السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
بسم الله الرحمن الرحيم
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين لا سيّما بقيّة الله في الأرضين أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك.
السادة الأفاضل محاضري وخطباء المنبر الحسينيّ دمتم موفّقين.
ما أحوجنا ونحن نستجلي مواقف كربلاء ونسبر أعماق أسرارها, ونضيء شعلاً من قبس أنوارها, نستهدي فيها نور الفتح والفوز, لتكون كربلاء مدرسة نابضة حيّة مستمرّة تلهم الأجيال في كلّ العصور درس الإيمان والثبات المنتصر على ظلامة العدوّ وجوره, لأنّ حركة الإمام عليه السلام حركة تكامل وصلاح, وتحمل ديموميّة حيّة مرتبطة بالتكامل والسعادة الإلهيّة.
ولا غرابة إذا قال في حقّه من لم يَفُه إلّا حقّاً ولم ينطق إلّا وحياً "حسينٌ منّي وأنا من حسين", لتخلد في أفق الوجود حقيقة مشرقة أنّ الإسلام محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء.
لقد أروى سيّد الشهداء شجرة الإسلام العطشى بدمائه
5
1
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
الزكيّة، ووهبها حشاشة نفسه, ومنحها مُهجة قلبه, فأينعت وأثمرت لتكون أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء.
ولأنّ الإمام عليه السلام هو الجاذب للناس بدافع الفطرة وشكر المنعم, كان هذا الكتاب الماثل بين يديك أخي المبلّغ عوناً لك في الليالي العاشورائية, تعيد فارّاً هنا وترشد هارباّ هناك, وتهدي ضالّاً هنا وتزيل شاكّاً هناك, وتزيد إيمان رجل هنا وتصبّر امرأة هناك, وتشدّ إلى النور شابّاً وترفع للدرجات فتاة... لنحقّق بعضاً مِنْ... "خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس" أو نبذة من "طلب الإصلاح في أمّة رسول الله".
ونطرح هنا بعض السياسات لهذا الخطاب العاشورائيّ التعبويّ المطلوب:
1- التأكيد على أهميّة الجانب المعنويّ الذي يحقّقه الارتباط بالله تعالى والتوكّل عليه، وأهميّة هذا الجانب في استنزال المدد والنّصر الإلهيّ ولو قلَّ المؤمنون وكثر أعداؤهم.
2- ربط الناس بالتّكليف الإلهيّ على قاعدة كونه الموجِّه لموقف الفرد والأمّة.
3- توجيه الناس نحو العمل للآخرة, لضمان استمرار الحياة بسعادة باقية. وإبراز دور الشهادة في تحقيق ذلك.
4- غرس روح التضحية في أبناء الأمّة لكون معركة الحقّ ضدّ الباطل
6
2
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
لا بدّ لها من تضحيات، وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الدليل الواضح على ذلك.
5- الإرشاد إلى دور الولاية في توجيه الأمّة وترشيدها. وأنّ وحدة الوليّ والقائد هي الضمان لوحدة الأمّة وعزِّها.
6- تأكيد ضرورة وحدة المسلمين صفّاً واحداً أمام أعدائهم.
7- تحديد طواغيت العصر ويزيديّيه المتمثّلين اليوم في الدرجة الأولى بأمريكا وإسرائيل والتطرّق إلى الممارسات الإرهابيّة التي يمارسها هؤلاء الطواغيت ضدّ مسلمي ومستضعفي العالم.
8- بيان تكليف الأمّة في نصرة المظلومين.
9- التشديد على ضرورة الثبات في معركة الحقّ ضدّ الباطل ودورها في تحقيق النصر الإلهيّ.
10- إبراز التشابه بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومعركتنا ضدّ الباطل، سواء على مستوى أهداف وممارسات الأعداء، أو على مستوى مشاركة الشرائح المتنوّعة من المجتمع لنصرة الحقّ (شبّان، شيوخ، نساء، أطفال، طبقات اجتماعيّة متفاوتة).
11- الإلفات إلى ضرورة التكافل الاجتماعيّ في الأمّة بما يؤمِّن القوّة الداخليّة للمجتمع في معركته ضدّ الباطل.
12- تقوية علاقة الناس بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وتبيان مسؤوليّتهم في التمهيد لظهوره المبارك، واستعدادهم لاستمرار التضحية بين يديه.
والحمد لله ربّ العالمين
معهد سيّد الشهداء عليه السلام
للمنبر الحسينيّ
7
3
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
توجيهات الإمام الخمينيّ قدس سره
للمحاضرين والخطباء الحسينيّين
1- إنّ على الخطباء أن يقرأوا المراثي حتّى آخر الخطبة, ولا يختصروها بل ليتحدّثوا كثيراً عن مصائب أهل البيت عليهم السلام.
2- ليهتمّ خطباء المنابر ويسعوا إلى دفع الناس نحو القضايا الإسلاميّة وإعطائهم التوجيهات اللازمة في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة.
3- يجب التذكير بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كلّ عصر ومصر.
توجيهات الإمام الخامنئي دام ظله
للمحاضرين والخطباء الحسينيّين
أوّل شيء يجب أن تهتمّوا به هو رسالة الثورة في المصيبة وفي المدح وفي الأخلاقيّات والوعظ.
كيف يجب أن تقام مراسم العزاء؟
إنّه سؤال موجَّه إلى جميع من يشعر بالمسؤوليّة في هذه القضيّة، وباعتقادي أنّ هذه المجالس يجب أن تتميّز بثلاثة أمور:
8
4
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
1- تكريس محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم في القلوب, لأنّ الارتباط العاطفيّ ارتباط قيِّم ووثيق.
2- إعطاء صورة واضحة عن أصل قضيّة عاشوراء, وتبيانها للناس من الناحية الثقافيّة والعقائديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.
3- تكريس المعرفة الدينيّة والإيمان الدينيّ. والاعتماد على آية شريفة أو حديث شريف صحيح السند أو رواية تاريخيّة ذات عبرة.
على أيّ منبر صعدتم وأيّ حديث تحدّثتم، بيّنوا للناس يزيد هذا العصر وشمر هذا العصر ومستعمري هذا العصر.
9
5
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
من خطاب للإمام السيّد الخامنئيّ دام ظله ألقاه في لقاء اتحادات الطلبة الإسلاميّة في مختلف مناطق البلاد عام 1364ش الموافق لعام 1986م.
نلاحظ في وقائع عاشوراء نفسه, أنّه عندما تحرّك الإمام الحسين عليه السلام كان بإمكان مجموعة من خلال التحاقها به أن تحوّل تلك النهضة إلى ثورة بنّاءة, لا إلى نهضة دمويّة انتهت بالقتل والشهادة, كان بإمكانهم ذلك! فلو أنّ عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر, هذه الشخصيّات التي كانت بارزة في عالم المسلمين في ذلك اليوم, وكانوا يسكنون في مكّة والمدينة, وهم جميعهم من أبناء شخصيّات معروفة في صدر الإسلام, ابن جعفر الطيّار ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, ابن الزبير, ابن عمر, ابن عبّاس, لو أنّ هؤلاء الأربعة والذين اسم كلّ واحد منهم عبد الله خرجوا برفقة الإمام الحسين عليه السلام, لوجدت حركة عظيمة, لم يكن باستطاعة يزيد ولا أعوان يزيد, دون شكّ, أن يقفوا في وجهها.
انظرو, فهؤلاء وآباؤهم كانوا من الشخصيّات المعروفة في الإسلام. وهذا الأمر كان مؤثّراً جدّاً، فالشخصيّة والسمعة
6
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
كانتا لتسهّلا له كثيراً من الأمور والأعمال. فهل كان بالإمكان منازعة كلّ هذه الوجوه المعروفة, التي لكلّ واحدة منها عشيرة وأصدقاء ومؤيّدون في عالم الإسلام؟ إذاً لقامت النّاس وتبدّلت تلك الحركة وأحدثت تحوّلاً في السلطة والحكومة.
لولا تراخي هؤلاء الذين ذكرتهم وأمثالهم, لكان الإمام الحسين عليه السلام قد خرج بعدّة آلاف, بدلاً من الخروج من مكّة ببضع مئات, تركه بعضهم أثناء الطريق, والقليل بقي في كربلاء. وإذ ذاك هل كان للحرّ بن يزيد في هذه الحالة, أن يقف في الطريق ويمنع الإمام الحسين من الوصول إلى الكوفة؟ ولو وصل إلى الكوفة, هل كان لعبيد الله بن زياد - الوالي الجديد للكوفة- أن يقف أمام هذا الجيش الكبير الذي على رأسه نجباء وشخصيّات معروفة من قريش وبني هاشم؟ و(لكانت) سقطت الكوفة. وبسقوط الكوفة, تسقط البصرة,, ما يعني سقوط العراق. ومع سقوط العراق, فمن المتيقّن به أن تلحقه المدينة ومكّة وتسقط الشام أيض, وتتغيّر الحكومة, ويتبدّل تاريخ الإسلام. وعوض قرنين من الضغط والتضييق, كانت ستعود حكومة آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, ولو عادت حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, لكان من المحتمل جدّاً أن يبلغ الإسلام الذروة في العالم,
7
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
بدلاً من 14 قرناً من الانزواء, ولعلّ الحضارة اليوم والصناعة, التكنولوجيا, العلم والثقافة كانت ستكون مختلفة كلّيّاً عمّا هي عليه الآن.
ولعلّه لو حصل ذلك الأمر, لما عانت البشريّة عندها من كلّ هذا الشقاء والبؤس, ومن كلّ هذه الآلام والغصص والفقر وانعدام الأخلاق والجهل, والحروب وسفك الدماء. وكان العالم اليوم متقدّماً 100 سنة عمّا هو عليه حالياً. فأيّ شخص باستطاعته أن ينكر حجم الاستعدادات والقدرات التي أبادتها الضغوط والمحن على مرّ هذه السنوات المتمادية, فلولا المحن والضغوط, ولولا الحكومات الطاغوتيّة, لتفتّحت هذه الاستعدادات وانطلقت وأثمرت, ولعمرت الدنيا وتبدّلت عمّا هي عليه حالياً.
كيف سُدّ هذا النبع, الذي لو جرى لكان بإمكانه أن يروي الدنيا بأسره, هناك في ذلك الموقف عندما شاهدت بعض هذه الشخصيّات الكبيرة الإمام الحسين عليه السلام يتحرّك وقال لهم هيّا تحرّكوا, ضربوا كفّاً على كفّ وقالوا له: الآن, ليست الظروف مؤاتية!! الآن العدوّ قويّ, ولا يصحّ. وعندما قالوا له: الآن، فهم جعلوا الزمان دخيلاً، وجعلوا الظروف دخيلةً.
8
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
لم يقل الإمام الحسين "الآن", لا! بل قال هي وظيفتي, ينبغي أن أقف وأقول الحقّ يجب أن أنير الأذهان وأذّكرها. فلو
نجحت فهو, وإلّا فإنّي بعملي هذا أذكرهم بما عليهم القيام به, هذا هو منطق الإمام الحسين عليه السلام, فيا ليتهم مضوا معه!.
13
9
الليلة الأولى
المحاضرة الأولى: نصرة المظلوم
الهدف:
بيان الظلم وعواقبه ووجوب نصرة المظلوم وتناصر أبناء الأمّة, وعدم حواز الركون للظالم.
تصدير الموضوع:
من نداءات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: "هل من ناصر ينصرنا...".
11
الليلة الأولى
مقدّمة: قبح الظلم والإعانة عليه
إنّ من أهمّ ملامح عاشوراء هو تلك المظلوميّة لأبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ولصحبه ولأهل بيته، ولعلّ هذه المظلوميّة من أسباب استدرار الدموع وتحرّك المشاعر عبر الأجيال مع تلك النهضة وأبطالها. وتفاعلها معها والظلم في بعض معانيه تجاوز شخص ما أو جهة ما على حقّ أو حقوق شخص أو جهة أو فئة، ومن مصاديقه إنقاص حقّ لشخص عن نصابه، ومنه عدم إعطاء صاحب الحقّ حقّه في وقته الملائم ومكانه المناسب أو المعيّن، بل اعتبر أهل اللغة أنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، وعند العرف وفي زماننا كلّ تعدٍّ على إنسان ونيل منه ومن حقوقه وأمواله يعتبر ظلماً, ومن بديهيّات التكوين النفسيّ عند النّاس إدراك الإنسان بنفسه قبح الظلم وبشاعته وكذلك حسن العدل. وكلّما كان المظلوم أشدّ ضعفاً وألصق بالبراءة كالأطفال والنساء والمعوّقين كان أشدّ إثارة للمشاعر الإنسانيّة وللاستنكار.
بل إنّ القبيح بنظر النّاس تتوسّع دائرته ليشمل ليس فقط الظالم بل المعين له الممالئ المداهن له بل حتّى الساكت عنه.
18
12
الليلة الأولى
محاور الموضوع
وجوب نصرة المظلوم:
وممّا جاء مؤيّداً لما سبق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول الله عزَّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره".
فالإسلام يريد بذلك تربية نفوس أبناء الأمّة على ما فطر الله عليه البشر من حبّ العدل وبغض الظلم، بل ما تدعو إليه الإنسانيّة السليمة من وجوب مساعدة ومناصرة المظلومين ليرفعوا عن أنفسهم الظلم.
ولذا كانت وصيّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لولديه الحسن والحسين عليه السلام "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".
فلا يمكننا أن نكون مع المظلوم ما لم نقف لنواجه الظالم، فنصرة المظلوم لها شقّان, الأوّل: عدم ترك المظلوم وحيداً يستفرد به الظالم كما يستفرد الوحش بفريسته، والثاني: خوض معارك رفع الظلم والنزول إلى ساحات وميدان المواجهة مع الظالمين ولأنّ مجرّد التعاطف مع المظلوم دون إعانته بما يستطاع يلامس الإثم, فإنّ الإمام السجّاد عليه السلام يعلّمنا في دعائه أن نعتذر إلى الله
13
الليلة الأولى
عن عدم نصرة المظلوم حيث قال عليه السلام: "اللهمّ إنّي أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره...".
وهذا يعني أنّه كما أنّه تجب نصرة المظلوم وإعانته كذلك يحرم خذلانه، ولأنّ الجزاء وفق الجرم فإنّ عقوبة الخذلان هي الخذلان, وقد روي في ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام: "وما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلّا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا خذله الله في الدنيا والآخرة".
الأمّة المتناصرة:
لقد أرسى الإسلام بتعاليمه الرائعة عناصر الوحدة في الأمّة فاعتبر الرابطة بين أبنائها هي رابطة الأخوّة، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...﴾.
وقال كذلك: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
14
الليلة الأولى
فثمّة قاعدة قرّرها الإسلام وهي أنّ أبناءه جماعة موحّدة تسود بينهم روح الأخوّة، وهذا ما يرتّب لكلّ فرد حقوقاً وواجبات, ومن هذه الواجبات والحقوق التناصر. فالنصرة واجبة من كلّ مسلم تجاه كلّ مسلم مهما كان لونه وعرقه ولغته.
بل إنّ من مصاديق التناصر ليس فقط دفع الظلم عن المسلم المظلوم وتقديم المساعدة له ليرفعه وإنّما أيضاً منعه من أن يظلم غيره فقد جاء أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً", فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إن كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنّ ذلك نصره".
من هو الذي يظلم؟
إنّ الجواب على هذا السؤال له علاقة بفهم الإنسان وتكوينه النفسيّ إضافة إلى أبعاده الاجتماعيّة والفرديّة، وبعبارة أخرى إن كان حبّ العدل وبغض الظلم من الفطرة الإنسانيّة فلماذا نرى الظلم يسود المجتمعات الإنسانيّة؟
والجواب يتلخّص بالقول: إنّ الظلم راجع إلى جهة من جهات النقص في الإنسان، فإمّا أن يظلم الإنسان لأنّه جاهل بالعدل والظلم من جهة المصاديق فتلتبس عليه الأمور وتختلط نتيجة
15
الليلة الأولى
التعليم والتربية والصحبة فتنعكس الموازين عنده فيحسب الظلم عدلاً والعدل ظلماً, ويكون مصداقاً لقوله تعالى:﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.
أو لضعفه أمام شهواته وغرائزه وميوله وأهوائه كالعصبيّة وحبّ الجاه والسلطة أو لاستعجاله النتائج وعدم صبره على الأمور, وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء التالي: "وإنّما يعجل من يخاف الفوت وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف".
لا تكن ظالماً:
إنّ نصرة المظلوم وإعانته ومواجهة ظالميه مهمّة ولكن الأولى أن لا نظلم نحن ولا يصدر منّا الظلم وإذا دار الأمر بين أن نظلم أو نُظلم فلنكن من المظلومين لا من الظالمين، وثمّة أمر نشارك به الظالم ظلمه وهو أن نكون من أعوان الظالمين, حيث ورد إنّ النداء يوم القيامة سيكون ليس فقط للظالمين وإنّما لأعوانهم ومن ساعدهم ولو بأدنى درجات المساعدة، ومعونة الظالم إمّا بتكثير الحشد حوله بما يشعره بالقوّة أو بخذلان الحقّ وأهله، وفي كربلاء كان هناك نوعان نوع كثّر الجمع على الحسين عليه السلام وصحبه وأهل بيته وأغرى ابن زياد وابن سعد بالكثرة, وقسم خذل
16
الليلة الأولى
الحسين عليه السلام ولم يلبّ نداءه وجلس على التلّ منتظراً نتيجة المعركة, وربّما ذرف دموعه وأسالها على خدوده جرّاء ما رأى وسمع.
خاتمة: رسالة إلى المظلومين:
إنّ على المظلوم أن يعمل ويتحرّك لرفع الظلم عن نفسه, وعلى الشعوب والأمم المظلومة أن تواجه مضطهديها لرفع اضطهادهم عنها، فكما أنّ المظلوم بالحقّ الشخصيّ لا يؤجر على مظلوميّته إن كان قادراً لرفعها عنه، فكذلك الشعوب والأمم المضطهدة والمقهورة والمظلومة قد لا تؤجر على مظلوميّتها إن كانت قادرة على المواجهة والمقاومة لرفع الظلم وإزالة الجور.
ولذا نرى نوحاً عليه السلام لم يقل في دعائه: إنّي مظلوم فانتصر, بل إنّ النصّ القرآنيّ هو: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾، والمغلوب هو المظلوم الذي سلب وقهره ظالموه وغلبوه على أمره فأصبح غير قادر على رفع الظلم والخروج من سلطان الظالمين.
17
الليلة الأولى
المحاضرة الثانية: أثر الشهادة والشهداء في استنزال المَدَد الغيبيّ
الهدف:
بيان أثر الشهادة في استنزال النصر، وفضل الشهداء في استنزاله.
تصدير الموضوع:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
18
الليلة الأولى
مقدّمة: النّصرُ من عند الله
بمقتضى الإيمان بأنّ الله تعالى هو المؤثّر الوحيد في عالم الوجود، ولا يؤثّر شيء إلّا بإذنه وإرادته، سواء تعلّق ذلك بالماديّات أو المعنويّات، والنصر في ميادين الجهادين الأكبر كما الأصغر لا يتحقّق إلّا بإذنه تعالى وقد قرَّر تعالى هذه القاعدة بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾.
فالنصر حصراً بيد الله تعالى عنده. وهذا لا يعني أنْ لا عِبرة بالأسباب الظاهريّة، بل تعني أنّه تعالى هو مسببُ كلّ سبب وهو مع كلّ سبب سبب.
ولذا أمرنا الله تعالى أن نأخذ بالأسباب المُفضية إلى تحقيق النصر والغلبة من خلال إعداد ما أمكن إعداده من خطط وتدّرب وتجهيز وتهيئة نفسيّة ومعنويّة، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾.
فالتفريطَ بأسباب القوّة إهدار لفرصة النصر والغلبة والفتح، فإنّ كان النصر من عند الله فعلينا أن نُوجِد الأسباب التي تستنزله.
19
الليلة الأولى
بين النصر والهزيمة:
النصر نصران. وكلاهما من عند الله نصر بالأسباب وآخر إلهيّ وهو الذي تحدّث عنه الله بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وكلاهما من عند الله تعالى.
وبالمقابل فإنَّ الهزيمة التي يتعرّض لها المؤمنون أحياناً ستكون مرحليّة جَرياً على السنّة الإلهيّة في التاريخ التي قرّرها تعالى بقوله: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.
تكون الحكمة الإلهيّة اقتَضَتها لالفات المؤمنين إلى أنّه عليهم أن لا يظنّوا أنّ كونهم على الحقّ هو السبب التامّ لغلبتهم، فقد يكون هناك خلل ما وهو خطيرٌ جدّاً، كمخالفة القيادة كما حصل في أُحُد، أو لأجل التمحيص ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾.
أو أنّها استدراج الكافرين إلى الهزيمة النهائيّة ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ أو لإكساب المؤمنين صفاتٍ وأخلاقاً وكمالات، أو إظهارها حيث لا يمكن ظهورها إلّا بالهزيمة المرحليّة ومكابدة آلامها.
20
الليلة الأولى
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾. فنظام الامتحان والتمحيص قد يقتضي أحياناً جريان الأمور على خلاف المأمول.
مواصفات النصر الإلهيّ:
وإذا أردنا أن نميّز بين النصر الإلهيّ وغيره، يمكن ذكر بعض هذه المواصفات:
1- المنصور إلهيّاً لا يُغلب:
وهذا معناه أنّ الذي يكون مُحقِّقاً لأسباب النصر الإلهيّ، يكون منتصراً دائماً في كلّ ميادين الجهاد والقتال وهذا ما أرشدت إليه الآية التالية: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾.
2- النصر الإلهيّ مع التثبيت:
وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
فكم من منتصر في التاريخ حقّق الغلبة العسكريّة، لكن ما لبث أن زال ملكه وسلطانه، حيث لم يتجاوز نصره الجنبة العسكريّة، وقد آلت الأمور إلى عدوِّه الذي غلبه أو غيره.
21
الليلة الأولى
فانهزمت مبادؤه وأخلاقه وثقافته، أمام ثقافة وأخلاق ومبادىء غريمه. ويكفي شاهداً على ذلك ما حصل في كربلاء ونهضة الإمام الحسين عليه السلام حيث كانت الغلبة عسكريّاً للطاغية، وأمّا الذي خُلّدت مبادؤه، وانتصر فكره، وهيمنت أخلاقه وشعاراته، فهو الحسين عليه السلام. فكم من نصر في الظاهر كان هزيمة في الباطن، وكم من نصر آنيٍّ كان مقدّمةٍ لهزيمة ماحقة.
3- المدد الغيبيّ:
وهو أهمّ ما يميّز النصر الإلهيّ، وهو قد يحصل بالأسباب المنظورة كالتوفيق في الوسائل المُفضية إلى إيجاد القوّة والقدرة القتاليّة المُوصلة إلى النصر، أو الظروف النفسيّة والمعنويّة المساعدة على الانتصار لجهة المؤيّدين، والهزيمة لجهة المخذولين، ووضع الخطط والتكتيكات القتاليّة إضافة إلى إنزال الملائكة.
وقد ذكر القرآن الكريم مجموعة منها لأجل الأمن النفسيّ. منها المطر لتثبيت الأقدام في المواجهة، ومنها تقليل أو تكثير العدوّ في أعين المؤمنين، أو العكس. قال تعالى في ذلك:
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾.
﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾.
22
الليلة الأولى
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾.
خاتمة: الشهادة تستنّزل النصر
إنّ أهمّ عنصر وصفة من صفات النّصر الإلهيّ، هو كونه مؤيِّداً من الله بالمدد، والتوفيق الإلهيّين. في قبال النصر الآخر الذي يصحّ لنا تسميته بالنصر المأذون، من الله.
وبالتالي فإنَّ لهذا التأييد والتوفيق والمدد، أموراً تستدعيه، وتكون سبباً لاستنزاله، منها الإيمان، وكون القضيّة التي يقاتل لأجلها مشروعة بحيث يصدق عليها عنوان نصرة الله تعالى، ولتحقيق الشرط فلا بدَّ من خلفية عقائديّة حقّة، وكون الأهداف إلهيّة، والوسائل مشروعة, ولعلّ كلّ ذلك متضمّن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾. وقد كشف أمير المؤمنين عليه السلام عن سرّ الأسرار وركن الأركان في استنزال النصر الإلهيّ حيث جاء عنه عليه السلام في نهج البلاغة: "... فلمّا رأى الله صِدقنا أنزل بعدّونا الكبت، وأنزل علينا النّصر حتّى استقرّ الإسلام مُلقياً جرانه، ومتبوِّئاً أوطانه".
فالصدق الذي يعني بالدرجة الأولى الثبات في ميادين
23
الليلة الأولى
الجهاد، وتحمّل مشاقّه وآلامه وتَبعاته ونتائجه ما يشهد بِصدق الانتماء إلى هذا الدّين، فالاستعداد للتضحية والفداء هو أبرز مظاهر الصدق العقائديّ والعاطفيّ. ولا تجد كبذل النفوس واسترخاص الدماء أمراً يُنبئ عن هذا الصدق.
ولذا كانت الشهادة بهذا المعنى أهمّ مُثبّت للصدقيّة والثبات، وأفضل وسيلة لاستنزال المدد الغيبيّ، والنصر الإلهيّ من جهة الشهداء الذين أَقدموا على الموت راغبين مشتاقين لم تُرهبهم بوارق السيوف، ومن جهة من يبقى بعدهم ويتحمّل ألم فقدهم، ويرى تقطّع أوصالهم ومع ذلك يتّبع خطاهم، ويَقفوا أثرهم، لينالَ مقامهم ومنزلتهم ويلحق بهم.
وقد يكون كلام الإمام عليّ عليه السلام ترجمة لقوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
ثمّ يقول بعدها: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾... والجزاء لهؤلاء الصادقين المقسومين إلى قسمين قسم مات أو قُتل في سبيل الله على الصدق، وقسم حيّ باقٍ على الصدق لم يبدّل جزاؤهم هو: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾.
24
الليلة الأولى
عن عليّ عليه السلام: "فينا نزلت ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ فأنا - والله - المنتظر وما بدّلت تبديلاً، ومنّا رجالٌ قد استُشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء".
ولنا أن نأمل ونستبشر تطبيقاً لأمره تعالى ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾ ونستبشر مع الشهداء القادة السيّد عبّاس والشيخ راغب والحاجّ عماد وكذلك شهداء الدفاع المقدّس (رضوان الله عليهم) الذين يستبشرون لمن خلفهم فيَروْن ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لنا أن نستبشر بنصرٍ حاسم وحتميّ، ولذا كانت شهادة القادة بشرى النصر.
25
الليلة الأولى
المحاضرة الثالثة: النفاق الاجتماعيّ
الهدف:
التنبيه على مرض النفاق الاجتماعيّ، وآثاره والتحذير منه، وضرورة علاجه.
تصدير الموضوع:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "للمنافق ثلاث علامات يخالف لسانه قلبه، وقلبه فعله، وعلانيته سريرته".
26
الليلة الأولى
مقدّمة: معنى النفاق:
النفاق في اللغة مشتقّ من النفق، وهو الطريق النافذ في الأرض والمحفور في الأرض للاستتار أو للهرب. وله مفهومان. خاصّ وعامّ, فأمّا المفهوم الخاصّ: فهو صفة لأولئك الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر, وبشكل أخصّ هم فئة ظهروا في زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفي المدينة المنوّرة بالذّات، وقد تحدّث الله عنهم في كتابه وأشار إلى عظيم خَطَرهم، وأمر بمواجهتهم وقتالهم، فهؤلاء كانوا جماعة في أصلها معادية للإسلام وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكان الواقع السائد قبل الإسلام وقبل الهجرة يلائم مصالحهم، وكانوا في حقيقة أمرهم عندما كان عود الإسلام طريّاً من المعادين والمحاربين تارة بالقوّة المسلّحة، وأخرى بالقوّة الاقتصاديّة، وأخرى بالسخرية والاستهزاء، وربّما بالتضليل الاجتماعيّ، ولكن عندما بدأت تلوح علائم انتصار الإسلام وهيمنته وقوّته، أظهروا الاستسلام ظاهريّاً وتحوّلوا باطنيّاً وسرّياً إلى معارضة سرّية تعمل من داخل مجتمع المسلمين إلى إسقاط الإسلام، ومجتمع المسلمين، وتعمل على ترصّد حركة المسلمين ومدّ الأعداء بها، فالمنافق يظهر شيئاً ويضمر ضدّه، ولذا فالمنافقون أخطر الأعداء، بل هم العدوّ الحقيقيّ كما عبَّر القرآن الكريم ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ وللنفاق مفهوم آخر عامّ
27
الليلة الأولى
يشمل كلّ حالة لها هذه الميّزات، وقد جاء هذا التعميم لمفهوم النفاق على لسان النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث ورد عنه قوله: "من خالفت سريرته علانيته، فهو منافق كائناً من كان".
محاور الموضوع
النفاق الاجتماعيّ:
ومن مصاديق النفاق ما يصحّ أن نسمّيه النفاق الاجتماعيّ فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين".
فالمقصود من النفاق الاجتماعيّ هو النفاق في العلاقات بين أبناء المجتمع، حيث يمكن تقسيمه إلى نوعين:
1ـ النفاق العمليّ: وهو المُعبّر عنه بذي الوجهين، حيث يقابل الآخرين بطلاقة وجه وبشاشة تُظهر سروره بهم، وإذا راحوا عن مجلسه أو مكان لقائه وأَمِنَ منهم، عَبَس واكفهرَّ، وربّما عضَّ على الشفاه أو الأنامل غيظاً وحَنَقاً، عن الإمام الباقر عليه السلام: "بئس العبد همزة لمزة يقبل بوجه ويدبر بآخر".
28
الليلة الأولى
2ـ النفاق القوليّ: وهو المعبّر عنه في الروايات بذي اللسانين وهو الذي يقول في محضر الشخص الكلام الجميل ويطري ويتأهّل به، فإذا صار خلواً منه أطلق لسانه ذئباً يرعى في لحم أخيه، ينهشه غيبة وبهتاناً وربّما شتمه وذمّه، وهتك ستره، ونمَّ عليه ليوغر صدور الآخرين عليه.
وعن ذلك قال الإمام الباقر عليه السلام: "بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً، ويأكله غائباً، إن أُعطي حَسَده، وإن ابتُلي خذله".
وإذا رجعنا إلى واقعنا الحالي نجد كثيراً من مصاديق أهل النفاق الاجتماعيّ الذين يُظهرون المحبّة، ويُبطنون، البغضاء، ويَلبسون ثوب الناصح، ويضمرون الغشّ، والخديعة والخيانة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم:... ورجل استقبلك بودّ صدره فيواري وقلبه ممتلئ غشّاً".
النفاق حالة مرضيّة
من جملة ما وصف به الله تعالى المنافقين قوله عن صفتهم: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾.
29
الليلة الأولى
فهذه الآية اعتبرت أنّ النفاق نوع من المرض، لأنَّ حقيقته هو ازدواجيّة الشخصيّة، فالإنسان السالم له وجهٌ واحد، وفي ذاته انسجام تامّ بين الباطن والظاهر، وبين الروح والجسد، لأنَّ كلاًّ منها يُكمل أحدها الآخر، وأمّا النفاق فهو حالة من التضادّ بين المحتوى الداخليّ، والمظهر والسلوك الخارجيّ، ولذا فهذا المرض الخطير له ظواهر يفرزها من الأعمال، والأقوال، والسلوك الفرديّ والاجتماعيّ.
فمن أعراض هذه الآفة:
1ـ التلوّن والتذبذب، وعدم الثبات، فهو مع كلّ شخص بصورةٍ ولونٍ يناسبه.
2ـ المكر والخِداع، والخيانة، والتملّق.
3ـ التعالي والتكبّر على الناس واستحقار الناس باعتبارهم بُلهاء وسُفهاء.
4ـ الأنانيّة وعبادة الذات، فلا يخطر ببالهم إلّا مصالحهم.
5ـ الاغتياب والنميمة، والحسد والخذلان لأصدقائه، إذ كلّ ما يقدّمه للآخرين لا يتجاوز لسانه إلى جيبه فضلاً عن نفسه.
6ـ الانتهازية وتحيّن الفرص.
عاقبة النفاق الاجتماعيّ
إنّ مرض النفاق بشكل عامّ، والنفاق الاجتماعيّ بشكل
37
30
الليلة الأولى
خاصّ خطير جدّاً بآثاره ونتائجه في الدنيا والآخرة.
