بلاغ عاشوراء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-03

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 المقدمة 

                                       بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على رسوله محمّد وآل بيته الهداة الميامين.

كربلاء محطّة تاريخيّة لا تقف عند حدود سنة إحدى وستّين للهجرة، ولا على حدود كربلاء الجغرافيّة، بل تتعدّى بأطرافها المعنويّة حدود الزمان والمكان لتبقى غضّة طريّة تتجدّد مع الأيّام والشهور والسنوات، صادعاً صوتها، مجاوباً صداها، تضيء بنورها ظلمة الليالي الحالكة، لتقشع عن العيون أغشية الظلام الدامس الذي أرسته أيدي الظالمين والطغاة على مرِّ العصور.

إنّها صوت الحسين عليه السلام الخالد، الذي يطرق مسامع الزمن مدويّاً في أرجائه، ويقضّ مضاجع الطواغيت وينكّس عرشهم في عليائه..إنّها أنشودة الأحرار، وأغنية الثوّار، تصغي إليها آذانهم وتعيها قلوبهم، وتترنّم بها أفواههم وتجسّدها أقوالهم وأفعالهم..إنّها مدرسة الحسين عليه السلام التي تخرّج منها أحبّاء كحبيبه، وأحرار كحرّه، وأبرار كبريره، وأزهار كزهيره...وعشّاق شهداء... لا سبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من جاء بعدهم..

وقد أوضح الإمام الحسين معالم مدرسته من خلال نداءاته وخطاباته وكلماته النيّرة، بما يشكّل بلاغاً للنّاس، وقد قال الله تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في بعض 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 آيات كتابه: (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)1، والإمام الحسين عليه السلام هو السائر على منهاج جدّه والمقتفي لأثره بمقتضى نصِّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين منّي وأنا من حسين"، فدعا ونادى وأبلغ وهدى، بما هو وظيفة الإمام من ربّه كما في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمل من أمر ربّه، إلّا بلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنّة، وإقامة الحدود على مستحقّيها، و.."2.

 
ومن هنا جاء في بعض زيارات الإمام الحسين عليه السلام: "صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّك قد بلّغت عن الله عزَّ وجلَّ ما أمرت به، ولم تخش أحداً غيره، وجاهدت في سبيله وعبدته صادقاً حتّى أتاك اليقين، أشهد أنّك كلمة التقوى وباب الهدى والعروة الوثقى.."3.

 
فقد قام الإمام عليه السلام بالبلاغ والإبلاغ، وسعى جاهداً أن يسمع صوته حتّى إلى من أصمَّ أذنيه عن كلماته، تقول الرواية: وأحاطوا بالحسين من كلِّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج عليه السلام حتى أتى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتّى قال لهم: "ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاص لأمري غير مستمع قولي، فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟! ألاتسمعون؟!"4.
 
فقد أراد الإمام الحسين عليه السلام لكلماته المضيئة أن تخترق الحجب وتنير القلوب المظلمة، فوجّه بلاغاته ودروسه في مختلف الاتجاهات والجوانب، ممّا يستدعي بحقّ ضرورة الوقوف عند هذه البلاغات العاشورائيّة الكربلائيّة واستلهام الدروس العظيمة منها والسير على هديها ونهجها.
 
 
 

1- آل عمران:20.
2- نهج البلاغة, الخطبة 105.
3- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 573.
4- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 45 ص 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 هذا الكتاب:


وكان مركز الدراسات الإسلاميّة قد قام بطبع كتاب "بلاغ عاشوراء" لمؤلّفه سماحة المحقّق والكاتب الخبير حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ جواد محدّثي، و الذي قام بتعريبه ونقله من اللغة الفارسيّة إلى اللغة العربيّة العالم الفاضل الأستاذ عليّ الشاوي.

ونحن بدورنا في معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ وبعد اطّلاعنا على هذا الكتاب وأهميّته في نشر الثقافة العاشورائيّة، إرتأينا إعادة طبعه ونشره تعميماً للفائدة.

وحيث كان الكتاب قد طبع في الجمهورية الإسلاميّة المباركة، وقد راعى الكاتب فيه ارتباط مفاهيمه بالتاريخ المعاصر المتعلّق بالثورة الإسلاميّة والدفاع المقدّس، فقد قمنا في المعهد باختصار هذه التطبيقات- على أهميّتها- لعدم ارتباطها المباشر بساحتنا الإسلاميّة في لبنان، على أمل أن يلتفت القارئ الكريم إلى تطبيق هذا الربط مع التجربة الإسلاميّة الرائدة على أيدي المجاهدين الأبطال في المقاومة الإسلاميّة.

كما وحذفنا بعض نصوص الكتاب- وهي موارد قليلة- لعدم انسجامها مع سياسات المعهد.

وختاماً فإننا إذ نشكر المؤلّف والمعرّب والجهة الناشرة جهودهم المباركة نسأله تعالى أن يثيب العاملين في هذا الكتاب وأن يتقبّل عملهم بأحسن القبول، وأن يشركنا معهم في الأجر والثواب، ويوفّقنا جميعاً لما فيه إحياء أمر محمّدٍ وآل بيته الطاهرين، ويرزقنا شفاعتهم يوم الدين، إنّه سميع مجيب.

معهد سيد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 مقدّمة المؤلّف



لم تكن "عاشوراء" حادثة قدّر لها أن تقع في نصف أو في جلّ نهار يوم من أيّام سنة إحدى وستّين من الهجرة منفصلة عمّا قبلها وما بعدها، فلقد كان لواقعة عاشوراء جذور في وقائع حركة الأحداث والتحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي عاشها المسلمون منذ رحلة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى سنة ستّين من الهجرة، كما أنّ نتائجها وآثارها التي كان لها تأثير عظيم في حياة المسلمين فكراً وعملاً لم تزل إلى اليوم تمتدّ وتتّسع في تأثيرها البالغ في حياة الأمّة، وستبقى ممتدّة في هذا التأثير المبارك المتّسع إلى يوم القيامة.

ومع جميع ما أُخذ عن نهضة كربلاء وشهادة أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى اليوم، من استفادات ومواعظ وعبر، ودروس حماسيّة، وجهاديّة، وتربويّة، ومعنويّة، إلّا أنّنا نرى أنّ غناء هذه النهضة الإلهيّة أكثر بكثير ممّا أُخذ عنها واستفيد منها حتّى الآن، وأنّ على الأجيال الحاضرة والقادمة أن تنهل وترتوي بلا انقطاع من معين كوثر الإيمان واليقين هذا، وأن تسقي هي أيضاً عطاشى الحقيقة الخالصة.

من هنا، فمع كلّ الآثار والأعمال الفكريّة والأدبيّة التي تحقّقت على طريق معرفة هذه الملحمة الخالدة، إلّا أنّ الحاجة لم تزل قائمة وماسّة في كلّ زمان لمزيد من هذه الجهود الثقافيّة، من أجل مزيد متواصل من الاكتشاف الجديد، وقراءة أشدّ وضوحاً في العمق، وسعة أكثر شمولاً في الإحاطة، حتّى يمكن مواصلة تدوين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

المقدمة

 دروس وعِبر هذه الواقعة المقدّسة بشكل ومحتوى أفضل، وتعليمها ونشرها في جميع العالم، كي تنجذب البشريّة عامّة، والأرواح الباحثة عن الحقيقة خاصّة إلى تجلّيات وجماليّات هذه الملحمة الرائعة.


فلعاشوراء إذن "بلاغ" تشعُّ به أبداً، ولجميع النّاس...فيليق بنا إذن أن ننتمي إلى مدرستها الخالدة، ونأخذ عنها دروسها، حتّى نبلغ بذلك المراتب العليا من الإيمان، والمعرفة بالدين، والعلم بالتكليف.

ما هو بلاغ عاشوراء؟ وعمّن يؤخذ؟من أجل استخراج دروس وبلاغات وعبر عاشوراء يمكننا هنا أن نشير إلى أفضل المنابع والطرق التي يمكن الاطمئنان إليها في هذا السبيل:

1- أقوال وخطب الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره -المستشهدين بين يديه- وذويهم.

2- المنهج العمليّ والأخلاقيّ لسيّد الشهداء عليه السلام، وأهل بيته عليهم السلام، وأصحابه (قدّس سرّهم).

3- النصوص الدينيّة (خصوصاً الواردة منها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام )، والمتون التأريخيّة المعتبرة المرتبطة بعاشوراء.

وفي بداية هذا الكتاب، وقبل التورّط في أصل بحث "بلاغ عاشوراء" سنتعرّض إلى المقصود من كلمة "البلاغ"، والفرق بينها وبين الدرس، وما هو الشيء الذي نحن في طلبه في هذا البحث.

أضف إلى ذلك: أنّنا في بداية كلّ بحث من بحوث هذا الكتاب التي وردت تحت عنوان: البلاغات الاعتقاديّة والبلاغات السياسيّة والبلاغات الأخلاقيّة والبلاغات العرفانيّة والبلاغات التأريخيّة... سنقدّم إيضاحاً حول مفهوم ونطاق كلّ عنوان، كي يتجلّى هدف المؤلّف من وراء ذلك العنوان، ثمّ بعد شرح وإيضاح العناوين سنتناول بالتفصيل شرح المحاور الفرعيّة لكلّ عنوان، مدعوماً بالمستندات التأريخيّة والشواهد المستفادة من كلمات أبطال ملحمة عاشوراء، وسنكشف في بعض الموضوعات عن ارتباط هذه المفاهيم بتأريخنا المعاصر، وسنشير على هذا الصعيد إلى أمثلة بليغة من أقوال الإمام الخمينيّ قدس سره، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

5

المقدمة

 وشواهد من ثقافة الجهاد والشهادة التي تبلورت أبعادها في عهد الثورة الإسلاميّة والدفاع المقدّس، كيما يكون البحث أكثر تخصّصاً وأفضل هداية، وليكون الهدف المنشود من وراء هذا البحث عمليّاً أكثر في نقل دروس عاشوراء، حتّى يستفيد منها النّاس.


ويجدر هنا أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الكريم السيّد عليّ المقيمي الذي أعانني كثيراً في نقل قسم من متون موضوعات هذا الكتاب عن مصادرها.

جواد محدّثي - قم - آذار 1998م

                                            معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

مفهوم البلاغ

 البلاغ


"البلاغ" خطاب أو نداء يحمل في حناياه إرشاداً أو أمراً للمخاطبين به، ليعملوا طبقاً لهديه وأمره، والبلاغ قد يكون صريحاً وعلنيّاً، وقد يكون الفعل ذا بلاغ للآخرين، يدعوهم إلى عملٍ أو خصلةٍ ما.

وعلى هذا، فالفرد بإمكانه أن يحمل بلاغاً للآخرين، والجماعة بإمكانها ذلك أيضاً، كذلك بإمكان حادثة أو فعل ما أن يؤدّيا بلاغاً، ففي مرحلة من مراحل "النهي عن المنكر" مثلاً، نجد أنّ عدم الاعتناء بالشخص الذي يجترح المنكر وقطع الصلة به والعبوس والتقطيب بوجهه كلّ ذلك يحمل بلاغاً كذلك الشخص مؤدّاه: "لا تفعل هذا المنكر"، وهذا ما يُطلق عليه "لسان الحال" وليس "لسان المقال"، والبلاغ هذا فعل وليس قولاً.

فضلاً عن هذا، أنّنا ربّما استفدنا من حادثة ما، وإنْ لم ينطق القائمون بها أو يبلّغوا بشيء ما صراحةً وذلك لأنّنا استنتجنا من نفس الحادثة "بلاغاً"، وما فعلناه هذا هو "تلقّي الدرس" أو قل إنْ شئتَ: "فهم البلاغ".

وربّما كان بلاغ واقعة ما أيضاً مجرّد التنبيه إلى شيء ما والتحذير منه...وعلى هذا، فالحديث عن "بلاغات عاشوراء" لا يعني فقط ما صدر عن الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره (قدس) من أمر أو إرشادٍ للناس في ذلك الزمان أو ما يتلوه من الأزمنة، بل هذا الحديث يشمل أيضاً الدروس التي نستفيدها من عاشوراء.

فقول الإمام الحسين عليه السلام مثلاً: "... إنْ لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

7

مفهوم البلاغ

 المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه..."1 هو بلاغ صريح وواضح، ونحن إذا ما أخذنا عن واقعة عاشوراء هذا الدرس: "ينبغي الوقوف والقيام في وجه الظلم، وعدم التسليم له وإنّ كنا عدّة قليلة" فهذا مستفاد أيضاً من البلاغ العاشورائيّ وإنْ لم يرد مضمون كهذا في أقوال سيّد الشهداء عليه السلام، ذلك لأنّنا نعلم أنّ الإمام الحسين عليه السلام -وهو "أسوة" لنا وفعله حجّة علينا- مع عدد قليل من أنصاره قد جاهدوا وقاوموا جيشاً كثير العدّة والعدد، فلم يهنوا ولم ينكلوا حتّى مضوا شهداء في سبيل الله.


إذن يمكننا القول إنّ: "الوقوف والقيام في وجه الظلم" بلاغ عاشورائيّ، وإن كنّا قد تلقّيناه بصورة درس عن عاشوراء.
 
كان هذا التوضيح من أجل ألّا يحصل إبهام أو يقع إشكال بالنسبة إلى بعض ما ورد في هذا الكتاب تحت عنوان "بلاغ"، فيقال مثلاً: أين ومتى قال سيّد الشهداء عليه السلام:جاهدوا أنفسكم، اعتمدوا على أنفسكم وتوكّلوا على الله، لا تتعلّقوا بالدنيا، ضحّوا بكلّ شيء في سبيل الله، تمسّكوا بإمامة الوليّ المعصوم، وغير ذلك؟!!إنّ عاشوراء الحسين عليه السلام تجسيد وبلورة لهذه القيم والمفاهيم بالذات، ولهذا يمكننا أن نعدّ جميع هذه الدروس والعبر والمآثر والتنبيهات والمواقف العمليّة جزءً من "بلاغات عاشوراء"، فنتعلّق بها تمام التعلّق روحاً وقلباً، ونتّخذها ملاك سيرتنا وقانون حياتنا، ونترجمها ونبيّنها لجميع العالم قولاً وعملاً، ونربّي على هذه العقائد الحقّة أبناءنا والأجيال القادمة.
 
وهناك أيضاً مفهوم آخر من الضروري الانتباه إليه، وهو: "عِبر عاشوراء" التي تقع نوعاً ما ضمن دروس عاشوراء، لكنّ هناك فرقاً بين "الدرس" و"العبرة"، وهو أنّنا قد نتّخذ شخصاً ما أو واقعةً ما "أسوة حسنة" فنستفيد منها الدرس، ونستلهم منها هدىً ونتائج إيجابيّة، وندرك في ضوء هديها نهجنا العمليّ.
 
وقد نجد في شخصٍ ما أو واقعةٍ ما "مثلاً سيّئاً" يثير فينا مرارة التأسّف وعدم الارتياح، فبأخذنا "العبرة" من هذا المثل السيّئ نتجنّب أن يتكرّر مرّة أخرى في حياتنا، بل من الواجب الحؤول دون تكرّره.
 
 
 
 

1- راجع: مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزميّ، ج2، ص32؛ اللهوف، ص119؛ البداية والنهاية، ج8، ص203.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

8

مفهوم البلاغ

 وقد ضرب القرآن الكريم الكثير من الأمثلة سواء الحسنة أو السيئة، فكما ورد فيه ذكر أشخاص أو أقوام، في قصص الفداء والتضحيات والمجاهدات والصبر والمقاومة والإيمان والإخلاص ومخافة الله تعالى، فهم "أسوة" للآخرين، أراد الله تبارك وتعالى من خلال التذكير بقصصهم ومواقفهم الكريمة بعث وتحريك الدوافع في الآخرين من أجل مواصلة وتكرار تلك المواقف الحميدة وتلك الفضائل.

 
كذلك ورد في القرآن الكريم ذكر وقائع مؤسفة لأشخاص وأقوام من الأمم السالفة، غلبت عليهم الشقوة، والجحود، والكفر، والمعصية، والعناد، وعبادة الطاغوت والأهواء، وقد أراد الله تبارك وتعالى من خلال التذكير بقصصهم أن يتّخذ "أولو الأبصار" منها "العبرة" ويتخّذ "أولو الألباب" منها "الموعظة" حتّى لا يكونوا من أهل ذلك المصير السيّئ.

وفي مجتمعنا اليوم أيضاً ينبغي الاستلهام من البلاغات والدروس من أجل صنع وصياغة النماذج الصالحة، كما ينبغي أخذ المواعظ من "العبر" من أجل منع ظهور وتكرار النماذج السيّئة في الواقع الفرديّ والاجتماعيّ.
 
وقد أكّد قائد الثورة المعظّم سماحة آية الله السيّد عليّ الخامنئيّ تأكيداً شديداً على أهميّة "العبر" التي تفوق أهميّة "الدروس" في الخطاب المهمّ والتحليل الدقيق الذي أدلى به، حيث قال سماحته:


"دروس عاشوراء شيء آخر له أهميّته، درس الشجاعة، ودرس كذا، ودرس كذا، لكنّ ما هو أهمّ من دروس عاشوراء: عِبرُ عاشوراء"1.
 
وقال سماحته أيضاً في أخذ العبرة من عاشوراء بالمعنى الذي مرَّ:
"إذا تأمّل الخواصّ في عمل ما، في وقته، فشخّصوا التكليف فيه، وعملوا على أساسه، فسينجو التأريخ، ولن يضطّر الحسينيّون إلى ورود ساحات أمثال كربلاء مرّة أخرى، أمّا إذا فهم الخواصّ فهماً خاطئاً، أو فهماً متأخّراً عن وقته المناسب، أو فهموا ولكن اختلفوا فيما بينهم، فإنّ كربلاء سوف تتكرّر في التأريخ"2.
 
 
 

6- من خطاب له في جمع من قادة ومتطوّعي فيلق محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابع والعشرين، (عاشوراء عام 1993م).
7- نفس المصدر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

9

مفهوم البلاغ

 فبدون هذا التقييم التحليليّ، وبدون معرفة وتدوين البلاغات، والدروس، والعبر، يُخشى دائماً من أن تفقد أكبر الحوادث التأريخيّة المحرّكة قوّتها المؤثّرة الفعّالة، ويتحوّل درس أفضل الحوادث التربويّة إلى مفردات مفكّكة لا تحمل رسالة ولا بلاغاً ولا موعظة، فيمرّ النّاس بالعبر ولا يعتبرون، ويسمعون البلاغ ولا يعون، فتتكرّر مآسي التأريخ.

 
لقد كان قلق قائد الثورة المعظّم سماحة آية الله الخامنئيّ في محلّه تماماً، وصادراً عن غاية الوعي والإدراك، حيث يقول:

"الأُمّة الإسلاميّة ينبغي عليها أن تفكّر لماذا بعد خمسين سنة من رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصلت حالة البلاد الإسلاميّة إلى درجة أنّ نفس هؤلاء المسلمين، من وزيرهم وأميرهم وقائدهم وعالمهم وقاضيهم وقارئهم، اجتمعوا في الكوفة وكربلاء ليفتكوا بفلذة كبد نفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الصورة الفجيعة؟!! ينبغي على الإنسان أن يتأمّل جيّداً: لماذا حصل هذا؟!!"1.
 
إنَّ أولئك الذين يريدون أن يُحيوا "الدين" لا بد أن يكون لجميع تصرفاتهم الفرديّة والاجتماعيّة، العباديّة والسياسيّة، مبنىً شرعيّاً، وأن يكون اتّخاذهم المواقف والأعمال، وجميع شؤون تحرّكاتهم الدينيّة، مستنداً إلى خطّ الولاية، وبدون ذلك فإنّ مشروعيّة كلّ جهاد وسعي ستكون عرضة للتساؤل.
 
لذا، فإنّ هناك مسائل أساسيّة لا بدّ من التحقيق فيها ومعرفة الإجابة عنها، وهذه المسائل تفرض نفسها على ذهن المتأمّل كلّما تأمّل في أبعاد وتفاصيل حركة أحداث واقعة عاشوراء، ذلك أنّ نهضة عاشوراء أدّت إلى القتل والجرح والأسر والضرر الماليّ والنفسيّ.
 
لذا وجب أن يكون كلّ عمل من أعمال الحركة الدينيّة ذا مشروعيّة، أي مستنداً إلى حكم الله تبارك وتعالى، فإنّ مسائل واستفسارات كثيرة على الصعيد الفقهيّ تفرض نفسها على ذهن المتأمّل، مثلاً:


أين ومتى يجب القيام والثورة؟ وأين ومتى يجب السكوت؟ ما هو الجهاد؟ وأين ومتى يجب الجهاد وإظهار الحقّ؟ ما هي التقيّة وما محلّها وما حدودها؟ ما هي 
 
 
 

1- نفس المصدر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

10

مفهوم البلاغ

 حدود التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما مجاله؟ كيف ينبغي التعامل مع حكومة الجور؟ ما هي حدود تكليف إقامة الحكومة الدينيّة؟ كيف يمكن حلّ التعارض بين حكم الجهاد والمقاومة وبين حكم التقيّة وحفظ النفس؟ إلى أيّ حدٍّ يمكن الالتزام ببيعة حكومة الجور؟ ما هو تكليف المرأة في الجهاد؟ كيف تؤسر المرأة المسلمة؟ ما هو حكم المرأة في الأسر؟ هل كانت نهضة عاشوراء تكليفاً خاصّاً بالإمام المعصوم عليه السلام أم هو من نوع التكليف العامّ؟ ما هو الفرق بين "الشهادة" و"الانتحار" ؟ ما هو المستند الشرعيّ للمقاومة التي تستلزم الإضرار بالنفس والأضرار والأخطار الأخرى المعتدّ بها؟ وهل يوجد تكليف أيضاً في حال وظروف "عدم القدرة" كيف ينبغي الردّ على ما يثيره البعض من شبهة أنّ القيام ضدّ الطاغوت "إضرار بالنفس" و"إلقاء في التهلكة"، وأنّ كلّ قيام ضدّ الحكّام غير مشروع وموجب لهدر دم الثائرين وأنّه نقض للبيعة، وأنّه حرام مطلقاً!، وأنّ إطاعة الحكّام والأمراء واجبة في كلّ الظروف! وأنّ الخروج عليهم من مصاديق "الفتنة" و" شقّ عصا الأمّة" ؟


إنّ الإجابات الصحيحة عن هذه المسائل وأسئلة أخرى كثيرة من هذا القبيل توضّح وتجلّي البعد الفقهيّ لواقعة عاشوراء، وتعكس إلى أيّ حدّ كانت نهضة كربلاء (تبلّغ) بهذه المحاور الفقهيّة وتجيب عنها، كما تُرشد إلى الصورة التي يمكن من خلالها استلهام الحقائق والدروس التي بها يُجاب عن هذه الأسئلة.

خلاصة القول: هي أنّ ما تُعلِّمنا إيّاه عاشوراء، وما تبنيه فينا، وما تطبعه في حياتنا وسيرتنا من آثار مباركة، رهين معرفتنا حقّ المعرفة بدروسها وعبرها وبلاغاتها وتبيينها.

وفي هذا الأفق يجب أن نتأمّل في: "لماذا" وقعت الواقعة قبل أن نفكّر في: "كيف" وقعت، حتّى نستخلص من قصص الماضين العبرة الأقوى موعظة وأثراً، من خلال الاستفادة من النقاط المشتركة والروح السارية في وقائع التأريخ المتماثلة.

و... هذا عمل مهمّ وضروريّ، وصعب جدّاً في ذات الوقت ولن تقلّل صعوبته البالغة من ضرورته...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

11

البلاغات الاعتقاديّة

 إيضاح


تقع مسؤوليّة تبيين "الدين"، وتصحيح عقائد النّاس في المسائل الاعتقاديّة والفكريّة بالأساس على عاتق الإمام المعصوم عليه السلام، فالأئمّة عليهم السلام كما يرسمون بأقوالهم وأفعالهم الصورة الصحيحة للاعتقادات والمتبنيّات الفكريّة، كذلك يواجهون ويجاهدون كلّ انحراف على هذا الصعيد.

فالتوحيد الخالص ما هو؟ وما هو دور وأثر الإيمان بالله والاعتقاد بالمبدأ والمعاد في الحياة؟ وما هو منهج الأنبياء عليهم السلام وما هي غايتهم؟ وكيف يستمرُّ ويتواصل خطّ "الرسالة" في قلب "الإمامة" ؟ وما هو الدين؟ ومن هم أهل البيت عليهم السلام ؟ وما هي مسؤوليّاتهم؟ وما هو تكليف وواجب الأمّة إزاء الإمام عليه السلام كلُّ هذا وذاك من تجلّيات "البلاغات الاعتقاديّة" لعاشوراء.

وإذا نظرنا من هذا الأفق إلى نهضة سيّد الشهداء عليه السلام فإنّنا سنتعلّم دروساً عظيمة، وسنجد عاشوراء مدرسة تربويّة رائعة، تتجلّى تعاليمها في أقوال وخطب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، بل تتجلّى المعاني والتعاليم الاعتقاديّة حتّى في أشعارهم ورجزهم منذ حركة الركب الحسينيّ من المدينة وحتّى عودته إلى المدينة.

وفضلاً عن أفق تبيين وتوضيح أصول الاعتقادات والخطوط الأساسيّة الفكريّة بواسطة الأقوال والخطب والأشعار، نجد أنّ هذه العقائد والأفكار قد تجلّت أيضاً في أفق التصرّفات والأعمال التي صدرت عنه عليه السلام وعن أهل بيته وأصحابه، ف-"التوحيد" مثلاً نراه- فضلاً عن تجلّيه في الأقوال والتصريحات والأشعار- قد تجلّى أيضاً في العبادة والطاعة في ميدان واقعة كربلاء يوم عاشوراء، وهذا التجلّي العمليّ أقوى في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

12

البلاغات الاعتقاديّة

 التعليم وأشدّ في التأثير السلوكيّ من القول والخطاب في تأثيره الفكريّ والذهنيّ.


إنّ الاعتقاد بالله واليوم الآخر ينبغي ألّا يُكتفى بعرضه على العقل في صورة تصديق ذهنيّ جاف، بل ينبغي عرضه على روح الإنسان في أجمل صورة للحقيقة الكبرى التي هي منشأ كلّ الآثار المباركة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان المسلم، وفي توجيهه في ميادين الجهاد والمقاومة.

والاعتقاد بالإمامة أيضاً ينبغي ألّا يكون محصوراً في إطار البحث الكلاميّ والاحتجاجات القرآنيّة والروائيّة في قضيّة من هو الرجل الذي يجب أن يكون الخليفة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل ينبغي عرضها على أساس أنّ الإمامة ركيزة نظام هذا العالم، وأنّها ضمان بقاء الإسلام المحمّدي الخالص بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها عنوان النظام السياسيّ الإسلاميّ، وأنّها الإيمان والقبول بولاية القائد الربانيّ المعصوم المنصوب من عند الله تبارك وتعالى والانقياد لها، وأنّها خطّ السير الذي لا يخالف القرآن وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صغيرة ولا كبيرة، وهي بالتالي مسألة من هو الشخص الحقيق بزعامة وقيادة الأُمّة الإسلاميّة.

ويمكن أيضاً عرض موقع أهل البيت عليهم السلام في المجتمع الإسلاميّ من هذه الزاوية، وكذلك أصل مسألة رسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والوحي والشفاعة و... وكلٌّ من هذه القضايا الاعتقاديّة لها "بلاغ"، نقرأه في نهضة عاشوراء فقط في حال ما إذا استمرّت الحركة العاشورائيّة واتسعت على امتداد الزمان وخاطبت الأجيال الحاضرة والقادمة، وصارت الهادية لهم.

ينبغي ألّا يُغفل عن البعد الاعتقاديّ لواقعة كربلاء، فكما تتجلّى المعاني والمضامين العقائديّة في مجموع حركة أحداث هذه الملحمة المقدّسة، نلاحظ أيضاً أنّ أساس نهضة كربلاء هو حفظ العقائد الإسلاميّة الحقّة الخالصة من الزوال بسبب التحريف، لقد كان هذا هو الهدف المهمّ الذي مضى فداءً لتحقيقه شهيد عظيم مثل أبي عبد الله الحسين عليه السلام. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره :

"الشخصيّة العظيمة، الذي كان قد تغذّى من عصارة الوحي الإلهيّ، وتربّى في أُسرة سيّد الرسل محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد الأولياء عليّ المرتضى عليه السلام، وترعرع في حجر الصدّيقة الطاهرة عليها السلام، قام وصنع بتضحيته الفريدة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

13

البلاغات الاعتقاديّة

 ونهضته الإلهيّة واقعة عظيمة هدمت قصور الظالمين، وأنجت الإسلام"1.

 
وفي موقع آخر، يقول قدس سره حول حقيقة الحكّام الأمويّين المعادية للإسلام وعقيدتهم الهدّامة:


"باسم خلافة رسول الله كانوا قد ثاروا على رسول الله!، كانت صيحتهم لا إله إلّا الله ولكنّهم ثاروا ضدّ الألوهيّة، كانت أعمالهم وتصرّفاتهم شيطانيّة لكنّ صيحتهم صيحة خليفة رسول الله"2.

في أقوال الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، هناك مفاهيم عقائديّة عالية، ينبغي التأمّل فيها واستيعابها، وقد وردت هذه المفاهيم العقائديّة في المحاور التالية: معرفة الله، رسالة الأنبياء، أثر الوحي والقرآن في الحياة، أصالة الدين وضلال أهل البدع، الحياة الخالدة والحياة بعد الموت، الجنّة والنّار، الثواب والأجر والعذاب، الشفاعة، أحقيّة الأئمّة عليهم السلام بالخلافة والولاية، وظيفة النّاس إزاء حجج الله عليهم السلام، نفاق عبدة الدنيا، التلاعب بالعقائد الدينيّة من أجل استغفال النّاس وخداعهم، و...
 
 
 

1- صحيفة نور، ج12، ص181.
2- نفس المصدر، ج7، ص230.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

14

البلاغات الاعتقاديّة

 التوحيد في العقيدة والعمل


الاعتقاد بالله وب-"التوحيد" لا ينحصر في ذهن الإنسان المسلم الموحّد فحسب، بل تمتدّ ظلاله في جميع شؤون وظروف وزوايا حياته، فالله من هو؟ وما هو؟ وهذه المعرفة ما تأثيرها في حياة الإنسان المسلم العمليّة وفي مواقفه الاجتماعيّة؟ هذه التساؤلات تكشف عن مكانة وتأثير هذه العقيدة في الحياة.

الاعتقاد بالله وبأنّه هو الحقّ، وأنّه لا يقول إلّا الحقّ، ولا يخلف وعده، وأنّ طاعته واجبة، وأنّ سخطه سبب الدخول إلى جهنّم، وأنّه حاضر لا تخفى عليه خافية في كلّ حال، قد أحاط علمه بكلّ صغيرة وكبيرة من أعمال الإنسان، بل قد أحاط بكلّ شيء علماً، و... مجموعة هذه الاعتقادات حينما ترقى إلى مستوى "اليقين" تكون أقوى دوافع الخير أو موانع الشرّ تأثيراً في حياة الإنسان.

إنّ مفهوم التوحيد لا ينحصر في الفكر والتصدّيق النظريّ، بل يتحوّل في البعد العمليّ إلى "التوحيد في الطاعة" و"التوحيد في العبادة".

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعلم بشهادته من قبل، بل كان يعلم بجزئيّات وتفاصيل وقائع شهادته، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذكر هذه الفاجعة مراراً، لكنّ هذا العلم والاطّلاع المسبق لم يضعف من رأيه وتصميمه على مواصلة الطريق وورود ميدان الجهاد والشهادة، ولم يشكّكه في يقينه، بل زاد في حبّه للشهادة وفي الإقبال عليها.

لقد ورد الإمام الحسين عليه السلام ميدان كربلاء بنفس هذا الإيمان وهذا اليقين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

15

البلاغات الاعتقاديّة

 وجاهد جهاد العاشق المتلهّف إلى لقاء الله، تماماً كما ورد في الشعر الذي يُذكر عن "لسان حاله":

 
تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا               وأَيتمتُ العيالَ لكي أَراكا
 
هكذا كان يقين الإمام عليه السلام سامياً راسخاً في كلّ القضايا، وخصوصاً قضيّة عزمه على الشهادة، إذ لم يتذبذب رأيه لضعف، ولم يتزعزع يقينه بشكّ، حتّى في الموارد المتعدّدة التي سعى فيها بعض أهل بيته وأخوته وأبناء عمومته وبعض وجهاء قومه إلى منعه عن القيام أو عن الخروج إلى العراق، بدافع النصح والإشفاق عليه من القتل والاضطهاد، حيث حذّروه من التوجّه إلى الكوفة، ومن غدر أهلها وعدم وفائهم، وذكّروه بمظلوميّة أبيه وأخيه الحسن عليهما السلام من قبل وما عانيا من أهل العراق.
 
لقد كانت واحدة من هذه النصائح والتوسّلات تكفي لإثارة الشكّ وتضعيف اليقين في قلب الإنسان العادي، لكنّ عقيدة الإمام عليه السلام الواضحة، وعلمه الإلهيّ، ويقينه الصادق الذي لا ريب فيه، في اختياره هذا الطريق وهذا المصير الكريم، كان السبب في ثباته عليه السلام حيال كلّ محاولات التشكيك وإيجاد اليأس والتردّد، وفي تقديمه التسليم لأمر الله وقضائه ومشيئته على كلّ شيء.
 
فحينما طلب منه ابن عبّاس أن يتوجّه في أيّ طريق آخر غير طريق العراق وألّا يواجه بني أميّة، قال له الإمام الحسين عليه السلام في معرض حديثه عن أهداف ونيّات الأمويّين: "إنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون"1، حيث ربط عليه السلام تصميمه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ استرجع، وذلك ليقينه بحقّانيّة طريقه وغايته، وبصدق وعد الله تبارك وتعالى.
 
إنّ "اليقين" مؤشّر دالّ على وضوح الإيمان بالدين وبأمر الله وبحكم الشريعة، وجوهرة اليقين في أيّ قلب حلّت، صنعت منه قلباً مقداماً مصمّماً لا يعرف الخوف، ولقد تجلّى اليقين في ميدان كربلاء يوم عاشوراء أتمَّ التجلّي في أُفق معسكر الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، اليقين بحقّانيّة سبيلهم واليقين بضلال أعدائهم واليقين بأنّ
 
 
 
 

1 موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ص231.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

16

البلاغات الاعتقاديّة

 المعاد حقّ والحساب حقّ واليقين بحتميّة الموت ولقاء الله، فكان ذلك اليقين هو الموجّه والباعث على المقاومة وكيفيّة المواجهة والجهاد، والثبات على الطريق الذي اختاروه.


إنّ "الاسترجاع" وهو عبارة: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" التي تقال عند السماع بخبر موت أو شهادة أحدٍ ما، وتقال عند كلّ مصيبة، كانت في منطق الإمام الحسين عليه السلام - فضلاً عن بعدها المعروف- تذكيراً بالحكمة العالية للوجود والحياة والمصير: "منه وإليه"، وكثيراً ما كان ينطق بها الإمام عليه السلام أثناء مسيره منذ خروجه من المدينة حتّى ساعة استشهاده، كيما تكون هذه العقيدة هي الموجّه لكلّ تصميم وعمل.
 
لقد استرجع الإمام مراراً في منزل الثعلبيّة بعد أن سمع بخبر شهادة مسلم وهاني1، وفي نفس هذا المنزل أيضاً كان الإمام عليه السلام في وقت الظهيرة قد وضع رأسه فرقد، ثمّ استيقظ " فقال: قد رأيتُ هاتفاً يقول: أنتم تسرعون، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة.
 
فقال له ابنه عليُّ: يا أبه! أفلسنا على الحقّ؟
 
فقال: بلى يا بنيّ والذي إليه مرجع العباد.
 
فقال: يا أبه! إذن لا نبالي بالموت!
 
فقال له الحسين عليه السلام:جزاك الله يا بنيّ خير ما جزى ولداً عن والد..."2.
 
كان تذكيره المتواصل على طول الطريق بحقيقة الارتباط بالله تبارك وتعالى، وبالرجوع إليه، وتأكيده المستمرّ عليها، من أجل إعداد أصحابه إعداداً روحيّاً عالياً للتضحية الكبرى في سبيل العقيدة، ذلك لأنّ المقاتل لا يستطيع بدون العقائد الصافية الواضحة أن يبقى إلى النهاية مقاوماً صلباً لا يكلُّ في دفاعه عن الحقّ.
 
لقد كان "اليقين" يتجلّى في معسكر الحسين عليه السلام في "الموضوع"، أي المعرفة الواضحة بالهدف وبالطريق وبالظروف، ويتجلّى كذلك في "الحكم"، يعني كون التكليف هو الجهاد والاستشهاد، وأنّ ذلك في صالح الإسلام في تلك الظروف، كما 
 
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزميّ، ج1، ص328.
2- بحار الأنوار، ج44، ص367.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

17

البلاغات الاعتقاديّة

 تجلّى أيضاً في الإيمان ب-"الله" و"اليوم الآخر"، هذا الإيمان الذي هو الباعث الأساس للإقدام في ميدان الفداء والتضحية، نقرأ هذه الحقيقة في مضامين الرجز الذي أنشده وهب بن عبد الله في نزلته الثانية إلى الميدان، حيث كان يعرّف نفسه "المؤمن بالرّب"1 و"الموقن بالرّب"2.


ومن التجلّيات الأخرى لدور العقيدة الخلاّق في العمل: التوحيد في طلب النصرة والمعونة من الله تبارك وتعالى، والاعتماد على الله فقط.
 
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام متوكّلاً ومعتمداً على الله تعالى وحده، لا على رسائل أهل الكوفة، ولا على ما ادّعوه من حمايتهم له، ولا على شعاراتهم.
 
فحينما منع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ الطريق على ركب الإمام عليه السلام خطب فيهم الإمام عليه السلام خطبته التي عرّفهم فيها أنّه ما جاء إلّا استجابة لرسائل أهل الكوفة، وفي ختام هذه الخطبة قال عليه السلام داعياً إيّاهم إلى الوفاء بالبيعة ومحذّراً من نقضها: "وإنْ لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم... فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم..."3.
 
وفي الطريق لمّا التقى عليه السلام الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ ورفيقه، فحدثّاه عن أوضاع الكوفة، وتعبئة أهلها لمحاربته، كان جوابه عليه السلام على ذلك: "حسبي الله ونعم الوكيل"4.
 
وفي صبيحة عاشوراء أيضاً، لمّا أحاط الجيش الأمويّ بمعسكر الإمام عليه السلام، رفع الإمام عليه السلام يديه المباركتين بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً:
 
"اللّهمَّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذلُ فيه الصديق، ويشمتُ فيه العدوّ، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته
 
 
 

1- راجع: بحار الأنوار، ج25، ص17.
2- راجع: المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص109 - 110.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص361.
4- نفس المصدر، ص378.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

18

البلاغات الاعتقاديّة

 عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة"1.

 
هذه الحالة الروحيّة السامية، تجلّي ظاهريّ رائع لعقيدة القلب وإيمانه بالله تبارك وتعالى، ولليقين الراسخ بنصرة الله عزَّ وجلَّ، وللتوحيد الخالص في الدعاء والطلب.
 
إنّ الهدف الأساس المنشود من المعارف الدينيّة هو تقرّب العباد إلى الله تبارك تعالى، وهذا المحتوى ظاهرٌ بيّنٌ أيضاً حتّى في نصوص زيارات شهداء كربلاء وخصوصاً زيارات الإمام الحسين عليه السلام المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حيث نجد من خلال نفس ثقافة الزيارة خطوة من أجل التقرّب إلى الله، وهذا توحيد خالص.
 
لنقرأ مثلاً هذا النصّ المبارك من إحدى زيارات الإمام الحسين عليه السلام:
"اللّهمّ من تهيّأ وتعبّأ وأعدَّ واستعدَّ لوفادة إلى مخلوق، رجاء رفده وجوائزه ونوافله وفواضله وعطاياه، فإليك يا ربّ كانت تهيئتي وإعدادي واستعدادي وسفري، وإلى قبر وليّك وفدت، وبزيارته إليك تقرّبتُ رجاء رفدك وجوائزك ونوافلك وعطاياك وفواضلك..."2.
 
وفي مواصلة هذا الدعاء الشريف أيضاً نقرأ هذه الفقرة التوحيديّة الخالصة التي جاءت على سبيل الحصر، حيث يقول الزائر ضارعاً إلى الله تبارك وتعالى: "... فإليك قصدتُ، وما عندك أردتُ..."3.
 
هذه المتون الشريفة كاشفة بوضوح عن البعد التوحيديّ في التعاليم الشيعيّة، التي تعتبر مراقد المعصومين عليهم السلام وزيارة أولياء الله معبراً وممرّاً إلى التوحيد الخالص، وتعبّداً بالأمر الإلهيّ الذي أوصى بإحياء وتخليد هذه الشعائر.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج25، ص4.
2- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسيّ، ج6، ص62.
3- نفس المصدر.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

 


19

البلاغات الاعتقاديّة

 المبدأ والمعاد

 
إنّ الاعتقاد بالمبدأ هو أهمّ دوافع الجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى، وبدونه لا تجد مقاتلاً يقدُم على الحرب طائعاً راغباً، ويرى نفسه المنتصر في معركة تنتهي بشهادته، إذ ما هو الدافع الذي يمكن معه استقبال الجهاد والاستبسال والتضحية، والترحيب بذلك والإقبال عليه، لو لم يكن هذا الدافع هو الاعتقاد بالحياة الأخرويّة!؟
 
من هنا، فقد كان لاعتقاد كهذا دور محوريّ وحضور قويّ في أقوال وخطب ومحاورات الإمام الحسين عليه السلام، وفي أشعاره وأشعار أنصاره ورجزهم، يتجلّى فيها في أورع صورة.
 
فحينما رأى الإمام الحسين عليه السلام جزع أخته عليها السلام قال لها مذكّراً إيّاها بهذا الاعتقاد والإيمان العالي: "يا أختاه! تعزّي بعزاء الله، وارضَي بقضاء الله، فإنّ سكّان السموات يفنون، وأهل الأرض يموتون، وجميع البرّية لا يبقون، وكلّ شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنّ لي ولك ولكلّ مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم "1، وفي نصّ آخر: "... وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون..."2.
 
ويحدّث عليه السلام أصحابه ليلة عاشوراء، مؤكّداً على نفس هذا المحور الاعتقاديّ، فيقول في جملة حديثه: "... واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص405 و404 على الترتيب.
2- نفس المصدر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

20

البلاغات الاعتقاديّة

 الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها..."1.

 
إنّ اليقين بالمعاد يقطع جذور تعلّقات الإنسان بالدنيا، فيصير بإمكانه أثناء أداء التكليف أنّ يضحّي بنفسه بيسر وسهولة.
 
في لقاء الإمام عليه السلام مع الفرزدق في منزل2 من منازل طريقه عليه السلام إلى الكوفة أخبره الفرزدق بشهادة مسلم بن عقيل عليه السلام، فأنشد الإمام عليه السلام أبياتاً من الشعر أشار فيها إلى هذه العقيدة النيرّة وهي: 
 
"فإنْ تكن الدنيّا تعدُّ نفيسة                    فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ
 
وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت                فقتل امرءٍ بالسيف في الله أفضلُ"3
 
وكان عليه السلام قد قال للفرزدق- قبل أن يُنشد هذه الأبيات- بعد أن استعبر باكياً: "رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى رَوْح الله وريحانه، وتحيّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا".
 
فهو عليه السلام كان موقناً- في ضوء هذا الاعتقاد- أنّ شهادته وشهادة كلّ من أنصاره وأهل بيته وصول إلى الخلود والاستقرار والاطمئنان في جوار رحمة الله تبارك وتعالى، واللقاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفوز بأعلى درجات النعيم.
 
وجميع تلك التأكيدات على الأجر الإلهيّ، والفوز والفلاح، والتلذّذ بأنواع شراب الجنّة، والتمتّع بمختلف النعم الإلهيّة الخالدة، كانت تخلق في النفس الدافع إلى الجهاد والشهادة، من هنا فإنّ شهداء كربلاء من خلال هذا الإيمان واليقين كانوا يرون الموت بداية الحياة الطيّبة في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا ختاماً عدميّاً، ولا نهاية للوجود.
 
فحينما ذهب عليّ الأكبر عليه السلام إلى ميدان القتال، وقاتل قتالاً شديداً، ثمّ عاد
 
 
 

1- نفس المصدر، ص398.
2- هناك مجموعة من الأخبار تفيد أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في أكثر من موضع، والصحيح أنّهما التقيا مرّة واحدة في منزل واحد، راجع تحقيق هذه القضيّة في موسوعة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة).
3- بحار الأنوار، ج44، ص374، وتتمّة هذه الأبيات:
وإنْ تكن الأرزاق قسماً مقدّراً فقلّة حرص المرء في الرزق أجملُ
وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به الحرّ يَبْخَلُ؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

21

البلاغات الاعتقاديّة

 إلى أبيه عليه السلام شاكياً إليه ما هو فيه من شدّة العطش، قال له الإمام عليه السلام: “واغوثاه! يا بنيّ قاتل قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدّك محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأُ بعدها أبداً!"1.



وقد روي أنّ الإمام عليه السلام بعد أن قُتل عليّ الأكبر عليه السلام: “وضع ولده في حجره، وجعل يمسح الدّم عن ثناياه، وجعل يلثمه ويقول: يا ولدي! أمّا أنت فقد استرحت من همّ الدنيا وغمّها وشدائدها، وصرت إلى رَوْح وريحان، وقد بقي أبوك، وما أسرع اللحوق بك!"2.
 
ونقل أيضاً أنّ الإمام عليه السلام لمّا عاد إليه أحمد بن أخيه الحسن عليه السلام من ميدان الحرب. وقد غارت عيناه من شدّة العطش، فنادى: "يا عمّاه! هل من شربة أُبرّد بها كبدي، وأتقوّى على أعداء الله ورسوله؟ فقال له الحسين عليه السلام:يا ابن أخي! إصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك رسول الله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبداً..."3.
 
وهنا نلاحظ أنّ هذا النصّ أيضاً يذكّر بهذه الحقيقة، وهي أنّ الشهادة في الجبهة تنجلّي مباشرة عن لقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والارتواء من شراب الجنّة.
 
وعلى أساس هذا الاعتقاد بالذات، كان مجاهدو المعسكر الحسينيّ يرون أعداءهم خارجين عن الدين، تاركين لسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مخزيّين في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب جهنّم. ففي ضمن أبيات الشعر التي أنشأها الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد أخيه وصاحب لوائه العبّاس عليه السلام، والتي ذمّ ووبّخ فيها الأعداء على قتلهم عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال عليه السلام:
 
"... فسوف تلاقوا حَرّ نارٍ توقَّدُ"4.
 
