هدى القرآن


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-01

النسخة: 2015


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

11

المقدّمة

11

الاستفادة من القرآن

13

الأهداف والغايات

14

السياسات العامّة

15

مصطلحات مفتاحيّة

17

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

19

تعريف بالسورة ومحاورها

19

فضيلة السورة

20

خصائص النزول

21

شرح المفردات

23

تفسير الآيات

36

بحث تفسيريّ: التسبيح

41

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

43

تعريف بالسورة ومحاورها

43

فضيلة السورة

44

خصائص النزول

44

شرح المفردات

45

تفسير الآيات

52

بحث تفسيريّ: النفس

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

57

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

59

تعريف بالسورة ومحاورها

59

فضيلة السورة

60

خصائص النزول

61

شرح المفردات

62

تفسير الآيات

70

بحث تفسيريّ: طرق معرفة الله تعالى

77

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

79

تعريف بالسورة ومحاورها

79

فضيلة السورة

80

خصائص النزول

81

شرح المفردات

82

تفسير الآيات

88

بحث تفسيريّ: الربوبيّة

95

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

97

تعريف بالسورة ومحاورها

97

فضيلة السورة

97

خصائص النزول

98

شرح المفردات

99

تفسير الآيات

103

بحث تفسيريّ: التوحيد الأفعاليّ

109

الدرس السادس: تفسير سورة التين

111

تعريف بالسورة ومحاورها

111

فضيلة السورة

111

خصائص النزول

112

شرح المفردات

113

تفسير الآيات

117

بحث تفسيريّ: خلق الإنسان وتكوينه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

123

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

125

تعريف بالسورة ومحاورها

125

فضيلة السورة

126

خصائص النزول

127

شرح المفردات

128

تفسير الآيات

137

بحث تفسيريّ: الخَلْق والأمر

143

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

145

تعريف بالسورة ومحاورها

145

فضيلة السورة

146

خصائص النزول

146

شرح المفردات

147

تفسير الآيات

152

بحث تفسيري: حقيقة القرآن

157

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

159

تعريف بالسورة ومحاورها

159

فضيلة السورة

160

خصائص النزول

160

شرح المفردات

161

تفسير الآيات

167

بحث تفسيري: دور الدين في صيانة مسير التكامل الإنسانيّ وترشيده

173

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

175

تعريف بالسورة ومحاورها

175

فضل السورة

176

خصائص النزول

176

شرح المفردات

177

تفسير الآيات

180

بحث تفسيري: المجازاة وتجسّم الأعمال

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

185

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

187

تعريف بالسورة ومحاورها

187

فضيلة السورة

188

خصائص النزول

189

شرح المفردات

191

تفسير الآيات

195

بحث تفسيري: موقع أشراط الساعة وحوادثها في السير الوجودي للإنسان

201

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

203

تعريف بالسورة ومحاورها

203

فضل السورة

203

خصائص النزول

204

شرح المفردات

205

تفسير الآيات

208

بحث تفسيري: حقيقة ميزان العدل الأخرويّ

215

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

217

تعريف بالسورة ومحاورها

217

فضيلة السورة

218

خصائص النزول

218

شرح المفردات

219

تفسير الآيات

224

بحث تفسيري: دور العلم والمعرفة في تكامل الإنسان

229

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

231

تعريف بالسورة ومحاورها

231

فضيلة السورة

231

خصائص النزول

232

شرح المفردات

232

تفسير الآيات

236

بحث تفسيري: الإسلام والإيمان ومراتبهما الوجوديّة

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

243

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

245

تعريف بالسورة ومحاورها

245

فضيلة السورة

245

خصائص النزول

246

شرح المفردات

247

تفسير الآيات

250

بحث تفسيري: مراتب النار الأخرويّة

255

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

257

تعريف بالسورة ومحاورها

257

فضيلة السورة

258

خصائص النزول

258

شرح المفردات

259

تفسير الآيات

262

بحث تفسيري: خصائص الصلاة وآثارها التربويّة والوجوديّة على تكامل الإنسان

269

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

271

تعريف بالسورة ومحاورها

271

فضيلة السورة

272

خصائص النزول

273

تفسير الآيات

276

بحث تفسيري: حقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والوجوديّة على الإنسان

283

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

285

تعريف بالسورة ومحاورها

285

فضيلة السورة

286

خصائص النزول

282

شرح المفردات

288

تفسير الآيات

290

بحث تفسيريّ: العبوديّة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9


5

الفهرس

 

297

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

299

تعريف بالسورة ومحاورها

299

فضيلة السورة

300

خصائص النزول

300

شرح المفردات

301

تفسير الآيات

302

بحث تفسيريّ: التوبة والاستغفار

309

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

311

تعريف بالسورة ومحاورها

312

فضيلة السورة

313

خصائص النزول

314

شرح المفردات

315

تفسير الآيات

321

بحث تفسيريّ: التوحيد

329

الدرس الحادي والعشرون: تفسير سورة الفلق

331

تعريف بالسورة ومحاورها

331

فضيلة السورة

332

خصائص النزول

333

شرح المفردات

334

تفسير الآيات

336

بحث تفسيريّ: الخير والشرّ

341

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

343

تعريف بالسورة ومحاورها

343

فضيلة السورة

344

خصائص النزول

344

شرح المفردات

344

تفسير الآيات

348

بحث تفسيريّ: الألوهيّة

353

مصادر الكتاب ومراجعه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10


6

المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى, محمّد وآله الطاهرين عليهم السلام، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
 
الاستفادة من القرآن
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾1.
 
البيّنات هي خصوص الشواهد والدلائل النيّرة التي ضمّنها الله تعالى في القرآن الكريم, ليستفيد منها طائفة خاصّة من الناس, وهم خاصّة أهل العلم والعمل, المستعدّين في أنفسهم لنيل الهداية الإلهيّة الخاصّة: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2، بعد أنْ كان القرآن هدى لطائفة أخرى, هي طائفة أدنى من طائفة أهل العلم والعمل, ليس بمقدورها إدراك الحقائق النوارنيّة, بالحجّة والبرهان، بل بالتقليد والاتّباع: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾3،4.



1 سورة البقرة، الآية 185.
2 سورة المائدة، الآية 16.
3 سورة العنكبوت، الآية 43.
4 انظر: الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، ج2، ص23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

 وقد حدّد الإمام الخميني قدس سره طريق الاستفادة من القرآن الكريم، حيث قال: لا بدّ لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهمّ يُكشَفُ لكَ بالتوجّه إليه طريقُ الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم, وهو: أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهيّ نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة، وترى نفسك موظّفة على التعلّم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلّم والإفادة والاستفادة: أن تتعلّم منه الجهات الأدبيّة والنحو والصرف، أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانيّة والبديعيّة، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطّلاع على الأمم السالفة، فإنّه ليس شي‏ء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن, وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل. وليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفاسير, فإنّ كلّ واحد من المفسِّرين تحمّل المشاق الكثيرة والأتعاب التي لا نهاية لها حتى صنَّف كتاباً شريفاً، فللّه درّهم، وعلى الله أجرهم، بل مقصودنا هو: أنّه لا بدّ وأن يُفتَح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف, الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى، والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبية. فعلى العلماء والمفسِّرين أن يكتبوا التفاسير، وليكن مقصودهم: بيان التعاليم والمقرّرات العرفانيّة والأخلاقيّة، وبيان كيفيّة ربط المخلوق بالخالق، وبيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود, على نحو ما أُودِعَت في هذا الكتاب الشريف، فصاحب هذا الكتاب ليس هو السكّاكي, فيكون مقصده جهات البلاغة والفصاحة، وليس هو سيبويه والخليل, حتى يكون منظوره جهات النحو والصرف، وليس المسعودي وابن خلّكان, حتى يبحث حول تاريخ العالم... هذا الكتاب ليس كعصى موسى عليه السلام ويده البيضاء، أو نفس عيسى عليه السلام الذي يُحيي الموتى, فيكون للإعجاز فقط، وللدّلالة على صدق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هذه الصحيفة الإلهيّة كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبديّة العلميّة والمعارف الإلهية. هذا كتاب الله يدعو إلى الشؤون الإلهيّة، فالمفسِّر، لا بدّ وأن يعلم الشؤون الإلهيّة، ويُرجِع الناس إلى تفسيره, لتعلُّم الشؤون الإلهيّة, حتى تتحصّل الاستفادة منه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾1. فأيّ خسران أعظم من أن نقرأ الكتاب 




1 سورة الإسراء، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 الإلهي منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ونراجع التفاسير، ونحرم مقاصده: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾1"2.

 
ومن هذا المنطلق، سعى مركز نون للتأليف إلى استنفار الجهود والطاقات لإصدار سلسلة دراسات تُعنى بدراسة القرآن الكريم وعلومه، واستكشاف معارفه ومقاصده، وإيصالها إلى أذهان طلّاب العلوم الدينيّة والمثقّفين بأسلوب تعليمي هادف, فكان هذا الكتاب "دروس في تفسير القرآن" أحد الجهود المبذولة على هذا الطريق، بعد صدور الكتاب السابق "دروس في علوم القرآن".
 
الأهداف والغايات
يتوخّى هذا الكتاب تحقيق الأهداف الآتية:
- تعزيز الارتباط الروحي والوجداني والفكري بالقرآن الكريم.
 
- تفسير بعض سور القرآن الكريم وبيان مقاصدها.
 
- الاطّلاع على خصائص هذه السور وما تحويه من محاور ومواضيع مطروحة وتسييلها في السلوك الفردي والاجتماعي.
 
- تسهيل عملية تناول تفسير القرآن الكريم, بأسلوب تعليمي هادف.
 
ولتحقيق هذه الأهداف والغايات، جرى اعتماد تقسيم كلّ درس إلى تسعة أقسام، هي:
• أولاً: آيات السورة: وفيه إيراد لنصّ الآيات التي تتضمّنها السورة.
 
• ثانياً: تعريف بالسورة ومحاورها: وفيه بيان لأسماء السورة وعدد آياتها ومحاورها المطروحة.
 
• ثالثاً: فضيلة السورة: وفيه بيان لما ورد في الروايات في فضل السورة وثواب قراءتها وتعلّمها وتعليمها. 



1 سورة الأعراف، الآية 23.
2 الخميني، روح الله: الآداب المعنويّة للصلاة، تحقيق ونشر لجنة إحياء تراث الإمام الخميني قدس سره، لا.ط، طهران، لا.ت، ص332-333.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المقدمة

 • رابعاً: خصائص النزول: وفيه بيان لما احتفّ بنزول السورة من قرائن تتعلّق ببيئة نزولها, من سبب نزولها، أو شأن نزولها، أو مكان نزولها، أو زمان نزولها، أو ثقافة عصر نزولها.


• خامساً: شرح المفردات: وفيه بيان لمعاني بعض المفردات الواردة في السورة, بالرجوع إلى المعاجم اللغويّة والقرآنيّة.

• سادساً: تفسير الآيات: وفيه بيان للمعنى والمفهوم التفسيريّ الاصطلاحي للآية والمقطع القرآني، مع إيراد التفسير المصداقي والتأويل والتدبّر وأسباب نزول الآيات وشأنه في الحاشية, بهدف تمييزها عن المعنى التفسيري الاصطلاحي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم التدبّرات الموجودة في هامش الكتاب مأخوذة من البحث التفسيري في الكتب الآتية: (تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي/ تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ تفسير النور للشيخ محسن قراءتي/ دروس من القرآن للشهيد مطهّري/ دروس في تفسير القرآن الكريم للسيد الفهري). 

• سابعاً: بحث تفسيريّ: ويعالج فيه موضوعاً من المواضيع المطروحة في السورة, بمنهج تفسيري موضوعي، مع مراعاة الاختصار وعدم التفصيل فيه, تناسباً مع حجم الدرس.

• ثامناً: الأفكار الرئيسة: ويتضمّن خلاصة الأفكار المطروحة في الدرس.

• تاسعاً: فكّر وأَجِبْ: ويحوي نمطين من الأسئلة الاختبارية (أَجِبْ بصحّ أو خطأ / أَجِبْ باختصار).

السياسات العامّة
حرص الكتاب - قدر الإمكان - على مراعاة مجموعة من السياسات العلميّة والمنهجيّة والفنّيّة، هي: 
• الاستفادة قدر الإمكان من فكر علماء الإماميّة، من المتقدّمين والمتأخّرين وتسييله داخل الدروس.

• الحرص على دراسة أبرز الآراء التفسيريّة وأشهرها في تفسير القرآن الكريم.

• إسناد الأقوال والروايات المنقولة في الكتاب إلى مصادرها الأساس على الأعمّ الأغلب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

المقدمة

 • تقسيم الكتاب إلى اثنين وعشرين درساً.


• مراعاة التقارب - قدر الإمكان - في عدد صفحات كلّ درس.

مصطلحات مفتاحيّة
يوجد مجموعة من المصطلحات الواردة في الكتاب، هي بمثابة مصطلحات مفتاحيّة للبحث التفسيري، وهي:
1- خصائص النزول: هي مجموعة العوامل ذات الصلة بنزول الوحي القرآني، كسبب النزول، وشأن النزول، ومكان النزول، وزمان النزول، وثقافة عصر النزول.

2- سبب النزول: هو كلّ ما يتّصل بنزول الآيات القرآنيّة من القضايا والحوادث التي صاحبت نزول القرآن الكريم أو أعقبته.

3- شأن النزول: هو حدث نزل فيه شيء من القرآن الكريم. والنسبة بينه وبين سبب النزول هي العموم والخصوص من وجه. ومن وجوه الفرق بينهما: أنّ سبب النزول يُبيّن مشكلة حاضرة في عصر النزول لحادثة عارضة، بينما يُبيّن شأن النزول مشكلة أمر واقع، سواء أكانت حاضرة أم غابرة.

4- زمن النزول ومكانه (المكي والمدني): المكّي، هو كلّ ما نزل من القرآن قبل الهجرة النبويّة المباركة، والمدنّي، هو كلّ ما نزل بعدها.

5- التفسير بالمفهوم: الكشف عن المعاني المستورة والمحتبسة تحت الألفاظ.

6- التفسير بالمصداق: هو تفسير الآية، وفق مورد نزولها، في سبب أو حادثة خاصّة، بحقّ فرد أو أفراد معيّنين. وأمّا التفسير بالجري والانطباق، فيكون بتطبيق حكم الآية على جميع الموارد التي تشترك في خصوصيّاتها مع مورد نزول الآية.

7- التأويل: هو الحقيقة الواقعيّة العينيّة التي تستند عليها البيانات القرآنيّة. 

8- التّدَبُّر: هو تأمّل عقليّ ذاتيّ دقيق وعميق في تعابير القرآن الكريم، للحصول على نكات دقيقة، تربويّة وأخلاقيّة وعقديّة وغيرها، وذلك ضمن ضوابط وشروط مرعيّة الإجراء، مع كون هذه النكات احتماليّة تبقى في دائرة الرؤية ووجهة النظر الخاصّة بالمتدبّر، ولا يمكن نسبتها على نحو الجزم إلى المراد الإلهيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

المقدمة

 9- السياق: هو الإطار العام الذي يكتنف مجموعة من الكلمات والعبارات والجُمَل، بحيث يُشكّل قرينة في تحديد معاني الألفاظ ووجهة العبارات.

 
10- القرائن التفسيريّة: كلّ ما ارتبط بالكلام ارتباطاً لفظيّاً أو معنويّاً، وكان له أثر فاعل في استيعاب الكلام وفهم مراد المتكلّم، سواء أكان متّصلاً بالكلام (القرينة المتّصلة) أم منقطعاً عنه (القرينة المنفصلة)، وسواء أكان من سنخ الألفاظ (القرينة اللفظيّة) أم من غير سنخ الألفاظ (القرينة اللبّيّة والعقليّة).
 
وحتى نكون موضع عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه"1، نضع بين أيديكم هذا الجهد المتواضع، عسى أن يتقبّله الله - تعالى -، ويكون خطوة في طريق العودة إلى القرآن والاستفادة منه.
 
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة



1 الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق، ح739, 740، ص357.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى * سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالأعلى، لورود ذكرها في مستهلّ السورة، وقد جرت سيرة المسلمين على تسمية بعض السور باسم مفتتحها. وهذه السورة آخر سور "المسبّحات".
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- تسبيح الربّ من لوازم محض ربوبيّة الربّ وعبوديّة العبد.
2- ترتّب الهداية التشريعيّة على الهداية التكوينيّة.
3- إيجاد بيئة قَبول الهداية التشريعيّة.
4- حفظ الأنبياء والرسل عليهم السلام وصيانتهم عن الخطأ في إيصال الهداية إلى الناس.
5- حقيقة تزكية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
6- حقيقة تدسية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
7- فناء الدنيا وزوالها، وبقاء الآخرة ودوامها.
8- وحدة الدين، على اختلاف شرائعه، في هداية الإنسان إلى الله تعالى.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم"1
 
• ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ هذه السورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى: ميكائيل". 



1 الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، تقديم: محسن الأمين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م، ج10، ص326.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

14

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • ما رواه أبو بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قرأ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت"1.

 
• ما رواه أبو حميصة، عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "صلّيت خلفه عشرين ليلة. فليس يقرأ إلا ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾. وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة. إنّ مَنْ قرأها فكأنّما قرَأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى"2
 
• ما رواه عقبة بن عامر الجهنيّ أنّه: لمّا نزلت: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾3، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعلوها في ركوعكم". ولمّا نزلت: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾4، قال: "اجعلوها في سجودكم"5.
 
خصائص النزول
اختلف المفسّرون في مكان نزول هذه السورة وزمانه، على ثلاثة أقوال6، هي:
1- مكّيّة السورة، وهو قول مشهور المفسّرين. ويؤيّده: انطباق خصائص السور المكّيّة عليها، بلحاظ قصر مقاطع آياتها، وطبيعة أسلوبها وخطابها ولحنها ومحاورها المطروحة.
 
2- مدنيّة السورة، حيث ورد فيها ذِكْر زكاة الفطرة وصلاة العيد، بدلالة بعض الروايات التفسيريّة، وهما لم يُشرَّعان إلا بعد الهجرة النبويّة، أي في المرحلة المدنيّة.
 
3- مكّيّة أولها ومدنيّة آخرها، حيث إنّ سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ وأمّا ذيلها، وهو قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، بقرينة الروايات التفسيريّة، فهو مدنيّ.



1 الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، تقديم: محسن الأمين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م، ج10، ص326
2 م.ن.
3 سورة الواقعة، الآيتان 74 و 96، وسورة الحاقة، الآية 52.
4 سورة الأعلى، الآية 1.
5 م.ن.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص326, السيوطي، جلال الدين: الدر المنثور، لا.ط، بيروت، دار المعرفة، لا.ت، ج6، ص337-339, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص264.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

15

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 وواقع الحال أنّ الوجه الأوّل هو الأوفق من بين الأقوال المطروحة، لما تقدّم ذِكره من مؤيّدات، أضف إلى ذلك: 

• أنّ الأمر بالزكاة والصلاة عامّان، فيمكن حمل الروايات الواردة في زكاة الفطرة وصلاة العيد على التطبيق.
 
• أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسّرين.
 
شرح المفردات
• سَبِّحِ: السين والباء والحاء أصلان، أحدهما: جنس من العبادة، والآخر: جنس من السعي. فالأوّل: السبحة، وهي الصلاة، ويختصّ بذلك ما كان نفلاً غير فرض... ومن الباب التسبيح، وهو تنزيه الله جلّ ثناؤه من كلّ سوء. والتنزيه، التبعيد"1. وجُعِل التسبيح في فعل الخير، كما جُعِل الإبعاد في الشّرّ، فقيل: أبعده اللَّه. وجُعِلَ التَّسْبِيحُ عامّاً في العبادات، قولاً كان، أم فعلاً، أم نيّة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ﴾2، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾3، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾4، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾5... والأشياء كلُّها تُسبّح له وتسجد، بعضها بالتّسخير وبعضها بالاختيار"6.
 
• قَدَّرَ: "القاف والدال والراء أصل صحيح، يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كلّ شيء"7. و"القَدْرُ والتَّقْدِيرُ: تبيين كمّيّة الشيء... وتَقْدِيرُ الله على وجهين: 



1 ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، لا.ط، لا.م، مكتبة الإعلامي الإسلامي، 1404هـ.ق، ج3، مادّة "سَبَحَ"، ص125.
2سورة الصافات، الآية 143.
3 سورة البقرة، الآية 30.
4 سورة غافر، الآية 55.
5 سورة الإسراء، الآية 44.
6 الأصفهاني، حسين (الراغب): مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط2، قم المقدّسة، طليعة النور, مطبعة سليمانزاده، 1427هـ.ق، مادّة "سَبَحَ"، ص392-393.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَدَرَ"، ص62.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

16

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 أحدهما: بالحكم منه، أن يكون كذا أو لا يكون كذا، إمّا على سبيل الوجوب، وإمّا على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾1. والثاني: بإعطاء الْقُدْرَةِ عليه... وقوله: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾2، أي: أعطى كلّ شيء ما فيه مصلحته، وهداه لما فيه خلاصه، إمّا بالتّسخير، وإمّا بالتّعليم، كما قال: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾3"4. والثاني يرجع إلى الأوّل. فتدبَّر.

 
• غُثَاءً: "الغين والثاء أصل صحيح يدلّ على فساد في الشيء"5. و"قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾6، أي أهلكناهم، فذهبنا بهم، كما يذهب السيل الغثاء، والغثاء بالضم والمد: ما يجيء فوق السيل ممّا يحمل من الزبد والوسخ وغيره. قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾، أي يابساً"7.
 
• أَحْوَى: "الحاء والواو وما بعده معتلّ أصل واحد، وهو الجمع"8. و "قيل: الحوّة: شدّة الخضرة التي تميل إلى السواد، فقوله تعالى: ﴿غُثَاء أَحْوَى﴾، أي أسود ليس بشديد السواد"9.
 
• يَصْلَى: "الصاد واللام والحرف المعتلّ أصلان، أحدهما: النار وما أشبهها، من الحمى، والآخر: جنس من العبادة"10. و"أصل الصَّلْي الإيقادُ بالنار، ويقال: صَلِيَ بالنار وبكذا، أي: بلي بها، واصْطَلَى بها، وصَلَيْتُ الشاةَ: شويتها، وهي مَصْلِيَّةٌ. قال تعالى: ﴿اصْلَوْهَا



1 سورة الطلاق، الآية 3.
2 سورة الأعلى، الآية 3.
3 سورة طه، الآية 50.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَدَرَ"، ص658-659.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَثّ"، ص379.
6 سورة المؤمنون، الآية 41.
7 الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، نشر مرتضوي, مطبعة چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش، ج1، مادّة "غَثَا"، ص312.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "حَوَى"، ص112.
9 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "حَوَا"، ص139, الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "حَوَا"، ص112.
10 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "صَلَى"، ص300.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

17

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الْيَوْمَ﴾1، وقال: ﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾2، ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾3، ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾4، ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾5"6.

 
• تَزَكَّى: "الزاء والكاف والحرف المعتلّ أصل، يدلّ على نماء وزيادة"7. و"أصل الزَّكَاةِ: النّموّ الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخرويّة... وتَزْكِيَةُ الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل، وهو محمود وإليه قصد بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾8، وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾9. والثاني: بالقول، كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أنْ يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه، فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾10، ونهيه عن ذلك، تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً"11.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾: 
المُرَاد بالأعلى، الذي يعلو كلّ عال، ويقهر كلّ شيء، وهو واقع موقع صفة "ربّك" دون الاسم.
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• أي قل: "سبحان ربّي الأعلى".
 
• صلِّ باسم ربّك الأعلى.
 
• تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى، من الصفات المذمومة والأفعال القبيحة، لأنّ التسبيح هو التنزيه لله عمّا لا يليق به.



1 سورة يس، الآية 64.
2 سورة الأعلى، الآية 12.
3 سورة الغاشية، الآية 4.
4 سورة الانشقاق، الآية 12.
5 سورة النساء، الآية 10.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "صَلا"، ص490.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "زَكَى"، ص17.
8 سورة الشمس، الآية 9.
9 سورة الأعلى، الآية 14.
10 سورة النجم، الآية 32.
11 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "زَكَا"، ص380-381.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

18

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى، بأن لا يؤوَّل ما ورد منها من غير مقتضٍ، ولا يبقى على ظاهره إذا كان ما وُضِعَ له لا يصحّ له تعالى، ولا يطلقه على غيره تعالى، إذا كان مختصّاً به تعالى، كاسم الجلالة، ولا يتلفّظ به في محلّ لا يُناسبه، كبيت الخلاء، وعلى هذا القياس.

 
• أمرٌ، بتنزيه اسمه تعالى وتقديسه، وبلحاظ تعليق التنزيه على الاسم - وظاهر اللفظ دالّ على المسمّى - والاسم إنّما يقع في القول، فيكون تنزيهه تعالى، بأنْ لا يُذْكَر معه ما هو تعالى منزّه عنه، كذِكْر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبيّة إليهم، وكذِكْر بعض ما يختصّ به تعالى، كالخلق والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة ونحوها، ونسبته إلى غيره تعالى، أو كذِكْر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى، من الأفعال، كالعجز والجهل والظلم والغفلة، وما يُشبهها، من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
والقول الأخير هو الأوسع والأشمل والأنسب لسياق قوله تعالى الآتي: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة والتبليغ، فبُدِئ أولاً بإصلاح كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وتجريده عن كلّ ما يُشعر بجليّ الشرك وخفيّة أمره، بتنزيه اسم ربّه، ووعد ثانياً بإقرائه، بحيث لا ينسى شيئاً ممّا أوحي إليه، وتسهيل طريقة التبليغ عليه، ثمّ أُمِرَ بالتذكير والتبليغ.
 