فلو تمادَى الإنسان المنافق في غيِّه وضلاله، سوف يصل إلى حدّ فقدانه القدرة على تشخيص واقعه. أمِنَ الصالحين هو أم من الفاسدين المُفسدين، ذلك لانقلاب الموازين عنده وهيمنة المرض عليه، إذ تتراءى للمنافق أعماله الافساديّة أعمالاً إصلاحيّة، وهو على صواب والآخرون على خطأ، والحكمة والحنكة هي فيما يقول ويفعل، والآخرون أهل سفاهة وبلاهة، وبالتالي فهو في عمق مشكلته يلجأ نتيجة إصابته بهذا المرض إلى خداع نفسه، ويعمد ليتخلّص من وخز الضمير وتأنيبه، إلى خِداع نفسه وضميره ووجدانه، وشيئاً فشيئاً بالتدريج يصبح المنافق مقتنعاً بأنّ ما يقوم به ليس انحرافاً ولا عملاً سيّئاً، بل على عكس ذلك من الصفات، وهذا سيؤدّي أخيراً إلى شلّ الضمير وإسكات صوته, وهنا غاية السوء حيث يُصبح النفاق حقيقةً النفس وواقعها وصورتها الباطنيّة.
ومن كان واقعه في الدنيا هكذا كيف ستكون صورته وواقعه في الآخرة؟
أمّا صاحب النفاق العمليّ فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار".
31
الليلة الأولى
وصاحب النفاق القوليّ يقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان ذا لسانين، جعل الله له لسانين من نار".
فالمنافق في الدنيا إذا عرفه الناس يَسقط من أعينهم، ويفقد كرامته، ويطردونه من مجالسهم، وفي الآخرة يحشر مشوّه الخِلقة بلسانين من نار، ويُعذّب مع المنافقين والشياطين.
خاتمة: لا بدَّ من العلاج:
لأنَّ مكائد النفس والشيطان خفيّة، ولأنّ الأمراض تتسللّ إليها خلسة، وفي غفلة منّا، فلربّما يُصبح الإنسان أحياناً كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره "بإشارة من إشاراته، أو بغمز وتعريض يَصدر منه في غير موضعه من ذوي الوجهين، وقد يكون الإنسان مُبتلى بهذه الرذيلة حتّى نهاية عمره وهو يتصوّر نفسه سليمة طاهرة".
ولذا فإنَّ العلاج كما يصفه قدس سره هو:
1ـ علميّاً: التفكّر في مفاسد هذه المُوبقة وآثارها، ونتائجها الدنيويّة والأخرويّة.
2ـ عمليّاً: لا بدَّ من مراقبة الإنسان لحركاته وسكناته، وأن يجعل أعماله وأقواله منسجمة ومتوافقة، ويعمل على المُطابقة بين
32
الليلة الأولى
القلب واللسان والوجه، ويبتعد عن كلّ مظاهر الخداع. وإذا مَالت نفسُه إلى شيءٍ من ذلك، فليُخالف رغباتها ويعمل بعكسها، وعلينا مع كلّ ذلك أن لا ننسى أنّ التوفيق والنجاح دائماً بيد الله تعالى ولذا فلا بدَّ من الطلب من الله عبر الدعاء أن يوفّقنا في معالجة أنفسنا، موقنين بأنّه تعالى برحمته اللامتناهيّة يمدُّ لنا يدَ العون لإنقاذنا ومعاونتنا في خطواتنا العلاجيّة.
40
33
الليلة الثانية
المحاضرة الأولى: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر
الهدف:
بيان أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والحثّ عليهما, وآثارهما في الدنيا والآخرة.
تصدير الموضوع:
قال الإمام الحسين عليه السلام: "وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
35
الليلة الثانية
مقدّمة:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجال وجلال وجمال.
من الواجبات التي كثيراً ما يهملها النّاس وينسون وجوبها عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذا سمّاها البعض بالفريضة المنسيّة، مع أنّ وجودها كما يعبّر عنه في الرسائل العمليّة من ضرورات الدّين وقد جاء الأمر الإلهيّ بها في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
بل إنّ الله تعالى قال: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
فالآية تلفت إلى أنّ كون الأمّة الإسلاميّة خير الأمم موقوف على جملة أمور منها تعهّدها الدائم لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حركة تطهير دائمة وتطوير دائمة، تعمل على حماية الأمّة ودينها وقيمها ومبادئها وعقائدها وشريعتها وتصون مقدّساتها وحرماتها، وتحفظ مقدّراتها وثرواتها وتبني عزّتها ومنعتها، إذ أنّ المعروف هو كلّ أمر ندب إليه الشرع وأمر به ورغّب به وكذلك كلّ أمر حسن بحسب
36
الليلة الثانية
العقل والشرع، والمنكر هو كلّ أمر تنكره النفوس وينهى عنه الشرع والعقل وتأباه النفوس السويّة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له جهتان: الأولى: لها علاقة ببناء وصيانة مناعة الأمّة وأبنائها بوجه الأمراض والآفات النفسيّة والخلقيّة والعقائديّة والسلوكيّة وغيرها فهو مقوٍّ لجهاز المناعة للأمّة وأبنائها.
وكذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علاقة بصورة المسلمين ومجتمعهم من حيث الجمال والبهاء والهيبة، فكما يبني المناعة ويرحمها كذلك يجمّل مظهر الأمّة بما يجعلها مهابة عزيزة. تجتذب بصورتها البهيّة الآمرين إليها.
ولعلّه لذلك كانت خيرتها للنّاس عامّة وليس لها فقط إذ قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
37
الليلة الثانية
محاور الموضوع
آثار وبركات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من هذه الآثار:
1- سلامة الدنيا والآخرة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من كانت فيه ثلاث سلمت له الدنيا والآخرة، يأمر بالمعروف ويأتمر به وينهى عن المنكر وينتهي عنه ويحافظ على حدود الله عزَّ وجلَّ".
2- قوام الشريعة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وذلك لأنّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدعو إلى الصلاة، والعبادات جميعاً، وإلى الجهاد، وصلة الأرحام وبرّ الوالدين، ووحدة الصفّ وإصلاح ذات البين وغير ذلك, فإنّك لا تجد فريضة إلّا وهي محتاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولذا فقد جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء, ومنهاج الصلحاء, فريضة عظيمة بها تقام الفرائض, وتأمن المذاهب, وتردّ المظالم, وتعمر الأرض, وينتصف من الظالم, ويستقيم الأمر".
3- الأجر العظيم: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحرٍ لجّي".
38
الليلة الثانية
4- الجنّة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ للجنّة باباً يقال له: باب المعروف فلا يدخله إلّا أهل المعروف, وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة".
آثار ترك الأمر والنهي:
1- تسلّط الأشرار: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم".
2- بغض الله: عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزَّ وجلَّ ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له, فقيل له: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر".
3- العذاب الإلهيّ: عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليعمّكم عذاب الله".
4- نزع البركات: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ والتقوى فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات, وسلّط بعضهم على
39
الليلة الثانية
بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء".
وهناك آثار أخرى لها علاقة بانقلاب النعيم وفقد الأمن واختلال نظام المعيشة وانتشار الفساد وشيوع الرذيلة وغيرها.
بماذا نأمر وعمّا ننهى في هذا الزمن:
علينا أن نلتفت إلى كلّ واجب تركه النّاس فنأمرهم به, وكلّ منكر أتاه النّاس فننهاهم عنه, لكن علينا أن نقدّر الأولويّات في ذلك وأن نعتمد الأساليب المفيدة والمؤثّرة، فمن الأولويّات التي لا تتغيّر مهما تغيّر الزمن مسألة حثّ تاركي الصلاة على الصلاة, وتاركي ارتياد المساجد على ارتيادها، ومن المسائل الحسّاسة في هذا الزمن وفي كلّ زمن مسألة العفّة والحجاب خصوصاً مع ما نرى من لباس عند بعض من يدّعين أنّهن محجّبات لكن في الواقع هذا الذي نراه هو سفور في هيئة حجاب, خصوصاً ما نراه من ملازمة ذلك للزينة من جهة وللتهتّك من جهة أخرى، ومن الأمور الحسّاسة والتي لها الأولويّة في هذا الزمن مسألة التعاطي بالربا، ومسألة عقوق الوالدين، وقطع الرحم وغيرها, لكن علينا أن نلتفت إلى أن نعتمد في ذلك الأساليب المشروعة والمؤثّرة ونعتمد التدريج, فلا يجوز لنا أن نقسو بالكلام ونوبّخ من نحتمل أن يتأثّر باللين والموعظة الحسنة. وعلينا أن نتعاطى في الأمر والنهي
40
الليلة الثانية
بروحيّة الطبيب المحبّ الرحوم الذي لا غرض له إلّا شفاء مريضه, ومن جهة أخرى علينا أن نحصّن أنفسنا بأن لا نرى أنفسنا درجة على غيرنا وننظر إلى المبتلين بالمعاصي نظرة احتقار, ولا نرى أنّنا في مناعة من الوقوع بالمعصية بل علينا أن ندعو الله أن يرأف بنا ولا يبتلينا بالمعاصي.
خاتمة: نفس المعصوم قربان لإقامة الفريضة:
عندما نسمع قول الإمام الحسين عليه السلام: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
علينا أن نتأمّل عبارته هذه لنستفيد مجموعة أمور:
أوّلاً: القيمة والأهميّة العظمى التي تحوزها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الدرجة التي يقدّم معها الإمام الحسين عليه السلام بالخروج ثائراً بنفسه وخاصّة أهله وأصحابه إلى ساحات الجهاد والشهادة وإلى معاناة الأسر والسبي لأجل القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: إنّ الأمر بالمعروف وسيلة إصلاح الفساد في الأمّة حتّى لو كان رؤوسه أمثال يزيد وابن زياد وابن سعد وغيرهم.
41
الليلة الثانية
ثالثاً: إنّ شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره وأهل بيته معاناة أهل بيته للأسر والسبي ومكابدة آلامهما هي بنفسها أسلوب من أساليب الأمر والنهي التي لم يجد الإمام الحسين عليه السلام لها بدّاً لتغيير الواقع الفاسد وإنقاذ الأمّة من غفلتها وسباتها.
وأخيراً علينا أن نأخذ من ذلك درساً بليغاً وهو أن نسترخص كلّ تضحية وكلّ عناء وكلّ جهد نبذله في سبيل القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأسيّاً بتضحيات الإمام الحسين عليه السلام وصحبه وآل بيته عليهم السلام.
50
42
الليلة الثانية
المحاضرة الثانية: الشائعة قاتلة الأمم
الهدف:
بيان خطورة الشائعات وكيفيّة التعاطي معها والتحذير من الانسياق لها.
تصدير الموضوع:
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
43
الليلة الثانية
مقدّمة:
الشائعة قاتلة مسلم بن عقيل
من أهمّ الوسائل والأسلحة التي استخدمها ويستخدمها شياطين الجنّ والإنس في حربهم على الحقّ وأهله الإشاعة والتي تعني إذاعة خبر ما والعمل على انتشاره وغالباً ما يكون كاذباً ومدسوساً للنيل من المعنويّات وتثبيط العزائم وإدخال الشكوك إلى النفوس أحياناً بالقدرة على النجاح والانتصار, وأحياناً بالقيم والمبادئ التي يحملها الأفراد والمجتمعات.
وفي حوادث النهضة الحسينيّة نرى هذا اللون من الأسلحة الخبيثة التي استخدمها الظلمة وأعوانهم وأبرز ذلك ما حدث مع سفير الحسين عليه السلام إلى الكوفة وأهلها مسلم بن عقيل حيث إنّ شائعات منها قدوم جيش من الشام إلى الكوفة أدّت إلى أن ينفضّ النّاس من حول مسلم رضوان الله عليه ويتركوه وحيداً في مواجهة ابن زياد وجلاوزته.
محاور الموضوع
1- أنواع الشائعات:
إذا راقبنا واقعنا الذي نعيشه ونظرنا إلى التجارب التي عاشتها الإنسانيّة وخصوصاً أصحاب المبادئ المحقّة والأهداف النبيلة والقادة الربّانيّون نجد أنّ الشائعات لم تترك مجالاً إلّا مسّته وذلك تبعاً لأغراض وأهداف الطواغيت والظالمين ومن هم على شاكلتهم.
52
44
الليلة الثانية
ويمكن أن نجد من أنواعها:
أ- الإشاعة الأخلاقيّة:
ومنها ما في التاريخ من قصّة النبيّ يوسف عليه السلام وما حاول قارون أن ينسبه إلى النبيّ موسى عليه السلام والهدف إدخال الشكّ في شخصيّة القائد الإلهيّ لإسقاط مشروعه بإسقاطه أخلاقيّاً.
ومنها ما لا يتعلّق بالقائد مباشرة وإنّما بمن هو لصيق به ليصلوا إلى شخص القائد بمسألة النيل من عرض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة الإفك.
وأحياناً تكون الشائعة مصوّبة سهامها إلى أبناء الأمّة لغرض ضرب صورته وتلويثها, وأيضاً لأجل نشر الفساد فيه بنشر حصول موبقة ما إمّا افتراءاً وإمّا صدقاً, وإنّما يعمل على نشرها لتلوّثها الألسن وتطرق بها الآذان.
كما في مسألة قذف المحصنات حيث نهى تعالى عن نشرها فقال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
ب- الإشاعة الأمنيّة:
والتي تستخدم عادة لإرباك حياة النّاس وإرعابهم, وأحياناً يكون الهدف منها هو ضرب الروح المعنويّة للجنود وللمجاهدين
45
الليلة الثانية
وإيجاد حالة التردّد والضعف والوهن في ساحات المواجهة والقتال. والتي من صورها المبالغة في تصوير قوّة العدوّ وأسلحته وعدده وعديده وعتاده بالمقابل تشويه صورة الفئة المجاهدة والمقاومة.
وبعضها يهدف إلى النيل من معنويّات المجتمع الذي ينتمي إليه هؤلاء المجاهدون ليدخل إليه الخوف ويتسرّب عبره إلى المجاهدين وعلى الأقلّ إن لم يؤدِّ ذلك إلى إعراض المجاهدين عن القتال والجهاد فليقاتلوا ولكن بأيدٍ مرتجفة ونفوس متردّدة وهذا ما كان يفعله المنافقون والذين في قلوبهم مرض في المدينة زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾.
وكذلك قوله تعالى: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾.
هـ- الإشاعة السياسيّة:
والتي يستخدمها البعض في المنافسات الانتخابيّة من فضائح تنال منافسيهم أو ما ينشره بعض الأعداء عن مساومات يجريها القادة الجهاديّون مع الأعداء كما فعل معاوية في مكّة عندما
46
الليلة الثانية
طلب من الحسين عليه السلام وعبد بن العبّاس وغيرهما البيعة ليزيد فأبوا ذلك ولكنّه أشاع بين النّاس قبولهم, فسألهم النّاس عن ذلك فقالوا: إنّا لم نبايع, فقال لهم النّاس: لا بل بايعتم.
ح- أنواع أخرى من الشائعات:
منها الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة التي تهدف إلى سلوك استهلاكيّ ما أو غير ذلك.
2- خطورة وأثار الشائعات:
يكفي في تلمّس أخطار الشائعات والانقياد لها أنّها في التاريخ كانت سلاحاً لضرب الحركات الثوريّة وسمّاً أدخله الظلمة وأعوانهم في جسد البشريّة ليفتك بآمالها ويصنع آلامها ويسمّم أخلاقها ويفشلها ولا أقلّ يبطّئ حركتها نحو التحرّر والرقيّ.
ومن نتائج الشائعات:
1- سقوط الأفراد وانسحابهم من ميادين العمل والمواجهة.
2- سقوط المجتمعات وهزيمة الأمم.
3- إسقاط الروح المعنويّة وانتشار الانهزام النفسيّ ونشر الخوف والرعب, كأنّ الشائعات جيش يجتاح النفوس ممهّداً لاجتياح الجيوش للأوطان والأنفس والأموال والأعراض.
4- فقدان الأمن النفسيّ والاجتماعيّ فضلاً عن الأمن
55
47
الليلة الثانية
السياسيّ والاقتصاديّ وكلّ أنواع الأمن وإشاعة البلبلة والاضطراب بكلّ ألوانه ونواحيه.
5- على الصعيد الأخلاقيّ انتشار سوء الظنّ وتسهيل ارتكاب المعاصي ممّا يؤدّي إلى صيرورتها من قيم المجتمع بعد كونها من الموبقات والفواحش.
3- كيف نعالج الشائعة:
لقد وصف الله في كتابه الكريم جملة من المعالجات للإشاعات بكافّة أنواعها ومن هذه العلاجات:
أ- التروّي في نقل الأخبار:
قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا...﴾.
فعلى المؤمن قبل نقل الأخبار أن يتروّى ليعرف أوّلاً مقدار صدقها, وثانياً على فرض صدقها ما هي أثار إذاعة هكذا أخبار، وبصراحة إنّ المذيع للأخبار حتّى لو كانت صادقة ذات الآثار السيّئة هو من حيث يشعر أو يشعر جنديّ إمّا عند إبليس كما في الشائعات الأخلاقيّة, أو عند الأعداء ولننتبه في زماننا هذا إلى ما حدث ويحدث من ذلك في وسائل الاتصال الذكيّة وعلى ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعيّ.
48
الليلة الثانية
ب- التثبّت من الخبر والمخبر:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
فالآية تأمرنا بأمرين الأوّل التأكّد من موثوقيّة الخبر والمخبر, والثانية الالتفات إلى آثاره.
هـ- تحكيم حسن الظنّ واجتناب السيّء منه:
وأبرز ما يكون ذلك في الموارد الأخلاقيّة وقد قال تعالى عن اجتناب الظنّ السيّء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾.
وفي تحكيم حسن الظنّ في مجتمع المؤمنين ما جاء في قصّة الإفك وهو قوله تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾.
ح- الرجوع إلى المعنيّين وأهل الاختصاص:
وهذا يجري خصوصاً في الموارد الأمنيّة حيث إنّ الأخبار قد تنطوي على مخطّطات للأعداء لا بدّ من إيصالها إلى المعنيّين لأنّهم أقدر على فهم أبعادها وتحليلها وقد قال تعالى عن ذلك:
49
الليلة الثانية
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
خاتمة:
أيّها المؤمنون إنّ من أهمّ أسباب فشل الكثير من خطط الصالحين وحركات الثائرين هو الشائعات، وفي كربلاء فعلت الشائعات فعلها بالمجتمع الكوفيّ فخذّلت النّاس عن نصرة ابن بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل هي التي كثّرت الجمع الآتي من الكوفة لقتاله، فعلينا أن نتّقي الله ونستفيد من دروس عاشوراء ولا نجعل في ألسنتنا وأصابعنا التي تلعب على الهواتف الذكيّة جنوداً في جيوش أهل الضلالة والطواغيت, وإلّا فإنّ من لا يتقي الله في المجاهدين وأسرارهم وفي مجتمع المؤمنين وعفّته وسمعته وطهارته لا شكّ أنّه قد يأتي يوم القيامة ليحشر في صفّ أعداء الله والدّين وأعداء الحسين عليه السلام. فحذار ثمّ حذار.
50
الليلة الثانية
المحاضرة الثالثة: في زمن الثرثرة
الهدف:
بيان خطر الكلام الزائد عن الحاجة، وحسنات تركه، والتحذير من الثرثرة على الهواتف المحمولة والإنترنت.
تصدير الموضوع:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
51
الليلة الثانية
مقدّمة:
الكلمة مسؤوليّة
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
في هذه الآية أمَرَنا الله تعالى بالقول السديد، ولكن مهدَّ لهذا الأمر بأمر آخر هو الأمر بتقوى الله، وهذا ملفت إلى علاقة القول والكلام بشكل عامّ بالتقوى، والكلام مرتبط بالقول كما هو مرتبط بأمور أخرى قلبيّة وقالبيّة، وثمّة أمر آخر يُرشد إليه تقديم الأمر بالتقوى، وهو إشارة إلى أنّ التقوى بما هي شعور قلبيّ بحضور الله ورقابته مطلوب استحضارها قبل القول.
فالآية تنبّه الإنسان إلى الاحتماء والاحتراز من تَبِعات الكلام، وهذا يعني أنّ هناك مسؤوليّة تُرتّب على كلام الإنسان، وعليه الانتباه إلى أهمّيّة ما يقول.
فكما أنّ تسديد السهم هو توجيهه باتجاه الهدف ليصيبه ولا ينحرف عنه، كذلك فإنّ القول السديد هو القول الصادق الهادف الذي يطلقه الإنسان مستحضراً الرقابة الإلهيّة، ومتوسّلاً بالتقوى لإصابة الخير والصلاح.
فإنّه محاسب على خطئه، وانحراف كلامه عن الخير والهدى.
وقد قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
فالكلام من العمل، ولو لم يكن من العمل لما صحّ أن يكون محلّ رقابة الله عبر الملائكة. فمنها ما عن أمير المؤمنين عليّ بن
52
الليلة الثانية
أبي طالب عليه السلام أنّه مرّ برجل يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه، ثمّ قال: "إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك".
محاور الموضوع
ما يجب مراعاته عند الكلام:
بعدما تقدّم، يتضح أنّ على المتكلّم أن يفهم دور الكلمة ومؤثّريّتها، ويتدبّر كلامه قبل إطلاقه، فقد جاء عن أمير المؤمنين قوله عليه السلام: "للإنسان فضيلتان، عقلٌ ومنطق، فبالعقل يَستفيد، وبالمنطق يُفيد".
وقد اختصر الإمام عليّ عليه السلام الشروط الرئيسيّة بقوله عليه السلام: "العاقل لا يتكلّم إلّا بحاجته أو حجّته".
ويمكن أن نقول إنّ المطلوب أن نراعي في أقوالنا كما في أعمالنا أمرين:
1ـ أن نستحضر دائماً أنّ كلامنا هو من أعمالنا، ونلتفت إلى أنّنا مسؤولون عن كلّ قِوانا بما في ذلك ألسنتنا.
53
الليلة الثانية
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾.
2ـ أن نكون هادفين في أقوالنا كما في أعمالنا، وهذا مقتضى أمر الله تعالى بالقول السديد ﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ولا بدَّ مع هذا مراعاة الحكمة من حيث الزمان والمكان والأسلوب.
فضول الكلام وآفاته:
الفضول من كلّ شيء هو الزائد عن محلّ الحاجة، سواءً أكان طعاماً أو شراباً أو مسكناً أو مالاً أو كان كلاماً.
وقد جاءت الروايات لتذمَّ هذا النوع من الكلام، ففي وصيّةٍ أوصاها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ قال له: "... يا أبا ذر أترك فضول الكلام، وحسبك من الكلام ما تَبلغ به حاجتك".
فكلّ كلام بما لا يعني الإنسان هو من فضول الكلام. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام "عجبتُ لمن يتكلّم بما لا ينفعه في دنياه، ولا يُكتب له أجره في أخراه".
وقد عَدّدت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام الآثار المترتّبة على فضول القول منها:
54
الليلة الثانية
1ـ كثرة الذنوب: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر الناس ذنوباً، أكثرهم كلاماً فيما لا يعنيه" وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك والهذر، فمن كَثُرَ كلامُه كثرت آثامه".
2ـ التأثير في القلب: فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الهَذر يأتي على المُهجة" فالكلام مؤثّر، وأثره يبلغ القلب. قلب المتكلّم قبل قلب السامع. وقد أوضح أمير المؤمنين ذلك بقوله عليه السلام: "من كَثُرَ كلامه كثر خطاؤه، ومن كثر خطاؤه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبُه، ومن مات قلبُه دَخَلَ النّار".
3ـ إظهار العيوب وتحريك العداوات: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وفضول الكلام، فإنَّه يُظهر من عيوبك ما بطن، ويُحرّك عليك من أعدائك ما سكن".
4ـ يورث الملل والضجر: عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وكثرة الكلام فإنّه يكثر الزلل، ويُورث المَلل".
وعنه عليه السلام: "الإكثار إضجار".
55
الليلة الثانية
5ـ يورث الملامة: عنه عليه السلام "الإكثار يُزلّ الحكيم، ويُملُّ الحليم، فلا تُكثر فتضجر، وتُفرط فَتُهَن".
آثار وميزات ترك فضول الكلام:
لمّا كانت الآفات المرافقة لفضول الكلام كثيرة، ويكاد الإنسان يعثر بإحداها كلّما بسط لسانه للقول، جاء الأمر بحفظ اللسان كما في وصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر, ما عَمل من لم يحفظ لسانه".
وقد جاءت الروايات لترشد إلى الحكمة والقصد في القول، حيث جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "الكلام كالدواء، قليله ينفع، وكثيره قاتل" ولِتَركِ الزائد والفاضل من الكلام آثار وحسنات ليس أقلّها السلامة من آفاته ومن هذه الآثار:
1ـ ستر العيوب: عنه عليه السلام: "قلّة الكلام يستر العيوب" بل يعين على الخلاص من العيوب فعنه عليه السلام: "من قلَّ كلامه بطل عيبه".
56
الليلة الثانية
2ـ الأمن من الملامة: وعنه عليه السلام: "أَقلل الكلام، تَأمن الملام".
3ـ نور القلب وصواب الفكر: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إن أحببت سلامة نفسك وستر معايبك فأَقلل كلامك، وأكثرْ صمتك، يتوفّر فكرك، ويستنر قلبك".
خاتمة:
زمن الثرثرة: بعدما تقدم لنعد إلى واقعنا في هذا الزمن الذي نعيشه، لنجد أنّ النّاس وخصوصاً الجيل الشابّ منهم، مُبتلى ببليّة خطرة جدّاً، وهي هذه الثورة في عالم الاتصالات، حيث لدينا اليوم إضافة إلى أجهزة الإعلام، الهواتف الخلوية والانترنت وغير ذلك... ومن المهمّ علينا أن نفهم أنّ الكتابة على الانترنت والمحادثة الخطيّة هي كلام كالقول اللسانيّ وعلى جيلنا الشابّ أن ينتبه إلى أن ما قلناه حول آفات فضول الكلام تنطبق على الهواتف النقّالة وعلى الكمبيوتر وعلى صفحات الانترنت وغيرها.
وعليهم أن يتّقوا الله في ذلك كلّه، وينتبهوا إلى ما يقولون وما يكتبون وما يسمعون وما يشاهدون وما يقرؤون.
57
الليلة الثانية
وإلّا فإنّ الكلمة التي يقولها الإنسان في الهواء المباح سيتحمّل وزرها بالغاً ما بلغ ولنتأمّل معاً هذه الحكمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغتِ يَكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يَكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه".
58
الليلة الثالثة
المحاضرة الأولى: أسرار اصطحاب النساء والأطفال
الهدف:
بيان علّة اصطحاب الإمام الحسين للنساء والأطفال وصولاً إلى عدم استعظام التضحيات في سبيل الحقّ.
تصدير الموضوع:
قال الإمام الحسين عليه السلام: "... إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا...".
60
الليلة الثالثة
مقدّمة: السبي كالقتل محتومان
إنّ جواب الإمام الحسين عليه السلام لمن سأله عن أسباب اصطحابه للأطفال والنساء إلى كربلاء خصوصاً بعدما قدم أنّه سوف يستشهد قائلاً: "شاء الله أن يراني قتيلاً".
بجواب على نفس النسق ناسباً الأمر إلى المشيئة الإلهيّة بالقول: "شاء الله أن يراهنّ سبايا".
تعني أنّه عليه السلام إنّما أقدم على ذلك وهو يعلم المصير علماً يقينياً، وهذا العلم من الغيب الذي أطلع الله عليه الإمام الحسين بطرق ليس منها فقط إخبارات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أدلّ ما يستفاد من ذلك البيان الحسينيّ أنّ مسألة السبي كمسألة شهادته الموعودة قبل ولادته الميمونة أمر محتوم في علم الله ومشيئته وقضائه. وهذه العبارة فيما تعنيه أنّه عليه السلام وأهل بيته مسلّمون لأمر الله منقادون لمشيئته عرفوا العلّة أم لم يعرفوها. إذ يكفي للثقة بحسنها وجمالها والحكمة فيها أن تكون محلّ مشيئة الله وإرادته. وهذا من أرقى ألوان التعبّد لله تعالى لأنّه لون من ألوان إفناء إرادة العبد في إرادة الله النابع من الثقة اللامتناهيّة به تعالى ومن علوّ حسن الظنّ بربوبيّته وتدبيره.
61
الليلة الثالثة
محاور الموضوع:
ولكن يمكن لنا أن نورد بعض ما نحتمل أنّه من الأسرار وهي:
1- من أسرار اصطحاب النساء والأطفال:
أ- سرّ من الأسرار:
إنّ إسناد قرار أخذ النساء والأطفال إلى ساحة المعركة بتعليلها بالنتيجة وهي السبي يعني فيما يعني أنّها تدبير إلهيّ ليس فقط للحسين عليه السلام ولأهل بيته بل للدّين وللأمّة الإسلاميّة، وقد يكون ذلك أيضاً لأنّه لا حاجة لبيان هذه الأسرار لأنّها سوف تظهر جليّة, أو لأنّ بركات هذا الأمر أكبر من يتّسع لها المقام وأكثر من تحصى أو أعظم أن يحويها بيان ووصف.
ب- لحفظ الأطفال والنساء:
وذلك أنّ بني أميّة وجلاوزتهم لم يكونوا ليراعوا حرمة لأحد حتّى لو كان هذا الأحد هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي فإنّ بقاء العيال والأطفال لا يقلّ خطراً عليهم من أخذهم إلى كربلاء, بل إنّ بقاءهم قد يحولّهم إلى رهائن يضغط هؤلاء من خلالهم على الحسين عليه السلام وصحبه, وبالتالي فوجودهم في المدينة أو غيرها لا يجعلهم في مأمن من بطش بني أميّة وجلاوزتهم الذي لا دين ولا خلف لهم يمنعهم من اقتراف أبشع ما يمكن ارتكابه
71
62
الليلة الثالثة
واقترافه، لذا فإنّ من مقتضيات الحفاظ على الأطفال والنساء أن يتحمّل الحسين عليه السلام هذه المسؤوليّة طالما بقي حيّاً فإن استشهد كان لله ما بعد الشهادة المشيئة فلا يكون عليه السلام قد قصّر عن القيام بوظيفته, ولم يترك ما من شأنه رعايته وحفظه ليستفرد بهم الظلمة والمجرمون وحتّى لا يكونوا وسيلة ضغط وابتزاز بيد عدوّهم.
ونحن نرى من هم على نهج الأمويّين في هذا العصر كيف يفعلون بالأطفال والنساء والعجّز في العراق وسوريا.
ج- دليل على الجدّيّة والصدقيّة في الثورة:
لا شكّ إنّ أخذ الإمام الحسين عليه السلام لعياله وأطفاله له جهة شبه في ظروف آية المباهلة حيث أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يباهل نصارى نجران بنفسه وخاصّة أهل بيته معرّضاً لهم اللعن والإبادة فيما لو لم يكن صادقاً فيما ادّعاه فتعريض خاصّة الأهل للأخطار في قضيّة لها بعدها التوحيديّ كالمباهلة دلّ عند كبير نصارى نجران على صدق دعوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فكذلك أخذ الحسين عليه السلام نساءه وأطفاله إلى ساحات القتال وتعريضهم لأهوالها ومخاطرها وما يعقبها دليل من جهة على صدقه وجدّيّته وحزمه في الثورة والنهضة، ومن جهة أخرى هو إشارة إلى مستوى الخطر الذي يشكّله الحكم اليزيديّ بحيث يقدم
72
63
الليلة الثالثة
شخص غيور عطوف كالحسين عليه السلام باصطحاب نسائه وأطفاله إلى ساحات النزال، ومن جهة ثالثة ليضرب الحسين عليه السلام وأهل بيته النموذج الأرقى في التضحية والفداء لهذا الدّين وتلك المبادئ، بحيث لا يستعظم أبناء الأمّة فيما بعد وعلى طول التاريخ أيّ تضحية يقدّمونها في طريق إحقاق الحقّ ورفع الظلم.