ويموج رجز أنصار الإمام عليه السلام أيضاً بهذا الارتكاز على المبادئ الاعتقاديّة،
 
 
 

1- اللهوف، ص49.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص463.
3- معالي السبطين، ج1، ص455، المجلس 22.
4- راجع: بحار الأنوار، ج45، ص41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

22

البلاغات الاعتقاديّة

 وبارتباط القتال بالدافع العقائديّ، وبالإيمان بيوم القيامة، والأمل بمرضاة الله ورجاء ثوابه، والفوز بدرجات الجنّات العليا، فعلى سبيل المثال: لمّا برز عمرو بن خالد الأزديّ إلى ميدان القتال كان يرتجز قائلاً:

"اليومَ يا نفسُ إلى الرحمن                   تمضين بالرَوْحِ وبالريحان" 
 
"اليومَ تُجزين على الاحسان                  ما خطَّ في اللوح لدى الدّيان" 
 
                         "لا تجزعي فكلّ حيّ فانِ" 1

ثمّ برز ابنه خالد وهو يقول:
"صبراً على الموتِ بني قحطان                كيما تكونوا في رضى الرحمنِ
ذي المجد والعزّة والبرهان                    وذو العلى والطول والإحسان
يا أبتا قد صرتُ في الجنان                     في قصر دُرٍّ حسن البنيان" 
 
ثمّ برز سعد بن حنظلة التميميّ مرتجزاً: 
 
"صبراً على الأسياف والأسنّة               صبراً عليها لدخول الجنّه
وحور عينٍ ناعمات هُنَّه                     يا نفسُ للراحة فاجهدنّه
 
وفي طلاب الخير فارغبنّه"2
 
ولمّا برز مسلم بن عوسجة قال مرتجزاً: 
 
"إنْ تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد              من فرع قومٍ في ذرى بني أسد
فمن بغانا حائدٌ عن الرشد                  وكافر بدين جبّار صمد"
 
ولمّا برز عمرو بن مطاع الجعفيّ ارتجز قائلاً: 
"اليومَ قد طاب لنا القراع                 دون حسين الضرب والسطاع
 
 
 
 

1- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص102 و102.
2- نفس المصدر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

23

البلاغات الاعتقاديّة

 نرجو بذاك الفوز والدفاع                من حرّ نارٍ حين لا امتناع"1

 
وهناك نماذج كثيرة أخرى، تكشف جميعها عن المرتكز الاعتقاديّ والإيمانيّ بالمبدأ والمعاد في كفاح أبطال عاشوراء.
 
كان التذكير في كربلاء بالمبادئ الاعتقاديّة الإسلاميّة على لسان الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، نوعاً من تجريد الأعداء من سلاحهم، وإدانة لهجومهم على أهل بيت العصمة عليهم السلام، المنافي لكلّ منطق ودين وغاية صالحة، ودليلاً على خروج أولئك الأعداء عن الدين وانفصالهم عن شريعة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما كان تذكير الإمام الحسين عليه السلام بالأصول الاعتقاديّة وتأكيده عليها، منذ بدء نهضته المقدّسة وحتّى ساعة استشهاده، يتضمّن من ناحية أخرى أيضاً دفعاً وإبطالاً للشبهات التي كان سيختلقها الأمويّون فيما بعد.
 
فسيّد الشهداء عليه السلام في بدء قيامه لمّا عزم على الخروج من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، دعا بقرطاس ودواة، وكتب وصيّة إلى أخيه محمّد بن الحنفية، هذه الوصيّة إضافة إلى ما كانت تكشفه من مظلوميّة الإمام عليه السلام في ظروف كان الإعلام الأمويّ المضلّل مهيمناً على الأوساط الاجتماعيّة وعلى أذهان النّاس، كانت تكشف أيضاً عن اضطرار الإمام عليه السلام إلى كتابة وتدوين أصول اعتقاداته من أجل دفع وإبطال كلّ اتّهام كاذب وتزوير للحقائق يمكن أن يختلقه الأمويّون ضدّه فيما بعد، كما تضمّنت هذه الوصيّة أيضاً مروراً استعراضياً على المفاهيم الاعتقادية المسلّمة.
 
وكان نصّ هذه الوصيّة الشريفة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفية: أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنّار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور..."2.
 
ولا يخفى على المتأمّل أنّ الإمام عليه السلام بعد أن بيّن هذه الأصول الاعتقاديّة تعرّض
 
 
 

1- نفس المصدر.
2- بحار الأنوار، ح44، ص329.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

24

البلاغات الاعتقاديّة

 إلى ذكر علّة قيامه التي هي طلب الإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والسير على منهج النبيّ والوصيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى لا تبقى هناك شائبة أو شبهة يمكن أن تثار ضدّ غايته وهدفه وحركته الدينية المقدّسة.

 

 

 

 

 

 

 

36


25

البلاغات الاعتقاديّة

 نبّوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 

 
"الشهادتان" ركيزتا الاعتقاد والفكر الإسلاميّ، وهما علامة الإنسان المسلم، فبعد "التوحيد" يتصدّر مجموعة أصول العقيدة الإسلاميّة الإيمان بنبوّة الأنبياء عليهم السلام عامّة، وبنبوّة النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاصّة.

ولقد كان لهذا الموضوع العقائديّ "النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته" ظهورٌ جليٌ متكرّرٌ في ما صرّح به أبطال عاشوراء من متبنيّاتهم الإيمانيّة، سواء ما صدر عن الإمام الحسين عليه السلام، أو ما صدر عن أهل بيته عليهم السلام وعن أنصاره قدس سره .
 
إنّ ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر بعثته ورسالته، إحياء للتفكّر الإسلاميّ، كما أنّ ربط وجود الإمام عليه السلام وأهل بيته بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تذكير آخر بمعتقد مهمّ من معتقدات المسلمين، كذلك فإنّ ربط حركة عاشوراء بإحياء سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومواجهة البدع التي استحدثت في دين النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد أيضاً على مسألة اعتقاديّة مهمّة.
 
في يوم عاشوراء كان زهير بن القين (رضي الله عنه) واحداً من مجموعة من أصحاب الإمام عليه السلام الذين خطبوا في الأعداء المحيطين بمعسكر الحسين عليه السلام، حيث قال رحمه الله: "يا أهل الكوفة! نذارِ لكم من عذاب الله، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وأنتم أمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون..."1.
 
 
 

1- حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، ج3، ص188.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

26

البلاغات الاعتقاديّة

 إذن فهذه الخطبة المهمّة التي ألقاها زهير كشفت عن خروج الأعداء الذين تألّبوا لقتال الحسين عليه السلام عن جماعة "أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ".

 
وكانت نهضة كربلاء الواقعة التي أوضحت الحدّ الفاصل بين أتباع الإسلام الحقيقيّين وبين أدعياء الإسلام الكاذبين، لقد انقسم النّاس في كربلاء إلى فريقين: الذابّين عن الحقّ والمخالفين له، وكانت واقعة عاشوراء فيصل هذا التمايز.
 
فبعد أن قتل الإمام الحسين عليه السلام، وأُخذ أهل بيته أسرى إلى الشام، ادّعى يزيد في ذروة سكره وغروره أنّ بني هاشم لعبوا بالملك وإلّا فلا خبر جاء ولا وحيٌ نزل من السماء، مستشهداً بأبيات ابن الزبعري التي ملؤها العداء للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
 
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا                  جزع الخزرج من وقع الأسل
 
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً                       ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَل


قد قتلنا القرم من ساداتهم                   وعدلناه ببدرٍ فاعتدل
 
لعبت هاشم بالملك فلا                       خبر جاء ولا وحيٌ نزل
 
لستُ من خندف إنْ لم أنتقم                 من بني أحمد ما كان فعل1
 
وهذا كفر صريح ونفي لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته جرى على لسان أحد أدعياء الإسلام من قادة الحزب الأمويّ.
 
وفي محاورة الإمام الحسين عليه السلام مع ابن عبّاس في مكّة، كان عليه السلام قد سأل ابن عبّاس قائلاً: "يا ابن عبّاس! فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومولده ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله؟
 
فقال ابن عبّاس: ما أقول فيهم إلّا أنّهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلّا وهم كسالى، يراءون النّاس ولا يذكرون الله إلّا قليلاً، مذبذبين بين ذلك لا
 
 
 
 

1- اللهوف، ص79.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

27

البلاغات الاعتقاديّة

 إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فَمالَه من خلاق.

 
فقال الحسين عليه السلام:اللّهم اشهد!"1 فشهد ابن عبّاس صراحةً بكفرهم.
 
وفي كلّ منزل من منازل الطريق إلى ميدان الشهادة، كان الإمام عليه السلام وأهل بيته وأنصاره يذكرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصورة متواصلة، ويؤكّدون على ارتباطهم به واتبّاعهم له، وكان الإمام عليه السلام وأهل بيته يعرّفون أنفسهم بأنّهم ذريّة ذلك الرسول الطاهر صلى الله عليه وآله وسلم، ويرون أنّ كرامتهم وشرفهم في كونهم ذريّة وورثة ذلك المبعوث الإلهيّ الكريم، فكان هذا أيضاً مبضعاً ينكأ غدد حقد الأمويّين على دين الله وعترة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.



1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص306 و307.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

28

البلاغات الاعتقاديّة

 الشفاعة


"الشفاعة" من المباحث الاعتقاديّة البنّاءة، وهي الاعتقاد بأنّ الله تبارك وتعالى يتجاوز عن ذنوب المؤمنين المخطئين بوساطة أوليائه عليهم السلام، والشفاعة لا تكون إلّا بإذن الله عزَّ وجلَّ، والمعصومون عليهم السلام أيضاً إنّما يشفعون لمن يستحقّ الشفاعة عندهم، فالشفاعة إذن لها أرضيّة مشروطة لازمة، والعقيدة بشفاعة الشفعاء تقتضي المراقبة في السلوك والعمل، وهذا هو البعد البنّاء للشفاعة.

إنّ مقام الشفاعة ثابت للنبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته عليهم السلام، وإنّ أعمال الإنسان في الدنيا إنّما يكون نقدها ووزنها بالحقّ في الآخرة، وفي القيامة يأمل كلّ إنسان في شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله ويتطلّع إليها، وحيث لا بدّ لكلّ إنسان في ذلك اليوم من رؤية ولقاء أولئك الشفعاء الكرام ومواجهتهم بما قدّم في الدنيا، إذن فلينظر كلّ إنسان ماذا أعدّ لتلك المواجهة وذلك اللقاء من أجل الفوز بتلك الشفاعة؟

إنّ التذكير بمسألة الشفاعة ومواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة تنبيه إلى هذا البعد الاعتقاديّ، في حاجة كلّ إنسان إلى شفاعة محمّد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، وضرورة ألّا يجترح في الدنيا ذنباً يقطع الصلة ما بينه وبينهم عليهم السلام.

من هنا، نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام وبقيّة أهل البيت بعد شهادة الحسين عليه السلام كانوا يركّزون في كلّ منزل من منازل الأسر على التنبيه إلى هذا البعد الاعتقاديّ، ففي الكوفة مثلاً، لمّا جاؤوا بالإمام السجّاد عليه السلام مغلول العنق واليدين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

29

البلاغات الاعتقاديّة

 على تلك الحال المشجية، كان عليه السلام ينشد أبياتاً من الشعر، منها هذا البيت: 

 
لو أنّنا ورسول الله يجمعنا                 يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟1
 
وقد تمثّلت أيضاً مولاتنا زينب عليها السلام في الكوفة بهذه الأبيات:
 
ماذا تقولون إنْ قال النبيّ لكم             ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟
 
بعترتي وبأهل بيتي بعد مفتقدي          منهم أسارة ومنهم ضرّجوا بدم!
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم         أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي!2
 
وتنقل بعض المصادر أنّ الذين حملوا رأس الحسين عليه السلام رأوا في أحد منازل الطريق من الكوفة إلى الشام يداً كتبت بقلم من الدّم على الحائط: 
 
أترجوا أمّة قتلت حسيناً                   شفاعة جدّه يوم الحساب؟!3
 
لقد كان التذكير بموضوع الشفاعة نوعاً من الملامة والتوبيخ لأعداء أهل البيت عليهم السلام على ما اجترحوه بحقّهم، ذلك لأنّ تلك الجناية العظمى تتنافى مع حال أمّة تؤمن بشفاعة نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم.
 
إنّ الأمل بالشفاعة وطلبها الوارد في نصوص الزيارات، له نفس هذا الأثر التربويّ بالذات، نقرأ في إحدى زيارات الحسين عليه السلام مثلاً: "فاشفع لي عند ربّك وكن لي شفيعاً"4.
 
ونقرأ في زيارة عاشوراء أيضاً: "اللهمّ ارزقني شفاعة الحسين عليه السلام يوم الورود"5.
 
إنّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هم صفوة الله تبارك وتعالى، الذين اختارهم على العالمين، ولهم المقام الأسمى عنده، وقد تحدّثت نصوص الزيارات عن هذا المقام المحمود
 
 
 

1- راجع: مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص410.
2- اللهوف، 74.
3- نفس المصدر، ص75 و76.
4- مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص444.
5- مفاتيح الجنان، زيارة عاشوراء، ص458.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

30

البلاغات الاعتقاديّة

 لهم عليهم السلام، وكراراً ما كان في أقوال الإمام الحسين نفسه عليه السلام وفي خطبه تذكير بمقامهم السامي هذا، وكذلك في تصريحات وخطب الإمام السجّاد وزينب عليها السلام وبقيّة أهل البيت والأنصار.

 

 

 

 

 

 

 

42


31

البلاغات الاعتقاديّة

 الإمامة


الإمامة في العقيدة الإسلاميّة منصب إلهيّ يكون بعد النبوّة، بمعنى أنّ الإمامة من لوازم النبوّة التي لا تنفكّ عنها، أي لا بدّ للأمّة بعد النبيّ من إمام، من أجل "تبيين" الدين وحفظ الشريعة والمنجزات الدينيّة، وإقامة حدود الله وأحكامه في المجتمع.

إنّ فلسفة الإسلام السياسيّة في إدارة المجتمع طبقاً لأحكام الدين تتجلّى في قالب وشكل الإمامة، من هنا فإنّ "الجعل والنصب الإلهيّ" من مقوّمات ومعالم الإمامة فضلاً عن الأهليّة في العلم والتقوى، كما هو من مقوّمات النبوّة ومعالمها.

إنّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التأهّل الأعلى والقرب الأقرب من منبع الدين، هم الأولى من غيرهم بقيادة وزعامة المسلمين، وما حصل في غدير خمّ كان تأكيداً مجدّداً لبلاغات نبويّة سابقة متعدّدة، في أنّ الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي حقّ للإمام الذي هو أسمى وأفضل فرد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

وقد أكّد هو عليه السلام قبل وبعد وصول الخلافة إليه على هذا الحقّ في مواجهاته ومناقشاته مع الخلفاء ومع معاوية، كما أكّد أئمّة أهل البيت الآخرون عليهم السلام بعد شهادة عليّ عليه السلام على هذا الحقّ الصريح بصورة متواصلة، إذ إنّهم عليهم السلام كانوا يرونه حقّاً مسلّماً لهم.

ولقد كانت نهضة عاشوراء تجلّياً لتحقيق هذا الحقّ، من خلال الارتباط بهذا الركن الركين للمجتمع الإسلاميّ، ومع أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في إطار ظروف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

32

البلاغات الاعتقاديّة

  وشروط خاصّة (ليس هنا مجال بحثها) كان قد أمضى الصلح مع معاوية، وكان الإمام الحسين عليه السلام أيضاً قد التزم بهذه المعاهدة ما دام معاوية حيّاً، إلّا أنّ أهل هذا البيت عليهم السلام كانوا وبصورة مستمرّة يصرّحون بحقّهم في إمامة المسلمين ومنصب الخلافة، وكانوا يسعون بصورة متواصلة - بحسب الإمكان والاستطاعة- إلى تحقيق الوصول الفعليّ إلى هذا الحقّ منه خلال توعية النّاس وتهيئة المقدّمات والممهّدات اللازمة.

 
وفي هذا السبيل كان لأبي عبد الله الحسين عليه السلام عدّة برامج محوريّة، هي:
 
1-  بيان موقع ومكانة الإمامة، وشرائط وخصائص الإمام.
2-  بيان فقدان الآخرين لأهليّة التصدّي لهذا المنصب الإلهيّ.
3-  بيان أهليّة الإمام نفسه عليه السلام وأحقيّته بإمامة المسلمين.
 
ولقد كانت للإمام الحسين عليه السلام في كلٍّ من هذه المحاور الثلاثة بيانات وتصريحات عالية، نشير إلى بعض منها:

شرائط الإمام

بعد أن جاءت رسائل وجوه وأعلام أهل الكوفة وجماهيرها وكبار شيعتها إلى الإمام الحسين عليه السلام وهو في مكّة المكرّمة، يدعونه فيها إلى القدوم إلى الكوفة، ليثوروا في ظلّ إمامته على الطاغية يزيد بن معاوية، كتب الإمام عليه السلام إليهم رسالة، وبعثها إليهم مع اثنين من الرسل، وأشار فيها إلى أنّه قد بعث إليهم بابن عمّه مسلم بن عقيل عليه السلام ممثّلاً عنه، وقد صرّح عليه السلام في ختامها قائلاً: "... فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله..."1.
 
هذا البيان كاشف عن مواصفات الإمام الحقّ عليه السلام من منظاره هو، وإمام كهذا هو التجسيد الكامل لدين الله تبارك وتعالى، ومعرفة هذا الإمام ضرورة دينيّة وعقليّة، وإطاعته حتميّة.
 
فمعرفة الإمام المفترض الطاعة، وتسليم زمام الأمر إلى ولايته وهدايته شرط
 
 
 

1- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص30، طبعة مؤتمر الشيخ المفيد.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

33

البلاغات الاعتقاديّة

 لعبادة الله تعالى، وأرضيّة لمعرفة الله الكاملة، فقد ورد في إحدى زياراته عليه السلام:

 
"اللّهمّ إنّي أشهد أنّ هذا القبر قبر حبيبك، وصفوتك من خلقك، والفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجّة على خلقك"1.
 
ونقرأ في نص آخر من زيارته هذه الفقرة الشريفة:
"وأشهد أنّك الإمام الراشد والهادي، هديت، وقمت بالحقّ وعملت به، وأشهد أنّ طاعتك مفترضة وقولك الصدق، وأنّك دعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة..."2.
 
أهليّته عليه السلام للإمامة ونفيه لأهليّة الآخرين
 
عندما تتّضح وتتبيّن الشرائط الكليّة للإمامة ومواصفات الإمام الصالح، يكون المحور الآخر للبحث هو انطباق ذلك العنوان على شخص خاصّ.
 
ولقد كان قائد نهضة عاشوراء، في مناسبات مختلفة ومواقع متعدّدة، يوجّه أذهان المسلمين نحو "الإمام الصالح" ويسوقها إليه، من خلال بيانه لمكانة أهل البيت السامية، وعدّه لفضائله وما يتمتّع به من ملاكات الإمامة، وذكره أيضاً لنقاط ضعف الأمويّين والإشكالات الأساسيّة لا يمكن الإغماض عنها فيهم عامّة، وفي يزيد بن معاوية خاصّة.
ونماذج هذه البيانات وهذه التحذيرات كثيرة، نشير هنا إلى بعض منها: بعد أن التقى الإمام الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة مع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وبعد أن صلّى عليه السلام فيهم صلاة العصر جماعة، خطب فيهم وكان من خطبته: "أمّا بعد أيّها النّاس، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان..."3.
 
وفي رسالته التي كتبها بعد لقائه بجيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ إلى وجهاء الشيعة
 
 
 

1- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسيّ، ج6، ص 58 و59.
2-نفس المصدر.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص32، بحار الأنوار، ج44، ص377.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

34

البلاغات الاعتقاديّة

 وجماعة المؤمنين في الكوفة، كان ممّا ذكر عليه السلام فيها: أنّ هؤلاء القوم (أي الحكّام الأمويّين) قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، ثمّ قال عليه السلام بعد ذلك: "وإنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "1.

 
وفي بدء نهضته عليه السلام لمّا وصل خبر موت معاوية إلى المدينة، واستدعاه والي المدينة آنذاك الوليد بن عتبة بأمر من يزيد ليأخذ منه البيعة له، فجاءه الإمام عليه السلام، ورفض أن يبايع، قال عليه السلام في ختام ذلك اللقاء الساخن معلناً عن بدء قيامه ونهضته: "أيّها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله، ولكن نُصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة "2.
 
لقد كانت هذه هي نظرة الإمام الحسين عليه السلام ليزيد بن معاوية من قبل ذلك بسنين، إذ لمّا أراد معاوية أخذ البيعة من النّاس بولاية العهد ليزيد في حياته، كان همّه الأكبر أن يحصل أوّلاً على موافقة وجهاء وكبار شخصيّات العالم الإسلاميّ يومذاك، وخصوصاً من كان منهم في المدينة، فلّما التقى معاوية ابن عبّاس والإمام الحسين عليه السلام في المدينة، وجمع الثلاثة مجلس خاصّ، دعاهما معاوية إلى بيعة يزيد، فكان ممّا ردّ عليه الإمام عليه السلام موبّخاً إيّاه على جسارته ووقاحته: "... ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، واستأثرت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ حقّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.
 
وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمّد! تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً! أو تنعت غائباً! أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ! وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ يزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبّق لأترابهنّ،
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص382.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص 184.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

35

البلاغات الاعتقاديّة

 والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول!"1.

 
وممّا كتبه عليه السلام في رسالة إلى معاوية بصدد نفس هذا الموضوع:
 
"واتّق الله يا معاوية! واعلم أنّ لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب! ما أراك إلّا قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعيّة..."2.
 
ويخاطبه عليه السلام في نفس هذه الرسالة أيضاً قائلاً:
 
"وقلت فيما قلت: لا تردنَّ هذه الأمّة في فتنة! وإنّي لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها! وقلت فيما قلت: أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد! وإنّي والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإنْ أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإنْ لم أفعله فأستغفر الله لديني...".3
 
هذه نظرة الإمام الحسين عليه السلام في صدد خلافة وسلطة غير الصالحين، وقد ورد أيضاً في نقل آخر أنّ الإمام عليه السلام كتب رسالة إلى معاوية يؤنّبه فيها على جملة من الأمور، منها قوله عليه السلام:
 
"ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب، ويلهو بالكلاب، فَخِنْتَ أمانتك وأخربت رعيّتك، ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد من يشرب المسكر!. وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار، وليس وشارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمّة؟! فعن قليل ترد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار"4!
 
إنّ الرجل المؤهّل لإمامة المسلمين - في نظرة الإمام الحسين عليه السلام - هو الرجل الأعلى والأفضل في العلم والتقوى والأصل والنسب.
 
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص461.
2- كتاب الغدير، ج10، ص161.
3- نفس المصدر.
4- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص258، نقلاً عن دعائم الإسلام، ج2، ص133، ح468.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

36

البلاغات الاعتقاديّة

 ففي سفر معاوية إلى المدينة، كان قد أمر بعد وصوله إليها أن ينادى في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع النّاس في المسجد، ورقى معاوية المنبر- وكان مجموعة من وجهاء المدينة الذين لم يبايعوا ليزيد على ولاية العهد يومذاك جالسين حول المنبر وكان منهم الإمام الحسين عليه السلام - فشرع معاوية في خطبته بذكر فضائل يزيد! وكان ممّا قاله فيها: "يا أهل المدينة! لقد هممتُ ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها ببيعته، فبايع جميعاً وسلّموا، وأخّرت المدينة بيعته! وقلتُ: بيعته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله! لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له" !

 
فقام الحسين عليه السلام وقال: "والله! لقد تركت من هو خير منه أباً وأمّاً ونفساً!"، فقال معاوية: كأنّك تريد نفسك!؟ فقال الحسين عليه السلام: “نعم، أصلحك الله"1.
 
وورد في رواية أخرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام قال لمعاوية: "أنا والله أحقّ بها منه، فإنّ أبي خير من أبيه، وجدّي خير من جدّه، وأمّي خير من أمّه، وأنا خيرٌ منه"2.
 
إنّ الانقياد لأمر الحاكم- أيّاً كان- ليس صحيحاً في منطق عاشوراء والدين إذ ليس كلّ إمام وحاكم أهلاً للإتّباع، وفي الثقافة القرآنيّة هناك "إمام نارٍ" و"إمام نور"، فأئمّة الظلم والباطل هم "أئمّة النّار" الذين يردون جهنّم ويوردونها أتباعهم، أمّا "أئمّة النور" فهم الأئمّة الإلهيّون المنوَّرون والمنوِّرون، المهديّون الهادون من اتّبعهم إلى الصراط المستقيم.
 
ولقد كان أبطال عاشوراء على معرفة عميقة بهذه الحقيقة، فحينما انتهى الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض نينوى، بالمكان الذي نزل به، كان رسول من قبل ابن زياد قد أقبل يحمل رسالة منه إلى الحرّ بن يزيد الرياحيّ، يأمره فيها أن يجعجع بالإمام عليه السلام، فنظر أحد أصحاب الإمام عليه السلام وهو يزيد بن المهاجر الكنديّ إلى رسول ابن زياد فعرفه، فقال له: ثكلتك أمّك! ماذا جئت فيه؟! قال: أطعتُ إمامي ووفيت
 
 
 

1- نفس المصدر، ص263.
2- نفس المصدر، ص265.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

37

البلاغات الاعتقاديّة

 ببيعتي! فقال له ابن المهاجر: بل عصيت ربّك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنّار، وبئس الإمام إمامك، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّار وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ)1 فإمامك منهم2.

 
بلاغ عاشوراء هو هذا: أنّ الحاكميّة والولاية في المجتمع الإسلاميّ حقّ لأفضل أفراد هذا المجتمع، الذين هم أعلى النّاس إيماناً، وأشدّهم التزاماً، الذين لا يألون جهداً في سبيل تطبيق القرآن، وتحقيق أوامر الله تبارك وتعالى، وهداية المجتمع إلى الإسلام الخالص، ومنهاج حكومتهم قائم على أساس العدل والقسط واحترام أموال وأرواح وأعراض المسلمين، ولا يكون هذا الأمر إلّا بتنصيب الإمام من قبل الله تبارك وتعالى، أو من ينصبه الإمام المعصوم عليه السلام، وإلّا فلن يؤدّى حقّ هذا المنصب الإلهيّ، ولن تؤدّى حقوق النّاس.
 
ومع تسلّط غير الصالحين فإنّ مصير المجتمع سيؤول إلى سفال وسقوط، وسيزول دين الله، والإمام الحقّ لا يقبل مثل هذه الحكومة ولا يبايعها أبداً، ولقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذا الرفض القاطع ضمن عدّه لمعايب يزيد، ونفيه لأهليّته للخلافة، حيث قال عليه السلام: “... لا والله! لا يكون ذلك أبداً"3.
 
وفي سبيل هداية النّاس، واستنقاذهم من كلّ هلكة، الأمر الذي هو من شؤون الإمامة الحقّة، كان سيّد الشهداء عليه السلام قد اندفع إلى ميدان المواجهة التي ستختم بالشهادة، وهذا بالذات هو الأرضيّة الممهّدة لرفع الجهل عن الأمّة ولإيقاظها من سبات الغفلة والحيرة.
 
لنقرأ هذه الفقرة الشريفة من زيارة الإمام الحسين عليه السلام:
 
"فأعذَرَ في الدّعوة، وبَذل مُهجَته فيك ليَسَتنقذ عبادك مِن الضّلالة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب، إلى باب الهدى والرشاد"4.
 
 
 

1- القصص، 41.
2- راجع: بحار الأنوار، ج44، ص380.
3- راجع: مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص182.
4- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسيّ، ج6، ص59.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

38

البلاغات الاعتقاديّة

 إنّ عمل الإمام كاشف عن الرؤية الإسلاميّة الصحيحة للزعامة والخلافة، والإمام الحسين عليه السلام حتّى لو لم يجد معيناً أو ناصراً، وحتّى لو لم يدعه أو يبايعه أحد لما بايع يزيد، ذلك لأنّ حكومة يزيد لا مشروعيّة لها، وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بذلك قائلاً:

"والله! لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية"1.


 

1- أعيان الشيعة، ج1، ص588.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

39

البلاغات الاعتقاديّة

 مواجهة البدعة

 
يتعرّض الدين دائماً من قبل الأعداء إلى التحريف، وسوء الاستفادة، والتفسير الخاطئ، واختلاق البدعة، وبالمقابل فإنّ من مسؤولية أئمّة الحقّ وعلماء الدين صيانة العقيدة والشريعة الإسلاميّة من كلّ تحريف ومواجهة كلّ بدعة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:
"إذا ظَهَرتِ البِدَعُ في أمّتي فَليُظهِرِ العالِمُ عِلمَهُ، فَمن لم يفعل فَعليه لعنةُ الله"1، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال:
 
"إنّ عندَ كلّ بدعةٍ تكونُ من بعدي يُكاد بها الإيمان وليّاً من أهل بيتي موكّلاً به يذبّ عنه، ينطق بإلهام من الله، ويُعلِنُ الحقّ وينوّره، ويردُّ كيف الكائدين، يعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا على الله "2.
 
ولقد نهض الإمام الحسين عليه السلام لردّ كيد الأمويّين ومواجهة بدعهم الكثيرة التي ابتدعوها في هذا الدين، بصفته "أحقّ من غيّر"3 لإعادة الحقّ إلى نصابه وأهله، ولإزالة البدع، حفاظاً على الإسلام المحمّديّ الخالص. وكما أفصح عليه السلام عن دوافعه وغاياته من هذه النهضة المقدّسة في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة وفي مناسبات أخرى، كذلك أفصح عنها في رسالته إلى وجهاء وأشراف البصرة التي بعثها إليهم من
 
 


1- أصول الكافي، ج1، ص54، رقم 2.
2- نفس المصدر، رقم 5.
3- قال عليه السلام في خطبة له في أصحابه وأصحاب الحرّ في منزل البيضة، بعد أن استعرض التحريفات والبدع التي قام بها الأمويون: «وأنا أحقّ من غيّر»، راجع: تاريخ الطبري، ج3، ص306.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

 


40

البلاغات الاعتقاديّة

 مكّة المكّرمة، حيث قال عليه السلام فيها:

 
"أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، والبدعة قد أُحييت"1.
 
هذه هي رسالة الإمام عليه السلام:أن يثير مشاعر الأمّة ويهيج حساسيتها، ويدفعها إلى القيام والنهضة عندما تتعرّض العقيدة الخالصة إلى التحريف، والسنّة الصحيحة إلى الموت، وتعود الجاهليّة إلى الحياة.
 
وتأكيده عليه السلام على المضيّ في هذا الطريق على سيرة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام صورة أخرى أيضاً لنفس هذه المواجهة مع البدعة، ولنفس هذا الحفاظ على الدين.
 
إنّ ما كان الأمويّون يدّعونه، ويعرضونه بل يفرضونه على النّاس، هو صورة محرّفة وممسوخة ومشوّهة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المخدوعون بهذا التضليل الذين اعتقدوا بالإسلام الأمويّ لا يرون تعارضاً بين ذلك الإسلام وبين المفاسد والمظالم التي كان يجترحها يزيد بن معاوية وأبوه من قبل، وكان الأمويّون قد أضلّوا أكثر هذه الأمّة الإسلاميّة، لذا فقد رأى الإمام الحسين عليه السلام أنّ إنقاذ هذه الأمّة من هذا الضلال ومن استمرار هذا التضليل، وإثبات أنّ ما هو حاكم وسارٍ في النّاس ليس إسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق الكلام الصادق النابع من الروح أو سفك دمٍ عزيز- فقام الإمام عليه السلام ليريق دمه المقدّس- وهو نفس دم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويستشهد مظلوماً على هذا الطريق، هو ومن معه من صفوة أهل بيته وأنصاره، ليتحقّق بذلك "الفتح المبين" في تخليص الإسلام المحمّديّ الخالص من كلّ شائبة أمويّة وغير أمويّة إلى يوم الدين.
 
نقرأ في خطاب رائع للإمام الخمينيّ قدس سره هذه الفقرة الكريمة:
 
"يجب أن نسعى إلى كسر حصار الجهل والخرافة، حتّى نصل إلى منبع زلال الإسلام المحمّدي الخالص، وإنّ هذا الإسلام اليوم هو أكثر الأشياء غربة في هذا العالم، ونجاته تحتاج إلى أضاحي، فادعوا الله أن أكون أنا أيضاً من أضاحي هذا الإسلام"2.
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص28.
2- صحيفة نور، ج21، ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

41

البلاغات الأخلاقيّة

 إيضاح

 
الأخلاق إحدى ركائز الدين الثلاث، إذ إنّ الإسلام قائم على ثلاث ركائز أساسيّة هي: "العقائد" و"الأحكام" و"الأخلاق"، ذلك لأنّ تتميم القيم الأخلاقيّة الحميدة وصبغ صفات النّاس وتصرّفاتهم بالصبغة الإلهيّة من أهمّ أهداف بعثة الأنبياء عليهم السلام، بل إنّما هي الهدف الأساس، فقد ورد عن الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"1.
 
فتهذيب نوازع الإنسان وتصرّفاته، وزرع بذور الكمالات الأخلاقيّة والخصال الإنسانيّة السامية في أعماق روح الإنسان، غاية مهمّة جدّاً أو هي الأهمّ في رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، ويشكّل قول المعصوم عليه السلام وفعله المصدر الوثيق والمنبع العذب الثرّ الذي نتلقّى عنه ونتعلّم الأخلاق منه، ذلك لأنّ المعصومين عليهم السلام هم "الأسوة" والمظهر الأعلى والأتمّ للخصال الإنسانيّة التي يرضاها الله تبارك وتعالى.
 
ولقد كانت عاشوراء الأفق المبين الذي تجلّت فيه ذروة مكارم الأخلاق في أقوال وأفعال الإمام الحسين عليه السلام، الحجّة المعصوم، وفي أقوال وأفعال أهل بيته وأنصاره الذين كانوا يستهدون بهداه ويستنيرون بنوره.
 
إنّ واقعة كربلاء بما كان فيها- ممّا أثبته التاريخ لنا- من روحانيّة وأخلاق وسجايا سامية تجلّت في أقوال وأفعال أبطال ملحمة عاشوراء، تشكّل منبعاً أثيراً ومصدراً نفيساً لتعلّم الأخلاق والإقتداء بالأسوات الحسنة في طريق تزكية النفس، وفي السلوك الاجتماعيّ، وفي التربية الدينيّة، وتحقيق الكرامة الإنسانيّة.
 
 
 
 

1- نهج الفصاحة، ص191.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

42

البلاغات الأخلاقيّة

 وتتجلّى "البلاغات الأخلاقيّة" لعاشوراء في قضايا مثل: الصبر، والإيثار، والفتوّة، والوفاء، والعزّة، والشجاعة، والتحرّر من تعلّقات الدنيا، والتوكّل، ومجاهدة النفس، والمواساة، والنبل، وغيرها... إذ إنّ في كلّ زاوية من زوايا هذه الواقعة الخالدة يمكننا أن نشاهد تجلّياً من تجلّيات الأخلاق الحميدة العالية الصادرة عن معسكر الإمام الحسين عليه السلام.

 

 

 

 

 

 

 

56


43

البلاغات الأخلاقيّة

 التحرّر 

 
الحريّة مصطلح حقوقيٌّ واجتماعيّ يقابل مصطلح العبوديّة، أمّا التحرّر فهو أرفع وأعلى من الحريّة، إنّه الانعتاق من القيود والتعلّقات المذلّة المهينة.
 
إنّ انشداد الإنسان إلى الدنيا وتعلّقه بها، وبالثروة، والعشيرة، والمقام، والبنين، و... يشكّل مانعاً للإنسان من الوصول إلى الحريّة الروحيّة، وإنّ الخضوع والاستسلام لأسر الأمانيّ والتعلّقات الماديّة علامة ضعف الإرادة البشريّة.
 
وإذا كان كمال الإنسان وقيمته في الروح السامية، والهمّة العالية، والسجايا الحميدة، فإنّ بيع الإنسان نفسه للدنيا والشهوات نوع من الرضا بالحقارة، والقبول بالثمن البخس لنفسه، يقول الإمام عليّ عليه السلام: “ألا حُرٌّ يَدَعُ هذه اللّماظةَ لأهلها؟! إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها"1.
 
فالتحرّر إذن هو أن يعرف الإنسان كرامته وشرفه، ويأبى الهوان والذلّة، ويترفّع عمّا يشينه، ويتعالى عمّا يحقّره، ويخلُص من أسر الدنيا، ويحرص على القيم الإنسانيّة فلا يفرّط بها.
 
وفي منعطفات الحياة الدنيا والتواءاتها، وصعودها ونزولها، طالما شاهدنا أُناساً رضوا بكلّ أنواع الحقارة والمهانة من أجل الحصول على الدنيا، أو بسبب الحرص على ما في أيديهم من مكاسبها، أو من أجل تحقيق أمنياتهم ومشتهياتهم، أو من أجل بقاء أطول لعدّة أيّام أُخر فيها، أمّا الأحرار فربّما بذلوا الأرواح ثمناً للحياة العزيزة الكريمة
 
 
 

1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 456.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

44

البلاغات الأخلاقيّة

 التي لا يرضون إلّا إيّاها، رافضين العيش مع الذلّ، يقول الإمام الحسين عليه السلام: “موتٌ في عزّ خيرٌ من حياةٍ في ذلّ"1.

 
هذه هي نظرة الأحرار إلى الحياة، ولقد كانت نهضة عاشوراء مظهراً جليّاً من مظاهر التحرّر في شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام وشخصيّات أهل بيته وأنصاره المستشهدين بين يديه، فلو لم يكن ذلك التحرّر، لما كان ذاك الإباء، ولأعطى الإمام عليه السلام البيعة، ولما قتل، لكنّ أبيَّ الضيم وأبا الأحرار عليه السلام لمّا أرادوا منه البيعة ليزيد قهراً، امتنع وأبى، وكان منطقه:
 
"لا والله! لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد"2.

لقد كان ميدان كربلاء تجلّياً آخر لهذا التحرّر أيضاً، تجسّد في اختيار أحد أمرين ركز بينهما ابن زياد، وهما القتل أو الذلّة، فكان اختيار الأحرار هو الاستشهاد بحدّ السيف ورفض الذلّة، هكذا جاء الجواب على لسان الإمام عليه السلام:
 
"ألا وإنّ الدّعيَّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السّلّةِ والذلّة! وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..."3.
 
وفي حملاته يوم عاشوراء كان عليه السلام يرتجز ويقول:
 
"الموتُ أولى من ركوب العار              والعارُ أولى من دخول النّار" 
 
إنّ الروح التحرّريّة التي تملأ كيان الإمام عليه السلام هي التي حرّكته وهو صريع مثخن بالجراحات ليخاطب الأعداء الذين هجموا على خيامه فروّعوا النساء والأطفال، قائلاً لهم:
"إنْ لمْ يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم"4.
 
ولقد تجسّد هذا النهج التحرّريّ أيضاً في أخلاق وسجايا أنصار الإمام الحسين عليه السلام عامّة، وفي شهداء الطفّ خاصّة، فهذا مسلم بن عقيل عليهما السلام  طليعة النهضة
 
 
 

1- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص68.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص421.
3- اللهوف، للسيد ابن طاووس، ص57.
4- بحار الأنوار، ج44، ص51.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

45

البلاغات الأخلاقيّة

 الحسينيّة في الكوفة، لمّا واجه جيش ابن زياد الذي أحاط ببيت "طوعة" ليأسرّه أو يقتله، كان يقاتلهم وهو يرتجز معلناً عن هذه الروح التحرّريّة: 

 
أقسمتُ لا أُقتلُ إلّا حرّا                      وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا
 
كلّ امرئ يوماً مُلاقٍ شرّا                   ويخلط البارد سخناً مرّا
 
رُدَّ شعاع الشمس فاستقرّا                  أخافُ أن أُكذبَ أو أُغَرّا1
 
ولمّا برز الأخوان الغفاريّان عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة إلى ميدان القتال يوم عاشوراء كان من رجزهما هذا البيت الكاشف عن روح التحرّر هذه: 
 
يا قوم ذودوا عن بني الأحرار             بالمشرفيّ والقنا الخطّار2

وكان الحرّ بن يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) مصداقاً بارزاً آخر لهذه الحريّة وهذا التحرّر، إذ كانت روحه التحرّريّة السبب في ألّا يكون من أهل جهنّم من أجل الدنيا والرئاسة، حيث خيّر نفسه بين الجنّة والنّار، فاختار الجنّة في أصعب المواقف، واشتراها في ظلّ الشهادة، حيث تاب إلى الله تعالى، وانفصل عن جيش ابن زياد وانضمّ إلى أبي عبد الله الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، فلم يزل يقاتل بين يديه قتال الأبطال حتّى صرع، "فاحتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: أنت الحرّ كما سمّتك أمُّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة".
 
ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام، وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسين عليه السلام:
 
لَنِعْمَ الحرُّ حُرُّ بني رياح             صبورٌ عند مختلف الرماح
 
ونعم الحرُّ إذ نادى حسيناً           فجاد بنفسه عند الصياح
 
فيا ربيّ أضفه في جنان            وزوّجه مع الحور الملاح3
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج4، ص280، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت.
2- وقعة الطفّ، ص234.
3- بحار الأنوار، ج45، ص14.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

46

البلاغات الأخلاقيّة

 ومن بعد عاشوراء... إذا تأسّى دعاة الحريّة وأحرار العالم في حربهم من أجل الاستقلال والخلاص من الظلم ومن الطواغيت ببطولات شهداء كربلاء فإنّما يتأسّون بهم في ظلّ هذا الدرس بالذات، درس "التحرّر" الذي هو تحفة عاشوراء لجميع الأجيال إلى قيام الساعة، إذ إنّ الأحرار في لحظات الاختيار الحسّاسة، ومواقف اتخاذ القرار الصعبة، هم الذين يختارون الموت الأحمر والمواجهة الدمويّة والتضحية بالنفس ليصلوا بذلك إلى سعادة الشهادة، وليحرّروا مجتمعهم من التعاسة ومن كلّ ظلم.

 

 

 

 

 

 

 

60


47

البلاغات الأخلاقيّة

 الإيثار

 
الإيثار تقديم الغير على النفس، سواء بالمال أو بالروح، وهذه الخصلة الأخلاقيّة إحدى الخصال السامية التي أثنى عليها القرآن الكريم كثيراً، وكذلك الأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتنشأ هذه الخصلة الأخلاقيّة الكريمة عن تحرّر الإنسان من "حبّ الذات".

لقد أثنى القرآن الكريم على المؤمنين الذين يقدّمون الآخرين على أنفسهم مع حاجتهم الشديدة إلى ما في أيديهم، وذلك في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)1.
 
إنّ التنكّر لرغبات النفس وتجاوزها، والإغماض عن كلّ التعلّقات، من أجل إنسان آخر، وفي سبيل إنسان آخر، هو الإيثار، وأسمى الإيثار الإيثار بالدم وبالروح، إنّ المؤثر حقّاً هو الإنسان المستعدّ فعلاً لبذل وجوده وروحه فداءً لدين الله تبارك وتعالى، أو الذي ينكر ذاته ورغباته في سبيل مرضاة الله تعالى.
 
وفي ميدان عاشوراء كان أوّل المؤثرين سيّد الشهداء عليه السلام، الباذل نفسه وأنفس أهل بيته وأنصاره فداءً لدين الله، المقدّم مرضاة ربّه على كلّ شيء، والدّاعي النّاس إلى ذلك الفداء أيضاً لمّا عزم على التوجّه من مكّة إلى كربلاء في قوله عليه السلام:
 
"من كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنّي راحلٌ
 
 
 

1- الحشر، 9.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

48

البلاغات الأخلاقيّة

 مصبحاً إنْ شاء الله"1.

 
أمّا أنصاره عليه السلام فقد رسموا أروع وأسمى صور الإيثار في بذلهم أنفسهم فداءً لإمامهم عليه السلام، وفي حركة أحداث النهضة الحسينيّة لقطات كثيرة مذهلة لمشاهد عديدة من الإيثار في غاية الجمال والسموّ والإشراق منها مثلاً: حينما علم ابن زياد أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام في بيت هانئ بن عروة (رضوان الله عليه) ، احتال بمكره لإحضار هانئاً عنده، فلمّا أُحضر هانئ في مجلس ابن زياد، وعرّفه ابن زياد بدليله (وهو الجاسوس معقل) على وجود مسلم في بيته، وطلب منه تسليم مسلم إليهم، وحاول بعض أعوان ابن زياد إقناع هانئ بهذا الأمر، وحذّره من مغبّة الامتناع، قال هانئ (رضي الله عنه): "والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصرٌ لم أدفعه إليه حتّى أموت دونه!"2.
 
ولمّا حمل سيّدنا مسلم بن عقيل عليه السلام إلى قصر الإمارة، بعد أن كفّ عن قتالهم نتيجة للأمان الذي أعطاه إيّاه محمّد بن الأشعث، أحسّ مسلم عليه السلام بأنّ القوم لن يفوا بأمانهم، "فدمعت عيناه، فقال محمّد: إنّي لأرجو أن لا بأس عليك! فقال: ويحك! ما هو إلّا الرجاء فأين أمانكم؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وبكى. فقال عبيد الله بن العبّاس السلميّ: من يطلب مثل الذي طلبت لا يبكي! فقال: إنّي والله ما على نفسي أبكي، لكنّي أبكي على أهلي المقبلين إليكم، أبكي على الحسين وآل الحسين"3.
 
إنّ هذا البكاء علامة الإيثار أيضاً، لأنّ مسلماً عليه السلام وهو على أعتاب الشهادة لم يبك حين بكى على نفسه، بل بكى للحسين عليه السلام القادم بمن معه من أهل بيته وأنصاره إلى الكوفة نتيجة للتقرير الذي رفعه إليه مسلم نفسه عليه السلام عن وضع الكوفة وأهلها، تلك المدينة المليئة بالخداع، وأهلها الذين نكثوا عهودهم.
 
ولمّا جمع الإمام الحسين عليه السلام أهل بيته وأصحابه ليلة عاشوراء، وخطب فيهم خطبته التي قال فيها: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي،
 
 


1- بحار الأنوار، ج44، ص366.
2- وقعة الطفّ، ص119، مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص202.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص211.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

 


49

البلاغات الأخلاقيّة

 مصبحاً إنْ شاء الله"1.

 
أمّا أنصاره عليه السلام فقد رسموا أروع وأسمى صور الإيثار في بذلهم أنفسهم فداءً لإمامهم عليه السلام، وفي حركة أحداث النهضة الحسينيّة لقطات كثيرة مذهلة لمشاهد عديدة من الإيثار في غاية الجمال والسموّ والإشراق منها مثلاً: حينما علم ابن زياد أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام في بيت هانئ بن عروة (رضوان الله عليه) ، احتال بمكره لإحضار هانئاً عنده، فلمّا أُحضر هانئ في مجلس ابن زياد، وعرّفه ابن زياد بدليله (وهو الجاسوس معقل) على وجود مسلم في بيته، وطلب منه تسليم مسلم إليهم، وحاول بعض أعوان ابن زياد إقناع هانئ بهذا الأمر، وحذّره من مغبّة الامتناع، قال هانئ (رضي الله عنه): "والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصرٌ لم أدفعه إليه حتّى أموت دونه!"2.
 
