هدى القرآن


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-01

النسخة: 2015


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

11

المقدّمة

11

الاستفادة من القرآن

13

الأهداف والغايات

14

السياسات العامّة

15

مصطلحات مفتاحيّة

17

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

19

تعريف بالسورة ومحاورها

19

فضيلة السورة

20

خصائص النزول

21

شرح المفردات

23

تفسير الآيات

36

بحث تفسيريّ: التسبيح

41

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

43

تعريف بالسورة ومحاورها

43

فضيلة السورة

44

خصائص النزول

44

شرح المفردات

45

تفسير الآيات

52

بحث تفسيريّ: النفس

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

57

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

59

تعريف بالسورة ومحاورها

59

فضيلة السورة

60

خصائص النزول

61

شرح المفردات

62

تفسير الآيات

70

بحث تفسيريّ: طرق معرفة الله تعالى

77

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

79

تعريف بالسورة ومحاورها

79

فضيلة السورة

80

خصائص النزول

81

شرح المفردات

82

تفسير الآيات

88

بحث تفسيريّ: الربوبيّة

95

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

97

تعريف بالسورة ومحاورها

97

فضيلة السورة

97

خصائص النزول

98

شرح المفردات

99

تفسير الآيات

103

بحث تفسيريّ: التوحيد الأفعاليّ

109

الدرس السادس: تفسير سورة التين

111

تعريف بالسورة ومحاورها

111

فضيلة السورة

111

خصائص النزول

112

شرح المفردات

113

تفسير الآيات

117

بحث تفسيريّ: خلق الإنسان وتكوينه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

123

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

125

تعريف بالسورة ومحاورها

125

فضيلة السورة

126

خصائص النزول

127

شرح المفردات

128

تفسير الآيات

137

بحث تفسيريّ: الخَلْق والأمر

143

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

145

تعريف بالسورة ومحاورها

145

فضيلة السورة

146

خصائص النزول

146

شرح المفردات

147

تفسير الآيات

152

بحث تفسيري: حقيقة القرآن

157

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

159

تعريف بالسورة ومحاورها

159

فضيلة السورة

160

خصائص النزول

160

شرح المفردات

161

تفسير الآيات

167

بحث تفسيري: دور الدين في صيانة مسير التكامل الإنسانيّ وترشيده

173

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

175

تعريف بالسورة ومحاورها

175

فضل السورة

176

خصائص النزول

176

شرح المفردات

177

تفسير الآيات

180

بحث تفسيري: المجازاة وتجسّم الأعمال

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

185

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

187

تعريف بالسورة ومحاورها

187

فضيلة السورة

188

خصائص النزول

189

شرح المفردات

191

تفسير الآيات

195

بحث تفسيري: موقع أشراط الساعة وحوادثها في السير الوجودي للإنسان

201

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

203

تعريف بالسورة ومحاورها

203

فضل السورة

203

خصائص النزول

204

شرح المفردات

205

تفسير الآيات

208

بحث تفسيري: حقيقة ميزان العدل الأخرويّ

215

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

217

تعريف بالسورة ومحاورها

217

فضيلة السورة

218

خصائص النزول

218

شرح المفردات

219

تفسير الآيات

224

بحث تفسيري: دور العلم والمعرفة في تكامل الإنسان

229

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

231

تعريف بالسورة ومحاورها

231

فضيلة السورة

231

خصائص النزول

232

شرح المفردات

232

تفسير الآيات

236

بحث تفسيري: الإسلام والإيمان ومراتبهما الوجوديّة

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

243

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

245

تعريف بالسورة ومحاورها

245

فضيلة السورة

245

خصائص النزول

246

شرح المفردات

247

تفسير الآيات

250

بحث تفسيري: مراتب النار الأخرويّة

255

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

257

تعريف بالسورة ومحاورها

257

فضيلة السورة

258

خصائص النزول

258

شرح المفردات

259

تفسير الآيات

262

بحث تفسيري: خصائص الصلاة وآثارها التربويّة والوجوديّة على تكامل الإنسان

269

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

271

تعريف بالسورة ومحاورها

271

فضيلة السورة

272

خصائص النزول

273

تفسير الآيات

276

بحث تفسيري: حقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والوجوديّة على الإنسان

283

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

285

تعريف بالسورة ومحاورها

285

فضيلة السورة

286

خصائص النزول

282

شرح المفردات

288

تفسير الآيات

290

بحث تفسيريّ: العبوديّة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9


5

الفهرس

 

297

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

299

تعريف بالسورة ومحاورها

299

فضيلة السورة

300

خصائص النزول

300

شرح المفردات

301

تفسير الآيات

302

بحث تفسيريّ: التوبة والاستغفار

309

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

311

تعريف بالسورة ومحاورها

312

فضيلة السورة

313

خصائص النزول

314

شرح المفردات

315

تفسير الآيات

321

بحث تفسيريّ: التوحيد

329

الدرس الحادي والعشرون: تفسير سورة الفلق

331

تعريف بالسورة ومحاورها

331

فضيلة السورة

332

خصائص النزول

333

شرح المفردات

334

تفسير الآيات

336

بحث تفسيريّ: الخير والشرّ

341

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

343

تعريف بالسورة ومحاورها

343

فضيلة السورة

344

خصائص النزول

344

شرح المفردات

344

تفسير الآيات

348

بحث تفسيريّ: الألوهيّة

353

مصادر الكتاب ومراجعه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10


6

المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى, محمّد وآله الطاهرين عليهم السلام، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
 
الاستفادة من القرآن
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾1.
 
البيّنات هي خصوص الشواهد والدلائل النيّرة التي ضمّنها الله تعالى في القرآن الكريم, ليستفيد منها طائفة خاصّة من الناس, وهم خاصّة أهل العلم والعمل, المستعدّين في أنفسهم لنيل الهداية الإلهيّة الخاصّة: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2، بعد أنْ كان القرآن هدى لطائفة أخرى, هي طائفة أدنى من طائفة أهل العلم والعمل, ليس بمقدورها إدراك الحقائق النوارنيّة, بالحجّة والبرهان، بل بالتقليد والاتّباع: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾3،4.



1 سورة البقرة، الآية 185.
2 سورة المائدة، الآية 16.
3 سورة العنكبوت، الآية 43.
4 انظر: الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، ج2، ص23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

 وقد حدّد الإمام الخميني قدس سره طريق الاستفادة من القرآن الكريم، حيث قال: لا بدّ لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهمّ يُكشَفُ لكَ بالتوجّه إليه طريقُ الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم, وهو: أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهيّ نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة، وترى نفسك موظّفة على التعلّم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلّم والإفادة والاستفادة: أن تتعلّم منه الجهات الأدبيّة والنحو والصرف، أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانيّة والبديعيّة، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطّلاع على الأمم السالفة، فإنّه ليس شي‏ء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن, وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل. وليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفاسير, فإنّ كلّ واحد من المفسِّرين تحمّل المشاق الكثيرة والأتعاب التي لا نهاية لها حتى صنَّف كتاباً شريفاً، فللّه درّهم، وعلى الله أجرهم، بل مقصودنا هو: أنّه لا بدّ وأن يُفتَح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف, الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى، والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبية. فعلى العلماء والمفسِّرين أن يكتبوا التفاسير، وليكن مقصودهم: بيان التعاليم والمقرّرات العرفانيّة والأخلاقيّة، وبيان كيفيّة ربط المخلوق بالخالق، وبيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود, على نحو ما أُودِعَت في هذا الكتاب الشريف، فصاحب هذا الكتاب ليس هو السكّاكي, فيكون مقصده جهات البلاغة والفصاحة، وليس هو سيبويه والخليل, حتى يكون منظوره جهات النحو والصرف، وليس المسعودي وابن خلّكان, حتى يبحث حول تاريخ العالم... هذا الكتاب ليس كعصى موسى عليه السلام ويده البيضاء، أو نفس عيسى عليه السلام الذي يُحيي الموتى, فيكون للإعجاز فقط، وللدّلالة على صدق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هذه الصحيفة الإلهيّة كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبديّة العلميّة والمعارف الإلهية. هذا كتاب الله يدعو إلى الشؤون الإلهيّة، فالمفسِّر، لا بدّ وأن يعلم الشؤون الإلهيّة، ويُرجِع الناس إلى تفسيره, لتعلُّم الشؤون الإلهيّة, حتى تتحصّل الاستفادة منه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾1. فأيّ خسران أعظم من أن نقرأ الكتاب 




1 سورة الإسراء، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 الإلهي منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ونراجع التفاسير، ونحرم مقاصده: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾1"2.

 
ومن هذا المنطلق، سعى مركز نون للتأليف إلى استنفار الجهود والطاقات لإصدار سلسلة دراسات تُعنى بدراسة القرآن الكريم وعلومه، واستكشاف معارفه ومقاصده، وإيصالها إلى أذهان طلّاب العلوم الدينيّة والمثقّفين بأسلوب تعليمي هادف, فكان هذا الكتاب "دروس في تفسير القرآن" أحد الجهود المبذولة على هذا الطريق، بعد صدور الكتاب السابق "دروس في علوم القرآن".
 
الأهداف والغايات
يتوخّى هذا الكتاب تحقيق الأهداف الآتية:
- تعزيز الارتباط الروحي والوجداني والفكري بالقرآن الكريم.
 
- تفسير بعض سور القرآن الكريم وبيان مقاصدها.
 
- الاطّلاع على خصائص هذه السور وما تحويه من محاور ومواضيع مطروحة وتسييلها في السلوك الفردي والاجتماعي.
 
- تسهيل عملية تناول تفسير القرآن الكريم, بأسلوب تعليمي هادف.
 
ولتحقيق هذه الأهداف والغايات، جرى اعتماد تقسيم كلّ درس إلى تسعة أقسام، هي:
• أولاً: آيات السورة: وفيه إيراد لنصّ الآيات التي تتضمّنها السورة.
 
• ثانياً: تعريف بالسورة ومحاورها: وفيه بيان لأسماء السورة وعدد آياتها ومحاورها المطروحة.
 
• ثالثاً: فضيلة السورة: وفيه بيان لما ورد في الروايات في فضل السورة وثواب قراءتها وتعلّمها وتعليمها. 



1 سورة الأعراف، الآية 23.
2 الخميني، روح الله: الآداب المعنويّة للصلاة، تحقيق ونشر لجنة إحياء تراث الإمام الخميني قدس سره، لا.ط، طهران، لا.ت، ص332-333.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المقدمة

 • رابعاً: خصائص النزول: وفيه بيان لما احتفّ بنزول السورة من قرائن تتعلّق ببيئة نزولها, من سبب نزولها، أو شأن نزولها، أو مكان نزولها، أو زمان نزولها، أو ثقافة عصر نزولها.


• خامساً: شرح المفردات: وفيه بيان لمعاني بعض المفردات الواردة في السورة, بالرجوع إلى المعاجم اللغويّة والقرآنيّة.

• سادساً: تفسير الآيات: وفيه بيان للمعنى والمفهوم التفسيريّ الاصطلاحي للآية والمقطع القرآني، مع إيراد التفسير المصداقي والتأويل والتدبّر وأسباب نزول الآيات وشأنه في الحاشية, بهدف تمييزها عن المعنى التفسيري الاصطلاحي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم التدبّرات الموجودة في هامش الكتاب مأخوذة من البحث التفسيري في الكتب الآتية: (تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي/ تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ تفسير النور للشيخ محسن قراءتي/ دروس من القرآن للشهيد مطهّري/ دروس في تفسير القرآن الكريم للسيد الفهري). 

• سابعاً: بحث تفسيريّ: ويعالج فيه موضوعاً من المواضيع المطروحة في السورة, بمنهج تفسيري موضوعي، مع مراعاة الاختصار وعدم التفصيل فيه, تناسباً مع حجم الدرس.

• ثامناً: الأفكار الرئيسة: ويتضمّن خلاصة الأفكار المطروحة في الدرس.

• تاسعاً: فكّر وأَجِبْ: ويحوي نمطين من الأسئلة الاختبارية (أَجِبْ بصحّ أو خطأ / أَجِبْ باختصار).

السياسات العامّة
حرص الكتاب - قدر الإمكان - على مراعاة مجموعة من السياسات العلميّة والمنهجيّة والفنّيّة، هي: 
• الاستفادة قدر الإمكان من فكر علماء الإماميّة، من المتقدّمين والمتأخّرين وتسييله داخل الدروس.

• الحرص على دراسة أبرز الآراء التفسيريّة وأشهرها في تفسير القرآن الكريم.

• إسناد الأقوال والروايات المنقولة في الكتاب إلى مصادرها الأساس على الأعمّ الأغلب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

المقدمة

 • تقسيم الكتاب إلى اثنين وعشرين درساً.


• مراعاة التقارب - قدر الإمكان - في عدد صفحات كلّ درس.

مصطلحات مفتاحيّة
يوجد مجموعة من المصطلحات الواردة في الكتاب، هي بمثابة مصطلحات مفتاحيّة للبحث التفسيري، وهي:
1- خصائص النزول: هي مجموعة العوامل ذات الصلة بنزول الوحي القرآني، كسبب النزول، وشأن النزول، ومكان النزول، وزمان النزول، وثقافة عصر النزول.

2- سبب النزول: هو كلّ ما يتّصل بنزول الآيات القرآنيّة من القضايا والحوادث التي صاحبت نزول القرآن الكريم أو أعقبته.

3- شأن النزول: هو حدث نزل فيه شيء من القرآن الكريم. والنسبة بينه وبين سبب النزول هي العموم والخصوص من وجه. ومن وجوه الفرق بينهما: أنّ سبب النزول يُبيّن مشكلة حاضرة في عصر النزول لحادثة عارضة، بينما يُبيّن شأن النزول مشكلة أمر واقع، سواء أكانت حاضرة أم غابرة.

4- زمن النزول ومكانه (المكي والمدني): المكّي، هو كلّ ما نزل من القرآن قبل الهجرة النبويّة المباركة، والمدنّي، هو كلّ ما نزل بعدها.

5- التفسير بالمفهوم: الكشف عن المعاني المستورة والمحتبسة تحت الألفاظ.

6- التفسير بالمصداق: هو تفسير الآية، وفق مورد نزولها، في سبب أو حادثة خاصّة، بحقّ فرد أو أفراد معيّنين. وأمّا التفسير بالجري والانطباق، فيكون بتطبيق حكم الآية على جميع الموارد التي تشترك في خصوصيّاتها مع مورد نزول الآية.

7- التأويل: هو الحقيقة الواقعيّة العينيّة التي تستند عليها البيانات القرآنيّة. 

8- التّدَبُّر: هو تأمّل عقليّ ذاتيّ دقيق وعميق في تعابير القرآن الكريم، للحصول على نكات دقيقة، تربويّة وأخلاقيّة وعقديّة وغيرها، وذلك ضمن ضوابط وشروط مرعيّة الإجراء، مع كون هذه النكات احتماليّة تبقى في دائرة الرؤية ووجهة النظر الخاصّة بالمتدبّر، ولا يمكن نسبتها على نحو الجزم إلى المراد الإلهيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

المقدمة

 9- السياق: هو الإطار العام الذي يكتنف مجموعة من الكلمات والعبارات والجُمَل، بحيث يُشكّل قرينة في تحديد معاني الألفاظ ووجهة العبارات.

 
10- القرائن التفسيريّة: كلّ ما ارتبط بالكلام ارتباطاً لفظيّاً أو معنويّاً، وكان له أثر فاعل في استيعاب الكلام وفهم مراد المتكلّم، سواء أكان متّصلاً بالكلام (القرينة المتّصلة) أم منقطعاً عنه (القرينة المنفصلة)، وسواء أكان من سنخ الألفاظ (القرينة اللفظيّة) أم من غير سنخ الألفاظ (القرينة اللبّيّة والعقليّة).
 
وحتى نكون موضع عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه"1، نضع بين أيديكم هذا الجهد المتواضع، عسى أن يتقبّله الله - تعالى -، ويكون خطوة في طريق العودة إلى القرآن والاستفادة منه.
 
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة



1 الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق، ح739, 740، ص357.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى * سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالأعلى، لورود ذكرها في مستهلّ السورة، وقد جرت سيرة المسلمين على تسمية بعض السور باسم مفتتحها. وهذه السورة آخر سور "المسبّحات".
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- تسبيح الربّ من لوازم محض ربوبيّة الربّ وعبوديّة العبد.
2- ترتّب الهداية التشريعيّة على الهداية التكوينيّة.
3- إيجاد بيئة قَبول الهداية التشريعيّة.
4- حفظ الأنبياء والرسل عليهم السلام وصيانتهم عن الخطأ في إيصال الهداية إلى الناس.
5- حقيقة تزكية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
6- حقيقة تدسية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
7- فناء الدنيا وزوالها، وبقاء الآخرة ودوامها.
8- وحدة الدين، على اختلاف شرائعه، في هداية الإنسان إلى الله تعالى.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم"1
 
• ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ هذه السورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى: ميكائيل". 



1 الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، تقديم: محسن الأمين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م، ج10، ص326.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

14

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • ما رواه أبو بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قرأ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت"1.

 
• ما رواه أبو حميصة، عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "صلّيت خلفه عشرين ليلة. فليس يقرأ إلا ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾. وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة. إنّ مَنْ قرأها فكأنّما قرَأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى"2
 
• ما رواه عقبة بن عامر الجهنيّ أنّه: لمّا نزلت: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾3، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعلوها في ركوعكم". ولمّا نزلت: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾4، قال: "اجعلوها في سجودكم"5.
 
خصائص النزول
اختلف المفسّرون في مكان نزول هذه السورة وزمانه، على ثلاثة أقوال6، هي:
1- مكّيّة السورة، وهو قول مشهور المفسّرين. ويؤيّده: انطباق خصائص السور المكّيّة عليها، بلحاظ قصر مقاطع آياتها، وطبيعة أسلوبها وخطابها ولحنها ومحاورها المطروحة.
 
2- مدنيّة السورة، حيث ورد فيها ذِكْر زكاة الفطرة وصلاة العيد، بدلالة بعض الروايات التفسيريّة، وهما لم يُشرَّعان إلا بعد الهجرة النبويّة، أي في المرحلة المدنيّة.
 
3- مكّيّة أولها ومدنيّة آخرها، حيث إنّ سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ وأمّا ذيلها، وهو قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، بقرينة الروايات التفسيريّة، فهو مدنيّ.



1 الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، تقديم: محسن الأمين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م، ج10، ص326
2 م.ن.
3 سورة الواقعة، الآيتان 74 و 96، وسورة الحاقة، الآية 52.
4 سورة الأعلى، الآية 1.
5 م.ن.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص326, السيوطي، جلال الدين: الدر المنثور، لا.ط، بيروت، دار المعرفة، لا.ت، ج6، ص337-339, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص264.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

15

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 وواقع الحال أنّ الوجه الأوّل هو الأوفق من بين الأقوال المطروحة، لما تقدّم ذِكره من مؤيّدات، أضف إلى ذلك: 

• أنّ الأمر بالزكاة والصلاة عامّان، فيمكن حمل الروايات الواردة في زكاة الفطرة وصلاة العيد على التطبيق.
 
• أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسّرين.
 
شرح المفردات
• سَبِّحِ: السين والباء والحاء أصلان، أحدهما: جنس من العبادة، والآخر: جنس من السعي. فالأوّل: السبحة، وهي الصلاة، ويختصّ بذلك ما كان نفلاً غير فرض... ومن الباب التسبيح، وهو تنزيه الله جلّ ثناؤه من كلّ سوء. والتنزيه، التبعيد"1. وجُعِل التسبيح في فعل الخير، كما جُعِل الإبعاد في الشّرّ، فقيل: أبعده اللَّه. وجُعِلَ التَّسْبِيحُ عامّاً في العبادات، قولاً كان، أم فعلاً، أم نيّة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ﴾2، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾3، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾4، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾5... والأشياء كلُّها تُسبّح له وتسجد، بعضها بالتّسخير وبعضها بالاختيار"6.
 
• قَدَّرَ: "القاف والدال والراء أصل صحيح، يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كلّ شيء"7. و"القَدْرُ والتَّقْدِيرُ: تبيين كمّيّة الشيء... وتَقْدِيرُ الله على وجهين: 



1 ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، لا.ط، لا.م، مكتبة الإعلامي الإسلامي، 1404هـ.ق، ج3، مادّة "سَبَحَ"، ص125.
2سورة الصافات، الآية 143.
3 سورة البقرة، الآية 30.
4 سورة غافر، الآية 55.
5 سورة الإسراء، الآية 44.
6 الأصفهاني، حسين (الراغب): مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط2، قم المقدّسة، طليعة النور, مطبعة سليمانزاده، 1427هـ.ق، مادّة "سَبَحَ"، ص392-393.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَدَرَ"، ص62.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

16

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 أحدهما: بالحكم منه، أن يكون كذا أو لا يكون كذا، إمّا على سبيل الوجوب، وإمّا على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾1. والثاني: بإعطاء الْقُدْرَةِ عليه... وقوله: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾2، أي: أعطى كلّ شيء ما فيه مصلحته، وهداه لما فيه خلاصه، إمّا بالتّسخير، وإمّا بالتّعليم، كما قال: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾3"4. والثاني يرجع إلى الأوّل. فتدبَّر.

 
• غُثَاءً: "الغين والثاء أصل صحيح يدلّ على فساد في الشيء"5. و"قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾6، أي أهلكناهم، فذهبنا بهم، كما يذهب السيل الغثاء، والغثاء بالضم والمد: ما يجيء فوق السيل ممّا يحمل من الزبد والوسخ وغيره. قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾، أي يابساً"7.
 
• أَحْوَى: "الحاء والواو وما بعده معتلّ أصل واحد، وهو الجمع"8. و "قيل: الحوّة: شدّة الخضرة التي تميل إلى السواد، فقوله تعالى: ﴿غُثَاء أَحْوَى﴾، أي أسود ليس بشديد السواد"9.
 
• يَصْلَى: "الصاد واللام والحرف المعتلّ أصلان، أحدهما: النار وما أشبهها، من الحمى، والآخر: جنس من العبادة"10. و"أصل الصَّلْي الإيقادُ بالنار، ويقال: صَلِيَ بالنار وبكذا، أي: بلي بها، واصْطَلَى بها، وصَلَيْتُ الشاةَ: شويتها، وهي مَصْلِيَّةٌ. قال تعالى: ﴿اصْلَوْهَا



1 سورة الطلاق، الآية 3.
2 سورة الأعلى، الآية 3.
3 سورة طه، الآية 50.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَدَرَ"، ص658-659.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَثّ"، ص379.
6 سورة المؤمنون، الآية 41.
7 الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، نشر مرتضوي, مطبعة چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش، ج1، مادّة "غَثَا"، ص312.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "حَوَى"، ص112.
9 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "حَوَا"، ص139, الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "حَوَا"، ص112.
10 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "صَلَى"، ص300.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

17

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الْيَوْمَ﴾1، وقال: ﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾2، ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾3، ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾4، ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾5"6.

 
• تَزَكَّى: "الزاء والكاف والحرف المعتلّ أصل، يدلّ على نماء وزيادة"7. و"أصل الزَّكَاةِ: النّموّ الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخرويّة... وتَزْكِيَةُ الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل، وهو محمود وإليه قصد بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾8، وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾9. والثاني: بالقول، كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أنْ يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه، فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾10، ونهيه عن ذلك، تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً"11.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾: 
المُرَاد بالأعلى، الذي يعلو كلّ عال، ويقهر كلّ شيء، وهو واقع موقع صفة "ربّك" دون الاسم.
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• أي قل: "سبحان ربّي الأعلى".
 
• صلِّ باسم ربّك الأعلى.
 
• تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى، من الصفات المذمومة والأفعال القبيحة، لأنّ التسبيح هو التنزيه لله عمّا لا يليق به.



1 سورة يس، الآية 64.
2 سورة الأعلى، الآية 12.
3 سورة الغاشية، الآية 4.
4 سورة الانشقاق، الآية 12.
5 سورة النساء، الآية 10.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "صَلا"، ص490.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "زَكَى"، ص17.
8 سورة الشمس، الآية 9.
9 سورة الأعلى، الآية 14.
10 سورة النجم، الآية 32.
11 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "زَكَا"، ص380-381.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

18

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى، بأن لا يؤوَّل ما ورد منها من غير مقتضٍ، ولا يبقى على ظاهره إذا كان ما وُضِعَ له لا يصحّ له تعالى، ولا يطلقه على غيره تعالى، إذا كان مختصّاً به تعالى، كاسم الجلالة، ولا يتلفّظ به في محلّ لا يُناسبه، كبيت الخلاء، وعلى هذا القياس.

 
• أمرٌ، بتنزيه اسمه تعالى وتقديسه، وبلحاظ تعليق التنزيه على الاسم - وظاهر اللفظ دالّ على المسمّى - والاسم إنّما يقع في القول، فيكون تنزيهه تعالى، بأنْ لا يُذْكَر معه ما هو تعالى منزّه عنه، كذِكْر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبيّة إليهم، وكذِكْر بعض ما يختصّ به تعالى، كالخلق والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة ونحوها، ونسبته إلى غيره تعالى، أو كذِكْر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى، من الأفعال، كالعجز والجهل والظلم والغفلة، وما يُشبهها، من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
والقول الأخير هو الأوسع والأشمل والأنسب لسياق قوله تعالى الآتي: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة والتبليغ، فبُدِئ أولاً بإصلاح كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وتجريده عن كلّ ما يُشعر بجليّ الشرك وخفيّة أمره، بتنزيه اسم ربّه، ووعد ثانياً بإقرائه، بحيث لا ينسى شيئاً ممّا أوحي إليه، وتسهيل طريقة التبليغ عليه، ثمّ أُمِرَ بالتذكير والتبليغ.
 
وبناءً عليه، فالمراد بتنزيه اسمه تعالى، تجريد القول فيه عن ذِكْر ما لا يُناسب ذِكْره ذكرَ اسمه تعالى، وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل. وهو يلازم التوحيد الكامل، بنفي الشرك الجلي، كما في قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾2، وقوله تعالى: ﴿... وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾3. وفي إضافة الاسم إلى الربّ، والربّ إلى ضمير الخطاب، تأييد لما قدّمناه، 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص328, الطباطبائي، م.س، ج20، ص264-265.
2 سورة الزمر، الآية 45.
3 سورة الإسراء، الآية 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

19

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الذي اتّخذته ربّاً وأنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله، فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذِكر من غيره، بحيث ينافي وصف الربوبيّة المقصور في الله تعالى، على ما عرَّف نفسه لك، وينافي وصف العبوديّة المقصور في العبد المستلزم لتسبيح الربّ وتنزيهه عن الشريك وكلّ نقص واحتياج1.

 
الآية (2): ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾: 
خَلْق الشيء، جَمع أجزائه. وتسويته، جعلها متساوية، بحيث يُوضع كلّ في موضعه الذي يليق به، ويُعطى حقّه، كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان في ما يناسبه من الموضع. والخَلْق والتسوية، وإنْ كانا مطلقين، لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.
 
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
- خلق وسوّى بينهم في باب الإحكام والإتقان.
- خلق كلّ ذي روح، فسوّى يديه وعينيه ورجليه. 
- خلق الإنسان فعدّل قامته، أي لم يجعله منكوساً، كالبهائم والدوابّ.
- خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته، فسوّى صنعها، لتشهد على وحدانيّته.
 
وغيرها من الأقوال2.
 
والآية إلى تمام أربع آيات لاحقة لها، تصف التدبير الإلهيّ في التكوين والتشريع، وهي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة في التكوين والتشريع، وأنّ الهداية التشريعيّة مترتّبة على الهداية التكوينيّة، وممهّد لها بإيجاد الاستعداد والقابليّة للهداية، وهذا ما يُفيده الترتيب والتفريع الوارد في سياق هذه الآية مع الآية اللاحقة: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
تفسير بالمصداق: ما رواه الأصبغ بن نباتة، أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، فقال: "مكتوب على قائمة العرش قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين بألفي عام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله, فاشهدوا بهما، وأنّ عليّاً وصي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم". (القمي، علي بن إبراهيم: تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: طيب الموسوي الجزائري، لا.ط، لا.م، مطبعة النجف، 1387هـ.ق، ج2، ص417).
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (3): ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾

التقدير، هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته.
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• قدّر الخَلْق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات، ثمّ هداهم إلى دينه، بمعرفة توحيده، بإظهار الدلالات والبيّنات.
 
• قدّر أقواتهم، وهداهم لطلبها.
 
• قدّر المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لاستخراجها منه.
 
• جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة، وحدود معيّنة في ذواتها وصفاتها وأفعالها، لا تتعدّاها، وجهّزها بما يُناسب ما قُدِّر لها، فهداها إلى ما قُدِّر، فكلّ يسلك نحو ما قُدِّرَ له، بهداية ربّانيّة تكوينيّة، كالطفل يهتدي إلى ثدي أمّه، والفرخ إلى زق أمّه وأبيه، والذكر إلى الأنثى، وذي النفع إلى نفعه، وعلى هذا القياس. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾1، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾3.
 
وغيرها من الأقوال. 
 
والقول الأخير من هذه الأقوال، هو الأوسع والأشمل والأوفق بظاهر السياق وبإطلاق معنى التقدير4.
 
الآية (4): ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾: 
المرعى، ما ترعاه الدوابّ من نبات الأرض، فالله تعالى هو الذي أخرجها، أي أنبتها، لمنافع جميع الحيوان وأقواتهم5.



1 سورة الحجر، الآية 21.
2 سورة عبس، الآية 20.
3 سورة البقرة، الآية 148.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.
  تَدَبُّر: الهداية التكوينيّة مقدّمة للهداية التشريعيّة.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص265.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

21

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (5): ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى﴾

الغثاء، ما يقذفه السيل على جانب الوادي، من الحشيش والنبات اليابس الجاف بعدما كان رطباً، لتأكله البهائم. والأحوى، شديد الخضرة الذي يضرب إلى السواد، من شدّة خضرته والمجتَمِع على جانبي الوادي. وإخراج المرعى، لتغذّي الحيوان، ثمّ جعله غثاء أحوى، من مصاديق التدبير الربوبيّ ودلائله، كما أنّ الخلق والتسوية والتقدير والهداية، كذلك1.
 
الآية (6): ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾
القراءة، ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعضها الآخر في الترتيل. وليس إقراؤه تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، مثل إقراء بعضنا بعضنا الآخر، باستماع المقرىء، لما يقرؤه القارىء، وإصلاح ما لا يُحسنه، أو يغلط فيه، فلم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرء شيئاً من القرآن، فلا يُحسنه، أو يغلط فيه، عن نسيان للوحي، ثم يُقرَء، فيصلح، بل المراد: تمكينه من قراءة القرآن، كما أُنزِلَ، من غير أن يُغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف، بسبب النسيان. فقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، وعد منه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمكّنه من العلم بالقرآن وحفظه، على ما أُنزِلَ، بحيث يرتفع عنه النسيان، فيقرؤه كما أُنزِلَ، وهو الملاك في تبليغ الوحي، كما أُوحِيَ إليه2.
 
وروي عن ابن عباس أنّه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبرائيل عليه السلام بالوحي، يقرأه، مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السلام من آخر الوحي، حتّى يتكلّم هو بأوّله. فلمّا نزلت هذه الآية، لم ينسَ بعد ذلك شيئاً3.
 
الآية (7): ﴿إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾: 
استثناء، مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها، وأنّ هذه العطيّة، وهي الإقراء، بحيث لا ينسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها، لا تنقطع عنه سبحانه، بالإعطاء، بحيث لا يقدر بعد على إنسائه صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو باق على إطلاق قدرته، له أن يشاء إنساءه متى شاء، وإنْ كان لا 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266.
تَدَبُّر: تظهر الهداية التكوينية للموجودات بصور مختلفة، ولكنّها لا تخرج عن مدار الهداية الإلهيّة.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص329-330.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 يشاء ذلك، فهو نظير الاستثناء الذي في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾1. وليس المراد بالاستثناء، إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي، والمعنى: سنُقرئك فلا تنسى شيئاً، إلا ما شاء الله أن تنساه، وذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء وينسى أشياء، فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلحن الامتنان، مع كونه مشتركاً بينه وبين غيره، فالوجه ما تقدّم. والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، يُقرؤه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي، حتّى يتكلّم هو بأوّله، فلمّا نزلت هذه الآية لم ينسَ بعده شيئاً. ويقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، نازلة أولاً، ثمّ قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾2، ثمّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾3

 
والجهر، كمال ظهور الشيء لحاسّة البصر، كقوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً﴾4، أو لحاسّة السمع، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ﴾5، والمراد بالجهر، الظاهر للإدراك، بقرينة مقابلته لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْفَى﴾، من غير تقييده بسمع أو بصر. والجملة في مقام التعليل، لقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، والمعنى: سنصلح لك بالك في تلقّي الوحي وحفظه، لأنّا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فنعلم ظاهر حالك وباطنها، وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي، والحرص على طاعته في ما أمر به6.




1 سورة هود، الآية 108.
2 سورة القيامة، الآيات 16 ـ 19.
3 سورة طه، الآية 114.
4 سورة النساء، الآية 153.
5 سورة الأنبياء، الآية 110.
6 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص266-267.
تَدَبُّر: في الآية, التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة, والنكتة فيه: الإشارة إلى حجّة الاستثناء، فإفاضة العلم والحفظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, إنّما لا يسلب القدرة على خلافه، ولا يحدّها منه تعالى, لأنّ الله مستجمع لجميع صفات الكمال, ومنها: القدرة المطلقة، ثمّ جرى الالتفات في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ...﴾, لمثل النكتة.
- جاءت كلمة "يخفى" بصيغة المضارع, لتبيّن أنّ كون بعض الأمور مخفيّة, هو ممّا تقتضيه طبيعة هذه الأمور.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (8): ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾

اليسرى - مؤنّث أيسر -، على وزن فُعلَى، من اليسر، بمعنى سهولة عمل الخير، وهي وصف قائم مقام موصوفه المحذوف، والمراد: الطريقة اليسرى. والتيسير، هو التسهيل. 
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• نوفّقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفيّة، ونهوّن عليك الوحي، ونُسهّله حتّى تحفظه ولا تنساه، وتعمل به ولا تُخالفه. 
 
• نُسهِّل لك من الألطاف والتأييد، ما يُثبِّتك على أمرك، ويُسهِّل عليك المستصعَب من تبليغ الرسالة، والصبر عليه. 
 
وهذا القول يُناسبه قوله تعالى قبل ذلك: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، فكأنّه سبحانه أمره بالتبليغ والصبر، ووعده بالتأييد والنصر. 
 
• اليسرى، هي الجنّة، والمراد: نُيسّر لك دخول الجنّة.
 
• نجعلك، بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة والتبليغ، قولاً وفعلاً، فتهدي قوماً، وتُتِمّ الحجّة على آخرين، وتصبر على أذاهم. فالمراد جعله صلى الله عليه وآله وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة الفطرة، فالآية في معنى قوله حكاية عن لسان النبي موسى عليه السلام: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾1،2.
 
والقول الثاني هو الأوفق بالسياق، وإنْ كانت الأقوال الأخرى محتملة أيضاً، ولا سيما القول الأخير.
 
الآية (9): ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾: 
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• الآية إخبار عن أنّ تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفع لا محالة في زيادة الطاعة، والانتهاء عن المعصية، كما يُقال: سله إنْ نفع السؤال. ومعنى "إنْ" في الآية، هو بمعنى "قد" أو "إذ".



1 سورة الأعراف، الآية 105.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص330, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص267-268.
تَدبُّر: مقتضى الظاهر أن يُقال: "ونيسّر لك اليسرى", كما قال تعالى: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ (سورة طه، الآية 26), وإنّما عَدَل عن ذلك إلى قوله: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾, لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبي الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله إيّاها صالحة, لتأدية الرسالة ونشر الدعوة, على ما في ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ من إيهام تحصيل الحاصل.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 ويُضعِف هذا القول: أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً، حتّى في من يُعاند الحقّ بعد أن تمّت عليه الحجّة، ممنوع! كيف؟ وقد قال الله تعالى فيهم:  ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾1.

 
• إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، والتقدير: فذكّر، إنْ نفعت الذكرى، وإنْ لم تنفع، وذلك لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِثَ للتذكرة والإعذار، فعليه أن يُذكِّر، نفع أم لم ينفع، فالآية من قبيل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾2، أي والبرد. وفيه: أنّ وجوب التذكرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى في مَن لا يترتّب عليه أثر، هو أصل ممنوع عقلاً، لأنّه يستلزم اللغو في الفعل، للجزم بعدم التأثير وترتّب الأثر، وشرعاً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾3.
 
• إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين، والمعنى: افعل ما أُمِرْت به، لتوجر، وإنْ لم ينتفعوا به. وفيه: أنّه لا يناسب السياق، ولا سيما قوله تعالى بعده بلا فصل: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾.
 
• الآية تفريع على ما تقدّم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم، بتنزيه اسم ربّه ووعده إقراء الوحي، بحيث لا ينسى، وتيسيره لليسرى، وهي الشرائط الضروريّة التي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة. والمعنى: إذا تمّ لك الأمر، بامتثال ما أمرناك به، وإقرائك فلا تنسى وتيسيرك لليسرى، فذكّر إن نفعت الذكرى. وقد اشترط في الأمر بالتذكرة، أن تكون نافعة، وهو شرط على حقيقته، فإنّها إذا لم تنفع كانت لغواً، وهو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللغو، فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة، تُفيد ميلاً من نفسه إلى الحقّ، وهو نفعها، وكذا التذكرة بعد التذكرة، كما قال تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾. والتذكرة للأشقى الذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تُفيد تمام الحجّة عليه، وهو نفعها، ويُلازمها 



1 سورة البقرة، الآيتان 6 - 7.
2 سورة النحل، الآية 81.
3 سورة البقرة، الآيتان 6 – 7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 تجنّبه وتولّيه عن الحقّ، كما قال تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾. والتذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً، ولذا أمر بالإعراض عن ذلك، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1.

 
والقول الأخير هو الأصحّ بين الأقوال المتقدّمة، لأنّه الأوفق بالسياق2.
 
الآية (10): ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾
أي سيتذكّر ويتّعظ بالقرآن من في قلبه شيء من خشية الله وخوف عقابه3.
 
الآية (11): ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾
الضمير راجع إلى الذكرى، والمراد بالأشقى، بقرينة المقابلة، أي مَنْ ليس في قلبه شيء من خشية الله تعالى. وقيل: أشقى من الاثنين، أي ممّن يتجنّب وممّن يخشى. وقيل: أشقى العصاة. وظاهر السياق لا يُساعد عليهما. وتجنّب الشيء، التباعد عنه، والمعنى: وسيتباعد عن الذكرى مَنْ لا يخشى الله4.
 
الآية (12): ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾
الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى، نار جهنّم، وهي نار كبرى، بالقياس إلى نار الدنيا. وقيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم، وهي أشدّها عذاباً5.
 
الآية (13): ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾



1 سورة النجم، الآية 29.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص330-331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص268 -269.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدبُّر: ـ في قوله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾, إشارة إلى أنّ التأثير قد لا يكون فوريّاً, فيجدر بالمبلِّغ أن لا يتوقّع التأثير الفوري دائماً.
ـ من يقبل النصيحة هم مَن يخشون الله, لأنّ خشيتهم مقدّمة لتذكّرهم, قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ *  الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (سورة الزمر، الآيتان 17 - 18)، ﴿... وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾ (سورة غافر، الآية 13)، ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ (سورة البقرة، الآية 269), (سورة آل عمران، الآية 7).
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدَبُّر: الابتعاد عن رسالة القرآن ونصائحه سبب للشقاء الدائم والأبدي, وهو ما تفيده صيغة المضارع "يتجنّبها", الدالّة على الاستمرار والدوام.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 ثمّ للتراخي، بحسب رتبة الكلام. والمراد من نفي الموت والحياة عنه معاً، نفي النجاة نفياً مؤبّداً، فإنّ النجاة، بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين: إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب، بانقطاع وجوده، وإمّا بتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة ومن العذاب إلى الراحة، فالمراد بالحياة في الآية: الحياة الطيّبة التي قال عنها الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1. وقيل: أي لا يجد روح الحياة2.

 
الآية (14): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾
التزكّي، هو التطهّر.
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• فاز من تطهّر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله. 
 
• ظفر بالبغية، مَنْ صار زاكياً، بالأعمال الصالحة والورع.
 
• زكى، أي: أعطى زكاة ماله.
 
• التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، والرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهُّر من الإخلاد إلى الأرض، والإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق المالي، حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه والأيدي والأقدام.
 
وغيرها من الأقوال. والقول الأخير هو الأوسع والأوفق بالسياق، وبعموم معنى التزكية في القرآن، وكونه حقيقة شرعيّة في خصوص التطهّر عن الموبقات والموانع الدنيوية الصارفة للإنسان عن لقاء الله تعالى والقرب منه3.



1 سورة النحل، الآية 97.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تَدَبُّر: الخلود في جهنّم لا يُغيّر من طبيعة أهل جنّهم, بحيث يعتادون عليها، فلا تؤذيهم نارها، بل يبقون في عذاب دائم.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تفسير بالمصداق: روي أنّه سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾, قال: "مَنْ أخرج الفطرة". (ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، ح1474، ص510).
تَدَبُّر: لا تنال التزكية تلقائياً، بل يجب السعي للحصول عليها, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (سورة الانشقاق، الآية 6).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (15): ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾

ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• ذِكْر الله تعالى بوحدانيّته.
 
• ذِكْر الله بالقلب، عند الصلاة، رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه، فإنّ الخشوع في الصلاة بحسب الخوف والرجاء. 
 
• المراد بالذكْر، الذكْر اللفظيّ، وبالصلاة، التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.
 
والقول الأخير، هو الأوفق بالسياق، ولكن بضميمة تعميم معنى الصلاة لمطلق الذكْر والتوجّه إلى الله تعالى، لما ورد في الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام1.
 
الآية (16): ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾
إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري، من التعلّق التامّ بالدنيا، والاشتغال بتعميرها. والإيثار، الاختيار، وقيل: الخطاب للكفار، والكلام على أيّ حال مسوق للعتاب. والالتفات، لتأكيده2.
 
الآية (17): ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا، مع أنّها باقية أبديّة في نفسها، لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا والآخرة، ويكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً وأبقى، بالنسبة إلى الدنيا، وإنْ قطع النظر عن كونها باقية أبديّة3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص331, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269.
تفسير بالمصداق: 
- روي أنّه سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾, قال: "خرج إلى الجبّانة, فصلّى". (الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ح1474، ص510).
- ما رواه عبيد الله بن عبد الله الدهقان، قال: "دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فقال لي: ما معنى قوله: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾, قلت: كلّما ذَكَر اسم ربّه, قام فصلّى، فقال لي: لقد كلّف الله عزّ وجلّ هذا شططاً, فقلت: جعلت فداك, فكيف هو؟ فقال: كلّما ذكر اسم ربّه, صلّى على محمّد وآله". (الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط3، طهران، دار الكتب الإسلاميّة, مطبعة حيدري، 1367هـ.ش، ج2، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، ح18، ص494-495).
تَدَبُّر: - لا تنال التزكية من دون صلاة وعبادة.
- التنبّه إلى مظاهر الربوبيّة, عامل لذكر الله وطريق لتطهير قلبه وفكره.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص269-270.
تّدَبُّر: حبّ الدنيا من أبرز موانع التزكية.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص332, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الآية (18): ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾

الإشارة بهذا إلى ما بُيِّن في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ إلى تمام أربع آيات، وأنّه مكتوب في الصحف الأولى، كما هو مكتوب في القرآن. وقيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾1.
 
ويؤيّد القول الأوّل ما ورد في الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، منها:
• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: "يا أبا ذر! اقرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾"2.
 
الآية (19): ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾:
الصحف، هي ما نزل على المرسلين من أنبياء الله تعالى عليهم السلام، والمراد بصحف إبراهيم عليه السلام، عشرة صحائف (وفي رواية أخرى: عشرين صحيفة) نزلت على إبراهيم عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام. وبصحف موسى عليه السلام، الألواح، وهي التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾3، وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾4 وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾5،6.
 
وهذا ما تشير إليه الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، ومنها:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.
2 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1403هـ.ق/ 1362هـ.ش، أبواب العشرين وما فوقه في حبّ أهل البيت عليهم السلام...، ح13، ص525.
3 سورة الأعراف، الآية 145.
4 سورة الأعراف، الآية 150.
5 سورة الأعراف، الآية 154.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص332, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص270.
تّدَبُّر: في إبهام الصحف، ووصفها بالتقدّم أولاً، ثمّ بيانها وتفسيرها بصحف إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام. ثانياً, ما لا يخفى من تفخيم شأنها، وتعظيم أمرها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

29

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 • ما رواه أبو بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "عندنا الصحف التي قال الله: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾"، قلت: الصحف، هي الألواح؟ قال: "نعم"1.

 
• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: "قلت: يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماء غفيراء (مجتمعون لم يتفرّق منهم أحد)، قلت: مَن كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً، قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ، وهو إدريس عليهم السلام، وهو أوّل من خَطّ بالقلم ونوح عليه السلام. وأربعة من الأنبياء من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك محمّد. وأوّل نبي من بني إسرائيل، موسى، وآخرهم عيسى، وستمائة نبي، قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها، وكان فيها: أيها الملك المبتلى المغرور! إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها، وإنْ كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه عزّ وجلّ، وساعة يُحاسب نفسه، وساعة يتفكّر في ما صنع الله عزّ وجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال، فإنّ هذه الساعة عون لتلك الساعات، واستجمام للقلوب، وتوزيع لها، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، فإنّ مَنْ حسب كلامه من عمله، قلّ كلامه، إلا في ما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو تلذّذ في غير محرم. قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرانية كلّها، وفيها: عجبت لمن أيقن بالموت، كيف يفرح؟! ولمن أيقن بالنار، لِمَ يضحك؟! ولمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها، لِمَ يطمئنّ إليها؟! ولمن يؤمن بالقدر، كيف ينصب (يتعب نفسه بالجدّ والجهد)؟! ولمن أيقن بالحساب، لِمَ لا يعمل؟!"2.



1 ابن فروخ، محمد بن الحسن (الصفّار): بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق وتقديم: حسن كوچه باغي، لا.ط، طهران، منشورات الأعلمي, مطبعة الأحمدي، 1404هـ.ق/ 1362هـ.ش، الجزء(القسم) الثالث، باب10، ح8، ص157.
2 الصدوق، الخصال، م.س، أبواب العشرين وما فوقه في حبّ أهل البيت عليهم السلام، ح13، ص524 - 525.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 بحث تفسيريّ: التسبيح1

1- حقيقة التسبيح: 
التسبيح، تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص.
والله تعالى تُسبِّحه وتُنزِّهه الموجودات السماويّة والأرضيّة، بما عندها من النقص، الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به، لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين، لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة، إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها، فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾2، يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح، وأنّها تُسبّح الله وتُنزّهه، عمّا يقولون وينسبون إليه تعالى من الشركاء. 
 
والمراد بتسبيحها، حقيقة معنى التسبيح، دون المعنى المجازي، فالمجاز لا يُصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة.
 
2- التسبيح بالتنزيه: 
بدلالة كلّ موجود على تنزّهه تعالى، إمّا بلسان القال، كالعقلاء، وإمّا بلسان الحال، كغير العقلاء من الموجودات، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ﴾، حيث استدرك أنّهم لا يفقهون تسبيحهم، ولو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده، وهي قيام الحجّة على الناس بوجودهم، أو كان المراد تسبيحهم وتحميدهم بلسان الحال، وذلك ممّا يفقهه الناس، لم يكن للاستدراك معنى.
 
فتسبيح ما في السماوات والأرض، تسبيح ونطق بالتنزيه، بحقيقة معنى الكلمة، وإنْ كنّا لا نفقهه، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج13، ص108-111, ج19، ص114، 263.
2 سورة الإسراء، الآية 44.
3 سورة فصّلت، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فالتسبيح، تنزيه قوليّ كلاميّ، يكشف عمّا في الضمير بنوع من الإشارة إليه، والدلالة عليه، غير أنّ الانسان لمّا لم يجد إلى إرادة كلّ ما يريد، الإشارة إليه من طريق التكوين، طريقاً، التجأ إلى استعمال الألفاظ، وهي الأصوات الموضوعة للمعاني، ودلّ بها على ما في ضميره، وجرت على ذلك سنّة التفهيم والتفاهم، وربّما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده، أو رأسه، أو غيرهما، وربّما استعان على ذلك بكتابة، أو نصب علامة. 

 
وبالجملة، فالذي يُكشَف به عن معنى مقصود الشيء، هو قول منه وتكليم، وإنْ لم يكن بصوت مقروع، ولفظ موضوع، ومن الدليل عليه: ما ينسبه القرآن إليه تعالى، من الكلام، والقول، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾1، والأمر، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾2، والوحي، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾3، ونحو ذلك، ممّا فيه معنى الكشف عن المقاصد، وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسّنين باللغات، وقد سمّاه الله سبحانه قولاً وكلاماً. 
 
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما، ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانيّة ربّها في ربوبيّته وينزّهه تعالى عن كلّ نقص وشين، فهى تُسبّح الله سبحانه، وذلك أنّها ليست لها في أنفسها، إلا محض الحاجة، وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها، والحاجة أقوى كاشف عمّا إليه الحاجة، لا يستقلّ المحتاج دونه، ولا ينفك عنه. فكلٌّ مِنْ هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن مُوجده الغنيّ في وجوده، التامّ الكامل في ذاته، وبارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده، ورفع نقائصه في ذاته، أنّ مُوجِده هو ربّه المتصرّف في كلّ شيء المدبّر لأمره.
 
3- التسبيح بالتحميد:
كما أنّ الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه، فكذلك هي تُسبّحه بالتحميد، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وذلك أنّه كما أنّ عند كلّ من هذه



1 سورة البقرة، الآية 35.
2 سورة القمر، الآية 50.
3 سورة الشورى، الآية 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

32

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الأشياء شيئاً من الحاجة والنقص، عائداً إلى نفسه، كذلك عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى، موهوب من لدنه، وكما أنّ إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزّه ربّها عن الحاجة والنقص، وهو تسبيحها بالتنزيه، كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربّها الذي وراءه جميل صفاته تعالى، فهو تسبيحها بالتحميد، فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري، وليس غير الله تعالى واجداً بالذات للجميل الاختياريّ، وكلّ ما دونه ينتسب إليه تعالى في اكتساب الجمال الاختياري المستوجب للحمد والثناء، فكلّ الأشياء - إذن - تُسبّح بحمد ربّها، كما تُسبّحه بالتنزيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

38


33

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، وهي آخر سور "المسبّحات"، تتضمّن 19 آية، وتحوي مجموعة من المحاور، هي: التسبيح/ الهداية الإلهيّة التكوينية والتشريعيّة/ إيصال الهداية عبر الأنبياءعليهم السلام والرسل عليهم السلام/ تزكية النفس/ تدسية النفس/ زوال الدنيا وبقاء الآخرة/ وحدة الدين/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: نزّه الله ربّك عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه، من ذِكْر الآلهة والشركاء معه، وغير ذلك، فهو الأعلى الذي يعلو ويقهر كلّ شيء. وهو الذي خلق الأشياء وقدّرها على مقادير مخصوصة في صفاتها وأفعالها، ومنها: جعل المرعى بعد إخراجه شديد الخضرة مائلاً إلى السواد يابساً بعد أن كان جافّاً، لترعى الدواب منه، وهذه من دلائل التدبير الربوبيّ ومصاديقه. فسنمكّنك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العلم بالقرآن وحفظه لتقرأه على الناس، كما أنزلناه عليك، فإنّنا قادرون على ذلك، ونعلم كلّ ما جُهِرَ به وما خَفِيَ عن السمع والبصر، لأنّنا عالمون بالغيب فضلاً عن الشهادة، ولذا سنُيسّرك للطريقة السهلة في تبليغ دعوتك، فبلِّغ الدعوة، فإنّه سيأخذ بها كلّ مَنْ كان له خشية وزكت نفسه وتطهّرت عن كلّ التعلّقات الدنيوية بالعبوديّة لله تعالى، وسيعرض عنها كلّ مَنْ كان قلبه غافلاً عن الله مشتغلاً بالدنيا عن الآخرة، الذي سوف يَرِدْ نار جهنّم خالداً فيها، لأنّه فضّل الدنيا على الآخرة، مع أنّ الدنيا فانية زائلة والآخرة دائمة باقية، وهذا مكتوب في الأديان والرسالات الإلهية السابقة، لا خلاف فيه بين الشرائع. 

4- الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه، بما عندها من النقص، الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به، لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين، لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة، إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها، فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وكذلك تُسبِّح ربّها بالتحميد، بما عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى من شيء راجع إليه تعالى، موهوب من لدنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول مشهور المفسِّرين. 
- معنى "غثاءً أحوى": النبات اليابس المائل إلى السواد. 
- المراد بالأشقى: هو من ليس في قلبه خشية لله تعالى. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾?
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾?
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾?
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالشمس، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 15 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- عظمة نظام الخِلْقة.
2- أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها. 
3- تكوين الإنسان وهدايته.
4- ارتباط فلاح الإنسان بالتزكية.
5- ارتباط سقوط الإنسان بتركه للتزكية.
6- ثمود أنموذج قوم طاغين بفعل تركهم للتزكية.
7- عاقبة ترك التزكية، دنيويّاً وأخرويّاً.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر"1
 
• ما رواه معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحبّ، 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4

37

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 فأعطوه إيّاها من غير منٍّ منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"1.

 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق المفسِّرين، لا خلاف بينهم في ذلك2.
 
شرح المفردات
• جَلَّاهَا: "الجيم واللام والحرف المعتلّ أصل واحد وقياس مطّرد، وهو انكشاف الشيء وبروزه"3. و"قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾، أي جلّى الظلمة"4.
 
• يَغْشَاهَا: "الغين والشين والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على تغطية شيء بشيء"5. و"قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾6، أي يلحق الليل بالنهار، والنهار بالليل، بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر، فيغطّي أحدهما الآخر"7.
 
• طَحَاهَا: "الطاء والحاء والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على البسط والمدّ، من ذلك: الطحو، وهو كالدحو، وهو البسط، قال الله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾، أي بسطها"8.
 
• دَسَّاهَا: "الدال والسين في المضاعف والمطابق أصل واحد، يدلّ على دخول الشيء تحت خفاء وسرّ"9. و"قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾10، أي فاته الظَفَر، من دسّ نفسه، يعني أخفاها بالفجور والمعصية"11.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
2 انظر: م.ن, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص295, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص355.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "جَلَوَ"، ص468.
4 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "جَلا"، ص89.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَشَى"، ص425.
6 سورة الأعراف، الآية 54.
7 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "غَشَا"، ص317.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَحَوَ"، ص445. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "طَحَا"، ص517.
9 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَسَّ"، ص256.
10 سورة الشمس، الآية 10.
11 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "دَسَسَ"، ص70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

 


38

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 • دَمْدَمَ: "الدال والميم أصل واحد، يدلّ على غشيان الشيء من ناحية أن يطلى به... فأمّا الدمدمة فالإهلاك"1. و"قوله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾2، أي أطبق عليهم العذاب. وقيل: دمدم، غضب، وقيل: أرجف بهم الأرض، يعني حرّكها فسوّاها بهم. ويقال: دمدم الله عليهم، أهلكهم بذنبهم، لأنّهم رضوا جميعاً به، وحثّوا عليه، وكانوا قد اقترحوا تلك الآية، واستحقوا بما ارتكبوه من العصيان والطغيان، عذاب الاستئصال"3.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾
الآية، قسمٌ. ومرجع الضمير في "ضحاها" إلى "الشمس".
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى "ضحى الشمس" أقوالاً عدّة، هي:
• امتداد ضوئها وانبساطه. 
 
• النهار كلّه.
 
• حرّ الشمس، كقوله تعالى: ﴿... وَلَا تَضْحَى﴾4، أي لا يؤذيك حرّها.
 
والقول الأوّل هو الأوفق بالسياق. وفي الآية إقسام بالشمس وانبساط ضوئها على الأرض5.
 
الآية (2): ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾: 
الآية عطف على "الشمس". ومرجع الضمير إلى "الشمس". وفي الآية إقسام بالقمر،



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَمَّ"، ص260.
2 سورة الشمس، الآية 14.
3 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "دَمْدَمَ"، ص63.
4 سورة طه، الآية 119.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
تأويل: ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، قال: الشمس, رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أوضح الله به للناس دينهم. قلت: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾، قال: ذلك أمير المؤمنين عليه السلام. قلت: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾، قال: ذلك أئمّة الجور, الذين استبدّوا للأمر دون آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلسوا مجلساً كان آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى به منهم، فغشوا دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بالظلم والجور, وهو قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾, قال: يغشى ظلمهم ضوء النهار، قلت: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾, قال: ذلك الإمام من ذرّيّة فاطمة عليها السلام, يسئل عن دين رسول الله, فيجلى لمن يسأله. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

39

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 حال كونه تالياً للشمس، والمراد بتلوّه لها، إنْ كان كسبه النور منها، فالحال حال دائمة، وإنْ كان طلوعه بعد غروبها، فالإقسام به من حال كونه هلالاً إلى حال تبدّره، وقد ذَكَر المفسِّرون وجوه كثيرة ضعيفة في تلوّ القمر للشمس بلحاظ طلوعه بعدها، تفتقد إلى الدليل1.

 
الآية (3): ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾
التجلية، الإظهار والإبراز. 
 
وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• مرجع ضمير التأنيث إلى تقدير محذوف، هو "الأرض". والمعنى: وأقسم بالنهار، إذا أظهر الأرض للأبصار. وهو الأوفق بظهور السياق، ولا سيّما قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾.
 
• مرجع ضمير الفاعل في "جلّاها" إلى النهار، وضمير المفعول إلى الشمس، والمعنى: أُقسم بحال إظهار النهار للشمس، فإنّها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار. أو المعنى: أقسم بالنهار إذا أظهر جرم الشمس. وهذا القول لا يُلائم ما تقدّمه، فإنّ الشمس هي المظهِرة للنهار دون العكس. 
 
• مرجع ضمير الفاعل في "جلّاها" إلى النهار، وضمير المفعول إلى الظلمة، والمعنى: وأُقسم بالنهار إذا كشف الظلمة وأزالها.
 
وغيرها من الوجوه البعيدة التي لا يساعد عليها ظهور السياق2.
 
