وتمكن منه، فأخرس الموت شفتيه. هنا تنقطع كلمات "أمينة" بدمعة ساخنة وجدت نفسي عاجزة أمامها ولم أجد سوى الصّمت فلربّما كان السّبيل الوحيد للهروب من هذا الموقف..
مسحت "أمينة" دمعاتها ثمّ تابعت حديثها وكأنّها ما أرادت أن يقطع حديثها سوى الدّمع..
الآن أصبح أمامي همومٌ جديدة لم تكن بالحسبان، رأيت نفسي مسؤولة عن عائلة بأكملها فالزوج مفقود، والحياة صعبة، والعملاء في كلّ أنحاء القرية، وليس أمامي من باب إلاّ باب اللَّه أقرعه بحرقة ليجيبني..
10
6
بقايا خبز ورماد
بدأ أولادي يكبرون حولي وتكبر معهم المسؤوليّة ، فالآن شبّ "محمد" وأصبح في العشرين من عمره، فتح عينيه على مرارة الظّلم وقسوة معاملة العدوّ وعملائه الغاصبين، رأى كيف أنّه يملك كلّ هذه الأرض الواسعة ولا يملك منها شيئاً لأنّه لا يستطيع التّجوّل بين أرجائها بتلك الحرّية التي كانت تسري في جسده. ضاقت به الأرض والتحق بالمجاهدين دون أن يخبرني..
صمتت الأمّ صمتاً طويلاً ثمّ ابتسمت وقالت:
.. لكنّني كنت أعرف.. بل كنت أشعر بأنّ في داخله تلك الرّوح الجهاديّة فكتمت ذلك في داخلي ودفنت دمعتي وتلك الآه التي لا تستكين ومع هذا فقد كنت فخورة أزاء ذلك..
أرفع رأسي عالياً بأولادي الذين تربوا على هذا النهج غير آبهين بإغراءات العملاء لهم بالتعامل والتعاون معهم.
كان "محمّد" يغيب بين الحين والآخر مع صعوبة الخروج والدخول إلى القرية، متظاهراً بالعمل في خارجها، وكانت أسراره كلّها تكمن في مطرحين: المطرح الأول كان لأخيه "حسين" الذي كان يشبهه كثيراً في كل شيء، في الملامح وفي التصرفات وفي الأفكار، والثاني هو ذلك الدفتر الصغير الذي لم أحصل عليه إلا مؤخراً..
عندما كان يطيل الغياب، كنت أذهب إلى غرفته، أنظر إلى يميني فأرى بعض الشعارات على الحائط وبعض الصور وزيارة لسيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام ومكتبة صغيرة للكتب التي كان يحب قراءتها، ثم أنظر إلى سريره فلا أراه، لتختنق في
11
7
بقايا خبز ورماد
داخلي ألف حكاية وحكاية، ثم اسأل الله الصبر وأن يجعلني على نفس الخط الذي هدى اليه ولدي، الخط الذي حتى لو ظل سراً في فؤاده، أعرفه لمجرد النظر اليه، فلو هرب من كل الناس، ما استطاع الهرب مني ابداً، وكان عندما ينظر الي يدير وجهه سريعاً لانه كان يلاحظ بأني أدقق في ملامحه فأبحر في عينيه وأقرأ ما بين السطور. ثم سكتت أمينة قليلاً وتنهدت طويلاً لتقول:
.. ما كان يصبّرني حقاً هو تلك الصورة التي ترينها أمامك، ثم اشارت إلى صورة الشهيدة "أم ياسر" - وتابعت: لقد تأثرت بها كما لو كنت قابلتها.. فقد أعطتني أجمل صورة للمرأة المسلمة المجاهدة بكل ما تملك.. حتى نفسها اذ بذلتها رخيصة في سبيل الله والوطن والاسلام..
غادرت مع زوجها الذي انبعثت فيه روح المقاومة والجهاد فزرعها في بيته وعليها تربى أولاده..
أحببتها دون أن أراها.. أحببتها لاني عرفتها ورسمت لها أجمل لوحة يرسمها إنسان في قلبي الصغير الذي طالما أنهكه الانتظار.. وامتثلت بها أكثر بعد الرحيل..طيفاً لفاطمة عليها السلام ونوراً من زينب أبداً لا يغيب...
مرّ الوقت وأنا لا أتكلم ففي حضرة هؤلاء الاشخاص لم أستطع الكلام، لعلّها تساقطت مني الحروف وربما تاهت في وحشة السكون.. لست أدري.. تابعت أمينة:
في هذا الوقت، كانت لا تزال مضايقات العدو والعملاء
12
8
بقايا خبز ورماد
مستمرة فلم يكن يمضي يوم الا وقد لحق بنا أذاهم من كل حدب وصوب.. وفي يوم، سمعنا صراخاً من الخارج، تقدمت لافتح الباب واذ به يفتح وحده بعد أن خلعوه.. أنهم رجال العملاء - لعنة الله عليهم - دخلوا البيت بطريقة لا تحمل أدنى اعتبار لحرمة بيت تسكنه امراة.. وبدأوا يفتشون المنزل فلم يتركوا شيئاً في مكانه.. حتى ذلك المصحف الذي وضعته بين الكتب في المكتبة، نزعوا صفحاته ورموه أرضاً غير آبهين بمكانته الشريفة..