ولمّا حمل سيّدنا مسلم بن عقيل عليه السلام إلى قصر الإمارة، بعد أن كفّ عن قتالهم نتيجة للأمان الذي أعطاه إيّاه محمّد بن الأشعث، أحسّ مسلم عليه السلام بأنّ القوم لن يفوا بأمانهم، "فدمعت عيناه، فقال محمّد: إنّي لأرجو أن لا بأس عليك! فقال: ويحك! ما هو إلّا الرجاء فأين أمانكم؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وبكى. فقال عبيد الله بن العبّاس السلميّ: من يطلب مثل الذي طلبت لا يبكي! فقال: إنّي والله ما على نفسي أبكي، لكنّي أبكي على أهلي المقبلين إليكم، أبكي على الحسين وآل الحسين"3.
 
إنّ هذا البكاء علامة الإيثار أيضاً، لأنّ مسلماً عليه السلام وهو على أعتاب الشهادة لم يبك حين بكى على نفسه، بل بكى للحسين عليه السلام القادم بمن معه من أهل بيته وأنصاره إلى الكوفة نتيجة للتقرير الذي رفعه إليه مسلم نفسه عليه السلام عن وضع الكوفة وأهلها، تلك المدينة المليئة بالخداع، وأهلها الذين نكثوا عهودهم.
 
ولمّا جمع الإمام الحسين عليه السلام أهل بيته وأصحابه ليلة عاشوراء، وخطب فيهم خطبته التي قال فيها: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي،
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص366.
2- وقعة الطفّ، ص119، مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص202.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص211.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

50

البلاغات الأخلاقيّة

 غيبة رسول الله فيك، أما والله! لو علمت أنّي أُقتل، ثمّ أُحيى، ثمّ أُحرق، ثمّ أُذرى،

يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً؟! "1.
 
نعم، هذا ولقد كان في إجابة سعيد بن عبد الله الحنفيّ، وزهير بن القين، وآخرين من أنصاره عليه السلام، تجلّيات نيّرة وخالدة لهذه الروح الإيثاريّة، وفي رواية أنّ جماعة من هؤلاء الأنصار قالوا: "واللهّ لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنّا وفَينا وقضينا ما علينا!"2.
 
نعم... إنّ الدماء التي تجري في عروقنا هدية فداء لإمامنا...
 
لمّا حمل جيش الكوفة عصر عاشوراء على مخيّم الحسين عليه السلام وأغار على من فيه، وأراد الشمر لعنه الله أن يقتل الإمام زين العابدين عليه السلام، تعلّقت مولاتنا زينب عليها السلام بالإمام عليه السلام قائلة للشمر: لا يُقتلُ حتّى أُقتل دونه 3!
 
يستطيع قائد النهضة بمعونة أنصار حماة من أهل الإيثار أن يمضي قدُماً على طريق النهضة في جميع المراحل الصعبة والخطرة، حتّى تحقيق الأهداف المنشودة من نهضته، أمّا إذا لم يكن لأنصاره استعداد لنكران الذات، وللإيثار بالأموال والأنفس، والتضحية بالعافية والسلامة والراحة، فإنّ هذا القائد يظلّ وحيداً مفرداً، ويبقى الحقّ مظلوماً وبلا ناصر.
 
وفي نهضة عاشوراء كان الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره من أهل بيته وأصحابه طاهرة قلوبهم وأيديهم من كلّ علائق الدنيا، وخاضوا غمار هذه النهضة آيسين من الحياة، ساعين إلى الشهادة كي يبقى دين الله حيّاً خالصاً، فقتلوا وأُسروا من أجل أن يحيى الحقّ والسنّة، وتموت البدعة، وتُحرّر الأمّة.
 
ومن روائع تجلّيات الإيثار يوم عاشوراء أنّ أنصار الإمام عليه السلام من أصحابه أبوا إلّا أن يخوضوا الحرب قبل الأنصار من بني هاشم، حتّى لا يصل إلى بني هاشم مكروه ما داموا هم أحياء! وكذلك أبى بنو هاشم أن يصل الأعداء إلى الإمام عليه السلام 
 
 
 

1- البحار، ج44، ص393.
2- وقعة الطفّ، ص199.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

51

البلاغات الأخلاقيّة

 وهم أحياء! ففدوه بأنفسهم حتّى استشهدوا جميعاً قبله فكان الحسين عليه السلام آخرهم حين نظر إلى وادي كربلاء فلم يجد أحداً من أنصاره قد بقي!


ولقد تجلّى الإيثار في أسمى صوره في مواقف وأخلاقيّات أبي الفضل العبّاس عليه السلام، ففضلاً عن رفضه الأمان الذي جاء به شمر من ابن زياد له ولإخوته من أمّه، وفضلاً عن جوابه الرائع بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام حيث قال مخاطباً الإمام عليه السلام: “والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكنّا نفديك بأنفسنا، ونقتل بين يديك، ونرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك"1. نجد أبا الفضل عليه السلام يوم عاشوراء وقد ملك شريعة الفرات بعد قتال عنيف مع الأعداء، وملأ القربة من الماء ليحملها إلى الإمام عليه السلام وأطفاله العطاشى، وكانت شفتا أبي الفضل عليه السلام ذابلتين وقلبه كصالية الجمر من العطش، فلمّا أحسّ ببرد الماء، ملأ كفّه الشريفة منه ليشرب، فلمّا أدناها من فمه الطاهر تذكّر عطش الحسين عليه السلام، فأبى إيثاره ووفاؤه أن يشرب قبل أخيه وأطفاله العطاشى، فألقى الماء، وخرج من الفرات وهو يتلظّى عطشاً، ويخاطب نفسه المقدّسة قائلاً: 
 
يا نفسُ من بعد الحسين هوني              وبعده لا كُنتِ أن تكوني
 
هذا الحسينُ واردُ المنون                   وتشربين بارد المعين
 
تالله ما هذا فعال ديني2
 
وحمل على القوم وهو يقول: 
 
لا أرهب الموت إذا الموت رقى              حتّى أوارى في المصاليت لقا
 
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا           إنّي أنا العبّاس أغدوا بالسقا
 
ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى3
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص387.
2- راجع: مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص211، وبحار الأنوار، ج44، ص393.
3- بحار الأنوار، ج45، ص41 - 45.
4- المناقب، لابن شهرآشوب، ج4، ص108.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

52

البلاغات الأخلاقيّة

  ولمّا قطعوا يمينه أخذ السيف بشماله وحمل عليهم وهو يرتجز: 

 
والله إنْ قطعتُم يميني           إنّي أحامي أبداً عن ديني
 
وعن إمام صادق اليقين        نجل النبيّ الطاهر الأمين1
 
كما تجلّى الإيثار في صورة رائعة من صوره في موقف سعيد بن عبد الله الحنفيّ (رضي الله عنه) يوم عاشوراء أثناء الصلاة وقت الزوال، حيث روي أنّ سعيد بن عبد الله تقدّم أمام الحسين عليه السلام فاستهدف له يرمونه بالنبل، فما أخذ الحسين عليه السلام يميناً وشمالاً إلّا قام بين يديه! فما زال يُرمى حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول: "اللّهمَّ العنهم لعن عاد وثمود، اللّهمَّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردتُ بذلك نصرة نبيّك. ثمّ مات، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح"2. وفي رواية: "ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوَفيتُ يا ابن رسول الله؟ فقال: نعم، أنت أمامي في الجنّة! ثمّ فاضت نفسه النفيسة"3.
 
هذا الإيثار أخلاقيّة عاشورائيّة، ولكنّها قد تتوفّر في كلّ زمان في المؤمن العارف بحقّ إمام زمانه حقّ المعرفة، والمطيع له حقّ الإطاعة فيما يحبُّ ويكره، والمستعدّ لإيثار إمامه عليه السلام على نفسه، وللتضحية في سبيله.
 
 
 

1- نفس المصدر.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج2، ص21.
3- إبصار العين، ص218.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

53

البلاغات الأخلاقيّة

  تكريم الإنسان


المؤمن ذو قدر وكرامة في جبهة الحقّ، بخلاف جبهة الباطل التي ينظر أصحابها إلى النّاس نظرتهم إلى الوسائل التي يستعملونها لتحقيق رغباتهم ومصالحهم. وكرامة المؤمن تنشأ من قيمة الحقّ، والتقوى معيار درجاتها...

فالنّاس محترمون، ويحظون بالتكريم بسبب الإيمان، ذلك لأنّ منشأ كرامة المؤمن انتسابه إلى الحقّ بلحاظ إيمانه والتزامه به، أي أنّ التقوى معيار كرامة المؤمن ودرجاتها، فالأتقى هو الأكرم، وليس معيار التكريم لون الإنسان، أو لغته، أو قبيلته، أو أصله وقوميته، أو أرضه، أو...

وكان الإمام الحسين عليه السلام في نهضة عاشوراء قد منح جميع أنصاره أشرف أوسمة العزّة والكرامة، منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، حين قال عليه السلام:

"أمّا بعدُ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي..."، وكان عليه السلام يحضر كلّ واحدٍ منهم عند مصرعه، فيأخذ برأسه ويضعه في حجره الشريف، ولم يفرّق بين أحد منهم في ذلك، إذ كما حضر عليّاً الأكبر عليه السلام، حضر مولاه وغلامه كذلك...

ولمّا استبصر الحرّ وتاب إلى الله تعالى، وانضمّ إلى معسكر الإمام عليه السلام، كان يحتمل في صدره الشكّ في قبول توبته، فكان سؤاله: "هل لي من توبة؟" كاشفاً عن أمله الكبير بنُبل وسماحة الإمام الحسين عليه السلام، ولقد حقّق الإمام عليه السلام أمله بهذه التوبة، إذ أعطى توبته إلى الله ورجوعه إلى الحقّ في مثل ذلك الموقف الصعب العسير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

54

البلاغات الأخلاقيّة

 قيمة عليا حين أجابه: "نعم، يتوب الله عليك"1.

 
هذه القيمة السامية من استحقاقات مقام الإنسان التائب الذي حرّر نفسه من الظلمة وأوصلها إلى النور، فهو وإن كانت له سوابق وذنوب ثقيلة، إلّا أنه الآن آمن بالهدى، وهداه الله إلى النور.
 
كان "جون" مولى لأبي ذرّ (رضوان الله عليه)، وكان مع الحسين عليه السلام في ركبه من المدينة إلى كربلاء، فلمّا نشب القتال وقف أمام الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال، فقال له الحسين عليه السلام: “يا جون! أنت في إذن منّي، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقتنا". فوقع جون على قدمي أبي عبد الله عليه السلام يقبّلهما ويقول: " يا ابن رسول الله! أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم وفي الشدَّة أخذلكم؟! إنّ ريحي لنتن، وإنّ حسبي للئيم، وإنّ لوني لأسود، فتنفَّس عليَّ في الجنّة ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضَّ لوني، لا والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدمُّ الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين عليه السلام، فبرز وهو يقول:
 
كيف ترى الفجّار ضرب الأسوَدِ         بالمشرفيِّ والقنا المسدّدِ
 
يذبُّ عن آل النبيّ أحمد
 
ثمّ قاتل حتّى قُتل"2.
 
وفي رواية أنّ الحسين عليه السلام وقف عليه وقال: "اللّهمَّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمّد وآل محمّد"3.
 
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أبيه زين العابدين عليه السلام: “أنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جوناً بعد أيّام تفوح منه رائحة المسك"4.
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص290.
2- راجع: إبصار العين، ص176 - 177، والبحار، ج45، ص23، واللهوف، ص163.
3- تسلية المجالس، ج2، ص292 - 293.
4- راجع: البحار، ج45، ص23.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

55

البلاغات الأخلاقيّة

 كان هذا مثالاً آخر أيضاً على تكريم الإنسان في ميدان الشرف والكرامة، إنَّ تقدير الإمام عليه السلام لتضحيات أنصاره تكريم للإنسان والإنسانيّة، لقد كان سيّد الشهداء عليه السلام يحضر مصارع الشهداء من أنصاره، فينظر إلى أجسادهم المضرّجة بالدماء، فيستنشق من تلك الأجساد الطّاهرة عطر الشهادة، فيثني عليهم ويُشيد بهم، ويذمُّ قاتليهم، قائلاً: "قتلةُ كقتلة النبييّن وآل النبيين!"1، إذ إنّ أولئك القَتَلَة كقَتَلَةِ الأنبياء عليهم السلام وآل الأنبياء! وهذا يعني أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يعتبر أنصاره الشهداء في نفس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقَتَلَتهم كقَتَلَة الأنبياء.

 
إنّ الإشادة بالمؤمنين المضحّين في سبيل الله والدين وتمجيدهم بلاغ من بلاغات عاشوراء الأخلاقيّة، نتعلّمه من سلوك الإمام الحسين عليه السلام، فالمجتمع الذي يرث ثقافة الجهاد والشهادة ينبغي أن يُعظّم حرمة أُناسٍ آثروا على أنفسهم فاستشهدوا في سبيل الله تعالى، ويُعظِّم كذلك حرمة إخوانهم المعلولين وأسرى الحرب الأحرار، وعوائل الشهداء، حتّى يبقى هذا الخطّ الإلهيّ دائماً محبَّباً يجذب النّاس إليه جذباً قوّياً.
 
 
 

1- حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام ، ج3، ص239.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

 


56

البلاغات الأخلاقيّة

 التوكّل


إنّ الاستناد في الشدائد والمصاعب إلى ملاذ مقتدر متين سبب ثبات قدم الإنسان وعدم خوفه من مواجهة الأعداء والمشكلات، والتوكّل هو الاعتماد على قدرة الله تبارك وتعالى ونصرته وإمداده.

ولقد أمر القرآن الكريم المؤمنين أن يتوكّلوا على الله وحده، وكذلك أكّدت الروايات الإسلاميّة على هذا الأمر، وقد ورد فيها ما مؤدّاه أنّ من يلجأ إلى غير الله أو يتوكّل على غيره لا يزدد إلّا ذُلاً وخيبة.

وكان الإمام الحسين عليه السلام منذ بدء حركته من المدينة المنوّرة قد اختار هذا السبيل بالتوكّل على الله ماضياً إلى ما أمره به الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الله تبارك وتعالى وحده ملاذ الحسين عليه السلام ومعتمده في خروجه من مكّة المكّرمة إلى الكوفة، لا رسائل أهل الكوفة ولا دعواتهم إيّاه إلى القدوم إليهم، ولذا لم ينثن الإمام عليه السلام عن هذا التوجّه وهذا العزم لمّا جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وتنصُّل أهل الكوفة عن عهودهم وتنكّرهم لها، بل أصرّ على المضيّ في هذا الطريق إلى الكوفة لأنّه كان ماضياً لأمر الله ومتوكّلاً ومعتمداً عليه وحده.

ومع حاجته عليه السلام إلى الأنصار إلّا أنّه لم يكن متوكّلاً ومعتمداً حتّى على أنصاره، ولذا نجد أنّ توكّله واعتماده على الله وحده كان أحد أسباب دعوته إيّاهم إلى التخلّي والانصراف عنه في أكثر من منزل من منازل الطريق عامّة وفي ليلة عاشوراء خاصّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

57

البلاغات الأخلاقيّة

 كان الإمام عليه السلام منذ قيامه معتمداً على هذا التوكّل الذي لا يمكن معه لأيّ حادث أن يضعف من عزيمته عليه السلام، هذا التوكّل الخالص الذي أشار إليه الإمام عليه السلام منذ بدء قيامه في الوصيّة التي كتبها إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، حيث قال في ختامها: "وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلّت وإليه أُنيب"1.

 
وفي منزل الخزيميّة لمّا أصبح الإمام عليه السلام:أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ عليهما السلام  فقالت: "يا أخي! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة؟ فقال الحسين عليه السلام:وما ذاك؟
 
فقالت: خرجتُ في بعض الليل لقضاء حاجة، فسمعت هاتفاً يهتف وهو يقول:
 
ألا يا عينُ فاحتفلي بجهد              ومن يبكي على الشهداء بعدي؟
 
على قوم تسوقهم المنايا               بمقدار إلى انجاز وعد
 
فقال لها الحسين عليه السلام:يا أختاه! المقضيُّ هو كائنٌ"2.
 
وفي منزل البيضة، كان الإمام عليه السلام قد خطب خطبة في أصحابه وأصحاب الحرّ بن يزيد الرياحيّ، ذمّ فيها أهل الكوفة على عدم الوفاء بعهدهم وبيعتهم، وقال عليه السلام في ختامها معلناً عن اعتماده على الله وحده: "وسيغني الله عنكم"3.
 
وكان من دعائه عليه السلام في صبيحة عاشوراء لمّا رأى الأعداء قد أحاطوا بمعسكره قوله عليه السلام: “اللّهمَّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة..."4.
 
ومثل هذه المناجاة في ميدان القتال وعلى مشارف الشهادة لا تصدر إلّا عن قلبٍ متوكّل على الله تمام التوكّل، وفي خطبة أخرى خطبها عليه السلام في الأعداء صبيحة عاشوراء دعاهم فيها إلى الحقّ قال فيها: "وإنْ لم تعطوني النصف من أنفسكم، فأجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ أُقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّ وليِّي الله
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص330.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص342.
3- راجع: نفس المصدر، ص361.
4- الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص96.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

58

البلاغات الأخلاقيّة

 الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين"1.


وقال عليه السلام في خطبة أخرى ذلك اليوم: "فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ كيدوني جميعاً فلا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلّا هو آخذٌ بناصيتها، إنّ ربّي على صراط مستقيم..."2.
 
ولمّا أخبره الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ وصاحبه أنّ النّاس في الكوفة قد جُمعوا على حربه لم يكن ردّ الإمام عليه السلام على هذا الخبر إلّا أن قال: "حسبي اللهُ ونعم الوكيل"3.
 
هذه الخصلة السامية كانت ظاهرة في سلوك الإمام عليه السلام منذ بدء حياته، ولم تزل تتجسّد في كلّ حركة وسكنة منه، حتّى في مناجاته الأخيرة مع الله تبارك وتعالى بعد أن وقع صريعاً مثخناً بالجراح، إذ كان صلوات الله عليه قد ناجى ربّه في تلك الحال، وكان من مناجاته قوله: "... أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكّلُ عليك كافياً..."4.
 
وممّا ينبغي الانتباه إليه هنا أنّ هذا التوكّل على الله تبارك وتعالى منذ بدء قيامه وحتّى استشهاده عليه السلام كان مقترناً بالتدبير الدقيق والتخطيط الصائب وتهيئة المقدّمات اللازمة والتمهيدات الضروريّة من قبله عليه السلام في الصغيرة والكبيرة من حركة أحداث نهضته، حتّى لا يكون التوكّل منفصلاً عن التخطيط في العمل والاستفادة من الإمكانات المتاحة في الطريق إلى تحقيق الهدف المنشود، وهذا هو الفهم الصحيح والدقيق للتوكّل.
 
يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره)، المنادي بهذا التوكّل الخالص على الله تبارك وتعالى، والذي كان صوت الأمّة المتوكّلة على الله:
 
"إذا تخلّينا يوماً ما عن اعتمادنا على الله، واعتمدنا على النفط، أو على السلاح، فاعلموا أنّ ذلك اليوم هو اليوم الذي سنواجه فيه هزيمتنا"5.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص6.
2- بحار الأنوار، ج45، ص9 و10.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص378.
4- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص357.
5- صحيفة نور، ج20، ص11.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

59

البلاغات الأخلاقيّة

 ويقول في مكان آخر:

 
"اِتّكلوا على الله في جميع الأمور والأعمال، فالقدرات والقوى الأخرى لا شيء إزاء قدرة الله وقوّته... اِتّكلوا على الله تنتصروا على كلّ شيء، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً واحداً في مقابل جميع الأعداء، لكنّه بالاتّكال على الله انتصر على الجميع... ولأنّ اتّكاله كان على الله فقد كان جبرئيل الأمين من ورائه... أنتم أيضاً اتّكلوا على الله ليكون جبرئيل الأمين من ورائكم، ليكون معكم، ليكون الملائكة معكم"1.



1- نفس المصدر، ج22، ص197.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

60

البلاغات الأخلاقيّة

 جهاد النفس

 
جهاد النفس هو أسمى وأصعب وأكبر من جهاد العدوّ الخارجيّ، لأنّ جهاد النفس هو مجاهدة تمنيّات النفس وقهر أهوائها، والسيطرة على الغضب والشهوة وحبّ الدنيا، والتضحية بإرادة النفس في سبيل إرادة الله تبارك وتعالى.
 
وتهذيب وبناء النفس هذا ومجاهدتها، هو ركيزة وأساس جهاد العدوّ الخارجيّ، فبدون جهاد النفس يكون جهاد العدوّ بلا ثمر أو بلا ثواب، لأنّه سيكون سبباً للرياء، والعجب، والغرور، والظلم، وعدم التقوى. 
 
إنّ من ينتصر في ميدان النفس "الجبهة الباطنيّة" ويقهر هوى النفس ينتصر أيضاً في الميادين الخارجيّة المختلفة، أمّا من يطلق لنفسه العنان ولا يكبح جماحها، بل يستجيب لها في كلّ ما تهوى وتتمنّى، فإنّ النفس الجموحة الأمّارة بالسوء، المتعوّدة على الخطايا لا تقنع حتّى تُردي صاحبها، بل تلقي به في جهنّم، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"ألا وإنّ الخطايا خيلٌ شمسٌ، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار!..."1.
 
وفي ميدان كربلاء، كان أبطال ملحمة عاشوراء من أهل جهاد النفس، فلم يكن للهوى ولشهوة الدنيا دخلٌ في دوافعهم، بل كانت نيّاتهم خالصة لله تبارك وتعالى، لذا فقد انتصروا على إغراءات المال، والمنصب، والشهوة، والعافية، والرفاه،
 
 
 

1- نهج البلاغة، ص57، الخطبة رقم 16.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

61

البلاغات الأخلاقيّة

 والحياة والبقاء، ومُتَع الدنيا...

 
كان عمرو بن قرظة الأنصاريّ (رضوان الله عليه)، من أنصار الحسين عليه السلام الذين استشهدوا بين يديه في وقعة الطفّ، وكان أخوه عليّ بن قرظة من أنصار عمر بن سعد، لكنّ مجاهدة عمرو لنفسه وتربيته لها كانت السبب في عدم تأثّر عمرو بالمحبّة والعاطفة الأخويّة بينه وبين أخيه، الّتي قد تؤدّي به إلى التراخي أو التردّد في الدفاع عن الإمام عليه السلام، ولذا فقد دافع عمرو عن الإمام عليه السلام دفاع الأبطال، وقاتل قتال المستيقنين حتّى استشهد (رضي الله عنه).

وكان محمّد بن بشر الحضرميّ (رضوان الله عليه) من أنصار الإمام عليه السلام، وكان قد جاءه في يوم عاشوراء خبر أسر ابنه بثغر الريّ، فقال: " عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبُّ أن يؤسَر وأن أبقى بعده! فسمع الحسين عليه السلام قوله، فقال: رحمك الله! أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك!
 
فقال: أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك"1. وفي نصّ آخر أنّه قال: "هيهات أن أفارقك ثمّ أسأل الركبان عن خبرك! لا يكن والله هذا أبداً، ولا أفارقك! ثمّ حمل على القوم فقاتل حتّى قتل رحمة الله عليه ورضوانه"2.
 
وكانت لنافع بن هلال (رضوان الله عليه) وهو شهيد آخر من شهداء الطفّ، زوجة لم يدخل بها بعد، وكانت معه في معسكر الإمام عليه السلام، فلمّا رأت نافعاً يوم عاشوراء قد برز إلى القتال، تعلّقت بأذياله وبكت بكاءً شديداً، وقالت: " إلى أين تمضي!؟ وعلى من أعتمد بعدك؟!" وكان هذا المشهد كافياً ليزلزل عزم كلّ شاب في فترة الخطوبة فيثنيه عن الإقدام على الموت باختياره! وكان الإمام الحسين عليه السلام قد سمع قولها، فقال لنافع: "يا نافع! إنّ أهلك لا يطيب لها فراقك، فلو رأيت أن تختار سرورها على البراز؟" فقال نافع: " يا ابن رسول الله! لو لم أنصرك اليوم، فبماذا أجيب غداً رسول الله!؟ وبرز فقاتل حتّى قتل (رضوان الله عليه) "3.
 
 
 

1- اللهوف، ص40 - 41.
2- مقاتل الطالبيّين، ص78.
3- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص447.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

62

البلاغات الأخلاقيّة

 وفي اليوم السابع من المحرّم لمّا اشتدّ على الحسين عليه السلام وأصحابه العطش، دعا أخاه أبا الفضل العبّاس عليه السلام فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلاً، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيديّ قائد الحرس الأمويّ على الماء يومذاك: "من الرجل؟ فجيء! قال: ما جاء بك؟!

 
قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه!
 
قال: فاشرب هنيئاً!
 
قال: لا والله، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومَن ترى من أصحابه!"1.
 
وفي رواية أنّ عبد الله بن مسلم بن عقيل عليهم السلام لمّا استأذن الحسين عليه السلام في القتال، قال له: "أنت في حلٍّ من بيعتي، حسبك قتل أبيك مسلم، خذ بيد أمّك واخرج من هذه المعركة.
 
فقال: لستُ والله ممّن يؤثر دنياه على آخرته"2!.

ولمّا ورد أبو الفضل العبّاس عليه السلام شريعة الفرات وقلبه يتلظّى من العطش، اغترف بيده غرفة من الماء ليشرب، فتذكّر عطش الإمام عليه السلام وأهل بيته، فرمى الماء من يده ولم يشرب حتّى استشهد3.
 
إنّ هذه الأمثلة، وأمثلة غيرها كثيرة، كلّ واحدٍ منها مظهر رائع من مظاهر انتصار أبطال ملحمة عاشوراء في ميدان "جهاد النفس"، فمنهم من ضحّى بعلقته بابنه أو زوجه على عتبة مذبح عشق الإمام عليه السلام، ومنهم من لم يُبال بعطشه القاتل إزاء عطش الإمام عليه السلام، ومنهم من لم ير لحياته معنى بعد حياة الإمام عليه السلام، ومنهم من لم يسمح لألم ولوعة شهادة أبيه أن يمنعاه من أدائه لتكليفه والقيام بواجبه.
 
إنّ رفض أبي الفضل العبّاس وإخوته من أمّه عليهم السلام لأمان ابن زياد الذي حمله
 
 
 

1- راجع: تاريخ الطبريّ، ج4، ص 312، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت.
2- راجع: معالي السبطين، ج1، ص402.
3- بحار الأنوار، ج45، ص41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

63

البلاغات الأخلاقيّة

 إليهم الشمر، وإنّ رفض أنصار الإمام عليه السلام من أهل بيته وأصحابه التخلّي عنه مع إخباره عليه السلام إيّاهم مراراً بأنّهم سوف يُقتلون، وإنّ رفض هانئ بن عروة لكلّ محاولات الترغيب والترهيب في أن يُسلّم مسلم بن عقيل عليه السلام إلى ابن زياد، حتّى آثر الاستشهاد على تسليم مسلم عليه السلام، وإنّ رفض الإمام الحسين عليه السلام أن يبدأ القوم بقتال يوم عاشوراء حتّى في رمية سهم ما لم يبدأوه بالقتال1، وإنّ رفض مسلم بن عقيل عليه السلام أن يغتال عبيد الله بن زياد في بيت هانئ لأنّه تذكّر حديثاً يرويه أمير المؤمنين عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “أنّ الإيمان قيد الفتك"، فلم يخرج من مخبئه حتّى ترك ابن زياد المنزل2، وإنّ امتناع زينب الكبرى عليها السلام أن تخمش وجهها أو تشقّ جيبها امتثالاً لأمر الإمام عليه السلام مع كلّ ما عاشته قبل يوم الطفّ وفيه وبعده من مصائب ودواهي تزلزل الجبال الرواسي وتذيب الصخر وتذر الأطفال شيبا3، إنّ هذه المواقف والمشاهد وغيرها ممّا جرى في مجموع حركة أحداث نهضة عاشوراء، علامات مضيئة دالّة على المستوى السامي الذي كان عليه أبطال ملحمة النهضة الحسينية في مجال "جهاد النفس".

 
إذن فدرس عاشوراء الذي نستفيده من بلاغ "جهاد النفس" هو أنّ على الذين يخوضون غمار ميدان مواجهة الظلم أن تكون نيّاتهم خالصة، وأن يكونوا متحرّرين من أسر هوى النفس، وأُزيل من وجودهم الميل إلى التسلّط، وحبّ الشهرة وطلب الرئاسة، وحبّ الدنيا وتعلّقاتها، حتّى يتمكّنوا من الثبات والاستقامة على خطّ المواجهة، وإلّا فإنّ الخوف عليهم من التخلّي عن مواجهة الظلم، وعن تحقيق الهدف المنشود، ومن خطر الوقوع في شراك النفس الأمارة بالسوء، لا يزال باقياً كما هو.
كان الإمام الحسين عليه السلام يرى أنّ مواصفات إمام الهدى والحقّ أن يكون ملتزماً بدين الحقّ، واقفاً نفسه لذات الله وفي سبيله: "الدائن بدين الحقّ، والحابس نفسه على ذات الله"4.
 
 
 

1- راجع: الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص96، طبع مؤسّسة آل البيت عليهم السلام .
2- راجع: وقعة الطفّ، ص114.
3- راجع: نفس المصدر، ص200.
4- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص29، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

64

البلاغات الأخلاقيّة

 يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): "يجب أن تهذّبوا أنفسكم حتّى تستطيعوا القيام، وتهذيب النفس هو أن تتّبعوا أحكام الله"1.

 
وقال (قدس سره) أيضاً: "ما دمتم مكبّلين بأغلال أنانيّتكم وأهوائكم النفسيّة، فإنّكم لن تستطيعوا "الجهاد في سبيل الله" ولا الدفاع عن "حريم الله" "2.
 
لقد كان جميع شهداء عاشوراء من أهل "جهاد النفس"، وهذا هو أيضاً بلاغهم إلى الأجيال المقبلة.
 
 
 
 

1- كلمات قصار، ص66، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ.
2- نفس المصدر، ص75.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

65

البلاغات الأخلاقيّة

 الشجاعة

 
الشجاعة: شدّة القلب1 عند البأس، فالإنسان الشجاع هو ذو القلب الشديد الثابت في مواجهة الشدائد والأخطار، وأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في قضايا الكفاح والجهاد والحرب، وعدم الخوف عند مواجهة العدوّ في النزال. وهذه القوّة القلبيّة، والطاقة الروحيّة، وصلابة الإرادة، هي السبب في عدم خوف الإنسان من التصريح بالحقّ أمام الظالمين، ومن المواجهة والكفاح أيضاً إذا اقتضى الأمر ذلك، وفي عدم الخوف من الفداء والتضحية أيضاً، وعند الموقف الذي يخاف أغلب النّاس فيه تكون الشجاعة ألّا يخاف الإنسان على رغم وجود أسباب الخوف، وألّا يتزعزع، وأن يتغلّب على المشكلات، وأن يتّخذ القرارات الحقّة الصائبة.
 
إنّ جميع القرارات والمواقف الرشيدة، وصناعة الملاحم البطوليّة في ميادين الجهاد، مدينة لفضل قوّة قلب وشدّة بأس الشجعان في الحرب. وجميع هزائم الطواغيت والقوى المتجبّرة، وإزالة عروشهم وأبّهتهم، مردّها أيضاً إلى شجاعة الأبطال أولي العزم الذين واجهوا أولئك الطواغيت وتلكم القوى.
 
إنّ عدم الخوف من الموت من المظاهر الواضحة للشجاعة، ولولا هذه الشجاعة بالذات لما اندفع الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره إلى حرب عاشوراء ليصنعوا هذه الملحمة الخالدة.
 
فحينما تحرّك الإمام عليه السلام من مكّة المكّرمة نحو الكوفة، كان جميع الذين التقوه
 
 
 

1- راجع: مجمع البحرين، ج2، ص485، طبع مكتب نشر الثقافة الإسلاميّة، قم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

66

البلاغات الأخلاقيّة

 أثناء الطريق قادمين من الكوفة- أو كانوا على علمٍ بأوضاعها- يحذّرونه من مغبّة هذا السفر ويخوّفونه من عواقبه، بعد ما يخبرونه بأوضاع العراق المضطربة واستيلاء ابن زياد على مجاري الأمور، وتسلّطه على النّاس هناك، لكنّ شجاعة الإمام عليه السلام وعدم خوفه من الموت -فضلاً عن مضيِّه عليه السلام لتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حتّما إصراره على مواصلة الطريق إلى الكوفة، وقد صرّح عليه السلام عند لقائه بجيش الحرّ ابن يزيد الرياحيّ قائلاً: "أبالموت تخوّفني؟! 1"، وقال عليه السلام في موقع آخر: "لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد"2، ويخاطب عليّ الأكبر عليه السلام أباه عليه السلام في الطريق بعد أن قصَّ عليه رؤياه قائلاً: "يا أبه! أفلسنا على الحقّ؟ فقال: بلى يا بني والذي إليه مرجع العباد. فقال: يا أبه إذن لا نبالي بالموت!..."3.

 
إنّ خصلة الشجاعة في بني هاشم أمر ذائع الصّيت في النّاس، ولا يقوى على إنكاره أحد، ولقد صرّح بذلك الإمام السجّاد عليه السلام في خطبته المثيرة في مجلس يزيد قائلاً: "أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة..."4.
 
والأسمى من كلّ ذلك، الشجاعة التي أظهرها الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره من أهل بيته وأصحابه في الميادين المختلفة من نهضته المقدّسة عامّة، وفي ميدان كربلاء يوم عاشوراء خاصّة، هذه الشجاعة الفريدة التي يشكّل الحديث فيها كتاباً مفصّلاً، فمثلاً الشجاعة ورباطة الجأش التي أبداها مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة عند قتاله الجيش الذي أرسله ابن زياد لمحاصرته واعتقاله، أو شجاعة ومبارزات أنصار الإمام عليه السلام في ميدان كربلاء التي أذهلت الأعداء وأرعبتهم إلى درجة أن اضطّر أحد قادة الجيش الأمويّ وهو عمرو بن الحجّاج الزبيديّ أن يصيح بجنودهم: "يا حمقى! أتدرون من تقاتلون؟! فرسان المصر! قوماً مستميتين! لا يبرزنَّ لهم منكم أحد..."5، أو شجاعة ورباطة جأش عبد
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص378.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص421.
3- بحار الأنوار، ج44، ص367.
4- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج2، ص69.
5- راجع: وقعة الطفّ، ص224.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

67

البلاغات الأخلاقيّة

 الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) الذي وقف ذلك الموقف الجريء في وجه ابن زياد في مجلسه فقال كلمة الحقّ، ثمّ قتاله جنود ابن زياد الذين هجموا عليه في داره قتالاً باسلاً وهو أعمى! ومئات الأمثلة الأخرى على تلكم الشجاعة والبسالة، حتّى أنّ الأعداء وصفوا الحسين عليه السلام وأنصاره بهذا الوصف: "ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية،... تلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة..."1.

 
إنّ شجاعة أبطال عاشوراء مستمدّة من عقيدتهم ويقينهم، وأولئك الذين يقاتلون عشقاً للشهادة ليس في قلوبهم خوف من الموت حتّى يضعفوا عند مواجهة العدوّ، ولذا كانت عساكر الأعداء تفرُّ باستمرار من بين أيديهم، ولأنّ الأعداء لا جرأة لهم على المبارزات الفرديّة قبال هؤلاء الشجعان، من هنا فقد كانوا يعمدون إلى الحملات العامّة على الفرد الواحد من أبطال عاشوراء، أو يمطرونه بالحجارة من بعيد، يقول حميد بن مسلم- وهو أحد رواة وقائع عاشوراء- واصفاً شجاعة الإمام عليه السلام ورباطة جأشه: "فوالله! ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه عليه السلام، إنْ كانت الرّجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب!"، فلمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن استدعى الفرسان، فصاروا في ظهور الرّجالة، وأمر الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتّى صار كالقنفذ...2
 
حتّى لقد أشادت نصوص زيارات متعدّدة بشجاعة الإمام عليه السلام وشجاعة أنصاره، حيث أثنت عليهم بتعابير مثل: "بَطل المسلمين"، "فرسان الهيجاء"، "ليوث الغابات"3.
 
لقد كانت واقعة عاشوراء ولم تزل تُلهم المجاهدين في سبيل الله الشجاعة والبسالة والبطولة، وكان المحرّم الحرام ولم يزل يمنح النّاس روحيّة الشهامة ومواجهة الظلم،
 
 
 

1- راجع: شرح نهج البلاغة، ج3، ص307.
2- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص111 و112، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام  - قم.
3- زيارة الإمام عليه السلام في النصف من رجب (مفاتيح الجنان)، ص 441 و446.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

68

البلاغات الأخلاقيّة

 وبتعبير الإمام الخمينيّ (قدس سره): "ابتدأ شهر المحرّم، شهر الحماسة والشجاعة والتضحية، الشهر الذي انتصر فيه الدم على السيف، الشهر الذي دمغت فيه قوّة الحقّ الباطلَ إلى الأبد، وختمت على نواصي الظالمين والحكومات الشيطانيّة بختم البطلان، الشهر الذي علّم الأجيال على مدى التاريخ طريق الانتصار على الحراب..."1.

 
ومع الانتباه إلى أنّ تيّار الشهامة والشجاعة يغمر حركة أحداث نهضة عاشوراء، ويموج في أفعال وأقوال أبطال ملحمة عاشوراء، فإنّ من الجدير أن يُبيّنَ محتوى هذه الحقيقة للناس عامّة، وللشباب منهم خاصّة، حتّى يأخذوا الدرس عن شجاعة أولئك الأبطال في نفس الوقت الذي يذرفون دموعهم الطاهرة بكاءً على مظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره (قدّس سرّهم).
 
كما أنَّ التذكير بشجاعة قلب مولاتنا زينب الكبرى عليها السلام وصلابتها في مواجهة المصائب والدواهي، وتحمّلها لجميع تلك الآلام والأحزان، وتماسكها عند استشهاد أخيها عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وخطبها الناريّة في الكوفة وفي دمشق في مواجهتها جبابرة ذلك الزمان، يربّي نساءنا على الشجاعة والبسالة والصبر والتحمّل.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج3، ص225.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

69

البلاغات الأخلاقيّة

 الصبر والثبات

 
من الضروريّ الصمود والثبات من أجل مواجهة الضغوط الداخليّة والخارجيّة ومن أجل التغلّب على المشاكل في طريق الوصول إلى الهدف المنشود، فبدون الصبر سواء في المقاومة والجهاد أو في أيّ عمل آخر لا يمكن الوصول إلى النتائج المرجوّة، فلا بدّ للإنسان أن يكون صبوراً حتّى لا تزلزله المصائب وصعوبات الطريق، هذا ما يدعو إليه الدين في جميع المراحل، ونجد أنفسنا في عاشوراء أيضاً وجهاً لوجه أمام هذا التجلّي الروحيّ العظيم، فإنّ الشيء الذي سما بملحمة كربلاء إلى ذروة الخلود والتأثير والفتح المعنويّ هو روحيّة المقاومة والصمود التي تجلّت في الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره وأهل بيته.
 
لقد كان الإمام عليه السلام منذ أوائل نهضته وحتّى صبيحة عاشوراء يشترط فيمن يريد الانضمام إليه والالتحاق به أن يكون صابراً صامداً موطّناً على لقاء الله نفسه، ويروى أنّه كان من قوله عليه السلام في بعض المنازل أنّه قال: "أيّها النّاس! فمن كان منكم يصبر على حدّ السيف وطعن الأسنّة فليقم معنا، وإلّا فلينصرف عنّا"1.
 
إنّ ميدان الحرب والاقتتال مصحوب بالصدام والضرب والعطش والإرهاق والجراحات والموت والأسر ومئات المخاوف والأخطار الأخرى، ولذا كان الإمام الحسين عليه السلام يشترط لصحبته ومرافقته "الصبر" فيمن يلتحق به، حتّى يبقى ويثبت أنصاره الصابرون في ميدان النهضة إلى نهاية المطاف.
 
 
 

1- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص348.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

70

البلاغات الأخلاقيّة

 ونلاحظ شعار "الصبر والثبات" واضحاً جليّاً في خطب الإمام عليه السلام وفي رجزه ورجز أنصاره، لقد كان الصبر من الأمور التي أكّد عليها الإمام عليه السلام في وصاياه لأنصاره وأهل بيته، وخصوصاً ما أوصى به لمرحلة ما بعد استشهاده عليه السلام:

 
ففي يوم عاشوراء مثلاً، قال عليه السلام في خطبة خطبها في أصحابه:
"صبراً بني الكرام! فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة"1.
 
وممّا أوصى عليه السلام به أخته زينب الكبرى عليها السلام وبقيّة أخواته وبناته ونسائه ليلة عاشوراء قوله:
 
"... يا أختاه يا أمّ كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا فاطمة، وأنت يا رباب! أنظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيباً، ولا تخمشن عليَّ وجهاً، ولا تقلن هجراً..."2.
 
وبعد أن صلّى عليه السلام بأصحابه يوم عاشوراء، دعاهم أيضاً إلى الصبر والثبات قائلاً: " فاتّقوا الله واصبروا"3.
 
وكان شعار "الصبر والثبات" ظاهراً أيضاً في رجز أصحابه، فقد جاء مثلاً في بداية رجز خالد بن عمرو (رضوان الله عليه) قوله:
 
صبراً على الموت بني قحطان           كيما تكونوا في رضى الرحمن
 
وجاء أيضاً في مطلع رجز سعد بن حنظلة التميميّ قوله: 
 
صبراً على الأسياف والأسنّة             صبراً عليها لدخول الجنّة4
 
إنّ "الصبر يهوّن الفجيعة"5 كما يقول الإمام عليّ عليه السلام، والإنسان الصابر كما يزداد بالصبر تحمّلاً للمصيبة وآلامها، فإنّه يشعُّ أيضاً على الآخرين روحيّة الصبر والثبات.
 
ولقد كانت أشدّ المصائب والصدمات الروحيّة التي تعرّض لها الإمام الحسين
 
 
 

1- نفس المهوم، ص135.
2- اللهوف، ص81.
3- اللهوف، ص50، المطبعة الحيدريّة، النجف.
4- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص101.
5- غرر الحكم، ج1، ص143.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

71

البلاغات الأخلاقيّة

 عليه السلام مصيبة مقتل أبنائه وأنصاره من أهل بيته وأصحابه، لكنّه عليه السلام في جميع تلك الدواهي لم يتزعزع بل صمد وقاوم، ولم يستسلم لهول المصاب، ولم يهن ولم ينكل، وله تصريحات كثيرة مفعمة بالصبر على ما ألمّ به من عظيم الآلام عند فقد أعزّته وأنصاره من أهل بيته وأصحابه، ولقد أعدّ عليه السلام نفسه منذ البدء لتحمّل هذه النوازل، وقد صرّح بذلك في خطبته التي خطبها بمكّة قبيل خروجه إلى العراق، حيث قال: "نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين"1.

 
وفيما أوصى به الإمام عليه السلام أخته زينب الكبرى وباقي النساء وأهل بيته في ليلة عاشوراء ضمن ما أخبرهم به من حال الأعداء، أنّه قال:
 
"ذكّرتهم فلم يذكروا، ووعظتهم فلم يتّعظوا، ولم يسمعوا قولي، فما لهم غير قتلي سبيلاً، ولا بدّ أن تروني على الثرى جديلاً، لكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريّة، والصبر على البليّة، وكظم نزول الرزيّة، وبهذا وعد جدّكم ولا خلف لما وعد، ودّعتكم إلهي الفرد الصمد"2.

وفي يوم عاشوراء دعا ابنه عليَّ الأكبر عليهما السلام  إلى التحمّل والصبر على العطش قائلاً: "اصبر حبيبي..."3، وكذلك خاطب أحمد بن أخيه الحسن عليهما السلام  بعد أن عاد إليه من القتال عطشان بقوله: "يا بنيّ اصبر قليلاً..."4، وفي وداعه الأخير لحرمه أوصى ابنته سكينة عليها السلام قائلاً: 
 
"فاصبري على قضاء الله ولا تشتكي"5، وكان من مناجاته العرفانيّة في آخر لحظات حياته وهو صريع على وجه الثرى، مخاطباً ربّه عزَّ وجلَّ: "صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك... صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له..."6.
 
إنّ تمسّك أهل المصيبة بالصبر، وسيطرتهم على أحزانهم وغمّهم، وتسليمهم
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص367.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص400.
3- بحار الأنوار، ج45، ص45.
4- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص 462.
5- نفس المصدر، ص469.
6- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص357.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

72

البلاغات الأخلاقيّة

لمشيئة الله وتقديره، احتساباً ورجاءً لما عند الله من المثوبة والأجر، كما يزيد في ثوابهم عند الله تبارك وتعالى، كذلك ييسّرعليهم تحمّل لوعة فقد الأحبّة واستشهاد الأعزّة، خصوصاً إذا كان صاحب المصيبة لفقد الأحبّة ذا إيمان قويّ لا يسمح للجزع والاعتراض أن يحبطا أجره عند الله تبارك وتعالى.
 
كان عبد الله بن جعفر زوج زينب الكبرى عليها السلام قد بقي في المدينة ولم يلتحق بالإمام الحسين عليه السلام في خروجه إلى العراق (فقد قيل: إنّه مكفوف البصر)1، لكنّه كان قد شارك في الطفّ بولديه الذين استشهدا مع الإمام الحسين عليه السلام.
 
ولمّا بلغه مقتل ابنيه مع الحسين عليه السلام دخل عليه بعض مواليه والنّاس يعزّونه، فقال ذلك الرجل المولى: "هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين" فحذفه عبد الله ابن جعفر بنعله ثمّ قال: "يا ابن اللخناء! اللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لأحببتُ أن لا أُفارقه حتّى أُقتلَ معه! والله إنّه لممّا يسخّي بنفسي عنهما، ويهوّن عليّ المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه"2.
إنّ التأريخ دوّن لنا صبر وثبات شهداء كربلاء وذويهم عنواناً لمقام إنسانيّ فذّ ولخصلة أخلاقيّة سامية، وقد أثنت النصوص الواردة في زيارة هؤلاء الشهداء الأفذاذ ثناءً عاطراً على جهادهم وصبرهم وثباتهم.
 
نقرأ في إحدى زيارات الحسين عليه السلام: “فجاهدهم فيك صابراً محتسباً حتّى سُفك في طاعتك دمه!"3.
 
ونقرأ في أحد نصوص زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر..."4.
 
لقد كانت واقعة كربلاء مدرسة الصمود، وكان أبطال ملحمة عاشوراء قدوات الصبر والتحمّل والثبات، كما استوعبت عوائل الشهداء أيضاً درس الصبر من زينب الكبرى عليها السلام، وتحمّلت الأمّهات والزوجات والآباء لوعة فقدان أعزّتهم الشبّان تأسّياً بكربلاء.
 