الآية (4): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾
أي يُغطّي الأرض، فالضمير للأرض، كما في "جلّاها". وقيل: للشمس، وهو بعيد، فالليل لا يُغطّي الشمس، وإنّما يُغطّي الأرض وما عليها3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص369, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص296-297.
تَدَبُّر: التعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع، بخلاف تجلية النهار لها, حيث قيل: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾, للدلالة على الحال, ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض قبل البعثة النبويّة المباركة، وانكشاف ظلمة الفجور بنور الرسالة المحمّديّة، بعد البعثة, حيث إنّ بين هذه الأقسام وبين المقسم بها نوع اتّصال وارتباط، هذا مضافاً إلى رعاية الفواصل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

40

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الآية (5): ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا﴾: 

طحو الأرض ودحوها، بسطها، و"ما" في ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ موصولة، والذي بناها، هو الله تعالى. ومعنى الآية: وأُقسم بالسماء والشيء القوي العجيب الذي بناها. وقيل: ما مصدرية، والمعنى وأُقسم بالسماء وبنائها. والسياق - وفيه قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا﴾ - لا يساعد عليه1.
 
الآية (6): ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾: 
طحو الأرض ودحوها، بسطها، و"ما" في ﴿وَمَا طَحَاهَا﴾ موصولة، والذي طحاها، هو الله تعالى. ومعنى الآية: أُقسم بالأرض والشيء القوي العجيب الذي بسطها2.
 
الآية (7): ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾: 
أي، وأُقسم بنفس والشيء ذي القدرة والعلم والحكمة الذي سوّاها، ورتّب خلقتها، ونظّم أعضاءها، وعدّل بين قواها. وتنكير "نفس" قيل: للتنكير، وقيل: للتفخيم. ولا يبعد أن يكون التنكير، للإشارة إلى أنّ لها وصفاً، وأنّ لها نبأ. 
 
وذَكَر المفسِّرون في المراد بـ "النفس" أقوالاً عدّة، هي:
• النفس الإنسانيّة مطلقاً.
• نفس الإنس والجنّ، لأنّ الجنّ، كالإنس مكلّف.
• نفس آدم عليه السلام. 
 
والقول الأخير لا يُلائمه السياق، ولا سيّما قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، إلا بالاستخدام على أنّه لا موجب للتخصيص، وأمّا القول الثاني، فهو الأشمل والأوفق بالسياق، ولا سيما قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وإطلاق معنى "النفس"3.
 
الآية (8): ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾:
الفجور، شقّ ستر الديانة، فالنهي الإلهيّ عن فعل أو عن ترك، حجاب مضروب دونه، حائل بين الإنسان وبينه. واقتراف المنهي عنه، شقّ للستر وخرق للحجاب. والتقوى، جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، والمراد بها، بقرينة المقابلة في الآية بينها وبين الفجور، التجنّب عن



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.
تَدَبُّر: نكتة التعبير عن الله تعالى في الآية بـ "ما" دون "مَنْ", تكمن في إثارة الإبهام, المفيد للتفخيم والتعجيب.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

41

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الفجور، والتحرّز عن المنافي. والإلهام، الإلقاء في الروْع، وهو إفاضته تعالى الصور العمليّة، من تصوّر أو تصديق على النفس. وتعليق الإلهام على عنواني فجور النفس وتقواها، للدلالة على أنّ المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله، من تقوى، أو فجور، وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأوّلي المشترك بين التقوى والفجور، كأكل المال - مثلاً - المشترك بين أكل مال اليتيم، الذي هو فجور، وبين أكل مال نفسه، الذي هو من التقوى، والمباشرة المشتركة بين الزنا، وهو فجور، والنكاح، وهو من التقوى. 

 
فمعنى الآية: أنّه تعالى عرَّف الإنسان صفة ما يأتي به من فعل، فجوراً أم تقوى، وميّز له ما هو تقوى ممّا هو فجور. وتفريع الإلهام على التسوية في قوله تعالى: ﴿وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا﴾، للإشارة إلى أنّ إلهام الفجور والتقوى، وهو العقل العملي، من تكميل تسوية النفس، فهو من نعوت خِلْقتها، كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾1
 
وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، قال: "بيّن لها ما تأتي، وما تترك"2.
 
وإضافة الفجور والتقوى إلى ضمير النفس، للإشارة إلى أنّ المراد بالفجور والتقوى الملهمين، الفجور والتقوى المختصّين بهذه النفس المذكورة، وهي النفس الإنسانية ونفوس الجنّ على ما يظهر من الكتاب العزيز، من كونهم مكلّفين بالإيمان والعمل الصالح: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *  وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾3،4.



1 سورة الروم، الآية 30.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371,
3 سورة الأحقاف، الآيات 29 – 32.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص297-298.
تَدَبُّر: وضع كلمة "فجور" قبل كلمة "تقوى", للإشارة إلى أنّه على الإنسان في البدء أن يعلم مصاديق المفاسد، ثمّ يحذر منها ويبتعد عنها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

 


42

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الآية (9): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾

الفلاح، هو الظفر بالمطلوب وإدراك البغية. والزكاة، نموّ النبات نموّاً صالحاً ذا بركة. والتزكية، إنماؤه كذلك. ومعنى الآية: قد ظفر من طهَّر نفسه وأصلحها بطاعة الله، وصالح الأعمال.
 
والآية هي جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة عليها1.
 
الآية (10): ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾: 
الخيبة، خلاف الفلاح. والتدسية، من الدسّ، وهي إدخال الشيء في الشيء، بضرب من الإخفاء. والمراد بها، بقرينة مقابلة التزكية: الإنماء على غير ما يقتضيه طبعها وركّبت عليه نفسها، بإهلاكها بالعمل الطالح وعصيان الله تعالى.
 
والآية معطوفة على الآية السابقة عليها2.
 
الآية (11): ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾
الطغوى مصدر، كالطغيان، والباء، للسببيّة. والمراد بـ "طغواها" بعذابها، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾3،4.
 
وروي عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾، يقول: الطغيان، حملها على التكذيب5.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص298.
تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن علي، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾, قال: "أمير المؤمنين عليه السلام, زكّاه ربّه. ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾, قال: هو زريق وحبتر, في بيعتهما إيّاه, حيث مسحا على كفّه". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424).
تَدَبُّر: ورد في هذه السورة أكبر عدد للأيمان في القرآن, إذ جاءت فيها الأيمان متتالية, أحد عشر قسماً, للتأكيد على أهمّيّة تزكية النفس.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص298.
تَدَبُّر: التعبير بالتزكية والتدسية عن إصلاح النفس وإفسادها, مبتنٍ على ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾, على أنّ مِن كمال النفس الإنسانية أنّها ملهمة مميّزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى, أي أنّ الدين, وهو الإسلام لله في ما يريده فطري للنفس، فتحلية النفس بالتقوى, تزكية وإنماء صالح وتزويد لها, بما يمدّها في بقائها, قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (سورة البقرة، الآية 197)، وأمرها في الفجور على خلاف التقوى.
3 سورة الحاقة، الآية 5.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص370-371, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
5 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص424.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

 


43

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 والآية وما يتلوها إلى آخر السورة، استشهاد وتقرير لما تقدّم من قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.

 
الآية (12): ﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾
الانبعاث، الانتداب والقيام. والآية، ظرف لقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ﴾ أو لقوله تعالى: ﴿بِطَغْوَاهَا﴾. والمراد بأشقى ثمود، هو الذي عقر الناقة، واسمه على ما في الروايات: قدار بن سالف، وقد كان انبعاثه ببعث القوم، كما تدلّ عليه الآيات التالية، بما فيها من ضمائر الجمع1.
 
وروى عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام: "من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه - وأشار إلى يافوخه"2
 
الآية (13): ﴿ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾
المراد برسول الله، صالح عليه السلام، نبي ثمود، وقوله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾، منصوب على التحذير، وقوله تعالى: ﴿وَسُقْيَاهَا﴾، معطوف عليه. ومعنى الآية: فقال لهم صالحعليه السلام، برسالة من الله: احذروا ناقة الله وسقياها، ولا تتعرّضوا لها، بقتلها، أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، وقد فصَّل الله القصّة في أكثر من موضع في القرآن الكريم: ﴿  وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾3، ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾4، ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371.
3 سورة الأعراف، الآية 73.
4 سورة هود، الآيات 64 ـ 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾1.2

 
الآية (14): ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾
العقر، إصابة أصل الشيء، ويُطلق على نحر البعير والقتل. والدمدمة على الشيء، الإطباق عليه، يُقال: دمدم عليه القبر، أي أطبقه عليه، والمراد: شمولهم بعذاب يقطع دابرهم، ويمحو أثرهم، بسبب ذنبهم. وقوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهَا﴾، الظاهر أنّ مرجع الضمير إلى ثمود، باعتبار أنّهم قبيلة، أي فسوّاها بالأرض، أو هو تسوية الأرض، بمعنى تسطيحها وإعفاء ما فيها من ارتفاع وانخفاض. وقيل: الضمير للدمدمة المفهومة، من قوله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ﴾، والمعنى: فسوّى الدمدمة بينهم، فلم يفلت منهم قويّ، ولا ضعيف، ولا كبير، ولا صغير3.
 
الآية (15): ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾:
مرجع الضمير إلى "الدمدمة" أو "التسوية"، والواو، للاستئناف أو الحال. والمعنى: ولا يخاف ربّهم عاقبة الدمدمة عليهم وتسويتهم، كما يخاف الملوك والأقوياء عاقبة عقاب أعدائهم وتبعته، لأنّ عواقب الأمور هي ما يريده، وعلى وفق ما يأذن فيه، فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾4. وقيل: ضمير ﴿وَلَا يَخَافُ﴾، للأشقى، والمعنى: ولا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها. وقيل: ضمير ﴿وَلَا يَخَافُ﴾، لصالح، وضمير ﴿عُقْبَاهَا﴾، للدمدمة، والمعنى: ولا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم، لثقته بالنجاة. والوجهان الأخيران ضعيفان، لا يُلائمهما ظاهر سياق ومرجع الضمائر فيه، ولا سيما قوله تعالى قبل هذه الآية: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾5.



1 سورة الشعراء، الآيات 155 ـ 158.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص371-372, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
تَدَبُّر: التعبير بصيغة الجمع عن عقر الناقة، مع أنّ الذي عقر هو شخص واحد, للإشارة إلى أنّ مَنْ يرضى بذنوب الآخرين وجرائمهم ويمضيهم عليها, يكون شريكاً لهم في ذنوبهم وجرائمهم.
4 سورة الأنبياء، الآية 23.
5 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص372, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص299.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

45

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 بحث تفسيريّ: النفس1

1- معنى النفس: 
لفظ النفس - على ما يُعطيه التأمّل في موارد استعماله - أصل معناه، هو معنى ما أُضيف إليه، فنفس الشيء، معناه: الشيء، ونفس الإنسان، معناه هو الإنسان، ونفس الحجر، معناه هو الحجر، فلو قُطِعَ عن الإضافة لم يكن له معنى محصَّل، وعلى هذا المعنى يُستعمل للتأكيد اللفظي، كقولنا: جاءني زيد نفسه، أو لإفادة معناه، كقولنا جاءني نفس زيد. وبهذا المعنى يُطلق على كلّ شيء، حتّى عليه تعالى، كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾2، ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾3، ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾4. ثمّ شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصّة، وهو الموجود المركّب من روح وبدن، فصار ذا معنى في نفسه، وإنْ قُطِعَ عن الإضافة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾5، أي من شخص إنسانيّ واحد، وقال: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾6، أي من قتل إنساناً ومن أحيا إنساناً، وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾7، فالنفس الأولى، بالمعنى الثاني، والثانية، بالمعنى الأوّل. ثمّ استعملوها في الروح الإنساني، لما أنّ الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الإنسان، قائمة بها، ومنه قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾8. ولم يطّرد هذان الإطلاقان، أي الثاني والثالث في غير الإنسان، كالنبات وسائر الحيوان، إلا بحسب الاصطلاح العلميّ، فلا يقال: للواحد من النبات 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص198, ج13، ص209-210, ج14، ص285-286, ج20، ص104، 285.
2 سورة الأنعام، الآية 12.
3 سورة آل عمران، الآية 28.
4 سورة المائدة، الآية 116.
5 سورة الأعراف، الآية 189.
6 سورة المائدة، الآية 32.
7 سورة النحل، الآية 111.
8 سورة الأنعام، الآية 93.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 والحيوان عرفاً نفس، ولا للمبدأ المدبِّر لجسمه نفس. نعم ربّما سُمِّي الدم نفساً، لأنّ الحياة تتوقّف عليه، ومنه النفس السائلة. وكذا لا يُطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني والثالث على المَلَك والجنّ، وإنْ كان معتقدهم أنّ لهما حياة، ولم يردْ استعمال النفس فيهما في القرآن أيضاً، وإنْ نطقت الآيات، بأنّ للجنّ تكليفاً، كالإنسان، وموتاً وحشراً، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1، ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾2، ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ﴾3.

 
2- بقاء النفس الإنسانيّة بعد حدوثها:
النفس هي الحافظة لوحدة الإنسان وشخصيّته، وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلّقت بالبدن المخلوق جديداً بعد البعث، كان هو الإنسان الدنيوي، كما أنّ الإنسان في الدنيا واحد شخصيّ باقٍ على وحدته الشخصيّة، مع تغيّر البدن بجميع أجزائه حيناً بعد حين. والدليل على أنّ النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرّق أجزاء البدن وفساد صورته، قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾4، حيث استشكلوا في المعاد بأنّه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان، بتفرّق أجزاء بدنه، فأُجيب عنه: بأنّ مَلَك الموت يتوفّى الإنسان ويأخذه تامّاً كاملاً، فلا يضلّ، ولا يتلاشى، وإنّما الضالّ بدنه، ولا ضير في ذلك، فإنّ الله يُجدّده. والدليل على أنّ الإنسان المبعوث، هو عين الإنسان الدنيويّ، لا مثله، جميع آيات القيامة الدالّة على رجوع الإنسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل. 
 
3- مراتب النفس الإنسانيّة:
إنّ التأمّل والتدبّر في آيات القرآن الكريم، يُعطي أنّ للنفس الإنسانيّة مراتب ثلاث:
• النفس الأمّارة: قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ



1 سورة الذاريات، الآية 56.
2 سورة الأحقاف، الآية 18.
3 سورة الأنعام، الآية 128.
4 سورة السجدة، الآيتان 10-11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

47

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1، أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيّئات على كثرتها ووفورها، فمن الجهل أن تبرّء من الميل إلى السوء، وإنّما تكفّ عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشرّ، برحمة من الله سبحانه، تصرفها عن السوء، وتوفّقها لصالح العمل. وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾، يفيد فائدتين: إحداهما: تقييد إطلاق قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، فيفيد أنّ اقتراف الحسنات، الذي هو برحمة من الله سبحانه، من أمر النفس، وليس يقع عن إلجاء وإجبار من جانبه تعالى. وثانيتهما: الإشارة إلى أنّ تجنّبه الخيانة كان برحمة من ربّه.

 
• النفس اللوّامة: قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾2، والمراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة، وتنفعه يوم القيامة.
 
• النفس المطمئنّة: قال تعالى : ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾3، فالذي يُعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس، بما ذُكِرَ لها من الأوصاف، وعُيّنَ لها من حسن المنقلب، وبين الإنسان المذكور قبل، بما ذُكِرَ له من وصف التعلّق بالدنيا، والطغيان، والفساد، والكفران، وما أُوعِدَ من سوء المصير، هو أنّ النفس المطمئنّة، هي التي تسكن إلى ربّها، وترضى بما رضي به، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ، أو نفع أو ضرّ، ويرى الدنيا دار مجاز، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع وضرّ، ابتلاءً وامتحاناً إلهيّاً، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلوّ والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقرّ من العبوديّة، لا ينحرف عن مستقيم صراطه، بإفراط أو تفريط.



1 سورة يوسف، الآية 53.
2 سورة القيامة، الآية 2.
3 سورة الفجر، الآيات 27 - 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

48

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 15 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: نظام الخِلْقة/ تهذيب النفس وتزكيتها/ تكوين الإنسان وهدايته/ فلاح الإنسان/ سقوط الإنسان/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسمٌ بالشمس وانبساط ضوئها، وما يُماثله من إشراق نور الإيمان في القلوب، وبالقمر، الذي يستمدّ ضياءه من الشمس ويُبرز الأرض للأبصار، وبالليل الذي يُغطّي الأرض، كما يُغطّي الفجور الحقّ، وبالسماء وبالله رافعها، وبالأرض وبالله باسطها، وبالنفس الإنسانية وبالله خالقها ومقدّرها على هذه الخِلقة السوية، التي يستطيع الإنسان من خلالها بالإرادة والاختيار أن يسير في طريق الحقّ فيكتب له الفلاح، فتنمو نفسه وتتكامل، أو يعرض عن الحق، فتتسافل نفسه وتهلك، كما حصل مع ثمود، قوم النبي صالح عليه السلام.

4- النفس هي الحافظة لوحدة الإنسان وشخصيّته، وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلّقت بالبدن المخلوق جديداً بعد البعث، كان هو الإنسان الدنيوي، كما أنّ الإنسان في الدنيا واحد شخصيّ باقٍ على وحدته الشخصيّة، مع تغيّر البدن بجميع أجزائه حيناً بعد حين. ولهذه النفس مراتب ثلاث، هي: الأمّارة، واللوّامة، والمطمئنّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

الدرس الثاني: تفسير سورة الشمس

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- سُمّيت هذه السورة بالشمس، لأنّها الموضوع الأبرز فيها. 
- معنى "طحاها": أي مدّها وبسطها. 
- المراد بأشقى ثمود: عاقر الناقة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

50

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

51

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالليل، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 21 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- طرق معرفة الله تعالى.
2- انقسام الناس وانشعابهم باختلاف دوافعهم وسعيهم إلى مؤمنين متّقين وكافرين جاحدين.
3- الإحسان إلى الآخرين سبب للتوسعة في العمل.
4- البخل وطلب الاستعلاء من مسبّبات تعقيد أمور الإنسان.
5- عاقبة التقوى وآثارها الدنيوية والأخرويّة.
6- عاقبة الكفر والجحود وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
7- الإخلاص لله وآثاره الدنيوية والأخروية.
8- الرضا وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أعطاه الله حتّى يرضى، وعافاه من العسر، ويسّر له اليسر"1.
 
• ما رواه معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

52

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحبّ، فأعطوه إيّاها من غير من منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"1.

 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين2، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة لملائمة سياقها لكلٍّ من خصائص السور المكّيّة، من قصر آياتها، وقوّة لهجتها، وتطرّقها لمسألة المعاد، وخصائص السور المدنيّة، من التأكيد على الإنفاق المالي3.

 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لما تقدّم من أنّ السورة تحمل خصائص السور المكّيّة، أضف إلى ذلك أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسِّرين.
 
وروي عن ابن عباس في سبب نزول هذه السورة: أنّ رجلاً كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة، حتّى يأخذ التمر من أيديهم، فإنْ وجدها في في أحدهم، أدخل أصبعه حتى يأخذ التمرة من فِيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بما يَلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اذهب". ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب النخلة، فقال: "تُعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنّة"، فقال له الرجل: إنّ لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثمّ ذهب الرجل. فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أتُعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة، إن أنا أخذتها؟ قال: "نعم". فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أشعرت أنّ محمداً أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يُعجبني تمرتها، وإنّ لي نخلاً كثيراً، فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا، إلا أنْ أُعطى ما لا أظنّه أُعطى. قال: فما مناك؟ قال أربعون 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص357.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

53

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم. تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثمّ سكت عنه. فقال له: أنا أُعطيك أربعين نخلة. فقال له: أَشْهِد إنْ كنت صادقاً. فمرّ إلى أناس فدعاهم، فَأشَهَد له بأربعين نخلة، ثمّ ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحب الدار، فقال له: "النخلة لك ولعيالك". فأنزل الله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ السورة. وعن عطاء قال اسم الرجل، أبو الدحداح1.

 
شرح المفردات
• شَتَّى: "الشين والتاء أصل، يدلّ على تفرّق وتزيّل، من ذلك تشتيت الشيء المتفرِّق"2. و"الشَّتُّ: تفريق الشّعب، يُقال: شَتَّ جمعهم شَتّاً وشَتَاتاً، وجاؤوا أَشْتَاتاً، أي: متفرّقي النّظام، قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾3، وقال: ﴿مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾4، أي: مختلفة الأنواع، ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾5، أي: هم بخلاف من وصفهم، بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾6"7.
 
• تَرَدَّى: "الراء والدال والياء أصل واحد، يدلّ على رمي، أو ترام، وما أشبه ذلك... ومن الباب الردى، وهو الهلاك، يُقال: ردي يردى، إذا هلك. وأرداه الله أهلكه. والتردّي، التهوّر في المهوى"8. ووالرَّدَى: الهلاك، والتَّرَدِّي: التّعرّض للهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾9، وقال: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾10، وقال: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾11"12.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375-376.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَتَّ"، ص177.
3 سورة الزلزلة، الآية 6.
4 سورة طه، الآية 53.
5 سورة الحشر، الآية 14.
6 سورة الأنفال، الآية 63.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَتَتَ"، ص445.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "رَدَى"، ص506.
9 سورة الليل، الآية 11.
10 سورة طه، الآية 16.
11 سورة الصافات، الآية 56.
12 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "رَدَأ"، ص351.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

54

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 • تَلَظَّى: "اللام والظاء أصل صحيح، يدلّ على ملازمة"1. و"اللَّظَى: اللَّهب الخالص، وقد لَظِيَتِ النارُ وتَلَظَّتْ. قال تعالى: ﴿نَارًا تَلَظَّى﴾2، أي: تَتَلَظَّى. ولَظَى غير مصروفة: اسم لجهنم. قال تعالى: ﴿إِنَّهَا لَظَى﴾3"4.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾:
الآية قسم بالليل، إذا يغشى. والمراد بالغشيان، التغطية.
 
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية قولين، هما:
• الليل إذا يغشى بظلمته النهار، على حدّ قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾5.
 
• الليل إذا يغشى بظلمته الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض. والمعنى: إذا أظلم، وادلهمّ، وأغشى الأنام بالظلام، لما في ذلك من الهول المحرّك للنفس بالاستعظام6.
 
والقول الأوّل هو الأوفق بظاهر السياق، ولا سيما مقابلته بالنهار في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وإنْ كان القول الثاني محتملاً أيضاً.
 
الآية (2): ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾:
الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ ...﴾ والتجلّي، ظهور الشيء بعد خفائه. ومعنى 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "لَظَّ"، ص206.
2 سورة الليل، الآية 14.
3 سورة المعارج، الآية 15.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "لَظَى"، ص740.
5 سورة الأعراف، الآية 54.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص374-375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن مسلم، قال سألت أبا جعفرعليه السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾, قال: "الليل في هذا الموضع, فلان، غشي أمير المؤمنين في دولته التي جرت له عليه, وأمير المؤمنينعليه السلام يصبر في دولتهم, حتّى تنقضي. قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, قال: النهار هو القائم عليه السلام منّا أهل البيت، إذا قام, غلب دولته الباطل. والقرآن ضُرِبَ فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيّه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص425).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

55

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية: ظهور النهار وبيانه بعد ما غطّته ظلمة الليل1.

 
الآية (3): ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾:
الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ ...﴾، كسابقتها. و"ما"، موصولة، والمراد بها، الله سبحانه. 
 
وذَكَرَ المفسِّرون في المراد بـ "الذكر والأنثى" أقوالاً، هي: 
• عموم الذكر والأنثى من المخلوقات كافّة.
 
• خصوص الذكر والأنثى من الإنسان.
 
• خصوص آدم عليه السلام وزوجته حوّاء.
 
وأوجَه الوجوه أوّلها، لعموم لفظَي "الذكر" و"الأنثى"، ومعنى الآية: أُقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر والأنثى المختلفين، على كونهما من نوع واحد2.
 
الآية (4): ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾:
الآية جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة. والسعي، هو المشي السريع، والمراد به، العمل من حيث يُهتمّ به، وهو في معنى الجمع. وشتّى، جمع شتيت، بمعنى المتفرّق. ومعنى الآية: أُقسم بهذه المتفرّقات خلقاً وأثراً، إنّ مساعيكم لمتفرّقات في نفسها وآثارها، فمنها: إعطاء، وتقوى، وتصديق، ولها أثر خاصّ بها، ومنها: بخل، واستغناء، وتكذيب، ولها أثر خاصّ بها3.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تَدَبُّر: - التعبير عن غشيان الليل بصيغة المضارع، بخلاف تجلية النهار التي عُبِّر عنها بصيغة الماضي, حيث قيل: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, للدلالة على الحال, ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور قبل زمن البعثة النبويّة المباركة، وانكشاف ظلمة الفجور وتجلّي نور الرسالة المحمّديّة, بعد البعثة, حيث إنّ بين هذه الأقسام وبين المقسم بها نوع اتّصال وارتباط.
- في ذِكْر الليل والنهار وما يلحقهما من غشيان الظلمة وانبعاث الضياء, أعظم النعم, إذ لو كان الدهر كلّه ظلاماً, لَمَا أمكن الخلق طلب معايشهم، ولو كان ذلك كلّه ضياء, لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.
تَدَبُّر: - نكتة التعبير بـ "ما"، دون "مَنْ", تكمن في إثارة الإبهام, المُشعِر بالتعظيم والتفخيم.
- القسم بـ"الليل" و"النهار" و"الذَكَر" و"الأنثى", لتنبيه الإنسان إلى الدلائل والآيات الآفاقيّة والأنفسيّة على وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته وأفعاله, قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة فصّلت، الآية 53)، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (سورة الذاريات، الآيتان 20 و 21).
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

56

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (5): ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى﴾:

الآية، تفصيل تفرّق مساعيهم، واختلاف آثارها. والمراد بالإعطاء، إنفاق المال لوجه الله، بقرينة مقابلته للبخل، الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال، وقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾. وقوله: ﴿وَاتَّقَى﴾، في مقام تفسير الإعطاء، وإفادة أنّ المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينيّة1.
 
الآية (6): ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾:
الحسنى، صفة قائمة مقام الموصوف. والظاهر: أنّ التقدير بالعِدَة الحسنى، وهي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم، وهو تصديق البعث والإيمان به، ولازمه الإيمان بوحدانيّته تعالى في الربوبيّة والألوهيّة، وكذا الإيمان بالرسالة، فإنّها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب. ومحصّل معنى هذه الآية والآية السابقة عليها، أن يكون مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر، وينفق المال لوجه الله وابتغاء ثوابه، الذي وعده بلسان رسوله2.
 
الآية (7): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾:
التيسير، التهيئة والإعداد. واليسرى، الخصلة التي فيها يُسر من غير عسر. وتوصيفها باليسر، بنوع من التجوّز، فالمراد من تيسيره اليسرى: توفيقه للأعمال الصالحة، وتسهيلها عليه، من غير تعسير، أو جعله مستعدّاً للحياة السعيدة عند ربّه ودخول الجنّة، بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، والوجه الثاني أقرب وأوضح انطباقاً، على ما هو المعهود من مواعد القرآن3.
 
الآية (8): ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾:
البخل، مقابل الإعطاء. والاستغناء، طلب الغنى والثروة، بالإمساك والجمع، فعمل عمل من استغنى عن الله تعالى ورحمته4.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302-303.
تفسير بالمصداق: ما رواه أبو الخطّاب، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾, قال: "بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ﴿ أَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾, فقال: بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).
تَدَبُّر: التقوى شرط لقبول العطاء, فالعطاء في نفسه ليس مطلوباً، بل المطلوب الدافع الكامن وراء هذا العطاء.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376-377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
  تَدَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

57

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (9): ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾:

والمراد بالتكذيب بالحسنى، الكفر بالعِدَة الحسنى وثواب الله الذي بلّغه الأنبياء والرسل عليهم السلام، وكلّ ما رجع إلى إنكار البعث1.
 
الآية (10): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾:
المراد بتيسيره للعسرى، خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه، وعدم شرح صدره للإيمان، أو إعداده للعذاب والتخلية بينه وبين الأعمال السيّئة التي اكتسبها2.
 
الآية (11): ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾:
التردّي، هو السقوط من مكان عالٍ ويُطلق على الهلاك، فالمراد: سقوطه في حفرة القبر أو في جهنّم أو هلاكه. و"ما" استفهاميّة أو نافية، ومعناها: أيّ شيء يغنيه ماله، إذا مات وهلك، أو ليس يغني عنه ماله، إذا مات وهلك3.
 
الآية (12): ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾:
تعليل لما تقدّم، من تيسيره تعالى لليسرى وللعسرى، أو الإخبار به بأوجز بيان، وأنّه، إنّما نفعل هذا التيسير أو نبيّن هذا البيان، لأنّه من الهدى، والهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء، ولا يمنعنا عنه مانع. فالآية تفيد أنّ هدى الناس ممّا قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه، بمقتضى الحكمة، وذلك أنّه خلقهم ليعبدوه، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4، فجعل عبادته غاية لخلقهم، وجعلها صراطاً مستقيماً إليه، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾5، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ﴾6. وقضى على نفسه أن يُبيّن لهم سبيله، ويهديهم إليه، بمعنى إراءة الطريق، سواء أسلكوها أم تركوها، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾7، 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
  دَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
5 سورة آل عمران، الآية 51.
6 سورة الشورى، الآيتان 52 - 53.
7 سورة النحل، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

58

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾1، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾2، ولا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه، كالأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾3، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾4. هذا في الهداية، بمعنى إراءة الطريق. 

 
وأمّا الهداية، بمعنى الإيصال إلى المطلوب - والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتّب على الاهتداء، بهدى الله، والتلبّس بالعبوديّة، كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا، والحياة السعيدة الأبدية في الآخرة - فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع والإيجاد الذي يختصّ به تعالى، فهو ممّا قضى به الله وأوجبه على نفسه وسجّله بوعده الحقّ، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾5، وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾6، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾7. ولا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة، انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع، بتخلُّل الأسباب بينه تعالى، وبين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.
 
ومعنى الآية - إنْ كان المراد بالهدى إراءة الطريق -: إنّا إنّما نُبيّن لكم ما نُبيّن، لأنّه من إراءة طريق العبوديّة. وإراءة الطريق علينا.
 
وإنْ كان المراد به الإيصال إلى المطلوب، فالمعنى: إنّا إنّما نيسّر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبدية ودخول الجنّة، لأنّه من إيصال الأشياء إلى غاياتها. وعلينا ذلك.





1 سورة الأحزاب، الآية 4.
2 سورة الإنسان، الآية 3.
3 سورة الشورى، الآية 52.
4 سورة يوسف، الآية 108.
5 سورة طه، الآية 123.
6 سورة النحل، الآية 97.
7 سورة النساء، الآية 122.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

59

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 وأمّا التيسير للعسرى، فهو ممّا يتوقّف عليه التيسير لليسرى، ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾1. وقد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾2. ويمكن أن يكون المُراد به، مطلق الهداية، أعمّ من الهداية التكوينيّة الحقيقيّة والتشريعيّة الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقيّة، كما قال: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾3، والهداية الاعتبارية، كما قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾4،.

 
الآية (13): ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾:
أي، عالم البدء، وعالم العود، فكلّ ما يصدق عليه أنّه شيء، فهو مملوك له تعالى، بحقيقة الملك، الذي هو قيام وجوده بربّه القيّوم. ويتفرّع عليه، الملك الاعتباري، الذي من آثاره جواز التصرّفات. فهو تعالى يملك كلّ شيء من كلّ جهة، فلا يملك شيء منه شيئاً، فلا معارض يُعارضه، ولا مانع يمنعه، ولا شيء يغلبه، كما قال: ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾5، وقال: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾6، وقال: ﴿وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾7،8.
 
الآية (14): ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾:
تفريع على ما تقدّم، أي: إذا كان الهدى علينا، فأنذرتكم نار جهنّم، وبذلك يُوجَّه ما في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ﴾، من الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده، أي إذا كان الهدى قضية محتومة، فالمنذِر بالأصالة، هو الله، وإنْ كان بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وتلظّى النار،



1 سورة الأنفال، الآية 37.
2 سورة الإسراء، الآية 82.
3 سورة طه، الآية 50.
4 سورة الإنسان، الآية 3.
5 سورة الرعد، الآية 41.
6 سورة يوسف، الآية 21.
7 سورة إبراهيم، الآية 27.
8 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

60

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 تلهّبها وتوهّجها. والمراد بالنار التي تتلظّى، جهنم، كما قال تعالى:  ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾1.2

 
الآية (15): ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾:
المراد بالأشقى، مطلق الكافر، الذي يكفر بالتكذيب والتولّي، فإنّه أشقى من سائر من شَقِيَ في دنياه، فمن ابتُلِيَ في بدنه، شَقِيَ، ومن أُصيب في ماله أو ولده مثلاً، شقي، ومن خسر في أمر آخرته، شقي. والشقي في أمر آخرته، أشقى من غيره، لكون شقوته أبديّة، لا مطمع في التخلّص منها، بخلاف الشقوة في شأن من شؤون الدنيا، فإنّها مقطوعة لا محالة مرجوّة الزوال عاجلاً. 
 
فالمراد بالأشقى، هو الكافر المكذِّب بالدعوة الحقّة، المعرض عنها، على ما يدلّ عليه توصيفه بقوله تعالى: ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، ويؤيّده إطلاق الإنذار. 
 
وأمّا الأشقى، بمعنى أشقى الناس كلّهم، فمّما لا يساعد عليه السياق البتّة. 
 
والمُراد بصلي النار، اتّباعها ولزومها، فيفيد معنى الخلود، وهو ممّا قضى الله به في حقّ الكافر، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾3. وبذلك يندفع ما قيل: إنّ قوله تعالى: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ ينفي عذاب النار عن فسّاق المؤمنين، على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع: أنّ الآية إنّما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها، دون أصل الدخول4.
 
الآية (16): ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾:
صفة الأشقى، وأنّه مكذِّب بالدعوة الحقّة، معرض عنها5.



1 سورة المعارج، الآية 15.
2 انظر: مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.
تفسير بالمصداق: روى عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾, قال: "في جهنّم وادٍ فيه نار لا يصلاها إلا الأشقى (أي فلان) الذي كذّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام، وتولّى عن ولايته، ثمّ قالعليه السلام: النيران بعضها دون بعض, فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).
3 سورة البقرة، الآية 39.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377-378, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305-306.
تَدَبُّر: تنكير النار "ناراً", للإشارة إلى أنّ نار الآخرة أمرها عظيم ومجهول بالنسبة إلينا.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

61

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الآية (17): ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾

التجنيب، التبعيد، وضمير "سيجنّبها"، للنار. ومعنى الآية: سيبعد عن النار الأتقى. والمراد بالأتقى، من هو أتقى من غيره، ممّن يتّقي المخاطر، فهناك من يتّقي ضيعة النفوس، كالموت والقتل، ومن يتّقي فساد الأموال، ومن يتّقي العدم والفقر، فيمسك عن بذل المال، وهكذا، ومنهم من يتّقي الله، فيبذل المال، وأتقى هؤلاء الطوائف، من يتّقي الله، فيبذل المال لوجهه، فيتّقي خسران الآخرة، بالتزكّي، بالإعطاء. فالمفضّل عليه الأتقى، هو من لا يتّقي بإعطاء المال، وإنْ اتّقى سائر المخاطر الدنيويّة، أو اتّقى الله بسائر الأعمال الصالحة. 
 
فالآية عامّة، بحسب مدلولها، غير خاصّة، ويدلّ عليه، توصيف الأتقى، بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ ...﴾، وهو وصف عامّ، وكذا ما يتلوه، ولا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاصّ، كما ورد في أسباب النزول. وأمّا إطلاق المفضَّل عليه، بحيث يشمل جميع الناس، من طالح أو صالح، ولازمه انحصار المفضَّل في واحد مطلقاً أو واحد في كلّ عصر، ويكون المعنى: وسيجنّبها من هو أتقى الناس كلّهم، وكذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلّهم، فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، وكذا الإنذار العامّ الذي في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾، فلا معنى لأنْ يُقال: أنذرتكم جميعاً ناراً لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعاً، ولا ينجو منها إلا واحد منكم جميعاً1.
 
الآية (18): ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾
صفة للأتقى، أي الذي يُعطي ويُنفق ماله، يطلب بذلك أن ينمو نماءً صالحاً2.
 
الآية (19): ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾:
تقرير لمضمون الآية السابقة، أي ليس لأحد عنده من نعمة تُجزى، تلك النعمة، بما يؤتيه من المال، وتكافأ، وإنّما يؤتيه لوجه الله، ويؤيّد هذا المعنى، تعقيبه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾. فالتقدير، من نعمة تجزى به، وإنّما حُذِفَ الظرف، رعايةً للفواصل، ويندفع 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.
2 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

62

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 بذلك ما قيل: إنّ بناء "تُجزى"، للمفعول، لأنّ القصد ليس لفاعل معيّن1.

 
الآية (20): ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾
استثناء منقطع، ومعنى الآية: ولكنّه يؤتي ماله طلباً لوجه ربّه الأعلى2.
 
الآية (21): ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾:
أي، ولسوف يرضى هذا الأتقى، بما يؤتيه ربّه الأعلى، من الأجر الجزيل، والجزاء الحسن الجميل. وفي ذِكْر صفتي الربّ والأعلى، إشعار بأنّ ما يؤتاه من الجزاء، أنعم الجزاء وأعلاه، وهو المناسب لربوبيّته تعالى وعلوّه3.
 
بحث تفسيريّ: طرق معرفة الله تعالى4
1- معرفة الله عبر طريقَي الآفاق والأنفس:
حثّ القرآن الكريم على التفكّر والتدبّر في آيات الخَلْق، بوصفها آثاراً ومظاهر وجوديّة تحكي عن جمال الخالق وجلاله، وقد أرشد إلى طريقين من التفكّر والتدبّر، أحدهما: التفكّر في الآيات الآفاقيّة، والآخر: التفكّر في الآيات الأنفسيّة: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾5، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾6.
 
فمعرفة الآيات بما هي آيات مُوصِلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، ككونه تعالى حيّاً لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز، وعالماً لا يُخالطه جهل، وأنّه تعالى هو الخالق لكلّ شيء، والمالك لكلّ شيء، والربّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، خلق الخَلْق لا لحاجة منه إليهم، بل ليُنعِمَ عليهم بما استحقّوه، ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه، 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.
2 انظر: م.ن.
تَدَبُّر: نكتة الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾, من سياق التكلّم وحده إلى الغيبة, الإشارة إلى الوصفين: "ربّه" و"الأعلى"، وما فيهما من دلالة على أنّ إعطاء الجزاء على عمل العباد, هو بيد الخالق الأعلى.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.
4 انظر: م.ن، ج6، ص170-175, ج18، ص373-374.
5 سورة الذاريات، الآيتان 20 - 21.
6 سورة فصّلت، الآية 53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

63

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثَّلت له حقيقة حياته، وأنّها حياة مؤبّدة، ذات سعادة دائمة، أو شقاوة لازمة، وليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربّه، وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نُسمّيها بالدين، فإنّ السنّة التي يلتزمها الإنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدويّ والهمجيّ، إنّما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه، من حيث إنّه يُقدِّر لنفسه نوعاً من الحياة، أيّ نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التي يُقدّرها الإنسان لنفسه تُمثّل له الحوائج المناسبة لها، فيهتدى بها إلى الأعمال التي تضمن - عادة - رفع تلك الحوائج، فيطبّق الإنسان عمله عليها، وهو السنّة أو الدين. 


ومن هنا، كان النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة، من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة. وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى، يشترك فيها الطريقان معاً، أي طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس.

2- المعرفة الأنفسيّة أنفع من المعرفة الآفاقيّة:
عن الإمام علي عليه السلام: "المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين". والمراد بالمعرفتين: المعرفة بالآيات الأنفسيّة والمعرفة بالآيات الآفاقيّة. وكون السير الأنفسيّ أنفع من السير الآفاقيّ، لعلّه لكون المعرفة النفسانيّة لا تنفكّ عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقيّة، لأنّ النظر إلى آيات النفس أنفع لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحيّة والبدنيّة، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها، والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيّئة التي تُقارنها. واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها مِن أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يُعرِّفه الداء والدواء من موقف قريب، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها، بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة، فإنّه، وإنْ دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحيّة، لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. 

 
كما أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة والمعرفة الحاصلة من ذلك، نظر فكريّ وعلم حصوليّ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلّية منها، فإنّه نظر شهوديّ وعلم حضوريّ، والتصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باقٍ ما دام الإنسان متوجّهاً إلى مقدّماته، غير ذاهلٍ عنها، ولا مشتغلٍ بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله، وتكثر فيه الشبهات، ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس وقواها وأطوار وجودها، فإنّه من العيان، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربّها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً، وجد نفسه متعلّقة بالعظمة والكبرياء، متّصلة في وجودها، وحياتها، وعلمها، وقدرتها، وسمعها، وبصرها، وإرادتها، وحبّها، وسائر صفاتها وأفعالها، بما لا يتناهى بهاء، وسناء، وجمالاً، وجلالاً، وكمالاً، من الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، وغيرها من كلّ كمال.
 
3- المعرفة الأنفسيّة طريق للمعرفة الشهوديّة:
النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراريّ في مسير نفسها، وأنّها منقطعة عن كلّ شيء كانت تظنّ أنّها مجتمعة معه، مختلطة به، إلا ربّها المحيط بباطنها وظاهرها وكلّ شيء دونها، فوجدت أنّها دائماً في خلا مع ربّها، وإن كانت في ملا مِن الناس. وعند ذلك، تنصرف عن كلّ شيء، وتتوجّه إلى ربّها، وتنسى كلّ شيء، وتَذْكُر ربّها، فلا يحجبه عنها حجاب، ولا تستتر عنه بستر، وهو حقّ المعرفة الذي قُدِّر لإنسان. وهذه المعرفة الأحرى بها أن تُسمّى بمعرفة الله بالله، وأمّا المعرفة الفكريّة التي يُفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة، سواء حصلت من قياس، أو حدس، أو غير ذلك، فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة، وجلّ الإله أن يُحيط به ذهن، أو تساوي ذاته صورة مُختَلَقة اختلقها خَلْق مِن خَلقه، ولا يحيطون به علماً: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾1، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾2.



1 سورة طه، الآية 110.
2 سورة الصافات، الآيتان 159 - 160.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 ومن هنا، فإذا اشتغل الإنسان بآية نفسه، وخلا بها عن غيرها، انقطع إلى ربّه من كلّ شيء، وعقب ذلك معرفه ربّه معرفة بلا توسيط وسط، وعلماً بلا تسبيب سبب، إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وينكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه، المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشيء دونه، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1. 




1 سورة فصّلت، الآية 53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 21 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: معرفة الله تعالى/ انقسام الناس إلى مؤمنين وكافرين/ الإحسان إلى الآخرين/ البخل وطلب الاستعلاء/ التقوى/ الإخلاص لله/ الرضا/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسمٌ بالليل إذا غطّت ظلمته النهار، وبالنهار إذا ظهر بعد خفاء، وبالله خالق الذكر والأنثى، وهم من نوع واحد، ولكنّ سعيهم متفرّق مختلف، تبعاً لاختلاف اختياراتهم، مع أنّ الهداية ميسّرة لكلّ واحد منهم واضحة الطريق والمعالم، فمَنْ أنفق المال لوجه الله واتّقاه وصدّق بوعده، فسيحيا حياة طيّبة، ومَنْ طلب الغنى بالإعراض عن الله تعالى والاستغناء عنه والبخل في بذل ما أعطاه الله تعالى، والتكذيب بوعده، فسيهوي إلى نار جهنّم، فالأمر في الدنيا والآخرة بيد الله تعالى، لأنّه المالك الحقيقي لكلّ شيء، والأشياء قائمة الوجود به، فيجزي المحسن المخلص في عمله أحسن الجزاء، ويُعاقب المسيء ويُعذّبه عذاباً شديداً.

4- النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة، من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو  û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "تردّى": أي هلك. 
- المراد بالتصديق بالحسنى: الإحسان إلى الآخرين. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

68

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

69

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 تعريف بالسورة ومحاورها

سمّيّت هذه السورة بالضحى، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 11 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- التدبير الربوبيّ في التكوين والتشريع.
2- العناية الإلهيّة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
3- تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستمرار العناية الإلهيّة به وبمزيد من العطاء الربّاني.
4- دواعي شكر المنعم.
5- مظاهر شكر المنعم.
6- آثار شكر المنعم.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، كان ممّن يرضاه الله، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع له، وله عشر حسنات، بعدد كلّ يتيم وسائل"1.
 
• ما رواه معاوية بن عمّار، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته، إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخيّر منها حيث أحب، فأعطوه إيّاها من غير منٍّ منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي"2.




1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص379.
2 م.ن، ص367.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

 


70

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 خصائص النزول

هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين1، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، لملائمة سياقها لكلّ من السور المكّيّة والمدنيّة2.
 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لأنّ خصائص السورة أقرب ما تكون إلى السور المكّيّة، منها إلى المدنيّة، مِنْ قِصَر آياتها، وطبيعة لحنها، وتطرّقها لأصل المعاد، أضف إلى ذلك أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها، يكمن في بداية نزولها، وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة في أوائل البعثة النبويّة المباركة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، باتّفاق المفسِّرين.
 
وروي عن ابن عباس أنّه قال: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوماً، فقال المشركون: إنّ محمداً قد ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة3.
 
واختلفت الروايات في مدّة انقطاع الوحي، بين أربعين ليلة، وخمس وعشرين ليلة، وتسع عشرة ليلة، وخمس عشرة ليلة، وأربع ليالٍ، وثلاث ليالٍ، وليلتين4.
 
والأمر في انقطاع الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدّة الانقطاع محلّ أخذ وردّ بين المفسِّرين، بين قائل بحصوله، وبين نافٍ له، وبين مفصّل بين انقطاع خصوص الوحي القرآني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فترة من الزمن، دون الوحي الرساليّ، أي بمعنى توقّف نزول شيء من القرآن بالنزول التدريجيّ، وإلا فإنّ للقرآن نزولين: دفعي، النازل في ليلة القدر على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتدريجي، النازل طيلة مدّة البعثة النبويّة على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا التوقّف في النزول التدريجي مدّة من الزمن، يرجع إلى مصلحة تتعلّق بتهيئة بيئة النزول، لا بالمنزل عليه، أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عرفت نزول حقيقة القرآن على قلبه بالنزول الدفعي. والقول الأخير هو الأوفق من بين الأقوال جمعاً مع الروايات الواردة في انقطاع الوحي، على فرض التسليم بصحّتها. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص379, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360.
4 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص360-361.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

71

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 شرح المفردات

• الضُّحَى: "الضادّ والحاء والحرف المعتلّ أصل صحيح واحد، يدلّ على بروز الشيء"1. و"الضُّحَى: انبساطُ الشمس وامتداد النهار، وسُمّي الوقت به. قال اللَّه عزّ وجلّ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾2، ﴿إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾3، ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾4، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾5، ﴿وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾6"7.
 
• سَجَى: "السين والجيم والواو أصل، يدلّ على سكون وإطباق. يُقال: سجا الليل، إذا ادلهمّ وسكن"8. و"قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾9، أي إذا سكن واستوت ظلمته"10.
 
• قَلَى: "القاف واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح، يدلّ على خفّة وسرعة... ومن الباب: القلى، وهو البغض... والقلى تجافٍ عن الشيء وذهاب عنه"11. و"قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾12، أي ما تركك وما بغضك"13.
 
• عَائِلًا: "العين واللام والياء ليس فيه إلا ما هو منقلب عن واو. العيلة، الفاقة والحاجة. يُقال: عال يعيل عيلة، إذا احتاج. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾14"15.
 
• ضَالًّا: "الضادّ واللام أصل صحيح، يدلّ على معنى واحد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "ضَحَى"، ص391.
2 سورة الشمس، الآية 1.
3 سورة النازعات، الآية 46.
4 سورة الضحى، الآيتان 1 - 2.
5 سورة النازعات، الآية 29.
6 سورة طه، الآية 59.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "ضَحَى"، ص502.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "سَجَوَ"، ص137.
9 سورة الضحى، الآية 2.
10 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "سَجَا"، ص213.
11 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَلَوَ"، ص16.
12 سورة الضحى، الآية 3.
13 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "قَلَى"، ص349.
14 سورة التوبة، الآية 28.
15 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَيَلَ"، ص198.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

72

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 حقّه"1. و"قوله تعالى: ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾2، أي أبطلها. وقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾3، أي لا تعرف شريعة، فهدى، مثل قوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾4"5.

 
• تَنْهَرْ: "النون والهاء والراء أصل صحيح، يدلّ على تفتّح شيء أو فتحه"6. و"النَّهْرُ والانتهارُ، الزّجر بمغالظة، يقال: نَهَرَه وانتهره، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾7، ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾8"9.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالضُّحَى﴾:
الآية، قسمٌ بالضحى. وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الضحى أقوالاً عدّة، هي:
• انبساط الشمس، وظهور نورها، وامتداد النهار، وهذا ما تؤيّده مقابلة الضحى بالليل بعد ذلك، في قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾.
 
• أوّل ساعة من النهار.
 
• صدر النهار، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار في الحرّ والبرد، في الشتاء والصيف.
 
وغيرها من الأقوال10.
 
الآية (2): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾
الآية، قسمٌ بالليل. وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى السجو أقوالاً، هي: 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "ضَلَّ"، ص356.
2 سورة محمد، الآية 1.
3 سورة الضحى، الآية 7.
4 سورة النساء، الآية 113.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج5، مادّة "ضَلَّ"، ص409.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَهَرَ"، ص362.
7 سورة الإسراء، الآية 23.
8 سورة الضحى، الآية 10.
9 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَهَرَ"، ص826.
10 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

73

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • سكون الليل، وهو غشيان ظلمته.

• أقبل الليل بظلامه.
• غطّى ظلام الليل كلّ شيء.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
الآية (3): ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
التوديع، الترك. والقِلى، البغض أو شدّته. والآية جواب القسم المتقدّم. ومناسبة نور النهار لنزول الوحي، وظلمة الليل لانقطاع الوحي، هي مناسبة ظاهرة2.
 
الآية (4): ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• إنّ ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها، خير لك من الدنيا الفانية، والكون فيها.
 
• إنّ آخر عمرك الذي بقي، خير لك من أوّله، لما يكون فيه من الفتوح والنصرة.
 
وغيرهما من الأقوال3.
 
والآية في مقام الترقّي، بالنسبة إلى ما تُفيده الآية السابقة، من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه من موقف الكرامة والعناية الإلهيّة، كأنّه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل والرحمة، ما دمت حيّاً في الدنيا، وحياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا4.
 
الآية (5): ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾
الآية في مقام التقرير والتثبيت لمفاد قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾. وقد اشتمل الوعد على عطاء مطلق، يتبعه رضى مطلق. وقيل: الآية ناظرة إلى الحياتين جميعاً، دون الحياة الآخرة فقط5.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام، وعليها 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص381-382.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
5 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

74

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 كساء من ثلّة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه! تعجّلي مرارة الدنيا، بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾"1.

 
وعنه عليه السلام - أيضاً - أنّه قال: "رضا جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أنْ لا يبقى في النار موحِّد"2.
 
الآية (6): ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾
هذه الآية وما يتلوها من الآيتين، فيها إشارة إلى بعض نعم الله تعالى العظيمة على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث مات أبوه، وهو في بطن أمّه، ثمّ ماتت أمّه، وهو ابن سنتين، فكفله جدّه عبد المطلب، ثمّ مات جدّه، وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمّه أبو طالب عليه السلام وربّاه. وقيل: المُرَاد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس. والمعنى: ألم يجدك وحيداً بين الناس، فآوى الناس إليك، وجمعهم حولك3.
 
روى العياشي بإسناده، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، في قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾، قال: "فرداً، لا مَثَل لك في المخلوقين، فآوى الناس إليك، ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾، أي: ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك، فهداهم إليك، ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾، تعول أقواماً بالعلم، فأغناهم بك"4.
 
الآية (7): ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾
ذَكَر المفسِّرون في معنى الضلال في الآية أقوالاً، هي:
• عدم الهداية الذاتيّة من نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذاته. فحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضالّة في نفسه وذاته، بلحاظ قطع النظر عن هدايته تعالى له، فلا هدى له صلى الله عليه وآله وسلم من ذاته ولا لأحد من الخلق، إلا بالله سبحانه، فقد كانت نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ونفس كلّ واحد من الخلق ضالّة في نفسها، وإنْ كانت الهداية الإلهيّة ملازمة لها منذ وُجِدَت، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص382.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن، ص382-383, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
4 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص384.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

75

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾1، ومن هذا الباب قول موسى عليه السلام على ما حكى الله عنه: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾2، أي لم أهتدِ بهدى الرسالة بعد3.

 
• الذهاب من العلم، كما في قوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾4، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾5.
 
• وجدك ضالّاً بين الناس لا يعرفون حقّك، فهداهم إليك، ودلّهم عليك.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق مكة،حينما كانت تجيء به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جدّه عبد المطلب عليه السلام.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعاب مكّة، عندما كان صغيراً.
 
• ضلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسيره إلى الشام مع عمّه أبي طالب عليه السلام في قافلة ميسرة، غلام خديجة عليها السلام.
 
وغيرها من الأقوال6.
 
والقولان الأول والثالث هما الأوفق من بين هذه الأقوال، أمّا الثالث فللرواية المتقدّمة عن الإمام الرضا عليه السلام، والقول الأوّل لا يخلو من وجه أيضاً، بلحاظ أنّ المقام مقام امتنان لله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنعم عليه من نِعَم.
 
الآية (8): ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾
ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• العائل، الفقير الذي لا مال له. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيراً، لا مال له، فأغناه الله بعدما تزوّج بخديجة بنت خويلد عليها السلام، فوهبت له مالها، وكان لها مال كثير.
 
• المُرَاد بالإغناء، استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قِبَل الله تعالى.



1 سورة الشورى، الآية 52.
2 سورة الشعراء، الآية 20.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310.
4 سورة البقرة، الآية 282.
5 سورة يوسف، الآية 3.
6 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص383-384, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص310-311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

76

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • إغناء الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقناعة.

 
وغيرها من الأقوال1.
 
والقول الثاني هو الأوفق بالرواية المتقدّمة عن الإمام الرضا عليه السلام.
 
الآية (9): ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾
القهر، الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كلّ واحد منهما. وذَكَر المفسِّرون في معنى الآية قولين، هما:
• لا تقهر اليتيم على ماله، فتذهب بحقّه، لضعفه، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى. 
• لا تحتقر اليتيم. 
 
والمعنيان محتملان في أنفسهما، لأنّ فيهما معنى القهر، من الغلبة والتذليل2.
 
الآية (10): ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾: 
النَهْر، هو الزجر والردّ بغلظة. وذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• لا تنهر السائل، ولا تردّه إذا أتاك يسألك، فقد كنت فقيراً، فإمّا أن تطعمه، وإمّا أن تردّه ردّاً ليّناً. 
• كما أعطاك الله ورحمك، وأنت عائل، فاعطِ سائلك وارحمه.
• المراد بالسائل، طالب العلم، وهو متّصل بقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾، والمعنى: علِّم مَنْ يسألك، كما علّمك الله الشرائع، وكنت بها غير عالم.
ويمكن حمل الآية على مطلق السؤال، وهو ما يساعد عليه إطلاق اللفظ وظهور السياق3.
 
الآية (11): ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾:
التحديث بالنعمة، ذِكْرُها قولاً، وإظهارها فعلاً، وذلك شكرها.
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى النعمة أقوالاً، هي:



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص384, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
2 انظر: م.ن، ص385, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص385-386, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

77

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 • القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصّه به. 

• مقام النبوّة الذي منحه الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
• مقام الرسالة الذي منحه الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
• النعم المذكورة في هذه السورة.
 
مطلق النعم التي أنعمها الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
روى البرقي، بإسناده، عن عمرو بن أبي نصر، قال: حدّثني رجل من أهل البصرة، قال: رأيت الحسين بن علي عليهما السلام وعبد الله بن عمر، يطوفان في البيت، فسألت ابن عمر، فقلت: قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، قال: أمره أن يُحدّث، بما أنعم الله عليه. ثمّ إنّي قلت للحسين بن علي عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، قال: "أمره أن يُحدّث، بما أنعم الله عليه من دينه"2.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أنّه قال: "فحدّث، بما أعطاك الله، وفضّلك، ورزقك، وأحسن إليك، وهداك"3.
 
وهذه الأوامر في هذه الآية والآيات السابقة عليها، هي عامّة موجّهة لجميع الناس، وإنْ كانت موجّهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنْ بوصفه المصداق الأبرز والأشرف من الناس.
 
والآيات الثلاث الأخيرة متفرّعة على الآيات الثلاث التي تسبقها، وتذكر نِعَمه تعالى عليه، كأنّه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم، مِنْ ذلّة اليتيم وانكساره، فلا تقهر اليتيم، باستذلاله في نفسه أو ماله، ووجدت مرارة حاجة الضالّ إلى الهدى، والعائل إلى الغنى، فلا تزجر سائلاً يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، ووجدت أنّ ما عندك نعمة أنعمها عليك ربّك، بجوده وكرمه ورحمته، فاشكر نعمته، بالتحديث بها، ولا تسترها4.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص386.
2 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، تحقيق جلال الدين الحسيني (المحدِّث)، ط1، طهران، دار الكتب الإسلامية, مطبعة رنكين، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش، ج1، كتاب مصابيح الظُلَم، باب الدين، ح115، ص218.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص386.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

78

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 بحث تفسيريّ: الربوبيّة1

1- معنى الربوبيّة:
الرَّبُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام... ولا يُقال الرّبّ مطلقاً، إلا لله تعالى، المتكفّل بمصلحة الموجودات، نحو قوله تعالى: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾2. وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا﴾3، أي: آلهة، وتزعمون أنّهم الباري مسبِّب الأسباب، والمتولِّي لمصالح العباد. وبالإضافة يُقال له تعالى ولغيره، نحو قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾4، و ﴿وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾5، ويقال: رَبُّ الدّار، ورَبُّ الفرس لصاحبهما، وعلى ذلك قول الله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾6، وقوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾7... والرّبوبيّة مصدر، يُقال في الله عزّ وجلّ.
 
