بين العبادة والعبودية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
 
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
 
الحمد لله ربّ العالمين على ما تفضل به علينا وأسبغ من نعمه ظاهرة وباطنة، وما تلطف به على عباده بإرسال الرسل، وما أنزل من كتاب هدىً للنّاس، والصلاة والسلام على الهادي البشير، حامل رسالة ربّ العالمين، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته الطاهرين عليهم السلام القادة الهداة الى الصراط المستقيم.
 
لو تأمّل الإنسان قليلاً وتدبر في مسيرة الإنسانية، لشاهد الفوضى والدمار يعمان المعمورة، وتنتاب النّاسَ حالاتُ القلق والخوف والتشاؤم من المستقبل المجهول، ويلفهم الضياع والحرمان لأنهم أضاعوا الطريق السليم الذي يربطهم بخالق هذا الكون، والمنظم للطبيعة والمشرع الحقيقي لحياة الإنسان. فراح الإنسان المادي يكفر بأنعم الله تعالى، ويستغل القوي الضعيف للهيمنة على بركات الأرض والسماء، ويحتكرها ليجوع الملايين من البشر ويحرمون من نِعَم الله التي لا تحصى.
 
فالإسلام بتشريعاته أراد أن يسمو بالإنسان الى مصاف الملائكة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5
 

1

المقدمة

 إلاّ أنّ الإنسان الجاهلي أعرض عن نعم الله وهديه، واختار الضلال وتنكب طريق الهداية، فابتدع وشرع حسب هواه، باحثاً عن السعادة وهي كامنة في الإسلام الذي نبذوه وراء ظهورهم، فاستحوذ عليهم الشّيطان فأنساهم ذكر الله العظيم.


فالإسلام في جميع مقرراته في العقائد والأحكام والأخلاق يسير في منحى يلائم الإنسان والكون وما فيه بدقة تحير الأفهام وتدهش الألباب، في حين نجد أن كل الجاهليات القديمة والحديثة تسعى لتحقيق بعض هذه الملاءمة من أجل أن تستقيم الحياة الإنسانية، لكنها تبوء بالفشل والخيبة، لأنها تحمل بذور العجز عن ذلك فطرياً، حيث إنّها تولد وهي منحرفة نحو ناحية على حساب النواحي الأخرى الجديرة بالعناية والإهتمام.

فمن النّاس من كرس اهتماماته بالجوانب الروحية وترويض النفس على ترك مظاهر الحياة، ومنهم من اهتم بالجانب المادي والمظاهر الحياتية تاركاً كل ما يمت الى الروح وطهارتها ونقائها وصفاء النفس والضمير، بينما امتاز الإسلام بسمة الاعتدال والتوازن وأكّد على ضرورة تطهير النفس من أدران الإلحاد والشرك وطهارة الجسد والطعام والملبس من ألوان النجاسات والأوساخ.

فإنّ الله سبحانه وتعالى منح الإنسان فرصة الإختيار لاختيار المبادىء والأفكار والسبل التي يصل بها الى تحقيق أهدافه.

إلاّ أنّ هذا الانسان لا زال يتخبط بعيداً عن المنهج الإلهي في تيه وضلال حتى يتجه الى الله تعالى ليستمد منه العون ويطلب منه الهداية ويسأله التوفيق، بأن ينضم الى مسيرة الأنبياء والصالحين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 فإذا ظفر الإنسان بشريعة خاتم المرسلين، وفاز بالتمسك بها، فقد اهتدى ونجا وتمسك بالعروة الوثقى، ولسوف يعطيه ربه فيرضى، وأما إذا ظل متبعاً هواه وسلك مناهج وضعية، فقد هوى وتردى، وضل سعيهُ في الآخرة والأولى ولسوف يشقى.

 
والإسلام العظيم لا يمنح الإنسان العصمة من الزلل والمعاصي إلاّ بمقدار ما يتمسك به ذلك الإنسان من أحكام الشريعة الغرّاء، وما يؤمن به من فكر الإسلام وخلقه القويم، وما يؤديه من واجبات أزاء شخصه ومجتمعه وخالقه سبحانه وتعالى.
 
والإسلام لم يكتف بطرح منهجه فحسب، بل أحاط الفرد والمجتمع بما يكفل له سبيل الطاعة، ويجنبه سبيل المعصية، فيحقق له الرخاء، وينجيه من الشقاء، ولكن في الحدود التي تبقي على حرية الإنسان وقدرته على الإمتثال والإمتناع.
 
ومن لطف الله ورحمته بعباده، جعل لهم باباً مفتوحاً إليه، عندما يدركون أخطاءهم ويستعيدون رشدهم ويوقنون بأن لا ملجأ إلاّ إليه ولا سعادة إلاّ بما شرع لهم من الدين، سماه باب التوبة، يدخلونه غير خائفين، دون واسطة من كاهن أو قس أو صك غفران أو فضائح على كراسي الإعتراف.
 
بل بكل ستر واطمئنان، فهو الذي تعهد بأن يبدل سيئاتهم حسنات، كلما أخلصوا له التوبة والعودة الى صراطه المستقيم، ﴿إلاّ مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سيِّئَاتَهُمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحيماً﴾ الفرقان/07.
 
ولكي لا ييأس العبد من رحمة ربّه الواسعة، ولكي لا يسدر في غيه،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 قاطعاً الأمل من الله تعالى، مستسلماً لذنوبه وآثامه، ترك له باب التوبة مفتوحاً.

 
فالعودة الى الله تعالى في مضمونها العملي، رفضٌ للمعصية وانتفاضة عملاقة من الأعماق على عوامل الفساد ودواعي الشرور التي دأب أعداء الإسلام على إشاعتها ونشرها لهدم قيمنا الإسلامية وتقويض حضارتنا الزاهرة.
 
وسوف يعلم الانسان أنّ كل تشريع عبادي أو حياتي لا بدّ وأن تكون وراءه حكمة بالغة لصالح العبد نفسه، تسلك في سبل الصلاح ومعارج الكمال، فإنّ الله تعالى بعث أنبياءه ورسله هداية للنّاس ورحمة للعالمين، ينقذوهم من حيرة الضلالة، ويوضحون لهم الطريق المستقيم، ويضعونهم على الجادة الصحيحة، التي فيها صلاح دنياهم وأخراهم، وما حرّم الله سبحانه على الإنسان إلاّ ما يجلب له مضرة حتمية.
 
فلقد جاء الإسلام ليهدي الضال، ويحمي الضعيف، وينتصر للمظلوم، ويشبع الجائع، ويكسي العريان، ولينظم الحقوق والواجبات، ويحرر الفرد والأسرة والأمّة من الخوف والظلم والجهل والجوع، وليتساوى أمام منصة قضائه، وفي محراب عبادته، وفي توزيع حقوقه ومسؤولياته الأسود والأبيض والحاكم والمحكوم والرجل والمرأة، ليضع الموازين القسط لتنظيم الحياة بكل ما فيها، ولكل ما يحتاج إليه الإنسان في مسيرته عبر الحياة، وهو يحمل رسالة الهداية والإصلاح ومشعل القوة والرحمة ولواء الحرية والعدالة لتتفيأ البشرية ظلاله.
 
ومن خلال هذا الموقع وهذه المنزلة، لا بدّ للإنسان أن يوطد علاقته بالله سبحانه أكثر فأكثر، وأن لا يغفل عن ذكره والإتكال عليه، ﴿الَّذِينَ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

المقدمة

 يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والأرْضِ..﴾ آل عمران/191.

 
فالبذكر الدائم تتقد جذوة الحب الالهي في نفس الإنسان المسلم، فيرتقي الى ساحات القرب وعوالم الإنشراح، ويجوب رياض اليقين، وتطل نفسه على نور البصيرة في الرؤية، الذي لا يعتريه غروب، ويتوفر لديه حضور الوازع الداخلي الذي لا يعقبه غياب.
 
وحقيقة الذاكرين هم أولئك الذين وفوا بعهدهم مع الله تعالى فاندكت ذواتهم خشية منه، واستقامت طريقتهم طاعة له، وعلت نفوسهم وصفت بكثرة الإنابة إليه ودوام الإستغفار وكثرة العبادة والدعاء، فهم معه لا يغفلون عنه طرفة عين ولا يشغلهم عن ذكره بيع أو شراء وهم بحمده يسبّحون ولفضله يشكرون وعليه يتوكلون.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 1 ـ العبودية



السجود والتسليم والخضوع، كلها معانٍ متعددة لحقيقة واحدة وهي العبودية.

والعبودية بهذا المعنى حقيقة جارية على كل مخلوقات الله.

فالكون وما فيه، من عوالم المادة والاحياء وسائر المخلوفات يتجه بتكوينه وابداعه اتجاهاً مرتبطاً بإرادة الله ومشيئته، بصورة تنطق بالسجود، وبالتسليم والخضوع الكامل والمطلق لله سبحانه.

والمخلوقات بأسرها تحقق بهذا الخضوع أفضل صور الكمال والأداء الوظيفي المرسوم لها، وهو كمال الوجود، وحفظ النظام الكوني العام.

ولو قدر لشيء من هذا الوجود أن يخرج على نظام الخلق والابداع لتعرض للفناء والدمار.

فلو خرجت الكواكب عن مداراتها، أو الأرض عن موقعها، والشمس عن مجموعتها، لتعرض النظام الكوني العام للفناء والعدم.

فكل المخلوقات إذاً... الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان خاضعة خضوعاً تكوينياً، أي خضوعاً للنظام والقانون العام، الذي جعل الله العالم يسير بمقضتاه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

6

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ولكي نستكشف هذه الحقيقة، ونستوضح معناها بصورة أدق، وبكيفية أوضح... فلننصت للقرآن الكريم وهو يصف لنا بطريقته الرائعة كيفية خضوع العالم، وسجوده، وارتباطه بخالقه.

 
فهو يصور لنا هذا الخضوع بصورة لفظية متعددة ويعرضه بصيغ بيانية أخاذة.. حتى نرى الكون من خلالها عابداً قديساً، وساجداً خشوعاً.. يستشعر وجود خالقه ويسلم بعظمة صانعه.
فهو يعبر لنا عن حقيقة هذا الاتجاه الكوني العام لله سبحانه، وارتباط الكون به وحاجته إليه، والسير وفق إرادته، بالسجود والاستسلام الذي هو الخضوع، والذل، والانصياع، ليضع الكون بأسره أمامنا في محراب العبادة والاستجابة لإرادة الله وأمره.
 
كل ذلك لنستشعر في نفوسنا معنى العبودية، وتشرق في قلوبنا أنوار الطاعة والتسليم، فنندمج مع وحدة هذا الكون الساجد الخاضع الذي لا ينفك عن هذا الخضوع، والتسليم، ما زال فيه حفظ وجوده، وكمال نظامه، ودوام بقائه، والتعبير عن غاية وجوده.
 
وها هو القرآن الكريم يصف لنا سجود الكون، والعوالم، وخضوعها بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيءٍ، يَتَفَيَّؤا ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمَائِلِ سُجَّداً للَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالملائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ النحل/84 - 94.
 
﴿أَفَغَيْرِ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرجَعُونَ﴾ آل عمران/38.
 
فها هو القرآن الكريم يرسم لنا صورة الخلق وهو ساجد، ويلفت أنظارنا إليه وهو عابد، ويزجر الغافلين منا، ويطالبنا بأن نفكر فيما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

7

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 حولنا من عوالم وأكوان... لنرى كل شيء خاضعاً داخراً ــ أي مرغماً ــ ومتصاغراً، مستسلماً لعظمة الله وارداته، فالأرض، والسماء، والحيوان، والنبات... وكل مخلوق تشرق عليه أنوار الوجود، لا يملك التمرد، ولا التكبر، ولا يستطيع الرفض لارادة الله، ولا الخروج على حكمته وتدبيره.

 
وكأن القرآن بخطابه هذا يقول لنا:
 
لم لا يتعظ الإنسان بهذه الحقيقة؟
 
ولم يحاول الشذوذ والتمرد، والعصيان، فيقع في هاوية الشقاء والتعاسة؟؟ أليس الأجدر به وهو العاقل المفكر أن يندمج في موكب هذا الكون المتمتم بتراتيل العبادة، والنشوان بحلاوة التسبيح والسجود؟
 
ألا ينظر وقد:
 
﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ الحديد/1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

8

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 2 ـ الإنسان والعبودية


والعبودية تلك الحقيقة الكونية السارية في أعماق الوجود، والسمة التكوينية المتجسدة في كل أرجاء هذا العالم.

ليس بوسع الإنسان إلاّ أن يجد نفسه فرداً كونياً يدور مرغماً في فلكها حيناً، وإرادة حية تتردد بين اختيارين إزاءها حيناً آخر.

لهذا فإن العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى بالنسبة للفرد الإنساني المتصف بالاختيار، والإرادة، والمتعرض للجزاء والمسؤولية تقسم الى قسمين:

أ ـ العبودية التكوينية:

إن من يعيش مع تصوير القرآن ــ يعيش بوعيه وإحساسه ــ لسجود الكون والعوالم والمخلوقات والأشياء، يدرك أن الإنسان بكامل تكوينه جزء من هذا العالم، وهو مرغم على الخضوع والسجود، أو على العبودية بمعناها التكويني، وعدم القدرة على الشذوذ، أو التمرد على إرادة الله التكوينية التي استوعبت الوجود بأسره.