 
 

1- راجع: زينب الكبرى، جعفر النقديّ، ص87.
2- تاريخ الطبريّ، ج4، ص357، مؤسّسة الأعلميّ، بيروت.
3- مفاتيح الجنان، زيارة الأربعين، ص468.
4- نفس المصدر، ص435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

73

البلاغات الأخلاقيّة

 يقول إمام الأمّة في ترسيم صبر ومقاومة الشعب الإيرانيّ قبال حملات العدوّ على المدن، وفي الثناء على صبر ويقظة هذا الشعب:

 
"بارك الله في أعزّتنا عوائل الشهداء، والمفقودين، والأسراء، والمعلولين، وفي الشعب الإيرانيّ، الذين تحوّلوا بثباتهم ويقظتهم ومقاومتهم إلى بنيان مرصوص، لا يرعبهم تهديد الدول العظمى، ولا يأنّون لشدّة الحصار وقلّة الإمكانات... يفضّلون الحياة العزيزة في خيمة المقاومة والصبر على الحياة في قصور الذلّة والعبوديّة للدول العظمى، وعلى الصلح والسلام المفروض"1.
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج2، ص59.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

74

البلاغات الأخلاقيّة

 العزّة

 
العزّة سواء كانت خصلة خلقيّة فرديّة أم روحيّة جماعيّة، تعني: الرفعة والامتناع، وعدم الخضوع لقهر العوامل الخارجيّة، وعدم الانكسار والانهزام في المواجهة، وصلابة النفس، والكرامة وسموّ الروح الإنسانيّة، وقوّة الشخصيّة.
 
يقال للأرض الصلبة القويّة الغليظة "عزاز"، والأعزّاء أولئك الذين يأبون الذلّة، ويترفّعون عن الهوان ولا يأتون الأعمال المحقّرة الوضيعة، وقد يضحّون بأنفسهم حفظاً لكرامتهم وكرامة أهليهم.
 
إنّ الخضوع للظلم، وتحمّل سلطة الباطل، والسكوت إزاء التعدّي، والانصياع لمنّة الأراذل، والتسليم لهم تسليم الأذلّاء، وإطاعة الكفرة والفجرة، كلّ ذلك منشؤه ذلّةُ النفس وضعةُ وهوان الروح.
 
إنّ الله عزيز، وقد جعل هذه العزّة أيضاً لرسوله وللمؤمنين، يقول تبارك وتعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)1، وورد في أحاديث كثيرة ذمّ الذلّة، ولم يرخّص الله تعالى لمؤمن أن يلقي نفسه في ذلّة وهوان وضعة، يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً..."2، ذلك لأنّ الله قال إنّ العزّة له ولرسوله وللمؤمنين، فالمؤمن عزيز غير ذليل، المؤمن أصلب من الجبل، لأنّ الجبل يمكن أن تزيله المعاول وآلات الحفر، أمّا المؤمن فلا
 
 
 

1- المنافقون، 8.
2- ميزان الحكمة، ج6، ص288.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

75

البلاغات الأخلاقيّة

 شيء يتمكّن أن يزيله عن عقيدته ودينه.

 
تتجسّد عزّة المؤمن في عدم الطمع بمال الغير وبمناعة طبعه، وامتناعه على منّة الآخرين، حتّى في الفقه نلحظ اعتبار عزّة المؤمن في تشخيص الموقف العمليّ، إذ نجد على سبيل المثال أنّ أحد موارد جواز التيمّم مع وجود الماء تحقّق "الحرج والمشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة في تحصيل الماء أو استعماله، وإنْ لم يكن ضرر ولا خوف، ومن ذلك حصول المنّة التي لا تتحمّل عادة باستيهابه، والذلّ والهوان بالاكتساب لشرائه..."1.
 
لقد أراد بنو أميّة ومن حولهم أن يفرضوا على "آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم " ذلّ البيعة ليزيد بالقهر والقوّة، وأن يخضعوهم لأمر يزيد، لكنّ ذلك لم يكن ليتحقّق، لأنّ "آل الله" أبوا ذلك، وترفّعوا عن تلك الذلّة بسموّ العزّة فيهم، وإنْ كان ثمن هذا الإباء الاستشهاد والأسر. 
 
أراد ابن هندٍ خاب مسعاه أن يرى                حسيناً بأيدي الضيم تلوى شكائمه
 
ولكن أبى المجدُ المؤثَّلُ والإبا                    له الذلَّ ثوباً والحسام ينادمه
 
أبوه عليٌّ وابنة الطهر أمُّه                       وطه له جدٌّ وجبريلُ خادمه
 
إلى ابن سُمَيٍّ وابن ميسون ينثني               يمدُّ يداً والسيف في اليد قائمهُ؟!2

لمّا عرض والي المدينة الوليد بن عتبة على الإمام الحسين عليه السلام البيعة ليزيد،
اعتبر الإمام عليه السلام ذلك عرضاً مذلّاً فرفض القبول به، وبيّن سوءات يزيد ونقائصه، ثمّ قال عليه السلام: “فمثلي لا يبايع مثله"3.
 
وصرّح عليه السلام برفضه التسليم لأمر يزيد وابن مرجانة قائلاً: "لا والله! لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد!"4.
 
 
 

1- تحرير الوسيلة، ج1، ص104.
2- من قصيدة للعلاّمة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص184.
4- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص421.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

76

البلاغات الأخلاقيّة

 وقال عليه السلام بعد استشهاد كوكبة من أنصاره في الحملة الأولى يوم عاشوراء:

 
".. أما والله! لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله تعالى وأنا مخضَّب بدمي!"1.
 
وقال عليه السلام في إحدى خطبه يوم عاشوراء قبل نشوب القتال:
 
"ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..."2.
 
وعقيدة الإمام عليه السلام ما صرّح به في قوله: "موتٌ في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ"3 وكان يصرّح بهذا المفهوم في بعض رجزه في ميدان القتال يوم عاشوراء في قوله عليه السلام: “الموت أولى من ركوب العار"4.
 
ولمّا حذّره الحرّ بن يزيد الرياحيّ من أنّه عليه السلام إذا أصرّ على عزمه فسوف يقتل، ردّ عليه الإمام عليه السلام قائلاً: "أفبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
 
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى              إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
 
وواسى الرجال الصالحين بنفسه                   وفارق مثبوراً وخالف مجرما
 
فإنّ عشتُ لم أندم وإنْ متُّ لم أُلَم                   كفى بك ذلّاً أن تعيش وترغما" 5
 
وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال بعد هذا الشعر:
"ليس شأني شأن من يخاف الموت، ما أهون الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ، ليس الموت في سبيل العزّ إلّا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذلّ إلّا الموت الذي لا حياة معه، أفبالموت تخوّفني!؟ هيهات طاش سهمك وخاب ظنّك،
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ص432.
2- اللهوف، ص42، المطبعة الحيدريّة.
3- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص68.
4- نفس المصدر.
5- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص184.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

77

البلاغات الأخلاقيّة

 لست أخاف الموت، إنّ نفسي لأكبر وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟! مرحباً بالقتل في سبيل الله! ولكنّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي، فإذن لا أبالي بالقتل"1.

 
ولقد تجسّدت أيضاً هذه الروحيّة العزيزة التي تأبى الهوان في أقوال وأفعال أهل بيته عليهم السلام وأنصاره (قدّس سرّهم)، لقد كان رفض العبّاس وإخوته من أمّه عليهم السلام لأمان ابن زياد الذي جاء به الشمر مثالاً لروحيّة العزّة والإباء هذه، إذ كان بإمكانهم القبول بهذا الأمان والخروج من ميدان الموت سالمين، لكنّهم رفضوا الحياة الذليلة والارتهان لمنّة أمان ذلك الرجل الأرذل عبيد الله بن زياد، فكان رفضهم دليلاً على عزّتهم، وكان ردّهم الشديد دليلاً على شدّة تلك العزّة، إذ أجاب أبو الفضل العبّاس عليه السلام شمراً قائلاً: "تبّاً لك يا شمر! ولعنك الله ولعن ما جئت به من أمانك هذا يا عدوَّ الله! أتأمرنا أن ندخل في طاعة العناد ونترك نصرة أخينا الحسين عليه السلام !؟"2.
 
وتجسّدت روحيّة العزّة هذه أيضاً في رجز عليّ الأكبر عليه السلام، إذ كان ينشد في ميدان القتال معرّفاً بنفسه الزكيّة ومعلناً عن رفضه حكومة الأدعياء: 
 
أنا عليّ بن الحسين بن علي           نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ
 
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي3
 
كما حافظ أهل بيت الحسين عليه السلام بعد واقعة الطفّ أيضاً على هذه العزّة عزّة "آل الله" بالرغم من كلّ ظروف الأسر وشدائده، فلم يصدر عنهم ما يخالف هذه العزّة فيضع من شأنهم الرفيع أو يكشف عن رضوخهم لذلّة أو هوان، وكانت خطب الإمام السجّاد وزينب وبقيّة آل الله عليهم السلام في الكوفة شواهد على عزّتهم ورفعتهم.
 
ولقد حاول ابن زياد في قصر الإمارة أن يحقّرهم وينتقص من شأنهم حين سأل زينب عليها السلام متشمّتاً: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!"، لكنّها
 
 


1- إحقاق الحقّ، ج11، ص601، وأعيان الشيعة، ج1، ص581.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص390.
3- وقعة الطفّ، ص243.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

78

البلاغات الأخلاقيّة

 بادرت عليها السلام بادرت إلى الردّ فقالت بعزّة الإيمان: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر وهو غيرنا"، ولمّا ردّ عليها ليغيظها قائلاً: "كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟"، ألقمته حجراً وأخرسته عن النطق حيث قالت معتزّة بما جرى في الطفّ: "ما رأيت إلّا جميلاً! هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم! فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!!"1.

 
أمّا في الشام فقد حاكمت عليها السلام يزيد الطاغية في قصره محاكمة عزيز مقتدر، فأسقطته في مجلسه من أعين الحضّار، في خطبة لا تزال الأجيال تقرأها فتعجّب من روعتها ومن شجاعة زينب عليها السلام ومن عزّتها، وكان من جملة هذه الخطبة العصماء قولها عليها السلام: “... أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك على الله كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟!... ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند؟! وأيّامك إلّا عدد؟! وجمعك إلّا بدد؟! يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين..."2.
 
لقد أفهمت العقيلة زينب الكبرى عليها السلام يزيد وأعوانه في هذه الخطبة أنّهم هم الأذلّاء المخزيّون المفتضحون، وأنّ عزّة وكرامة أهل بيت النبوّة أسمى وأجلّ وأمنع من أن تنقص جنايتهم العظمى منها شيئاً.
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص324.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص358 و359.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

79

البلاغات الأخلاقيّة

 العفاف والحجاب

 
تتحقّق الكرامة الإنسانيّة للمرأة في ظلّ عفافها، والحجاب أيضاً أحد الأحكام الدينيّة التي شرّعت من أجل أن تستعفف النساء وتطهر حجورهنّ، ومن أجل حفظ المجتمع من التلوّث بالرذائل والمفاسد.
 
ولقد قامت النهضة الحسينيّة من أجل إحياء القيم الدينيّة، وكان حجاب المرأة المسلمة وعفافها قد أخذ مكانته النفيسة في ظلّ هذه النهضة المقدّسة، وكان الإمام الحسين عليه السلام وزينب الكبرى عليها السلام وبقيّة أهل بيت الرسالة وحرم النبوّة يذكّرون بمنزلة هذه الجوهرة الأخلاقيّة سواء في أقوالهم أو في أسلوب تحرّكاتهم.
 
لقد كانت زينب الكبرى عليها السلام وباقي حرم الرسالة من أهل بيت الحسين عليه السلام قدوات للمرأة المسلمة في الحجاب والعفاف، إذ لم يغفلن عليهن السلام عن مراعاة كمال الحجاب ومتانة العفاف أثناء مشاركتهنّ في الملحمة العظيمة وأدائهنّ لدورهنّ الاجتماعيّ والتبليغيّ الحسّاس الخطير، فكنّ لذلك حقّاً أسوة لجميع النساء المسلمات.
 
لقد أوصى الإمام الحسين عليه السلام أختيه زينب وأمّ كلثوم وابنته فاطمة وزوجته الرباب قائلاً: "يا أختاه يا أمّ كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا فاطمة، وأنت يا رباب، إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيباً، ولا تخمشن عليَّ وجهاً، ولا تقلن هجراً"1.
 
خصوصاً وأنهنّ كنّ بمحضر أعين الأعداء التي كانت ترقب وترصد ما يصدر عنهن
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص406.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

80

البلاغات الأخلاقيّة

 من قول وفعل.

 
ولمّا سمع الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء بكاء النسوة في الخيم، أرسل إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّ الأكبر عليهما السلام  ليسكّتاهنّ ويصبّراهن1.
 
كان سلوك وتصرّف زينب الكبرى وأخواتها وأزواج وبنات الحسين وبقيّة نساء المعسكر الحسينيّ المقترن برعاية الحجاب وحفظ العفاف مثلاً عمليّاً أعلى لمتانة شخصيّة المرأة المسلمة.
 
ولم يألُ الإمام السجّاد عليه السلام جهده أيضاً في الحفاظ على حجاب مخدّرات بيت الرسالة ورعاية شؤونهنّ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بل لم يغفل عن هذا الأمر المهمّ حتّى في اللحظة التي رأى ابن زياد يهمُّ بقتله! إذ قال عليه السلام له: "يا ابن زياد! إنْ كانت بينك وبينهم قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنَّ بصحبة الإسلام"2.
 
وينقل السيّد ابن طاووس (رضوان الله عليه) أنّ الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء قد أوصى عائلته برعاية الحجاب والعفاف وصون النفس3.
 
ولمّا سمعت زينب الكبرى أخاها الإمام الحسين عليه السلام ينعى نفسه بعد ما رأى رؤيا في غفوته، فقدت صبرها ولم تتمالك نفسها، فلطمت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين عليه السلام: “مهلاً! لا تشمتي القوم بنا!"4.
 
وروي أنّ امرأة من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام فسطاطهنّ وهم يسلبونهنّ أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل! أتسلبُ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !5.
 
وفي الطريق من الكوفة إلى الشام كان غاية حرص نساء بيت النبوّة في حال السبي أن يصان حجابهنّ وعفافهنّ "فلمّا قربوا من دمشق دنت أمّ كلثوم من شمر- 
 
 
 

1- راجع: وقعة الطفّ، ص206.
2- تاريخ الطبريّ، ج4، ص350، مؤسّسة الاع/لميّ - بيروت.
3- راجع: الملهوف، على قتلى الطفوف، ص142.
4- نفس المصدر، ص151.
5- الملهوف على قتلى الطفوف، ص181.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

81

البلاغات الأخلاقيّة

  وكان من جملتهم- فقالت له: لي إليك حاجة! فقال: ما حاجتك؟! قالت: إذا دخلتَ بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، وينحّونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!"1.

 
وكان من الاعتراضات الشديدة التي وبّخت زينب الكبرى عليها السلام يزيد بن معاوية عليها في خطبتها أن قالت: "أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف..."2.
 
إنّ الغاية من نقل هذه الأمثلة والشواهد هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ عائلة الإمام الحسين عليه السلام ومخدّرات بيت النبوّة وبقيّة نساء شهداء الطفّ كما كنّ يحرصن أشدّ الحرص على حجابهنّ وعفافهن، كنّ أيضاً ينكرن على الأعداء إنكاراً شديداً ويوبّخنهم بقوّة على معاملتهم المشينة مع حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهتكهم لحرمة عترته وعرضهنّ على أنظار النّاس.
 
ومع أنّ حرم النبوّة والرسالة كانت بيد الأعداء، يسوقونهنّ من منزل إلى منزل، ومن مدينة إلى أخرى، ومن سوق إلى بلاط، مفجوعات قد أحرقت قلوبهنّ نار المصيبة والرزيّة، إلّا أنهنَّ كنّ في غاية الحرص وشدّة المراقبة على حفظ شأن وكرامة ومقام المرأة التقيّة الطاهرة، وبرغم تلك الحال الشديدة التي لا توصف كنّ قد حرصن أيضاً على أداء تكليفهنّ في التبليغ بأهداف النهضة الحسينيّة المقدّسة والدفاع عن غاياتها وأهدافها من خلال الخطب البليغة المؤثّرة التي كشفت حقيقة الأعداء وفضحتهم.
 
إنّها الحركة الاجتماعيّة السياسيّة للمرأة المسلمة في ذات الوقت الذي تصون حجابها وعفافها، وهذا درس لجميع النساء المسلمات في كلّ الظروف وجميع العصور.
 
 
 

1- الملهوف، ص74، الطبعة الحيدريّة - النجف.
2- نفس المصدر، ص79.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

82

البلاغات الأخلاقيّة

 أداء التكليف

يمكن أن يعرف تديّن ومبدأيّة الإنسان المسلم من خلال كونه عاملاً متعبّداً بكلّ ما هو "تكليف شرعيّ" في جميع أبعاد حياته وأعماله الفرديّة والاجتماعيّة.

 

والتكليف يختلف باختلاف الظروف والشرائط، فربّما وافق التكليف ما يحبّ العبد، وربّما خالف هواه فكان ممّا يكره، وربما كان ممّا يفرح به النّاس وربّما كان ممّا يثقل عليهم.

 

والإنسان المسلم في عهده مع الله تبارك وتعالى ملزم بالإطاعة والعمل طبقاً لما يريده الله فيما يحبّ ويكره على السواء، فلا يفرّط بأداء التكليف أو يتخلّى عنه من أجل شيء آخر أبداً، والإنسان المسلم الملتزم بهذا العهد منتصر دائماً وإنّ تعرّض في الظاهر لهزيمة، وانكسار، ذلك لأنّه لم يقصّر في حقّ العمل بالتكليف.

 

وإذا كانت ثقافة "العمل بالتكليف" هي الحاكمة والمهيمنة في المجتمع فإنّ أبناء هذا المجتمع يشعرون بالانتصار دائماً، وبالفوز ب-"إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ"1 كما في التعبير القرآنيّ، فهم على حال حسنى سواء استشهدوا في جهادهم وكفاحهم أو حققّوا النصر العسكريّ والسياسيّ.

 

ولقد عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام طبقاً لنوع التكليف الشرعيّ في الظروف الاجتماعيّة المختلفة، وكانت حادثة عاشوراء أيضاً مظهراً من مظاهر العمل بما يفرضه التكليف الشرعيّ، الذي كانت تعيّنه أيضاً اقتضاءات الظروف والمعرفة

 

 


1- راجع: التوبة، 52.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

83

البلاغات الأخلاقيّة

 بموضوع الحكم، طبقاً للموازين الشرعيّة الكليّة، ولا شكّ أنّ قيام الأئمّة عليهم السلام أو قعودهم، وانتفاضتهم أو سكوتهم، كان تابعاً أيضاً لهذا التكليف الشرعيّ.

 
والإمام الحسين عليه السلام مع كونه إمام حقّ، يعلم أنّ الخلافة والقيادة حقّ له، إلّا أنّه خاطب أهل البصرة في رسالته التي كتبها إلى أشرافهم ورؤساء الأخماس فيهم قائلاً: "أمّا بعد: فإنّ الله اصطفى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ النّاس بمقامه في النّاس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه..."1.
 
والحسين بن عليّ عليه السلام الذي لم يتحمّل الخضوع لحكومة يزيد حتّى لحظة واحدة! هو نفسه ذلك الحسين عليه السلام الذي عاش في ظلّ حكومة معاوية عشر سنين ولم يقم ضدّه، ذلك لأنّ تكليف الإمام عليه السلام في كلّ واحد من هذين العهدين كان مختلفاً.
 
إنّ تعبّد الإنسان المسلم ب-"حكم الدين" مقدّس جدّاً...
 
في الأيّام التي كان مسلم بن عقيل عليهما السلام  في الكوفة قد اختبأ في بيت هاني بن عروة (رضوان الله عليه) ، وقد اتّفقَ على خطّة اغتيال ابن زياد حين يأتي لعيادة هانئ في بيته على يد مسلم عليه السلام، نجد أنّ مسلماً عليه السلام أبى تنفيذ خطّة الاغتيال في وقتها، إذ لم يخرج إليه من مخبئه، فانصرف ابن زياد من منزل هانئ لم يمسسه سوء، ولمّا سئل مسلم عليه السلام:ما منعك من قتله؟! قال: "خصلتان: أمّا إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل في داره، وأمّا الأخرى فحديث حدّثه النّاس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:أنّ الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن"2.
 
وحينما أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يخرج من مكّة باتجاه الكوفة، كان بعض الأصحاب قد تقدّموا إليه بالنصيحة أن ليس من الصلاح الذهاب إلى العراق، وكان من جملة هؤلاء ابن عبّاس الذي ردّ عليه الإمام عليه السلام قائلاً: "يا ابن عمّ، إنّي والله
 
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص107.
2- تاريخ الطبريّ، ج4، ص271، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

84

البلاغات الأخلاقيّة

 لأعلم أنّك ناصح مشفق، ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعت على المسير!"1.

 
وفي منزل "الصفاح" أيضاً، لمّا التقاه الفرزدق وأخبره أنّ أوضاع الكوفة لا تدعو إلى الاطمئنان، قال عليه السلام: “صدقت! لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إنْ نزل القضاء بما نحبُّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته"2.
 
كلّ هذه الشواهد تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام كان قد هيّأ نفسه المقدّسة للقيام بتكليفه الشرعيّ، راضياً بقضاء الله تعالى مهما كانت النتيجة، ففي الوقت الذي أتاه رسولان من والي مكّة يحملان إليه رسالة منه تتضمّن التعهّد بضمان الأمان له عليه السلام إذا انثنى عن سفره إلى العراق، قال لهما الإمام عليه السلام: “إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليّ كان أو لي!"3.
 
ذلك هو الانقياد للتكليف الشرعيّ، والمؤمن العامل بتكليفه الشرعيّ يرى نفسه منتصراً في أيٍّ من الحسنيين، كما يقول الإمام الحسين عليه السلام:
"أرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قُتِلنا أم ظفرنا"4.
 
ويقول إمام الأمّة قدّس الله نفسه على أساس هذا المعتقد:
 
"إنّ الأمّة التي ترى السعادة في الشهادة أمّة منتصرة... نحن منتصرون سواء قُتلنا أم قَتلنا"5.
 
حينما كانت رسائل أهل الكوفة تسلّم إلى الإمام الحسين عليه السلام وهو في مكّة المكرّمة، يدعونه فيها إلى القدوم إليهم، ويعدونه فيها بنصرته والدفاع عنه، رأى الإمام عليه السلام أنّ تكليفه الذهاب إليهم مع علمه بحقيقة حال أهل الكوفة، ذلك لأنّ رسائلهم وتعهّدهم بنصرته والذود عنه شكّلا أحد الأسباب الرئيسة التي جعلته عليه السلام يختار التوجّه إلى العراق، وقد صرّح عليه السلام بقوّة هذا السبب في خطبته التي
 
 
 

1- نفس المصدر، ص288.
2- نفس المصدر، ص290.
3- نفس المصدر، ص292.
4- أعيان الشيعة، ج1، ص597.
5- صحيفة نور، ج13، ص65.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

85

البلاغات الأخلاقيّة

 خطب بها جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) حين التقاهم، حيث قال عليه السلام: “أيّها النّاس! إنّها معذرة إلى الله عزَّ وجلَّ وإليكم، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فإن تعطوني ما أطمئنُّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإنّ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم"1.

 
إنّ قول الإمام عليه السلام هذا دالّ على أنّ عمله كان طبقاً لهدي التكليف الشرعيّ. وكان أنصاره صلوات الله عليهم هكذا أيضاً، فقد استشهدوا وارتثّوا بين يديه عليه السلام امتثالاً للتكليف الشرعيّ الآمر بنصرته، ومن الأدلّة على هذه الحقيقة أنّ الإمام عليه السلام لمّا أذن لهم ليلة عاشوراء بالانصراف عنه والنجاة بأنفسهم بلا ذمام منه عليهم، كان جوابهم (قدّس سرّهم) هكذا:
 
"والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا"2.
 
وفي تأريخنا المعاصر أيضاً، كان الإمام الخمينيّ قائد الثورة الإسلاميّة (قدس سره) قد قام بنهضته المباركة ضدّ الطاغوت على أساس التكليف الإلهيّ، وفي جميع مراحل هذه النهضة المقدّسة لم يكن يفكّر إلّا بما هو تكليف شرعيّ، في نداءاته وفي سكوته، في سجنه ونفيه وفي درسه وتأليفه، في الحرب وفي قبول معاهدة الصلح، كلّ ذلك كان على أساس "العمل بالتكليف"، ولذا فهو في جميع المراحل لم يستكن ولم يضعف ولم ييأس ولم يتخلَّ عن هدفه، ولم يندم في لحظة ما على ما كان قد وقع.
 
كان تحليل الإمام الخمينيّ (قدس سره) لنهضة عاشوراء أنّها حركة قامت على أساس "العمل بالتكليف"، وكانت حركة مجاهداته هو أيضاً قائمة على مثل هذا الأساس.
 
لنقرأ أمثلة من أقواله (قدس سره) في هذا الصدد:
 
"إنّما قام الإمام أبو عبد الله عليه السلام ونهض بعدد قليل في مواجهة ذلك العدد
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج ، ص303.
2- نفس المصدر، ص318.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

86

البلاغات الأخلاقيّة

 الكبير الهائل لأنّه قال: تكليفيّ هو أن أستنكر، أن أنهى عن المنكر"1.

 
"كان سيّد الشهداء عليه السلام يرى أنّ تكليفه هو أن يخرج وأن يقتل أيضاً ليمحو آثار معاوية وابنه"2.
 
"لكنّ تكليفه كان آنذاك هو أنّه يجب أن يثور وأن يجود بدمه المقدّس حتّى يصلح هذه الأمّة، وحتّى يسقط راية يزيد"3.
 
"كانوا على وعيٍ: أنّنا جئنا لنؤدّي تكليفنا الإلهيّ، جئنا لنحفظ الإسلام"4.
 
"نحن لسنا أسمى من سيّد الشهداء عليه السلام، إنّه أدّى تكليفه الشرعيّ، وقُتل أيضاً"5.
 
"ذلك اليوم الذي يتعرّض الإسلام فيه إلى الإساءة والتشويه... يقتضي التكليف آنئذٍ أنّ على عظماء الإسلام أن ينهضوا ويجاهدوا"6.
 
فبلاغ عاشوراء "معرفة التكليف" و"العمل بالتكليف" من قبل جميع الأمّة، خصوصاً أولئك الذين لهم مكانة خاصّة فيها، الذين هم أسوة للآخرين ويرسمون خطّ السير لهم، فلو أنّ جميع أتباع الحقّ في زمان سيّد الشهداء عليه السلام كانوا على معرفة بتكليفهم، وعملوا بتكليفهم مثل شهداء الطفّ بالتضحية بين يدي إمامهم في الدفاع عنه، لكان مسار حركة التأريخ قد تغيّر إلى حيث مصلحة الحقّ، ولكان مصير الإسلام والمسلمين غير ذلك المصير.
 
واليوم أيضاً، يجب أن تعرف الأشكال المختلفة للتكليف، وأن يتعبّد بأدائها، وأن يعلم أنّ النصر في أداء التكليف.لقد أكّد إمام الأمّة (قدس سره) مراراً على هذه الحقيقة:
"نحن جميعاً مأمورون بأداء تكليفنا ووظيفتنا، ولسنا مأمورين بالنتيجة"121 إنّ هذا هو ذلك الدرس الذي تعلّمناه من عاشوراء.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج4، ص105.
2- نفس المصدر، ج8، ص12.
3- نفس المصدر، ج2، ص208.
4- نفس المصدر، ج15، ص55.
5- نفس المصدر، ج6، ص36.
6- نفس المصدر، ج7، ص31.
7- كلمات قصار (مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ)، ص50.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

87

البلاغات الأخلاقيّة

 الغيرة

 
الغيرة إحدى الخصال الحميدة في الإنسان، وهي في اللغة: الحمّية والأنفة1، بمعنى أنّ خلقة الإنسان وطبيعته تأنف وتأبى أن يشاركه غيره في أحد أموره المتعلّقة به. وهي اصطلاحاً: رفض الإنسان وعدم سماحه للآخرين أن يتعرّضوا بالقول أو بالفعل لعرضه وشرفه وزوجه أو أي إنسان آخر ممّن يهتمّ ويعتني به اهتماماً كبيراً وعناية فائقة.
 
فالإنسان الغيور لا يتحمّل أن ينظر الآخرون إلى زوجته وحرمه نظر ريبة وبدافع فاسد، أو يقترب من أهله بقصد سوء.
 
فالغيرة إذن خلقٌ قيّم وحميد، و"الغيرة الدينيّة" في الإنسان المؤمن تدفعه إلى صدّ ودفع سوء قصد الأعداء وهجومهم على الدين ومعتقداته وقيمه المقدّسة، ويسعى إلى القيام بما يردّ ويصدّ تلك التعرّضات الغاشمة.
 
يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “الغيرة من الإيمان"2.
 
فالغيرة علامة رفعة وعفّة الإنسان، يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:
 
"قدر الرجل على قدر همّته، وصدقه على قدر مروءته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفّته على قدر غيرته"3.
 
وورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّ الله يحبّ من عباده الغيور"4.
 
 
 

1- راجع: لسان العرب، ج5، ص42، نشر أدب الحوزة.
2- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص444.
3- نهج البلاغة، ص477، الحكمة رقم 47.
4- ميزان الحكمة، ج7، ص357.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

88

البلاغات الأخلاقيّة

 ولقد كان بنو هاشم- ولا يزالون- غيارى زمانهم، ولعترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندهم حرمة فائقة، وكان شباب بني هاشم في الركب الحسينيّ يحرسون أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام وحرم النبوّة على الدوام منذ خروجهم من المدينة المنوّرة حتّى وصولهم إلى كربلاء وإلى آخر لحظات استشهادهم، وكانت الهاشميّات وبقيّة نساء الركب الحسينيّ ينمن الليالي قريرات الأعين رغداً ومطمئنّات بسبب حراسة شباب بني هاشم عامّة وأبي الفضل العبّاس عليه السلام خاصّة، وبقيّة أبطال الركب الحسينيّ من أصحاب الإمام عليه السلام.

 
وكان على رأس أصحاب الغيرة هؤلاء إمامهم الحسين بن عليّ عليه السلام الذي لم ينس ذكر محافظته على حرم الرسالة حتّى في رجزه وهو يقاتل القوم ويعرّف بنفسه المقدّسة، إذ كان يقول:
 
"أنا الحسينُ بن علي               آليتُ أن لا أنثني
 
أحمي عيالات أبي                   أمضي على دين النبيّ" 
 
وكان عليه السلام قد أوصى عائلته من نسائه وأخواته وبناته في ليلة عاشوراء أن إذا قتل فلا يشققن عليه جيباً، ولا يخمشن عليه وجهاً، ولا يقلن هجراً، ولا يُشمتن به الأعداء بالبكاء عليه عالياً، وفي لحظات احتضاره بعد أن وقع صريعاً قد أثخنته جراحاته الكثيرة لمّا سمع أنّ الأعداء قد هجموا على مخيّمه وتعرّضوا للنساء والأطفال، رفع رأسه الشريف ونادى القوم:
 
"ويلكم! إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب! إمنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم!"1
 
وفي نصٍّ آخر: "... فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً"2.
 
فغيرته عليه السلام التي كانت قد انتفضت به وهو في تلك الحال بين الموت والحياة ليستنكر على الأعداء فعلتهم اللّارجوليّة المشينة، إذ لم يستطع أن يتحمّل أن يقترب الأوغاد من حرمه وفيه رمق من الحياة! لقد كانت غيرته الدينيّة وغيرة أصحابه
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص252.
2- بحار الأنوار، ج45، ص49.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

89

البلاغات الأخلاقيّة

 أيضاً من الممهّدات التي صنعت تلك الملحمة العظمى، فهو عليه السلام كان يرى الموت أولى من ركوب العار في القبول بالذّلة والتسليم، وهذا من غيرته وحمّيته وأنفته.


وكذلك كان أنصاره صلوات الله عليهم، إذ دفعتهم غيرتهم العالية أن يصرّوا على البقاء معه حتّى الموت، في ليلة عاشوراء، وفي المناسبات الأخرى التي كان عليه السلام يمتحن فيها نيّاتهم وعزمهم على الموت، ولم تسمح لهم غيرتهم وحميّتهم أن يتخلّوا عن الإمام عليه السلام وأهل بيته في تلك الصحراء وقد أحاطت بهم الألوف من الأعداء حبّاً في الحياة الدنيا وفي العافية، بل آثروا القتل في عزّ على الحياة الذليلة.

لقد رفض العبّاس وإخوته عليهم السلام أمان الأعداء، وآثروا مواجهة أسنّة الأعداء وسيوفهم على حياة الذلّ والهوان.

أمّا اللئام الأراذل الذين لا غيرة لهم على الدين فقد اجتمعوا على قتله عليه السلام طمعاً في مرضاة ابن زياد ويزيد لعنهما الله، فكانوا يداً واحدة عليه وعلى أنصاره، حتّى إذا فرغوا من قتلهم أسروا أهل بيته وحرمه وسبوهم!

وبدافع من إيمانه وغيرته وحميّته كان عبد الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) قد انتفض ضدّ ابن زياد في قصره في الكوفة، واستنكر عليه أسره لعائلة الحسين عليه السلام وعترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ولغيرتها وحميّتها وأنفتها كانت زينب الكبرى عليها السلام قد وبّخت يزيد في قصره في الشام، واستنكرت عليه هتكه ستور حرائر النبوّة ومخدّرات بيت الوحي، وتعريضهن لأنظار النّاس في الأزقّة والأسواق.

إنّ العاشورائيّين في كلّ عصر كما يتعلّمون من ملحمة كربلاء درس العفاف والحجاب في نطاق "الغيرة على الشرف"، يستلهمون كذلك من أبطال ملحمة عاشوراء الدفاع عن المظلوم، ونصرة الحقّ، ومقاومة الباطل، ومكافحة البدعة، في نطاق "الغيرة الدينيّة".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

90

البلاغات الأخلاقيّة

 الفتوّة والمروءة

 
الفتوّة والمروءة من الخصال الأخلاقيّة السامية التي تشدّ الإنسان إلى "الأصول الإنسانيّة" و"الشرف" و"رعاية العهد والميثاق"، والحنوّ على الضعفاء والبؤساء ورعايتهم.
 
فالفتى هو الذي يبقى وفيّاً للحقّ ناصراً له، ويأبى الذلَّ والهوان، ويعين ضعفةَ النّاس، ويتجنّب الخيانة والخداع، ولا يستسلم للظلم والقهر، ومن سجاياه العفو والإيثار والتضحية.
 
في الثقافة الماضية كانت تطلق الفتوّة على من يسمّون "عيّاران" مع أنّهم كانوا مجهّزين بالسلاح وكانوا قطّاع الطريق وكانوا يسرقون أموال النّاس إلّا أنّهم كانوا يتمتعون بجملة من الأخلاق الحميدة والعادات الجيّدة والرجولة، وحتّى كانوا في بعض الأوقات يأخذون على أنفسهم أن يدافعوا عن الضعفاء وعن منطقة سكنيّة مستضعفة وقد كان من دأبهم وعاداتهم أنّهم لا يكذبون ولا يخونون وكانوا متّصفين بالجود والحريّة والشجاعة وإقراء الضيف والعادات العالية والوفاء بالعهد1 وكان لهم آداب وتقاليد وثقافة خاصّة بهم2.
 
والفتوّة في النظرة الإسلاميّة إذن مفسّرة بأنّها مزيجٌ من السخاء، والبذل، والعفو والسماحة، والبِشر، والعفاف، وكفّ الأذى، والإباء، والجرأة في الحقّ، والترفّع عن الدناءة والهوان، والقيام لله وللحقّ، و...
 
 
 

1- لغت نامه دهخدا، كلمة فتوت.
2- فتوت نامه، ملّا حسين واعظ كاشفي.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

91

البلاغات الأخلاقيّة

 من هنا عبّر القرآن الكريم عن الرجال الموحّدين في عصر حكومة دقيانوس الذين قاموا لله والحقّ في وجه هذا الطاغية، وفرّوا من ظلمه وشركه، ولجأوا إلى الكهف (أصحاب الكهف) بأنّهم فتية بالرغم من تفاوت أعمارهم حيث قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)1.

 
يقول الإمام عليّ عليه السلام: “بُعد المرء عن الدنيّة فتوّة"2، وقال عليه السلام: “نظام الفتوّة احتمال عثرات الإخوان، وحسن تعهّد الجيران"3.
 
ولقد أبرز أنصار الإمام الحسين عليه السلام أجمل مظاهر الفتوّة والمروءة في مواقفهم المشرِّفة في ملحمة عاشوراء، سواء في دفاعهم عن الحقّ حيث أصرّوا على الانضمام إلى ركب الحسين عليه السلام والتضحية في سبيله حتّى الشهادة، أو في تعاملهم الإنسانيّ مع الآخرين، بل حتّى مع أعدائهم!
 
وكان الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام المظهر الأعلى لحقيقة الفتوّة، وكان عليه السلام قد وصف أنصاره من آل محمّد وبني هاشم الذين استشهدوا بين يديه في يوم عاشوراء بهذا الوصف السامي أيضاً، حيث قال عليه السلام: “ثمّ إنّي قد سئمت الحياة بعد قتل الأحبّة وقتل هؤلاء الفتية من آل محمّد..."4 وتنقل كتب التأريخ أنّ الرأس المطهّر لسيّد الشهداء عليه السلام وهو على الرمح كان يتلو من سورة الكهف الآيات التي تتحدّث عن إيمان أولئك الفتية أصحاب الكهف والرقيم5.
 
وكانت أخلاقيّة الفتوّة هي التي منعت مسلم بن عقيل عليه السلام من اغتيال ابن زياد في بيت هانئ بن عروة في الكوفة، حينما كان ابن زياد قد جاء لعيادة هاني في مرضه، ذلك لأنّ مسلماً عليه السلام رأى أنّ هذا الاغتيال يتنافى مع الإيمان والفتوّة والمروءة، فلم
 
 
 

1- الكهف، 13 و14.
2- ميزان الحكمة، ج6، ص2370.
3- نفس المصدر.
4- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص482.
5- راجع: مناقب آل أبي طالب عليه السلام ، لابن شهر آشوب، ج4، ص61.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

92

البلاغات الأخلاقيّة

 يخرج من مخبئه وفوّت الفرصة التي كان يراها آخرون نادرة لا تُعوّض1.

 
وكان هاني بن عروة (رضوان الله عليه) بدوره فتىً أيضاً مع تقادم عمره! إذ لمّا اعتقل في قصر الإمارة بتهمة إيوائه وإخفائه مسلم بن عقيل عليه السلام في بيته، وأصرَّ عليه ابن زياد أن يسلّمه مسلماً عليه السلام، رفض هاني طلب ابن زياد، وأصرَّ على موقفه البطوليّ قائلاً: "لا والله! لا أجيئك به أبداً! أنا أجيئك بضيفي تقتله!"2، ولمّا حاول بعضهم أن يقنع هانئاً بتسليم مسلم عليه السلام، وأن ليس في ذلك عليه مخزاة ولا منقصة! أصرّ هانئ على الرفض قائلاً: "بلى والله، إنّ عليَّ في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي، وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه إليه حتّى أموت دونه!"3.
 
وفي الطريق إلى الكوفة، لمّا التقى الإمام الحسين عليه السلام بجيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، ومنعوا على الركب الحسينيّ الطريق إلى الكوفة، اقترح زهير بن القين (رضوان الله عليه) على الإمام الحسين عليه السلام أن يبدأهم بالقتال قائلاً: "إنّي والله ما أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلّا أشدّ ممّا ترون، يا ابن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قِبل لنا به!"4 فقال الحسين عليه السلام: “ما كنتُ لأبدأهم بالقتال"5، مجلّياً بذلك عن خلق من أخلاق الفتوّة والمروءة في شخصيّة الإمام عليه السلام.
 
وثمّ مشهد آخر من مشاهد فتوّة الإمام عليه السلام، وهو بذله الماء لجميع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ الذي أرهقه العطش في ذلك الحرّ الشديد، حيث أمر سيّد الشهداء عليه السلام أصحابه بسقاية جميع أفراد ذلك الجيش البالغ عددهم ألف نفر، وبسقاية خيولهم وترشيفها، حتّى أنّ أحدهم وصل متأخّراً وقد كاد العطش أن يودي به فسقاه الإمام عليه السلام بنفسه6.
 
 
 

1- راجع: مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص175.
2- وقعة الطفّ، ص119.
3- نفس المصدر.
4- الإرشاد، ج2، ص84، نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام .
5- نفس المصدر.
6- راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ، ج3، ص74.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

93

البلاغات الأخلاقيّة

 والحرّ بن يزيد الرياحيّ نفسه الذي جعجع بالإمام عليه السلام في وادي الطفّ، حينما عزم في يوم عاشوراء على الالتحاق بمعسكر الإمام عليه السلام والإنضمام إلى أنصاره، أقبل إلى الإمام عليه السلام، تائباً، ولم يكن له أملٌ في أن يعفو الإمام عليه السلام عمّا اجترحه منهم ويقبل توبته، لكنّ الإمام عليه السلام بفتوّته ومروءته وسماحته قبله وقبل توبته!1.


ولقد تجلّت فتوّة أبي الفضل العبّاس عليه السلام ومروءته في كلّ أفعاله، خصوصاً عند نهر العلقميّ، حينما كشف القوم عن النهر، وورد الماء وقلبه كصالية الجمر من العطش، فأراد أن يشرب منه فاغترف غرفة بيده المقدّسة وأدناها من فمه الطاهر، لكنّه تذكّر عطش أخيه الحسين عليه السلام وعيالاته وأطفاله، فأبى أن يشرب قبلهم، ورمى الماء من يده، وخرج من النهر يحمل الماء إليهم وهو يتلظّى من العطش!2.
 
ومن قبل ذلك... لمّا جاء شمر بن ذي الجوشن في اليوم التاسع يحمل أماناً من ابن زياد لأبي الفضل العبّاس وإخوته من أمّه عليهم السلام، ودعاهم إلى الأخذ بهذا الأمان وترك الإمام عليه السلام، إذ قال له الفتية: "لعنك الله ولعن أمانك- لئن كنت خالنا- أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟! "3.
 
ولقد كان جميع أنصار الإمام عليه السلام على هذا المستوى السامي من الفتوّة والمروءة أيضاً، إذ أصرّوا على الجهاد بين يدي الإمام عليه السلام دفاعاً عن حجّة الله وعن دين الله، ما دامت أرواحهم في أجسادهم، ولم يتركوا ذلك الميدان، ولم يتخلّوا عن إمامهم عليه السلام، ولم ينقضوا عهدهم وميثاقهم، فكانوا بذلك رموزاً للفتوّة والمروءة، إذ إنّهم تعلّموا كيف تتّخذ مواقف الرجولة والشهامة في مدرسة ومذهب أهل البيت عليهم السلام.
 
لقد كانت حياة وموت وكفاح وشهادة الإمام الحسين عليه السلام وجميع شؤونه تجسيداً للفتوّة والشهامة والرجولة والكرامة والنبل، كما ورد في الصلاة عليه في حرمه عند زيارته: "... فقد قاتل كريماً، وقتل مظلوماً..."4.
 
 
 

1- راجع: أعيان الشيعة، ج1، ص603.
2- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص472.
3- وقعة الطفّ، ص190.
4- مفاتيح الجنان، ص418، أعمال حرم الحسين عليه السلام .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

94

البلاغات الأخلاقيّة

 إنّ التزام أبطال ملحمة عاشوراء بالأصول الإنسانيّة، ودفاعهم عن المظلوم وعن الحقّ، وقيامهم في وجه التعدّي والظلم والجور، ونصرتهم لمن لا ناصر له، وإغاثتهم من لا مغيث له، كلُّ ذلك جعل منهم كواكب وضّاءة في سماء القيم الإنسانيّة، وعناوين هداية خالدة كبرى، تقرأها الأجيال تلو الأجيال، فيستلهم منها الأبطال والأحرار دروس الفتوّة والشهامة.

 

 

 

 

 

 

 

108


95

البلاغات الأخلاقيّة

 المواساة

 
المواساة هي إحدى أجمل الخصال الأخلاقيّة في العشرة، وهي مشاركة الإنسان الآخرين في غمّهم وهمّهم، وإعانتهم ونصرتهم فيما ينوبهم من صروف الزمان، بما يملك من المال على نحو المشاطرة والمساواة.

والمواساة من الأسوة، وتعني: "المساواة"، وفي حديث عليّ عليه السلام: “آس بينهم في اللحظة والنظرة" أي سوّ بينهم... والمواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق... وآساه بماله: أناله منه وجعله فيه أسوة (أي كنفسه)، وقيل: لا يكون ذلك منه إلّا من كفاف، فإن كان من فضلة فليس بمؤاساة... ويقال: هو يؤاسي في ماله، أي يساوي....1
 
ويختلف الإيثار عن المواساة في أنّه ليس مساواة الغير بالمال والنفس، بل هو تقديم الغير على النفس، والمواساة بالنفس ذروة المواساة، لأنّ الجود بالنفس أقصى غاية الجود.
 
ومن مجموع ما تقدّمه كتب اللغة في معنى المواساة، يتضّح أنّ مفهوم هذه الخصلة الأخلاقيّة الكريمة هو أنّ الإنسان "المواسي" من يشارك الآخرين همومهم وآلامهم وغمّهم ومعاناتهم، ويدافع عنهم بالمال والنفس، ولا يرى فرقاً بينه وبينهم في ذلك.
 
وورد في الروايات الإسلاميّة ثناء كبير على هذه الصفة الحميدة، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا عليُّ، سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك النّاس من نفسك،
 
 
 

1- راجع: لسان العرب، ج14، ص34 - 36، مادّة: أسا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

96

البلاغات الأخلاقيّة

 ومواساتك الأخ في الله عزَّ وجلَّ، وذكرك الله تعالى على كلّ حال"1.

 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدوّنا، وعند (إلى) أموالهم كيف مساواتهم (مواساتهم) لإخوانهم فيها"2، والمواساة وسيلة تقرّب إلى الله تبارك وتعالى: كما في قوله عليه السلام "تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم"3. والمواساة تزيد في الرزق كما في قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: “مواساة الأخ في الله عزَّ وجلَّ تزيد في الرزق"4، وللمواساة تأثير في استجابة الدعاء كما في قول الإمام الصادق عليه السلام: “ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى: دعاء الوالد لولده إذا برّه، ودعوته عليه إذا عقّه، ودعاء المظلوم على ظالمه، ودعاؤه لمن انتصر له منه، ورجلٌ مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا، ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه"5.
 
ومواساة الإخوان سبب في أن يرى المؤمن الغبطة والسرور عند موته، وفي تهوين سكرات الموت عليه، وفي رجوعه إلى الله مطمئناً راضياً مرضيّاً، يقول الإمام الصادق عليه السلام: “... ذلك لمن كان ورعاً مواسياً لإخوانه وصولاً لهم، وإنّ كان غير ورع ولا وصول لإخوانه قيل له: ما منعك من الورع والمواساة لإخوانك؟ أنت ممّن انتحل المحبّة بلسانه ولم يصدّق ذلك بفعل..."6.
 