2- حقيقة الربوبيّة: 
الربّ هو المالك الذي يُدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى المُلْك، ومعنى المُلْك (الذي عندنا في ظرف الاجتماع)، هو نوع خاصّ من الاختصاص، وهو نوع قيام شيء بشيء، يُوجِب صحّة التصرّفات فيه، فقولنا العين الفلانية مُلكنا، معناه: إنّ لها نوعاً من القيام والاختصاص بنا، يصحّ معه تصرُّفاتنا فيها، ولولا ذلك لم تصحّ تلك التصرُّفات، فالمَلِك هو الذي يملك النظام القومي والتدبير دون العين، وبعبارة أخرى يملك الأمر والحكم. وهذا في الاجتماع الإنسانيّ معنى وضعي اعتباري غير حقيقيّ، وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقيّ، نُسمّيه أيضاً مِلْكَاً، وهو نحو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا، فإنّ لنا بصراً وسمعاً ويداً ورجلاً، ومعنى هذا 



1 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، ص336-337, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص21-22, السبحاني، جعفر: محاضرات في الإلهيّات، ط1، بيروت، الدار الإسلاميّة، 1409هـ.ق/ 1989م، ص403-415.
2 سورة سبأ، الآية 15.
3 سورة آل عمران، الآية 80.
4 سورة الفاتحة، الآية 2.
5 سورة الصافات، الآية 126.
6 سورة يوسف، الآية 42.
7 سورة يوسف، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

79

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 المِلْك، أنّها في وجودها قائمة بوجودنا، غير مستقلّة دوننا، بل مستقلّة باستقلالنا، ولنا أن نتصرّف فيها كيف شئنا، وهذا هو المِلْك الحقيقي. 

 
والذي يُمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة، هو حقيقة المِلْك والمُلْك، دون المُلْك والمِلْك الاعتباريّين اللذين يبطلان ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أنّ المُلْك لا ينفكّ عن المِلْك الحقيقيّ، فإنّ الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء، بحيث لم يستقلّ عنه في وجوده، لم يستقل عنه -أيضاً- في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه، لأنّ الربّ هو المالك المدبّر. فمعنى المُلك متضمَّن في معنى المِلْك، وهو تعالى مالك المُلك.
 
3- مراتب الربوبيّة:
أ- الربوبية التكوينيّة: والمقصود بالتوحيد في الربوبية التكوينيّة، هو الإيمان بحقيقة أنّ تكوين العالم وتدبيره وإدارته بيد الله تعالى، بحيث لا يخرج عن ربوبيّته أيّ شيء، من حركة النجوم والكواكب، إلى حركة الرياح ونمو النباتات... لأنّها كلّها خاضعة لربّ العالمين وتحت تدبيره وإشرافه. والتوحيد في الربوبية التكوينية، من أدقّ المراحل وأصعبها في العقيدة التوحيدية، ويعدّ من المراحل المتكاملة للتوحيد. 
 
وإنّ التدبّر والتفكّر في آيات القرآن يكشف عن حقيقة مفادها: أنّ المشكلة الاعتقادية للكثير من الكفّار والمشركين في أمم الأنبياء والرسل عليهم السلام، كإبراهيمعليه السلام، والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كانت تكمن في هذه المرحلة من التوحيد. مع أنّهم كانوا يؤمنون بتوحيد الذات وتوحيد الخالقية: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾1. وعند سؤالهم عمَّن خلق السماوات والأرض، فإنّ جوابهم اعتراف بالتوحيد في الخالقية. فالذي يُميّز المشركين عن صفّ الموحّدين، يكمن في مرحلة التوحيد الربوبي، وهذا ما نراه من اعتماد نبي الله إبراهيمعليه السلام على الربوبية التكوينية للحقّ تعالى في احتجاجه على مشركي عصره: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾2.



1 سورة العنكبوت، الآية 61.
2 سورة الأنعام، الآية 76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

80

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 ب- الربوبية التشريعيّة: إنّ الإيمان بالتوحيد في الربوبية التشريعية، مرحلة متعالية للتوحيد، فلا يصل التوحيد إلى نصابه اللازم من دونها. وهذا القسم من الربوبية مرتبط بالأفعال الاختيارية والإرادة الحرّة للإنسان. وتمايز الإنسان عن باقي الموجودات يكمن في الإرادة الحرّة التي أعطاها الله للبشر. فالإنسان ينتخب ويسعى لرشده وكماله بالإرادة والاختيار الحرّ الذي يمتلكه. ولا يمكن أن يتحقّق هذا الكمال تحت الضغط والاختيار الإجباري، لأنّه بناءً على هذا الفرض، فإنّ الربيوبيّة الإلهيّة، بالنسبة إلى الأفعال والسلوك الإرادي والحر للإنسان - الذي تمتّع بالنعمة الإلهية بالإرادة الحرّة، وحقّ الاختيار في مجال الفكر والإيمان الداخلي، وفي مجال السلوك، والعمل الخارجي، ووهِبَ الأدوات والأسباب اللازمة لإعمال هذه الإرادة الحرّة - تقتضي أن لا يترك الإنسان وشأنه، بل إنّ الله تعالى قد أرشده إلى طريق السعادة المستقيم، وأظهر له سبيل السعادة والشقاء، والحسن والقبح، وهداه إلى برنامج الحياة الفردي والاجتماعي للوصول إلى الكمال والرشد، وليهتدي إلى الصراط المستقيم بإرادته ويؤمن به: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾1. وعلى أساس التوحيد في الربوبية التشريعية، يجب على الإنسان فقط أن يطيع الله ومن أمره تعالى بإطاعته، وأن يلتزم بقوانينه وأوامره حصراً، ويؤمن بأنّ حقّ وضع الأوامر والتشريعات له تعالى فقط. فالإيمان بالربوبية التشريعية الإلهيّة من المراحل الصعبة للفكر التوحيدي، حيث يواجه الإنسان امتحاناً وبلاء شديداً في سبيل قبولها، لأنّه يجب عليه، بإرادته الحرّة، أن يؤمن بالأوامر الإلهية ويتّبعها، وأن لا ينصاع لأمانيه وميوله النفسية، ويقطع الصراط المستقيم الإلهي، فهذا أمر عظيم ومهمّ في مسير الرشد والسعادة الإنسانية. والشاهد على هذه الحقيقة، التأمّل في انحراف إبليس، على طبق تعاليم القرآن، فالقرآن الكريم يعدّ إبليس من الكفّار وفي عداد غير الموحِّدين: ﴿وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾2. فما هو منشأ كفر إبليس وبداية انحرافه عن التوحيد؟ فعلى أساس المدارك والمعارف الدينية، كان لإبليس إيمان بالذات الإلهية، ولم يكن يُنكر ذلك، 




1 سورة البقرة، الآية 256.
2 سورة ص، الآية 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

81

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 وعبَدَ الله تعالى ستّة آلاف عام. وعلى طبق الروايات لا يعرف هل كانت من السنوات الدنيوية أم الأخروية، حيث كلّ يوم منها كألف سنة من سني الدنيا. فإبليس يؤمن بالمبدأ والمعاد، ولذا طلب من الله تعالى الإمهال ليوم القيامة: ﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾1. ولم يكن نقص إبليس في أيّ من التوحيد الذاتي والصفاتي، أو التوحيد في الخالقية والربوبية التكوينية. وما يعدّ نقصاً لإبليس حتى أخرجه من زمرة الموحِّدين هو عدم إيمانه بالربوبيّة التشريعية. فهو لم يكن مطيعاً للأمر الإلهي، لأنّ الحكم والقانون الإلهي لم يكن موافقاً لميوله النفسية ومشتهياته الباطنية، وبذلك وقع في الكفر. وهذه حقيقة قرآنية مبيّنة للطريق الحسّاس وذي التعرّجات للتوحيد الربوبيّ التشريعيّ، الذي يُعدّ حدّ النصاب للتوحيد. 




1 سورة الأعراف، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

82

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 11 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: التدبير الربوبيّ/ العناية الإلهيّة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم/ شكر المنعم/ ... 

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسَمٌ بانبساط ضوء الشمس، وسكون الليل وظلمته، ما تركك ربّك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأنت على ما أنت عليه من الفضل ما دمت حيّاً، والآخرة خير لك وأبقى، ولسوف يُعطيك ربّك عطاءً مطلقاً ترضى له نفسك في الدنيا والآخرة، كما تكفّلك بالرعاية في صغرك، في يتمك، وعدم هدايتك الذاتية، وفقرك، فعوّضك بجدّك وعمّك، وهداك إلى الدين القويم، وأغناك بزواجك من خديجة، وهذه كلّها نعم وعطايا إلهيّة تستوجب الشكر، ومن مصاديق الشكر: العطف على اليتيم، وإغاثة المحتاج، واستعمال النعم في مرضاة الله تعالى ومداومة الشكر عليها.

4- الربّ هو المالك الذي يُدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى المُلْك، وهو نوع قيام شيء بشيء، يُوجِب صحّة التصرّفات فيه. ومن المعلوم أنّ المُلْك لا ينفكّ عن المِلْك الحقيقيّ، وهو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا، فإنّ الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء، بحيث لم يستقلّ عنه في وجوده، لم يستقلّ عنه - أيضاً - في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه، لأنّ الربّ هو المالك المدبّر. والربوبيّة مراتب: تكوينيّة وتشريعيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

83

الدرس الرابع: تفسير سورة الضحى

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "قلى": أي أبغض. 
- المراد بالعائل: الفقير المحتاج. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

84

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

85

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالانشراح، لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- من النعم الإلهيّة المعنويّة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر.
2- تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته. 
3- مداومة حالة الجهد والنشاط في العمل حتى بعد الفراغ منه، استعداداً لمباشرة غيره.
4- الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر، لأنّه المؤثّر الأوحد في الوجود.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، أُعطِيَ من الأجر، كمن لقي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مغتمّاً، ففرّج عنه"1.
 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين2، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، مع قربها إلى المدنيّة، لملائمة سياقها لخصائص السور المدنيّة3.
 
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق، لأنّها نزلت عقيب سورة الضحى، ومحتواها يؤيّد ذلك، لأنّها تُكمل سرد مجموعة من النعم الإلهيّة التي شملت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص387.
2 انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص313.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

86

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 بيّنت سورة الضحى قسماً منها، وجاءت هذه السورة لتكمل القسم الآخر.

 
وروى ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أساله. قلت: أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي، منهم مَنْ سخّرت له الريح، ومنهم مَنْ كان يُحي الموتى. فقال: ألم أجدك يتيماً، فآويتك، قلت: بلى. قال: ألم أجدك ضالاً، فهديتك، قلت: بلى، أي ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، قلت: بلى أي ربّ"1.
 
شرح المفردات
• نَشْرَحْ: "الشين والراء والحاء أصل أصيل، يدلّ على الفتح والبيان"2. و"شَرْحُ الصّدر، أي: بسطه بنور إلهيّ، وسكينة من جهة الله ورَوْح منه. قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾3، وقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾4، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾5"6.
 
• وِزْرَكَ: "الواو والزاء والراء أصلان صحيحان، أحدهما: الملجأ، والآخر: الثقل في الشيء"7. و"الوَزَرُ: الملجأ الذي يُلتَجأ إليه من الجبل. قال تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ﴾8. والوِزْرُ: الثّقلُ، تشبيهاً بِوَزْرِ الجبلِ، ويُعبَّر بذلك عن الإثم، كما يُعبَّر عنه بالثقل. قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾9، كقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾10... وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾11، أي: ما كنت فيه من أمر الجاهليّة، 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَرَحَ"، ص269.
3 سورة طه، الآية 25.
4 سورة الشرح، الآية 1.
5 سورة الزمر، الآية 22.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَرَحَ"، ص449.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَزَرَ"، ص108.
8 سورة القيامة، الآيتان 11- 21.
9 سورة النحل، الآية 25.
10 سورة العنكبوت، الآية 13.
11 سورة الشرح، الآيتان 2 - 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

87

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 فأُعفِيت بما خُصِّصت به، عن تعاطي ما كان عليه قومك"1.

 
• أَنقَضَ: "النون والقاف والضاد أصل صحيح، يدلّ على نكث شيء، وربّما دلّ على معنى من المعاني على جنس من الصوت"2. و"النَّقْضُ: انْتِثَارُ العَقْدِ مِنَ البِنَاءِ والحَبْلِ. والعِقْدِ، وهو ضِدُّ الإِبْرَامِ... وحقيقةُ الانْتِقَاضِ ليس الصَّوَتَ، إنّما هو انْتِقَاضُهَا في نَفْسِهَا لِكَيْ يكونَ منها الصَّوْتُ في ذلك الوَقْتِ، فَعُبِّرَ عن الصَّوْتِ بِه، وقوله: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾3، أي: كَسَرَه حتّى صار له نَقِيضٌ"4. و"قوله: ﴿أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾5، أي أثقله حتّى جعله نقضاً"6.
 
• انصَبْ: "النون والصاد والباء أصل صحيح، يدلّ على إقامة شيء وإهداف في استواء"7.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾
الاستفهام في الآية، للتقرير، أي: قد فعلنا ذلك، ويدلّ عليه قوله تعالى في مقام العطف عليه: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، أي: وحططنا عنك وزرك8.
 
والمراد بشرح الصدر، بسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾9، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾10، وفي مقابله ضيق الصدر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾11.
 
وفي ترتّب الآيات الثلاث الأُوَل في مضامينها، ثمّ تعليلها بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾،



1 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَزَرَ"، ص867-868.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَقَضَ"، ص470-471.
3 سورة الشرح، الآية 3.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَقَضَ"، ص821-822.
5 سورة الشرح، الآية 3.
6 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "نَقَضَ"، ص232.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَصَبَ"، ص434. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَصَبَ"، ص807-808.
8 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
9 سورة طه، الآية 25.
10 سورة الزمر، الآية 22.
11 سورة الحجر، الآية 97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

88

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الظاهر في الانطباق على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته، وأواسطها، وأواخرها، ثمّ تكرار التعليل: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ثمّ تفريع آيتي آخر السورة، كلّ ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره صلى الله عليه وآله وسلم، بسطه، بحيث يسع ما يُلقَى إليه من الوحي، ويؤمر بتبليغه، وما يُصيبه من المكاره والأذى في جنب الله، أي جعل نفسه المقدّسة صلى الله عليه وآله وسلم مستعدّة استعداداً تامّاً لقَبول ما يُفَاض عليها من الله تعالى1.

 
وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: سُئِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: يا رسول الله! أينشرح الصدر؟ قال: "نعم". 
 
قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك علامة يُعرَف بها؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الموت"2.
 
الآية (2): ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾
الوزر، الحمل الثقيل. ووضع الوزر، إذهاب ما يحسّ من ثقله. 
وقد ذَكَرَ المفسِّرون في معنى وضع وزره صلى الله عليه وآله وسلم أقوالاً، هي:
• إنفاذ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإمضاء مجاهدته في الله، بتوفيق الأسباب، فإنّ الرسالة والدعوة وما يتفرّع على ذلك، هي الثقل الذي حمله إِثْر شرح صدره.
• أنّ ملكين نزلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفلقا صدره، وأخرجا قلبه وطهّراه، ثمّ ردّاه إلى محلّه3.
• ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة. 
• غفلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرائع ونحوها، ممّا يتوقّف على الوحي مع تطلّبه.
• حيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور، كأداء حقّ الرسالة.
• ثقل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بادىء نزوله عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
• ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ضلال قومه وعنادهم، مع عجزه عن إرشادهم.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314.
تفسير بالمصداق: ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾, بعلي, فجعلناه وصيّك. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428).
تَدَبُّر: سعة الصدر عامل مهمّ مهيّىء للقيام بأعباء الرسالة الثقيلة.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
3 انظر: السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

89

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 • ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من تعدّيهم ومبالغتهم في إيذائه.

• همّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفاة عمّه أبي طالبعليه السلام وزوجه خديجة عليها السلام. 
• الوزر، المعصية، ورفع الوزر، عصمته صلى الله عليه وآله وسلم. 
• الوزر، ذنب أمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعه، غفرانه.
وهذه الوجوه، بعضها سخيف، وبعضها ضعيف، لا يلائم السياق، وهي بين ما قيل به، وبين ما احتُمِلَ احتمالاً. والأوفق منها بالسياق، هو القول الأوّل1.
 
الآية (3): ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾
إنقاض الظهر، كسره، بحيث يُسمَع له صوت، والمراد به: ظهور ثقل الوِزْر عليه ظهوراً بالغاً2.
 
الآية (4): ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾: 
رَفْعُ الذكر، إعلاؤه عن مستوى ذِكْر غيره من الناس. وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، من رفع ذِكْره، أنْ قرن الله اسم نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم باسمه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، وعلى كلّ مسلم أن يذكره مع ربّه كلّ يوم في الصلوات الخمس المفروضة. ومن لطيف تعبير هذه السورة، وقوع الرفع في هذه الآية بعد الوضع في الآية السابقة عليها3.
 
الآية (5): ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾:
لا يبعد أن تكون هذه الآية تعليلاً لما تقدّم، مِن وضع الوزر، ورفع الذِّكر، فما حمَّلَه الله تعالى من الرسالة، وأمره بالدعوة، أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله، ولا سيّما مع تكذيب قومه لدعوته، واستخفافهم به، وإصرارهم على إمحاء ذكره. فوضع الله وزره الذي حمَّله، بتوفيق الناس لإجابة دعوته، ورفع ذِكْره الذي كانوا يريدون إمحاءه، وكان ذلك جرياً على سنّته الإلهيّة الجارية في عالم الدنيا، من الإتيان باليسر بعد العسر، فعلّل رفع الشدّة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، بما أشار إليه من سنّته الإلهيّة. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388-389, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314-315.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315.
3 م.ن. تَدَبُّر: السمعة الحسنة والمقام الرفيع من لوازم النجاح في قيادة المجتمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

 


90

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 واللام في "العسر"، للجنس وليس للاستغراق، ولعلّ السنّة، هي سنّة تحوّل الحوادث، وتقلّب الأحوال، وعدم دوامها1.

 
الآية (6): ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾
تكرار، للتأكيد والتثبيت. وقيل: استئناف. والتنوين في ﴿يُسْرًا﴾، للتنويع والتعدّد، لا للتفخيم. والمعيّة، معيّة التوالي، دون المعيّة، بمعنى التحقّق في زمان واحد2.
 
الآية (7): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾: 
النصب، المشقّة والتعب. والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرّع على ما بُيِّن من قَبل، مِن تحميله الرسالة، ومهمّة الدعوة إليها، ومنّ الله تعالى عليه بشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر، وكلّ ذلك هو من اليسر بعد العسر.
 
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
- إذا كان العسر يأتي بعده اليسر، والأمر فيه إلى الله تعالى لا غير، فإذا فرغت ممّا فُرِضَ عليك، فأتعب نفسك في الله - بعبادته ودعائه - وارغب فيه، ليمنّ عليك، بما لهذا التعب من الراحة، ولهذا العسر من اليسر.
- إذا فرغت من الفرائض، فانصب في النوافل. 
- إذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء.
- إذا فرغت من الغزو، فاجتهد في العبادة.
- إذا فرغت من النبوّة، فانصب عليّاً عليه السلام للإمامة3.
- إذا فرغت من دنياك، فانصب في آخرتك. 
 
وغيرها من الأقوال والوجوه الضعيفة. وأصحّ الأقوال القول الأوّل، لموافقته للسياق، وكذلك الثاني والثالث والرابع والخامس، لكونها من التفسير بالمصداق الذي حدّدته بعض 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315-316.
2 م.ن، ج20، ص316.
تّدَبُّر: السنّة الإلهيّة قائمة على أساس أنّه بعد كلّ عسر يأتي اليسر, فالمشاكل والمصاعب قابلة للزوال وتحتاج إلى صبر وتحمّل وثبات وعزيمة, حتى يأتي اليسر.
3 انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428-429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

91

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام1.

 
الآية (8): ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾:
أي اعتمد على الله تعالى في كلّ الأحوال، وارغب إليه في المسألة. والآية في مقام الحثّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرغبة في الطلب من الله تعالى دون غيره. وهذا خطاب تشريفيّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفه المصداق الأكمل من الناس، فيشمل الحثّ جميع الناس2.
 
بحث تفسيريّ: التوحيد الأفعاليّ3
1- معنى التوحيد الأفعالي:
المُراد به أنّ عالم الخلق منظَّم ومبني على الأسباب والمسبّبات، وأنّها ناشئة من إرادة الخالق ومعتمدة على مشيئته. فالظواهر الوجودية الكلّية والجزئيّة في ذاتها محتاجة لخالقها، متوقّفة عليه، وهو تعالى قائم بذاته: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾4. وهذه الظواهر بالتّالي غير مستقلّة في مقام التأثير، وكلّ أثر وعمل يحدث من الوجود الممكن بحول من الله وقوّته، فلا مؤثّر في الوجود إلا الله. فالتوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر: الفراغ من أداء مسؤوليّة ما ليس مبرّراً للقعود والخمول، بل يجب متابعة بذل الوسع والجهد في أداء مسؤوليّات أخرى, فنيل مقام القرب من الله تعالى يحتاج لأن يقضي الإنسان حياته بأكملها في السعي نحو هذا الهدف السامي والعالي, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (سورة الانشقاق، الآية 6).
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر: 
- يلزم أن تكون وجهة السعي في الأمور كلّها وجهة إلهيّة.
- بذل أقصى الجهد من أجل الوصول إلى مرضاة الله تعالى.
- ينبغي أن يكون السعي عن رغبة وشوق.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج10، ص211-213, ج13، ص270-273.
4 سورة البقرة، الآية 255.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

92

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 2- مراتب التوحيد الأفعاليّ: 

• التوحيد في الخالقية: وهو اعتراف الموحّد وإيمانه بأنّ موجودات عالم الوجود كلّها فقيرة ومحتاجة، ووجودها رهن الفيض والتجلّي الإلهي، فالكلّ مخلوقاته، ولا خالق سواه: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾1.
 
• التوحيد في الربوبيّة: هو الإيمان بحقيقة أنّ تدبير عالم الوجود - ومنه الإنسان - بيد إله العالم وحده، والخلق كلّهم تحت ربوبيّته وتدبيره. فالإنسان في خلقه وتكوينه لم يفوِّض الله تعالى إليه تدبير نفسه، بل دوماً يعيش بالتدبير الإلهي: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾2.
 
3- أدلّة التوحيد الأفعالي:
- الدليل العقلي:
تقضي البراهين اليقينيّة بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة كافّة، في ذواتها، وآثار ذواتها، وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات، استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق، إذ لو فُرِضَ استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأيّ وجه فُرِضَ في حدوث أو بقاء -، استغنى عنه من تلك الجهة، وهو محال. فكلّ ممكن غير مستقلّ في شيء من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي يستقلّ في ذاته، وهو الغني الذي لا يفتقر في شيء، ولا يفقد شيئاً من الوجود وكمال الوجود، كالحياة، والقدرة، والعلم، فلا حدّ له يتحدّد به. 
 
وعليه، فإنّ كلّ ما كان للممكن، من الوجود، أو الحياة، أو القدرة، أو العلم، متعلّق الوجود به تعالى، غير مستقلّ عنه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير، ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه، فلا مانع من فرض ممكن له علم بكلّ شيء، أو قدرة على كلّ شيء، أو حياة دائمة، ما دام غير مستقلّ الوجود عن الله سبحانه، ولا منعزل الكون عنه، كما لا مانع 



1 سورة الرعد، الآية 16.
2 سورة طه، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

93

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 من تحقّق الممكن مع وجود مؤقّت، ذي أمد، أو علم، أو قدرة، متعلّقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يُبطِلَ الحاجة الإمكانيّة، ولا فرق فيه بين الكثير والقليل.

 
- الدليل القرآني:
إنّ القرآن الكريم، وإنْ كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى، كالعلم بالمغيّبات، والإحياء، والإماتة، والخلق، كما في قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾1، ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾2، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾3، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾4، إلى غير ذلك من الآيات، لكنّها جميعاً مفسّرة بآيات أُخَر، كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾5، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾6، ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ﴾7، ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾8، إلى غير ذلك من الآيات. وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكّاً في أنّ المراد بالآيات النافية، اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال، والمراد بالآيات المثبتة، إمكان تحقّقها في غيره تعالى، بنحو التبعية وعدم الاستقلال. فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون، أو القدرة الغيبيّة، أي العلم من غير طريق الفكر، والقدرة من غير مجراها العاديّ الطبيعيّ، لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه، كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار، ونفى معه الأصالة والاستقلال، بأن يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى، وإنّما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط، ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده، فلا حجر عليه. ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامّي، وإنْ أسنده إلى الله سبحانه، وفيض رحمته، لم يخل من غلوّ، وكان مشمولاً لمثل قوله تعالى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ﴾9.



1 سورة الأنعام، الآية 59.
2 سورة النجم، الآية 44.
3 سورة الزمر، الآية 42.
4 سورة الزمر، الآية 62.
5 سورة الجن، الآيتان 26 - 27.
6 سورة السجدة، الآية 11.
7 سورة آل عمران، الآية 49.
8 سورة المائدة، الآية 110.
9 سورة النساء، الآية 171.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

94

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 8 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نِعَم شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر/ تبشير النبيصلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته/ المداومة على الاجتهاد والنشاط في العمل/ الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر.

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: ألم نشرح صدرك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ببسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه، ووضعنا عنك وزرك، بإنفاذ دعوتك، وإمضاء مجاهدتك في الله، بتوفيق الأسباب لنشر الرسالة والدعوة. ورفعنا لك ذكرك عن مستوى ذِكر غيرك من الناس، فاعلم أنّ سنّة الله تعالى الجارية في خلقه قائمة على مجيء اليسر والفرج بعد العسر والكرب، وأنّه لا بدّ من متابعة الجهد والعمل بعد الفراغ من غيره، والتوجّه دوماً إلى الله تعالى بالدعاء والعبادة، لأنّ نجاح الإنسان وفلاحه منوط بارتباطه بالله تعالى، المؤثّر الأوحد في الوجود.

4- التوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له. ولهذا التوحيد مرتبتان، هما: التوحيد في الخالقيّة، والتوحيد في الربوبيّة والتدبير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

95

الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، ولكنّها أوفق بالمدنيّة. 
- معنى "أنقض": أي هدم. 
- المراد بـ "فارغب": اعتمد. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

96

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الدرس السادس: تفسير سورة التين

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

97

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالتين، لورود ذكره في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- عِظَم نظام الخِلْقَة.
2- تكوين الإنسان وعوامل تكامله وانحطاطه. 
3- فلاح الإنسان في الدنيا والآخرة يدور مدار الإيمان والعمل الصالح.
4- حقّانيّة يوم القيامة وحتميّته.
5- الحاكميّة الإلهيّة المطلقة. 
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قرأها، أعطاه الله خصلتين: العافية، واليقين، ما دام في دار الدنيا، فإذا مات، أعطاه الله من الأجر بعدد مَنْ قرأ هذه السورة صيام يوم"1
 
• ما رواه شعيب العقرقوفي، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "مَنْ قرأ ﴿وَالتِّينِ﴾ في فرائضه ونوافله، أُعطِي من الجنّة حيث يرضى"2.
 
خصائص النزول
اختلف المفسِّرون في مكّيّة السورة أم مدنيّتها، وأكثرهم على مكّيّتها، واحتمل بعضهم مدنيّتها، لملائمة سياقها لخصائص السورة المدنيّة. ومن المؤيّدات على كونها مكّيّة، قوله



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

98

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾، حيث ورد في الروايات أنّ المراد بالبلد الأمين، هو مكّة. أضف إلى ذلك تضمين القسم في الآية اسم الإشارة للقريب "هذا". ويُضعّف ذلك: احتمال نزولها بعد الهجرة وهو صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة، ولا سيما أنّ ضابط المكّي والمدني تدور مدار الهجرة النبويّة المباركة، وليس مدار الضابطة الزمانية، أو المكانية، أو الخطابيّة1.

 
شرح المفردات
• طور: "الطاء والواو والراء أصل صحيح، يدلّ على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان... والطور جبل، فيجوز أن يكون اسماً"2.
 
• سِينِينَ: "طور سَيْنَاءَ: جبل معروف، قال: ﴿تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء﴾3"4.
 
• تَقْوِيمٍ: "القاف والواو والميم أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما: على جماعة ناس، وربّما استُعير في غيرهم، والآخر: على انتصاب أو عزم... ومن الباب: قوّمت الشيء تقويماً"5. و"تَقْوِيمُ الشيء"، تثقيفه، قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾6، وذلك إشارة إلى ما خصّ به الإنسان من بين الحيوان، من العقل، والفهم، وانتصاب القامة الدّالَّة على استيلائه على كلّ ما في هذا العالم"7.
 
• مَمْنُونٍ: "الميم والنون أصلان، أحدهما: يدلّ على قطع وانقطاع، والآخر: على اصطناع خير. الأوّل: المنّ، القطع، ومنه يُقال: مننت الحبل قطعته. قال الله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾8"9.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص318-319, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص365.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَوَرَ"، ص430.
3 سورة المؤمنون، الآية 20.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "سِيْن"، ص439.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَوَمَ"، ص43.
6 سورة التين، الآية 4.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَوَمَ"، ص693.
8 سورة التين، الآية 6.
9 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "مَنَّ"، ص267. وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "مَنَنَ"، ص319.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

99

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 تفسير الآيات

 
الآية (1): ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾
ذَكَر المفسِّرون في المراد بالتين والزيتون أقوالاً عدّة، هي:
• الفاكهتان المعروفتان. ووجه القسم بهما، لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواصّ النافعة.
• شجرتا التين والزيتون.
• المُرَاد بالتين، الجبل الذي عليه دمشق. وبالزيتون، الجبل الذي عليه بيت المقدس. ولعلّ إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين، لكونهما منبتيهما.
• المراد بالتين، مسجد نوحعليه السلام الذي بُنِيَ على الجودي. وبالزيتون، بيت المقدس.
• المُراد بالتين، المسجد الحرام. وبالزيتون، المسجد الأقصى.
 
وغيرها من الأقوال1.
 
ولعلّ الإقسام بالتين والزيتون، لكونهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء عليهم السلام، وهو ما يناسب ذِكرهما في سياق ذِكر مكانين مقدّسين "طور سينين"، و"البلد الأمين".
 
وقد روى موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾، التين، المدينة، والزيتون، بيت المقدس، وطور سينين، الكوفة، وهذا البلد الأمين، مكّة"2.
 
الآية (2): ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى "طور سينين" أقوالاً عدّة، هي:
• الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى بن عمرانعليه السلام، ويُسمّى - أيضاً - طور سيناء.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص392-393, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
2 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): معاني الأخبار، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش، باب معنى التبين والزيتون...، ح1، ص364-365.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

 


100

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 • المبارك الحسن، أي جبل الخير الكثير.

• كثير النبات والشجر.
• كلّ جبل فيه شجر مثمر.
وغيرها من الأقوال1.
 
وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام، أنّ المراد بـ"طور سينين"، الكوفة، وهي من باب التطبيق.
 
الآية (3): ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾: 
المراد بهذا البلد الأمين، مكّة المشرّفة، لأنّ الأمن خاصّة مشرّع للحَرَم، وهو في مكّة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾2، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام على ما حكى الله عنه: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾3، وفي دعائه عليه السلام ثانياً: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾4. وفي الإشارة بهذا إلى البلد، تثبيت التشريف عليه بالتشخيص. وتوصيفه بالأمين، إمّا لكونه فعيلاً، بمعنى الفاعل، ويفيد معنى النسبة، والمعنى: ذي الأمن، وإمّا لكونه فعيلاً، بمعنى المفعول، والمراد، البلد الذي يُؤمَن الناس فيه، أي لا يُخاف فيه من غوائلهم، ففي نسبة الأمن إلى البلد، نوع تجوّز5.
 
ويؤيّد ذلك ما رُوِيَ عن الإمام موسى بن جعفرعليه السلام في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾: "يعني مكّة، البلد الحرام، يأمن فيه الخائف في الجاهليّة والإسلام"6.
 
وما تقدّم من الرواية الواردة عنه عليه السلام - أيضاً -، من أنّ المراد بـ "هذا البلد الأمين"، مكّة.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص393, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
2 سورة العنكبوت، الآية 67.
3 سورة البقرة، الآية 126.
4 سورة إبراهيم، الآية 35.
5 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319.
6 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص393.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

101

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الآية (4): ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾: 

جواب للقسم. والمراد بكون خَلْقِه في أحسن تقويم، اشتمال التقويم عليه في جميع شؤونه وجهات وجوده. والتقويم، جعل الشيء ذا قوام. وقوام الشيء، ما يقوم به ويثبت، فالإنسان الجنس ذو أحسن قوام، بحسب الخلقة. ومعنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة، على ما يستفاد من قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ﴾، صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى والفوز بحياة خالدة عند ربّه، سعيدة لا شقوة معها، وذلك بما جهّزه الله به من العلم النافع ومكّنه منه من العمل الصالح، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾1، فإذا آمن بما علم وزاول صالح العمل، رفعه الله إليه، كما قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾3. وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾4، وقال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾5، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح، عطاء من الله غير مجذوذ، وقد سمّاه تعالى أجراً، كما يشير إليه قوله الآتي: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾6.
 
الآية (5): ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى "أسفل سافلين" أقوالاً عدّة، منها:
• مقام منحطّ هو أسفل من سفل، من أهل الشقوة والخسران. والمعنى: ثمّ رددنا الإنسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب.
 
• ردّه إلى الهرم، بتضعيف قواه الظاهرة والباطنة، ونكس خلقته، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾7.



1 سورة الشمس، الآيتان 7- 8.
2 سورة فاطر، الآية 10.
3 سورة الحج، الآية 37.
4 سورة المجادلة، الآية 11.
5 سورة طه، الآية 75.
6 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص319-320.
7 سورة يس، الآية 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

102

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 • ردّه إلى جهنّم أو إلى نكس الخلق.

 
والقولان الثاني والثالث لا يلائمهما ما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، من الاستثناء الظاهر في المتّصل، فإنّ حكم الخَلْق عامّ في المؤمن والكافر، والصالح والطالح، ودعوى أنّ المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة1.
 
الآية (6): ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: 
أي غير مقطوع. والاستثناء متّصل، من جنس الإنسان. وتفريع قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ عليه، يؤيّد أنّ المراد من ردّه إلى أسفل سافلين، ردّه إلى الشقاء والعذاب2.
 
الآية (7): ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾: 
الخطاب للإنسان، باعتبار الجنس. وقيل: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره. و"ما"، استفهاميّة توبيخيّة. و"بالدين"، متعلّق بيكذّبك. والدين، الجزاء. ومعنى الآية: ما الذي يجعلك مكذّباً بالجزاء، يوم القيامة، بعد ما جعلنا الإنسان طائفتين، طائفة مردودة إلى أسفل سافلين، وطائفة مأجورة أجراً غير ممنون3.
 
الآية (8): ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾:
الاستفهام، للتقرير. وكونه تعالى أحكم الحاكمين، هو كونه فوق كلّ حاكم، في إتقان الحكم، وحقّيّته، ونفوذه من غير اضطراب ووهن وبطلان، فهو تعالى يحكم في خلقه وتدبيره، بما مِنَ الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس، من حيث الإتقان والحسن والنفوذ. 
 
وإذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين، والناس طائفتان مختلفتان، اعتقاداً وعملاً، فمن الواجب في الحكمة أن يُميّز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية، وهو البعث.
 
فالتفريع في قوله تعالى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾، من قبيل: تفريع النتيجة على الحجّة، وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾، تتميم للحجّة المُشار إليها، بما يتوقّف عليه تمامها.


 

1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص394, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص320.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص320.
3 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

103

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 والمحصّل: أنّه إذا كان الناس خُلِقُوا في أحسن تقويم، ثمّ اختلفوا، فطائفة خرجت عن تقويمها الأحسن ورُدَّت إلى أسفل سافلين، وطائفة بقيت في تقويمها الأحسن، وعلى فطرتها الأولى، والله المدبّر لأمرهم، أحكم الحاكمين، ومن الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان، جزاءً، فهناك يوم تُجزى فيه كلّ طائفة بما عملت، ولا مسوِّغ للتكذيب به.

 
فالآيات في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾1، وقوله تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾2،3.
 
بحث تفسيريّ: خلق الإنسان وتكوينه4
1- بدء تكوين الإنسان:
إنّ النوع الإنسانيّ، ليس نوعاً مشتقّاً من نوع آخر حيوانيّ أو غيره، حوّلته إليه الطبيعة المتحوّلة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض وما عليها والسماء، ولا إنسان، ثمّ خلق زوجين اثنين من هذا النوع، وإليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾5، وقال تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾6، وقال تعالى: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾7، وأمّا ما افترضه علماء الطبيعة، من تحوّل الأنواع، وأنّ الإنسان مشتقّ من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعيّ اليوم، أو متحوّل من السمك، على ما احتمله بعض، فإنّما هي فرضيّة، والفرضية غير مستندة إلى العلم اليقينيّ، وإنّما تُوضَع لتصحيح التعليلات والبيانات العلميّة، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينيّة، بل حتّى الإمكانات الذهنيّة، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والأحكام المرتبطة بموضوع البحث.



1 سورة ص، الآية 28.
2 سورة الجاثية، الآية 21.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص321.
4 انظر: م.ن، ج2، ص112-114.
5 سورة الحجرات، الآية 13.
6 سورة الأعراف، الآية 189.
7 سورة آل عمران، الآية 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

104

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 2- تركّب الإنسان من روح وبدن:

أنشأ الله هذا النوع، مركّباً من جزئين، ومؤلّفاً من جوهرين، مادّة بدنيّة، وجوهر مجرّد، هي: النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان، ما دامت الحياة الدنيويّة، ثمّ يموت البدن ويفارقه الروح الحيّة، ثمّ يرجع الإنسان إلى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ *  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾1، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾2، وأوضح من الجميع، قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾3، فإنّه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرّق الأعضاء والأجزاء واستهلاكها في الأرض بعد الموت، فلا تصلح للبعث، بأنّ ملك الموت يتوفّاهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضلّ في الأرض، لكنّهم، أي نفوسهم غير ضالّة ولا فائتة ولا مستهلكة.
 
3- ارتباط الإنسان بالأشياء الخارجيّة:
خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركّب فيه السمع والبصر والفؤاد، ففيه قوّة الإدراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث، وما هو موجود في الحال، وما كان، وما سيكون ويؤول إليه أمر الحدوث والوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾4، وقال تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾5، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ



1 سورة المؤمنون، الآيات 12 - 16.
2 سورة ص، الآية 72.
3 سورة السجدة، الآيتان 10 - 11.
4 سورة العلق، الآية 5.
5 سورة النحل، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

105

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾1. وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكلّ شيء، ويستطيع الانتفاع من كلّ أمر، أعمّ من الاتّصال أو التوسّل به إلى غيره، بجعله آلة وأداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعيّة، وسلوكه في مسالكه الفكريّة، قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾2، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾3، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخَّرة للإنسان. 




1 سورة البقرة، الآية 31.
2 سورة البقرة، الآية 29.
3 سورة الجاثية، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

106

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 8 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نظام الخِلْقَة/ تكوين الإنسان وعوامل تكامله وانحطاطه/ فلاح الإنسان/ يوم القيامة/ الحاكميّة الإلهيّة/ ... 
 
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
 
3- في تفسير السورة: قسمٌ بالتين والزيتون، بما لهما من فوائد أو بجبلي التين الذي عليه دمشق والزيتون الذي عليه بيت المقدس، وبطور سينين، وهو الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وهذا البلد الأمين، وهو مكّة المكرّمة، إنّ خِلْقَة الإنسان هي كمال القوام في كلّ شيء، بما جهّزه الله تعالى من العلم النافع ومكّنه من العمل الصالح، وهو في خسران تدريجي في حياته الدنيا، إلا أن يتزوّد منها لدار الآخرة، التي هي دار حقّ ومستقرّ. وحكم الله تعالى في ذلك متقن ونافذ على كلّ شيء لا مردّ له.
 
4- أنشأ الله تعالى النوع الإنساني، وجعله مركّباً من جزئين، ومؤلّفاً من جوهرين، مادّة بدنيّة، وجوهر مجرّد، هي: النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان، ما دامت الحياة الدنيويّة، ثمّ يموت البدن ويفارقه الروح الحيّة، ثمّ يرجع الإنسان إلى الله سبحانه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

107

الدرس السادس: تفسير سورة التين

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة في فرائضه ونوافله، أُعطِي من الجنّة حيث يرضى. 
- معنى "البلد الأمين": المدينة المنوّرة. 
- المراد بـ "طور سينين": الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه السلام. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

108

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

109

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 تعريف بالسورة ومحاورها

يوجد تسميات عدّة مشهورة بين المسلمين لهذه السورة المباركة، هي: "العلق"، و "إقرأ"، و"القلم"، ولعلّ تسميتها بهذه الأسماء، لورودها في سياق آياتها، وكونها من المواضيع المهمّة التي تتعرّض لها السورة وتريد التنبيه إليها. وهذه السورة إحدى سور العزائم الأربع التي يجب على المكلّف السجود عند قرائته لآية السجدة فيها أو سماعه لها مباشرة، ويحرم على الحائض والجنب قرائتها. ولا يجوز قرائتها في الصلاة.
 
وتتضمّن هذه السورة 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور المهمّة، وهي:
1- أهمّيّة القراءة والعلم وضرورتهما في حياة الإنسان. 
2- عِظَم خِلْقَة الإنسان.
3- العناية الإلهيّة بتكامل الإنسان.
4- طغيان الإنسان وعاقبة طغيانه.
5- تقوى الإنسان وعاقبة تقواه.
6- السجود لله تعالى مظهر للإقرار بالعبوديّة لله تعالى.
7- القرب من الله تعالى أثر وجوديّ مطّرد مع الهداية والتقوى.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه"1.
 
• ما رواه محمد بن حسان، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من قرأ في يومه أو في ليلته ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، ثمّ مات في يومه، أو في ليلته، مات شهيداً، وبعثه الله



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص396.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

110

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 شهيداً، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.

 
خصائص النزول
المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة هي أوّل ما نزل من القرآن، مع إجماعهم على نزول الآيات الخمس الأوائل في بداية نزول الوحي على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يؤيّده مضمون الآيات2.
 
وممّا ورد من الروايات في بيان حادثة النزول: ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام: "فلمّا استكمل أربعين سنة، نظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه، فوجده أفضل القلوب، وأجلّها، وأطوعها، وأخشعها، وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمدصلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم، وأمر بالرحمة، فأُنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه، وأخذ بضبعه وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثمّ أوحى (إليه) ما أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ"3
 
وقد وردت مجموعة من الروايات في بيان أثر النزول الأوّل للوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاف واغتمّ كثيراً! وخشي أن يكون ذلك من إلقاءات الشيطان! وهمَّ مرّات بأن يُلقي بنفسه من أعلى الجبل! وفزع إلى زوجه خديجة لتخفّف من روعه بابن عمّها ورقة بن نوفل الذي بشّره بأنّه نبي!4



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص396.
2 انظر: م.ن، ص398.
3 تفسير الإمام العسكري عليه السلام، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ط1، قم المقدّسة، نشر مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, مطبعة مهر، 1409 هـ.ق، ح78، ص156-157.
4 انظر: ابن جرير الطبري، محمد: تاريخ الطبري، لا.ط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، لا.ت، ج2، ص47, ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لا.ط، بيروت، دار صادر، لا.ت، ج6، ص233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

111

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 وأمثال هذه الافتراءات يبطلها القرآن الكريم1 والروايات2 والسيرة القطعيّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تكشف عن رجاحة عقله، وعظيم صبره، وسعة صدره، وبالغ يقينه، ومنتهى ثقته بالله تعالى، وبأنّه نبيّ من أنبياء الله تعالى.

 
ويرجع وجود هذه المرويّات في التراث الحديثيّ الإسلاميّ إلى عمليّة الدسّ والتزوير التي انتهجها أعداء الإسلام، عبر ما يُسمّى في اصطلاح المحدّثين "بالإسرائيليّات"، بهدف النيل من الإسلام ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
شرح المفردات
• عَلَقٍ: "العين واللام والقاف أصل صحيح يرجع إلى معنى واحد، وهو أن يُناط الشيء بالشيء العالي، ثمّ يتّسع الكلام فيه. والمرجع كلّه إلى الأصل... والعلق الدم الجامد. وقياسه صحيح، لأنّه يعلق بالشيء. والقطعة منه علقة"3، وهي "التي يكون منها الولد. قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾4"5.
 
• يَطْغَى: "الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحدّ في العصيان"6.



1 قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (سورة النجم، الآيات 3-5), ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ (سورة النمل، الآية 10), ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (سورة الإسراء، الآية 65).
2 روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه سُئل عليه السلام: كيف عَلمت الرسُل أنَّها رسُل؟ قال: "كُشِفَ عنهم الغطاء" (البرقي، المحاسن، م.س، كتاب العلل، ح85، ص328), عن الإمام عليعليه السلام: "ولقد قرَنَ الله به من لدُن أن كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم, ليله ونهاره.." (العلوي، علي (الشريف الرضي): نهج البلاغة (الجامع لخطب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورسائله وحكمه)، شرح: محمد عبده، ط1، قم المقدّسة، دار الذخائر, مطبعة النهضة، 1412هـ.ق/ 1370هـ.ش، ج1، الخطبة 192(القاصعة)، ص157, عن زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخفْ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم في ما يأتيه من قِبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقالعليه السلام: "إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قِبل الله مثل الذي يراه بعينه" (العياشي، محمد بن مسعود: تفسير العياشي، تحقيق وتصحيح وتعليق هاشم الرسولي المحلاتي، لاط، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، لات، ج2، ح106، ص201).
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَلَقَ"، ص125.
4 سورة العلق، الآية 2.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَلَقَ"، ص579-580.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "طَغَى"، ص412. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "طَغَى"، ص520.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

112

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 • لَنَسْفَعاً: "السين والفاء والعين أصلان، أحدهما: لون من الألوان، والآخر: تناول شيء باليد، فالأوّل السفعة، وهي السواد... وأمّا الأصل الآخر، فقولهم سفعت الفرس إذا أخذت بمقدّم رأسه وهي ناصيته. قال الله جلّ ثناؤه: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾1"2.

 
• النَّاصِيَةِ: "النون والصاد والحرف المعتلّ، وهذا المعتل أكثره واو، أصل صحيح يدلّ على تخيّر وخطر في الشيء وعلوّ... ومنه الناصية سُمّيت لارتفاع منبتها. والناصية قصاص الشعر"3.
 
• الزَّبَانِيَةَ: "الزاء والباء والنون أصل واحد يدلّ على الدفع... والزبانية سمّوا بذلك لأنّهم يدفعون أهل النار إلى النار"4.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾: 
الأمر في الآية ﴿اقْرَأْ﴾ لا يُراد به الأمر التشريعيّ، لأنّ الأمر التشريعي لأمِّيّ لا يقدر على القراءة تكليف بما لا يُطاق، وذلك قبيح من المولى الحكيم. بل هو أمر تكوينيّ له نظائره في القرآن، كقوله تعالى للنار: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾5، فصارت برداً وسلاماً. وكقوله تعالى للسموات والأرض: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾6. 
 
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾7. فهذا القادر المتعال يأمر نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة بأمر تكوينيّ، فيكون قارئاً.
 
وأمّا معنى الباء في ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فهي للابتداء أو للاستعانة، فعلى الابتداء يكون المعنى: 



1  سورة العلق، الآية 15.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "سَفَعَ"، ص84. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "سَفَعَ"، ص413.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَصَا"، ص433, وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَصَا"، ص810.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "زَبَنَ"، ص46.
5 سورة الأنبياء، الآية 69.
6 سورة فصّلت، الآية 11.
7 سورة يس، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

113

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 أنّ مبدأ قدرتك على الأشياء كلّها - ومنها: القراءة - هو الله تعالى، ويكون المعنى على الاستعانة: أنّ قدرتك على القراءة، مع أنّك رجل أمّي، تتحقّق بالاستعانة باسم ربّك. والمعنى الأوّل يناسب مقام الإخلاص في التوحيد الأفعالي، وأنّه لا مؤثّر في الوجود إلا الله.

 
وأمّا الربّ: فله معانٍ، فإنْ كان بمعنى المتعال والثابت والسيد، فهو من الأسماء الذاتيّة، وإنْ كان بمعنى المالك والصاحب والغالب والقاهر، فهو من الأسماء الصفاتيّة، وإنْ كان بمعنى المربّي والمنعم والمتمّم، فهو من الأسماء الأفعاليّة.
 
وفي الآية إشارة إلى قصر الربوبيّة في الله عزّ اسمه، وهو توحيد الربوبيّة المقتضية لقصر العبادة فيه، فإنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ الله سبحانه ليس له إلا الخلق والإيجاد، وأمّا الربوبيّة، وهي الملك والتدبير، فلمقرّبي خلقه، من الملائكة والجنّ والإنس، فدفعه الله بقوله: ﴿رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ الناصّ على أنّ الربوبيّة والخلق له وحده.
 
وعلى هذا، يختلف معنى الآية، باختلاف معاني الربّ. وبالنسبة إلى المعنى المعروف، وهو المربّي والمنعم، الذي هو من الأسماء الأفعاليّة، فالمعنى: اقرأ مبتدأً باسم من ربّاك وأعطاك هذه اللياقة وهذا الاستعداد1.
 
الآية (2): ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾:
هذه الآية من قبيل ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، فإنّ الآية الأولى، وإنْ كانت تشتمل على أنّ الله سبحانه هو الخالق لجميع الموجودات، ولكنّ الإنسان، لأهمّيّته خُصَّ بالذِّكْر ثانياً. فكأنّ خَلْق الإنسان يُعدّ عملاً مستقلّاً في مقابل خَلْق غيره، فَخُصَّ بالذكر.
 
وممّا يُستفاد - أيضاً - أنّ الآية الأولى تشتمل على معنى الخِلْقَة مِنَ العدم. وهذه الآية على خَلْق شيء من شيء آخر.
 
والمراد بالإنسان في الآية هو: جنس الإنسان المتناسل. والمراد بالعلق، هو: الدم المنجمد، الذي تستحيل إليه النطفة في الرحم.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص323, الخميني، روح الله: تفسير سورة الحمد، تفسير آية: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾, يعني خلق نورك الأقدم قبل الأشياء..." (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

114

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 ففي الآية إشارة إلى التدبير الإلهيّ الوارد على الإنسان، من حين كان علقة، إلى حين يصير إنساناً تامّاً كاملاً، له من أعاجيب الصفات والأفعال ما تتحيّر فيه العقول، فلم يتمّ الإنسان إنساناً، ولم يكمل، إلا بتدبير متعاقب منه تعالى، وهو بعينه خَلْق بعد خَلْق، فهو تعالى ربّ مدبّر لأمر الإنسان بعين أنّه خالق له، فليس للإنسان إلا أن يتّخذه وحده ربّاً، ففي الكلام احتجاج على توحيد الربوبيّة1.

 
الآية (3): ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾:
لعلّ الوجه في تكرار اقرأ والأمر بالقراءة ثانياً التأكيد على الأمر الأوّل، وفاءً لظاهر سياق إطلاق الأمر في الموردين.
 
والواو في وربّك: إمّا حاليّة وإمّا استئنافيّة، فتكون الجملة حاليّة على الأوّل، واستئنافيّة على الثاني. وعلى أيّ تقدير، فالمراد من قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾، أي الذي يفوق عطاؤه عطاء ما سواه، فهو تعالى يُعطي لا عن استحقاق، وما من نعمة، إلا وينتهي إيتاؤها إليه تعالى2.
 
الآية (4): ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾:
الباء للسببيّة، والمراد أنّه علّم الإنسان القراءة أو الكتابة والقراءة، بواسطة القلم. والجملة حالية أو استئنافية، والكلام فيها مسوق لتقوية نفس النبيصلى الله عليه وآله وسلم، وإزالة القلق والاضطراب عنها، حيث أُمِرَ بالقراءة، وهو أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ، كأنّه قيل: اقرأ كتاب ربّك 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص323-324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: .... ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾, يعني خلقك من نطفة (علقة) وشقّ منك عليّاً" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
تَدَبُّر: لا بدّ أن يكون للعَلَق خصوصيّة تخصّه بالذِّكْر، وإلّا فالأفضل أن يُذكَر المبدأ الأوّل, وهو التراب، أو المبدأ للنشء الآدميّ, وهو النطفة, لكونهما أدلّ على كمال القدرة من العلقة, ولأنّهما أبعد من العَلَقة بالنسبة إلى الإنسانيّة. وتشير الدراسات العلميّة والطبّيّة أنّ المادّة الأوّليّة لخَلْق الإنسان، أشبه ما تكون بهذه الدويبة، على ما جاءت صورتها مكبّرة في بعض الدراسات الطبّيّة. فلو كان هذا المعنى صحيحاً, لكانت هذه الآية من المعجزات العلميّة القطعيّة للقرآن الكريم.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾, يعني علّم علي بن أبي طالب عليه السلام" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

115

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الذي يوحيه إليك، ولا تخف، والحال أنّ ربّك الأكرم الذي علّم الإنسان القراءة، بواسطة القلم الذي يخطّ به، فهو قادر على أن يُعلّمك قراءة كتابه، وأنت أمّيّ، وقد أمرك بالقراءة، ولو لم يُقْدِرَك عليها لم يأمرك بها1.

 
وقد بيّن الله تعالى بهذا البيان أهمّيّة القلم، وأنّه الوسيلة لنشر العلوم وبقائها، كما جعله محلّاً لقسمه في كتابه الكريم بقوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾2.
 
الآية (5): ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾:
عمّم سبحانه النعمة في هذه الآية، فذكر تعليمه للإنسان ما لم يعلم. وفي الآية مزيد تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه. والمراد بالإنسان: جنس الإنسان، وفاءً لظاهر سياق إطلاق اللفظ3.
 
الآية (6): ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾:
قوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ فيه ردع عمّا يُستفاد من الآيات السابقة، من أنّه تعالى أنعم على الإنسان بعظائم النعم، من قبيل: التعليم بالقلم، وسائر ما علم، والتعليم من طريق الوحي. فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك، لكنّه يكفر بنعمته تعالى ويطغى4.
 
وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، إخبار بما في طبع الإنسان من تجاوز للحدّ وخروج عن



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تَدَبُّر: اللافت للنظر في هذه الآيات هو تنظيم الكلمات، وكيفيّة تقدّمها وتأخّرها: فإنّ القراءة قُدِّمت على الكتابة، وكرّرت القراءة, لأنّ حدوث اللسان والبيان قبل الكتابة. والقراءة مقدّمة على الكتابة زماناً، ومن حيث المقام والأهمّيّة أيضاً, لأنّه لو لم تكن القراءة، فالكتابة لم تُوجد، مضافاً إلى أنّ كلّ كتابة للقراءة، وليست كلّ قراءة للكتابة.
2 سورة القلم، الآية 1.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ... ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾, يعني علّم عليّاً ما لم يعلم قبل ذلك" (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430).
تَدَبُّر: من لطائف هذه الآيات تكرار لفظ العلم. وهذا مضافاً إلى إفادته تعظيم العلم وتجليله، يمكن أن يكون إشارة إلى نوعين من العلم: الاكتسابيّ والإلهاميّ. فإنّ فعل "عَلَّمَ" في المرّة الأولى قُيّد بالقلم الظاهر في العلم الذي يتعلّمه أفراد البشر بعضهم من بعضهم الآخر. وبالجملة، يُستفاد من تقييد الفعل في الآية الأولى بالقلم أنّها تنظر إلى العلم الاكتسابيّ، وفعل "علّم" في الآية الثانية يكون إشارة إلى العلم الذي يحصل بوسيلة الوحي والإلهام من الله سبحانه، ويكون على هذا المعنى: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾, أي علّم الإنسان ما لم يقدر أن يعلم، ولم يكن له طريق إلى ذلك, غير طريق الوحي والإلهام. وهذا قبيل قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 151).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص324-325.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

116

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الاعتدال، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾1،2.

 
الآية (7): ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾: 
اظلم قصود من ﴿رَّآه﴾ هو الرأي دون الرؤية البصريّة. والرائي والمرئي هو الإنسان نفسه، فالآية في مقام التعليل، أي ليطغى، لأنّه يعتقد نفسه مستغنياً عن ربّه المنعم عليه، فيكفر به، وذلك أنّه يشتغل بنفسه والأسباب الظاهريّة التي يتوصّل بها إلى مقاصده، فيغفل عن ربّه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره وشكره على نعمه، فينساه ويطغى3.
 
الآية (8): ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾:
الرجعى هو الرجوع. والظاهر من سياق الوعيد الآتي: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾، أنّه وعيد وتهديد بالموت والبعث، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الخطاب للإنسان، بطريق الالتفات للتشديد، والأوّل أظهر، حيث يستفاد من الآية تأسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ما أصابه من الأذى من عدوّه الذي نهاه عن الصلاة وعن المناجاة مع مولاه، بأنّ مرجعه إلى الله، بصفته 



1 سورة إبراهيم، الآية 34.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص325.
3  انظر: م.ن.
تَدَبُّر: لا بدّ من النظر في معنى الاستغناء حتى يعلم أنّه في أي مورد مذموم، وفي أيّ منه غير مذموم. فبالتوجّه إلى موارد الاستعمال ومعاني باب استفعال، تستفاد هذه المعاني لهذا الفعل:
الأوّل: أن يكون الاستغناء بمعنى الاكتفاء, وعلى هذا يكون المستغني, مَنْ يكتفي بماله ويراه كافياً لنفسه، ولا يشتغل بالأمور المهمّة الأخرى من وظائفه الدينيّة والأخلاقيّة، والأمور المعنويّة والأخرويّة.
الثاني: أن يكون بمعنى الاغتناء, أي كونه غنيّاً، ومقابله الافتقار, أي كون الإنسان فقيراً، فيكون معنى الآية على هذا أنّ الإنسان إذا تلبّس بالغنى وصار غنيّاً يطغى ويتعدّى طوره. وهذا إخبار بما في طبع الإنسان.
الثالث: أن يكون الاستغناء بمعنى طلب الغنى. كما أنّ هذا المعنى لا يستقيم في ما نحن فيه, لأنّه لا معنى لأنْ نقول: إنّ الإنسان ليطغى أنْ رآه يطلب الغنى, فإنّه من البديهي أنّ الطغيان ليس معلولاً لطلب المال والثروة والغنى. فلا بدّ أن يفسّر في المقام بمعنى أنّه يطغى إذا رأى نفسه ذات مال وارتفعت حاجتها.
النتيجة: إنّ توجيهات القرآن المتكرّرة في هذا الصدد تنبّه البشر إلى أنّ الثروة والمال من أعظم مصائد إبليس. وقد وقع في فخّه هذا كثير من الناس, فمنهم من صرف أكثر عمره في جمع المال وآثره على كلّ شيء من أمور الآخرة، حتّى على راحة نفسه وعياله، ولم يستفد من ماله في حياته الشخصيّة أيضاً، فبقي العناء له واللذّة لغيره, وهذا من أكبر الخسائر. ومنهم من أخذه الاستكبار والغرور واتّكل على نفسه وغفل عن فضل الله وعنايته، كما فعل قارون. ومنهم من أوقعته كثرة المال في الشهوات والطغيان والعصيان، وهذا الخطر عظيم جدّاً وكثير في الناس عدداً، ولا سيّما في سِنِيّ الشباب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

117

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الربوبيّة لك، فيجزيه الربّ تعالى جزاء من أساء الأدب بجنابك.