وبناءً عليه، فالمراد بتنزيه اسمه تعالى، تجريد القول فيه عن ذِكْر ما لا يُناسب ذِكْره ذكرَ اسمه تعالى، وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل. وهو يلازم التوحيد الكامل، بنفي الشرك الجلي، كما في قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾2، وقوله تعالى: ﴿... وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾3. وفي إضافة الاسم إلى الربّ، والربّ إلى ضمير الخطاب، تأييد لما قدّمناه، 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص328, الطباطبائي، م.س، ج20، ص264-265.
2 سورة الزمر، الآية 45.
3 سورة الإسراء، الآية 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

19

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الذي اتّخذته ربّاً وأنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله، فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذِكر من غيره، بحيث ينافي وصف الربوبيّة المقصور في الله تعالى، على ما عرَّف نفسه لك، وينافي وصف العبوديّة المقصور في العبد المستلزم لتسبيح الربّ وتنزيهه عن الشريك وكلّ نقص واحتياج1.

 
الآية (2): ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾: 
خَلْق الشيء، جَمع أجزائه. وتسويته، جعلها متساوية، بحيث يُوضع كلّ في موضعه الذي يليق به، ويُعطى حقّه، كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان في ما يناسبه من الموضع. والخَلْق والتسوية، وإنْ كانا مطلقين، لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.
 
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
- خلق وسوّى بينهم في باب الإحكام والإتقان.
- خلق كلّ ذي روح، فسوّى يديه وعينيه ورجليه. 
- خلق الإنسان فعدّل قامته، أي لم يجعله منكوساً، كالبهائم والدوابّ.
- خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته، فسوّى صنعها، لتشهد على وحدانيّته.
 
وغيرها من الأقوال2.
 
والآية إلى تمام أربع آيات لاحقة لها، تصف التدبير الإلهيّ في التكوين والتشريع، وهي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة في التكوين والتشريع، وأنّ الهداية التشريعيّة مترتّبة على الهداية التكوينيّة، وممهّد لها بإيجاد الاستعداد والقابليّة للهداية، وهذا ما يُفيده الترتيب والتفريع الوارد في سياق هذه الآية مع الآية اللاحقة: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
تفسير بالمصداق: ما رواه الأصبغ بن نباتة، أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، فقال: "مكتوب على قائمة العرش قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين بألفي عام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله, فاشهدوا بهما، وأنّ عليّاً وصي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم". (القمي، علي بن إبراهيم: تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: طيب الموسوي الجزائري، لا.ط، لا.م، مطبعة النجف، 1387هـ.ق، ج2، ص417).
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (3): ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾

التقدير، هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته.
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• قدّر الخَلْق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات، ثمّ هداهم إلى دينه، بمعرفة توحيده، بإظهار الدلالات والبيّنات.
 
• قدّر أقواتهم، وهداهم لطلبها.
 
• قدّر المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لاستخراجها منه.
 
• جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة، وحدود معيّنة في ذواتها وصفاتها وأفعالها، لا تتعدّاها، وجهّزها بما يُناسب ما قُدِّر لها، فهداها إلى ما قُدِّر، فكلّ يسلك نحو ما قُدِّرَ له، بهداية ربّانيّة تكوينيّة، كالطفل يهتدي إلى ثدي أمّه، والفرخ إلى زق أمّه وأبيه، والذكر إلى الأنثى، وذي النفع إلى نفعه، وعلى هذا القياس. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾1، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾3.
 
وغيرها من الأقوال. 
 
والقول الأخير من هذه الأقوال، هو الأوسع والأشمل والأوفق بظاهر السياق وبإطلاق معنى التقدير4.
 
الآية (4): ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾: 
المرعى، ما ترعاه الدوابّ من نبات الأرض، فالله تعالى هو الذي أخرجها، أي أنبتها، لمنافع جميع الحيوان وأقواتهم5.



1 سورة الحجر، الآية 21.
2 سورة عبس، الآية 20.
3 سورة البقرة، الآية 148.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
  تَدَبُّر: الهداية التكوينيّة مقدّمة للهداية التشريعيّة.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

21

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (5): ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى﴾

الغثاء، ما يقذفه السيل على جانب الوادي، من الحشيش والنبات اليابس الجاف بعدما كان رطباً، لتأكله البهائم. والأحوى، شديد الخضرة الذي يضرب إلى السواد، من شدّة خضرته والمجتَمِع على جانبي الوادي. وإخراج المرعى، لتغذّي الحيوان، ثمّ جعله غثاء أحوى، من مصاديق التدبير الربوبيّ ودلائله، كما أنّ الخلق والتسوية والتقدير والهداية، كذلك1.
 
الآية (6): ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾
القراءة، ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعضها الآخر في الترتيل. وليس إقراؤه تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، مثل إقراء بعضنا بعضنا الآخر، باستماع المقرىء، لما يقرؤه القارىء، وإصلاح ما لا يُحسنه، أو يغلط فيه، فلم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرء شيئاً من القرآن، فلا يُحسنه، أو يغلط فيه، عن نسيان للوحي، ثم يُقرَء، فيصلح، بل المراد: تمكينه من قراءة القرآن، كما أُنزِلَ، من غير أن يُغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف، بسبب النسيان. فقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، وعد منه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمكّنه من العلم بالقرآن وحفظه، على ما أُنزِلَ، بحيث يرتفع عنه النسيان، فيقرؤه كما أُنزِلَ، وهو الملاك في تبليغ الوحي، كما أُوحِيَ إليه2.
 
وروي عن ابن عباس أنّه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبرائيل عليه السلام بالوحي، يقرأه، مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السلام من آخر الوحي، حتّى يتكلّم هو بأوّله. فلمّا نزلت هذه الآية، لم ينسَ بعد ذلك شيئاً3.
 
الآية (7): ﴿إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾: 
استثناء، مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها، وأنّ هذه العطيّة، وهي الإقراء، بحيث لا ينسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها، لا تنقطع عنه سبحانه، بالإعطاء، بحيث لا يقدر بعد على إنسائه صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو باق على إطلاق قدرته، له أن يشاء إنساءه متى شاء، وإنْ كان لا 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266.
تَدَبُّر: تظهر الهداية التكوينية للموجودات بصور مختلفة، ولكنّها لا تخرج عن مدار الهداية الإلهيّة.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329-330.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 يشاء ذلك، فهو نظير الاستثناء الذي في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾1. وليس المراد بالاستثناء، إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي، والمعنى: سنُقرئك فلا تنسى شيئاً، إلا ما شاء الله أن تنساه، وذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء وينسى أشياء، فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلحن الامتنان، مع كونه مشتركاً بينه وبين غيره، فالوجه ما تقدّم. والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، يُقرؤه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي، حتّى يتكلّم هو بأوّله، فلمّا نزلت هذه الآية لم ينسَ بعده شيئاً. ويقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، نازلة أولاً، ثمّ قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾2، ثمّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾3

 
والجهر، كمال ظهور الشيء لحاسّة البصر، كقوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً﴾4، أو لحاسّة السمع، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ﴾5، والمراد بالجهر، الظاهر للإدراك، بقرينة مقابلته لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْفَى﴾، من غير تقييده بسمع أو بصر. والجملة في مقام التعليل، لقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، والمعنى: سنصلح لك بالك في تلقّي الوحي وحفظه، لأنّا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فنعلم ظاهر حالك وباطنها، وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي، والحرص على طاعته في ما أمر به6.




1 سورة هود، الآية 108.
2 سورة القيامة، الآيات 16 ـ 19.
3 سورة طه، الآية 114.
4 سورة النساء، الآية 153.
5 سورة الأنبياء، الآية 110.
6 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266-267.
تَدَبُّر: في الآية, التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة, والنكتة فيه: الإشارة إلى حجّة الاستثناء، فإفاضة العلم والحفظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, إنّما لا يسلب القدرة على خلافه، ولا يحدّها منه تعالى, لأنّ الله مستجمع لجميع صفات الكمال, ومنها: القدرة المطلقة، ثمّ جرى الالتفات في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ...﴾, لمثل النكتة.
- جاءت كلمة "يخفى" بصيغة المضارع, لتبيّن أنّ كون بعض الأمور مخفيّة, هو ممّا تقتضيه طبيعة هذه الأمور.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (8): ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾

اليسرى - مؤنّث أيسر -، على وزن فُعلَى، من اليسر، بمعنى سهولة عمل الخير، وهي وصف قائم مقام موصوفه المحذوف، والمراد: الطريقة اليسرى. والتيسير، هو التسهيل. 
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• نوفّقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفيّة، ونهوّن عليك الوحي، ونُسهّله حتّى تحفظه ولا تنساه، وتعمل به ولا تُخالفه. 
 
• نُسهِّل لك من الألطاف والتأييد، ما يُثبِّتك على أمرك، ويُسهِّل عليك المستصعَب من تبليغ الرسالة، والصبر عليه. 
 
وهذا القول يُناسبه قوله تعالى قبل ذلك: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، فكأنّه سبحانه أمره بالتبليغ والصبر، ووعده بالتأييد والنصر. 
 
• اليسرى، هي الجنّة، والمراد: نُيسّر لك دخول الجنّة.
 
• نجعلك، بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة والتبليغ، قولاً وفعلاً، فتهدي قوماً، وتُتِمّ الحجّة على آخرين، وتصبر على أذاهم. فالمراد جعله صلى الله عليه وآله وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة الفطرة، فالآية في معنى قوله حكاية عن لسان النبي موسى عليه السلام: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾1،2.
 
والقول الثاني هو الأوفق بالسياق، وإنْ كانت الأقوال الأخرى محتملة أيضاً، ولا سيما القول الأخير.
 
الآية (9): ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾: 
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• الآية إخبار عن أنّ تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفع لا محالة في زيادة الطاعة، والانتهاء عن المعصية، كما يُقال: سله إنْ نفع السؤال. ومعنى "إنْ" في الآية، هو بمعنى "قد" أو "إذ".



1 سورة الأعراف، الآية 105.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص330, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص267-268.
تَدبُّر: مقتضى الظاهر أن يُقال: "ونيسّر لك اليسرى", كما قال تعالى: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ (سورة طه، الآية 26), وإنّما عَدَل عن ذلك إلى قوله: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾, لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبي الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله إيّاها صالحة, لتأدية الرسالة ونشر الدعوة, على ما في ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ من إيهام تحصيل الحاصل.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 ويُضعِف هذا القول: أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً، حتّى في من يُعاند الحقّ بعد أن تمّت عليه الحجّة، ممنوع! كيف؟ وقد قال الله تعالى فيهم:  ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾1.

 
• إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، والتقدير: فذكّر، إنْ نفعت الذكرى، وإنْ لم تنفع، وذلك لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِثَ للتذكرة والإعذار، فعليه أن يُذكِّر، نفع أم لم ينفع، فالآية من قبيل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾2، أي والبرد. وفيه: أنّ وجوب التذكرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى في مَن لا يترتّب عليه أثر، هو أصل ممنوع عقلاً، لأنّه يستلزم اللغو في الفعل، للجزم بعدم التأثير وترتّب الأثر، وشرعاً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾3.
 
• إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين، والمعنى: افعل ما أُمِرْت به، لتوجر، وإنْ لم ينتفعوا به. وفيه: أنّه لا يناسب السياق، ولا سيما قوله تعالى بعده بلا فصل: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾.
 
• الآية تفريع على ما تقدّم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم، بتنزيه اسم ربّه ووعده إقراء الوحي، بحيث لا ينسى، وتيسيره لليسرى، وهي الشرائط الضروريّة التي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة. والمعنى: إذا تمّ لك الأمر، بامتثال ما أمرناك به، وإقرائك فلا تنسى وتيسيرك لليسرى، فذكّر إن نفعت الذكرى. وقد اشترط في الأمر بالتذكرة، أن تكون نافعة، وهو شرط على حقيقته، فإنّها إذا لم تنفع كانت لغواً، وهو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللغو، فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة، تُفيد ميلاً من نفسه إلى الحقّ، وهو نفعها، وكذا التذكرة بعد التذكرة، كما قال تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾. والتذكرة للأشقى الذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تُفيد تمام الحجّة عليه، وهو نفعها، ويُلازمها 



1 سورة البقرة، الآيتان 6 - 7.
2 سورة النحل، الآية 81.
3 سورة البقرة، الآيتان 6 – 7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 تجنّبه وتولّيه عن الحقّ، كما قال تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾. والتذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً، ولذا أمر بالإعراض عن ذلك، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1.

 
والقول الأخير هو الأصحّ بين الأقوال المتقدّمة، لأنّه الأوفق بالسياق2.
 
الآية (10): ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾
أي سيتذكّر ويتّعظ بالقرآن من في قلبه شيء من خشية الله وخوف عقابه3.
 
الآية (11): ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾
الضمير راجع إلى الذكرى، والمراد بالأشقى، بقرينة المقابلة، أي مَنْ ليس في قلبه شيء من خشية الله تعالى. وقيل: أشقى من الاثنين، أي ممّن يتجنّب وممّن يخشى. وقيل: أشقى العصاة. وظاهر السياق لا يُساعد عليهما. وتجنّب الشيء، التباعد عنه، والمعنى: وسيتباعد عن الذكرى مَنْ لا يخشى الله4.
 
الآية (12): ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾
الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى، نار جهنّم، وهي نار كبرى، بالقياس إلى نار الدنيا. وقيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم، وهي أشدّها عذاباً5.
 
الآية (13): ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾



1 سورة النجم، الآية 29.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص330-331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص268 -269.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدبُّر: ـ في قوله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾, إشارة إلى أنّ التأثير قد لا يكون فوريّاً, فيجدر بالمبلِّغ أن لا يتوقّع التأثير الفوري دائماً.
ـ من يقبل النصيحة هم مَن يخشون الله, لأنّ خشيتهم مقدّمة لتذكّرهم, قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ *  الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (سورة الزمر، الآيتان 17 - 18)، ﴿... وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾ (سورة غافر، الآية 13)، ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ (سورة البقرة، الآية 269), (سورة آل عمران، الآية 7).
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدَبُّر: الابتعاد عن رسالة القرآن ونصائحه سبب للشقاء الدائم والأبدي, وهو ما تفيده صيغة المضارع "يتجنّبها", الدالّة على الاستمرار والدوام.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 ثمّ للتراخي، بحسب رتبة الكلام. والمراد من نفي الموت والحياة عنه معاً، نفي النجاة نفياً مؤبّداً، فإنّ النجاة، بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين: إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب، بانقطاع وجوده، وإمّا بتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة ومن العذاب إلى الراحة، فالمراد بالحياة في الآية: الحياة الطيّبة التي قال عنها الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1. وقيل: أي لا يجد روح الحياة2.

 
الآية (14): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾
التزكّي، هو التطهّر.
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• فاز من تطهّر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله. 
 
• ظفر بالبغية، مَنْ صار زاكياً، بالأعمال الصالحة والورع.
 
• زكى، أي: أعطى زكاة ماله.
 
• التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، والرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهُّر من الإخلاد إلى الأرض، والإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق المالي، حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه والأيدي والأقدام.
 
وغيرها من الأقوال. والقول الأخير هو الأوسع والأوفق بالسياق، وبعموم معنى التزكية في القرآن، وكونه حقيقة شرعيّة في خصوص التطهّر عن الموبقات والموانع الدنيوية الصارفة للإنسان عن لقاء الله تعالى والقرب منه3.



1 سورة النحل، الآية 97.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدَبُّر: الخلود في جهنّم لا يُغيّر من طبيعة أهل جنّهم, بحيث يعتادون عليها، فلا تؤذيهم نارها، بل يبقون في عذاب دائم.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تفسير بالمصداق: روي أنّه سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾, قال: "مَنْ أخرج الفطرة". (ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، ح1474، ص510).
تَدَبُّر: لا تنال التزكية تلقائياً، بل يجب السعي للحصول عليها, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (سورة الانشقاق، الآية 6).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (15): ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾

ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• ذِكْر الله تعالى بوحدانيّته.
 
• ذِكْر الله بالقلب، عند الصلاة، رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه، فإنّ الخشوع في الصلاة بحسب الخوف والرجاء. 
 
• المراد بالذكْر، الذكْر اللفظيّ، وبالصلاة، التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.
 
والقول الأخير، هو الأوفق بالسياق، ولكن بضميمة تعميم معنى الصلاة لمطلق الذكْر والتوجّه إلى الله تعالى، لما ورد في الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام1.
 
الآية (16): ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾
إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري، من التعلّق التامّ بالدنيا، والاشتغال بتعميرها. والإيثار، الاختيار، وقيل: الخطاب للكفار، والكلام على أيّ حال مسوق للعتاب. والالتفات، لتأكيده2.
 
الآية (17): ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا، مع أنّها باقية أبديّة في نفسها، لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا والآخرة، ويكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً وأبقى، بالنسبة إلى الدنيا، وإنْ قطع النظر عن كونها باقية أبديّة3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تفسير بالمصداق: 
- روي أنّه سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾, قال: "خرج إلى الجبّانة, فصلّى". (الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ح1474، ص510).
- ما رواه عبيد الله بن عبد الله الدهقان، قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فقال لي: ما معنى قوله: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾, قلت: كلّما ذَكَر اسم ربّه, قام فصلّى، فقال لي: لقد كلّف الله عزّ وجلّ هذا شططاً, فقلت: جعلت فداك, فكيف هو؟ فقال: كلّما ذكر اسم ربّه, صلّى على محمّد وآله". (الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط3، طهران، دار الكتب الإسلاميّة, مطبعة حيدري، 1367هـ.ش، ج2، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، ح18، ص494-495).
تَدَبُّر: - لا تنال التزكية من دون صلاة وعبادة.
- التنبّه إلى مظاهر الربوبيّة, عامل لذكر الله وطريق لتطهير قلبه وفكره.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269-270.
تّدَبُّر: حبّ الدنيا من أبرز موانع التزكية.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص332, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (18): ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾

الإشارة بهذا إلى ما بُيِّن في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ إلى تمام أربع آيات، وأنّه مكتوب في الصحف الأولى، كما هو مكتوب في القرآن. وقيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾1.
 
ويؤيّد القول الأوّل ما ورد في الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، منها:
• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: "يا أبا ذر! اقرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾"2.
 
الآية (19): ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾:
الصحف، هي ما نزل على المرسلين من أنبياء الله تعالى عليهم السلام، والمراد بصحف إبراهيم عليه السلام، عشرة صحائف (وفي رواية أخرى: عشرين صحيفة) نزلت على إبراهيم عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام. وبصحف موسى عليه السلام، الألواح، وهي التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾3، وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾4 وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾5،6.
 
وهذا ما تشير إليه الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، ومنها:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.
2 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1403هـ.ق/ 1362هـ.ش، أبواب العشرين وما فوقه في حبّ أهل البيت عليهم السلام...، ح13، ص525.
3 سورة الأعراف، الآية 145.
4 سورة الأعراف، الآية 150.
5 سورة الأعراف، الآية 154.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص332, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.
تّدَبُّر: في إبهام الصحف، ووصفها بالتقدّم أولاً، ثمّ بيانها وتفسيرها بصحف إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام. ثانياً, ما لا يخفى من تفخيم شأنها، وتعظيم أمرها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

29

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • ما رواه أبو بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "عندنا الصحف التي قال الله: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾"، قلت: الصحف، هي الألواح؟ قال: "نعم"1.

 
• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: "قلت: يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماء غفيراء (مجتمعون لم يتفرّق منهم أحد)، قلت: مَن كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً، قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ، وهو إدريس عليهم السلام، وهو أوّل من خَطّ بالقلم ونوح عليه السلام. وأربعة من الأنبياء من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك محمّد. وأوّل نبي من بني إسرائيل، موسى، وآخرهم عيسى، وستمائة نبي، قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها، وكان فيها: أيها الملك المبتلى المغرور! إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها، وإنْ كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه عزّ وجلّ، وساعة يُحاسب نفسه، وساعة يتفكّر في ما صنع الله عزّ وجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال، فإنّ هذه الساعة عون لتلك الساعات، واستجمام للقلوب، وتوزيع لها، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، فإنّ مَنْ حسب كلامه من عمله، قلّ كلامه، إلا في ما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو تلذّذ في غير محرم. قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرانية كلّها، وفيها: عجبت لمن أيقن بالموت، كيف يفرح؟! ولمن أيقن بالنار، لِمَ يضحك؟! ولمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها، لِمَ يطمئنّ إليها؟! ولمن يؤمن بالقدر، كيف ينصب (يتعب نفسه بالجدّ والجهد)؟! ولمن أيقن بالحساب، لِمَ لا يعمل؟!"2.



1 ابن فروخ، محمد بن الحسن (الصفّار): بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق وتقديم: حسن كوچه باغي، لا.ط، طهران، منشورات الأعلمي, مطبعة الأحمدي، 1404هـ.ق/ 1362هـ.ش، الجزء(القسم) الثالث، باب10، ح8، ص157.
2 الصدوق، الخصال، م.س، أبواب العشرين وما فوقه في حبّ أهل البيت عليهم السلام، ح13، ص524 - 525.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 بحث تفسيريّ: التسبيح1

1- حقيقة التسبيح: 
التسبيح، تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص.
والله تعالى تُسبِّحه وتُنزِّهه الموجودات السماويّة والأرضيّة، بما عندها من النقص، الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به، لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين، لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة، إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها، فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾2، يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح، وأنّها تُسبّح الله وتُنزّهه، عمّا يقولون وينسبون إليه تعالى من الشركاء. 
 
والمراد بتسبيحها، حقيقة معنى التسبيح، دون المعنى المجازي، فالمجاز لا يُصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة.
 
2- التسبيح بالتنزيه: 
بدلالة كلّ موجود على تنزّهه تعالى، إمّا بلسان القال، كالعقلاء، وإمّا بلسان الحال، كغير العقلاء من الموجودات، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ﴾، حيث استدرك أنّهم لا يفقهون تسبيحهم، ولو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده، وهي قيام الحجّة على الناس بوجودهم، أو كان المراد تسبيحهم وتحميدهم بلسان الحال، وذلك ممّا يفقهه الناس، لم يكن للاستدراك معنى.
 
فتسبيح ما في السماوات والأرض، تسبيح ونطق بالتنزيه، بحقيقة معنى الكلمة، وإنْ كنّا لا نفقهه، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج13، ص108-111, ج19، ص114، 263.
2 سورة الإسراء، الآية 44.
3 سورة فصّلت، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فالتسبيح، تنزيه قوليّ كلاميّ، يكشف عمّا في الضمير بنوع من الإشارة إليه، والدلالة عليه، غير أنّ الانسان لمّا لم يجد إلى إرادة كلّ ما يريد، الإشارة إليه من طريق التكوين، طريقاً، التجأ إلى استعمال الألفاظ، وهي الأصوات الموضوعة للمعاني، ودلّ بها على ما في ضميره، وجرت على ذلك سنّة التفهيم والتفاهم، وربّما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده، أو رأسه، أو غيرهما، وربّما استعان على ذلك بكتابة، أو نصب علامة. 

 
وبالجملة، فالذي يُكشَف به عن معنى مقصود الشيء، هو قول منه وتكليم، وإنْ لم يكن بصوت مقروع، ولفظ موضوع، ومن الدليل عليه: ما ينسبه القرآن إليه تعالى، من الكلام، والقول، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾1، والأمر، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾2، والوحي، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾3، ونحو ذلك، ممّا فيه معنى الكشف عن المقاصد، وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسّنين باللغات، وقد سمّاه الله سبحانه قولاً وكلاماً. 
 
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما، ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانيّة ربّها في ربوبيّته وينزّهه تعالى عن كلّ نقص وشين، فهى تُسبّح الله سبحانه، وذلك أنّها ليست لها في أنفسها، إلا محض الحاجة، وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها، والحاجة أقوى كاشف عمّا إليه الحاجة، لا يستقلّ المحتاج دونه، ولا ينفك عنه. فكلٌّ مِنْ هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن مُوجده الغنيّ في وجوده، التامّ الكامل في ذاته، وبارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده، ورفع نقائصه في ذاته، أنّ مُوجِده هو ربّه المتصرّف في كلّ شيء المدبّر لأمره.
 
3- التسبيح بالتحميد:
كما أنّ الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه، فكذلك هي تُسبّحه بالتحميد، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وذلك أنّه كما أنّ عند كلّ من هذه



1 سورة البقرة، الآية 35.
2 سورة القمر، الآية 50.
3 سورة الشورى، الآية 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

32

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الأشياء شيئاً من الحاجة والنقص، عائداً إلى نفسه، كذلك عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى، موهوب من لدنه، وكما أنّ إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزّه ربّها عن الحاجة والنقص، وهو تسبيحها بالتنزيه، كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربّها الذي وراءه جميل صفاته تعالى، فهو تسبيحها بالتحميد، فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري، وليس غير الله تعالى واجداً بالذات للجميل الاختياريّ، وكلّ ما دونه ينتسب إليه تعالى في اكتساب الجمال الاختياري المستوجب للحمد والثناء، فكلّ الأشياء - إذن - تُسبّح بحمد ربّها، كما تُسبّحه بالتنزيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

38


33

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، وهي آخر سور "المسبّحات"، تتضمّن 19 آية، وتحوي مجموعة من المحاور، هي: التسبيح/ الهداية الإلهيّة التكوينية والتشريعيّة/ إيصال الهداية عبر الأنبياءعليهم السلام والرسل عليهم السلام/ تزكية النفس/ تدسية النفس/ زوال الدنيا وبقاء الآخرة/ وحدة الدين/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: نزّه الله ربّك عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه، من ذِكْر الآلهة والشركاء معه، وغير ذلك، فهو الأعلى الذي يعلو ويقهر كلّ شيء. وهو الذي خلق الأشياء وقدّرها على مقادير مخصوصة في صفاتها وأفعالها، ومنها: جعل المرعى بعد إخراجه شديد الخضرة مائلاً إلى السواد يابساً بعد أن كان جافّاً، لترعى الدواب منه، وهذه من دلائل التدبير الربوبيّ ومصاديقه. فسنمكّنك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العلم بالقرآن وحفظه لتقرأه على الناس، كما أنزلناه عليك، فإنّنا قادرون على ذلك، ونعلم كلّ ما جُهِرَ به وما خَفِيَ عن السمع والبصر، لأنّنا عالمون بالغيب فضلاً عن الشهادة، ولذا سنُيسّرك للطريقة السهلة في تبليغ دعوتك، فبلِّغ الدعوة، فإنّه سيأخذ بها كلّ مَنْ كان له خشية وزكت نفسه وتطهّرت عن كلّ التعلّقات الدنيوية بالعبوديّة لله تعالى، وسيعرض عنها كلّ مَنْ كان قلبه غافلاً عن الله مشتغلاً بالدنيا عن الآخرة، الذي سوف يَرِدْ نار جهنّم خالداً فيها، لأنّه فضّل الدنيا على الآخرة، مع أنّ الدنيا فانية زائلة والآخرة دائمة باقية، وهذا مكتوب في الأديان والرسالات الإلهية السابقة، لا خلاف فيه بين الشرائع. 

4- الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه، بما عندها من النقص، الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به، لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين، لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة، إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها، فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وكذلك تُسبِّح ربّها بالتحميد، بما عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى من شيء راجع إليه تعالى، موهوب من لدنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول مشهور المفسِّرين. 
- معنى "غثاءً أحوى": النبات اليابس المائل إلى السواد. 
- المراد بالأشقى: هو من ليس في قلبه خشية لله تعالى. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾?
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾?
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾?
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالشمس، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 15 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- عظمة نظام الخِلْقة.
2- أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها. 
3- تكوين الإنسان وهدايته.
4- ارتباط فلاح الإنسان بالتزكية.
5- ارتباط سقوط الإنسان بتركه للتزكية.
6- ثمود أنموذج قوم طاغين بفعل تركهم للتزكية.
7- عاقبة ترك التزكية، دنيويّاً وأخرويّاً.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر"1
 
• ما رواه معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحبّ، 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4

37

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 فأعطوه إيّاها من غير منٍّ منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"1.

 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق المفسِّرين، لا خلاف بينهم في ذلك2.
 
شرح المفردات
• جَلَّاهَا: "الجيم واللام والحرف المعتلّ أصل واحد وقياس مطّرد، وهو انكشاف الشيء وبروزه"3. و"قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾، أي جلّى الظلمة"4.
 
• يَغْشَاهَا: "الغين والشين والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على تغطية شيء بشيء"5. و"قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾6، أي يلحق الليل بالنهار، والنهار بالليل، بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر، فيغطّي أحدهما الآخر"7.
 
• طَحَاهَا: "الطاء والحاء والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على البسط والمدّ، من ذلك: الطحو، وهو كالدحو، وهو البسط، قال الله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾، أي بسطها"8.
 
• دَسَّاهَا: "الدال والسين في المضاعف والمطابق أصل واحد، يدلّ على دخول الشيء تحت خفاء وسرّ"9. و"قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾10، أي فاته الظَفَر، من دسّ نفسه، يعني أخفاها بالفجور والمعصية"11.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
2 انظر: م.ن, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص295, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص355.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "جَلَوَ"، ص468.
4 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "جَلا"، ص89.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَشَى"، ص425.
6 سورة الأعراف، الآية 54.
7 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "غَشَا"، ص317.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَحَوَ"، ص445. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "طَحَا"، ص517.
9 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَسَّ"، ص256.
10 سورة الشمس، الآية 10.
11 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "دَسَسَ"، ص70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

 


38

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 • دَمْدَمَ: "الدال والميم أصل واحد، يدلّ على غشيان الشيء من ناحية أن يطلى به... فأمّا الدمدمة فالإهلاك"1. و"قوله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾2، أي أطبق عليهم العذاب. وقيل: دمدم، غضب، وقيل: أرجف بهم الأرض، يعني حرّكها فسوّاها بهم. ويقال: دمدم الله عليهم، أهلكهم بذنبهم، لأنّهم رضوا جميعاً به، وحثّوا عليه، وكانوا قد اقترحوا تلك الآية، واستحقوا بما ارتكبوه من العصيان والطغيان، عذاب الاستئصال"3.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾
الآية، قسمٌ. ومرجع الضمير في "ضحاها" إلى "الشمس".
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى "ضحى الشمس" أقوالاً عدّة، هي:
• امتداد ضوئها وانبساطه. 
 
• النهار كلّه.
 
• حرّ الشمس، كقوله تعالى: ﴿... وَلَا تَضْحَى﴾4، أي لا يؤذيك حرّها.
 
والقول الأوّل هو الأوفق بالسياق. وفي الآية إقسام بالشمس وانبساط ضوئها على الأرض5.
 
الآية (2): ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾: 
الآية عطف على "الشمس". ومرجع الضمير إلى "الشمس". وفي الآية إقسام بالقمر،



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَمَّ"، ص260.
2 سورة الشمس، الآية 14.
3 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "دَمْدَمَ"، ص63.
4 سورة طه، الآية 119.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
تأويل: ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، قال: الشمس, رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أوضح الله به للناس دينهم. قلت: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾، قال: ذلك أمير المؤمنين عليه السلام. قلت: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾، قال: ذلك أئمّة الجور, الذين استبدّوا للأمر دون آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلسوا مجلساً كان آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى به منهم، فغشوا دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بالظلم والجور, وهو قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾, قال: يغشى ظلمهم ضوء النهار، قلت: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾, قال: ذلك الإمام من ذرّيّة فاطمة عليها السلام, يسئل عن دين رسول الله, فيجلى لمن يسأله. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

39

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 حال كونه تالياً للشمس، والمراد بتلوّه لها، إنْ كان كسبه النور منها، فالحال حال دائمة، وإنْ كان طلوعه بعد غروبها، فالإقسام به من حال كونه هلالاً إلى حال تبدّره، وقد ذَكَر المفسِّرون وجوه كثيرة ضعيفة في تلوّ القمر للشمس بلحاظ طلوعه بعدها، تفتقد إلى الدليل1.

 
الآية (3): ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾
التجلية، الإظهار والإبراز. 
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• مرجع ضمير التأنيث إلى تقدير محذوف، هو "الأرض". والمعنى: وأقسم بالنهار، إذا أظهر الأرض للأبصار. وهو الأوفق بظهور السياق، ولا سيّما قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾.
 
• مرجع ضمير الفاعل في "جلّاها" إلى النهار، وضمير المفعول إلى الشمس، والمعنى: أُقسم بحال إظهار النهار للشمس، فإنّها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار. أو المعنى: أقسم بالنهار إذا أظهر جرم الشمس. وهذا القول لا يُلائم ما تقدّمه، فإنّ الشمس هي المظهِرة للنهار دون العكس. 
 
• مرجع ضمير الفاعل في "جلّاها" إلى النهار، وضمير المفعول إلى الظلمة، والمعنى: وأُقسم بالنهار إذا كشف الظلمة وأزالها.
 
وغيرها من الوجوه البعيدة التي لا يساعد عليها ظهور السياق2.
 
الآية (4): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾
أي يُغطّي الأرض، فالضمير للأرض، كما في "جلّاها". وقيل: للشمس، وهو بعيد، فالليل لا يُغطّي الشمس، وإنّما يُغطّي الأرض وما عليها3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296-297.
تَدَبُّر: التعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع، بخلاف تجلية النهار لها, حيث قيل: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾, للدلالة على الحال, ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض قبل البعثة النبويّة المباركة، وانكشاف ظلمة الفجور بنور الرسالة المحمّديّة، بعد البعثة, حيث إنّ بين هذه الأقسام وبين المقسم بها نوع اتّصال وارتباط، هذا مضافاً إلى رعاية الفواصل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

40

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الآية (5): ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا﴾: 

طحو الأرض ودحوها، بسطها، و"ما" في ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ موصولة، والذي بناها، هو الله تعالى. ومعنى الآية: وأُقسم بالسماء والشيء القوي العجيب الذي بناها. وقيل: ما مصدرية، والمعنى وأُقسم بالسماء وبنائها. والسياق - وفيه قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا﴾ - لا يساعد عليه1.
 
الآية (6): ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾: 
طحو الأرض ودحوها، بسطها، و"ما" في ﴿وَمَا طَحَاهَا﴾ موصولة، والذي طحاها، هو الله تعالى. ومعنى الآية: أُقسم بالأرض والشيء القوي العجيب الذي بسطها2.
 
الآية (7): ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾: 
أي، وأُقسم بنفس والشيء ذي القدرة والعلم والحكمة الذي سوّاها، ورتّب خلقتها، ونظّم أعضاءها، وعدّل بين قواها. وتنكير "نفس" قيل: للتنكير، وقيل: للتفخيم. ولا يبعد أن يكون التنكير، للإشارة إلى أنّ لها وصفاً، وأنّ لها نبأ. 
 
وذَكَر المفسِّرون في المراد بـ "النفس" أقوالاً عدّة، هي:
• النفس الإنسانيّة مطلقاً.
• نفس الإنس والجنّ، لأنّ الجنّ، كالإنس مكلّف.
• نفس آدم عليه السلام. 
 
والقول الأخير لا يُلائمه السياق، ولا سيّما قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، إلا بالاستخدام على أنّه لا موجب للتخصيص، وأمّا القول الثاني، فهو الأشمل والأوفق بالسياق، ولا سيما قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وإطلاق معنى "النفس"3.
 
الآية (8): ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾:
الفجور، شقّ ستر الديانة، فالنهي الإلهيّ عن فعل أو عن ترك، حجاب مضروب دونه، حائل بين الإنسان وبينه. واقتراف المنهي عنه، شقّ للستر وخرق للحجاب. والتقوى، جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، والمراد بها، بقرينة المقابلة في الآية بينها وبين الفجور، التجنّب عن



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.
تَدَبُّر: نكتة التعبير عن الله تعالى في الآية بـ "ما" دون "مَنْ", تكمن في إثارة الإبهام, المفيد للتفخيم والتعجيب.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

41

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الفجور، والتحرّز عن المنافي. والإلهام، الإلقاء في الروْع، وهو إفاضته تعالى الصور العمليّة، من تصوّر أو تصديق على النفس. وتعليق الإلهام على عنواني فجور النفس وتقواها، للدلالة على أنّ المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله، من تقوى، أو فجور، وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأوّلي المشترك بين التقوى والفجور، كأكل المال - مثلاً - المشترك بين أكل مال اليتيم، الذي هو فجور، وبين أكل مال نفسه، الذي هو من التقوى، والمباشرة المشتركة بين الزنا، وهو فجور، والنكاح، وهو من التقوى. 

 
فمعنى الآية: أنّه تعالى عرَّف الإنسان صفة ما يأتي به من فعل، فجوراً أم تقوى، وميّز له ما هو تقوى ممّا هو فجور. وتفريع الإلهام على التسوية في قوله تعالى: ﴿وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا﴾، للإشارة إلى أنّ إلهام الفجور والتقوى، وهو العقل العملي، من تكميل تسوية النفس، فهو من نعوت خِلْقتها، كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾1
 
وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، قال: "بيّن لها ما تأتي، وما تترك"2.
 
وإضافة الفجور والتقوى إلى ضمير النفس، للإشارة إلى أنّ المراد بالفجور والتقوى الملهمين، الفجور والتقوى المختصّين بهذه النفس المذكورة، وهي النفس الإنسانية ونفوس الجنّ على ما يظهر من الكتاب العزيز، من كونهم مكلّفين بالإيمان والعمل الصالح: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *  وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾3،4.



1 سورة الروم، الآية 30.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371,
3 سورة الأحقاف، الآيات 29 – 32.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297-298.
تَدَبُّر: وضع كلمة "فجور" قبل كلمة "تقوى", للإشارة إلى أنّه على الإنسان في البدء أن يعلم مصاديق المفاسد، ثمّ يحذر منها ويبتعد عنها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

 


42

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الآية (9): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾

الفلاح، هو الظفر بالمطلوب وإدراك البغية. والزكاة، نموّ النبات نموّاً صالحاً ذا بركة. والتزكية، إنماؤه كذلك. ومعنى الآية: قد ظفر من طهَّر نفسه وأصلحها بطاعة الله، وصالح الأعمال.
 
والآية هي جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة عليها1.
 
الآية (10): ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾: 
الخيبة، خلاف الفلاح. والتدسية، من الدسّ، وهي إدخال الشيء في الشيء، بضرب من الإخفاء. والمراد بها، بقرينة مقابلة التزكية: الإنماء على غير ما يقتضيه طبعها وركّبت عليه نفسها، بإهلاكها بالعمل الطالح وعصيان الله تعالى.
 
والآية معطوفة على الآية السابقة عليها2.
 
الآية (11): ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾
الطغوى مصدر، كالطغيان، والباء، للسببيّة. والمراد بـ "طغواها" بعذابها، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾3،4.
 
وروي عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾، يقول: الطغيان، حملها على التكذيب5.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص298.
تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن علي، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾, قال: "أمير المؤمنين عليه السلام, زكّاه ربّه. ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾, قال: هو زريق وحبتر, في بيعتهما إيّاه, حيث مسحا على كفّه". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424).
تَدَبُّر: ورد في هذه السورة أكبر عدد للأيمان في القرآن, إذ جاءت فيها الأيمان متتالية, أحد عشر قسماً, للتأكيد على أهمّيّة تزكية النفس.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص298.
تَدَبُّر: التعبير بالتزكية والتدسية عن إصلاح النفس وإفسادها, مبتنٍ على ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾, على أنّ مِن كمال النفس الإنسانية أنّها ملهمة مميّزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى, أي أنّ الدين, وهو الإسلام لله في ما يريده فطري للنفس، فتحلية النفس بالتقوى, تزكية وإنماء صالح وتزويد لها, بما يمدّها في بقائها, قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (سورة البقرة، الآية 197)، وأمرها في الفجور على خلاف التقوى.
3 سورة الحاقة، الآية 5.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370-371, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
5 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

 


43

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 والآية وما يتلوها إلى آخر السورة، استشهاد وتقرير لما تقدّم من قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.

 
الآية (12): ﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾
الانبعاث، الانتداب والقيام. والآية، ظرف لقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ﴾ أو لقوله تعالى: ﴿بِطَغْوَاهَا﴾. والمراد بأشقى ثمود، هو الذي عقر الناقة، واسمه على ما في الروايات: قدار بن سالف، وقد كان انبعاثه ببعث القوم، كما تدلّ عليه الآيات التالية، بما فيها من ضمائر الجمع1.
 
وروى عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام: "من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه - وأشار إلى يافوخه"2
 
الآية (13): ﴿ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾
المراد برسول الله، صالح عليه السلام، نبي ثمود، وقوله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾، منصوب على التحذير، وقوله تعالى: ﴿وَسُقْيَاهَا﴾، معطوف عليه. ومعنى الآية: فقال لهم صالحعليه السلام، برسالة من الله: احذروا ناقة الله وسقياها، ولا تتعرّضوا لها، بقتلها، أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، وقد فصَّل الله القصّة في أكثر من موضع في القرآن الكريم: ﴿  وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾3، ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾4، ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371.
3 سورة الأعراف، الآية 73.
4 سورة هود، الآيات 64 ـ 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾1.2

 
الآية (14): ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾
العقر، إصابة أصل الشيء، ويُطلق على نحر البعير والقتل. والدمدمة على الشيء، الإطباق عليه، يُقال: دمدم عليه القبر، أي أطبقه عليه، والمراد: شمولهم بعذاب يقطع دابرهم، ويمحو أثرهم، بسبب ذنبهم. وقوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهَا﴾، الظاهر أنّ مرجع الضمير إلى ثمود، باعتبار أنّهم قبيلة، أي فسوّاها بالأرض، أو هو تسوية الأرض، بمعنى تسطيحها وإعفاء ما فيها من ارتفاع وانخفاض. وقيل: الضمير للدمدمة المفهومة، من قوله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ﴾، والمعنى: فسوّى الدمدمة بينهم، فلم يفلت منهم قويّ، ولا ضعيف، ولا كبير، ولا صغير3.
 
الآية (15): ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾:
مرجع الضمير إلى "الدمدمة" أو "التسوية"، والواو، للاستئناف أو الحال. والمعنى: ولا يخاف ربّهم عاقبة الدمدمة عليهم وتسويتهم، كما يخاف الملوك والأقوياء عاقبة عقاب أعدائهم وتبعته، لأنّ عواقب الأمور هي ما يريده، وعلى وفق ما يأذن فيه، فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾4. وقيل: ضمير ﴿وَلَا يَخَافُ﴾، للأشقى، والمعنى: ولا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها. وقيل: ضمير ﴿وَلَا يَخَافُ﴾، لصالح، وضمير ﴿عُقْبَاهَا﴾، للدمدمة، والمعنى: ولا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم، لثقته بالنجاة. والوجهان الأخيران ضعيفان، لا يُلائمهما ظاهر سياق ومرجع الضمائر فيه، ولا سيما قوله تعالى قبل هذه الآية: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾5.



1 سورة الشعراء، الآيات 155 ـ 158.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371-372, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
تَدَبُّر: التعبير بصيغة الجمع عن عقر الناقة، مع أنّ الذي عقر هو شخص واحد, للإشارة إلى أنّ مَنْ يرضى بذنوب الآخرين وجرائمهم ويمضيهم عليها, يكون شريكاً لهم في ذنوبهم وجرائمهم.
4 سورة الأنبياء، الآية 23.
5 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص372, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

45

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 بحث تفسيريّ: النفس1

1- معنى النفس: 
لفظ النفس - على ما يُعطيه التأمّل في موارد استعماله - أصل معناه، هو معنى ما أُضيف إليه، فنفس الشيء، معناه: الشيء، ونفس الإنسان، معناه هو الإنسان، ونفس الحجر، معناه هو الحجر، فلو قُطِعَ عن الإضافة لم يكن له معنى محصَّل، وعلى هذا المعنى يُستعمل للتأكيد اللفظي، كقولنا: جاءني زيد نفسه، أو لإفادة معناه، كقولنا جاءني نفس زيد. وبهذا المعنى يُطلق على كلّ شيء، حتّى عليه تعالى، كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾2، ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾3، ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾4. ثمّ شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصّة، وهو الموجود المركّب من روح وبدن، فصار ذا معنى في نفسه، وإنْ قُطِعَ عن الإضافة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾5، أي من شخص إنسانيّ واحد، وقال: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾6، أي من قتل إنساناً ومن أحيا إنساناً، وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾7، فالنفس الأولى، بالمعنى الثاني، والثانية، بالمعنى الأوّل. ثمّ استعملوها في الروح الإنساني، لما أنّ الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الإنسان، قائمة بها، ومنه قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾8. ولم يطّرد هذان الإطلاقان، أي الثاني والثالث في غير الإنسان، كالنبات وسائر الحيوان، إلا بحسب الاصطلاح العلميّ، فلا يقال: للواحد من النبات 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص198, ج13، ص209-210, ج14، ص285-286, ج20، ص104، 285.
2 سورة الأنعام، الآية 12.
3 سورة آل عمران، الآية 28.
4 سورة المائدة، الآية 116.
5 سورة الأعراف، الآية 189.
6 سورة المائدة، الآية 32.
7 سورة النحل، الآية 111.
8 سورة الأنعام، الآية 93.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 والحيوان عرفاً نفس، ولا للمبدأ المدبِّر لجسمه نفس. نعم ربّما سُمِّي الدم نفساً، لأنّ الحياة تتوقّف عليه، ومنه النفس السائلة. وكذا لا يُطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني والثالث على المَلَك والجنّ، وإنْ كان معتقدهم أنّ لهما حياة، ولم يردْ استعمال النفس فيهما في القرآن أيضاً، وإنْ نطقت الآيات، بأنّ للجنّ تكليفاً، كالإنسان، وموتاً وحشراً، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1، ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾2، ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ﴾3.

 
2- بقاء النفس الإنسانيّة بعد حدوثها:
النفس هي الحافظة لوحدة الإنسان وشخصيّته، وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلّقت بالبدن المخلوق جديداً بعد البعث، كان هو الإنسان الدنيوي، كما أنّ الإنسان في الدنيا واحد شخصيّ باقٍ على وحدته الشخصيّة، مع تغيّر البدن بجميع أجزائه حيناً بعد حين. والدليل على أنّ النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرّق أجزاء البدن وفساد صورته، قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾4، حيث استشكلوا في المعاد بأنّه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان، بتفرّق أجزاء بدنه، فأُجيب عنه: بأنّ مَلَك الموت يتوفّى الإنسان ويأخذه تامّاً كاملاً، فلا يضلّ، ولا يتلاشى، وإنّما الضالّ بدنه، ولا ضير في ذلك، فإنّ الله يُجدّده. والدليل على أنّ الإنسان المبعوث، هو عين الإنسان الدنيويّ، لا مثله، جميع آيات القيامة الدالّة على رجوع الإنسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل. 
 
3- مراتب النفس الإنسانيّة:
إنّ التأمّل والتدبّر في آيات القرآن الكريم، يُعطي أنّ للنفس الإنسانيّة مراتب ثلاث:
• النفس الأمّارة: قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ



1 سورة الذاريات، الآية 56.
2 سورة الأحقاف، الآية 18.
3 سورة الأنعام، الآية 128.
4 سورة السجدة، الآيتان 10-11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

47

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1، أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيّئات على كثرتها ووفورها، فمن الجهل أن تبرّء من الميل إلى السوء، وإنّما تكفّ عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشرّ، برحمة من الله سبحانه، تصرفها عن السوء، وتوفّقها لصالح العمل. وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾، يفيد فائدتين: إحداهما: تقييد إطلاق قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، فيفيد أنّ اقتراف الحسنات، الذي هو برحمة من الله سبحانه، من أمر النفس، وليس يقع عن إلجاء وإجبار من جانبه تعالى. وثانيتهما: الإشارة إلى أنّ تجنّبه الخيانة كان برحمة من ربّه.

 
• النفس اللوّامة: قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾2، والمراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة، وتنفعه يوم القيامة.
 
• النفس المطمئنّة: قال تعالى : ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾3، فالذي يُعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس، بما ذُكِرَ لها من الأوصاف، وعُيّنَ لها من حسن المنقلب، وبين الإنسان المذكور قبل، بما ذُكِرَ له من وصف التعلّق بالدنيا، والطغيان، والفساد، والكفران، وما أُوعِدَ من سوء المصير، هو أنّ النفس المطمئنّة، هي التي تسكن إلى ربّها، وترضى بما رضي به، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ، أو نفع أو ضرّ، ويرى الدنيا دار مجاز، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع وضرّ، ابتلاءً وامتحاناً إلهيّاً، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلوّ والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقرّ من العبوديّة، لا ينحرف عن مستقيم صراطه، بإفراط أو تفريط.



1 سورة يوسف، الآية 53.
2 سورة القيامة، الآية 2.
3 سورة الفجر، الآيات 27 - 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

48

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 15 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: نظام الخِلْقة/ تهذيب النفس وتزكيتها/ تكوين الإنسان وهدايته/ فلاح الإنسان/ سقوط الإنسان/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسمٌ بالشمس وانبساط ضوئها، وما يُماثله من إشراق نور الإيمان في القلوب، وبالقمر، الذي يستمدّ ضياءه من الشمس ويُبرز الأرض للأبصار، وبالليل الذي يُغطّي الأرض، كما يُغطّي الفجور الحقّ، وبالسماء وبالله رافعها، وبالأرض وبالله باسطها، وبالنفس الإنسانية وبالله خالقها ومقدّرها على هذه الخِلقة السوية، التي يستطيع الإنسان من خلالها بالإرادة والاختيار أن يسير في طريق الحقّ فيكتب له الفلاح، فتنمو نفسه وتتكامل، أو يعرض عن الحق، فتتسافل نفسه وتهلك، كما حصل مع ثمود، قوم النبي صالح عليه السلام.

4- النفس هي الحافظة لوحدة الإنسان وشخصيّته، وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلّقت بالبدن المخلوق جديداً بعد البعث، كان هو الإنسان الدنيوي، كما أنّ الإنسان في الدنيا واحد شخصيّ باقٍ على وحدته الشخصيّة، مع تغيّر البدن بجميع أجزائه حيناً بعد حين. ولهذه النفس مراتب ثلاث، هي: الأمّارة، واللوّامة، والمطمئنّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- سُمّيت هذه السورة بالشمس، لأنّها الموضوع الأبرز فيها. 
- معنى "طحاها": أي مدّها وبسطها. 
- المراد بأشقى ثمود: عاقر الناقة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

50

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

51

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالليل، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 21 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- طرق معرفة الله تعالى.
2- انقسام الناس وانشعابهم باختلاف دوافعهم وسعيهم إلى مؤمنين متّقين وكافرين جاحدين.
3- الإحسان إلى الآخرين سبب للتوسعة في العمل.
4- البخل وطلب الاستعلاء من مسبّبات تعقيد أمور الإنسان.
5- عاقبة التقوى وآثارها الدنيوية والأخرويّة.
6- عاقبة الكفر والجحود وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
7- الإخلاص لله وآثاره الدنيوية والأخروية.
8- الرضا وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أعطاه الله حتّى يرضى، وعافاه من العسر، ويسّر له اليسر"1.
 
• ما رواه معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

52

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحبّ، فأعطوه إيّاها من غير من منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"1.

 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين2، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة لملائمة سياقها لكلٍّ من خصائص السور المكّيّة، من قصر آياتها، وقوّة لهجتها، وتطرّقها لمسألة المعاد، وخصائص السور المدنيّة، من التأكيد على الإنفاق المالي3.

 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لما تقدّم من أنّ السورة تحمل خصائص السور المكّيّة، أضف إلى ذلك أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسِّرين.
 
وروي عن ابن عباس في سبب نزول هذه السورة: أنّ رجلاً كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة، حتّى يأخذ التمر من أيديهم، فإنْ وجدها في في أحدهم، أدخل أصبعه حتى يأخذ التمرة من فِيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بما يَلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اذهب". ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب النخلة، فقال: "تُعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنّة"، فقال له الرجل: إنّ لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثمّ ذهب الرجل. فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أتُعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة، إن أنا أخذتها؟ قال: "نعم". فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أشعرت أنّ محمداً أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يُعجبني تمرتها، وإنّ لي نخلاً كثيراً، فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا، إلا أنْ أُعطى ما لا أظنّه أُعطى. قال: فما مناك؟ قال أربعون 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص357.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

53

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم. تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثمّ سكت عنه. فقال له: أنا أُعطيك أربعين نخلة. فقال له: أَشْهِد إنْ كنت صادقاً. فمرّ إلى أناس فدعاهم، فَأشَهَد له بأربعين نخلة، ثمّ ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحب الدار، فقال له: "النخلة لك ولعيالك". فأنزل الله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ السورة. وعن عطاء قال اسم الرجل، أبو الدحداح1.