وتشاهد هذه الخصلة الأخلاقيّة السامية بوضوح في أبطال ملحمة عاشوراء، بل هي فيهم بدرجة عليا وهي "الإيثار"، فمواساة أنصار الإمام الحسين عليه السلام له، ومواساتهم لبعضهم البعض كانت تتجلّى بوضوح في مجموع حركة أحداث نهضة عاشوراء، إذ لم يكونوا يجدون في أنفسهم حرجاً وضيقاً من ذلك البذل العظيم والفداء الفذّ، بل كانوا يفتخرون بتلكم المواساة.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج74، س392، كتاب العشرة، ب 28، ح9.
2- وسائل الشيعة، ج3، ص82، رقم 16 عن الخصال، ج1، ص51.
3- بحار الأنوار، ج74، ص391، ب 28، ح5.
4- نفس المصدر، ص395، ح22.
5- نفس المصدر، ص396، ح23.
6- نفس المصدر، ص398، ح30.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

97

البلاغات الأخلاقيّة

 ولقد تعرّض سيّد الشهداء عليه السلام لذكر هذه المواساة في الشعر الذي استشهد به ردّاً على قول الحرّ بن يزيد الرياحيّ: "يا حسين إنّي أذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ...".

 
حيث أنشد عليه السلام قائلاً: 
 
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى            إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
 
وآسى الرجال الصالحين بنفسه                  وفارق مذموماً وخالف مجرما
 
فإنْ عشتُ لم أندم وإنْ متُّ لم ألم                كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما1
 
وتنقل بعض المصادر أنّ الإمام عليه السلام في ليلة من ليالي المحرّم بعد أن جاءته الأخبار بأنّ أهل الكوفة نكثوا البيعة ونقضوا عهدهم، وحدّث عليه السلام من كان معه في ركبه عن تغيّر مجرى الأحداث، وأذن لمن كره منهم البقاء معه بالانصراف قائلاً: "فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فالليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن..."2.
 
وحينما تاب الحرّ بن يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه)، وأقبل إلى الإمام عليه السلام معلناً عن توبته، وعازماً على مواساته بنفسه خاطب الإمام عليه السلام قائلاً: "جعلني الله فداك يا ابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ولا يبلغون منك هذه المنزلة... وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟".

وقد صدق الحرّ (رضوان الله عليه) في توبته ووفى بعهده، فاستشهد بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ورثاه الإمام عليه السلام وهو يضع رأس الحرّ (رضوان الله عليه) في حجره، ويبكي ويمسح الدم
 
 
 

1- راجع: وقعة الطفّ، ص173، ومقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص333، وإرشاد الشيخ المفيد، ص225.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص399 نقلاً عن الدمعة الساكبة.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

98

البلاغات الأخلاقيّة

 عن وجهه ويقول: "والله ما أخطأت أُمّك إذ سمّتك حرّاً، فأنت والله حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة". وهو يقول:

 
"فنعمَ الحرُّ حرُّ بني رياح            صبور عند مشتبك الرماح
 
ونعمَ الحرُّ إذ واسى حسيناً           وجاد بنفسه عند الصباح..."1
 
في حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام، لمّا اعتقلوا هاني بن عروة في دار الإمارة، وأرادوا منه أن يُسلّمهم مسلم بن عقيل عليه السلام الذي كان قد خبّأه في بيته، قال هاني (رضوان الله عليه): “... إنَّ عليَّ في ذلك للخزي والعار! أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان؟! والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس له ناصر لم أدفعه إليه حتّى أموت دونه!"2
 
ولمّا اقتيد مسلم بن عقيل عليه السلام إلى قصر الإمارة بعد أن أعطوه الأمان، ورأى من معاملتهم ما أشعره بغدرهم وعدم وفائهم بعهد الأمان، بكى وقال: هذا أوّل الغدر... فقيل له: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك! فقال: "إنّي والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي- وإنْ كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً- ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين وآل حسين عليهم السلام "3.
 
ولمّا أذن عمرو بن الحجّاج الزبيديّ لنافع بن هلال (رضوان الله عليه) أن يشرب من ماء الفرات ما شاء، أبى نافع (رضوان الله عليه) وقال: "لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه"4.
 
وكان أحد أجمل مشاهد المواساة- بل الإيثار- مشهد المنافسة التي وقعت بين أنصار الإمام عليه السلام من بني هاشم وأنصاره من الأصحاب، في أيّ الفريقين يكون الأوّل تقدّماً إلى قتال القوم في الصباح.
 
 
 

1- نفس المصدر، ص440، نقلاً عن ينابيع المودّة.
2- وقعة الطفّ، ص119.
3- وقعة الطفّ، ص135.
4- نفس المصدر، ص191.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

99

البلاغات الأخلاقيّة

 فقد روي عن زينب الكبرى عليها السلام أنّها قالت: "لمّا كانت ليلة عاشوراء من المحرّم خرجت من خيمتي لأتفقّد أخي الحسين عليه السلام وأنصاره، وقد أفرد له خيمة، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلو القرآن، فقلت في نفسي: أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده؟! والله لأمضينّ إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك!


فأتيتُ إلى خيمة العبّاس، فسمعتُ منها همهمة ودمدمة، فوقفتُ على ظهرها، فنظرتُ فيها فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة، بينهم العبّاس بن أمير المؤمنين عليه السلام وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلّا من الحسين عليه السلام مشتملة بالحمد والثناء لله، والصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال في آخر خطبته: يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي، إذا كان الصباح فما تقولون؟

فقالوا: الأمر إليك يرجع، ونحن لا نتعدّى لك قولك.

فقال العبّاس: إنّ هؤلاء- أعني الأصحاب- قوم غرباء، والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله، فإذا كان الصباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم لئلّا يقول النّاس: قدّموا أصحابهم، فلمّا قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.

فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العبّاس وقالوا: نحن على ما أنت عليه".

قالت زينب عليها السلام:فلّما رأيت كثرة اجتماعهم، وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم، سكن قلبي وفرحتُ، ولكن خنقتني العبرة، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين عليه السلام وأخبره بذلك، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة، فمضيتُ إليها ووقفت بظهرها، نظرتُ فيها فوجدتُ الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة، وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول: يا أصحابي! لم جئتم إلى هذا المكان؟ أوضحوا كلامكم رحمكم الله!

فقالوا: أتينا لننصر غريب فاطمة!

فقال لهم: لم طلّقتم حلائلكم؟!

فقالوا: لذلك!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

100

البلاغات الأخلاقيّة

 قال حبيب: فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون؟


فقالوا: الرأي رأيك، ولا نتعدّى قولاً لك.

قال: فإذا صار الصباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم القتال ولا نرى هاشميّاً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب، لئلاّ يقول النّاس: قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم!

فهزّوا سيوفهم على وجهه وقالوا: نحن على ما أنت عليه! قالت زينب: ففرحتُ من ثباتهم، ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية..." 

وورد في مواصلة هذا الخبر: أنّ الإمام عليه السلام جمع كلّ أنصاره من بني هاشم والأصحاب، وامتحن ثبات نيّاتهم وصدق عزمهم وتصميمهم على الجهاد معه، فلمّا رأى الحسين عليه السلام حسن إقدامهم وثبات أقدامهم كشف لهم الغطاء فرأوا منازلهم في الجنّة وقصورهم وحورهم، ثمّ قال عليه السلام لهم: "ألا ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد"، فقام عليّ بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيّدي؟

فقال عليه السلام: “إنّ نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي!" فمضى عليّ بن مظاهر إلى خيمته، فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسّمت في وجهه، فقال لها: دعيني والتبسّم! فقالت: يا ابن مظاهر! إنّي سمعت غريب فاطمة خطب فيكم، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة، فما علمت ما يقول؟

قال: يا هذه! إنّ الحسين قال لنا: ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمّها، لأنّي غداً أُقتل ونسائي تُسبى!

فقالت: وما أنت صانع؟! 

قال: قومي حتّى أُلحقك ببني عمّك بني أسد.

فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة، وقالت: والله ما أنصفتني يا ابن مظاهر! أيسّرك أن تُسبى بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا آمنة من السبي؟ أيسُرّك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري؟! أيسرّك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزيّن بقرطي؟! أَيُسرّك أن يبيضّ وجهك عند رسول الله ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء؟! والله أنتم تواسون الرجال، ونحن نواسي النساء!

فرجع عليّ بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام وهو يبكي، فقال له الحسين عليه السلام:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

101

البلاغات الأخلاقيّة

 "ما يبكيك" ؟!

فقال: سيّدي! أَبت الأسديّة إلّا مواساتكم!
 
فبكى الحسين عليه السلام وقال: جزيتم منّا خيراً 1!" 
 
هكذا كان أنصار الحسين عليه السلام رجالاً ونساءً شيباً وشبّاناً في مواساتهم له ولأهل بيته.
 
بعد أن استشهد أكثر أنصاره (قدّس سرّهم)، رأى الباقون منهم أنّهم لا يقدرون على أن يمنعوا الإمام عليه السلام ولا أنفسهم، فتنافسوا في أن يقتلوا بين يديه، فجاءه الأخَوان الغفاريّان عبد الله وعبد الرحمن فقالا: " يا أبا عبد الله! عليك السلام، حازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نُقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك!
 
قال عليه السلام:مرحباً بكما، أدنوا منّي.
 
فدنوا منه، ثمّ قاتلا بين يديه قتالاً شديداً حتّى قُتلا"2.
 
وفي رواية أخرى: فدنوا منه وهما يبكيان! فقال: "يا ابني أخي، ما يبكيكما؟ فوالله إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين!
 
فقالا: جعلنا الله فداك! والله ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك!
 
فقال عليه السلام: جزاكم الله يا ابني أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتّقين.
 
ثمّ استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول الله. فقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته.
 
فقاتلا حتّى قتلا"3.
 
ولمّا سأل عزرة بن قيس في عصر اليوم التاسع من المحرّم زهير بن القين (رضوان الله عليه) عن سبب تحوّله وانضمامه إلى الحسين عليه السلام، أجابه قائلاً: "... أما والله ما كتبت
 
 
 

1- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص409، نقلاً عن معالي السبطين.
2- تاريخ الطبريّ، ج3، ص328 وعنه وقعة الطفّ، ص234.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج2، ص23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

102

البلاغات الأخلاقيّة

 إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ، ولا وعدته نصرتي قطّ، ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيتُ أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله عليه السلام "1.

 
ولمّا أراد عابس بن أبي شبيب الشاكريّ (رضوان الله عليه) أن يستأذن الإمام عليه السلام في قتال القوم خاطبه قائلاً: "يا أيا عبد الله! أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليَّ ولا أحبّ إليَّ منك، ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لعملته! السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هديك وهدي أبيك"2.
 
ولمّا صرع الإمام الحسين عليه السلام، وأحاط به الأعداء ليقتلوه، "خرج عبد الله بن الحسن عليهما السلام  وهو غلام لم يراهق من عند النساء، فشدّ حتّى وقف إلى جنب عمّه الحسين عليه السلام، فلحقته زينب بنت عليّ عليهما السلام  لتحبسه، فقال الحسين عليه السلام:إحبسيه يا أختي! فأبى وامتنع امتناعاً شديداً، وقال: لا والله لا أفارق عمّي! وأهوى أبجر بن كعب إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟! فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا يده معلّقة! فنادى الغلام: يا أُمّاه! فأخذه الحسين عليه السلام فضمّه إليه وقال: يا ابن أخي! إصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين. فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام "3.
 
هذه أمثلة جليّة للمواساة بالنفس في ميدان عاشوراء وحركة أحداث نهضة كربلاء تجسّد ذروة الأخوّة الإيمانيّة، وأداء حقّ الأخوّة حقّ الأداء.
 
عبد الله بن جعفر عليهما السلام  وهو زوج زينب الكبرى عليها السلام، لم يكن قد وفّق لحضور كربلاء مع الحسين عليه السلام، وكان معذوراً لعلّة ما، قيل هي العمى في بصره، لكنّه
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص194 و195.
2- وقعة الطفّ، ص237.
3- الإرشاد، ص 241، بحار الأنوار، ج45، ص53.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

103

البلاغات الأخلاقيّة

 كان قد أرسل ابنيه مع زينب عليهما السلام  ليكونا مع الحسين عليه السلام، وقد استشهد ولداه بين يدي الإمام عليه السلام، وبعد أن انتهت واقعة الطفّ كان عبد الله بن جعفر عليه السلام يذكرها متأسّفاً على أن لم يكن آسى الحسين عليه السلام بنفسه، فيقول: "الحمد لله عزَّ وجلَّ على مصرع الحسين عليه السلام، إنْ لا تكن آست حسيناً يداي فقد آساه ولداي، والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه! والله إنّه لمّا يسخّي عنهما، ويهوّن عليَّ المصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له، صابرين معه"1.

 
وفي الكوفة، لمّا ضاق ابن زياد ذرعاً بكلام الإمام السجّاد عليه السلام وبأجوبته التي استفزّت أعصاب ذلك الطاغية وأثارت غضبه، أمر أحد جلاوزته بقتل الإمام عليه السلام، وهنا نرى زينب عليها السلام في موقف رائع من مواقف الدفاع والمواساة تقدّم نفسها للقتل فداء لحياة الإمام عليه السلام، تقول الرواية: "فتعلّقت به عمّته زينب فقالت: يا ابن زياد! حسبك منّا! أما رويت من دمائنا؟! وهل أبقيت منّا أحداً؟! واعتنقته وقالت: أسألك بالله إنْ كنت مؤمناً إنْ قتلته لمّا قتلتني معه!2".
 
ويمكن أيضاً مشاهدة نماذج من هذه الأمثلة التأريخيّة السامية في بحث الإيثار، إنّ جميع أنحاء ميادين هذه الملحمة المقدّسة مليئة من مثل هذه المواقف الرائعة من الإيثار والمواساة.
 
ولقد جسّد أبو الفضل العبّاس عليه السلام ذروة هذه المواساة، لقد ورد الفرات ظمآن قد ذاب فؤاده من العطش، وخرج من الفرات دون أن يشرب منه! فكما مضى إلى شريعة الفرات من أجل إرواء أطفال الإمام عليه السلام من البدء حتّى المنتهى، ولذا نجد متون زيارات أبي الفضل العبّاس عليه السلام تركّز على هذه الخصلة السامية في شخصيّته الفذّة عليه السلام، فلقد ورد في إحداها: "فلنَعم الأخ المواسي"3، وفي أخرى: "السلام عليك أيّها العبد الصالح والصدّيق المواسي، أشهد أنّك آمنتَ بالله ونصرتَ ابن رسول الله
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص274.
2- نفس المصدر، ص263.
3- مفاتيح الجنان، ص436، زيارة العبّاس عليه السلام .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

104

البلاغات الأخلاقيّة

 ودعوت إلى سبيل الله وواسيت بنفسك"1.

 
روح التعاون هذه، والمشاركة في الغمّ والهمّ، والأخوّة الحقيقيّة، بلاغ جميع شهداء عاشوراء، وخصلة المواساة هذه بالذات تكون السبب في أن يحمل أتباع مدرسة عاشوراء حقيقة الأخوّة لجميع مسلمي العالم من أيّ عرق أو أصل كانوا، وأن يشاركوهم الغمّ والهمّ والمصائب، وأن يسارعوا إلى مساعدتهم بما وسعتهم القدرة والاستطاعة، حتّى لا يستشعر المسلمون الذين يجاهدون في جبهة الكفاح ضدّ الاستكبار والصهيونيّة والقوى المرتبطة بالكفر العالميّ أنّهم وحدهم في الميدان.
 
إنّ المواساة الدينيّة بين المسلمين ضمانة لاعتماد ومساندة المجاهدين في سبيل الله، كي لا يبقوا وحدهم في خطّ الجهاد ضدّ الكفر والظلم.
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ص448، زيارة الإمام الحسين عليه السلام في العيدين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

105

البلاغات الأخلاقيّة

 الوفاء

 
الوفاء هو الالتزام بالعهد والميثاق الذي نعقده ونبرمه مع الله سبحانه أو مع أحدٍ من النّاس، والوفاء علامة صدق الإنسان وإيمانه ورجولته وفتوّته.
 
ويجب الوفاء بالعهد والميثاق سواء أكان العهد والميثاق مع الله تبارك وتعالى، أو مع الأحبّاء، أو مع الأعداء، أو كان نذراً ألزمنا أنفسنا به، أو عقداً وبيعة مع الإمام ووليّ الأمر.
 
ونقض العهد والميثاق وعدم الوفاء به دليلٌ على ضعف إيمان الإنسان، وهو من أسوأ الخصال الأخلاقيّة السيّئة، وقد أوجب الله تبارك وتعالى الوفاء بالعهد والعقد، واعتبر الإنسان مسؤولاً عن العهد والميثاق وعن الوفاء بشروطه، فقال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)1، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود)2.
 
ونقرأ في القرآن آيات عديدة وردت في الثناء على الوفاء بالعهد والصدق به، كما في ثنائه تعالى على إسماعيل عليه السلام حيث يقول: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)3. كما نقرأ آيات كثيرة في ذمّ أشخاص وأقوام كانوا قد نقضوا ميثاقهم وعهدهم، كما في قوله تعالى مثلاً: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)4.
 
 
 
 

1- الإسراء، 34.
2- المائدة، 1.
3- مريم، 54.
4- المائدة، 13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

106

البلاغات الأخلاقيّة

  ويقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: “أشرف الخلائق الوفاء"1.

 
ويقول عليه السلام أيضاً: "من دلائل الإيمان الوفاء بالعهد"2.
 
وإذا نظرنا إلى ميدان عاشوراء لرأينا أسمى مظاهر الوفاء بالعهد والميثاق تتجلّى في أحد معسكري هذا الميدان وهو معسكر الإمام الحسين عليه السلام، ولرأينا في الطرف الآخر من هذا الميدان أشنع وأبشع أمثلة نقض الميثاق، وعدم الوفاء بالعهد، ونكث البيعة، تتجسّد في جموع أتباع جيش عمر بن سعد، ذلك الجيش الذي يمثّل اليد الضاربة لحركة النفاق التي لمْ تلتزم بعهد أو ميثاق، والتي قادها سنين طويلة معاوية بن أبي سفيان المعروف بغدره ونقضه للعهود والمواثيق، حتّى أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد عيّره بذلك ووبّخه وأنّبه عليه في جملة ما أنّبه عليه في رسالته الاحتجاجيّة التي بعث بها إليه3، بل كان الإمام عليه السلام يتعرّض لذكر غدر معاوية وعدم وفائه بالمواثيق في كثير من المناسبات4.
 
ولم يكن عدم الوفاء بالعهد جديداً على أهل الكوفة يومذاك، بل كان معروفاً فيهم، ولقد كشف الإمام الحسين عليه السلام عن ذلك في خطبته التي خطبها في جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ في منزل البيضة، حيث قال عليه السلام: “... إنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكرٍ! لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم! والمغرور من اغترّ بكم..."5.
 
وفي يوم عاشوراء أيضاً كان عليه السلام قد وبخّ أهل الكوفة على نكثهم البيعة وعدم وفائهم بتعهداتهم، في إحدى خطبه العصماء يومذاك، وكان ممّا قاله عليه السلام فيها: "... أجل والله! الخذل فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيء سنخاً للناصب وأكلة للغاصب! ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج10، ص602 و603.
2- نفس المصدر.
3- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص253 - 256.
4- راجع مثلاً: محاورته مع عبد الله بن الزبير، كتاب الفتوح، ج5، ص11، ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، ج1، ص182.
5- وقعة الطفّ، ص172.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

107

البلاغات الأخلاقيّة

  توكيدها..."1.

 
وفي الطرف المقابل كان الإمام الحسين عليه السلام في كلّ حركة وسكنة منه يمثّل حقيقة معنى الوفاء، وكان أنصاره (قدّس سرّهم) المثل الأسمى للوفاء بالعهد والميثاق، إذ ثبتوا على عهدهم واستقاموا على ميثاقهم مع إمامهم عليه السلام، في نصرته والجهاد بين يديه حتّى فازوا بمرتبة الشهداء الذين لم يسبقهم إلى مرتبتهم سابق ولا يلحق بهم لاحق.
 
ولمقام صدق ووفاء الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره (قدّس سرّهم) إشارات كثيرة في متون الروايات والزيارات، نشير هنا إلى بعض منها: في ليلة عاشوراء كان الإمام عليه السلام قد توّج أنصاره من أهل بيته وأصحابه بأشرف تاج يمكن أن يُزيّن إنسانٌ به حيث قال: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي..."2.
 
ولمّا وقف عليه السلام يوم عاشوراء على مصرع مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) قرأ عليه السلام قوله تعالى: (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)3. وكان حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) مع الإمام عليه السلام، فدنا من مسلم وقال: "عزّ عليَّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنّة".
 
فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير.
 
فقال له حبيب: لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك، حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.
قال مسلم: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله- وأهوى بيده إلى الحسين- أن تموت دونه!
 
قال حبيب: أفعلُ وربّ الكعبة!
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص8 و9.
2- وقعة الطفّ، ص197.
3- الأحزاب، 23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

108

البلاغات الأخلاقيّة

 فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم رحمه الله"1.

 
ولقد قرأ الإمام الحسين عليه السلام قوله تعالى: (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، مراراً في كربلاء يوم عاشوراء، إذ "كان يأتي الحسين عليه السلام الرجل بعد الرجل، فيقول: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه الحسين عليه السلام:وعليك السلام، ونحن خلفك. ويقرأ: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ثمّ يحمل فيقتل، حتّى قتلوا عن آخرهم (قدّس سرّهم)، ولم يبق مع الحسين إلّا أهل بيته"2. وكان عليه السلام في طريقه من مكّة إلى العراق يقرأ هذه الآية الشريفة عند ذكر أنصاره الذين استشهدوا على طريق الوفاء بالعهد والميثاق، ممجّداً فيهم وفاءهم وثباتهم، كقيس بن مسهّر الصيداويّ (رضوان الله عليه) الذي ترقرقت عينا أبي عبد الله عليه السلام بالدموع لمّا سمع بنبأ استشهاده ثمّ تلا هذه الآية الشريفة مترحّماً عليه ومادحاً إيّاه لوفائه وثباته.
 
ولقد جسّد أبو الفضل العبّاس وإخوته من أمّه: وفاءهم لإمامهم عليه السلام وثباتهم على العهد برفضهم أمان عبيد الله بن زياد الذي حمله شمر إليهم، وما فارقوا الإمام عليه السلام حتّى قضوا نحبهم شهداء بين يديه.
 
كان الإمام عليه السلام قد رخّص أنصاره بالانصراف عنه، وجعلهم في حلّ من بيعته، لكنّهم بمقتضى الوفاء قد أصرّوا على البقاء معه وثبتوا على عهدهم معه.
 
كان شهداء كربلاء يرون التضحية بأنفسهم في نصرة الحسين عليه السلام وفاءً بالعهد، فوقّعوا على ميثاقهم بإمضاء من الدّم! ونرى في يوم عاشوراء عمرو بن قرظة الذي كان لا يأتي إلى الحسين عليه السلام سهم إلّا اتّقاه بيده ولا سيف إلّا تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتّى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين عليه السلام وقال: " يا ابن رسول الله! أوفيتُ؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي السلام، وأعلمه أنّي في الأثر.
فقاتل حتّى قتل (رضي الله عنه)"3.
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج2، ص15.
2- المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص100.
3- راجع: اللهوف، ص46.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

109

البلاغات الأخلاقيّة

 وروي أيضاً أنّ سعيد بن عبد الله الحنفي (رضوان الله عليه) لمّا استقدم أمام الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عند الظهر أثناء الصلاة يحميه من السهام، فما أخذ الحسين عليه السلام يميناً وشمالاً إلّا قام بين يديه، فما زال يرمى حتّى سقط إلى الأرض، وهو يقول: "الّلهمّ العنهم لعن عادٍ وثمود! الّّلهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك نصرة نبيّك. ثمّ مات، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح1. ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوفيتُ يا ابن رسول الله؟ فقال عليه السلام:نعم، أنت أمامي في الجنّة ثمّ فاضت نفسه النفيسة"2.

 
ونقرأ في زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم الأربعين:
 
"أشهدُ أنّك وفيتَ بعهد الله، وجاهدت في سبيله حتّى أتاك اليقين"3.
 
ونقرأ أيضاً في إحدى زياراته المطلقة:
 
"أشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ووفيتَ وأوفيت وجاهدت في سبيل الله"4.
 
ونقرأ في زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام:
 
"وأشهدُ أنّك وفيت بعهد الله"5.
 
ونقرأ في زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام:
 
"أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ..."6.
 
ونقرأ في هذه الزيارة أيضاً الدعاء له عليه السلام بأن يجزيه الله أفضل جزاء الموفين لله ببيعتهم، المستجيبين لدعوته، المطيعين لأئمّتهم وولاة أمرهم: "فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحدٍ ممّن وفي ببيعته واستجاب له
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، ج2، ص20 و21.
2- إبصار العين، ص218.
3- مفاتيح الجنان، ص448، زيارة الأربعين.
4- نفس المصدر، ص423.
5- نفس المصدر، ص402.
6- نفس المصدر، ص434.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

110

البلاغات الأخلاقيّة

 دعوته وأطاع ولاة أمره..."1.

 
هذه التضحيات بالأنفس المختومة بالشهادة هي ذلكم العهد والميثاق الذي أعطوه لإمامهم عليه السلام ليلة عاشوراء، حين قالوا: "والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا!"2.
وبلاغ الوفاء قد وصل من عاشوراء إلى ورثة المنهج العاشوريّ، فهم باقون على عهدهم الذي عاهدوا الله عليه ودماء الشهداء، وعلى بيعتهم لقائدهم وللوليّ الفقيه، أوفياء لعهدهم وميثاقهم إلى آخر العمر، وكلّ صعوبات الطريق وإغراءات الدنيا وحالات الضعف التي تعتري بعض رفقاء هذا الطريق لن تثني العاشورائيّين أبداً عن مواصلة طريق عاشوراء.
 
وكلّ إمام وقائد أيضاً بحاجة إلى أنصار أوفياء ليقود من خلال الاعتماد على حمايتهم وصدقهم ووفائهم حركة الثورة والجهاد على منهجها المرسوم ويوصلها إلى أهدافها المنشودة.
 
 
 

1- نفس المصدر، ص434.
2- وقعة الطفّ، ص199.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

111

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 النصر والهزيمة

 
من المفاهيم المؤثّرة تأثيراً كبيراً في حياة النّاس مفهوم ومعنى النصر والهزيمة ونوع النظرة التي يتبنّاها الإنسان بصددهما.
 
حينما تتحقّق الأهداف المنشودة في مواجهةٍ هادفةٍ فإنَّ نتيجتها تعتبر نصراً للطرف الذي خاض هذه المواجهة من أجل تحقيق هذه الأهداف، حتّى وإنْ لم يحقق هذا الطرف فتحاً عسكرياً فيها، بل لا يمنع من كون هذا النصر قد تحقّق فعلاً أنّ الأهداف المنشودة لا تتحقّق إلّا في زمن متأخّر عن زمان الواقعة ولو بعد أجيال عديدة. بل إنّ التكليف المُلقى على عاتق الإنسان في أيّ مقطع زمانيّ إذا قام به هذا الإنسان وأدّاه تمام الأداء فهو انتصار، لأنّ نفس "أداء التكليف" انتصار، وإنْ انتهى في الظاهر أحياناً إلى انكسار وهزيمة.
 
ولم يكن للإمام الحسين عليه السلام هدف غير إعلاء كلمة الحقّ، وبقاء الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، من أجل تحقيق العدل والعزّة والكرامة الإنسانيّة، وقد تحقّقت للإمام عليه السلام جميع هذه الأهداف، وإنْ كان عليه السلام وأنصاره قد استشهدوا في عاشوراء!
 
ففضح حقيقة الأمويين البشعة بكشف اللثام عن كفرهم، وتمزيق هويّتهم الإسلاميّة المزوّرة، وفصل الإسلام الأموي عن الإسلام المحمّديّ الخالص، وكسر حالة الرعب والخوف المهيمنة على الأمّة بالقيام والثورة على حكومة الجور، ونفخ روح الإحساس والالتزام والمسؤولية في الأمّة إزاء الإسلام وقضايا المسلمين، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

112

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 إيضاح


عاشوراء مجلى "عمق الحياة وجوهرها"، فالحياة ليست صعود الأنفاس ونزولها فحسب، والحياة لا تنحصر في عالم هذه الدنيا...

إنّ معرفة الجوهرة الخالصة للحياة الإنسانية تتجلّى في ظلّ عاشوراء، ذلك لأنّ تساؤلات من مثل: ما هي "الحياة الطيّبة" ؟ والحياة الأبدية مع ماذا؟ وكيف يمكن الفوز ب-"السعادة الخالدة" من خلال عبور مرحلة الموت؟ ومع أيّ شيء وفي أيّ شيء تكون السعادة، والعزّة والشخصية والحياة والعمر الحقيقي والانتصار؟ وما هو المعيار الذي يمكن به معرفة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة أو الموت الفردي والاجتماعي؟ وما هو دور"العقيدة" و"الإيمان" وأثرهما في تحديد اتجاه وشكل مساعي الإنسان؟ وما هو الحدّ المائز بين "الحياة الإنسانيّة" و"الحياة الحيوانية" ؟ وغير ذلك من أمثال هذه التساؤلات تتحقّق الإجابة عنها في "عاشوراء"، ذلك لأنّ بلاغ عاشوراء هو أنّ الحياة العزيزة الكريمة في الدنيا والفوز بالحياة الأفضل في الآخرة إنّما يتحققان في ظلّ الجهاد والشهادة في سبيل الله والحقّ والعقيدة الإلهيّة، ذلك المسار الذي تنجو به الحياة الإنسانيّة من أن تكون جوفاء بلا معنى.

من أهمّ الأسئلة التي تشغل ذهن وقلب الإنسان الفطن الملتزم هو "كيف يجب أن أحيا؟"، وجواب هذا السؤال لا يتّضح إلّا إذا اتضّح الجواب عن هذا السؤال: "لماذا نحيا؟" ذلك لأنّ "كميّة" الحياة هي التي تحدّد اتجاه "كيفية" الحياة في الواقع.

أمّا أولئك الذين يرتضون أن يحيوا حياة حيوانية حقيرة قانعين بها، ولا يحاولون الارتقاء إلى معرفة عليا للحياة، وليس من شأنهم التفكير في الآفاق البعيدة، فإنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

 


113

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 علَّة حقارة أنفسهم وحياتهم أنّهم لم يعرفوا "فلسفة الحياة"، فتوهّموا أنّ الحياة محصورة بين الولادة والموت، بل لم يعرفوا منها إلّا بعدها الماديّ فحسب.

 

 

 

 

 

 

 

128


114

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 مفهوم الحياة

 
يقاس العمر الأصلي للإنسان بالأعمال الصالحة التي عملها في فترة حياته، ولا يقاس عمره بعدد السنين التي عاشها، فالعمر هو العمر العملي وليس العمر الزمني، أي أنّ ما أنفقه الإنسان من رأسمال وذخيرة هذه الدنيا لإعمار آخرته هو بذاته ميزان العمر الحقيقي للإنسان.
 
إنّ المعرفة بالدنيا تزيد أيضاً في بصيرة الإنسان العملية في الحياة، وتصحّح له توجّهاته، فترى همّ من لا بصيرة له منصبّاً على هذه الدنيا الفانية، فكلّ سعيه لها، وهو من الخاسرين، أمّا أهل البصائر فكلّ همّهم في أمر الآخرة، فهم يسعون لها حقّ سعيها، وهم الفائزون.
 
ونرى الإمام الحسين عليه السلام يصف هذه الدنيا الفانية المتقلّبة بأهلها- لمّا حوصر ومن معه من قبل جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ- قائلاً: "... وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، واستمرّت حذاء، ولم تبق منها إلّا صبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل..."1.
 
وهذه النظرة تبتعث الشوق إلى لقاء الله تعالى وإلى الآخرة، إذ إنَّ الحياة الدنيا تحت سلطة الجبابرة الظالمين- على أساس هذه النظرة- اختناق وبرم، والموت المؤدّي إلى الخلاص منها- قتلاً- فوز وسعادة: ".. ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة،
 
 
 

1- اللهوف، ص34، المطبعة الحيدريّة - النجف.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

115

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 والحياة مع الظالمين إلّا برما"1.

 
ونفس هذه الحياة المُرَّة الوضيعة المنغَّصة يراها عمي القلوب من عبّاد الدنيا وطلاّبها حلوة هنيئة!! ويحرصون على بقائها حتّى مع الذلّ والهوان والصغار!!
 
أمّا الحياة في نظر أولياء الله- وقد تجلّت في أروع مظاهرها في عاشوراء- فهي جهاد في سبيل العقيدة، موت في سبيل العزّة والشرف، وشهادة في سبيل الله، هؤلاء الأولياء لبصيرتهم النافذة بالحياة ومعرفتهم العليا بمعناها الأسمى يرون الحياة الذليلة برماً وسبب عناء وعذاب ولا يمكن تحمّلها مطلقاً.
 
 
 

1- نفس المصدر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

116

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 العقيدة والحياة


تكون الحياة مظهراً للكمال والحقيقة إذا أقامها الإنسان وعاشها على أساس المعتقدات الصحيحة الحقّة، لكنّنا نجد في النّاس من ليس له عقيدة صحيحة يحيا بها، ونجد أيضاً بعضاً آخر من النّاس من لا يقيم حياته على أساس العقائد الخالصة الصحيحة مع معرفته بها، ويعمل خلافاً لما يعتقد به، وهذا ناشىء إمّا من حالة نفاقية، أو من ضعف النفس وفقدان الإرادة.

وفي عاشوراء كان ما شهده معسكر الإمام الحسين عليه السلام في كلّ حركة وسكنة لأبطال ملحمة عاشوراء تجسيداً لتأثير العقيدة في العمل، إذ بدافع من إيمانهم بالله الأحد الصمد كانوا يلتمسون مرضاته ويطلبونها حتّى مع الشهادة، وبدافع من يقينهم بالمعاد كان كلّ همّهم في الفوز بالسعادة الأُخروية، حتّى وإنْ كان ثمن ذلك في دنياهم أن يُقتلوا وأن تُؤسر عوائلهم.

أمّا ما شهده معسكر ابن زياد في كربلاء من ازدواجيّة في شخصيات أفراده، ومن تقلّب في الانتماء، ومن نقض للبيعة والميثاق، ومن تألّبٍ وتآزرٍ على حرب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإمام الحقّ عليه السلام، فقد كان تجسيداً ونتيجة لضعف عقيدة أولئك الظلمة أو لقوّة تعلّقهم بالدنيا.

ولا شكّ أنّ هناك بعضاً من النّاس أيضاً يصرّون على الدفاع عن عقائدهم الخاطئة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

117

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 جهلاً وتعصّباً حتّى وإنْ قتلوا في هذا السبيل وكانت عاقبة أمرهم الخسران في الدنيا والآخرة. أمّا ما هو نفيس وعزيز فالجهاد والكفاح في سبيل العقائد الحقّة والمتبنّيات الصحيحة، والقول المعروف "إنّ الحياة عقيدة وجهاد" يمكن القبول به إذا كان المراد بالعقيدة الحقّة الصحيحة ليكون من الحقّ أنّ كمال الحياة هو الجهاد في سبيل تلك العقيدة الحقّة أيضاً.

 

 

 

 

 

 

 

132


118

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الإختيار

 
مزجت طينة الإنسان بالقدرة على الاختيار، ذلك من فطرة الله التي فطر النّاس عليها ولا تبديل لخلق الله، فالإنسان مسؤول عن اختياره طريق الحقّ أو طريق الباطل، سبيل الخير أو سبيل الشرّ، نجْد السعادة أو نجْد الشقاء، الإنسان مسؤول أمام الله تعالى عن هذه القدرة على الاختيار الّتي هي "أمانة إلهيّة" عنده1.
 
إنّ البعد الفردي والبعد الاجتماعي في شخصية كلّ إنسان، وسعادته وشقوته، وجنّته وجهنّمه، رهن نوع اختياره في هذه الحياة، والإنسان في كلّ لحظة من لحظات حياته عرضة لأحد الاختبارات الإلهيّة، يمتحنه الله ليعلم أيّ سبيل يختار من السبل المختلفة؟ ولأيّ نداء يستجيب؟ لنداء "العقل" و"الآخرة" ؟ أم لنداء "النفس" و"إغراءات الدنيا" ؟ لنداء "الأعمال الصالحة" أم لنداء "المصالح الذاتيّة" ؟
 
والنّاس إزاء دعوة الأنبياء عليهم السلام أيضاً لا بدّ أن يختاروا أحد طريقين إمّا طريق "التصديق والإيمان" أو طريق "التكذيب والكفر"، والارتباط بخطّ الأنبياء عليهم السلام معناه الاستجابة إلى دعوة العقل والمنطق، أمّا رفض دعوة الأنبياء عليهم السلام فمعناه غلبة الأهواء والمصالح الذاتيّة على نداء العقل.
 
لقد اختار إبليس العصيان "الاختيار السيّء" قبال الأمر الإلهيّ بالسجود لآدم عليه السلام فطُرِدَ من رحمة الله فهو رجيم.
 
وكان المؤمنون والكافرون أيضاً ولم يزالوا على الدوام عرضة لاختبار "الاختيار الحسن" و"الاختيار
 
 
 

1- راجع: الدهر، 2: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

119

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 السيّء".

 
لنَطْوِ الآن سجلّاً مديداً لاختيارات تأريخيّة كثيرة، ولنقرأ في سجلّ نهضة عاشوراء، سجلّ الاختيارات العجيبة!
 
إنّ جميع تفاصيل ومشاهد حركة أحداث هذه النهضة الخالدة كانت قائمة على الاختيار، سواء في معسكر الحقّ معسكر الإمام الحسين عليه السلام، أو في معسكر الباطل معسكر ابن زياد وقوّاده وجنوده، إذ كان أهل الكوفة أنفسهم أيضاً عرضة لامتحان كبير، فأمّا اختيار نصرة الحسين عليه السلام وإنْ كانت عاقبة هذا الاختيار الشهادة، أو اختيار الحياة الدنيا والعافية والمناصب في حكومة الجور والظلم حتّى وإنْ أدّى هذا الاختيار إلى قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّد الشهداء عليه السلام، لقد كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يختار مبايعة يزيد، وما كانت عاشوراء لتقع، ولكنّه اختار الشهادة عطشانا، روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب، أنزل الله تعالى النصر حتّى رفرف على رأس الحسين عليه السلام، ثمّ خيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله!"1.
 
في الطريق من مكّة إلى العراق، لمّا وصل إلى الإمام عليه السلام خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، أخرج الإمام عليه السلام للناس كتاباً: "ونادى: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: فقد أتانا خبر فظيع! قُتل مسلم بن عقيل، وهانيء بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام.
 
فتفّرق النّاس عنه تفّرقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة!"2.
 
ولمّا خرج عليه السلام من مكّة تبعه رسلٌ من والي مكّة يحملون إليه رسالة من الوالي يتعهّد فيها للإمام عليه السلام بالأمان والصلة إذا رجع عن سفره إلى العراق، فكان ممّا
 
 
 

1- اللهوف، ص44، المطبعة الحيدريّة - النجف، والكافي، ج1، ص260، ح8.
2- وقعة الطفّ، ص166.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

120

بلاغات الحياة الحقيقيّة

  أجابه الإمام عليه السلام: “... وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله"1.

 
في كربلاء أيضاً كان شمر بن ذي الجوشن قد جاء بأمان من عند ابن زياد لأبي الفضل العبّاس وإخوته من أمّه عليهم السلام، لكنّهم رفضوا ذلك الأمان واختاروا البقاء مع الإمام عليه السلام والشهادة بين يديه، وقالوا: "لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سميّة"2.
 
والمشهور3 أنّ زهير بن القين (رضوان الله عليه) كان عثمانيَّ الهوى ولم يكن مائلاً إلى أهل البيت عليهم السلام، ولكنّه بعد لقائه بالإمام الحسين عليه السلام في الطريق من مكّة إلى الكوفة اختار لنفسه طريقاً جديداً، هو الالتحاق بالإمام عليه السلام والانضمام إلى الركب الحسينيّ، وجاهد في صفّ الحقّ حتّى استشهد (رضي الله عنه)، ولمّا سئل عن سبب تحوّله قال: "... الطريق جمع بين وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم "4.
 
وفي ليلة عاشوراء، حينما صاد الأنصار (قدس سرهم) وجهاً لوجه أمام اقتراح سيّد الشهداء عليه السلام، حيث أذن لهم بالانصراف عنه وتركه لأنّ الأعداء لا يبتغون غيره إذا ظفروا به، كان جوابهم واحداً قاطعاً لا تذبذب فيه وهو اختيار "البقاء معه"، فلم ينصرف عنه تلك الليلة أحدٌ منهم.
 
ومن الاختيارات الخالدة في عظمتها وأهميّتها اختيار "الحرّ بن يزيد الرياحيّ" (رضي الله عنه)، لقد كان حتّى صباح عاشوراء في صفّ معسكر ابن زياد، وكان أحد القادة المهمّين المرموقين في جيش الأعداء، لكنّه خيّر نفسه بين الجنّة والنّار، فاختار الجنّة قائلاً: "إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً



1- وقعة الطفّ، ص155.
2- نفس المصدر، ص190.
3- راجع مناقشة صحّة هذا المشهور في الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة).
4- وقعة الطف، ص194.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

121

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 ولو قطّعت وأُحرقت!"، ثمّ ضرب فرسه مسرعاً به إلى معسكر الإمام عليه السلام ليقف بين يديه معلناً عن توبته واستعداده لنصرته، فقُبلت توبته، وجاهد بين يدي الإمام عليه السلام حتّى فاز بالشهادة والجنّة.

 
إنّ هذا الاختيار الفريد، والموقف الفذّ الذي اتّخذه الحرّ (رضي الله عنه) جعل منه أسوة خالدة للأحرار على مدى الأجيال، وفرقداً هادياً في سماء طلاّب الحقّ وأهل البصائر، وشهيداً من شهداء كربلاء العظام، فضلاً عن السعادة الأبديّة التي فاز بها.
 
إنّ التأمّل عند مفترق طريقين صعبين واختيار الأفضل منهما دليل على كمال عقل الإنسان وحرصه على مستقبله وسعادته.
 
ولكن هل عاش عمر بن سعد تجربة هذا التأمّل العقلائيّ حقّاً، وهل ذاق بصدق حقيقة هذا الاختبار المرير، حينما جاء إلى كربلاء لقتال الإمام الحسين عليه السلام مختاراً لنفسه أسوأ ما يختار إنسان لنفسه من مصير؟!
 
إنّه لم يمهل نفسه حتّى ليلة واحدة من أجل التأمّل والتفكّر في قبول ما أمره به ابن زياد أو رفضه! فلم يوفّق للفوز ب-"الاختيار الأحسن"، ذلك لأنّه كان مأخوذاً بطمعه في "ملك الريّ" إلى درجة عدم القدرة على مقاومة هذا الطمع أو الإعراض عنه! فكانت النتيجة أن فضّل الانقياد إلى اختيار وهم "ملك الريّ" حتّى وإنْ كان ثمن هذا الاختيار السيّء الذنب العظيم بقتل سيّد الشهداء عليه السلام 1!!
 
وهناك آخرون أيضاً كانوا قد التقوا الإمام الحسين عليه السلام في طريقه من مكّة إلى العراق، ودعاهم الإمام عليه السلام إلى نصرته، ولكن لحبّهم الدنيا وانشدادهم إليها، ومخافتهم من عواقب نصرة الإمام عليه السلام، لم يوفّقوا إلى "الاختيار الأحسن" في الالتحاق بركبه والانضمام إليه والاستشهاد بين يديه والفوز بالسعادة الأبديّة، وكان أوضح وأسوأ مثال لأولئك عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، الذي صارح الإمام عليه السلام بتعلّقه بالدنيا قائلاً: "... والله إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة!
 
 
 

1- ولقد عبّر عمر بن سعد عن ضعف عقله ونفسه، وعن انقياده لهواه في الأبيات المأثورة عنه، والتي منها هذا البيت:
أأترك ملك الريّ والريُّ منيتي أو أصبح مأثوماً بقتل حسينٍ
(راجع: الخصائص الحسينيّة/ ص71).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

122

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 ولكن ما عسى أن أغني عنك؟! ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً!! فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت!..."1.

أمّا أنصار الإمام عليه السلام فقد واجه كلٌّ منهم امتحان "الاختيار"، فاختاروا جميعاً الشهادة مع الإمام عليه السلام على البقاء في هذه الدنيا... وهذا هو الاختيار- عن وعيٍ- للموت في سبيل العقيدة والإيمان، إنه الموت المختار لا الموت المفروض على الإنسان.
 
في ليلة عاشوراء وقف مسلم بن عوسجة (رضي الله عنه) بين يدي الإمام عليه السلام وخاطبه قائلاً: "أنحن نخلّي عنك؟! وبما نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله! حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، أما والله لو علمت أنّي أُقتل، ثمّ أُحيى، ثمّ أُحرق، ثمّ أُحيى، ثمّ أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!"2.
 
وخاطبه زهير بن القين (رضي الله عنه) قائلاً: "سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها!"3.
 
ورأى الإمام الحسين عليه السلام نفسه مخيّراً بين الذلّة والشهادة، فاختار السيف والشهادة وقال: "هيهات منّا الذلة!"4.
 
وكان من شعاراته التي أطلقها في الميدان يوم عاشوراء قوله عليه السلام في رجزه الحماسي: 
 
القتل أولى من ركوب العار              والعار أولى من دخول النار5
 
 
 

1- الأخبار الطوال، للدينوريّ: 250 و251.
2- بحار الأنوار، ج44، ص393.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص194، دار الكتاب الإسلاميّ.
4- اللهوف، ص42، المطبعة الحيدريّة.
5- نفس المصدر، ص51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

123

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 إنّ السبب الرئيس في هذا "الاختيار الأحسن" هو النظرة الصحيحة التي يؤمن بها الإنسان إلى الربح والخسارة، وإلى الأبديّة والخلود، وإلى سبيل الفوز بالنعيم الدائم والسعادة الباقية.

 
وقيمة كلّ فرد أو أُمّة رهنٌ لنوع اختيار هذا الفرد أو تلك الأمّة ومن الطبيعي أنّ الأمم الصبورة المقاومة تثبت على اختيارها، ولا تنحني أو تنثني لكثرة من تفقدهم من شهدائها أو لعظم ما تتعرّض له من خسائر، ذلك لأنّها اختارت مسيرها عن وعي وإيمان.
 