د- الاصطحاب تدبير إلهيّ:
ومعنى ذلك أنّ ثمّة أموراً يمكن إيرادها لكونها نتائج لوجود الأطفال والنساء وسبيهم قد لا يصح كونها هدفاً للحسين عليه السلام وإنّما يجوز أن تكون متعلّقاً للمشيئة الإلهيّة ومن الحسين عليه السلام والآل يكون التسليم والرضا ومنها:
1- تكريس ريادة بيت النبوّة:
فحضور العيال تدبير قد يكون الله أراده لتبقى الأضواء متسلّطة على بيت النبوّة بل قل لإبقائهم قبلة أنظار وأفئدة النّاس ومنع طمس هذا البيت وإطفاء نوره على عكس ما أراده يزيد ومن قبله ومن بعده، وذلك من إظهار مستوى تفاني أهل البيت النبويّ في دين الله حيث لا يستعظمون تضحية حتّى لو مست أغلى بل أشرف ما يعتبره النّاس شريفاً وغالياً بل حتّى مقدّساً، فهذا التدبير كان ليفشل مسعى الطاغية بهدم بنيان هذا البيت ومحو معالمه وإخماد أنواره ولذا جاء الجواب الزينبيّ: "لا تمحو
73
64
الليلة الثالثة
ذكرنا ولا تميت وحينا". ومن جهة لتبقى أفئدة النّاس تهوى إليهم بل لتعزيز مكانتهم وإثبات ريادتهم وإمامة الأئمّة منهم.
2- إعطاء الحدث العاشورائيّ شحنة عاطفيّة:
إنّ للشهادة الحسينيّة جاذبيّة عظمى لعلّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عناها بقوله: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً". ومن مكامن قوّة جاذبيّتها ذاك البعد العاطفيّ والشعوريّ ولا شكّ أنّ وجود الأطفال والنساء هو أحد أركان تلك الشحنة العاطفيّة.
3- الإنذار الإلهيّ:
لا شكّ أنّ وجود النساء والأطفال مع ما سيتعرّضون له من الطاغية وأعوانه سواء في الطفّ أو في رحلة السبي له جهة الكشف عن مستوى بشاعة ووحشيّة هؤلاء. إلّا أنّ ثمّة أمراً قلّ ما يلحظ عند قراءة الحدث العاشورائيّ وهو أنّ فيه بياناً لسنّة إلهيّة اجتماعيّة وسياسيّة وهي أنّ التقاعس عن النهوض في وجه الظالم وخذلان الحقّ وأهله لا يجعل المتقاعسين والمتخاذلين والقاعدين في منأى من بطش وظلم الطغاة، بل إنّ ذلك سيغري الظالم بالإغراق أكثر في وحشيّته والاسراف أكثر في ظلمه وتجبّره، بل حتماً ستأخذه نشوة الانتصار بأن يرخى لوحشيّته
65
الليلة الثالثة
العنان مفترساً النّاس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ولن يجد عائقاً دون بلوغه المدى الأقصى في ذلك.
خاتمة: الحسين عليه السلام الأسوة:
إنّ حمل الإمام الحسين عليه السلام أطفاله وعياله إلى كربلاء درس لنا لنتأسّى به ونسير على خطاه ونقتفي أثره، فإن كان الخوف على البيوت والأموال يثقل خطانا إلى ساحات الجهاد فإنّ الحسين عليه السلام ترك كلّ ذلك وذهب إلى مصرعه، وإن كان لنا نساء وأخوات وأطفال نخشى أن يتعرّضوا للأخطار إذا ما قمنا بمواجهة الظالمين، فإنّ الحسين عليه السلام اصطحب خير النساء وخير الشبّان وخير الآل ليواجهوا معه وحوشاً مغرقة بوحشيّتها إلى درجة أن سماها الحسين عليه السلام: عسلان الفلوات.
فلنتخذ الحسين عليه السلام قدوة ولنجعل كلّ ما يصيبنا كما جعل الحسين عليه السلام ذلك كلّه في عين الله... ليهون علينا كما هان عليه ما نزل به.
75
66
الليلة الثالثة
المحاضرة الثانية: الإعراض عن ذكر الله
الهدف:
بيان خطورة الإعراض عن ذكر الله تعالى, والحثّ على بناء علاقة جيّدة مع الله وأوليائه وكتابه.
تصدير الموضوع:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾.
67
الليلة الثالثة
مقدّمة: آيات الله ونعمه لا تحصى
إنّ آيات الله وتجلّياتها في هذا الوجود لا تنفكّ ولا تنقطع برهة من الزمن, فأين صرفت بصيرتك وبصرك, وأعملت عقلك وقلبك وجدت آيات الله, كأنّ الله يخاطبك, في عقلك وإحساسك وعواطفك ومشاعرك, إنّي هنا وهناك وهنالك ومعك وفيك...
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾.
فالله يتجلّى لنا ويتراءى لبصائرنا ولكن نحن من يعرض, يتراءى ويتجلّى ليذكّرنا به, بأسمائه, بأفعاله, بصفاته, بآلائه... ولكن نحن من يغرق في ظلمات بعضها فوق بعض من الغفلة والجهل والشهوات, والميول والرغبات, أضف إلى ما يغشى أعين قلوبنا من غشاوة الأنا وحبّ الذّات, وما يستعمرها من القسوة والأمراض, لتغدو مقارّ لعدوّ الله وطريده الرجيم.
وإذا راجعنا مسلسل حياتنا لوجدناه مليئاً بالألطاف الإلهيّة والعنايات الربّانيّة, فتارة تتلقّانا يد الرحمة قبل السقوط في وديان المعصية,وأخرى تحجز عنّا البلاءات والمصائب, وثالثة تخوّلنا نعمة نذوق حلاوتها, ورابعة تدفع عدواً جبّاراً, وأخرى مرضاً قاتلاً... وحقيق أن نقول مع القران الكريم: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾.
68
الليلة الثالثة
نعم إنّ النعم الإلهيّة لا قدرة لنا على أن نحصيها, ومع ذلك فإنّ الكثير منّا لا يرون الآيات والنعم, ولا يشعرون بها, ولا يتفاعلون معها, وغالباً لا يستفيدون منها, وأولى أن لا يشكروا الله عليها حينها, فكيف يشكر على النعمة من لا يراها نعمة؟!, بل من لا يراها أبداً, وأنّى له حينها أن يغتنمها ويستفيد منها؟
محاور الموضوع
معنى الإعراض عن ذكر الله ومصاديقه:
معنى الإعراض عن ذكر الله هو إشاحة الوجه عنها, أو إغفالها وإهمالها, وبالمعنى القرآني نسيانها, فمن مصاديق ذكر الله الالتفات إلى ألطافه ونعمه, ومن هذه الألطاف والنعم, الرزق من مال وذرّيّة وأمن وغيره... ومنها المعنويّة كالهداية والإيمان, ومنها وسائل الهداية من الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة, ومنها وهو أجلاها عدم الإقدام على عصيان الله وعدم احترامه, حيث إنّ العالم محضر الله, ومع ذلك نعصيه وهو يشهد علينا, ومنها الذكر اللسانيّ وهو التسبيح والتحميد والتهليل وغير ذلك.
ومن ذكر الله القرآن الكريم, فإنّ عدم العناية به وإهمال قراءته وعدم التدبّر فيها هو إعراض عنه ونسيان له, ومنها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام فهو الذكر, وهو المذكر بالله وأهله هم أهل
79
69
الليلة الثالثة
الذكر, وكذلك نسيانه ونسيانهم وإهماله وإهمالهم وعدم الإقرار لهم بالفضل وعدم التأسّي بهم والإقتداء بسلوكهم وسيرهم هو إعراض.
وقد أمرنا الله بعدم نسيان ذوي الفضل علينا وقرن الشهادة له بالوحدة بالشهادة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها جزء الأذان والإقامة وجزء الصلاة, بل صار أبخل الناس من سمع اسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصلِّ عليه وكذلك ترك ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في إجابة الإمام الصادق عليه السلام لمن سأله عن الآية, ومنها نسيان الآخرة والموت ولقاء الله تعالى, وعدم الاستعداد لهما, وفي الآية التي سبقت موضوعنا قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى...﴾ فعدم اتّباع الهدى الإلهيّ مطلقاً هو إعراض عن ذكر الله.
أسباب الإعراض:
إنّ أسباب إعراض الإنسان عن ذكر الله كثيرة, منها العامّ ومنها الخاصّ, ويأتي بالدرجة الأولى ضعف الإيمان, وضعف العقيدة, ومنها الانكباب المفرط على الدنيا والعلاقة المفرطة بالماديّات, وتغييب المعنويّات والعلاقة بالغيب والغيبيات, أي الضعف الروحيّ بل الفقر المعنويّ والروحيّ, وطغيان الشهوات وانغماس الإنسان بها, ومنها الغفلة وقسوة القلب نتيجة الذنوب
70
الليلة الثالثة
التي يتراكم أثرها على صفحة القلب فتضعف البصيرة, وتتدرّج في الضعف إلى العمر الكامل: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
عاقبة الإعراض عن ذكر الله في الدنيا:
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أمرين يشكّلان عقوبة لمن يعرض عن ذكر الله ولا يهتدي بهديه وهدي أوليائه, وهما مجموعان في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾, فالعقوبة الأولى هي المعيشة الضنك, والمراد من المعيشة الضنك ضيق العيش, والذي قد يكون بالفقر والعوز والحاجة كما فسّره بعضهم لغويّاً, ولكن قد يكون عكسها لكن مع الاضطراب وفقدان الطمأنينة والخوف والقلق, فإن كان ذكر الله بقيد الإيمان يورث الطمأنينة والسكينة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾, فإنّ العكس ينتج عنه الضدّ, فعدم الإيمان والإعراض عن ذكر الله لا شكّ يورث الاضطراب والقلق والخوف والحزن, وهذا هو العيش الضيق والمعيشة الضنك, فضيق الحياة غالباً يتولّد من الفقر المعنويّ والنقائص الدنيويّة
71
الليلة الثالثة
وانعدام الغنى الروحيّ.
فمن لا يؤمن بالله والغيب ولا بالحياة بعد الموت ومن لا يعدّ لذلك عدّته سيكون في حالة من عدم الطمأنينة للمستقبل, وسيحكمه الخوف من ذهاب قدراته البدنيّة والماليّة وغيرها, وهذه العقوبة قد تكون في البرزخ وليس فقط في الدنيا.
عمر الآخرة عقوبة الإعراض:
وأمّا العقوبة الثانية وهي عقوبة أخرويّة فهي أن يحشر الله تعالى المعرض عن ذكره أعمى, وذلك أنّ عالم الآخرة عالم ظهور الحقائق, وهو عالم تتجسّم فيه الأعمال والأخلاق, فالمعرض عن ذكر الله تعالى حقيقته أنّه أغمض عيني قلبه عن رؤية آيات الله وآلائه, وبالتالي أهمل استخدام بصيرته ليراها, وإن كانت الدنيا بالبصر فالآخرة بالبصيرة, وإن كانت العقوبة: ﴿جَزَاء وِفَاقًا﴾ أي أن العقوبة من سنخ الذنب فإنّ أعمى البصيرة في الدنيا أعمى البصيرة في الآخرة, ومن ناحية أخرى فإنّ المعرض عن ذكر الله يكون قد أهمل كلّ ما عرض الله له من آيات ليراها ويراه من خلالها, فكذلك العقوبة هي الإهمال المعبّر عنه بالنسيان: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
72
الليلة الثالثة
ويا ليت العقوبة تتوقّف على ذلك بل إنّ الأمر أشدّ, قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾.
خاتمة:
إنّ الإعراض عن ذكر الله عمل مهلك يجب أن نحذر منه, وعلينا أن نوقظ قلوبنا من الغفلة, بأن لا نترك الدعاء, والتأمّل في الكون والأنفس, وأن نحرص على أفضل العلاقة بالله أوّلاً وبنبيّه ثانياً وبأولياء الله وكتاب الله وبيوت الله, وعلينا دائماً أن نجعل ألسنتنا رطبة بذكر الله, وأن نتذكّر الله عندما نرزق نعمة أو تدفع عنّا نقمة, وأن نتذكّره بشكل أخصّ عندما نهمّ بمعصية.
73
الليلة الثالثة
المحاضرة الثالثة: دع النقاشات السلبيّة (الخصومة)
الهدف:
بيان مساوئ النقاشات الحادّة والخصومات السلبيّة, وآثارها ومفاسدها, والإرشاد إلى المحاورة والنقاش الإيجابيّ.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصّر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقيّ الله من خاصم".
74
الليلة الثالثة
مقدّمة: معنى الخصومة:
إنّ من الظواهر التي ترافق حياة الناس ما يسمّونه الخصومة والمخاصمة، وهم غالباً ما يستعملون هذه الألفاظ في معنى "العداوة" والمعاداة سواء جرَّت نزاعاً لفظيّاً ومحاججة أم لا. وأمّا في المعنى اللغويّ والقرآنيّ خصوصاً، فقد قال بعض أهل اللغة: "الخصام مصدر، خاصمته خصاماً ومخاصمة. قاله: أبو عبيدة, وقال الزجّاج: هو جمع خصم, يقال: خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور, وحقيقة التعمّق في البحث عن الشيء والمضايقة فيه ولذلك قيل لزوايا الأوعية خصوم".
ونقل عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصم" أي شديد الخصومة.
وقيل المخاصمة تعنى في الأصل إمساك شخصين كلّ منهما للآخر من جانبه ثمّ أُطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظيّ، والأخذ والردّ في الكلام فالخلاصة: الخصومة والمخاصمة هي نوعٌ من النزاع والتشاجر والنقاش اللفظيّ الذي فيه كثير أخذ وردّ، وفيه مضايقة وتشدّد.
75
الليلة الثالثة
وقد تكون المخاصمة غالباً في الأمور والمعاملات الدنيويّة وقد تكون في الأمور الدينيّة فقد جاء عن الإمام الكاظم عليه السلام: "مُرْ أصحابك أن يكفّوا من ألسنتهم، ويَدَعوا الخصومة في الدّين، ويجتهدوا في عبادة الله عزَّ وجلَّ".
محاور الموضوع
دَعْ الخصومة السلبيّة
عن غياث بن إبراهيم قال كان أبو عبد الله عليه السلام إذا مرّ بجماعة يختصمون لا يجوزهم حتّى يقول ثلاثاً: "اتقوا الله، يرفع بها صوته", هذه الرواية تدلّ صراحة على أن خوض الخصومات والنقاشات والمحاججات هي خلاف التقوى ولذا كان التكرار من المعصوم عليه السلامبالأمر بالتقوى ثلاثاً قبل تجاوز المتخاصمين.
لكنَّ الواقع أنّ هذا النهي هو عن نوع خاصّ من النقاش وهو السلبيّ منها وهو عندما يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوّة، وفرض الرأي على الطرف الثاني عن طريق إثارة الضجّة، وقد يؤول إلى تشويش معتقدات وأفكار الطرف الآخر أو السامعين كلّاً أو بعضاً, ولذا عبّرت الرواية الناهية عن هذا النوع من النقاش والجدال عن ذلك فيما ورد
76
الليلة الثالثة
عن الإمام الباقر عليه السلام: "الخصومة تُمحق الدّين، وتُحبط العمل، وتُورث الشكّ" فأمثال هذا النوع من النقاش سواء كان في أمور الدّين أو الدنيا سوف ينحدر بالكلام تدريجيّاً ليصل إلى الاستهانة وعدم الاحترام، وربّما تنحدر إلى درجة تبادل الكلام المبتذل القبيح، وترامي الاتهامات الباطلة بل حتّى الشتم والسبّ بالكلام البذيء كما نشهد ذلك غالباً.
آثار ومفاسد الخصومة السلبيّة:
إضافة إلى ما مرّ ذكره من آثار الخصومة السلبيّة وهي انحدار مستوى الخطاب إلى درجة الإسفاف والابتذال والاهانة والسبّ والشتم وغير ذلك فإنّ ثمّة آثاراً أخرى لا بدَّ من بيانها وهي كما جاء في المرويّات:
1ـ تمحق الدّين: وتُحبط العمل، وتُورث الشكّ كما في الرواية السابقة عن الإمام الباقر عليه السلام.
2ـ تُرديِ صاحبَها: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إيّاك والخصومات فإنّها تُورث الشكّ، وتُحبط العمل، وتُردي صاحبها وعسى يتكلّم الرجل بالشيء لا يغفر له".
3ـ تكسب الضغائن وتجرّ إلى الكذب: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاكم والخصومة في الدّين، فإنّها تُشغل القلب عن ذكر الله
77
الليلة الثالثة
عزَّ وجلَّ، وتُورث النفاق، وتُكسب الضغائن، وتستجيز الكذب".
4ـ تكشف عن عدم اليقين: عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يخاصم إلّا من قد ضاق بما في صدره", ولذا فإنّ من يخاصم ويعتمد الحدّة والعنف القوليّ وربّما اليدويّ في النقاش، هو إنسان قد يكون لديه مشكلة إمّا في ضعف يقينه وشكّه فيما يعتقد أو لا أقلّ من أن يكون غير ورع، ولذا قال الإمام الصادق عليه السلام: "لا يخاصم إلّا شاكّ في دينه، أو من لا ورع له".
5ـ يفسد العلاقة بالإخوان وبالله تعالى: في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق".
فالمخاصمة بهذا المعنى تخرّب المشاعر بين المؤمنين، فتفسد الودَّ ومشاعر الأخوّة، وتُكوِّن أرضيّةً خصبة للعداوات والمشاحنات والمشاجرات. ومن جهة أخرى هي أرض خصبة أيضاً لنموّ بذور النفاق في القلوب.
78
الليلة الثالثة
تحذير:
عندما يفقد أيّ نقاش الالتزام بالأصول الصحيحة، سيقوى روح العناد والتعصّب لدى الأشخاص، ويثير الكثير من الدخان الأسود الذي يعمي عن الحقائق، بل قد يلجأ كلّ طرف بهدف التغلّب على خصمه والانتصار لنفسه إلى استخدام الأساليب التي تنطوي على الكذب والتهمّة والابداع في التشاطر لنصرة فكرته وغلبة رأيه، وهكذا عمل لا يمكن أن تكون له عاقبة إلّا السوء والحقد، وتنمية جذور النفاق في الصدور، ومن أهمّ المفاسد للجدال والخصومة السلبيّة المنهيّ عنهما، هو تمسّك كلّ طرف بانحرافه وأخطائه وإصراره على اشتباهاته، والمعاندة متمسّكاً بأيّ دليل يثبت
باطله، ويموّهه على الآخرين بِلَبوس حقٍّ. وفي طريق ذلك هو يتجاهل الكلام الحقّ الصادر من خصمه بل يحقّره ويزدريه، وربّما انجرّ إلى آفة التكبّر والتعالي عليه وعلى حقّه.
فلنحذر ولنحذر أنفسنا وإخواننا من ذلك.
المخاصمة الإيجابيّة:
في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلامويلقّب بالطيّار ويدعى (حمزة بن محمّد) جاء إلى الإمام الصادق عليه السلاموقال له: بلغني أنّك كرهت مناظرة النّاس! فأجابه الإمام عليه السلام بقوله: "أما مثلُكَ فلا يَكره، من إذا طار يحسن أن يقع، وإن وقع
90
79
الليلة الثالثة
يحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه", فتحصَّل من هذه الرواية أنّ ثمّة مخاصمة إيجابيّة غير تلك السلبيّة. وهذه الرواية ليست يتيمة وإنّما هناك روايات كثيرة تفيد أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يحثّون من يجدون فيه القدرة والكفاءة في المنطق والاستدلال على المناظرة والمحاججة والمخاصمة، وحتّى لو لم توجد روايات في ذلك فإنّ خطر ضعف جبهة الحقّ، وتقوية عود خصومها، وتزلزل إيمان جمهورها بأحقيّتها كافٍ في تجويزها بالشروط التي أجملتها الرواية.
شروط المخاصمة الإيجابيّة:
يمكن استفادة الأساليب الإيجابيّة للنقاش التي أشار إليها القرآن الكريم وهي كالتالي:
1ـ عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنّه هو الحقّ، بل المحاولة قدر الإمكان على جعله يعتقد أنّه هو الذي توصّل لهذه النتيجة.
2ـ الإمتناع عن مُثيرات العناد ومنها السبّ والعصبيّة فقد نهانا الله عن سبّ آلهة الكفّار حتّى لا يصرّوا على عنادهم ويسبّوا الله عزَّ وجلَّ.
80
الليلة الثالثة
3ـ مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش لإشعار الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي توضيح الحقائق لا غير.
4ـ حاول ألّا تُستفز، فلا تَردّ بالمثل على المساوئ والأحقاد التي تبدر من المُخاصَم، بل حاول السموّ بأخلاقك، وتَعاملْ بالرأفة والرحمة والمحبّة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾.
خاتمة: إقتدِ بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام:
عندما ندقّق في أسلوب نقاشات الأنبياء عليهم السلام مع أعدائهم كما يعكسها القرآن وكذلك تلك النقاشات العقائديّة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أئمّة أهل البيت عليهم السلام وبين أعدائهم وخصومهم، يمكن أن ننتهي إلى دروس تُطوى في مضامينها أجمل الأساليب وأنجحها، وأفضل الوسائل النفسيّة التي تسهّل لنا النفوذ إلى نفوس وقلوب الآخرين لنزرع فيها بذور الحقّ والخير، وكلّ خُلُق نبيل.
81
الليلة الرابعة
المحاضرة الأولى: روحيّة الجهاد
الهدف:
بيان فضل الجهاد والمجاهدين, والروحيّة التي يفترض أن يحملها المجاهد.
تصدير الموضوع:
"إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".
83
الليلة الرابعة
مقدّمة: الجهاد قتال مشروع هادف
إنّ الجهاد في معناه الشرعيّ والعرفيّ هو القتال في سبيل الله. ولذا فإنّ معنى الجهاد مقرون بكونه مشروعاً, وهذا معنى كونه قتالاً في سبيل الله، فأوّلاً لا بدّ من الالفات إلى أنّه ليس كلّ قتال هو جهاد بل لا بدّ ليكون جهاداً أن يكون مشروعاً، ولذا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام أراد أن يشير إلى مشروعيّة خروجه الجهاديّ بقوله عليه السلام: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".
وفي سبيل الله يكون لردع المعتدي، ورفع الظالم، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين ونشر العدل وإزالة الفساد ولمقاومة المحتلّ، لكن بشرط أن يكون بإذن من له ولاية أمر الجهاد إلّا في الدفاع عن النفس والأوطان.
ولعلّه لالتباس مفهوم الجهاد في زمن الإمام الحسين عليه السلام كما هو ملتبس عند كثيرين في زماننا كان نفي الإمام الحسين عليه السلام كون خروجه طغياناً ولأغراض شرّيرة أو للظلم والإفساد، بل لأجل نشر الصلاح في الأمّة.
96
84
الليلة الرابعة
محاور الموضوع
فلسفة الجهاد:
قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
هاتان الآيتان في أوائل ما نزل قرآنيّاً في تشريع الجهاد فذكرتا الإذن الإلهيّ بالقتال, ثمّ بيّنتا بعض بركاته ودوره في رفع الظلم بل دفعه وضمان الحرّيّة العباديّة وحفظ المعابد واسترداد الحقوق إضافة إلى الاقتصاص من المعتدين، إذ لولا وجود الإذن الإلهيّ لما بقي لعبادة الله دُور يُعبد فيها, وبالتالي فلا دين ولا متديّنون، على أن نشير لما نشر مع الجهاد من آثار في بناء منعة الأمّة وعزّتها ويشكّل رادعاً للأعداء والمتربّصين بها عن الاعتداء بل حتّى مجرّد التفكير بشنّ الحروب على الأمّة الإسلاميّة, ولعلّه لذلك كان ختام الآيتين بإسمين لهما علاقة ماسّة بالجهاد, الأوّل: هو القوي فكأن الله القويّ ومصدر كلّ قوّة إنّما أذن بالجهاد وقتال الأعداء ليفيض القوّة على المجاهدين وعلى المسلمين, والاسم
85
الليلة الرابعة
الثاني: العزيز ربّما ليبيّن أنّه بالجهاد تبنى عزّة الأمّة وكذلك عزّة الأفراد, والقرن بين الاسمين إشارة إلى كون الجهاد بانٍ لقوّة الأمّة المانعة لها من أعدائها.
وقد ذكرت بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله أعزّ أمّته بسنابك خيلها".
فضل الجهاد والمجاهدين:
وردت كلمة الجهاد وما يرادفها معنى في القرآن الكريم وكذلك في الروايات عن النبيّ وأهل بيته عليهم السلام مرّات كثيرة. بعضها في بيان أصل مشروعيّة الجهاد وأحكامه, وبعضها في آثاره وبركاته, وبعضها في ثواب ومقام المجاهدين, وبعضها يتعلّق بآداب الجهاد والمجاهدين, إضافة إلى العديد من الأدعية والتي منها دعاء الإمام زين العابدين لأهل الثغور.
وقد جاء في فضل الجهاد ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المسمّاة خطبة الجهاد حيث قال: "أمّا بعد, فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه, وهو لباس التقوى, ودرع الله الحصينة, وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ, وشمله البلاء, وديث بالصّغار والقماءة, وضرب على قلبه بالأسداد, وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد".
86
الليلة الرابعة
فالملخّص من هذا النصّ أمور منها:
1- الجهاد باب وطريق إلى الجنّة لصفوة من المؤمنين هم خاصّة الأولياء.
2- للجهاد أثر في حماية دين المجاهدين وتقواهم بل دين النّاس وتقواهم.
3- الجهاد حصن وحرز للأفراد وللأمم.
4- ترك الجهاد يؤدّي إلى:
أ- مذلّة المتخاذلين.
ب- الإصابة بالبلاء.
ج- موت الغيرة والحميّة.
د- عمى البصائر عن إصابة الرشاد.
ومن أروع ما جاءت به الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ثواب الجهاد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان في جهنّم".
وأمّا عن فضله وقيمته فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطّاف أخذ بمنقاره من ماء البحر".
87
الليلة الرابعة
وأمّا عن مال المجاهدين يوم القيامة فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه, فإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحّب بهم".
الجهاد اختبار:
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾. قد يظنّ المؤمنون والمسلمون أنّ جواز مرورهم إلى الجنّة هو إسلامهم وإيمانهم لكنّ الله تعالى في هذه الآية وكذلك في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
يقول إنّ الجنّة تنال بالاستحقاق لا بالتمنّي, وكذلك درجات الجنّة فإنّ رقيّها يكون لمن ينجح في الامتحان في مواطن الجهاد وخصوصاً عندما لا تكون الغلبة للمؤمنين كما حصل مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
فالمعيار في النجاح هو الجهاد مع تحمّل مشاقّه والصبر على خوض غماره وتحمّل آثاره، وبمعنى آخر فإنّ الجهاد المتلازم مع
88
الليلة الرابعة
الثبات والرسوخ وعدم التزلزل هو المعبر إلى الجنّة ودرجاتها العالية التي أعدّها الله للمجاهدين.
آداب الجهاد:
قد يظنّ بعض أهل الإنحراف والبدع في الإسلام وكما يروّجون أنّ الجهاد هو باب للقتل وإظهار الوحشيّة والقساوة وحتّى لكأنّك عندما تسمع أقوالهم وترى أو تصلك أخبار أفعالهم أنّ الإسلام دين توحّش وهمجيّة يدعو أبناءه إلى افتراس النّاس والتشبّه بالوحوش الضارية, وهذا ما شوّه الجهاد بل شوّه الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وبغّضهم إلى النّاس والحقيقة مغايرة تماماً لما يفعله هؤلاء ويقولونه ويصوّرونه ويقدّمونه للبشريّة، فإنّ الإسلام بيّن مجموعة من الأحكام والآداب للجهاد نلخّصها بما يلي:
1- حرمة قتل من أظهر الإسلام من الأعداء: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾.
2- النهي عن قتل الأشخاص للحصول على الغنائم كما كان يحصل في الجاهليّة.
3- إخلاص النيّة في الجهاد: قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
89
الليلة الرابعة
4- عدم الإجهاز على الجرحى واتّباع المدبر.
5- احترام الأموال الخاصّة والعامّة: (الزرع والبيوت) مع عدم وجود ضرورة عسكريّة خصوصاً فيما لو كانت لمسلمين.
6- عدم التمثيل بجثث القتلى.
7- حسن معاملة الأسرى.
8- الانضباط وإطاعة أوامر القيادة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
خاتمة روحيّة الجهاد:
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾.
هذه الآية يظهر التصوير الإلهيّ للجهاد في سبيل الله أنّه بيع المجاهدين أنفسهم وأموالهم لله مع أنّ الله هو مالكها أوّلاً وأخيراً، فالبائع هنا هو العبد والمبيع في هذه النفس التي قد تكون منخورة مهترئة ملوّثة بالمعاصي والآفات بثمن هو الجنّة والوعد الإلهيّ بالبيع قديم مثبت في كتبه السماويّة لأولي العزم من الرسل، والشاري هو الله الذي وعد بقبول هذه النفوس وإيفائها الثمن
90
الليلة الرابعة
الذي وعدها به وهو الجنّة.
فالمجاهد عليه أن يرى ساحات الجهاد مكاناً يعرض فيها نفسه على الله لعلّه يشتريها كما وعد كما أنّ كلّ صاحب سلعة يزين سلعته لتغري الزبائن بالشراء، على المجاهد أن يزيّن نفسه بما يجعلها تجذب نظر الله ليقبلها وليست تلك الزينة سوى الشجاعة والإقدام والأخلاق السامية والنيّة الخالصة لله وعشق لقائه والصدق في الاستعداد لبذل النفس والتضحية.
ولذا علينا عندما يبتلينا الله بجهاد الأعداء أن نستبشر لأنّه بذلك فتح لنا سوق الكرامة نبيع بها نفوسنا بأغلى أثمانها.
103
91
الليلة الرابعة
المحاضرة الثانية: التسامح خلق الكرام
الهدف:
بيان فضيلة التسامح وآثاره مع الإضاءة على بعض ما ورد منها في سلوك أهل البيت عليهم السلام.
تصدير الموضوع:
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
92
الليلة الرابعة
مقدّمة: معنى التسامح:
إنَّ التسامح من الأخلاق التي ندب إليها الإسلام، وقد جاء مدحها كثيراً في النصوص، وأكدت حسنها الكثير من مواقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من آله ومن أبرز تلك المواقف موقفه صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل مكّة يوم الفتح حيث قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
فالتسامح سجيّة وخلق تدفع الإنسان للتجاوز عن إساءات الآخرين، والصفح عن أخطائهم، والإغضاء عنها، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، بل باللين والعفو والتساهل وعدم التشدّد والعنف.
فالتسامح هو شعور إيجابيّ، يفيض رحمة وعطفاً وحناناً...
وممّا جاء في مدح هذا الخُلُق قرآنيّاً قوله تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
وقال كذلك: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ولأنّ العفو والصفح من مصاديق التسامح فقد جاء في مدح هذه الخلّة الإنسانيّة عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "العفو تاج المكارم".
93
الليلة الرابعة
محاور الموضوع
التسامح في القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
هاتان الآيتان جاءتا بعد أن هدّدت الآيات السابقة، العُصاة وتوعّدتهم بالعذاب والجحيم، وبشّرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهيّة، وشوَّقتهم إليها، جاءت مبتدئة لتحثّ على المسارعة، أي المسابقة للوصول إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، فالآيات تحثّ على المنافسة في ما يوصل إليها وهو تحصيل المغفرة من الله ثمّ الجنّة.
فكأن التصوير يأتي ليرسم مباراة يتنافس فيها المتنافسون لنيل الجوائز الموصوفة آنفاً، وهي المغفرة والجنّة الواسعة سعة السماوات والأرض.
والذين يفوزون بهذا السباق وهذه المباراة هم المتّقون. ثمّ بيّنت الآيات التي تلت سيماء هؤلاء المتّقين، وهم الحائزون
94
الليلة الرابعة
خمس صفات أوّلها الإنفاق في السرّاء والضرّاء، ثمّ ذكرت ثلاث صفات أخرى هي:
1ـ والكاظمين الغيظ: أي الذين لديهم القدرة على السيطرة على غضبهم مع كونهم ممتلئين بأسباب الغيظ والغضب. إذ إنّ الكظم هو شدُّ رأس القربة عند ملئها لئلاَّ يتفلّت منها ماؤها.
2ـ والعافين عن الناس: أي أنّهم يتحلّوْن بالقدرة على الصفح عمّن ظلمهم، ويتجاوزون عن الإساءة عن من يستحقّ العفو والصفح.
3ـ والله يحبّ المحسنين: أي أنّهم محسنون, لا يكتفون بكظم غيظهم، والصفح والعفو عن المسيئ، بل يقابلون الإساءة بالإحسان، فيحسنون إلى من ظلمهم.