كما كنت أملك قلادة ذهبية.. آخر ما بقي لي ذكرى من زوجي رفضت أن أبيعها كما بعت الخاتم ورغم حاجتي إلى ثمنها وسهري الطويل وأنا أعمل على آلة الخياطة أحيك حزني وذكريات أمسي قبل ملابس الناس، أخذوها ليسرقوا مني حتى الذكريات.
كانت ابنتي أحلام قد بلغت الخامسة عشرة من عمرها، لكنها كانت تملك عقلاً راجحاً فقد أخذت من الحرمان الذي عاشته الصلابة والقوة، وكذلك الحكمة والصبر واستمدت من هذا البيت، الذي أدرك الظلم وتربى على المقاومة، الروح الجهادية، التي آمن بها أولادي كلّهم كما أيقنوا أن العدو الحقيقي لنا هم هؤلاء الاعداء ويجب أن يهزموا مهما كلّف الامر من تضحيات فهذا وعد القرآن، ووعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
لا أنسى ذلك اليوم عندما ظهرت علي أمارات الآسى إزاء ما فعلوه، فوقفت أحلام صارخة بهم: "ما الذي جاء بكم إلى
13
9
بقايا خبز ورماد
هذا المكان؟! ماذا تريدون منا؟ لقد بعتم أنفسكم للشيطان، فاذهبوا اليه يا أعداء الله!." لكنها ما وجدت من يرد عليها أو يجرؤ ان يجيبها.
عندها وصل "حسين" من المدرسة.. وجد الباب مفتوحاً فدخل لكنهم استقبلوه بالضرب على كل جسمه، لم أستطع احتمال هذا المشهد، فصرخت بهم، وطلبت منهم أن يتركوه، لكنهم لم يرحموني..
ظلّوا يضربونه ثم أخذوا يجرّونه، تعلّقت به أحلام، فأبعدوها، وذهبوا به إلى معتقل الخيام. مرّت ليلتي كأنها السجن في عمق الاشجان، حاصرتني فيها الدموع وصادرني الالم. الآن ولداي غائبان، في الماضي عندما رحل والدهما عن هذه الحياة كنت أسعى للقمة العيش ولكنّهما كانا إلى جانبي أما الآن فواحد خلف الجبال، والآخر خلف القضبان.
لاحظت عليها التعب، لكنه تعب مزمن، لم يكن وليد لحظته.. فطلبت منها أن ترتاح لكنها أصرت أن تكمل لي الحكاية حتى النهاية، وأكملت..
قضيت تلك الليلة وأنا أفكر تارة في حسين الذي يتعذب، وقد كنا نسمع كثيراً عن قسوة المعاملة هناك، وطوراً أفكر في محمد فدعوت الله أن يعين قلبي على ما انا فيه، علّه يقويني، علّه يساعدني ويصبرني أكثر، دعوت الله وذكرت ليلى، التي جلست في خيمتها يوم العاشر من المحرم ودعت الله بغربة أبي عبد الله أن يعيد لها ولدها علي الأكبر فبكيت، بكيت كثيراً،
14
10
بقايا خبز ورماد
ودعوت الله أن يردّ لي ولدي محمداً فعاد، واستجاب الله لي. ولم أصدق نفسي لكأن روحي فارقت جسدي، ثم عادت إليّ، كدت أقع أرضاً لكنّه تقدّم منّي وقبّل يدي، فرأيت في عينيه دموعاً لم أرها من قبل، وأخبرني بأنه علم من أحلام ما جرى لأخيه، وقال في لحظة غضب: "أنا السبب"، فوضعت يدي على فمه، وطلبت منه الصمت لكي لا يزيد فوق قلبي آلاماً جديدة، وأخبرته بأنه القدر ويجب أن نرضى به ما دام الله راضٍ. عندها ابتسم ولأوّل مرّة لم يهرب منّي بل ظلّت عيناه معلّقتان بأنظاري، أدرك بأنّي كنت أعرف كل شيء. حمدت الله وشكرته، وبعد أن أنهيت صلاة العشاء تقدمّ منّي خجلاً، لكني لم اعرف السبب، بدأ بمقدِّمة قصيرة، ثمَّ طلب منِّي أن أحضّر طعاماً لأربعة أشخاص، عرفت حينها أنهم رفاقه الذين سيذهب معهم للقيام بعمله الجهادي، فابتسمت ابتسامةً تحمل الكثير من الهموم ثم قلت: "ألهذا الطلب تخجل!! فوالله لو لم تطلب ذلك لسألتك بنفسي". تنفّس الصعداء وكأنه أزاح عن قلبه هماً كبيراً، ثم راح لينام، وتركني أصارع الأحزان، لم تغف عيناي تلك الليلة وظلّ يجول في فكري ما يعانيه حسين في أسره، هل يضربونه؟ هل يشتمونه؟ هل يعذبونه؟ هل أكل؟ هل شرب؟ لست أدري، اشتعلت في قلبي نيرانٌ جديدة، وغفت عيناي قبل طلوع الفجر بقليل.. لكن مع آذان الفجر، ايقظني محمد لأصلي صلاة الصبح وودّعني وقبّل وجنتي، وطلب منّي الدعاء له بالتوفيق، ففعلت، ثمّ رحل.