 
شرح المفردات
• شَتَّى: "الشين والتاء أصل، يدلّ على تفرّق وتزيّل، من ذلك تشتيت الشيء المتفرِّق"2. و"الشَّتُّ: تفريق الشّعب، يُقال: شَتَّ جمعهم شَتّاً وشَتَاتاً، وجاؤوا أَشْتَاتاً، أي: متفرّقي النّظام، قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾3، وقال: ﴿مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾4، أي: مختلفة الأنواع، ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾5، أي: هم بخلاف من وصفهم، بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾6"7.
 
• تَرَدَّى: "الراء والدال والياء أصل واحد، يدلّ على رمي، أو ترام، وما أشبه ذلك... ومن الباب الردى، وهو الهلاك، يُقال: ردي يردى، إذا هلك. وأرداه الله أهلكه. والتردّي، التهوّر في المهوى"8. ووالرَّدَى: الهلاك، والتَّرَدِّي: التّعرّض للهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾9، وقال: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾10، وقال: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾11"12.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375-376.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَتَّ"، ص177.
3 سورة الزلزلة، الآية 6.
4 سورة طه، الآية 53.
5 سورة الحشر، الآية 14.
6 سورة الأنفال، الآية 63.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَتَتَ"، ص445.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "رَدَى"، ص506.
9 سورة الليل، الآية 11.
10 سورة طه، الآية 16.
11 سورة الصافات، الآية 56.
12 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "رَدَأ"، ص351.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

54

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 • تَلَظَّى: "اللام والظاء أصل صحيح، يدلّ على ملازمة"1. و"اللَّظَى: اللَّهب الخالص، وقد لَظِيَتِ النارُ وتَلَظَّتْ. قال تعالى: ﴿نَارًا تَلَظَّى﴾2، أي: تَتَلَظَّى. ولَظَى غير مصروفة: اسم لجهنم. قال تعالى: ﴿إِنَّهَا لَظَى﴾3"4.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾:
الآية قسم بالليل، إذا يغشى. والمراد بالغشيان، التغطية.
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية قولين، هما:
• الليل إذا يغشى بظلمته النهار، على حدّ قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾5.
 
• الليل إذا يغشى بظلمته الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض. والمعنى: إذا أظلم، وادلهمّ، وأغشى الأنام بالظلام، لما في ذلك من الهول المحرّك للنفس بالاستعظام6.
 
والقول الأوّل هو الأوفق بظاهر السياق، ولا سيما مقابلته بالنهار في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وإنْ كان القول الثاني محتملاً أيضاً.
 
الآية (2): ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾:
الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ ...﴾ والتجلّي، ظهور الشيء بعد خفائه. ومعنى 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "لَظَّ"، ص206.
2 سورة الليل، الآية 14.
3 سورة المعارج، الآية 15.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "لَظَى"، ص740.
5 سورة الأعراف، الآية 54.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص374-375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن مسلم، قال سألت أبا جعفرعليه السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾, قال: "الليل في هذا الموضع, فلان، غشي أمير المؤمنين في دولته التي جرت له عليه, وأمير المؤمنينعليه السلام يصبر في دولتهم, حتّى تنقضي. قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, قال: النهار هو القائم عليه السلام منّا أهل البيت، إذا قام, غلب دولته الباطل. والقرآن ضُرِبَ فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيّه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص425).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

55

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية: ظهور النهار وبيانه بعد ما غطّته ظلمة الليل1.

 
الآية (3): ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾:
الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ ...﴾، كسابقتها. و"ما"، موصولة، والمراد بها، الله سبحانه. 
 
وذَكَرَ المفسِّرون في المراد بـ "الذكر والأنثى" أقوالاً، هي: 
• عموم الذكر والأنثى من المخلوقات كافّة.
 
• خصوص الذكر والأنثى من الإنسان.
 
• خصوص آدم عليه السلام وزوجته حوّاء.
 
وأوجَه الوجوه أوّلها، لعموم لفظَي "الذكر" و"الأنثى"، ومعنى الآية: أُقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر والأنثى المختلفين، على كونهما من نوع واحد2.
 
الآية (4): ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾:
الآية جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة. والسعي، هو المشي السريع، والمراد به، العمل من حيث يُهتمّ به، وهو في معنى الجمع. وشتّى، جمع شتيت، بمعنى المتفرّق. ومعنى الآية: أُقسم بهذه المتفرّقات خلقاً وأثراً، إنّ مساعيكم لمتفرّقات في نفسها وآثارها، فمنها: إعطاء، وتقوى، وتصديق، ولها أثر خاصّ بها، ومنها: بخل، واستغناء، وتكذيب، ولها أثر خاصّ بها3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تَدَبُّر: - التعبير عن غشيان الليل بصيغة المضارع، بخلاف تجلية النهار التي عُبِّر عنها بصيغة الماضي, حيث قيل: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, للدلالة على الحال, ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور قبل زمن البعثة النبويّة المباركة، وانكشاف ظلمة الفجور وتجلّي نور الرسالة المحمّديّة, بعد البعثة, حيث إنّ بين هذه الأقسام وبين المقسم بها نوع اتّصال وارتباط.
- في ذِكْر الليل والنهار وما يلحقهما من غشيان الظلمة وانبعاث الضياء, أعظم النعم, إذ لو كان الدهر كلّه ظلاماً, لَمَا أمكن الخلق طلب معايشهم، ولو كان ذلك كلّه ضياء, لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تَدَبُّر: - نكتة التعبير بـ "ما"، دون "مَنْ", تكمن في إثارة الإبهام, المُشعِر بالتعظيم والتفخيم.
- القسم بـ"الليل" و"النهار" و"الذَكَر" و"الأنثى", لتنبيه الإنسان إلى الدلائل والآيات الآفاقيّة والأنفسيّة على وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته وأفعاله, قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة فصّلت، الآية 53)، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (سورة الذاريات، الآيتان 20 و 21).
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

56

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (5): ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى﴾:

الآية، تفصيل تفرّق مساعيهم، واختلاف آثارها. والمراد بالإعطاء، إنفاق المال لوجه الله، بقرينة مقابلته للبخل، الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال، وقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾. وقوله: ﴿وَاتَّقَى﴾، في مقام تفسير الإعطاء، وإفادة أنّ المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينيّة1.
 
الآية (6): ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾:
الحسنى، صفة قائمة مقام الموصوف. والظاهر: أنّ التقدير بالعِدَة الحسنى، وهي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم، وهو تصديق البعث والإيمان به، ولازمه الإيمان بوحدانيّته تعالى في الربوبيّة والألوهيّة، وكذا الإيمان بالرسالة، فإنّها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب. ومحصّل معنى هذه الآية والآية السابقة عليها، أن يكون مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر، وينفق المال لوجه الله وابتغاء ثوابه، الذي وعده بلسان رسوله2.
 
الآية (7): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾:
التيسير، التهيئة والإعداد. واليسرى، الخصلة التي فيها يُسر من غير عسر. وتوصيفها باليسر، بنوع من التجوّز، فالمراد من تيسيره اليسرى: توفيقه للأعمال الصالحة، وتسهيلها عليه، من غير تعسير، أو جعله مستعدّاً للحياة السعيدة عند ربّه ودخول الجنّة، بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، والوجه الثاني أقرب وأوضح انطباقاً، على ما هو المعهود من مواعد القرآن3.
 
الآية (8): ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾:
البخل، مقابل الإعطاء. والاستغناء، طلب الغنى والثروة، بالإمساك والجمع، فعمل عمل من استغنى عن الله تعالى ورحمته4.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302-303.
تفسير بالمصداق: ما رواه أبو الخطّاب، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾, قال: "بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ﴿ أَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾, فقال: بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).
تَدَبُّر: التقوى شرط لقبول العطاء, فالعطاء في نفسه ليس مطلوباً، بل المطلوب الدافع الكامن وراء هذا العطاء.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376-377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
  تَدَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

57

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (9): ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾:

والمراد بالتكذيب بالحسنى، الكفر بالعِدَة الحسنى وثواب الله الذي بلّغه الأنبياء والرسل عليهم السلام، وكلّ ما رجع إلى إنكار البعث1.
 
الآية (10): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾:
المراد بتيسيره للعسرى، خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه، وعدم شرح صدره للإيمان، أو إعداده للعذاب والتخلية بينه وبين الأعمال السيّئة التي اكتسبها2.
 
الآية (11): ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾:
التردّي، هو السقوط من مكان عالٍ ويُطلق على الهلاك، فالمراد: سقوطه في حفرة القبر أو في جهنّم أو هلاكه. و"ما" استفهاميّة أو نافية، ومعناها: أيّ شيء يغنيه ماله، إذا مات وهلك، أو ليس يغني عنه ماله، إذا مات وهلك3.
 
الآية (12): ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾:
تعليل لما تقدّم، من تيسيره تعالى لليسرى وللعسرى، أو الإخبار به بأوجز بيان، وأنّه، إنّما نفعل هذا التيسير أو نبيّن هذا البيان، لأنّه من الهدى، والهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء، ولا يمنعنا عنه مانع. فالآية تفيد أنّ هدى الناس ممّا قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه، بمقتضى الحكمة، وذلك أنّه خلقهم ليعبدوه، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4، فجعل عبادته غاية لخلقهم، وجعلها صراطاً مستقيماً إليه، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾5، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ﴾6. وقضى على نفسه أن يُبيّن لهم سبيله، ويهديهم إليه، بمعنى إراءة الطريق، سواء أسلكوها أم تركوها، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾7، 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
  دَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
5 سورة آل عمران، الآية 51.
6 سورة الشورى، الآيتان 52 - 53.
7 سورة النحل، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

58

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾1، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾2، ولا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه، كالأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾3، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾4. هذا في الهداية، بمعنى إراءة الطريق. 

 
وأمّا الهداية، بمعنى الإيصال إلى المطلوب - والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتّب على الاهتداء، بهدى الله، والتلبّس بالعبوديّة، كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا، والحياة السعيدة الأبدية في الآخرة - فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع والإيجاد الذي يختصّ به تعالى، فهو ممّا قضى به الله وأوجبه على نفسه وسجّله بوعده الحقّ، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾5، وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾6، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾7. ولا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة، انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع، بتخلُّل الأسباب بينه تعالى، وبين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.
 
ومعنى الآية - إنْ كان المراد بالهدى إراءة الطريق -: إنّا إنّما نُبيّن لكم ما نُبيّن، لأنّه من إراءة طريق العبوديّة. وإراءة الطريق علينا.
 
وإنْ كان المراد به الإيصال إلى المطلوب، فالمعنى: إنّا إنّما نيسّر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبدية ودخول الجنّة، لأنّه من إيصال الأشياء إلى غاياتها. وعلينا ذلك.





1 سورة الأحزاب، الآية 4.
2 سورة الإنسان، الآية 3.
3 سورة الشورى، الآية 52.
4 سورة يوسف، الآية 108.
5 سورة طه، الآية 123.
6 سورة النحل، الآية 97.
7 سورة النساء، الآية 122.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

59

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وأمّا التيسير للعسرى، فهو ممّا يتوقّف عليه التيسير لليسرى، ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾1. وقد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾2. ويمكن أن يكون المُراد به، مطلق الهداية، أعمّ من الهداية التكوينيّة الحقيقيّة والتشريعيّة الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقيّة، كما قال: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾3، والهداية الاعتبارية، كما قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾4،.

 
الآية (13): ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾:
أي، عالم البدء، وعالم العود، فكلّ ما يصدق عليه أنّه شيء، فهو مملوك له تعالى، بحقيقة الملك، الذي هو قيام وجوده بربّه القيّوم. ويتفرّع عليه، الملك الاعتباري، الذي من آثاره جواز التصرّفات. فهو تعالى يملك كلّ شيء من كلّ جهة، فلا يملك شيء منه شيئاً، فلا معارض يُعارضه، ولا مانع يمنعه، ولا شيء يغلبه، كما قال: ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾5، وقال: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾6، وقال: ﴿وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾7،8.
 
الآية (14): ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾:
تفريع على ما تقدّم، أي: إذا كان الهدى علينا، فأنذرتكم نار جهنّم، وبذلك يُوجَّه ما في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ﴾، من الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده، أي إذا كان الهدى قضية محتومة، فالمنذِر بالأصالة، هو الله، وإنْ كان بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وتلظّى النار،



1 سورة الأنفال، الآية 37.
2 سورة الإسراء، الآية 82.
3 سورة طه، الآية 50.
4 سورة الإنسان، الآية 3.
5 سورة الرعد، الآية 41.
6 سورة يوسف، الآية 21.
7 سورة إبراهيم، الآية 27.
8 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

60

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 تلهّبها وتوهّجها. والمراد بالنار التي تتلظّى، جهنم، كما قال تعالى:  ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾1.2

 
الآية (15): ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾:
المراد بالأشقى، مطلق الكافر، الذي يكفر بالتكذيب والتولّي، فإنّه أشقى من سائر من شَقِيَ في دنياه، فمن ابتُلِيَ في بدنه، شَقِيَ، ومن أُصيب في ماله أو ولده مثلاً، شقي، ومن خسر في أمر آخرته، شقي. والشقي في أمر آخرته، أشقى من غيره، لكون شقوته أبديّة، لا مطمع في التخلّص منها، بخلاف الشقوة في شأن من شؤون الدنيا، فإنّها مقطوعة لا محالة مرجوّة الزوال عاجلاً. 
 
فالمراد بالأشقى، هو الكافر المكذِّب بالدعوة الحقّة، المعرض عنها، على ما يدلّ عليه توصيفه بقوله تعالى: ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، ويؤيّده إطلاق الإنذار. 
 
وأمّا الأشقى، بمعنى أشقى الناس كلّهم، فمّما لا يساعد عليه السياق البتّة. 
 
والمُراد بصلي النار، اتّباعها ولزومها، فيفيد معنى الخلود، وهو ممّا قضى الله به في حقّ الكافر، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾3. وبذلك يندفع ما قيل: إنّ قوله تعالى: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ ينفي عذاب النار عن فسّاق المؤمنين، على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع: أنّ الآية إنّما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها، دون أصل الدخول4.
 
الآية (16): ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾:
صفة الأشقى، وأنّه مكذِّب بالدعوة الحقّة، معرض عنها5.



1 سورة المعارج، الآية 15.
2 انظر: مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.
تفسير بالمصداق: روى عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾, قال: "في جهنّم وادٍ فيه نار لا يصلاها إلا الأشقى (أي فلان) الذي كذّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام، وتولّى عن ولايته، ثمّ قالعليه السلام: النيران بعضها دون بعض, فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).
3 سورة البقرة، الآية 39.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377-378, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305-306.
تَدَبُّر: تنكير النار "ناراً", للإشارة إلى أنّ نار الآخرة أمرها عظيم ومجهول بالنسبة إلينا.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

61

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (17): ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾

التجنيب، التبعيد، وضمير "سيجنّبها"، للنار. ومعنى الآية: سيبعد عن النار الأتقى. والمراد بالأتقى، من هو أتقى من غيره، ممّن يتّقي المخاطر، فهناك من يتّقي ضيعة النفوس، كالموت والقتل، ومن يتّقي فساد الأموال، ومن يتّقي العدم والفقر، فيمسك عن بذل المال، وهكذا، ومنهم من يتّقي الله، فيبذل المال، وأتقى هؤلاء الطوائف، من يتّقي الله، فيبذل المال لوجهه، فيتّقي خسران الآخرة، بالتزكّي، بالإعطاء. فالمفضّل عليه الأتقى، هو من لا يتّقي بإعطاء المال، وإنْ اتّقى سائر المخاطر الدنيويّة، أو اتّقى الله بسائر الأعمال الصالحة. 
 
فالآية عامّة، بحسب مدلولها، غير خاصّة، ويدلّ عليه، توصيف الأتقى، بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ ...﴾، وهو وصف عامّ، وكذا ما يتلوه، ولا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاصّ، كما ورد في أسباب النزول. وأمّا إطلاق المفضَّل عليه، بحيث يشمل جميع الناس، من طالح أو صالح، ولازمه انحصار المفضَّل في واحد مطلقاً أو واحد في كلّ عصر، ويكون المعنى: وسيجنّبها من هو أتقى الناس كلّهم، وكذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلّهم، فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، وكذا الإنذار العامّ الذي في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾، فلا معنى لأنْ يُقال: أنذرتكم جميعاً ناراً لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعاً، ولا ينجو منها إلا واحد منكم جميعاً1.
 
الآية (18): ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾
صفة للأتقى، أي الذي يُعطي ويُنفق ماله، يطلب بذلك أن ينمو نماءً صالحاً2.
 
الآية (19): ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾:
تقرير لمضمون الآية السابقة، أي ليس لأحد عنده من نعمة تُجزى، تلك النعمة، بما يؤتيه من المال، وتكافأ، وإنّما يؤتيه لوجه الله، ويؤيّد هذا المعنى، تعقيبه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾. فالتقدير، من نعمة تجزى به، وإنّما حُذِفَ الظرف، رعايةً للفواصل، ويندفع 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.
2 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

62

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 بذلك ما قيل: إنّ بناء "تُجزى"، للمفعول، لأنّ القصد ليس لفاعل معيّن1.

 
الآية (20): ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾
استثناء منقطع، ومعنى الآية: ولكنّه يؤتي ماله طلباً لوجه ربّه الأعلى2.
 
الآية (21): ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾:
أي، ولسوف يرضى هذا الأتقى، بما يؤتيه ربّه الأعلى، من الأجر الجزيل، والجزاء الحسن الجميل. وفي ذِكْر صفتي الربّ والأعلى، إشعار بأنّ ما يؤتاه من الجزاء، أنعم الجزاء وأعلاه، وهو المناسب لربوبيّته تعالى وعلوّه3.
 
بحث تفسيريّ: طرق معرفة الله تعالى4
1- معرفة الله عبر طريقَي الآفاق والأنفس:
حثّ القرآن الكريم على التفكّر والتدبّر في آيات الخَلْق، بوصفها آثاراً ومظاهر وجوديّة تحكي عن جمال الخالق وجلاله، وقد أرشد إلى طريقين من التفكّر والتدبّر، أحدهما: التفكّر في الآيات الآفاقيّة، والآخر: التفكّر في الآيات الأنفسيّة: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾5، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾6.
 
فمعرفة الآيات بما هي آيات مُوصِلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، ككونه تعالى حيّاً لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز، وعالماً لا يُخالطه جهل، وأنّه تعالى هو الخالق لكلّ شيء، والمالك لكلّ شيء، والربّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، خلق الخَلْق لا لحاجة منه إليهم، بل ليُنعِمَ عليهم بما استحقّوه، ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه، 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.
2 انظر: م.ن.
تَدَبُّر: نكتة الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾, من سياق التكلّم وحده إلى الغيبة, الإشارة إلى الوصفين: "ربّه" و"الأعلى"، وما فيهما من دلالة على أنّ إعطاء الجزاء على عمل العباد, هو بيد الخالق الأعلى.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.
4 انظر: م.ن، ج6، ص170-175, ج18، ص373-374.
5 سورة الذاريات، الآيتان 20 - 21.
6 سورة فصّلت، الآية 53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

63

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثَّلت له حقيقة حياته، وأنّها حياة مؤبّدة، ذات سعادة دائمة، أو شقاوة لازمة، وليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربّه، وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نُسمّيها بالدين، فإنّ السنّة التي يلتزمها الإنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدويّ والهمجيّ، إنّما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه، من حيث إنّه يُقدِّر لنفسه نوعاً من الحياة، أيّ نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التي يُقدّرها الإنسان لنفسه تُمثّل له الحوائج المناسبة لها، فيهتدى بها إلى الأعمال التي تضمن - عادة - رفع تلك الحوائج، فيطبّق الإنسان عمله عليها، وهو السنّة أو الدين. 


ومن هنا، كان النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة، من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة. وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى، يشترك فيها الطريقان معاً، أي طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس.

2- المعرفة الأنفسيّة أنفع من المعرفة الآفاقيّة:
عن الإمام علي عليه السلام: "المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين". والمراد بالمعرفتين: المعرفة بالآيات الأنفسيّة والمعرفة بالآيات الآفاقيّة. وكون السير الأنفسيّ أنفع من السير الآفاقيّ، لعلّه لكون المعرفة النفسانيّة لا تنفكّ عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقيّة، لأنّ النظر إلى آيات النفس أنفع لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحيّة والبدنيّة، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها، والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيّئة التي تُقارنها. واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها مِن أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يُعرِّفه الداء والدواء من موقف قريب، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها، بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة، فإنّه، وإنْ دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحيّة، لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. 

 
كما أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة والمعرفة الحاصلة من ذلك، نظر فكريّ وعلم حصوليّ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلّية منها، فإنّه نظر شهوديّ وعلم حضوريّ، والتصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باقٍ ما دام الإنسان متوجّهاً إلى مقدّماته، غير ذاهلٍ عنها، ولا مشتغلٍ بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله، وتكثر فيه الشبهات، ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس وقواها وأطوار وجودها، فإنّه من العيان، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربّها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً، وجد نفسه متعلّقة بالعظمة والكبرياء، متّصلة في وجودها، وحياتها، وعلمها، وقدرتها، وسمعها، وبصرها، وإرادتها، وحبّها، وسائر صفاتها وأفعالها، بما لا يتناهى بهاء، وسناء، وجمالاً، وجلالاً، وكمالاً، من الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، وغيرها من كلّ كمال.
 
3- المعرفة الأنفسيّة طريق للمعرفة الشهوديّة:
النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراريّ في مسير نفسها، وأنّها منقطعة عن كلّ شيء كانت تظنّ أنّها مجتمعة معه، مختلطة به، إلا ربّها المحيط بباطنها وظاهرها وكلّ شيء دونها، فوجدت أنّها دائماً في خلا مع ربّها، وإن كانت في ملا مِن الناس. وعند ذلك، تنصرف عن كلّ شيء، وتتوجّه إلى ربّها، وتنسى كلّ شيء، وتَذْكُر ربّها، فلا يحجبه عنها حجاب، ولا تستتر عنه بستر، وهو حقّ المعرفة الذي قُدِّر لإنسان. وهذه المعرفة الأحرى بها أن تُسمّى بمعرفة الله بالله، وأمّا المعرفة الفكريّة التي يُفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة، سواء حصلت من قياس، أو حدس، أو غير ذلك، فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة، وجلّ الإله أن يُحيط به ذهن، أو تساوي ذاته صورة مُختَلَقة اختلقها خَلْق مِن خَلقه، ولا يحيطون به علماً: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾1، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾2.



1 سورة طه، الآية 110.
2 سورة الصافات، الآيتان 159 - 160.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 ومن هنا، فإذا اشتغل الإنسان بآية نفسه، وخلا بها عن غيرها، انقطع إلى ربّه من كلّ شيء، وعقب ذلك معرفه ربّه معرفة بلا توسيط وسط، وعلماً بلا تسبيب سبب، إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وينكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه، المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشيء دونه، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1. 




1 سورة فصّلت، الآية 53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 21 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: معرفة الله تعالى/ انقسام الناس إلى مؤمنين وكافرين/ الإحسان إلى الآخرين/ البخل وطلب الاستعلاء/ التقوى/ الإخلاص لله/ الرضا/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسمٌ بالليل إذا غطّت ظلمته النهار، وبالنهار إذا ظهر بعد خفاء، وبالله خالق الذكر والأنثى، وهم من نوع واحد، ولكنّ سعيهم متفرّق مختلف، تبعاً لاختلاف اختياراتهم، مع أنّ الهداية ميسّرة لكلّ واحد منهم واضحة الطريق والمعالم، فمَنْ أنفق المال لوجه الله واتّقاه وصدّق بوعده، فسيحيا حياة طيّبة، ومَنْ طلب الغنى بالإعراض عن الله تعالى والاستغناء عنه والبخل في بذل ما أعطاه الله تعالى، والتكذيب بوعده، فسيهوي إلى نار جهنّم، فالأمر في الدنيا والآخرة بيد الله تعالى، لأنّه المالك الحقيقي لكلّ شيء، والأشياء قائمة الوجود به، فيجزي المحسن المخلص في عمله أحسن الجزاء، ويُعاقب المسيء ويُعذّبه عذاباً شديداً.

4- النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة، من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو  û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "تردّى": أي هلك. 
- المراد بالتصديق بالحسنى: الإحسان إلى الآخرين. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

68

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

69

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 تعريف بالسورة ومحاورها

سمّيّت هذه السورة بالضحى، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 11 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- التدبير الربوبيّ في التكوين والتشريع.
2- العناية الإلهيّة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
3- تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستمرار العناية الإلهيّة به وبمزيد من العطاء الربّاني.
4- دواعي شكر المنعم.
5- مظاهر شكر المنعم.
6- آثار شكر المنعم.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، كان ممّن يرضاه الله، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع له، وله عشر حسنات، بعدد كلّ يتيم وسائل"1.
 
• ما رواه معاوية بن عمّار، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحب، فأعطوه إيّاها من غير منٍّ منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"2.




1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص379.
2 م.ن، ص367.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

 


70

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 خصائص النزول

هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين1، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، لملائمة سياقها لكلّ من السور المكّيّة والمدنيّة2.
 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لأنّ خصائص السورة أقرب ما تكون إلى السور المكّيّة، منها إلى المدنيّة، مِنْ قِصَر آياتها، وطبيعة لحنها، وتطرّقها لأصل المعاد، أضف إلى ذلك أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة في أوائل البعثة النبويّة المباركة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسِّرين.
 
وروي عن ابن عباس أنّه قال: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوماً، فقال المشركون: إنّ محمداً قد ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة3.
 
واختلفت الروايات في مدّة انقطاع الوحي، بين أربعين ليلة، وخمس وعشرين ليلة، وتسع عشرة ليلة، وخمس عشرة ليلة، وأربع ليالٍ، وثلاث ليالٍ، وليلتين4.
 