مراحل الرقيّ الأخلاقيّ للتسامح:
بوقفة فيها مزيد تأمّل في هذه الآيات يمكن استنتاج التالي:
إنّ الآيات كأنّها تأتي لبيان سير تكامليّ لخُلُق التسامح عند المتّقين, بالترقي التالي:
أوّلاً: إنّ كظم الغيظ هو إمساك الإنسان نفسه من خلال جهادها ومغالبتها لئلّا يخرج منها ما يؤذي النفس والغير. عندما تكون ممتلئة بما أوقدت تحته نار الغضب. فهو حالة فيها جهاد
108
95
الليلة الرابعة
للنفس مع وجود أسباب ومبرّرات الغضب، فهو حالة من كبح الغضب بسدّ منافذه وإحكامها.
ثانياً: إن كان كظم الغيظ أمرٌ حسن وحسنٌ جدّاً، إلّا أنّه يبقى ناقصاً ويفترض أن يكون مرحلة لما بعده، فهو لا يقتلع جذور العداء من قلب من يكظم غيظه، بل قد يؤدّي إلى مراكمة أسبابه بإضافة تجرّع مرارته، والخطوة الأخرى المفترضة بعد كظم الغيظ لا بدّ أن يكون "العفو والصفح" لتنظيف القلب من الغيظ أوّلاً، والحقد ثانياً، والعداوة ثالثاً, فالعفو والتسامح هو قمعٌ لروح الانتقام والتشفّي.
ثالثاً: للوصول إلى أعلى درجة من الرقيّ والنبل الأخلاقيّ، وأعلى درجات سلّم التكامل المعنويّ لا بدَّ من تجاوز مرحلتي كظم الغيظ، والعفو والصفح إلى خلق له خاصيّة القضاء على جذور العداء في فؤاد وقلب من أساء إليه، وهي مرحلة مقابلة الإساءة بالإحسان.
استجلاباً لقلبه واستبدالاً للعداوة والبغضاء بالمحبّة والإلفة والصداقة ألم يقل تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
فالإحسان عمليّة تطهير لقلب الخصم بعد إعطائه الأمان بالعفو من أدران العداوة وكلّ ما ينمّيها ويكون مشكّلاً لدوافع
96
الليلة الرابعة
الأذيّة والإساءة. وبالتالي فالإحسان هو عمليّة علاج للقلوب وفتحها على عالم من الصحّة والصلاح.
رابعاً: كاظم الغيظ يعالج نفسه وبالعفو والصفح أيضاً يعالج نفسه مع الالتفات إلى الآخر، بإشعاره بالأمن وبالتالي فإنّ همّته الإصلاحيّة تدور حول نفسه، وأمّا من يحسن إلى المسيئ ويكسب ودّه وحبّه فمن جهة يمنع تكرار الإساءة إليه مستقبلاً، ولكنّه أيضاً يتجاوز همَّ نفسه إلى حمل مسؤوليّة علاج الآخرين واستنقاذهم من أمراضهم النفسيّة والقلبيّة والسلوكيّة.
وهذا الفات إلى صفة من صفات المتّقين، وهي الوعي الأخلاقيّ والاجتماعيّ.
من آثار التسامح
لقد جاء في كلام أهل البيت عليهم السلام وسلوكهم الكثير ممّا يحثّ على العفو والتسامح. فمنها بيان آثار العفو في الدنيا والآخرة نذكر منها:
1ـ طول العمر: فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كثر عفوه مدّ في عمره".
2ـ العزّة: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العفو لا يزيد العبد إلّا عزّاً فاعفوا يعزّكم الله".
97
الليلة الرابعة
3ـ الوقاية من سوء الأقدار: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار".
4ـ بقاء المُلك: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عفو الملوك بقاء الملك".
5ـ النّصر: عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما التقت فئتان قطّ إلّا نُصر أعظمهما عفواً".
6ـ النجاة من النّار: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا عن ذنوب الناس يدفع الله عنكم بذلك عذاب النّار".
خاتمة: التسامح في سيرة أهل البيت عليهم السلام:
جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا".
وهذه رواية جامعة لبيان مقام خُلُق العفو والتسامح عند أهل البيت وللمتابع لسيرتهم عليهم السلام أن يجد ما هو أكثر من ذلك، لا سيّما ما ورد حول قصّة الإمام السجّاد عليه السلام مع تلك الجارية التي شجّت رأسه، فقابل ذلك بالتدرّج معها وهي تتدرّج بذكر الآيات فمنحها كظم الغيظ ثمّ عفا عنها ثمّ أحسن إليها بإعتاقها.
98
الليلة الرابعة
المحاضرة الثالثة: نظم الأمر والولاية
الهدف:
بيان أهمّيّة نظم الأمر ودوره في تحقيق الانتصارات, وعلاقة الولاية بنظم الأمر.
تصدير الموضوع:
كان من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم".
99
الليلة الرابعة
مقدّمة: الإنسان وحبّ النجاح
لا خلاف بل لا نقاش بكون الإنسان فرداً كان أو جماعة يحمل في نفسه حبّاً أصيلاً ومتمكّناً للنجاح والفوز وما يرادف هذين المعنيين ممّا يلائم ميادين الحياة ووجوهها وساحات العمل بمعنى الرغبة الأكيدة في تحقيق الأهداف التي تصبو إليها نفسه ممّا رسمها هو لنفسه أو رسمتها الجماعة التي ينتمي إليها أو الأهداف التي تنسجم مع الفكر والمعتقد الذي يتبنّاه، وقد أشار تعالى إلى هذا التوق النفسيّ عند الإنسان المؤمن والمجاهد خصوصاً في ميادين الجهاد فقال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾، بل إنّ المولى عندما أراد أن يرغّب المؤمنين ببعض الأعمال أو الصفات أشار إلى علاقة هذه الصفات والأعمال بالفلاح والفوز والنجاح ومنها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، بل إنّ حبّ الكمال وسموّ الأنفس يجعلها تطمح إلى أكمل مراتب النجاح وذلك بالوصول إلى أفضل النتائج وأعلى مراتب الأهداف، ولكن ثمّة شروطاً هي التي تشكّل ضماناً لتحقيق هذه الأهداف، لا تقلّ أهمّيّة عن تحديد الأهداف نفسها وتشخيصها وتحديد الطرق والأساليب الموصلة إليها لها علاقة بحفظ الاستقامة على طريق السعي إلى
100
الليلة الرابعة
الأهداف وعدم الانحراف أو السقوط عنها، ولها علاقة بحفظ الجهود وعدم ضياعها.
محاور الموضوع
الولاية وتحقيق الأهداف:
إنّنا وبحكم انتمائنا إلى الإسلام، نتبنّى رؤيته للإنسان والإنسانيّة ولدورهما وللأهداف الإلهيّة من الخلق المجموعة في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
وقد حدّد الله المنظومة التي بها قوام خلافة الإنسان والإنسانيّة فقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
فما يضمن النجاح في تحقيق الأهداف وحسن أداء مهمّة الخلافة لله في أرضه هي الانتماء إلى منظومة الولاية فيما جاء عن سيّدة نساء العالمين الزهراء فاطمة عليها السلام: "فجعل الله...، وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة" فطاعة الأئمّة أو أولي الأمر كأنّها خيط وحبل يربط بين أبناء الأمّة أو ينسّق جهود
101
الليلة الرابعة
أبناء الأمّة في طرق العمل وميادينه وذلك لأداء الدور والوظيفة التي أنيطت بالبشريّة فكأنّ طاعتهم كالخيط والسلك الرابط لحبّات السبحة لتنتظم هذه الحبّات مشكّلة السبحة ودونه لا سبحة، والقائد لهذه المسيرة البشريّة هو الإمام, ولذا كانت الإمامة ضماناً للوحدة وعدم التشتّت، فالإمام والوليّ والقائد هو قطب رحى هذه الحركة الإنسانيّة باتّجاه كمالها المتحقّق بنجاحها في المهمّة الإلهيّة الموكلة إليها.
النظم والولاية:
إلّا أنّ ما سبق متوقّف على دوام الاستقامة في الحركة باتّجاه الأهداف، وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه عليهما السلام وعبرهما لكلّ الأمّة: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم" ويمكن أن نستفيد من هذه الوصيّة أموراً منها:
1- إنّ الإسلام معنيّ بطُرق الوصول إلى الأهداف وضبط السير إليها بقدر ما هو معنيّ بتحديد الأهداف، فكما يفترض كون الأهداف والغايات مشروعة وتتّصف بالنبل والشرف كذلك لا بدّ من أن تحمّل الطُرق والأساليب الموصلة إلى الأهداف صفة المشروعيّة والنبل والشرف، ومعنى التقوى
102
الليلة الرابعة
هنا مراعاة كون الأعمال التي نتوسّلها إلى الأهداف النبيلة نبيلة وسامية وشريفة ونقيّة من التلوّثات، فلا قيمة لأيّ نجاح يصل فيه الإنسان إلى الغاية النبيلة إن سلك طرقاً دنيئة ورذيلة وذميمة, ولذا كان من ردود الإمام عليّ عليه السلام عندما جاء جماعة من قريش إليه فقالوا له: يا أمير المؤمنين لو فضّلت الأشراف كان أجدر أن يناصحوك، فغضب أمير المؤمنين، ثمّ قال: "أيّها النّاس تأمروني أن أطلب العدل بالجور فيمن وليت عليه، والله لا يكون ذلك".
2- من جهة ثانية فإنّ التقوى تشكّل ضماناً من جهتين, الأولى: مشروعيّة الأهداف والثانية مشروعيّة الأعمال المحقّقة للأهداف، بمعنى أن تضمن الثبات على الأهداف وتضمن الاستقامة في السير نحوها، بمعنى أنّها تحدّد الوجهة وتضبط كون السير باتجاهها على صراط مستقيم.
3- ثمّة أمر آخر يشترط للنجاح غير التقوى وهو ما عبّر عنه الإمام عليّ عليه السلام بنظم الأمر، ومعناه حسن الإدارة للموارد والقوى والطاقات بما يمنع ضياع الجهود وتكرّرها وتعارضها وتصادمها الذي هو الفوضى بعينها، وقد عبّر عنه بالعنوان العام بحسن التدبير أو حسن الولاية كما جاء عن الإمام زين العابدين
103
الليلة الرابعة
في دعاء مكارم الأخلاق "وسمني حسن الولاية".
فنظم الأمر بمعاونة التقوى يضمن سلامة الوصول إلى الأهداف وبأقصر الطرق وأسرع الأوقات وأكمل وأفضل النتائج.
ولعلّنا نستطيع القول إنّ نظم الأمر هو من مصاديق التقوى التي أوصى بها أمير المؤمنين عليه السلام ولكنّه أفرده لخفاء هذا اللون من التقوى على غالب النّاس، وبيان ذلك أنّ عدم نظم الأمر مضيعة للجهود وإتلاف للمال وإهدار للوقت وزيادة في التكاليف, وبالتالي فهو خلاف التقوى المأمور بها, وعليه فمن لا يقوم بنظم الأمر ويعمل بعشوائيّة ومن لا ينتظم ويعمل منفرداً دون الانضمام إلى الجماعة المنظّمة لديه مشكلة حقيقيّة في تقوى الله.
خاتمة: الولاية تصنع الأفراد والأمم الناجحة:
إنّ أمير المؤمنين في وصيّته الآنفة لم يخصّ أحداً دون أحد, فقد وجّهها أوّلاً إلى ولديه وعبرهما إلى كلّ من يبلغه كتابه هذا، وهذا يعني أنّه يوصينا أفراداً وجماعات بتقوى الله ونظم أمورنا جميع أمورنا، بل إنّ الله تعالى رغّبنا باعتماد النظم في ميادين الجهاد فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
104
الليلة الرابعة
فالإنسان عندما يأخذ موقعه في ساحات المواجهة إذا ما أضيف إليه باقي أبناء الأمّة فأخذ كلّ موقعه المناسب لحاجات الساحات هذه والموائمة مع خبراته وطاقاته سيتشكّل من هؤلاء الأفراد بنيان الأمّة الشامخ المرصوص الذي لا يوجد فيه ثغرات أو نقاط ضعف يسلك منها الأعداء.
ومن جهة أخرى سوف يكتسب خبرات جديدة وتترقى مداركه ومهاراته العمليّة وسيكتشف قوى وطاقات فيه لم تكن ملحوظة عنده. وستتفجّر فيه هذه الطاقات، ومن جهة أخرى فإنّ نظم الأمر في الحياة الفرديّة يؤدّي إلى توفير الوقت والوسع والطاقة لاستثمارها في مجالات أخرى.
وأخيراً نعود لنقول: إنّ كان رأس منظومة الولاية هو القائد الإلهيّ أو الإمام المعصوم. فإنّ مسألة سيرة الأمّة وأفرادها نحو الأهداف في زمن الغيبة لا يفترض أن يتوقّف ولا أقلّ من أن نجمعها تحت عنوان ملاقاة الإمام بأمّة وأفراد جاهزين لنصرته ومعاونته في مهمّته المقدّسة فهل نستطيع ذلك دون امتثال وصيّة الإمام عليّ عليه السلام "تقوى الله ونظم الأمر".
119
105
الليلة الخامسة
المحاضرة الأولى: أسباب الخلود
الهدف:
بيان عوامل وأسباب بقاء مؤثّرية النهضة الحسينيّة, ودور الإخلاص في خلود الأثر والعمل.
تصدير الموضوع:
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً".
107
الليلة الخامسة
مقدّمة:
الخلود من معالم النهضة الحسينيّة
إنّنا وكلّ ما ومن في الوجود إلّا ما ومن استثنى إليه آيل إلى الفناء والاندثار، أو لا أقلّ أنّ بنفسه لا يملك عناصر الخلود والبقاء إلّا أن يفاض علينا ما به بقاؤه وخلوده ممّن له الخلود والبقاء ومن يملك الموت والحياة.
ولو أردنا أنّ البقاء بدوام الذكر في الدنيا وعلى مرّ الأجيال فما الضامن لذلك إذ كم من أمّة مرّت على هذه الدنيا وكان لها ما كان لا تجد لها ذكراً حتّى كأنّها لم تكن.
ومثلها الكثير من الأفراد، إلّا أنّ ثمّة أمراً ملفتاً في القرآن الكريم وهو أنّه تعالى جعل بعض الثواب لبعض الأنبياء دوام الذكر في الدنيا من خلال إيراد ذكره والتنويه يجهده وجهاده في القرآن الكريم بل أمر بذكرهم بقول ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ...﴾ ، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا...﴾ تنفيذاً لسنّته ووعده: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ بل ليكون ذكرهم مقروناً بالسلام عليهم ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾، ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ وغير هؤلاء.
ومن أبرز من خلّد ذكرهم في الدنيا بذكرهم في كتابه الكريم من خلال التنويه بأعمالهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم
108
الليلة الخامسة
الحسين عليه السلام، فالحسين عليه السلام باقٍ ذكره مع القرآن وفيه حتّى قبل حصول ما حصل في كربلاء وعاشوراء فضلاً عن الزخم الذي أحدث به عاشوراء ذكر الحسين من أسباب بقاء وخلود، فالبقاء والأبديّة والخلود من أبرز معالم ومزايا الحسين والنهضة الحسينيّة، لا من حيث الذكر فقط بل من حيث المؤثّريّة والفاعليّة على مرّ الأزمنة وتعاقب الأجيال، وهذا ما أنبأ به الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً".
محاور الموضوع
أسباب البقاء والخلود:
كلّنا وبفطرتنا وما جبلنا عليه نحبّ البقاء ونحبّ أن يبقى لنا الأثر الحسن والذكر الحسن في الحياة بعد رحيلنا عن هذه الدنيا، فهل ثمّة من سبيل إلى ذلك؟
وبجواب مباشر نقول نعم هناك أمور يمكن أن نحفظ بها جهودنا ولنقف على شيء منها نقف على ما جاء في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
109
الليلة الخامسة
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
ولنا أن نستخرج من هاتين الآيتين ما يلي:
1- إنّ الصبر والثبات في طرق طاعة الله من أفضل أعمال الإنسان.
2- إذا كان العمل من ثمار وجود الإنسان فإن كان المقصود به النّاس فإنّه يذهب بذهاب النّاس ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ﴾ ولا مادة له تحدّه بأسباب الدوام والبقاء.
3- من أراد لعمله البركة ودوام النفع، وأراد إنقاذ عمله من الفناء والاندثار عليه أن يقرنه بالدائم الباقي، وممّا لا شكّ فيه أن من له البقاء والدوام هو الله.
وبتعبير آخر إنّ كلّ ما هو لنا من وجودنا في هذه الدنيا هو عملنا فلا مال يبقى ولا بنون، وعزّ ولا جاه، فكنزنا الذي نحصل عليه من حياتنا في هذه الدنيا هو عملنا، وحتّى يبقى لنا هذا العمل ويسلم ويرافقنا إلى الحياة الآخرة لا بدّ أن يكون عملاً صالحاً يعني أن يكون مفيداً وبناءاً من جهة ومن جهة لا بدّ وجود الداعي والباعث الإيمانيّ، وإلّا فإنّ الأعمال حتّى لو كانت صالحة فهي لا تملك أسباب بقائها لترافقنا في الموت وما بعده ما لم يحدّها الإيمان بالحياة.
110
الليلة الخامسة
فالأعمال كلّ الأعمال عبادات كانت أو أعمال خير من صدقات وأعمال برّ وصلة رحم وقضاء حوائج وتعلّم وتعليم وحتّى الجهاد علينا أن نعتبرها كنوزاً نخشى عليها الضياع فعلينا أن نودعها عند من لا تضيع عنده الودائع ألا وهو الله تعالى، وبطريقة مباشرة نقول معنى كون العمل عند الله هو أن نخلص النيّة لله قبلة قلوبنا فحينها سيكون لأصغر عمل أكبر الأثر، وهذه ضربة عليّ عليه السلام إنّما كانت تعدل عمل الثقلين لأنّها صدرت عن نفس عليّ عليه السلام بصورة خالصة لم تشبها شائبة.
من آثار الإخلاص في النيّة:
عندما سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ قال: "هي القناعة".
وممّا يستفاد من ذلك أنّ العمل الصالح الصادر عن باعث هو الإيمان بالله تعالى له أثر في الدنيا على نفس العامل وعلى نفسه بالخصوص, إذ يزيل أسباب القلق والاضطراب ليحلّ محلّها الطمأنينة والسكينة.
فكلّما كان العمل بنّاءاً ومفيداً وكانت النيّة خالصة فيه لله كلّما اطمأنّت النفوس وسكنت وصارت حياتها طيّبة هانئة سعيدة.
111
الليلة الخامسة
وكذلك فإنّ المجتمع الذي يتنافس فيه أبناؤه في الأعمال الصالحة وبدواعٍ متجرّدة عن الأنانيّات والمصلحيّات تسود هذا المجتمع الطمأنينة والهناء.
خاتمة:
من يرد الخلود والبقاء عليه أن يتأسّى بالصالحين من أمثال إبراهيم عليه السلام حيث جعل الله ذكره مقروناً بعبادة من أعظم العبادات وهي الحجّ وبأمكنة هي من أقدس الأمكنة وهي البيت الحرام، فكان مقام إبراهيم وحجر إسماعيل وقصّة حربه للشيطان عند الجمرات وكذلك في منى والخيف وعرفات وغيرها.
بل إنّ نداءه بأمر الله للحجّ كان له أثر اخترق الأمكنة والأزمنة والأجيال وأخبر تعالى عن ذلك بقوله: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.
وكذلك فإنّ الإمام الحسين عليه السلام أطاع الله تعالى في أغلى الأشياء عنده فقدّم ما قدّم وهو يقول: عند الله أحتسب.
بل يقول ورضيعه بين يديه: "هوّن ما نزل بي أنّه بعينك يا ربّ...".
لتكون نداءات الحسين عليه السلام وشعاراته بعد هذه الأضاحي "هل من ناصر ينصرني..." و "هيهات منّا الذّلّة".
112
الليلة الخامسة
كأنّها نداء جدّه إبراهيم عليه السلام لتحجّ الأرواح والنفوس والقلوب إلى الحسين عليه السلام شخصاً، ومقاماً، ومبادئ، وأهدافاً.
بعض النّاس يعمد إلى حفر اسمه على جذع شجرة أو على صخرة ما ليبقى اسمه وذكره.
لكن الحسين عليه السلام كتب بدمه اسمه على جبين الزمان فحفرت حروفه في القلوب حرارة لا ولن تبرد أبداً.
129
113
الليلة الخامسة
المحاضرة الثانية: خدمة النّاس
الهدف:
بيان فضيلة قضاء حوائج النّاس وخدمتهم والحثّ على السعي في قضاء الحوائج.
تصدير الموضوع:
سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اتباع سرور المسلم" قيل: يا رسول الله وما اتباع سرور الإسلام؟ قال: "شبعة جوعه وتنفيس كربته وقضاء دينه".
114
الليلة الخامسة
مقدّمة: الانتماء إلى الإسلام مسؤوليّة:
إنّ من أركان الاجتماع الإنسانيّ الصالح تلك الوحدة بين أبناء هذا المجتمع، ومن مظاهر وحقائق هذه الوحدة هو الارتباط الشعوريّ بين الأفراد حيث يتجلّى ذلك في بعض نواحيه بالشعور بآلام الأفراد بعضهم ببعض واهتمامهم بذلك وحمل الهمّ، ولأنّ الله ورسوله يريدان من مجتمع المسلمين أن يكون مجتمعاً مترابطاً موحّداً كان التركيز على الرابطة الأخويّة بين أفراد الأمّة التي تنعكس في العاطفة والعمل وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم".
حيث سلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن من لا يحمل هم أبناء أمّته من المسلمين جدارة الاتصاف بصفة المسلم.
وهذا يعني أن من ما يرتّبه الانتماء إلى الإسلام الانتماء إلى جماعة المسلمين والأمّة الإسلاميّة ويعني ذلك أن يتحمّل كلّ مسلم ومؤمن مسؤوليّته اتّجاه الأمّة وأبناءها، ابتداءً من الشعور والعاطفة إلى ميادين العمل والحركة.
فأن يكون الإنسان منتمياً إلى جماعة ما حقيقة الانتماء، يعني عليه القيام بدوره الاجتماعيّ بما هو متاح له، ومن جهة أخرى عليه مشاركة أبناء الأمّة آلامهم وآمالهم إضافة إلى تمنّي
115
الليلة الخامسة
الخير لهم والعمل على إيصال الخير لهم والسير لعزّهم ومجدهم وسؤددهم.
محاور الموضوع
الآثار الفرديّة والاجتماعيّة لخدمة النّاس:
إنّ لخدمة النّاس آثاراً في المجتمع وفي الفرد الذي يقوم بهذا التكليف.
فمن آثارها الاجتماعيّة، المحبّة وسيطرة روح التعاون، وتوثيق عرى الوحدة، والإلفة والمحبّة والتكافل والتضامن التي تشكّل بمجموعها روح الجماعة في مقابل صخور الأنانيّة والعصبيّة، هذا على صعيد الجماعة والمجتمع.
وعلى صعيد الفرد المسلم فإنّ خدمة النّاس لها أثر في بناء فضائل هي من أسمى الفضائل الفرديّة وذات البعد الإنسانيّ، فالخدمة تنمّي روحيّة التواضع وتقمع الكبر تلك الموبقة المهلكة، وكذلك تنمّي في الإنسان صفات كالسخاء والإيثار، وتساعد الإنسان على الخروج من أنانيّته الفرديّة.
وإذا دقّقنا أكثر فإنّ خدمة النّاس من العناصر التي تبني النفوس القويّة والمجتمعات القويّة المتماسكة المتعاضدة المتضامنة التي تملك الحصانة بوجه الآفات والأعداء وهذا قد يفضي بل هو كذلك إلى رقيّ المجتمعات وتنظيمها.
133
116
الليلة الخامسة
منزلة وثواب قضاء الحوائج وخدمة النّاس:
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال لعبد الله بن جندب: "يا بن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد وما عذب الله أمّة إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم".
فالرواية هذه تقول إنّ نفس السعي في حاجة المؤمن لها ثواب سواء قضيت أم لا, وهو نفس ثواب السعي بين الصفا والمروة، وأمّا إذا ما قضاها فثوابه هو ثواب أوائل شهداء الجهاد في سبيل الله في الإسلام, ودماؤهم في منزلة كبرى من الشرف والقداسة, فما يبذله الإنسان من جهد لقضاء حاجة المؤمن فينجح يعادل جهد جهاد ودماء شهداء تلك الملحمة الخالدة.
وفي المقابل فإنّ الرواية ذكرت أمراً في الترهيب بعد الترغيب وهو أنّ الاستخفاف بحقوق المؤمنين الفقراء موجب لنزول العذاب وفيه كذلك إشارة إلى أثر آخر من السعي في قضاء الحوائج وهو تأخير نزول العذاب ومنعه.
ومن الروايات المرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:
"احرصوا على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم ودفع المكروه عنهم فإنّه ليس من الأعمال عند الله عزَّ وجلّ بعد
117
الليلة الخامسة
الإيمان أفضل من إدخال السرور على المؤمنين".
لقد رفعت هذه الرواية الثواب على قضاء الحوائج وخدمة المؤمنين من خلال أثرها وهو إدخال السرور على المؤمن إلى منزلة لا يقاربها فيه عمل إذ جعلتها في الرتبة والدرجة والمنزلة والأجر كذلك تلي الإيمان.
وهذا تنبيه منهم عليهم السلام إلى ضرورة عدم خلوّ المجتمع من هذه الصفة، بل إنّ بعض الروايات جعلت السعي في الخدمة وقضاء الحوائج مقدّماً حتّى على الطواف بالكعبة ولو كان طواف الفريضة - أي الواجب وليس المستحب -، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "والله لقضاء حاجة المؤمن خير من صيام شهر واعتكافه".
آداب خدمة النّاس:
إنّ لخدمة النّاس آداباً إذا راعاها الإنسان كانت أكمل وأفضل وأبعد أثراً في النفس والمجتمع ومنها:
1- إخلاص النيّة فيها لوجه الله تعالى:
كما حكى الله ذلك عن أهل البيت عليهم السلام: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾.
118
الليلة الخامسة
2- المبادرة إلى قضاء الحاجة والخدمة:
ومعنى ذلك أن لا ننتظر من المؤمن والمحتاج إلى الخدمة أن يطلبها منّا بل أن نبادر إلى قضائها قبل طلبه ذلك، وإن طلب وسأل الحاجة الإسراع في قضائها فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته".
وربّما يكون من هذا القبيل معنى الحديث القائل: "كن خادماً ولا تستخدم".
3- الحرص على كرامة المحتاج والمخدوم:
قال تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾.
فإن كان الله قد وفّقنا لخدمة إنسان ما علينا أن لا نجعل ذلك وسيلة لمذلّته واستعباده، وإهانته من خلال إذاعة ذلك أمام الملأ والمنّ عليه.
خاتمة: المعاناة في خدمة النّاس:
ممّا روي أنّه عندما قتل الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء كان على جسده أثران، أثر الجراح، وأثر الجراب تقول الرواية: وجد على ظهر الحسين بن عليّ عليه السلام يوم الطفّ أثر فسألوا زين العابدين عليه السلام عن ذلك فقال: "هذا ممّا كان ينقل الجراب
119
الليلة الخامسة
على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين".
ونفس الإمام السجّاد وجد على جسده يوم وفاته وشهادته ثلاثة آثار, آثر الثفنات من كثرة العبادة والسجود، أثر الجامعة التي وضعت حول عنقه من السبي، وكذلك أثر الجراب الذي كان ينقل فيه الطعام للمحتاجين والفقراء.
والمستفاد من ذلك أمران أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يعيشون في تلك الجامعيّة بين عبادة الله وخدمة النّاس في دينهم ودنياهم. وكانوا يتفانون ويعانون في كلّ ألوان الخدمة لدرجة أن تحفر آثارها على أجسادهم.
فعلينا تأسّياً بهم أن لا نستكثر جهداً نبذله في خدمة الخلق وخدمة الحقّ بل علينا أن نوطّن أنفسنا على التعب والمعاناة الشديدين في ذلك.
أليس أفضل الأعمال أحمزها.
120
الليلة الخامسة
المحاضرة الثالثة: كما تعامِل تُعامل
الهدف:
بيان الأسلوب الأفضل في التعامل مع الناس، والقاعدة الاجتماعيّة الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّ الآخرين يعاملونك كما تعاملهم.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ الهادي عليه السلام أنّه قال للمتوكّل في جواب كلام دار بينهما: "لا تطلب الصفاء ممن كَدّرت عليه، ولا الوفاء ممّن غَدرت به، ولا النُصحَ ممّن صرفت سوء ظنّك إليه، فإنّما قلب غيرك (لك) كقلبك له".
121
الليلة الخامسة
مقدّمة: التربية بالموعظة
من النعم الإلهيّة التي نالها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أنّ الله عزَّ وجلّ هداهم إلى المصدر الذي يرجعون إليه ليكون وسيلة لهم للتعرّف إلى معالم دينهم، وهم الأئمّة عليهم السلام، فمنهم يتلقّى المؤمن ما فيه نفعه في دنياه وآخرته.
وكما اهتمّ الأئمّة عليهم السلام بتربية أصحابهم على الإيمان والتقوى والعمل الصالح وعلى إصلاح العلاقة بينهم وبين ربّهم كذلك اهتمّوا عليهم السلام بتربية أصحابهم على الأخلاق الحسنة في التعامل مع محيطهم ومع النّاس من حولهم، أي على إصلاح العلاقة بينهم وبين سائر النّاس.
ومن هذه المواعظ ما يتضمّن الحكمة مع بيان القاعدة، فالإمام يعطي الموعظة، ويضمنها الدليل والحكمة، بما يوجب إقناع الآخرين وتسليمهم لكلام الإمام، لأنّ القلب يلين للحكمة.
وكانت سيرة الأئمّة عليهم السلام توجيه النصح والحكمة والموعظة للنّاس جمعياً، من مواليهم أو من أعدائهم، صغاراً وكباراً، سواء أكانوا من أصحاب السلطة والمال والجاه والنفوذ، أم من سائر النّاس.
محاور الموضوع
المعاملة بالمثل
فممّا جاء من مواعظهم ما جاء عن الإمام الهادي عليه السلام
140
122
الليلة الخامسة
الأساس هو في مبدأ المعاملة بالمثل، فيجب أن تعامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك، ولا تطلب من شخص أن يعاملك بالحسنى وأنت تُسيء إليه، او أن يعتني بك وأن لا توليه أيّ اهتمام.
1ـ لا تطلب الصفاء ممّن كَدّرت عليه: طبع هذا الإنسان أن يبادل الإساءة بالإساءة، نعم يجب على الإنسان أن يتغلّب على هذا الطبع بأن يسعى للتخلّق بخلق العفو عمّن ظلمه والتجاوز عن الإساءة، ولكن هذا لا يرفع عنه الظلم الذي يتعرّض له، والأذى الذي يلحق به.
ليس من حقّك أن تطلب ممّن أسأت له ماديّاً أو معنويّاً أن يبادل إساءتك بالإحسان، وأن تلومه إن لم يحسن إليك، أو إن أعرض عنك، فأنت لم تكن معه كما تريده أن يكون معك.
إذاً لك الحقّ في أن تطلب من الآخرين ما تعطيهم، لا أن تمنعهم الشيء ثمّ تطالبهم بمثله.
2ـ ولا الوفاء ممّن غدرت به : الغدر صفة الخائن العاجز، الذي لا يجد وسيلة للوصول إلى مآربه إلّا من خلال الخيانة، ولذا كان الغدر صفة اللئام بل وأقبح الخيانة، كما ورد وصف الأئمّة له بذلك.
وهنا يشير الإمام عليه السلامإلى أنّ الشخص الذي يلجأ إلى الغدر ليس له أن يتوقّع من الآخرين الوفاء له، وهذا لا يعني
141
123
الليلة الخامسة
إطلاقاً أنّ الإمام عليه السلاميحثّ الآخرين على الغدر، أو يشجّعهم عليه، أو يبرّر لهم ذلك، لأنّ الغدر قبيح سواء صدر إبتداءاً أو كردّة فعل، ولكن عادة النّاس أن تبادل من يغدر بعدم الوفاء.
إنّ الذي يقع في الغدر هو الذي يفتح الباب أمام مبادلة الآخرين له بذلك، فعليه أن يلوم نفسه، وأن يعلم عاقبة فعله، فإنّه إن صدر الغدر منه اليوم قد يقع الغدر عليه في الغد.