فهو مرغم على الحياة والموت، والنمو والولادة.. إلخ وهو لا يستطيع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 أن يختار شكله وحجمه، ولا العائلة التي يولد فيها ولا العنصر الذي ينتمي إليه، أو المؤهلات التكوينية التي يتصف بها.

 
كما لا يستطيع أن يخالف قوانين الطبيعة، كقوانين الفيزياء، والكيمياء، والاحياء، التي تجري عليه، وتنظم وجوده، شأنه في ذلك شأن سائر المخلوقات والكائنات التي لا إرادة لها، كما أنه لا يستطيع أن يقوم بخلق نفسه وتكوينها، لذا كان بهذا العجز وبتلك الحاجة الى خالقه عبداً مملوكاً، وخاضعاً مستسلماً لإرادة الله، استسلاماً تكوينياً جبرياً.
 
ولكي يعي الانسان هذه الحقيقة استمر القرآن في تنبيهه والتأكيد له على عبوديته، واستسلامه لخالق الوجود، مثال ذلك قوله تعالى:
 
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرْضِ، وَلِكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ الشورى/71.
 
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ الفرقان/71.
 
﴿إِن كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾ مريم/39.
 
فالقرآن يؤكد لنا في هذه الآيات أن كل الناس، هم عباد الله من حيث علاقتهم التكوينية به، سواء منهم المؤمن المطيع، عن وعي وإرادة واختيار لأوامر الله ونواهيه، أو الكافر المتمرد الذي يأبى الطاعة والالتزام بأوامر الله ونواهيه.
 
فالإنسان يدور في فلك العبودية مرغماً، لأنه مملوك، وتابع لله، وخاضع لمشيئته، لذا فالقرآن سمى الضالين، والمنحرفين، عباداً كما سمى كل من في السموات والأرض، من ملائكة، وناس عباداً، بغض النظر عن ممارستهم للعبادة أو رفضهم لها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

10

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 وهذا اللون من العبودية والاستسلام والخضوع، نسميه عبودية تكوينية أو خضوعاً تكوينياً جبرياً.


ب ـ العبودية الاختيارية:

يختلف الإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات بكونه كائناً عاقلاً مدركاً يملك إرادة وقدرة على الاختيار بما أفاض الله عليه من قوة عقلية عظيمة، ووهبه من حق في اختيار السلوك والأعمال، فهو يستطيع بذلك الاستعداد أن يفعل الخير، أو يختار طريق الشر، وأن يتوجه الى الله ويرتبط به كما يستطيع أن يتمرد على أوامر الله وشريعته، فيختار طريق الانحراف والعصيان.

وهو بعلاقته هذه مع الله يختلف تماماً عن علاقته التكوينية التي تحدثنا عنها، ففي العلاقة التكوينية كان مجبراً، مسيراً، لا يملك إرادة ولا اختياراً.

أما في العلاقة الثانية تنظيم الرابطة السلوكية بينه وبين الله فهو كائن مريد، مختار، يستطيع أن يختار الطريق الرباني الموصل الى مرضاة الله ــ أي يختار طريق العبودية لله ــ كما يستطيع أن يختار طريق الضلال الذي هو طريق العبودية والخضوع لغير الله، فيعبد ذاته أو شهواته فيخضع لها، أو يتخذ طواغيت البشر المستبدين آلهة يقدسهم، ويأتمر بأوامرهم ويلتزم بإرادتهم ويخضع نفسه لهم.

هذه العبودية التي يختارها الإنسان سواء العبودية لله أو لغير الله، هي عبودية إختيارية، اختارها الإنسان بمحض إرادته، لذا كان مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها يوم الجزاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

11

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 قال تعالى:

 
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾ الصافات/42.
 
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنشوراً  اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً  مَنْ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثُ رَسُولاً﴾ الإسراء/31 - 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19
 

12

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 3 ـ لا بد من عبودية

 
 
﴿وَلِكُلٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة/841.
 
وإذا لا بد للإنسان من معبود في حياته تخضع له ذات الإنسان، وتتجه نحوه بإرادته، لأنه لا بد لكل إنسان في حياته من باعث على الفعل والسلوك الذي يختاره في الحياة، ولا بدّ له من غاية يتوجه إليها في حياته، فتكون هذه الغاية هي القوة المحفزة له على إتيان الأفعال والنشاطات، وهي الدافع والمنطلق في كل فعل يختاره أو يرفضه، فيكون ذلك المبدأ وتلك الغاية هي معبودَهُ وإلهه ــ وإن لم يقل هي إلهي ــ الذي يتوجه إليه بكل أفعاله..
 
وتتعدد هذه الغايات والمنطلقات حسب وعي الإنسان واختياره، فقد يكون معبوده الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هواه.
 
قال تعالى:
 
﴿أرأيت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ الفرقان/34.
 
وقد يكون الطاغوت من البشر والجبابرة، فإن كانت غايته ودافعه الى العمل هو الله سبحانه، كانت عبودية لله وحده، أما إن كانت الغاية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

13

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 والدافع هي غير الله، كانت عبوديته الى ذلك الغير الذي يسيطر على تفكيره ومشاعره وأعماله.

 
ويمكننا على هذا الأساس أن نصنف عبودية الإنسان الاختيارية الى عبوديتين.
 
أ ـ عبودية مخلصة لله:
 
وهي العبودية القائمة على الاخلاص لله في كل فعل وعمل يصدر عن الإنسان، بحيث يكون التوجه الى الله سبباً لكل فعل، وغاية في كل عمل... لا يرجو الانسان غير مرضاة الله، ولا يتحفز إلاّ بحافز حب الله... سواء في صلاته وصومه، أو في تفكيره ونيته، وأحاسيسه ومشاعره، أو في علاقاته وسلوكه الذي يمارسه في مجتمعه ومحيطه، من أخلاق وسياسة، واقتصاد، وقضاء، وحب، وكره، ورضا، وغضب.. إلخ.
 
وكذلك علاقته بالكون، والطبيعة، وبالعالم من حوله، لأن الانسان المؤمن ينطلق من مبدأ أساسي، وقاعدة فكرية أساسية هي:
 
إن الكون والإنسان ملك لله وحده، لذا يجب عليه أن يحافظ على خط العبودية ويندمج به، محققاً الإخلاص المطلق لله والصفاء العبودي الخالص من كل شائبة تكدر صفو الاخلاص ومحضه.. كالنفاق والرياء والملق.. إلخ.
 
وقد جسد القرآن الكريم روح العبودية الخالصة لله، ووضح طريقها بقوله تعالى:
 
﴿...وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ، حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ الأنعام/97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

14

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 وعلى هدي القرآن هذا جاءت الآثار المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله توضح فكرة الاخلاص في العقيدة والعمل، وتدعو الى التجرد ووحدة الاتجاه الى الله سبحانه.

 
فقد روي أن اعرابياً جاء رسول الله صلى الله عليه وآله يسأله عمن يصنع المعروف، أو يتصدق ويحب أن يحمد ويؤجر، فصمت الرسول صلى الله عليه وآله ولم يجب على هذا السؤال حتى نزلت الآية الكريمة جواباً كاملاً، ويوضح طريق الاخلاص والعبودية لله وحده
 
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ، أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ الكهف/011.
 
وهكذا جاء جواب القرآن الكريم رفضاً لشرك الذات، وانقسام الاتجاه بين حب المديح، وبين التقرب الى الله سبحانه، لذلك دعا الإنسان المؤمن أن يتحرر من هذا الشرك ــ شرك الذات في العبادة مع الله ــ أو الرغبة في الجمع بين الأجر والثواب من الله تعالى، وبين المديح والثناء من الناس.
 
ويروى عن الإمام علي عليهم السلام قوله:
 
"طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره"1.
 
وهكذا تأتي دعوة الإسلام مؤكدة على صياغة سلوك إنساني
 
 
 

1-جامع السعادات ج2-ص400
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

15

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 متماسك، موحد الهدف والاتجاه، يقوم على أساس التوحيد والاخلاص لله وحده، من أجل تحرير الإنسان من عبادة الذات وتأليه الأنا.


ومن أجل أن لا تكون الرغبات الذاتية والاندفاعات الانانية هي السبب في الاتجاه والعمل بعيدة عن الله، فيتمحور السلوك الإنساني حول هذه الدوافع الذاتية الخطيرة، ويسقط الانسان في شباك أخلاقية مريضة هدامة، كالأنانية والنفاق والرياء وحب الشهوات والاستغراق في الملذات... إلخ.

وأخيراً يستهدف الإسلام من الاخلاص في العبودية، التعبير عن حقيقة كونية، هي حقيقة العلاقة الواقعية بين الله والإنسان، كما يستهدف بعد ذلك تحرير الإنسان من عبودية الأنا ومن تأليه طواغيت البشر كنتيجة حتمية للعبودية المخلصة لله سبحانه.

وهذا الاستنتاج يقودنا الى اكتشاف معنى العبودية لله.. ويهيىء لنا فهم حقيقتها التي هي عبارة عن انتظام الذات في خط الارادة الالهية، وتطابق ارادة الانسان مع ارادة الله ومشيئته .
وبغير هذا الاخلاص في العبودية، فإنها لن تكون إلاّ عبودية مشركة كما سماها القرآن الكريم آنفاً.

وهذا اللون من العبودية هو أخطر أمراض التفكير والأخلاق والسلوك على حياة الانسان المسلم وإيمانه، وهو مرض الازدواج وانقسام الشخصية وضياع وحدتها وأصالتها.

وعندما يبتلي الانسان بهذا الانحراف فإنه يمارس عبادة الله من خلال دوافع غير مخلصة، فتكون تلك الدوافع شريكة مع الله في العبادة، فالمنافق الذي يجب أن يمدح بفعله وعمله، عندما يفعل الخير،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

16

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 أو يؤدي الصلاة، أو يحج، إنما هو يعبد ذاته ويتجه الى تعظيمها من خلال توجهه الظاهري الى الله، فيكون مشركاً ذاته مع الله.

 
والعالم الذي يكسب العلم يشتهر ويعرف، والمصلح الذي ينادي بالاصلاح ومحاربة الفساد ليكون زعيماً وقائداً، وصاحب الثروة الذي يساهم بمشاريع البر والاحسان ليدون اسمه ويعرف الناس، والآخرين الذين أوقفوا همهم على حب الدنيا وجمع المال، واحتكار المنافع والركض وراء الشهوات، واللذات المحرمة، منصرفين عن ذكر الله، معرضين عن حبه وعبادته وعن التوجه إليه، فكل هؤلاء وأمثالهم لم يخلصوا العبادة لله ولم يوحدوه، ولم يعبدوه، إنما عبدوا أنفسهم، وألهوا ذواتهم وأرادوا غير وجه الله.
 
ويساوي هؤلاء في الصفة، أولئك الذين يدعون أنهم يؤمنون بالله ويعبدونه في صلاتهم وصومهم وحجهم، ولكنهم يخالفونه في بقية أعمالهم وسلوكهم.. إرضاء لغير الله أو خوفاً من أحد من الناس، فيظلمون ويتسلطون بالباطل، ويتركون الحق ويسكتون عن الفساد! وكأنهم لم يسمعوا نداء القرآن، ولا يريدون أن يكونوا مع أولئك المخلصين الذين امتدحهم بقوله:
 
﴿واصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الكهف/82.
 
﴿وَتِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ القصص/38.
 
بل وضعوا أنفسهم مع الذين قال فيهم سبحانه:
 
﴿اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونَ اللَّهِ..﴾ التوبة/13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24
 

17

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ب ـ عبودية لغير الله:

 
أصيبت البشرية على مرّ العصور وتعاقب الأزمنة بمرض الجاهلية الفكري والنفسي الذي هو عبارة عن رفض العبودية لله والالتزام بالخضوع لما سواه من الكائنات والمخلوقات، والقوى البشرية والطبيعية وتأليه الذات، والاستغراق في عبادة الملذات والشهوات.
 
ويستوي في ذلك المشركون والملحدون الذين لا يؤمنون بالله، والوثنيون الذين يعبدون الأصنام، والحيوان والظواهر الطبيعية المختلفة.. إلخ.
 
فهؤلاء جميعاً يتخذون من أنفسهم آلهة يقدسونها، ومن شهواتهم وأهوائهم أرباباً يعبدونها وينساقون وراء دوافعها ونزواتها.
 
وما أدق وصف القرآن وتعبيره عن اتجاه هذه الفئة من الناس وممارستها حين وصفها بقوله:
 
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلاً﴾ الفرقان: 34.
 
فهذا هو اتجاههم الحتمي الذي انساقوا إليه، بعد أن انحرفوا عن الاتجاه الرباني، ذلك لأنهم لا يملكون في هذه الحالة المنهج الواضح، ولا الشريعة البينة، ولا طريق السلوك الإنساني المستقيم، إنما ينساقون وراء شهواتهم وملذاتهم ومطامعهم فيضعون لأنفسهم القوانين والأنظمة، ويفلسفون الحياة وأهداف الإنسان ومعتقده حسب أهوائهم، ومستوى وعيهم القاصر المحدود.
 
كل ذلك بدافع الجهل والاستكبار عن عبادة الله، فيتخذ الإنسان من نفسه إلهاً في الأرض، بعد أن رفض إلُوهية الله وعبادته.
 