15
11
بقايا خبز ورماد
توكلت على الله وحده، واستعنت به، وسلمت أمري اليه، فمن غيره أعلم بحالي!!
مرّت بعدها أيامٌ طويلة لم أسمع فيها خبراً عن محمد أو حسين، وصارت أيامي وساعاتي تمر كأنها سنين، وانطوت في قلبي مرارة الزمن. فإذا بي تائهة في حياتي أخشى أن أغفو كي لا أستيقظ على نحيبٍ هنا أو بكاءٍ هناك، أخشى حتى ان أرتاح، فبعد الراحة يأتي العذاب.
ومع هذا انتظرت طويلاً لأكمل ما بدأت به حياتي، وكتبه الله لي.
صمتت هنا أمينة، أمّا أنا فقد انتبهت لنفسي، كيف أنّ قدمي تدوسان الأرض وشراييني كلها قد تصلبت، كأنّي أعيش معها تلك الأحداث. لا، بل كأنها تجري امامي كشريطٍ طويل، فحينما صمتت أمينة، صمتت معها اسباب الحياة.
نظرت في وجهها وأدركت علامات التعب والدموع التائهة، تنهدت طويلاً وقالت بعد أن بكت: "سكن الجرح في قلبي بعد أن كان تائهاً في أي مكانٍ يحط، في اي زاوية يجلس، لقد شطر فؤادي نصفين وأخذ مكان ولدي محمد، لم أصدِّق حين جاءني خبر شهادته، فالألم الطائر التائه مهما كان حائراً هو أهون من سكونه في القلب الحزين الذي اشتعلت فيه نارٌ ما انطفأت ولا أظنها تفعل حتى آخرالنهايات.
كنت تارةً أجلس صامتةً لأجمع جراحات الأيام وأصبها فوق رأسي، وتارة أخرى أشتعل كحجرٍ محترق، أو كطائرٍ أخذ
16
12
بقايا خبز ورماد
يرفرف مذبوحا من الألم، ضربت على رأسي مرّاتٍ وتمنيت لو أن سهام المنية أصابت قلبي ولم تصب ولدي.
تمنيت لو أن الموت سرق أنفاسي وأبقى ولدي، ووددت لو أنني أملك عمراً أعطيه له، و تفديه عيناي، استغفرت الله تعالى، وتذكرت كلمات الإمام الحسين عليه السلام للسيِّدة زينب عليها السلام ليلة العاشر من محرم.. "أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله.. فإن أهل الأرض يموتون وإن أهل السماء لا يبقون". تلك الكلمات كانت تبرِّد نار فؤادي ،وتصبِّرني وتقويني.. لكنّ الدمعة تبقى في عيني لا تجف لا ليلاً ولا نهاراً، أحمل في طيّاتها رثاءً لولد سيبقى مدى العمر، كنت أعلم أن الجرح لن يلتئم، لكنَّ الرضا بقضاء الله وحكمه وإدراكي أن هذه الحياة مهما دامت فهي إلى زوال، كان يقويني على الحزن، وعلى الجراح، وعلى الهم الذي زاد ذلك اليوم في صدري.
عشت عمري الباقي على امل واحد، أن يعود ولدي حسين بخير فألقي برأسي في حجره، وأضمه علّه يخفف عني بعضاً من جراحي، علّه يهوِّن عليَّ سكرات الموت التي تحيط بي، وما عدت أحملها وحدي، علّني من هذه الهموم استريح، لكن هيهات.. هيهات فلو كل ما نتمناه يتحقق، لأصبحت هذه الحياة جنَّة، وأنا ما أردت جنان الحياة، وإنما أردت رضا الله وحده..
بعد استشهاد محمد بأسابيع قليلة، جلست مرة وحدي أسترجع ذكرياتي، أجمع صوراً من الماضي، لأضمها ثم أغسلها بدمعٍ مرٍّ كالعلقم.. وإذ بابنتي الصغيرة زينب ومعها ولدي علي
17
13
بقايا خبز ورماد
يتقدمان منّي، تسألني زينب عن سبب دموعي، فلم استطع إجابتها، يرمقني علي بنظرات شعرت من خلالها أنه يعرف كل شيء، إلاّ أنه فضّل الصمت، مخافة ان يجرحني، فحضنتهما معاً وابتسمت قليلاً امامهما، لا لأريحهما فحسب، بل لأني شعرت أنّي نجحت في تربيتي لهما، فهما رغم صغرهما، يحملان الكثير من الحنان والوعي والادراك..
غفوت تلك الليلة فإذا بي في عالم الرؤيا، رأيت محمدا واقفاً أمامي وأنا جالسة في زاوية غرفةٍ خالية إلا من الهموم والجدران المتعبة.. أضع رأسي في حجري وابكي، فتقدم مني ومدَّ إليّ يده وسألني عن سبب حزني،لم أجبه بل عانقته نظراتي.