والأمر في انقطاع الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدّة الانقطاع محلّ أخذ وردّ بين المفسِّرين، بين قائل بحصوله، وبين نافٍ له، وبين مفصّل بين انقطاع خصوص الوحي القرآني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فترة من الزمن، دون الوحي الرساليّ، أي بمعنى توقّف نزول شيء من القرآن بالنزول التدريجيّ، وإلا فإنّ للقرآن نزولين: دفعي، النازل في ليلة القدر على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتدريجي، النازل طيلة مدّة البعثة النبويّة على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا التوقّف في النزول التدريجي مدّة من الزمن، يرجع إلى مصلحة تتعلّق بتهيئة بيئة النزول، لا بالمنزل عليه، أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عرفت نزول حقيقة القرآن على قلبه بالنزول الدفعي. والقول الأخير هو الأوفق من بين الأقوال جمعاً مع الروايات الواردة في انقطاع الوحي، على فرض التسليم بصحّتها. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص379, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360-361.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

71

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 شرح المفردات

• الضُّحَى: "الضادّ والحاء والحرف المعتلّ أصل صحيح واحد، يدلّ على بروز الشيء"1. و"الضُّحَى: انبساطُ الشمس وامتداد النهار، وسُمّي الوقت به. قال اللَّه عزّ وجلّ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾2، ﴿إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾3، ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾4، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾5، ﴿وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾6"7.
 
• سَجَى: "السين والجيم والواو أصل، يدلّ على سكون وإطباق. يُقال: سجا الليل، إذا ادلهمّ وسكن"8. و"قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾9، أي إذا سكن واستوت ظلمته"10.
 
• قَلَى: "القاف واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على خفّة وسرعة... ومن الباب: القلى، وهو البغض... والقلى تجافٍ عن الشيء وذهاب عنه"11. و"قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾12، أي ما تركك وما بغضك"13.
 
• عَائِلًا: "العين واللام والياء ليس فيه إلا ما هو منقلب عن واو. العيلة، الفاقة والحاجة. يُقال: عال يعيل عيلة، إذا احتاج. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾14"15.
 
• ضَالًّا: "الضادّ واللام أصل صحيح، يدلّ على معنى واحد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "ضَحَى"، ص391.
2 سورة الشمس، الآية 1.
3 سورة النازعات، الآية 46.
4 سورة الضحى، الآيتان 1 - 2.
5 سورة النازعات، الآية 29.
6 سورة طه، الآية 59.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "ضَحَى"، ص502.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "سَجَوَ"، ص137.
9 سورة الضحى، الآية 2.
10 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "سَجَا"، ص213.
11 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَلَوَ"، ص16.
12 سورة الضحى، الآية 3.
13 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "قَلَى"، ص349.
14 سورة التوبة، الآية 28.
15 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَيَلَ"، ص198.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

72

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 حقّه"1. و"قوله تعالى: ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾2، أي أبطلها. وقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾3، أي لا تعرف شريعة، فهدى، مثل قوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾4"5.

 
• تَنْهَرْ: "النون والهاء والراء أصل صحيح، يدلّ على تفتّح شيء أو فتحه"6. و"النَّهْرُ والانتهارُ، الزّجر بمغالظة، يقال: نَهَرَه وانتهره، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾7، ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾8"9.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالضُّحَى﴾:
الآية، قسمٌ بالضحى. وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الضحى أقوالاً عدّة، هي:
• انبساط الشمس، وظهور نورها، وامتداد النهار، وهذا ما تؤيّده مقابلة الضحى بالليل بعد ذلك، في قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾.
 
• أوّل ساعة من النهار.
 
• صدر النهار، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار في الحرّ والبرد، في الشتاء والصيف.
 
وغيرها من الأقوال10.
 
الآية (2): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾
الآية، قسمٌ بالليل. وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى السجو أقوالاً، هي: 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "ضَلَّ"، ص356.
2 سورة محمد، الآية 1.
3 سورة الضحى، الآية 7.
4 سورة النساء، الآية 113.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج5، مادّة "ضَلَّ"، ص409.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَهَرَ"، ص362.
7 سورة الإسراء، الآية 23.
8 سورة الضحى، الآية 10.
9 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَهَرَ"، ص826.
10 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

73

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • سكون الليل، وهو غشيان ظلمته.

• أقبل الليل بظلامه.
• غطّى ظلام الليل كلّ شيء.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
الآية (3): ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
التوديع، الترك. والقِلى، البغض أو شدّته. والآية جواب القسم المتقدّم. ومناسبة نور النهار لنزول الوحي، وظلمة الليل لانقطاع الوحي، هي مناسبة ظاهرة2.
 
الآية (4): ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• إنّ ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها، خير لك من الدنيا الفانية، والكون فيها.
 
• إنّ آخر عمرك الذي بقي، خير لك من أوّله، لما يكون فيه من الفتوح والنصرة.
 
وغيرهما من الأقوال3.
 
والآية في مقام الترقّي، بالنسبة إلى ما تُفيده الآية السابقة، من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه من موقف الكرامة والعناية الإلهيّة، كأنّه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل والرحمة، ما دمت حيّاً في الدنيا، وحياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا4.
 
الآية (5): ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾
الآية في مقام التقرير والتثبيت لمفاد قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾. وقد اشتمل الوعد على عطاء مطلق، يتبعه رضى مطلق. وقيل: الآية ناظرة إلى الحياتين جميعاً، دون الحياة الآخرة فقط5.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام، وعليها 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381-382.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

74

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 كساء من ثلّة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه! تعجّلي مرارة الدنيا، بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾"1.

 
وعنه عليه السلام - أيضاً - أنّه قال: "رضا جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أنْ لا يبقى في النار موحِّد"2.
 
الآية (6): ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾
هذه الآية وما يتلوها من الآيتين، فيها إشارة إلى بعض نعم الله تعالى العظيمة على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث مات أبوه، وهو في بطن أمّه، ثمّ ماتت أمّه، وهو ابن سنتين، فكفله جدّه عبد المطلب، ثمّ مات جدّه، وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمّه أبو طالب عليه السلام وربّاه. وقيل: المُرَاد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس. والمعنى: ألم يجدك وحيداً بين الناس، فآوى الناس إليك، وجمعهم حولك3.
 
روى العياشي بإسناده، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، في قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾، قال: "فرداً، لا مَثَل لك في المخلوقين، فآوى الناس إليك، ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾، أي: ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك، فهداهم إليك، ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾، تعول أقواماً بالعلم، فأغناهم بك"4.
 
الآية (7): ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾
ذَكَر المفسِّرون في معنى الضلال في الآية أقوالاً، هي:
• عدم الهداية الذاتيّة من نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذاته. فحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضالّة في نفسه وذاته، بلحاظ قطع النظر عن هدايته تعالى له، فلا هدى له صلى الله عليه وآله وسلم من ذاته ولا لأحد من الخلق، إلا بالله سبحانه، فقد كانت نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ونفس كلّ واحد من الخلق ضالّة في نفسها، وإنْ كانت الهداية الإلهيّة ملازمة لها منذ وُجِدَت، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن، ص382-383, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
4 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص384.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

75

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾1، ومن هذا الباب قول موسى عليه السلام على ما حكى الله عنه: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾2، أي لم أهتدِ بهدى الرسالة بعد3.

 
• الذهاب من العلم، كما في قوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾4، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾5.
 
• وجدك ضالّاً بين الناس لا يعرفون حقّك، فهداهم إليك، ودلّهم عليك.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق مكة،حينما كانت تجيء به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جدّه عبد المطلب عليه السلام.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعاب مكّة، عندما كان صغيراً.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسيره إلى الشام مع عمّه أبي طالب عليه السلام في قافلة ميسرة، غلام خديجة عليها السلام.
 
وغيرها من الأقوال6.
 
والقولان الأول والثالث هما الأوفق من بين هذه الأقوال، أمّا الثالث فللرواية المتقدّمة عن الإمام الرضا عليه السلام، والقول الأوّل لا يخلو من وجه أيضاً، بلحاظ أنّ المقام مقام امتنان لله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنعم عليه من نِعَم.
 
الآية (8): ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• العائل، الفقير الذي لا مال له. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيراً، لا مال له، فأغناه الله بعدما تزوّج بخديجة بنت خويلد عليها السلام، فوهبت له مالها، وكان لها مال كثير.
 
• المُرَاد بالإغناء، استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قِبَل الله تعالى.



1 سورة الشورى، الآية 52.
2 سورة الشعراء، الآية 20.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
4 سورة البقرة، الآية 282.
5 سورة يوسف، الآية 3.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص383-384, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310-311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

76

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • إغناء الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقناعة.

 
وغيرها من الأقوال1.
 
والقول الثاني هو الأوفق بالرواية المتقدّمة عن الإمام الرضا عليه السلام.
 
الآية (9): ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾
القهر، الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كلّ واحد منهما. وذَكَر المفسِّرون في معنى الآية قولين، هما:
• لا تقهر اليتيم على ماله، فتذهب بحقّه، لضعفه، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى. 
• لا تحتقر اليتيم. 
 
والمعنيان محتملان في أنفسهما، لأنّ فيهما معنى القهر، من الغلبة والتذليل2.
 
الآية (10): ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾: 
النَهْر، هو الزجر والردّ بغلظة. وذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• لا تنهر السائل، ولا تردّه إذا أتاك يسألك، فقد كنت فقيراً، فإمّا أن تطعمه، وإمّا أن تردّه ردّاً ليّناً. 
• كما أعطاك الله ورحمك، وأنت عائل، فاعطِ سائلك وارحمه.
• المراد بالسائل، طالب العلم، وهو متّصل بقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾، والمعنى: علِّم مَنْ يسألك، كما علّمك الله الشرائع، وكنت بها غير عالم.
ويمكن حمل الآية على مطلق السؤال، وهو ما يساعد عليه إطلاق اللفظ وظهور السياق3.
 
الآية (11): ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾:
التحديث بالنعمة، ذِكْرُها قولاً، وإظهارها فعلاً، وذلك شكرها.
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى النعمة أقوالاً، هي:



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص384, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
2 انظر: م.ن، ص385, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص385-386, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

77

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصّه به. 

• مقام النبوّة الذي منحه الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
• مقام الرسالة الذي منحه الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
• النعم المذكورة في هذه السورة.
 
مطلق النعم التي أنعمها الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
روى البرقي، بإسناده، عن عمرو بن أبي نصر، قال: حدّثني رجل من أهل البصرة، قال: رأيت الحسين بن علي عليهما السلام وعبد الله بن عمر، يطوفان في البيت، فسألت ابن عمر، فقلت: قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، قال: أمره أن يُحدّث، بما أنعم الله عليه. ثمّ إنّي قلت للحسين بن علي عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، قال: "أمره أن يُحدّث، بما أنعم الله عليه من دينه"2.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أنّه قال: "فحدّث، بما أعطاك الله، وفضّلك، ورزقك، وأحسن إليك، وهداك"3.
 
وهذه الأوامر في هذه الآية والآيات السابقة عليها، هي عامّة موجّهة لجميع الناس، وإنْ كانت موجّهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنْ بوصفه المصداق الأبرز والأشرف من الناس.
 
والآيات الثلاث الأخيرة متفرّعة على الآيات الثلاث التي تسبقها، وتذكر نِعَمه تعالى عليه، كأنّه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم، مِنْ ذلّة اليتيم وانكساره، فلا تقهر اليتيم، باستذلاله في نفسه أو ماله، ووجدت مرارة حاجة الضالّ إلى الهدى، والعائل إلى الغنى، فلا تزجر سائلاً يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، ووجدت أنّ ما عندك نعمة أنعمها عليك ربّك، بجوده وكرمه ورحمته، فاشكر نعمته، بالتحديث بها، ولا تسترها4.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص386.
2 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، تحقيق جلال الدين الحسيني (المحدِّث)، ط1، طهران، دار الكتب الإسلامية, مطبعة رنكين، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش، ج1، كتاب مصابيح الظُلَم، باب الدين، ح115، ص218.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص386.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

78

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 بحث تفسيريّ: الربوبيّة1

1- معنى الربوبيّة:
الرَّبُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام... ولا يُقال الرّبّ مطلقاً، إلا لله تعالى، المتكفّل بمصلحة الموجودات، نحو قوله تعالى: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾2. وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا﴾3، أي: آلهة، وتزعمون أنّهم الباري مسبِّب الأسباب، والمتولِّي لمصالح العباد. وبالإضافة يُقال له تعالى ولغيره، نحو قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾4، و ﴿وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾5، ويقال: رَبُّ الدّار، ورَبُّ الفرس لصاحبهما، وعلى ذلك قول الله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾6، وقوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾7... والرّبوبيّة مصدر، يُقال في الله عزّ وجلّ.
 
2- حقيقة الربوبيّة: 
الربّ هو المالك الذي يُدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى المُلْك، ومعنى المُلْك (الذي عندنا في ظرف الاجتماع)، هو نوع خاصّ من الاختصاص، وهو نوع قيام شيء بشيء، يُوجِب صحّة التصرّفات فيه، فقولنا العين الفلانية مُلكنا، معناه: إنّ لها نوعاً من القيام والاختصاص بنا، يصحّ معه تصرُّفاتنا فيها، ولولا ذلك لم تصحّ تلك التصرُّفات، فالمَلِك هو الذي يملك النظام القومي والتدبير دون العين، وبعبارة أخرى يملك الأمر والحكم. وهذا في الاجتماع الإنسانيّ معنى وضعي اعتباري غير حقيقيّ، وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقيّ، نُسمّيه أيضاً مِلْكَاً، وهو نحو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا، فإنّ لنا بصراً وسمعاً ويداً ورجلاً، ومعنى هذا 



1 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، ص336-337, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص21-22, السبحاني، جعفر: محاضرات في الإلهيّات، ط1، بيروت، الدار الإسلاميّة، 1409هـ.ق/ 1989م، ص403-415.
2 سورة سبأ، الآية 15.
3 سورة آل عمران، الآية 80.
4 سورة الفاتحة، الآية 2.
5 سورة الصافات، الآية 126.
6 سورة يوسف، الآية 42.
7 سورة يوسف، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

79

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 المِلْك، أنّها في وجودها قائمة بوجودنا، غير مستقلّة دوننا، بل مستقلّة باستقلالنا، ولنا أن نتصرّف فيها كيف شئنا، وهذا هو المِلْك الحقيقي. 

 
والذي يُمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة، هو حقيقة المِلْك والمُلْك، دون المُلْك والمِلْك الاعتباريّين اللذين يبطلان ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أنّ المُلْك لا ينفكّ عن المِلْك الحقيقيّ، فإنّ الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء، بحيث لم يستقلّ عنه في وجوده، لم يستقل عنه -أيضاً- في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه، لأنّ الربّ هو المالك المدبّر. فمعنى المُلك متضمَّن في معنى المِلْك، وهو تعالى مالك المُلك.
 
3- مراتب الربوبيّة:
أ- الربوبية التكوينيّة: والمقصود بالتوحيد في الربوبية التكوينيّة، هو الإيمان بحقيقة أنّ تكوين العالم وتدبيره وإدارته بيد الله تعالى، بحيث لا يخرج عن ربوبيّته أيّ شيء، من حركة النجوم والكواكب، إلى حركة الرياح ونمو النباتات... لأنّها كلّها خاضعة لربّ العالمين وتحت تدبيره وإشرافه. والتوحيد في الربوبية التكوينية، من أدقّ المراحل وأصعبها في العقيدة التوحيدية، ويعدّ من المراحل المتكاملة للتوحيد. 
 
وإنّ التدبّر والتفكّر في آيات القرآن يكشف عن حقيقة مفادها: أنّ المشكلة الاعتقادية للكثير من الكفّار والمشركين في أمم الأنبياء والرسل عليهم السلام، كإبراهيمعليه السلام، والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كانت تكمن في هذه المرحلة من التوحيد. مع أنّهم كانوا يؤمنون بتوحيد الذات وتوحيد الخالقية: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾1. وعند سؤالهم عمَّن خلق السماوات والأرض، فإنّ جوابهم اعتراف بالتوحيد في الخالقية. فالذي يُميّز المشركين عن صفّ الموحّدين، يكمن في مرحلة التوحيد الربوبي، وهذا ما نراه من اعتماد نبي الله إبراهيمعليه السلام على الربوبية التكوينية للحقّ تعالى في احتجاجه على مشركي عصره: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾2.



1 سورة العنكبوت، الآية 61.
2 سورة الأنعام، الآية 76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

80

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 ب- الربوبية التشريعيّة: إنّ الإيمان بالتوحيد في الربوبية التشريعية، مرحلة متعالية للتوحيد، فلا يصل التوحيد إلى نصابه اللازم من دونها. وهذا القسم من الربوبية مرتبط بالأفعال الاختيارية والإرادة الحرّة للإنسان. وتمايز الإنسان عن باقي الموجودات يكمن في الإرادة الحرّة التي أعطاها الله للبشر. فالإنسان ينتخب ويسعى لرشده وكماله بالإرادة والاختيار الحرّ الذي يمتلكه. ولا يمكن أن يتحقّق هذا الكمال تحت الضغط والاختيار الإجباري، لأنّه بناءً على هذا الفرض، فإنّ الربيوبيّة الإلهيّة، بالنسبة إلى الأفعال والسلوك الإرادي والحر للإنسان - الذي تمتّع بالنعمة الإلهية بالإرادة الحرّة، وحقّ الاختيار في مجال الفكر والإيمان الداخلي، وفي مجال السلوك، والعمل الخارجي، ووهِبَ الأدوات والأسباب اللازمة لإعمال هذه الإرادة الحرّة - تقتضي أن لا يترك الإنسان وشأنه، بل إنّ الله تعالى قد أرشده إلى طريق السعادة المستقيم، وأظهر له سبيل السعادة والشقاء، والحسن والقبح، وهداه إلى برنامج الحياة الفردي والاجتماعي للوصول إلى الكمال والرشد، وليهتدي إلى الصراط المستقيم بإرادته ويؤمن به: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾1. وعلى أساس التوحيد في الربوبية التشريعية، يجب على الإنسان فقط أن يطيع الله ومن أمره تعالى بإطاعته، وأن يلتزم بقوانينه وأوامره حصراً، ويؤمن بأنّ حقّ وضع الأوامر والتشريعات له تعالى فقط. فالإيمان بالربوبية التشريعية الإلهيّة من المراحل الصعبة للفكر التوحيدي، حيث يواجه الإنسان امتحاناً وبلاء شديداً في سبيل قبولها، لأنّه يجب عليه، بإرادته الحرّة، أن يؤمن بالأوامر الإلهية ويتّبعها، وأن لا ينصاع لأمانيه وميوله النفسية، ويقطع الصراط المستقيم الإلهي، فهذا أمر عظيم ومهمّ في مسير الرشد والسعادة الإنسانية. والشاهد على هذه الحقيقة، التأمّل في انحراف إبليس، على طبق تعاليم القرآن، فالقرآن الكريم يعدّ إبليس من الكفّار وفي عداد غير الموحِّدين: ﴿وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾2. فما هو منشأ كفر إبليس وبداية انحرافه عن التوحيد؟ فعلى أساس المدارك والمعارف الدينية، كان لإبليس إيمان بالذات الإلهية، ولم يكن يُنكر ذلك، 




1 سورة البقرة، الآية 256.
2 سورة ص، الآية 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

81

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 وعبَدَ الله تعالى ستّة آلاف عام. وعلى طبق الروايات لا يعرف هل كانت من السنوات الدنيوية أم الأخروية، حيث كلّ يوم منها كألف سنة من سني الدنيا. فإبليس يؤمن بالمبدأ والمعاد، ولذا طلب من الله تعالى الإمهال ليوم القيامة: ﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾1. ولم يكن نقص إبليس في أيّ من التوحيد الذاتي والصفاتي، أو التوحيد في الخالقية والربوبية التكوينية. وما يعدّ نقصاً لإبليس حتى أخرجه من زمرة الموحِّدين هو عدم إيمانه بالربوبيّة التشريعية. فهو لم يكن مطيعاً للأمر الإلهي، لأنّ الحكم والقانون الإلهي لم يكن موافقاً لميوله النفسية ومشتهياته الباطنية، وبذلك وقع في الكفر. وهذه حقيقة قرآنية مبيّنة للطريق الحسّاس وذي التعرّجات للتوحيد الربوبيّ التشريعيّ، الذي يُعدّ حدّ النصاب للتوحيد. 




1 سورة الأعراف، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

82

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 11 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: التدبير الربوبيّ/ العناية الإلهيّة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم/ شكر المنعم/ ... 

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسَمٌ بانبساط ضوء الشمس، وسكون الليل وظلمته، ما تركك ربّك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأنت على ما أنت عليه من الفضل ما دمت حيّاً، والآخرة خير لك وأبقى، ولسوف يُعطيك ربّك عطاءً مطلقاً ترضى له نفسك في الدنيا والآخرة، كما تكفّلك بالرعاية في صغرك، في يتمك، وعدم هدايتك الذاتية، وفقرك، فعوّضك بجدّك وعمّك، وهداك إلى الدين القويم، وأغناك بزواجك من خديجة، وهذه كلّها نعم وعطايا إلهيّة تستوجب الشكر، ومن مصاديق الشكر: العطف على اليتيم، وإغاثة المحتاج، واستعمال النعم في مرضاة الله تعالى ومداومة الشكر عليها.

4- الربّ هو المالك الذي يُدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى المُلْك، وهو نوع قيام شيء بشيء، يُوجِب صحّة التصرّفات فيه. ومن المعلوم أنّ المُلْك لا ينفكّ عن المِلْك الحقيقيّ، وهو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا، فإنّ الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء، بحيث لم يستقلّ عنه في وجوده، لم يستقلّ عنه - أيضاً - في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه، لأنّ الربّ هو المالك المدبّر. والربوبيّة مراتب: تكوينيّة وتشريعيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

83

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "قلى": أي أبغض. 
- المراد بالعائل: الفقير المحتاج. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

84

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

85

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالانشراح، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- من النعم الإلهيّة المعنويّة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر.
2- تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته. 
3- مداومة حالة الجهد والنشاط في العمل حتى بعد الفراغ منه، استعداداً لمباشرة غيره.
4- الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر، لأنّه المؤثّر الأوحد في الوجود.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أُعطِيَ من الأجر، كمن لقي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مغتمّاً، ففرّج عنه"1.
 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين2، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، مع قربها إلى المدنيّة، لملائمة سياقها لخصائص السور المدنيّة3.
 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لأنّها نزلت عقيب سورة الضحى، ومحتواها يؤيّد ذلك، لأنّها تُكمل سرد مجموعة من النعم الإلهيّة التي شملت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص387.
2 انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص313.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

86

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 بيّنت سورة الضحى قسماً منها، وجاءت هذه السورة لتكمل القسم الآخر.

 
وروى ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أساله. قلت: أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي، منهم مَنْ سخّرت له الريح، ومنهم مَنْ كان يُحي الموتى. فقال: ألم أجدك يتيماً، فآويتك، قلت: بلى. قال: ألم أجدك ضالاً، فهديتك، قلت: بلى، أي ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، قلت: بلى أي ربّ"1.
 
شرح المفردات
• نَشْرَحْ: "الشين والراء والحاء أصل أصيل، يدلّ على الفتح والبيان"2. و"شَرْحُ الصّدر، أي: بسطه بنور إلهيّ، وسكينة من جهة الله ورَوْح منه. قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾3، وقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾4، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾5"6.
 
• وِزْرَكَ: "الواو والزاء والراء أصلان صحيحان، أحدهما: الملجأ، والآخر: الثقل في الشيء"7. و"الوَزَرُ: الملجأ الذي يُلتَجأ إليه من الجبل. قال تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ﴾8. والوِزْرُ: الثّقلُ، تشبيهاً بِوَزْرِ الجبلِ، ويُعبَّر بذلك عن الإثم، كما يُعبَّر عنه بالثقل. قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾9، كقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾10... وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾11، أي: ما كنت فيه من أمر الجاهليّة، 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَرَحَ"، ص269.
3 سورة طه، الآية 25.
4 سورة الشرح، الآية 1.
5 سورة الزمر، الآية 22.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَرَحَ"، ص449.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَزَرَ"، ص108.
8 سورة القيامة، الآيتان 11- 21.
9 سورة النحل، الآية 25.
10 سورة العنكبوت، الآية 13.
11 سورة الشرح، الآيتان 2 - 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

87

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 فأُعفِيت بما خُصِّصت به، عن تعاطي ما كان عليه قومك"1.

 
• أَنقَضَ: "النون والقاف والضاد أصل صحيح، يدلّ على نكث شيء، وربّما دلّ على معنى من المعاني على جنس من الصوت"2. و"النَّقْضُ: انْتِثَارُ العَقْدِ مِنَ البِنَاءِ والحَبْلِ. والعِقْدِ، وهو ضِدُّ الإِبْرَامِ... وحقيقةُ الانْتِقَاضِ ليس الصَّوَتَ، إنّما هو انْتِقَاضُهَا في نَفْسِهَا لِكَيْ يكونَ منها الصَّوْتُ في ذلك الوَقْتِ، فَعُبِّرَ عن الصَّوْتِ بِه، وقوله: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾3، أي: كَسَرَه حتّى صار له نَقِيضٌ"4. و"قوله: ﴿أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾5، أي أثقله حتّى جعله نقضاً"6.
 
• انصَبْ: "النون والصاد والباء أصل صحيح، يدلّ على إقامة شيء وإهداف في استواء"7.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾
الاستفهام في الآية، للتقرير، أي: قد فعلنا ذلك، ويدلّ عليه قوله تعالى في مقام العطف عليه: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، أي: وحططنا عنك وزرك8.
 
والمراد بشرح الصدر، بسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾9، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾10، وفي مقابله ضيق الصدر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾11.
 