وتلك هي بداية المأساة والشقاء الذي عانت بسببه البشرية ألوان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

18

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 الظلم والاستبداد والاستغلال والطغيان وصراع المصالح والشهوات والانانيات.


وقد انتجت هذه الاتجاهات الفكرية والنفسية الجاهلية آثاراً اجتماعية وسلوكية خطرة، فاجتاحت البشرية موجة من الظلم والفقر والجهل والاستبداد والاضطهاد، عندما استأثرت الأقلية المتسلطة التي ألهت نفسها بمختلف متع الحياة وملذاتها التي آمنت بها، وتكالبت عليها في حين عانت الغالبية العظمى آلام هذه العبودية الجائرة وذاقت ويلات هذا التأليه البشري المزيف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

19

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 4 ـ لماذا العبودية لله...؟

 
 
سؤال يدول في خلد كل انسان يتأمل في آفاق الكون والحياة، وحوار يجري في نفس كل عاقل يتدبر معاني العبودية والخضوع ليضع الجواب الصحيح، فيعرف: لماذا يعبد الله وحده؟
ولماذا يجب أن تندك ارادة الانسان، وتذوب في ارادة الله..؟.
 
ولماذا يجب أن يتطابق تفكير الانسان واحساسه وسلوكه ومختلف توجهاته مع هذه الارادة الالهية، ودونما تمرد أو شذوذ..؟
 
وسرعان ما يجد الإنسان جواب سؤاله حاضراً يسوقه القرآن إليه، بعد أن يضع أمامه جملة من الحقائق التي تقوده الى الايمان بأن العبودية لله وحده حق، وبأنها نتيجة طبيعية في هذا الوجود تمليها طبيعة العلاقة بين الانسان وخالقه.
 
وبإمكاننا أن نتابع تلك الحقائق الجوهرية التي تنتج حتمية العبودية لله سبحانه وتعالى كما بسطها القرآن الكريم، وربط بين كل سبب ونتيجته العبادية في العديد من آياته، فركزه بما يلي:
 
أ ـ الخلق لله:
 
تحدث القرآن الكريم عن الخلق والايجاد والنشأة التكوينية للإنسان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

20

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 وربط بين مبدأ الخلق والابداع والتكوين من جهة، وبين العبودية والخضوع لله من جهة أخرى، كحقيقتين مترابطتين لا تنفك أحدهما عن الأخرى، قال تعالى:

 
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِراشاً والسَّمَاءَ بِناءً وأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءَ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة/12 - 22.
 
﴿ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيءٍ فاعْبُدُوهُ وَهُوَ علَى كُلّ شَيءٍ وَكِيلٌ﴾ الأنعام/201.
 
بهذا جعل القرآن العبودية لله نتيجة تتولد بصورة طبيعية عن حقيقة أن الخلق لله، فجعل العبودية حقيقة وجودية في دنيا الإنسان تملأ الطرف الآخر من معادلة الخلق والعلاقة بالله سبحانه.
 
 
ب ـ الملك لله:
 
والحقيقة الثانية التي ينتج عنها وجوب العبادة لله هي: إن الانسان ملك لله كغيره من أجزاء هذا الكون.
 
فالإنسان مملوك لخالقه، لا يملك من هذا الوجود ولا من نفسه شيئاً، وهو يتصرف بنفسه، وبالكون، وبالأرض، والملك، والثروة، وكل وسائل الحياة بتخويل من الله سبحانه.
فيجب عليه أن يخضع لمشيئة الله ويمارس الحياة وفقها، ليكون بهذا الالتزام عبداً لله.
 
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم وهو يخاطب الإنسان، ويوضح له: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

21

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 إن كل ما بيده في هذه الحياة هو ملك لله وليس له، وسيفارقه ويتركه ليتصرف به غيره، وسينتزع نفسه من الحياة صفر اليدين، قال تعالى:

 
﴿ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمُ مَا خوَّلَنَاكُمْ وَرَاءُ ظُهُورِكُمْ...﴾ الأنعام/49.
 
كما يربط القرآن الكريم في آية أخرى بين اختصاص الله بالملك وبين العبودية له وحده، فيكشف أن الذي يملك الخلق والموت والحياة هو وحده الذي يجب أن يعبد ويؤله، لأن العبودية خضوع مطلق وتسليم تام للمعبود، ولا يصح خضوع الملك واستسلامه إلاّ لمالكه.
 
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الناس إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فآمنوا باللهِ ورَسُولِهِ النَّبِي الأمي الَّذِي يُؤمِنُ باللهِ وَكَلِمَاتِهِ، واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ الأعراف/851.
 
ج ـ القهر لله:
 
والحقيقة الثالثة التي توجب العبودية لله سبحانه هي: إن الله هو القاهر وان إرادته هي النافذة، ولا يستطيع أحد أن يردها أو يقاوم سلطانه ومشيئته، وليس أمام الإنسان إلاّ أن يخضع لإرادة خالقه ويلتزم بأوامره ونواهيه ويسلم لحكمه:
 
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ الأنعام/81.
 
﴿يَا صَاحِبي السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ  مَا تَعْبُدونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وآبَاؤكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ، إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الْقَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ يوسف/93 - 04.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَما مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ القَهَّارُ﴾ ص/56.

 
على أن هذا الخضـوع لإرادة اللـه القاهـرة، قائـم على الاعتقاد بعدل الله وحكمته ورحمته، ولا يشبه الخضوع الذي يقع من الانسان الضعيـف للطاغيـة الظالـم، فهنـاك فـرق في شعـور الانسان النفسي بين الحالتين، حالة يخضع فيها لإرادة ظالمة غاشمة بسبب قهرها وتسلطها عليه فيخضع لها خضوعاً مكرهاً ولو استطاع التمرد والخلاص منها لفعل، لأنه لا يؤمن بعدالة هذا الخضوع القاهر الغاشم.
 
وحالة أخرى يخضع فيها الإنسان لقوة قاهرة بسبب إيمانه بالعلاقة الحقيقية بين وجوده الضعيف وبين وجود هذه القوة الالهية القاهرة وإنها علاقة عادلة، لأنها تعبر عن حقيقة الذاتين، ذاته، وذات الخالق.
 
وليس في هذه العلاقة ظلم ولا حيف، وإنما هي علاقة قائمة على أساس العدل والود والرحمة.
 
﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ هود/09.
 
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنَّ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ من لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما﴾ النساء/04.
 
د ـ الأمر لله:
 
والحقيقة الرابعة التي تجعل من الإنسان عبداً لله هي: إن الانسان لا يملك شيئاً من هذا الوجود، ولا يستطيع التصرف فيه، ولا تسير الأمور التي تجري عليه من الموت والحياة والأحداث الأخرى التي لا يملك إلاّ الرضا بها، فهي قضاء محتوم عليه، وقدر لا يستطيع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

23

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 التصرف فيه، أو الاعتراض عليه، فخضوعه لمثل هذه الأحداث إنما هو خضوع تكويني لأمر الله وإرادته:

 
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أنْ تَمُوتُ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الآخرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ آل عمران/541.
 
﴿ما أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ واللَّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ التغابن/11.
 
فليس أمام الانسان إلاّ أن يسلم أمره الى الله يتصرف به كيف يشاء، فيرضى بقضاء الله وقدره.
 
﴿.. يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للَّهِ..﴾ آل عمران/451 .
 
ولذا كان قول الإنسان المؤمن بالله الواثق بعدله وحكمته:
 
﴿.. وأُفُوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالْعِبَادِ﴾ غافر/44.
 
وهكذا تأتي العلاقة واضحة بين خروج الأمر والتصرف من يد الإنسان، وانتظام الكون والحياة والحوادث والوقائع وفق ارادة الله ومشيئته من جهة وبين عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى من جهة أخرى، لأن الانسان يمثل في هذه العلاقة طرف الاستجابة والخضوع "العبودية" لمشيئة الله وحكمته.
 
ولا يملك القدرة على الاستقلال في التصرف وايقاع الحوادث إلاّ بمشيئة الله وأذنه، قال تعالى:
 
﴿وَمَا تَشاؤُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ الإنسان/03.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

24

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 وفي الحديث القدسي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله :


"يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك إني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أنني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون".

ورجوع الأمر لله سبحانه، أي التصرف في الخلق والكون من التقدير والقضاء والحدوث، هو نتيجة طبيعية لثبوت الملك والقهر لله سبحانه وتعالى.

لأن المالك القاهر هو وحده القادر على التصرف وتدبير الحوادث والوقائع وتنظيمها وفق ارادة تكوينية قاهرة، نافذة قادرة على إمضاء المشيئة الخيرة وجريان الحكم المنفذ لهذه المشيئة والاختيار.

وهكذا يجد الانسان نفسه كائناً يدور في فلك العبودية التكوينية والخضوع الذي يسلك أساساً ومنطلقاً لعبودية إرادية مختارة.

هـ ـ الربوبية لله:

والحقيقة الخامسة التي تجعل من الإنسان عبداً لله هي: إن الله هو الرب المنعم المتفضل على الإنسان، وقد أنعم عليه ورزقه ومنحه كل ما يحتاج إليه في هذه الحياة، وأحاطهُ بعنايته وعطفه لطفه مذ كان نطفة في رحم أمه وحتى آخر لحظة من حياته. لذا فإن هذا الرب المنعم يستحق الشكر ويستحق العبادة، وليس في الوجود منعم ولا متفضل على الإنسان غير الله سبحانه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

25

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ولهذا جاءت دعوة القرآن تذكرة للإنسان ونداء موقظاً له من غفلته:

 
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالُوا إِلَى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألاَّ نَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولوا أشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 46.
 
﴿وَأَعْتَزِلَكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَى أَلاَ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي شَقِيّاً﴾ مريم: 84.
 
﴿بَلْ اللَّهَ فاعبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ الزمر: 66.
 
وهكذا ثبت القرآن الكريم العلاقة الحتمية بين الشكر والعبودية وبين افاضة النعم والخيرات، فاعتبر الاعتراف بالفضل والنعم وأداء الشكر والامتنان العبادة واجباً كونياً يترتب على الأنعام والتفضل، وعدّ التنكر لفضل الله ونعمه كفراً وتمرداً على العبودية لله سبحانه.
 
﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وأَكْثَرَهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ النحل: 38.
 
﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيّباً واشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ النحل: 411.
 
وإذن فكل هذه الحقائق الآنفة الذكر، وهي: أن الخلق والملك والقهر، والأمر، والربوبية لله، تلتقي لترسم لنا صورة العلاقة بين الإنسان وخالقه، وتوضح كيفية الرابطة، لتؤكد دواعي عبودية الإنسان لله وحده، وخضوعه لمشيئة الله وإرادته خضوعاً يختاره الإنسان عن وعي وتدبر في هذه العلاقة القائمة بينه وبين خالقه ليعي الإنسان علاقة الخضوع الاختياري والخضوع التكويني، فيستنتج: بما أن الله هو الخالق وهو المالك الآمر، والقاهر المسيطر، وهو الرب المتفضل بالنعم والرعاية..
 
إذن يجب أن يعبد وحده وأن تخلص له العبودية دون غيره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

26

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 5 ـ الدوافع النفسية للعبادة


يرتكز مفهوم العبودية والتسليم لله في نفس الإنسان المؤمن على أسس وقواعد نفسية تمنح فكرة العبودية حياة وحيوية، وقوة نفسية ووجدانية مؤثرة ودافعة الى التعلق والارتباط بالله سبحانه.

وهذه الأسس النفسية أو المشاعر الذاتية العميقة الغور هي:

أ ـ الحب والشوق:

أي حب الله والارتباط به، وحب الله يحتل عقل الإنسان وقلبه ويتفاعل مع عواطفه ووجدانه، ويملأ روحه ومشاعره، يغدوا ديناً له، وطريقه في الحياة تظهر آثارها في كل سلوكه، وتنعكس روحه في كل نشاطاته وأحاسيسه، فتكون عبوديته لله قائمة في نفسه على أساس الحب والشوق الخالص لمعبوده، لأنه يرى فيه كل صفة محبوبة، بل يراه منتهى الكمال والغاية.
لذا فإن هذا الحب والتعلق بالله، لا يفتأ يحركه ويدفعه نحو إلهه ومعبوده، فلا يستريح إلاّ بالعمل الذي يقربه منه ولا يسعى إلاّ لما يرضيه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

27

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 وهو حينما يمارس هذا الحب، ويعيش هذا الشوق، يشعر بأنه يعانق أجمل لذائذ الحياة، وأرقى مراتب السعادة التي تقربه من معبوده الذي يتجه نحوه بحب وشوق.

 
وإذا فصور الأداء والتعبير العبودي التي يمارسها الإنسان من صلاة وصوم وجهاد ودعاء... لا يتم معناها الحقيقي في النفس الإنسانية إلاّ بعد الشعور بالحب الصادق لله والشوق إليه.
 
لذا ترى الانسان المؤمن يحمل رسالة العبودية الدين بروحه وعقله، ويبشر بها ويفخر باعتناقها ويضحي من أجلها بماله ونفسه وراحته، وكل أحبائه، لأن كل ذلك لا يساوي شيئاً إذا ما قيس بحب المعبود عنده.
 