 
الآية (9): ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾1:
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ﴾، بمعنى أخبرني، والاستفهام، للتعجيب. والإتيان بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، إشارة إلى أنّ الإتيان بالأعمال القبيحة إذا كانت مستمرّة، فهي موجبة للوم والعتاب والعقاب، وأمّا إذا صدر عمل ما من أحد غفلة، أو ارتكب معصية ثمّ تاب ورجع، فإنّه موضع للغفران.
 
الآية (10): ﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾:
جاء بالاسم الظاهر دون ضمير المخاطب، مع أنّ المخاطب هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يقل: (ينهاك)، لعلّه للإشارة إلى أمور:
1- لإفادة العموم، وأنّ نهي أيّ عبد من العباد عن الصلاة وعن العبادة أمر قبيح ومذموم، ولو قال أرأيت الذي ينهاك، ربما يستفاد أنّ نهي النبي بالخصوص كان مذموماً، لأنّه نبيّ، وأمّا الآخرون فلا بأس بمنعهم عن الصلاة.
 
2- إنّ العبد مشتقّ من العبوديّة، والعابد من العبادة، فالإتيان بهذه الكلمة للإشعار بأنّ منشأ النهي للناهي هو الإتيان بوظيفة العبوديّة.
 
3- لفظ العبد، وإنْ كان نكرة ومطلقاً، إلا أنّ تنكيره لا يؤثّر في المقام، بل يفيد التفخيم والتعظيم في العبوديّة: فكأنّه يقول: لا يمكن لأحد وصف عبوديّة هذا الفرد وإخلاصه في العبوديّة.
 
وقوله تعالى: ﴿إِذَا صَلَّى﴾، ربما يُستفاد منه أنّ للصلاة خصوصيّة بين الوظائف العبوديّة وأنّها من أهمّها، فإنّ النهي والمنع عن وظيفة العبوديّة قد استفدناه من لفظ ﴿عَبْدًا﴾، بحكم مبدئيّة الاشتقاق، وبعد ذلك الإتيان بجملة ﴿إِذَا صَلَّى﴾ يعطي مزيد خصوصيّة للصلاة من بين الوظائف.



1 سبب النزول: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة وأن يُطاع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾، ثمّ قال الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، ثمّ قال: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص430-431).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

118

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الآية (11): ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾:

الضمير في قوله تعالى: ﴿كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ راجع إلى العبد المصلّي. ومعنى الآية بذلك: أخبرني عن هذا الناهي إنْ كان ذاك العبد المصلّي على الهدى، كيف يكون حال هذا الناهي، وهو يعلم أنّ الله يرى؟!
 
ويمكن أن يكون الضمير راجعاً، في هذه الآية وما يلحقها من آيات في سياقها، إلى خصوص الناهي، فيكون المعنى بذلك: أليس برأيك أنّ الناهي لو كان صالحاً وكان على الهدى أو أمر بالتقوى فما أحسنه! وفي مقابل ذلك إنْ كذّب وتولّى، كما هو حاله الآن، فماذا يضرّنا؟ وإنّما ضرر فعله وخسرانه على نفسه.
 
ولكن لا بأس بالتفكيك بين مرجع الضمائر، وخصوصاً أنّ السياق والقرائن تساعد عليه1.
 
الآية (12): ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾:
مفاد الآية: أخبرني عن هذا الناهي إنْ كان ذاك العبد المصلّي آمراً بالتقوى، كيف يكون حال هذا الناهي، وهو يعلم أنّ الله يرى؟!2.
 
الآية (13): ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾:
مفاد الآية: أخبرني عن هذا الناهي إنْ تلبّس بالتكذيب للحقّ والتولّي عن الإيمان به، ونهى العبد المصلّي عن الصلاة، وهو يعلم أنّ الله يرى! هل يستحقّ إلا العذاب؟!3
 
الآية (14): ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.
2 انظر: م.ن.
3  م.ن.
تَدَبُّر: لم يُذكَر اسم الناهي في هذه الآية والآيات السابقة, لعلّه للتنبيه على أنّ العناية إنّما هي على العمل نفسه، وأنّه هو الذي يتّصف بالقبح والحسن، ليس للعامل فيه دخل سواء أكان العامل عظيماً أم حقيراً، وسواء أكان صالحاً أم غير صالح، فربّما صدرت أعمال حسنة من غير الصالحين، وبالعكس ربّما صدرت أعمال قبيحة من الصلحاء, فالحسن من الكلّ حسن، والقبح من الكلّ قبيح، وإنْ كان من بعض أحسن ومن بعض أقبح, وهذا الأصل التربويّ المهمّ في الإسلام قد روي في كثير من الموارد، وأُيّد بقول الأئمّة عليهم السلام وهداة الدين وعلمائه وبفعلهم, بأنّه لا بدّ أن يكون الأصل المذكور مورداً للتوجّه, كي لا يغترّ المتظاهرون بالصلاة، ولا ييأس المشتهرون بالسوء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

119

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 المراد بالعلم خصوص العلم الحاصل عن طريق الاستلزام، فإنّ لازم الاعتقاد بأنّ الله خالق كلّ شيء، هو الاعتقاد بأنّ له علماً بكلّ شيء، وإنْ غَفِلَ عنه. وقد كان الناهي وثنياً مشركاً. وأتباع الوثنيّة يعترفون بأنّ الله هو خالق كلّ شيء، وينزّهونه عن صفات النقص، فيرون أنّه تعالى لا يجهل شيئاً، ولا يعجز عن شيء، وهكذا.

 
فقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾: توجيه للمعتدي والناهي إلى الفطرة الإلهيّة المودعة فيه، التي تنير له طريق معرفة الله وصفاته على نحو الإجمال، وتدعوه إلى أن يتناهى عمّا يفعل، بما من شأنه أن يعيقه في سيره نحو الكمال، ولكنّ حكم الفطرة قد تعطّل بكثرة المعاصي، وحجاب الذنوب، الذي وقع على القلب، فلا يبالي بما يفعل وما يصدر منه1.
 
الآية (15): ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾:
السفع هو الجذب الشديد. وفي الآية ردع وتهديد شديد. والمعنى: ليس الأمر كما يقول ويريد الناهي، أو ليس له ذلك. أقسم لإنْ لم يكفَّ عنه نهيه، ولم ينصرف، لنأخذنّ بناصيته أخذ الذليل المهان، ونجذبنّه إلى العذاب2.
 
الآية (16): ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾:
توصيف من الله تعالى لهذه الناصية المستحقّة للتعذيب بالنار، بقوله: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾. ومن المعلوم أنّ الكذب والخطأ صفتان لصاحب الناصية، لا الناصية نفسها، وإنّما أُطلقتا عليها مجازاً، أو كما احتمله بعض المفسِّرين من أنّ الناصية التي تُطلق على مقدّم الرأس - أيضاً - لا على الشعر الموجود عليها، من الأعضاء التي يُعرَف منها: الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، فتُصبح نسبة الكذب والخطأ إليها حقيقة، كاللسان الكاذب، مع أنّ الكاذب حقيقة هو صاحب اللسان. 
 
وقيل: إنّ في قوله تعالى: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء، فكأنّ الكافر بلغ في الكذب قولاً وفي الخطأ فعلاً إلى حيث أنّ كلّاً من الكذب والخطأ ظهر من ناصيته.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.
تّدَبُّر: منشأ الطغيان أمران: الأوّل: اعتقاد الإنسان أنّه غني. والثاني: أن لا يرى الله ويظنّ بأنّ الله لا يراه.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص326.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

120

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الآية (17): ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾1:

أي قومه وعشيرته وأعوانه الذين يجتمعون في النادي. والأمر تعجيزيّ. والنادي المجلس، والمراد به أهل المجلس، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾2. وقيل: الجليس3.
 
الآية (18): ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾:
والزبانية الملائكة الموكلون بالنار. والمعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجّوه منها، سندع الزبانية الغلاظ الشداد الذين لا ينفع معهم نصر ناصر4.
 
الآية (20): ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾:
تكرار الردع، للتأكيد، وقوله: ﴿لَا تُطِعْهُ﴾، أي لا تطعه في النهي عن الصلاة، وهي القرينة على أنّ المراد بالسجود الصلاة، ولعلّ الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى والسجود له. وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الأربع في القرآن. 
 
والمراد بقوله تعالى: ﴿وَاقْتَرِبْ﴾: الاقتراب والتقرّب إلى الله. وقيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى5.



1 سبب النزول: لمّا مات أبو طالب عليه السلام، فنادى أبو جهل والوليد عليهما لعائن الله: هلمّوا، فاقتلوا محمّداً، فقد مات الذي كان ناصراً، فقال الله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، ثمّ قال: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾, أي لا يطيعون لما دعاهم إليه, لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاره مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد مناف، ولم يجسر عليه أحد. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431).
2 سورة يوسف، الآية 82.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص327.
4  انظر: م.ن.
5 انظر: م.ن.
تَدَبُّر: ضرورة البراءة أولاً من كلّ شيء من دون الله، ثمّ التولّي لله تعالى بالعبادة والطاعة.
السجود أفضل وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

121

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 بحث تفسيريّ: الخَلْق والأمر1

1- معنى الخَلْق: 
الخَلْقُ أصله: التقدير المستقيم، ويُستَعمل في إبداع الشّيء من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾2، أي: أبدعهما، بدلالة قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾3، ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، نحو: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾4، ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾5، ﴿خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾6، ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾7
 
وليس الخَلْقُ، الذي هو الإبداع، إلَّا للَّه تعالى، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾8، وأمّا الذي يكون بالاستحالة، فقد جعله اللَّه تعالى لغيره في بعض الأحوال، كعيسى عليه السلام، حيث قال: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾9
 
والخلق لا يستعمل في كافّة النّاس، إلا على وجهين:
أحدهما: في معنى التّقدير...
الثاني: في الكذب نحو قوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾10.
 
2- الفرق بين الخَلْق والأمر:
الأمر، هو الإيجاد، سواء أتعلّق بذات الشيء أم بنظام صفاته وأفعاله، فأمر ذوات الأشياء 



1 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "خَلَقَ"، ص296, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج7، ص170-172, ج8، ص151-153.
2 سورة الأنعام، الآية 1.
3 سورة البقرة، الآية 117.
4 سورة النساء، الآية 1.
5 سورة النحل، الآية 4.
6 سورة المؤمنون، الآية 12.
7 سورة الرحمن، الآية 15.
8 سورة النحل، الآية 17.
9 سورة المائدة، الآية 110.
10 سورة العنكبوت، الآية 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

122

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

إلى الله، وأمر نظام وجودها إلى الله، لأنّها لا تملك لنفسها شيئاً البتّة، والخلق هو الإيجاد عن تقدير وتأليف، سواء أكان ذلك بنحو ضمّ شيء إلى شيء، كضمّ أجزاء النطفة بعضها إلى بعض، وضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث، ثمّ ضمّ الأجزاء الغذائيّة إليها، في شرائط خاصّة، حتّى يخلق بدن إنسان مثلاً، أم من غير أجزاء مؤلّفة، كتقدير ذات الشيء البسيط، وضمّ ما له من درجة الوجود وحده، وما له من الآثار والروابط التي له مع غيره، فالأصول الأوّليّة مقدّرة مخلوقة، كما أنّ المركّبات مقدّرة مخلوقة، قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾1، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾2، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾3، فعمّم خلقه كلّ شيء. فقد اعتبر في معنى الخلق، تقدير جهات وجود الشيء وتنظيمها، سواء أكانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض، أم لا، بخلاف الأمر. ولذا كان الخلق يقبل التدريج، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾4، بخلاف الأمر، قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾5، ولذلك - أيضا ً- نسب في كلامه إلى غيره، الخلق، كقوله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا﴾6، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾7. وأمّا الأمر بهذا المعنى، فلم ينسبه إلى غيره، بل خصّه بنفسه، جعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته، كالروح الذي يحيى به الجسد، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾8، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾9، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾10، ﴿وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾11، إلى غير ذلك من الآيات، حيث تجد أنّه تعالى 



1 سورة الفرقان، الآية 2.
2 سورة طه، الآية 50.
3 سورة الزمر، الآية 62.
4 سورة الأعراف، الآية 54.
5 سورة القمر، الآية 50.
6 سورة المائدة، الآية 110.
7 سورة المؤمنون، الآية 14.
8 سورة الأعراف، الآية 54.
9 سورة الروم، الآية 46.
10 سورة النحل، الآية 2.
11 سورة الأنبياء، الآية 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

123

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 يجعل ظهور هذه الأشياء بسببيّة أمره أو بمصاحبة أمره. 

 
وخلاصة الكلام: إنّ الخلق والأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد، وإنْ كانا مختلفين بحسب الاعتبار. فإذا انفرد كلّ من الخلق والأمر صحّ أن يتعلّق بكلّ شيء، كلّ بالعناية الخاصّة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلّق بالذوات، بما أنّها أُوجِدَت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلّق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها، بالتفاعل العام بينها، لما أنّ الآثار هي التي قُدِّرت للذوات، ولا وجه لتقدير المقدَّر. ولذلك قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾1، فأتى بالعطف المُشعِر بالمغايرة بوجه، وكأنّ المُراد بالخلق، ما يتعلّق من الإيجاد بذوات الأشياء، وبالأمر ما يتعلّق بآثارها والأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها، كما ميّز بين الجهتين في أوّل الآية، حيث قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وهذا هو إيجاد الذوات، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾2، وهو إيجاد النظام الأحسن بينها، بإيقاع الأمر تلو الأمر، والإتيان بالواحد منه بعد الواحد. 



1 سورة الأعراف، الآية 54.
2 سورة يونس، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

124

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، ويوجد تسميات عدّة مشهورة لها، هي: "العلق"، و "إقرأ"، و"القلم". وهذه السورة إحدى سور العزائم الخمس، وتتضمّن 19 آية، تحوي مجموعة من المحاور: القراءة والعلم/ خلق الإنسان/ العناية الإلهيّة/ طغيان الإنسان/ تقوى الإنسان/ العبوديّة/ القرب/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: اقرأ يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبتدئاً أو مستعيناً بالله ربّك، الذي خلق الإنسان، فأحسن خلقه وأتقنه، فالله كريم يفوق عطاؤه ما سواه وإليه منتهى كلّ نعمة، فهو الذي علّم الإنسان القراءة أو الكتابة، وهو قادر على أن يُعلّمك. إنّ الإنسان لظلوم كفّار، بما يتعدّاه عن حدّ العبوديّة لله تعالى، مستغنياً عن الله، غافلاً عنه وعن الرجوع إليه تعالى، متعلّقاً بالأسباب الظاهرية من دون الله. أرأيت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينهاك عن الصلاة ويُصدّك عنها بطغواه، ألا يعلم بأنّك على الهدى، فلولا التزم بالتقوى وأعرض عن نهيه وصدّه إياك لينجو من عذاب الله، ألا يعلم بأنّ الله يراه، فإنْ لم ينتهِ عن ذلك لنأخذنّه بشدّة، ولنجذبنّه إلى العذاب بهوان وذلّ، فلا يغني عنه أحد من دون الله. فلا تطعه يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسجد لربّك وتقرّب إليه.

4- إنّ الخلق والأمر يرجعان إلى معنى واحد، وهو الإيجاد، وإنْ كانا مختلفين بحسب الاعتبار. فإذا انفرد كلّ من الخلق والأمر صحّ أن يتعلّق بكلّ شيء، كلّ بالعناية الخاصّة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلّق بالذوات، بما أنّها أُوجِدَت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلّق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها، بالتفاعل العام بينها، لما أنّ الآثار هي التي قُدِّرت للذوات، ولا وجه لتقدير المقدَّر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

125

الدرس السابع: تفسير سورة العَلَقْ

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، فكأنّما قرأ القرآن. 
- معنى "الزبانية": أهل النار. 
- المراد بـ "العلق": النطفة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

126

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

127

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تعريف بالسورة ومحاورها

اسم السورة مأخوذ من ليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم، وفق ما ورد في الآية الأولى منها.
 
وتتضمّن هذه السورة 5 آيات تحوي مجموعة من المحاور التي تدور مدار بيان أهمّيّة ليلة القدر وفضلها وبركاتها، وأهمّيّة ما نزل فيها، وفق الآتي:
1- نزول القرآن الكريم دفعة واحدة في ليلة القدر.
2- عظمة شأن ليلة القدر.
3- عظمة شأن ما نزل في ليلة القدر.
4- آثار ليلة القدر وبركاتها.
5- استمرار نزول الفيض الإلهيّ في ليلة القدر.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها أُعطِيَ من الأجر، كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر"1
 
• ما رواه الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من قرأ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ في فريضة من الفرائض، نادى مناد: يا عبد الله! قد غُفِرَ لك ما مضى، فاستأنف العمل"2
 
• ما رواه سيف بن عميرة، عن رجل، عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام: "مَنْ قرأ ﴿إِنَّا 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
2 م.ن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

128

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

أَنزَلْنَاهُ﴾ بجهر، كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرّاً، كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرّات، مرّت على نحو ألف ذنب من ذنوبه"1.
 
خصائص النزول
المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة مكّيّة، واحتمل بعضهم أنّها مدنيّة، لما روي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في منامه) بني أميّة على منبره2، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه، إنّما هو مُلك يُصيبونه، ونزلت: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (قيل: إنّ المراد بألف شهر في السورة هي مدّة حكم بني أميّة)3
 
لكن المشهور أنّ هذه السورة مكّيّة، وقد تكون الرواية من قبيل التطبيق، لا سبباً للنزول.
 
شرح المفردات
• القدر: "القاف والدال والراء أصل صحيح يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته"4.
 
• الفجر: "الفاء والجيم والراء أصل واحد وهو التفتّح في الشيء، من ذلك الفجر، انفجار الظلمة عن الصبح"5.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
2 تجدر الإشارة إلى أنّ منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُقِيمَ في مسجد المدينة، لا في مكّة.
3 السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَدَرَ"، ص62. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَدَرَ"، ص685.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "فَجَرَ"، ص475. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "فَجَرَ"، ص625-626.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

129

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تفسير الآيات

الآية (1): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾:
مرجع ضمير ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ هو للقرآن الكريم1، وظاهره جملة الكتاب العزيز، لا بعض آياته. ويؤيّد ذلك: التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة، دون التنزيل، الظاهر في التدريج. وفي معنى الآية المبحوثة، قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾2. وظاهره القسم بجملة الكتاب المبين، ثمّ الإخبار عن إنزال ما أُقسِم به جملة واحدة. فمدلول الآيات: أنّ للقرآن نزولاً جمليّاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، غير نزوله التدريجيّ، الذي تمّ في مدّة ثلاث وعشرين سنة، كما يشير إليه قوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾3، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾4. فلا يُعبأ بما قيل: إنّ معنى قوله: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: ابتدأنا بإنزاله، والمراد إنزال بعض القرآن.



1 تَدَبُّر: إنّ ضمير الجمع في الآية للدلالة على التعظيم. والتعظيم تارة يُراد منه تعظيم المتكلّم, كما هو المتعارف في الخطابات، وأخرى يُراد منه تعظيم القرآن, ويؤيّد ذلك:
- أنّ الجملة ابتدأت بحرف التحقيق والتأكيد, فتشعر الأهمّيّة من الأوّل.
- أن الله تعالى أسند الإنزال إلى نفسه, ليفهم اختصاص هذا الكتاب بذاته المقدّسة.
- الإتيان بضمير الجمع مع أنّه واحد أحد, وذلك ليدلّ هذا على عظمة المُنْزَل. ومن المعلوم أنّ ما أنزله العظيم يكون عظيماً وذا أهمّيّة لا محالة, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (سورة الكوثر، الآية 1)، ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (سورة الشرح، الآية 1).
- استعمال الضمير مكان الاسم الظاهر، مع أنّه لم يسبق لفظ القرآن، بقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, وهذا يعطي أنّ هذه الصحيفة السماوية في الشهرة والجلالة, بحيث يعرفها كلّ أحد، ويتذكّر به الجميع، وكلّ يعلم أنّ ما أنزله الله هو القرآن. فلا يحتاج إلى ذِكْر اسمه الظاهر, كما هو في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص، الآية 1), فإنّ مرجع ضمير "هو" ذاته المقدّسة, وذلك لكمال ظهوره وجلالته، فلا يحتاج إلى مرجع ظاهر في الكلام.
- أنّه قد أنزل في أفضل الأوقات وأحسنها, وهو ليلة القدر. فالإتيان بضمير الجمع للدلالة على الذات مع الصفات, ونكتة ذلك هي: تفخيم مقام الحقّ تعالى, بمبدئيّته تنزيل هذا الكتاب الشريف. ولعلّ هذه الجمعية باعتبار الجمعيّة الأسمائيّة، والإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى مبدأ لهذا الكتاب الشريف لجميع الشؤون الأسمائيّة والصفاتيّة، ولهذه الجهة كان هذا الكتاب الشريف صورة أحديّة جمع جميع الأسماء والصفات، ومعرّفاً لمقام الحقّ المقدّس, بجميع الشؤون والتجلّيات.
2 سورة الدخان، الآيتان 2 - 3.
3 سورة الإسراء، الآية 106.
4 سورة الفرقان، الآية 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

 


130

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 وليس في كلامه تعالى ما يُحدّد خصوص هذه الليلة، غير ما في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾1، فإنّ الآية، بانضمامها إلى آية سورة القدر، تدلّ على أنّ هذه الليلة من ليالي شهر رمضان2. وأمّا تعيينها أزيد من ذلك، فمستفاد من الأخبار، ومنها:

- ما رواه حمّاد بن عثمان، عن حسان بن أبي علي، قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن ليلة القدر، قال: "اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين"3.
 
- ما رواه عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أحدهما (الباقر والصادق) عليهما السلام، قال: سألته عن الليالي التي يُستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان؟ فقال: "ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني (اسم الجهني: عبد الله بن أنيس الأنصاريّ)، وحديثه أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين"4.
 
- ما رواه الكليني، بإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن ابن بكير، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: "التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"5.
 
وقد ذكر المفسِّرون معانٍ عدّة للقدر، أبرزها:
• أنّ القدر، بمعنى المنزلة، وإنّما سُمّيت ليلة القدر، للاهتمام بمنزلتها، أو منزلة المتعبّدين فيها. 
 
• أنّ القدر، بمعنى الضيق. وسمّيت ليلة القدر، لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة.
 
• أنّ القدر، بمعنى التقدير، فهي ليلة التقدير، يُقدِّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها، من قابل، من حياة، وموت، ورزق، وسعادة، وشقاء، وغير ذلك، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الدخان في صفة هذه الليلة: 
 
• ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ 



1 سورة البقرة، الآية 185.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص330-331.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص407.
4 الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ج2، ح2031، ص161.
5 الكليني، الكافي، م.س، ج4، من أبواب السفر، باب في ليلة القدر، ح9، ص159.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

131

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1، فليس فرق الأمر الحكيم، إلا إحكام الحادثة الواقعة، بخصوصيّاتها، بالتقدير. وهذا ما يُفيده ظهور الآيات المتقدّمة في أنّ المراد بالقدر خصوص التقدير، لا الضيق، ولا المنزلة.

 
ويُستفاد من هذه الآيات أنّ الليلة متكرّرة بتكرّر السنين، ففي شهر رمضان من كلّ سنة قمريّة ليلة تُقدَّر فيها أمور السنة، من الليلة إلى مثلها، من قابل، إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تُقدَّر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها، وإنْ صحّ فرض ليلة واحدة من ليالي القدر المتكرّرة ينزل فيها القرآن جملة واحدة. على أنّ قوله تعالى: ﴿يُفْرَقُ﴾ - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، وقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾، تؤيّد ذلك.
 
وقد روي عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنّه قال: قلت يا رسول الله! ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء، ينزل فيها، فإذا قبضوا رفعت. قال: "لا، بل هي إلى يوم القيامة"2.
 
وعليه، فلا وجه لما سيق من أقوال أخرى في هذا الصدد، من: 
• أنّها كانت ليلة واحدة بعينها، نزل فيها القرآن من غير أن يتكرّر. 
• أنّها كانت تتكرّر بتكرّر السنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ رفعها الله.
• أنّها واحدة بعينها في جميع السنة.
• أنّها في جميع السنة غير أنّها تتبدّل، بتكرّر السنين، فسنة في شهر رمضان، وسنة في شعبان، وسنة في غيرهما.
 
فمحصّل الآيات: أنّها ليلة بعينها من شهر رمضان، من كلّ سنة، فيها إحكام الأمور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغيّر فيها، بحسب التحقّق في ظرف السنة، فإنّ التغيّر في كيفية تحقّق المقدّر أمر، والتغيّر في التقدير أمر آخر، كما أنّ إمكان التغيّر في الحوادث الكونيّة بحسب المشيئة الإلهيّة لا ينافي تعيّنها في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾3.4



1 سورة الدخان، الآيات 4 - 6.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص406.
3 سورة الرعد، الآية 39.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص331-332.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

132

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الآية (2): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾:

بيان جلالة قدر الليلة وعِظَم منزلتها. ويؤكّد ذلك: إظهار الاسم مرّة بعد مرّة، حيث قيل: ﴿مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ ...﴾1.
 
ويؤيّد ذلك ما روي من أنّ الله يُقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث، من موت، أو حياة، أو خصب، أو جدب، أو خير، أو شرّ، كما قال الله فيها: يفرق كلّ أمر حكيم إلى سنّة2.
 
الآية (3): ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾3:
بيان إجمالي لما أشير إليه بقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، من فخامة أمر الليلة. والمراد بكونها خيراً من ألف شهر، خيريّتها منها، من حيث فضيلة العبادة، وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله، فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، ويمكن أن يُستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾4.5
 
وروي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نومه، كأنّ قروداً تصعد منبره، فغمّه ذلك، فأنزل الله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ تملكه بنو أميّة، ليس فيها ليلة قدر6. وهذه الرواية واردة مورد التفسير بالتطبيق.
 
الآية (4): ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾:



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
2 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
3 سبب النزول:
- روي أنّه كان في بني إسرائيل رجل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فلم يضعه عنه، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فعجبوا من قوله، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, يقول الله: ليلة القدر خير لكم من تلك الألف شهر التي لبس ذلك الرجل فيها السلاح في سبيل الله، فلم يضعه عنه. (ابن جبر، مجاهد: تفسير مجاهد، تحقيق: عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي، لا.ط، إسلام آباد، مجمع البحوث الإسلامية، لا.ت، ج2، ص773).
- روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فأتاه جبريل، فقال: "يا محمد! عجبت أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة؟! فقد أنزل الله خيراً من ذلك، فقرأ عليه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, هذا أفضل ممّا عجبت أنت وأمّتك"، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس معه. (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371).
4 سورة الدخان، الآية 3.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
6 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

133

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 تنزّل، أصله تتنزّل، فحذفت إحداهما للتخفيف، وهي من باب التفعّل. وباب التفعّل، للدلالة على التدريج. فعلى هذا معنى تنزّل الملائكة هو: النزول فوجاً بعد فوج. وما يستفاد من موارد استعماله أنّه للاستمرار، وأمّا التدريج فإنّه ربّما يلازم الاستمرار. فعلى هذا تفيد ﴿تَنَزَّلُ﴾ معنى الاستمرار، وأنّ نزول الملائكة مستمرّ في كلّ سنة، كما أنّ ليلة القدر في كلّ سنة.

 
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكّان aسدرة المنتهى، ومنهم جبرائيل، فينزل جبرائيل عليه السلام ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمناً، ولا مؤمنة، إلا سلّم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمخ1 بالزعفران"2.
 
وروي أنّه قيل للإمام أبي جعفر (الباقر) عليه السلام: تعرفون ليلة القدر؟ فقال: "وكيف لا نعرف ليلة القدر! والملائكة يطوفون بنا فيها!"3.
 
والظاهر من ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو الروح الذي من الأمر، قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾4
 
والإذن في الشيء: الرخصة فيه، وهو إعلام عدم المانع منه.
 
و "مِنْ" في قوله: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، قيل فيها معانٍ: 
- أنّها بمعنى الباء.
- أنّها لابتداء الغاية، وتفيد السببيّة، أي بسبب كلّ أمر إلهيّ.
- أنّها للتعليل بالغاية، أي لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور.
 
والحقّ أنّ المراد بالأمر: 
- إنْ كان هو الأمر الإلهيّ المفسّر بقوله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾5، فـ "من" للابتداء، وتفيد السببيّة، ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في



1 التضمخ: التلطّخ بالطيب وغيره والإكثار منه.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص408-409.
3 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431-432.
4 سورة الإسراء، الآية 85.
5 سورة يس، الآية 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

134

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 ليلة القدر بإذن ربّهم، مبتدء تنزّلهم صادراً من كلّ أمر إلهيّ.

 
- وإنْ كان هو الأمر من الأمور الكونيّة والحوادث الواقعة، فـ "من"، بمعنى اللام التعليلية، ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربّهم، لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور الكونيّة1.
 
الآية (5): ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾: 
المراد: أنّ هذه الليلة سلامة، حيث قُدِّم الخبر، ليفيد الحصر، أيّ: ما هي إلّا سلامة، وكلّ ما ينزل في هذه الليلة، إنّما هو سلامة ونفع وخير. والليلة ليست السلامة نفسها، وإنّما هي ظرف لها، ومع ذلك وُصِفَت بالسلامة، للمبالغة في اشتمالها عليها. 
 
وقيل: ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يُسلّمون فيها على المؤمنين. وهذا السلام مستمرّ، أو هذه السلامة مستمرّة إلى أن يطلع الفجر. أو أنّ "حَتَّى" متعلّقة بتنزّل، أي تنزّل الملائكة والروح، حتّى مطلع الفجر.
 
وقيل: إنّها تحيّة يُحيّى بها الإمام عليه السلام إلى أنْ يطلع الفجر2.
 
وعلى أيّ من المعاني المتقدّمة، ففي الآية إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسدّ باب نقمة جديدة تختصّ بالليلة، ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين3.
 
بحث تفسيري: حقيقة القرآن4
إنّ كون القرآن ذو حقيقة محكمة عالية وراء كونه مفصّلاً بثوب الألفاظ، هو اللائح من الآيات الكريمة، ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾5، فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة، فالإحكام



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
2 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص333.
تفسير بالمصداق: في الحديث, أنّها تحية يُحيّى بها الإمام إلى أنْ يطلع الفجر. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج2، ص16-19, ج18، ص83-84.
5 سورة هود، الآية 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

135

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل. 

 
2- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولaُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾1، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ... بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾2، فإنّ الآيات الشريفة، وبخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طار على الكتاب، فالكتاب نفسه شيء، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر. وإنّهم إنّما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب، لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة. وفي الآية إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب. 
 
3- قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾3، فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عَرَضَ عليه جعله مقرؤاً عربياً، وإنّما أُلبِسَ لباس القراءة والعربية ليعقله الناس، وإلا فإنّه - وهو في أم الكتاب - عند الله، علي، لا يصعد إليه العقول، حكيم، لا يوجد فيه تفصيل. وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين. 
 
4- قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ  * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ *  لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾4، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهّرون من عباد الله، وإنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في



1 سورة الأعراف، الآيتان 52 - 53.
2 سورة يونس، الآيتان 37 - 39.
3 سورة الزخرف، الآيات 2 - 4.
4 سورة الواقعة، الآيات 75 - 80.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

136

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 كتاب مكنون عن الأغيار، وهو الذي عُبِّر عنه في آيات الزخرف بـ "أمّ الكتاب"، وفي سورة البروج بـ "اللوح المحفوظ"، حيث قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾1،2 وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً، لحفظه من ورود التغيّر عليه، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجياً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك. 

 
وبالجملة، فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.



1 سورة البروج: الآية 22.
2 سورة البروج، الآيتان 21 - 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

 


137

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 5 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نزول القرآن الكريم/ ليلة القدر/ نزول الفيض الإلهيّ/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: إنّا أنزلنا القرآن نزولاً إجماليّاً دفعياً على قلبك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر، وهي ليلة مباركة من شهر رمضان، وهذا النزول هو غير تنزيله تدريجيّاً على قلبك طيلة مدّة بعثتك الشريفة، ففي هذه الليلة تُقدّر الأمور للسنة اللاحقة، من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء، وتتنزّل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، فمن أحياها بالعبادة والدعاء شملته العناية الإلهيّة. وهذه الليلة مستمرّة التنزّل في كلّ سنة.

4- إنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبيصلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبيصلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

138

الدرس الثامن: تفسير سورة القدر

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، أُعطي من الأجر كمن صام شهر رمضان. 
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "خير من ألف شهر": أنّ العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

139

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾





 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

 


140

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 تعريف بالسورة ومحاورها

يوجد تسميات عدّة لهذه السورة أُطلقت عليها لورودها في آياتها، أشهرها: "البينة"، و "لم يكن"، و "القيّمة".
 
وتتضمّن هذه السورة 8 آيات تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- أهمّيّة رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تحويه من دلائل بيّنة ونيّرة على حقانيّة رسالة الإسلام وعموميّتها للمليّين، من أهل الكتاب وغيرهم، وكونها وفق السنّة الإلهيّة في هداية الإنسان إلى الدين القيّم في الاعتقاد والعمل.
 
2- التأكيد على التوحيد والصلاة والزكاة بوصفها أصولاً ثابتة ومشتركة بين الأديان السماويّة. 
 
3- عاقبة معاندة رسالة الإسلام.
 
4- عاقبة اتّباع رسالة الإسلام.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ومنْ قرأها كان يوم القيامة مع خير البريّة، مسافراً ومقيماً"1. 
 
• ما رواه أبو الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعلم الناس ما في ﴿لَمْ يَكُنِ﴾ لعطّلوا الأهل والمال، وتعلّموها. فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ فقال: لا يقرأها منافق أبداً، ولا عبد في قلبه شكّ في الله عزّ وجلّ. والله إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض، لا يفترون عن قراءتها، وما من



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص411.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

 


141

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

عبد يقرؤها بليل، إلا بعث الله ملائكة، يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة، فإنْ قرأها نهاراً أُعطي عليها من الثواب، مثل ما أضاء عليه النهار، وأظلم عليه الليل"1.
 
• ما رواه أبو بكر الحضرمي، عن الإمام أبي جعفر (الباقر) عليه السلام: "من قرأ سورة ﴿لَمْ يَكُنِ﴾ كان بريئاً من الشرك، وأُدخِل في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثه الله مؤمناً، وحاسبه الله حساباً يسيراً"2.
 
خصائص النزول
المشهور أنّ هذه السورة نزلت في المدينة، ومحتواها وسياقها يؤيّدان ذلك، إذ تحدّثت في مواضع متعدّدة عن أهل الكتاب، والمسلمون الذين واجهوا أهل الكتاب في المدينة غالباً. أضف إلى ذلك أنّ السورة تحدّثت عن الصلاة والزكاة، والزكاة - وإنْ شُرِّعت في مكّة - ولكنّها اتّخذت طابعها الرسميّ الواسع في المدينة، بعد هجرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم إليها وقيامه بتأسيس نواة الدولة الإسلاميّة.
 
شرح المفردات
• مُنفَكِّينَ: "الفاء والكاف أصل صحيح يدلّ على تفتّح وانفراج... وقولهم لا ينفكّ يفعل ذلك، بمعنى لا يزال. والمعنى: هو وذلك الفعل لا يفترقان، فالقياس فيه صحيح"3.
 
• الْبَيِّنَةُ: "الباء والياء والنون أصل واحد، وهو بعد الشيء وانكشافه"4. "والبَيِّنَة: الدلالة الواضحة، عقليّة كانت أم محسوسة"5.
 
• حُنَفَاء: "الحاء والنون والفاء أصل مستقيم، وهو الميل... والحنيف المائل إلى الدين



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص411.
2 م.ن.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "فَكَّ"، ص433. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "فَكَكَ"، ص643.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "بَيَنَ"، ص327.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "بَانَ"، ص157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

142

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 المستقيم. قال الله تعالى: ﴿وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا﴾1"2.

 
• الْبَرِيَّةِ: "الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكاية صوت، وخلاف البحر، ونبت"3. "والبرّ بالكسر: الاتّساع في الإحسان والزيادة، ومنه سُمّيت البَرّيّة بالفتح والتشديد لاتّساعها، والجمع البراري"4.
 
• عدن: "العين والدال والنون أصل صحيح يدلّ على الإقامة"5. "قال تعالى: 
 
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾6، أي: استقرار وثبات، وعَدَنَ بمكان كذا: استقرّ"7.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾:
يشير ظاهر سياق الآيات في هذه السورة إلى قيام الحجّة على الذين كفروا بالدعوة الإسلاميّة، من أهل الكتاب والمشركين، وعلى الذين أوتوا الكتاب، حينما بدا فيهم الاختلاف. فالمراد من الآية - بقرينة السياق - الإشارة إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الحجّة البيّنة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنّة الإلهيّة الجارية في عباده، فقد كانت توجب مجيء البيّنة إليهم، كما أوجبته من قبل ما تفرّقوا في دينهم.
 
وعلى هذا، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم: الكافرون بالدعوة النبويّة الإسلاميّة، من أهل الكتاب والمشركين.
 
و"مِنْ" في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، للتبعيض، لا للتبيين. 



1 سورة آل عمران، الآية 67.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "حَنَفَ"، ص110-111. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "حَنَفَ"، ص260.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "بَرَّ"، ص177. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "بَرَأَ"، ص114.
4 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة "بَرَرَ"، ص219.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَدَنَ"، ص248.
6 سورة النحل، الآية 31.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَدَنَ"، ص553.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

143

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 وقوله تعالى: ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ عطف على ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾. والمراد بهم غير أهل الكتاب مِن عَبَدة الأصنام وغيرهم.

 
وقوله تعالى: ﴿مُنفَكِّينَ﴾، من الانفكاك، وهو الانفصال عن شدّة اتّصال، والمراد به بقرينة قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، انفكاكهم عمّا تقتضي سنّة الهداية والبيان، كأنّ السنّة الإلهيّة كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم، حتّى تأتيهم البيّنة. ولمّا أتتهم البيّنة تركتهم وشأنهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾1.
 
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ ظاهر في الاستقبال. والبيّنة هي الحجّة الظاهرة. فمعنى الآية هو: لم يكن الذين كفروا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بدعوته أو بالقرآن لينفكّوا حتّى تأتيهم البيّنة. والبيّنة هي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم2. وقد روى أبو الجارود عن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "البيّنة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"3.
 
الآية (2): ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾:
بيان للبيّنة، والمراد بها محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً على ما يُعطيه سياق الآيات.
 
والصحف جمع صحيفة، وهي ما يُكتَب فيها، والمراد بها: أجزاء القرآن النازلة. وقد تكرّر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية، ومنها: القرآن الكريم، حيث قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾4.



1 سورة التوبة، الآية 115.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص336-337.
3 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص432.
4 سورة عبس، الآيات 13 - 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

144

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 والمراد بكون الصحف مطهّرة، تقدّسها من قذارة الباطل، بمسّ الشياطين: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾1.2

 
الآية (3): ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾:
الكتب جمع كتاب، ومعناه: المكتوب. ويُطلق على اللوح، والقرطاس، ونحوهما المنقوشة فيها الألفاظ، وعلى الألفاظ نفسها التي تحكي عنها النقوش، وربّما يُطلَق على المعاني، بما أنّها محكيّة بالألفاظ، ويُطلَق - أيضاً - على الحكم والقضاء، يقال: كتب عليه كذا، أي قضى أن يفعل كذا، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾3، وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾4. والظاهر: أنّ المراد بالكتب التي في الصحف، الأحكام والقضايا الإلهيّة المتعلّقة بالاعتقاد والعمل، ومن الدليل عليه: توصيفها بالقيامة، فإنّها من القيام بالشيء، بمعنى حفظه، ومراعاة مصلحته، وضمان سعادته، قال تعالى: ﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ 



1 سورة الواقعة، الآية 79.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص337.
تَدَبُّر: هذه الكتب القيّمة ليست مطهّرة من ناحية المبلّغ ولسانه فحسب، بل هي من عالم الغيب إلى أن تصل إلى سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطهّرة مكرّمة, كما قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾ (سورة عبس، الآيتان 13و14). فهذه الآيات مرفوعة, بحيث لا تنالها أيدي الأفكار, لتفهم معانيها، ولا تنالها من حيث الإتيان بمثلها، وهذا الكتاب مرفوع عن تناول الأيدي كلّه. ومع هذا العلوّ والارتفاع, هو طاهر مطهّر من كلّ دنس، وحاملو هذا الوحي -أيضاً- أمناء ومطهّرون من الخيانة: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ (سورة عبس، الآيتان 15و16)، فأمناء الوحي المطهّرون يتلون الكتاب المطهّر على النبي المطهّر. فلا بدّ لتالي القرآن من التطهير, وذلك ضمن خطوات:
- الخطوة الأولى للتطهير هي انكسار غرور النفس وعجبها, لتكون مستعدّة للتطهير، فإنّ الأراضي المستعلية ليس لها نصيب من الماء ولا تستقي منه، وإنّما يصيب الماء ظاهرها. وأمّا إذا كانت الأرض منخفضة، فيستفيد باطنها من الماء, فيطهر باطنها أيضاً من الماء النازل من السماء.
- الخطوة الثانية تطهير مجاري القرآن, من الفم والعين والأذن: فبالنسبة إلى تلاوة القرآن -أيضاً- لا يتلوه حقّ تلاوته, إلّا مَن كان مطهِّراً لمجاري القرآن. ولذا ورد في الحديث: "طهّروا أفواهكم, فإنّها طرق القرآن". (النوري، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيتعليهم السلام لتحقيق التراث، ط1، بيروت، 1408هـ.ق/ 1987م، ج1، باب6 من أبواب السواك، ص368). 
فالإنسان الذي يتكلّم في النهار بكلّ ما يجري على لسانه, ليس له أن يوفَّق في الليل بتلاوة القرآن حقّ تلاوته, كما قال أمير المؤمنينعليه السلام في حقّ المتّقين: "أمّا الليل, فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونه ترتيلاً...". (نهج البلاغة، م.س، ج2، الخطبة193، ص161). 
وليس الفمّ مجرى القرآن فحسب، بل العين والأذن واليد -أيضاً- كذلك, فالنظر إلى المصحف, عبادة، وتلاوة القرآن عن المصحف, عبادة, لا بدّ من طهارتها.
3 سورة البقرة، الآية 183.
4 سورة البقرة، الآية 216.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

145

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾1، ومعلوم أنّ الصحف السماويّة، إنّما تقوم بأمر المجتمع الإنسانيّ وتحفظ مصلحته، بما فيها من الأحكام والقضايا المتعلّقة بالاعتقاد والعمل2.

 
الآية (4): ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾:
بعد أن بيّنت الآية الأولى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ كفر أهل الكتاب والمشركين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه المتضمّن للدعوة الحقّة، كشفت هذه الآية عن اختلافهم السابق على الدعوة الإسلاميّة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾3
 
ومجيء البيّنة لهم هو البيان النبويّ الذي تبيّن لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ *  فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾4.
 
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...﴾ يشمل المشركين، فضلاً عن أهل الكتاب، حيث بدّل أهل الكتاب - وهم في عرف القرآن اليهود والنصارى والصابئون والمجوس أو اليهود والنصارى - من الذين أوتوا الكتاب، والتعبيران متغايران، وقد صرّح تعالى بأنّه أنزل الكتاب - وهو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في أمور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيويّة بينهم بمقتضى الفطرة، ثمّ اختلفوا في الدين بعدما تبيّن الحقّ لهم وقيام الحجّة عليهم، فعامّة البشر آتاهم الله كتاباً، ثمّ اختلفوا فيه، فمنهم من نسي ما أوتيه، ومنهم من أخذ به محرّفاً، ومنهم من حفظه وآمن به، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾5
 
وفي 



1 سورة يوسف، الآية 40.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص337-338.
3 سورة آل عمران، الآية 19.
4 سورة الزخرف، الآيات 63 - 65.
5 سورة البقرة، الآية 213.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

 


146

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 هذا المعنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾1.

 
وبالجملة، فالذين أوتوا الكتاب، أعمّ من أهل الكتاب، فقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...﴾، يشمل المشركين، كما يشمل أهل الكتاب2.
 
الآية (5): ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾:
مرجع ضمير ﴿أُمِرُوا﴾ للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.
 
ومعنى الآية: أنّه لم تتضمّن رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكتب القيّمة التي في صحف الوحي، إلا أمرهم بعبادة الله تعالى، بقيد الإخلاص في الدين، فلا يشركوا به شيئاً.
 
وقوله تعالى: ﴿حُنَفَاء﴾، حال من ضمير الجمع، وهو جمع حنيف، من الحَنَف، وهو الميل عن جانبي الإفراط والتفريط، إلى حاق وسط الاعتدال. وقد سمّى الله تعالى الإسلام ديناً حنيفاً، لأنّه يأمر في جميع الأمور بلزوم الاعتدال والتحرّز عن الإفراط والتفريط.
 
وقوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾، من قبيل ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، أو الجزء بعد الكلّ، اهتماماً بأمره، فالصلاة والزكاة من أركان الإسلام، ويُراد بهما: التوجّه العبوديّ الخاصّ إلى الله، وإنفاق المال في الله.
 
وقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، أي دين الكتب القيّمة. والمراد بالكتب القيّمة:
• إنْ كان جميع الكتب السماويّة، أي كتاب نوح، ومن دونه من الأنبياء عليهم السلام، فمعنى الآية: إنّ هذا الذي أُمِروا به ودُعوا إليه في الدعوة المحمّديّة، هو الدين الذي كُلّفوا به في كُتبهم القيّمة، وليس بأمر بدع، فدين الله واحد، وعليهم أن يدينوا به، لأنّه القيّم.
 
• وإنْ كان المراد به ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكتب القيّمة التي في الصحف المطهّرة، 



1 سورة البقرة، الآية 253.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص338-339. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

147

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 فمعنى الآية: أنّهم لم يُؤمروا في الدعوة الإسلاميّة، إلا بأحكام وقضايا هي القيّمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنسانيّ، فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها ويتديّنوا بها.

 
فالآية على أيّ حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمّنه القرآن الكريم المصدّق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه في ما يأمر المجتمع البشري، قائماً بأمرهم، حافظاً لمصالح حياتهم، كما يُبيّنه بأوفى البيان، قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾1، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾2.
 
وبهذا البيان الإلهيّ يتّضح عموم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشمول الدعوة الإسلاميّة لعامّة البشر في كلّ زمان ومكان إلى قيام يوم الدين3.
 
الآية (6): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾:
توصيف للكافرين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، بأنّهم شرّ الخَلْق، على نحو قصر الشرّيّة بهم، وتوعّدهم بالخلود في نار جهنّم، بفعل كفرهم وعنادهم للبيّنة التي أوجبتها سنّة الهداية الإلهيّة4.



1 سورة الروم، الآية 30.
2 سورة الإسراء، الآية 9.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص339-340.
تفسير بالمصداق: روى علي بن أسباط، عن ابن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، قال: "هو ذلك دين القائمعليه السلام". (البحراني، هاشم: البرهان في تفسير القرآن، لا.ط، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة، لا.ت، ج5، ص719).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص340.
تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن العباس، عن أحمد بن محمد الوراق، عن أحمد بن إبراهيم، عن الحسن بن أبي عبد الله، عن مصعب بن سلام، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد الله (رض)، قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: "... يا علي ادن منّي. فدنا منه، فقال: أدخل أذنك في فمي. ففعل، فقال: يا أخي، ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾؟ قال: بلى، يا رسول الله. قال: هم أنت وشيعتك، تجيؤون غرّاً محجّلين شباعاً مرويين، ألم تسمع قوله الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾؟ قال: بلى، يا رسول الله قال: هم أعداؤك وشيعتهم، يجيؤون يوم القيامة مسودّة وجوههم ظماء مظمئين، أشقياء معذّبين، كفّاراً منافقين، ذاك لك ولشيعتك، وهذا لعدوّك وشيعتهم". (البحراني، البرهان في تفسير القرآن، م.س، ج5، ص719-720).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

 


148

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 الآية (7): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾

قصر الخيريّة في المؤمنين الصالحين، الذين استجابوا لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، باتّباعهم البيّنة الإلهيّة، اعتقاداً وعملاً1.
 
الآية (8): ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾:
العدن: الاستقرار والثبات، فجنّات عدن: جنّات خلود ودوام. وتوصيفها بقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، تأكيد بما يدلّ عليه الاسم.
 
وقوله تعالى: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾، الرضى منه تعالى صفة فعل، ومصداقه الثواب الذي أعطاهموه، جزاء لإيمانهم وعملهم الصالح.
 
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾، علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾2 فالعلم بالله، يستتبع الخشية منه، والخشية منه، تستتبع الإيمان به، بمعنى الالتزام القلبيّ بربوبيّته وألوهيّته، ثمّ العمل الصالح3.
 
بحث تفسيري: دور الدين في صيانة مسير التكامل الإنسانيّ وترشيده4
1- الاختلاف بين أفراد الإنسان:
إنّ قريحة الاستخدام في الإنسان، بانضمامها إلى الاختلاف الضروريّ بين الأفراد، من حيث الخِلْقة، والبيئة، والعادات، والأخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري، من حيث القوّة والضعف، يؤدّي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص340.
تفسير بالمصداق: أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله: قال كنّا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل عليٌ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ونزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾, فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم, إذا أقبل عليٌ، قالوا: جاء خير البريّة". (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص379).
2 سورة فاطر، الآية 28.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص340.
4 انظر: م.ن، ج2، ص118-122.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

149

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 الصالح من العدل الاجتماعيّ، فيستفيد القويّ من الضعيف أكثر ممّا يُفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويُقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفاً مغلوباً، بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشدّ الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤدّياً إلى الهرج والمرج، وداعياً إلى هلاك الإنسانيّة، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة. وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ﴾1، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾2، و﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾3.

 
2- رفع الاختلاف بالدين:
إنّ ظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلّيّة يُوجِب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كلّ ذي حقّ حقّه، وتحميلها الناس.
 
ولذلك شرّع الله سبحانه ما شرّعه من الشرائع والقوانين، واضعاً ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد، والأخلاق، والأفعال، وبعبارة أخرى: وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم، من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل. قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾4:
 
3- الاختلاف في أمر الدين:
إنّ الاختلاف في المعاش وأمور الحياة، إنّما رُفِعَ أوّل ما رُفِعَ بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينيّة، فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
 
لكنّ بعض بني الإنسان اختلفوا في أمر الدين: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ 



1 سورة يونس، الآية 19.
2 سورة هود، الآيتان 118 و 119.
3 سورة البقرة، الآية 213.
4 سورة البقرة، الآية 213.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

150

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1، وإنّما أوجد هذا الاختلاف حملة الدين، ممّن أوتي الكتاب المبين، من العلماء بكتاب الله، بغياً بينهم، وظلماً وعتوّاً، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾3.

 
فالاختلاف في الدين مستند إلى بغي الإنسان دون أصل الفطرة، فإنّ الدين فطريّ منسجم مع مقتضى الفطرة، التي تهدي الإنسان إلى الدين وتدفعه نحوه، وما كان كذلك لا تضلّ فيه الخِلْقة، ولا يتبدّل فيه حكمها: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾4.



1 سورة البقرة، الآية 213.
2 سورة الشورى، الآيتان 13 - 14.
3 سورة يونس، الآية 19.
4 سورة الروم، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

 


151

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة، ويوجد تسميات عدّة لها، أشهرها: "البينة"، و "لم يكن"، و "القيّمة". وتتضمّن هذه السورة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور: رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم/ التوحيد/ الصلاة/ الزكاة/ ...
 
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
 
3- في تفسير السورة: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، من النصارى واليهود، والمشركين، من عبدة الأصنام وغيرهم، منفصلين عمّا تقتضي سنّة الهداية، بإرسالك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتلو عليهم كتاباً سماويّاً مصاناً عن أن تمتدّ إليه يد الباطل فضلاً عن أن يكون باطلاً من نفسه، وهذا الكتاب يحوي معارف وحقائق عالية سامية يحتاجها الإنسان لسعادة الدارين، ولكنّ هؤلاء أعرضوا عنه ومالوا عنه، مع أنّ الفطرة المودعة في جبلّتهم وكتبهم تدعوهم لاتباع هذا الدين القويم، الذي هو عام وشامل للبشريّة جمعاء، فالمعرض عنه هو من شرّ الخلق، له عذاب أليم، بما كفر، والمتّبع له هو من خير الخلق، له جنّة الخلد، ورضوان من الله تعالى، بما خشي ربّه، فالتزم بحقّ الاعتقاد وصالح العمل.
 
4- وضع الله تعالى التشريع على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم، من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

152

الدرس التاسع: تفسير سورة البيّنة

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "خير البريّة": المتّبعون للبيّنة قولاً وعملاً. 
- المراد بـ "عدن": خيرات الجنّة ونعيمها. 
 
2. أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171
 

 


153

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
 
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

154

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

تعريف بالسورة ومحاورها
سُمّيت هذه السورة بالزلزلة، لورود ذكرها في مطلع السورة، حيث جرت سيرة المسلمين على تسمية بعض السور باسم مفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- علامات البعث ويوم القيامة.
2- شهادة الأرض على أعمال العباد.
3- ميزان الحساب الأخروي.
4- عاقبة الصالحين.
5- عاقبة الطالحين.
 
فضل السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها فكأنّما قرأ البقرة، وأُعطي من الأجر، كمن قرأ ربع القرآن"1
 
• ما رُوِيَ عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا تملّوا من قراءة ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾، فإنّ مَنْ كانت قراءته في نوافله، لم يُصبه الله بزلزلة أبداً، ولم يمت بها، ولا بصاعقة، ولا بآفّة من آفّات الدنيا، وإذا مات أُمِرَ به إلى الجنّة، فيقول الله سبحانه: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت وهويت، لا ممنوع، ولا مدفوع عنه"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص416.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

155

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 خصائص النزول

المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة مدنيّة، بينما ذهب بعضهم إلى أنّها مكّيّة1، لما تتناوله آياتها من حديث عن "المعاد" و"أشراط الساعة" (علامات يوم القيامة)... وهي موضوعات الآيات المكّيّة عادة. 
 
شرح المفردات
• أثقالها: "الثاء والقاف واللام أصل واحد يتفرّع منه كلمات متقاربة، وهو ضدّ الخفّة، ولذلك سُمّي الجنّ والإنس الثقلين، لكثرة العدد. وأثقال الأرض كنوزها في قوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾. ويُقال هي أجساد بني آدم، قال الله تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾، أي أجسادكم"2. "والمِثْقَال: ما يوزن به، وهو من الثقل... قال تعالى: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾3، وقال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾4"5.
 
• أَوْحَى: "الواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك"6. والوحي "إعلام سريع خفيّ، سواء أكان بإيماءة أم بهمسة أم بكتابة في سرّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك في سرعة خاطفة حتى فَهِمه فهو وحيٌ. وأصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمرٌ وحِيٌّ (أي سريع)، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة"7.
 
• أَشْتَاتًا: "الشين والتاء أصل يدلّ على تفرّق وتزيّل، من ذلك: تشتيت الشيء المتفرّق،



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص416.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "ثَقَلَ"، ص382.
3 سورة الأنبياء، الآية 47.
4 سورة الزلزلة، الآيتان 7 - 8.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "ثَقَلَ"، ص147.
6 انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَحَى"، ص93.
7 انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَحَى"، ص858.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

156

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 تقول: شتّ شعبهم شتاتاً وشتّاً، أي تفرّق جمعهم"1.

 
• ذَرَّةٍ: "الذال والراء المشدّدة أصل واحد يدلّ على لطافة وانتشار. ومن ذلك الذرّ، صغار النمل. الواحدة ذرَّة"2.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾:
الزلزال مصدر، كالزلزلة. وإضافته إلى ضمير الأرض، تُفيد الاختصاص. ومعنى الآية: إذا زلزلت الأرض زلزلتها الخاصّة بها، فتفيد التعظيم والتفخيم، أي إنّها في منتهى الشدّة والهول.
 
كما أنّ الإتيان بالمصدر بعد الفعل، يُفيد التأكيد، أو بيان العدد، أو كيفيّة الفعل. مضافاً إلى أنّ إضافته إلى الضمير تُعطي معنى النهاية في التأكيد، فيُستفاد من إضافة الزلزال إلى الضمير، أنّه تقع في الأرض زلزلة لا يمكن أن يتصوّر زلزلة فوقها3.
 
الآية (2): ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾:
الأثقال: جمع ثَقَل، بمعنى المتاع، أو خصوص متاع المسافر، أو جمع ثِقْل، بمعنى الحِمل. 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَتَّ"، ص177. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَتَتَ"، ص445.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "ذَرَّ"، ص343. وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة "ذَرَرَ"، ص306.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص342.
تفسير بالمصداق: أورد الشيخ الصدوق قدس سره في علل الشرائع، عن فاطمة عليها السلام أنّها قالت: "أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، ففزع الناس إلى أبي بكر وعمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي عليه السلام، فتبعهما الناس إلى أن انتهوا إلى باب علي عليه السلام، فخرج إليهم علي عليه السلام غير مكترث لما هم فيه، فمضى واتّبعه الناس, حتى انتهى إلى تلعة، فقعد عليها، وقعدوا حوله وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتج, جائيّة وذاهبة، فقال لهم علي عليه السلام: كأنكم قد هالكم ما ترون قالوا: وكيف لا يهولنا ولم نرَ مثلها قط. فحرّك شفتيه، ثمّ ضرب الأرض بيده، ثمّ قال: مالك اسكني فسكنت، فعجبوا من ذلك أكثر من تعجّبهم أولاً, حيث خرج إليهم، قال لهم: فإنّكم قد عجبتم من صنعتي؟ قالوا: نعم، قال أنا الرجل الذي قال الله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا﴾، فأنا الإنسان الذي يقول لها ما لك، ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾, إياي تحدّث". (ابن بابويه، محمد بن علي(الصدوق): علل الشرائع، تقديم: محمد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف، 1386هـ.ق/ 1966م، ج2، باب343، ح8، ص556).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

157

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 وعلى أيّ حال فالمراد بأثقالها التي تخرجها: الموتى، أو الكنوز والمعادن التي في بطنها، أو الجميع. وأوّل الوجوه أقربها، ثمّ الثالث، لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، ويؤيّد ذلك ظاهر السياق، حيث قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، وفيه إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء1.