3ـ ولا النصح فيمن صرفت سوء ظنّك إليه : مهما بلغ الإنسان من الكمال العلميّ ومن التجربة الحياتيّة فإنّه لا يستغني عن نصيحة من حوله، إذ قد تخفى عليه بعض الأمور فيتّخذ القرار غير الصائب، بل ما هو متعارف في زماننا من جعل الحكّام وأصحاب المناصب العليا مستشارين حولهم إنّما هو للاستنصاح منهم، فليست النصيحة عيباً يجب أن يتجنّبه الإنسان، بل هو أمر ممدوح حثّت عليه روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وحثّت على الاستماع إلى النصيحة والقبول بها، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "طوبى لمن أطاع ناصحاً يهديه، وتجنّب غاوياً يُرديه".
ولكن عندما تطلب النصيحة من أحد فعليك أن تحسن اختيار من تطلب نصيحته، فكما لا ينبغي أن تختار من لا يكون حاسداً لأنّ الحاسد لا يريد لك الخير، بل يتمنّى
إطلاقاً أنّ الإمام عليه السلاميحثّ الآخرين على الغدر، أو يشجّعهم عليه، أو يبرّر لهم ذلك، لأنّ الغدر قبيح سواء صدر إبتداءاً أو كردّة فعل، ولكن عادة النّاس أن تبادل من يغدر بعدم الوفاء.
إنّ الذي يقع في الغدر هو الذي يفتح الباب أمام مبادلة الآخرين له بذلك، فعليه أن يلوم نفسه، وأن يعلم عاقبة فعله، فإنّه إن صدر الغدر منه اليوم قد يقع الغدر عليه في الغد.
3ـ ولا النصح فيمن صرفت سوء ظنّك إليه : مهما بلغ الإنسان من الكمال العلميّ ومن التجربة الحياتيّة فإنّه لا يستغني عن نصيحة من حوله، إذ قد تخفى عليه بعض الأمور فيتّخذ القرار غير الصائب، بل ما هو متعارف في زماننا من جعل الحكّام وأصحاب المناصب العليا مستشارين حولهم إنّما هو للاستنصاح منهم، فليست النصيحة عيباً يجب أن يتجنّبه الإنسان، بل هو أمر ممدوح حثّت عليه روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وحثّت على الاستماع إلى النصيحة والقبول بها، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "طوبى لمن أطاع ناصحاً يهديه، وتجنّب غاوياً يُرديه".
ولكن عندما تطلب النصيحة من أحد فعليك أن تحسن اختيار من تطلب نصيحته، فكما لا ينبغي أن تختار من لا يكون حاسداً لأنّ الحاسد لا يريد لك الخير، بل يتمنّى
124
الليلة الخامسة
النّعمة له دونك، وكما لا تطلب النصيحة من الجاهل لأنّه يرديك وهو لا يدري، فكذلك لا تطلب النصيحة من شخص لديك سوء ظنّ به، في كونه يريد الخير لك أو لا يريده.
حقّ الناصح
إنّ للناصح حقوقاً على المستنصح لا ينبغي أن يتجاوزها وقد وردت في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلامقال: "حقّ الناصح أن تلين له جناحك، وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب، حمدت الله عزَّ وجلّ، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتّهمه وعلمت أنّه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك"، فالناصح قد يصيب وقد يخطئ وليس لك أن تتّهمه بشيء إذا أخطأ فتظنّ أنّه لا يريد لك الخير، أو أنّه غشّك في نصيحته لك.
وكثيراً ما يحصل من الإنسان إساءة الظنّ بالناصح إذا لم تكن النصيحة موافقة لهواه أو كانت مخالفة لرغباته، فيتّجه تبريراً لمخالفة النصيحة بأنّ هذا الشخص لا يريد الخير لي، وقد حذّرت الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام من ذلك حيث يقول عليه السلام: "اتّبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاش".
125
الليلة الخامسة
ولذا ورد أيضا عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حثّ الناصح أن يصدق في نصيحته وأن لا يرى حَرَجاً في أن يكون صريحاً في نصيحته وإن خالفت رغبة طالب النصيحة فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش".
خاتمة: القاعدة العامّة: قلب غيرك لك كقلبك له
كما أنّ معاملة النّاس مع بعضهم بعضاً تعتمد المقابلة بالمثل، كذلك القلوب، فإنّها تقبل بالمحبّة لمن أحبّها، وتبتعد مبغضة أو بغير اهتمام ممّن أبغضها أو لم يهتمّ بها.
فالمودّة بين الناس تعرف بما تضمره قلوبهم لبعضها بعضاً، وقد ورد عن صالح بن حكم: سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله عليه السلام فقال: الرجل يقول: إنّي أودّك فكيف أعلم أنّه يودّني؟
فقال عليه السلام: "امتحن قلبك فإن كنت تودّه فإنّه يودّك".
وفي رواية أخرى عن عبيد الله بن إسحاق المدائنيّ: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: إنّ الرجل من عرض النّاس يلقاني فيحلف بالله أنّه يحبّني فأحلف بالله إنّه لصادق؟ فقال عليه السلام: "امتحن قلبك فإن كنت تحبّه فاحلف وإلّا فلا".
126
الليلة السادسة
المحاضرة الأولى: إنّي أحبّ الصلاة
الهدف:
الحثّ على الصلاة وبناء العلاقة الجيّدة معها.
تصدير الموضوع:
الإمام الحسين عليه السلام: "... فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له...".
128
الليلة السادسة
مقدّمة: عروج قبل العروج:
في ما حكى الرواة عن مجريات الثورة الحسينيّة تلك العلاقة الرائعة للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته بالصلاة من ذلك أنّه عليه السلام بعث أخاه العبّاس ليفاوض الأعداء ليمهلوه وصحبه ليلة العاشر ويؤخّروا الحرب إلى صبيحتها قائلاً له: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي كنت قد أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار".
فالحسين عليه السلام لم يطلب تلك المهلة الليلة ليرقد وصحبه في الفراش وليخلدوا إلى الراحة استعداداً للقتال, وهذا مبرّر ومفهوم, وإنّما الملفت والذي يثير العجب أنّهم إنّما طلبوا الهدنة والمهلة لأمر آخر وهو التعبّد لله تعالى. فكأنّه عليه السلام وصحبه أرادوا أن لا يذهبوا ليلاقوا الله تعالى في ساحات الجهاد والقتال إلّا وقد وسموا جوارحهم بآثار الركوع والسجود لله تعالى، وأذاقوا قلوبهم رحيق العبوديّة لله ولتكن آثار ذلك الرحيق المختومة بها حياتهم نوراً على الشفاه والألسن وطيباً تعبق بها الأنفاس من حمأة المنازلة مع الأعداء، أراد الحسين عليه السلام وصحبه أن يكون الليل مركبهم يعرجون فيه عبر براق الصلاة والعبادة إلى
129
الليلة السادسة
مقامات القرب قبل العروج بالشهادة أو ليست "الصلاة قربان كلّ تقيّ"، وكذلك أليست "الصلاة معراج المؤمن".
ولذا فقد وصف الرواة حال معسكر الحسين عليه السلام تلك الليلة قائلين: "وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد".
محاور الموضوع
الصلاة رأس مال الحياة الآخرة:
لقد جاء في المرويّات: "الصلاة عمود الدّين" فكأنّ الدّين بناء له أساس وله أعمدة تقوم بعمله ليرتفع ويأخذ شكله وينتج نتائجه والصلاة هي بمثابة الأعمدة التي تحمل الدّين ليرتفع بنيانه، فمن لا يصلّي أو يصلّي صلاة فاقدة لشرائط الصحّة والقبول لا ينهض له بنيان دين فهو كمن لا دين له ولذا ورد: "ما بين الكفر والإيمان إلّا ترك الصلاة".
130
الليلة السادسة
والأخطر من ذلك أنّ من لا دين له كيف يمكن أن يقبل له عمل، ولا عجب حينها أن تكون تتمّة الرواية: "إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها"، فأوّل ما ينظر إليه هو الصلاة, فإن كان العبد مصليّاً صلاة مقبولة كانت مفتاحاً لتصبغ باقي الأعمال بصبغة القبول والعكس صحيح.
فإذا كان رأس مال الإنسان في الدار الآخرة وزادها هو العمل الصالح بعد الإيمان فإنّ هذا العمل الصالح موقوف قبوله ومؤثّريّته في تلك الحياة على أن يأخذ أسباب ذلك في الصلاة المقبولة. فمهما كان العمل صالحاً يحتاج إلى أن تهبه الصلاة الحياة في الدار الموصوفة بالقرآن: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾.
العناية بالصلاة:
إذا كانت الصلاة عمود الدّين وواهبة الحياة لأعمالنا أو لا أقلّ جواز عبور ووصول تلك الأعمال إلى محلّ نظر الله ورضاه وقبوله، فلا يوجد شيء يستحقّ منّا أن نعتني به ونجعل له الأولويّة بعد المعرفة أهمّ وأولى من الصلاة.
وللعناية بالصلاة مظاهر ومراتب، منها أن نعتني بمقدّماتها وشرائطها من طهارة وغيرها.
131
الليلة السادسة
ومن أجلّ تلك المظاهر العناية بأوقات الصلاة، ذلك أنّ العناية بأوقات الصلوات كاشف عن قيمة الصلاة عندنا، وله أثر هو تقوية هذه الرابطة مع الصلاة، ولذا فإنّ معنى العناية بأوقات الصلاة أنّه لا تقدّم عليها غيرها في وقتها، بل نعمل على أن نفرّغ ذلك الوقت للصلاة.
ومن دروس عاشوراء هذه الرواية: "فلم يزل يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان، فيبين ذلك فيهم لقلّتهم، ويقتل من أصحاب عمر العشرة، فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم... فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداويّ قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله!... نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك، وأحبّ أن ألقى الله ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة... فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: "ذكرت الصلاة, جعلك الله من المصلّين! نعم إنّ هذا أوّل وقتها". ثمّ قال: "سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي...".
فهذه الرواية كأنّها تقول إنّ مستوى عناية أصحاب الحسين عليه السلام بالصلاة وخصوصاً بالصلاة في أوّل وقتها بلغ إلى درجة أنّهم رغم ما هم فيه من حرب وقتال لا ينسون أن يراقبوا الشمس وموقعها من السماء لمعرفة وقت الزوال. وهذا كافٍ لنا لنتأسّى بهؤلاء العظماء.
132
الليلة السادسة
خاتمة: بناء العلاقة بالصلاة:
إنّ العناية بالصلاة في الوقت والطهارة جزء من ما هو مطلوب لبناء العلاقة بالصلاة، فمن طرق بناء العلاقة بالصلاة ليس فقط تفريغ الوقت وإنّما أيضاً تفريغ القلب, وهو أن نصرف عن قلوبنا كلّ هم وكلّ شاغل يشغلنا عن الخشوع بين يدي الله وأن نزيل كلّ مانع يشوّش علينا لحظات الأنس بالله في الصلاة.
وعلينا أن نرتقي بالعلاقة مع الصلاة من كونها فرضاً وواجباً وتكليفاً نريد أن ننزله عن كواهلنا إلى لحظة ننتظرها بشوق لأنّ فيها راحة نفوسنا كما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله لبلال آمراً له بالأذان: "أرحنا يا بلال".
نعم علينا أن نصل إلى مرحلة تكون راحتنا بالصلاة، لا أن تكون راحتنا من الصلاة بإسقاط الواجب وأداء التكليف.
ولذا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام يعبّر عن هذه العلاقة بأنّها علاقة وصلت إلى مستوى الحبّ ولذا قال عليه السلام: "فهو يعلم أنّي كنت قد أحبّ الصلاة له...".
133
الليلة السادسة
المحاضرة الثانية: لا تقاعد في الجهاد
الهدف:
بيان أنّ التكليف بالجهاد لا يختصّ بسنّ دون سنّ وأنّ العمل في سبيل الله لا تقاعد منه, والحثّ على العمل لله والمشاركة الجهاديّة وعدم التعلّل بالأعذار.
تصدير الموضوع:
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾
134
الليلة السادسة
مقدّمة: مجاهدون متقاعدون:
في التاريخ الإسلاميّ والإنسانيّ نماذج مختلفة ممّن عملوا في هذه الدنيا ومن المؤمنين وبالأخصّ من المجاهدين، وفي واقعنا الذي نعيشه أمثلة ونماذج تشبهها, فنرى الكثير من النّاس المؤمنين الذين يحملون هم الدّين وهموم الأمّة والنّاس، قضوا أعمارهم في ميادين العمل ولم يتركوا ساحات العمل والجهاد وقد بلغوا الغاية من العمر ومع ذلك لم ينسحبوا من ساحات العمل والجهاد, فيما نرى آخرين على العكس منهم كأنّهم لمّا بلغوا مبلغ الشيوخ والكهول من العمر وامتلأت الرؤوس شيباً ودبّ الوهن في المفاصل انسحبوا من ميادين الجهاد والعمل في سبيل الله معتزلين المجتمع ومكتفين في أحسن أحوالهم بارتياد المساجد والمشاركة في بعض المناسبات الاجتماعيّة كالتعازي والوفيات. كأنّهم يقولون إنّنا قد أدّينا ما علينا وآن لنا أن نرتاح, ولعلّ الكثيرين منّا يظنّون أنّ هؤلاء قد بلغوا العذر بذلك.
وهناك صنف في الجهة الأشدّ ظلمة وهم الذين يتنكّرون لتاريخهم الجهاديّ والإيمانيّ، حتّى قبل زمان المشيب، حيث إنّه عندما تتاح له فرصة الحصول على بعض الحظوظ من الدنيا الفانية في مالها وجاهها وعزّها يستقيل وينكبّ على الدنيا معتبراً أنّه قد قام بما عليه وأعطى الجهاد جزءاً من عمره، وأعطى الدّين والعقيدة والأمّة ما تيسّر من همّته وحماسه وحرقته على الدّين
154
135
الليلة السادسة
وأهله وجاء الوقت الذي عليه أن يحصل فيه نصيبه من الدنيا ولا يلتفت إلى غيرها. فهؤلاء ومن قبلهم يعتبرون أنّهم قد بلغوا سنّ التقاعد في الجهاد والعمل الإسلاميّ.
محاور الموضوع
هل للمجاهد تقاعد:
سؤال لا بدّ من الإجابة عليه بداية بالقول: إنّه لا تقاعد في الجهاد وفي العمل لله, كما لا تقاعد في كلّ واجبات وتكاليف الإسلام، فما دامت شرائط التكليف موجودة ومحرزة عند المسلم والمؤمن يبقى مكلّفاً ولا يسقط عنه التكليف, ولا يخرج الإنسان عن ذلك إلّا بفقد هذه الشرائط وإلّا فإلى الممات.
نعم هناك بعض الأعمال والتكاليف بطبيعتها لها مراتب ودرجات قد يقدر المكلف بحسب قوّاه على بعض مراتبها دون البعض الآخر. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والعمل في الجوانب الاجتماعيّة وحتّى بعض المستحبّات والواجبات, إذ أحياناً قد تختلف المسألة باختلاف الكيفيّات فقد يقدر المكلّف على كيفيّة ما دون كيفيّة أخرى كالصلاة في بعض أوضاعها جلوساً أو غير ذلك.
155
136
الليلة السادسة
وفي الجهاد والعمل لله مطلقاً وفي شتّى الميادين ومع توسّع دوائر العمل ومناحي الحياة وتشعّبها لن ينعدم الإنسان الذي يحمل بصدق هم دينه وأمّته أن يجد له موقعاً يناسب قدراته وكفاءاته ليكون ذلك بمثابة سدّه لثغر من الثغور. فما لم نكن قادرين بسبب الشيخوخة أو غيرها على مكابدة مشاقّ الجهاد العسكريّ، فإنّ لنا مواقع في المواجهة الإعلاميّة والثقافيّة، وفي تعبئة الطاقات والدعم المعنويّ وتقوية الجبهة الداخليّة من خلال المتاح من وسائل التواصل الواسعة الإنتشار وبناء على القاعدة الشرعيّة: "لا يسقط الميسور بالمعسور".
فلا يسقط ميسور العمل والجهاد بمعسوره، وبالتالي فما دام يمكن للإنسان أن يجد له موقعاً في المواجهة عليه أن لا يحرم نفسه هذا الشرف بادّعاء الهرم أو العجز لأنّه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "العجز آفّة".
نعم العجز مرض نفسيّ قبل أن يكون حقيقة، وبمعنى آخر إنّ ما هو أصعب من الإعاقة الجسديّة هو الإعاقة النفسيّة التي تدفع الإنسان إلى التعلّل بأيّ الأسباب لتستقيل من مسؤوليّاتها وتهرب من واجباتها وتحلّل من التزاماتها.
137
الليلة السادسة
مجاهدون لم يتقاعدوا:
هناك نماذج تشدّ القلب والعين بالصورة الرائعة رسمتها للأجيال في ميادين الجهاد والقتال، ونقول بحقّ إنّ صفحات التاريخ قد تشرّفت بالتزيّن بسير هؤلاء الذين باعوا وجودهم لله في الأماكن التي جعلها الله سوقاً يشتري بها نفوسهم وأعاروا جماجمهم لله وكانت حياتهم حقّاً وصدقاً وعملاً وقفاً على دين الله، ومن هذه النماذج:
1- نموذج عمّار بن ياسر:
هو صحابيّ من أوائل المسلمين إسلاماً وقد شهد لإيمانه العميق رسول الله بأنّه قد ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، وعانى في سبيل الله وقدّم التضحيات الجسام، فقد عُذّب وأبويه من المشركين المكيّين في مطلع الدعوة الإسلاميّة حتّى شهد وأمام عينيه شهادة أمّه سميّة أوّل شهيدة في الإسلام, وكذلك شهادة أبيه ياسر الذين بشّرهم رسول الله بثمرة تحمّلهم ومعاناتهم قائلاً: "صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة".
ومع كون عمّار تشمله البشارة هذه إلّا أنّه واصل حياته جهاداً في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده لم يتراجع بل واصل جهاده في أصعب المراحل وأشدّها بلسانه وكذلك بيده.
138
الليلة السادسة
وبعد أن بلغ من العمر ما تجاوز الثالثة والتسعين من السنين، شدّ رحال الجهاد مع أمير المؤمنين قاطعاً الصحارى والوديان والجبال ليلاقي الفئة الباغية في صفّين وليستشهد مقاتلاً مع إمام الحقّ ولتكون شهادته بعد جهاده شاهداً للحقّ وأهل تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عمّار, تقتلك الفئة الباغية".
2- نماذج كربلائيّة:
وفي كربلاء ثمّة مجموعة من النماذج التي لا تقلّ شأناً عن عمّار من الذين استشهدوا بين يدي الإمام الحسين عليه السلام ومنهم حبيب بن مظاهر الأسديّ، وعبد الله بن عبد ربّه الأنصاريّ، ومسلم بن عوسجة الأسديّ... وغيرهم ومن أبرز هؤلاء أنس بن الحارث الأسديّ الذي كان كعمّار من البدريّين وقد عاش مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسمع حديثه، وقد وصفت كتب المقاتل هيئته عند خروجه للحرب: وبرز رافعاً حاجبيه بالعصابة، شادّاً وسطه بالعمامة، شاهراً سيفه، وهو يندفع نحو القوم بكلّ صلابة وبصيرة وإيمان, فلمّا رآه الحسين عليه السلام بكى وقال: "شكر الله لك يا شيخ" وقاتل حتّى قتل ثمانية عشر رجلاً ثمّ قُتل.
139
الليلة السادسة
خاتمة: الدور لا عن العذر:
إنّ على المؤمن أن يكون في حالة حذر من وساوس الشيطان، وتسويلات النفس الأمّارة الذين يعملان على تثبيطنا عن الجهاد والعمل لله ويغريان فينا الرغبة في الراحة والدّعة والسلامة.
فعلينا أن نكون على يقين بأنّ الإنسان في حالة جهاد وعمل دائم طالما هو في الدنيا, والدنيا هي ظرف ومكان وزمان العمل لا زمن الراحة والقعود, ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.
لكن لا بدّ من الالتفات إلى أمر مهمّ وهو أن لا تأخذنا الحماسة لندفع بالعمل عشوائيّاً بل علينا أن نعمل إلى المحافظة على كون أعمالنا وجهودنا تصبّ في الوجهة الصحيحة والمكان الصحيح وهذا يعني أن نلجأ إلى الجهات الشرعيّة المخوّلة بهذه الأعمال منعاً من ضياع الجهود والفوضى. لأنّ العمل المنتج والمثمر هو العمل المنظّم في منظومة الولاية.
وأخيراً ليكن همّ أحدنا أن يبحث عن دوره وموقعه في ساحات الجهاد والعمل لا أن يكون الهمّ هو البحث عن العذر للانسحاب والانكفاء.
140
الليلة السادسة
المحاضرة الثالثة: الحقد الأم العيوب
الهدف:
التنبيه إلى خطورة الحقد على الفرد في الدنيا والآخرة وكذلك على المجتمع, وضرورة الخلاص من هذه الآفّة.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "حقد المؤمن مقامه، ثمّ يفارق أخاه فلا يجد عليه شيئاً، وحقد الكافر دهره".
141
الليلة السادسة
مقدّمة
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "الحقد ألأم العيوب" وكذلك قوله عليه السلام: "ألأم الخُلُق الحقد".
فالحقد كما عرّفه بعض العلماء هو إضمار العداوة في القلب ومعناه كذلك الضغينة.
وإنّما كان الأم العيوب والأم الخُلُق لأنّ فيه إضماراً لنيّة السوء تجاه المحقود عليه والتربّص به لأجل النيل منه وإيذائه فيما لو أمكنت الفرص. فهو عداوة باطنة تنطوي على نيّة غدر، بل ربّما تنطوي على صفات السباع والوحوش الذين يتربّصون بالحيوانات انتظاراً للحظة افتراسها وهل بعد هذا اللؤم من لؤم.
لذا فقد تتحوّل هذه العداوة الباطنة إلى عداوة ظاهرة عندما يضعف المحقود عليه أو يقوى الحاقد.
محاور الموضوع
أصل الحقد ومنشؤه:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحقد مَثَارُ الغضب". يقول صاحب كتاب جامع السعادات العلّامة النراقي: "وهو (أي
142
الليلة السادسة
الحقد) من ثمرة الغضب لأنّ الغضب إذا لزم كظمه لعجزٍ عن التشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً وهو من المهلكات العظيمة".
إذن فسبب الحقد هو الغضب الذي لا يقدر الإنسان على أن يشفيه، فيعتمل داخل القلب ليصبح حقداً، ولذا فكما أنّ الروايات عبّرت عن الغضب بأنّه نار، كذلك عبرت عن الحقد بأنّه نار فعن الإمام عليّ عليه السلام: "الحقد نار لا تطفأ إلّا بالظفر".
وهذا يشير إلى أن الحقود لا يذهب حقده ما لم يشفِ غليله وغيظه بالنيل من مبغوضه ومحقوده.
من همّ الذين يحقدون؟:
من خلال ما سبق يتبيّن أنّ هناك علاقة بين آفّتين هما الحقد والغضب ويمكن تصوّر كونهما يتبادلان التأثير, فيغذي أحدهما الآخر، وعليه فإنّ كلّ سبب يمكن تصوّره للغضب هو بنفسه سبب للحقد، لأنّ الإنسان إذا تعرّض لما يغضبه فإمّا أن يستطيع إنفاذ غضبه، أو لا يستطيع لمانع ما فيحقد مؤجّلاً شفاء غيظه إلى حين التمكّن.
وبالتالي فكلّما تمكّنت أسباب الغضب من إنسان تمكّنت منه أسباب الحقد.
143
الليلة السادسة
ويمكن القول أنّه كلّما قلَّ الرادع الدينيّ والأخلاقيّ عند الإنسان كلّما كان أقرب إلى أن يكون حقوداً وهل يعني ذلك سوى كونه شرّيراً وسلاحه الحقد فعن عليّ عليه السلام: "سلاح الشرّ الحقد".
آثار الحقد:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "رأس العيوب الحقد". وهذه الرواية تدلّ على أنّ الحقد يأتي في رأس قائمة العيوب.
أو أنّ الحقد يلزم عنه كثير من العيوب. وقد ذكر علماء الأخلاق أنّ الحقد يلزمه الكثير من الآفات مثل الحسد فعنه عليه السلام: "الحقد شيمة الحسدة", والفتن كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "سبب الفتن الحقد" وربّما ينقطع الحاقد عن صلة المحقود فلا يزوره ولا يكلّمه ويهجره، وربّما يؤذيه بالضرب أو بالكلام الجارح أو بالشتيمة، أو يستحلّ منه المحارم كأن يعقد المجالس لغيبته فيهتك ستره ويفشي سرّه ويظهر ما اطلع عليه من عيوبه وينشرها... وقد يصل حدّ الشماتة بما يصيبه من بلاء ويغتبط ويُسرّ لذلك، وربّما يعمل على تحقيره وإهانته والاستهزاء به
144
الليلة السادسة
والتعالي عليه... وإذا كان للمحقود على الحاقد حقوق أنكرها أو منعها أو عطّل حصوله عليها...
ولو سلم من كلّ هذه الآفات فلم يتورّط بأيّ محرّم تجاه المحقود لكان كافياً أنّه في قلبه لا ينتهي عن بغضه واستثقاله.
وهذا بحدّ ذاته يُوجِد ظلمة في القلب مانعة من استفادة الإنسان من كثير من الأمور المعنويّة والعباديّة. طارداً لها ليستتم الظلام هيمنته على صفحة القلب فلا يلتذّ بلذّة. لذا فإنّ الحقد بحدّ ذاته عذاب للحاقد قال الإمام عليّ عليه السلام: "الحقود معذّب النفس متضاعف الهمّ" وكذلك روي عن الإمام العسكريّ عليه السلام: "أقلّ الناس راحة الحقود" وإذا استفحل الحقد في قلب إنسان يسلخه من إنسانيّته فلا يحمل من مشاعرها شيئاً لأنّ الحقد قد أكلها فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ليس لحقودٍ إخوة".
وعنه أيضاً عليه السلام: "لا مودّة لحقود".
كيف تطرد الحقد:
إنّ علاج آفّة الحقد التي ورد فيها قول أمير المؤمنين عليه السلام:
145
الليلة السادسة
"طهّروا قلوبكم من الحقد فإنّه مرض موبئ".
لأنّ الحقد وباء يفتك بإنسانيّة الإنسان ولأنّه كذلك فعلاجه أوّلاً يكون:
1- بالاستعانة بالله: قال تعالى في كتابه الكريم حكاية عن دعاء الصالحين: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
2- العتاب: عن الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام: "العتاب خير من الحقد".
فالذي يلاقي من أخيه الإنسان تصرّفاً يجرحه أو يؤذيه الأفضل له أن يعاتب بدل أن يخبّئ الأمر في نفسه.
لكن لا بدّ في العتاب من أن يكون باقتصاد وأن لا يزيد عن الحدّ حتّى لا يؤدّي إلى عكسه فيورث الحقد عند الطرف الآخر فقد قال الإمام عليّ عليه السلام: "احمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة".
3- لا تعاشر حقوداً: ذلك أنّ الحقد قد يكون مرضاً مُعدياً فلا تؤاخي ولا تصادق حقوداً عن الإمام عليّ عليه السلام: "بئس العشير الحقود".
146
الليلة السادسة
4- التبسّم والبشاشة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسن البشر يذهب بالسخيمة".
5- المواساة في الشدائد: إنّ وقوف الإنسان مواسياً ومساعداً لأخيه في الشدائد والمصائب يؤدّي إلى ذهاب الأحقاد من كلا الطرفين ولذا قال عليّ عليه السلام: "عند الشدائد تذهب الأحقاد".
خاتمة: إملأ صدرك خيراً لغيرك:
عن عليّ عليه السلام أنّه قال: "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك" فعلى الإنسان أن يضمر الخير كلّ الخير للآخرين لأنّه على حدّ ما عبّرت الروايات، الآخرون لنا كما نحن لهم أي إذا أردنا أن نعرف مشاعر الآخرين اتجاهنا علينا أن ننظر إلى قلوبنا لنرى حقيقة مشاعرنا اتجاههم. هذا من جهة ومن جهة أخرى عندما يعالج الإنسان نفسه بعدم إضمار الشرّ والبغض والعداوة للآخرين سيعلمهم بسلوكه العمليّ أن لا يحقدوا بل أن يحملوا كلّ المشاعر النبيلة اتجاه بعضهم بعضا.
147
الليلة السابعة
المحاضرة الأولى: مع المجاهدين
الهدف:
بيان حقوق المجاهدين على الأمّة والحثّ على أدائها.
تصدير الموضوع:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
149
الليلة السابعة
مقدّمة: ضرورة معرفة فضل الجهاد والمجاهدين وتقدير عطاءاتهم:
من أهمّ من لهم في أعناقنا حقوق ولهم علينا الفضل الكثير، أهل الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، الذين ببركة عرقهم ودمائهم وعزمهم نعيش العزّة والمنعة والأمان, ولنا هذه المهابة في صدور الأعداء، وإنّ من أوجب الواجبات اتّجاههم أن نعرف فضلهم ونقدّر جهودهم بل نقدّسها ونقدّس ذلك العرق وتلك الدماء بل تلك الأنفاس التي كانت لهم في مواطن القتال وسوح المواجهات.
فإذا كان الله كما عبّر في كتابه الكريم:
﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ...﴾, فإنّ ذلك يعني أن ينعكس هذا التفضيل الإلهيّ والتنويهات الإلهيّة بالمجاهدين وجهادهم علينا لنتأسّى بهم, فإنّ هذا ممّا يدعونا إلى أن نقدّر جهودهم ونقرّ بفضلهم ونحترمهم وننوّه بهم وبعطاءاتهم, ألا نفهم الثناء على المجاهدين من قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
وكذلك قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى
150
الليلة السابعة
نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وغير ذلك من الآيات لا يتّسع المقام لذكرها كلّها، ولا بدّ من معرفة حقوق المجاهدين علينا لإيفائهم شيئاً من الجميل الذي نؤمن أنّنا مهما بذلنا لهم لا يمكن أن يساوي قطرة من دماء مجاهد وهو يدافع عن الأمّة وعزّتها وشرفها ودينها والمقدّسات.
محاور الموضوع
ومن هذه الحقوق:
1- إعانتهم بالمال وتجهيزهم:
والمقصود هو تقديم العون الماليّ لهم تارة للاستعانة به على تكاليف وأعباء الجهاد ومؤنه، كما جاء عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أعان غازياً بدرهم فله أجر سبعين دراً من درر الجنّة وياقوتها ليست منها حبّة إلّا وهي أفضل من الدنيا".
فمسؤوليّة القادرين حالياً دعم الجهاد والمجاهدين بالمال وقد رغّب الله أبناء الأمّة بذلك فجعل إنفاق المال في طرق الجهاد نوعاً من الجهاد وقرنه بالجهاد بالنفس حيث قال من جملة ذلك: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾.
151
الليلة السابعة
ومدح المجاهدين بالأنفس والأموال.
ومن وجوه ذلك التجهيز أي أن نقدّم ونؤمّن للمجاهدين من الأعتدة والحاجيّات الهامّة في أداء مهامهم الجهاديّة من أدنى الأشياء إلى أعلاها فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهّز غازياً بسلك أو إبرة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر".
وكذلك ورد أنّه من جهز غازياً فقد غزا.
2- إعانة المجاهدين بالمعلومات وحفظ الأسرار:
وذلك أنّه قد يحصل أحياناً أن تصل معلومة ما إلينا فعلينا أن لا ننشرها ونذيعها، بل علينا أن نحملها ونوصلها إلى ذوي الاختصاص القادرين على تحليلها ومعرفة ما يختبئ خلفها من أسرار قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
إضافة إلى حفظ وكتمان أسرار المجاهدين فمن يطّلع على سرّ من أسرار المجاهدين لا يحقّ له ولا يجوز له أن يحدّث به وينشره فلو فعل فإن تسبّب ذلك بخسائر في العتاد أو الأرواح سيكون بلا شكّ مذيع السرّ شريكاً في الدم المراق والخسائر الناتجة عن ذلك.