وقد أوضح القرآن الكريم بإيجاز شيق تلك العلاقة النفسية العظيمة بين المؤمن ومعبوده فقال:
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..﴾ المائدة/45.
 
﴿.. والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ..﴾ البقرة/561.
 
وفي دعاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله نجد تفجراً صادقاً لينابيع الحب والشوق الالهي فنقرأ "اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب من يقربني الى حبك. واجعل حبك أحب إليّ من الماء البارد" 2 وها هو الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد الرسول صلى الله عليه وآله يغترف من ينابيع الحب الالهي ويصور لنا عذوبة مذاقه حتى إن من شرب منه لا يميل
 
 
 

1-النراقي جامع السعادات ج2-ص150
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

28

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 الى سواه: "أَنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا الى غيرك"1.

 
وقد تحدث الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن علاقة المحب بالله وانطباع هذا الشعور على سلوكه ومشاعره فقال: "المحب أخلص الناس لله وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً"2.
 
أما حين تخبو في روح الانسان هذه الشعلة الوهّاجة ويجف هذا الينبوع المتفجر، فإنه يشعر بجفاف الحياة، ويحس بتراكم ظلمات النفس، وتعاسة العيش.. فيظل يتخبط في تعبده.. حيران في عالم الضياع.. بعيداً عن الله.
 
وهو وإن مارس العبادة في هذه الحال، فصام وصلى.. وعمل أعمال الخير، إلاّ أن أعماله هذه ستبقى خاوية من مضمون العبادة الحقيقي.. خالية من محتواها الروحي الذي يرفع الإنسان درجات في عالم الرقي والكمال البشري.
 
ب ـ الخوف والرجاء:
 
والحافز النفسي الآخر يعمل على ترسيخ العبودية في النفس والشعور الذاتي بها، هو شعور الإنسان بأنه حقير تافه أمام عظمة الله، وليس من حقه التمرد والعصيان، فيمتزج هذا الشعور النفسي، شعور التصاغر أمام عظمة الله، وعظم جلاله مع الخوف والرهبة في
 
 
 

1-نفس المصدر ص152
2-المصدر السابق ص154

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

29

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 نفس المؤمن فينتج التسليم والخضوع، والتعلق بالمعبود خوفاً من ضياع الحب وحلول الغضب والعذاب.

 
ومثل ما يعمل الخوف من ضياع الحب وانفصام العلاقة بالله عمله الايجابي في نفس المؤمن، كذلك يعمل الرجاء وهو استمرار الأمل وعدم اليأس من رحمة الله، وعطفه وحنانه وعدله ــ عمله المكمل لدور الخوف في ضبط موازنة النفس البشرية، واتجاه حركتها نحو الله.
 
فالمؤمن دوماً تنمو أحاسيسه ومشاعره في ظل الرجاء، وانتظار العطف الالهي بعيداً عن اليأس والقنوط الذي يسد أمام الإنسان أبواب الأمل ويقطع عليه حركة الاصلاح وتغيير المواقف.
 
ولبواعث الخوف والرجاء هذه آثار نفسية وقوة حركية مؤثرة في سلوك الإنسان واندفاعه نحو الخير أو تباعده عن الشر.
 
ذلك لأن الخوف والرجاء يشكلان في أعماق النفس المؤمنة طرفي معادلة متوازنين يتقاسمان الدوافع والسلوك الإنساني بأكمله.
 
وقد شرح لنا الإمام محمد الباقر عليه السلام أثر هذين الحافزين في نفس المؤمن، والعلاقة النفسية بينهما بقوله "ليس من عبد مؤمن إلاّ وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا. وقد جمع الله بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً. وقال: يدعوننا رغباً ورهباً"1.
 
وقد أضاء الامام الصادق عليه السلام جوانب هذا المفهوم وأغناه بقوله: "الخوف رقيب القلب والرجاء شفيع النفس، ومن كان بالله عارفاً كان
 
 
 

1-النراقي جامع السعادات ج1-ض253

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

30

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 من الله خائفاً وإليه راجياً. وهما جناحا الايمان. يطير العبد المحق بهما الى الله"1.

 
فمن هذا العرض الموجز للحوافز والقوى النفسية الباعثة على إقامة العبودية الصادقة في النفس ندرك أن الحب، والشوق، والخوف، والرجاء، هي البواعث النفسية المتفاعلة في أعماق النفس والدافعة الى التعلق، والارتباط بالله سبحانه وتعالى والباعثة على السعي بكل ممكنات الإنسان السلوكية، من فكر وشعور وعمل من أجل تحصيل مرضاة الله، ونيل ثوابه وإخلاص العبودية له.
 
 
 

1-المصدر السابق ص254


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

31

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 6 ـ مظاهر العبودية


في أي مجال تتحقق العبودية؟

لقد أصبح المعنى المتبادر الى الذهن من لفظ العبادة عند كثير من الناس محصوراً في تلك المجموعة من الأعمال، كالصوم والصلاة والحج والدعاء وأمثالها من الأقوال، التي يؤديها الإنسان بعيداً عن ممارسات الحياة وأجواء المجتمع.

وهذا المفهوم الضيق للعبادة لا يتناسب مع مفهوم القرآن الكريم وتعبيره عنها، فالقرآن يؤكد أن العبادة تتحقق في كل فعل أو تفكير أو احساس نفسي يصدر عن الإنسان ويقصد به التقرب الى الله سبحانه.

وبما أن العبادة: هي الصيغة العملية للتعبير والاعلان عن العبودية. فإن العبودية لا تتحقق إلاّ إذا جعل الإنسان كل أفعاله، وأعماله، من صلاة، وصوم، وجهاد، وحكم، وقيادة، وبيع وتجارة، وكسب، وتعامل مع الناس، ودفاع عن الحق، ومحاربة للفساد والطغيان، وتفكير في العلم، وكسب للعلم، وانتفاع به وأعمار الأرض واصلاحها.. إلخ، تسير وفق شريعة الله وأمره ونواهيه، ولا يقصد بها إلاّ التقرب منه، وكسب مرضاته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

32

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ومن أجل هذا نرى القرآن الكريم: يخاطب الرسول ويدعوه الى الاخلاص في العبادة ليتحقق الاخلاص في العبودية، ويؤكد من خلال ذلك أن العبادة هي مظهر التعبير عن العبودية، لا تتم إلاّ بالسير على هدى القرآن، والالتزام بمنهجه، وتطابق الحياة مع شريعته وطريقة تنظيمه:

 
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، فاعْبُدِ اللهَ مخلِصاً لَهُ الدّينَ﴾ الزمر/2.
 
وينتج من ذلك أن مفهوم العبودية في الاسلام يتسع كلما اتسع مفهوم العبادة، ليشمل رعاية الإنسان للحياة والعناية بالجسم وحاجات البدن، والحفاظ على الصحة وتوفير العيش، بل ورعاية الحيوان والاهتمام بكل مظاهر الحضارة والمدنية واعمار الأرض، لأن كل هذا الاهتمام من الانسان يعبر عن الخضوع لارادة الله والتنفيذ لحكمته ومشيئته التي شاءت لهذه الكائنات ــ الإنسان والحيوان والنبات ــ أن تعيش تحت ظل رحمة الله تعالى، فيكون التعامل مع خلق الله وفق ارادته ومشيئته عبادة وتعبيراً عن الشعور بالعبودية والتوجه الى الله.
 
ولذلك توجه القرآن بالذم واللوم الى أولئك الذين ينشرون الخراب والدمار في الأرض، ويشيعون في ربوعها العبث والفساد، ويسعون للقضاء على مظاهر الحياة والعمران والمدنية فيها، فقال عز اسمه:
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ البقرة/502.
 
ولكي يتجلى لنا معنى العبودية، وتتضح لنا سعة انطباقها وشمولها لكلّ نشاطات الانسان الفردية والاجتماعية بصورة عامة ــ دون أن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

33

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 تنحصر مظاهرها في بعض الممارسات والشعائر ــ نبين فيما يلي المجالات التي تتحقق فيها العبودية، والمظاهر التي يعبر بها الإنسان عن عبوديته لله سبحانه وهي:

 
أ ــ التسليم العقلي:
 
ونقصد به الخضوع العقلي القائم على أساس الفهم اليقيني الواعي لعظمة الله وقدرته.
 
وهذا الخضوع يجب أن يكون نتاج القناعة العقلية الآتية: من التفكير بخلق الله وعظمته، بحيث تشكل هذه القناعة وضوحاً عقلياً كاملاً، لتكون قاعدة عقائدية أساسية للتسليم بالعبودية، ولتقوم عليها كل طوابق البناء الفكري والنفسي والسلوكي الذي يمارسه الإنسان.
 
لذلك وجه القرآن الكريم الأنظار الى تأملات ابراهيم وتسليمه ليستوحي منها المخاطبون مضامين التسليم العقلي المعبرة عن مفهوم العبودية لله، كيلا يقف العقل موقف الكبرياء والعناد المقيت:
 
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ الأنعام/57.
 
ولذلك أيضاً عرض القرآن نموذجاً للإنسان المفكر الذي يستخدم عقله ووعيه في الوصول الى الحقيقة واستجلاء أبعادها فقال:
 
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران/191.
 
فكل ذلك ساقه القرآن الحكيم لنكتشف الرابطة والعلاقة الكامنة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

34

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 بين التسليم العقلي بعظمة الله وتصاغر العقل أمامها، وبين الاحساس بالعبودية بعد أن نستنتج أن كل شيء في هذا الوجود خلق بعلم وحكمة الهية بالغة يعجز الإنسان عن مجاراتها، ويتصاغر أمام عظمتها، لينزع العقل رداء الغرور ويخلع ثوب الكبرياء، فينحني أمام عظمة الله ليعلن خضوعه وعبوديته لخالقه العظيم.

 
وقد ذمّ القرآن الكريم أولئك الذين ركبهم الغرور العلمي وخدعهم الكبرياء العقلي الأجوف فقال:
 
﴿فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ غافر/38.
 
ب ــ التوكل على الله وتفويض الأمر إليه:
 
والمظهر الثاني من المظاهر السلوكية المعبرة عن صدق العبودية لله: هو التوكل على الله، والاعتماد عليه والثقة به، وطلب العون والمساعدة منه، وعدم الاعتماد على أحد سواه.
قال الإمام الصادقعليه السلام: "الإيمان أربعة أركان: التوكل على الله، والرضاء بقضاء الله، والتسلم لأمر الله، والتفويض الى الله"1.
 
ويأتي مفهوم التوكل هذا نتيجة حتمية للإيمان الواعي الذي يرد تفسير العالم، والحوادث والمقادير الى الله سبحانه باعتباره الخالق، والمالك، والقادر.
 
وكل ما في الكون: من أسباب، وحوادث، وتغييرات فهي خاضعة لإرادة الله ومشيئته.
 
 
 

1-تحف العقول ص382
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

35

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 قال تعالى:

 
﴿.. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ..﴾ الطلاق/3.
 
﴿... وَإِلَيْهِ يَرْجَعُ الأمْرُ كُلُهُ فاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ..﴾ هود/321.
 
ومن مظاهر التعبير عن العبودية لله هو: تفويض الأمر إليه، قال تعالى:
 
﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي الى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ غافر/44.
 
وليس من مظاهـر العبوديـة المتحققـة في سـلوك المتوكلين والمفوضين ظاهرة الاتكالية، والكسل وتعطيل مسؤولية الإنسان وواجبه الذي أن يمارسه وفق الأسباب والقوانين الطبيعية المودعة في هذا العالم.
 
بل إن الأمر عكس ذلك، فإيمان المسلم بدور الأسباب والعلل الطبيعية في انتاج الحوادث والنتائج يركز مفهوم العبودية والخضوع في نفسه، بتجلي خضوع الحوادث والأشياء للقوانين الالهية الظاهرة في هذا العالم، والمسيطر على وجوده سيطرة تؤكد خضوعه واستسلامه وعدم قدرته على الخروج والتمرد، مما يوحي للإنسان بعموم هذه الحقيقة ــ حقيقة العبودية ــ وانضواء وجود تحتها.. فيتعامل مع الحوادث والأسباب والنتائج وموضوعاتها تحت ظل عبودية كونية شاملة.
 
مستوحياً مفهومه من وحي القرآن ومضامينه:
 
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا الى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفيَّأُ واظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّداً للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وللَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ والملائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ النحل/84 - 94.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

36

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ج ـ وتتحقق العبودية لله سبحانه:

 
في ممارسة الأعمال التعبدية الفردية التي يمارسها الإنسان خالصة لله.. من غير رياء ولا نفاق.. وبتوجه واخلاص صادق كالصلاة. والصوم والحج والدعاء إلخ.
 
فإنها أسمى مظهر من مظاهر التعبير عن العبودية، شريطة أن يستشعر الإنسان معنى الخضوع والتوجه والرغبة الصادقة في أداء هذه الأعمال التعبدية.
 