كنت أعرف أنَّه محمد، ومع ذلك سألني: "هل عرفتني؟".. أجبته: "أنت حزن، أنت وجع، أنت ألمٌ من صوت الأنين، أنت شجنٌ، أنت صمتٌ، أنت جرحٌ أبداً لا يستكين"..
بكيت كثيراً فقال لي: "بل انا ولدك، أمَّاه، اصبري واتقي الله"، ومسح دمعي.. فاستيقظت وأثر الدمع قد ضيّع ملامحي. لكني مع ذلك ارتحت كثيراً وأحسست بأملٍ قريبٍ يلوح في الأفق،فيزرع أمامي درب البسمة المفقودة..
لم يخيّب الله رجائي ولم يطل انتظاري، ها هي قيود الزمن التي كبّلت ولدي قد تحطمت، وتكسّرت الجنازير فوق رؤوس صانعيها، وزلزلت الأرض بالظالمين، وألحق بهم المقاومون تلك الهزائم النكراء ،حرروا الأرض والوطن والإنسان من رجس
18
14
بقايا خبز ورماد
الصهاينة والعملاء.. وبفضل الله والمجاهدين والأهالي تم اقتحام معتقل الخيام وحرِّر المعتقلون. وعاد إليَّ حسين فاستقبلته بابتساماتٍ ودموع ومشاعر لا تنسى، فهي محفورةٌ في الوجدان. وبين البسمة والدمعة ألف حكايةٍ وحكاية، من حزنٍ وسهاد خلّفه الزمن بقسوته.. وترك ملامحه في قلب امٍّ عانت وتعذبت وتألَّمت. لكنِّي حين حضنت ولدي، هوّن عليّ كثيراً واعاد الحياة لقلبي، بعد أن خيّم الموت فوق رأسي وأدركتني رحمة الله الواسعة. حمدته وشكرته، فهو الرحمن، استحق الحمد واستحق الشكر".
صمتت أمينة، وصمت معها، كأنها فرضت علي السكون، وأصبح الكلام في محضرها محرماً. مشيت أسترجع بعضاً من هذه الأحداث، علّي أعرف إذا كنت قد وجدت ما أبحث عنه، وإذا كنت أعتقد حين دخلت منزل أمينة أني في بداية الدرب. فقد أدركت حين خروجي منه أني لم أبدأ بعد، ولا زلت أحتاج الكثير الكثير، كي أصل إلى أول الطريق.
19
15
بقايا خبز ورماد
رحلة الحرية
كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً في شوارع "تكساس"، حين اغتال الظلام صورة النور، ودقت ساعة الأنين ليولد طفل جديد من رحم الأيام، لأول مرة ينبض قلبي خوفاً، انه نبض يبشر بقدوم عمر آخر، أو ربما هو صحوة من نوم عميق، أو سفر طويل، كنت أجول في بساتين العمر وأحتفل بقدوم الربيع، أتدلل حينا فوق أشرعة السعادة وأركب حينا آخر مراكب الأيام دون أن أرقب لحظة الغياب وأدرك وجه الحقيقة... تلك الحقيقة التي طالما هربت منها، أدركتني لحظة انفجار الصمت وغياب السكون، جاءت لتخبرني أني أصبحت انساناً آخر،لا يعرف معنى الضياع، شوارع "تكساس" مظلمة مع أن الأضواء لا تفارقها، ومدنها شاحبة كئيبة.. كتلك الأيام التي صادرني فيها الحزن الأول حيث بدأت قصتي...
عشرون عاماً وجدرانها تلاعبني.. وصخبها يداعبني... عشرون عاماً والقلب حائر يتساءل.. "لماذا لا يعرف طريق السعادة؟" مع أنني كنت أملك أحلام الصبايا.. تلك التي تكسرت قبل النضوج... تحطمت حتى أيقظني زجاج تحطمها من نوم عميق وسبات ما كنت أظن أني أفيق منه أبداً... لم يبق لي حلم أعيش لأجله... فقد ضاعت الأحلام وصار عليّ أن أستعيد الذكريات... استجمعت قواي استعداداً لرحلة طويلة.. تمتد من أول النور حتى هذه اللحظات التي أجد نفسي فيها هائمة في صحراء التيه والضياع.. دون وطن أحمل همّه بين الضلوع... بعد أن كنت أظن العمر نزهة أعود منها آخر المساء متعبة...
23
16
بقايا خبز ورماد
ولدت في "كاليفورنيا"... هاجرت إلى "فلوريدا".. زرت "آلاسكا".. ودرست في "جورجيا" وغيرها من الساحات التي داستها أقدام الناس من كل حدب وصوب... حتى عرفتني دور الأزياء وملاهي الأرجاء.. عرفتني كلها وأنا كنت أجهل نفسي..