 
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾، قال: من الناس2.
 
الآية (3): ﴿وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا﴾:
الآية تبيّن غاية التشويش والاضطراب والعجب الذي يُصيب الإنسان في ذلك اليوم من جرّاء تلك الزلزلة الشديدة الهائلة3.
 
الآية (4): ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾:
الآية تُبيّن شهادة الأرض على أعمال بني آدم، كما تشهد بها أعضاؤهم، وكتّاب الأعمال من الملائكة، وشهداء الأعمال من البشر، وغيرهم4.
 
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد، وأنّه بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، وهذا أخبارها5.
 
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم - أيضاً - أنّه قال: إنّ الأرض لتُخبر يوم القيامة بكلّ ما عُمِلَ على ظهرها. وقرء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، حتى بلغ ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾. قال: "أتدرون ما إخبارها؟ جاءني جبريل عليه السلام، قال: خبرها إذا كان يوم القيامة، أخبرت بكلّ عمل عُمِلَ على ظهرها"6.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص342.
2 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص433.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص342.
تفسير بالمصداق: روى أبو حمزة الثمالي، عن الإمام أبي جعفر عليه السلام، قال: "قرئ عند أمير المؤمنين عليه السلام: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، إلى أن بلغ قوله: ﴿وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، قال: أنا الإنسان، وإيّاي تحدّث أخبارها". (الثمالي، ثابت بن دينار(أبو حمزة): تفسير أبي حمزة الثمالي، أعاد جمعه وتأليفه: عبد الرزاق محمد حسين حرز الدين، مراجعة وتقديم: محمد هادي معرفة، ط1، مطبعة الهادي، لا.م، 1420هـ.ق/ 1378هـ.ش، ص362).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص342.
5 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص419.
6 البيهقي، أحمد بن الحسين: شعب الإيمان، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، تقديم: عبد الغفار سليمان البنداري، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1410هـ.ق/ 1990م، ج5، ح7296، ص463.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

158

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 الآية (5): ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾:

اللام في "لها"، بمعنى: إلى، لأنّ الإيحاء يتعدّى بـ "إلى"، والباء، بمعنى: السببيّة. ومعنى الآية: أنّ الأرض تحدِّث أخبارها، بسبب إيحاء الله تعالى لها وأمره إيّاها، فتشهد بما وقع فيها من الأعمال، خيرها وشرّها، لأنّها شاعرة بها، متحمّلة لها، فتشهد بما تحمّلت1.
 
الآية (6): ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾:
ذكر المفسِّرون معنيين لصدور الناس أشتاتاً متفرّقين يومئذ ليروا أعمالهم، هما: 
• انصرافهم متفرّقين عن الموقف إلى منازلهم في الجنّة والنار، بعد أن يتميّز أهل السعادة والفلاح منهم عن أهل الشقاء والهلاك. والمقصود بإراءتهم أعمالهم، إراءتهم جزاء أعمالهم، بالحلول فيه، أو مشاهدتهم أعمالهم أنفسها، بناءً على تجسّم الأعمال.
 
• خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرّقين متميّزين، بسواد الوجوه وبياضها، وبالفزع والأمن، وغير ذلك، لإعلامهم جزاء أعمالهم، بالحساب. والتعبير عن العلم بالجزاء، بالرؤية، وعن الإعلام، بالإراءة، نظير ما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ﴾2
 
والمعنى الأوّل أقرب وأوضح، وهو لازم للمعنى الثاني3.
 
الآية (7): ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾:
المراد بالمثقال: ما يُوزن به الأثقال. والمراد بالذرّة: ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء.
 
والآية: تفريع على ما تقدّم، من إراءتهم أعمالهم، وفيه تأكيد على أنّه لا يُستثنى من الإراءة عمل، خيراً أم شرّاً، كبيراً أم صغيراً، حتى مثقال الذرّة، من خير أو شرّ4.
 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أيها الناس كونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ كلّ أمٍّ يتبعها ولدها. اعملوا، وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنّكم



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص342-343.
2 سورة آل عمران، الآية 30.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص343.
4 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

159

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 معروضون على أعمالكم، وأنّكم ملاقو الله، لا بدّ منه، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾"1.

 
الآية (8): ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾:
بيان حال كلّ مَنْ عمل خيراً أو شرّاً في جملة مستقلّة، لغرض إعطاء الضابط وضرب القاعدة.
 
ولا منافاة بين ما تدلّ عليه الآيتان من العموم، وبين الآيات الدالّة على حبط الأعمال، وعلى انتقال أعمال الخير والشرّ من نفس إلى نفس، كحسنات القاتل إلى المقتول، وسيّئات المقتول إلى القاتل، وعلى تبديل السيّئات حسنات في بعض التائبين، إلى غير ذلك، لأنّ تلك الآيات حاكمة على هاتين الآيتين، فإنّ مَنْ حبط عمله الخير محكوم بأنّه لم يعمل خيراً، فلا عمل له خيراً، حتى يراه. وعلى هذا القياس في غيره2.
 
بحث تفسيري: المجازاة وتجسّم الأعمال3
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على أنّ الجزاء يوم الحساب بالأعمال أنفسها، ومن هذه الآيات: 
• قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4
 
• قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾5.
 
• قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾6
 
• قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾7



1 السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص383.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص343.
3 انظر: م.ن، ص92-93.
4 سورة التحريم، الآية 7.
5 سورة البقرة، الآية 281.
6 سورة البقرة، الآية 24.
7 سورة آل عمران، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

160

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 • قوله تعالى: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾1.

 
• قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾2
 
وغيرها من الآيات... ولو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾3، لكان فيه كفاية، إذ الغفلة لا تكون، إلا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم، إلا عن مغطّى موجود، فلو لم يكن ما يُشاهده الإنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قَبل، لما كان يصحّ أن يُقال للإنسان أنّ هذه أموراً كانت مغفولة لك، مستورة عنك، فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.
 
وخلاصة القول: إنّ كلامه تعالى في الآيات المتقدّمة يُفيد أمرين:
• أحدهما: المجازاة بالثواب والعقاب، أي أنّ ما سيستقبل الإنسان، من خير أو شر، كجنّة أو نار، إنّما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
 
• ثانيهما: تجسّم الأعمال، أي أنّ الأعمال تُهيّئ بأنفسها، أو باستلزامها وتأثيرها، أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة، أي خيراً أو شرّاً، هي التي سيطّلع عليها الإنسان يوم يكشف عن ساق.



1 سورة البقرة، الآية 174.
2 سورة النساء، الآية 10.
3 سورة ق، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

161

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة على الأشهر، وتتضمّن 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور: علامات البعث/ ويوم القيامة/ شهادة الأرض على أعمال العباد/ ميزان الحساب الأخروي/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: إذا زلزلت الأرض زلزالها الشديد الهائل، وأخرجت من جوفها الموتى وجميع ما فيها، يسأل الإنسان حينها متعجّباً مدهوشاً منها، فيومئذ تشهد على أعمال العباد، فترى الناس حينها متفرّقين ينصرف كلّ واحد منهم إلى منزله، في الجنّة أم في النار، ليجدوا جزاء عملهم في دار الدنيا، مهما كان صغيراً.

4- المجازاة بالثواب والعقاب، أي ما سيستقبل الإنسان، من خير أو شر، كجنّة أو نار، إنّما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل. وتجسّم الأعمال، هو أنّ الأعمال تُهيّئ بأنفسها، أو باستلزامها وتأثيرها، أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة، أي خيراً أو شرّاً، هي التي سيطّلع عليها الإنسان يوم يكشف عن ساق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

162

الدرس العاشر: تفسير سورة الزّلزلة

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَن قرأ هذه السورة، فكأنّما قرأ ثلث القرآن. 
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "أثقالها": كلّ ما هو موجود في جوفها. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

163

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

164

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالعاديات، لورود ذكرها في مستهلّ السورة، وقد جرت سيرة المسلمين على تسمية بعض السور باسم مفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 11 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- القائد الربّانيّ ضمانة فلاح الأمّة في الدنيا والآخرة. 
2- كفران الإنسان للنعم الإلهيّة.
3- حبّ الإنسان للدنيا سبب خسرانه، الدنيويّ والأخرويّ.
4- البعث والنشور ودورهما في ضبط عمل الإنسان وتوجيهه وجهته الصحيحة.
5- علم الله وإحاطته بالأشياء، ظاهرها وباطنها، علانيّتها وسرّها.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قرأها أُعطِيَ من الأجر عشر حسنات، بعدد مَنْ بات بالمزدلفة، وشهد جمعاً"1
 
• ما رواه سليمان بن خالد، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "ومن قرأ ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ وأدمن قراءتها، بعثه الله مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم القيامة خاصّة، وكان في حجره ورفقائه"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص421.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

165

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 خصائص النزول

اختلف المفسِّرون في مكان نزول هذه السورة، على قولين: أكثرهم على أنّها مكّيّة، وبعضهم على أنّها مدنيّة1:
• القول الأوّل: مكّيّة السورة: تمسّك القائلون بمكّيّتها، بمجموعة من الأمور الواردة فيها، التي - عادة - ما تتناولها السور المكّيّة، منها: قِصَر آياتها، ورود الأقسام فيها، الحديث عن أصل المعاد والبعث والنشور2.
 
• القول الثاني: مدنيّة السورة: تمسّك القائلون بمدنيّتها، بمجموعة من الروايات الواردة بصدد بيان أسباب النزول، منها:
- روي أنّه بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريّة إلى حي من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ، أحد النقباء، فتأخّر رجوعهم، فقال المنافقون: قُتِلوا جميعاً. فأخبر الله تعالى عنها بقوله: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾3
 
- روي أنّه نزلت السورة لمّا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم، وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4.
 
- روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام - في حديث طويل - أنّه قال: "وسُمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل، لأنّه (الإمام علي عليه السلام) أسر منهم، وقتل، وسبى، وشدّ أسراهم في الحبال مكتّفين، كأنّهم في السلاسل. ولمّا نزلت السورة، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، فصلّى بهم الغداة، وقرأ فيها: ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾، فلمّا فرغ من صلاته، قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، إنّ عليّاً ظفر بأعداء الله، وبشّرني بذلك  



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص421.
2 انظر: م.ن.
3 م.ن، ص422.
4 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

166

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 جبرائيل عليه السلام في هذه الليلة. فقَدِمَ علي عليه السلام بعد أيام بالغنائم والأسارى"1.

 
وبناءً على ما تقدّم من روايات أسباب النزول، فإنّ القول بمدنيّة السورة هو القول الأوفق، ولا سيما بملاحظة الرواية الأخيرة، التي صرّحت بأنّ المسلمين لم يكونوا على علم بهذه السورة قبل قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في صلاته التي صلّاها بهم، بعد واقعة ذات السلاسل التي حدثت في العام الثامن للهجرة.
 
وبهذه القرينة الأخيرة لا يُمكن التمسّك بمكّيّة السورة، بصرف الروايات المتقدّمة عن بيان سبب النزول، وحملها على خصوص التفسير بالمصداق.
 
شرح المفردات
• الْعَادِيَاتِ: "العين والدال والحرف المعتلّ أصل واحد صحيح وهو يدلّ على تجاوز في الشيء، وتقدّم لما ينبغي أن يقتصر عليه... ويقال من عدو الفرس عدوان، أي جيّد العدو وكثيره"2.
 
• ضَبْحاً: "الضاد والباء والحاء أصلان صحيحان، أحدهما: صوت، والآخر: تغيّر لون، من فعل نار... فأمّا قوله تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾، فيقال: هو صوت أنفاسها. وهذا أقيس. ويقال: بل هو عدو فوق التقريب، وهو في الأصل ضبع، وذلك أن يمدّ ضبعيه حتى لا يجد مزيداً، وإن كان كذا، فهو من الإبدال"3.
 
• الْمُورِيَاتِ: "الواو والراء والحرف المعتلّ: بناء على غير قياس وكلمة أفراد"4. و"قوله تعالى: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾، يعني الخيل في المكر تقدح النار بحوافرها، عند صكّ الحجارة، يقال: أورى النار، إذا أوقدها وأشعلها"5.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص421, ولمزيد من التفصيل في غزوة ذات السلال, وأنّها سبب نزول سورة العاديات، انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص434-438.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَدَوَ"، ص249. وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "عَدَوَ"، ص283.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "ضَبَحَ"، ص385. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "ضَبَحَ"، ص501.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَرَى"، ص104.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "وَرَى"، ص435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

167

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 • قَدْحًا: "القاف والدال والحاء أصلان صحيحان يدلّ أحدهما على شيء، كالهزم (غمز الشيء حتى ينحطم وينكسر إلى الداخل) في الشيء، والآخر يدلّ على غرف شيء. فالأوّل القدح، فِعْلُك إذا قدحت الشيء... ومن الباب قدح الفرس تقديحاً إذا ضمر (دقّ وخفّ لحمه) حتى يصير مثل القدح"1. و"قوله تعالى: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾، أي الخيل توري النار سنابكها، إذا وقعت على الحجارة، ولعلّ المراد بها خيل الجهاد"2.

 
• الْمُغِيرَاتِ: "الغين والواو والراء أصلان صحيحان، أحدهما: خفوض في الشيء وانحطاط وتطامن، والأصل الآخر: إقدام على أخذ مال قهراً أو حرباً... الإغارة"3.
 
• أَثَرْنَ: "الهمزة والثاء والراء له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي"4. و"في قوله: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾، بتشديد الثاء، وهو من التأثير، فالهمزة فاء الفعل، فأثرن بالتخفيف من الإثارة"5.
 
• نَقْعًا: "النون والقاف والعين أصلان صحيحان، أحدهما يدلّ على استقرار شيء، كالمائع في قراره، والآخر على صوت من الأصوات. فالأول نقع الماء في منقعه استقرّ"6. و"قوله تعالى: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾. النقع: الغبار، والجمع نِقاع بالكسر"7.
 
• كَنُودٌ: "الكاف والنون والدال أصل صحيح واحد يدلّ على القطع. يقال كند الحبل يكنده كنداً. والكنود الكفور للنعمة. وهو من الأوّل، لأنّه يكند الشكر، أي يقطعه"8.



1  ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَدَحَ"، ص67.
2 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج2، مادّة "قَدَحَ"، ص403.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَيَرَ"، ص401. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "غَوَرَ"، ص618.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "أَثَرَ"، ص53.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة "أَثَرَ"، ص198.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَقَعَ"، ص471.
7 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "نَقَعَ"، ص398.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "كَنَدَ"، ص140. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "كَنَدَ"، ص727.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

168

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 • بُعْثِرَ: "الباء والعين والثاء أصل واحد وهو الإثارة"1. "قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾2، أي: قلب ترابها وأُثير ما فيها... وقيل: إنّ بعثر مركَّب من: بعث وأثير، وهذا لا يبعد في هذا الحرف، فإنّ البعثرة تتضمّن معنى بعث وأثير"3.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾:
العاديات، من العدو، وهو الجري بسرعة. والضَبْح، صوت أنفاس الخيل عند عَدْوِها، وهو المعهود المعروف من الخيل. ومعنى الآية: أقسم بخيل المجاهدين اللاتي يجرين بسرعة، ويصدرن أصواتاً من أنفاسهنّ، بفعل جريانهنّ في ساحة الجهاد والقتال4.
 
الآية (2): ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾: 
الإيراء، إخراج النار. والقدح، الضرب والصكّ المعروف. يُقال: قدح فأورى، إذا أخرج النار بالقدح. ومعنى الآية: أُقسم بخيل المجاهدين التي تُخرِج النار بحوافرها، إذا عَدَت على الحجارة والأرض المحصّبة في ساحة الجهاد والقتال5.



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "بَعَثَ"، ص226.
2 سورة الانفطار، الآية 4.
3 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "بَعْثَرَ"، ص133.
4  انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص345.
تَدَبُّر: إنّ التدبّر في الأقسام الواردة في القرآن الكريم يرشد إلى مجموعة من الفوائد والمقاصد المترتّبة عليها، أبرزها:
- الأوّلى: توجيه المخاطب إلى خطاب المقسِم الذي جرى التمهيد له بالقَسَم, حتى يتفكّر فيه، ولا يمرّ عليه, وهو غافل، ولعلّ هذا المقصد يكون موجوداً في بعض الموارد من قَسَم الناس - أيضاً -.
- الثانية: بيان أنّ القسم بالشيء له واقعيّة ووجود, إذا كان مشكوكاً أو موهوماً عند الناس, كالملائكة، ويوم القيامة، والنفس، والضمير. قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (سورة القيامة، الآيتان 1و2).
- الثالثة: توجيه البشر إلى أهمّيّة المُقسَم به وفوائده ومنافعه, كالشمس، والقمر، والنجوم والليل والنهار، وحتّى التين والزيتون.
- الرابعة: ردّ الأفكار الخرافيّة والاعتقادات الجاهليّة التي كان البشر مبتلين بها في الجاهليّة، وهي موجودة -أيضاً- في حضارتنا المتقدّمة, كالاعتقاد بربوبيّة النجوم وغيرها، ومثل ما يعتقده الناس في الجاهليّة أنّ المساء وبعد الظهر وقت مشؤوم ولا يصلح للكسب، وعلى أثر هذه العقيدة كان المجتمع يتكبّد الخسائر الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. والجيل المعاصر - أيضاً - ربّما يشتكون من العصر والزمان، ويرون أنّ الأعمال الخيريّة غير ميسّرة فيه، فالله سبحانه بيّن بالقسم بالعصر فساد هذه العقيدة، وفوائد العصر وأهمّيّته.
- الخامسة: تعظيم مورد القسم، ليرغب الناس -أيضاً- في تعظيمه بالعبادة والجهاد وغيرهما من أعمال الخير, كالقسم بالفجر، وليال عشر والشفع والوتر في سورة الفجر المباركة، والقسم بخيل الغزاة والمجاهدين كما في هذه السورة المباركة.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص345.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

169

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 الآية (3): ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾:

الإغارة والغارة، الهجوم على العدو بغتة بالخيل، وهي صفة أصحاب الخيل حقيقة، ونسبتها إلى الخيل من باب المجاز. وعنى الآية: أُقسم بخيل المجاهدين الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح1.
 
الآية (4): ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾: 
أثرن، من الإثارة، بمعنى تهييج الغبار ونحوه. والنقع، الغبار. ومعنى الآية: أُقسم بخيل المجاهدين الهاجمات صبحاً اللاتي هيّجن الغبار بالعدو في ساحة الجهاد والقتال2.
 
الآية (5): ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾: 
وسط وتوسّط، بمعنى واحد. وفي معنى الباء ومرجع الضمير في قوله تعالى: ﴿بِهِ﴾، قولان:
• الباء، بمعنى: في. ومرجع الضمير إلى "الصبح".
• الباء، بمعنى: الملابسة. ومرجع الضمير إلى "النقع"، أي الغبار.
 
وعلى كلّ حال، فمعنى الآية: أُقسم بخيل المجاهدين الهاجمات على مركز كتيبة العدو والمتوسّطات بينهم صبحاً، أو المتوسّطات جمعاً من كتيبة العدو، جعلتهم ملابسين للغبار. والفاء في الآيات الأربع المتقدّمة تدلّ على ترتّب كلّ منها على ما قبلها3.
 
- الآية (6): ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾: 
الكنود، الكفور. والمراد بالإنسان، بعض الإنسان. والآية: جواب على القسم بخيول المجاهدين الهاجمات في سبيل الله...
وقوله تعالى: ﴿لِرَبِّهِ﴾ متعلّق بكنود، أي أنّ الإنسان لكنود لربّه، حيث قُدِّم عليه لإفادة التخصيص والحصر، كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾4. وهذا التخصيص 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص345-346.
2 انظر: م.ن، ص346.
3 انظر: م.ن.
4 سورة الفاتحة، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

170

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 والحصر، بمعنى: أنّ كفران الإنسان مخصوص بنعمة ربّه وليس بنعمة غيره1.

 
فالآية تعريض بالقوم المُغَار عليهم، لأنّهم كفروا بنعمة الإسلام التي أنعم الله بها عليهم، وهي أعظم نعمة أوتوها، لما فيها من طيب حياتهم الدنيا، وسعادة حياتهم الأبديّة الأخرى2.
 
- الآية(7): ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾: 
ذُكِرَ في مرجع ضمير ﴿وَإِنَّهُ﴾ قولان، هما:
• إنّ مرجع الضمير إلى الإنسان. فيكون معنى الآية: إنّ الإنسان على كفرانه بربّه شاهد متحمّل للشهادة عن علم بكفران نفسه، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾3.
 
• إنّ مرجع الضمير إلى الله. فيكون معنى الآية: إنّ الله تعالى شهيد على كفران الإنسان بربّه وأنّ كفرانه (أي الإنسان) عن علم منه (أي الإنسان) بالكفران.
 
والقول الأوّل هو الأوفق باتّساق الضمائر في سياق الآيات، بخلاف الثاني الذي لا يلائمه اتّساق الضمائر4.



1 تَدَبُّر: إنّ شكر المنعم من الأمور الفطريّة التي فَطَر الله الناس عليها في جبلّتهم وخِلقتهم, بحيث يشترك فيها العالم والجاهل، والفقير والغنيّ، والمدنيّ والبدويّ. فمَنْ يرى لنفسه نعمة من غيره, فإنّه يشكره عليها لا محالة. وبلحاظ هذا الأمر جاء سياق الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾, فإنّنا عندما نرى أنفسنا تشكر كلّ إنسان عمل لنا عملاً واحداً وأعطانا نعمة واحدة, نعلم كم نحن شديدو الكفران بالنسبة لله تعالى, لأنّه تعالى هو الذي أعطانا من النعم العظيمة الجليلة, من أصل إيجادنا، إلى ما نحتاجه في استمرار وجودنا، وتوابعه، وكمالاته, ما لا تحصى كلّيّاتها، فكيف بجزئيّاتها! ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ (سورة إبراهيم، الآية 34).
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص346.
تَدَبُّر: في هذه الآية إخبار عن طبع الإنسان المتّبع للهوى، والمنكبّ على متاع الدنيا، والمنقطع بها عن شكر ربّه على ما أنعم عليه, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾ (سورة الحج، الآية 66).
3 سورة القيامة، الآية 14.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص346-347.
تَدَبُّر: إنّ الشهادة من الإنسان على نفسه تتصوّر على وجهين:
- الأوّل: شهادة الأعمال والسيرة عليه, وهي أصدق شاهد عليه, حيث إنّه يصرف النعم الإلهيّة في غير مصرفها الحقّ, وهو ما يرضي الله تعالى. بل يصرفه في ما يسخطه تعالى. وهذه هي الشهادة العمليّة بأنّ الإنسان كفور.
- الثاني: إنّ الإنسان إذا ارتكب سوءاً, فإنّه بحكم الوجدان والضمير، وبإلهام فطريّ, يعلم أنّه عمل سوءاً، وإنْ كان لا يقرّ به لساناً، وهذا الإلهام من الحجج الإلهيّة للإنسان. فالخالق الباري ألهمه بالفطرة الخير والشرّ: 
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (سورة الشمس، الآيتان 7و8). والإنسان المسيء مهما أتى بالمعاذير, لتبرير عمله، ولتبرئة نفسه عند الناس, فهو في ضميره ووجدانه معترف بإساءته. قال تعالى: 
﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ (سورة القيامة، الآيتان 14-15).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

171

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 الآية (8): ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾: 

ذُكِرَ في معنى الآية ثلاث أقوال، هي:
• إنّ اللام للتعليل. والخير هو المال. فيكون معنى الآية: إنّ الانسان، لأجل حبّ المال، لشديد، أي بخيل وشحيح.
• إنّ الإنسان لشديد الحبّ للمال، ويدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حقّ الله، والانفاق في الله.
• إنّ المراد بالخير، مطلق الخير. ومعنى الآية: إنّ حبّ الخير فطريّ للإنسان، ثمّ إنّه يرى عرض الدنيا وزينتها، فيظنّها خيراً، فتنجذب إليه نفسه، ويُنسيه ذلك ربّه، أن يشكره1.
وفي تفسير القمي: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، يعني: حبّ الحياة. والآية من باب التفسير بالمصداق2.
 
الآية (9): ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾: 
البعثرة، البعث والنشر. والاستفهام فيه للإنكار. وقوله تعالى: ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾، تأكيد للإنكار، والمراد بما في القبور، الأبدان. وقد عبّر بـ "من"، وهي لغير العاقل، بدلاً من التعبير بـ "ما"، وهي للعاقل، لأنّ الأبدان ليس من شأنها أن تَعقِل.
 
ومعنى الآية: أفلا يعلم الإنسان أنّ لكنوده وكفرانه بربّه تبعة، ستلحقه، ويُجازى بها، إذا أُخرِجَ ما في القبور من الأبدان...3.
 
الآية (10): ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾: 
تحصيل ما في الصدور، تمييز ما في باطن النفوس من صفة الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيّئة، كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾4.5



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص347.
2 لمزيد من التفصيل في المصداق، انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص434-439.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص347.
4 سورة الطارق، الآية 9.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص347.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

172

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 الآية (11): ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾:

إنّ ربّهم بهم يومئذ لخبير عليم، بما أعلنوا وما أسرّوا، فيُجازيهم بما في سرائر نفوسهم، فضلاً عن ما أعلنوه1.
 
بحث تفسيري: موقع أشراط الساعة وحوادثها في السير الوجودي للإنسان2
1- طبيعة عوالم وجود الإنسان:
قال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾3. في هذه الآية بيان لحقيقة الإنسان من حيث وجوده، فهو وجود متحوّل متكامل، يسير في مسير وجوده المتبدّل المتغيّر تدريجاً، ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتاً، ثمّ حيي بإحياء الله، ثمّ يتحوّل بإماتة وإحياء، وهكذا، قال سبحانه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِين * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ * وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾4، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *  ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾5، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾6. والآيات تدلّ على أنّ الإنسان جزء من الأرض، غير مفارقها ولا 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص347.
2 انظر: م.ن، ج17، ص293-294, ج20، ص148-150.
3 سورة البقرة، الآية 28.
4 سورة السجدة، الآيات 7 - 11.
5 سورة المؤمنون، الآيات 12 - 16.
6 سورة طه، الآية 55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

173

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 مباين معها، انفصل منها، ثمّ شرع في التطوّر بأطواره، حتّى بلغ مرحلة أُنشئ فيها خلقاً آخر، فهو المتحوّل خلقاً آخر، والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثمّ يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه، ثمّ يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.

 
2- ثبوت عالم البرزخ:
قال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾1.
 
والآية قريبة السياق من قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾2، وهذه من الآيات التي يستدلّ بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنّها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحداهما الموت الناقل من الدنيا، لم يكن بدّ في تصوير الإماتة الثانية، من فرض حياة بين الموتين، وهو البرزخ، وهو استدلال تام اعتُني به في بعض الروايات أيضاً، ففي الآية الأولى: موت واحد، وإماتة واحدة، وإحياءان، وفي الآية الثانية: إماتتان، وإحياءان، ومن المعلوم أنّ الإماتة لا يتحقّق لها مصداق، من دون سابقة حياة، بخلاف الموت، فالموت الأوّل في الآية الأولى، غير الإماتة الأولى في الآية الثانية، ففي قوله تعالى: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾3، الإماتة الأولى، هي التي بعد الدنيا، والإحياء الأوّل بعدها للبرزخ، والإماتة والإحياء الثانيتان للآخرة، يوم البعث، وفي قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾، إنّما يريد الموت قبل الحياة، وهو موت، وليس بإماتة، والحياة، هي الحياة الدنيا، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾4، حيث فصّل بين الإحياء والرجوع، بلفظ "ثمّ"، تأييد لما تقدّم. 
 
3- أشراط الساعة وحوادثها:
عرّف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني، 



1 سورة البقرة، الآية 28.
2 سورة المؤمن، الآية 11.
3 سورة غافر، الآية 11.
4 سورة البقرة، الآية 28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

174

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 وانقطاع النظام الدنيوي، كانطماس النجوم، وانشقاق الأرض، واندكاك الجبال، وتحوّل النظام إلى نظام آخر يُغايره، وقد تكرّر ذلك في كثير من السور القرآنيّة، وخاصّة السور القصار، كسورة النبأ، والنازعات، والتكوير، والانفطار، والانشقاق، والفجر، والزلزلة، والقارعة، وغيرها، وقد عُدَّت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

 
ومن المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب والسنّة: أنّ نظام الحياة في جميع شؤونها في الآخرة، غير نظامها في الدنيا، فالدار الآخرة دار أبديّة، فيها محض السعادة لساكنيها، لهم فيها ما يشاؤون، أو محض الشقاء، وليس لهم فيها إلا ما يكرهون، ودار الدنيا دار فناء وزوال، لا يحكم فيها إلا الأسباب والعوامل الخارجيّة الظاهريّة، مخلوط فيها الموت بالحياة، والفقدان بالوجدان، والشقاء بالسعادة، والتعب بالراحة، والمساءة بالسرور، والآخرة دار جزاء ولا عمل، والدنيا دار عمل ولا جزاء. وبالجملة: النشأة غير النشأة. 
 
فتعريفه تعالى نشأة البعث والجزاء بأشراطها، التي فيها انطواء بساط الدنيا، بخراب بنيان أرضها، وانتساف جبالها، وانشقاق سمائها، وانطماس نجومها، وبعثرة قبورها، إلى غير ذلك، من قبيل: تحديد نشأة، بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾1.
 
4- نفخ الصور:
قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾2
 
ظاهر كلامه تعالى في معنى نفخ الصور: أنّ النفخ نفختان، نفخة للإماتة، ونفخة للإحياء، وهو الذي تدلّ عليه روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وبعض ما ورد من طرق أهل السنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولعلّ انحصار النفخ في نفختي الإماتة والإحياء، هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الأولى، بالموت، مع أنّ المعروف من معنى الصعق، الغشية. 



1 سورة البقرة، الآية 28.
2 سورة الزمر، الآية 68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

175

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 وقوله تعالى: ﴿نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾، معناه: ونفخ في الصور نفخة أخرى، فإذا هم قائمون من قبورهم، ينتظرون ما يُؤمَرون أو ينتظرون، ماذا يفعل بهم، أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحيّر. ولا ينافي ما في هذه الآية، من كونهم بعد النفخ قياماً ينظرون، ما في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾1، أي يسرعون، وقوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾2، وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ﴾3، فإنّ فزعهم بالنفخ، وإسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر، وإتيانهم إليها أفواجاً، كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضاً. 




1 سورة يس، الآية 51.
2 سورة النبآ، الآية 18.
3 سورة النمل، الآية 87.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

 


176

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة، تتضمّن 11 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: القائد الربّانيّ ضمانة فلاح الأمّة/ كفران الإنسان للنعم الإلهيّة/ حبّ الإنسان للدنيا/ البعث والنشور/ علم الله وإحاطته بالأشياء/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قَسَمٌ بخيل المجاهدين الجاريات المغيرات على أعداء الإسلام، الذين هُزموا بيد المسلمين وأصابتهم ذلّة وهوان. إنّ الإنسان كفور للنعمة، معرض عن المنعم تعالى، متعلّق بالدنيا ومالها وجاهها وزينتها، لكن سوف يأتي يوم يرجع فيه إلى ربّه وينكشف له أنّه هو الحقّ وأنّ ما دونه هو الباطل. 

4- عرف الله سبحانه وتعالى اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني، وانقطاع النظام الدنيوي، كانطماس النجوم، وانشقاق الأرض، واندكاك الجبال، وتحوّل النظام إلى نظام آخر يُغايره، فالدار الآخرة دار أبديّة، فيها محض السعادة لساكنيها، لهم فيها ما يشاؤون، أو محض الشقاء، وليس لهم فيها إلا ما يكرهون، ودار الدنيا دار فناء وزوال، لا يحكم فيها إلا الأسباب والعوامل الخارجيّة الظاهريّة، مخلوط فيها الموت بالحياة، والفقدان بالوجدان، والشقاء بالسعادة، والتعب بالراحة، والمساءة بالسرور، والآخرة دار جزاء ولا عمل، والدنيا دار عمل ولا جزاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

177

الدرس الحادي عشر: تفسير سورة العاديات

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "الضبح": شرارة احتكاك حوافر الخيل بالأرض. 
- المراد بـ "أثرن به نقعاً": إثارة الغبار. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200
 

178

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

179

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالقارعة، لورود ذِكْرها في مستهلّ السورة، وكونها تُشكّل أحد محاورها الأساسيّة الممهّدة للبعث والنشور والحساب.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 11 آية، تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- حقيقة القارعة.
2- مشاهد البعث والنشور.
3- ميزان العدل الإلهيّ. 
4- عاقبة الصالحين.
5- عاقبة الطالحين.
6- حقيقة النار.
 
فضل السورة
• ما رواه عمرو بن ثابت، عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام أنّه قال: "من قرأ القارعة أمنه الله من فتنة الدجّال، أنْ يُؤمِن به، ومن قيح جهنّم يوم القيامة"1.
 
• ما رواه أُبَي بن كعب: "مَنْ قرأها ثقّل الله بها ميزانه يوم القيامة"2.
 
خصائص النزول
هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق المفسِّرين، لا خلاف بينهم في ذلك3.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص426.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص385-386.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

180

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 شرح المفردات

• الْقَارِعَةُ: "القاف والراء والعين، معظم الباب ضرب الشيء. يقال: قرعت الشيء أقرعه، ضربته... والقارعة القيامة، لأنّها تضرب وتُصيب الناس بإقراعها"1.
 
• الْمَبْثُوثِ: "الباء والثاء أصل واحد، وهو تفريق الشيء وإظهاره... وفي القرآن: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾، أي كثيرة متفرّقة"2.
 
• الْعِهْنِ: "العين والهاء والنون أصل صحيح، يدلّ على لين وسهولة وقلّة غذاء في الشيء"3. و"العِهْنُ: الصّوف المصبوغ. قال تعالى: ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾4، وتخصيص العِهْنِ، لما فيه من اللَّون، كما ذكر في قوله: ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾5"6.
 
• الْمَنفُوشِ: "النون والفاء والشين أصل صحيح، يدلّ على انتشار، من ذلك نفش الصوف، وهو أنْ يُطرَق حتّى يتنفّش"7.
 
• أُمُّهُ: "الهمزة والميم أصل واحد، يتفرّع منه أربعة أبواب، وهي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين. وهذه الأربعة متقاربة. وبعد ذلك أصول ثلاثة، وهي: القامة، والحين، والقصد"8. و"قوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾9، أي: مثواه النار، فجعلها أمّاً له"10.



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "قَرَعَ"، ص72. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "قَرَعَ"، ص666.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "بَثَّ"، ص172. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "بَثَّ"، ص108.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَهَنَ"، ص175.
4 سورة القارعة، الآية 5.
5 سورة الرحمن، الآية 37.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَهَنَ"، ص592.
7 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَفَشَ"، ص461. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَفَشَ"، ص819.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "أَمَّ"، ص21.
9 سورة القارعة، الآية 9.
10 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "أَمَّ"، ص85.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

181

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 تفسير الآيات

الآية (1): ﴿الْقَارِعَةُ﴾:
القارعة، من القرع، وهو الضرب باعتماد شديد، وهي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سُمّيت بها، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب1.
 
الآية (2): ﴿مَا الْقَارِعَةُ﴾:
الآية سؤال عن القارعة، مع كونها معلومة، وفي ذلك إشارة إلى عِظَم أمرها، وحقيقتها المحجوبة عن الإنسان2.
 
الآية (3): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾:
الآية في سياق تأكيد تعظيم أمر القارعة وحقيقتها المحجوبة عن الإنسان3.
 
الآية (4): ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾:
ظرف متعلّق بفعل مقدّر، نحو: اذكر، وتقرع، وتأتي، والتقدير: اذكر يوم يكون الناس، كالفراش المبثوث، أو يوم تقرع القارعة يكون الناس، كالفراش المبثوث، أو يوم تأتي يكون الناس، كالفراش المبثوث.
 
وذُكِرَ في معنى الفراش، أقوال، هي:
• الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه على بعضه الآخر، وهو غوغاء الجراد.
• الفراش، جمع فراشة، حيث شُبِّه الناس عند البعث بالفراش، لأنّ الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة واحدة، كسائر الطير، وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع، فتوجّهوا جهات شتّى أو توجّهوا إلى منازلهم المختلفة، سعادة وشقاء. 
 
والمبعوث، من البث، وهو التفريق4.
 
ولعلّ الغاية من تشبيه انتشار الناس وتفرّقهم عند سماع القارعة بانتشار الفراش وتفرّقهم 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص348.
2 انظر: م.ن.
3 انظر: م.ن.
4 انظر: م.ن، ص349.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

182

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 عند اقترابهم من النار والضوء، لإفادة حالة الضعف والذلّة والاضطراب الحاصلة لديهم.

 
الآية (5): ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾:
العهن، الصوف ذو ألوان مختلفة. والمنفوش، من النفش، وهو نشر الصوف، بندف، ونحوه. فالعهن المنفوش، الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة. 
 
والتشبيه في الآية من جهتين: 
• الأولى: أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾1.
 
• لثانية: أنّ الجبال، كما أنّها مَثَل للصلابة والاستحكام، فالصوف المندوف مَثَل للخفّة. فالجبال، بصلابتها وألوانها المختلفة، تصير، كالصوف المصبوغ المندوف المنتشر في الهواء، فتتبدّل الأرض غير الأرض، وتصير قاعاً صفصفاً، فإذا كانت الجبال في تلك الداهية بهذه الحال، فما حال الإنسان الضعيف؟!
 
ففي الآية: إشارة إلى تلاشي الجبال، على اختلاف ألوانها وصلابتها، بزلزلة الساعة2.
 
الآية (6): ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾:
في الآية إشارة إلى وزن الأعمال، وأنّ منها ما هو ثقيل في الميزان، وهو ما له قدر ومنزلة عند الله، وهو الإيمان وأنواع الطاعات، ومنها ما ليس كذلك، وهو الكفر وأنواع المعاصي. ويختلف القسمان أثراً، فيستتبع الثقيل، السعادة، ويستتبع الخفيف، الشقاء3.
 
الآية (7): ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾: 
العِيشة، كالجِلسة، بناء نوع، وتوصيفها براضية - بلحاظ أنّ الراضي حقيقة وما من شأنه أن يرضى، هو صاحبها، لا العيشة - من باب المجاز العقلي. ومعنى الآية: فهو في عيشة ذات رضى4.



1 سورة فاطر، الآية 27.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
3 انظر: م.ن.
4 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

183

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 الآية (8): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: 

أي خفّت حسناته في ما سبق من الكتاب. وقد ذكر سبحانه الحسنات في الموضعين، ولم يذكر وزن السيّئات، لأنّ الوزن عبارة عن القدر والخطر، والسيّئة لا خطر لها، ولا قدر، وإنّما الخطر والقدر للحسنات. فكأنّ المعنى: فأمّا مَن عظم قدره عند الله، لكثرة حسناته، ومن خفّ قدره عند الله، لخفّة حسناته1.
 
الآية (9): ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾: 
الظاهر أنّ المراد بهاوية، جهنّم. وتسميتها بهاوية، لهوي مَنْ ألقِيَ فيها، أي سقوطه إلى أسفل سافلين، قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾2. فتوصيف النار بالهاوية من باب المجاز العقلي. 
 
وذُكِرَ في معنى الآية قولان، بناءً على المراد من معنى "أم":
• المراد من "أم"، المرجع والمآل. ومعنى الآية: أنّ الهاوية هي أمّ للداخل فيها، لكونها مأواه ومرجعه الذي يرجع إليه، كما يرجع الولد إلى أمِّه.
 
• المراد من "أم"، أم رأسه. ومعنى الآية: أنّ أمّ رأسه هاوية، أي ساقطة في الهاوية، لأنّه يُلقى في النار على أمّ رأسه3
 
والمعنى الثاني بعيد، لبقاء الضمير في قوله تعالى: ﴿مَا هِيَهْ﴾ بلا مرجع ظاهر4.
 
وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه، عن أبي أيوب الأنصاريّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ نفس المؤمن إذا قُبِضَت، يلقاها أهل الرحمة من عباد الله، كما يلقون البشير من أهل الدنيا، فيقولون: أنظروا صاحبكم يستريح، فإنّه كان في كرب شديد، ثمّ يسألونه ما فعل فلان وفلانة؟ هل تزوّجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله، فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي، فيقولون: إنّا لله، وإنّا إليه راجعون، ذهب به إلى أمّه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربّية"5.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س. ج10، ص428.
2 سورة التين، الآية 5.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
4 انظر: م.ن.
5 السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص385-386.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

 


184

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 الآية (10): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾: 

مرجع الضمير في "هي" للهاوية، والهاء في قوله تعالى: ﴿هِيَهْ﴾، للوقف. والآية في مقام تعظيم أمر النار وتفخيمه1.
 
الآية (11): ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾:
أي حارّة شديدة الحرارة. والآية جواب للاستفهام المتقدّم في قوله تعالى: ﴿مَا هِيَهْ﴾، وبيان لبعض خصائص الهاوية2.
 
بحث تفسيري: حقيقة ميزان العدل الأخرويّ3
قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾4.
 
الآيتان تُخبران عن الوزن، وهو توزين الأعمال، أو الناس العاملين، من حيث عملهم، والدليل عليه، قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾5، حيث دلّ على أنّ هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، وأوضح منه قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾6، حيث ذكر العمل، وأضاف الثقل إليه خيراً وشرّاً.
 
وبالجملة، الوزن إنّما هو للعمل، دون عامله، فالآية تُثبت للعمل وزناً، سواء أكان خيراً أم شرّاً، غير أنّ قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾7، يدلّ على أنّ الأعمال في صور الحبط، لا وزن لها أصلاً، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله. فما لم يحبط من الأعمال الحسنة والسيئة له وزن يوزن به، لكنّ الآيات



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص349.
2 انظر: م.ن.
3 انظر: م.ن، ج8، ص10-17.
4 سورة الأعراف، الآيتان 8-9.
5 سورة الأنبياء، الآية 47.
6 سورة الزلزلة، الآيات 6-8.
7 سورة الكهف، الآية 105.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

 


185

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 في عين أنّها تعتبر للحسنات والسيئات ثقلاً، إنّما تعتبر فيها الثقل الإضافي، وترتّب القضاء الفصل عليه، بمعنى أنّ ظاهرها أنّ الحسنات توجب ثقل الميزان، والسيّئات خفّة الميزان، لا أن توزن الحسنات، فيؤخذ ما لها من الثقل، ثمّ السيّئات، ويؤخذ ما لها من الثقل، ثمّ يقايس الثقلان، فأيّهما كان أكثر، كان القضاء له، فإنْ كان الثقل للحسنة، كان القضاء بالجنّة، وإنْ كان للسيّئة، كان القضاء بالنار، ولازم ذلك صحّة فرض أن يتعادل الثقلان، كما في الموازين الدائرة بيننا، من ذي الكفّتين، والقبّان، وغيرهما. لا بل ظاهر الآيات أنّ الحسنة تُظهر ثقلاً في الميزان، والسيّئة خفة فيه، كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾1، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾2، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾3. فالآيات، تُثبت الثقل في جانب الحسنات دائماً، والخفّة في جانب السيّئات دائماً. وعليه، فهناك أمر آخر تُقايس به الأعمال والثقل له، فما كان منها حسنة، انطبق عليه ووُزِنَ به، وهو ثقل الميزان، وما كان منها سيئة، لم ينطبق عليه، ولم يُوزَن به، وهو خفّة الميزان، كما نُشاهده في ما عندنا من الموازين، فإنّ فيها مقياساً، وهو الواحد من الثقل، كالمثقال يُوضع في إحدى الكفّتين، ثمّ يُوضع المتاع في الكفّة الأخرى، فإنْ عادل المثقال وزناً بوجه على ما يدلّ عليه الميزان، أُخذ به، وإلا فهو الترك لا محالة. والمثقال في الحقيقة، هو الميزان الذي يُوزَن به، وأمّا القبّان، وذو الكفّتين، ونظائرهما، فهي مقدّمة لما يُبيّنه المثقال، من حال المتاع الموزون به، ثقلاً وخفّة، كما أنّ واحد الطول، وهو الذراع أو المتر - مثلاً - ميزان يُوزن به الأطوال، فإنْ انطبق الطول على الواحد المقياس، فهو، وإلا ترك.

 
ففي الأعمال واحد مقياس تُوزَن به، فللصلاة - مثلاً - ميزان تُوزَن به، وهي الصلاة التامّة 



1 سورة الأعراف، الآيتان 8-9.
2 سورة المؤمنون، الآيتان 102-103.
3 سورة القارعة، الآيات 6-11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

186

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 التي هي حقّ الصلاة، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك، وللكلام والقول حقّ القول الذي لا يشتمل على باطل، وهكذا، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾1. فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾، أنّ الوزن الذي يُوزَن به الأعمال يومئذ، إنّما هو الحقّ، فبقدر اشتمال العمل على الحقّ، يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مشتملة على الحقّ، فلها ثقل، كما أنّ السيّئات ليست إلا باطلة، فلا ثقل لها، فالله سبحانه يَزن الأعمال يومئذ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل من الحقّ، فهو وزنه وثقله. ولعلّه إليه الإشارة بالقضاء بالحقّ في قوله: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾2. والكتاب الذي ذَكَر الله أنّه يُوضَع يومئذ - وإنّما يُوضع للحكم به - هو الذي أشار إليه بقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾3، فالكتاب يُعيّن الحقّ، وما اشتمل عليه العمل منه، والوزن يُشخّص مقدار الثقل. 

 
وعلى هذا، فالوزن في الآية، بمعنى: الثقل دون المعنى المصدري، وإنّما عُبِّرَ بالموازين بصيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ،﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾، الدالّ على أنّ لكلّ أحد موازين كثيرة، من جهة اختلاف الحقّ الذي يُوزَن به، باختلاف الأعمال، فالحقّ في الصلاة، وهو حقّ الصلاة، غير الحقّ في الزكاة، والصيام، والحجّ، وغيرها.
 
وعليه، يتبيّن ممّا تقدّم:
• أنّ الوزن يوم القيامة، هو تطبيق الأعمال، على ما هو الحقّ فيها، وبقدر اشتمالها عليه، تستعقب الثواب، وإنْ لم تشتمل، فهو الهلاك. وهذا التوزين هو العدل.
 
• أنّ هناك بالنسبة إلى كلّ إنسان موازين تُوزَن بها أعماله، والميزان في كلّ باب من العمل، هو الحقّ الذي يشتمل عليه ذلك العمل، فإنّ يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحقّ، ولا ولاية فيه إلا لله الحقّ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾4، ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾5، ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ 



1 سورة آل عمران، الآية 102.
2 سورة الزمر، الآية 69.
3 سورة الجاثية، الآية 29.
4 سورة النبأ، الآية 39.
5 سورة الكهف، الآية 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

 


187

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾1

 
وقد وردت مجموعة من الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، تُشير إلى حقيقة ميزان العدل الأخرويّ، بالمعنى المتقدّم، منها:
• ما رواه هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه سأله الزنديق، فقال: أو ليس يُوزن الأعمال؟ قال: "لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء، مَنْ جهل عدد الأشياء، ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء"، قال: فما معنى الميزان؟ قال: "العدل". قال: فما معناه في كتابه: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾؟ قال: "فمن رجح عمله"2.
 
• ما رواه أبو معمّر السعداني، عن أمير المؤمنين عليه السلام، في حديث، قال: "وأمّا قوله: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ ... ﴿خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾، فإنّما يعني الحسنات تُوزن الحسنات والسيّئات، فالحسنات ثقل الميزان، والسيّئات خفّة الميزان"3.
 
 
• ما رواه سعيد بن المسيّب، عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام، في ما كان يعظ به، قال: "ثمّ رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾4، فإنْ قلتم أيّها الناس: إنّ الله عزّ وجلّ إنّما عنى بها أهل الشرك، فكيف ذلك؟ وهو يقول: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾5، فاعلموا عباد الله، أنّ أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين، ولا تُنشَر لهم الدواوين، وإنّما يُحشرون إلى جهنّم زمراً، وإنّما نصب الموازين، ونشر الدواوين، لأهل الإسلام"6.



1 سورة يونس، الآية 30.
2 الطبرسي، أحمد بن علي: الاحتجاج، تعليق وملاحظات: محمد باقر الخرسان، لا.ط، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ.ق/ 1966م، ج2، ص98-99.
3 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): التوحيد، تصحيح وتعليق: هاشم الحسيني الطهراني، لا.ط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لا.ت، ص268.
4 سورة الأنبياء، الآية 46.
5 سورة الأنبياء، الآية 47.
6 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1417 هـ.ق، ص595.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

188

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 11 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: حقيقة القارعة/ مشاهد البعث والنشور/ ميزان العدل الإلهيّ/ عاقبة الصالحين/ عاقبة الطالحين/حقيقة النار/...
 
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
 
3-  في تفسير السورة: القارعة اسم من أسماء يوم القيامة، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، لما يشاهدونه من أمرها، ومنه: تلاشي النظام الدنيوي، فينتشر الناس حينها في جهات شتّى إلى منازلهم المختلفة بحسب شقوتهم أو سعادتهم، بحسب ما قدّموا لأنفسهم من أعمال في دار الدنيا، فمن كان عمله ثقيل في الميزان، فمآله إلى الجنّة، ومن قصرت أعماله وخفّت في الميزان، فمآله ومرجعه إلى نار جهنّم الشديدة الحرارة.
 
4- الوزن إنّما هو للعمل، دون عامله. والأعمال في صور الحبط، لا وزن لها أصلاً، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله. والوزن الذي يُوزَن به الأعمال يومئذ، إنّما هو الحقّ، فبقدر اشتمال العمل على الحقّ، يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مشتملة على الحقّ، فلها ثقل، كما أنّ السيّئات ليست إلا باطلة، فلا ثقل لها، فالله سبحانه يَزن الأعمال يومئذ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل من الحقّ، فهو وزنه وثقله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

189

الدرس الثاني عشر: تفسير سورة القارعة

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- سُمّيت النار بالقارعة، لأنّها تقرع القلوب الفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب. 
- المراد بـ "العهن المنفوش": الصوف الملوّن المنتشر. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

 


190

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

191

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالتكاثر، لورود ذكره في مستهلّ السورة، ولورودها بهذا الاسم في بعض الروايات الآتية.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي: 
1- منشأ التباهي والتفاخر بالتكاثر والنسب.
2- الآثار السلبيّة، الدنيوية والأخروية المترتّبة على التباهي والتفاخر بالنسب.
3- عبوديّة الإنسان لله تعالى هي المعيار الحقيقي للتباهي والتفاخر.
4- مانعيّة الحجب من رؤية الحقّ في دار الدنيا، وزوالها في دار الآخرة.
5- مراتب العلم والمعرفة وآثارهما الوجوديّة.
 
فضيلة السورة
• ما رواه شعيب العقرقوفي، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من قرأ سورة (ألهاكم التكاثر) في فريضة، كتب له ثواب وأجر مائة شهيد. ومن قرأها في نافلة، كان له ثواب خمسين شهيداً، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّاً من الملائكة"1
 
• ما رواه درست، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ (ألهاكم التكاثر)، عند النوم وقي فتنة القبر"2.
 
• ما رواه أُبَي بن كعب: "ومن قرأها لم يُحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأُعطي من الأجر، كأنّما قرأ ألف آية"3



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص430.
2 م.ن.
3 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

192

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 خصائص النزول

اختلف المفسِّرون في مكّيّة السورة أم مدنيّتها، على قولين:
1- مكّيّة السورة. وإليه ذهب أكثر المفسِّرين. واستدلّوا عليه بالآتي: 
• أنّها نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، تكاثروا، وعدّوا أشرافهم، فكثّرهم بنو عبد مناف، ثمّ قالوا: نعدّ موتانا، حتّى زاروا القبور، فعدّوهم، وقالوا: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثّرهم بنو سهم، لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهليّة1.
 
• أنّها تحمل خصائص السور المكّيّة، لجهة قصر آياتها، وشدّة لهجتها، وتناولها لموضوع المعاد والحساب.
 
2- مدنيّة السورة. وإليه ذهب بعض المفسِّرين. واستدلّوا عليه بالآتي:
• أنّها نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك، حتّى ماتوا ضلّالاً2.
 
• أنّها نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا3.
 
وواقع الحال أنّ السورة بطبيعة سياقها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة.
 
شرح المفردات
• أَلْهَاكُمُ: "اللام والهاء والحرف المعتلّ أصلان صحيحان، أحدهما: يدلّ على شغل عن شيء بشيء، والآخر: على نبذ شيء من اليد. فالأوّل، اللهو، وهو كلّ شيء شغلك عن شيء، فقد ألهاك"4. و"اللَّهْوُ: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه... ويقال: أَلْهاه كذا. أي: شغله عمّا هو أهمّ إليه. قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾"5.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص431.
2 م.ن.
3 م.ن.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "لَهَوَ"، ص213.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "لَهَى"، ص748.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

193

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 • التَّكَاثُرُ: "الكاف والثاء والراء أصل صحيح خلاف القلّة"1. و"الْمُكَاثَرَةُ والتّكَاثُرُ: التّباري في كثرة المال والعزّ. قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾"2.

 
• الْجَحِيمَ: "الجيم والحاء والميم، عظمها به الحرارة وشدّتها. فالجاحم المكان الشديد الحرّ"3. و"قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾، اسم من أسماء النار، وأصله ما اشتدّ لهبه من النيران. وكلّ نارٍ عظيمة في مهواة، فهي جحيم، قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾4"5.
 
• النَّعِيمِ: "النون والعين والميم، فروعه كثيرة، وعندنا: أنّها على كثرتها راجعة إلى أصل واحد، يدلّ على ترفّه، وطيب عيش، وصلاح"6. و"النِّعْمَةُ: الحالةُ الحسنةُ... والنَّعِيمُ: النِّعْمَةُ الكثيرةُ"7.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾:
ذُكِرَ في تفسير الآية قولان، هما: 
• الأوّل: شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها والتسابق في تكثير العِدَّة والعُدّة، عمّا يهمّكم، وهو ذِكْر الله، حتّى لقيتم الموت، فعمتكم الغفلة مدى حياتكم. وهذا المعنى يناسب ظاهر السياق.
 
• الثاني: شغلكم التباهي والتباري، بكثرة الرجال، بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالاً، وهؤلاء: نحن أكثر، حتّى إذا استوعبتم عدد الأحياء، صرتم إلى القبور، فعددتم الأموات



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "كَثُرَ"، ص160.
2 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "كَثُرَ"، ص703.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "جّحَمَ"، ص429.
4 سورة الصافات، الآية 97.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "جّحَمَ"، ص26.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَعَمَ"، ص446.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَعَمَ"، ص815.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

194

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 من رجالكم، فتكاثرتم بأمواتكم. وهذا المعنى مبني على ما ورد في أسباب النزول1.

 
والألف واللام في التكاثر للعهد، وذلك للقرائن الآتية: 
• مقام الخطاب.
• الآيات التي وردت بعدها، وهي آيات تحديد.
• شأن نزول السورة المباركة الذي تقدّم ذِكره. 
• لفظة "ألهاكم"، التي هي في مقام التوبيخ. 
 
فمن مجموع هذه القرائن، يتبيّن: أنّ العهد هو العهد المذموم، وهو التكاثر في الأمور الدنيويّة الدنيّة الفانية. ومورد النزول، وإن كان في خصوص التكاثر في النسب، ولكنْ نستطيع أن نفهم من عموم الآية أنّ التكاثر في جميع الأمور الدنيويّة، من المال، والجاه، وكلّ شيء في تلهّي عن الآخرة واشتغال بالدنيا.
 
ونكتة حذف المُلهَى عنه، أي الذي أُلهِيَ عنه، وهو ما يعنيهم من أمر الدين، لأجل إفادة: 
• التعظيم، لأنّ الحذف، كالتنكير، قد يُجعَل ذريعة إلى التعظيم، لاشتراكهما في الإبهام. 
• المبالغة، فلإمكان أن تذهب النفس كلّ مذهب، فيدخل فيها جميع ما يحتمله المقام، مثل: ألهاكم التكاثر عن ذِكْر الله وعن الواجبات وعن المندوبات، وعمّا يتعلّق بالقلب، كالعلم، والتفكّر، والاعتبار، أو بالجوارح، كأنواع الطاعات، وعمّا يتعلّق بمستقبل الإنسان، من الموت وما بعده.
 
الآية (2): ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾:
ذُكِرَ في معنى الزيارة أقوال، هي:
• المراد بالزيارة، معناها الظاهر، وهو زيارة القبور، من أجل التفاخر والتكاثر بالأموات. وهذا ما تُفيده روايات أسباب النزول.
 
• المراد بالزيارة، المعنى الكنائيّ عن التذكّر وذِكْر أسمائهم في مقام التفاخر، فيكون لسان الآية حينئذٍ لسان الاستهزاء والسخرية بهم، بأنّ التفاخر بكثرة القبيلة بلغ إلى حدّ ذكرتم الموتى - أيضاً في عداد قبيلتكم، واستوعبتم عددهم، وصرتم إلى التفاخر



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

 


195

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 والتكاثر بالأموات، فعبّر عن انتقالهم إلى ذِكْر الموتى، بزيارة القبور، أي جُعِلَت كناية تهكُّماً واستهزاء، وإنّما كان تهكّماً، لأنّ زيارة القبور شُرِّعت لتذكّر الموتى ورفض حبّ الدنيا وترك المباهاة والتفاخر، وهؤلاء عكسوا الأمر، حيث جعلوا زيارة القبور سبباً لمزيد القسوة والاستغراق في حبّ الدنيا والتفاخر في الكثرة.

 
• المراد بالزيارة، زيارة القبور بالموت والحمل إلى المقابر، أو الدخول في القبور. فيكون المعنى: ألهاكم التكاثر إلى أن متّم وقُبرتم مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عمّا يهمّكم من السعي لأخراكم.
 
الأقوال الثلاث لها وجه وجيه، وتحتملها الآية، وإنْ كان القول الأوّل هو الأوفق بروايات أسباب النزول1
 
الآية (3): ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾:
ردع عن اشتغالهم، بما لا يهمّهم، عمّا يعنيهم، وتخطئة لهم.
 
وقوله تعالى: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تهديد، مفاده: سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا، وتعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا. وهذا ما يؤيّده المقام2.
 