د ـ وتتحقق العبودية:
 
بجعل كل عمل يمارسه الإنسان في الحياة، متطابقاً مع إرادة الله. فالحكم عندما يحكم بين الناس بالعدل، والتاجر حينما يمتنع عن الغش والربا والاحتكار.. والعامل حينما يخلص في العمل ويسعى من أجل الكسب والحلال، والقائد حينما يضحي من أجل الحق والاصلاح.. والجندي عندما يجاهد في سبيل الله، والأب حينما يربي أبناءه تربية صالحة وكذلك الذي يترك المحرمات فيبتعد عن شرب الخمر وقتل النفس، وظلم الناس.. إلخ، ومثله الذي يعطف على الفقير، أو يقضي حاجة المحتاج، أو يستنكر عملاً قبيحاً أو يرشد إنساناً منحرفاً.. إلخ.
 
عندما يعمل الناس جميعاً هذه الأعمال.. أو يقفون هذه المواقف وأمثالها وفق أوامر الله وشريعته، إنما يمارسون العبادة بأوضح صورها ويحققون إرادة الله على حقيقتها، قال تعالى:
 
﴿وأَنَّ هذا صِرَاطي مَستقيماً فاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام/351.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

37

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 فالسير على طريق الله والالتزام بمنهجه وشريعته في الحياة، هي: وصية الله التي أوصانا بها وطالبنا أن نلتزم بقوانينها وأنظمتها وتعاليمها ولا ننحرف عنها، فنتبع القوانين والنظم والمبادىء والأفكار التي وضعها الإنسان لصالحه ومنافعه الأنانية الخاصة، فننحرف عن عبادة الله ونشرك هؤلاء الناس في العبادة مع الله، فنخرج على خط العبودية والاخلاص لله وحده.

 
فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..﴾ التوبة/13. أنه قال: "أما والله ما دعوهم الى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم الى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون".
 
هـ ــ تتحقق العبودية:
 
بالتسليم الكامل لقضاء الله وقدره، والرضا بكل ما يقع على الإنسان من الله، انطلاقاً من الإيمان. بأن الله لا يفعل فعلاً إلاّ وفيه الخير والصلاح للإنسان، لأن الله عادل لا يظلم عباده، وحكيم لا يعبث ورحيم لا يقسو.
 
وقد أوضح القرآن مفهوم القضاء والقدر بقوله تعالى:
 
﴿قُلْ لَن يَصيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوكَّلُ المُؤْمِنُونَ﴾ التوبة: 15.
 
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الأرضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ﴾ الحديد/22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ونحن نلاحظ في هاتين الآيتين: إن التسليم بالقضاء والقدر مرتبط بالايمان بأن الله هو المولى، والناس عبيد له متوكلون عليه، موقنون بنفاذ أمره وإرادته.

 
وفي نهاية المطاف نستنتج، أن العبودية في الإسلام لا ينحصر تجسيد مضمونها، ولا التعبير عنها في مجموعة من عبادات الإنسان وأعماله.. كالصوم والصلاة والحج فقط، بل وتشمل كل تفكير ونشاط وسلوك وعلاقة إنسانية يمارسها الإنسان مع ربه ونفسه وعائلته أو مع مجتمعه ومحيطه، شريطة أن يكون الدافع الى ذلك هو التسليم لأمر الله والاستجابة لإرادته والرغبة في قربه.
 
وهذا معنى قوله تعالى:
 
﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدوا واعْبُدوا رَبَّكُمْ..﴾ الحج/77.
 
ولكي يعي الانسان معنى العبودية ويدرك أثرها وأبعادها في حياته ويستشعر وجودها ومظاهر تحققها في عالمه، فيندمج في خطها ويتطابق مع مصاديقها، لا بدّ له من التوفر على شروط أساسية ثلاثة:
 
1 ــ المعرفة بالله
 
وذلك بمعرفة منهج الدين الذي يوصله الى تحقيق العبودية ويساعده على اظهارها والالتزام بخطها الواضح في الحياة.
 
2 ــ طهارة النفس، وصفائها من رواسب الشرك المختلفة.
 
3 ــ الاخلاص لله في القصد والعمل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

39

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 7 ـ دور العبودية في حياة الانسان


والآن نستطيع أن ندرك معنى العبودية لله، ونفهم آثارها وانعكاساتها على النفس والمجتمع البشري بأكمله.

فنعرف كيف أن العبودية لله هي مبدأ التحرر والانطلاق من كل قيد وعبودية للناس، أو للشهوات والانانيات. لأن العبودية لله تحقق التحرر الكامل، وتشعر الإنسان باكتمال إنسانيته، لأنه في هذه الحالة ينزع الى الكمال ويتجه الى الخير ويتعالى على الشر والرذيلة، لأنه يتجه الى الله مصدر الخير والكمال.
ولإيضاح هذا المعنى يمكننا أن نركز الآثار العملية للعبودية في حياة الإنسان بما يلي:

أ ـ الأثر النفسي:

لم يكن مفهوم العبودية مفهوماً نظرياً مجرداً يقتنع به الفكر، ويستجيب له العقل دون أن تكون له آثار نفسية وأخلاقية تعمل على تطهير وجدان الفرد وتغيير محتواه الداخلي، وتنمية ملكاته الاخلاقية الباطنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

40

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 فالإنسان عندما يكتشف الحقيقة الكبرى في حياته ــ حقيقة العبودية والارتباط بالمبدأ الكامل ــ ويتجه نحوه بدافع الخوف والرجاء أو ينشد إليه بمشاعر الحب والشوق.. يظل يبني كل تصوراته وأحاسيسه وعواطفه، ومفردات سلوكه على أساس تلك القواعد النفسية.

 
ومن هذه الحقيقة الكبرى "العبودية" التي أدرك وجودها وشاهد آثارها المتجلية في نفسه وفي عالمه، ينطلق فيتخذ من المبدأ الحق "الله" معبوداً يأله إليه 1 وغاية يتجه نحوها، وإلهاً يدين له، بالتقديس والتعظيم والحب الأوحد، فتنتج كل هذه الأحاسيس والتوجهات النفسية آثاراً تكاملية وحقائق بنائية تؤدي دورها في أعماق الذات، كما تعمل على إعطاء هيكل السلوك صيغته وطابعه الخاص به.
 
ومن جملة الآثار النفسية التي يحدثها الاتجاه العبودي الاحدي نحو الله هو انقاذ الشخصية من التوزع والانقسام والأثنينية وتخليصها من القلق والشك والتردد والنفاق، بسبب وحدة الاختيار والاتجاه.
 
ذلك لأن المؤمن الذي أخلص العبودية لله يسير باتجاه نفسي موحّد ويعيش تماسكاً داخلياً لا تناقض فيه، ولا قلق، فتمتد في نفسه آفاق إنسانية متعالية، وتنمو في أعماقه اتجاهات غائية متسامية، فيملأ حب الخير قلبه، وتتجسد الاستقامة في سلوكه، فيعيش في نضال دائم وشوق متواصل من أجل الاتجاه نحو صفات المعبود وآثار وجوده.. كالعدل والرحمة والاحسان والتواضع والصدق والعفو إلخ.
 
 
 

1-يأله اليه:يشتاق ويهيم بحبه


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

41

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 ج ـ الآثار المدنية:

 
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمَ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرَهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ هود/16.
 
الآية الكريمة توضح بجلاء أن دور الإنسان في هذه الأرض، هو إعمارها واصلاحها، وملؤها بالحياة والنشاط، والعمران، والمدنية.. إلخ.
 
فالإنسان عندما يمارس نشاطه المدني.. من علم واختراع وزراعة، وصناعة، وعمران. إنما يحقق رسالته الأولى في الحياة، وهي اعمار الأرض واصلاحها، ويعبر عن وظيفته ودوره العبودي في هذه الأرض.
 
والإنسان المؤمن يدرك هذه الحقيقة ويندفع باتجاهها، ليحقق مظهر سلوكياً من مظاهر عبوديته لله في هذه الأرض، فيملأها بالحياة والنشاط والعمران.
 
وفي نهاية دراستنا لمفهوم العبودية نستنتج أن العبودية لله هي جوهر الدين.
 
وهي الطريق الى التكامل النفسي والسلوكي في الحياة.
 
وهي الطريق الى التوافق والانسجام مع صيغة هذا العالم في وحدة وجودية رائعة.
 
وهي الطريق الى الاصلاح والعمران.
 
وهي الطريق الى السعادة والحياة الاجتماعية المستقرة.. وحصيلتها الفوز بمرضاة الله وجنانه.
 
وفقنا الله جميعاً للسير على طريق العبودية له سبحانه، إنه ولينا ونعم النصير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

42

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الاسلام

 فتتسامى هذه الخصائص والملكات الانسانية في نفس الانسان المؤمن. وهكذا تترك العبودية آثارها التغييرية التكاملية في نفس الانسان المؤمن ووعيه.


ب ـ الأثر الاجتماعي:

وللعبودية آثار اجتماعية وأخلاقية مهمة تنعكس على حياة المجتمع البشري وتؤثر على علاقاته الانسانية المختلفة.

فالشعور بالعبودية لله ينقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطغاة والمستبدين، والشعور بها يحرر الإنسان كذلك من الشهوات ومن سيطرة حب المال وجمعه وتكديسه، وتسخير الآخرين وظلمهم واستغلالهم من أجل هذا المعبود الزائل.

والشعور بالعبودية لله: يحرر الناس، من الصراعات والمآسي التي يعيشونها من أجل الاستعلاء والتحكم والمكاسب المختلفة.

والشعور بالعبودية لله يشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس.. لأنهم جميعاً متساوون في صفة العبودية لله الواحد الأحد.

لذا فإن المجتمع الذي تخلص فيه العبودية لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبودية لله.

فيحطم الناس حينذاك أصنام العبوديات المختلفة، صنم المال، والشهوة، والجاه، والسلطة، والكبرياء، إلخ. ليكونوا أحراراً كما خلقوا.. وكما أراد لهم خالقهم العظيم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

43

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 1 ـ التعريف بالعبادة

 
العبادة في الاسلام: اسم يطلق على كل ما يصدر عن الانسان المسلم من أقوال وأفعال وأحاسيس استجابة لأمر الله تعالى وتطابقاً مع إرادته ومشيئته.
 
فلا حصر ولا تحديد لنوع الأعمال أو الأفكار أو الأقوال، أو المشاعر والأحاسيس التي يعبد بها الله.. فالصلاة، والصدقة، والجهاد، والتفكّر في خلق الله، ومساعدة الضعيف، واصلاح الفاسد، وأداء الأمانة، والعدل بين الناس، ورفض الظلم، وعدم شرب الخمر، ومقاطعة الربا والاحتكار.. إلخ، فكل تلك الأعمال هي عبارة ما دام الداعي الى فعلها، أو تركها، هو الاستجابة لأمر الله تعالى.
 
وإنا لنجد في الأحاديث والروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ما يوضح هذا المفهوم الإسلامي، ويشخص أبعاده الواسعة الشاملة: فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله :
 
"العبادة سبعة أجزاء أفضلها طلب الحلال"1.
 
 
 

1- تحف العقول-عن آل الرسول-مواعظ النبي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

44

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 "نظر الولد الى والديه حباً لهما عبادة"1.

 
وجاء عن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام :
"نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة له عبادة"2.
 
وجاء عن الامام الباقر عليه السلام :
"أفضل العبادة عفة البطن والفرج"3.
 
وجاء عن الامام الصادق عليه السلام :
"أفضل العبادة العلم بالله، والتواضع له"4.
 
وجاء عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام :
"ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله"5.
 
وانطلاقاً من هذا التعريف الإسلامي بمفهوم العبادة.. نعلم أن العبادة في الإسلام ليست محددة بمجموعة من التكاليف والأعمال.. وإنما تتسع لتشمل كل ما يصدر عن الإنسان بدافع القربة الى الله والاستجابة لأمره، والانتهاء بنهيه.
 
إلاّ أن هذه اللفظة لفظة العبادة لها استعمال خاص عند فقهاء الشريعة، فراحوا يطلقونها بشكل اصطلاحي على بعض الأعمال التعبدية بصورة خاصة... كالصلاة والصوم والحج.. إلخ.
 
 
 

1- نفس المصدر
2- نفس المصدر
3- نفس المصدر
4- نفس المصدر
5- نفس المصدر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

45

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 وهذا الاستعمال الاصطلاحي المحدد هو غير موجود في أصل الشريعة، ولا في مفاهيمها، فليس هو مفهوماً، ولا مصطلحاً شرعياً، ولكنه مفهوم ومصطلح علمي فني استحدثته الدراسات المنهجية في الفقه الإسلامي، عند دراسة الفقه، وتبويبه، وتنظيم أبحاثه وموضوعاته، فقسم الفقهاء مباحث الفقه الإسلامي الى قسمين، قسم يحتاج الى نية القربة الى الله تعالى، وهي العبادات وتشمل الأعمال التعبدية، وقسم لا يحتاج الى نية القربة وهي المعاملات، وتشمل سائر أفعال الإنسان ومواقفه، في مجالات السياسة والقضاء والمواريث والمال والتجارة.. إلخ.


وهكذا فرق المنهج الدراسي الفقهي بين أعمال لا تتوقف صحتها على نية القربة، وأخرى تتوقف صحتها على نية القربة، فأدخلت تحت باب العبادات أفعال كالصوم والصلاة والحج والزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء.. إلخ.