وفي ترتّب الآيات الثلاث الأُوَل في مضامينها، ثمّ تعليلها بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾،



1 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَزَرَ"، ص867-868.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَقَضَ"، ص470-471.
3 سورة الشرح، الآية 3.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَقَضَ"، ص821-822.
5 سورة الشرح، الآية 3.
6 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "نَقَضَ"، ص232.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَصَبَ"، ص434. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَصَبَ"، ص807-808.
8 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
9 سورة طه، الآية 25.
10 سورة الزمر، الآية 22.
11 سورة الحجر، الآية 97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

88

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الظاهر في الانطباق على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته، وأواسطها، وأواخرها، ثمّ تكرار التعليل: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ثمّ تفريع آيتي آخر السورة، كلّ ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره صلى الله عليه وآله وسلم، بسطه، بحيث يسع ما يُلقَى إليه من الوحي، ويؤمر بتبليغه، وما يُصيبه من المكاره والأذى في جنب الله، أي جعل نفسه المقدّسة صلى الله عليه وآله وسلم مستعدّة استعداداً تامّاً لقَبول ما يُفَاض عليها من الله تعالى1.

 
وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: سُئِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: يا رسول الله! أينشرح الصدر؟ قال: "نعم". 
 
قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك علامة يُعرَف بها؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الموت"2.
 
الآية (2): ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾
الوزر، الحمل الثقيل. ووضع الوزر، إذهاب ما يحسّ من ثقله. 
وقد ذَكَرَ المفسِّرون في معنى وضع وزره صلى الله عليه وآله وسلم أقوالاً، هي:
• إنفاذ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإمضاء مجاهدته في الله، بتوفيق الأسباب، فإنّ الرسالة والدعوة وما يتفرّع على ذلك، هي الثقل الذي حمله إِثْر شرح صدره.
• أنّ ملكين نزلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفلقا صدره، وأخرجا قلبه وطهّراه، ثمّ ردّاه إلى محلّه3.
• ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة. 
• غفلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرائع ونحوها، ممّا يتوقّف على الوحي مع تطلّبه.
• حيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور، كأداء حقّ الرسالة.
• ثقل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بادىء نزوله عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
• ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ضلال قومه وعنادهم، مع عجزه عن إرشادهم.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314.
تفسير بالمصداق: ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾, بعلي, فجعلناه وصيّك. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428).
تَدَبُّر: سعة الصدر عامل مهمّ مهيّىء للقيام بأعباء الرسالة الثقيلة.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
3 انظر: السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

89

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 • ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من تعدّيهم ومبالغتهم في إيذائه.

• همّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفاة عمّه أبي طالبعليه السلام وزوجه خديجة عليها السلام. 
• الوزر، المعصية، ورفع الوزر، عصمته صلى الله عليه وآله وسلم. 
• الوزر، ذنب أمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعه، غفرانه.
وهذه الوجوه، بعضها سخيف، وبعضها ضعيف، لا يلائم السياق، وهي بين ما قيل به، وبين ما احتُمِلَ احتمالاً. والأوفق منها بالسياق، هو القول الأوّل1.
 
الآية (3): ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾
إنقاض الظهر، كسره، بحيث يُسمَع له صوت، والمراد به: ظهور ثقل الوِزْر عليه ظهوراً بالغاً2.
 
الآية (4): ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾: 
رَفْعُ الذكر، إعلاؤه عن مستوى ذِكْر غيره من الناس. وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، من رفع ذِكْره، أنْ قرن الله اسم نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم باسمه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، وعلى كلّ مسلم أن يذكره مع ربّه كلّ يوم في الصلوات الخمس المفروضة. ومن لطيف تعبير هذه السورة، وقوع الرفع في هذه الآية بعد الوضع في الآية السابقة عليها3.
 
الآية (5): ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾:
لا يبعد أن تكون هذه الآية تعليلاً لما تقدّم، مِن وضع الوزر، ورفع الذِّكر، فما حمَّلَه الله تعالى من الرسالة، وأمره بالدعوة، أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله، ولا سيّما مع تكذيب قومه لدعوته، واستخفافهم به، وإصرارهم على إمحاء ذكره. فوضع الله وزره الذي حمَّله، بتوفيق الناس لإجابة دعوته، ورفع ذِكْره الذي كانوا يريدون إمحاءه، وكان ذلك جرياً على سنّته الإلهيّة الجارية في عالم الدنيا، من الإتيان باليسر بعد العسر، فعلّل رفع الشدّة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، بما أشار إليه من سنّته الإلهيّة. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388-389, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314-315.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315.
3 م.ن. تَدَبُّر: السمعة الحسنة والمقام الرفيع من لوازم النجاح في قيادة المجتمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

 


90

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 واللام في "العسر"، للجنس وليس للاستغراق، ولعلّ السنّة، هي سنّة تحوّل الحوادث، وتقلّب الأحوال، وعدم دوامها1.

 
الآية (6): ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾
تكرار، للتأكيد والتثبيت. وقيل: استئناف. والتنوين في ﴿يُسْرًا﴾، للتنويع والتعدّد، لا للتفخيم. والمعيّة، معيّة التوالي، دون المعيّة، بمعنى التحقّق في زمان واحد2.
 
الآية (7): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾: 
النصب، المشقّة والتعب. والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرّع على ما بُيِّن من قَبل، مِن تحميله الرسالة، ومهمّة الدعوة إليها، ومنّ الله تعالى عليه بشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر، وكلّ ذلك هو من اليسر بعد العسر.
 
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
- إذا كان العسر يأتي بعده اليسر، والأمر فيه إلى الله تعالى لا غير، فإذا فرغت ممّا فُرِضَ عليك، فأتعب نفسك في الله - بعبادته ودعائه - وارغب فيه، ليمنّ عليك، بما لهذا التعب من الراحة، ولهذا العسر من اليسر.
- إذا فرغت من الفرائض، فانصب في النوافل. 
- إذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء.
- إذا فرغت من الغزو، فاجتهد في العبادة.
- إذا فرغت من النبوّة، فانصب عليّاً عليه السلام للإمامة3.
- إذا فرغت من دنياك، فانصب في آخرتك. 
 
وغيرها من الأقوال والوجوه الضعيفة. وأصحّ الأقوال القول الأوّل، لموافقته للسياق، وكذلك الثاني والثالث والرابع والخامس، لكونها من التفسير بالمصداق الذي حدّدته بعض 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315-316.
2 م.ن، ج20، ص316.
تّدَبُّر: السنّة الإلهيّة قائمة على أساس أنّه بعد كلّ عسر يأتي اليسر, فالمشاكل والمصاعب قابلة للزوال وتحتاج إلى صبر وتحمّل وثبات وعزيمة, حتى يأتي اليسر.
3 انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428-429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

91

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام1.

 
الآية (8): ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾:
أي اعتمد على الله تعالى في كلّ الأحوال، وارغب إليه في المسألة. والآية في مقام الحثّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرغبة في الطلب من الله تعالى دون غيره. وهذا خطاب تشريفيّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفه المصداق الأكمل من الناس، فيشمل الحثّ جميع الناس2.
 
بحث تفسيريّ: التوحيد الأفعاليّ3
1- معنى التوحيد الأفعالي:
المُراد به أنّ عالم الخلق منظَّم ومبني على الأسباب والمسبّبات، وأنّها ناشئة من إرادة الخالق ومعتمدة على مشيئته. فالظواهر الوجودية الكلّية والجزئيّة في ذاتها محتاجة لخالقها، متوقّفة عليه، وهو تعالى قائم بذاته: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾4. وهذه الظواهر بالتّالي غير مستقلّة في مقام التأثير، وكلّ أثر وعمل يحدث من الوجود الممكن بحول من الله وقوّته، فلا مؤثّر في الوجود إلا الله. فالتوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر: الفراغ من أداء مسؤوليّة ما ليس مبرّراً للقعود والخمول، بل يجب متابعة بذل الوسع والجهد في أداء مسؤوليّات أخرى, فنيل مقام القرب من الله تعالى يحتاج لأن يقضي الإنسان حياته بأكملها في السعي نحو هذا الهدف السامي والعالي, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (سورة الانشقاق، الآية 6).
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر: 
- يلزم أن تكون وجهة السعي في الأمور كلّها وجهة إلهيّة.
- بذل أقصى الجهد من أجل الوصول إلى مرضاة الله تعالى.
- ينبغي أن يكون السعي عن رغبة وشوق.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج10، ص211-213, ج13، ص270-273.
4 سورة البقرة، الآية 255.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

92

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 2- مراتب التوحيد الأفعاليّ: 

• التوحيد في الخالقية: وهو اعتراف الموحّد وإيمانه بأنّ موجودات عالم الوجود كلّها فقيرة ومحتاجة، ووجودها رهن الفيض والتجلّي الإلهي، فالكلّ مخلوقاته، ولا خالق سواه: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾1.
 
• التوحيد في الربوبيّة: هو الإيمان بحقيقة أنّ تدبير عالم الوجود - ومنه الإنسان - بيد إله العالم وحده، والخلق كلّهم تحت ربوبيّته وتدبيره. فالإنسان في خلقه وتكوينه لم يفوِّض الله تعالى إليه تدبير نفسه، بل دوماً يعيش بالتدبير الإلهي: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾2.
 
3- أدلّة التوحيد الأفعالي:
- الدليل العقلي:
تقضي البراهين اليقينيّة بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة كافّة، في ذواتها، وآثار ذواتها، وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات، استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق، إذ لو فُرِضَ استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأيّ وجه فُرِضَ في حدوث أو بقاء -، استغنى عنه من تلك الجهة، وهو محال. فكلّ ممكن غير مستقلّ في شيء من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي يستقلّ في ذاته، وهو الغني الذي لا يفتقر في شيء، ولا يفقد شيئاً من الوجود وكمال الوجود، كالحياة، والقدرة، والعلم، فلا حدّ له يتحدّد به. 
 
وعليه، فإنّ كلّ ما كان للممكن، من الوجود، أو الحياة، أو القدرة، أو العلم، متعلّق الوجود به تعالى، غير مستقلّ عنه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير، ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه، فلا مانع من فرض ممكن له علم بكلّ شيء، أو قدرة على كلّ شيء، أو حياة دائمة، ما دام غير مستقلّ الوجود عن الله سبحانه، ولا منعزل الكون عنه، كما لا مانع 



1 سورة الرعد، الآية 16.
2 سورة طه، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

93

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 من تحقّق الممكن مع وجود مؤقّت، ذي أمد، أو علم، أو قدرة، متعلّقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يُبطِلَ الحاجة الإمكانيّة، ولا فرق فيه بين الكثير والقليل.

 
- الدليل القرآني:
إنّ القرآن الكريم، وإنْ كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى، كالعلم بالمغيّبات، والإحياء، والإماتة، والخلق، كما في قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾1، ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾2، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾3، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾4، إلى غير ذلك من الآيات، لكنّها جميعاً مفسّرة بآيات أُخَر، كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾5، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾6، ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ﴾7، ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾8، إلى غير ذلك من الآيات. وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكّاً في أنّ المراد بالآيات النافية، اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال، والمراد بالآيات المثبتة، إمكان تحقّقها في غيره تعالى، بنحو التبعية وعدم الاستقلال. فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون، أو القدرة الغيبيّة، أي العلم من غير طريق الفكر، والقدرة من غير مجراها العاديّ الطبيعيّ، لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه، كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار، ونفى معه الأصالة والاستقلال، بأن يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى، وإنّما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط، ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده، فلا حجر عليه. ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامّي، وإنْ أسنده إلى الله سبحانه، وفيض رحمته، لم يخل من غلوّ، وكان مشمولاً لمثل قوله تعالى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ﴾9.



1 سورة الأنعام، الآية 59.
2 سورة النجم، الآية 44.
3 سورة الزمر، الآية 42.
4 سورة الزمر، الآية 62.
5 سورة الجن، الآيتان 26 - 27.
6 سورة السجدة، الآية 11.
7 سورة آل عمران، الآية 49.
8 سورة المائدة، الآية 110.
9 سورة النساء، الآية 171.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

94

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 8 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نِعَم شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر/ تبشير النبيصلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته/ المداومة على الاجتهاد والنشاط في العمل/ الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر.

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: ألم نشرح صدرك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ببسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه، ووضعنا عنك وزرك، بإنفاذ دعوتك، وإمضاء مجاهدتك في الله، بتوفيق الأسباب لنشر الرسالة والدعوة. ورفعنا لك ذكرك عن مستوى ذِكر غيرك من الناس، فاعلم أنّ سنّة الله تعالى الجارية في خلقه قائمة على مجيء اليسر والفرج بعد العسر والكرب، وأنّه لا بدّ من متابعة الجهد والعمل بعد الفراغ من غيره، والتوجّه دوماً إلى الله تعالى بالدعاء والعبادة، لأنّ نجاح الإنسان وفلاحه منوط بارتباطه بالله تعالى، المؤثّر الأوحد في الوجود.

4- التوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له. ولهذا التوحيد مرتبتان، هما: التوحيد في الخالقيّة، والتوحيد في الربوبيّة والتدبير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

95

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، ولكنّها أوفق بالمدنيّة. 
- معنى "أنقض": أي هدم. 
- المراد بـ "فارغب": اعتمد. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

96

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الدرس السادس: تفسير سورة التين

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

97

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالتين، لورود ذكره في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- عِظَم نظام الخِلْقَة.
2- تكوين الإنسان وعوامل تكامله وانحطاطه. 
3- فلاح الإنسان في الدنيا والآخرة يدور مدار الإيمان والعمل الصالح.
4- حقّانيّة يوم القيامة وحتميّته.
5- الحاكميّة الإلهيّة المطلقة. 
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قرأها، أعطاه الله خصلتين: العافية، واليقين، ما دام في دار الدنيا، فإذا مات، أعطاه الله من الأجر بعدد مَنْ قرأ هذه السورة صيام يوم"1
 
• ما رواه شعيب العقرقوفي، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "مَنْ قرأ ﴿وَالتِّينِ﴾ في فرائضه ونوافله، أُعطِي من الجنّة حيث يرضى"2.
 
خصائص النزول
اختلف المفسِّرون في مكّيّة السورة أم مدنيّتها، وأكثرهم على مكّيّتها، واحتمل بعضهم مدنيّتها، لملائمة سياقها لخصائص السورة المدنيّة. ومن المؤيّدات على كونها مكّيّة، قوله



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

98

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾، حيث ورد في الروايات أنّ المراد بالبلد الأمين، هو مكّة. أضف إلى ذلك تضمين القسم في الآية اسم الإشارة للقريب "هذا". ويُضعّف ذلك: احتمال نزولها بعد الهجرة وهو صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة، ولا سيما أنّ ضابط المكّي والمدني تدور مدار الهجرة النبويّة المباركة، وليس مدار الضابطة الزمانية، أو المكانية، أو الخطابيّة1.

 
شرح المفردات
• طور: "الطاء والواو والراء أصل صحيح، يدلّ على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان... والطور جبل، فيجوز أن يكون اسماً"2.
 
• سِينِينَ: "طور سَيْنَاءَ: جبل معروف، قال: ﴿تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء﴾3"4.
 
• تَقْوِيمٍ: "القاف والواو والميم أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما: على جماعة ناس، وربّما استُعير في غيرهم، والآخر: على انتصاب أو عزم... ومن الباب: قوّمت الشيء تقويماً"5. و"تَقْوِيمُ الشيء"، تثقيفه، قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾6، وذلك إشارة إلى ما خصّ به الإنسان من بين الحيوان، من العقل، والفهم، وانتصاب القامة الدّالَّة على استيلائه على كلّ ما في هذا العالم"7.
 
• مَمْنُونٍ: "الميم والنون أصلان، أحدهما: يدلّ على قطع وانقطاع، والآخر: على اصطناع خير. الأوّل: المنّ، القطع، ومنه يُقال: مننت الحبل قطعته. قال الله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾8"9.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص318-319, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص365.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَوَرَ"، ص430.
3 سورة المؤمنون، الآية 20.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "سِيْن"، ص439.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَوَمَ"، ص43.
6 سورة التين، الآية 4.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَوَمَ"، ص693.
8 سورة التين، الآية 6.
9 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "مَنَّ"، ص267. وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "مَنَنَ"، ص319.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

99

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تفسير الآيات

 
الآية (1): ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾
ذَكَر المفسِّرون في المراد بالتين والزيتون أقوالاً عدّة، هي:
• الفاكهتان المعروفتان. ووجه القسم بهما، لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواصّ النافعة.
• شجرتا التين والزيتون.
• المُرَاد بالتين، الجبل الذي عليه دمشق. وبالزيتون، الجبل الذي عليه بيت المقدس. ولعلّ إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين، لكونهما منبتيهما.
• المراد بالتين، مسجد نوحعليه السلام الذي بُنِيَ على الجودي. وبالزيتون، بيت المقدس.
• المُراد بالتين، المسجد الحرام. وبالزيتون، المسجد الأقصى.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
ولعلّ الإقسام بالتين والزيتون، لكونهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء عليهم السلام، وهو ما يناسب ذِكرهما في سياق ذِكر مكانين مقدّسين "طور سينين"، و"البلد الأمين".
 
وقد روى موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾، التين، المدينة، والزيتون، بيت المقدس، وطور سينين، الكوفة، وهذا البلد الأمين، مكّة"2.
 
الآية (2): ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى "طور سينين" أقوالاً عدّة، هي:
• الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى بن عمرانعليه السلام، ويُسمّى - أيضاً - طور سيناء.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392-393, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
2 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): معاني الأخبار، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش، باب معنى التبين والزيتون...، ح1، ص364-365.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

 


100

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 • المبارك الحسن، أي جبل الخير الكثير.

• كثير النبات والشجر.
• كلّ جبل فيه شجر مثمر.
وغيرها من الأقوال1.
 
وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام، أنّ المراد بـ"طور سينين"، الكوفة، وهي من باب التطبيق.
 
الآية (3): ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾: 
المراد بهذا البلد الأمين، مكّة المشرّفة، لأنّ الأمن خاصّة مشرّع للحَرَم، وهو في مكّة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾2، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام على ما حكى الله عنه: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾3، وفي دعائه عليه السلام ثانياً: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾4. وفي الإشارة بهذا إلى البلد، تثبيت التشريف عليه بالتشخيص. وتوصيفه بالأمين، إمّا لكونه فعيلاً، بمعنى الفاعل، ويفيد معنى النسبة، والمعنى: ذي الأمن، وإمّا لكونه فعيلاً، بمعنى المفعول، والمراد، البلد الذي يُؤمَن الناس فيه، أي لا يُخاف فيه من غوائلهم، ففي نسبة الأمن إلى البلد، نوع تجوّز5.
 
ويؤيّد ذلك ما رُوِيَ عن الإمام موسى بن جعفرعليه السلام في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾: "يعني مكّة، البلد الحرام، يأمن فيه الخائف في الجاهليّة والإسلام"6.
 
وما تقدّم من الرواية الواردة عنه عليه السلام - أيضاً -، من أنّ المراد بـ "هذا البلد الأمين"، مكّة.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص393, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
2 سورة العنكبوت، الآية 67.
3 سورة البقرة، الآية 126.
4 سورة إبراهيم، الآية 35.
5 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
6 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص393.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

101

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الآية (4): ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾: 

جواب للقسم. والمراد بكون خَلْقِه في أحسن تقويم، اشتمال التقويم عليه في جميع شؤونه وجهات وجوده. والتقويم، جعل الشيء ذا قوام. وقوام الشيء، ما يقوم به ويثبت، فالإنسان الجنس ذو أحسن قوام، بحسب الخلقة. ومعنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة، على ما يستفاد من قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ﴾، صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى والفوز بحياة خالدة عند ربّه، سعيدة لا شقوة معها، وذلك بما جهّزه الله به من العلم النافع ومكّنه منه من العمل الصالح، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾1، فإذا آمن بما علم وزاول صالح العمل، رفعه الله إليه، كما قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾3. وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾4، وقال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾5، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح، عطاء من الله غير مجذوذ، وقد سمّاه تعالى أجراً، كما يشير إليه قوله الآتي: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾6.
 
الآية (5): ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى "أسفل سافلين" أقوالاً عدّة، منها:
• مقام منحطّ هو أسفل من سفل، من أهل الشقوة والخسران. والمعنى: ثمّ رددنا الإنسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب.
 
• ردّه إلى الهرم، بتضعيف قواه الظاهرة والباطنة، ونكس خلقته، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾7.



1 سورة الشمس، الآيتان 7- 8.
2 سورة فاطر، الآية 10.
3 سورة الحج، الآية 37.
4 سورة المجادلة، الآية 11.
5 سورة طه، الآية 75.
6 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319-320.
7 سورة يس، الآية 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

102

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 • ردّه إلى جهنّم أو إلى نكس الخلق.

 
والقولان الثاني والثالث لا يلائمهما ما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، من الاستثناء الظاهر في المتّصل، فإنّ حكم الخَلْق عامّ في المؤمن والكافر، والصالح والطالح، ودعوى أنّ المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة1.
 
الآية (6): ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: 
أي غير مقطوع. والاستثناء متّصل، من جنس الإنسان. وتفريع قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ عليه، يؤيّد أنّ المراد من ردّه إلى أسفل سافلين، ردّه إلى الشقاء والعذاب2.
 
الآية (7): ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾: 
الخطاب للإنسان، باعتبار الجنس. وقيل: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره. و"ما"، استفهاميّة توبيخيّة. و"بالدين"، متعلّق بيكذّبك. والدين، الجزاء. ومعنى الآية: ما الذي يجعلك مكذّباً بالجزاء، يوم القيامة، بعد ما جعلنا الإنسان طائفتين، طائفة مردودة إلى أسفل سافلين، وطائفة مأجورة أجراً غير ممنون3.
 
الآية (8): ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾:
الاستفهام، للتقرير. وكونه تعالى أحكم الحاكمين، هو كونه فوق كلّ حاكم، في إتقان الحكم، وحقّيّته، ونفوذه من غير اضطراب ووهن وبطلان، فهو تعالى يحكم في خلقه وتدبيره، بما مِنَ الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس، من حيث الإتقان والحسن والنفوذ. 
 
وإذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين، والناس طائفتان مختلفتان، اعتقاداً وعملاً، فمن الواجب في الحكمة أن يُميّز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية، وهو البعث.
 
فالتفريع في قوله تعالى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾، من قبيل: تفريع النتيجة على الحجّة، وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾، تتميم للحجّة المُشار إليها، بما يتوقّف عليه تمامها.


 

1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص394, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص320.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص320.
3 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

103

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 والمحصّل: أنّه إذا كان الناس خُلِقُوا في أحسن تقويم، ثمّ اختلفوا، فطائفة خرجت عن تقويمها الأحسن ورُدَّت إلى أسفل سافلين، وطائفة بقيت في تقويمها الأحسن، وعلى فطرتها الأولى، والله المدبّر لأمرهم، أحكم الحاكمين، ومن الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان، جزاءً، فهناك يوم تُجزى فيه كلّ طائفة بما عملت، ولا مسوِّغ للتكذيب به.

 
فالآيات في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾1، وقوله تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾2،3.
 
بحث تفسيريّ: خلق الإنسان وتكوينه4
1- بدء تكوين الإنسان:
إنّ النوع الإنسانيّ، ليس نوعاً مشتقّاً من نوع آخر حيوانيّ أو غيره، حوّلته إليه الطبيعة المتحوّلة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض وما عليها والسماء، ولا إنسان، ثمّ خلق زوجين اثنين من هذا النوع، وإليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾5، وقال تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾6، وقال تعالى: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾7، وأمّا ما افترضه علماء الطبيعة، من تحوّل الأنواع، وأنّ الإنسان مشتقّ من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعيّ اليوم، أو متحوّل من السمك، على ما احتمله بعض، فإنّما هي فرضيّة، والفرضية غير مستندة إلى العلم اليقينيّ، وإنّما تُوضَع لتصحيح التعليلات والبيانات العلميّة، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينيّة، بل حتّى الإمكانات الذهنيّة، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والأحكام المرتبطة بموضوع البحث.



1 سورة ص، الآية 28.
2 سورة الجاثية، الآية 21.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص321.
4 انظر: م.ن، ج2، ص112-114.
5 سورة الحجرات، الآية 13.
6 سورة الأعراف، الآية 189.
7 سورة آل عمران، الآية 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

104

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 2- تركّب الإنسان من روح وبدن:

أنشأ الله هذا النوع، مركّباً من جزئين، ومؤلّفاً من جوهرين، مادّة بدنيّة، وجوهر مجرّد، هي: النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان، ما دامت الحياة الدنيويّة، ثمّ يموت البدن ويفارقه الروح الحيّة، ثمّ يرجع الإنسان إلى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ *  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾1، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾2، وأوضح من الجميع، قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾3، فإنّه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرّق الأعضاء والأجزاء واستهلاكها في الأرض بعد الموت، فلا تصلح للبعث، بأنّ ملك الموت يتوفّاهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضلّ في الأرض، لكنّهم، أي نفوسهم غير ضالّة ولا فائتة ولا مستهلكة.
 
3- ارتباط الإنسان بالأشياء الخارجيّة:
خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركّب فيه السمع والبصر والفؤاد، ففيه قوّة الإدراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث، وما هو موجود في الحال، وما كان، وما سيكون ويؤول إليه أمر الحدوث والوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾4، وقال تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾5، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ



1 سورة المؤمنون، الآيات 12 - 16.
2 سورة ص، الآية 72.
3 سورة السجدة، الآيتان 10 - 11.
4 سورة العلق، الآية 5.
5 سورة النحل، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

105

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾1. وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكلّ شيء، ويستطيع الانتفاع من كلّ أمر، أعمّ من الاتّصال أو التوسّل به إلى غيره، بجعله آلة وأداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعيّة، وسلوكه في مسالكه الفكريّة، قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾2، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾3، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخَّرة للإنسان. 




1 سورة البقرة، الآية 31.
2 سورة البقرة، الآية 29.
3 سورة الجاثية، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

106

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 8 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نظام الخِلْقَة/ تكوين الإنسان وعوامل تكامله وانحطاطه/ فلاح الإنسان/ يوم القيامة/ الحاكميّة الإلهيّة/ ... 
 
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
 
3- في تفسير السورة: قسمٌ بالتين والزيتون، بما لهما من فوائد أو بجبلي التين الذي عليه دمشق والزيتون الذي عليه بيت المقدس، وبطور سينين، وهو الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وهذا البلد الأمين، وهو مكّة المكرّمة، إنّ خِلْقَة الإنسان هي كمال القوام في كلّ شيء، بما جهّزه الله تعالى من العلم النافع ومكّنه من العمل الصالح، وهو في خسران تدريجي في حياته الدنيا، إلا أن يتزوّد منها لدار الآخرة، التي هي دار حقّ ومستقرّ. وحكم الله تعالى في ذلك متقن ونافذ على كلّ شيء لا مردّ له.
 