الآية (4): ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾:
ذُكِرَ في تفسير الآية قولان: 
- الأوّل: المراد من الآية، تأكيد الردع والتهديد السابقين.
- المراد بالعلم في الآية السابقة، خصوص علمهم بها عند الموت. وبالعلم في هذه الآية، خصوص علمهم بها عند البعث3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
تَدَبُّر: تُرشِد الآية الشريفة الإنسان إلى ضرروة التخلّص من داء التعلّقات الدنيويّة, بواسطة زيارة المقابر, بوصفها طريقاً من طُرُق العلاج لهذا الدّاء.
عن أبي بصير، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "أما تحزن، أما تهتمّ، أما تألم؟ قلت: بلى والله. قال: فإذا كان ذلك منها, فاذكر الموت، ووحدتك في قبرك، وسيلان عينيك على خدّيك، وتقطُّع أوصالك، وأكل الدود من لحمك، وبلاك، وانقطاعك عن الدنيا, فإنّ ذلك يحثّك على العمل، ويردعك عن كثير من الحرص على الدنيا" (الصدوق، الأمالي، م.س، ص426).
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
3 انظر: م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

196

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 الآية (5): ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾:

ردع بعد ردع، لأجل التأكيد. والمراد بعلم اليقين، العلم الذي لا يُداخله شكّ وريب. 
 
وجواب "لو" في قوله تعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ محذوف، تقديره: لو تعلمون الأمر علم اليقين، لشغلكم ما تعلمون عن التباهي والتفاخر بالكثرة1.
 
روى البرقي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله الله: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾، قال: "المعاينة"2.
 
الآية (6): ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾:
الآية، استئناف في الكلام. واللام، للقسم. ومعنى الآية: أُقسم! لترون الجحيم، التي هي جزاء هذا التلهّي. 
 
الآية (7): ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾:
المراد بعين اليقين، اليقين نفسه. ومعنى الآية: لترونها محض اليقين، وذلك بمشاهدتها يوم القيامة، لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾3.
 
وذُكِرَت أقوال عدّة في المراد بالرؤية في هذه الآية والآية السابقة، هي:
• الرؤية الأولى، رؤيتها قبل يوم القيامة، بعين البصيرة، وهي رؤية القلب، التي هي من آثار اليقين، على ما يُشير إليه، قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾4. وهذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين، بل ممتنعة في حقّهم، لامتناع اليقين على مَنْ هم في حالتهم. والرؤية الثانية، بالمشاهدة والمعاينة يوم القيامة5. وهذا القول يُساعد عليه ظهور السياق.
 
• الرؤية الأولى، رؤيتها قبل الدخول فيها يوم القيامة، والثانية، إذا دخلوها.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص153.
2 البرقي، المحاسن، م.س، ج1، ح250، ص247.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص352.
4 سورة الأنعام، الآية 75.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351-352.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

 


197

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 • الرؤية الأولى، بالمعرفة، والثانية، بالمشاهدة. 

 
• المراد الرؤية بعد الرؤية، الإشارة إلى الاستمرار والخلود فيها.
 
والوجوه الثلاث الأخيرة ضعيفة، لا يُساعد عليها السياق.
 
الآية (8): ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾:
ظاهر السياق أنّ الخطاب في هذه الآية والآيات المتقدّمة، هو للناس، بما أنّ فيهم مَنْ اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه، فأنساه التكاثر فيها ذِكْرَ الله.
 
والتوبيخ والتهديد في السورة المتوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً، هو واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة، وهم الذين ألهاهم التكاثر.
 
والمراد بالنعيم، مطلق النعيم، على ما يُفيده ظاهر السياق، وهو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة، فالإنسان مسؤول عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه، وذلك أنّ النعمة - وهي الأمر الذي يُلائم المُنعَم عليه ويتضمّن له نوعاً من الخير والنفع - إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعَم عليه، إذا استعملها بحيث يسعد بها، فينتفع. وأمّا لو استعملها على خلاف ذلك، فإنّها ستكون نقمة بالنسبة إليه، وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
 
وقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل غاية خلقته التي هي سعادته ومنتهى كماله، التقرّب العبوديّ إليه تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1، وهي الولاية الإلهيّة لعبده، وقد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يَسعَد وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خُلِقَ لأجلها، وهي النعم، فأسبغ عليه نعمه، ظاهرة وباطنة.
 
فاستعمال هذه النِّعَم، على نحو يرتضيه الله، وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة، هو الطريق إلى بلوغ الغاية، وهو الطاعة، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها، هو غيّ وضلال وانقطاع عن الغاية، وهو المعصية. وقد قضى سبحانه قضاء لا يُردّ ولا يبدّل: أنْ يرجع الإنسان إليه، فيسأله عن عمله، فيُحاسبه ويجزيه. وعمله، هو استعماله للنعم الإلهيّة، قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *  وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء 



1 سورة الذاريات، الآية 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

 


198

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾1، فالسؤال عن عمل العبد هو سؤال عن النعيم، كيف استعمله، أشكر النعمة أم كفر بها؟!2.

 
بحث تفسيري: دور العلم والمعرفة في تكامل الإنسان3
أرشد القرآن الكريم إلى ضرورة تنمية العقل بالعلم والمعرفة الصحيحتين والنافعتين، لما لذلك من آثار وبركات عظيمة على تكامل الإنسان وتدرّجه في مدارج القرب من الله تعالى، ومن الآيات التي بيّنت هذه الآثار وشجّعت على العلم والمعرفة النافعتين، ما يأتي: 
1- قوله تعالى: ﴿... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾4.
لا ريب في أنّ لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده، مزيد قربه منه تعالى، وهذا قرينة عقليّة على أنّ المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم: العلماء من المؤمنين، فتدلّ الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن، ومؤمن عالم. والمؤمن العالم أفضل. وقد قال تعالى: ﴿... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾5
 
ويتبيّن بذلك أنّ ما ذُكِرَ مِنْ رَفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم، ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع، الرفع درجة واحدة، ويكون التقدير: يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة، ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات. وفي الآية من تعظيم أمر العلماء ورفع قدرهم ما لا يخفى. وتأكيد الحكم بتذييل الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.



1 سورة النجم، الآيات 39 ـ 42.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص352-353.
تفسير بالمصداق: ما رواه أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد، عن سلمة بن عطا، عن جميل، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت قول الله: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، قال: "قال تُسئَل هذه الأمّة عمّا أنعم الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ بأهل بيته المعصومين عليهم السلام". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص440).
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص114-115, ج11، ص341-342, ج17، ص243, ج19، 188-189.
4 سورة المجادلة، الآية 11.
5 سورة الزمر، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

199

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 2- قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1.

العلم وعدمه مطلقان، لكن المراد بهما، بحسب ما ينطبق على مورد الآية، العلم بالله وعدمه، فإنّ ذلك هو الذي يكمل به الإنسان وينتفع بحقيقة معنى الكلمة ويتضرّر بعدمه، وغيره من العلم، كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا ويفنى بفنائها. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، أي ذوو العقول، وهو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين، بأنّ أحد الفريقين يتذكّر حقائق الأمور، دون الفريق الآخر، فلا يستويان، بل يترجّح الذين يعلمون على غيرهم.
 
3- قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾2.
إنّ الحقّ يستقرّ في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربّهم، فتصير قلوبهم ألباباً وقلوباً حقيقيّة، لها آثارها وبركاتها، وهو التذكّر، والتبصّر. والاستفهام في الآية هو للإنكار ونفي التساوي بين من استقرّ في قلبه العلم بالحقّ، ومن جهل الحقّ. وفي توصيف الجاهل بالحقّ بالأعمى إيماء إلى أنّ العالم به، أي بالحقّ هو بصير، كما في قوله تعالى: ﴿... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾3، فالعلم بالحقّ بصيرة، والجهل به عمى. والتبصّر يفيد التذكّر، ولذا عدّه من خواص أولي العلم، بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ الذي هو في مقام التعليل لما سبقه، أي قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ﴾، والمراد أنّهما لا يستويان، لأنّ لأولي العلم تذكُّراً ليس لأولي العمى والجهل. وقد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب، فدلّ على دعوى أخرى تُفيد فائدة التعليل، كأنّه قيل لا يستويان، لأنّ لأحد الفريقين تذكّراً ليس للآخر، وإنّما اختصّ التذكّر بهم، لأنّ لهم ألباباً وقلوباً، وليس ذلك لغيرهم.
 
4- قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾4.



1 سورة الزمر، الآية 9.
2 سورة الرعد، الآية 19.
3 سورة الأنعام، الآية 50.
4 سورة آل عمران، الآية 18.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

200

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 فالله سبحانه يشهد، وهو شاهد عدل على أنّه لا إله إلا هو، يشهد لذلك بكلامه، وهو قوله: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ على ما هو ظاهر الآية الشريفة، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: ﴿لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾1. والملائكة يشهدون بأنّه لا إله إلا هو، فإنّ الله يُخبِر في آيات مكّيّة نازلة قبل هذه الآيات، بأنّهم عباد مكرمون، لا يعصون ربّهم، ويعملون بأمره، ويُسبّحونه، وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾2

 
وقال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾3. وأولوا العلم يشهدون أنّه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقيّة والأنفسيّة وقد ملأت مشاعرهم ورسخت في عقولهم.
 
وغيرها آيات كثيرة تُشير إلى عدم استواء مقام مَنْ يَعلَم مع مَنْ لا يَعلَم عند الله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾4، وإلى حرمان الجاهل نفسه، بفعل استغراقه في جهله، من نيل نعمة الهداية الربّانيّة: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾5، ﴿فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾6.



1 سورة النساء، الآية 166.
2 سورة الأنبياء، الآيتان 26-27.
3 سورة الشورى، الآية 5.
4 سورة الأنعام، الآية 50.
5 سورة النجم، الآيتان 30-29.
6 سورة النساء، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

201

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة على الأشهر، وتتضمّن 8 آيات، تحوي مجموعة من المحاور: التباهي والتفاخر بالتكاثر والنسب/ عبوديّة الإنسان لله تعالى/ حجاب الدنيا/ مراتب العلم والمعرفة/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: شغلكم التباري في متاع الدنيا وزينتها عمّا يهمّكم حقيقة، وهو ذِكْر الله تعالى، حتى وصلت بكم الغفلة إلى عدّ موتاكم في مقابركم، للمفاخرة، بدلاً من الاتعاظ. كلا سوف تعلمون تبعات تلهّيكم عن الموت والبعث، يوم تبعثون وترجعون إلى الله تعالى، يومها تنقطع عنكم الأسباب الظاهريّة، ويسألكم الله تعالى عن النعم التي أعطاكم إيّاها في دار الدنيا، ماذا فعلتم بها؟

4- أرشد القرآن الكريم إلى ضرورة تنمية العقل بالعلم والمعرفة الصحيحتين والنافعتين، لما لذلك من آثار وبركات عظيمة على تكامل الإنسان وتدرّجه في مدارج القرب من الله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

202

الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "علم اليقين": الرؤية القلبيّة في الدنيا. 
- المراد بـ "عين اليقين": المعاينة يوم القيامة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

203

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
 
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

204

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالعصر، لورود ذكره في مستهلّ السورة.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 3 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- ضرورة الاستفادة من الوقت وحسن استثماره. 
2- سنّة خسران الإنسان التدريجيّ مع تقدّم الزمن. 
3- فوز الإنسان مناط بتمسّكه بالمنهج العقدي والعملي، الفردي والاجتماعي، المتمثّل بـ: الإيمان، والعمل الصالح.
 
فضيلة السورة
• ما رواه الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "من قرأ ﴿وَالْعَصْرِ﴾ في نوافله، بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه، ضاحكاً سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة"1.
 
• ما رواه أُبَي بن كعب: "ومن قرأها، ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة"2.
 
خصائص النزول
هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين، وقد احتمل بعضهم أنّها مدنيّة. ولكنّها أشبه ما تكون، من حيث خصائصها، بالسور المكّيّة، لقصر مقاطع آياتها، وقوّة لهجتها، وطبيعة لحنها، ومحاورها المطروحة3.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص434.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن, السيوطي، الدر النثور، م.س، ج6، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص355.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

205

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 شرح المفردات

• الْعَصْرِ: "العين والصاد والراء أصول ثلاث صحيحة، فالأوّل: دهر، وحين. والثاني: ضغط شيء حتّى يتحلّب. والثالث: تعلّق بشيء وامتساك به. فالأوّل العصر، وهو الدهر. قال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾"1.
 
• خُسْرٍ: "الخاء والسين والراء أصل واحد، يدلّ على النقض. فمن ذلك: الخسر والخسران، كالكفر والكفران، والفرق والفرقان. ويقال: خسرت الميزان وأخسرته، إذا نقصته"2.
 
• تَوَاصَوْا: "الواو والصاد والحرف المعتلّ أصل، يدلّ على وصل شيء بشيء"3. و"الوَصِيَّةُ: التّقدّمُ إلى الغير بما يعمل به، مقترناً بوعظ... وتَوَاصَى القومُ: إذا أَوْصَى بعضُهم إلى بعض. قال تعالى: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾4، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾5"6.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَالْعَصْرِ﴾: 
الآية قسم بالعصر. وقد ذُكِرَ في المراد بالعصر أقوال عدّة، هي:
• عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عصر بزوغ فجر الإسلام على المجتمع الإنسانيّ، وظهور الحقّ على الباطل. 
 
• عصر ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ، لما فيه من تمام ظهور الحقّ على الباطل.
 
• وقت العصر، وهو الطَرَف الأخير من النهار، لما فيه من الدلالة على التدبير الربوبيّ، بإدبار النهار، وإقبال الليل، وذهاب سلطان الشمس. 



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَصَرَ"، ص340. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَصَرَ"، ص569.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "خَسِرَ"، ص182. وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة "خَسِرَ"، ص286.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَصَى"، ص116.
4 سورة العصر، الآية 3.
5 سورة الذاريات، الآية 53.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَصَى"، ص773-774.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

206

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 • صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الفرائض اليومية، حيث قال تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾1، فإنّه من باب ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، وهو يدلّ على التأكيد والأهمّيّة.

 
• الليل والنهار، حيث يُطلَق عليهما العصران، فلما فيهما من آيات الله، ومنها: اختلافهما، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾2
 
• الدهر، لما فيه من عجائب الحوادث الدالّة على القدرة الربوبيّة وغير ذلك.
 
• وعن المفضّل بن عمر، قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، قال عليه السلام: "العصر، عصر خروج القائم عليه السلام، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، يعني أعداءنا، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يعني بآياتنا، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني بمواساة الإخوان، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، يعني بالإمامة، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، يعني في الفترة"3.
 
والقولان الأوّل والثاني هما الأوفق بالرواية المتقدّمة، وبظاهر السياق، وبما تتضمّنه الآيتان التاليتان، من شمول الخسران للعالم الإنسانيّ، إلا لمن اتّبع الحقّ، وصبر عليه، وهم المؤمنون الصالحون، قولاً وعملاً4.
 
الآية (2): ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾
الآية جواب للقسم. والمراد بالإنسان، جنس الإنسان. وبالخسر، الخسران، وهو نقص رأس المال، فحكم الخسران شامل لجميع أفراد البشر. ويؤيّد ذلك: الإتيان بلفظ "إنّ"، وبحرف "اللام"، وبالجملة الأسميّة، التي تدلّ كلّها على التأكيد، مضافاً إلى الإتيان بحرف "في" الدالّ على الاستغراق في الخسران. وهذا الحكم شامل لعموم الإنسان المكلّف،



1 سورة البقرة، الآية 238.
2 سورة آل عمران، الآية 190.
3 ابن بابويه، محمد بن علي(الصدوق): كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1405هـ.ق/ 1363هـ.ش، ص656.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص355-356.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

207

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 والدليل على هذا العموم، صحّة الاستثناء، فمن صحّة الاستثناء يُستفاد أنّ "الألف واللام" في الإنسان، للجنس، يعني الاستغراق.

 
وذُكِرَ في تنكير ﴿خُسْرٍ﴾، قولان: 
• إفادة "التعظيم"، فيكون معنى الآية: أنّ خسران الإنسان عظيم. 
• إفادة "التنويع"، فيكون معنى الآية: أنّ خسران الإنسان حاصل على أكثر من نوع ومستوى من الخسران، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾1.2
 
الآية (3): ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾:
استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسران، والمستثنون هم: الأفراد المتلبّسون بالإيمان والأعمال الصالحة، فهم آمنون من الخسران، وذلك: أنّ كتاب الله يُبيّن: 
• أنّ للإنسان حياة خالدة مؤبَّدة لا تنقطع بالموت، وإنّما الموت هو انتقال من دار إلى دار: ﴿عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾3.
 
• أنّ شطراً من هذه الحياة، وهي الحياة الدنيا، حياة امتحانيّة، تتعيّن بها صفة الشطر الأخير، الذي هو الحياة الآخرة المؤبَّدة، من سعادة وشقاء: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾4، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾5.
 
• أنّ مقدّميّة هذه الحياة لتلك الحياة، إنّما هي بما يقع فيها، من الاعتقاد والعمل، فالاعتقاد الحقّ والعمل الصالح، ملاك السعادة الأخرويّة، والكفر والفسوق، ملاك الشقاء فيها: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ 



1 سورة الزمر، الآية 15.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص356.
تفسير بالمصداق: أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾, يعني: أبا جهل بن هشام. ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾, ذَكَر عليّاً وسلمان. (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص392).
3 سورة الواقعة، الآية 61.
4 سورة الرعد، الآية 26.
5 سورة الأنبياء، الآية 35.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

208

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾1، ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾2، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾3.

 
• أنّ الحياة رأس مال الإنسان، يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة، فإنْ اتّبع الحقّ في الاعتقاد والعمل، فقد ربحت تجارته، وبُورِك في مكسبه، وأمِن الشرّ في مستقبله، وإنْ اتّبع الباطل وأعرض عن الإيمان والعمل الصالح، فقد خسرت تجارته، وحُرِمَ الخير في عقباه.
 
والمراد بالإيمان، الإيمان بالله. ومن لوازم هذا الإيمان، الإيمان باليوم الآخر، وملائكته، وكتبه ورسله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾4.
 
وظاهر قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، التلبّس بجميع الأعمال الصالحة، فلا يشمل الاستثناء الفسّاق، الذين تركوا بعض الصالحات. ولازم ذلك: أن يكون الخسران في الآية، أعمّ من الخسران في جميع جهات حياته، كما في مورد الكافر المعاند للحقّ المخلّد في العذاب، والخسران في بعض جهات حياته، كما في مورد المؤمن الفاسق الذي لا يُخلّد في النار، وينقطع عنه العذاب، بشفاعة ونحوها.
 
والمراد بـ (التواصي بالحقّ)، هو أن يُوصي بعضهم بعضهم الآخر بالحقّ، أي باتّباعه والمداومة عليه، فليس دين الحقّ، إلا اتّباع الحقّ، اعتقاداً وعملاً. و"التواصي بالحقّ" أوسع من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لشموله الاعتقاديّات، ومطلق الترغيب، والحثّ على العمل الصالح.
 
وذِكْر "التواصي بالحقّ" - وهو من العمل الصالح - بعد ذِكْر "العمل الصالح"، من قبيل ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، وذلك اهتماماً بأمره. 



1 سورة النجم، الآيات 39-41.
2 سورة الروم، الآية 44.
3 سورة فصلت، الآية 46.
4 سورة البقرة، الآية 285.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

209

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 كما أنّ "التواصي بالصبر" هو من "التواصي بالحقّ"، وذِكْره بعده، من ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، اهتماماً بأمره، ويؤكّد ذلك: تكرار ذِكْر التواصي، حيث قال تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، ولم يَقُلْ: "وتواصوا بالحقّ والصبر".

 
وذِكْر تواصيهم بالحقّ وبالصبر، بعد ذِكْر تلبّسهم بالإيمان والعمل الصالح، للإشارة إلى حياة قلوبهم، وانشراح صدورهم للإسلام لله، فلهم اهتمام خاصّ، واعتناء تامّ بظهور سلطان الحقّ وانبساطه على الناس، حتى يُتّبع ويدوم اتّباعه: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾1.
 
وإطلاق الصبر، فيه دلالة على الأعمّ من، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند النوائب التي تُصيبه بقضاء من الله وقدر2.
 
وبقرينة لفظة "التواصي"، وهي من أوزان "المفاعلة"، التي تُفيد المشاركة، يُستفاد أنّ المراد بالتواصي بالصبر، الأعمّ من الصبر الفرديّ والصبر الجماعيّ، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾3.
 
بحث تفسيري: الإسلام والإيمان ومراتبهما الوجوديّة4
بيّن القرآن الكريم حقيقة الإسلام والإيمان ومراتبهما الوجوديّة، ويُمكن إيجازها وفق الآتي:
1- المرتبة الأولى من مراتب الإسلام، وهي القَبول لظواهر الأوامر والنواهي، بتلقّي الشهادتين لساناً، سواء أوافقه القلب، أم خالفه، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾5
 
ويتعقّب الإسلام بهذا المعنى، أوّل مراتب الإيمان، وهي الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالاً، ويلزمه العمل في غالب الفروع.



1 سورة الزمر، الآية 22.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص356-358.
3 سورة آل عمران، الآية 200.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص301-303.
5 سورة الحجرات، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

210

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 2- المرتبة الثانية من الإسلام، ممّا يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، وهي التسليم والانقياد القلبي لجلّ الاعتقادات الحقّة التفصيليّة، وما يتبعها من الأعمال الصالحة، وإنْ أمكن التخطّي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتّقين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾1، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾2، فمن الإسلام ما يتأخّر عن الإيمان محقّقاً، فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام. 

 
ويتعقّب هذا الإسلام، المرتبة الثانية من الإيمان، وهي الاعتقاد التفصيليّ بالحقائق الدينية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾3، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾4، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.
 
3- المرتبة الثالثة من الإسلام، ممّا يلي الإيمان بالمرتبة الثانية، فإنّ النفس إذا أنِسَت بالإيمان المذكور، وتخلّقت بأخلاقه، تمكّنت منها، وانقادت لها سائر القوى البهيميّة والسبعيّة، وبالجملة: القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبد الله، كأنّه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنّ الله يراه، ولم يجد في باطنه وسرّه ما لا ينقاد إلى أمره تعالى ونهيه، أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾5.
 
ويتعقّب هذه المرتبة من الإسلام، المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ 



1 سورة الزخرف، الآية 69.
2 سورة البقرة، الآية 208.
3 سورة الحجرات، الآية 15.
4 سورة الصف، الآيتان 10-11.
5 سورة النساء، الآية 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

211

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 مُعْرِضُونَ﴾1، ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾2، إلى غير ذلك. وربّما عُدَّت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة. والأخلاق الفاضلة، من الرضاء، والتسليم، والحسبة، والصبر في الله، وتمام الزهد، والورع، والحبّ، والبغض، في الله، من لوازم هذه المرتبة.

 
4- المرتبة الرابعة من الإسلام، ممّا يلي المرتبة الثالثة من الإيمان، فإنّ حال الإنسان، وهو في المرتبة السابقة مع ربّه، حال العبد المملوك مع مولاه، إذا كان قائماً بوظيفة عبوديّته حقّ القيام، وهو التسليم الصرف لما يُريده المولى أو يُحبّه ويرتضيه، والأمر في ملك ربّ العالمين لخلقه أعظم من ذلك وأعظم، وإنّه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء، لا ذاتاً، ولا صفة، ولا فعلاً، على ما يليق بكبريائه جلّت كبرياؤه. فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربّما أخذته العناية الربّانيّة، فأشهدت له أنّ الملك لله وحده، لا يملك شيء سواه لنفسه شيئاً، إلا به، لا ربّ سواه، وهذا معنى وهبيّ، وإفاضة إلهيّة، لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعلّ قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾3، فيه إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام، فإنّ قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ظاهره أنّه أمر تشريعي، لا تكويني، فإبراهيم عليه السلام كان مسلماً باختياره، إجابة لدعوة ربّه، وامتثالاً لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجّهة إليهعليه السلام في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل عليه السلام الإسلام، وإراءة المناسك، سؤال لأمر ليس زمامه بيده، أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده، فالإسلام المسؤول في الآية، هو هذه المرتبة من الإسلام. 
 
ويتعقّب الإسلام بهذا المعنى، المرتبة الرابعة من الإيمان، وهي استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ 



1 سورة المؤمنون، الآيات 1-3.
2 سورة البقرة، الآية 131.
3 سورة البقرة، الآية 128.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

212

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾1، فإنّ هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أنْ لا استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله، حتّى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذوراً محتملاً، وإلا فلا معنى لكونهم، بحيث لا يخوّفهم شيء، ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور. 




1 سورة يونس، الآيتان 62-63.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

213

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 3 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: الاستفادة من الوقت واستثماره/ سنّة خسران الإنسان/ معيار فوز الإنسان/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قسمٌ بعصر البعثة النبويّة المباركة، يوم ظهور الحقّ على الباطل، إنّ الإنسان في خسر من رأس مال حياته الدنيوية، إلا إذا أنفق هذا الرأسمال للحياة الأخرويّة، من خلال التزوّد بالإيمان والعمل الصالح. وهذا الأمر يحتاج إلى الصبر والمدوامة والاستمرار على الحقّ.

4- بيّن القرآن الكريم حقيقة الإسلام والإيمان ومراتبهما الوجوديّة، وهي أربع مراتب، بعضها مترتّب على بعضها الآخر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

214

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة العصر

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَن قرأ هذه السورة كان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة. 
- هذه السورة تحتمل المكّية والمدنيّة، وهي أوفق بالمدنيّة. 
- المراد بـ "التواصي بالحقّ": اتّباع الحقّ والمداومة عليه. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

 


215

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

216

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالهُمَزَة، لورود ذِكْرها في مستهلّ السورة.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 9 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- آفة اغتياب الناس والاستهزاء بهم وآثارها الدنيويّة والأخرويّة.
2- فتنة جمع المال واكتنازه.
3- عاقبة القارونيّين من الناس.
4- من خصائص نار جهنّم: نار تطّلع على القلوب.
 
فضيلة السورة
• مارواه أُبَي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأها أُعطِيَ من الأجر عشر حسنات، بعدد مَنْ استهزأ بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه"1.
 
• ما رواه أبو بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنّه قال: "من قرأ ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر، وجلبت عليه الرزق، وتدفع عنه ميتة السوء"2.
 
خصائص النزول
هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق جميع المفسِّرين3. ويؤيّد ذلك، قصر مقاطع آياتها، وقوّة لهجتها، وطبيعة لحنها، ومحاورها المطروحة. 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص437.
2 م.ن.
3 انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص392.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

217

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 وقد ورد في روايات أسباب النزول: أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة، حيث كان يغتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وكان يلمز الناس ويغتابهم. وقيل: نزلت في غيرهم من المشركين آنذاك1

 
ولكن خصوص سبب النزول لا يُخصِّص الوارد، فتشمل الآية كلّ من اتّصف بفعلتهم في كلّ زمان ومكان.
 
شرح المفردات
• وَيْلٌ: "قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾2، ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، ونحو ذلك. فويل كلمة تُقال عند الهلكة. ويقال: ويل واد في جهنّم، لو أرسلت فيه الجبال، لماعت من حرّه. وفي الصحيح "ويل" كلمة، مثل: ويح، إلا أنّها كلمة عذاب"3.
 
• هُمَزَةٍ: "الهاء والميم والزاء كلمة، تدلّ على ضغط وعصر. وهمزت الشيء في كفّي. ومنه: الهمز في الكلام، كأنّه يضغط الحرف... والهمّاز: العيّاب، وكذا الهُمَزَة"4.
 
• لُّمَزَةٍ: "اللام والميم والزاء كلمة واحدة، وهي اللمز، وهو العيب. يقال لمز يلمز لمزاً. قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾5. ورجل لمّاز ولُمَزَة، أي عيّاب"6. و"اللَّمْزُ: الاغتياب وتتبّع المعاب... ورجل لَمَّازٌ ولُمَزَةٌ: كثير اللَّمز، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾"7.
 
• لَيُنبَذَنَّ: "النون والباء والذال أصل صحيح، يدلّ على طرح وإلقاء"8. و"النَّبْذُ: إلقاء الشيء وطرحه، لقلَّة الاعتداد به، ولذلك يُقال: نَبَذْتُه نَبْذَ النَّعْل الخَلِق، قال تعالى: ﴿لَيُنبَذَنَّ 



1  انظر: الطبرسي، ج10، ص439, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص392.
2 سورة المطففين، الآية 1.
3 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج5، مادّة "ويل"، ص496.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "هَمَزَ"، ص65-66. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "هَمَزَ"، ص846.
5 سورة التوبة، الآية 58.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "لَمَزَ"، ص209.
7 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "لَمَزَ"، ص747.
8 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَبَذَ"، ص380.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

218

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 فِي الْحُطَمَةِ﴾، ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ﴾1، لقلَّة اعتدادهم به، وقال: ﴿نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾2، أي: طرحوه، لقلَّة اعتدادهم به"3.

 
• الْحُطَمَةِ: "الحاء والطاء والميم أصل واحد، وهو كسر الشيء"4. و"الحَطْمُ: كسر الشيء، مثل: الهشم ونحوه، ثمّ استعمل لكلّ كسر متناه، قال اللَّه تعالى: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾5... وسُمّيت الجحيم حُطَمَة، قال اللَّه تعالى في الحطمة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾"6.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾:
ويل، كلمة تُقال عند الهلكة، وفي مقام التوبيخ والدعاء على أحد، وهي اسم وادٍ في جهنّم.
 
وذُكِرَ في معنى الهمز واللمز، أقوال، هي:
• الهمزة، كثير الطعن على غيره بغير حقّ، العائب له بما ليس بعيب. واللمز، العيب - أيضاً -، فالهمزة واللمزة بمعنى واحد. وهذا القول بعيد عن فصاحة القرآن الذي لا يأتي بالمترادفات من دون فائدة مرجوّة.
 
• الهمزة، الذي يعيبك بظهر الغيب. واللمزة، الذي يعيبك في وجهك.
 
• الهمزة، الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه. واللمزة، الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه، ويومي بعينه.
 
فمعنى الآية: ويل لكلّ عيّاب مغتاب، في الحضور أم في الغياب، باللفظ أم بغيره، من الإشارة والإيماء.
 
و"همزة" و"لمزة" على وزن "فُعَلَة"، وهي من صِيَغ المبالغة، لإفادة معنى مَنْ يكثر منه الفعل ويصير عادة له7



1 سورة آل عمران، الآية187.
2 سورة البقرة، الآية 100.
3 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَبَذَ"، ص877.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "حَطَمَ"، ص78.
5 سورة النمل، الآية 18.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "حَطَمَ"، ص242.
7 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص358-359.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

219

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 الآية (2): ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾: 

الآية في مورد بيان الهمزة اللمزة. 
 
وتنكير ﴿مَالًا﴾، لإفادة التحقير، فإنّ المال، وإنْ كَثُرَ ما كُثَر، لا يغني عن صاحبه شيئاً، غير أنّ له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعيّة، من أكلة تشبعه، وشربة ماء ترويه، ونحو ذلك. 
 
وذُكِرَ في معنى ﴿وَعَدَّدَهُ﴾ قولان، هما:
• أنّه من العَدّ، بمعنى الإحصاء، أي إنّه لحبّه المال، وشغفه بجمعه، يجمع المال ويعدّه عدّاً بعد عدّ، التذاذاً بتكثّره.
 
• أنّه من العِدّة، أي جعله عِدّة وذخراً لنوائب الدهر1.
 
الآية (3): ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾: 
أي يُخلّده في الدنيا، ويدفع عنه الموت والفناء، حيث استعمل الماضي ﴿أَخْلَدَهُ﴾، وأُريد به المستقبل، بقرينة قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُ﴾. فهذا الإنسان، لإخلاده إلى الأرض، وانغماره في طول الأمل، لا يقنع من المال، بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة، وضروريّات أيامه المعدودة، بل كلّما زاد مالاً، زاد حرصاً إلى ما لا نهاية له. فظاهر حاله: أنّه يرى أنّ المال يُخلِّده، ولحبّه الغريزي للبقاء يهتمّ بجمعه وتعديده، بحيث دعاه ما جمعه وعدّده من المال، وما شاهده من الاستغناء، إلى الطغيان والاستعلاء على غيره من الناس، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾2، ويُورِثه هذا الاستكبار والتعدّي، الهمز واللمز. 
 
ومن هنا، يظهر أنّ قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، بمنزلة التعليل لقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾. وقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾، بمنزلة التعليل لقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾3.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359.
2 سورة العلق، الآية 7.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
248

220

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 الآية (4): ﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾: 

كلا، تُفيد معنى الردع. والآية: ردع عن حسبانه الخلود بالمال. واللام في ﴿لَيُنبَذَنَّ﴾، للقسم. والمراد بالنبذ، القذف والطرح. والحطمة، على وزن فُعَلَة، وهي من صِيَغ المبالغة، لإفادة المبالغة في الحطم، وهو الكسر. والحطمة، اسم من أسماء جهنّم، على ما يُفسّرها قوله تعالى الآتي: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾. ومعنى الآية: ليس مخلّداً بالمال، كما يحسب. أُقسِم ليموتنّ ويقذفنّ في الحطمة1.
 
الآية (5): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾: 
تفخيم وتعظيم لأمر النار، وتهويل للغافلين عنها2.
 
الآية (6): ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾: 
المراد بإيقاد النار، إشعالها3.
 
الآية (7): ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾:
الاطّلاع والطلوع على الشيء، الإشراف والظهور. والأفئدة، جمع فؤاد، وهو القلب. والمراد به في القرآن، مبدأ الشعور والفكر من الإنسان، وهو النفس الإنسانيّة. وكأنّ المراد من اطّلاع النار على الأفئدة، أنّها تُحرق باطن الإنسان، كما تُحرق ظاهره، نار تنبعث من الداخل إلى الخارج، بخلاف النار الدنيويّة التي إنّما تحرق الظاهر فقط، وتنفذ إلى الداخل من خلال الظاهر، قال تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾4.5



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359.
تَدَبُّر: لعلّ الله تعالى اختار هذا الاسم من أسماء جهنّم ﴿الْحُطَمَةِ﴾, وهو من الكسر, للتناسب في مقام العقوبة بين الذنب والجزاء, لأنّ العيّاب المغتاب يكسر بتعييبه وغيبته حيثيّة الأفراد وشخصيّاتهم ويُحطّم حرماتهم, فكان جزاؤه النار الحُطَمَة.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359.
3 انظر: م.ن.
4 سورة البقرة، الآية 24.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359-360.
تَدَبُّر: لعلّ المناسبة بين الفعل والجزاء في مقام العقوبة استدعت هذا النوع من العذاب, فإنّ الهمزة واللمزة, بتعييبه وغيبته يحرق قلب من عابه واغتابه, فيكون جزاؤه في الآخرة أن يحترق قلبه قبل أعضائه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

221

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 الآية (8): ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾: 

أي مُطبِقة عليهم، لا مخرج لهم منها ولا منجاً1.
 
الآية (9): ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾:
العَمَد، جمع عمود. وممدّدة، على وزن مفعّلة، وهي من صيغة المبالغة، لإفادة المبالغة في المدّ والتمديد.
 
وقد ذُكِرَ في معنى العَمَد، أقوال، هي:
• أنّها أوتاد الأطباق التي تُطبَق على أهل النار. 
• أنّها عمد ممدَّدة يُوثَقون فيها2.
 
روي عن حمران بن أعين، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "إنّ الكفّار والمشركين، يُعيّرون أهل التوحيد في النار، ويقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئاً، وما نحن وأنتم إلا سواء! قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله: أنا أرحم الراحمين، اخرجوا برحمتي، كما يخرج الفراش". قال: ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: "ثمّ مدّت العَمَد، وأوصدت عليهم، وكان والله الخلود!"3.
 
بحث تفسيري: مراتب النار الأخرويّة4
إنّ للنار في الآخرة سبع دركات، لكلّ دركة منها خصائصها، وهي:
1- الدركة الأولى: واسمها "جهنّم"، وسُمّيت بذلك، لأنّها تتجهّم في وجوه الخلق، وهي موضع العُصَاة من أهل التوحيد، وقيل: إنّه لا نار فيها، ولكنّه يصل حرّ نارها إليهم، فإذا خرج أهل التوحيد منها، جُعِلَت طبقاً على سائر الدرجات. 
 
وهذا خلاف ظاهر أكثر الآيات والروايات التي ورد فيها هذا اللفظ.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص359-360.
2 انظر: م.ن، ص360.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص440.
4 انظر: م.ن، ج6، ص118.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
250

222

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 2- الدركة الثانية "لظى"، وهي التي تتلظّى، أي تتلهّب، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾1، أي تقلع جلدة الرأس.

 
3- الدركة الثالثة: "سقر"، وهي التي تسقّر، أي تذيب ما أُلقِيَ فيها، قال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾2.
 
4- الدركة الرابعة: "الحُطَمَة"، وهي التي تُحطّم ما فيها، أي تكسر، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أعلمتم أنّ مالكاً إذا غضب على النار حطّم بعضُها بعضاً، لغضبه، وإذا زجرها، توثّبت بين أبوابها، جزعاً من زجرته".
 
5- الدركة الخامسة: "الجحيم"، وهي النار العظيمة، تقول أجحمت النار، فجحمت، قال تعالى في حقّ النار التي أُلقِيَ فيها إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾3، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾4، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾5.
 
6- الدركة السادسة: "السعير"، وهي المسعورة، أي المُوقَدَة غاية الإيقاد، قال تعالى: ﴿مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾6، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾7.
 
7. الدركة السابعة: "الهاوية"، وهي التي تهوي بأهلها، أي تُهلكهم، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾8.



1 سورة المعارج، الآيتان 15-16.
2 سورة المدثر، الآيات 26-29.
3 سورة الصافات، الآية 97.
4 سورة التكوير، الآية 12.
5 سورة النازعات، الآيات 37-39.
6 سورة الإسراء، الآية 97.
7 سورة التكوير، الآية 12.
8 سورة القارعة، الآيات 8-11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

223

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 9 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: آفة اغتياب الناس والاستهزاء بهم/ فتنة جمع المال واكتنازه/ نار جهنّم تطّلع على القلوب/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: ويل لكلّ طعّان غيّاب لغيره، بغير حقّ، ظانّاً أنّ ماله يُغنيه ويُخلّده ويسوّغ له احتقار الآخرين، والواقع أنّه غافل عن الحقيقة قد أعماه حبّ الدنيا وزينتها، ومآله إلى نار جهنّم، التي تُحطّم كلّ ما فيها وتكسره، وتُشرف على النفوس، فتُحرق الباطن، كما تُحرق الظاهر، ولا مخرج لهم منها، وهم موثوقون فيها بعمد.

4- إنّ للنار في الآخرة سبع دركات، لكلّ دركة منها خصائصها، وهي: "جهنّم"، "لظى"، "سقر"، "الحُطَمَة"، "الجحيم"، "السعير"، "الهاوية".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

224

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الهمزة

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أوû:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "اللُمَزَة": العيّاب. 
- المراد بـ "الهُمَزَة": المغتاب. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

225

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

226

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالماعون، لورود ذِكْرها في ختام السورة.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 7 آيات، تُبيّن مجموعة من الأعمال والأفعال التي تصدر عن منكري يوم القيامة، بوصفها نتائج تلقائيّة مبتنية على إنكارهم ليوم القيامة، وهي: 
1- عدم الإنفاق في سبيل الله. 
2- عدم مساعدة اليتامى والمساكين وصدّهم بشدّة وبقسوة. 
3- التساهل في أداء الصلاة. 
4- الرياء في العمل.
5- الصدّ عن مساعدة المحتاجين.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، غفر الله له، إنْ كان للزكاة مؤدّياً"1
 
• ما رواه عمرو بن ثابت عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام قال: "من قرأ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ في فرائضه ونوافله، قَبِلَ الله صلاته وصيامه، ولم يُحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص454.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

227

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 خصائص النزول

هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين، وقد احتمل بعضهم أنّها مدنيّة. ولكنّها أشبه ما تكون، من حيث خصائصها، بالسور المكّيّة، لقصر مقاطع آياتها، وقوّة لهجتها، وطبيعة لحنها، ومحاورها المطروحة1.
 
وقد ورد في روايات أسباب النزول أنّها: نزلت في العاص بن وائل السهمي. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان ينحر في كلّ أسبوع جزورين، فأتاه يتيم، فسأله شيئاً، فقرعه بعصاه. وقيل: نزلت في رجل من المنافقين2. ولكنّ خصوص سبب النزول لا يُخصِّص الوارد، فتشمل الآية كلّ من اتّصف بفعلتهم في كلّ زمان ومكان.
 
شرح المفردات
• يَدُعُّ: "الدال والعين أصل واحد منقاس مطّرد، وهو يدلّ على حركة ودفع واضطراب"3. و"الدَّعُّ: الدفع الشديد... قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾4، وقوله: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾"5.
 
• يَحُضُّ: "الحاء والضاد أصلان، أحدهما: البعث على الشيء، والثاني: القرار المستَفِل"6. و"الحضّ: التحريض، كالحثّ، إلا أنّ الحثّ يكون بسوق وسير، والحضّ لا يكون بذلك. وأصله من الحثّ على الحضيض، وهو قرار الأرض، قال اللَّه تعالى: ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾7"8.



1 انظر: م.ن, السيوطي، الدر النثور، م.س، ج6، ص399, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص367.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص456, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص399.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَعَ"، ص257.
4 سورة الطور، الآية 13.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "دَعَ"، ص314-315.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "حَضَّ"، ص13.
7 سورة الحاقة، الآية 34.
8 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "حَضَّ"، ص241.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

228

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 • الْمَاعُونَ: "الميم والعين والنون أصل، يدلّ على سهولة في جريان، أو جري، أو غير ذلك"1. و"قوله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، الماعون: اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر، والدلو، والملح، والماء، والسراج، والخمرة، ونحو ذلك، ممّا جرت العادة بعاريته... وأصل الماعون: معونة، والألف عوض الهاء المحذوفة"2.

 
• يُرَاؤُونَ: "الراء والهمزة والياء أصل، يدلّ على نظر وإبصار بعين أو بصيرة... وراءى فلان يُرائي. وفعل ذلك رئاء الناس، وهو أن يفعل شيئاً ليراه الناس"3.
 
• سَاهُونَ: "السين والهاء والواو، معظم الباب يدلّ على الغفلة والسكون"4. و"السَّهْوُ: خطأ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما: أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولَّداته، كمجنون سبّ إنساناً، والثاني: أن يكون منه مولَّداته، كمن شرب خمراً، ثمّ ظهر منه منكر، لا عن قصد إلى فعله. والأوّل: معفوّ عنه، والثاني: مأخوذ به، وعلى نحو الثاني، ذمّ اللَّه تعالى، فقال: ﴿فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾5، ﴿عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾6".
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾7:
الألف، للاستفهام، وهي في موضع تقرير حال الكافر المكذِّب بالدين والتعجّب منه، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾8.
 
ويُراد بالرؤية، رؤية البصر، أو رؤية البصيرة، أي المعرفة والعلم. والأوّل تُساعد عليه روايات أسباب النزول. والثاني يُساعد عليه السياق.



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "مَعَنَ"، ص335.
2 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة "مَعَنَ"، ص316-317.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "رَأَى"، ص472-473.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادة "سَهَوَ"، ص107.
5 سورة الذاريات، الآية 11.
6 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "سَهَا"، ص431.
7 سبب النزول: ورد في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، قال: نزلت في أبي جهل وكفّار قريش. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص444).
8 سورة البقرة، الآية 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

229

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 وذُكِرَ في معنى "الدين" قولان، هما: 

• يوم الحساب والجزاء، كما في قوله تعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾1.
 
• الشريعة والملّة، كما في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ﴾2.
 
والمعنى الأوّل هو الأوفق بالسياق.
 
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس شخصيّاً، بل بما أنّه سامع، فيتوجّه إلى كلّ سامع3.
 
الآية (2): ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾:
الدعّ، هو الردّ بعنف وجفاء وقسوة. والفاء في قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ﴾، لتوهّم معنى الشرط، والتقدير: أرأيت الذي يُكذِّب بيوم الحساب والجزاء، فعرفته بصفاته اللازمة لتكذيبه، فإنْ لم تعرفه، فذلك الذي يردّ اليتيم بعنف ويجفوه ويقسو عليه، ولا يخاف عاقبة عمله السيّء. ولو لم يكذب بالحساب يوم القيامة، لخاف الجزاء والعذاب، ولو خاف الجزاء والعذاب، لرحم اليتيم4.
 
الآية (3): ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾:
الحضّ، الترغيب. والتعبير بالطعام دون الإطعام، للإشعار بأنّ المسكين، كأنّه مالك لما يُعطى له، كما في قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾5. والتعبير بالحضّ دون الإطعام، لأنّ الحضّ أعمّ، من الحضّ العمليّ الذي يتحقّق بالإطعام.

 
والكلام في الآية مبني على تقدير مضاف محذوف هو "الناس"، فيكون معنى الآية: لا



1 سورة الفاتحة، الآية 4.
2 سورة الشورى، الآية 13.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص368.
4 انظر: م.ن.
تَدَبُّر: يوجد في الآية نكات عدّة تُشير إلى خباثة نفس المكذّب وأخلاقه الرذيلة، وهي:
- الإشارة إلى المكذّب بلفظ الإشارة، وجعله, كالحاضر والمحسوس، وقابلاً للإشارة, فكأنّه مطرحاً للأنظار, بغية أن يعرفه عموم الناس ويرون معايبه.
- استعمال أداة الإشارة إلى البعيد, ليُعلم أنّ المُشار إليه بعيد عن مقام المتكلّم وعن قربه, وهو الله سبحانه.
- كلمة يدعّ, تدلّ على أنّ اليتيم جاءه لطلب شيء من ماله أو من مال غيره، وهو زجره ودفعه، فيُعلم من ذلك: أنّ اليتيم كان محتاجاً وفقيراً.
5 سورة الذاريات، الآية 19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

230

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 يُرغِّب الناس على إطعام طعام المسكين1.

 
الآية (4): ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾:
ويل، كلمة تُقال عند الهلكة، وفي مقام التوبيخ والدعاء على أحد، وهي اسم وادٍ في جهنّم.
 
والفاء، للتفريع على ما سبق من الكلام، لإفادة أنّهم لا يخلون من نفاق، لأنّهم يُكذِّبون بالدين، عملاً، وهم يتظاهرون بالإيمان.
 
الآية (5): ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾:
المراد بالسهو، الغفلة. ومعنى الآية: هم غافلون عن الصلاة، لا يهتمّون بها، ولا يبالون إنْ فاتتهم بالكلّيّة أو فاتهم وقت فضيلتها. وغفلتهم هذه منشؤها تكذيبهم بيوم الحساب والجزاء2.
 
ما وراه محمد بن مسلم وأبو بصير، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب، ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه. قال عليه السلام: ... ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص368.
تَدَبُّر: يستفاد من هذه الآية أمران:
- إنّ وظيفة الأغنياء لا تنحصر بإعطائهم الزكاة والحقوق المالية للفقراء، بل عليهم - مضافاً إلى أداء زكاتهم وحقوقهم - حثّ الناس على هذا الأمر. والسرّ في ذلك واضح, إيجاباً وسلباً. أمّا إيجاباً, فهو أنّه ربّما لا يكون إعطاء شخص حقوقه الواجبة للفقراء كافياً في رفع حوائجهم، فلا بدّ لهم من تأمين حاجاتهم من غير نفسه, وذلك يتمّ بحثّ الغير على ذلك, كما نراه في المؤسّسات الخيريّة والاجتماعية التي يتحقّق بها هذا الأمر، ولا يتيسّر لشخص واحد القيام بتلك الأمور غالباً، بل لا بدّ له أن يستعين بغيره على ذلك. وأمّا سلباً, فهو أنّه إذا ترك حثّ غيره على المعروف، فكيف يعمل هو نفسه؟ ويُعلَم من تَرك حثّ الغير, استحكام رذيلة البخل في نفسه، وهذه المرتبة من البخل من أرذل مراتبه, فإنّ البخيل تارةً يبخل من مال نفسه، وأخرى من مال غيره. والثاني أقبح من الأوّل.
- إنّ للفقراء سهماً في أموال الأغنياء, وذلك للعدول عن الإطعام إلى الطعام، وإضافته إلى المسكين، فإنّ الإضافة إضافة لاميّة, كغلام زيد, أي غلام لزيد. فطعام المسكين, بمعنى طعام لمسكين، واللام للملكيّة.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص368.
تفسير بالمصداق: روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال في صدد تفسير قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾: "تأخير الصلاة عن أوّل وقتها لغير عذر". (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص444).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

231

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 أقواماً، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها"1.

 
ما رواه محمد بن الفضيل، قال: سألت عبداً صالحاً (الإمام الكاظم) عليه السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، قال: "هو التضييع"2.
 
الآية (6): ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ﴾:
أي إنّهم يأتون بالعبادات، بغية نيل رضا الناس وإعجابهم، مع أنّ حقّ العبادة أن تكون خالصة لله وحده لا شريك له3.
 
الآية (7): ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾:
الماعون هو كلّ ما يُعين الغير في رفع حاجة من حوائج الحياة، كالقرض تُقرِضُه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تُعيره...4.
 
بحث تفسيري: خصائص الصلاة وآثارها التربويّة والوجوديّة على تكامل الإنسان5
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكّد على أهمّيّة الصلاة وآثارها الوجوديّة في سير الإنسان نحو مقام القرب الإلهي، ومنها:
1- الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر:
قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾6.
إنّ طبيعة هذا التوجّه العباديّ - إذا أتى به العبد، وهو يُكرّره كلّ يوم خمس مرّات، ويداوم 



1 الصدوق، الخصال، م.س، ص611-621.
2 الكليني، الكافي، م.س، ج3، كتاب الصلاة، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها، ح5، ص268.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص368.
تفسير بالمصداق: أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن الإمام علي بن أبي طالبعليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون﴾، قال: "يراؤن بصلاتهم". (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص400).
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص368.
تفسير بالمصداق: ورد في تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، قال: مثل: السراج، والنار، والخمير، وأشباه ذلك, ممّا يحتاج إليه الناس. وفي رواية أخرى الخمس والزكاة. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص444), وانظر: (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص400-401).
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص152, ج16، ص133-137.
6 سورة العنكبوت، الآية 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

232

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 عليه، وخاصّة إذا زاول عليه في مجتمع صالح، يُؤتَى فيه بمثل ما أتى به، ويُهتَم فيه بما اهتمَّ به - تردع الإنسان عن كلّ معصية كبيرة يستشنعها الذوق الديني، كقتل النفس عدواناً، وأكل مال اليتيم ظلماً، والزنا، واللواط، وعن كلّ ما يُنكره الطبع السليم والفطرة المستقيمة، ردعاً جامعاً بين التلقين والعمل. وذلك: أنّه يُلقّنه أولاً، بما فيه من الذكر: الإيمان بوحدانيّته تعالى والرسالة وجزاء يوم الجزاء، وأن يُخاطب ربّه بإخلاص العبادة والاستعانة به وسؤال الهداية إلى صراطه المستقيم، متعوّذاً من غضبه ومن الضلال، ويحمله ثانياً، على أن يتوجّه بروحه وبدنه إلى ساحة العظمة والكبرياء، ويذكر ربّه، بحمده والثناء عليه وتسبيحه وتكبيره، ثمّ السلام على نفسه وأترابه وجميع الصالحين من عباد الله. مضافاً إلى حمله إيّاه على التطهّر من الحدث والخبث، في بدنه، والطهارة في لباسه، والتحرّز عن الغصب في لباسه ومكانه، واستقبال بيت ربّه، فالإنسان لو داوم على صلاته مدّة يسيرة واستعمل في إقامتها بعض الصدق، أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء والمنكر البتّة، ولو أنّك وكّلت على نفسك من يربّيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن، وتتحلّى بأدب العبوديّة، لم يأمرك بأزيد ممّا تأمرك به الصلاة، ولا روّضك بأزيد ممّا تروّضك به.

 
ولا يُشكَل بأنّا كثيراً ما نجد من المصلّين، مَنْ لا يُبالي بارتكاب الكبائر، ولا يرتدع عن المنكرات، فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر!
 
ويردّه، سياق الحكم والتعليل في الآية، فإنّ الذي يُعطيه السياق: أنّ الأمر بإقامة الصلاة، إنّما عُلِّل بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾1، ليُفيد أنّ الصلاة عمل عبادي يُورِث إقامته صفة روحيّة في الإنسان، تكون رادعة له عن الفحشاء والمنكر، فتتنزّه النفس عن الفحشاء والمنكر، وتتطهّر عن قذارة الذنوب والآثام. فالمراد به: التوسّل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة، بنحو الاقتضاء، لا أنّها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة، ولا أنّها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلاً بها، ولا أنّ المراد هو التوسّل إلى تلقّي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها، كأنّه قيل: أقم الصلاة لتسمع نهيها، ولا أنّ المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء والمنكر. فالحقّ في



1 سورة العنكبوت، الآية 45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

233

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

الجواب: أنّ الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجّه خاصّ عبادي إلى الله سبحانه، وهو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب والعلّيّة التامّة، فربّما تخلّف عن أثرها، لمقارنة بعض الموانع التي تُضعف الذِّكْر وتُقرّبه من الغفلة والانصراف عن حاقّ الذِّكْر، فكلّما قويَ الذِّكْر وكمل الحضور والخشوع وتمحّض الإخلاص، زاد أثر الردع عن الفحشاء والمنكر، وكلّما ضعف، ضعف الأثر.

 
وبالتأمّل في حال بعض من تسمّى بالإسلام من الناس، وهو تارك الصلاة تجده يُضيّع، بإضاعة الصلاة، فريضة الصوم، والحجّ، والزكاة، والخمس، وعامّة الواجبات الدينيّة، ولا يُفرّق بين طاهر ونجس، وحلال وحرام، فيذهب لوجهه، لا يلوي على شيء، ثمّ إذا قست إليه حال مَنْ يأتي بأدنى مراتب الصلاة، ممّا يسقط به التكليف، وجدته مرتدعاً عن كثير ممّا يقترفه تارك الصلاة، غير مكترث به، ثمّ إذا قست إليه مَنْ هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة، وجدته أكثر ارتداعاً منه، وعلى هذا القياس.
 
2- الصلاة ذِكْر لله تعالى: 
قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾1.
 
الصلاة ذكر، لاشتمالها على الأذكار القوليّة، من تهليل، وتحميد، وتنزيه، وهي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذِّكْر، لأنّها بمجموعها ممثّل لعبوديّة العبد لله سبحانه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾2، وهي باعتبار آخر أمر يترتّب عليه الذِّكْر، ترتّب الغاية على ذي الغاية، وهو ما يُشير إليه قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾3.
 
والذِّكْر الذي هو غاية مترتّبة على الصلاة، أي الذكر القلبي، بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته، نسياناً، أو إدامة استحضاره، لهو أفضل عمل يُتصوَّر صدوره عن الإنسان وأعلاه كعباً وأعظمه قدراً وأثراً، فإنّه السعادة الأخيرة التي هُيّئت للإنسان ومفتاح كلّ خير.



1 سورة العنكبوت، الآية 45.
2 سورة الجمعة، الآية 9.
3 سورة طه، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

234

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 ثمّ إنّ الظاهر من سياق قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾، أنّ قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، متّصل به، مبيّن لأثر آخر للصلاة، وهو أكبر ممّا بُيِّن قبله، فيقع قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ موقع الإضراب والترقّي، ويكون المراد الذِّكر القلبي الذي يترتّب على الصلاة، ترتّب الغاية على ذي الغاية، فكأنّه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء والمنكر، بل الذي تُفيده من ذِكر الله الحاصل بها، أكبر من ذلك، أي من النهي عن الفحشاء والمنكر، لأنّه أعظم ما يناله الإنسان من الخير، وهو مفتاح كلّ خير، والنهي عن الفحشاء والمنكر بعض الخير.

 
3- الصلاة مدد غيبيّ للإنسان:
قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾1.
 
الاستعانة، وهي طلب العون، إنّما يتمّ في ما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمّات والنوازل، وإذ لا معين في الحقيقة، إلا الله سبحانه، فالعون على المهمّات، مقاومة الإنسان لها، بالثبات، والاستقامة، والاتّصال به تعالى، بالانصراف إليه، والإقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلاة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يُصغّر كلّ عظيمة نازلة، وبالإقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، وتتنبّه إلى أنّ الإنسان متّك على ركن لا ينهدم، وسبب لا ينفصم.
 
وغيرها من الآيات التي تُبيّن أهمّيّة الصلاة في فلاح الإنسان وثباته وفوزه في الدنيا والآخرة، منها: قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾2، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾3، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾4، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾5.



1 سورة البقرة، الآية 45.
2 سورة المؤمنون، الآيتان 1-2.
3 سورة الأعراف، الآية 170.
4 سورة المعارج، الآيات 19-23.
5 سورة طه، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

235

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 7 آيات، تُبيّن مجموعة من الأعمال والأفعال التي تصدر عن منكري يوم القيامة: عدم الإنفاق في سبيل الله/ عدم مساعدة اليتامى والمساكين وصدّهم بشدّة وبقسوة/ التساهل في أداء الصلاة/ الرياء في العمل/ الصدّ عن مساعدة المحتاجين/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: أرأيت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يُكذِّب بيوم الجزاء، ويردّ اليتيم بعنف، ولا يرغّب ويحثّ على إطعام المسكين، وهو يظنّ أنّه مالك لما يُعطي، غافل عن أنّه هو وما يملك مملوكان لله تعالى حقيقة، فهؤلاء لا يبالون أن تفوتهم الصلاة بالكلّيّة أو في بعض أوقاتها، مع إتيانهم إيّاها طلباً لرضا الناس لا لرضا الله تعالى، وهم لا يعطون حتى القليل اليسير من المتاع الذي لا يُأبه به.

4- وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكّد على أهمّيّة الصلاة وآثارها الوجوديّة في سير الإنسان نحو مقام القرب الإلهي، ومنها: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر/ الصلاة ذِكْر لله تعالى/ الصلاة مدد غيبيّ للإنسان/...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

236

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الماعون

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "الماعون": المتاع الذي لا قيمة له. 
- المراد بـ "يدعّ": الزجر والنهر. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

237

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

238

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالكوثر، لورود ذِكْره في مستهلّ السورة.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 3 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- بشارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باستمرار ذرّيّته وتطييب لنفسه الشريفة.
2- قطع عقب المبغض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعيّر له بانقطاع ذرّيّته.
3- كيفيّة تأدية حقّ شكر المنعم.
4- أهمّيّة الدعاء وآثاره التربويّة والوجوديّة على الإنسان.
5- استمرار نور الرسالة بعد رحيل النبيّصلى الله عليه وآله وسلم.
6- يأس الكافرين من النيل من الدين بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قرأها، سقاه الله من أنهار الجنّة، وأُعطي مِن الأجر، بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في يوم عيد، ويقرّبون من أهل الكتاب والمشركين"1.
 