فهذه الأفعال يشترط في صحتها القربة حين إيقاع الفعل، واستمرار سريان القصد حتى اكتماله، وبدون النية الخالصة لله تعالى، لا تعتبر هذه الأفعال صحيحة ولا مقبولة.. بعكس غيرها من الأفعال الأخرى، كعقد البيع والشراء والزواج.. أو المواريث والطلاق والقضاء والحكم... إلخ. فإن صحة وقوعها لا تحتاج نية القربة، وعدم وجود نية التقرب الى الله لا يبطلها، ولكن يبطل الثواب، ولا يستحق منفذها شيئاً من رضى الله وثوابه..

إلاّ أنه بإمكان المسلم الذي يمارس هذه المعاملات، والنشاطات الاجتماعية أن يحصل بها ثواباً من الله تعالى بأن يجعل نية القربة الى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

46

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 الله سبحانه وتعالى هي الأساس والمنطلق للفعل، فيطابق بين أفعاله وبين مشيئة الله وإرادته.. بقصد الاستجابة لأمر الله، والرفض لكل أنواع التعامل الأخرى المخالفة لشريعته، ومنهاج رسالته.. وبذا يحقق مفهوم العبادة بحقيقته الشرعية، وهو: الخضوع لإرادة الله ومشيئته، والاستجابة لأمره .


فبإمكان العالم والتاجر والعامل والفلاح والقاضي أن يكون بعيداً.. وهو يمارس نشاطه الاجتماعي، وعمله اليومي عندما يقصد في نفسه الاستجابة لأمر الله، ويستشعر مع هذا القصد معنى الطاعة لله، والالتزام بشريعته، فينطلق في كل أعماله ونشاطاته على هدى الشريعة، وفي ضوء مبادىء الرسالة الالهية الخالدة... رافضاً شرائع الطواغيت، ومناهج الضلال..وبذا يحقق العبودية لله، بعد أن وجّه القصد والنية الداخلية لله سبحانه، وأوقع النشاط والسلوك وفق الشريعة الإسلامية فيكون بموقفه هذا متعبداً في القصد والممارسة.

وللنية الخالصة لله تعالى قيمة حتى لو تعذّر العمل بها.. فهي خير في نفسها، ويثاب المرء عليها، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله الى غزوة تبوك فقال: "إن في المدينة أقواماً، ما قطعنا وادياً، ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار، ولا أنفقنا نفقة، ولا أصابتنا مخمصة، إلا شاركونا في ذلك وهم في المدينة" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله، وليسوا معنا!؟.
فقال: "حسبهم العذر، فشاركونا بحسن النية".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

47

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 2 ـ النيَّة والعبادة

 
 
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٍ﴾ الشعراء/88 - 98.
 
النية: هي القصد، أو التوجه الارادي الحاسم نحو الشيء.
 
وللنية في الإسلام دور مهم في إعطاء الفعل والموقف الإنساني قيمته الحقيقية، كما لها دور في تقويم ذات الفاعل واتجاهه النفسي..
 
فالإسلام لم يعط الفعل العبادي ولا الفاعل قيمة ولا أهمية مجردة عن النية والقصد، في حالة تقويمه وتقديره للفاعل.. لأن الفعل العبادي في نظر الاسلام نسيج هيكلي لجهد إنساني تتحدد قيمته بالنية أو القصد.
 
إذ النية تعبير عن الموقف الداخلي، وعن التوجه الذاتي، والحقيقة الباطنة للإنسان.. وهي روح الفعل الحقيقية التي تملأ هيكله، لذلك فإن النية تعتبر أداة كشف عن حقيقة الباطن الإنساني.. تلك الحقيقة التي ليس بإمكان الفعل أن يكشفها... لأن الفعل يمكن أن يخضع لعملية تزوير مقصودة من قبل الانسان، ولأنه صياغة طبيعة لجهد ظاهر، يمكن أن يخرجه الفرد بشكل ليس ضرورياً أن يتطابق مع
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

48

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 حقيقة الانسان ومحتواه الباطني.. فكثير من الناس يبذل المال، ويبدي حسن الخلق، ويصلي ويصوم.. ونحن نشاهد تلك الصور الظاهرة للأفعال، المتساوية في الظاهر عند جميع الممارسين لها، فنحسبها سواء.. ولكن لتقويمها في نظر الإسلام وسيلة أخرى، ولوزنها ميزان آخر، وهو النية . فالذي يبذل المال، ويبدي حسن الخلق من أجل كسب السمعة والصيت، والذي يصلي ويصوم من غير توجه واخلاص لله سبحانه، فكل هؤلاء يجسدون في عرف الاسلام حقيقتين منفصلتين ومتناقضتين في دنيا الإسلام.. حقيقة باطنة، وهي النية.. وحقيقة ظاهرة وهي الفعل بصيغته الهيكلية المنظورة.


وعندما يضع الإسلام موازينه ليزن الفعل، ويقوم الفاعل، يتخذ النية أساساً في الوزن والتقويم.. فإن لم تكن النية خالصة لله تعالى، كان هذا الفعل باطلاً، لا قيمة له، وخاسراً لا أجر لصاحبه... لأن فاعله لم يقصد القربة الى الله، ولم يتوجه إليه، بل قصد التمركز الذاتي، والتأكيد على ذاتيته لإظهارها بمظهر الصلاح، والمقبولية لدى الآخرين.

لذا اهتمت الشريعة الإسلامية بالتأكيد على أهمية النية في تحديد قيمة الفعل، وهل يراد به وجه الله تعالى أو سوى ذلك.

وقد جاء الحديث النبوي الشريف واضحاً صريحاً في تسجيل هذا المعنى عندما نص: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته الى ما هاجر إليه"1.
 
 
 

7- محمد مهدي النراقي-جامع السعادات-ج3ص123
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

49

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 وقد جاء في حديث الامام جعفر الصادق عليه السلام قوله: "صاحب النية الصادقة، صاحب القلب السليم"1.

 
وسئل الامام جعفر الصادق عليه السلام عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدياً فقال: "حسن النية بالطاعة"2.
 
تكون "النية" هي مصدر قيمة الفعل، وعليها يتوقف مدى قبوله عند الله، ونيل ثوابه. ولذا كان المؤمن الحق بعيداً عن التناقض والنفاق، وانقسام الشخصية، ومعبراً بممارسته عن ذاته، فهو بهذه الممارسة يكشف عن شخصيته، ويرسم صورة توجهاته الذاتية الباطنة، من غير نفاق ولا رياء.
 
والنية تعتبر نتيجة نهائية لسلسلة من العمليات والبواعث الفكرية والنفسية التي تقرر في النهاية الموقف الباطني للإنسان، وتدفع بقواه البدنية الى اخراج الفعل الى حيّز الوجود.
والنية لا تتحقق بعد: ــ
 
1 ــ توفر المعرفة والإحاطة بالشيء المراد فعله، وبالغرض والغاية منه، وبالنتيجة المترتبة عليه، ليستطيع الإنسان الاختيار، وتحديد وجهة القصد.
 
2 ــ وجود ميل نفسي، وقناعة ذاتية، بتطابق الفعل مع غايات النفس بشكل يبعث الشوق والرغبة في تحقيق الفعل، فيكون الفعل في هذه المرحلة غاية مطلوبة التحقيق للإنسان المريد.
 
3 ــ إتخاذ قرار إرادي بإحداث الفعل، وتحريك مختلف القوى
 
 
 
 

1- محمد مهدي النراقي-جامع السعادات-ج3ص111
2- محمد مهدي النراقي-جامع السعادات-ج3ص113
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

50

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 الجسدية والنفسية والفكرية لاحداثه، فيأتي الفعل عندئذٍ كغاية مطلوبة للذات الباطنة، وبذا يستحق الفاعل المجازاة على فعله، لأن موقفه هذا يمثل الامتداد الخارجي للذات الباطنة، ويعبر عن شاكلتها، قال تعالى:

 
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ الاسراء/48.
 
فلذلك كله كان الهيكل الشكلي للفعل العبادي لا يعبر عن إيمان صاحبه، حتى وأن توافق مع المطلوب الخارجي، والوجود الظاهري للعبادات... إلاّ إذا كان صادراً عن نية صادقة مخلصة.
 
لأن تناقض النية مع الفعل العبادي يفقده قيمته الحقيقية ويبطله، فلا يجني صاحبه إلاّ الجهد والعناء.
 
ولذا فإن الأجر والثواب لا يتحققان حسب المقدار المؤدى من الأفعال ولكن بقدر اخلاص النية المتركزة في هذا الفعل، وبمدى تطابقه مع إرادة الله سبحانه... إرادة الحق والخير.
 
ومن هنا جاء في الحديث الشريف: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يفعلها تكتب له بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يفعلها تكتب مثلها".
 
وجاء أيضاً في حديث آخر: "أخلص النية يكفك العمل القليل".
 
وهكذا، فرب عمل صغير يستهين به صاحبه ولكن تعظمه النية الخالصة لله تعالى... ورب عمل كبير يقترن بنية مشوبة غير مجردة لله تعالى فيسقط من الاعتبار والثواب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

51

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 3 ـ لماذا العبادة؟

 
لماذا يتعبد الانسان؟
 
ولماذا يتحمل المشقة ويبذل الجهد؟.. فيصلي ويصوم ويحج ويجاهد ويبذل المال.. إلخ، فالله غير محتاج للعبادة، وغني عنها، والإنسان يلاقي الكلفة البدنية والتعب في أدائها، ويبذل الجهد والمال والوقت في سبيلها.. فلماذا كل ذلك إذن؟
 
هذه أسئلة تطرأ على الكثيرين، ويتصورها العديد من الناس حول وجوب العبادة. بينما نجد القرآن الكريم يتحدث عن العبادة فيقول:
 
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات/65.
 
فما سر ذلك؟ ولماذا العبادة؟
 
سرعان ما يتحدد الجواب، ويعلن عن نفسه لكل من يتجاوز بفهمه ووعيه النظر السطحي لهذا الوجود، والفهم الساذج لعالم الأشياء والموجودات، والعلاقات الكونية العامة، فيدرك بوضوح تام: أن هذا الكون ــ بما فيه الإنسان ــ خلق بحكمة، ووفق نظام وعلاقات وقوانين، تترابط بعضها مع بعض، ويترتب بعضها على بعض، وينتج بعضها عن بعض، فالموجودات من عالم المادة، والحياة، والإنسان، وما ينتج عنها،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

52

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 من نتائج، وآثار، كلها تدخل في معاملات، وموازنات دقيقة، وتخضع لقاعدة الأسباب والعلل المتحكمة في هذا العالم.. فما من شيء في طرف إلاّ ويقابله شيء في طرف آخر... وما من سبب إلاّ وترتبط به نتيجة.. فعلى هذه القاعدة، ووفق هذا القانون الوجودي العام، شاءت حكمة الله وإرادته أن تسير علاقة الإنسان بخالقه... لأن الإنسان يمثل طرفاً في الوجود، ويسعى الى نتائج في دنيا الحياة وعالم الآخرة... وأن هذا السعي يقوم على أساس أن هناك علاقة ترابطية، وتعادلاً بين أطراف القضايا، وانتظام الأشياء والموجودات.. سواء منها الموجودات الطبيعية أم الأفعال والنشاطات الإنسانية المختلفة.

 
والقرآن الكريم ناطق بهذه الحقيقة... وموضّح لها في موارد متعددة، نذكر منها قوله تعالى:
 
﴿وإِذْ تَأْذَنَ رَبُكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنّ عذابي لَشَديدٌ﴾ ابراهيم/7.
 
﴿إنَّ اللهَ لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ الرعد/11.
 
﴿فأَمَّا يأتينَكُمْ مني هدىً فَمَنْ اتْبَعَ هُدايَ فلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى﴾ طه/321.
 
﴿ليجزي اللَّهُ الصادقينَ بِصدقِهِمْ ويعذِّبُ المنافقينَ إنْ شاءَ أو يتوبَ عليهم...﴾ الأحزاب/42.
 
﴿مَنْ كانَ يريدُ العاجلةَ عجَّلْنَا لهُ فيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُريدُ..﴾ الاسراء/81.
 
﴿... وَمَنْ يُؤْمِنْ باللَّهِ ويعْمَلْ صالحاً يُدْخِلْهُ جناتٍ تَجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها أبداً قد أحسنَ اللَّهُ لهُ رزقاً﴾ الطلاق/11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

53

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 فكل تلك الآيات الكريمة تبسط الأسباب وترتب عليها النتائج... فجعلت الشكر سبباً لزيادة الخير والنعم والثواب، كما جعلت تغير أوضاع الإنسان وأحواله العامة مرتبطةً بتغير محتواه الداخلي.. بما فيها من أفكار ومفاهيم وعواطف.

 
وجعلت الصدق والاخلاص لله سبباً للثواب.
 
والنفاق والرياء سبباً للعقاب.
 
وعمل الصالحات سبباً للنعيم والخلود في الجنات... إلخ.
 
فمـن هـذا العـرض القـرآنـي نسـتطيـع أن نكـتشـف مفهـوم القرآن عـن العبـادة، ووجوبهـا القائـم على أسـاس أنهـا عمـل سـببي ترتبـط به نتيجة.
 
وتركها إهمال سببي تترتب عليه نتيجة... جرياً على حكمة الله في خلقه التي قضت بأن تكون علاقة الإنسان بالله، ووجود هذا الإنسان في عالمي الدنيا والآخرة، خاضعاً لهذا القانون الوجودي العام، قانون الترابط بين السبب والنتيجة.
 