يقول الإمام الخمينيّ بصدد شهداء كربلاء:
"كلمّا كان سيّد الشهداء عليه السلام في يوم عاشوراء يقترب من الشهادة كان وجهه يشرق أكثر! وكان شبّانه يتسابقون للفوز بالشهادة، لقد كانوا جميعاً يعلمون أنهم عمّا قليل سيستشهدون، لكنّهم تسابقوا لأنهم كانوا يعلمون إلى أين يذهبون، ويعلمون لماذا أتوا، كانوا على وعيٍ: أنّنا جئنا لأداء تكليفنا الإلهي، جئنا لحفظ الإسلام"1.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج15، ص55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

124

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الحياة ميدان الإختبار

 
حكمة الاختبار هي إظهار وإثبات الصدق والقدرة والقابليّات والخصال الكريمة الخالصة المخفيّة في الإنسان، فادّعاء الإيمان وتحرّي الحقّ والحقيقة لا تثبت حقّانيته ولا يتجلّى صدقه إلّا في ميدان العمل ومحنة الاختبار.
 
من هنا، فإنّ النخب من النّاس دائماً يسعون إلى نيل الدرجات العالية في خضمّ امتحانات الحياة.
 
ولا بدّ أيضاً أن يكون البلاء والامتحان من خلال الصعوبات والشدائد، ومعاناة محنة السجن، والاستشهاد، وفقد الأعزّة، والأهل، والأموال، والتضحية بأعزّ الأشياء... ولا بدّ من فتنة الابتلاء والامتحان في حياة المؤمن!
 
يقول الله تبارك وتعالى: (الم * أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)1.
 
وميدان الجهاد في سبيل الله أحد أهمّ وأفضل ميادين امتحان الإيمان والإخلاص وصدق المؤمنين.
 
وكانت كربلاء أيضاً من أبرز ميادين الجهاد والكفاح بين الحقّ والباطل التي تستدعي حضور المؤمنين الصادقين والتضحية بأرواحهم.
 
ولقد حرم الكثيرون من توفيق امتحان كربلاء، وكما وفّق جمع من الصادقين لهذا التوفيق النادر العزيز، فصاروا من أهل الفوز العظيم بنيلهم أعلى درجات السعادة
 
 
 

1- العنكبوت، 1 و3.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

125

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الأبديّة، أولئكم شهداء كربلاء الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم في سوق المتاجرة مع الله فعانقتهم عرائس الشهادة.

 
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه):
 
"سجلُّ الدرجات العالية النورانيّ لشهادة وتضحية أعزّائكم، شاهدٌ صادق على نيلهم أعلى امتيازات ومراتب التحصيل المعنويّ، وهو سجلٌّ ممضيٌّ بختم مرضاة الله تبارك وتعالى، وسجلّ درجاتكم رهينٌ بسعيكم ومجاهدتكم. الحياة في عالم اليوم حياة في مدرسة الإرادة، وسعادة كلّ إنسان أو شقاوته إنّما تسجّل بمداد إرادة ذلك الإنسان نفسه"1.
 
إنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام رأوا أنفسهم ليلة عاشوراء مخيّرين بين "البقاء" و"الرحيل"، فباختيارهم "البقاء" و"القتال" و"الاستشهاد" في ركب الإمام الحسين عليه السلام حازوا على أرفع وأعلى امتياز في هذا الامتحان الحيوي، وكان الإمام عليه السلام في نفس تلك الليلة أيضاً قد أثنى غاية الثناء على صدقهم ووفائهم، وشهد لهم بأن "لا نظير لهم" في الماضين ولا في الآتين.
 
ترى هل بإمكان جميع النّاس في لحظة الاختيار أن يخرجوا من الامتحان مبيضّةً وجوههم وموفّقين؟ إنّ حلاوة الحياة في الاختيارات السامية، وفي الموفقيّة في هذه الابتلاءات.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج1، ص25.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

126

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الأمّة الحيّة والأمّة الميّتة

 
إنّ الفرد أو المجتمع الحيّ هو الذي يحيا "الحياة الطيّبة"، ولا يرى الحياة مجرّد استمرار عمليّة التنفّس.
 
والحياة الطيّبة هي التي يجد الإنسان في ظلالها: الإيمان، والعزّة، والتحرر، والشرف، والوفاء، والطهارة، أمّا الحياة الذليلة التي يعاني الإنسان في أجوائها القهر والهوان فهي الموت، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
 
"الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين"1.
 
ويقول الإمام الحسين عليه السلام:
 
"لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما"20.
 
فالأمّة الحيّة إذن هي الأمّة التي لا تتخلّى عن حرّيتها وعزّتها، وتجاهد في سبيل تحقيق أهدافها، وترفض سيطرة الظالمين عليها، حتّى وإنْ تعرّضت جميعها للقتل في سبيل ما تعتقده وتؤمن به، ولهذا كان الشهيد حيّاً حياة خالدة، وفي ضوء هذه النظرة الإيمانيّة الحقّة فاز شهداء كربلاء بالحياة الخالدة، ذلك لأنّهم آمنوا بأنّ الحياة في قتلهم واستشهادهم في سبيل ما يؤمنون به من شروط الحياة الطيّبة، يقول الإمام الحسين عليه السلام:
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 51، نظم صبحي الصالح.
2- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص68.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

127

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 ليس الموت في سبيل العزّ إلّا حياة خالدة"1.

 
وهذا التصريح الخالد للإمام عليه السلام تفسير واضح لمفهوم الحياة.
 
أمّا عدم مبالاة أمّةٍ ما إزاء ما يعصف بحياتها من مفاسد ومظالم، فدليل على موت تلك الأمّة، تماماً كمثل الأعصاب المقطوعة لعضو من أعضاء الجسد، حيث لا تستشعر الألم، ولا ردّ فعلٍ لها على ما تتعرّض له من ضربات، وبسبب من عدم إحساسها تكون كالميّت الذي لا روح له، والمجتمع الذي فقد الغيرة الدينيّة والحمّية الإنسانيّة، ولا يبالي بما يعيشه من أوضاع حياته سيّئة كانت أم حسنة! مجتمع ميّت أيضاً.
 
لقد أثبت أبطال ملحمة عاشوراء بجهادهم واستشهادهم على أنّهم أحياء، في وقت كان النّاس في مجتمع يومذاك أمواتاً لأنّهم لم تكن لهم أي ردّة فعل، أو رفض، أو تحرك مناهض، مع كلّ ما كانوا يرونه من جميع تلك المفاسد والمظالم التي غمرت حياتهم.
 
لقد كانت عاشوراء ضخّاً لدمٍ حيويّ جديد في جسد الأمّة، وصعقة لتحفيز الإحساسات الدينيّة والإنسانيّة في ذلك الجسد الخادر.
 
 
 
 

1- أعيان الشيعة، ج1، ص581.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

128

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الإغاثة

 
إنَّ التكليف قائمٌ دائماً على أساس "العلم" و"المقدرة"، فكلّ من لا علم له بالتكليف، أو لا قدرة له على أدائه، لا تقع عليه مسؤولية القيام به، وكلّ من كان أعلم وأقدر فتكليفه أشدّ وأثقل.
 
وليس بمسلمٍ من يسمع استصراخ واستغاثة رجل آخر مظلوم، وهو قادر على إغاثته، ثمّ لا يعبأ باستغاثته ولا يسارع إلى نصرته! إنّ الحديث المعروف: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"1. شاهد على هذا التكليف.

فحينما تنطلق استغاثة مستغيث، تجب إغاثته على كلّ مسلم قادر على الإغاثة، ويحرم عليه الإغماض عنها وعدم الاهتمام بها.
 
وفضلاً عن تكليف الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة حكومة الظلم والجور، وفي إحياء معالم الدين، كان عليه السلام أيضاً أمام تكليف إغاثة ونصرة الشيعة في الكوفة الذين كانوا قد استغاثوا به واستنصروه وأظهروا له تمام استعدادهم لإطاعته وامتثال أمره في النهضة بهم لإقامة حكومة العدل، لقد كانت الحجّة تامّة على الإمام عليه السلام في هذا الأمر، وكان من اللازم عليه الاستجابة لدعوتهم والمبادرة إلى إغاثتهم ونصرتهم، وكثيراً ما كان عليه السلام يحتجّ عليهم بهذا الأمر في قدومه إليهم، من ذلك قوله عليه السلام في مخاطبتهم:
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج71، ص339.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

129

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 "إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام"1.

 
وكان عليه السلام قد أشعرهم بلزوم هذه الحجّة في وجوب إغاثته إياهم، في رسالته التي كتبها إليهم من مكّة المكّرمة، حيث قال عليه السلام:
 
".. أمّا بعدُ: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم - وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم - وقد فهمتُ كلَّ الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم: إنّه ليس علينا إمامٌ، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ.
 
وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم. فإنّه كتب إليَّ: أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله..."2.
 
كان الشيعة آنذاك يعانون الأمرّين من ظلم يزيد وأعوانه الطواغيت، فدعوا الإمام الحسين عليه السلام لنجدتهم وإغاثتهم، وتحرّك الإمام عليه السلام من مكّة نحو العراق مستجيباً لاستغاثتهم، وفي الطريق إلى الكوفة كان الإمام نفسه عليه السلام قد التقى رجالاً عديدين وطلب منهم نصرته، وقد استجاب له بعضهم ملبّين لندائه فالتحقوا بركبه، كزهير بن القين (رضي الله عنه)، وبعض اعتذر إليه عن الالتحاق به وتذرّع بذرائع واهيّة وكان الإمام عليه السلام وهو الرؤوف الشفيق قد نصح هؤلاء الذين رفضوا الالتحاق به أنّ عليهم إذ رفضوا نصرته أن يبتعدوا على الأقلّ عن منطقة استصراخه واستنصاره، ذلك لأنّ:
"من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزَّ وجلَّ أن يكبّه على منخريه في النّار"3.
 
وكان نداء الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء أيضاً: "هل من ناصرٍ؟" خطاباً موجّهاً إلى جميع أولئك الذين كانت لديهم القدرة على نصرته والدفاع عن حريم
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص169.
2- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص39.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص369.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

 


130

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 وحرم أهل بيت النبوّة، وكانت صرخة استغاثته عليه السلام: “هل من مغيثٍ" و"هل من ذابٍّ" عالية في يوم عاشوراء ولم تزل إلى اليوم، ولا تزال تخاطب جميع الأجيال الآتية، ليجيبوها قائلين: لبيك يا سيّد الشهداء! لبّيك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !

 
لقد ضحّى سيّد الشهداء بنفسه وبأهله وأصحابه يوم عاشوراء من أجل إنقاذ الأمّة المضطهدة من ظلم حكّام الجور ومفاسدهم، ومن أجل إخراجها من ظلمات الحيرة والجهالة إلى نور الهدى والحقّ، كما نقرأ ذلك في متن زيارته عليه السلام في يوم الأربعين:
 
"وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة..."1.
 
واليوم أيضاً نرى مسلمي ومستضعفي العالم مبتلين بسيطرة الحكومات الجائرة عليهم، ومنهم من يكافح على طريق خلاصه ونجاته من الظلم والجور، وصرخة استغاثتهم مدويّة، فتكليف العاشورائيّين إغاثة هؤلاء وإيوائهم، والمسارعة إلى إمدادهم بما يلزم، وإيصال المعونة إليهم حتّى في جبهات القتال.
 
إنّ مساعدة المستضعفين والجهاد في سبيل تحريرهم وإنقاذهم أمرٌ دعا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
 
(وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ-ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)2.
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، زيارة الأربعين، ص468.
2- النساء، 75.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

131

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 إحياء دوافع الجهاد والمقاومة في سبيل الحقّ، كلّ ذلك كان من الأهداف الحسينية التي تحقّقت في عاشوراء.

 
إذن فالإمام الحسين عليه السلام كان هو المنتصر في كربلاء، والنصر إذن لا يعني الغلبة العسكرية فقط، إذ إنّ انتصار الدّم على السيف من نفس نوع الانتصارات الحقيقيّة.
 
بعد عودة الركب الحسينيّ من الشام إلى المدينة، كان إبراهيم بن طلحة قد التقى الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة، فسأله عن الغالب والمنتصر في كربلاء يوم عاشوراء، فأجابه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً:
 
"إذا دخل وقتُ الصلاة فأذِّن وأقِم تعرِفُ مِن الغالب!"1.

وهذا هو النصر المتحقّق بتحقّق الأهداف، وإن كان الناظرون إليه بعين الظاهر لا يرونه نصراً!
 
ومن ناحية أخرى فإنّ الذين يعيشون الحياة على أساس عقيدة حقّة نقيّة طاهرة، ويضحّون أيضاً بأنفسهم في سبيل هذه العقيدة، منتصرون دائماً وعل كلّ حال، لأنّهم- حسب التعبير القرآنيّ- أصحاب "إحدى الحسنيين"، سواء غلبوا أو استشهدوا.
 
وشهداء هذا الطريق- في الرؤية العاشورائيّة- منتصرون، لأنّ الشهادة هي الفوز الأكبر والفلاح العظيم، أمّا المتخلّفون عن قافلة الشهادة فيعيشون حياة بلا فتح، ذلك لأنّهم قصّروا بقعودهم عن نصرة الحقّ، وهل ثمَّ حياة أمرُّ من هذه الحياة؟ لمّا فصل سيّد الشهداء عليه السلام بركبه عن المدينة بعد خروجه منها دعا بقرطاس، وكتب رسالة إلى بني هاشم هي: "بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام"2.
 
لقد دوّن الإمام عليه السلام في هذه الرسالة المباركة عبارة واحدة، لكنّها كانت قد تضمّنت كلّ معنى العظمة، وحوت البلاغ السامي في أنّ الشهادة تحت رايته عليه السلام هي فتح مبين! لا يبلغه من تخلّف عن الركب الحسينيّ.
 
 
 

1- أمالي الشيخ الطوسيّ، ص66.
2- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص67.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

132

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 حياة بلا موت!

 
لا يكون الشهيد شهيداً إلّا بعد بذله نفسه الزكّية وقتله، لكنّه ما إنْ يستشهد حتّى يتمتّع بنوع آخر من الحياة أسمى من حياته الدنيويّة، حياة خالدة يحياها عند ربّه جلّ وعلا، ويرزق فيها أكرم الرزق: (... بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ...)1.
 
إنّ لحظة مفارقة الروح عن البدن هي لحظة نهاية الحياة عند جميع النّاس، لكنّها عند الشهداء في سبيل الله ليست غير لحظة ختام فقط، بل هي عندهم لحظة بداية مرحلة جديدة من الحياة أسمى وأرقى عند ربّ العالمين، ينعم فيها الشهيد برزق الله تبارك وتعالى.
 
فأولئك الذين يضحّون بحياتهم في سبيل الله يحظون ب-"حياة بلا موت"، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) : "الشهادة في سبيل الله، حياة أبديّة مقرونة بالفخر، ومصباح هداية للأمم"2.
 
وإذا كان بعض النّاس في هذه الدنيا رائداً إلى الخير والحقّ، مرشداً للأمّة، وسبب حركتها ويقظتها، فإنّ لمقتل الشهداء نفس هذا التأثير أيضاً، إذ يبقى المضحّون بأرواحهم في سبيل الله بعد شهادتهم أيضاً - كما كانوا في عالم الدنيا - مشاعل هداية للناس، وفاتحين لسبل الخير والعزّة والكرامة، وملهمين لحركة الأمّة نحو أهدافها المنشودة.
 
يعبّر الإمام الخمينيّ (قدس سره)  عن هذه الحياة الخالدة قائلاً:
 
"ها نحن الآن نشاهد كيف تسابق ذوو الأجنحة الهفهافة من عشّاق الشهادة
 
 
 
 

1- آل عمران، 169.
2- صحيفة نور، ج10، ص110.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

133

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 على جياد الشرف والعزّة خفافاً إلى معراج الدم، فبلغوا رتبة الشهود والحضور بين يدي عظمة الحقّ تعالى وفي مقام "جمع الجمع"، وينظرون من الأفق الأعلى إلى ثمرات بطولاتهم وتضحياتهم على وجه الأرض، حيث أقاموا بهمهم العالية الجمهورية الإسلاميّة في إيران، وارتقوا بثورتنا إلى ذروة العزّة والشرف، وحملوا مشاعل الهداية للأجيال العطشى إلى النور، وصنعوا من قطرات دمائهم طوفاناً عظيماً وعاصفة رهيبة..."1.

 
ولقد ضمن الله تبارك وتعالى بقاء وخلود أسماء الشهداء وذكرهم، ومن هنا كان بقاء وخلود نهج وسيرة شهداء كربلاء ومآثرهم.
 
في اليوم الحادي عشر من المحرّم عزم ابن سعد على أن يرحل ببقيّة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة، فلمّا نظر الإمام السجّاد عليه السلام إلى ميدان المعركة ورأى أهله مجزّرين "وبينهم مهجة الزهراء بحالة تنفطر لها السماوات وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً، عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه، فلمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بنت عليّ عليه السلام أهمّها أمر الإمام عليه السلام فأخذت تسلّيه وتصبّره، وهو الذي لا توازن الجبال بصبره، وفيما قالت له:
 
مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟! فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، لقد أخذ الله ميثاق أناسٍ لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتَطْميسِهِ فلا يزداد أثره إلّا علوّاً"2.
 
ولقد أشارت مولاتنا زينب عليها السلام مرّة أخرى إلى هذه الحقيقة في الشام في قصر يزيد، في خطبتها التي قرّعت بها يزيد وفضحت بها كفره، حيث قالت له: "فكد كيدك واسعِ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميتُ وحينا..."3.
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج20، ص59.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص399.
3- نفس المصدر، ص464.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

134

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 شرف الشهادة


إنّ نظرة الإنسان إلى معنى "الحياة" هي الّتي توجّه عمله وتحدّد مواقفه.

والحياة في منظار العاشورائيّين لا تنحصر في محدودة ما بين الولادة والموت، بل هي في عقيدتهم تمتدّ إلى يوم القيامة وإلى الأبد.

وفي ضوء هذه الحقيقة فإنّ الإنسان الحكيم هو الذي يؤثر سعادة تلك الدار الآخرة ذات النعيم الدائم على هذه الدنيا الفانية ولذائذها المؤقّتة الزائلة المشوبة بالآلام والغصص.

من هنا، فإنّ نصرة الدين والدفاع عنه، وإطاعة وليّ الله وامتثال أوامره، ممهّدٌ وسبب رئيس لتلك السعادة الأبديّة المنشودة، والشرف كلّ الشرف في نصرة حجّة الله عليه السلام والدفاع عنه، حتّى وإنْ كانت الخاتمة أن يقتل المؤمن في هذا المسار.

لقد كان حبيب بن مظاهر (رضي الله عنه) من أهل هذه العقيدة وهذه البصيرة، إذ لمّا نزل الإمام الحسين عليه السلام أرض كربلاء "أقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله! ها هنا حيٌّ من بني أسد بالقرب منّا، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك، فعسى الله أن يدفع بهم عنك. قال: قد أذنت لك. فخرج حبيب إليهم في جوف الليل متنكّراً حتّى أتى إليهم فعرفوه أنّه من بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟ فقال: إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيّكم، فإنه في عصابة من المؤمنين الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

135

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد أتيتكم بهذه النصيحة فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة، فإنّي أُقسم بالله: لا يُقتل أحدٌ منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلّا كان رفيقاً لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم في عليّين..."1.

 
هذه هي نظرة حبيب إلى الحياة والشرف وإلى معنى التضحية بالنفس وبهذه الحياة الدنيا.

ولقد أثنى القرآن الكريم على المؤمنين الذين يثبتون على خطّ تحمّل أعباء المسؤولية الشرعيّة والقيام بالتكليف ويضحّون بأنفسهم في سبيل الله ووصفهم بالصدق، والوفاء بالعهد، والثبات على الحقّ، حيث قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)2، وهذا الثناء والمديح الإلهي بنفسه شرف يتزيّن به الشهداء، وينتظر أهل البصائر الفوز به لحظة بعد لحظة طيلة أعمارهم.
 
ونقرأ مثلاً آخر لهذه العقيدة الحقّة في كلام أنصار الإمام عليه السلام، حينما أذن عليه السلام لهم بالانصراف والتخلّي عنه ليلة عاشوراء، حيث كان جوابهم جميعاً: "الحمدُ لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا ترتضي أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟"3.
 
كما قدّم الحرّ بن يزيد الرياحيّ مثلاً آخر لهذه البصيرة النافذة في صبيحة يوم عاشوراء، فبعد أن تيقّن أنّ جيش عمر بن سعد سيقاتل الإمام عليه السلام حتماً صمّم على الانضمام إلى الإمام عليه السلام حتّى وإنْ كانت نتيجة تصميمه (رضوان الله عليه) أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج44، ص386 ـ 387.
2- الأحزاب، 23.
3- الكامل لابن الأثير، ج2، ص563.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

136

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 طلب الشهادة

 


في الظروف التي يسعى أغلب النّاس خلالها إلى التشبّث بهذه الحياة الدنيا حرصاً على البقاء فيها أطول عمر ممكن، تجد أنّ هناك أناساً أيضاً في ضوء إدراكهم السامي لمعنى الحياة، وللمقام الرفيع الذي يتمتّع به الشهداء في سبيل الله، على استعداد تامٍّ للتضحّية بأرواحهم، مرحّبين بالتخلّي عن هذه الدنيا، طمعاً بالفوز بالشهادة في سبيل المذهب والدين، ويقال لهذه الروحيّة التضحويّة المقترنة بالتحرّر من التعلّقات الدنيويّة: روحيّة "الاستشهاد"، إذ القتل في سبيل الله هو التجارة المربحة تماماً مع الخالق تبارك وتعالى، يعني أنّ التضحية بالنفس في سبيل الله هي الوصول إلى النعيم الإلهيّ الخالد.

والإسلام بتسليحه عقول وقلوب أتباعه بعقيدة "إحدى الحسنيين" إنّما يربّيهم ويسمو بهم إلى درجة الإيمان بحقيقة أنّهم حتّى في ميادين الحرب أيضاً منتصرون وفائزون بالحسنى سواء قتلوا الأعداء أو قُتلوا.

إنّ أئمّة الهدى عليه السلام وأتباعهم الخلَّص كانوا يتمتّعون بهذه الروحيّة السامية، ولذا فقد كانوا يستبشرون ببذل أرواحهم في سبيل الإسلام وما كانوا يتضايقون بذلك.
لقد كان ميدان كربلاء يوم عاشوراء مجلى "طلب الشهادة" عند أنصار الإمام عليه السلام الموقنين بحقيقة "إحدى الحسنيين"، وكان الإمام عليه السلام طليعتهم وأسوتهم في هذا الميدان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

137

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 وكان عليه السلام قد صرّح بهذا المنطلق الاعتقاديّ لمّا عزم على الخروج من مكّة، في خطبته التي قال فيها: خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة... حيث قال في آخرها:

"... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى"1.
 
وفي الطريق إلى العراق لمّا استرجع الإمام عليه السلام قائلاً: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" بعد الرؤيا التي رآها، وأطلع عليها ولده عليّاً الأكبر عليه السلام، فسأله عليٌّ عليه السلام: “يا أبه! أفلسنا على الحقّ؟".
 
قال عليه السلام: “بلى يا بُنيَّ! والذي إليه مرجع العباد".
 
قال عليُّ الأكبر عليه السلام: “إذاً لا نبالي بالموت!"2.
 
فهذه الإجابة أيضاً كاشفة عن عقيدة ودافع "طلب الشهادة" عند مولانا عليّ الأكبر عليه السلام.
 
وتعبير الإمام الحسين عليه السلام عن حقيقة أنّه إذا كان لا بدّ من الموت فإنّ الشهادة في سبيل الله هي أفضل الموت، في البيت الشعريّ الذي يقول فيه: 
 
"فإن تكن الأبدان للموت أنشأت                  فقتل امرءٍ بالسيف في الله أفضل"3
 
 
شاهد آخر على هذه الروحيّة القدسّية عند الإمام عليه السلام:
 
وشاهد عليها أيضاً جوابه عليه السلام للحرّ حينما التقاه في الطريق بجيش من ألف فارس، وحذّره من القتل! إذ استشهد عليه السلام بأبيات من الشعر، مطلعها:
 
"سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما"4

وورد في نقل آخر أنّه عليه السلام بعد استشهاده بهذه الأبيات، قال: "... أفبالموت تخوّفني؟! هيهات طاش سهمك، وخاب ظنّك، لستُ أخاف الموت، إنّ نفسي لأكبر
 
 
 

1- مثيرالأحزان، ص41.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص226.
3- بحار الأنوار، ج44، ص374.
4- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص358.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

138

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 من ذلك، وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟! مرحباً بالقتل في سبيل الله..."1.

 
ومن الشواهد الأخرى على هذه الروحيّة القدسّية والبصيرة النافذة عنده عليه السلام كلامه النورانيّ في شعاره الخالد: "لا أرى الموت إلّا سعادة".
 
إنّ الترحيب بالموت في سبيل العقيدة والأهداف الحقّة أمر ذو قيمة سامية وممدوح عند الأمم الأخرى أيضاً، إنّهم يقدّسون مثل هذا الموت ويمجّدونه، ويرونه خيراً وأفضل من حياة ذليلة خاضعة للظلم مقرونة بالعار والهوان.
 
إنّ الموت الأحمر في سبيل الله مرتبة من مراتب كمال الحياة، هي أرقى وأسمى من مرتبة الحياة الدنيا، والشهداء أحياء عند ربّهم خالدون.
 
لقد أقدم الإمام الحسين عليه السلام على الموت مرحّباً به عن وعي ويقين، وكان أنصاره مثله أيضاً طالبين للشهادة، وإذا دقّقنا النظر في أقوال أنصار الإمام عليه السلام وتصريحاتهم في ليلة عاشوراء لرأينا هذه الروحيّة القدسّية تموج فيها، فقد كان كلّ واحد منهم يقوم بين يدي الإمام عليه السلام تلك الليلة وفي محضر بقيّة الأنصار ليفصح عن عشقه للشهادة في سبيل الله دفاعاً عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن شوقه إلى مجاهدة الظالمين، فمع أنّ الإمام عليه السلام قد جعلهم في حلّ من بيعته، وكان قد أذن لهم بالانصراف والتخلّي عنه، لكنّ جوابهم على هذا الترخيص كان هكذا:
 
"الحمدُ لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك"2.
 
حتّى الشابّ اليافع فيهم أيضاً مثل القاسم عليه السلام كان يرى الموت مع الإمام عليه السلام أحلى من العسل، فهو يرحّب به ويتلهّف إليه!
 
وهكذا كانت معرفة الإمام عليه السلام بأصحابه وبروحيّاتهم العالية وبثباتهم الذي لا يتزعزع، فحينما أحسّت زينب الكبرى عليها السلام ليلة عاشوراء بالقلق على أخيها الحسين عليه السلام مخافة أن يسلمه أصحابه حين الوقعة أو يخذلوه، فسألت أخاها الإمام عليه السلام هل استخبر حالهم ونيّاتهم وعزائمهم؟ كان جواب الإمام عليه السلام: “أما 
 
 
 

1- أعيان الشيعة، ج1، ص581.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص 402.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

139

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 والله! لقد نهرتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه!"1.

 
وفي نفس تلك الليلة، كان أبو الفضل العبّاس قد جمع الأنصار من بني هاشم وخطب فيهم قائلاً: "إنّ هؤلاء- أعني الأصحاب- قوم غرباء والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله، فإذا كان الصباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للموت لئلّا يقول النّاس: قدّموا أصحابهم، فلّما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة"، فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أبي الفضل العبّاس عليه السلام وقالوا: "نحن على ما أنت عليه!"2.
 
هذه هي عقيدة أهل البيت عليه السلام... ففي إحدى مناجاة الإمام الحسين عليه السلام في نفس يوم عاشوراء، نقرأ هكذا:
 
"إلهي وسيّدي! وددتُ أن أُقتل وأُحيى سبعين ألف مرّة في طاعتك ومحبّتك، سيّما إذا كان في قتلي نصرة دينك وإحياء أمرك وحفظ ناموس شرعك..."3.
 
إنّ طُلّاب الشهادة لهم تفسير جديد لمعنى الموت والحياة، كالإمام الحسين عليه السلام حيث يقول: "موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ"4.
 
فهم على استعداد تامّ لا تردّد فيه لاختيار واستقبال شرف الشهادة في سبيل الحقّ مفضّلين القتل في عزّ على حياة أيّام معدودة في ذلّ وهوان، فالتعاليم الحسينيّة كانت قد علّمتهم هذه الحقيقة وغذّتهم بها: "فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! "5.
 
بهذه النظرة إلى الموت كان الإمام الحسين عليه السلام قد نادى أنصاره في صبيحة يوم عاشوراء- لمّا أقبلت عليهم سهام جيش عمر بن سعد كالمطر- قائلاً: "قوموا رحمكم
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ص407.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص409.
3- معالي السبطين، ج2، ص18.
4- مناقب آل أبي طالب، ج4، ص68.
5- معاني الأخبار، ص288.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

140

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الله إلى الموت الذي لا بدّ منه"1.

وهذا النداء في الواقع دعوة إلى الحياة، الحياة الخالدة في ظلّ الموت الأحمر! لقد أحيت ملحمة عاشوراء عقيدة وروحيّة "طلب الشهادة"، وحرص أئّمتنا عليهم السلام أيضاً على أن يزرعوا في قلوب شيعتهم ومواليهم هذه العقيدة وهذه الروحيّة بالاستلهام من عاشوراء.
 
وقد كان ولم يزل زوّار الحرم الحسينيّ وقبور شهداء الطفّ، وحضّار المجالس الحسينيّة يعبّرون عن عشقهم لهذه الشهادة، وعن أمنيّتهم في أن لو كانوا ممّن نصروا الحسين عليه السلام واستشهدوا بين يديه في جملة أنصاره، فهم يردّدون هذه الحسرة الخالدة: "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً"2.
 
وكان للإمام الخمينيّ (قدس سره)  الدور الأكبر في إحياء هذه الروحيّة في مجتمعنا الثوريّ، وفي نشر التعاليم الحسينيّة في أوساط الشباب وتربيتهم عليها، نرى هذه الحقيقة واضحة في خطاباته (قدس سره)  وفي بياناته المفعمة بتلك الروح الحسينيّة والأنفاس العاشورائيّة، وهذه الخطب والبيانات تشكّل في مجموعها كتاباً مفصّلاً، لا يسعنا في معرض الإشارة إليها إلّا أن ننتقي منها نماذج على سبيل المثال لا الحصر:
 
"إنّ الموت الأحمر أفضل بمراتب كثيرة من الحياة السوداء، ونحن اليوم في انتظار الشهادة، قد تهيّأنا لها حتّى يقف غداً أبناؤُنا شامخي الرؤوس في مواجهة الكفر العالميّ"3.
 
"أنا قد أعددت دمي وروحي رخيصين من أجل أداء واجب الحقّ وفريضة الدفاع عن المسلمين، وإنّي في انتظار الفوز العظيم باستشهادي"4.
 
"خطّ الشهادة الأحمر خطّ آل محمّد وعليّ، وهذا الفخر ورثته عن أهل بيت النبوّة والولاية الذّريّة الطيّبة لأولئك العظماء وأتباع خطّهم"5.
 
 
 

1- البحار، ج45، ص12.
2- البحار، ج44، ص286.
3- صحيفة نور، ج14، ص266.
4- نفس المصدر، ج20، ص113.
5- صحيفة نور، ج15، ص154.
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

 


141

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 "بسبب هذا الحافز يعانق جميع الأولياء الشهادة في سبيل الله ويرون الموت الأحمر أحلى من العسل، ويرتشف الشباب في الجبهات جرعة منه فينتشون"1.

 
 
 

1- نفس المصدر، ج21، ص198.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

142

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 الدنيا منام والآخرة هي اليقظة

 
كما أنّ الدنيا في الحقيقة ليست سوى رؤيا منام، وأنّ عالم اليقظة هو عالم الآخرة، كذلك فإنّ أكثر النّاس في هذه الدنيا نيام، فإذا ماتوا انتبهوا!

ومعيار السعادة والفلاح في الآخرة حيث الحياة الواقعيّة الحقّة، وليس في الدنيا التي هي أشبه ما تكون برؤيا المنام.
 
يقول الإمام الحسين عليه السلام: “إنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيُّ من شقي فيها"1.
 
وعلى أساس هذه النظرة فإنّ من يتعلّق قلبه بسعة الآخرة يرى الدنيا ضيّقة محدودة وخانقة، ويرى الموت جسراً يعبر به من مضائق الدنيا إلى رحاب الآخرة، ويسعى بكلّ جهده وطاقته للنجاح والموفقيّة في مرحلة ما بعد الموت، مرحلة الحياة الحقّة واليقظة الدائمة.
 
يقول الإمام الحسين عليه السلام وهو يحثّ أصحابه على الصبر والصمود يوم عاشوراء: "صبراً بني الكرام! فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص398.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

143

بلاغات الحياة الحقيقيّة

 جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبتُ ولا كُذِبت"1.

 
إن الذين لا يعرفون الآخرة ولا يرونها يكون من أصعب الأمور عليهم الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، أمّا إذا كان الإنسان من أهل الإيمان والبصيرة، وكان يشاهد الآخرة في نفس هذه الدنيا، فإنّ هذه الرؤية الإيمانيّة الشهوديّة تُهوِّنُ عليه بل تحبّب إليه الانتقال إلى الآخرة، إذ يتغلّب الشوق إلى الآخرة على الركون إلى الدنيا.
 
إنّ نوع نظرة الإنسان إلى الدنيا والآخرة وإلى الارتباط بينهما له تأثير كبير وأساس في تحديد نوع عمل الإنسان.
 
يقول الإمام الحسين عليه السلام في الرسالة التي بعث بها من كربلاء إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة وبني هاشم: "... أمّا بعدُ، فكأنّ الدنيا لم تكن! وكأنّ الآخرة لم تزل! والسلام". إنّ معرفة بالدنيا والآخرة كهذه المعرفة التي تمتدّ فيها أنوار تجليّات الآخرة لتغمر حتّى هذه الدنيا، هي السبب الذي جعل الدنيا في نظر الإمام عليه السلام ليست بدار قرار، فلا يصحُّ الركون إليها والاطمئنان بها، فكان عليه السلام رغبة في الارتحال عنها يعدُّ العمر لحظة شوقٍ إلى دار الخلود والنعيم، دار لقاء الله تعالى.



1- معاني الأخبار، ص288 و289.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

144

البلاغات العرفانيّة

 إيضاح


إنّ الوصول إلى لبّ لباب منهج الأنبياء عليهم السلام لا يتمّ إلّا بمعرفة سامية وبروح طاهرة وحبّ عظيم لخالق الوجود، "حبّ الله" هو الشيء الذي له أكبر وأسمى شأن وقيمة في مدرسة الوحي، وهذا الحبّ إنّما يستمدُّ قوّته وعظمته من قوّة وعظمة معرفة العبد بالله تبارك وتعالى، فالعبد العارف بالله عزَّ وجلَّ، يفنى فيه، وتصير محبّة ذلك المحبوب الأزليّ الأبديّ سلطان إقليم وجوده، فالله هو ربّان سفينة وجود وحياة ذلك العارف، ولا يملك هذا العبد على أساس معرفته إلّا أن يمتثل ويطيع أمر مولاه حبّاً وشوقاً.

إنّ البعد العرفانيّ للدين يتجلّى في العلاقة والمحبّة الخاصّة بين العبد وخالقه، والتي من نتائجها: "الصبر" و"الرضا" و"التسليم" و"الشوق" و"الإخلاص" و"اليقين" و"اطمئنان النفس" و"القرب من الله"، وغيرها من أمثال هذه المراتب المقدّسة. وفي ظلّ هذا التجلّي الإلهيّ لا يرى العبد نفسه، بل لا يرى ولا يعرف إلّا "الله"، ولا يطلب إلّا "مرضاته".

إنّ لعاشوراء- سوى بُعدها الملحمي، وبُعد مقاومة ومواجهة الظلم، وبُعد القيام لإقامة العدل والقسط، وأبعادها الأخرى- بُعدها العرفانيّ أيضاً، فعاشوراء كانت ولا تزال تعلّم الأجيال أسمى دروس العرفان الخالص. وأنّى يمكن المزج بين الحماسة والعرفان لو لم تكن كربلاء والمشاهد المستلهمة من ملحمة عاشوراء؟

إنّ بعض المؤلّفين وكتّاب المقاتل، أو الشعراء الذين نظموا ملحمة عاشوراء شعراً كما تناولوا وقائع عاشوراء تأريخاً وتحليلاً، نظروا كذلك وتأمّلوا في البعد العرفانيّ لهذه الملحمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

145

البلاغات العرفانيّة

 إنّ بلاغ عاشوراء العرفانيّ يرسم ويوضّح أيضاً طريقة السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى المطابقة ل-"خطّ الأنبياء والأئمّة عليهم السلام "، كما يفضح بطلان خطّ العرفان الصوفيّ المصطَنع والمعتزل لميدان الصراع بين الحقّ والباطل وميدان العمل بالتكليف الاجتماعيّ. 

 

 

 

 

 

 

 

164


146

البلاغات العرفانيّة

 حبّ الله تعالى

من أسمى وأعذب حالات الروح الإنسانيّة حبّها للكمال المطلق والمعبود الحقيقيّ وهو الله تبارك وتعالى، والقادة الرّبانيّون من الرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام يتمتّعون بأعلى درجات هذا الحبّ المقدّس، وإنَّ منحى حياتهم وشهادتهم ناطقٌ بهذه الحقيقة وشاهد عليها أيضاً. إنّ أهل هذا الحبّ المقدّس لا يرون لأنفسهم تعيّناً وجوديّاً، بل هم دائماً في انتظار لحظة التحرّر والخلاص من قفص البدن وسجن التراب من أجل الالتحاق بالله تبارك وتعالى، حبٌّ كهذا يتبعه "فناءٌ في الله" أيضاً، وهذا الفناء وهذه الجذبة هما السبب في أنّ العارف الواصل لا يحسب لشيء غير ذات الله تبارك وتعالى وغير رضاه حساباً أبداً، ويتجاوز بالإعراض عن كلّ ما يكون مانعاً لوصال المحبوب. وفضلاً عن أنّ أحد مظاهر هذا الحبّ العرفانيّ هو أنّ العارف يرى كلّ شيء لله ومن أجل الله، فإنّ التضحية بالجسم من أجل معراج الروح إلى الله تعالى هو مظهر آخر من مظاهر هذا الحبّ. وممّا ينسب إلى الإمام الحسين عليه السلام من الشعر، أنّه قال هذين البيتين وهو صريع مطروح على أرض كربلاء:

تركتُ الخلق طُرّاً في هواكا               وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إرباً                لما مال الفؤاد إلى سواكا

ومن ثمرات هذا الحبّ وهذه المجذوبيّة إلى الله سبحانه أيضاً وصول العارف إلى مقام التسليم والرضا، إنّ ازدياد إشراق نورانيّة وجه الإمام الحسين عليه السلام يوم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

147

البلاغات العرفانيّة

 عاشوراء كلّما ازداد قرباً من لحظة استشهاده علامة أخرى من علائم هذا الحبّ الخالد، كما أنّ استعجال أنصار الإمام عليه السلام ليلة عاشوراء قدوم الصباح حتّى يجالدوا الأعداء في ميدان القتال كاشف عن شوق الأنصار (قدّس سرّهم) إلى لقاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جنّات النعيم، ذلك الشوق الذي هيمن على قلوبهم إلى درجة نفاد صبرهم في انتظار الصباح القادم بعرائس الشهادة!

 
كانت ملحمة عاشوراء بكلّ تفاصيلها، وبكلّ مشاهد وميادين بطولات أنصاره وأبنائه وأهل بيته عليه السلام مظهراً من مظاهر هذه الجذبة المعنوّية وهذا الحبّ الخالد، وكانت شهادة كلّ من الأصحاب والأهل عند الإمام عليه السلام "هديّة" يتقرّب بها إلى المحبوب عزَّ وجلَّ ويحتسبها عنده من أجل تحقيق رضاه والوصول إلى قربه.
 
ولقد تجلّى هذا المشرب العرفانيّ والحبّ الإلهيّ أيضاً في سلوك المجاهدين، حيث كان جند الإسلام العارفون وأصحاب القلوب المتيّمة بالحبّ الإلهيّ قد قطعوا في ليلة واحدة طريق السير والسلوك الذي قد يقطعه غيرهم بالتعبّد والمجاهدة في مائة عام! وبتعبير الإمام الخمينيّ  (قدس سره)  فإنّ طعم الشهادة في ذائقة أولياء الله أحلى من العسل، وكان  (قدس سره)  يعتقد أنّ المجاهدين قد ارتشفوا جرعة من ذلك الشراب الطهور- شراب المعرفة والعشق- فانتشوا1، وكان يعتقد أنّ الشهداء عشّاق كانت أجنحتهم هفهافة "فعرجوا معراج الدم على جياد الشرف والعزّة، ففازوا بالشهود والحضور بين يدي عظمة الحقّ تبارك وتعالى، وفي مقام جمع الجمع !"2.
 
وفي صدد الجذبات الروحانيّة التي لا يمكن وصفها عند عشّاق الشهادة من المجاهدين، يقول (قدس) بقلمه وبيانه الرشيق: "... لكن بأيّ قلم، وبأيّ فنّ وبيان يمكن تصوير ذلك البعد الإلهيّ العرفانيّ، وذلك الظهور المعنويّ الربّانيّ الذي يأخذ بأعنّة الأرواح إليه، وتلك القلوب التي ذابت في التجليّات الإلهيّة؟"3.
 
 
 

1- راجع: صحيفة نور، ج21، ص203.
2- نفس المصدر، ج20، ص59.
3- نفس المصدر، ج18، ص230. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

148

البلاغات العرفانيّة

 البلاء والابتلاء


البلاء هو العناء والألم والمصاعب والمشاغل المرهقة والمصائب التي تواجه الإنسان في الحياة وفي سبيل العقيدة. والابتلاء هو الوقوع في هذه المحن والآلام، وثمرة ذلك نوع من اختبار الخلوص وطهارة القلب من النوايا غير السليمة والدوافع غير الخالصة لله تعالى.

وعدا مفهوم الألم والعناء والبلوى، التي ينبغي الاستعاذة بالله تعالى منها، وأن يسأل الله العافية منها، وعدا معنى الاختبار والامتحان الذي يُشخّص به مستوى إيمان وانقياد وطاعة العباد، هناك أيضاً مفهوم عرفانيّ أعمق لهذه الكلمة، وهو حبّ الألم والعناء والمصاعب في سبيل مرضاة الله تعالى، وتحمّل المحن والشدائد عن عشق من أجل الفوز بالقرب الإلهيّ.

وبلاء كهذا من قبل الله تبارك وتعالى هو لطفٌ بعباده، وتحمّل هذا البلاء علامة حبّ العبد لربّه وعشقه إيّاه، ودليل صدق إيمانه بالله سبحانه، وحالٌ كهذه قريبة من مفهوم "الرضا" و"التسليم" في البعد العرفانيّ.

وفي روايات كثيرة ورد أنّ الله تعالى يخصّ أحبّاءه بالبلاء، وعلى أساس هذه النظرة، فكلّما اقترب العبد من ربّه أكثر كلّما اشتدّ به البلاء.

ومن النّاس من لا يُطيق البلاء ولا يتحمّله لأنّه يعبد الله على حرف! أي يعبد الله ما وافقت هذه العبادة مصالحه الدنيويّة وأهواءه النفسيّة، فإنّ أصابه خيرٌ اطمأنّ به، وإن محصّ بالبلاء انقلب على وجهه فخسر الدنيا والآخرة! يقول الإمام الحسين عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

149

البلاغات العرفانيّة

 مشيراً إلى أمثال هؤلاء:

 
"النّاس عبيد الدنيا، والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون"1 !
 
أمّا المؤمنون العارفون بالله تعالى فهم ليسوا لا يهربون من البلاء أو لا يتذمّرون منه وحسب، بل يرونه علامة لطف الله بهم، وسبباً لتطهير أرواحهم وقلوبهم وتصفية أعمالهم، ولفضيلته وعظيم ثوابه تراهم يرحّبون به2.
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء"3 وورد في الروايات أنّ هكذا بلاءات هي إمّا هدية من قبل الله تعالى أو علوّ درجة عند الله تعالى لعبده المبتلى، وتتناسب شدّة الابتلاء تناسباً طرديّاً مع قوّة الإيمان، ومن هنا نقرأ أنّ الله تبارك وتعالى قد ابتلى الإمام أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام ببلاءات ومحن خاصّة لم يبتل بها أحداً غيره من أوليائه4، كذلك فإنّ الصبر على البلاء له أجر الشهيد5.
 
وفي ضوء هذه النظرة والعقيدة، نجد سيّد الشهداء عليه السلام في آخر لحظات عمره الشريف يوم عاشوراء، وقد اشتدّ به البلاء والابتلاء، يناجي محبوبه تبارك وتعالى في آخر مناجاة معه قبل استشهاده، فيصفه بجميل الصفات، ويحمده بأفضل محامده فيذكر منها سبوغ نعمائه وحسن بلائه، قائلاً: "... سابغ النعمة، حسن البلاء..."6.
 
ونجده عليه السلام كذلك في يوم عاشوراء يوصي أهل بيته في آخر وداع له معهم قائلاً: "استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم الله عن هذه البليّة أنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم
 
 


1- تحف العقول، ص245.
2- راجع: بحار الأنوار، ج67، ص196، باب: «شدّة ابتلاء المؤمن، وعلّته، وفضل البلاء».
3- سفينة البحار، ج1، ص392 (الطبعة الجديدة).
4- سفينة البحار، ج1، ص395.
5- بحار الأنوار، ج49، ص51.
6- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص357. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

150

البلاغات العرفانيّة

 ما ينقص قدركم"1.

 
إنّ أصحاب الهمم العالية الذائبين في حبّ الله تبارك وتعالى يستقبلون البلاء الإلهيّ مستبشرين مطمئنّين، محتسبين ما يُبتلَون به عند الله عزَّ وجلَّ، منتظرين حسن جزائه ومثوبته على ذلك.
 
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص491.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

151

البلاغات العرفانيّة

 ذكر الله تعالى

 
ذكر الله تبارك وتعالى في جميع مراتبه ومراحله أمرٌ منشود ومحمود، وقد أكّد عليه الإسلام كثيراً، وقد صرّحت آيات قرآنيّة كثيرة بأهميّة هذا الأمر، منها مثلاً: (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا1) و(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا)2.
 
وذكر الله في مرتبة عرفانيّة عالية هو أن يكون الإنسان دائماً في ذكر الله تبارك وتعالى وبلا انقطاع، حيث يرى الله سبحانه حاضره وناظره في كلّ آنٍ، فلا يغفل عن هذا الذكر حتّى في أخصّ الحالات الخاصّة، ولا ينسى ربوبيّة الله تعالى وولايته سواء في الشدائد والمصائب والضرّاء أو في النعماء والسرّاء.
 
إنّ استمرار اتّقاد مصباح "ذكر الله" في القلب كما يكون سبباً في الحؤول دون ارتكاب الذنب، يزيد كذلك في مقاومة وثبات الإنسان إزاء المصاعب والمصائب، ويمنع أيضاً من وقوع الإنسان في فخّ الغرور والتباهي، ويمّهد أيضاً للارتقاء الروحيّ ولتصفية الأخلاق من الرذائل، وتطهير القلب من كلّ ما سوى الله.
 