• ما رواه أبو بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنّه قال: "مَنْ قرأ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ في فرائضه ونوافله، سقاه الله يوم القيامة من الكوثر، وكان محدثه عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص458.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

239

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 خصائص النزول

هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين، وقد احتمل بعضهم أنّها مدنيّة. ولكنّها أشبه ما تكون، من حيث خصائصها، بالسور المكّيّة، لقصر مقاطع آياتها، وقوّة لهجتها، وطبيعة لحنها1.
 
وقد ورد في روايات أسباب النزول أنّها: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدّثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلمّا دخل العاص، قالوا: من الذي كنت تتحدّث معه؟ قال: ذلك الأبتر. وكان قد توفّي قبل ذلك، عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من خديجة. وكانوا يُسمّون مَنْ ليس له ابن، أبتر. فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبوراً2.
 
شرح المفردات
• الْكَوْثَرَ: "الكاف والثاء والراء أصل صحيح، والكوثر نهر في الجنّة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، قالوا هذا. وقالوا: أراد الخير الكثير. والكوثر، الغبار، سُمّي بذلك، لكثرته وثورانه"3.
 
• انْحَرْ: "النون والحاء والراء، كلمة واحدة يتفرّع منها كلمات الباب، هي النحر للإنسان وغيره. والجمع نحور"4. و"النَّحْرُ: موضِع القِلَادةِ من الصَّدر. ونَحَرْتُه: أَصَبْتُ نَحْرَه، ومنه: نَحْرُ البعير"5.
 
• شَانِئَكَ: "الشين والنون والهمزة أصل، يدلّ على البغضة والتجنّب للشيء... ويقال: شنئ فلان فلاناً، إذا أبغضه"6.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص458, السيوطي، الدر النثور، م.س، ج6، ص401, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص370.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص456, وانظر: السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص399.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "كَثَرَ"، ص160-161, وانظر: الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج2، مادّة "كَثَرَ"، ص469.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَحَرَ"، ص400.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "نَحَرَ"، ص794.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "شَنَأَ"، ص217. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "شَنَأَ"، ص465.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

240

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 • الْأَبْتَرُ: "قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾، ومعناه: إنّ مبغضك هو المنقطع عن الخير. وقيل: الأبتر، الذي لا عقب له"1.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾: 
الكوثر على وزن "فَوْعَل"، وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة2
 
وقد اختلف المفسِّرون في المراد من "الكوثر"، على أقوال، هي:
• الخير الكثير.
 
• نهر في الجنّة، روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "نهر في الجنّة أعطاه الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، عوضاً من ابنه".
 
• حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنّة أو في المحشر، روى أنس بن مالك: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه مبتسماً. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أُنزلت عليّ آنفاً سورة"، فقرأ سورة الكوثر، ثمّ قال: "أتدرون ما الكوثر؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنّه نهر، وعدنيه عليه ربّي خيراً كثيراً، هو حوضي، ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم، فأقول: يا ربّ إنّهم من أمّتي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وهذه الرواية تصلح شاهداً على القول الأوّل أيضاً بقرينة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وعدنيه عليه ربّي خيراً كثيراً".
 
• أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يؤيّده روايات أسباب النزول الواردة في أنّ السورة إنّما نزلت في مَنْ عابَه صلى الله عليه وآله وسلم بالبتر، بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله.
 
• وغيرها من الأقوال التي أنهاها بعض المفسِّرين إلى ستّة وعشرين قولاً، منها: أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشياعه إلى يوم القيامة، وعلماء أمّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن الكريم وفضائله كثيرة، والنبوة، وتيسير القرآن وتخفيف الشرائع، والإسلام،



1 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة "بَتَرَ"، ص212.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص458.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
273

241

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 والتوحيد، والعلم والحكمة، وفضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمقام المحمود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.، ونور قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم...1 وقد استند أصحاب الأقوال الأربع الأوائل إلى بعض الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وباقي الأقوال لا تخلو من تحكّم نظر لا يساعد عليه ظاهر السياق.

 
ويستظهر من قوله تعالى في آخر السورة: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾، ولا سيما بظهور لفظ "الأبتر" في المنقطع، أنّ المراد بالكوثر، كثرة ذرّيّته صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من مصاديق الخير الكثير. ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ خالياً عن الفائدة.
 
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ في مقام الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث جيء بلفظ المتكلّم مع الغير، الدالّ على تعظيم الإعطاء ومتعلّقه. وفي الآية تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة، حيث أُكِّدت الجملة بـ "إنّ"، وعُبِّرَ بلفظ الإعطاء، الظاهر في التمليك، وجيء بالفعل الماضي، ليُفيد الوقوع والتحقّق الحتميّ للإعطاء.
 
والآية لا تخلو من دلالة على أنّ ولدَ فاطمة عليها السلام هم ذرّيّته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في نفسه من إخبارات القرآن الكريم الغيبيّة، حيث كثَّر الله تعالى نسل نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، كثرة لا يُعادلهم فيها أيّ نسل آخر، مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة2.
 
الآية (2): ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾: 
ظاهر السياق، تفريع الأمر بالصلاة والنحر على الامتنان الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، وهما من باب شكر النعمة. فمعنى الآية: إذا مننّا عليك بإعطاء الكوثر، فاشكر لهذه النعمة.
 
وقد وردت في المراد بـ "النحر" أقوال عدّة، هي: 
• رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.
• صلّ لربّك صلاة العيد وانحر البدن. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص459-460.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص370-371.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

 


242

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 • صلّ لربّك، واستوِ قائماً عند رفع رأسك من الركوع.

 
وغيرها من الأقوال1. والقول الأوّل هو الصحيح، لأنّه الأوفق بظاهر السياق، وبما ورد في الروايات التفسيريّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، ومنها2:
• ما رواه عمر بن يزيد، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾: "هو رفع يديك حذاء وجهك". 
 
• ما رواه جميل بن درّاج، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، فقال: بيده هكذا - يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة -.
 
• ما رواه حمّاد بن عثمان، قال: سألت أبا عبد اللهعليه السلام ما النحر؟ فرفع يده إلى صدره، فقال: "هكذا"، ثمّ رفعها فوق ذلك، فقال: "هكذا"، يعني استقبَل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة.
 
• ما رواه مقاتل بن حيان، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "لمّا نزلت هذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل عليه السلام: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربّي؟ قال: ليست بنحيرة، ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة، أنْ ترفع يديك إذا كبّرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنّه صلاتنا، وصلاة الملائكة في السماوات السبع، فإنّ لكلّ شيء زينة، وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة".
 
الآية (3): ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾:
المراد بـ "الشانئ"، المبغض. وقد ورد في سبب النزول أنّ هذا الشانئ، هو: العاص بن وائل السهميّ.
 
وقد وردت في المراد بـ "الأبتر" أقوال عدّة:
• مَنْ لا عقب له. 
• المنقطع عن الخير. 
• المنقطع عن قومه.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص371.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص460-461.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

243

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 والصحيح من الأقوال المذكورة، هو القول الأوّل، لمناسبته ظاهر السياق، وكون الأوفق بما ورد في الروايات التفسيريّة، وسبب النزول1.

 
بحث تفسيري: حقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والوجوديّة على الإنسان2
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾3.4
 
1- حقيقة استجابة الدعاء:
الدعاء والدعوة، توجيه نظر المدعوّ نحو الداعي. والسؤال، جلب فائدة أو درٍّ من المسؤول، يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء، وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال، كالسؤال لرفع الجهل، والسؤال بمعنى الحساب، والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.
 
ثمّ إنّ العبوديّة، هي المملوكيّة، ولا كلّ مملوكيّة، بل مملوكيّة الإنسان، فالعبد، هو من الإنسان أو كلّ ذي عقل وشعور، كما في الملك المنسوب إليه تعالى. 
 
وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجدّ مع الدعوى، والحقيقة مع المجاز، فإنّه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم، لا يستقلّون دونه في أنفسهم، ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وسائر ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها، فكلّ 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص371.
2 انظر: م.ن، ج2، ص30-35.
3 سورة البقرة، الآية 186.
4 تَدَبُّر: تشتمل هذه الآية على أحسن بيان, لما اشتُمِلَ عليه من المضمون، وأرقّ أسلوب وأجمله, فقد وُضِعَ أساسه على التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها, وفيه دلالة على كمال العناية بالأمر، ثمّ قوله تعالى: ﴿عِبَادِي﴾، ولم يقل: "الناس" وما أشبهه, يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب, حيث قال تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، ولم يقل: "فقل إنّه قريب"، ثمّ التأكيد بـ"إن"، ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل, الدالّ على القرب, ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها, حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب, أي قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾, بقوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾, وهذا القيد لا يزيد على قوله تعالى: ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾, المقيّد به شيئاً، بل هو عينه, وفيه دلالة على أنّ دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد, كقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (سورة المؤمن، الآية 60), فهذه سبع نكات في الآية, تنبّئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم سبع مرّات, وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

244

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء، كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهي أقسام الملك بالطبع والحقيقة، وقولنا: زوجه، وماله، وجاهه، وحقّه، وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنّما يملكونه بإذنه تعالى، في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون - أيّاً ما كان - وتمليكه، فالله عزّ اسمه، هو الذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم، ولو لم يشاء، لم يضف، فلم يكونوا من رأس، وهو الذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الذي خلق كلّ شيء وقدّره تقديراً.

 
فهو سبحانه الحائل بين الشيء ونفسه، وهو الحائل بين الشيء وبين كلّ ما يُقارنه، من ولد، أو زوج، أو صديق، أو مال، أو جاه، أو حقّ، فهو أقرب إلى خلقه من كلّ شيء مفروض، فهو سبحانه قريب على الإطلاق، كما قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾2، وقال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾3
 
والقلب هو النفس المُدرِكَة. وبالجملة، فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقياً، وكونهم عباداً له، هو المُوجِب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق، وأقرب إليهم من كلّ شيء، عند القياس، وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء، كيفما شاء، من غير دافع، ولا مانع، يقضي أنّ لله سبحانه أن يُجيب أيّ دعاء دعى به أحد من خلقه، ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته التي سأله فيها، فإنّ الملك عامّ، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيّد بتقدير دون تقدير. فالملك لله سبحانه على الإطلاق، ولا يملك شيء شيئاً إلا بتمليك منه سبحانه وإذن، فما شاءه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملّك ولم يأذن فيه، لا يقع، وإنْ بذل في طريق وقوعه كلّ جهد وعناية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾4.
 
2- شروط استجابة الدعاء:
إنّ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، 



1 سورة الواقعة، الآية 85.
2 سورة ق، الآية 16.
3 سورة الأنفال، الآية 24.
4 سورة فاطر، الآية 15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277

245

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 كما يشتمل على الحكم، أي إجابة الدعاء، كذلك يشتمل على عِلَلِه، فكون الدّاعين عباداً لله تعالى، هو المُوجِب لقربه منهم، وقربه منهم، هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة، يستلزم إطلاق الدعاء، فكلّ دعاء دُعِيَ به تعالى، فإنّه مجيبه. 

 
ولكن، ههنا أمر، وهو أنّه تعالى قيّد قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾، بقوله: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيّد بشيء، يدلّ على اشتراط الحقيقة دون التجوّز والشبه، فقوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾، يدلّ على أنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة، مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي، مواطئاً لسانه قلبه، فإنّ حقيقة الدعاء والسؤال، هو الذي يحمله القلب، ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير، صدقاً أم كذباً، جدّاً أم هزلاً، حقيقةً أم مجازاً، ولذلك ترى أنّه تعالى عدّ ما لا عمل للسان فيه، سؤالاً، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾1، فهم، في ما لا يحصونها من النعم، داعون سائلون، ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم، لساناً فطريّاً وجوديّاً، وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾2، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.
 
فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطّى الإجابة، فما لا يُستَجاب من الدعاء، ولا يُصادف الإجابة، فقد فَقَدَ أحد أمرين، وهما اللذان ذكرهما بقوله تعالى: ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. فإمّا أن يكون لم يتحقّق هناك دعاء، وإنّما التبس الأمر على الداعي التباساً، كأن يدعو الإنسان، فيسأل ما لا يكون، وهو جاهل بذلك، أو ما لا يريده، لو انكشف عليه حقيقة الأمر، مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض، لا إحياء الميّت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته، كما كان يسأله الأنبياء عليهم السلام، لأُعيدت حياته، ولكنّه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته، لم يسأله، فلا يُستجاب له فيه. وإمّا أنّ السؤال متحقّق، لكن لا من الله وحده، كمن يسأل الله حاجة من حوائجه، وقلبه متعلّق بالأسباب العادية، أو بأمور وهميّة توهّمها كافية في أمره، أو مؤثّرة في شأنه، فلم يُخلِص الدعاء لله سبحانه، فلم يسأل الله بالحقيقة، فإنّ الله 



1 سورة إبراهيم، الآية 34.
2 سورة الرحمن، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278
 
 
 

246

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 الذي يُجيب الدعوات، هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يُخلصوا الدعاء بالقلب، وإنْ أخلصوه بلسانهم.

 
وقوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾، تفريع على ما تدلّ عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أنّ الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء، وهو ذو عناية بهم، وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليُقبِلُوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنّه قريب مجيب، لعلّهم يرشدون في دعائه.
 
3- الدعاء عبادة:
قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾1
 
الآية تدعو إلى الدعاء، وتَعِد بالإجابة، وتزيد على ذلك، حيث تُسمّي الدعاء عبادة، بقولها: "عن عبادتي"، أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء، حيث إنّها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار، والوعيد بالنار، إنّما هو على ترك العبادة رأساً، لا على ترك بعض أقسامه دون بعض، فأصل العبادة دعاء. وبذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب، كقوله تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾2، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾3، ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾4، ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾5، ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا *  قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾6، ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾7.



1 سورة المؤمن، الآية 60.
2 سورة المؤمن، الآية 14.
3 سورة الأعراف، الآية 56.
4 سورة الأنبياء، الآية 90.
5 سورة الأعراف، الآية 55.
6 سورة مريم، الآيتان 3-4.
7 سورة الشورى، الآية 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

247

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 3 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: بشارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باستمرار ذرّيّته/ قطع عقب المبغض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعيّر له بانقطاع ذرّيّته/ شكر المنعم/ الدعاء/ استمرار نور الرسالة/ يأس الكافرين من النيل من الدين/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن عابه أحدهم بأنّه مقطوع نسله وعقبه، فبشّره الله تعالى بأنّ من عابه هو مقطوع النسل، وأنّ عقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متكثّر خيراً كثيراً، وهذه النعمة تستوجب شكر المنعم بالدعاء والصلاة.

4- إنّ ملكه سبحانه وتعالى لعباده هو ملك حقيقي، وكونهم عباداً له، هو المُوجِب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق، وأقرب إليهم من كلّ شيء، عند القياس، وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء، كيفما شاء، من غير دافع، ولا مانع، يقضي أنّ لله سبحانه أن يُجيب أيّ دعاء دعا به أحد من خلقه، ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته التي سأله فيها. ولكنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة، مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي، مواطئاً لسانه قلبه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

248

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الكوثر

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- معنى "الكوثر": الخير الكثير. 
- المراد بـ "شانئك": رجل من اليهود عيّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانقطاع نسله بعد وفاة ابنه إبراهيم. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾؟ 
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

249

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

250

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بـ (الكافرون)، لورود ذِكْرهم في مستهلّ السورة ومفتتحها.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 6 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- معالم منهج الشرك وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
2- معالم منهج التوحيد وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.
3- ميل الفطرة الإنسانيّة إلى التوحيد ونفورها من الشرك.
4- اختلاف الهويّة الوجوديّة للإنسان الموحِّد عن المشرك.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قرأ ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، فكأنّما قرأ ربع القرآن، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويُعافى من الفزع الأكبر"1
 
• ما رواه جبير بن مطعم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتحبّ يا جبير أن تكون إذا خرجت سفراً من أمثل أصحابك هيئة، وأكثرهم زاداً؟" قلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: "فاقرأ هذه السور الخمس: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، و ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم". قال جبير: وكنت غير كثير المال، وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج، فأكون أكثرهم همّة، وأمثلهم زاداً، حتى أرجع من سفري ذلك2



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص462.
2 م.ن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285

251

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 • ما رواه فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه، أنّه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: جئتُ يا رسول الله لتعلّمني شيئاً أقوله عند منامي. قال: "إذا أخذت مضجعك، فاقرأ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، ثمّ نَم على خاتمتها، فإنّها براءة من الشرك"1.

 
• ما رواه شعيب الحدّاد، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان أبي يقول ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، ربع القرآن، وكان إذا فرغ منها، قال: اعبد الله وحده. اعبد الله وحده"2.
 
• ما رواه الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه السلام أنّه قال: "مَنْ قرأ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ في فريضة من الفرائض، غفر الله له ولوالديه وما ولد، وإنْ كان شقيّاً، مُحِيَ من ديوان الأشقياء، وكُتِبَ في ديوان السعداء، وأحياه الله سعيداً، وأماته شهيداً، وبعثه شهيداً"3.
 
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين، وقد احتمل بعضهم مدنيّتها4.
 
وواقع الحال أنّ هذه السورة مكّيّة، لكونها الأوفق بخصائص السور المكّيّة، مِنْ قصر آياتها، وطبيعة لحنها ولهجتها، ومحتواها.
 
وقد روي عن ابن عباس: أنّه نزلت السورة في نفر من قريش، منهم: الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن أسد، وأميّة بن خلف، قالوا: هلمّ يا محمد فاتّبع ديننا، نتّبع دينك، ونُشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإنْ كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا، كنّا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظّنا منه، وإنْ كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظّك منه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: معاذ الله أن أُشرِكَ به غيره. قالوا: 



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص462.
2 م.ن.
3 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص462.
4 انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص404, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص373.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
286

252

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك، ونعبد إلهك. فقال: حتّى أنظر ما يأتي من عند ربّي. فنزل ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ السورة. فعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثمّ قرأ عليهم، حتى فرغ من السورة. فأيسوا عند ذلك، فآذوه، وآذوا أصحابه1.

 
شرح المفردات
• الْكَافِرُونَ: "الكاف والفاء والراء أصل صحيح، يدلّ على معنى واحد، وهو الستر والتغطية... والكفر ضدّ الإيمان، سُمّي، لأنّه تغطية الحقّ، وكذلك كفران النعمة، جحودها وسترها"2.
 
• دِين: "الدال والياء والنون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلّها، وهو جنس من الانقياد والذلّ. فالدين، الطاعة"3. و"الدِّينُ يُقال للطاعة والجزاء، واستُعير للشريعة، والدِّينُ، كالملَّة، لكنّه يُقال اعتباراً بالطاعة والانقياد للشريعة، قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾4"5.
 
• أَعْبُدُ: "العين والباء والدالّ أصلان صحيحان، كأنّهما متضادّان، والأوّل من ذينك الأصلين، يدلّ على لين وذلّ، والآخر على شدّة وغلظ"6. و"العُبُودِيَّةُ: إظهار التّذلُّل، والعِبَادَةُ أبلغُ منها، لأنّها غاية التّذلُّل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو اللَّه تعالى، ولهذا قال: ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾7"8.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص463.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "كَفَرَ"، ص191. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "كَفَرَ"، ص714-716.
3 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "دَيَنَ"، 319.
4 سورة آل عمران، الآية 19.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "دَيَنَ"، ص323.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "عَبَدَ"، ص205.
7 سورة الإسراء، الآية 23.
8 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "عَبَدَ"، ص542.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
287

253

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 تفسير الآيات

 
الآية (1): ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾: 
الألف واللام في "الكافرون" عهديّة، تشير إلى قوم معهودين، لا كلّ كافر، ويؤيّد ذلك الإتيان باسم الإشارة للمُخَاطَب القريب، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبتهم وإعلان البراءة من دينهم، مع إخبارهم بامتناعهم عن دينه وبقائهم على الكفر مستقبلاً، وهذا الأمر مخصوص ببعض الكافرين في زمن الدعوة، حيث إنّه من المسلّمات التاريخيّة أنّ هناك أناساً من الكافرين، ممّن كانوا على كفرهم قبل نزول السورة، ثمّ أسلموا بعد نزولها1.
 
الآية (2): ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾
هذه الآية وما يلحقها من آيات إلى آخر السورة، هي مقول القول. 
 
المراد بـ "لا"، النفي الاستقباليّ. والمراد بـ ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾، الأصنام التي كانوا يعبدونها.
 
ومعنى الآية: لا أعبد أبداً ما تعبدونه أنتم اليوم من الأصنام2.
 
الآية (3): ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾:
نفي استقباليّ لعبادة الكافرين ما يعبُد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إخبار غيبيّ عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.
 
وبانضمام الأمر الذي في مفتتح الكلام "قل"، تفيد الآيتان: أنّ الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته، وأن أُخبركم أنّكم لا تعبدونه أبداً، فلا يقع بيني وبينكم اشتراك في الدين أبداً. فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾3، و ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾4. وكان من حقّ الكلام أن يُقال: ولا أنتم عابدون مَنْ أعبد، لأنّ "مَن" للعاقل، و"ما" لغير العاقل، ولكنْ قيل: ﴿مَا أَعْبُدُ﴾، ليطابق ما في قوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾5.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص373.
2 انظر: م.ن، ص373-374.
3 سورة يس، الآية 7.
4 سورة البقرة، الآية 6.
5 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص374.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
288

254

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 الآية (4): ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾:

تكرار لمضمون الآية السابقة: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾، زيادةً في التأكيد1.
 
الآية (5): ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾:
تكرار لمضمون الآية السابقة: ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، زيادةً في التأكيد2.
 
الآية (6): ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾:
تأكيد، بحسب المعنى، لما تقدّم، مِن نفي الاشتراك في المعبود والعبادة. واللام، للاختصاص، أي دينكم، وهو عبادة الأصنام يختصّ بكم ولا يتعدّاكم إلى وديني، الذي يختصّ بي ولا يتعدّاني إليكم3.
 
ويؤيّد حمل التكرار في هذه الآيات الثلاث الأخيرة على التأكيد، ما رواه محمد بن أبي عمير، قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول، عن قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، فهل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول، ويُكرّره مرّة 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص374.
تَدَبُّر: - إنّ "ما" في الجملتين الأولَيين موصولة، وفي الأخيرتين مصدريّة, فيكون المعنى هكذا: لا شركة بيني وبينكم, لا في المعبود، ولا في العبادة وطريقها. أمّا في المعبود, فإنّي أعبد الله الذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له في الذات والصفات، وأنتم تعبدون الآلهة التي تنحتونها. وأمّا في طريق العبادة, فإنّكم تعبدون وفق ما تستنسبون من مناسك تختلقونها بأنفسهم ما انزل الله بها من سلطان, فتصلّون حول الكعبة, بالمكاء والتصدية, أي بالتصفير والتصفيق: 
﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً﴾ (سورة الأنفال،الآية 35)، وأمّا أنا فأعبد الله وفق ما أمرني به.وعليه، فالجملة الأولى لنفي الحال والاستقبال, بمعنى: لا يمكن لي قبول ما طرحتم من عبادة آلهتكم, لا في الحال، ولا في المستقبل، ويكون معنى الجملة الثانية: ولا أنا عابد ما عبدتم: إنّي رسول الله، وليس من شأني ذلك! فإنّي قبل نزول الوحي والبعث بالرسالة, حينما كنتم تعبدون الحجارة والأخشاب كنت أعبد الله، فكيف والحال أنّي مبعوث من قبل الله؟!
- إنّ معبود الكفّار جاء في مورد بصيغة المضارع: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾، وفي مورد بصيغة الماضي: ﴿مَّا عَبَدتُّمْ﴾، ولعلّ الوجه في ذلك, هو الإشارة إلى أنّ معبودهم يتغيّر بتغيّر الأزمنة, كما كان دأبهم, فربّما رأوا حجراً أو خشباً يُعجبهم, فيتّخذونه صنماً، أو شيئاً من الطعام يأكلونه إذا احتاجوا إليه.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص374.
تَدَبُّر: الوجه في وحدة السياق في مورد الكفّار: ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾, بالجملة الاسمية, يكمن في أنّهم بفعل سوء اختيارهم وشقاوته، تمتنع عليهم عبادة الله في كلّ الأحوال، لا يُرجى بهم هداية عن ما يعبدون من أوثان.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص374-375.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
289

255

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 بعد مرّة، فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب، فدخل المدينة، فسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فقال: "كان سبب نزولها وتكرارها، أنّ قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فأجابهم الله بمثل ما قالوا، فقال، في ما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾، وفي ما قالوا: نعبد إلهك سنة ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، وفي ما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾، وفي ما قالوا: نعبد إلهك سنة ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾" ، قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك، فقال أبو شاكر: هذا ما حمله الإبل من الحجاز، وكان أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام، إذا فرغ من قراءتها، يقول: "ديني الإسلام" ثلاثا1.

 
ويُفَهم من تكرار الطلب في الرواية من قِبَل الكافرين، أنّهم كانوا يريدون المداومة على ذلك، عبادة آلهتهم سنة، ثمّ عبادة إله النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة، وهكذا دواليك. ولذا جاء الردّ الإلهيّ عليهم موافقاً لصيغة الطلب، بالنفي المؤبّد لعبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآلهتهم، والامتناع المؤبّد لعبادتهم لإله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
بحث تفسيريّ: العبوديّة2
1- مفهوم العبوديّة: 
العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربّه. والعبودية إنّما يستقيم بين العبيد ومواليهم في ما يملكه الموالي منهم، وأمّا ما لا يتعلّق به الملك من شؤون وجود العبد، ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلّق به عبادة ولا عبودية، لكنّ الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممّن سواه، ولا أنّ العبد يتبعّض في نسبته إليه تعالى، فيكون شيء منه مملوكاً وشيء آخر غير مملوك، ولا تصرُّف من التصرّفات فيه جائز وتصرُّف آخر غير جائز كما أنّ العبيد في ما بيننا شيء منهم مملوك وهو أفعالهم



1 القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص445-446.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص24-26, ج10، ص274-275, ج14، ص123-124, ج18، ص386-388.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
290

256

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 الاختيارية وشيء غير مملوك وهو الأوصاف الاضطرارية، وبعض التصرّفات فيهم جائز، كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز، كقتلهم من غير جرم مثلاً، والله تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد، وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد، فهناك حصر من جهتين، الربّ مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية، وهذه هي التي يدلّ عليها قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، حيث قُدِّمَ المفعول وأُطلقت العبادة. ثم إنّ الملك حيث كان متقوّم الوجود بمالكه، فلا يكون حاجباً عن مالكه ولا يُحجَب عنه... وما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط، وهذه حقيقته، فشيء منه في الحقيقة لا يُحجَب عنه تعالى، ولا النظر إليه يُجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾1.

 
2- العبادة نزوع فطري:
إذا قضى الإنسان أنّ للعالم إلهاً خلقه بعلمه وقدرته، لم يكن له بدّ من أن يخضع له خضوع عبادة، اتباعاً للناموس العام الكوني، وهو خضوع الضعيف للقوي، ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير، فإنّه ناموس عامّ جارٍ في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثّر الأسباب في مسبّباتها، وتتأثّر المسبّبات عن أسبابها. وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان، كان مبدأً للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوي، كما نُشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوّة القوي آيساً من الظهور عليه والقدرة على مقاومته. وظهوره في العالم الإنساني أوسع وأبين من سائر الحيوان، لما في هذا النوع من عمق الإدراك وخصيصة الفكر، فهو متفنّن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله، جلباً للنفع أو دفعاً للضرر، كخضوع الرعيّة للسلطان، والفقير للغني، والمرؤوس للرئيس، والمأمور للآمر، والخادم للمخدوم، والمتعلّم للعالم، والمحبّ للمحبوب، والمحتاج للمستغني، والعبد للسيّد، والمربوب للربّ. وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد، وهو تذلّل وهوان نفساني، قِبال عزّة وقهر مشهود، والعمل البدني الذي يظهر هذا التذلّل والهوان، هي العبادة، أيّاً ما كانت؟ وممّن ولمن تحقّقت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للربّ تعالى وبينه إذا تحقّق من العبد بالنسبة 



1 سورة فصلت، الآيتان 53-54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
291

257

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 إلى مولاه، أو من الرعية بالنسبة إلى السلطان، أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغني، أو غير ذلك، فالجميع عبادة. وعلى أيّ حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع، لاستناده إلى قضاء فطري، ليس للانسان أن يتجافى عنه، إلا أن يتبيّن له أنّ الذي كان يظنّه قويّاً ويستضعف نفسه دونه، ليس على ما كان يظنّه، بل هما سواء مثلاً. ومن هنا ما نرى أنّ الإسلام لم ينهَ عن اتّخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلا بعد ما بيّن للناس أنّهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأنّ العزّة والقوّة لله جميعاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾1. وقال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾2، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾3، حيث ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم، وقال تعالى: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾4، وقال: ﴿فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾5، وقال: ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾6، إلى غير ذلك من الآيات. فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممّن دونه، إلا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾7، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ




1 سورة الأعراف، الآية 194.
2 سورة الأعراف، الآيتان 197-198.
3 سورة آل عمران، الآية 64.
4 سورة البقرة، الآية 165.
5 سورة النساء، الآية 139.
6 سورة السجدة، الآية 4.
7 سورة الأعراف، الآية 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
292

258

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾1، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾2، وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾3، فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله، إلا ما يرجع إليه تعالى ويُقصَد به.

 
3- دواعي العبادة:
العبادة لأحد ثلاث خصال: إمّا رجاء لما عند المعبود من الخير، فيُعبد طمعاً في الخير الذي عنده، لينال بذلك، وإمّا خوفاً ممّا في الإعراض عنه وعدم الاعتناء بأمره من الشرّ، وإمّا لأنّه أهل للعبادة والخضوع. والله سبحانه هو المالك لكلّ خير، لا يملك شيء شيئاً من الخير، إلا ما ملَّكه هو إياه، وهو المالك مع ذلك لما ملَّكه، والقادر على ما عليه أقدره، وهو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز، وله كلّ اسم فيه معنى الخير، فهو سبحانه المستحقّ للعبادة، رجاءً لما عنده من الخير دون غيره. والله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء، وهو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شرّ لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحقّ لأن يُعبد خوفاً من غضبه، لو لم يخضع لعظمته وكبريائه. والله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده، لأنّ أهلية الشيء لأن يُخضَع له لنفسه ليس إلا لكمال، فالكمال وحده هو الذي يخضَع عنده النقص الملازم للخضوع، وهو إمّا جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً وإمّا جلال يخرّ عنده اللبّ ويذهل دونه القلب، وله سبحانه كلّ الجمال وما من جمال إلا وهو آية لجماله، وله سبحانه كلّ الجلال وكلّ ما دونه آيته. فالله سبحانه لا إله إلا هو ولا معبود سواه، لأنّه له الأسماء الحسنى.
 
4- حقّ العبوديّة:
إذا كان الله تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد "الربّ مقصور في المالكيّة"، وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد "العبد مقصور في العبوديّة"، فحقّ عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين. أمّا من جانب الرب عزّ وجلّ، فأن يُعبَد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾4 عن الغيبة إلى الحضور. وأمّا من جانب العبد، فأن تكون عبادته عبادة عبد حاضر من



1 سورة المائدة، الآية 55.
2 سورة التوبة، الآية 71.
3 سورة الزمر، الآية 3.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
293

259

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 غير أن يغيب في عبادته، فتكون عبادته صورة فقط من غير معنى، وجسداً من غير روح، أو يتبعّض، فيشتغل بربّه وبغيره: إمّا ظاهراً وباطناً، كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معاً، وإمّا باطناً فقط، كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض، كأن يعبد الله وهمّه في غيره، أو يعبد الله طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار، فإنّ ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾1، وقال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾2. فالعبادة إنّما تكون عبادة حقيقة، إذا كانت عن خلوص من العبد، وهو الحضور الذي ذكرناه، وقد ظهر أنّه إنّما يتمّ إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله، فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته، ولم يتعلّق قلبه في عبادته رجاءً أو خوفاً، هو الغاية في عبادته، كجنّة أو نار، فتكون عبادته له، لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه، فيكون منافياً لمقام العبودية التي لا تلائم الإنّيّة والاستكبار.

 
5- الغاية من العبادة:
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾3، وقوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، استثناء من النفي، لا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً، وأنّ الغرض العبادة، بمعنى كونهم عابدين لله، لا كونه معبوداً، فقد قال: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾، ولم يقل: "لأُعبد" أو "لأكون معبوداً لهم". على أنّ الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض ويرتفع به حاجته، والله سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة له حتى يستكمل به ويرتفع به حاجته. ومن جهة أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي. ويستنتج منه: أنّ له سبحانه في فعله غرضاً هو ذاته لا غرض خارج منه، وأنّ لفعله غرضاً يعود إلى نفس الفعل، وهو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليه هي وما يتبعها من الآثار، كالرحمة والمغفرة وغير ذلك، ولو كان للعبادة غرض، كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله، كان هو الغرض الأقصى، والعبادة غرضاً متوسطاً.



1 سورة الحج، الآية 32.
2 سورة الفاتحة، الآية 4.
3 سورة الزمر، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
294

 


260

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، تتضمّن 6 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: منهج الشرك/ منهج التوحيد/ الفطرة الإنسانيّة والتوحيد/ ...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قل يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكافرين من قريش لا أعبد ما تعبدون من الأصنام وغيرها من دون الله، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لأنّ معبودي هو الله وعبادتي ما شرّع الله، وعبادتكم ما ابتدعتموه جهلاً وافتراءً، فلكم دينكم الذي لا يتعدّاكم إليّ، وهو عبادة الأصنام، ولي ديني، الذي لا يتعدّاني إليكم، وهو دين التوحيد.

4- العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربّه. والله تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد، وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد، فهناك حصر من جهتين، الربّ مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية. وحقّ عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين، أمّا من جانب الربّ عزّ وجلّ، فأن يُعبَد عبادة معبود حاضر. وأمّا من جانب العبد، فأن تكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته، فتكون عبادته صورة فقط من غير معنى، وجسداً من غير روح، أو يتبعّض، فيشتغل بربّه وبغيره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
295

261

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الكافرون

فكّر وأجب
 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، فكأنّما قرأ ربع القرآن. 
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "يا أيها الكافرون": بعض كفّار قريش. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
296

262

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
 
﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
297

263

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالنصر، لورود ذِكْره في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 3 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- عوامل النصر وآثاره.
2- ضرورة المحافظة على النصر ومكتسباته.
3- متابعة العمل على مراكمة مكتسبات النصر.
4- النصر نعمة إلهيّة تستوجب الشكر.
5- استمرار بركات النصر باستمرار حالة الطاعة والشكر، وزوالها بطرو حالة العصيان والكفر.
6- حالة الاستغفار والتوبة تُهيّىء أرضيّة النصر من جديد.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، فكأنّما شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكّة"1
 
• ما رواه كرام الخثعمي، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ قرأ ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ في نافلة، أو فريضة، نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم، ومن النّار، ومن زفير جهنّم، يسمعه بأذنيه، فلا يمرّ على شيء يوم القيامة، إلا بشّره، وأخبره بكلّ خير، حتّى يدخل الجنّة"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص466.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
299

264

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 خصائص النزول

هذه السورة مدنيّة باتّفاق المفسِّرين، لا خلاف بينهم في ذلك. 
 
وقيل: إنّها نزلت بعد فتح مكّة في العام الثامن للهجرة، لما رواه مقاتل: لمّا نزلت هذه السورة قرأها صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه، ففرحوا واستبشروا، وسمعها العبّاس، فبكى. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يُبكيك يا عمّ؟ فقال: أظنّ أنّه قد نُعيت إليك نفسك يا رسول الله. فقال: إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين، ما رُؤي فيهما ضاحكاً مستبشراً1.
 
وقيل: إنّها نزلت بعد صلح الحديبيّة في العام السادس للهجرة وقبل فتح مكّة في العام الثامن للهجرة، لمناسبة سياق الآيات الظاهرة في تحقّق النصر والفتح في ظرف الاستقبال2.
 
ويمكن الجمع بين الرواية وظهور السياق في الاستقبال، بأنّها نزلت بعد صلح الحديبيّة في العام السادس للهجرة وقبيل فتح مكّة في العام الثامن للهجرة بمدّة وجيزة.
 
وهذه السورة من أواخر السور التي نزلت كاملة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما رواه الحسين بن خالد: قال الرضا عليه السلام: "سمعت أبي يُحدّث، عن أبيه عليهما السلام: أنّ أول سورة نزلت ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، وآخر سورة نزلت ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ﴾"3.
 
شرح المفردات
• الْفَتْحُ: "الفاء والتاء والحاء أصل صحيح، يدلّ على خلاف الإغلاق... والفتح، النصر والإظفار"4.
 
• أَفْوَاجًا: "الفاء والواو والجيم كلمة، تدلّ على تجمّع"5. و"الفَوْجُ: الجماعة المارّة المسرعة. وجمعه: أَفْوَاجٌ. قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾6، ﴿هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ﴾7، ﴿فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾"8.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص466، ص466- 467, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص406.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص376.
3 ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): عيون أخبار الرضا، تصحيح وتعليق وتقديم: حسين الأعلمي، لا.ط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404هـ.ق/ 1984م، ج2، باب 30، ح12، ص9.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "فَتَحَ"، ص469.
5 م.ن، مادّة "فَوْج"، ص458.
6 سورة الملك، الآية 8.
7 سورة ص، الآية 59.
8 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "فَوْج"، ص646.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
300

265

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 تفسير الآيات

الآية (1): ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾
"إذا" ظاهرة في الاستقبال. والآية إخبار عن تحقّق أمر لم يتحقّق بعد. 
 
وفي الآية تبشير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والفتح في مستقبل الأيام، بما تقرّ به عينه صلى الله عليه وآله وسلم.
 
واختلف المفسِّرون في المراد بـ ﴿نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، على أقوال، هي:
• جنس النصر والفتح، الصادق على جميع المواقف التي أيّد الله فيها نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه، وأظهر دينه على دينهم، كما في حروبه، ومغازيه، وإيمان الأنصار وأهل اليمن به. 
 
• صلح الحديبيّة في العام السادس للهجرة، الذي سمّاه الله تعالى فتحاً، إذ قال عنه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾1.
 
• فتح مكّة في العام الثامن للهجرة، الذي يُعدّ أم فتوحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، والنصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في شبه الجزيرة العربيّة.
 
والأوفق بين الأقوال، هو القول الثالث، ويؤيده: وعد النصر الذي جاء في الآيات النازلة في الحديبية: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾2، فإنّ من القريب جدّاً أن يكون ما في هذه الآيات، وعداً بنصر عزيز يرتبط بصلح الحديبية، وهو نصره تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على قريش، حتّى فتح مكة، بعد مضي سنتين من صلح الحديبيّة. 
 
وأمّا القولان الأوّلان، بالحمل على جنس النصر والفتح أو على خصوص صلح الحديبيّة، فلا يلائمهما قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾3.
 
الآية (2): ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾: 
الأفواج، هم الجماعات المارّة المسرعة. والآية تبشير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الناس في دين الله، أي الإسلام، جماعة بعد جماعة في مستقبل الأيام4.



1 سورة الفتح، الآية 1.
2 سورة الفتح، الآيات 1-3.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص376-377.
4 انظر: م.ن، ص377.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
301

 


266

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 الآية (3): ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾:

لمّا كان هذا النصر والفتح، إذلالاً منه تعالى للشرك، وإعزازاً للتوحيد، وإبطالاً للباطل، وإحقاقاً للحقّ، ناسب المقام:
• تنزيه الله تعالى وتسبيحه، عن الشرك والكفر.
• حمد الله تعالى وشكره، على نعمة النصر والفتح.
 
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾، تعليل للأمر بالاستغفار، للحثّ والتأكيد على لزوم الإنسان له في علاقته مع ربّه1.
 
بحث تفسيريّ: التوبة والاستغفار2
1- حقيقة التوبة: 
إنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإنّ العبد لا يستغني عن ربّه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتّى يتحقّق منه التوبة، ثمّ تمسّ الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قُبِلَت كانت بين توبتين من الله، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾3.
 
والتوبة من العبد، حسنة تحتاج إلى قوّة، والحسنات من الله، والقوّة لله جميعاً، فمِنَ الله توفيق الأسباب، حتّى يتمكّن العبد من التوبة، ويتمشّى له الانصراف عن التوغّل في غمرات البعد والرجوع إلى ربّه، ثمّ إذا وُفِّق للتوبة والرجوع، احتاج في التطهّر من هذه الألواث وزوال هذه القذارات، والورود والاستقرار في ساحة القرب، إلى رجوع آخر من ربّه إليه، بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
 
وهذان الرجوعان من الله سبحانه، هما: التوبتان الحافّتان لتوبة العبد ورجوعه، قال 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص377.
تَدَبُّر: إنّ للربّ تعالى على عبده أن يذكرَه بصفات كماله، ويذكر نفسه, بما له من النقص والحاجة. ولمّا كان في هذا الفتح فراغه صلى الله عليه وآله وسلم من جلّ ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل وقطع دابر الفساد, أمره الله تعالى أن يذكره عند ذلك بجلاله, وهو التسبيح، وجماله, وهو التحميد، وأن يذكره بنقص نفسه وحاجته إلى ربّه, وهو طلب المغفرة, ومعناه فيه صلى الله عليه وآله وسلم - وهو مغفور - سؤال إدامة المغفرة, فإنّ الحاجة إلى المغفرة بقاءً, كالحاجة إليها حدوثاً.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص133, ج4، ص244-251.
3 سورة التوبة، الآية 118.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
302

267

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾1، وهذه هي التوبة الأولى، وقال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾2، وهذه هي التوبة الثانية، وبين التوبتين منه تعالى، توبة العبد.

 
2- التوبة منحة إلهيّة:
لمّا كان نجاح التوبة، إنّما هو لوعد وعده الله عباده، فأوجبها بحسبه على نفسه لهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾3، فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده، لكن لا على أنّ لغيره أن يُوجِب عليه شيئاً، أو يُكلّفه بتكليف، سواء سمّى ذلك الغير بالعقل، أم نفس الأمر، أم الواقع، أم الحقّ، أم شيئاً آخر، تعالى عن ذلك وتقدّس، بل على أنّه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم، وهو لا يُخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله، في ما يجب، وهو - أيضاً - معنى وجوب كلّ ما يجب على الله من الفعل.
 
3- عموم التوبة للمؤمن والكافر:
التوبة أعمّ ممّا إذا تاب العبد من الشرك والكفر، بالإيمان، أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان، فإنّ القرآن يُسمّي الأمرين جميعاً، بالتوبة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾4، يريد للذين آمنوا بقرينة أوّل الكلام، فسمّى الإيمان توبة، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾5. والدليل على أنّ المراد هي التوبة، أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية، التعميم الموجود في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ



1 سورة التوبة، الآية 118.
2 سورة البقرة، الآية 160.
3 سورة النساء، الآية 17.
4 سورة غافر، الآية 7.
5 سورة التوبة، الآية 118.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
303

268

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾1، فإنّها تتعرّض لحال الكافر والمؤمن معاً.

 
وعلى هذا، فالمراد بقوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوَءَ﴾، ما يعمّ حال المؤمن والكافر معاً، فالكافر، كالمؤمن الفاسق، ممّن يعمل السوء بجهالة، إمّا لأنّ الكفر من عمل القلب، والعمل أعمّ من عمل القلب والجوارح، وإمّا لأنّ الكفر لا يخلو من أعمال سيّئة من الجوارح، فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة، الكافر والفاسق، إذا لم يكونا معاندين في الكفر والمعصية.
 
4- التوبة عن جهالة:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾2، الجهل يُقابل العلم، بحسب الذات، غير أنّ الناس لمّا شاهدوا من أنفسهم أنّهم يعملون كلّاً من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة، وأنّ الإرادة، إنّما تكون عن حبّ ما وشوق ما، سواء أكان الفعل ممّا ينبغي أن يُفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع، أو ممّا لا ينبغي أن يُفعل، لكن مَنْ له عقل مميّز في المجتمع عندهم، لا يُقدِم على السيّئة المذمومة عند العقلاء، فأذعنوا بأنّ مَن اقترف هذه السيّئات المذمومة، لهوى نفسانيّ، وداعية شهويّة، أو غضبيّة، خفي عليه وجه العلم، وغاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحسن والقبيح، والممدوح والمذموم، وظهر عليه الهوى، وعندئذ يُسمّى حاله في علمه وإرادته، جهالة في عرفهم، وإنْ كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم، لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم، بوجه قبح الفعل وذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة، أُلحِقَ بالعدم، فكان هو جاهلاً عندهم، حتّى أنّهم يُسمّون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلاً، لغلبة الهوى، وظهور العواطف والإحساسات الدنيئة على نفسه، ولذلك -أيضاً- تراهم لا يُسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى والعاطفة، جهالة، بل يُسمّونها عناداً وعمداً، وغير ذلك.
 
فتبيّن بذلك، أنّ الجهالة في باب الأعمال، إتيان العمل عن الهوى، وظهور الشهوة، والغضب، من غير عناد مع الحقّ. 



1 سورة النساء، الآية 18.
2 سورة النساء، الآية 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
304

269

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 ومن خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة: أنّه إذا سكنت ثورة القوى، وخمد لهيب الشهوة أو الغضب، باقتراف للسيّئة، أو بحلول مانع، أو بمرور زمان، أو ضعف القوى، بشيب أو مزاج، عاد الإنسان إلى العلم، وزالت الجهالة، وبانت الندامة، بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمّد ونحوهما، فإنّ سبب صدوره لمّا لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانيّة، بل أمراً يُسمّى عندهم بخبث الذات، ورداءة الفطرة، لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعاً أو بطيئاً، بل دام نوعاً بدوام الحياة، من غير أن يلحقه ندامة من قريب، إلا أن يشاء الله.

 
نعم ربّما يتّفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحقّ، فيتواضع للحقّ، ويدخل في ذلّ العبوديّة، فيكشف ذلك عندهم عن أنّ عناده كان عن جهالة، وفي الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق، إلا مَنْ لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية. ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾، أي إنّ عامل السوء بجهالة لا يُقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته، من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح، كما يدوم عليه المعاند اللجوج، بل يرجع عن عمله من قريب، فالمراد بالقريب: العهد القريب أو الزمان القريب، وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾1.



1 سورة النساء، الآية 18.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
305

270

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة، تتضمّن 3 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: عوامل النصر وآثاره/ المحافظة على النصر ومكتسباته/ متابعة العمل على مراكمة مكتسبات النصر/ النصر نعمة إلهيّة تستوجب الشكر/ حالة الاستغفار والتوبة تُهيّىء أرضيّة النصر من جديد/.

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: بشرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتح مكّة، وقد انهدم بنيان الشرك في جزيرة العرب، ودخلت جماعات بعد أخرى في دين الإسلام. وهذه النعمة تستوجب تسبيح الله تعالى، تنزيهاً له تعالى عن الشريك، بعد أن أبطل الباطل وأحقّ الحقّ، وحمده تعالى على نعمة الإسلام والتوحيد، وإدامة حالة الاستغفار والرجوع إلى الله تعالى بالتوبة.

4- إنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإنّ العبد لا يستغني عن ربّه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتّى يتحقّق منه التوبة، ثمّ تمسّ الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قُبِلَت كانت بين توبتين من الله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
306

271

الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النصر

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- مَنْ قرأ هذه السورة، فكأنّما شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكّة. 
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- المراد بـ "الفتح": صلح الحديبيّة. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
307

272

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
309

273

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالتوحيد، لأنّه ليس فيها إلا التوحيد.
 
ويوجد تسميات أخرى لهذه السورة ورد ذكرها في الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهارعليهم السلام، وتداولها المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وهي: 
• "الإخلاص"، وسبب التسمية بذلك: أنّ كلمة التوحيد تُسمّى كلمة الإخلاص، أو لأنّ مَنْ تمسّك بما فيها، اعتقاداً وإقراراً، كان مؤمناً مخلصاً، أو لأنّ مَن قرأها على سبيل التعظيم، أخلصه الله من النار، أي أنجاه منها. 
 
• "الصمد"، لورود ذِكْر هذه الصفة في السورة.
 
• "نسبة الربّ"، حيث رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّ لكلّ شيء نسبة، ونسبة الربّ، سورة الإخلاص".
 
وغيرها من الأسماء1.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 4 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- التوحيد أساس الدين ومحوره.
2- أحديّة الذات الإلهيّة المقدّسة.
3- مراتب التوحيد.
4- آثار التوحيد على تكامل الإنسان.



1 لمزيد من الاطّلاع، انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص479.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
311

274

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 فضيلة السورة

• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأها، فكأنّما قرأ ثلث القرآن، وأُعطِيَ من الأجر عشر حسنات، بعدد مَنْ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"1
 
• ما رواه أبو الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ قلت: يا رسول الله! ومَنْ يطيق ذلك؟ قال: اقرأوا ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾"2.
 
• ما رواه أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مرّة، بُورِكَ عليه، فإنْ قرأها مرّتين، بُورِكَ عليه وعلى أهله، فإنْ قرأها ثلاث مرّات، بُورِكَ عليه وعلى أهله وعلى جميع جيرانه، فإنْ قرأها اثنتي عشرة مرّة، بُنِيَ له اثنا عشر قصراً في الجنّة، فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا، فإنْ قرأها مائة مرّة، كُفِّرَ عنه ذنوب خمس وعشرين سنة، ما خلا الدماء والأموال، فإنْ قرأها أربعمائة، كُفِّرَ عنه ذنوب أربعمائة سنة، فإنْ قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه من الجنّة، أو يُرَى له"3.
 
• ما رواه سهل بن سعد الساعدي: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا إليه الفقر، وضِيق المعاش. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخلت بيتك، فسلّم، إنْ كان فيه أحد، وإنْ لم يكن فيه أحد، فسلّم واقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مرّة واحدة". ففعل الرجل، فأفاض الله عليه رزقاً، حتّى أفاض على جيرانه4
 
• ما رواه أبو بكر الحضرمي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فإنّه مَنْ قرأها، جُمِعَ له خير الدنيا والآخرة، وغَفَرَ الله له ولوالديه، وما ولد"5.
 
• ما رواه عبد الله بن حجر، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "مَنْ قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ إحدى عشرة مرّة، في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، وأرغم أنف الشيطان"6.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص479.
2 م.ن.
3 م.ن، ص479-480.
4 م.ن، ص480.
5 م.ن.
6 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
312

275

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 • ما رواه السكوني، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى على سعد بن معاذ، فلمّا صلّى عليه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك، وفيهم جبرائيل عليه السلام، يُصلّون عليه. فقلت: يا جبرائيل! بِمَ استحقّ صلاتكم عليه؟ قال: بقراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، قاعداً وقائماً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً"1.

 
• ما رواه منصور بن حازم، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَنْ مضى به يوم واحد، فصلّى فيه الخمس صلوات، ولم يقرأ فيها بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، قِيل له: يا عبد الله لست من المصلّين"2. 
 
وغيرها روايات كثيرة3.
 
خصائص النزول
هذه السورة المباركة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين4، ويؤيّد ذلك، قصر مقاطع آياتها، وقوّة لهجتها، وطبيعة لحنها، ومحاورها المطروحة، وما ورد من روايات في أسباب نزولها، منها:
• روي عن أُبَي بن كعب وجابر بن عبد الله الأنصاري: أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنسب لنا ربّك، فنزلت السورة. 
 
• روي عن ابن عباس: أنّه أتى عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخو لبيد، النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عامر: إلى ما تدعونا يا محمد؟ فقال: إلى الله. فقال: صفه لنا؟ أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد، فأحرقته، وطعن عامر في خنصره، فمات.
 
• روي عن الضحّاك وقتادة ومقاتل: أنّه جاء أُنَاس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد! صِف لنا ربّك، لعلّنا نؤمن بك، فإنّ الله أنزل نعته في التوراة؟ فنزلت السورة، وهي نسبة الله خاصّة.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص480.
2 م.ن.
3 لمزيد من الاطّلاع، انظر: م.ن، ص479-480.
4 انظر: م.ن، ص479, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص409-411, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص387.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
313

276

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 • روى محمد بن مسلم، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: انسب لنا ربّك؟ فمكث ثلاثاً لا يُجيبهم، ثمّ نزلت السورة". 

 
وغيرها من الروايات الواردة في بيان أسباب النزول1.
 
وتجدر الإشارة إلى عدم تضادّ هذه الروايات، حيث يمكن أن تكون السورة نازلة في مقام الإجابة عن أسئلتهم جميعاً في هذا الصدد.
 
شرح المفردات
• أَحَدٌ: "الهمزة والحاء والدالّ فرع، والأصل الواو"2. و"الواو والحاء والدال أصل واحد، يدلّ على الانفراد. من ذلك، الوحدة"3. و"الوحدة: الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتّة، ثمّ يُطلَق على كلّ موجود، حتى إنّه ما مِن عدد إلَّا ويصحّ أن يُوصَف به، فيقال: عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد، فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستّة أوجه: الأوّل: ما كان واحداً في الجنس، أو في النّوع، كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، وزيد وعمرو واحد في النّوع. الثاني: ما كان واحداً بالاتّصال، إمّا من حيث الخلقة، كقولك: شخص واحد، وإمّا من حيث الصّناعة، كقولك: حرفة واحدة. الثالث: ما كان واحداً لعدم نظيره، إمّا في الخلقة، كقولك: الشّمس واحدة، وإمّا في دعوى الفضيلة، كقولك: فلان واحد دهره، وكقولك: نسيج وحده. الرابع: ما كان واحداً لامتناع التّجزّي فيه، إمّا لصغره، كالهباء، وإمّا لصلابته، كالألماس. الخامس: للمبدأ، إمّا لمبدأ العدد، كقولك: واحد اثنان، وإمّا لمبدأ الخطّ، كقولك: النّقطة الواحدة. والوحدة في كلّها عارضة، وإذا وصف اللَّه تعالى بالواحد فمعناه: هو الذي لا يصحّ عليه التّجزّي ولا التكثّر... وأحد مطلقاً لا يُوصَف به غير اللَّه تعالى"4.
 
• الصَّمَدُ: "الصاد والميم والدالّ أصلان، أحدهما: القصد، والآخر: الصلابة في



1 لمزيد من الاطّلاع، انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص485.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة "أَحَدَ"، ص67.
3 م.ن، ج6، مادّة "وَحَدَ"، ص90.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَحَدَ"، ص857-858.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
314

277

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 الشيء"1. و"الصَّمَدُ: السَّيِّدُ، الذي يُصْمَدُ إليه في الأمر، وصَمَدَه: قصد معتمداً عليه قصده، وقيل: الصَّمَدُ الذي ليس بأجوف، والذي ليس بأجوف شيئان: أحدهما: لكونه أدون من الإنسان، كالجمادات، والثاني: أعلى منه، وهو الباري والملائكة، والقصد بقوله: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، تنبيهاً أنّه بخلاف مَنْ أثبتوا له الإلهيّة، وإلى نحو هذا أشار بقوله: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾2".3

 
• كُفُوًا: "الكاف والفاء والهمزة أصلان، يدلّ أحدهما: على التساوي في الشيئين، ويدلّ الآخر: على الميل والإمالة والاعوجاج. فالأوّل: كافأت فلاناً، إذا قابلته بمثل صنيعه. والكفء المثل. قال الله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾"4. و"قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، أي نظيراً ومساوياً"5.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾: 
هو، ضمير الشأن والقصة، لإفادة الاهتمام بمضمون الجملة التالية له. 
 
ولفظ الجلالة "الله"، عَلَم بالغلبة له تعالى باللغة العربيّة، كما أنّ له تعالى في غيرها من اللغات اسماً خاصّاً به.
 
و"أحد"، وصف مأخوذ من الوحدة، كالواحد، غير أنّ الأحد، إنّما يُطلَق على ما لا يقبل الكثرة، لا في ظرف الواقع الخارجي ولا في ظرف الواقع الذهنيّ، ولذلك لا يقبل العدّ، ولا يدخل في العدد، بخلاف الواحد، فإنّ كلّ واحد يمكن أن يُفرَض له ثانياً وثالثاً ...، إمّا في الواقع الخارجي وإمّا في الواقع ذهني والمفاهيمي، بتوهّم أو بفرض العقل واعتباره، فيصير بانضمامه كثيراً. وأمّا الأحد، فكلّ ما فُرِضَ له ثانياً، كان هو هو لم يزدْ عليه شيء. ولتوضيح المسألة: عندما تقول: ما جاءني من القوم أحد، فإنّك تنفي به ضمنلً مجيء اثنين منهم




1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة "صَمَدَ"، ص309.
2 سورة المائدة، الآية 75.
3 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "صَمَدَ"، ص492-493.
4 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "كَفَء"، ص189.
5 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "كَفَا"، ص359.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
315

278

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 أو أكثر، فضلاً عن نفيك مجيء واحد منهم، فلا يسألك سائل: هل جاءك اثنان أو ثلاثة! بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم، فإنّك إنّما تنفي به مجيء واحد منهم بالعدد، ولا ينافيه مجيء اثنين منهم أو أكثر، ولسائل أن يسأل: هل جاءك اثنان أو ثلاثة أو ... ولإفادة لفظ "أحد" هذا المعنى، فإنّه لا يُستعمل في الإيجاب مطلقاً إلا في الله تعالى1.

 
الآية (2): ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾: 
الأصل في معنى الصمد، القصد، أو القصد مع الاعتماد.
وقد ذكر المفسّرون في معنى الصمد أقوالاً عدّة، أبرزها:
• المصمود، أي المقصود في الحوائج على الإطلاق، فالله تعالى هو المُوجِد لكلّ ذي وجود، بحيث يحتاج كلّ من هو سواه، في أصل وجوده وفي استمرار وجوده: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾2، فهو الصمد في كلّ حاجة في الوجود. 
 
• المصمّد، الذي ليس بأجوف، فلا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام، ولا يلد، ولا يولد، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾، تفسيراً للصمد3.
 
وروي عن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال: "حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام أنّه قال: الصمد الذي لا جوف له. والصمد الذي قد انتهى سؤدده. والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد الذي لا ينام. والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال...