فلقد جعل الله سبحانه الخلد والنعيم في الجنان لا يتحقق إلاّ بالتزام النفس البشرية بقانون محدد وهو العبادة يوصلها الى نتيجة محددة وهي رضاء الله سبحانه، كما جعل تركها سبباً للعذاب والحرمان ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا..﴾ الأحقاف/91.
 
من هنا كانت العبادة سبباً للحصول على النعيم والفوز بالجنان... وكانت واجباً وضرورة كونية يفرضها منطق الوجود، ويتوقف عليها مصير الإنسان، كما يتوقف مصير أية قضية في الوجود على سلسلة الأسباب والنتائج المترابطة في دائرة وجود هذه القضية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

54

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 وثمة سبب آخر يخضع لنفس القانون، ويعطي ذات النتيجة، وهو واقع الحس الأخلاقي، والذي يتلخص مفهومه في المقولة المشهورة شكر المنعم واجب .


أي أن النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان توجب الشكر، لأن حق المنعم الشكر، والاعتراف بالنعم، وضرورة اظهار هذا الاعتراف بكل الوسائل التعبيرية المتاحة للإنسان... سواء بالقول أو الفعل، كالصلاة والدعاء والثناء والصوم، أو في الاقرار النفسي والشعور الباطني بالفضل والامتنان.. لأن الانعام فعل صادر من طرف، هو الله سبحانه، ليفاض على طرف آخر، وهو الإنسان... فما الذي يقابله في الطرف الآخر حسب قوانين الوجود..؟

لذلك فقد جعل الله سبحانه العبادة: هي المنهج والوسيلة الإنسانية للتعبير عن الشكر، واكمال معادلة المبادأة بالنعم ــ فضلاً منه ومنة ــ فأهَّلا أفعال الإنسان، ورفعها الى مستوى طرف الموازنة ومعادلة النعم والاحسان الإلهي.

ــ ولكن... أنى لعبادة الإنسان أن توازي نعم الرحمن... التي لا تعد ولا تحصى ــ.

وينضم الى هذين السببين سبب ثالث للعبادة، فيحتل أبعاداً خاصة في نفس الإنسان وهو أيضاً نتيجة طبيعية للعلاقة بين الأشياء وقدرها، وهذا السبب هو الشوق والحب لله، وانصراف النفس عما حولها من موجودات وجزاء ونعيم مرتقب، بسبب التعلق والإرتباط بعظمة الله سبحانه وتعالى والإنصراف لكماله المطلق.

وتأتي هذه النتيجة الحتمية تعبيراً عن إحساس الإنسان بحقيقته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

55

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 الصغيرة المتناهية في الصغر... والناقصة المستغرقة في النقص، والحاجة الى الكمال الإلهي الذي يستهوي دوافع النفس، ويشد وعيها، وأحاسيسها، الى مبدئها العظيم الله ... تماماً كما يتجه التائه في الصحارى المظلمة الى مصدر النور والاشراق، والظمآن الى منابع الماء والرواء..


ومن مجمل ما عرضنا من حديث حول وجوب العبادة، ومسؤولية الإنسان فيها، نستطيع أن نستخلص: "أن العبادة نتيجة حتمية لطبيعة الوجود الإنساني الذاتية، يفرضها منطق الوجود العام، والعلاقة الذاتية بين الإنسان وخالقه من جهة، وبين عالم الدنيا والآخرة من جهة أخرى".

ويوصلنا بحثنا أيضاً إلى أن هناك أسباباً أساسية ثلاثة للعبادة هي:

1 ــ دفع العقوبة المتوقعة في عالم الآخرة، والتهيؤ للعيش في عالم الخلد والنعيم، باعداد الذات، وتوفير الأسباب الضرورية للعيش السعيد في عالم الآخرة، وهي العبادة.

2 ــ أن الله منعم على الإنسان، وكل منعم يستحق الشكر والثناء، لذا كانت العبادة واجباً أخلاقياً، لأنها أصدق وسائل التعبير عن الاعتراف بالنعم، ومقابلة إحسان المنعم بما يماثلها من نماذج الخير والامتنان.

3 ــ ان هيام الإنسان بحب الله العظيم ذاته، وجمال صفاته، وجلال قدسه، يشد الإنسان إليه تعالى، ويدفعه الى تقديسه وعبادته، حباً به وشوقاً إليه. لأنه أهل للعبادة، ومستحق للتقديس.

هذا، وإن حقيقة الشوق الى الله تعالى هي رجاء لقائه، والأُنسُ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

56

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 بقربه، والسعادة بجواره.. وهذا لا يتحقق إلاّ بالعبادة التي قوامها: العمل الصالح، والنية الخالصة.

 
قال سبحانه: ﴿...فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ الكهف/011.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

57

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 4 ـ منهاج العبادة في الإسلام



العبادة هي طريق الوصول الى الله سبحانه، وهي السبب في تحقيق ثوابه، ونيل جزائه.

والعبادة في الإسلام منهج متكامل المراحل والفصول، وطريق واضح المعالم والسير.. وغرضه تحقيق الكمال البشري، وتنقية الضمير الإنساني من الشوائب والانحرافات، تمهيداً للفوز بقرب الله.. وتأسيساً لتحقيق رضوانه.

والعبادات التي حددها الإسلام كافية بأثرها التكاملي لرفع قيمة الإنسان وزيادة قدره، والتسامي به الى مراتب الكمال الإنساني، وشده الى الملكوت الأعلى، وتحقيق عبوديته لله، ونيل رضوانه.

لذا فإننا لا نستطيع الوصول الى الله بأفضل مما صدر عنه.. فعبادات الإسلام معراج تتدرج به النفس البشرية، مرحلة بعد مرحلة، حتى يتم لها الصفاء والنقاء، فتستطيع الإطلال على عالم الآخرة، واستشفاف حقيقة الوجود، والتعالي على مكاسب الحياة الفانية، لسمو مقام الآخرة وعلو غاياتها، وارتباطها بعالم الخلود والنعيم الأبدي.

فعبادات الإسلام جاءت جميعها تزكية للنفس والبدن، وتطهيراً للذات، وتنمية للروح والارادة، وتصحيحاً لنشاط الجسد والغريزة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

58

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 فكل عبادة في الإسلام لها أثرها النفسي والجسدي، ولها نتائجها التكاملية في مجالات الروح والأخلاق والعلاقات الإنسانية المتعددة.


فقد جعل الإسلام الصلاة تنزيهاً للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرساً لفضيلة التواضع والحب للآخرين... ولقاء مع الله للاستغفار والاستقالة من الذنوب والآثام، وشحذاً لهمة النفس وقيادتها في طريق التسامي والصعود.

والصوم ترويضاً للجسد، وتقوية للإرادة على رفض الخضوع للشهوات، والسقوط تحت وطأة الاندفاعات الحسية الهلعة.

والدعاء تنمية لقوة الإحساس الروحي، وتوثيقاً للصلة الدائمة بالله والارتباط به والاعتماد عليه، ليحصل الاستغناء الذاتي بالله عمن سواه، فيلجأ إليه المؤمن في محنه وشدائده... وعند اساءته ومعصيته... وهو واثق أنه يُقبل على رب رؤوف رحيم، يمده بالعون ويقبل منه التوبة، فتطمئن نفسه، وتزداد ثقته بقدرته على مواصلة حياة الصلاح، وتجاوز المحن والشدائد.

وهكذا فإن العبادات في الإسلام تأتلف جميعها ضمن وحدة تعبدية فتكون منهاجاً متكاملاً لتطهير النفس والروح، وتصحيح مسيرة الجسد ونشاطه. تمهيداً لكمال بشري يؤهل الإنسان للعيش سعيداً في هذه الحياة ومنعماً في الآخرة.

ويتصف منهاج العبادة في الإسلام بأنه منهاج فطري ذو طبيعة اجتماعية حركية، لا يؤمن بالفصل بين الدنيا والآخرة، فهو لا يدعو الى محاربة المطالب الجسدية، من الطعام، والشراب، والزواج، والراحة، والاستمتاع بالطيبات بدعوى أنها تعارض التكامل الروحي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

59

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 والتقرب من الله، بل وازن بمنهاجه موازنة تامة بين الروح والجسد، ولم يفصل بينهما، لأن الإسلام لا يرى في مطالب الجسد حائلاً يقف في طريق تكامل الروح، أو عائقاً يعرقل تنامي الأخلاق، بل يؤمن بأن هدف الجسد والروح من حيث التكوين الفطري هدف واحد، ومنهاج تنظيمها وتكاملها منهاج واحد.


لذلك كان لكل فعل عبادي أثر اصلاحي على صحة الجسم، وحياة المجتمع، كما له أثر تكاملي على النفس والأخلاق والعلاقة بالله... فالطهارة، والصوم، والصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد.. كلها عبادات ذات مردود اصلاحي على صحة الفرد، وتكوين الجسم، ونظام المجتمع، وكذا فإن ممارسات الجسم وحاجاته المادية المختلفة، لها علاقة وثيقة بتنمية جانب الروح والأخلاق عندما ترتبط بالالتزام بمفهوم الحلال والحرام.. وعندما تبعث في النفس أحاسيس الشكر والثناء على الخالق المنعم.

فكل تلك المبادىء مفاهيم روحية تتفاعل مع الممارسة الحسية لتنمي الرابطة بالله سبحانه، وتقوّي العلاقة معه... لأن الإنسان في نظر الاسلام كلٌّ متكامل وليس كياناً ثنائياً ينفصل بعضه عن البعض الآخر كما تعتقد الرهبانية المسيحية، أو بعض الطرق الصوفية الشاذة، أو الطقوس البوذية، وكثير من المذاهب وأهل الرياضات الروحية والبدنية المنحرفة، التي تبنت تعذيب الجسد، وحرمانه من اللذائذ والطيبات، بدعوى تنمية جوانب الروح والأخلاق، كما يتوهمون... فيعمدون الى تجويع أنفسهم، أو تحريم الزواج، أو مقاطعة اللباس الجيد والبيت الهادىء فينزوون في مكامن الجبال والشعاب، أو يحتجبون في ظلمات الكهوف والغابات، للتعبد، والانقطاع عن الحياة.. فكل ذلك انحراف لا يقره الإسلام، وشذوذ لا يرضاه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

60

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 فقد كانت دعوة الاسلام واضحة صريحة الى ترك هذا الأسلوب، ورفض هذا المسلك، قال تعالى: ﴿وابتغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَكَ منَ الدنيا، وأحسنْ كما أحسنَ اللَّهُ إليكَ، ولا تبغِ الفسادَ في الأرضِ، إن اللَّهَ لا يحبُ المفسدينَ﴾ القصص: 77.

 
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ..﴾ الأعراف/23.
 
فالإسلام بمنهجه، ودعوته، يرفض التصوف، والرهبنة، وتعذيب الجسد من أجل تقوية الروح ــ كما يدعي المنحرفون عن منهج الحق ومسلك الاستقامة ــ والإسلام لا يدعو الى تعذيب الجسد وحرمانه حتى في حالة المخالفة في العبادة، بغية تحقيق التكامل الروحي، كما يتصور أصحاب المناهج غير الاسلامية الذين يفرضون على أنفسهم عقوبات بدنية مؤلمة.. كما لو ارتكب أحدهم مخالفة فإنه يفرض على نفسه عدم النوم أياماً، أو كوي جسده بالنار، أو حبس نفسه في وحل أو مستنقع، أياماً، أو شهوراً، كما كان يفعل القساوسة والرهبان المسيحيون.
 
فقد نقل أحد الكتّاب روايات مذهلة عن مساوىء الرهبانية، ومسالكها المنحرفة، نقتطف منها قوله: "ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق الى قرنين، وروى المؤرخون من تلك العجائب فحدثوا أن الراهب "مكاريوس" نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب "يوسيبيس" يحمل نحو قنطارين من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نازح، وقد عبد الراهب "بوضا" ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة، ولم ينم، ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

61

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 ظهره الى صخرة، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثيراً من الكلاء والحشيش. وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون على غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم، وأتقاهم، أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب "أتهيننس": أن الراهب "أنتوني" لم يقترف اثم غسل الرجلين طول عمره، وكان الراهب "أبراهام" لم يمس وجهه ولا رجله الماء، خمسين سنة، وقد قال الراهب الاسكندري واأسفاه. لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، وكان الرهبان يتجولون في البلاد، ويختطفون الأطفال، ويهربونهم الى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم، ويربونهم تربية رهبانية"1.

 
أما الإسلام فقد رفض كل هذا الشذوذ والانحراف رفضاً باتاً، وجعل الاستغفار، والشعور بالندم عند مقارفة الذنب كافياً لتطهير الضمير والاستقالة منه، مع ترتيب مسؤولية القضاء لما فات الإنسان من عبادات وأعمال تعبدية... لأن الشعور بالندم، والعزم على التوبة معناه رفض باطني للانحراف والاساءة، ورغبة صادقة في الاستقامة والاعتدال.
 
وفي بعض الأحيان يفرض الإسلام كفارات بدنية كالصوم، أو مالية تدفع للفقراء والمحتاجين كالطعام والكسوة، من غير أن يعرض الجسد للتعذيب، أو النفس للارهاق والمشقة، قال تعالى: ﴿يريدُ اللَّهُ أنْ يخففَ عنكم، وخلقَ الإنسانُ ضعيفاً﴾ النساء/82.
 