مات أبي في اليوم الذي أبصرت فيه النور.. بعد أن عاش أسيراً للمرض اللعين.. عشت مع والدتي وأخي الّذي يكبرني بسنوات ثلاث.. تعلقت بهما وكبرت هناك كما لو كنت أعيش بين أحضان أسرة شرقية لكننا لم نكن كذلك سوى في السجلات الرسمية.. فالمسارح والنوادي والملاهي كانت مسكناً لرغباتي...
هذه هي الحياة التي كنت أعيشها دون رادع.. دون لحظة أقف فيها مع نفسي أسالها وتسألني.. هذه هي الحياة التي ما كرهتها الاّ حين تحطم زجاج أحلامي.. بعد أن كنت مرآة للناس كلهم.. أبهرهم وأسحرهم بذلك الجمال الكاذب الذي كان يسخر به الزمن مني، كنت أظن أن السعادة كل السعادة هي أن أراهم وهم يصفقون لي وأنا أستعرض نفسي أمامهم ،أو أن أفتنهم بذلك الجمال الأميركي البارع في قالب عربي، وانا التي لم تكن تدري معنى العروبة ولا معنى الوطن، لأن هذه الأمور لم تكن تشغلني، تركتها للديمقراطيين في بلاد لا تعرف معنى الديمقراطية.
أذكر مرة منظر الناس في الشوارع ، حين تظاهروا رافضين اتفاقية "كامب دايفيد" تلك التي أسموها اتفاق السلام بين مصر واسرائيل والتي كان يرعاها "جيمي كارتر"، لا زلت أذكر
24
17
بقايا خبز ورماد
ذلك المشهد، لكن الغريب أنه لم يحرك بي ساكناً، كنت أحزن لمشهد الأطفال يذبحون كحزني لأي أمر عادي.
ومرت الأيام ،عشت فيها أميرة على عرش "أوستن"، كان من الطبيعي أن يتقدم العديد لخطبتي، ومن بينهم مدير الدار التي كنت أعمل فيها، وقبلت، لا أدري لماذا، ربما لأني كنت أبحث عمّن يبهر عيون الفتيات فأعجبت به. وقررت أن أضع خاتم الخطوبة في يدي اليمنى، دون أن اسمع رأي أم تنصحني، أو أخ يرشدني، أو صديق يدلني على الحقيقة.
كانت ليلة الخطوبة تبدو من أجمل ليالي العمر، طال فيها الليل مرغماً.
لكن حزناً قاسياً سكن ملامحي، لم أفهم له سبباً لعلي تذكرت والدي ووددت لو أنه إلى جانبي في هذه اللحظات، لقد كنت جسداً ثقيلاً على ذلك الكرسي اللئيم، لكن روحي كانت هناك في ذلك العالم الآخر.
وانتهت الحفلة عند الصباح، انطفأت صورة الليل الأسود ليولد يوم جديد يصير فيه الدهر مستنقعاً بعد أن كان وحشاً يبتلع فيّ الأخضر واليابس.
ركبت سيارتي لأعود إلى البيت مع أهلي، لكن التعب كان قد نال مني، وكان السبب في كل ما جرى لي.
تحطمت السيارة حين اصطدمت بشاحنة، انقلبت رأساً على عقب، وغفت عيناي وضاع رشدي، ولم أدرك الروح الاّ وأنا على سرير الموت الذي رأيته يقترب مني يوماً بعد يوم.
25
18
بقايا خبز ورماد
وبعد شهر من المعاناة، استعدت كامل وعيي لكني دخلت في غيبوبة جديدة حين أدركت أني فقدت أمي وأخي في يوم واحد وبأني كنت السّبب في ذلك، دخلت عالماً آخر.. حين تركت السّرير لأوّل مرّة، لأكتشف مأساة ستبدأ معها رحلة الألم الجديد، لقد تأثّرت قدمي اليسرى بالحادثة وصار عليّ أن أعرج حتى أصل إلى ما أريد الوصول اليه.. فتمنّيت عندها لو أنّ الموت يطويني، علّني أخلص من هذا الكابوس، علّني في لحظة أرتاح، لكنّها كانت أمنية صعبة المنال، لأنّ الحياة الّتي تنتظرني هي أبلغ من كلّ الأماني ، وكلّ الأحلام.
ولكي تكتمل الصّورة ويسدل السّتار على المشهد الأخير من تلك المسرحيّة، كان عليّ أن أتلقى الصّفعة الكبرى حين يتخلّى عني جميع من كانوا حولي، لتنهار عليّ الجدران وتهتزّ الأرض تحت قدمي. الآن تحطّم الجسر الذي أرقى به جبلي، وخطيبي الأجمل لم يعد يراني أمل المستقبل بل رسماً لماضٍ عتيق، لم أعد أشبه ملكات الجمال، لم أعد تلك التي تبهر القمر بنورها، بل صرت خريفاً لرذاذ المطر، ودمعاً يذرف فوق قبور الأسلاف، أصبحت ذات القامة المنكسرة وصاحبة الشبح المخيف.
وفي غمرة الظلام الذي عشته، أطل عليّ وجهها المشرق لا ليشفق علي بل ليقويني، انها "منى" الطبيبة الطالبة التي كانت تدرس وتعمل في المستشفى.