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص387.
2 سورة الأعراف، الآية 54.
3 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص388.
تَدَبُّر: إنّ المتدبِّر في هذه الآية الكريمة، يستفيد منها بعض النكات اللطيفة، وهي: 
- وجه دخول اللام في "الصمد", لإفادة الحصر, فهو تعالى وحده الصمد على الإطلاق. وهذا بخلاف "أحد" في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾, فإنّ أحداً, بما يفيده من معنى الوحدة الخاصة، لا يُطلَق في مقام الإثبات على غيره تعالى, فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر. 
- وجه إظهار اسم الجلالة "الله" ثانياً: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، ولم يقل: "هو الصمد"، أو "الله أحد صمد", لعلّه للإشارة إلى كون كلّ من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى, حيث إنّ المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختصّ به, فقيل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾, للتنبيه على أنّ المعرفة به تعالى حاصلة, سواء قيل كذا أم قيل كذا, كما في قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى...﴾ (الإسراء: 110).
- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾, وصف لمقام أحديّة الذات, الذي هو عين الذات المقدّسة.
- قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾, صفة جامعة للصفات الفعليّة للذات المقدّسة, بلحاظ رجوع كلّ شيء إليه تعالى.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
316

279

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 والصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه. قال: وسُئِلَ علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام عن الصمد، فقال: الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شي، ولا يعزب عنه شيء"1.

 
وبملاحظة ما ورد في هذه الرواية، يُستفاد أنّ الأصل في هذه المعاني كلّها هو المعنى الأوّل، بوصفه معنىً جامعاً لها، ترجع إليه المعاني الأخرى المذكورة.
 
الآية (3): ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾
مستهلّ الآية ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، تنزيه لله تعالى عن أن يلد شيئاً، بأن ينفصل عنه شيء من سنخه، بأيّ معنى أريد من الانفصال، كما يقول به النصارى في المسيح عليه السلام، أنّه ابن الله، وكما يقول به الوثنية في بعض آلهتهم، أنّهم أبناء الله سبحانه تعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً.
 
وذيل الآية ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾، تنزيه لله تعالى عن أن يكون متولّداً من شيء آخر ومشتقّاً منه، بأيّ معنى أُرِيدَ من الاشتقاق، كما يقول به الوثنية، ففي آلهتهم مَنْ هو إله، أبو إله، ومن هو إلهة، أم إله، ومن هو إله، ابن إله2.
 
الآية (4): ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾:
الآية تنزيه لله تعالى عن أن يكون له كفؤ، يعدله في ذاته أو في فعله، وهو الإيجاد والتدبير. 
 
ولم يقل أحد من الملّيّين وغيرهم بالكفؤ الذاتي، بأن يقول بتعدّد واجب الوجود عزّ اسمه، وأمّا الكفؤ في فعله، وهو التدبير، فقد قيل به، كآلهة الوثنيّة من البشر، كفرعون، ونمرود من المدّعين للألوهيّة، وملاك الكفاءة عندهم، استقلال مَنْ يرون ألوهيّته في تدبير ما فُوِّضَ إليه تدبيره، كما أنّه تعالى مستقلّ في تدبير مَنْ يدبّره، فهم الأرباب والآلهة، وهو ربّ الأرباب وإله الآلهة.



1 الصدوق، التوحيد، م.س، باب4، ح3، ص90.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص388-389.
تَدَبُّر: وجه تقديم قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، على قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾، مع أنّ مقتضى الجري الطبيعيّ أن يُقال أوّلاً: "لم يولد"، ثمّ يُقال: "لم يلد". ونكتة ذلك: الردّ على عقيدة المشركين وأهل الكتاب الذين ادّعوا أنّ لله تعالى ولداً، ولم يدّعِ أحد منهم أنّه عزّ وجلّ متولِّد من شيء: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (سورة التوبة، الآية 30)، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ (سورة المائدة، الآية 18).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
317

280

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 ومعنى كفاءة هذا النوع من الآلهة، استقلاله في فعله التدبيريّ واستغناؤه عن كلّ مَنْ سواه، والحال أنّه غير مستقلّ عن الله تعالى، لاحتياجه إليه، بإقرارهم أنّ الله تعالى هو ربّ الأرباب وإله الآلهة: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾1، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾2.

 
فالآية في مقام نفي الكفاءة بهذا المعنى، الكفاءة الذاتيّة والكفاءة الفعليّة.
 
وهذه الصفات الثلاث المنفية في هذه الآية والآية السابقة عليها، وإنْ أمكن تفريع نفيها على صفة أحديّته تعالى بوجه، لكنّ الأسبق إلى الذهن تفرّعها على صفة صمديّته. ووجه التفريع:
• أمّا كونه لم يلد، فإنّ الولادة التي هي نوع من التجزّي والتبعّض، بأيّ معنى فُسِّرَت، لا تخلو من تركيب في مَنْ يَلِد، وحاجة المركَّب إلى أجزائه ضروريّة. والله سبحانه صمد ينتهي إليه كلّ محتاج في حاجته ولا حاجة له البتّة. 
 
• وأمّا كونه لم يولد، فإنّ تولُّدَ شيء مِن شيء آخر، لا يتمّ إلا مع حاجة من المتولِّد إلى ما وُلِدَ منه في وجوده. وهو سبحانه صمد لا حاجة له. 
 
• وأمّا أنّه لا كفؤ له، فلأنّ الكفؤ، سواء أفُرِضَ كفواً له في ذاته، أم في فعله، لا تتحقّق كفاءته إلا مع استقلاله واستغنائه عنه تعالى، في ما فيه الكفاءة. والله سبحانه صمد على الإطلاق يحتاج إليه كلّ مَنْ سواه، من كلّ جهة مفروضة.
 
ويويّد هذا التفريع على صفة الصمديّة، وما تقدّم في معناها ومعنى الصفات الثلاث المنفيّة عنه تعالى، ما ورد في الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام، ومنها: 
• ما رواه وهب بن وهب القرشي، قال: حدّثني الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر، عن أبيه عليهم السلام: "أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما السلام، يسألونه عن الصمد، فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مَنْ قال في القرآن بغير علم، فليتبوّء مقعده من النار، وإنّ الله 



1 سورة الزمر، الآية 3.
2 سورة الزخرف، الآية 87.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
318

281

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 سبحانه قد فسّر الصمد، فقال: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، ثمّ فسّره، فقال: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾. ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف، كالنفس، ولا يتشعّب منه البدوات، كالسِنَة والنوم، والخطرة والهمّ، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولَّد منه شيء كثيف أو لطيف. ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾، لم يتولّد من شيء ولم يخرج من شيء، كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشمّ من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتميّز من القلب، وكالنار من الحجر، لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشىء الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الله الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ولم يكن له كفواً أحد"1.

 
• ما رواه أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور، قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن صفته، وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله، قال: أبو إسحاق: فقلت للحارث: أوما حفظتها؟ قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه: "الحمد لله الذي لا يموت، ولا تنقضي عجائبه، لأنّه كلّ يوم في شأن، مِن إحداث بديع لم يكن، الذي لم يُولَد، فيكون في العزّ مُشارَكاً، ولم يَلِدْ، فيكون موروثاً هالكاً"2.
 
• ما رواه مسعدة بن صدقة، قال: سمعت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول: "بينما أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر بالكوفة، إذ قام إليه رجل، فقال: يا أمير 



1 الصدوق، التوحيد، م.س، باب4، ح5، ص90-91.
2 م.ن، باب2، ح1، ص31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
319

282

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 المؤمنين! صف لنا ربّك تبارك وتعالى، لنزداد له حبّاً، وبه معرفة، فغضب أمير المؤمنين عليه السلام، ونادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، حتّى غصّ المسجد بأهله، ثمّ قام متغيّر اللون، فقال: الحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء... الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله، ولم تحط به الصفات، فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهياً، وما زال - ليس كمثله شيء - عن صفة المخلوقين متعالياً... فليس له مثل، فيكون ما يخلق مشبّهاً به، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأضداد منزّهاً، كذب العادلون بالله، إذ شبّهوه بمثل أصنافهم... تعالى عن أن يكون له كفو، فيشبّه به، لأنّه اللطيف... فلا شبه له من المخلوقين، وإنّما يشبّه الشيء بعديله، فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبّه بغير مثاله... أيها السائل! اعلم مَن شبّه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه، وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته، أنّه لم يعقد غيب ضميره على معرفته، ولم يُشاهد قلبه اليقين بأنّه لا ندّ له، وكأنّه لم يسمع بتبرّي التابعين من المتبوعين، وهم يقولون: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾1، فمن ساوى ربّنا بشيء، فقد عدل به، والعادل به كافر بما نزلت به محكمات آياته، ونطقت به شواهد حجج بيّناته... فقال تنزيهاً لنفسه عن مشاركة الأنداد وارتفاعاً عن قياس المقدّرين له بالحدود من كَفَرِة العباد: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾2. ما دلّك القرآن عليه من صفته، فاتبعه، ليوصل بينك وبين معرفته، وأتمّ به، واستضئ بنور هدايته، فإنّها نعمة وحكمة أوتيتهما، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين"3.

 
وبذلك يتبيّن أنّ النفي في الآيتين يتفرّع على صفة الصمديّة، والصمديّة بدورها متفرّعة على توحّده تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، بمعنى أنّه واحد لا يناظره شيء ولا يشبهه، فذاته تعالى بذاته ولذاته، من غير استناد إلى غيره، واحتياج إلى مَنْ سواه، وكذا صفاته 



1 سورة الشعراء، الآيتان 97 ـ 98.
2 سورة الزمر، الآية 67.
3 الصدوق، التوحيد، م.س، باب2، ح13، ص48-56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
320

283

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 وأفعاله، وذوات مَنْ سواه وصفاتهم وأفعالهم بإفاضة منه تعالى، على ما يليق بساحة كبريائه وعظمته. فمحصّل السورة وصفه تعالى بأنّه أحد واحد1.

 
بحث تفسيريّ: التوحيد2
1- مفهوم التوحيد: 
إنّ مفهوم الوحدة هو من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصوّرها إلى معرّف يدلّنا عليها. والشيء ربّما يتّصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدلّ به على أنّ الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة، فإنّ الرجولية التي في زيد مثلاً - وهو رجل واحد ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلاً - وهما رجلان - فإنّه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه 



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص388-390.
تأويل: ما رواه وهب بن وهب القرشي: سمعت الصادق عليه السلام، يقول: "قَدِمَ وفد من أهل فلسطين على الباقر عليه السلام، فسألوه عن مسائل، فأجابهم، ثمّ سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه, الصمد خمسة أحرف: فالألف, دليل على إنّيّته, وهو قوله عزّ وجلّ: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ (سورة آل عمران: الآية 18), وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس، واللام, دليل على إلهيّته, بأنّه هو الله، والألف واللام, مدغمان لا يظهران على اللسان، ولا يقعان في السمع، ويظهران في الكتابة, دليلان على أنّ إلهيّته بلطفه خافية، لا تُدرَك بالحواس، ولا تقع في لسان واصف، ولا أُذن سامع, لأنّ تفسير الإله هو الذي أَلِهَ الخلق عن دَرْكِ ماهيّته وكيفيّته, بحسّ أو بوهم، لا بل هو مُبدع الأوهام وخالق الحواس، وإنّما يظهر ذلك عند الكتابة, دليل على أنّ الله سبحانه أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم يرَ روحه, كما أنّ لام الصمد لا تتبيّن، ولا تدخل في حاسّة من الحواس الخمسة، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف، فمتى تفكّر العبد في ماهيّة البارئ وكيفيّته, أًلِهَ فيه، وتحيّر، ولم تحط فكرته بشيء يتصوّر له, لأنّه عزّ وجلّ خالق الصُوَر، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزّ وجلّ خالقهم ومركّب أرواحهم في أجسادهم. وأمّا الصاد, فدليل على أنّه عزّ وجلّ صادق، وقوله صدق، وكلامه صدق، ودعا عباده إلى اتّباع الصدق بالصدق، ووعد بالصدق دار الصدق. وأمّا الميم, فدليل على ملكه, وأنّه الملك الحقّ لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه. وأمّا الدالّ, فدليل على دوام ملكه, وأنّه عزّ وجلّ دائم تعالى عن الكون والزوال، بل هو عزّ وجلّ يكوِّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كلّ كائن، ثمّ قالعليه السلام: لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزّ وجلّ حَمَلَةً, لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع, من الصمد، وكيف لي بذلك، ولم يجد جدّي أمير المؤمنينعليه السلام حَمَلَة لعلمه, حتّى كان يتنفّس الصعداء، ويقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني, فإنّ بين الجوانح منّي علماً جمّاً، هاه هاه، ألا لا أجد مَنْ يحمله، ألا وإنّي عليكم من الله الحجّة البالغة, فـ ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ (سورة الممتحنة، الآية 13). ثمّ قال الباقر عليه السلام: الحمد لله الذي منّ علينا ووفقنا لعبادته, الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وجنّبنا عبادة الأوثان, حمداً سرمداً، وشكراً واصباً" (الصدوق، التوحيد، م.س، باب4، ح6، ص92-93).
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص393-394, ج4، ص353-354, ج6، ص86-91.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
321

284

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 الصفة - وهي الرجولية - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحياته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، والله سبحانه واحد، من جهة أنّ الصفة لا يشاركه فيها غيره، كالألوهيّة فهو واحد في الألوهيّة، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم والقدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم، وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أنّ الصفات التي له لا تتكثّر ولا تتعدّد إلا مفهوماً فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شيء واحد هو ذاته، ليس شيء منها غير الآخر، بل هو تعالى يعلم بقدرته، ويُقدِّر بحياته، وحيّ بعلمه، لا كمثل غيره في تعدّد الصفات، عيناً ومفهوماً.

 
ولا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكلّيّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غوراً، وأصعبها تصوّراً وإدراكاً، وأعضلها حلّاً، لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العامّيّة التي تتناولها الأفهام، والقضايا المتداولة التي تألفها النفوس، وتعرفها القلوب. وما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه والتصديق به، للتنوّع الفكري الذي فُطِرَ عليه الإنسان، من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة، وأداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها، ثمّ تأثير ذلك الفهم والتعقّل، من حيث الحدّة والبلادة، والجودة والرداءة، والاستقامة والانحراف. فهذا كلّه ممّا لا شكّ فيه، وقد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1، وقوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾2، وقوله تعالى: ﴿فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾3، وقوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾4. ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي، اختلاف أفهام الناس في تلقّي معنى توحّده تعالى، لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى، على ما بينهم من الاتّفاق، على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة، بإلهامها الخفيّ، وإشارتها الدقيقة. فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك،



1 سورة الزمر، الآية 9.
2 سورة النجم، الآيتان 29 و 30.
3 سورة النساء، الآية 78.
4 سورة المائدة، الآية 75.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
322

285

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 أنْ جعل الأوثان المتّخذة، والأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شركاء لله، وقرناء له، يُعبَد كما تُعبَد هذه الشركاء، ويُسأل كما تُسأل، ويُخضَع له كما يُخضَع لها، ولم يلبث هذا الإنسان دون أن غلَّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، وأقبل عليها وتركه، وأمّرها على حوائجه وعزله. فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة، مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، وهي الوحدة العدديّة التي تتألّف منها الأعداد، قال تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾1.

 
2- أحديّة الذات:
فَهِمَ بعض الناس الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة التي تقابل الكثرة العدديّة، فأجابهم القرآن مصحّحاً لهم وجهة الاعتقاد بالتوحيد بقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾2، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾3 وغيرهما من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، وتوجيه الوجه لله الواحد، وقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾4  وغيرها من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ أمّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ إلهاً تختصّ به، ولا تخضع لآلهة الآخرين. والقرآن ينفي في عالي تعاليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذِكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتمّ إلا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد، بالمحدوديّة التي تقهره، والمقدّريّة التي تغلبه... وإذ كان الله سبحانه قاهراً غير مقهور، وغالباً لا يغلبه شيء البتّة، كما يُعطيه التعليم القرآني، لم تتصوّر في حقّه وحدة عدديّة ولا كثرة عدديّة، قال تعالى: ﴿وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾5، ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن 



1 سورة ص، الآيتان 4-5.
2 سورة البقرة، الآية 163.
3 سورة غافر، الآية 65.
4 سورة العنكبوت، الآية 46.
5 سورة الرعد، الآية 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
323

286

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم﴾1، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾2،  وقال: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾3 وإذ كان تعالى لا يقهره شيء في شيء البتّة، من ذاته، ولا صفته، ولا فعله، وهو القاهر فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه بطلان، وهو الحيّ لا يُخالطه موت، والعليم لا يدبّ إليه جهل، والقادر لا يغلبه عجز، والمالك والملك من غير أن يملك منه شيء، والعزيز الذي لا ذلّ له، وهكذا. فله تعالى من كلّ كمال محضه... فهو تعالى واحد، بمعنى أنّه من الوجود، بحيث لا يُحدّ بحدّ، حتى يمكن فرض ثانٍ له في ما وراء ذلك الحدّ، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، فإنّ لفظ أحد إنّما يستعمل استعمالاً يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: "ما جاءني أحد" وينفي به أن يكون قد جاء الواحد، وكذا الاثنان والأكثر... فاستعمال لفظ أحد في قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ في الإثبات من غير نفي ولا تقييد بإضافة أو وصف، يفيد أنّ هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه، سواء أكان واحداً أو كثيراً، فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج. 

 
وهذا المعنى من الوحدة الأحديّة، هو الذي يُدفَع به تثليث النصارى، فإنّهم موحّدون في عين التثليث، لكن الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة أخرى، فهم يقولون: إنّ الأقانيم (الأب والابن والروح) (الذات والعلم والحياة) ثلاثة وهي واحدة، كالإنسان الحي العالم فهو شيء واحد، لأنّه إنسان حيّ عالم، وهو ثلاثة، لأنّه إنسان وحياة وعلم. لكن التعليم القرآني ينفي ذلك، لأنّه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أيّ كثرة وتمايز، لا في الذات، ولا في الصفات، وكلّ ما فرض من شيء في هذا الباب، كان عين الآخر، لعدم الحدّ، فذاته تعالى عين صفاته، وكلّ صفة مفروضة له عين الأخرى، تعالى الله عمّا يشركون، وسبحانه عمّا يصفون. 



1 سورة يوسف، الآيتان 39-40.
2 سورة ص، الآية 65.
3 سورة الزمر، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
324

287

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 ولذلك ترى أنّ الآيات التي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدأ أولاً بنعت الوحدة، ثمّ تصفه بالقهّاريّة، لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانياً مماثلاً بوجه، فضلاً عن أن يظهر في الوجود، وينال الواقعيّة والثبوت، قال تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم﴾1، فوصفه بوحدة قاهرة لكلّ شريك مفروض، لا تبقي لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض، إلا الاسم فقط.




1 سورة يوسف، الآيتان 39-40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
325

288

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة، ويوجد تسميات أخرى لها أشهرها: "الإخلاص"، "الصمد"، "نسبة الربّ"، وتتضمّن 4 آيات، تحوي مجموعة من المحاور: التوحيد أساس الدين/ أحديّة الذات الإلهيّة/ مراتب التوحيد/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قل يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الله أحد، لا يقبل الكثرة العدديّة ولا النوعيّة ولا أي كثرة، لأنّه المقصود في كلّ أمر، لا يخلو منه شيء من الوجود، لم يلد، فيكون له شيء من جنسه وبعضه، ولم يولَد، لأنّ كلّ مولود حادث، ولم يكن له مثيل أو نظير أو مكافىء، لا في ذاته ولا في فعله.

4- الله سبحانه واحد، من جهة أنّ الصفة لا يُشاركه فيها غيره، كالألوهيّة فهو واحد في الألوهيّة، لا يُشاركه فيها غيره تعالى، والعلم والقدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم، وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أنّ الصفات التي له لا تتكثّر ولا تتعدّد إلا مفهوماً فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شيء واحد هو ذاته، ليس شيء منها غير الآخر، بل هو تعالى يعلم بقدرته، ويُقدِّر بحياته، وحيّ بعلمه، لا كمثل غيره في تعدّد الصفات، عيناً ومفهوماً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
326

289

الدرس العشرون: تفسير سورة الإخلاص

 فكّر وأجب

1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- يوجد تسميات أخرى لهذه السورة. 
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- نزلت هذه السورة ردّاً على سؤال المشركين عن صفة الله. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
327

290

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
329

291

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالفلق، لورود ذِكره في مستهلّ السورة ومفتتحها.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 5 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- الاستعانة بالله في كلّ أمر.
2- مبعث الشرور يكمن في الإعراض عن الله تعالى.
3- ذِكْر الله حصن منيع أمام الشرور.
 
فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَنْ قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فكأنّما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء"1
 
• ما رواه عقبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أُنزِلَت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ: المعوذتان"2.
 
• وعنه - أيضاً -، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا عقبة! ألا أُعلّمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله، فعلَّمَني المعوذتين، ثمّ قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي: اقرأهما كلّما قمت ونمت"3
 
• ما رواه أبو عبيدة الحذاء، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال: "مَنْ أوتر بالمعوذتين، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، قيل له: يا عبد الله! أبشِر، فقد قَبِلَ الله وِتْرَك"4.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص491.
2 م.ن.
3 م.ن.
4 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
331

292

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 خصائص النزول

هذه السورة المباركة مدنيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين، بينما ذهب بعضهم إلى مكّيّتها.
 
وقد وردت رواية في سبب نزولها نقلها أغلب المفسِّرين في كتبهم، مفادها: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُصيِبَ بسحر بعض اليهود (لبيد بن أعصم)، ومَرِضَ على أثر ذلك، فنزل جبرائيل عليه السلام، وأخبره أنّ آلة السحر موجودة في بئر، فأرسل مَنْ يُخرجها (الإمام علي عليه السلام والزبير بن العوام وعمّار بن ياسر)، ثمّ تلا هذه السورة، وتحسّنت صحّته1
 
وقد حاول بعض المفسِّرين ردّ هذه الرواية للأمور الآتية2:
• أنّها رواية ضعيفة السند.
 
• أنّها من أخبار الآحاد ولا يمكن الركون إليها في مجال الاعتقاد، حتّى على فرض صحّتها، ولا سيما أنّها معارضة لصريح القرآن: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا *  انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً﴾3.
 
• لو كان اليهود بمقدورهم أن يفعلوا بسحرهم ما فعلوه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم - حسب الرواية -، لاستطاعوا أن يصدّوه عن أهدافه بسهولة عن طريق السحر. 
 
- لو كان السحر يفعل بجسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فعله، لأمكن أن يؤثّر في روحه - أيضاً -، وتكون أفكاره بذلك لعبة بيد السحرة. وهذا ما يُزلزل مبدأ الثقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وواقع الحال أنّ ما ذُكر يمكن النقاش فيه بالآتي:
• لا بدّ من تنقيح بطلان تأثير السحر على جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه يؤثّر في روحه صلى الله عليه وآله وسلم ويزلزل ثقة الناس به؟!
 
• المراد بالآية المستدل بها، خصوص فاسد العقل بالسحر، وأمّا التأثّر عن السحر بمرض يُصيبه صلى الله عليه وآله وسلم في بدنه، فلا دلالة للآية على مصونيّته صلى الله عليه وآله وسلم منه4.
 
• الملازمة غير ثابتة أصلاً بين إمكانية التأثير في الجسد بمرض ونحوه وبين الصدّ عن 



1 انظر: مجمع البيان، ص491-492, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص417-418, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص292-294.
2 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص492.
3 سورة الإسراء، الآيتان 47 ـ 48.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص292-294.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
332

293

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 أهداف الرسالة. وكذلك بينها وبين التأثير في روحه صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإن كان التأثير في جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤدّياً إلى زلزلة ثقة الناس به وبرسالته، فلا بدّ من الحكم ببطلان مثل هذا التأثير، بمقتضى قاعدة اللّطف، وهي تقريب الناس أكثر إلى الطاعة وإزالة الموانع التي يُمكن أن تحول دون اتّباعهم للدين.

 
شرح المفردات
• الْفَلَقِ: "الفاء واللام والقاف أصل صحيح، يدلّ على فرجة وبينونة في الشيء، وعلى تعظيم شيء... والفلق، الصبح، لأنّ الظلام ينفلق عنه. والفلق، مطمئن من الأرض، كأنّه انفلق... والفلق، الخلق كلّه، كأنّه شيء فلق عنه شيء، حتى أُبرِزَ وأُظهِرَ"1. و"قال تعالى: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾2، ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾3، وقوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، أي: الصّبح، وقيل: الأنهار المذكورة في قوله: ﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾4، وقيل: هو الكلمة التي علَّم الله تعالى موسى فَفَلَقَ بها البحر"5.
 
• غَاسِقٍ: "الغين والسين والقاف أصل صحيح، يدلّ على ظلمة، فالغسق، الظلمة. والغاسق، الليل"6. و"غَسَقُ الليل: شدّة ظلمته. قال تعالى: ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾7، وقال: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾، وذلك عبارة عن النائبة بالليل، كالطارق"8.
 
• وَقَبَ: "الواو والقاف والباء كلمة، تدلّ على غيبة شيء في مغاب"9. و"قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾، أي إذا دخل، أخذاً من وقوب الليل، أي دخول ظلامه"10.



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "فَلَقَ"، ص452.
2 سورة الأنعام، الآية 96.
3 سورة الأنعام، الآية 95.
4 سورة النمل، الآية 61.
5 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "فَلَقَ"، ص645.
6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة "غَسَقَ"، ص425.
7 سورة الإسراء، الآية 78.
8 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادّة "غَسَقَ"، ص606.
9 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَقَبَ"، ص131.
10 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج2، مادّة "وَقَبَ"، ص181.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
333

294

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 • النَّفَّاثَاتِ: "النون والفاء والثاء أصل صحيح، يدلّ على خروج شيء من فم أو غيره، بأدنى جرس"1. و"قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾، أي النساء السواحر اللواتي يعقدن في الخيوط عقداً وينفثن عليها، أي يتفلن"2.

 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾: 
العوذ، هو الاعتصام والتحرّز من الشرّ، بالالتجاء إلى مَنْ يدفعه.
 
وذَكَر المفسِّرون في معنى "الفلق" أقوالاً عدّة، وهي: 
• الفلق، الصبح، لانفلاق عموده بالضياء عن الظلام، كما قيل: له فجر، لانفجاره، بذهاب ظلامه. وهو معنى يناسب التعبير بالعوذ من الشرّ الذي يستر الخير ويحجبه، مثل ما يحجب الليل نور النهار.
 
• الفلق كلّ ما يُفطَر ويُفلَق عنه، بالخلق والإيجاد، فإنّ في الخلق والإيجاد شقّاً للعدم وإخراجاً للموجود إلى الوجود، فيكون مساوياً للمخلوق. 
 
• الفلق، هم المواليد، لأنّهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات، كما ينفلق الحبّ من النبات.
 
• الفلق، جبّ في جهنّم، يتعوّذ أهل جهنّم من شدّة حرّه3.
 
الآية (2): ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾: 
أي من شرّ مَنْ يحمل شرّاً، من الإنس، والجنّ، والحيوانات، وسائر ما له شرّ مِنَ الخَلْق. واشتمال مطلق مَا خَلَق على الشرّ لا يستلزم الاستغراق4.



1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة "نَفَثَ"، ص457.
2 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج2، مادّة "نَفَثَ"، ص265.
3 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص493, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص392.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص392.
تَدَبُّر: إنّ الله تعالى لم يَقُلْ "من شرّ الخلق" أو "من شرّ خلقه", مع أنّ الأوّل: أخفّ في الآية تلفّظاً، والثاني: لفظاً وكتابة, وذلك لأنّ الشرّ لا يجيء مِنْ قِبَل الخلق, بما أنّه فعل لله تعالى، فإنّ فعله كلّه خير: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (سورة السجدة، الآية 7), وإنّما الشرّ من المخلوق: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (سورة النساء، الآية 79).



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
334

295

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 الآية (3): ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾: 

المراد بالغسق، أوّل ظلمة الليل. والوَقَب، من الوقوب، وهو الدخول.
 
وذَكَر المفسِّرون في معنى "الغاسق" قولين1، هما:
- الغاسق، الليل، إذا دخل بظلمته. ونسبة الشرّ إلى الليل، إنّما هي لكونه بظلمته يُعين الشرّير في شرّه، لستره عليه، فيقع فيه الشرّ أكثر ممّا يقع منه بالنهار، والإنسان فيه أضعف منه في النهار تجاه هاجم الشرّ. 
 
- الغاسق، هو كلّ هاجم يهجم بشرّه، كائناً ما كان.
 
ونكتة ذِكْر شرّ الليل إذا دخل بعد ذكر شرّ ما خلق، مِنْ ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، لزيادة الاهتمام2.
 
الآية (4): ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾:
أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعَقْد على المسحور، وينفثن في العُقَد. وخُصَّت النساء بالذِّكْر، لأنّ السحر كان فيهنّ ومنهنّ أكثر من الرجال. 
 
وفي الآية تصديق لتأثير السحر في الجملة، ونظيرها قوله تعالى في قصّة هاروت وماروت: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾3، ونظيره ما في قصّة سَحَرَة فرعون: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾4، ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾5.6
 
الآية (5): ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾:
أي إذا تلبّس بالحسد، وعمل بما في نفسه من الحسد، بترتيب الأثر عليه. وقيل: الآية 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص493.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص392-393.
3 سورة البقرة، الآية 102.
4 سورة طه، الآية 66.
5 سورة الأعراف، الآية 116.
6 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص393.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
335

296

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 تشمل العائن، فعين العائن نوع حسد نفسانيّ يتحقّق منه، إذا عاين ما يستكثره، ويتعجّب منه، وهو ما تؤيّده الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، منها: ما رواه السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر"1.

 
وقد اهتمّت السورة بثلاثة من أنواع الشرّ خاصّة، هي: شرّ الليل، إذا دخل، وشرّ سِحْر السحرة، وشرّ الحاسد، إذا حسد، لغلبة الغفلة فيهنّ2.
 
بحث تفسيريّ: الخير والشرّ3
1- معنى الخير:
الخير، هو الانتخاب، وإنّما نُسمّي الشيء خيراً، لأنّا نقيسه إلى شيء آخر، نريد أن نختار أحدهما، فننتخبه، فهو خير، ولا نختاره، إلا لكونه متضمّناً لما نريده ونقصده، فما نريده، هو الخير بالحقيقة، وإنْ كنّا أردناه -أيضاً- لشيء آخر، فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، وغيره خير من جهته.
 
والله سبحانه وتعالى، هو الخير على الإطلاق، لأنّه الذي ينتهي إليه كلّ شيء، ويرجع إليه كلّ شيء، ويطلبه ويقصده كلّ شيء، لكنّ القرآن الكريم لا يُطلِق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم، كسائر أسمائه الحسنى جلّت أسماؤه، وإنّما يطلقه عليه إطلاق التوصيف، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾4، ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾5.
 
نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾6، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾7، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾8، ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾9، ﴿وَاللّهُ 



1 الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح4، ص307.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص393.
3 انظر: م.ن، م.س، ج3، ص132-135.
4 سورة طه، الآية 73.
5 سورة يوسف، الآية 39.
6 سورة الجمعة، الآية 11.
7 سورة الأعراف، الآية 87.
8 سورة الأنعام، الآية 57.
9 سورة آل عمران، الآية 150.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
336

297

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾1، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾2، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾3، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾4، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾5، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾6.

 
ولعلّ الوجه في جميع ذلك، اعتبار ما في مادّة الخير، من معنى الانتخاب، فلم يُطلَق اطلاق الاسم عليه تعالى، صوناً لساحته تعالى أن يُقَاس إلى غيره بنحو الإطلاق، وقد عنت الوجوه لجنابه، وأمّا التسمية عند الإضافة والنسبة وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك، فلا محذور فيه. 
 
قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾7، فقوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾، يدلّ على حصر الخير فيه تعالى، لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر، والمعنى: أنّ أمر كلّ خير مطلوب إليك، وأنت المعطي المفيض إيّاه. فالجملة في موضع التعليل، لما تقدّمت عليها من الجمل، أي قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء﴾، من قبيل تعليل الخاصّ بما يعمّه وغيره، أي أنّ الخير الذي يؤتيه تعالى، أعمّ من الملك والعزّة، وهو ظاهر.
 
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، في مقام التعليل، لكون الخير بيده تعالى، فإنّ القدرة المطلقة على كلّ شيء تُوجِب أن لا يقدر أحد على شيء، إلا بإقداره تعالى إيّاه على ذلك، ولو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى، كان مقدوره من هذه الجهة خارجاً عن سعة قدرته تعالى، فلم يكن قديراً على كلّ شيء، وإذا كانت لقدرته هذه السعة، كان كلّ خير مفروض مقدوراً عليه له تعالى، وكان - أيضاً - كلّ خير أفاضه غيره منسوباً إليه، مفاضاً عن يديه، فهو له - أيضاً -، فجنس الخير الذي لا يشذّ منه شاذ بيده، وهذا هو الحصر الذي يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾.



1 سورة آل عمران، الآية 54.
2 سورة الأعراف، الآية 89.
3 سورة الأعراف، الآية 155.
4 سورة الأنبياء، الآية 89.
5 سورة المؤمنون، الآية 29.
6 سورة المؤمنون، الآية 109.
7 سورة آل عمران، الآية 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
337

298

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 2- معنى الشرّ:

كما يصحّ تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الذي بيده تعالى، كذلك يصحّ تعليل نزع الملك والإذلال، فإنّهما، وإنْ كانا شرّين لكن ليس الشرّ، إلا عدم الخير، فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز، فانتهاء كلّ خير إليه تعالى، هو الموجب لانتهاء كلّ حرمان من الخير بنحو إليه تعالى. 

نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى، هو الاتّصاف بما لا يليق بساحة قدسه، من نواقص أفعال العباد، وقبائح المعاصي، إلا بنحو الخذلان، وعدم التوفيق.

3- الخير أمر وجودي والشرّ أمر عدمي:
هناك خير وشرّ تكوينيّان، كالملك والعزّة، ونزع الملك والذلّة. 

ولكنّ الخير التكوينيّ أمر وجودي، من إيتاء الله تعالى، والشرّ التكوينيّ إنّما هو عدم إيتاء الخير، ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه، فإنّه هو المالك للخير، لا يملكه غيره، فإذا أعطى غيره شيئاً من الخير، فله الأمر، وله الحمد، وإنْ لم يعطِ أو منع، فلا حقّ لغيره عليه، حتّى يُلزمه عليه، فيكون امتناعه من الإعطاء ظلماً، على أنّ إعطاءه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامّة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

وهناك خير وشر تشريعيّان، وهما أقسام الطاعات والمعاصي، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان، من حيث انتسابها إلى اختياره، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها، ولولا فرض اختيار في صدورها، لم تتّصف بحسن، ولا قبح، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى، إلا من حيث توفيقه تعالى، وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
338

299

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة، تتضمّن 5 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: الاستعانة بالله/ الإعراض عن الله/ ذِكْر الله/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قل يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعوذ بربّ الصبح أو الخلق أو الجبّ الذي في جهنّم، تحرّزاً واعتصاماً ودفعاً لكلّ شرّ يحمله أحد من الإنس والجنّ، ومن شرّ أوّل ظلمة حلول الليل، لأنّ الإنسان ضعيف أمام شرّ الليل، ومن شرّ الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد، ومن شرّ حاسد إذا تلبّس بالحسد وعمل بما في نفسه منه.

4- الخير التكوينيّ أمر وجودي، من إيتاء الله تعالى، والشرّ التكوينيّ إنّما هو عدم إيتاء الخير. وهناك خير وشرّ تشريعيّان، وهما أقسام الطاعات والمعاصي، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان، من حيث انتسابها إلى اختياره، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها، ولولا فرض اختيار في صدورها، لم تتّصف بحسن، ولا قبح، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى، إلا من حيث توفيقه تعالى، وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
339

300

الدرس الواحد والعشرون: تفسير سورة الفلق

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- نزلت هذه السورة دفعاً لسحر قام به اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 
- المراد بـ "النفّاثات في العقد": الساحرات اللاتي يسحرن بالعَقْد على المسحور. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
340

301

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 
 
 
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
341

302

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالناس، لورود ذِكر هذا الاسم في مستهلّ السورة ومفتتحها.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة 6 آيات، تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- وحدانية الله في الربوبيّة.
2- وحدانيّة الله في المالكيّة.
3- وحدانية الله في الألوهيّة.
4- الاعتصام بالله سبيل الأمن من الشرور والوقاية من مكائد الشيطان.
 
فضيلة السورة
• ما رواه الفضل بن يسار، قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام يقول: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً، فأتاه جبرائيل وميكائيل عليه السلام، فقعد جبرائيل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بـ  ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، وعوّذه ميكائيل بـ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾"1.
 
• ما رواه أبو خديجة، عن الإمام أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: "جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شاك، فرقاه بالمعوذتين، و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وقال: باسم الله أرقيك، والله يشفيك، من كلّ داء يؤذيك، خذها فلتهنيك"2.



1 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص495.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
343

303

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 خصائص النزول

هذه السورة مدنيّة على الأشهر بين المفسِّرين، لأنّها نزلت مع سورة الفلق1.
 
شرح المفردات
• الْوَسْوَاس: "الواو والسين كلمة، تدلّ على صوت غير رفيع"2. و"الوَسْوَسَةُ: الخطرةُ الرديئة، وأصله من الوَسْوَاسِ، وهو صوت الحُلِي، والهمس الخفيّ. قال الله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾3، وقال: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾"4.
 
• الْخَنَّاس: "الخاء والنون والسين أصل واحد، يدلّ على استخفاء وتستّر..."5. و"قوله: ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾، يعني الشيطان لعنه الله، لأنّه يخنس إذا ذكر الله تعالى، أي يذهب ويستتر"6.
 
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾: 
أمر لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ به ويعتصم به، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم مِن الناس، والله تعالى ربّ الناس وملكهم وإلههم. 
 
والخطاب في الآية متوجّه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، على نحو الخطاب التشريفي، بوصفه المصداق الأبرز من الناس. والمراد جميع الناس7.
 
والربّ، بمعنى المالك، أي مَنْ الأمر والتدبير إليه في كلّ شيء. وللربّ اعتبارات ثلاثة:
• المتعالي الثابت والسيد، وهو من الأسماء الذاتية. 



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص495, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص420, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص395.
2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة "وَسَّ"، ص76.
3 سورة طه، الآية 120.
4 الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة "وَسْوَسَ"، ص869.
5 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة "خَنَسَ"، ص223.
6 الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة "خَنَسَ"، ص67.
7 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص395.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
344

304

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 • المالك والصاحب والغالب والقاهر، وهو من الأسماء الصفاتيّة.

• المربّي والمنعم والمتمّم، وهو من الأسماء الأفعاليّة. 
 
الآية (2): ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾: 
أي سيّدهم، والقادر عليهم. ولم يجزْ هنا إلا "مَلِك"، وجاز في سورة الفاتحة التعبير بـ "مَلِك" و"مَالك"، وذلك لأنّ صفة مَلِكْ، وهي مشتقّة من المُلك، بمعنى أصل تدبير أمر الشيء، وليس كذلك لفظة "مالك"، وهي مشتقّة من "المِلْك"، بمعنى ملك أصل الشيء، وذلك لأنّه يجوز أن يُقال: مالك الثوب، ولا يجوز أن يُقال: مَلِك الثوب. فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى المَلِك في يوم الجزاء، وجرت في هذه السورة على مَلِك تدبير مَنْ يعقل التدبير، فكانت لفظة "مَلِك" أولى هنا وأحسن. ومعنى الآية: مَلِك الناس كلّهم، وإليه مفزعهم في الحوائج1.
 
الآية (3): ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾: 
الإله، مِنْ أَلِهَ، بمعنى تحيّر، وهو الذي تحيّرت فيه عقول العقلاء، وكلّت فيه أفكار المتفكّرين. وبمعنى المعبود أيضاً.
 
ومِنْ طبع الإنسان أنّه إذا أَقبَل عليه شرّ يحذره ويخافه على نفسه، وأحسّ من نفسه الضعف، التجىء بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه. والذي يراه صالحاً للعوذ والاعتصام به، أحد ثلاثة:
• إمّا ربّ يلي أمره ويدبّره ويربّيه، يرجع إليه في حوائجه عامّة، وممّا يحتاج إليه في بقائه، دفع ما يُهدّده مِنَ الشرّ. وهذا سبب تامّ في نفسه. 
 
• وإمّا ذو قوّة وسلطان، بالغة قدرته، نافذ حكمه، يُجيره إذا استجاره، فيدفع عنه الشرّ بسلطته، كملك من الملوك. وهذا -أيضاً- سبب تامّ مستقلّ في نفسه.
 
• وهناك سبب ثالث، وهو الإله المعبود، فإنّ لازم معبوديّة الإله، وخاصّة إذا كان واحداً لا شريك له، إخلاص العبد نفسه له، فلا يدعو إلا إيّاه، ولا يرجع في شيء من حوائجه، إلا إليه، فلا يريد إلا ما أراده، ولا يعمل إلا ما يشاؤه.



1 انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص496-497.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
345

305

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 والله سبحانه، ربّ الناس، وملك الناس، وإله الناس، كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾1. وأشار تعالى إلى سببيّة ربوبيّته وألوهيّته، بقوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾2، وإلى سببيّة ملكه بقوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾3، فإنْ عاذ الإنسان من شرّ يُهدّده إلى ربّ، فالله سبحانه هو الربّ، لا ربّ سواه، وإنْ أراد بعوذه ملكاً، فالله سبحانه هو الملك الحقّ، له الملك وله الحكم، وإنْ أراد لذلك إلهاً، فهو الإله، لا إله غيره4




1 سورة الزمر، الآية 6.
2 سورة المزمل، الآية 9.
3 سورة الحديد، الآية 5.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص395-397.
تَدَبُّر: إنّ المتدبِّر في قوله تعالى: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾، يستفيد مجموعة من النكات اللطيفة، وهي:
- وجه إضافة هذه الأسماء الثلاثة إلى خصوص "الناس", لأنّ الإنسان هو أكمل مظاهر هذه الأوصاف وأعظمها وأشرفها، وأعلى مجلى من مجالي هذه الأسماء الإلهيّة, فلذلك صار مضافاً إليه هذه الأسماء. 
- وجه تخصيص الصفات الثلاث: الربّ، والملك، والإله من بين سائر صفاته الكريمة بالذِّكْر، وكذا وجه الترتيب في ما بينها, من ذِكْر الربّ أولاً, لأنّه أقرب من الإنسان وأخصّ ولاية، ثمّ الملك, لأنّه أبعد منالاً، وأعمّ ولاية يقصده مَنْ لا ولي له يخصّه ويكفيه، ثمّ الإله, لأنّه ولي يقصده الإنسان عن إخلاصه، لا عن طبعه المادّي.
- وجه عدم وصل قوله تعالى: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾, بالعطف, وذلك للإشارة إلى كون كلّ مِنَ الصفات سبباً مستقلاً في دفع الشرّ, فهو تعالى سبب مستقلّ, لكونه ربّاً، ولكونه ملكاً، ولكونه إلهاً, فله تعالى السببيّة بأيّ معنى أُريد السبب. وقد مرّ نظير هذا الوجه في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ (سورة الإخلاص، الآيتان 1و2).
- وجه تكرار لفظ "الناس" من غير أن يُقال: "ربّهم وإلههم", لأنّ كلاً من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلّق بها العوذ وحدها، من غير ذِكر الأخريين, لاستقلالها، ولله الأسماء الحسنى جميعاً. وهناك وجه آخر: فلعلّ كلّ واحدة من كلمات "الناس" المتكرّرة في السورة تختصّ بمرتبة من مراتب الكمال الآدمي, بمعنى أنّ الإنسان في قوله تعالى: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ عبارة عن الأطفال المميّزين، الذين يدركون النعم الأوّليّة لله تعالى, وهي الإيجاد والتربية والرشد والنموّ. وفي قوله تعالى: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ المقصود من الناس, العقلاء الذين ينظرون إلى عالم الكون بنظر أدقّ وأوسع، فيرون النظام البديع، وروابط أجزاء العالم بعضها ببعضها الآخر، ويشاهدون سلطان الله عليه. وفي قوله تعالى: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ المقصود بالناس, المؤمنون المتعبّدون لله تعالى الذين يرون في الموجودات آيات عظمته وقدرته، فيعبدونه. وفي قوله تعالى: ﴿صُدُورِ النَّاسِ﴾ المقصود بالناس, هم العلماء الروحانيّون, لأنّ الوسوسة من الشياطين تكون للعلماء, فإنّ الشياطين يسعون إلى إغوائهم وإذلالهم، وأمّا الجهّال, فالعامل الأساس لإذلالهم, هو جهلهم، وليس شيء أقوى من الجهل في الإضلال، فلا يحتاج الجاهل إلى الوسوسة. وقوله تعالى: ﴿وَ النَّاسِ﴾ في آخر السورة, هم شياطين الإنس، في مقابل شياطين الجنّ، الذين يهتمّون بإضلال الخلق. فعلى هذا ليس تكرار كلمة "الناس" في السورة مجرّد تكرار، بل النَّاس في كلّ مورد, بمعنى يغاير معناه في المورد الآخر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
346

306

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 الآية (4): ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾: 

الوسواس، حديث النفس بما هو كالصوت الخفيّ. والظاهر أنّ المراد به، المعنى الوصفيّ، لإفادة المبالغة. والخنّاس صيغة مبالغة، من الخنوس، بمعنى الاختفاء بعد الظهور. قيل: سُمِّي الشيطان خنّاساً، لأنّه يوسوس للإنسان، فإذا ذَكَر الله تعالى رجع وتأخّر، ثمّ إذا غفل عاد إلى وسوسته1.
 
وقد وردت روايات مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، تُشير إلى المعنى المتقدّم من الوسواس الخنّاس، وكيفيّة وسوسته وخنسه، منها:
• ما رواه أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذَكَر الله، خنس، وإذا نسي، التقم، فذلك الوسواس الخنّاس"2.
 
• ما رواه أبان بن تغلب، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما مِنْ مؤمن، إلا ولقلبه في صدره أذنان، أذن ينفث فيها الملك، وأذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾"3.
 
• ما رواه فطر بن خليفة، عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: "لمّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾4 صعد إبليس جبلاً بمكّة يُقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا، لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمَنْ لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها، بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر، فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنّيهم، حتّى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة، أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة"5.



1 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص397.
2 الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص498.
3 م.ن.
4 سورة آل عمران، الآية 135.
5 الصدوق، الأمالي، م.س، المجلس71، ح5، ص551.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
347

307

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 الآية (5): ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾: 

صفة للوسواس الخنّاس. والمراد بالصدور، هي النفوس، لأنّ مُتَعَلّق الوسوسة هو مبدأ الإدراك من الإنسان، وهو نفسه، وإنّما أُخِذَت الصدور مكاناً للوسواس، لما أنّ الإدراك يُنسَب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب، والقلب في الصدر، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾1.2
 
الآية (6): ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾:
بيان للوسواس الخنّاس، وفيه إشارة إلى أنّ مِنَ الناس مَنْ هو مُلحَق بالشياطين، وفي زمرتهم، كما قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾3.4
 
بحث تفسيريّ: الألوهيّة5
1- مفهوم الألوهيّة: 
لفظ الجلالة "الله" أصله الإله، حُذِفَت الهمزة، لكثرة الاستعمال، وإِلَه، من أَلِهَ الرجل يأله، بمعنى عَبَدَ، أو مِن أَلِهَ الرجل أو وَلِهَ الرجل، أي تحيّر... سُمِّي إلهاً، لأنّه معبود أو لأنّه ممّا تحيّرت في ذاته العقول، والظاهر أنّه عَلَم بالغَلَبة، وقد كان مستعملاً دائراً في الألسن قبل نزول القرآن، يعرفه العرب في الجاهليّة، كما يُشعِر به قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾6، وقوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾7. وممّا يدلّ على كونه عَلَمَاً، أنّه يُوصَف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم، ويقال: رحم الله، وعلم الله، ورزق الله. ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها، ولا يُؤخَذ منه ما يُوصَف به شيء منها. ولمّا 



1 سورة الحج، الآية 46.
2 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص397.
3 سورة الأنعام، الآية 112.
4 انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص397.
5 انظر: م.ن، ج1، ص18، 394-395, ج6، ص93، 241-243, ج7، ص71، 291-292, ج11، ص175-176.
6 سورة الزخرف، الآية 87.
7 سورة الأنعام، الآية 136.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
348

 


308

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 كان وجوده سبحانه، وهو إله كلّ شيء يهدي إلى اتّصافه بجميع الصفات الكماليّة، كانت الجميع مدلولاً عليها به، بالالتزام، وصحّ ما قيل: إنّ لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، وإلا فهو عَلَم بالغلبة، لم تعمل فيه عناية غير ما يدلّ عليه مادّة إِلَه.

 
2- حقيقة الألوهيّة: 
اسم الجلالة "الله"، عَلَم بالغلبة، كما تقدّم، ويُراد به الذات المقدّسة الإلهيّة، التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه، ووجود لا يتطرّق العدم والفناء إليه، والوجود الذي هذا شأنه، لا يُمكن أن يُفرَض له حدّ محدود، ولا أمد ممدود، لأنّ كلّ محدود فهو معدوم وراء حدّه، والممدود باطل بعد أمده، فهو تعالى ذات غير محدود، ووجود غير متناه بحدّ.
 
وإنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، ولا يكمل حتّى يُعطَى الإله الواحد حقّه من الألوهيّة المنحصرة، ولا يقتصر على مجرّد تسميته إلهاً واحداً، بل ينسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود والكمال، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والإعطاء، والمنع، وأن يخصّ الخضوع والعبادة به، فلا يتذلّل لغيره بوجه من الوجوه، بل لا يُرجى إلا رحمته، ولا يُخاف إلا سخطه، ولا يُطمع إلا في ما عنده، ولا يُعكف إلا على بابه. وبعبارة أخرى: أنْ يُخلص له، علماً وعملاً، وهو قول أمير المؤمنينعليه السلام: "وكمال توحيده الإخلاص له". 
 
فالألوهيّة المطلقة تجمع كلّ كمال، من غير أن تحدّ بحدّ، أو تقيّد بقيد، فلها القدرة المطلقة، قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾1.
 
3. نفي الشريك في الألوهيّة:
قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، فقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، يفيد بجملته اختصاص الألوهيّة بالله عزّ اسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أنّ لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطَبين لا يدلّ على أزيد من مفهوم الوحدة العامّة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها، فهناك وحدة عدديّة، ووحدة نوعيّة، ووحدة جنسيّة، وغير ذلك، فيذهب



1 سورة الأنعام، الآية 102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
349

309

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 وهم كلّ من المخَاطَبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى، ولو كان قيل: "والله إله واحد"، لم يكن فيه توحيد، لأنّ أرباب الشرك يرون أنّه تعالى إله واحد، كما أنّ كلّ واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل: "وإلهكم واحد" لم يكن فيه نصّ على التوحيد، لإمكان أن يذهب الوهم إلى أنّه واحد في النوع، وهو الألوهيّة، نظير ما يُقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، والبغل واحد، مع كون كلّ منهما متعدّداً في العدد، لكن لمّا قيل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، فأثبت معنى إله واحد - وهو في مقابل إلهين اثنين، وآلهة كثيرة - على قوله: "إلهكم"، كان نصّاً في التوحيد، بقصر أصل الألوهيّة على واحد من الآلهة التي اعتقدوا بها. وقوله تعالى: ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾، جيء به لتأكيد نصوصيّة الجملة السابقة في التوحيد، ونفي كلّ توهّم أو تأويل يمكن أن يتعلّق بها، والنفي فيه نفي الجنس، والمراد بالإله ما يصدق عليه الإله حقيقة وواقعاً، وحينئذ فيصحّ أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، والتقدير لا إله بالحقيقة والحقّ بموجود، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعاً لا منصوباً، فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، والمعنى لا إله غير الله بموجود. 

 
فقد تبيّن أنّ قوله تعالى: ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيّلة، لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه، كما توهّمه كثيرون، ويشهد بذلك أنّ المقام إنّما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتاً لوحدته في الألوهيّة، لا الإثبات والنفي معاً، على أنّ القرآن الشريف يعدّ أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيّاً، لا يتوقّف في التصديق العقلي به، وإنّما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، والفاطريّة، والعلم، والقدرة، وغير ذلك. 
 
فتبيّن أنّ الله سبحانه لا يقبل النفي أصلاً، إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول. والملاك في ذلك كلّه أنّ الإنسان إنّما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامّة في العالم إلى من يقيم أود وجوده، ويدبّر أمر نظامه، ثمّ يثبت خصوصيّات وجوده، فما أثبته من شيء، لسدّ هذه الخلّة، ورفع تلك الحاجة، فهو الله سبحانه، ثمّ إذا أثبت إلهاً غيره، أو أثبت كثرة، فإمّا أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحدّ في أسمائه، أو يثبت له شريكاً أو شركاء تعالى عن ذلك، وأمّا نفيه وإثبات غيره فلا معنى له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
350

310

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مدنيّة، تتضمّن 6 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: وحدانية الله في الربوبيّة/ وحدانيّة الله في المالكيّة/ وحدانية الله في الألوهيّة/ الاعتصام بالله/...

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: قل يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعوذ بربّ الناس وملكهم وإلههم وخالقهم ومدبّر أمورهم، تحرّزاً واعتصاماً ودفعاً لشرّ حديث النفس، وشياطين الجنّ والإنس.

4- اسم الجلالة "الله"، عَلَم بالغلبة، ويُراد به الذّات المقدّسة الإلهيّة، التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه، ووجود لا يتطرّق العدم والفناء إليه، والوجود الذي هذا شأنه، لا يمكن أن يُفرَض له حدّ محدود، ولا أمد ممدود، لأنّ كلّ محدود فهو معدوم وراء حدّه، والممدود باطل بعد أمده، فهو تعالى ذات غير محدود، ووجود غير متناه بحدّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
351

311

الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة الناس

 فكّر وأجب

 
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
- هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين. 
- نزلت هذه السورة دفعاً لسحر قام به اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 
- المراد بـ "الوسواس الخنّاس": شيطان من شياطين الجنّ. 
 
2- أَجِبْ باختصار:
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
• بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾؟
----------------------------------------------------------------
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
352

312

مصادر الكتاب ومراجعه

 مصادر الكتاب ومراجعه


• القرآن الكريم.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): التوحيد، تصحيح وتعليق: هاشم الحسيني الطهراني، لا.ط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين بقم المقدّسة، لا.ت.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1403هـ.ق/ 1362هـ.ش.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): عيون أخبار الرضا، تصحيح وتعليق وتقديم: حسين الأعلمي، لا.ط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404هـ.ق/ 1984م.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): معاني الأخبار، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش.

• ابن بابويه، محمد بن علي (الصدوق): من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت.

• ابن بابويه، محمد بن علي(الصدوق): علل الشرائع، تقديم: محمد صادق بحر 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
353

313

مصادر الكتاب ومراجعه

 العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف، 1386هـ.ق/ 1966م.


• ابن بابويه، محمد بن علي(الصدوق): كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1405هـ.ق/ 1363هـ.ش.

• ابن جبر، مجاهد: تفسير مجاهد، تحقيق: عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي، لا.ط، إسلام آباد، مجمع البحوث الإسلامية، لا.ت.

• ابن جرير الطبري، محمد: تاريخ الطبري، لا.ط، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، لا.ت. 

• ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لا.ط، بيروت، دار صادر، لا.ت.

• ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، لا.ط، لا.م، مكتبة الإعلامي الإسلامي، 1404هـ.ق.

• ابن فروخ، محمد بن الحسن (الصفّار): بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق وتقديم: حسن كوچه باغي، لا.ط، طهران، منشورات الأعلمي، مطبعة الأحمدي، 1404هـ.ق/ 1362هـ.ش.
• الأصفهاني، حسين (الراغب): مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط2، قم المقدّسة، طليعة النور، مطبعة سليمانزاده، 1427هـ.ق.

• البحراني، هاشم: البرهان في تفسير القرآن، لا.ط، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة، لا.ت.

• البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، تحقيق جلال الدين الحسيني(المحدِّث)، ط1، طهران، دار الكتب الإسلامية، مطبعة رنگين، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش.

• البيهقي، أحمد بن الحسين: شعب الإيمان، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، تقديم: عبد الغفار سليمان البنداري، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1410هـ.ق/ 1990م.
 
• تفسير الإمام العسكري عليه السلام، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ط1، قم المقدّسة، نشر مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، مطبعة مهر، 1409 هـ.ق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
354

314

مصادر الكتاب ومراجعه

 • الثمالي، ثابت بن دينار(أبو حمزة): تفسير أبي حمزة الثمالي، أعاد جمعه وتأليفه: عبد الرزاق محمد حسين حرز الدين، مراجعة وتقديم: محمد هادي معرفة، ط1، مطبعة الهادي، لا.م، 1420هـ.ق/ 1378هـ.ش.


• الخميني، روح الله: الآداب المعنويّة للصلاة، تحقيق ونشر لجنة إحياء تراث الإمام الخميني قدس سره، لا.ط، طهران، لا.ت.

• السبحاني، جعفر: محاضرات في الإلهيّات، ط1، بيروت، الدار الإسلاميّة، 1409هـ.ق/ 1989م.

• الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مراجعة وتصحيح ونشر قسم الترجمة والنشر في مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ط2، قم المقدّسة، لا.ت."

• الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت.

• الطبرسي، أحمد بن علي: الاحتجاج، تعليق وملاحظات: محمد باقر الخرسان، لا.ط، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ.ق/ 1966م.

• الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، تقديم: محسن الأمين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م.

• الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، نشر مرتضوي، مطبعة چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش.

• الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق.

• العلوي، علي (الشريف الرضي): نهج البلاغة (الجامع لخطب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام ورسائله وحكمه)، شرح: محمد عبده، ط1، قم المقدّسة، دار الذخائر، مطبعة النهضة، 1412هـ.ق/ 1370هـ.ش.

• العياشي، محمد بن مسعود: تفسير العياشي، تحقيق وتصحيح وتعليق هاشم الرسولي
355
المحلاتي، لاط، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، لات.

• الفهري، دروس في تفسير القرآن الكريم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
355

315

مصادر الكتاب ومراجعه

 • قراءتي، محسن: تفسير النور.


• القمي، علي بن إبراهيم: تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: طيب الموسوي الجزائري، لا.ط، لا.م، مطبعة النجف، 1387هـ.ق.

• الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط3، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، مطبعة حيدري، 1367هـ.ش.

• مطهّري، مرتضى: دروس من القرآن.

• النوري، حسين: مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيتعليهم السلام لتحقيق التراث، ط1، بيروت، 1408هـ.ق/ 1987م.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
356

316
هدى القرآن