152
الليلة السابعة
3- الحفاظ على الروح المعنويّة:
ونقصد بها ما يتعلّق بالأمّة وذلك من خلال نشر الإشاعات والتهويل على النّاس وتخويفهم وهذا ما يجب أن يستفاد من الآية السابقة، ذلك لشدّة الارتباط بين المجاهدين ومجتمعهم, فكلّما كان المجتمع يعيش حالة الاضطراب والخوف سيكون أقلّ قدرة على تحمّل تبعات الجهاد والحرب وهذا ما ربّما يؤثّر في وحدته خلف المجاهدين وبالتالي سيؤثّر ذلك في معنويّات المجاهدين وكذلك ما له علاقة بالمجاهدين مباشرة, وقد نهى الله تعالى عن تخويف المجاهدين من القتل والإرجاف، وتثبيطهم، وتشكيكهم إمّا بالأجر أو بإمكان الانتصار أو بمشروعيّة وحقّانيّة جهادهم بل على العكس من ذلك فقد أمرنا أن ندعوا للمجاهدين في وجوههم لما لذلك من أثر معنويّ كما ورد في دعاء أهل الثغور: "اللهمّ وأيّما مسلم... أو اتبعه في وجهه دعوة... فأجر له مثل أجره وزناً بوزن ومثلاً بمثل...".
ومن ذلك بيان الرضا بهم وبعملهم كما ربّما يوصي إلى المجاهدين بذلك عبر حسن الاستقبال لهم كما جاء في الحديث الشريف: "من قال لغازٍ مرحباً وأهلاً... حيّاه الله يوم القيامة واستقبلته الملائكة بالترحيب والتسليم".
153
الليلة السابعة
ومن الدعم المعنويّ تشجيعه على العمل الجهاديّ وتقوية همّته ورغبته وحماسته لذلك.
4- الاهتمام بعوائلهم في غيابهم:
وقد جاء في دعاء أهل الثغور: "اللهمّ وأيّما مسلم خلف غازياً أو مرابطاً في داره، أو تعهّد خالفيه في غيبته أو أعانه (لطائفة) بطائفة من ما له...".
5- إيصال رسالة المجاهدين:
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "من بلّغ رسالة غازٍ كان كمن أعتق رقبة وهو شريكه في ثواب غزوته".
من المحتمل أن يكون المقصود نتيجة كون المسلمين الأوائل ونتيجة ضعف وبطئ وسائل الاتصال وكون مواطن الجهاد والثغور بعيدة جدّاً عن الأوطان فإنّهم يحتاجون إلى من يوصل رسائلهم إلى عوائلهم.
وربّما يستفيد البعض منها هو إيصال رسالة الجهاد أي ما يشمل العمل الإعلاميّ بالانتصار للمجاهدين والعمل إعلاميّاً على بيان حقّانيّة قضاياهم ومواكبة جهادهم وإذاعة أنباء انتصاراتهم وغير ذلك.
154
الليلة السابعة
6- الدعاء لهم:
حيث نجد ما أثر عن النبيّ وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم من أدعية في حقّ المجاهدين ومن تلك الأدعية الدعاء الوارد في الصحيفة السجّاديّة بعنوان دعاء أهل الثغور.
فمن المفروغ منه مطلوبيّة الدعاء للمجاهدين، واستحبابه لما لذلك من بركات على الداعين وعلى المدعوّ لهم.
وإذا سألنا بماذا ندعو للمجاهدين نقول إنّ الوارد في دعاء أهل الثغور لم يترك ناحية لها علاقة بالمجاهدين، من توفّر المؤن إلى الصبر والثبات إلى الإخلاص في النيّة إلى التوفيق للنصر إلى الدعاء على الأعداء إلى غير ذلك الكثير.
إلّا أنّ أفضل الدعاء هو الدعاء بالمأثور وأرقى هذه الأدعية دعاء الإمام زين العابدين الموسوم بدعاء أهل الثغور.
خاتمة: المواكبة الشعوريّة للمجاهدين:
إنّ من أهمّ حقوق المجاهدين علينا أن لا ندّخر جهداً يصبّ في نجاح عملهم الجهاديّ ولكن من أهمّ ذلك هو أن نحمل همّهم ونهتمّ لأمرهم, ففي دعاء أهل الثغور نجد هذا بادياً من الاهتمام بعدّتهم وعديدهم، إلى مؤنهم إلى تأييدهم بالصبر والنصر إلى وحدة صفوفهم وحماية أمكنة وجودهم إلى الروح المعنويّة العالية من خلال جعل الله الجنّة نصب أعينهم، إلى غير لك ممّا يتعلّق بالعدوّ.
وهذا يوصلنا إلى القول إنّ ثمّة رسالة يؤدّيها إلينا ذلك كلّه
177
155
الليلة السابعة
إضافة إلى الاهتمام وحمل همّ الجهاد والمجاهدين، وهو هذا الاهتمام التفصيليّ بهم إلى درجة تصل إلى أنّنا نواكب حركتهم وأعمالهم وسكناتهم بمشاعرنا ومع خلجات قلوبنا.
178
156
الليلة السابعة
المحاضرة الثانية: الإسلام والإرهاب
الهدف:
بيان الفرق بين الجهاد والإرهاب, والردّ على دعوات الجهاد المنحرف.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"أما علمت أنّ إمارة بني أميّة كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمامتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقيّة ومن الخلطة والورع والاجتهاد".
157
الليلة السابعة
مقدّمة: معنى الإرهاب:
من الأمور التي يحمل لواءها الغرب وأمريكا ويشيعونها وهي وسم الإسلام بالإرهاب ويعضدهم في ذلك ممارسات بعض من ينتحلون الإسلام، وقد وصل بأولئك إلى درجة أنّهم يعملون على إقناع العالم بأنّ القرآن مملوء بآيات الجهاد ووجود مثل هذه الآيات هو بحدّ ذاته أمر إرهابيّ، وقد دعوا إلى الضغط على المسلمين من أجل حذف هذه الآيات من القرآن الكريم وإزالة شيء اسمه جهاد من الشريعة والفقه الإسلاميّ.
وإذا أردنا أن نفهم ما هو الإرهاب سنجد أنّ المجتمع الدوليّ لا يزال في حالة جدال كبير حول تحديد مفهوم الإرهاب وإلى الآن لم يرس على معنى يتّفق عليه.
والواضح في المعنى اللغويّ أنّ الإرهاب مساوق للرعب والخوف، والقيام بما يهيج الخوف والرعب ويدخلهما في النفوس، ففي المعنى اللغويّ الإرهاب ليس شيئاً مذموماً من جهة ومن هة أخرى لا يعني الإرهاب استخدام القوّة العسكريّة بشكل دائم، فقد لا يكون الإرهاب مذموماً إن كان استخداماً للقوّة من قبل المظلوم أو المضطهد لمواجهة الظالم والطاغية أو الجهات التي تظلمه وتسلبه حقوقه، وقد يكون للإرهاب من جهة أخرى وجوه غير العنف والقتال، كما قد يحصل بواسطة الإعلام، والحملات الإعلاميّة والحرب النفسيّة وحتّى في الجوانب الاقتصاديّة. وغيرها.
180
158
الليلة السابعة
محاور الموضوع
لماذا يُتّهم الإسلام بالإرهاب؟
إنّ من أسباب اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب جملة من الأمور منها الممارسات الخاطئة لبعض المسلمين للجهاد والفهم الخاطئ له الذي يصوّرونه بتصرّفاتهم مساوقاً ومساوياً للعنف والوحشيّة والإسراف في القتل, ومن الأسباب الدعاية الغربيّة النابعة من العداء للإسلام, والثالث الصهيونيّة التي تريد أن تغطّي على إرهابها باتهام وإشاعة وصف الإسلام والمسلمين بالإرهاب ولكي تبرّر إرهابها ضدّ الشعوب العربيّة لا سيّما الفلسطينيّين. ولعلّ حجّة البعض ورود اشتقاقات لكلمة إرهاب في بعض آيات القرآن كما في الأمر بإعداد القوّة ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
ولعلّ أحد أهمّ وأخطر أسباب إلباس الإسلام لبوس الإرهاب بمعناه السلبيّ وهو القتل والعنف والقسوة والوحشيّة هو ما سبق أن ذكرناه أوّلاً وهو الممارسات الخاطئة لبعض المسلمين ماضياً وحاضراً باسم الجهاد.
159
الليلة السابعة
الردّ على تهمة الإرهاب:
ولذلك يمكن لنا أن ندفع هذه التهمة الملصقة بالدّين الإسلاميّ بأمور منها:
1- الإسلام ينهى عن القتال العدوانيّ:
فبالرغم من وجود آيات كثيرة تحثّ على جهاد الكفّار والأعداء وقتالهم والغلظة في قتالهم إلّا أنّ هناك آية قرآنيّة شديدة الوضوح في النهي عن القتال عدواناً وبغياً على النّاس حيث قال عالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. فقد اعتبر بعض المفكّرين أنّ هذه الآية نصّ يقيّد باقي الآيات القرآنيّة التي دعت إلى القتال والجهاد, وإذا ضممنا إليها قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
في الآية الأولى صفة لمن أمر الله بقتالهم وهي كونهم من المقاتلين للمسلمين, وفي الثانية نفي النهي عن العلاقات السلميّة مع غير المقاتلين من غير المسلمين يتّضح تماماً ما أردناه من كون الإسلام ينهى عن القتال العدوانيّ بل إنّ أصل تشريع القتال في أوائل الآيات النازلة فيه وهي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
160
الليلة السابعة
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.
وافتتاح الآية بالإذن مع إيراد أسباب الإذن وعلّله وهو إخراجهم من ديارهم وقتالهم لتديّنهم دليل على أنّ تشريع القتال بما توحيه هذه الصيغة كأنّه إجراء استثنائيّ وليس إجراءً أوليّاً ابتدائيّاً.
2- الصفات القرآنيّة للمجاهدين:
جاء في رواية غاية في التعبير عن الصفات الحقيقيّة للمجاهدين عن الإمام السجّاد عليه السلام حينما كان متوجّهاً إلى الحجّ حيث التقى به عبّاد البصريّ فقال له: يا عليّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحجّ ولينه إنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. فقال له الإمام عليّ بن الحسين:
161
الليلة السابعة
"إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ".
فالإمام عليه السلام يقول بصراحة ووضوح إنّ للمجاهدين الممدوحين قرآنيّاً الذين يصحّ وصفهم بالمجاهدين لهم صفاتهم القرآنيّة ذكرتها الآية 112 من سورة التوبة بعضها لها علاقة بعبادتهم وأخرى بحفظ الحدود ومن جملة تلك الحدود حدود القتال وأحكامه وقد ذكرنا شيئاً منها والتي أجملناها بعدم كون القتال عدوانيّاً.
3- معنى كون النبيّ منصوراً بالرعب:
من جملة ما يتمسّك به البعض لاتهام الإسلام بالإرهاب أنّ هناك نصوصاً تشير إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نصر بالرعب، وربّما منهم بعض المسلمين من مدّعي الجهاد من هذا العصر أنّ عليهم أن يقوموا بما يدخل الرعب إلى نفوس الآخرين, ولذلك منهم قد ابتدعوا أو قلّ نبشوا تاريخ الجاهليّة والجاهليّين والشعوب المتوحّشة وأخذوا عنها كلّ عمل يمكن أن يثير الرعب وينشر الخوف إلّا أنّ المسألة لها بعد غيبيّ وهو أنّ الله أيّد رسوله في حالات المواجهات الحربيّة والعسكريّة بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه سواء عبر أمر الملائكة بذلك كما ورد في آيات القتال فيما يخصّ معركة بدر أو غيرها أو منه تعالى, فليس المقصود هو أن
162
الليلة السابعة
يبتكر الإنسان المسلم كلّ ألوان الوحشيّة في قتال الأعداء إذ أن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسها تكذّب ذلك.
4- معنى ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم:
وردت هذه العبارة في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
ربّما يأخذ البعض هذه الآية ليقول إنّ الإسلام يدعو إلى استخدام القوّة للإرهاب, والجواب أيضاً باختصار: هو أنّ لسان الآية هو أنّ إعداد القوّة هو إجراء وقائيّ له بعدان أحدها إيجاد الجهوزيّة عند أبناء الأمّة الإسلاميّة لتحمل أعباء الجهاد والقتال واكتساب الأعتدة, وكذلك المهارات التي لها مدخليّة في صناعة القوّة, واحترازيّ لاحتمال الابتلاء باعتداء من أعداء معروفين فكأنّ الآية تريد القول: أيّها المسلمون, حافظوا على درجة عالية من الجهوزيّة، وبيّنت الآية المنفعة المترتّبة على ذلك وهي إيجاد حالة من الخوف عند الأعداء المعلومين والمجهولين يجعلهم حذرين ومتردّدين من الإقدام على الاعتداء والهجوم.
163
الليلة السابعة
فلسان الآية لسان وقائيّ دفاعيّ وليس هجوميّ وما يدلّ عليه بوضوح هو نفس استخدام عبارة ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
خاتمة: الحسين عليه السلام يعلّمنا مواجهة الإرهاب لا الفرار منه:
لقد أعطانا الإمام الحسين عليه السلام في ثورته دروساً في مواجهة مشكلة الإرهاب فلقد كانت ثورته ثورة أخلاق وقيم ابتداءً, ممّا جاء عن سفيره الشهيد مسلم بن عقيل الذي رفض الفتك بابن زياد قائلاً: "الإسلام قيد الفتك" وصولاً إلى تقديم الإمام الحسين عليه السلام الحوار على القتال مع جيش ابن سعد بل رفضه أن يبدأ وأصحابه المعركة حيث قال: "أكره أن أبدأهم القتال".
وأعظم هذه المواقف هو رفض الرضوخ للإرهاب والصمود في وجهه والإصرار على الحقّ وطلب الحقّ والسعي لإحقاق الحقّ, فبالرّغم من ضيق الخيارات وصعوبتها ومرارة وصعوبة النتائج المترتّبة على عدم الخضوع قالها للتاريخ: "ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله...".
164
الليلة السابعة
المحاضرة الثالثة: التواضع نعمة
الهدف:
بيان معنى التواضع وبركاته وآثاره وأفضل أنواعه والحثّ على تحصيله.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: "التواضع نعمة لا يُحسد عليها".
165
الليلة السابعة
مقدّمة: معنى التواضع:
إنَّ التواضع هو صفة ضدّ الكِبر هذه الصفة الممقوتة المحقورة، وحقيقة معناه "هو انكسارٌ للنفس يمنعها من أن يُرى لذاّتها مزيّة على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر".
فهو صفة نفسانيّة نابعة من معرفة الإنسان لنفسه من ضعفها، إلى فقرها، إلى عجزها وذُلِّها أمام عظمة الله، ومقارنة بالأولياء والصفوة من العباد، وكذلك أمام سعة الكون وعظمته فأين الإنسان من الأرض التي عليها، وأين الأرض من المجرّة، وأين المجرّة من الكون في سعته وعظمته وعجائب خلقته. قد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "حسب المرء... من تواضعه معرفته بقدره".
محاور الموضوع
التواضع في القرآن:
إنّ أحد أهمّ الصفات الأخلاقيّة التي يأمر تعالى نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحلّى بها هي التواضع، فمرّة يقول له: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
166
الليلة السابعة
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأخرى ينهاه عن التلبّس بما هو من آثار ضدّ التواضع و ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾.
وكذلك ما ورد في سورة لقمان من وصاياه لولده.
ومن أبدع ما ورد في القرآن حول التواضع ما ذكره تعالى من صفات عبادٍ خاصّين نسبهم إلى اسمٍ من أسماء الجمال فكانوا بتسمية القرآن عباد الرحمن، حيث وصفهم قائلاً: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.
ففي سورة الفرقان ذكر الله تعالى اثنتي عشرة صفة من صفات عباد الرحمن بعضها يتعلّق بالجانب العقائديّ، وبعضها أخلاقيّ، ومنها ما هو اجتماعيّ، ومنها ما يتعلّق بالفرد، ومنها ما يتعلّق بالجماعة، لكن المُلفت أنّ أوّل صفة ذكرها هي التواضع ونفي الكبر والغرور والتعالي، وحيث إنّ الملكات الأخلاقيّة تظهر على صفحة النفس من خلال الأفعال والأقوال فإنَّ من أبرز مظاهر الكِبرْ هو المشي بتبختر وخيلاء، وكذلك من
167
الليلة السابعة
أبرز مظاهر التواضع هو المشي الذي عبّر عنه ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ بمعنى المشي الهادئ الناعم، فهؤلاء المؤمنون العلامة الأولى لعبوديّتهم للرحمن هو التواضع المملوءة به نفوسهم حتّى انعكس على ظواهرهم من خلال طريقة مشيهم. وممّا لا شكّ فيه أنّه ليس المقصود بالكلام الوارد في الآية هو طريقة المشي فليست مقصودة بذاتها، بل هي باب ووسيلة لمعرفة المضمون النفسيّ للإنسان والحالة الخُلُقية من جهة، والحالة الروحيّة من جهة أخرى، فكأنَّ الآية جاءت لتقول إنّ عباد الرحمن أناس نفذ التواضع والخشوع إلى أرواحهم وقلوبهم فانعكس على طريقة مشيهم.
حدود التواضع:
إنَّ للتواضع علاماتٍ وحدوداً فالتواضع حقيقة هو صفة بين صفتين، وهو حالة وسط بين حالين، الأولى هي الكبر، والثانية هي الذلّ، فكما أنّ الكبر هو حالة إفراط وهو مرفوض وممقوت، وكذلك التفريط الذي هو الذلّ ممقوت ومرفوض، بل لم يأذن المولى للمؤمن أن يذلّ نفسه، فالمطلوب هو العدل، وهو المنزلة الوسط بين المنزلتين وهو التواضع أي أن يعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه.
فقد نهت الروايات عن التواضع لمجموعة من الناس منهم.
190
168
الليلة السابعة
1ـ الغني: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه".
2ـ الحكّام والمخالفون في الدّين: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيّما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو من يخالفه على دينه طلباً لما في يديه، أخمله الله ومَقَته عليه ووَكَله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده منه شيء نزع الله البركة منه، ولم يؤجره على شيء ينفقه في حجّ ولا عمرة ولا عتق".
3ـ المتكبّر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رأيتم المتواضعين من أمّتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبّرين فتكبّروا عليهم، فإنَّ ذلك لهم مذلّة وصَغَار".
وللتواضع حدودٌ في الكيفيّة وهي:
1ـ عدم الإفراط: بمعنى عدم المبالغة فيه وفي المظاهر، بحيث يصل إلى درجة إهانة النفس وإذلالها. وقد الفتت إليها الرواية التالية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصه، وأذلّ نفسَه في غير مسكنة".
169
الليلة السابعة
2ـ عامِل كما تُحب أن تُعامل: عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام لمّا سُئل عن حدِّ التواضع قال: "أن تُعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن يعطوك مثله".
نتائج التواضع وآثاره:
إنَّ للتواضع آثاراً ونتائج كثيرة على المستويات كافّة، الفرديّة والاجتماعيّة على مستوى الأبعاد النفسيّة وكذلك في دَاريْ الدنيا والآخرة، وقد ذكرت الروايات ذلك فمنها:
1ـ محبّة النّاس: عن الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة التواضع المحبّة، ثمرة الكِبرْ المسبّة".
2ـ منع العدوان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تواضعوا حتّى لا يبغى أحدٌ على أحد".
3ـ الذكر الحسن والسُّمعة الحسنة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "التواضع ينشر الفضيلة، التكبّر يُظهر الرذيلة".
4ـ المهابة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "التواضع يكسوك المهابة".
5ـ تيسير الأمور: عنه عليه السلام: "بخفض الجَناح تنتظم الأمور".
170
الليلة السابعة
6ـ التحصّن من إبليس: عنه عليه السلام: "اتَخِذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوّكم إبليس وجنوده، فإنّ له من كلّ أمّة جنوداً وأعواناً".
7ـ النشاط في العبادة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من تواضع قلبه لله، لم يسأم بدنه من طاعة الله".
8ـ الحكمة: عن الإمام الكاظم عليه السلام: "إنَّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تَعمر في قلب المتواضع ولا تَعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر من آلة الجهل".
9ـ علوِّ المقام والدرجة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة".
أفضل التواضع:
من خلال ما سبق يتبيّن أنّ التواضع أشبه بمزرعة تَنبت بها مكرُمات النفوس، وباب إلى سموِّ مقاماتها، فهي أرض يُستنبت فيها الخضوع والخشية والحياء، وقد ذكر صاحب جامع السعادات: أنّ هذه الخِلال لا تأتي إلّا من التواضع، بل إنَّ تمام
171
الليلة السابعة
النعمة هي بالتحلّي إضافة إلى كلّ المزايا بإضافة التواضع إليها, وقد قال الإمام عليّ عليه السلام عن ذلك: "بالتواضع تتمّ النّعمة".
والتواضع شرط في قبول العبادة فقد رُوي أنّ الله أوحى إلى موسى عليه السلام: "إنّما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي...".
وهو إصطفاءٌ من الله إلى من يحبّه فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع لا يُعطيهن الله إلّا من يُحبُه، الصمت... والتواضع".
خاتمة: التشيّع تواضع:
تَواضَعْ تكَنْ من شيعة عليّ عليه السلام:
عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنّه قال:
"ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين يديهما، ثمّ أمر بطعام فأُحضر فأكلا معه، ثمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييبّس وجاء ليصبَّ على يد الرجل، فوثب أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ الإبريق ليصبَّ على يد الرجل، فتمرّغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين! الله يراني وأنت تصبّ على يدي؟ قال عليه السلام: "اقعد واغسل, فإنّ الله عزَّ وجلَّ
172
الليلة السابعة
يراك وأخوك الذي لا يتميّز منك، ولا يتفضلّ عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنّة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها". فقعد الرجل فقال له عليّ عليه السلام: أقسمت عليك بعظم حقيّ الذي عرفته، وبجلّته وتواضعك لله، حتّى جازاك عنه بأن ندبني لما شرّفك به من خدمتي لك، لَمَا غسلت مُطمئناً كما كنت تَغسل لو كان الصابّ عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلمّا فرغ ناول الإبريق محمّد بن الحنفيّة وقال: يا بنيّ, لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكنّ الله عزَّ وجلَّ يأبى أن يُسوّي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأبُ على الأبِ فليصبَّ الابن على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن". ثمّ قال الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام: "فمن اتبع عليّاً عليه السلام على ذلك فهو الشيعيّ حقّاً".
173
الليلة الثامنة
المحاضرة الأولى: أداء التكليف
الهدف:
بيان معنى أداء التكليف ومَنْ يحدّده, وآثار أدائه.
تصدير الموضوع:
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولّاه الله الأمر فإنّه نظام الإسلام".
175
الليلة الثامنة
مقدّمة أداء التكليف طريق الوصول إلى الأهداف:
نحن لا نشكّ أبداً ولا يفترض بنا الشكّ بأنّنا لم نخلق عبثاً, وإنّما هناك غايات وأهداف جليلة وعظيمة اقتضت حكمة الخالق أن تتحقّق منّا نحن البشر فكان الخلق والإيجاد تلك النعمة الإلهيّة وكانت الحياة والقدرة نعمة عظمى وكانت الإرادة والاختيار ابتلاءاً واختباراً، وطريقاً إلى تحقيق الأهداف العائدة بكلّها علينا نحن البشر.
وقد لخّص الله تعالى الحكمة والغاية من خلقنا بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
فالطريق الموصل إلى الكمال اللائق بالبشريّة أفراداً وجماعات هو العبادة والتي تعني فيما تعني الطاعة والخضوع للمعبود والانصياع لأوامره.
فالوصول إلى تحقيق كمال الأهداف والغايات من الخلق منحصر بالطاعة لله ففيها يكمن سرّ ومبدأ تكامل الإنسان ورقيّه وبدون الطاعة والانقياد لله بالتمام سوف تنحرف الإنسانيّة عن الصراط الموصل إلى مقامات عزّتها وكمالها وكرامتها.
والطاعة أو العبادة التي هي عنوان إجماليّ لها تفصيل يتعلّق بكلّ أبعاد الإنسان وعوالمه ونشأته وبكلّ نواحي الحياة في هذه الدار التي هي دار الدنيا، دار الابتلاء والامتحان والاختبار,
176
الليلة الثامنة
فالخريطة التفصيليّة للطريق الموصل إلى الأهداف كاملة هي التكاليف أي الأوامر والنواهي الإلهيّة الشرعيّة، والتي بأدائها نسلم من السقوط والتنكّب عن الصراط ونضمن الحياة والفلاح.
فأداء التكليف هو فقط يجعلنا نسلك في طريق العبوديّة لخالقنا.
محاور الموضوع
من يحدّد التكليف:
على ضوء ما ذكرنا آنفاً من كون أداء التكليف هو المنجي والمنجح لمسيرتنا نحن البشر، فالمفروض أن يكون السؤال الذي يشغل بالنا أوّلاً هو أن نعرف تكليفنا أو من المخوّل أن يحّدد لنا تكاليفنا؟ ولمن نلجأ لمعرفة هذه التكاليف؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من القول إنّ التكاليف التي تقع على عاتقنا على نوعين، فمنها ما يتعلّق بالأحكام الشرعيّة العامّة والثابتة كالعبادات والمعاملات من صلاة وصوم وحجّ وبيع وتجارة وقرض وهبة وإجارة إلخ... وأخرى تتعلّق بالوقائع والأحداث وما له علاقة بمصالح الأمّة وأبنائها وتشخيص المصالح والمفاسد من موقع الإدارة والقيادة للمجتمع.
في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الرسول الأعظم هو الذي يتولّى
201
177
الليلة الثامنة
كلا الجهتين, وكذلك في زمن الأئمّة عليهم السلام، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، فيفهم أنّ للرسول جهة من الطاعة غير كونه مبلّغاً لأحكام الشريعة عن الله وهي جهة كونه وليّاً للأمر.
فكلّ ما يتعلّق بكونه قائداً ووليّاً للأمر وصادراً عنه في هذه الجهة ملزم وتجب طاعته في العبادات والمعاملات، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأوامر تأتي من خلال رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم وتشخيصه للمصالح والمفاسد، بل شدّد المولى على شدّة الانقياد والطاعة له فيما يعود لهذه الجهة قائلاً: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾.
وباختصار إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت له هذه المهمّة وهذا الحقّ وبعده الأئمّة إماماً بعد إمام ونحن نعلم قطعاً بحاجتنا إلى من يتولّى هذه المهمّة ولا تنتفي هذه الحاجة بغيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، والواضح والمتيقّن أنّ من بين لنا أدقّ تفاصيل الشريعة والأحكام لابتلاءاتنا في أصغرها وأحقرها إلى أعظمها وأخطرها لا يمكن أن يترك هذه المساحة خالية, ولذا نصّب الأئمّة عليهم السلام الفقيه الجامع للشرائط في كلّ عصر وليّاً يتحمّل هذه المسؤوليّة وهو ما يطلق عليه اسم
178
الليلة الثامنة
الوليّ الفقيه وعنه قال الإمام الصادق عليه السلام: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم الله وعلينا ردّ والرادّ علينا كالرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله".
بركات وآثار الالتزام بأداء التكليف:
إنّ للالتزام بأداء التكليف وأدائه آثاراً وبركات في الدنيا والآخرة والتي منها تحصيل مشروعيّة عمله وبراءة ذمّته وعلى الأقلّ تحصيل العذر أمام الله تعالى ومنها إضافة إلى المرجوّ من الثواب الأخرويّ.
1- الوحدة والنجاح:
إذ أنّه من أهمّ دعائم وأركان وحدة الأمّة بل مقومّها الأساس هو وحدة القيادة ووحدة الرؤى، فعندما نلتزم بأداء التكليف ونرجع إلى الوليّ الفقيه فإنّه من سيشخّص لنا الأولويّات ويحدّد لنا التكاليف وهذا ما يوحّد النظرة إلى الواقع ويبيّن حالة من الانسجام الفكريّ والعمليّ وينزع مادّة الخلاف, وعندها يمكن القول أنّنا حينها يمكن أن نحقّق النجاحات العظمى في ميادين العمل وننجو من السقوط والفشل الذي سبّبه الرئيس التنازع كما قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
179
الليلة الثامنة
فالسلك الذي يربط أبناء الأمّة هو طاعة من أمره الله فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولّاه الله فإنّه نظام الإسلام".
2- تركيز الجهود:
فعندما نخلص من البحث عن تكاليفنا ونفرغ عن تحديدها سيصبح همّنا ومركز جهدنا هو أداء التكليف وهذا ما يؤدّي إلى أن تتركّز وتنصبّ الجهود على حسن الأداء والاتقان وهذا ما يفترض أن يقوّي فينا روح الابداع، وبالتالي فإنّ الالتزام بأداء التكليف يوفّر الجهود ويمنع تشتّتها وضياعها.
3- النّصر والغلبة:
إنّ الالتزام بأداء التكليف والطاعة للقيادة الشرعيّة إضافة إلى كونها توحّد الجهود فإنّها تحقّق النصر والعزّة والغلبة على الأعداء في كلّ ميادين الجهاد والمواجهة وقد قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
4- الطمأنينة:
فعندما يؤدّي الإنسان تكاليفه بالرجوع إلى من خوّله الله بيان ذلك أو أولاه فإنّه سوف يحصل له حالة من الراحة النفسيّة والاطمئنان القلبيّ لأنّه أدّى ما عليه ولم يقصّر ولأنّه كذلك لن يكون حيراناً في تشخيص مهامّه وتكاليفه.
180
الليلة الثامنة
خاتمة: روحيّة أداء التكليف هي التسليم:
إنّ الله لا زال يختبرنا بطاعته ليس فقط بشكل مباشر أي أن يكون التكليف في الله وموجّهاً إلينا مباشرة كالأوامر ذات البعد العباديّ فعندما يقول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ أو ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أو ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ قد لا نجد صعوبة في الامتثال والطاعة ولكن قد نجد الصعوبة عندما يأمرنا بإطاعة مخلوق مثلنا إنسان مثلنا, فهنا سقط الكثير من الخلق وأوّلهم إبليس حيث رفض السجود لآدم... ومن هؤلاء الذين سقطوا من رفض الالتزام بولاية أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
فالنجاح والفلاح هنا في إطاعة من أمره الله أو أمره من له الأمر حتّى لو لم نر له مزيّة علينا.
ولذا فإنّ الروحيّة التي يفترض أن نتعاطى فيها بموضوع أداء التكليف هي التسليم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "إنّ الإسلام هو التسليم".
ومعنى ذلك هو أن نلتزم عمليّاً بأداء التكليف بالالتزام بكافّة الأحكام الإلهيّة وفي شتّى الميادين حتّى لو خالفت آراءنا وهوانا.
181
الليلة الثامنة
المحاضرة الثانية: الدفاع عن المقدسات
الهدف:
بيان المقدّسات في الإسلام, وأهمّية الحفاظ عليها ومشروعيّة القتال والشهادة دونها.
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
182
الليلة الثامنة
مقدّمة: معنى القداسة:
من أسماء الله تعالى القدّوس حيث جاء ذلك في سورة الجمعة: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
ومعنى أنّه قدّوس أي أنّه منزّه عن كلّ نقص وحاجة, فهو كمال مطلق لا يعتريه عيب ولا تمسه حاجة.
وبالتالي فإنّ معنى القداسة يرجع إلى كون المتّصف بها حائزاً على لون من ألوان الكمال والنزاهة والشرف والنبل.
ولمّا كان بعض مخلوقات الله ممّن تحلّت في ذواتهم هذه الصفات أو بعض لوازمها أو كانوا على درجة عالية من الاتصال بالله الذي هو مبدأ القداسة فإنّهم كانوا مقدّسين سواء كانوا ملائكة أو غير ذلك، أو بشراً أو أمكنة ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾.
وفي الحقيقة إنّ القداسة التي يتّصف بها هؤلاء من المخلوقات هي مفاضة من القدّوس منزّلة عليهم وفيهم ومحتومة إليهم، لكن أفضل المقدّسين يبقى الذين كان تحلّيهم بها ناتج عن اختيارهم، وسيرهم في طريق التكامل اختياراً والطاعة للباري عزَّ وجلّ عن اختيار فتقدّست ذواتهم بنزاهتهم فنجحوا في بلوغ
183
الليلة الثامنة
مقامات القرب من القدّوس ليكونوا أولياءه محلّاً تنعكس فيهم تلك القداسة.
ولأنّ هذا الأمر كان عن اختيار يرقى ابن آدم ليكون أعلى درجة من الملائكة أنفسهم فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة وركّب في البهائم شهوة بلا عقل, وركّب في بني آدم كلتيهما, فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة, ومن غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم".
محاور الموضوع
من هم المقدّسون؟
من ما سبق يتّضح أنّ القداسة هي التنزّه من العيوب والنقائص, ومعنى أن يقدّسه الله يعني أن ينسبه إليه بنسبة ما وينحله صفة من صفاته, ومنها البركة ليكون في وجوده نفع للنّاس بل للخلق, وعليه فمن المقدّسات الكعبة المشرّفة الذي قال عنه تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا...﴾.