هي أيضاً سافرت إلى أميركا، لكن بهدف العلم فقط، كانت نبراتها حزينة، وصوتها دافئ لا يمكن للمرء أمامه
26
19
بقايا خبز ورماد
سوى أن يشعر بالارتياح، وبالفعل كانت "منى" سبيلي للوصول إلى أوّل الطريق.
لم أستطع العودة إلى البيت بعد خروجي من المستشفى هائمة على وجهي، أتوسل الموت أن يأخذني على أن أشحذ عطفاً من بين الشفاه أو نظرة يرمقني بها كل من دارت لهم الحياة وابتسمت.
عندها أصرت "منى" أن تأخذني لأعيش معها في بيت الطلبة، وافقت دون نقاش فقد تحطم الجدار الذي كان يفصلني عن الناس ومع ذلك ظللت يائسة وحيدة حتى فكرت بالانتحار ولمّا أردت أن ألقي بوجهي في المحيط ليبتلعني، انقذتني للمرة الثانية لاصبح مدينة لها بعمري وحياتي والأمل الذي زرعته في داخلي لاحقاً.. أدركت حينها أني رغم كل ما كنت أملكه من مال وجاه وجمال، لم يكن لدي ما عندها من صلابة وقوة وايمان... فليس من حق أحد أن يضع حداً لحياته متى شاء، علينا أن نقاوم حتى النهاية ومن وهبنا الحياة لا يمكن أن ينسانا أبداً.
ثم راحت تحدثني عن مأساتها التي عاشتها بعد وفاة والدتها ومشاكل والدها المادية، والتي لاجلها أجّلت دراستها، حدثتني عن القوة التي تتملكها حين تتوكل على الله وتسعى لرضاه وترضى بقضائه مهما كان.
عندها رأيت صورة الله، لأول مرة تشرق الشمس في وجهي، وأدرك أن للعمر معنى آخر لم أعرفه إلاّ حين خيّم شبح الموت
27
20
بقايا خبز ورماد
فوق جثتي الهامدة، وزيّن الموت سمائي المظلمة، الآن استرجعت ذاكرتي النائمة في كهف الأيام، استرجعت ضميراً غفا فوق صخرة النسيان، وقررت أن أواجه الحياة وكل ما فيها.
لقد كنت أقوى وأنا أحارب الهم والشجن، وأنطلق إلى الرصيف الآخر لأعبر حقل العمر القادم.
لكنّ مأساتي كانت تبدأ مع الأبواب المغلقة حين يكسو الليل مملكتي، ويدوي صمت الأيام في أرجاء غرفتي المظلمة، مأساتي كانت تبدأ حين أجلس وحدي، حين أنظر إلى قدمي وليست تسكنني سوى كلمة واحدة "معاق" وتتملكني تلك الصورة المؤلمة، وهم ينظرون إليّ بدهشة كيف أني هويت من أعلى الأعالي إلى حيث لا أحد سوى الدمع القاني الحار..
أما من كان يجهلني، فقد كان ينظر الي بشفقة وكأنني ذلك الكسيح الّذي راح يفترش الأرض مستعطياً، أو ذاك الفقير الّذي اتّخذ الرصيف مسكنه.
لم أجد أحداً أشكو اليه، لكنّي تذّكرت لحظة انتحار الروح، لحظة رأيت فيها صورة الله، انها لحظة الميلاد ،حين استرجعت عمري الضائع.. أدركت انّي ضيعت نفسي لكنّ الله دلّني عليها ودلّني عليه. احتضنتني أكفه وضمني إلى كنف رحمته الواسعة، هربت من كل ما بداخلي اليه، شعرت بحبه يسكن قلبي، شعرت بهذا الحب يكبر شيئاً فشيئاً، وكأنه طفلي الاول، هذا هو حبي لله الّذي حسدت نفسي عليه مراراً وعذبت روحي لأجله كثيراً.
28
21
بقايا خبز ورماد
لم يعد عليّ أن أنظر إلى السماء حتى أبصر صورة الله أو إلى المحيط كي أراه، بل يكفيني أن ألقي على فؤادي نظرة واحدة فهناك، هناك يسكن الحب الكبير الّذي لا يوازيه حب، وكنت واثقة أنّه سوف يهديني إلى سبيل لا أتيه منه أبداً.
عندها قررت أن أكون أو لا أكون، فدارت في رأسي أسئلة كثيرة عن الحقيقة، حقيقتي وحقيقة الحياة.. كيف كنت أتّخذ الحياة ملهى أعبث فيه، ومقهى أحرق عند أبوابه سجائري، كيف لم أكن أدري، ولم أكن أدري أنّي لا أدري!!
أذكر يوماً حين كنت أتناول العشاء في أحد مطاعم "نيو جيرسي" وقد كتب على باب المطعم عبارة "ممنوع للمحجبات"، وفجأة دخلت سيدة محجّبة غير آبهة لتلك النظرات الّتي كانوا يصوبونها نحوها بل ظلّت مرفوعة الرأس ولم يمنعها شيء من الدخول، الآن أدركت معنى كل هذا وتمنيت لو أصبح مثلها بهذه القوة.