4- أنشأ الله تعالى النوع الإنساني، وجعله مركّباً من جزئين، ومؤلّفاً من جوهرين، مادّة بدنيّة، وجوهر مجرّد، هي: النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان، ما دامت الحياة الدنيويّة، ثمّ يموت البدن ويفارقه الروح الحيّة، ثمّ يرجع الإنسان إلى الله سبحانه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

107

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة في فرائضه ونوافله، أُعطِي من الجنّة حيث يرضى. 
- معنى "البلد الأمين": المدينة المنوّرة. 
- المراد بـ "طور سينين": الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه السلام. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

108

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

109

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 تعريف بالسورة ومحاورها

يوجد تسميات عدّة مشهورة بين المسلمين لهذه السورة المباركة، هي: "العلق"، و "إقرأ"، و"القلم"، ولعلّ تسميتها بهذه الأسماء، لورودها في سياق آياتها، وكونها من المواضيع المهمّة التي تتعرّض لها السورة وتريد التنبيه إليها. وهذه السورة إحدى سور العزائم الأربع التي يجب على المكلّف السجود عند قرائته لآية السجدة فيها أو سماعه لها مباشرة، ويحرم على الحائض والجنب قرائتها. ولا يجوز قرائتها في الصلاة.
 
وتتضمّن هذه السورة 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور المهمّة، وهي:
1- أهمّيّة القراءة والعلم وضرورتهما في حياة الإنسان. 
2- عِظَم خِلْقَة الإنسان.
3- العناية الإلهيّة بتكامل الإنسان.
4- طغيان الإنسان وعاقبة طغيانه.
5- تقوى الإنسان وعاقبة تقواه.
6- السجود لله تعالى مظهر للإقرار بالعبوديّة لله تعالى.
7- القرب من الله تعالى أثر وجوديّ مطّرد مع الهداية والتقوى.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه"1.
 
• ما رواه محمد بن حسان، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من قرأ في يومه أو في ليلته ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، ثمّ مات في يومه، أو في ليلته، مات شهيداً، وبعثه الله



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص396.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

110

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 شهيداً، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.

 
خصائص النزول
المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة هي أوّل ما نزل من القرآن، مع إجماعهم على نزول الآيات الخمس الأوائل في بداية نزول الوحي على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يؤيّده مضمون الآيات2.
 
وممّا ورد من الروايات في بيان حادثة النزول: ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام: "فلمّا استكمل أربعين سنة، نظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه، فوجده أفضل القلوب، وأجلّها، وأطوعها، وأخشعها، وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمدصلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم، وأمر بالرحمة، فأُنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه، وأخذ بضبعه وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثمّ أوحى (إليه) ما أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ"3
 
وقد وردت مجموعة من الروايات في بيان أثر النزول الأوّل للوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاف واغتمّ كثيراً! وخشي أن يكون ذلك من إلقاءات الشيطان! وهمَّ مرّات بأن يُلقي بنفسه من أعلى الجبل! وفزع إلى زوجه خديجة لتخفّف من روعه بابن عمّها ورقة بن نوفل الذي بشّره بأنّه نبي!4



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص396.
2 انظر: م.ن، ص398.
3 تفسير الإمام العسكري عليه السلام، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ط1، قم المقدّسة، نشر مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, مطبعة مهر، 1409 هـ.ق، ح78، ص156-157.
4 انظر: ابن جرير الطبري، محمد: تاريخ الطبري، لا.ط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، لا.ت، ج2، ص47, ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لا.ط، بيروت، دار صادر، لا.ت، ج6، ص233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

111

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 وأمثال هذه الافتراءات يبطلها القرآن الكريم1 والروايات2 والسيرة القطعيّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تكشف عن رجاحة عقله، وعظيم صبره، وسعة صدره، وبالغ يقينه، ومنتهى ثقته بالله تعالى، وبأنّه نبيّ من أنبياء الله تعالى.

 
ويرجع وجود هذه المرويّات في التراث الحديثيّ الإسلاميّ إلى عمليّة الدسّ والتزوير التي انتهجها أعداء الإسلام، عبر ما يُسمّى في اصطلاح المحدّثين "بالإسرائيليّات"، بهدف النيل من الإسلام ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
شرح المفردات
• عَلَقٍ: "العين واللام والقاف أصل صحيح يرجع إلى معنى واحد، وهو أن يُناط الشيء بالشيء العالي، ثمّ يتّسع الكلام فيه. والمرجع كلّه إلى الأصل... والعلق الدم الجامد. وقياسه صحيح، لأنّه يعلق بالشيء. والقطعة منه علقة"3، وهي "التي يكون منها الولد. قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾4"5.
 
• يَطْغَى: "الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحدّ في العصيان"6.



1 قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (سورة النجم، الآيات 3-5), ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ (سورة النمل، الآية 10), ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (سورة الإسراء، الآية 65).
2 روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه سُئل عليه السلام: كيف عَلمت الرسُل أنَّها رسُل؟ قال: "كُشِفَ عنهم الغطاء" (البرقي، المحاسن، م.س، كتاب العلل، ح85، ص328), عن الإمام عليعليه السلام: "ولقد قرَنَ الله به من لدُن أن كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم, ليله ونهاره.." (العلوي، علي (الشريف الرضي): نهج البلاغة (الجامع لخطب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورسائله وحكمه)، شرح: محمد عبده، ط1، قم المقدّسة، دار الذخائر, مطبعة النهضة، 1412هـ.ق/ 1370هـ.ش، ج1، الخطبة 192(القاصعة)، ص157, عن زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخفْ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم في ما يأتيه من قِبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقالعليه السلام: "إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قِبل الله مثل الذي يراه بعينه" (العياشي، محمد بن مسعود: تفسير العياشي، تحقيق وتصحيح وتعليق هاشم الرسولي المحلاتي، لاط، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، لات، ج2، ح106، ص201).
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَلَقَ"، ص125.
4 سورة العلق، الآية 2.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَلَقَ"، ص579-580.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَغَى"، ص412. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "طَغَى"، ص520.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

112

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 • لَنَسْفَعاً: "السين والفاء والعين أصلان، أحدهما: لون من الألوان، والآخر: تناول شيء باليد، فالأوّل السفعة، وهي السواد... وأمّا الأصل الآخر، فقولهم سفعت الفرس إذا أخذت بمقدّم رأسه وهي ناصيته. قال الله جلّ ثناؤه: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾1"2.

 
• النَّاصِيَةِ: "النون والصاد والحرف المعتلّ، وهذا المعتل أكثره واو، أصل صحيح يدلّ على تخيّر وخطر في الشيء وعلوّ... ومنه الناصية سُمّيت لارتفاع منبتها. والناصية قصاص الشعر"3.
 
• الزَّبَانِيَةَ: "الزاء والباء والنون أصل واحد يدلّ على الدفع... والزبانية سمّوا بذلك لأنّهم يدفعون أهل النار إلى النار"4.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾: 
الأمر في الآية ﴿اقْرَأْ﴾ لا يُراد به الأمر التشريعيّ، لأنّ الأمر التشريعي لأمِّيّ لا يقدر على القراءة تكليف بما لا يُطاق، وذلك قبيح من المولى الحكيم. بل هو أمر تكوينيّ له نظائره في القرآن، كقوله تعالى للنار: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾5، فصارت برداً وسلاماً. وكقوله تعالى للسموات والأرض: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾6. 
 
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾7. فهذا القادر المتعال يأمر نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة بأمر تكوينيّ، فيكون قارئاً.
 
وأمّا معنى الباء في ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فهي للابتداء أو للاستعانة، فعلى الابتداء يكون المعنى: 



1  سورة العلق، الآية 15.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "سَفَعَ"، ص84. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "سَفَعَ"، ص413.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَصَا"، ص433, وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَصَا"، ص810.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "زَبَنَ"، ص46.
5 سورة الأنبياء، الآية 69.
6 سورة فصّلت، الآية 11.
7 سورة يس، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

113

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 أنّ مبدأ قدرتك على الأشياء كلّها - ومنها: القراءة - هو الله تعالى، ويكون المعنى على الاستعانة: أنّ قدرتك على القراءة، مع أنّك رجل أمّي، تتحقّق بالاستعانة باسم ربّك. والمعنى الأوّل يناسب مقام الإخلاص في التوحيد الأفعالي، وأنّه لا مؤثّر في الوجود إلا الله.

 
وأمّا الربّ: فله معانٍ، فإنْ كان بمعنى المتعال والثابت والسيد، فهو من الأسماء الذاتيّة، وإنْ كان بمعنى المالك والصاحب والغالب والقاهر، فهو من الأسماء الصفاتيّة، وإنْ كان بمعنى المربّي والمنعم والمتمّم، فهو من الأسماء الأفعاليّة.
 
وفي الآية إشارة إلى قصر الربوبيّة في الله عزّ اسمه، وهو توحيد الربوبيّة المقتضية لقصر العبادة فيه، فإنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ الله سبحانه ليس له إلا الخلق والإيجاد، وأمّا الربوبيّة، وهي الملك والتدبير، فلمقرّبي خلقه، من الملائكة والجنّ والإنس، فدفعه الله بقوله: ﴿رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ الناصّ على أنّ الربوبيّة والخلق له وحده.
 
وعلى هذا، يختلف معنى الآية، باختلاف معاني الربّ. وبالنسبة إلى المعنى المعروف، وهو المربّي والمنعم، الذي هو من الأسماء الأفعاليّة، فالمعنى: اقرأ مبتدأً باسم من ربّاك وأعطاك هذه اللياقة وهذا الاستعداد1.
 
الآية (2): ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾:
هذه الآية من قبيل ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، فإنّ الآية الأولى، وإنْ كانت تشتمل على أنّ الله سبحانه هو الخالق لجميع الموجودات، ولكنّ الإنسان، لأهمّيّته خُصَّ بالذِّكْر ثانياً. فكأنّ خَلْق الإنسان يُعدّ عملاً مستقلّاً في مقابل خَلْق غيره، فَخُصَّ بالذكر.
 
وممّا يُستفاد - أيضاً - أنّ الآية الأولى تشتمل على معنى الخِلْقَة مِنَ العدم. وهذه الآية على خَلْق شيء من شيء آخر.
 
والمراد بالإنسان في الآية هو: جنس الإنسان المتناسل. والمراد بالعلق، هو: الدم المنجمد، الذي تستحيل إليه النطفة في الرحم.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص323, الخميني، روح الله: تفسير سورة الحمد، تفسير آية: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾, يعني خلق نورك الأقدم قبل الأشياء..." (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

114

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 ففي الآية إشارة إلى التدبير الإلهيّ الوارد على الإنسان، من حين كان علقة، إلى حين يصير إنساناً تامّاً كاملاً، له من أعاجيب الصفات والأفعال ما تتحيّر فيه العقول، فلم يتمّ الإنسان إنساناً، ولم يكمل، إلا بتدبير متعاقب منه تعالى، وهو بعينه خَلْق بعد خَلْق، فهو تعالى ربّ مدبّر لأمر الإنسان بعين أنّه خالق له، فليس للإنسان إلا أن يتّخذه وحده ربّاً، ففي الكلام احتجاج على توحيد الربوبيّة1.

 
الآية (3): ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾:
لعلّ الوجه في تكرار اقرأ والأمر بالقراءة ثانياً التأكيد على الأمر الأوّل، وفاءً لظاهر سياق إطلاق الأمر في الموردين.
 
والواو في وربّك: إمّا حاليّة وإمّا استئنافيّة، فتكون الجملة حاليّة على الأوّل، واستئنافيّة على الثاني. وعلى أيّ تقدير، فالمراد من قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾، أي الذي يفوق عطاؤه عطاء ما سواه، فهو تعالى يُعطي لا عن استحقاق، وما من نعمة، إلا وينتهي إيتاؤها إليه تعالى2.
 
الآية (4): ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾:
الباء للسببيّة، والمراد أنّه علّم الإنسان القراءة أو الكتابة والقراءة، بواسطة القلم. والجملة حالية أو استئنافية، والكلام فيها مسوق لتقوية نفس النبيصلى الله عليه وآله وسلم، وإزالة القلق والاضطراب عنها، حيث أُمِرَ بالقراءة، وهو أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ، كأنّه قيل: اقرأ كتاب ربّك 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص323-324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: .... ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾, يعني خلقك من نطفة (علقة) وشقّ منك عليّاً" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
تَدَبُّر: لا بدّ أن يكون للعَلَق خصوصيّة تخصّه بالذِّكْر، وإلّا فالأفضل أن يُذكَر المبدأ الأوّل, وهو التراب، أو المبدأ للنشء الآدميّ, وهو النطفة, لكونهما أدلّ على كمال القدرة من العلقة, ولأنّهما أبعد من العَلَقة بالنسبة إلى الإنسانيّة. وتشير الدراسات العلميّة والطبّيّة أنّ المادّة الأوّليّة لخَلْق الإنسان، أشبه ما تكون بهذه الدويبة، على ما جاءت صورتها مكبّرة في بعض الدراسات الطبّيّة. فلو كان هذا المعنى صحيحاً, لكانت هذه الآية من المعجزات العلميّة القطعيّة للقرآن الكريم.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾, يعني علّم علي بن أبي طالب عليه السلام" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

115

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الذي يوحيه إليك، ولا تخف، والحال أنّ ربّك الأكرم الذي علّم الإنسان القراءة، بواسطة القلم الذي يخطّ به، فهو قادر على أن يُعلّمك قراءة كتابه، وأنت أمّيّ، وقد أمرك بالقراءة، ولو لم يُقْدِرَك عليها لم يأمرك بها1.

 
وقد بيّن الله تعالى بهذا البيان أهمّيّة القلم، وأنّه الوسيلة لنشر العلوم وبقائها، كما جعله محلّاً لقسمه في كتابه الكريم بقوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾2.
 
الآية (5): ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾:
عمّم سبحانه النعمة في هذه الآية، فذكر تعليمه للإنسان ما لم يعلم. وفي الآية مزيد تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه. والمراد بالإنسان: جنس الإنسان، وفاءً لظاهر سياق إطلاق اللفظ3.
 
الآية (6): ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾:
قوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ فيه ردع عمّا يُستفاد من الآيات السابقة، من أنّه تعالى أنعم على الإنسان بعظائم النعم، من قبيل: التعليم بالقلم، وسائر ما علم، والتعليم من طريق الوحي. فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك، لكنّه يكفر بنعمته تعالى ويطغى4.
 
وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، إخبار بما في طبع الإنسان من تجاوز للحدّ وخروج عن



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تَدَبُّر: اللافت للنظر في هذه الآيات هو تنظيم الكلمات، وكيفيّة تقدّمها وتأخّرها: فإنّ القراءة قُدِّمت على الكتابة، وكرّرت القراءة, لأنّ حدوث اللسان والبيان قبل الكتابة. والقراءة مقدّمة على الكتابة زماناً، ومن حيث المقام والأهمّيّة أيضاً, لأنّه لو لم تكن القراءة، فالكتابة لم تُوجد، مضافاً إلى أنّ كلّ كتابة للقراءة، وليست كلّ قراءة للكتابة.
2 سورة القلم، الآية 1.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ... ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾, يعني علّم عليّاً ما لم يعلم قبل ذلك" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
تَدَبُّر: من لطائف هذه الآيات تكرار لفظ العلم. وهذا مضافاً إلى إفادته تعظيم العلم وتجليله، يمكن أن يكون إشارة إلى نوعين من العلم: الاكتسابيّ والإلهاميّ. فإنّ فعل "عَلَّمَ" في المرّة الأولى قُيّد بالقلم الظاهر في العلم الذي يتعلّمه أفراد البشر بعضهم من بعضهم الآخر. وبالجملة، يُستفاد من تقييد الفعل في الآية الأولى بالقلم أنّها تنظر إلى العلم الاكتسابيّ، وفعل "علّم" في الآية الثانية يكون إشارة إلى العلم الذي يحصل بوسيلة الوحي والإلهام من الله سبحانه، ويكون على هذا المعنى: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾, أي علّم الإنسان ما لم يقدر أن يعلم، ولم يكن له طريق إلى ذلك, غير طريق الوحي والإلهام. وهذا قبيل قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 151).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324-325.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

116

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الاعتدال، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾1،2.

 
الآية (7): ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾: 
اظلم قصود من ﴿رَّآه﴾ هو الرأي دون الرؤية البصريّة. والرائي والمرئي هو الإنسان نفسه، فالآية في مقام التعليل، أي ليطغى، لأنّه يعتقد نفسه مستغنياً عن ربّه المنعم عليه، فيكفر به، وذلك أنّه يشتغل بنفسه والأسباب الظاهريّة التي يتوصّل بها إلى مقاصده، فيغفل عن ربّه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره وشكره على نعمه، فينساه ويطغى3.
 
الآية (8): ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾:
الرجعى هو الرجوع. والظاهر من سياق الوعيد الآتي: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾، أنّه وعيد وتهديد بالموت والبعث، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الخطاب للإنسان، بطريق الالتفات للتشديد، والأوّل أظهر، حيث يستفاد من الآية تأسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ما أصابه من الأذى من عدوّه الذي نهاه عن الصلاة وعن المناجاة مع مولاه، بأنّ مرجعه إلى الله، بصفته 



1 سورة إبراهيم، الآية 34.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص325.
3  انظر: م.ن.
تَدَبُّر: لا بدّ من النظر في معنى الاستغناء حتى يعلم أنّه في أي مورد مذموم، وفي أيّ منه غير مذموم. فبالتوجّه إلى موارد الاستعمال ومعاني باب استفعال، تستفاد هذه المعاني لهذا الفعل:
الأوّل: أن يكون الاستغناء بمعنى الاكتفاء, وعلى هذا يكون المستغني, مَنْ يكتفي بماله ويراه كافياً لنفسه، ولا يشتغل بالأمور المهمّة الأخرى من وظائفه الدينيّة والأخلاقيّة، والأمور المعنويّة والأخرويّة.
الثاني: أن يكون بمعنى الاغتناء, أي كونه غنيّاً، ومقابله الافتقار, أي كون الإنسان فقيراً، فيكون معنى الآية على هذا أنّ الإنسان إذا تلبّس بالغنى وصار غنيّاً يطغى ويتعدّى طوره. وهذا إخبار بما في طبع الإنسان.
الثالث: أن يكون الاستغناء بمعنى طلب الغنى. كما أنّ هذا المعنى لا يستقيم في ما نحن فيه, لأنّه لا معنى لأنْ نقول: إنّ الإنسان ليطغى أنْ رآه يطلب الغنى, فإنّه من البديهي أنّ الطغيان ليس معلولاً لطلب المال والثروة والغنى. فلا بدّ أن يفسّر في المقام بمعنى أنّه يطغى إذا رأى نفسه ذات مال وارتفعت حاجتها.
النتيجة: إنّ توجيهات القرآن المتكرّرة في هذا الصدد تنبّه البشر إلى أنّ الثروة والمال من أعظم مصائد إبليس. وقد وقع في فخّه هذا كثير من الناس, فمنهم من صرف أكثر عمره في جمع المال وآثره على كلّ شيء من أمور الآخرة، حتّى على راحة نفسه وعياله، ولم يستفد من ماله في حياته الشخصيّة أيضاً، فبقي العناء له واللذّة لغيره, وهذا من أكبر الخسائر. ومنهم من أخذه الاستكبار والغرور واتّكل على نفسه وغفل عن فضل الله وعنايته، كما فعل قارون. ومنهم من أوقعته كثرة المال في الشهوات والطغيان والعصيان، وهذا الخطر عظيم جدّاً وكثير في الناس عدداً، ولا سيّما في سِنِيّ الشباب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

117

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الربوبيّة لك، فيجزيه الربّ تعالى جزاء من أساء الأدب بجنابك.

 
الآية (9): ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾1:
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ﴾، بمعنى أخبرني، والاستفهام، للتعجيب. والإتيان بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، إشارة إلى أنّ الإتيان بالأعمال القبيحة إذا كانت مستمرّة، فهي موجبة للوم والعتاب والعقاب، وأمّا إذا صدر عمل ما من أحد غفلة، أو ارتكب معصية ثمّ تاب ورجع، فإنّه موضع للغفران.
 
الآية (10): ﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾:
جاء بالاسم الظاهر دون ضمير المخاطب، مع أنّ المخاطب هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يقل: (ينهاك)، لعلّه للإشارة إلى أمور:
1- لإفادة العموم، وأنّ نهي أيّ عبد من العباد عن الصلاة وعن العبادة أمر قبيح ومذموم، ولو قال أرأيت الذي ينهاك، ربما يستفاد أنّ نهي النبي بالخصوص كان مذموماً، لأنّه نبيّ، وأمّا الآخرون فلا بأس بمنعهم عن الصلاة.
 
2- إنّ العبد مشتقّ من العبوديّة، والعابد من العبادة، فالإتيان بهذه الكلمة للإشعار بأنّ منشأ النهي للناهي هو الإتيان بوظيفة العبوديّة.
 
3- لفظ العبد، وإنْ كان نكرة ومطلقاً، إلا أنّ تنكيره لا يؤثّر في المقام، بل يفيد التفخيم والتعظيم في العبوديّة: فكأنّه يقول: لا يمكن لأحد وصف عبوديّة هذا الفرد وإخلاصه في العبوديّة.
 
وقوله تعالى: ﴿إِذَا صَلَّى﴾، ربما يُستفاد منه أنّ للصلاة خصوصيّة بين الوظائف العبوديّة وأنّها من أهمّها، فإنّ النهي والمنع عن وظيفة العبوديّة قد استفدناه من لفظ ﴿عَبْدًا﴾، بحكم مبدئيّة الاشتقاق، وبعد ذلك الإتيان بجملة ﴿إِذَا صَلَّى﴾ يعطي مزيد خصوصيّة للصلاة من بين الوظائف.



1 سبب النزول: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة وأن يُطاع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾، ثمّ قال الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، ثمّ قال: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430-431).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

118

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الآية (11): ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾:

الضمير في قوله تعالى: ﴿كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ راجع إلى العبد المصلّي. ومعنى الآية بذلك: أخبرني عن هذا الناهي إنْ كان ذاك العبد المصلّي على الهدى، كيف يكون حال هذا الناهي، وهو يعلم أنّ الله يرى؟!
 
ويمكن أن يكون الضمير راجعاً، في هذه الآية وما يلحقها من آيات في سياقها، إلى خصوص الناهي، فيكون المعنى بذلك: أليس برأيك أنّ الناهي لو كان صالحاً وكان على الهدى أو أمر بالتقوى فما أحسنه! وفي مقابل ذلك إنْ كذّب وتولّى، كما هو حاله الآن، فماذا يضرّنا؟ وإنّما ضرر فعله وخسرانه على نفسه.
 
ولكن لا بأس بالتفكيك بين مرجع الضمائر، وخصوصاً أنّ السياق والقرائن تساعد عليه1.
 
الآية (12): ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾:
مفاد الآية: أخبرني عن هذا الناهي إنْ كان ذاك العبد المصلّي آمراً بالتقوى، كيف يكون حال هذا الناهي، وهو يعلم أنّ الله يرى؟!2.
 
الآية (13): ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾:
مفاد الآية: أخبرني عن هذا الناهي إنْ تلبّس بالتكذيب للحقّ والتولّي عن الإيمان به، ونهى العبد المصلّي عن الصلاة، وهو يعلم أنّ الله يرى! هل يستحقّ إلا العذاب؟!3
 
الآية (14): ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.
2 انظر: م.ن.
3  م.ن.
تَدَبُّر: لم يُذكَر اسم الناهي في هذه الآية والآيات السابقة, لعلّه للتنبيه على أنّ العناية إنّما هي على العمل نفسه، وأنّه هو الذي يتّصف بالقبح والحسن، ليس للعامل فيه دخل سواء أكان العامل عظيماً أم حقيراً، وسواء أكان صالحاً أم غير صالح، فربّما صدرت أعمال حسنة من غير الصالحين، وبالعكس ربّما صدرت أعمال قبيحة من الصلحاء, فالحسن من الكلّ حسن، والقبح من الكلّ قبيح، وإنْ كان من بعض أحسن ومن بعض أقبح, وهذا الأصل التربويّ المهمّ في الإسلام قد روي في كثير من الموارد، وأُيّد بقول الأئمّة عليهم السلام وهداة الدين وعلمائه وبفعلهم, بأنّه لا بدّ أن يكون الأصل المذكور مورداً للتوجّه, كي لا يغترّ المتظاهرون بالصلاة، ولا ييأس المشتهرون بالسوء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

119

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 المراد بالعلم خصوص العلم الحاصل عن طريق الاستلزام، فإنّ لازم الاعتقاد بأنّ الله خالق كلّ شيء، هو الاعتقاد بأنّ له علماً بكلّ شيء، وإنْ غَفِلَ عنه. وقد كان الناهي وثنياً مشركاً. وأتباع الوثنيّة يعترفون بأنّ الله هو خالق كلّ شيء، وينزّهونه عن صفات النقص، فيرون أنّه تعالى لا يجهل شيئاً، ولا يعجز عن شيء، وهكذا.

 
فقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾: توجيه للمعتدي والناهي إلى الفطرة الإلهيّة المودعة فيه، التي تنير له طريق معرفة الله وصفاته على نحو الإجمال، وتدعوه إلى أن يتناهى عمّا يفعل، بما من شأنه أن يعيقه في سيره نحو الكمال، ولكنّ حكم الفطرة قد تعطّل بكثرة المعاصي، وحجاب الذنوب، الذي وقع على القلب، فلا يبالي بما يفعل وما يصدر منه1.
 
الآية (15): ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾:
السفع هو الجذب الشديد. وفي الآية ردع وتهديد شديد. والمعنى: ليس الأمر كما يقول ويريد الناهي، أو ليس له ذلك. أقسم لإنْ لم يكفَّ عنه نهيه، ولم ينصرف، لنأخذنّ بناصيته أخذ الذليل المهان، ونجذبنّه إلى العذاب2.
 