وكما للذكر مرتبة لسانيّة، كذلك له "مرتبة قلبيّة"، والذكر الكامل هو الذي يقترن فيه الذكر اللسانيّ مع الذكر القلبيّ، فكما ينطق اللسان بأسماء الله تعالى وصفاته، وبحمده وتسبيحه، فيجري ذكر اسم ذلك المحبوب الخالد على لسان الذاكر على الدوام، ينبغي كذلك أن يكون قلبه في نفس الوقت متوجّهاً للذات الأحديّة 
 
 
 
 

1- الأحزاب، 41.
2- الجمعة، 10. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

152

البلاغات العرفانيّة

 لا يغفل عنها، مستحضراً معاني ما يجري على لسانه من الذكر، معتقداً أنّ الله تعالى هو المعتمد وهو الملجأ، فلا حول ولا قوّة إلّا به، وهو السميع البصير بكلّ قول وعمل وكلّ شيء.

 
وهذه الصلاة إنّما يعنونها القرآن الكريم ب-"ذكر الله"، ويجعل الغاية منها "ذكر الله": (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)1 لاشتمالها على الحمد والشكر والتسبيح، ولأنّها أيضاً حاوية على التوجّه القلبيّ إلى المعبود سبحانه. ولقد كانت عاشوراء مظهراً جليّاً ل-"ذكر الله"، نشاهد ذلك بوضوح في أقوال وأفعال وحالات الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره (قدّس سرّهم)، وهذه الصفة التعبديّة والملكة الروحيّة لا تتجلّى إلّا فيمن تربّى في مدرسة القرآن، حيث لا يغفل أبداً عن ذكر الله في أيّ حال من الأحوال.
كان سيّد الشهداء عليه السلام في أشدّ الحالات المضطربة والوقائع المتوتّرة يعيش الهدوء التامّ والسكينة الغامرة ب-"ذكر الله"، وكان عليه السلام يشعّ بهذا الاطمئنان القلبيّ على أنصاره وأهل بيته، لقد كانت خطبه عليه السلام عامرة بذكر الله وبأسمائه المباركة، وكانت آلام استشهاد كلّ من أنصاره، من أصحابه ومن أهل بيته، ممّهدة عنده لذكر الله تعالى.
 
نقرأ بتأمّل هذه الأمثلة من سيرته في ميدان كربلاء:
 
كان عليه السلام يفتتح كلّ خطبة من خطبه في أصحابه بالحمد لله وبالثناء عليه، كما في قوله عليه السلام: “أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء"2. وفي صبيحة عاشوراء، حين أحاطت به وبأنصاره جيوش الأعداء، نراه يلجأ إلى الله تعالى بذكره في ذلك الدعاء الرائع الذي يفتتحه بقوله: "اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة... "3.
 
ولمّا طلب الإمام عليه السلام من الأعداء عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى يوم العاشر فأمهلوه، أحيا عليه السلام وأنصاره الزُّهاد ليلة عاشوراء إلى الصباح بالصلاة وتلاوة
 
 
 

1- طه، 14.
2- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص395.
3- نفس المصدر، ص414. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

153

البلاغات العرفانيّة

 القرآن والدعاء والذكر.

 
في يوم عاشوراء، وفي أشدّ المصائب المذهلة التي لا تُطاق، لم يكن الإمام الحسين عليه السلام غافلاً حتّى لحظة واحدة عن ذكر الله تعالى، وكأنّه في أوج تلك البلايا كان يرى نفسه في غمار نظرة من ربّه ملؤها الحنان والرحمة، فكان لسانه المقدّس لهجاً على الدوام بذكر المحبوب جلّ وعلا، واصلاً قطرة وجوده بالبحر الإلهيّ، وما يروى من أنّ الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء كان على الدوام وبلا انقطاع يذكر الله تعالى، ويقول: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّي العظيم"1، شاهد على هذا الارتباط القلبيّ بين المحبّ والمحبوب.
 
كان عليه السلام يستمدّ الطاقة والقدرة على تحمّل القبول بأقسى وأفجع وأصعب المصائب التي لا تطاق ولا تحتمل من معين "ذكر الله" منبع الطاقة والصبر، فحينما رُمي طفله الرضيع بسهمٍ قاتلٍ ذبحه وهو على يديه فمضى شهيداً قال عليه السلام: “هوّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله"2!
 
وتكشف لنا أيضاً مناجاته الأخيرة مع معبوده تبارك وتعالى في آخر لحظات حياته الشريفة- وهي مناجاة المحبّين- عن دوام هذه الحالات الروحانيّة والعرفانيّة عنده عليه السلام، ولقد نقلت لنا المصادر التأريخيّة عنه عليه السلام في آخر لحظات حياته نجاوى متعدّدة وبتعابير مختلفة، لكنّ القدر المشترك بينها أنّه عليه السلام حينما استشهد جميع أنصاره قاتل الأعداء قتال يائسٍ من الحياة، فلمّا وقع على الأرض صريعاً مثخناً بالجراح، توجّه إلى الله عزَّ وجلَّ بتلك المناجاة التي افتتحها بذكر عظمة الله تبارك وتعالى وبحمده، ثمّ أعلن فيها عن تسليمه لقضاء الله ورضاه به، وهي المناجاة التي بدايتها: "اللهمّ متعالي المكان، عظيم الجبروت..."3.
 
إنّ المزج بين الحماسة والعرفان والجهاد وذكر الله هو أحد دروس عاشوراء، وهكذا أيضاً كان الذين تربّوا على يد إمام عاشوراء عليه السلام. وقد كان مسلم بن عقيل عليه السلام أحد هذه النماذج الكريمة، فحينما ألقوا القبض عليه وصعدوا به إلى أعلى
 
 
 


1- نفس المصدر، ص485.
2- نفس المصدر، ص477.
3- نفس المصدر، ص510 ـ 519. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

154

البلاغات العرفانيّة

 قصر الإمارة ليقتلوه، كان لسانه الشريف لهجاً بذكر الله تعالى وكذلك قلبه الطاهر، كان يقول: "الحمد لله على كلّ حال"، وكان على الدوام يكبّر الله تعالى، ويسأله المغفرة، ويصلّي على رسل الله وملائكته1.

 
وهكذا كان هاني بن عروة (رضي الله عنه)، إذ لمّا مضوا به ليقتلوه بعد مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام، كان لسانه وقلبه مشغولين بذكر الله تعالى: "إلى الله المعاد، اللهمّ إلى رحمتك ورضوانك"2.
 
إنّ "الاسترجاع" أحد شواخص الذكر، يعني أنّ الإنسان حينما يواجه المصائب والدواهي يرى نفسه من الله، ولله، وراجعاً إلى الله، وبقوله: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" يعلن عن خطّ هذا السير "منه تبارك وتعالى وإليه"، وهذه صفة من صفات المؤمنين الصابرين الذين يزفّ الله إليهم البشرى بقوله: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)3.
 
حينما بلغ الإمام سيّد الشهداء عليه السلام وهو في الطريق إلى العراق خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة في الكوفة قال عليه السلام: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمه الله"4، وفي غير هذه المناسبة أيضاً كان عليه السلام في طريقه إلى كربلاء كثيراً ما يذكر الله تعالى بالاسترجاع.
 
ومن الجانب الآخر فإنّ الغفلة عن ذكر الله "نسيان الله سبحانه" عامل مهّم في جرّ الإنسان إلى اجتراح الذنوب والمفاسد والظلم.

لمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام تألّب جيش الكوفة على قتاله، وإصرارهم على قتله، علّل ذلك باستحواذ الشيطان عليهم حيث أنساهم ذكر الله تبارك وتعالى، فممّا وبخّهم عليه السلام به في إحدى خطبه صبيحة يوم عاشوراء قوله:
"لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم"5، وهذا مقتبس من قوله
 
 
 

1- راجع: وقعة الطفّ، ص139.
2- وقعة الطفّ، ص 142.
3- البقرة، الآيتان: 155 ـ 156.
4- الإرشاد للشيخ المفيد، ص74.
5- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص416.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

155

البلاغات العرفانيّة

 تعالى في القرآن الكريم في ذكره لإحدى صفات حزب الشيطان: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ)1.

 
وهكذا فإنّ "ذكر الله" بناءٌ للأخلاق الحميدة، وسمّو للروح الإنسانيّة، وهو أيضاً سدٌّ يمنع تسلّل الشيطان إلى قلعة القلب، ويحول دون تغلّب هوى النفس على إرادة ونيّة وعمل الإنسان.
 
 
 

1- المجادلة، 19.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

156

البلاغات العرفانيّة

 التضحية في سبيل الله

 
لا شيء أسمى عند الموحّدين من استثمار نعمة الوجود في طريق اكتساب مرضاة الله تعالى، وبذل هذه النعمة النفيسة والتضحية بها في سبيل الله، إنّ الاستعداد للتضحية علامة صدق الإنسان في حبّه لله تعالى، والله هو المشتري للأموال والأنفس، ومعطي الجنّة ثمناً لها.
 
وأولياء الله تعالى لا يرون لأنفسهم أيّ شأن أو قيمة قبال الربّ عزَّ وجلَّ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً من التضحية بالمال والنفس وحتّى بالشرف وماء الوجه إذا احتاج دين الله إلى ذلك.
 
إنّ لهذا الدين من العزّة والعظمة والقداسة ما يوجب أن يُضحّى من أجل بقائه والمحافظة عليه بأشرف وأعزّ وأطهر النّاس، حتّى وإنْ استدعى ذلك أن يكون قربان وأضحية الدفاع عنه واحداً أو أكثر من حجج الله على خلقه، وما هذا الفداء في نظر أهل هذا الدّين إلّا أداء للحقّ الإلهيّ.
 
في العصر الذي كان دين الله تعالى معرّضاً للزوال، حيث كانت جهالة الأمّة وغفلتها الأرضيّة الممهّدة لاضمحلال هذا الدين، نهض الإمام الحسين عليه السلام ليكون القربان الإلهيّ من أجل إيقاظ الأمّة واستنقاذها، نقرأ في زيارة الأربعين: "وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"1.
 
نقرأ أيضاً في زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام، هذا الشهيد العظيم من شهداء نهضة
 
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، ص468.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

157

البلاغات العرفانيّة

 الإمام الحسين عليه السلام: “... وأشهد أنّك وفيت بعهد الله، وبذلت نفسك في نصرة حجّة الله وابن حجّته حتّى أتاك اليقين..."1.

 

 
كما نقرأ أيضاً في زيارة هاني بن عروة (رضي الله عنه)، وهو أحد الشهداء الأفذاذ في نهضة الحسين عليه السلام: “... وأشهد أنّك قد بلغت درجة الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء بما نصحت لله ولرسوله مجتهداً، وبذلت نفسك في ذات الله ومرضاته..."2.
 
ولقد ضحّى أيضاً أنصار الإمام الآخرون أجمعهم بأنفسهم فداءً للدين، وقرابين في سبيل الله من أجل إحياء الإسلام، وتخلّوا عن الحياة الدنيا من أجل الحقّ فصاروا خالدين.
 
إنّ حفظ دين الله يتطلّب الأضاحي والقرابين، ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره من أهل بيته وأصحابه قرابين أهل البيت عليهم السلام في هذا السبيل.
 
لمّا جاءت مولاتنا زينب عليها السلام إلى مصرع الحسين عليه السلام، ووقفت على جسده المقطّع، وضعت يديها تحته فرفعته وقالت: "اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان"3!
 
وقد ذكر الإمام الحسين عليه السلام في تعابير أخرى أيضاً ب-"الذبيح"، ذلك لأنّه الإسماعيل الذي كان قد استشهد في منى الحقّ وضمن بمقتله حياة الدين.
 
إنّ التضحية وتقديم القرابين في سبيل العقيدة عند الأمم الأخرى أيضاً رمز للعزّة والانتصار، وبلاغ عاشوراء في هذا الأمر: أنّ الأمّة التي سارت ولا تزال تسير على طريق "الحريّة" لا بدّ أن تقدّم القرابين الكثيرة على أعتاب الحريّة، وإذا لم يكن مجتمعٌ ما حاضراً ومستعدّاً للتضحية بأعزّائه في سبيل ما هو الأعزّ (المبدأ والأهداف والحريّة والاستقلال) فإنَّ هذا المجتمع لن يرقى من مهاوي الذلّة إلى ذروة العزّة.ومن رفعة شأن القربان ودرجة عظمته وسمّو منزلته وعلو مكانته يمكن أن يستنتج أنَّ الشيء الذي مضى ذلك القربان فداءً له هو أرفع شأناً من ذلك القربان وأعظم
 
 
 

1- نفس المصدر، ص402.
2- نفس المصدر، ص403.
3- حياة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ، ج2، ص301.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

158

البلاغات العرفانيّة

 وأسمى منزلة وأعلا مكانة.

ولقد مضى سيّد الشهداء عليه السلام وأنصاره العظماء الأفذاذ أضاحي وقرابين في سبيل الدين والحقّ، إذن فكون هذا الدين أكبر أهميّة وأعظم شأناً من هؤلاء العظماء القرابين أمرٌ واضح لا إبهام فيه.
 
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) في صدد أثر ودور تضحية الإمام الحسين عليه السلام من أجل إحياء دين الله تعالى: "فجّر سيّد الشهداء عليه السلام ثورة عاشوراء، وبتضحيته بدمه ودماء أعزّته أنقذ الإسلام والعدالة، وأدان حكم بني أميّة، وهدم قواعده وأساساته..."1.
 
"إنّ الإسلام عزيز، إلى درجة أنّ أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحّوا بأنفسهم فداءً للإسلام!"2.
 
"لقد ضحّى الإمام الحسين عليه السلام بنفسه وبجميع أبنائه وذويه، وبعد شهادته صار الإسلام أقوى من ذي قبل..."3.
 
إنّ تصريحات إمام الأمّة (رضوان الله عليه) كثيرة في موضوع فداء وتضحية سيّد الشهداء في سبيل الله، كان (رضوان الله عليه) يعتقد أنّ روحيّة طلب الشهادة والاستعداد للتضحية التي كانت قد انتشرت في أوساط جند الإسلام في إيران الإسلاميّة إنّما هي ومضة ونفحة من نفس تلك الروح العاشورائيّة، يقول (قدس سره) :
 
"أُمّتنا الآن قد تعوّدت على الشهادة والفداء، فهي لا تخاف من أيّ عدوّ، ولا من أيّ قوّة، ولا من أيّ مؤامرة، إنّما يخاف من الشهادة من ليست الشهادة مذهبه..."4.
 
وإمام الأمّة نفسه أيضاً كان قد تعلّم من ملحمة كربلاء روحيّة طلب الشهادة والاستعداد للتضحية من أجل الدين، إنّه يقول:
 
"لقد أعددتُ دمي وروحي رخيصين من أجل أداء واجب الحقّ وفريضة الدفاع عن
 
 
 

1- صحيفة نور، ج4، ص100.
2- نفس المصدر، ج10، ص30.
3- نفس المصدر، ج15، ص114.
4- نفس المصدر، ج13، ص65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

159

البلاغات العرفانيّة

 المسلمين، وإنّي في انتظار فوزي العظيم باستشهادي"1.

 
"إنّي آملُ أن أفوز ب-"إحدى الحسنيين"، إمّا تحقيق الهدف وإقامة العدل والحقّ، أو الشهادة في سبيل ما هو الحقّ"2.
 
 
 

1- نفس المصدر، ج20، ص113.
2- نفس المصدر، ج4، ص279.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

160

البلاغات العرفانيّة

 الرضا والتسليم

 
الرضا بقضاء الله من مراتب العرفان والتوحيد السامية، وهو مؤشّرٌ دالٌّ على ذروة حبّ العبد وعشقه لله تبارك وتعالى وفنائه فيه، كما أنّه علامة إخلاص العبد وكماله وتنزّهه عن كلّ دافع سوى دافع مرضاة المولى وتحقيق إرادته.
 
لقد كان أهل البيت عليهم السلام حيال إرادة الله تبارك وتعالى وإزاء قدره وقضائه راضين تمام الرضا، ويرون هذا كمالاً لهم، واستناداً إلى هذا "الرضا" كانوا يتحمّلون بصبر وحبّ جميع الصعوبات والبلايا والمصائب، وعلى صعيد القضايا الاجتماعيّة كانوا لا يرجّحون أبداً مرضاة النّاس على مرضاة الله، فما كان تكليفاً إلهيّاً عملوا به سواء رضي النّاس أم سخطوا، إذ إنّ المهمّ عندهم هو رضا الله تبارك وتعالى حتّى وإن انتهى ذلك بهم إلى غضب النّاس.
 
وهذه النكتة العرفانيّة قد تعرّضت لها التعاليم القرآنيّة والأحاديث كثيراً، والإمام الحسين عليه السلام الذي كان قد سار على طريق الشهادة ابتغاء مرضاة الله، يرسم صورة حيّة لانتكاس روحيّة أهل الكوفة قائلاً: "لا أفلح قومٌ آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق"1، ويوبّخ الإمام السجّاد عليه السلام خطيب الطاغية يزيد الذي كان في خطبته يمتدح يزيد ويذمّ آل عليّ عليه السلام، فيصرخ به قائلاً: "ويلك أيّها الخاطب! اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار" 36!
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص239، وفي البحار، ج44، ص383 وردت كلمة «المخلوق» بدلاً من كلمة «أنفسهم».
2- بحار الأنوار، ج45، ص137.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

161

البلاغات العرفانيّة

 والشيء الذي هو محلّ بحثنا ونظرنا هنا هو ذلك البعد العرفانيّ السامي لمفهوم "الرضا"، الذي هو ملاك عمل الموحّدين الحقيقيّين، والذي يعتبر من التجلّيات العرفانيّة لملحمة عاشوراء، لنقرأ نماذج من مقام "الرضا" في ثنايا تفاصيل النهضة الحسينيّة:

 
حينما التقى الإمام الحسين عليه السلام الفرزدق في أحد منازل الطريق من مكّة المكرّمة إلى الكوفة، واستعمله عن حال الكوفة فأخبره الفرزدق بحقيقة الحال، قال عليه السلام:
 
"صدقت، لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إنْ نزل القضاء بما نحبُّ ونرضى فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرته"1.
 
وكان شعار "رضا الله رضانا أهل البيت..."2 من كلماته النورانيّة عليه السلام في خطبته التي خطبها في مكّة المكرّمة لمّا عزم على الخروج منها إلى العراق.
وكان من دعائه عليه السلام في آخر لحظات حياته مناجياً ربّه: "... صبراً على قضائك يا ربّ لا إله سواك... صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له..."3.
 
وممّا أوصى به عليه السلام أخته زينب عليها السلام ليلة عاشوراء قوله: "يا أخُتاه! تعزّي بعزاء الله، وارضي بقضاء الله..."4.
 
ومن دعائه عليه السلام عند قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم قُبيل سفره من المدينة إلى مكّة: ".. وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلّا ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضىً"5.
 
ولقد تجلّت هذه المعرفة العالية والروحيّة السامية أيضاً في أنصار الإمام عليه السلام، هذا مسلم بن عقيل عليه السلام يخاطب الطاغية ابن زياد في محاورته الساخنة
 
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص336.
2- نفس المصدر، ص328.
3- نفس المصدر، ص510.
4- نفس المصدر، ص405.
5- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص287.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

162

البلاغات العرفانيّة

 معه قائلاً: "الحمدُ لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم"1.

 
ويقول سيّد الشهداء عليه السلام وهو في الطريق إلى كربلاء: "إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قُتلنا أم ظفرنا..."2.
 
إنّ رضا العبد عن الله، ورضا الله عن العبد ذروة هذا الكمال، حيث يرضى الطرفان عن بعضهما، وهذا من المقامات العرفانيّة العليا التي يصل إليها العبد السالك الصادق، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقام العالي في أكثر من موضع3، وقد أشارت متون الزيارات إلى أنّ شهداء النهضة الحسينيّة قد تسنّموا ذروة هذا المقام، ففي زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام مثلاً نقرأ:
 
"... أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في الله حقّ جهاده، وقُتلت على منهاج المجاهدين في سبيله حتّى لقيت الله عزَّ وجلَّ وهو عنك راضٍ..."4.
 
ونقرأ في زيارة هاني بن عروة (رضي الله عنه): ".. وأشهد أنّك قد بلغت درجة الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء بما نصحت لله ولرسوله مجتهداً وبذلت نفسك في ذات الله ومرضاته، فرحمك الله ورضي عنك..."5.

فالإنسان الكامل يصل في سيره إلى الله تبارك وتعالى مقاماً يكون فيه رضاه وسخطه رضا وسخط الله سبحانه، نقرأ في الزيارة المطلقة السادسة لسيّد الشهداء عليه السلام هذا الوصف: "يا من رضاه من رضا الرحمن، وسخطه من سخط الرحمن"6.
 
وهكذا كان أهل بيته عليهم السلام، فقد كانوا يرون الوقائع المرّة والمصائب الشدائد التي تعرّضوا لها في كربلاء أمراً "جميلاً"، فهم يحتسبون كلّ ذلك عند الله تعالى، راجين حسن ثوابه وجزيل إحسانه، نقرأ هذه الحقيقة في المحاورة الساخنة بين زينب الكبرى
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص139.
2- أعيان الشيعة، ج1، ص597.
3- راجع مثلاً قوله تعالى: قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المائدة، 119. 
4- مفاتيح الجنان، ص401 و402.
5- نفس المصدر، ص403.
6- نفس المصدر، ص426.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

163

البلاغات العرفانيّة

 عليها السلام وبين عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة في الكوفة، حيث كان فيما قال لها شامتاً ساخراً: "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟! " فردّت عليه قائلة: "ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمُّك يا ابن مرجانة!"1، فاستشاط اللعين غضباً من ردّها وجرأتها.

 
إنّ العمل من أجل مرضاة الله وبلوغ مرتبة "الرضا" رأسمال عظيم يجعل وجدان الإنسان دائماً على سكينة واطمئنان ورضا، وكذلك يبعث الأمل والحركة، ويخلق الدافع القويّ.
 
يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) : "إنّ من يتّبع الحقّ ويعمل من أجل مرضاة الله ينبغي أن لا يعبأ بما قيل أو يقال له، ينبغي أن ينظر إلى الله تعالى، ويعمل لله، وليقل النّاس ما شاءوا أن يقولوا..."2.
 
ويقول أيضاً في صدد تنامي القدرة الروحيّة على تحمّل الصعوبات والاستشهاد: "الأمّة التي ثارت من أجل مرضاة الحقّ تعالى، ونهضت من أجل مرضاة الحقّ تعالى، ونهضت من أجل القيم المعنويّة والإنسانيّة، ما خوفها من استشهاد أعزّائها وتضرّر أحبّائها وتحمّلها المشاكل؟! "3.
 
الإنسان "الفائز" هو الإنسان الذي توصله مساعيه في هذه الحياة الدنيا إلى "هدف الخلقة"، والفوز في الفكر الدينيّ هو أن يوفّق الإنسان من خلال الاستفادة من نعم الله ومن عمره في الحصول على أمله في الآخرة وهو السعادة الخالدة والجنّة حيث النعيم الدائم، فالفوز العظيم هو الوصول إلى السعادة الأخرويّة، يقول الإمام عليّ عليه السلام: “الآخرة فوز السعداء"4، وهو عليه السلام القائل حينما ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه المقدّس أوائل فجر يوم التاسع عشر من شهر رمضان: "فزتُ وربّ الكعبة"، ذلك لأنّ الشهادة عند أولياء الله أفضل وأشرف الفوز.
وكان الإمام الحسين عليه السلام يرى في نهضته وقيامه فوزه وفوز أنصاره العظيم
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص116.
2- صحيفة نور، ج19، ص142.
3- نفس المصدر، ص276.
4- غرر الحكم، ج1، ص183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

164

البلاغات العرفانيّة

 وسعادتهم الأبديّة، من هنا كان يتعجّل الوصول إلى هذا الهدف، فحينما التقى الطرماح في الطريق إلى الكوفة، وكان هذا الرجل يحاول جاهداً منع الإمام عليه السلام من الذهاب إلى الكوفة المضطربة جدّاً، كان ردّ الإمام عليه السلام: “إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أُخلفهم، فإنْ يدفع الله عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى وإنْ يكن ما لا بدّ منه ففوزٌ وشهادة إنْ شاء الله"1.

 
وممّا قاله عليه السلام في ليلة عاشوراء لأنصاره (قدّس سرّهم):
 
"... واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حلمُ، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها..."2.
 
وقول الإمام الحسين عليه السلام المعروف: "فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة" حاكٍ أيضاً عن نظرة الإمام عليه السلام إلى مفهوم السعادة وماهيّتها، حيث كان عليه السلام يرى تحقّقها في ظلّ الشهادة في سبيل الله.
 
هذه العقيدة وهذه الحقيقة تبعث في قلوب أهل الإيمان الشوق إلى الآخرة وإلى الجنّة، وتقلّل من علائقهم بالدنيا، فيحلّقون خفافاً كالطيور الهفهافة في شوقهم إلى الشهادة، فيتقدّمون بإقبال المتلهّفين إلى التضحية بأنفسهم فداءً للدين والقرآن ووليّ الله، وإنّ أفضل وأشرف من تقلّدوا وسام "الفائزون" بجدارة لا نظير لها هم شهداء كربلاء.
 
لمّا وقف الإمام الحسين عليه السلام على الحرّ بن يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) عندما صرع أثنى عليه ثناءً عاطراً خالداً، وامتدحه بأبيات من الشعر مجّد فيها إيثاره وصبره ومواساته، وكان منها هذا البيت: 
 
لقد فاز الأولى نصروا حسينا ً       وفازوا بالهداية والصلاح3
 
 
وفي متون زيارات أبي عبد الله الحسين عليه السلام وشهداء كربلاء كثيراً ما نقرأ عبارات تتحدّث عن فوزهم وبلوغهم أسمى أمنياتهم، ونقرأ أيضاً تمنّي الزائر ودعاءه في أن لو
 
 
 

1- مثير الأحزان، ص39.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص398.
3- ينابيع المودّة، ص414، وقد نسب بعضهم هذه الأبيات إلى عليّ بن الحسين عليه السلام .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

165

البلاغات العرفانيّة

 كان في ركابهم فقاتل معهم واستشهد بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام فنال الفوز العظيم الأبديّ.

 

 
نقرأ في زيارة الأربعين مثلاً: "اللّهمّ إنّي أشهد أنّه وليّك وابن وليّك وصفيّك وابن صفيّك، الفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة، وحبوته بالسعادة..."1 ونقرأ في زيارة أنصاره (قدّس سرّهم):
 
"فزتم والله فوزاً عظيماً، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً".
 
"أشهد أنّكم الشهداء والسعداء وأنّكم الفائزون في درجات العلى"2.
 
إنّ عقيدة الزائر في أنّ شهداء كربلاء القتلى المضرّجين بدمائهم شهداء وسعداء وفائزون تسري أيضاً إلى حياته هو، فتسمو نظرته إلى الفوز والسعادة حيث تترفّع عن الانحصار بالآمال الدنيويّة.
 
هذا الفهم الأعمق لمعنى السعادة ومعنى الفوز هو درسٌ من دروس عاشوراء ومن بلاغاتها إلى الجميع، ومؤدّاه أنّ الفلاح والفوز في ظلّ الجهاد والتضحية والاستشهاد في سبيل المذهب والولاية.
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، ص468.
2- نفس المصدر، ص440، زيارة الشهداء، وتلاحظ هذه التعابير في زيارات أخرى مثل زيارة يوم عرفة، والزيارة المطلقة...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

166

البلاغات العرفانيّة

 الإخلاص


إنّ جوهرة "الإخلاص" النادرة النفيسة بلاغ آخر من بلاغات عاشوراء العرفانيّة، الإخلاص في النيّة، والإخلاص في العمل والمشاركة في نهضة الإمام الحسين عليه السلام، الإخلاص في القتال في ميدان كربلاء، الإخلاص في محبّة شهداء كربلاء وفي محبّة زيارتهم، الإخلاص في إقامة العزاء، وفي البكاء وفي الرثاء والمديح، والإخلاص في حضور مجالس العزاء، و... كلّ ذلك من المظاهر التي ينبغي النظر والتأمّل فيها.

إنّ أهمّ عوامل وأسباب بقاء نهضة عاشوراء حيّة متجدّدة على مدى القرون والأعصار هو عامل جوهرة "الإخلاص" في هذه النهضة المقدّسة.

لقد وعد الله تبارك وتعالى عباده أن لا يُضيع عمل المخلصين، وأن يوفيهم أجورهم الدنيويّة والأخرويّة كاملة.
إنّ ميادين الجهاد والقتال كثيرة في التأريخ البشري عامّة وفي تأريخ الإسلام خاصّة، لكنّ السبب الذي خلّد بعض هذه الميادين هو الإخلاص في النيّة والعمل لله، أي الصبغة الإلهيّة التي تصبغ النيّة والعمل بلونها.

"صبغة الله" ذات اللون الذي لا يُمحى كانت ملفتة للانتباه والنظر في ملحمة عاشوراء.

لقد كشف الإمام الحسين عليه السلام في خطبته المفصّلة التي خطبها قبل خروجه من المدينة المنوّرة عن جوهرة "الإخلاص" هذه في حركته التي غايتها الإصلاح الدينيّ والاجتماعيّ قائلاً:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

 


167

البلاغات العرفانيّة

 "اللّهمّ إنك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لِنُري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك..."1.

 
ويقول عليه السلام أيضاً في تصريح آخر للتعريف بنهضته المقدّسة:
 
"... وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام..."2.
 
كان هذا في وصيّته التي كتبها لأخيه محمّد بن الحنفيّة قبل خروجه عليه السلام من المدينة لينفي بذلك عن حركته الثوريّة الدوافع الذاتيّة والدنيويّة.
 
ولأنّ دافع الإخلاص كان هو الذي خلق حركة عاشوراء، فإنّ أيّ سبب آخر لم يستطع أن يمنع الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره من مواصلة الطريق حتّى بلوغ الشهادة.
 
وفي هذه الحركة الخالصة فإنّ غير الخالصين كانوا قد تساقطوا عنها سواء في أوّل أمرها أو في أثناء الطريق إلى كربلاء، ليبقى الحاضرون ملحمة عاشوراء مع الحسين عليه السلام جميعاً نوعاً واحداً من الخالصين.
 
المخلصون في النيّة والمحبّة، منهم من خرج مع الإمام عليه السلام من المدينة، ومنهم من التحق به أثناء الطريق من المدينة إلى مكّة، ومنهم من التحق به في مكّة، وآخرون منهم كانوا قد التحقوا به في الطريق من مكّة إلى العراق، ومنهم من التحق به في كربلاء.
 
أمّا أولئك الذين كانت دوافعهم غير إلهيّة، فقد تخلّوا عن الإمام عليه السلام إمّا في بدء الحركة والنهضة فلم يلتحقوا به، أو رجعوا عنه أثناء الطريق، أولم يستجيبوا لدعوته إيّاهم دعوة خاصّة لنصرة آل الله متشبثّين بذرايع وأعذار واهية، فلم يفوزوا بتوفيق الاستشهاد بين يدي سيّد الشهداء عليه السلام.
 
لمّا وصل الركب الحسينيّ منزل "زبالة" بلغ الإمام عليه السلام مقتل عبد الله بن يقطر
 
 
 

1- تحف العقول، ص239.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص290 و291.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

168

البلاغات العرفانيّة

 (رضوان الله عليه)، وكان قد بلغه قبل ذلك خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رضوان الله عليه)، فلمّا أخبر الإمام عليه السلام من كان في ركبه بذلك تفرّق النّاس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً! حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة!1

 
وهرثمة بن أبي مسلم، كان قد التقى الإمام عليه السلام في طريق كربلاء، وكان فيما مضى قد سمع بمقتل الإمام عليه السلام من أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وقد حدّث الحسين عليه السلام بما سمعه من أبيه عليه السلام، فلمّا قال له الحسين عليه السلام: “معنا أنت أم علينا" ؟ قال: لا معك ولا عليك! خلّفتُ صبيةً أخاف عليهم عبيد الله بن زياد! وترك الإمام عليه السلام ولم ينصره 2!
 
وعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ أيضاً، أرسل الإمام عليه السلام إليه رسولاً والتقاه أيضاً في منزل "قصر بني مقاتل"، ودعاه دعوة خاصّة لنصرة الحقّ وأهله، لكنّه لم يستجب لهذه الدعوة بأعذار دنيويّة واهية، فحرم من هذه السعادة3.
 
والطرّماح بن عديّ أيضاً، كان قد خطا نحو السعادة خطوات معدودة لكنّه لم يوفق إلى النصرة في حينها.
 
من الممكن في كلّ حركة دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة خالصة، أن ينضمّ إليها في بعض مراحل الطريق غير الخالصين، فيتلبّسون بأفكارها وأهدافها وشعاراتها، ويستظهرون على أوجههم التأهّل والصبغة الإلهيّة والإخلاص، لكنّهم وبسبب بواطنهم غير الخالصة لا يتمكّنون من مواصلة طريق ذات الشوكة حتّى النهاية، فتراهم تلقي بهم أمواج الأحداث الصعبة في بحر النهضة المتلاطم إلى الساحل بعيداً عن مسار الحركة، فما تنفعهم ولا تشفع لهم سابقتهم الطويلة في المقاومة والجهاد.
إنّ التأريخ مملوء بالتجارب المرّة التي لم يتمكّن فيها أصحاب النيّات غير الصالحة وغير الخالصة من البقاء إلى النهاية على مسار خطّ الحقّ.
 
 
 

1- راجع: وقعة الطفّ، ص166، وهذا الخبر تنقصه الدقّة الكافية لأنّ هناك من التحقوا به بعد المدينة وفي مكّة، وفي الطريق، وبقوا معه حتّى قتلوا بين يديه عليه السلام.
2- راجع: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص379.
3- راجع: نفس المصدر، ص366.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

169

البلاغات العرفانيّة

 إنّ الخُلّصَ ممّن التحق بالإمام الحسين عليه السلام كشفوا عن خلوصهم ليلة عاشوراء وفي نهاره في ميدان كربلاء، وكانوا أحياناً يعبّرون عن هذا الخلوص في أقوالهم وفي رجزهم.

 
في ميدان كربلاء كان الدم والسيف والشهادة، لا الأوسمة والأموال والامتيازات الاجتماعيّة، فالمجاهدون الثابتون الصادقون كانوا يواصلون جهادهم بقوّة الإخلاص.
 
لمّا دخل مسلم بن عقيل عليه السلام الكوفة، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، وقرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وأخذوا يبكون، قام عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، فحمد الله وأثنى عليه، وأعرب عن إخلاصه وصدق نيّته قائلاً: "أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن النّاس، لا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم، والله أحدّثنّك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلّا ما عند الله"1.
 
ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام عبداً خالصاً لله تعالى، ونحن في زيارة حرمه الشريف- على قول السيّد ابن طاووس (رضوان الله عليه) - قبل الخروج من روضته المقدّسة نسلّم عليه سلام مودّع فنقول في جملة ذلك السلام: "... السلام عليك يا خالصة الله..."2
 
إنّ معسكر الإمام الحسين عليه السلام لا يقبل إلّا الخلوص في العمل، أمّا من يدّعي أنّه حسينيٌّ رياءً وتظاهراً، ويزعم مع نيّته غير الخالصة أنّه من صفوة الخلوص ومن أهل ذلك المعسكر الخالص، فلا بدّ أن تكشف الأيّام سريرته وتفضح عدم خلوصه، شاء ذلك أم أبى!إذن فدرس عاشوراء هو أن نخلص الدافع والهدف لله تعالى في كلّ عمل، وأن نعلم أنّ الله لا يضيع العمل الخالص له، كمثل نهضة عاشوراء التي ليست لا تبلى ولا تُنسى فحسب، بل هي تتعاظم وتتجدّد وتتنامى يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، وذلك ببركة "عنصر الخلوص".
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص100.
2- راجع: مفاتيح الجنان، ص421.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

170

البلاغات العرفانيّة

 القيام لله


الإخلاص في النيّة والدافع لله تعالى أمر مطلوب في كلّ عمل، وهو الذي يمنح القيمة للعمل، خصوصاً في ميدان النضال حيث يتعاظم ويشتدّ هوى النفس وحبّ الذات والدوافع الماديّة وطلب الجاه والرئاسة أو الرغبة في الانتقام، وهنا تتعاظم وتشتدّ أيضاً الحاجة إلى عنصر الإخلاص.
 
إنّ من يقوم لله يكون كلّ همّه في أداء التكليف وفي كسب مرضاة الله تعالى، ولذا فلا يُضعف من إرادته ولا يفتُّ في عزمه قلّة الأتباع والأنصار، ولا يعتريه اليأس والتشاؤم إذا تعرّض لانكسار ظاهريّ "القيام لله" توصية وموعظة إلهيّة، حيث يقول تعالى:
 
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)1.
 
فهذا الدافع إذا تحققّ في حركة جهاديّة أو في مواجهة ما فإنّه يشكّل ضماناً أكبر لمواصلة الحركة أو المواجهة حتّى غاية المقدرة وحتّى نهاية العمر، والقائم بهذه الحركة أو المواجهة أيضاً لا يرى التكليف ساقطاً عنه ولا يرى المهادنة مع الباطل حتّى وإن كان وحده أو في قلّة من العدّة والعدد.
 
يقول الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة الذي تقدّم إليه بالنصيحة بالخروج إلى اليمن إذا لم يجد الاطمئنان في مكّة: "يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن معاوية"2.
 
 
 

1- سبأ، 46.
2- بحار الأنوار، ج44، ص329.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

171

البلاغات العرفانيّة

 ويقول عليه السلام في رفضه الذلّة والتسليم أمام العدوّ يوم عاشوراء:

 
"... ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر..."1.
 
إنّ نصيب أيّ عمل من البقاء بما لله فيه من نصيب، وما كان لله خالصاً فهو باقٍ وقائم ودائم، ولأنّ نهضة عاشوراء كانت خالصة "الصبغة الإلهيّة" فهي أبديّة خالدة ولا يعتريها الضمور أو الانكسار، يقول الإمام الخمينيّ  (قدس سره) :
 
"لم يكن مقتل سيّد الشهداء عليه السلام انكساراً، لأنّ قيامه كان قياماً لله والقيام لله لا انكسار له"2.
 
"كانوا على وعيٍ: أنّنا جئنا لأداء التكليف الإلهيّ، جئنا لحفظ الإسلام"3.
 
حينما يكون القيام لله فلن يعتري القائمين لله إحساس بالهزيمة أو الخسارة أبداً، والمجاهد في سبيل الله يرى نفسه المنتصر في ميدان المواجهة سواء في حال الهزيمة أو النصر، يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه) في إشراق وجه سيّد الشهداء عليه السلام كلّما اقترب من ظهر يوم عاشوراء ودنا من ساعة استشهاده: "ذلك لأنّه عليه السلام كان يرى الجهاد في سبيل الله، ومن أجل الله، ولأنّ الجهاد لله فإنّه عليه السلام لم يرَ أنّه قد فقد الأعزّة والأحبّة الذين قد فقدهم، إنّهم الذخائر لعالم البقاء"4.
 
 
 

1- المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص110، بحار الأنوار، ج45، ص83.
2- صحيفة نور، ج7، ص37.
3- نفس المصدر، ج15، ص55.
4- نفس المصدر، ج17، ص239.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

172

البلاغات التأريخيّة

 إيضاح


إنّ المقصود من هذا العنوان هو التأثير الذي تركته أو يجب أن تتركه "واقعة عاشوراء" على الحركات التأريخيّة، والفكر التأريخيّ، وتفكيك وتحليل الحوادث التي هي قريبة العهد بزمان عاشوراء، وكذلك التأثير الذي تركته أو تتركه أو ما يمكنها أن تتركه في الأزمنة التي تلتها إلى عصرنا الحاضر.

كلّ حادثة تأريخيّة لها آثار ونتائج مختلفة تترتب عليها، أو أنّها على الأقلّ تشكّل الأرضيّة الممهّدة لخلق تلك الآثار والنتائج، بشرط أن تكون خلفيّات وجذور هذه الحادثة التأريخيّة معروفة ويمكن التعريف بها أيضاً.

وفي هذه الحالة يكون بإمكان التأريخ أن يتجاوز مهمّة "نبش القبور" و"استغابة الموتى" و"نقل الوقائع الماضية"، ليكون مرتكزاً لخلق الحركة نحو المستقبل، ومنبعاً لاستلهام كلّ ما هو صحيح وأفضل. وبهذا التوضيح ندرك أنّ بلاغات عاشوراء التأريخيّة لا تنحصر في البلاغات التأريخيّة الصريحة الخطاب إلى المستقبل، بل تشمل أيضاً معرفة القوى الخفيّة الكامنة في باطن الحدث التأريخيّ، وذلك من أجل استلهام العبر والمواعظ والدروس النافعة والمؤثّرة في تصحيح مسار الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في الخطاب الموجّه إلى الأجيال القادمة.

وبهذه النظرة تتجاوز واقعة عاشوراء صورة "حادثةٍ ما ماضية" لتتجلّى في صورة حيّة نابضة، هي صورة "ذخائر نفيسة من الهداية، والعبر، والدروس للأجيال القادمة"، ونحن بإمكاننا أن نتلقّى "البلاغ" من عاشوراء، وأن نتعلّم "الدرس" منها، وأنْ نأخذ منها "العبرة" التي هي الأهمّ، وكون العبرة هي الأهمّ نكتة طالما أكّد عليها مراراً قائد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

173

البلاغات التأريخيّة

 الثورة المعظّم آية الله الخامنئيّ في أقواله وتحذيراته، حيث يقول:


"... إنّ ما هو أهمّ من دروس عاشوراء، عبر عاشوراء" !

إنّ الانتباه إلى دور الإنسان الواعي والملتزم في بناء التأريخ والتأثير في مجرى الحوادث التأريخيّة أمرٌ مهمّ، من هنا يمكن إلفاتُ انتباه النّاس إلى قدرتهم على التأثير وخلق الحركة، وتبديل حالهم من أُناسٍ خاضعين تماماً لحركة أحداث التأريخ ولمن يصنع أمواجها وأعاصيرها، ولا يرون لأنفسهم إرادة أو قدرة على تغيير أحوالهم، إلى أُناسٍ يشكّلون القوى المؤثّرة والفعّالة في هذا المجال.

ومن المُسلّم أنّ ظُلمات التأريخ المعتمة لا ينيرها في البدء إلّا الروّاد الأوائل الذين هم المصابيح التي تهدي إلى الطريق، وترشد إلى الأهداف والمقاصد، وهم الذين يحيون الآمال بعد موتها، ثمّ هم الذين يصنعون من الآخرين شموعاً كثيرة تحترق لإنارة الظلمة وإراءة الطريق وهداية الجماهير من بعدهم.

إنّ دور وأثر "القدوة" و"الرائد" في صنع التحوّلات التأريخيّة أمرٌ واضح ومهمّ جدّاً، إذ لا يعرف التأريخ حركة إجتماعيّة مهما بلغت من السعة والقوّة كانت قد حقّقت أهدافها وبلغت مقاصدها بدون القدوة والرائد، بل عرف التأريخ في مسير التحوّلات الاجتماعيّة حركات جماهيريّة واسعة وقويّة لكنّها لم تحقّق أملاً من آمالها أو هدفاً من أهدافها بسبب فقدانها القائد الرائد.

إنّ صنّاع التحوّلات التأريخيّة هم أولئك المؤمنون بإرادتهم، العارفون بالزمان والمكان المناسب لكلّ خطوة من خطواتهم، الناهضون بتكليفهم التأريخيّ في الموقع المناسب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

174

البلاغات التأريخيّة

 تاريخ الإسلام أم تاريخ المسلمين؟

 
لقد كانت بعثة النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بداية فصل جديد في تاريخ البشريّة، إذ أوجدت إنقلاباً أساسيّاً في الأفكار، والعقائد، والأخلاق، والسلوك، والنظام السياسيّ، والبنية الإجتماعيّة، ومعايير القيم.
 
فما يعرف باسم "تاريخ الإسلام" هو مجموعة هذه التحوّلات التي شملت جميع المجالات في فكر وحياة الإنسان في عصر البعثة.
 
أمّا بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد عادت المعايير الجاهليّة هي الحاكمة، واتّجه الإرتقاء الروحيّ والمعنويّ في المسلمين نحو الأفول والزوال، وضعفت تلك القيم المقدّسة التي كانت على عهد النبوّة بعد ارتحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولقد دوّن المؤرّخون حوادث تلك السنين تحت عنوان "تأريخ الإسلام"، إلّا أنّنا إذا أدرجنا أحداث تلك الفترة تحت عنوان "تاريخ المسلمين" كان ذلك أدقّ وأصدق ممّا إذا دوّنّاها تحت عنوان "تأريخ الإسلام"1.
 
لم تكن الخصومة بين أهل البيت عليهم السلام ومخالفيهم، أو العداء بين بني هاشم وبني أميّة، خصومة أو عداء بسبب شخصيّ أو قبليّ، بل كان هذا التعارض يستمدّ وقوده من تعارض فكريّ واعتقاديّ وعمليّ، يقول الإمام الصادق عليه السلام في تشخيصه الدقيق لجذور هذا التعارض بين هذين التيّارين:
 
 
 

1- راجع في هذا الصدد: "انقلاب تكاملي اسلام"، فارسي، لجلال الدين الفارسي، وكذلك "النظام السياسي في الإسلام" و"نظرية عدالة الصحابة"، لأحمد حسين يعقوب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

175

البلاغات التأريخيّة

 "إنّا وآلُ أبي سفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله"1.

 
أي أنّ النزاع قائم بين طائفتين إحداهما مؤمنة بالله ومصدّقة بكلّ ما جاء من عنده، وأخرى كافرة بالله تكذّبه بكلّ ما جاء من عنده من عقيدة ودين.
 
إنّ فصل مسير تأريخ الإسلام عن أهل بيت العصمة عليهم السلام كان السبب في فسح المجال للتوجيهات غير المقبولة لكثير من تصرّفات الحكّام الطغاة على أساس معايير ومباني دينيّة، في حين أنّ معايير ومباني الإسلام المحمّديّ الخالص إسلام أهل البيت عليهم السلام تدين تلك التصرّفات وتبرأ منها.
 
كما لوّث وشوّه المؤرّخون المحترفون المرتبطون ببلاط الحاكم الظالم وجه التأريخ أيضاً من خلال اختلاقهم لوقائع ونصوص لا حقيقة لها، الأمر الذي خلط الحقّ بالباطل، وجعل من الصعب جدّاً في بعض الأحيان التمييز بين النصّ الصادق والآخر الكاذب، حتّى صار من العسير على المتتبّع الاستناد إلى كثير من المتون التأريخيّة.
 
في هذا الجوّ، صارت معرفة الصدق من الكذب، والحقّ من الباطل في الحوادث التأريخيّة رسالة تحقيقيّة ثقيلة وضروريّة أيضاً، وهي كذلك عمل صعب ومحتاج إلى الدّقة.
 
وفي صدد واقعة عاشوراء أيضاً، هناك أحياناً أمور غير واقعيّة وضعيفة زيدت على النقل التأريخيّ، وقد ترسّخت في فكر النّاس وأذهانهم، وهي لا تتلائم مع روح نهضة عاشوراء ولا مع المتون التأريخيّة المعتبرة وهذا الأمر يجعل من اللازم تنقية وتصفية الآثار المرتبطة بعاشوراء من كلّ كذب وتزوير، ومن نقل المسائل والقضايا الضعيفة2.
 