 
 

1- الندوي- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمينص168

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

62

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 ﴿... يريدُ اللهُ بكُمْ اليسرَ ولا يريدُ بكُمْ العسرَ...﴾ البقرة/581.

 
وقد راعى الإسلام في كل عباداته أن تكون: العبادة ذات أثر تكاملي على الذات ومردود عملي لاصلاح المجتمع وتحسين أوضاعه... فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. والصوم يشعر الإنسان بالوحدة والمساواة ومشاركة ذوي الحاجة والفقر باحساسهم عند معاناة ألم العطش والجوع.. والحج مؤتمر للتفاهم والتعارف والإصلاح.. إلخ.
 
والكفّارات والنذور والصدقات والزكاة والخمس عبادات لاشباع الحاجات المادية عند الفقراء، وتحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع.. أو تحرير العبيد ومنحهم الحرية.. وإلخ.
 
وهكذا تساهم العبادات في تخطيط شخصية الفرد، وبناء هيكل المجتمع وتمييز شخصيته الاسلامية الواضحة، كنتيجة عرضية تترشح عن هدف العبودية لله سبحانه... فهي جامعة للنفع الدنيوي الى جانب هدفها الأساسي... وهو اخلاص العبودية لله، ونيل رضوانه.. وتتجلى مساهمة العبادات في هذا التخطيط، أن الانسان ينزع بذاته الى الراحة.. وجمع المال والاستغراق في الأنانية.. إلخ، فتقوم العبادات بترويض نوازع الذات هذه بدلاً من مقاومتها، وتحويل الاتجاه الذاتي الى الله تعالى بتعويض يناله المكلف حين يعبد الله تعالى في صورة انفاق مالي حصل عليه بكد وسهر، أو مقاومة للظلم والفساد، أو جهد بدني، هذا التعويض هو الجزاء الأخروي.. الذي ترتاح إليه النفس وتهفو له الروح. وبهذا تحل العبادات جوهر المشكلة التي تعاني منها المذاهب الوضعية، في التوفيق بين مصلحة الفرد والمجتمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

63

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 5 ـ أقسام العبادة


رسم الإسلام منهاجاً تعبدياً كاملاً للعقل والنفس والبدن، وجعل لكل جانب من هذه الجوانب الإنسانية معراجه التعبدي، وطريقه التكاملي الذي يوصله صلة دائمة بالله سبحانه.

إن منهاج الإسلام منهاج تعبدي كامل، تشترك فيه كافة قوى الإنسان، وعناصر وجوده، وجوارحه وإمكاناته، إذ ربط هذا المنهج كل قوى الإنسان، وعناصر كيانه بالله سبحانه، لئلا ينفصل عن مصدر وجوده وجهة سيره في الحياة، فيتخلف بعض كيان الإنسان عن مواصلة السير على طريق الخير، والامتداد نحو تكامل لا يعرف الحدود، ولا يقف عند تصوّره المحدود، لذا كانت عبادة الإسلام تشمل:

أ ـ عبادة عقلية:

وهو أرقى الممارسات العبادية في الإسلام، وأكثرها قدرة على ربط الإنسان بخالقه وشده إليه... والإنسان يمارس هذه العبادة عن طريق التفكير والمعرفة، فيتجه العقل الى الله سبحانه.. فقد عد الإسلام التفكّر في خلق الله، وتدبر عظمته أفضل صنوف العبادة وأرقى وسائل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

64

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 التصعيد والتكامل الذاتي للإنسان... لأن التفكير العلمي الرصين هو الطريق الى معرفة الله سبحانه، وانكشاف عظمته.. وهو الذي يفتح أمام الإنسان أبواب التكامل، ويمنحه القدرة على النظر الى الأشياء من خلال منظار العلم، وعلى أساس وعيه وريادته تتجلى للإنسان مظاهر عظمة الله، وجليل قدرته فيذعن العقل لهذه العظمة، ويتخلى عن كبريائه، وغروره الفكري والعلمي، واعتداده بنفسه وقدرته: ليسلم بعبوديته لله تعالى، وتصاغره أمام عظمته..

 

 
ولذلك جاء حديث القرآن مادحاً التفكر، وموجهاً الأنظار الى المفكرين وذوي العقول، الذين يتعاملون مع الفكرة والكلمة بوعي وتمعن... بحثاً عن الهدى، وتحرياً للصواب، ليكونوا قدوة الإنسان، ومثال المؤمنين..
 
قال تعالى: ﴿فَبشرْ عبادِ  الذينَ يستمعونَ القولَ فيتّبعون أحسنَهُ أولئكَ الذينَ هداهمُ اللَّهُ وأولئكَ هم أولوا الألباب﴾ الزمر/71 - 81.
 
﴿... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...﴾ فاطر/82.
 
وجاء في الحديث الشريف: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
 
وروي عن الإمام علي عليه السلام قوله: "ما عبد الله بشيء أفضل من العقل".
 
وروي عنه عليه السلام أيضاً: "أن التفكّر يدعو الى البر والعمل به"1.
 
وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: "أفضل العبادة التفكّر في الله عزّ وجلّ وفي قدرته"2.
 
 
 

1- الحراني: تحف العقول عن آل الرسول - ما روي عن الامام علي
2-  الحراني: تحف العقول عن آل الرسول - ما روي عن الامام الصادق

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

65

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 وعن الإمام الرضا عليه السلام : "ليس العبادة كثرة الصلاة والصيام، وإنما التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ"1.

 
ب ـ عبادة نفسية:
 
وينتج عن الخضوع والتسليم الإيماني، والتصديق بالرسل والشرائع، الالتزام بمبادىء الدين ونظامه، والاهتداء بمنهجه وقيادته... فتؤثر كل هذه الحقائق تأثيراً إيجابياً على اتجاه النفس الى الله سبحانه واذعانها لأمره.. بتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، والرضى بقضائه وقدره، والشكر على نعمه، واخلاص الحب له.
 
إن هذه المواقف النفسية التي تظهر على سلوك المؤمن هي من أجل مظاهر العبادة وأصدقها... فهي تمثل انعكاس الإيمان في أعماق الإنسان وتفاعله مع الذات، وتنمية شعور النفس الحقيقي بالعبودية لله، ورغبتها في التسليم والتوافق مع ارادته ومشيئته.. جلّ وعلا.
 
ج ـ عبادة بدنية:
 
وهي كل فعل يقتضي توجيه القوى البدنية لأداء الأفعال المشعرة بالخضوع لله، والاستجابة لأمره، أو اشباع حاجات البدن، والتعبير عن نوازعه، وفق شريعة الله وسنّته في الحياة.. كما في أداء الواجبات التعبدية البدنية المختلفة... كالصلاة، والصوم، والجهاد، والحج،... أو في الامتناع عن المحرمات والممارسات الشاذة... كالخمر، والزنا، وأكل
 
 
 

1- المصدر نفسه - ما روي عن الامام الرضا 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

66

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 المال الحرام... إلخ، بغية ترويض البدن، وتربيته على الطاعة وتعويده على الالتزام، والانصياع لإرادة الله سبحانه.


وقد عبّر الامام عليه السلام أدق تعبير عن هذه العبادة بقوله: "أفضل العبادة عفة البطن والفرج".

والإسلام جرياً على عادته فإنه لم يفصل بين العبادة وبين تحقيق المصالح الاجتماعية للإنسان في أي موقع من مواقع تشريعه، لذا كان لهذه العبادات البدنية فوائد اجتماعية واصلاحية لا تحصى... فهي تساهم في حفظ النظام، وصيانة قيم الحياة، وكبح النزعة العدوانية، لقلع جذور الشر والانحراف من دنيا الإنسان... تمهيداً لبناء مجتمع إنساني مستقر، يعيش في ظلال العدل والسلام.

د ـ عبادة مالية:

وكما خطط الإسلام منهج التعبد ووضح طريق العبادة للعقل والنفس والبدن، حدد كذلك طريق العبادة في مجال المال والثروة والملكية، وحدد مسؤوليات الإنسان المالية، وطريقة تعبده المالي، ففرض الزكاة والخمس والحج، وحثّ على الإنفاق والتضحية بالمال في سبيل الله سبحانه وتعالى اكمالاً لخطة العبادة، وإتقاناً لمنهجها.

ولم يكتف الاسلام ببيان أساليب ووجوه الانفاق المالي بل حدّد الوسائل السليمة والخيرة للموارد المالية واكتساب الثروة.. وأوضح كذلك الأعيان التي لا تصح ملكيتها.. ومنع الطرق الشريرة لجمع المال الحرام.. زكاة للمال وإصلاحاً للحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

67

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 6 ـ أثر العبادة في تكامل الذات



تؤثر العبادات مجتمعة على بناء الشخصية الإنسانية، والصعود بها الى المستوى التكاملي، وتخليصها من كل المعوقات التي تمنع رقيها، وتكاملها النفسي والاجتماعي.. من الأنانية والحقد والرياء والنفاق والجشع والاجرام... إلخ.

لأن العبادة تعمل دائماً على تطهير الذات الإنسانية من كل تلك المعوقات وتساهم بانقاذها من مختلف الأمراض النفسية والاخلاقية... وتسعى لأن يكون المحتوى الداخلي مطابقاً للمظهر والسلوك الخارجي، لإزالة التناقض والتوتر الداخلي... ولتحقيق انسجام كامل بين الشخصية، وبين القيم والمبادىء الحياتية السامية... كما تعمل على غرس حب الكمال والتسامي الذي يدفع الإنسان الى التعالي، وتوجيه نظره الى المثل الأعلى المتحقق في الكمالات الإلهية، والقيم الروحية السامية، تمهيداً لاستقامة سلوكية خيرة تفجر في نفس المتعبد ينابيع الخير، وتسخر قواه لصالح البشرية جمعاء، لأن العبادة ممارسة انسانية جادة لحذف الأنانية حدفاً تاماً، لتتفتح أمام الإنسان الآفاق الرحبة، والتوجهات الواسعة، التي تستوعب الوجود كله بعد التحرر من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

68

الفصل الثاني: العبادة في الاسلام

 قيود الأنانية والخروج من سجنها الضيق الذي يشد الإنسان إليه، ويستعبده.


فالإنسان عندما يتعبد إنما يعبِّر عن حقيقة الموقف الإنساني أمام بارئه، وعلاقة الإنسانية به، ليعيش الإنسانية كلها متمثلة في انسانيته المتوجهة الى بارئها.

والعبادة بعد ذلك هي شعور دائم بوجود الله وايقاظ مستمر للضمير والوجدان.

والعبادة ممارسة روحية لاخراج الإنسان من آلية الحياة، ورتابة سيرها المادي الممل، والانتقال بها الى أجواء رحبة، يتنفس فيها الإنسان عبير الراحة، ويتذوق طعم السعادة، فتتجدد قوى النفس وينبعث فيها احساس بالاستقرار والطمأنينة.

وللعبادة آثار وقائية، وأخرى علاجية تتمثل في انقاذ المتعبد من التعقيد، واليأس، والشعور بالذنب، وتفاهة الذات، لأن وقوف الانسان بين يدي الله تعالى، واستمرار العلاقة به يشير بقربه من مالك الوجود، وحبه له، وعطفه عليه، كما يشعر بقيمته الإنسانية، وعلو قدره.. فهو يستطيع من خلال موقفه التعبدي أن يكتشف أخطر عنصر في حياته، وهو أهميته وكرامته على خالقه، وعنايته به... وبدأ يستمر شعوره بالأمل باصلاح نفسه، واراحة ضميره من الارهاق والاحساس بالذنب، ومن الشعور بالتفاهة والضياع في الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

69

الفهرس

  الفهرس

 

المقدمة

5

الفصل الأول: مفهوم العبودية في الإسلام

11

1-العبودية

13

2-الإنسان والعبودية

16

العبودية التكوينية

16

العبودية الاختيارية

18

3- لا بد من العبودية

20

أ‌-                  عبودية مخلصة لله

21

ب- عبودية لغير الله

25

4- لماذا العبودية لله

27

أ-الخلق لله

27

ب-الملك لله

28

ج- القهر لله

29

د-الأمر لله

30

هـ-الربوبية لله

32

5- الدوافع الإنسانية للعبادة

34

أ-الحب والشوق

34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

79


70

الفهرس

 

ب-الخوف والرجاء

36

6-مظاهر العبودية

39

في أي مجال تتحقق العبودية

39

أ-التسليم العقلي

41

ب-التوكل على الله وتفويض الأمر إليه

42

ج-وتتحقق العبودية لله سبحانه

44

د-وتتحقق العبودية

44

هـ-وتتحقق العبودية

45

7-دور العبودية في حياة الإنسان

47

أ-الأثر النفسي

47

ب-الأثر الاجتماعي

49

ج-الآثار المدنية

50

الفصل الثاني: العبادة في الإسلام

51

1-التعريف بالعبادة

53

2-النية والعبادة

57

3-لماذا العبادة؟

61

4-منهاج العبادة في الاسلام

67

5-أقسام العبادة

74

أ-عبادة عقلية

74

ب-عبادة نفسية

76

ج- عبادة بدنية

76

د-عبادة مالية

77

6- أثر العبادة في تكامل الذات

78

الفهرس

79

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

80


71
بين العبادة والعبودية