بل إنّ كلّ مسجد بني لله مقدّس فهو بيته ومحلّ البركة:
184
الليلة الثامنة
"أوحى الله إلى داوود, يا داوود, إنّ بيوتي في الأرض المساجد, فطوبى لمن تطهّر في بيته وزارني في بيتي...".
ولذا كان للمساجد حرمة وآداب...
ومن المقدّسات: كتب الله المنزلة لهداية النّاس ويأتي في طليعتها وهو أعظمها القرآن الكريم: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾, وتجلّيات قداسته أنّه محفوظ لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أحكام تلك القداسة حرمة تدنيسه بل أكثر: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾.
ومن المقدّسين الملائكة حيث سمّى بعضهم "الروح القدس".
ومن المقدّسين من البشر الأنبياء ومن هؤلاء الأنبياء عيسى عليه السلام حيث كان نافعاً للنّاس وتكفي لمسة من يده للشفاء من الداء العضال, بل حتّى لإحياء الموتى قال تعالى عن لسانه عليه السلام: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾.
ويأتي في طليعة المقدّسين النبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان نفس وجوده وإرساله رحمة لجميع عوالم الوجود: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
185
الليلة الثامنة
فرفع عن النّاس عذاب الاستئصال، وكان أماناً من نزول العقاب الإلهيّ: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾.
وكذلك فإنّ من توابع بركته وقداسته أهل بيته الذين طهّرهم الله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
لا لأنّهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بل لأنّهم جسّدوا أكمل مراتب التصديق بما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم واتّبعوا خطواته في سيرهم الاختياريّ نحوه تعالى فقبلهم ربّهم ورفع لهم الدرجات وجعل مودّتهم أجراً على خدمة خاتم رسله للبشريّة.
واجباتنا اتّجاه المقدّسات:
إنّ من أوائل واجباتنا اتّجاه هذه المقدّسات تفترض احترامها بما يلائمها وبحسبها وتبجيلها, وكذلك عدم تعريضها للتدنيس والإهانة والاعتداء والإيذاء, وعندما يكون المقدّس من الأولياء فإنّ التكاليف تتسع لتشمل تصديقهم وطاعتهم وموالاتهم وموالاة وليّهم ومعاداة عدوّهم والتصديق بمقاماتهم والإقتداء بهم سلوكاً وسمتاً، ومنها أن نقبل منهم ما يأتوننا به عن الله تعالى, وأن لا نتقّدم عليهم ولا نتأخّر عنهم، وأن نظهر مودّتنا لهم بالزيارة لمشاهدهم وإحياء أمرهم وذكرهم وتعظيم شأنهم ونشر فضائلهم وإكرام وليّهم.
186
الليلة الثامنة
الدفاع عن المقدّسات:
ومن أهمّ الواجبات اتّجاه المقدّسات هو الدفاع عنها بما تقتضيه عمليّة الدفاع وبحسب نوع الخطر المتوجّه إلى هذه المقدّسات, فتارةً بالفكر والقلم والكتابة, وأخرى بالفنّ والإعلام, وثالثة بالقتال والجهاد وغير ذلك من المجالات والميادين. وبالعودة إلى كتاب الله فإنّنا نقرأ قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
حيث بيّن فيها أصل مشروعيّة الجهاد ومبرّراته قال بعدها: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. منتقّلاً لبيان وفلسفة تشريع الجهاد المأذون به على طول مسيرة الأديان السماويّة وبه حفظت بيوت عبادة اليهود والنصارى وبه تحفظ بيوت عبادة المسلمين, بل به تحفظ نفس العبادة، فمن الحكم المترتّبة على تشريع القتال حفظ المقدّسات وصونها، وهذا يعني بصورة عكسيّة لو أنّ أرباب الشرائع وخصوصاً المسلمين تكاسلوا عن النهوض لمواجهة المعتدين الخارجيّين أو الطغاة والظالمين الداخليّين فإنّ هذا سيغري هؤلاء ليندفعوا في طغيانهم لينالوا من المقدّسات,
187
الليلة الثامنة
إذ سيجدون الطرق مشرّعة منزوعة العوائق والروادع لتدنيس المقدّسات أو بتحوير دورها وتحريفها لتخدم سلطانهم وسيعمدون حينها لتهديم وإزالة كلّ ما يرونه تهديداً لسلطانهم ممّا يكون محلّاً لتعبئة طاقات النّاس وشحذ هممهم في مواجهة الظالم ومجابهة الكفر, ويكون ساحة للتوعية وهذا لا يختصّ بأماكن العبادة بل يشمل أولياء الله وعلماء الأمّة وأحرارها.
إذن فقيام المؤمنين بجهاد الأعداء وامتثال الأمر الإلهيّ يحفظ المقدّسات، فكيف لو كانت المقدّسات نفسها هي المعرّضة للخطر وهي هدف الأعداء والطغاة فمن باب أولى أن تهبّ الأمّة لجهاد أعدائها ومواجهة ظلّامها، وأن تبذل الغالي والنفيس في سبيل حماية تلك المقدّسات.
خاتمة:
في كربلاء مشاهد من مصاديق الجهاد لحفظ المقدّسات، فالحسين عليه السلام رأى أنّ الإسلام نفسه بخطر إذا تولّى طاغية مثل يزيد الحكم: "على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد".
فخرج ثائراً وخرج لنصرته من رأوا رأيه, إضافة إلى أن نفس وليّ الله خامس أهل الكساء سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في معرض الخطر
188
الليلة الثامنة
فجادوا بأنفسهم عن نفسه وقدّموا أرواحهم قرابين في ساحات الوغى ولسان حال الكلّ نفوسنا دون نفسك يا ابن رسول الله.
فعندما يتعرّض مقدّس كوليّ الله ترخص التضحيات مهما غلت لإجابة ندائه: "هل من ناصر ينصرنا...".
ونحن على خطى أصحاب الحسين عليه السلام نقدّم أنفسنا ذوداً عن المقدّسات ولن يكون شهداؤنا شهداء الدفاع عن المقدّسات بإذن الله تعالى إلّا أسوة بمن وفى للحسين عليه السلام يوم العاشر من المحرّم.
214
189
الليلة الثامنة
المحاضرة الثالثة: الوالدان وصيّة الله عزَّ وجلّ
الهدف:
التأكيد على طاعة وإكرام الوالدين وأكرامهما في حياتهما وبعد موتهما خصوصاً، وإكرام الأمّ خصوصاً.
تصدير الموضوع:
﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.
190
الليلة الثامنة
مقدّمة: وصيّة الله
اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك، وأهل بيته الطاهرين، واخصص والديّ بأفضل صلواتك ورحمتك وبركاتك. يقول الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه. وأمّا حقّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلّا بالله".
إنّ الله سبحانه وتعالى قرن طاعة الوالدين بطاعته، ونهى في آيات كتابه الكريم عن التعرّض لهما بأدنى أذيّة تذكر، حيث يقول: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول في آية أخرى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾.
191
الليلة الثامنة
محاور الموضوع
طاعة الوالدين من طاعة الله تعالى:
إنّ تكريم الوالدين فضلاً عن ترك أذاهما من أقلّ ما يمكن أن يقوم به الإنسان تجاههما لأجل ما بذلاه من الغالي والنفيس في سبيل تربيته، والتعب في الليل والنهار ليكون عنصراً ناجحاً في أمّته، ولا يحتاج الإنسان ليستبين هذه الحقيقة إلى آيات قرآنيّة أو يستفيدها من أيّ حديث شريف، فالبرّ بالوالدين من الأمور التي تدعو إليها الفطرة السليمة النقيّة، وإنّ حقّ الوالدين هذا إنسانيّ بامتياز، قبل أن يكون حقّاً إجتماعيّاً أو شرعيّاً.
ومهما بذل الإنسان في سبيل والديه فإنّه لن يستطيع أن يؤدّي بعضاً من حقّهما عليه:
قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تُطيعه ما عاش" فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها".
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ والدتي بلغها الكِبَر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأُطعمها من كسبي، وأُميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها
192
الليلة الثامنة
وإعظامًا لها، فهل كافأتها؟" قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، لأنّ بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنّى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحبُّ مماتها".
فإذا كان مقدار التأكيد على طاعتهما والبرّ بهما بهذه الدرجة من الأهميّة فما بالك بمن لا يتورّع عن جلب الأذى لهما في كبرهما، وهذا ما سنسلّط الضوء عليه وعلى عواقبه.
المجازاة بسوء الصنيع:
في مقابل كلّ هذا التفاني والتضحية التي يقدّمها الوالدان للإبن، فإنّ أدنى ما يقال في أذاهما أنّه مجازاة لحسن الصنيع بعمل قبيح، على أنّ جزاء الإحسان إنمّا يكون بإحسان مقابل، يقول الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
وحينما نتحدّث عن سوء الصنيع والأذى، يكون الكلام عن كلّ أشكال الأذيّة التي يمكن أن يستشعر بها الوالدان، فالأب والأمّ يتوّقعان من الولد أن يكون:
1- معيلاً لهما في كبرهما: فيساعدهما على تخطّي العجز الجسديّ، ولا سيّما الأب الذي قد يصل لمرحلة لا يستطيع أن يعمل بها، بسبب العجز وعدم القدرة على تحمّل المشقّات. ومعيلاً لهما من الجهة المعنويّة، بحيث يشعران بوجود من
193
الليلة الثامنة
يمكنهما الاعتماد عليه، والدفاع عنهما إن ألمّ بهما أيّ سوء، وهذه حاجة نفسيّة في غاية الأهميّة لكبار السنّ.
2- مطيعاً لهما: بمعنى أن يستفيد من تجربتهما في الحياة، وهي تجربة طويلة، وحينما يقدّمها الأهل للولد مجّاناً، فإنّها تكون قد حدثت لهما بعد تحمّل الكثير من الشقاء والتعب.
3- مكرماً لهما: بمعنى أن يحافظ على مكانتهما التي احتلّوها بما بذلاً لأجله، فيرفع من قدرهما، ويبيّن بين الناس محاسنهما، ويحفظ لهما حسن صنيعهما معه.
4- خلفاً صالحاً: لأنّ من سعادة المرء في الدارين أن يخلفه ولد صالح، بحيث يكرمه في حياته، ولا يهينه في مرحلة الشيخوخة والكبر، ويجرّ إليه الذكر الطيّب والرحمات بعد وفاته، من خلال الأعمال التي يرسلها الحيّ إلى أهل البرزخ، ومن خلال عمله الذي يذكّر الناس بطيب أصله وحسن تربيته.
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والأولاد البارّون، والرجل يرزق معيشته ببلده، يغدو إلى أهله و يروح".
وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "من سعادة المرء أن يكون متجره في بلده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين بهم".
194
الليلة الثامنة
العقوق من الكبائر:
عدّ العلماء العظام والفقهاء المجتهدون العقوق من كبائر الذنوب، بناءً على ما جاء في روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وأمّا الكبائر فهي كلّ معصية ورد التوعيد عليها بالنّار أو بالعقاب، أو شدّد عليها تشديداً عظيماً، أو دلّ دليل على كونها أكبر من بعض الكبائر أو مثلها، أو حكم العقل على أنّها كبيرة، أو كان في ارتكاز المتشرّعة كذلك"، أو ورد النصّ بكونها كبيرة، وهي كثيرة: "منها اليأس من روح الله، والأمن من مكره والكذب عليه أو على رسوله وأوصيائه عليهم السلام، وقتل النفس التي حرّمها الله إلّا بالحقّ، وعقوق الوالدين".
وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله".
عاقبة العقوق العاجلة:
إنّ هنالك نوعاً من الذنوب يعجّل به العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وذلك لشدّة عظمة الذنب وقبحه الشديد، ومن تلك الذنوب عقوق الوالدين، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها، ولا
195
الليلة الثامنة
تؤخّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان".
ومن عقوبات العقوق في الدنيا زوال النعم التي منّ الله تعالى بها على العبد، والتي أشير إليها في دعاء كميل بن زياد رحمه الله: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النعم"، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الذنوب التي تغيرّ النعم: البغي، والذنوب التي تورث الندم: القتل، والتي تنزل النقم: الظلم، والتي تهتك الستور: شرب الخمر، والتي تحبس الرزق: الزنى، والتي تعجّل الفناء: قطيعة الرحم، والتي ترّد الدعاء وتظلم الهواء: عقوق الوالدين".
خاتمة: في الدعاء للتوفيق لبرّهما:
من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلامفي الصحيفة السجّاديّة نختم به حديثنا:
"اللهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي، وبريّ بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن حتّى أوثر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، وأستكثر برّهما بي وإن قلّ، وأستقلّ بريّ بهما وإن كثر. اللهمّ خفضّ لهما صوتي،
196
الليلة الثامنة
وأَطبْ لهما كلامي، وألنْ لهما عريكتي وأعطفْ عليهما قلبي، وصيّرني بهما رفيقا، وعليهما شفيقا. اللهمّ اشكر لهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري. اللهمّ وما مسهَّما منّي من أذى، أو خَلُص إليهما عنّي من مكروهٍ، أو ضاع قبلي لهما من حقّ، فاجعله حطّة لذنوبهما، وعلواً في درجاتهما، وزيادة في حسناتهما، يا مبدّل السيّئات بأضعافها من الحسنات. اللهمّ وما تعدّيا عليّ فيه من قول، أو أسرفا عليّ فيه من فعل، أو ضيعاه لي من حقّ، أو قصّرا بي عنه من واجب فقد وهبته لهما، وجدت به عليهما، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما، فإنّي لا أتهمهما على نفسي، ولا أستبطئهما في برّي، ولا أكره ما تولّياه من أمري يا ربّ، فهما أوجب حقاً عليّ، وأقدم إحساناً إلي، وأعظم منّة لدي من أن أقاصهما بعدل أو أجازيهما على مثل. أين إذاً يا إلهي طول شغلهما بتربيتي؟ وأين شدّة تعبهما في حراستي؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ؟ هيهات ما يستوفيان منّي حقّهما، ولا أدرك ما يجب عليّ لهما، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما. فصلّ على محمّد وآله، وأعني يا خير من أستعين به، ووفّقني يا أهدى من رغب إليه، ولا تجعلني في أهل العقوق للآباء والأمّهات يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. اللهمّ صل على محمد وآله وذرّيته، واخصص أبوي بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين وأمّهاتهم يا أرحم الراحمين.
222
197
الليلة التاسعة
المحاضرة الأولى: حرمة قتل النفس
الهدف:
بيان قيمة النفس وحرمة الاعتداء عليها وآثار ذلك والحثّ على تجنّب ذلك.
تصدير الموضوع:
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾.
199
الليلة التاسعة
مقدّمة: الإسلام دين الرحمة:
إنّ الله تعالى يقول عن نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. هذا يعني أنّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في سمته وسلوكه ودعوته ودينه الذي جاء به يفيض رحمة على كلّ الموجودات، ولا أقلّ على النّاس، وحقّ أن يقال أنّه صلى الله عليه وآله وسلم حمل للبشريّة ديناً هو رسالة السماحة والرأفة والرحمة بالخلق أجمعين، وقد جاءت نبوّته ورسالته في مكان وزمان قمّة في التوحّش والجاهليّة، حيث انتهاك الحرمات والإسراف بالقتل إلى أبعد مدى، وقد كانت الحروب والغارات تشنّ أحياناً لأجل السلب والنهب وأحياناً لشهوة التسلّط والقتل إلى درجة أن يكون من دواعي الفخر لديهم والتباهي عدد ما يقتلون وكمّيّة ما يسلبون، فجاءت رسالة الإسلام لينطق بها رسول الله وحياً عن الله بالتحريم: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...﴾.
محاور الموضوع
الإسلام دين الإحياء:
بل لقد بالغ الإسلام في النهي عن القتل من خلال إعطاء الإسلام صفة الإحياء للبشريّة وللنفوس، فلم يأتِ رسول الله لأجل قتل النفوس وحصد الرؤوس، بل جاء لأجل إحياء
226
200
الليلة التاسعة
الإنسان والإنسانيّة، ولأنّه كذلك كانت دعوته إحياءً لهما ومن ثمّ دعا الله تعالى إلى اتّباعه والاستجابة إليه لأنّها دعوة إلى الإحياء فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
ولقد شنّع القرآن على الكفر والجاهليّة لأنّها موت الإنسانيّة وموت الإنسان إذ يكون فيها بلا قيّم وبلا روح وإنّما جماد يدبّ على الأرض فهم في عرف القرآن ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾.
فالأصل في الإسلام هو احترام الحياة الموهوبة من الله وعدم الإجازة لأنفسنا أن نسلبها لأحد إلّا بالحقّ وقد بالغ الإسلام في تصوير عظم جريمة القتل إلى حدّ أنّه اعتبر أنّ قتل نفس واحدة كمثل قتل البشريّة جمعاء، فقال عزَّ من قائل: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ بل أضاف إلى ذلك ترغيباً في صيانة حق الحياة حفظ النفس فقال: ﴿...وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
201
الليلة التاسعة
وبالخلاصة نقول: إنّ الإنسان ذلك المخلوق المكرّم مسجود الملائكة المفضّل على كثير ممّن خلق الله، الذي يحمل مظاهر عظمة الله وقدرته وأسمائه وصفاته، أودع الله فيه سرّاً من أسراره هي الروح فلا يحقّ لأحد أن يسلبه هذا السرّ وهذه الكرامة التي نسبها إليه عندما قال: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾.
ولنقرّب الفكرة فنقول إنّ من يصنع دمية حتّى لو كان طفلاً سيتألّم كثيراً لو جاء أحد ما فهشّمها ومزّقها، فكيف سيكون يا ترى موقف الله تعالى من الذين يسمحون لأنفسهم بقتل من خلقهم الله بيديه ليكونوا خلفاءه في الأرض؟
الإسلام وحماية حقّ الحياة:
إنّ الإسلام أراد أن يزرع في نفوس بنيه وفي النفوس البشريّة جمعاء من القيم والسلوكيّات ما يشكل كابحاً ومانعاً من استعمال الإقدام على القتل فمن ذلك:
أوّلاً: بيان خطورة جريمة القتل بجعلها مساوية لقتل النّاس جميعاً.
ثانياً: من خلال نفي كونها صفّة للمؤمنين فوصف عباد الرحمن بقوله: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
202
الليلة التاسعة
ثالثاً: تشريع القصاص والتحذير من التجاوز فيه، فقال تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾.
فالإسلام يقرّ للمعتدى عليه بأنّ له الحقّ أن يقتصّ من مَن اعتدى عليه، فللمظلوم حقّ عند الظالم المعتدي لا عند أقربائه أو أنسبائه أو مجتمعه, وهذا التشريع إنّما كان بهدف حماية الحياة وحتّى لا تنتشر عادة القتل والقتل المضادّ، وما أروع ما جاء في وصيّة الإمام عليّ عليه السلام وهو على فراش الشهادة حيث قال: "يا بني عبد المطلب, لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي، انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثّلوا بالرجل".
رابعاً: تعميم حرمة الدم لتشمل غير المسلم بل حتّى الحيوانات:
إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختصّ بالمسلمين بل تشمل كلّ من ينطبق عليه عنوان محترم النفس، من مسلم، أو معاهد، أو غير محارب ممّن يعيش مع المسلمين في بلادهم بطريقة مسالمة، أو من خارج بلاد المسلمين ممّن لا يعدّ محارباً ولا يتّصف بكونه محارباً، والحرمة تشمل إضافة إلى دمائه، عرضه وماله ويحرم أن يتجاوز المسلمون على هذه الحقوق.
203
الليلة التاسعة
آثار وعواقب القتل:
إنّ لشيوع القتل وعدم وجود روادع قانونيّة أو نفسيّة أو أخلاقيّة آثاراً وعواقب ليس أقلّها فناء البشريّة ودمارها وهلاك أفرادها ومجتمعاتها، أضف إلى فقدان الأمن بكلّ ألوانه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنفسيّة وغيرها، فعندها تصبح الحياة جحيماً لا يطاق.
وقد ورد الكثير من الآيات والروايات في بيان عواقب القتل فمنها ما جاء قوله تعالى:
... ويقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه:
1- جهنّم خالداً فيها.
2- وغضب الله عليه.
3- ولعنه الله.
4- وأعدّ له عذاباً أليماً.
فهذه الآية إشارة إلى أربع عقوبات.
والخامسة في العقوبات:
بلوغ الله العذر بعدم استسهال القاتل والذي تدلّ عليه الرواية التالية: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً".
السادسة: عدم التوفيق للتوبة: وهي من أشدّ العقوبات، صحيح أنّ باب التوبة مفتوح ولكن القائل يؤخذ بجريمته فكأنّها عمىً بصيب بصيرته يعرف طريقه إلى الخلاص، أو يكون الدم ثقلاً
230
204
الليلة التاسعة
على عاتقه يثقل خطاه دون سلوك هذا الطريق كما جاء في رواية: "لا يوفّق قاتل المؤمن متعمّداً للتوبة".
خاتمة: في العلاج:
إنّ استسهال القتل عند بعض الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة والتي من مظاهرها الصريحة، إسقاط الأجنّة، أو الانتحار، أو جرائم القتل لأجل السلب والنهب، أو غير الصريحة كتعاطي ما يؤدّي إلى الموت كالمخدّرات، أو ترك أخذ الأدوية أو الامتناع عن الذهاب للأطبّة للاستشفاء، ومنها إطلاق النّار في المناسبات، والعلاج لهذه الآفة يأتي أوّلاً بتثقيف أبنائنا على احترام الحياة وحرمة القتل، إضافة إلى الثقافة الشرعيّة التي تدعو إلى الاقتصاص من القاتل لا غير. إلّا أنّ أهمّ وسيلة للوقوف بوجه تنامي هذه الظاهرة ألا وهو تقوية الجوانب الأخلاقيّة والمعنويّة والروحيّة والدينيّة لدى شبابنا وفي مجتمعاتنا, وعلينا أن نأخذ في عاشوراء دروساً مهمّة وأهمّها أنّه عندما تبلغ النفوس هذا المستوى من الإقبال على الدنيا قد يصل بها إلى أنتاج أفراد لا يتورّعون عن أن يتوسّلوا للحصول على الدنيا من خلال تقديم رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطواغيت ألم يقل أحدهم:
املأ ركابي فضّة أو ذهبا إنّي قتلت السيّد المحجّبا
205
الليلة التاسعة
المحاضرة الثانية: الاختلاط والاختلاط المقنّع
الهدف:
بيان معنى الاختلاط السلبيّ والحثّ على تجنبه والتحذير من الاختلاط المقنّع.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما".
206
الليلة التاسعة
مقدّمة: الاختلاط معناه وفلسفة التحريم.
من أعظم ابتلاءات الإنسان ذكراً كان أو أنثى مسألة الاختلاط بين الجنسين خصوصاً في هذا الزمن الذي راجت فيه المجالس التي يدخل فيها الرجال على النساء والنساء على الرجال دون وجود ضرورة تقتضي ذلك، بل وصل الأمر في هذا الزمن إلى درجة أن يصبح الاختلاط والتعاطي المباشر بين الجنسين هو الأصل والقاعدة، وأمّا التفريق في المجالس فهو الاستثناء, وربّما وصم بالتحجّر والرجعيّة والتزمّت وما إلى ذلك من أوصاف، وعليه لا بدّ من بيان أنّ الاختلاط هو نفس اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد سواء كان هذا المكان بيتاً أو طريقاً أو محلّاً تجاريّاً أو حتّى لو كان سوقاً.
فالمعنى اللغويّ يشمل حتّى الاختلاط في أماكن العبادة ومواسمها كالحجّ والزيارة وغيرهما.
ونفس كون ذلك من مصاديق الاختلاط لا يعني القول بحرمته، وإذا أردنا البحث في سرّ تحريم الاختلاط سنجد أنّ ذلك يرجع إلى ما في نفوسنا نحن البشر من ميل نحو الشهوات وضعف أمام المغريات، حيث علّل تعالى أمره لنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الخضوع بالقول إلى ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾.
207
الليلة التاسعة
فنحن لا نعرف أنفسنا بالقدر الكافي فضلاً عن معرفة ما تكنّ النفوس الأخرى, وعلينا أن لا نُدخِل هذه النفوس في اختبارات وامتحانات لا ندري ما ستكون نتائجها, فالاختلاط قد يشكّل أرضيّة شديدة الخصوبة لبذر الشهوات واستنبات الانحرافات الأخلاقيّة والسلوكيّة وحتّى النفسيّة، بما قد يشكّل نحواً من الاستدراج فالانزلاق في مهاوي الانحراف بعد أن تكون مراودة مجالس الاختلاط قد ضربت كلّ الكوابح التي تضبط النفس وشهواتها. فالتحريم للاختلاط في أحد وجوهه إجراء وقائيّ لحماية الفرد والمجتمع.
محاور الموضوع
الاختلاط المحرّم:
من أبرز مصاديق الاختلاط المحرّم هو الاختلاط الذي لا ينفكّ عن لزوم الوقوع في الحرام، أو ما يصل إلى أن يصير خلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيّين بحيث لا يتمكّن الغير من الدخول عليهما, فمع الخوف من الوقوع في الحرام يجب أن يتركا المكان، ولا يشترط في الحرام الوقوع في الفاحشة لا سمح الله بل يكفي لتحريمه وقوع النظر المحرّم وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما".
208
الليلة التاسعة
حدود الاختلاط وآدابه:
ممّا سبق تبيّن أنّ الاختلاط بنفسه ليس محرّماً بل حرمته ناجمة عمّا يرافقه ويلزم عنه, ولذا نرى أن الأحكام والآداب المتعلّقة به تشكّل ضوابط لضمان سلامته وعدم الانزلاق إلى تلك الآثار المحرّمة، وقبل الدخول في ذكر حدود الاختلاط لا بدّ من الإشارة إلى أنّه حتّى لو كنّا مضطّرين إليه لضرورات عمليّة أو علميّة أو اجتماعيّة أو عباديّة أو غير ذلك علينا أن نحاول قدر الإمكان الاقتصار فيه على أقلّ القليل منه سواء من حيث الكمّ أو الكيف المشروعين ومن هذه الحدود والآداب:
1- عدم إطلاق العنان للنظر:
فقد أمرنا الله تعالى بغضّ النظر حيث قال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾, ومعنى الغضّ في اللغة الخفض والنقصان بمعنى أن لا يطلق الإنسان العنان للنظر بالتحديق والتركيز والتمعّن، ولا بدّ من الالتفات أنّ الأمر بغضّ البصر ليس فقط للرجال وإنّما أيضاً للنساء.
209
الليلة التاسعة
2- عدم إظهار الزينة وتزيين الظاهر:
ومن ذلك عدم التبرّج والتزيّن لما هو مكشوف من الجسد وكذلك عدم إظهار ما خفي من الزينة كما هو الحال في الخلخال, فقد نهى الله عن أن تضرب المرأة برجلها الأرض ليعلم ما خفي من زينتها حتّى وإن لم يُر. والزينة قد تكون للعين كما هو المعروف بالتبرّج وقد يكون للسمع كرنين الخلخال، وقد يكون للأنف وحاسّة الشمّ كما في مسألة العطور والطيب, ففي الأوّل روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ونهى أن تتزيّن لغير زوجها فإن فعلت كان حقّاً على الله أن يحرقها بالنّار".
وعن الطيب عن جابر بن يزيد قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام يقول: "ولا يجوز لها أن تتطيّب إذا خرجت من بيتها".
3- الميوعة في الكلام:
وهو المعبّر عنه في لسان القرآن بالخضوع بالقول حيث قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾.
210
الليلة التاسعة
والخضوع بالقول قد يكون في الصوت وقد يكون في المضمون وإن لم يكن فيه ليونة وميوعة في ظاهرة. فعلى المؤمنات أن يكون حديثهنّ بشكل متّزن لا يتسبّب بافتتان المستمع، وكذلك عليهنّ أن لا يدخلن في أحاديث مع الأجنبيّ من الرجال بأمور حسّاسة تثير ذوي النفوس المريضة. ومن ذلك ما نسمع عنه وما نراه من الأحاديث والنكات الإباحيّة والمزاح الخارج عن حدود الذوق والأدب والخادش للعفّة، حيث إنّ بعض النساء قد يسمحن لأنفسهنّ بالدخول في هكذا أجواء لتظهر للآخرين أنّها "مهضومة" وخفيفة الظلّ، وربّما متحرّرة وغير تقليديّة بينما في الواقع فإنّ هذا يضرّ بصورتها أمام النّاس ليظهرها غير رصينة وغير محترمة وقد يغري ذوي النفوس المريضة بالتجرّؤ على ما هو أبعد وأعظم وأخطر.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فاكه امرأة حبسه الله بكلّ كلمة في الدنيا ألف عام".
4- عدم اللمس والمصافحة:
وهذان الأمران محرّمان بشكل أكيد فقد ورد في حرمة ذلك على الرجال قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صافح امرأة حراماً جاء يوم القيامة مغلولاً ثمّ يؤمر به إلى النّار"، ومن حرمته على
211
الليلة التاسعة
النساء جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "ولا يجوز للمرأة أن تصافح غير ذي محرم إلّا من وراء ثوبها".
5- تنظيم وضبط المجالس:
ونقصد فيه هو أن لا نقيم مجالس في بيوتنا وأنديتنا في مناسباتنا وأفراحنا وأتراحنا ومنها الولائم والسهرات البيتيّة، بحيث يجلس الرجال والنساء والذكور والإناث بطريقة مختلطة بل لا بدّ من الفصل، ومع الضرورة علينا أن ننظّم طريقة الجلوس بحيث تضمن الحفاظ على الاحتشام والعفاف بحيث لا يلزم منها النظر المحرّم أو إتاحة إطلاق العنان للنظر المتبادل وغير ذلك.
6- رعاية الحجاب التامّ:
وقد ذكر تعالى ذلك بقوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾, في إشارة واضحة إلى رعاية كون الحجاب يراعي ستر ما حرم كشفه، وفي هذا الزمن ثمّة ألبسة يُدّعى بأنّها حجاب ويا للأسف ليست من الحجاب في شيء، ولو كانت ساترة للبشرة إلّا أنّها تحكي ما سترته ليتحوّل ما سمّوه حجاباً ليستر الجسد وزينته إلى زينة بنفسه من حيث الشكل واللون.
212
الليلة التاسعة
خاتمة: الاختلاط المقنّع:
في عصرنا ابتلينا بابتلاء جديد هو وسائل الاتصال الحديثة التي يسم!ون بعض خدماتها بمواقع التواصل الاجتماعيّ ونحن لا ننكر بعض الجوانب الإيجابيّة لها، إلّا أنّ بعضنا يستخدمها بصورة سلبيّة، وفيما نحن فيه، فإنّ بعض الاستخدامات لهذه الوسائل والوسائط يوقعنا في سلبيّات الاختلاط أو قلّ في الاختلاط السلبيّ، ليغدو ذلك بحقّ اختلاطاً مقنّعاً يستطيع البعض أن يقنعه الشيطان أو نفسه الأمّارة أنّه ليس اختلاطاً، ولكن بحقّ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.
إنّ التواصل بين رجل وامرأة أجنبيّين والكلام عن أمور حسّاسة تثير الشهوات وتخرب البيوت وتخدش الحياء, وكذلك تبادل النكات ذات الطابع المبتذل والإباحيّ, والحديث بالخصوصيّات الجنسيّة لكلّ منهما أليس نفس ما نظرت إليه عين الشرع المقدّس عندما حرّمت الاختلاط, فلنتقي الله ولنذكّر أنفسنا دائماً بالرقابة الإلهيّة ولنسأل أنفسنا هل نستطيع أن نبرّر لله أوّلاً هذه التصرّفات لننجو من المسائلة والمعاتبة وربّما المعاقبة.
وأختم بهذه الرواية قال أبو بصير: كنت أقرئ امرأة كنت أعلّمها القرآن فمازحتها بشيء، فقدمت على أبي جعفر عليه السلام فقال لي: "أي شيء قلت للمرأة؟" فغطيّت وجهي فقال عليه السلام: "لا تعودنّ إليها".
213
الليلة التاسعة
المحاضرة الثالثة: تنمية الشعور بإمامة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
الهدف:
الحثّ على قراءة زيارة آل يس وإعداد النفس عقائديّاً ونفسيّاً وعباديّاً لنصرته عجل الله تعالى فرجه الشريف.
تصدير الموضوع:
عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: "إذا أردتم التوجّه بنا إلى الله تعالى وإلينا فقولوا كما قال الله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾.