وكما تحديت قسوة الزمن وخيانة أصحابي وخطيبي لي، أكملت إلى الله رحلتي الطويلة، الله الّذي كنت أبحث عنه في كل الأماكن، في الكهوف والمساجد، في الصوامع والمعابد، في السماوات وفي الأرض، في القلوب والأحشاء، وكل الأرجاء، هاجرت اليه سبحانه.. فعنده وجدت روحي، وجدت نفسي قائمة في محرابها تصلّي صلاة العابدين، صلاة الناسكين، الآن صرت أجمل وأنا أرتدي الحجاب لأوّل مرة، وأنا أمسك القرآن لأول مرة، وأنا أقف بين يدي الله لأول مرة، الآن وجدت
29
22
بقايا خبز ورماد
نفسي، حين تركت جثتي الأولى هناك في دور الأزياء، وملاهي الولايات، ومقاهي البلاد، لقد وجدت نفسي حين قررت أن أعود إلى وطني وطالما شجعتني "منى" على ذلك خاصة بعد انتهاء فترة دراستها.
كانت العلاقة تتطور بيننا يوماً بعد يوم في الغربة التي صار كل شيء فيها غريباً عني حتى المياه التي أشرب، والطعام الّذي لم يعد يشبعني.
وعدت إلى وطني الّذي لم أر صورته من قبل، احتضنني أهله بعد أن كنت أعيش فيه بمخيلتي لتبدأ رحلة البحث عن حقيقة الدّين الّذي أجهل والوطن الّذي أسكن. رحت أقرأ عن الاسلام حتى زاد تعلقي به وأحضر المحاضرات العلمية والدينية، وأناقش في الندوات الفكرية والسياسية، خاصة تلك الّتي كانت تقيمها الشهيدة السيّدة "أم ياسر" في منزلها.
تعلّقت بها وبأفكارها وإيمانها، حتى صرت أداوم على محاضراتها، وإذا كان هناك فضل بعد الله لأحد في تلك القدرة الّتي سكنتني فانّه يعود إلى تلك السيّدة الفاضلة الّتي تتلمذت على يديها، والّتي جعلت من بيتها مسجداً وملتقى لمعرفة الله والجهاد في سبيله ومسرحاً لحب الوطن، والقتال من أجله.
لقد كانت الأم الّتي احتضنتني بعد وفاة أمي، وكانت القلب الّذي أرسل فيّ دفء الايمان ومحبة الله.
يوماً بعد يوم كانت تكبر في داخلي صورة الوطن الحقيقي وصورة الجنوب المعذّب.. كنت أعرف الجلاد أكثر لأكره فيه كل
30
23
بقايا خبز ورماد
المعاني، انه عدو الدّين، وعدوّ العروبة والاسلام دخل البلاد غصباً وقهراً، احتلّ الأجساد وأعدم الأرواح ،سرق المياه وأسر الأطهار، ما الّذي يريده منّا؟ هل هي الأرض من النيل إلى الفرات؟.. أم اغتيال الاسلام في كل مكان؟...
فالقضيّة لم تعد قضيّة "فلسطين" وحدها، بل أصبحت قضيّة المسلمين كلّهم، وصارت الصّورة تتكلّم وتحكي، صفحات قتل ودمار، ومشاهد لقبور كتب عليها "مجهول"، ومجازر لا تغفر أبداً، وقرارات من مجلس أمن يعدّ المخالفات ويحصي عدد القتلى، ويأسف بصوت البرلمان الأميركي لضحايا المذابح، وقمماً لاستعراض العروية الكاذبة، لقد ماتت تلك العروبة وصارت ككرة الثلج بين الأيادي، ماتت ومشى في جنازتها قاتلوها، شيّعوها إلى مرقدها الأخير ووضعوا الزهور فوق لحدها.
لم تعد المسألة بحاجة إلى مجهر، فالعين المجرّدة قادرة على رؤيتها والصراع العربي - الاسرائيلي بدأ ولم ينته وها هي اسرائيل تجتاح العرب لتنفّذ عقيدتها، وها هي أميركا تسيّر العالم كما تريد، تنتقل من مكان إلى آخر، لتمتلك العالم كله، دون رادع من أحد. ما دام هناك علاقات عربيّة - أميركيّة و ما دام هناك معاهدة مصريّة صهيونية كمؤتمر مدريد عام 1991 الذي عقد لفتح باب المفاوضات الإسرائليّة - العربيّة. كل هذه الأمور وسواها شغلت تفكيري وغيّرت في داخلي أشياء كثيرة، أكثر من تلك التي تغيّرت حين ولد فيّ الانسان، حين صار اللّيل دخان، الآن صرت أعرف وأحمل همّ العارفين،
31
24
بقايا خبز ورماد
تعلّمت كيف تحمل الفتيات السّلاح، كيف تنقل العلم من مكان إلى مكان.. وصار يتردّد على لساني قول الشّاعر: "يا وطني الحبيب.. كيف حوّلتني من شاعر يكتب الحب والحنين.. إلى شاعر يكتب بالسّكين".