الآية (16): ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾:
توصيف من الله تعالى لهذه الناصية المستحقّة للتعذيب بالنار، بقوله: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾. ومن المعلوم أنّ الكذب والخطأ صفتان لصاحب الناصية، لا الناصية نفسها، وإنّما أُطلقتا عليها مجازاً، أو كما احتمله بعض المفسِّرين من أنّ الناصية التي تُطلق على مقدّم الرأس - أيضاً - لا على الشعر الموجود عليها، من الأعضاء التي يُعرَف منها: الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، فتُصبح نسبة الكذب والخطأ إليها حقيقة، كاللسان الكاذب، مع أنّ الكاذب حقيقة هو صاحب اللسان. 
 
وقيل: إنّ في قوله تعالى: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء، فكأنّ الكافر بلغ في الكذب قولاً وفي الخطأ فعلاً إلى حيث أنّ كلّاً من الكذب والخطأ ظهر من ناصيته.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.
تّدَبُّر: منشأ الطغيان أمران: الأوّل: اعتقاد الإنسان أنّه غني. والثاني: أن لا يرى الله ويظنّ بأنّ الله لا يراه.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

120

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الآية (17): ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾1:

أي قومه وعشيرته وأعوانه الذين يجتمعون في النادي. والأمر تعجيزيّ. والنادي المجلس، والمراد به أهل المجلس، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾2. وقيل: الجليس3.
 
الآية (18): ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾:
والزبانية الملائكة الموكلون بالنار. والمعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجّوه منها، سندع الزبانية الغلاظ الشداد الذين لا ينفع معهم نصر ناصر4.
 
الآية (20): ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾:
تكرار الردع، للتأكيد، وقوله: ﴿لَا تُطِعْهُ﴾، أي لا تطعه في النهي عن الصلاة، وهي القرينة على أنّ المراد بالسجود الصلاة، ولعلّ الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى والسجود له. وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الأربع في القرآن. 
 
والمراد بقوله تعالى: ﴿وَاقْتَرِبْ﴾: الاقتراب والتقرّب إلى الله. وقيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى5.



1 سبب النزول: لمّا مات أبو طالب عليه السلام، فنادى أبو جهل والوليد عليهما لعائن الله: هلمّوا، فاقتلوا محمّداً، فقد مات الذي كان ناصراً، فقال الله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، ثمّ قال: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾, أي لا يطيعون لما دعاهم إليه, لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاره مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد مناف، ولم يجسر عليه أحد. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431).
2 سورة يوسف، الآية 82.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص327.
4  انظر: م.ن.
5 انظر: م.ن.
تَدَبُّر: ضرورة البراءة أولاً من كلّ شيء من دون الله، ثمّ التولّي لله تعالى بالعبادة والطاعة.
السجود أفضل وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

121

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 بحث تفسيريّ: الخَلْق والأمر1

1- معنى الخَلْق: 
الخَلْقُ أصله: التقدير المستقيم، ويُستَعمل في إبداع الشّيء من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾2، أي: أبدعهما، بدلالة قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾3، ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، نحو: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾4، ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾5، ﴿خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾6، ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾7
 
وليس الخَلْقُ، الذي هو الإبداع، إلَّا للَّه تعالى، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾8، وأمّا الذي يكون بالاستحالة، فقد جعله اللَّه تعالى لغيره في بعض الأحوال، كعيسى عليه السلام، حيث قال: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾9
 
والخلق لا يستعمل في كافّة النّاس، إلا على وجهين:
أحدهما: في معنى التّقدير...
الثاني: في الكذب نحو قوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾10.
 
2- الفرق بين الخَلْق والأمر:
الأمر، هو الإيجاد، سواء أتعلّق بذات الشيء أم بنظام صفاته وأفعاله، فأمر ذوات الأشياء 



1 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "خَلَقَ"، ص296, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج7، ص170-172, ج8، ص151-153.
2 سورة الأنعام، الآية 1.
3 سورة البقرة، الآية 117.
4 سورة النساء، الآية 1.
5 سورة النحل، الآية 4.
6 سورة المؤمنون، الآية 12.
7 سورة الرحمن، الآية 15.
8 سورة النحل، الآية 17.
9 سورة المائدة، الآية 110.
10 سورة العنكبوت، الآية 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

122

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

إلى الله، وأمر نظام وجودها إلى الله، لأنّها لا تملك لنفسها شيئاً البتّة، والخلق هو الإيجاد عن تقدير وتأليف، سواء أكان ذلك بنحو ضمّ شيء إلى شيء، كضمّ أجزاء النطفة بعضها إلى بعض، وضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث، ثمّ ضمّ الأجزاء الغذائيّة إليها، في شرائط خاصّة، حتّى يخلق بدن إنسان مثلاً، أم من غير أجزاء مؤلّفة، كتقدير ذات الشيء البسيط، وضمّ ما له من درجة الوجود وحده، وما له من الآثار والروابط التي له مع غيره، فالأصول الأوّليّة مقدّرة مخلوقة، كما أنّ المركّبات مقدّرة مخلوقة، قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾1، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾2، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾3، فعمّم خلقه كلّ شيء. فقد اعتبر في معنى الخلق، تقدير جهات وجود الشيء وتنظيمها، سواء أكانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض، أم لا، بخلاف الأمر. ولذا كان الخلق يقبل التدريج، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾4، بخلاف الأمر، قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾5، ولذلك - أيضا ً- نسب في كلامه إلى غيره، الخلق، كقوله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا﴾6، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾7. وأمّا الأمر بهذا المعنى، فلم ينسبه إلى غيره، بل خصّه بنفسه، جعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته، كالروح الذي يحيى به الجسد، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾8، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾9، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾10، ﴿وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾11، إلى غير ذلك من الآيات، حيث تجد أنّه تعالى 



1 سورة الفرقان، الآية 2.
2 سورة طه، الآية 50.
3 سورة الزمر، الآية 62.
4 سورة الأعراف، الآية 54.
5 سورة القمر، الآية 50.
6 سورة المائدة، الآية 110.
7 سورة المؤمنون، الآية 14.
8 سورة الأعراف، الآية 54.
9 سورة الروم، الآية 46.
10 سورة النحل، الآية 2.
11 سورة الأنبياء، الآية 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

123

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 يجعل ظهور هذه الأشياء بسببيّة أمره أو بمصاحبة أمره. 

 
وخلاصة الكلام: إنّ الخلق والأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد، وإنْ كانا مختلفين بحسب الاعتبار. فإذا انفرد كلّ من الخلق والأمر صحّ أن يتعلّق بكلّ شيء، كلّ بالعناية الخاصّة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلّق بالذوات، بما أنّها أُوجِدَت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلّق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها، بالتفاعل العام بينها، لما أنّ الآثار هي التي قُدِّرت للذوات، ولا وجه لتقدير المقدَّر. ولذلك قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾1، فأتى بالعطف المُشعِر بالمغايرة بوجه، وكأنّ المُراد بالخلق، ما يتعلّق من الإيجاد بذوات الأشياء، وبالأمر ما يتعلّق بآثارها والأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها، كما ميّز بين الجهتين في أوّل الآية، حيث قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وهذا هو إيجاد الذوات، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾2، وهو إيجاد النظام الأحسن بينها، بإيقاع الأمر تلو الأمر، والإتيان بالواحد منه بعد الواحد. 



1 سورة الأعراف، الآية 54.
2 سورة يونس، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

124

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، ويوجد تسميات عدّة مشهورة لها، هي: "العلق"، و "إقرأ"، و"القلم". وهذه السورة إحدى سور العزائم الخمس، وتتضمّن 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور: القراءة والعلم/ خلق الإنسان/ العناية الإلهيّة/ طغيان الإنسان/ تقوى الإنسان/ العبوديّة/ القرب/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: اقرأ يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبتدئاً أو مستعيناً بالله ربّك، الذي خلق الإنسان، فأحسن خلقه وأتقنه، فالله كريم يفوق عطاؤه ما سواه وإليه منتهى كلّ نعمة، فهو الذي علّم الإنسان القراءة أو الكتابة، وهو قادر على أن يُعلّمك. إنّ الإنسان لظلوم كفّار، بما يتعدّاه عن حدّ العبوديّة لله تعالى، مستغنياً عن الله، غافلاً عنه وعن الرجوع إليه تعالى، متعلّقاً بالأسباب الظاهرية من دون الله. أرأيت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينهاك عن الصلاة ويُصدّك عنها بطغواه، ألا يعلم بأنّك على الهدى، فلولا التزم بالتقوى وأعرض عن نهيه وصدّه إياك لينجو من عذاب الله، ألا يعلم بأنّ الله يراه، فإنْ لم ينتهِ عن ذلك لنأخذنّه بشدّة، ولنجذبنّه إلى العذاب بهوان وذلّ، فلا يغني عنه أحد من دون الله. فلا تطعه يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسجد لربّك وتقرّب إليه.

4- إنّ الخلق والأمر يرجعان إلى معنى واحد، وهو الإيجاد، وإنْ كانا مختلفين بحسب الاعتبار. فإذا انفرد كلّ من الخلق والأمر صحّ أن يتعلّق بكلّ شيء، كلّ بالعناية الخاصّة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلّق بالذوات، بما أنّها أُوجِدَت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلّق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها، بالتفاعل العام بينها، لما أنّ الآثار هي التي قُدِّرت للذوات، ولا وجه لتقدير المقدَّر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

125

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، فكأنّما قرأ القرآن. 
- معنى "الزبانية": أهل النار. 
- المراد بـ "العلق": النطفة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

126

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

127

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تعريف بالسورة ومحاورها

اسم السورة مأخوذ من ليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم، وفق ما ورد في الآية الأولى منها.
 
وتتضمّن هذه السورة 5 آيات تحوي مجموعة من المحاور التي تدور مدار بيان أهمّيّة ليلة القدر وفضلها وبركاتها، وأهمّيّة ما نزل فيها، وفق الآتي:
1- نزول القرآن الكريم دفعة واحدة في ليلة القدر.
2- عظمة شأن ليلة القدر.
3- عظمة شأن ما نزل في ليلة القدر.
4- آثار ليلة القدر وبركاتها.
5- استمرار نزول الفيض الإلهيّ في ليلة القدر.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها أُعطِيَ من الأجر، كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر"1
 
• ما رواه الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من قرأ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ في فريضة من الفرائض، نادى مناد: يا عبد الله! قد غُفِرَ لك ما مضى، فاستأنف العمل"2
 
• ما رواه سيف بن عميرة، عن رجل، عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام: "مَنْ قرأ ﴿إِنَّا 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
2 م.ن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

128

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

أَنزَلْنَاهُ﴾ بجهر، كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرّاً، كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرّات، مرّت على نحو ألف ذنب من ذنوبه"1.
 
خصائص النزول
المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة مكّيّة، واحتمل بعضهم أنّها مدنيّة، لما روي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في منامه) بني أميّة على منبره2، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه، إنّما هو مُلك يُصيبونه، ونزلت: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (قيل: إنّ المراد بألف شهر في السورة هي مدّة حكم بني أميّة)3
 
لكن المشهور أنّ هذه السورة مكّيّة، وقد تكون الرواية من قبيل التطبيق، لا سبباً للنزول.
 
شرح المفردات
• القدر: "القاف والدال والراء أصل صحيح يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته"4.
 
• الفجر: "الفاء والجيم والراء أصل واحد وهو التفتّح في الشيء، من ذلك الفجر، انفجار الظلمة عن الصبح"5.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
2 تجدر الإشارة إلى أنّ منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُقِيمَ في مسجد المدينة، لا في مكّة.
3 السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَدَرَ"، ص62. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَدَرَ"، ص685.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "فَجَرَ"، ص475. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "فَجَرَ"، ص625-626.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

129

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تفسير الآيات

الآية (1): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾:
مرجع ضمير ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ هو للقرآن الكريم1، وظاهره جملة الكتاب العزيز، لا بعض آياته. ويؤيّد ذلك: التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة، دون التنزيل، الظاهر في التدريج. وفي معنى الآية المبحوثة، قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾2. وظاهره القسم بجملة الكتاب المبين، ثمّ الإخبار عن إنزال ما أُقسِم به جملة واحدة. فمدلول الآيات: أنّ للقرآن نزولاً جمليّاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، غير نزوله التدريجيّ، الذي تمّ في مدّة ثلاث وعشرين سنة، كما يشير إليه قوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾3، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾4. فلا يُعبأ بما قيل: إنّ معنى قوله: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: ابتدأنا بإنزاله، والمراد إنزال بعض القرآن.



1 تَدَبُّر: إنّ ضمير الجمع في الآية للدلالة على التعظيم. والتعظيم تارة يُراد منه تعظيم المتكلّم, كما هو المتعارف في الخطابات، وأخرى يُراد منه تعظيم القرآن, ويؤيّد ذلك:
- أنّ الجملة ابتدأت بحرف التحقيق والتأكيد, فتشعر الأهمّيّة من الأوّل.
- أن الله تعالى أسند الإنزال إلى نفسه, ليفهم اختصاص هذا الكتاب بذاته المقدّسة.
- الإتيان بضمير الجمع مع أنّه واحد أحد, وذلك ليدلّ هذا على عظمة المُنْزَل. ومن المعلوم أنّ ما أنزله العظيم يكون عظيماً وذا أهمّيّة لا محالة, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (سورة الكوثر، الآية 1)، ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (سورة الشرح، الآية 1).
- استعمال الضمير مكان الاسم الظاهر، مع أنّه لم يسبق لفظ القرآن، بقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, وهذا يعطي أنّ هذه الصحيفة السماوية في الشهرة والجلالة, بحيث يعرفها كلّ أحد، ويتذكّر به الجميع، وكلّ يعلم أنّ ما أنزله الله هو القرآن. فلا يحتاج إلى ذِكْر اسمه الظاهر, كما هو في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص، الآية 1), فإنّ مرجع ضمير "هو" ذاته المقدّسة, وذلك لكمال ظهوره وجلالته، فلا يحتاج إلى مرجع ظاهر في الكلام.
- أنّه قد أنزل في أفضل الأوقات وأحسنها, وهو ليلة القدر. فالإتيان بضمير الجمع للدلالة على الذات مع الصفات, ونكتة ذلك هي: تفخيم مقام الحقّ تعالى, بمبدئيّته تنزيل هذا الكتاب الشريف. ولعلّ هذه الجمعية باعتبار الجمعيّة الأسمائيّة، والإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى مبدأ لهذا الكتاب الشريف لجميع الشؤون الأسمائيّة والصفاتيّة، ولهذه الجهة كان هذا الكتاب الشريف صورة أحديّة جمع جميع الأسماء والصفات، ومعرّفاً لمقام الحقّ المقدّس, بجميع الشؤون والتجلّيات.
2 سورة الدخان، الآيتان 2 - 3.
3 سورة الإسراء، الآية 106.
4 سورة الفرقان، الآية 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

 


130

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 وليس في كلامه تعالى ما يُحدّد خصوص هذه الليلة، غير ما في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾1، فإنّ الآية، بانضمامها إلى آية سورة القدر، تدلّ على أنّ هذه الليلة من ليالي شهر رمضان2. وأمّا تعيينها أزيد من ذلك، فمستفاد من الأخبار، ومنها:

- ما رواه حمّاد بن عثمان، عن حسان بن أبي علي، قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن ليلة القدر، قال: "اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين"3.
 
- ما رواه عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أحدهما (الباقر والصادق) عليهما السلام، قال: سألته عن الليالي التي يُستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان؟ فقال: "ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني (اسم الجهني: عبد الله بن أنيس الأنصاريّ)، وحديثه أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين"4.
 
- ما رواه الكليني، بإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن ابن بكير، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: "التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"5.
 
وقد ذكر المفسِّرون معانٍ عدّة للقدر، أبرزها:
• أنّ القدر، بمعنى المنزلة، وإنّما سُمّيت ليلة القدر، للاهتمام بمنزلتها، أو منزلة المتعبّدين فيها. 
 
• أنّ القدر، بمعنى الضيق. وسمّيت ليلة القدر، لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة.
 
• أنّ القدر، بمعنى التقدير، فهي ليلة التقدير، يُقدِّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها، من قابل، من حياة، وموت، ورزق، وسعادة، وشقاء، وغير ذلك، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الدخان في صفة هذه الليلة: 
 
• ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ 



1 سورة البقرة، الآية 185.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص330-331.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص407.
4 الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ج2، ح2031، ص161.
5 الكليني، الكافي، م.س، ج4، من أبواب السفر، باب في ليلة القدر، ح9، ص159.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

131

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1، فليس فرق الأمر الحكيم، إلا إحكام الحادثة الواقعة، بخصوصيّاتها، بالتقدير. وهذا ما يُفيده ظهور الآيات المتقدّمة في أنّ المراد بالقدر خصوص التقدير، لا الضيق، ولا المنزلة.

 
ويُستفاد من هذه الآيات أنّ الليلة متكرّرة بتكرّر السنين، ففي شهر رمضان من كلّ سنة قمريّة ليلة تُقدَّر فيها أمور السنة، من الليلة إلى مثلها، من قابل، إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تُقدَّر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها، وإنْ صحّ فرض ليلة واحدة من ليالي القدر المتكرّرة ينزل فيها القرآن جملة واحدة. على أنّ قوله تعالى: ﴿يُفْرَقُ﴾ - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، وقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾، تؤيّد ذلك.
 
وقد روي عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنّه قال: قلت يا رسول الله! ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء، ينزل فيها، فإذا قبضوا رفعت. قال: "لا، بل هي إلى يوم القيامة"2.
 
وعليه، فلا وجه لما سيق من أقوال أخرى في هذا الصدد، من: 
• أنّها كانت ليلة واحدة بعينها، نزل فيها القرآن من غير أن يتكرّر. 
• أنّها كانت تتكرّر بتكرّر السنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ رفعها الله.
• أنّها واحدة بعينها في جميع السنة.
• أنّها في جميع السنة غير أنّها تتبدّل، بتكرّر السنين، فسنة في شهر رمضان، وسنة في شعبان، وسنة في غيرهما.
 
فمحصّل الآيات: أنّها ليلة بعينها من شهر رمضان، من كلّ سنة، فيها إحكام الأمور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغيّر فيها، بحسب التحقّق في ظرف السنة، فإنّ التغيّر في كيفية تحقّق المقدّر أمر، والتغيّر في التقدير أمر آخر، كما أنّ إمكان التغيّر في الحوادث الكونيّة بحسب المشيئة الإلهيّة لا ينافي تعيّنها في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾3.4



1 سورة الدخان، الآيات 4 - 6.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص406.
3 سورة الرعد، الآية 39.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص331-332.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

132

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الآية (2): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾:

بيان جلالة قدر الليلة وعِظَم منزلتها. ويؤكّد ذلك: إظهار الاسم مرّة بعد مرّة، حيث قيل: ﴿مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ ...﴾1.
 
ويؤيّد ذلك ما روي من أنّ الله يُقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث، من موت، أو حياة، أو خصب، أو جدب، أو خير، أو شرّ، كما قال الله فيها: يفرق كلّ أمر حكيم إلى سنّة2.
 
الآية (3): ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾3:
بيان إجمالي لما أشير إليه بقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، من فخامة أمر الليلة. والمراد بكونها خيراً من ألف شهر، خيريّتها منها، من حيث فضيلة العبادة، وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله، فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، ويمكن أن يُستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾4.5
 
وروي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نومه، كأنّ قروداً تصعد منبره، فغمّه ذلك، فأنزل الله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ تملكه بنو أميّة، ليس فيها ليلة قدر6. وهذه الرواية واردة مورد التفسير بالتطبيق.
 
الآية (4): ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
2 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
3 سبب النزول:
- روي أنّه كان في بني إسرائيل رجل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فلم يضعه عنه، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فعجبوا من قوله، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, يقول الله: ليلة القدر خير لكم من تلك الألف شهر التي لبس ذلك الرجل فيها السلاح في سبيل الله، فلم يضعه عنه. (ابن جبر، مجاهد: تفسير مجاهد، تحقيق: عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي، لا.ط، إسلام آباد، مجمع البحوث الإسلامية، لا.ت، ج2، ص773).
- روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فأتاه جبريل، فقال: "يا محمد! عجبت أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة؟! فقد أنزل الله خيراً من ذلك، فقرأ عليه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, هذا أفضل ممّا عجبت أنت وأمّتك"، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس معه. (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371).
4 سورة الدخان، الآية 3.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
6 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

133

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تنزّل، أصله تتنزّل، فحذفت إحداهما للتخفيف، وهي من باب التفعّل. وباب التفعّل، للدلالة على التدريج. فعلى هذا معنى تنزّل الملائكة هو: النزول فوجاً بعد فوج. وما يستفاد من موارد استعماله أنّه للاستمرار، وأمّا التدريج فإنّه ربّما يلازم الاستمرار. فعلى هذا تفيد ﴿تَنَزَّلُ﴾ معنى الاستمرار، وأنّ نزول الملائكة مستمرّ في كلّ سنة، كما أنّ ليلة القدر في كلّ سنة.

 
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكّان aسدرة المنتهى، ومنهم جبرائيل، فينزل جبرائيل عليه السلام ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمناً، ولا مؤمنة، إلا سلّم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمخ1 بالزعفران"2.
 
وروي أنّه قيل للإمام أبي جعفر (الباقر) عليه السلام: تعرفون ليلة القدر؟ فقال: "وكيف لا نعرف ليلة القدر! والملائكة يطوفون بنا فيها!"3.
 
والظاهر من ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو الروح الذي من الأمر، قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾4
 
والإذن في الشيء: الرخصة فيه، وهو إعلام عدم المانع منه.
 
و "مِنْ" في قوله: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، قيل فيها معانٍ: 
- أنّها بمعنى الباء.
- أنّها لابتداء الغاية، وتفيد السببيّة، أي بسبب كلّ أمر إلهيّ.
- أنّها للتعليل بالغاية، أي لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور.
 
والحقّ أنّ المراد بالأمر: 
- إنْ كان هو الأمر الإلهيّ المفسّر بقوله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾5، فـ "من" للابتداء، وتفيد السببيّة، ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في



1 التضمخ: التلطّخ بالطيب وغيره والإكثار منه.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص408-409.
3 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431-432.
4 سورة الإسراء، الآية 85.
5 سورة يس، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

134

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 ليلة القدر بإذن ربّهم، مبتدء تنزّلهم صادراً من كلّ أمر إلهيّ.

 
- وإنْ كان هو الأمر من الأمور الكونيّة والحوادث الواقعة، فـ "من"، بمعنى اللام التعليلية، ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربّهم، لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور الكونيّة1.
 
الآية (5): ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾: 
المراد: أنّ هذه الليلة سلامة، حيث قُدِّم الخبر، ليفيد الحصر، أيّ: ما هي إلّا سلامة، وكلّ ما ينزل في هذه الليلة، إنّما هو سلامة ونفع وخير. والليلة ليست السلامة نفسها، وإنّما هي ظرف لها، ومع ذلك وُصِفَت بالسلامة، للمبالغة في اشتمالها عليها. 
 
وقيل: ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يُسلّمون فيها على المؤمنين. وهذا السلام مستمرّ، أو هذه السلامة مستمرّة إلى أن يطلع الفجر. أو أنّ "حَتَّى" متعلّقة بتنزّل، أي تنزّل الملائكة والروح، حتّى مطلع الفجر.
 
وقيل: إنّها تحيّة يُحيّى بها الإمام عليه السلام إلى أنْ يطلع الفجر2.
 
وعلى أيّ من المعاني المتقدّمة، ففي الآية إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسدّ باب نقمة جديدة تختصّ بالليلة، ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين3.
 
بحث تفسيري: حقيقة القرآن4
إنّ كون القرآن ذو حقيقة محكمة عالية وراء كونه مفصّلاً بثوب الألفاظ، هو اللائح من الآيات الكريمة، ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾5، فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة، فالإحكام



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
2 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص333.
تفسير بالمصداق: في الحديث, أنّها تحية يُحيّى بها الإمام إلى أنْ يطلع الفجر. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج2، ص16-19, ج18، ص83-84.
5 سورة هود، الآية 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

135

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل. 

 
2- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولaُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾1، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ... بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾2، فإنّ الآيات الشريفة، وبخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طار على الكتاب، فالكتاب نفسه شيء، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر. وإنّهم إنّما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب، لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة. وفي الآية إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب. 
 
3- قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾3، فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عَرَضَ عليه جعله مقرؤاً عربياً، وإنّما أُلبِسَ لباس القراءة والعربية ليعقله الناس، وإلا فإنّه - وهو في أم الكتاب - عند الله، علي، لا يصعد إليه العقول، حكيم، لا يوجد فيه تفصيل. وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين. 
 
4- قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ  * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ *  لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾4، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهّرون من عباد الله، وإنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في



1 سورة الأعراف، الآيتان 52 - 53.
2 سورة يونس، الآيتان 37 - 39.
3 سورة الزخرف، الآيات 2 - 4.
4 سورة الواقعة، الآيات 75 - 80.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

136

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 كتاب مكنون عن الأغيار، وهو الذي عُبِّر عنه في آيات الزخرف بـ "أمّ الكتاب"، وفي سورة البروج بـ "اللوح المحفوظ"، حيث قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾1،2 وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً، لحفظه من ورود التغيّر عليه، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجياً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك. 

 
وبالجملة، فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.



1 سورة البروج: الآية 22.
2 سورة البروج، الآيتان 21 - 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

 


137

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 5 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نزول القرآن الكريم/ ليلة القدر/ نزول الفيض الإلهيّ/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: إنّا أنزلنا القرآن نزولاً إجماليّاً دفعياً على قلبك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر، وهي ليلة مباركة من شهر رمضان، وهذا النزول هو غير تنزيله تدريجيّاً على قلبك طيلة مدّة بعثتك الشريفة، ففي هذه الليلة تُقدّر الأمور للسنة اللاحقة، من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء، وتتنزّل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، فمن أحياها بالعبادة والدعاء شملته العناية الإلهيّة. وهذه الليلة مستمرّة التنزّل في كلّ سنة.

4- إنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبيصلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبيصلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

138

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، أُعطي من الأجر كمن صام شهر رمضان. 
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "خير من ألف شهر": أنّ العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156