214
الليلة التاسعة
مقدّمة: معنى الشعور بالائتمام
عن الإمام عليّ عليه السلام: "مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق وذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبداً".
إنّ معنى الشعور بالائتمام، أنّ الله خطَّ خطّاً لصيانة دينه ورعاية الأمّة وحفظهما ورقيِّهما. هو أنّه بعد الإيمان بالإمامة والمعرفة بالأئمّة عليهم السلام الذين هم حجج الله تعالى- على المؤمن أن يكوِّن في نفسه شعوراً بالائتمام، أي أنّ له إماماً يرجع إليه، وعنه يأخذ معالم دينه ويقدّم له الطاعة والولاء، فلا يتأخّر عن دعوته إذا دعاه ولو كان ذلك بخوض اللُجج، وسفك المُهج، فالشعور بالائتمام ضروريّ لضبط الإنسان في فكره وعقائده وسلوكه على الصعيد الفرديّ والجماعيّ، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "نحن قومٌ فرَضَ الله طاعتنا، وإنّكم لتأتمُّون بمن لا يُعذر النّاس بجهالته".
215
الليلة التاسعة
محاور الموضوع
الشعور بالائتمام بالمهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
فهذه الآية تتحدّث عن حتميّة تماثل ما تميل إليه الفطرة البشريّة، وهذه الحتميّة هي حتميّة انتصار الحقّ، وأن لا تُختتم المسيرة البشريّة إلّا بعد النّصر الشامل، حيث يسود العدل بعد أن يكشح أبطالُه عن الأرض الظلم وآثاره، ويزيلوا دُولَه، ويتبِّروا علوَّ بنيانه. ولهذه العمليّة جنودٌ وقائد، والقائد هو الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بحسب النصوص وجنوده هم المؤتمّون بإمامته.
وإن كان الشعور بالائتمام بالنسبة إلى شيعة كلّ عصر من عصور الأئمّة لازماً لأنّه ميزان الإيمان فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّما يَعرف الله عزَّ وجلَّ ويعبده، من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت" وبدونه فالمِيتة مِيتةٌ جاهليّة.
فإمامنا هو إمام زماننا عليه السلام الذي نُسأل عن إمامته وهو الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعليه فعلينا أن نشعر بإمامته، كما كان يعرف أهل
216
الليلة التاسعة
كلّ عصر إمامهم بصفاته وشخصه ودوره، ولكن بما أنّ الشخص مُغيّبٌ تبقى المعرفة بالصفات والدور والمهمّة، ولا بدَّ من محضه المحبّة والولاء.
فالإمام المهديّ عليه السلامهو المُدَّخر من الله تعالى لعمليّة التغيير الكبرى الشاملة نحو إقامة دولة العدل الإلهيّ على الأرض.
تنمية الشعور بإمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف:
لا بدَّ للمؤمن أن يَسعى لاكتساب هذا الشعور بالائتمام، ولكن أيضاً عليه أن يَسعى لتربية وتنمية هذا الشعور، بمعنى الإحساس بوجوده وقيادته والتواصل الشعوريّ معه.
في أفراحه وأحزانه ومن أهمّها: التواصل اليوميّ معه عجل الله تعالى فرجه الشريف بما يتيسّر من وسائل في زمن الغيبة, وأهمّها الأدعية ومنها دعائي الندبة والعهد. والزيارات وفي مقدّمها زيارة آل يس:
زيارة آل يس وتنمية الشعور بالائتمام بالحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف:
أورد الشيخ عبّاس القمّي في مفاتيح الجنان نقلاً عن الاحتجاج للطبرسيّ، زيارة آل يس، وفي مقدّم ذلك نُقل عن الإمام
المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف قوله: "إذا أردتم التوجّه بنا إلى الله تعالى وإلينا فقولوا كما قال الله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾"... ثمّ أورد الزيارة.
217
الليلة التاسعة
ومن خلال هذا النصّ يتبيّن أنّ هذه الزيارة تهدف إلى تلبية حاجتين, الأولى: التواصل مع الله، والثانية: التواصل مع وليّه، ولعلّها تبيّن أنّهما متلازمان وكأنَّ إحداهما مرتبطة بالأخرى، بل لعلّ كلاًّ منهما في طول الأخرى لا في عرضها.
وممّا تُلفت إليه هذه الجملة، أنّ من يريد التواصل مع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته وإدامة الرابطة معه، والتواصل ولنيل الأماني، عليه أن يَلِجَ إلى أمانيه وحاجاته، بل واجباته هذه من خلال هذه الزيارة، التي يبدو أنّ لها آثاراً كبيرة في تعزيز الرابطة القلبيّة مع الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهي كذلك وسيلة لرباط القلب بفنائه عجل الله تعالى فرجه الشريف. ويمكن لنا من متن الزيارة أن نستفيد تفاصيل ما يُنميِّ ويُربيِّ هذا الشعور بالائتمام بالإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وهي لا على سبيل الحصر:
1- الإحساس بحياته ووجوده وفاعليّة وجوده عجل الله تعالى فرجه الشريف:
وذلك من خلال أمور وردت في نصّ الزيارة فهو حيٌ موجود وبركاتُ وجوده موجودة ومتواصلة. وحياته إيجابيّة ليس فيها انعزال عن المسؤوليّات، وإنّما كأجداده يقوم بأعباء الإمامة ولو لم يتسنَّم مقام السلطة الظاهريّة، سواء ما يتعلّق منها بالدّين أو الكتاب أو العبادات، فهو ربانيّ الآيات أي مُظهِرُها وهو خليفة الله، وهو الناصر لحَقّه، وهو الحجّة والدليل، وهو أيضاً تَرجُمان الآيات، وهو يمارس حياته العباديّة: فمن تلاوة الكتاب "السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه...".
245
218
الليلة التاسعة
1- إلى الصلاة: "السلام عليك حين تُصلّي وتقنت، السلام عليك حين تركع وتسجد، السلام عليك حين تُهلّل وتُكبّر، السلام عليك حين تَحمد وتستغفر".
وهو مرافق لحركة الزمان: "السلام عليك في آناء ليلك، وأطراف نهارك" ولذا فهو يُصبح ويُمسي "السلام عليك حين تُصبح وتُمسي" وبالتالي فاحتجابه لا تمنع من تدخلاته التدبيريّة.
2- الشعور برقابته: ومن تجليّات ذلك أن نُشهده على عقائدنا: "أُشهدك يا مولاي أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله..." إلى أن ينتهي إلى الأئمّة جميعاً وبعض تفاصيل العقيدة، ما يتعلّق منها بالموت والبعث والقيامة...
3- المعايشة الشعوريّة والعمليّة لحتميّة الانتصار، وبَسط العدل: فما يحكي عن ذلك في زيارة آل يس: "السلام عليك يا وعد الله الذي ضَمِنه.... وعداً غير مكذوب".
ومنها وإن جاء على سبيل عرض المعتقد فيه، وفي قضيّته ما ورد فيها وهو: "وأنّ رجعتَكم حقٌ لا ريب فيها، يوم لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً".
وبالتالي هذا يفترض المؤانسة له في غربته، وإدخال السرور على قلبه، المتجلّي بحيازة الجهوزيّة لنصرته، حيث في الزيارة يُعلّمنا عجل الله تعالى فرجه الشريف أن نقول: "فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له
246
219
الليلة التاسعة
وبرسوله، وبأمير المؤمنين، وبكم يا مولاي أوّلكم وآخركم".
وهذا الشرط العقائديّ للنصرة له عجل الله تعالى فرجه الشريف. ثمّ "ونصرتي معدّة لكم" إخبار له عجل الله تعالى فرجه الشريف بأنّ الزائر جاهزٌ للنصرة ولا يكون جاهزاً إن لم يحقّق الكفاءات العلميّة والعمليّة التي تُعين الإمام، في نهضته ودولته.
خاتمة: إخلاص المودّة له عجل الله تعالى فرجه الشريف:
"ومودّتي خالصة لكم.."
فالمودّة التي هي نحوٌ من التعاطف والميلان القلبيّ نحوَ من نودُّ ونحبّ الذي يختلف عن المعرفة العلميّة العقليّة، التي قد لا تستتبع انقياداً واقتداءً، فالمودّة تستتبع عملاً وانسجاماً سلوكيّاً، وبالتالي تستتبع الاقتداء والعمل والطاعة له عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهذه هي العدّة النفسيّة للنصرة، وهذه المودّة خالصة بلا إشراك أيّ نوازع.
ولذا يَختم كما يُفترض أن يختمَ الموحّدون بالطلب من الله التوفيق لذلك بالقول "آمين آمين".
247
220
الليلة العاشرة
المحاضرة الأولى: قسوة القلوب
الهدف:
بيان خطورة قسوة القلب وأسبابها وطرق علاجها.
تصدير الموضوع:
في الحديث القدسيّ: "يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب منّي بعيد".
222
الليلة العاشرة
مقدّمة: محرّم ومطر الرحمة للقلوب:
إنّ الله تعالى قد أودع في الإنسان جوهرة جعلها بيته الحقيقيّ: "لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن".
وأمرنا بعمارة هذا البيت وتطهير من رجس الشيطان ليكون لائقاً بصاحبه وسيّده.
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا وإنّ لله أواني في أرضه، وهي القلوب وأحبّ الأواني إلى الله أصفاها وأصلبها وأرقّها...".
وثمّة صفات أرشدنا إليها دليل الخير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليكون القلب محبوباً لله وهي الصافية من الذنوب والصلبة في الدين والرقيقة على الإخوان.
فالرقّة التي هي مقابل الغلظة والقسوة تجعل القلب محلّ عناية خالقه لصيرورته بها محبوباً عنده تعالى للقلوب كما جاء عن باقر العلوم عليه السلام: "إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان، ضنك في المعيشة ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب".
223
الليلة العاشرة
ولأنّ الله لطيف بعباده ومن موقع ربوبيّته للنفوس والقلوب متداركاً ما يوجب في القلوب قسوتها والمعبّر عنه بطول الأمد: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
إذ أنّ انقطاع القلوب عن مصدر الرحمة يؤدّي إلى قسوتها وجفافها تلطف بحسن التدبير, وجعل مواسم لمطر الرحمة الإلهيّة ينزلها على القلوب لتلين وتهتزّ وتنبت وتزهر وتثمر، فمحرّم كما أشهر النور مواسم ينبغي اغتنامها للتعرّض لهذه الرحمة والنعمة الإلهيّة العظمى.
محاور الموضوع
معنى قسوة القلوب:
قبل الحديث عن أسباب قسوة القلوب لا بدّ من القول أنّ معنى كون قلب الإنسان قاسياً هو كونه صلباً لا يتفاعل مع ما يوجب الرقّة واللين, فهو لا يخشع بين يدي الله تعالى ولا يعطف على أصحاب الآلام ولا يحنّ على الفقراء ولا يرأف بأحوال الضعفاء ولا يرقّ لمصاب ذوي المصائب, فالقاسي من القلوب هو ما لا يخشع لحقّ ولا يتأثّر برحمة، وإنّ من أبرز ذلك ونحن في عاشوراء الحسين عليه السلام هو عدم تفاعله وتأثّره بمصائب أهل بيت
224
الليلة العاشرة
النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولنا أن نعبّر بطريقة أخرى, وهي أنّ القلب كالأرض كلّما قلّ الماء فيها وجفّ ولم تتلقّ مطر السماء صلبت وقست، وإنّ الماء الذي يلين القلوب ويجعلها قابلة للإنبات والصلاح للزرع هو الرحمة. فالقلب القاسي هو القلب الذي جفّت فيه ونضبت منه ينابيع الرحمة ولم يتلقّ مطر الرحمة النازل من الله تعالى من خلال مواسم الرحمة ومجالس الرحمة ومواطن الرحمة ومنها مجالس عاشوراء, في الحديث القدسيّ: "القاسي القلب منّي بعيد".
أسباب قسوة القلوب:
هناك أسباب كثيرة لقسوة القلب ذكرت في القرآن الكريم وكذلك في أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ومن ذلك:
1- ترك العبادة:
إنّ مراودة العبادة هي مراودة لباب الرحمن الرحيم والتي من جملة آثارها أن يكسى الإنسان من حلل الله تعالى هداية, فالعبادة باب لتلقّي العناية الإلهيّة, فزائر العطّار يعود من عنده برائحة عطرة يجدها هو ومن يمرّ به، والمقبل على الله بالعبادة لا بدّ أن يعود من عنده فهو الرحمن الرحيم بشيء من الرحمة.
225
الليلة العاشرة
إضافة إلى أنّ العبادة من آثارها التواضع لأنّها تذلّل بين يدي الله تعالى فبالتالي فإنّ التذلّل يفضي إلى إيقاظ الرحمة في القلب, وعن أثر ترك العبادة على القلب جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ترك العبادة يقسّي القلب، وترك الذكر يميت النفس".
2- طول الأمل ونسيان الآخرة:
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "من يأمل أن يعيش غداً فإنّه يأمل أن يعيش أبداً ومن يأمل أن يعيش أبداً يقسو قلبه ويرغب في الدنيا ويزهد في الذي وعده ربّه تبارك وتعالى".
ويمكن أن يستفاد إضافة إلى طول الأمل أنّ نسيان الإنسان الموت والقبر والآخرة جميعها من موجبات قسوة القلب.
3- كثرة الذنوب:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب".
حيث إنّ آثار الذنوب التي ذكرت أنّها تترك على صفحة القلب آثاراً سمّاها القرآن الرين ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
226
الليلة العاشرة
فإذا تراكم الرين نتيجة الإكثار من الذنوب وعدم معالجته بالتوبة والاستغفار أدّى ذلك إلى قسوة القلوب، ومن أهمّ ما يؤدّي إلى قسوة القلب من الذنوب استماع الغناء والموسيقى المحرّمة.
4- الثرثرة وكثرة الكلام بغير ذكر الله:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، إنّ أبعد النّاس من الله القلب القاسي".
لقد ذكرت بعض الروايات خريطة عجيبة تؤدّي إلى الهلاك الأبديّ وأوّل هذه الخريطة كثرة الكلام التي توصل إلى محطّة في الطريق إلى الهاوية وهي كثرة الخطأ وكثرة الخطأ توصل إلى قسوة القلب وقسوة القلب تؤدّي إلى الهلاك الأعظم وهو موت القلب. وما ذلك إلّا لأنّ الثرثار يصل إلى درجة اللامبالاة بما يقول وإلى ما يؤدّي ما يقول، فلا يعبأ بعرض، ولا بالكلام, ومن حصائد إبليس في هذا الزمن ومصاديق الثرثرة ما يحصل على وسائل الاتصال الحديثة... فحذار ثمّ حذار.
5- أكل المال الحرام:
إنّ لأكل المال الحرام آثاراً خطيرة جدّاً في الدنيا والآخرة، حيث يكون هذا المال هناك بنفسه النّار التي يكون في محلّها
227
الليلة العاشرة
بطن الإنسان وقد قال تعالى عن أكل مال اليتامى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.
ومن مصاديق المال الحرام في زماننا ما يؤكل بالربا والتجارة المحرّمة والاحتيال والتجارة بالمحرّمات.
وأمّا في الدنيا فإنّ أكل المال الحرام كان سبباً لقسوة قلوب جنود ابن زياد وابن سعد إلى درجة أن يرتكبوا أفظع ما ارتكب من جرائم في تاريخ البشريّة، ولشدّة قسوة هذه القلوب لم تتأثّر بخطابات وليّ الله المعصوم الإمام الحسين عليه السلام حيث قال لهم: "كلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟".
علاج قسوة القلب:
ذكرت الروايات مجموعة علاجات لقسوة القلب فمنها:
1- ذكر الله في الخلوات:
عن الإمام الباقر عليه السلام: "تعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات".
228
الليلة العاشرة
2- التفكّر والبكاء من خشية الله:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عوّدوا قلوبكم الرّقّة وأكثروا من التفكّر والبكاء من خشية الله".
3- الرّقّة الإنسانيّة:
عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا شكا إليه رجل قساوة قلبه: "إذا أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم".
خاتمة: الجأ إلى طبيب القلوب:
في دعاء الجوشن الكبير: "... يا مقلّب القلوب، يا طبيب القلوب، يا منوّر القلوب، يا أنيس القلوب...".
فالله هو طبيب القلوب وعليك أن تلجأ إلى طبيبك الذي بيده طبّك وشفاؤك, ومن ثمّ عليك أن تشكو إليه آلامك كما علّمنا الإمام السجاد في مناجاة الشاكين: "إلهي إليك أشكو قلباً قاسياً مع الوسواس متقلّباً وبالرين والطبع متلبّساً وعيناً عن البكاء من خوفك جامدة وإلى ما يسرّها طامحة".
229
الليلة العاشرة
وكذلك ما جاء في مناجاة التائبين:
"إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي وجلّلني التباعد منك لباس مسكنتي, وأمات قلبي عظيم جنايتي, فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي ويا سؤلي ومنيتي، فوعزّتك لا أجد لذنوبي سواك غافراً ولا أرى لكسري غيرك جابراً...".
230
الليلة العاشرة
المحاضرة الثانية: الصبر
الهدف:
بيان أهمّيّة الصبر وآثاره وضرورة التحلّي به وعدم استعجال النتائج.
تصدير الموضوع:
فيما جاء من رواية عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: "... الصبر يعقب خيراً فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".
231
الليلة العاشرة
مقدّمة: الصبر, حكمةٌ وثمرة
إنّ الإنسان في هذه الدنيا معرّض للبلاءات، وللاختبارات والامتحانات ومن ثوابت التجربة الإنسانيّة أن مواجهة ذلك كلّه له عدّته الملائمة والمناسبة لرفع سوءته وجلب خيره، وسواءٌ كان ما يبتلى فيه الإنسان محبوباً أو مكروهاً فلا بدّ له لإصابة وجه الخير والحسن فيه من عدّة، ورأس العدد كلّ العدد وقوام أي عدّة هو الصبر, فإنّ الله يكشف عن سنّة عامّة بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. ولكنّه تعالى يقول إنّ هذه المعاناة مفتاح لشيء شديد الحسن والجمال والقيمة وهو لخاصّة هم الصابرون فأتمّ قوله الآنف: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
فالحكمة من سنّة الابتلاء والبلاء هو الصبر، أضف إلى كونه الثمرة المرجوّ حصولها في نفوس المؤمنين جرّاء مكابدة المشاق والمتاعب والآلام, والتعوّد على تحمّلها ومواجهتها بثبات وصمود. فإن كان الإنسان في وجوده الدنيويّ لا ينقل وجوده هذا عن احتمال تعرّضه في كلّ آن إلى المصائب والبلاءات كالأمراض وذهاب الأموال وخسارتها أو تعرّضها للتلف أو فقد الأعزّة والأحباب، أو أن يتسلّط عليه من الظلمة من يفقده
232
الليلة العاشرة
الأمان والشعور به أو غير ذلك ممّا لا يكون في الحسبان عنده, فإنّه لا بدّ له من الصبر عدّة وسلاماً ودرعاً ووقاءً في مواجهة الدهر وعواديه.
محاور الموضوع
1- معنى الصبر:
عُرّف الصبر بتعاريف كثيرة وشرح بشروح مختلفة منها: "أنّه كفّ النفس عن الجزع أو امتناعها عن الشكوى"، والحقيقة أنّ معنى الصبر من الأمور الواضحة عند العرف والتي لا يشتبه فيها, وهو ضدّ الشكاية والجزع, ومعناه وجود قوّة تحمّل عند الإنسان وثباته عندما يواجه المصاعب والمتاعب والبلاءات، بحيث لا يضطرب ولا يتزلزل ولا يفقد الاتّزان بل يبقى متماسكاً صامداً مقاوماً حتّى تنتهي المحن ونزول الصعوبات, وينفتح باب الفرج ويكتب له النّصر والفوز والفلاح والنجاح.
فليس الصبر قيمة سلبيّة تعني الخضوع والخنوع وقبول وتحمّل الشقاء والذلّة والاستسلام بل هو تحمّل إيجابيّ للمعاناة المترتّبة على المواجهة إمّا مع النفس أو مع الأعداء أو مع الظروف والحوادث ذات الطبيعة المرّة والمؤلمة، بمعنى أن لا ينهار الإنسان ويستسلم لتدوسه عجلات الواقع السيّء متعلّلاً بالعجز لأنّ
263
233
الليلة العاشرة
"العجز آفة" أو لتطأه نعال المحتلّين والظالمين أو يتردّى في سلاسل أغلال النفس الأمّارة فيمكث دهره في عبوديّتها ليحشر يوم القيامة وفي عنقه السلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً.
2- ثمار الصبر في الدنيا:
إنّ للصبر آثاراً جمّة ولذا نرى العقلاء في طول المسيرة البشريّة- ومهما كانت توجّهاتهم الذكريّة والدينيّة - يمدحون هذه الصفة والمتحلّين بها ويحثّون عليها.
فالصبر أحد أهمّ مقوّيات الإرادة والعزم، ويعين الإنسان على ترويض نفسه في عمليّة بنائها وتكاملها، ولذا فهو مفتاح أبواب السعادات, ووسيلة لرقي الإنسان وتطوّره, فالذي يريد المقامات العلميّة لا بدّ له من الصبر ولذا ورد أنّه: "من لم يصبر على ذلّ التعلّم ساعة بقي في ذلّ الجهل إلى قيام الساعة".
والصبر يهوّن الصعاب ويعين الإنسان على تجاوز المحن والمصائب ويهوّنها ويمنح الإنسان القدرة على التماسك وعدم السقوط والتزلزل والاضطراب بحيث يستطيع امتلاك القدرة على الفعل والمواجهة، والصبر كذلك يصون حريّة الإنسان وعزّته, فبالصبر عن المعصية لا تستذلّه الأهواء والشهوات والمطامع فيلج منه إلى التقوى، وبالصبر على البلايا يترقّى إلى
234
الليلة العاشرة
مقامات كالرضا بالقضاء، وبالصبر على الطاعة يمكن أن يجد حلاوة العبادة فيستأنس بها ليرقى بعدها إلى الاستيناس بالمعبود.
وبالصبر على مخاوف المواجهة والحرب تحصل الشجاعة فالإقدام يكون النصر ولذا كان: "النصر صبر ساعة".
ويكفي لمعرفة مقام وأثر الصبر أنّه وسيلة للإصطفاء الإلهيّ فقد قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾, فالإمامة منصب يشكّل الصبر أحد أسباب استحقاقها. بل إنّ الصبر وسيلة لاستدرار المدد الغيبيّ: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾.
وكذلك فإنّ من ثمار الصبر هو المعيّة الإلهيّة: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
3- ثواب الصبر:
لقد ورد أنّ هناك باباً من أبواب الجنّة هو باب الصابرين يدخلون منه، ويكفي في ذلك أنّ الصابرين يدخلون الجنّة بلا حساب فهم معفون من المساءلة والمداقّة في الحساب وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
235
الليلة العاشرة
بل إنّ ثواب الصابرين هو إعطاؤهم الأجر على أحسن عملهم لا على أقلّه حيث قال الله: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
وأيضاً من ثمار الصبر المغفرة الإلهيّة والصبر الكبير: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
وذلك كلّه إضافة إلى الجنّة ونعيمها: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.
خاتمة: لا تستعجلوا النّصر:
إنّ الصبر للمؤمن نفحة روحيّة تأتيه من الله وبتوفيق منه وباعتصامه بها يخفّف من بؤسه وبأسائه ويجرّ بها إلى أعماق نفسه وقلبه السكينة والاطمئنان بدل أن تثقل خطاء البلاءات النازلة وتجمّده عن الحركة وتؤدّي إلى إنهياره وانصهاره في حممها.
ويمكننا أن نقول وبصدق مستفيدين من حكمة أمير المؤمنين عليه السلام "العجز آفة والصبر شجاعة"، إنّ من يعتصم بالصبر يحصّل الشجاعة التي هي صبر على ملاقاة الأعداء وخوض غمار المعارك وإلقاء النفس في لهواتها مع توطين النفس
236
الليلة العاشرة
على تحمّل آلامها ومشاقّها مع الإقدام والعزم والثبات، من يعتصم بالصبر مقدماً على القتال والمواجهة سوف يحطّم قيود العجز ويجدها أوهاماً لا حقائق، فالصبر يصنع القدرة على النصر والنجاح وإيجاد القوّة والقدرة على الفعل، ولكن لا بدّ من التنبيه على أمر خطير وهو أنّ ممّا يؤدّي إلى الفشل والهزائم هو استعجال النتائج. فكم مرّة تحوّل النّصر في الكثير من المعارك في بداياتها إلى هزيمة في نهاياتها بسبب استعجال النّصر، ولذا فعلينا مرّة أخرى أن نتحلّى بالصبر حتّى يؤتي الجهاد ثماره ولا نستعجل النتائج, فالكثير من المعارك يحتاج إلى النفس الطويل لتكتمل عناصر النّصر وإلّا فإنّ الاستعجال قد يؤدّي إلى الحرمان.
267
237
الليلة العاشرة
المحاضرة الثالثة: آثار وبركات زيارة الإمام الحسين عليه السلام
الهدف:
بيان أهمّيّة الزيارة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ومعانيها والحثّ على ذلك من خلال بيان مشروعيّتها وثوابها وفلسفتها.
تصدير الموضوع:
عن الرضا عليه السلام: "إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحُسن الأداء، زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة".
238
الليلة العاشرة
مقدّمة: الزيارة وفاء للعهد
ليست زيارة القبور مطلقاً، وزيارة المراقد المطهرّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام إلّا حالةٌ أجَازتها الشريعة السمحاء لما فيها من منافع تعود على الأفراد والأمم.
لأنّ زيارة أهل الفضل على الأمم وعلى البشريّة إضافة إلى كونها تكريماً في الظاهر لهم واحتراماً واعترافاً بأياديهم البيضاء.
فهي أيضاً تمثّل حالة إدامة الربط والارتباط بهم وبما يُمثّلون من قِيمٍ ومبادئ، وهي بابٌ للتفاعل الروحيّ والنفسيّ بما يؤدّي إلى إيقاظ أسمى المعاني الخُلُقيّة الرفيعة.
وهذه الزيارات هي حالة من التجسيد العمليّ للوفاء اتجاه النبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما عبّرت عنه الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ من تمام الوفاء بالعهد وحُسن الأداء زيارة قبورهم".
فهذا النصّ السابق في الرواية يندب إلى زيارة قبور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكلّ الأئمّة عليهم السلام وكان هذا دأب الصالحين والمؤمنين على طول الزمان. إلّا أنّه لما كانت كربلاء شهدت تلك الملحمة النادرة في التاريخ الرساليّ بما حوته من بطولات وتضحيات وقيم وأخلاق ولكونه عليه السلام أحيا الدّين وذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والآل عليهم السلام وأضاء بدمه على نورانيّة وطهارة أهل البيت وأمدَّ كلّ ذلك إضافة إلى الدّين ومعارفه وقِيَمه وأخلاقه بأسباب الخلود. حاز الإمام الحسين عليه السلام تلك المنزلة من الشرف والتقديس وألبس
270
239
الليلة العاشرة
الزمان الذي استشهد فيه والمكان الذي ثوى فيه قدسيّةً وشرفاً لتصبح مهوى الأفئدة، وقبلة القلوب، فغدت قلوب الناس أسيرة مشهده، تهوي إليه كما تهوي إلى البيت العتيق.
ولقد كان لأهل البيت عليهم السلام الدور البارز في التوجيه والحثّ على زيارة القبر الشريف لسيّد الشهداء، ولزيارته عليه السلامولو من بعد، فهذا ابن عبّاس ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له: "يا بن عبّاس, من زاره عارفاً بحقّه، كُتب له ثواب ألف حجّة وألف عمرة، ألا ومن زاره فكأنّما زارني، ومن زارني فكأنّما قد زار الله، وحقّ الزائر على الله ألّا يعذّبه بالنّار".
واستمرّ الأئمّة يحثّون الشيعة على زيارته عليه السلامحيث ينقل عن الإمام الباقر عليه السلام: "مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام فإنّ إتيانه مفترضٌ على كلّ مؤمن يقرُّ للحسين عليه السلام بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ".
محاور الموضوع
فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام:
ورد في ما روي عن أهل بيت النبوّة الكثير من وصف فضل زيارته عليه السلام وثوابها نذكر منها:
240
الليلة العاشرة
1ـ تزيد في العمر والرزق: عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلامفإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء...".
2ـ الأمن يوم القيامة: عن زيد الشحّام قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "من أتى قبر الحسين عليه السلامتشوّقاً إليه كتبه الله من الآمنين يوم القيامة، وأُعطي كتابه بيمينه، وكان تحت لواء الحسين عليه السلام حتّى يدخل الجنّة فيسكنه في درجته إنّ الله عزيز حكيم".
3ـ غفران الذنوب: عن الإمام أبي الحسن موسى عليه السلام: "أدنى ما يُثاب به زائر الحسين عليه السلامبشاطئ الفرات إذا عرف حقّه وحرمته وولايته، أن يُغفر ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر".
هذا إضافة إلى ما ذكرته الروايات من أنّ زيارته عليه السلام تعدل الحجّ والعمرة والجهاد وتخففّ الحسابِ وتورثُ ارتفاع الدرجات، وإجابة الدعوات، وقضاء الحاجات، ورفع الهموم، وتهوين سكرات الموت، وتُذهب بهول القبر.
241
الليلة العاشرة
المعصوم يدعو للزوار:
ويكفي أنّ بعض الروايات ذكرت استقبال الملائكة للزوّار قادمين ومشايعتهم لهم عائدين، وأنّ الأنبياء والأوصياء والأئمّة والملائكة يزورون الحسين عليه السلامويدعون لزوّاره ويبشّرونهم بالبشائر (كما أورد ذلك صاحب مفاتيح الجنان).
فقد نقل عن معاوية بن وهب قال: دخلت على الإمام الصادق عليه السلاموهو في مصلّاه فجلست حتّى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه ويقول: "يا من خصّنا بالكرامة، ووعَدَنا الشفاعة، وحمّلنا الرسالة، وجَعَلنا ورثة الأنبياء" إلى أن يقول عليه السلام: "فكافهم عنّا بالرضوان وأكلأهم بالليل والنّهار... وأعطهم أفضل ما أمَّلوا منك في غربتهم... فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على قبر أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهمّ إنّي استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتّى ترويهم من الحوض يوم العطش".
242
الليلة العاشرة
زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ويوم الأربعين:
لا يَكاد تخلو مناسبة من المناسبات الدينيّة إلّا ويُستحب فيها زيارة الإمام الحسين عليه السلام منها زيارته في النصف من رجب والنصف من شعبان وفي ليالي القدر ويوم الفطر ويوم الأضحى إضافة إلى استحباب زيارته مطلقاً في أيّ زمان ومكان ولعلّ من أهمّ أوقات الزيارة هي زيارته حيث يجتمع الزمان مع المكان بمعنى زيارته عليه السلام في كربلاء يوم العاشر من المحرّم... فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "من زار قبر الحسين بن عليّ عليه السلام في يوم عاشوراء يظلّ عنده باكياً، لقي الله (عزَّ وجلَّ) يوم يلقاه بثواب ألفي حجّة، وألفي عمرة، وألفي غزوة، كثواب من حجّ واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع الأئمّة الراشدين".
ومن الزيارات زيارة الأربعين أي يوم العشرين من صفر فقد نقل الشيخ القمّي في مفاتيح الجنان عن الشيخ الطوسيّ في التهذيب والمصباح عن الإمام العسكريّ عليه السلام أنّه قال: "علامات المؤمن خمس، صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم...".
243
الليلة العاشرة
خاتمة: زر في كلّ مكان ومن كلّ مكان
رُوي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سُئل عن زيارة الحسين عليه السلام هل لها وقت أفضل من غيره قال عليه السلام: "زوروه في كلّ زمان، فإنّ زيارته خير مقرّر، من أكثر منها كَثُرَ نصيبه من الخير، ومن أقلَّ منها قلَّ نصيبه منه، واجتهدوا في زيارته في الأوقات الشريفة، ففيها يُضاعَف أجر الصالحات، وتُنزّل فيها الملائكة من السماء لزيارته".
وعن زيارته عليه السلام من كلّ مكان روى ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق عليه السلام قال: "إذا بعدت بأحدكم الشقّة، ونأت به الدّار، فليعلُ أعلى منزله، فيصلّي ركعتين، وليوميء بالسلام إلى قبورنا، فإنّ ذلك يصير إلينا".
244