نعم.. اتّخذت من السّكين قلماً.. صار الشّعر أغنيتي، ولحنه الأوّل أمسيتي، وممّا زادني اصراراً على السّير في هذا الطّريق هو حب الانتقام والثّأر لتلك المرأة التي أحبتني وساعدتني وقدمت لي ما لا يعطيه بشر.. قتلوها وفجّروا نار حقدهم فيها. قتلوها وزوجها وولدها لتكتب لهم شهادة الأحرار.
هذه المرة، عبرت جسر الصعاب بعد أن فارقني نوم المساء، وحملت القلم خنجراً أدوّن به مقالات وأحداث ومنشورات زرعتها في كل مكان واستطعت الوصول بها إلى حدود القرى المحتلة. وكم كان يسعد أهل تلك القرى لأنّهم كانوا يشعرون بأنّنا دائماً إلى جانبهم، نساعدهم ونساندهم ونخفّف آلامهم، حيث لم يتركوا لهم قمحاً ولا أرضاً ولا بساتين ولا زيتوناً... فقد ضاعت صورة البلاد، تاهت في عالم النسيان، وصعدت فوق أجنحة السّحاب وويلات الأوطان.
وتمر بنا الأيّام، حتى حرب الأيّام السّبعة في تموز 1993، حيث استخدم العدو النيران بكثافة ضدّ القرى المدنية مسلطين طائراتهم المروحيّة على المنازل والحقول ظناً منهم بأنّهم يضغطون على النّاس ليقوموا ضدّ المقاومة.
كذلك كانت واشنطن تلح على الحكومة اللّبنانيّة لايقاف
32
25
بقايا خبز ورماد
عمليّات المقاومة على الجيش الإسرائيلي والميليشيا المتعاملة ،لكن جهودهم فشلت في تحقيق ذلك،استشهد الكثيرون، ودفع الأبرياء ثمن الحريّة وحب الوطن، وثمن الجهاد ولم يكن عملنا يقتصر على المنشورات بل أيضاً على ارسال الطّعام والمؤن إلى الأهالي.
ولأنّ الخيانة كانت كبيرة فقد لحقت بنا، أدركونا ونحن نقوم بتلك الأعمال واقتادونا إلى داخل معتقل الخيام، وهناك بدأت رحلة جديدة، أيضاً كانت صديقتي "منى" فيها إلى جانبي ورفيقة عمر جديد لم يكن بالحسبان، بدأت رحلة من خلف القضبان، في زنزانة ثقلت فيها رائحة الهواء.
هذه زنزانتي خالية الا من صوت الجلاد، وصوت العذاب والوجع الذي لا يسكن أبداً، كان عليّ أن أقف فيها يوماً بأكمله لا لأنّهم يمنعونني من الجلوس بل لأنّها لم تكن تتّسع حتى لحشرات المكان، كان هذا قبل ما يسمّونه بالتّحقيق، ففي كل السّجون والمحاكم، الحكم يصدر بعد الجلسة إلاّ عندنا، لقد كان الحكم يصدر قبلها، وما دام كذلك، فلم التّحقيق إذاً؟
لعلّه سؤال غبيّ، كغباء هذا السّكون في الدّار المظلمة، ربّما كان لاكمال الصّورة، وربّما كان لأخذ المعلومات عن السّلاح، عن المخرّبين ، عن المنشورات، أو عن أيّ شيء آخر، لكنّ النّار التهبت بهم حين أخبرتهم أنّ سلاحي هو القرآن، وأن التّخريب لا ينبع الا من عند المحتلّ الغاصب وأنّ أحداً لم يكن يوزّع المنشورات معي، ولعلّ ما أشعلهم أكثر هو عندما صرخت فيهم: "إنّي أكثر منكم حريّة".
33
26
بقايا خبز ورماد
صفعني المحقق ورماني أرضاً ثمّ أخذوني إلى الزّنزانة الجماعيّة، وكذلك كان التحقيق مع الجميع.
قضينا تلك الأيّام، الواحد منّا بعشرة، كان فيها الصّبر صديقنا الأوحد، ولست أنسى أبداً كم مرّة كانت روحي تتوق فيها لرؤية الشّمس كي يعانقني نورها ولكم وددت لو أنّي أحطّم القيد بيدي، أو لو أنّي أغفو قليلاً علّني من هم زماني أستريح.
انّه مسرح العذاب، ومسرح البطولات، ومسرح الشّهادة تحت التّعذيب، وكذلك مسرح الابداع فالأسر يعلّم الانسان والقهر يصنع الشّعراء.
ظلّت الحال كذلك حتى الخامس والعشرين من شهر أيّار في العام2000 موعد التّحرير والانتصار، لكن الفرحة دائماً لا تكتمل فهناك من لا يزال يعيش خلف القضبان، هو أحق بالألم مني، روحه تتوق إلى الخلاص وذاته المعذّبة تودّ لو أنها تقبّل الشّمس وهي تصرخ فيهم: "ليس الأسير من يعيش داخل الأسر، انما الأسير هو ذلك الذي يعيش الأسر داخله.
34
27