إنّ المعرفة التأريخيّة المعمّقة هي التي تستطيع أن تقرأ ما وراء السطور وما وراء ظواهر الحوادث والأخبار وهي التي بإمكانها أن تكشف عن المعاني الأخرى
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج33، ص165.
2- يراجع في هذا الصدد مثلاً: كتاب (الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات) لكاشف الغطاء، و(التنزيه لأعمال الشيعة) للسيّد محسن الأمين العامليّ، و(الملحمة الحسينيّة) للشهيد مطهّري.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

176

البلاغات التأريخيّة

 للحوادث، وبدون هذه المعرفة قد لا يمكن تقديم تحليل صحيح للقضايا التأريخيّة.

 
لقد وصف الإمام الحسين عليه السلام في خطبته الثانية يوم عاشوراء جيش الكوفة بهذه الأوصاف والألقاب التالية حيث قال:
 
"... فسحقاً لكم يا عبيد الأمّة وشذّاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئي السنن! ويحكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم وتآزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب!..."1.

 
ففي هذا البيان أيضاً نرى الإمام عليه السلام يقرّر أنّ أولئك إذن بقيّة تلكم القبائل والأحزاب الجاهليّة المعاندة، وأنّهم الثمرة المرّة لشجرة عداوة بني أميّة لدين الله.
 
فهو إذن تقرير وبلاغ من الإمام المعصوم (الإمام الحسين عليه السلام نفسه) للتعريف بحقيقة الذين شاركوا في صفّ جيش بني أميّة في فاجعة عاشوراء المريرة.
 
إذن فمعرفة جذور أيّ حادثة من الحوادث ومعرفة القضايا الممهّدة لها من البلاغات الأخرى لعاشوراء.
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص287.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

177

البلاغات التأريخيّة

 إتمام الحجّة


لكلّ أمّة في الأحداث التأريخيّة التي تخوضها، ولجميع صانعي التأريخ في التحوّلات الاجتماعيّة التي يقودونها، مرتكزات وحجج ودلائل تشكّل المستند المعتمد لخطّ السير في التحرّك نحو تحقيق الأهداف المنشودة.

والنّاس يسألون ويبحثون عن الحجّة والسند المعتمد لما يقومون به من عمل أو لتقييم عمل الآخرين.

وصانعو التاريخ أيضاً يقدّمون الحجّة على أعمالهم عند استجوابهم بين يدي قاضي "الوجدان" في "محكمة التأريخ".

ولا بدّ من "إتمام الحجّة" من أجل قطع الطريق أمام أيّ عذر أو ذريعة يتشبّث بهما المخالفون أو المتخلّفون، ومن أجل أن يسجّل التأريخ هذه الحجّة ويثبتها. لكي لا يقول الآخرون: لم نعلم، لم نسمع، لم يقل لنا أحدٌ شيئاً، لو كنّا نعلم لفعلنا كذا وكذا، لو كنّا نعرف لعملنا بطريقة أخرى، وأمثال هذه المقولات وهذا الادّعاءات!

في الحروب الإسلاميّة لا بدّ من "إتمام الحجّة" قبل الاحتكام إلى السلاح، ومن خلال الآيات والبيّنات لا بدّ من التعريف بالحقّ وسبيله وبالباطل وسبيله، والكشف عن الهدى ومطالبه وعن الضلال ودعاواه، حتّى إذا وقعت الحرب، أو وقع العذاب الإلهيّ على قوم بسوء فعلهم وموقفهم، تكون الحجّة قد تمّت عليهم قبل ذلك كي لا يقولوا: لولا أريتمونا الحقَّ والصواب أو أبلغتمونا بهما!

وقد ورد في مواضع عديدة من القرآن الكريم ذكر"البيّنة" و"الحجّة" في بلاغات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

178

البلاغات التأريخيّة

 الأنبياء عليهم السلام، وكذلك عرضهم الآيات الإلهيّة والمعاجز على النّاس، وكلّ ذلك من أجل "إتمام الحجّة"، ليؤمن من آمن عن بيّنة وحجّة وليهلك من هلك عن بيّنة.

 
"لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ"1.
 
كما أنّ بعض الأنبياء والرسل مبشّرين ومنذرين في الرؤية القرآنيّة من أجل إتمام الحجّة أيضاً، حتّى لا تبقى للناس بعد بعثة الرسل حجّة وذريعة ومستمسكٌ على كفرهم وطغيانهم وضلالهم.
 
(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)2.
 
وفي نهضة عاشوراء كان الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره (قدّس سرّهم) قد أتمّوا الحجّة على أعدائهم قبل أن يقع القتال وتسفك الدماء وتزهق الأنفس، حيث أوضح الإمام عليه السلام تمام الإيضاح عن هدفه وغايته من قدومه نحو الكوفة وأنّ ذلك كان استجابة لدعوة أهلها، كما عرّفهم بنفسه المقدّسة وبنسبه الطاهر الزاكي تمام التعريف، وأثبت أنّهم لا يمتلكون أيّ حجّة أو سبب لمعاداته أو لقتاله وقتله.
كان سيّد الشهداء عليه السلام قبل يوم عاشوراء قد أرسل إلى عمر بن سعد رسولاً من أجل أن يلتقيا لقاءً خاصّاً ليكلّمه، عسى أن يرتدع عن ارتكاب تلك الجناية العظمى، فلمّا التقيا وعظه الإمام عليه السلام قائلاً: "ويلك يا ابن سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟! أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟! ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى.
 
فقال عمر بن سعد: أخاف أن تهدم داري.
 
فقال الحسين عليه السلام:أنا أبنيها لك.
 
فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.
 
فقال الحسين عليه السلام:أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.
 
فقال: لي عيالٌ وأخاف عليهم. ثمّ سكت، ولم يجبه إلى شيء!
 
فانصرف عنه الحسين عليه السلام وهو يقول: ما لك؟! ذبحك الله على فراشك عاجلاً،
 
 
 

1- الأنفال، 42.
2- النساء، 165.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

179

البلاغات التأريخيّة

 ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلّا يسيراً.

 
فقال ابن سعد: في الشعير كفاية عن البرّ. مستهزئاً بذلك القول"1.
 
وهكذا نرى الإمام عليه السلام قد أتمّ الحجّة على عمر بن سعد ولم يترك له عذراً أو ذريعة إلّا وقدّم لها حلّاً هو الأفضل والأحسن لصالح ابن سعد، لكنّ هذا التعيس لم يستطع أن يتحرّر من هواه ويتخلّى عن مطامعه الدنيويّة.
 
وفي يوم عاشوراء لمّا دنا القوم من الإمام عليه السلام دعا براحلته فركبها، ثمّ نادى بأعلى صوته يسمع جلّ النّاس:
"أيّها النّاس! اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإنْ قبلتم عذري وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ)".
 
فلمّا سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكى بناته، وارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن عليّ وعليّاً ابنه، وقال لهما: سكّتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ!
 
فلمّا سكتن، حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ملائكته وأنبيائه، قال الراوي: فوالله ما سمعت متكلّماً قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه! ثمّ قال:
 
"أمّا بعدُ فانسبوني فانظروا من أنا؟! ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألستُ ابن بنت نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم، وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟! أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟! أوليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟! أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي وأخي: "هذان سيّدا شباب أهل الجنّة" ؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، فوالله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، ويُضرّ به من اختلقه.
 
 
 

1- الفتوح، ج5، ص102 وأعيان الشيعة، ج1، ص599.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

180

البلاغات التأريخيّة

 وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أو أبا سعيد الخدريّ، أو سهل بن سعد الساعديّ، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟! ".


فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول! فقال حبيب بن مظاهر: والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.
ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام: “فإنْ كنتم في شكٍّ من هذا القول، أفتشكّون أثراً ما أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيّكم خاصّة.

أخبروني، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته؟ أو مالٍ استهلكته؟ أو بقصاصٍ من جراحة؟" فأخذوا لا يكلّمونه...

فنادى: "يا شبث بن ربعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وطمّت الجمام، وإنّما تقدم على جندٍ لك مجنَّدٍ، فأقبل؟! ".

قالوا له: لم نفعل!

فقال: "سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!".

ثمّ قال: "أيّها النّاس! إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض!".

فقال له قيس بن الأشعث: أَوَلا تنزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يروك إلّا ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه!!

فقال الحسين عليه السلام: “أنت أخو أخيك" أي محمّد بن الأشعث "أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟! لا والله! لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد!"، عباد الله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ)، (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

181

البلاغات التأريخيّة

 ثمّ رجع، فأناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها"1.

 
ولم يستيقظ من جميع تلك الضمائر إلّا ضمير الحرّ بن يزيد الرياحيّ الذي اختار الآخرة على الدنيا، والجنّة على النّار، فالتحق بالإمام عليه السلام وانضمّ إلى معسكره.
 
كما أتمّ الإمام عليه السلام الحجّة حتّى على أنصاره، حتّى يبقى من يبقى معه على بصيرة وتصميم واعٍ، كان عليه السلام في طريقه من مكّة إلى العراق يُطلع الذين صحبوه على كلّ جديد من أوضاع الكوفة وتحوّلاتها، حتّى يرجع عنه من صحبه طمعاً في دنيا أو في حكم ومنصب، ولقد رجع هؤلاء عن الإمام عليه السلام فعلاً بعد أن تيقّنوا من انقلاب الكوفة ونكثها العهود ونقضها المواثيق، فما بقي معه إلّا أهل الإخلاص الذين وطّنوا أنفسهم على نصرته والاستشهاد بين يديه.
 
وحتّى هؤلاء الأفذاذ ما فتأ الإمام عليه السلام يختبرهم ويتمّ الحجّة عليهم في كلّ منزل من منازل الطريق وفي كلّ مناسبة، حتّى كان الاختبار الأخير ليلة عاشوراء حيث قال عليه السلام لهم: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنُّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً"2.
 
وفي رواية أخرى: "... وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه أو رجلٍ من إخوتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم"3.
 
وفي جميع ميادين الصراع بين الحقّ والباطل التي يرعف بها الزمان في كلّ هذه الأرض، لا بدّ للقادة والروّاد ذوي البصيرة والوعي أن يدعموا مواقفهم ونهجهم وخطّ سيرهم بالبيّنات والدلائل والحجج التامّة من أجل أن يثبت التأريخ حقّانيتهم، ومن أجل قطع الطريق على كلّ عذر وذريعة يتشبّث بها متخلّف أو مخالف، ومن أجل أن لا يتّهمهم التأريخ في مستقبل الأيّام بالسكوت والمهادنة مع الظلم والجور.
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص206 - 209.
2- الإرشاد، ج2، ص91.
3- الفتوح، ج5، ص105.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

182

البلاغات التأريخيّة

 فضح الباطل وتعريته

 
فضلاً عن دور التذكير بوقائع صراع الحقّ ضدّ الباطل في إحياء الحقّ وفضح الباطل، لا بدّ لإفشال خطط أتباع الباطل من فضح مؤامراتهم والكشف عن جناياتهم وجرائمهم، حتّى لا يبقى ما حدث طيّ "الكتمان".
 
كان لإفشاء الحقائق دائماً دور بنّاء في تنوير أذهان النّاس بواقعيّات الأحداث وفي تعبئتهم ضدّ الباطل.
 
وفي واقعة عاشوراء ومأساة كربلاء، كانت إحدى رسالات ومهمّات أفراد بقيّة الركب الحسينيّ فضح العدوّ وتعرية حقيقته وتوجيه الضربة إلى الحكم الأمويّ، من خلال الكشف عن حقيقة ما جرى في كربلاء.
 
ولعلّ أحد الأسباب التي جعلت الإمام الحسين عليه السلام يصطحب معه النساء والأطفال منذ بدء رحلته من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى كربلاء هو أنّ النساء والأطفال سيكونون شهود عيان لحركة أحداث النهضة وتفاصيل الواقعة ولجميع مشاهد مظلوميّة أهل البيت عليهم السلام، ووقائع مسرح الجريمة الكبرى، وسيحدّثون النّاس في مرحلة الأسر وما بعدها بكلّ ما شاهدوه، حتّى لا تبقى تلك الوقائع خلف حجب الإبهام والغموض وطيّ الكتمان.
 
وكان لدور الإمام السجّاد عليه السلام وزينب الكبرى عليها السلام في هذا الأمر أهميّة كبرى، إذ ما أن أتمّ الإمام السجّاد دفن أبيه عليهما السلام  وبقيّة الشهداء حتّى كتب على قبر أبيه: "هذا قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب، الذي قتلوه عطشاناً غريباً"1.
 
 
 

1- حياة الإمام زين العابدين، ص166.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

183

البلاغات التأريخيّة

 ولقد كان بإمكان الإمام السجّاد عليه السلام أن يكتب عبارة أخرى غير هذه العبارة، يذكر فيها أوصافاً أخرى لسيّد الشهداء عليه السلام، لكنّ تأكيده على أنّ أباه قد قتل على هذه الحال هو نوع من فضح العدوّ وتعرية حقيقته.

 
وفي خطبة له في الكوفة قال عليه السلام أيضاً:
 
"أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخراً!"1.
مع أنّ بإمكانه عليه السلام في معرض التعريف بنفسه المقدّسة وتعديده لافتخاراته أن يذكر أوصافاً أخرى!
 
ونراه عليه السلام يقول أيضاً في نفس تلكم الخطبة في الجموع الحاشدة من النّاس: "أيّها النّاس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات..."2.
 
فهو عليه السلام في تعريفه بنفسه يعرّف أباه الشهيد عليه السلام قبل أن يتعرّض لأوصافه هو ومحامده!، ويذكر الجرائم الفظيعة التي تعرّضت لها عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا فضح لابن زياد ولحكومة يزيد.
 
وفي خطابه المثير الذي فضح به الحكم الأمويّ وأيقظ به الغافلين، الذي ألقاه عليه السلام في قصر يزيد في الشام أمام جماهير النّاس ورجال السلطة الأمويّة وضيوف يزيد، كان عليه السلام قد كشف الأستار عن الحقائق التي أخفاها التعتيم الأمويّ عن النّاس، وكان ممّا قاله عليه السلام في هذا الخطاب:
 
".. أيّها النّاس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، وخير من طاف وسعى، وحجّ ولبّى، أنا ابن من حمل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى، فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، انا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا
 
 
 

1- حياة الإمام زين العابدين عليه السلام ، ص168.
2- نفس المصدر، ص168.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

184

البلاغات التأريخيّة

 ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جأشاً، وأمضاهم عزيمة، ذاك أبو السبطين الحسن والحسين، عليّ بن أبي طالب.


فلمّا بلغ إلى هذا الموضع ضجّ النّاس بالبكاء، وخشي يزيد الفتنة فأمر المؤذّن أن يؤذّن للصلاة، فقال المؤذّن: الله أكبر.
 
قال الإمام: الله أكبر وأجلّ وأعلى وأكرم ممّا أخاف وأحذر.
 
فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلّا الله.
 
قال عليه السلام:نعم، أشهد مع كلّ شاهدٍ أن لا إله غيره، ولا ربّ سواه. فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله.
 
قال (الإمام) للمؤذّن: أسألك بحقّ محمّد أن تسكت حتّى أكلّم هذا! والتفت إلى يزيد وقال: هذا الرسول العزيز الكريم جدُّك أم جدّي؟ فإنْ قلت جدّك علم الحاضرون والنّاس كلّهم أنّك كاذب، وإنْ قلت جدّي فلم قتلت أبي ظلماً وعدواناً، وانتهبت ماله، وسبيت نساءه، فويل لك يوم القيامة إذا كان جدّي خصمك!
 
فصاح يزيد بالمؤذّن: أقم للصلاة! فوقع بين النّاس همهمة، وصلّى بعضهم وتفرّق الآخر!"1.
 
لقد كان يزيد يتوقّع هذه النتيجة وهذا الافتضاح، ولذا فقد أبى في البداية أن يأذن للإمام السجّاد عليه السلام بالكلام حين طلب منه ذلك لكنّ من حوله من رجاله ألحّوا عليه وقالوا له: ائذن له! ما قدر أن يأتي به هذا الفتى المريض الأسير في حضور الأمير؟! "فقال يزيد: إنّ هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة، وزقّوا العلم زقّاً! وما زالوا به حتّى أذن له"2، وفي رواية أنّه قال: إذا رقى المنبر فلن ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان!3
 
كان الإمام السجّاد عليه السلام يلتزم الصمت في طول طرق رحلة الأسر، فلم يكن يكلّم
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص352 و353، دار الكتاب الإسلاميّ.
2- نفس المصدر السابق.
3- راجع: الإمام زين العابدين عليه السلام ، ص175.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

185

البلاغات التأريخيّة

  جلاوزة الظالم حتّى بكلمة واحدة، ذلك لأنّه كان يعلم بخبث سرائرهم وقسوتهم، لكنّه عليه السلام كان يستثمر كلّ مكان ومجال مناسب لتنوير أذهان النّاس ببيان حقائق الأمور وفضح العدوّ وتعرية حقيقته، فمثلاً: عند أوّل دخول ركب السبايا الشام "دنا شيخ من السجّاد عليه السلام وقال له: الحمد لله الذي قتلكم وأمكن الأمير منكم!

 
فقال عليه السلام له: يا شيخ! أقرأت القرآن؟ قال: بلى، قال عليه السلام:أقرأت: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وقرأت قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)، وقوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)
 
قال الشيخ: نعم قرأت ذلك.
 
فقال عليه السلام:نحن والله القربى في هذه الآيات.
 
ثمّ قال له الإمام: أقرأت قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)؟ قال: بلى.
 
فقال عليه السلام:نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير.
 
قال الشيخ: بالله عليك! أنتم هم؟
 
فقال عليه السلام:وحقّ جدّنا رسول الله إنّا لنحن هم من غير شكّ.
 
فوقع الشيخ على قدميه يقبّلهما ويقول: أبرأ إلى الله ممّن قتلكم. وتاب على يد الإمام ممّا فرّط في القول معه، وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله فأمر بقتله" 1
 
وعند عودة الركب الحسينيّ إلى المدينة المنوّرة وقد سبقه إليها بشير بن حذلم ينعى إلى النّاس الإمام الحسين عليه السلام ويخبرهم بمقدم عليّ بن الحسين عليه السلام مع عمّاته وأخواته، خرج النّاس يهرعون ولم تبق مخدّرة إلّا برزت تدعو بالويل والثبور، وضجّت المدينة بالبكاء، فلم يُر باكٍ أكثر من ذلك اليوم، واجتمعوا على زين العابدين يعزّونه، فخرج من الفسطاط وبيده خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه مولى معه كرسيّ، فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت الأصوات بالبكاء والحنين، فأومأ إلى النّاس أن اسكتوا، فلمّا سكتت فورتهم قال عليه السلام: “الحمدُ لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الديّن، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور،
 
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص349، دار الكتاب الإسلاميّ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

186

البلاغات التأريخيّة

 وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم! إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله الحسين عليه السلام وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة!"1.
 
وكانت خطب زينب الكبرى وأمّ كلثوم عليهما السلام  تتضمّن أيضاً هذا المحتوى وهذا الاتّجاه.
 
إنّ بيان مظلوميّات أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً ما جرى في كربلاء، كان دائماً مثيراً لغضب وسخط وانزعاج الطغاة الظلمة من الأمويّين والعبّاسيّين، وكان على الدوام أيضاً محلّاً لتأييد وتأكيد أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ذلك لما له من دور وأثر في فضح العدوّ وتعريته.
 
كما أنّ مجالس عزاء أهل البيت عامّة، ومجالس العزاء الحسينيّ خاصّة، التي كانت تقام على طول التأريخ بأمر ودعم وتأييد الأئمّة عليهم السلام وكبار علماء الدين، تتمتّع أيضاً بنفس هذه الماهيّة، ولقد كان الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) يشير إلى هذا البعد في مجالس العزاء في كثير من أقواله وتوجيهاته، من ذلك مثلاً قوله:
 
"... إنّ مجالس التعزية، إنّ مجالس عزاء سيّد الشهداء عليه السلام وتلكم التبليغات ضدّ الظلم، وهذا التبليغ ضدّ الطاغوت، وفضح الظلم الذي وقع على المظلوم، يجب أن يبقى ويستمرّ إلى الأبد"2.
 
 
 

1- نفس المصدر، ص374 و375.
2- صحيفة نور، ج9، ص201.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

187

البلاغات التأريخيّة

 العبر التربويّة


إنّ الحوادث التأريخيّة إذا طالعناها بعين الاعتبار وجدناها "دروساً مستفادة"، والدروس التأريخيّة هي عبارة عن مجموعة من النكات المستفادة في معرفة الحوادث وبروز الحالات الاجتماعيّة والوقائع المُرَّة والسعيدة، ومن خلال هذه المعرفة يمكن تشخيص المسارات والحركة الصحيحة بصورة أوضح في المقاطع الزمنيّة اللاحقة أيضاً.

ومع أنّ تلقّي وتعلّم الدرس غالباً ما يستعمل في الوقائع الايجابيّة والبنّاءة، وتستعمل العبرة في الأحداث السلبيّة. إلّا أنّ للأحداث والوقائع سلسلة من العلل والأسباب والممهّدات والقوانين التأريخيّة، لذا فإنّ التأريخ يتحوّل إلى مدرسة لمن أراد أن يتعلّم منه، ذلك لأنّ الحوادث المتماثلة والمتشابهة ربّما تتكرّر في العصور المختلفة مع تكرّر ممهّدات وموثّرات خاصّة لبعض العلل والعوامل.

إنّ معرفة هذه النكات والدروس تبعث على السعادة، وهي أيضاً تسبّب صنع الحوادث البنّاءة المنشودة، وهي كذلك نذيرٌ ومانع من تكرار الحوادث المرّة.

وقد استهدف القرآن الكريم أيضاً هذه الغاية من خلال عرضه لقصص ومصائر الأمم السالفة، ومن خلال إشاراته إلى علل وأسرار الحوادث، وسنن القوّة والضعف في حياة الأمم، والانتصارات والهزائم والإبادات التي تعرّضت لها.

ونجد أيضاً أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة يلفت العقول مراراً إلى فلسفة التأريخ وسننه ودروسه وعبره، وإلى الاستفادة منها والاتعاظ بها، ويدعو إلى مطالعة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

188

البلاغات التأريخيّة

 التأريخ والتأمّل فيه مع التعلّم منه والاعتبار به1.

 
ولذا فحينما نرى الإمام الحسين عليه السلام يعرّف حركته التأريخيّة في عاشوراء للنّاس بأنّها أُسوة وقدوة حيث يقول عليه السلام: “ولكم فيَّ أُسوة"2، تتضح لنا أكثر فأكثر ضرورة تعلّم الدرس وأخذ العبرة من هذه الواقعة.
 
إنّ واقعة كربلاء هي واحدة من هذه الحوادث "الملهمة" و"الواعظة"، فهي في عين كونها أغنى منابع الاستلهام والتحفيز والإثارة لجميع طلّاب الحقّ والعدالة والمجاهدين في سبيل الحقّ والحريّة، هي أيضاً من منظار آخر واحدة من أمرّ الحوادث وآلم الفجايع التي حصلت في تاريخ الإسلام على يد أمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومن اللازم مطالعة هذه الواقعة بدّقة لمعرفة ما هي الأسباب والعوامل الّتي أدّت إلى ما وقع؟ وبتعبير قائد الثورة المعظّم: "الأمّة الإسلاميّة ينبغي عليها أن تفكّر: لماذا بعد خمسين سنة من رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصلت حال البلاد الإسلاميّة إلى درجة أنّ نفس هؤلاء المسلمين، من وزيرهم، وأميرهم، وقائدهم، وعالمهم، وقاضيهم، وقارئهم، حتّى غربائهم وأوباشهم، اجتمعوا في الكوفة وكربلاء ليفتكوا بفلذة كبد نفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الصورة الفجيعة؟!! ينبغي على الإنسان أن يتأمّل جيّداً لماذا حصل هذا؟!... بلغت بهم الحال إلى الحدّ الذي يسوقون حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأزقّة والأسواق أسارى، ويتّهمونهم بأنّهم خوارج!!"3.
 
في قراءة جذور تقهقر الأمّة وانتكاستها إلى حدّ قعودها عن الدفاع عن إمامها المفترض عليها طاعته، بل قيامها لمواجهته وقتله! نجد أنفسنا أمام بعض النكات الجديرة بالتأمّل:
 
1 - طلب الدنيا
 
إنّ التعلّق بالدنيا والإنشداد إلى الرفاه ولذائذ الحياة سببٌ رئيس في أنّ كثيراً من النّاس لا يلبّون داعي الجهاد والمقاومة في ميادين الدفاع عن الحقّ ومواجهة الباطل، 
 
 
 

1- من ذلك مثلاً: الخطبة 221 و192 (الخطبة القاصعة).
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص361.
3- من خطاب له في جمع من متطوّعي وقادة فيلق 27 محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

189

البلاغات التأريخيّة

 ومن أجل استنقاذ النّاس من هذا الداء جاءت التأكيدات الكثيرة للأنبياء وأئمّة الدين عليهم السلام بصدد عدم التعلّق بالحياة الماديّة وحثّهم على الزهد فيها.

 
والإمام الحسين نفسه عليه السلام يقول: "إنّ النّاس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون"1.
 
خصوصاً إذا كان طلب الدنيا هذا من طريق الحرام وامتلاء البطون من الهدايا اللامشروعة والطعام الحرام والشبهات، حيث تحرم القلوب بسبب ذلك من نعمة الانفتاح على الحقّ والهداية وإدراكهما وتقبّلهما، إنّ أكل الحرام كذلك يضعف التديّن والالتزام بالعهود والمواثيق، ويطمس أداء التكليف والقيام بالواجب في بوتقة النسيان.
 
لمّا استنصت الإمام الحسين عليه السلام جيش الكوفة يوم عاشوراء ليقيم عليهم الحجج التامّة فأبوا أن ينصتوا له، وبّخهم عليه السلام على ذلك قائلاً:
 
"ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي، قد انخزلت عطيّاتكم من الحرام، وملئت بطونكم من الحرام، فطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟! ألا تسمعون؟! "2.
 
يقول قائد الثورة المعظّم بصدد التذكير بخطورة هذا العامل:
 
"الانسياق وراء الشهوات والأهواء، وفي جملة واحدة: الانغماس في طلب الدنيا والاهتمام بجمع الثروة والمال، والانكفاء على اللذائذ، والوقوع في مصيدة شهوات الدنيا، واعتبار هذه الأمور هي الأصل، ونسيان الأهداف والغايات، هذا هو الداء الأساسيّ والكبير، ونحن أيضاً من الممكن أن نُبتلى بهذا الداء..."3.
 
وإضافة إلى أنّ النوازع الدنيويّة وحبّ الجاه والرئاسة تمنع النّاس أحياناً عن نصرة الحقّ ومقاومة الباطل، ونجد من جهة أخرى أنّ الظالمين وأهل الباطل ينصبون مصائدهم الواسعة لكثير من النّاس من خلال بذل الأموال والعطايا
 
 
 

1- تحف العقول، ص245.
2- بحار الأنوار، ج45، ص8.
3- من خطابه في عاشوراء سنة 1993م.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

190

البلاغات التأريخيّة

 والإغراءات الدنيويّة الأخرى، فيجذبون إليهم القلوب، وبهذا يُخلون جبهة الحقّ الخلفيّة.

 
إنّ جيش المال وفيلق المطامع الدنيويّة يفعل أحياناً ما لا يستطيع أن يفعله جيش من المقاتلين ذو العدّة والعدد.
 
وقد استفاد الحكم الأمويّ في مواجهة النهضة الحسينيّة من هذا الأسلوب حتّى يمتنع وجهاء الكوفة والبصرة وأشرافهما عن نصرة الإمام عليه السلام ويصيروا أنصاراً للوالي الأمويّ، ففيما أخبر به مجمع بن عبد الله العائذيّ (رضوان الله عليه) الإمام الحسين عليه السلام - وهو من أنصاره الذين التحقوا به من الكوفة في منزل عذيب الهجّانات- قوله: "أمّا أشراف النّاس فقد أعظمت رشوتهم، ومُلئت غرائرهم، يستمال ودّهم ويُستخلص به نصيحتهم، فهم ألبٌ واحدٌ عليك! وأمّا سائر النّاس فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك" 1
 
إنّ الانخداع بالدنيا ومظاهرها يُنسي الإنسان الآخرة، ويدفعه في صفقة خاسرة إلى بيع الآخرة والسعادة الأبديّة بدنيا زائلة فانية، نقرأ في زيارة الأربعين هذا التقرير عن واقعة عاشوراء.
 
"... وقد توازر عليه من غرّته الدنيا، وباع حظّه بالأرذل الأدنى، وشرى آخرته بالثمن الأوكس، وتغطرس وتردّى في هواه، وأسخطك وأسخط نبيّك، وأطاع من عبادك أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبين النّار..."2.
 
2 - الغفلة
 
الإنسان محتاج دائماً إلى التذكّر، إذ إنّ الغفلة عن الأهداف والغايات سبب في وقوع الإنسان في ورطات مهلكة، وفي تحوّله إلى إنسان لا أُبالي، وهكذا كان جلّ النّاس في زمن الإمام الحسين عليه السلام، إذ كانوا غرقى في دياجي الغفلة في حياتهم اليوميّة، فأنستهم غمرة الغفلة أهداف الإسلام العليا وقيمه السامية، ورسالتهم ومسؤوليّتهم
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص174.
2- مفاتيح الجنان، ص 468، زيارة الأربعين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

191

البلاغات التأريخيّة

  وواجباتهم إزاء دين الله تعالى، ونُسيت مجاهدات صدر الإسلام وجميع الدماء الطاهرة لشهداء الدعوة الإسلاميّة، وقد استفاد الأعداء أيضاً من هذه الغفلة أسوأ الاستفادة، فامتطوا ظهر الأمّة، واستثمروا قوّتها وسخّروها للقضاء على الحقّ ولمقاتلة الإمام المعصوم عليه السلام.

 
لقد كان الإمام سيّد الشهداء عليه السلام يسعى دائماً لرفع حجب الغفلة عن بصيرة الأمّة وفهمها وإدراكها، وقد حرص عليه السلام في خطبه يوم عاشوراء على إزالة الغفلة عن عقول النّاس وإيقاظهم على الحقيقة المرّة، فكان ممّا خاطب به الكتائب التي تألّبت لقتاله: "تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم! وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم! فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم!! بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم!!..."1.
 
3 - التخلّي عن التكليف
 
كلّ ما جاءت به الشريعة الإسلاميّة من "التكاليف" ليلتزم بها المسلمون كانت الغاية منه دائماً هي تحقيق "المصالح" ومنع "المفاسد"، فإذا قام المسلمون بما عليهم من التكاليف الشرعيّة فإنّ المجتمع الإسلاميّ سيتحرّك نحو الطهارة والتكامل المعنويّ في جميع مجالات الحياة.
 
أمّا إذا ترك المسلمون واجباتهم الشرعيّة ولم يعتنوا ولم يبالوا بالتكاليف التي أمر الله بها، فإنّ لذلك آثاراً سيّئة ونتائج مريرة تشمل عواقبها أيضاً جميع مجالات حياة المجتمع الإسلاميّ.
 
وتكليف كلّ مسلمٍ يتناسب من حيث الأهميّة والخطورة مع موقعه الدينيّ والاجتماعيّ الخاصّ به، فالذين لهم منزلة خاصّة ومقام رفيع، وينظر النّاس إليهم كقدوات، ويعنون بتصرّفاتهم عناية فائقة لأثرها البالغ في حياة المجتمع وفي تحديد مصيره، أولئك عليهم مسؤوليّات مضاعفة، ولتخلّيهم عن التكليف الشرعيّ عواقب أشدّ وخامة وخطورة من عواقب تخلّي الإنسان العادي عن أداء تكليفه، لذا فإنّ 
 
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص287.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

192

البلاغات التأريخيّة

 علماء الدين والوجهاء المرموقين والنافذين والمعتبرين لهم تكاليف أثقل من تكاليف سواهم، فإذا داهنوا وسكتوا إزاء الظلم والبدعة وتحريفات الحكومات الجائرة ذهبت دماء الشهداء الأطهار هدراً نتيجة ذلك، وأُضيعت جهود ومعاناة المجاهدين الأوائل الذين بنوا صرح المجتمع وأسّسوا قواعد حياته، وراجت البدع والمنكرات، وترسّخت جذور سلطة الظالمين واشتدّ طغيانهم.


يقول الإمام الحسين عليه السلام بصدد تقصير وضعف وتهاون العلماء المرتبطين ببلاط الحاكم الظالم أو الساكتين عن الحقّ في عصره، موبّخاً إيّاهم على ذلك:
"... لقد خشيتُ عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضّلتم بها، ومن يعرف بالله لا تُكرِمون وأنتم بالله في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة! (مخفورة خ)، والعمي والبُكم والزُمن في المدائن مهملة لا ترحمون! ولا في منزلتكم تعملون ولا من عمل فيها تعينون! وبالإدّهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون! وأنتم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون (تسعون)، ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السُنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم تردّ وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبدٍ مقهور، وبين مستضعفٍ على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبّار! في كلّ بلدٍ منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والنّاس لهم خول لا يدفعون يد لامسٍ، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

193

البلاغات التأريخيّة

  مطاعٍ لا يعرف المبدئ والمعيد، فيا عجباً! وما لي لا أعجب؟! والأرض من غاشٍّ غشوم ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا..."1.

 
ويقول قائد الثورة المعظّم في تحليل هذه المسألة، ضمن تقسيمه أفراد المجتمع إلى خواصّ وعوام، وأنّ العوام دائماً تبع للخواصّ وأنّ دور الخواصّ في المجتمع مهمّ جداً، فإذا لم يعمل الخواصّ بتكليفهم الحسّاس الخطير بسبب الميل إلى الدنيا وخوفاً على مواقعهم ومكانتهم، فإنّ مجرى التأريخ سيتغيّر، يقول سماحته:
 
"أولئك الذين يتركون طريق الله خوفاً على أنفسهم، ولا يقولون الحقّ حيث ينبغي أن يقولوه لأنّهم سيتعرّضون للخطر، أو يتخلّون عن طريق الله خوفاً على مناصبهم أو أموالهم، أو حبّاً وتعلّقاً بأولادهم وعوائلهم وأقربائهم وأصدقائهم، أولئك إذا كانوا الكثيرين فحينئذٍ واويلاه! حينئذٍ سيتوجّه الحسين بن عليّ عليهما السلام  إلى مذبح كربلاء، سيجرُّ إلى مقتله، وسيستولي اليزيديّون على الأمر، وسيحكم بنو أميّة البلاد والأمّة التي أوجدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ألف شهر، وستستبدلُ الإمامة بالمُلك والسلطنة.
 
حينما تكون حال الخواصّ المحسوبين على صفّ الحقّ هكذا، أو تكون حال أكثريّتهم القاطعة هكذا، حيث يؤثرون دنياهم على كلّ شيء، فهم من الخوف على النفس، ومن خوف فقدان المنصب والمقام، ومن خوف النبذ والطرد، أو من خوف العزلة والوحدة، مستعدّون للقبول بحاكميّة الباطل، فلا يقفون في وجهه، ولا يدافعون عن الحقّ، ولا يلقون بأنفسهم في الخطر، حينما تكون حال الخواصّ هكذا فسوف تكون بداية المآل شهادة الحسين بن عليّ عليهما السلام  بتلك الصورة الفجيعة، وخاتمتها سيطرة بني أميّة على الحكم، ثمّ بني العبّاس، ثمّ سلسلة من السلاطين والملوك في عالم الإسلام إلى اليوم...
 
كان هذا هو وضع ذلك الزمان، كان الخواصُّ قد استسلموا، وما كانوا يريدون التحرّك.
 
لذا حينما استولى يزيد على الحكم، وكان شخصاً من الممكن الخروج عليه
 
 
 
 

1- تحف العقول، ص238.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

194

البلاغات التأريخيّة

 ومقاتلته، إذ كان معروفاً ومشهوراً بفسقه وحماقاته واستهتاره، وكلّ من يُقتل في الحرب ضدّ يزيد لا يمكن أن يُغَطّى أو يعمّى على دمه لأنَّ يزيد كان وضعه متفسّخاً مفضوحاً جدّاً... من أجل هذا قام الإمام الحسين عليه السلام بنهضته...


ولمّا قام الإمام الحسين عليه السلام مع كلّ تلك العظمة والقداسة التي كانت له في المجتمع الإسلاميّ لم يتقدّم إليه كثير من الخواصّ لينصروه! أنظروا إلى أيّ درجة ساءت حال المجتمع بسبب هؤلاء الخواصّ؟! الخواصّ الذين هم على استعداد لتفضيل دنياهم بسهولة على مصير العالم الإسلاميّ خلال قرون طويلة آتية!...

كلّ هؤلاء حينما يواجهون بشدّة وضغط وقهر من الجهاز الحاكم يرون أنّ أرواحهم وسلامتهم وراحتهم ومقامهم وأنفسهم في خطر لا محالة يتراجعون، فإذا تخلّى الخواصّ وتنصّلوا عن تكليفهم وعهودهم والتزاماتهم تخلّى وتنصّل تبعاً لهم عوامُ النّاس أيضاً.

أنظروا إلى أسماء أولئك الذين كتبوا الرسائل إلى الإمام الحسين عليه السلام من الكوفة ودعوه إلى القدوم إليهم، وتأمّلوا فيهم! هؤلاء الذين كتبوا الرسائل هم الخواصّ، هؤلاء أيضاً جزء من طبقة الخواصّ تلك! طبقة زبدة المجتمع والمرموقين فيه!...
إنّ الذي يُنجي التأريخ من المسار الخاطئ، وينجي القيم من السقوط ويحفظها هو تصميم الخواصّ في الوقت المناسب، وتشخيص الخواصّ في الوقت المناسب، وتنكّرهم للدنيا في اللحظة المناسبة، وقيامهم وإقدامهم لله في اللحظة المناسبة.
ينبغي القيام بالحركة اللازمة في اللحظة اللازمة، فإذا تركتم الوقت المناسب يمضي فليس ثمّ فائدة إذن.

هذه هي السُنّة الإلهيّة، حينما تخاف من الدم، وتخاف من بذل ماء الوجه، وتخاف من المال، وتخاف من أجل العائلة، وتخاف من أجل الأحبّة، ونخاف من أجل راحتنا وسلامة عيشنا، ومن أجل كسب وتجارة، ومن أجل العثور على مسكن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

195

البلاغات التأريخيّة

 هو أوسع من مسكنٍ سابقٍ غرفةً واحدة، إذا لم نتحرّك بسبب الخوف على هذه الأشياء فمن المعلوم حينذاك أن لو نهض عشرة أئمّة كالإمام الحسين عليه السلام فإنّ جميعهم سيستشهدون، وجميعهم سيبادون، كما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام، وكما استشهد الإمام الحسين عليه السلام.

 
أيّها الخواصّ! أيّها الخواصّ! يا طبقة الخواصّ! يا أعزّائي، أنظروا أين أنتم؟"1
 
4 - لا إلى الحقّ ولا إلى الباطل!
 
إن التضادّ بين الحقّ والباطل حقيقة دائمة، وواجب المسلم الملتزم أيضاً هو الوقوف مع الحقّ ومقاومة الباطل، ولا يمكن للمسلم أن يكون غير مبال أو على الحياد في قضايا النزاع والصراع بين الحقّ والباطل، أو يعتزل الميدان بذريعة أنّ طائفتين تجادلتا وتنازعتا فيما بينهما ولم يتّضح لنا أين الحقّ، فنتيجة هذا السكون وهذا الحياد تضعيف جبهة الحقّ وتقوية الظلم! في وقعة صفّين التي كانت صراعاً واضحاً لا إبهام فيه بين الحقّ والباطل، تخلّف جماعة عن الالتحاق بأمير المؤمنين عليه السلام قائد جبهة الحقّ متذرّعين بأنّ عليهم أن لا يدخلوا في "الفتنة" وأن لا يُلطّخوا أيديهم بالدماء! فذمّهم أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"2.
 
أي أنّهم وإنْ لم ينصروا الباطل في جبهة معاوية، لكنّهم بعدم قتالهم تحت راية أمير المؤمنين عليه السلام كانوا قد خذلوا الحقّ وأضعفوا جبهته، ومن هؤلاء الذين لم يشتركوا في هذه الحرب واختلقوا لأنفسهم في ذلك الذرائع الواهية: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن زيد، وأنس بن مالك، ومحمّد بن مسلمة، و... كان من هؤلاء أيضاً أبو موسى الأشعريّ3.
 
وفي نهضة الإمام الحسين عليه السلام أيضاً هناك أشخاص لم يلتحقوا بالإمام عليه السلام
 
 


1- فقرات منتخبة من خطاب مفصّل وتأريخيّ لقائد الثورة المعظّم آية الله الخامنئيّ في جمع من قادة ومتطوّعي فيلق 27 محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في 1996م، جريدة جمهوري إسلامي، 1997م.
2- نهج البلاغة، نظم صبحي الصالح، الحكمة رقم 18.
3- شرح النهج، ابن أبي الحديد، ج18، ص115.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

196

البلاغات التأريخيّة

 وتركوه وحيداً، متذرّعين بنفس ذرائع حبّ السلامة وطلب العافية! بل إنّ بعضهم رفضوا الانضمام إليه عليه السلام على رغم دعوته إيّاهم دعوة صريحة لنصرته، وغيّروا اتجاه طريقهم إلى جهة أخرى حتّى لا يشهدوا تلك الوقعة!

 
فالأحنف بن قيس مثلاً، كان قد اشترك في حروب زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واشترك أيضاً تحت راية أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه، إلّا أنّه لم ينصر الإمام الحسين عليه السلام في واقعة عاشوراء، وكان ردّه سلبيّاً على رسالة الإمام عليه السلام التي دعاه فيها إلى نصرته، بل لقد نهى الإمام عليه السلام حتّى عن القيام والنهضة!1
 
في حوادث صدر الإسلام المرّة هناك نماذج كثيرة لهذه الحالة: حالة عدم العمل بالتكليف في الظروف الحسّاسة، نماذج كثيرة شكّلت مجموعاً كبيراً من المتهاونين الذين كانوا السبب في انزواء الحقّ وتسلّط الباطل، ولقد أشار الإمام الحسين عليه السلام بألم إلى هذه الحقيقة المرّة وهو في المدينة قبل خروجه منها إلى مكّة، في محاورته الساخنة مع مروان بن الحكم، حيث قال عليه السلام: “... وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أمروا به! فابتلاهم الله بابنه يزيد! زاده الله عذاباً في النّار"2.
 
إنّ التخلّي عن أداء التكليف هو في الواقع سبب بقاء ودوام سلطة السلطان الظالم، وهذه إحدى السنن الإلهيّة وعبرة تأريخيّة من عاشوراء.
 
وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام إلى هذه السنّة والعبرة في موقع آخر أيضاً في كلامه السامي الذي انتقد فيه علماء البلاط الساكتين اللاأباليّين، المداهنين الظلمة، وعرّفهم فيه أنّ حركته الإصلاحيّة إنّما قام بها لإحياء السنن الدينيّة والأحكام الإلهيّة، ودعاهم فيه إلى نصرته، فكان ممّا قاله عليه السلام لهم:
 
"... فإنْ لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمةُ عليكم، وعملوا في إطفاء نور 
 
 
 

1- راجع: كتاب شاگردان مكتب أئمّه "طلبة مدرسة أئمّة أهل البيت عليهم السلام " محمّد عالميّ دامغاني، ج1، ص161
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص285.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

197

البلاغات التأريخيّة

 نبيّكم..."1.

 
وهذا أيضاً درس عظيم، ذلك لأنّ أتباع الحقّ إذا قصّروا في نصرة الحقّ والإمام الصالح وجبهة الدين، فإنّ نتيجة ذلك هي تقوية الظالمين، ونجاح الطغاة في إزالة الحقّ وقلع جذوره والقضاء على أهله وأتباعه.
 
 
 

1- تحف العقول، ص239.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

198

البلاغات التأريخيّة

 عزّة خصوم الباطل

 
سنّة الله تعالى في المواجهة بين الحقّ والباطل أن يبقى الحقّ ويثبت ويترسّخ، وأمّا الباطل فيزهق ويذهب جفاءً ويزول، هذه الحقيقة يقرّرها القرآن الحكيم في أكثر من موضع، كمثل قوله تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)1 و (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)2 و(... وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)3، وبما أنّ المؤمن أيضاً يطوف حياته حول محور الحقّ ويحيا للحقّ، فهو وإن كان في الظاهر ضعيفاً محروماً منزوياً إلّا أنّ "الدولة الخالدة" له، ذلك لأنّ القلب معلّق بما هو باقٍ ودائم، وبتعبير أمير المؤمنين عليه السلام: “للحقّ دولة وللباطل جولة"4.
 
وقد نسب الله العزّة له ولرسوله وللمؤمنين، في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)5.
 
وفي ضوء هذه السنن، نجد أنّ النصر الواقعي والغلبة الحقيقيّة في نهاية الأمر من نصيب أولئك الذين يصارعون ويقارعون الظلم والباطل، وإن تعرّضوا في الظاهر إلى هزائم وانكسارات، ومرور الزمان يمحو ذكر أتباع الباطل من أذهان النّاس، ويبيد آثار
 
 
 

1- الإسراء، 81،
2- الأنبياء، 18.
3- الشورى، 24.
4- غرر الحكم، ج5، ص2205.
5- المنافقون، 8.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

199

البلاغات التأريخيّة

 سلطانهم ويفنيها، أمّا ملاحم خصوم الباطل فتبقى دائماً حيّة ومؤثّرة، ينظر قُضاة "محكمة التأريخ" إلى أبطالها نظرة احترام وتقدير.

 
وإنّ أوضح وأجلى دليل على عزّة وعظمة خصوم الباطل نشهده في صدد شهداء كربلاء، إذ لم يزل الإمام الحسين عليه السلام حتّى اليوم وإلى قيام الساعة العزيز الذي تهفو إلى ذروة عزّه الأرواح، والمحبوب الذي هامت متيّمةً بحبّه القلوب، ولم يزل مزاره مهوى أفئدة عشّاق الحقّ، وكلماته حتّى الآن حيّة مدويّة في مسمع التأريخ، وكان ولم يزل أبو عبد الله الحسين عليه السلام البطل المنتصر في ملحمة عاشوراء.
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) بصدد انتصار الحقّ على الباطل في نهضة عاشوراء: "المحرّم هو الشهر الذي قامت فيه العدالة على الظلم، وقام فيه الحقّ على الباطل، وأثبت على مدى التأريخ أنّ الحقّ دائماً منتصرٌ على الباطل"1.
كان هذا التصريح قد أدلى به إمام الأمّة في شهر آذر سنة 1357ه-.ش، في مقابلة مع راديو لوكسمبورك، ترى أليس هذا دليلاً على عزّة خصوم الباطل في عاشوراء حيث تذكر ملحمتهم المقدّسة بعد أربعة عشر قرناً من وقوعها كسند على الانتصار الدائم الأبديّ للحقّ على الباطل؟
 
لمّا قرّر سيّد الشهداء عليه السلام بعد موت معاوية أن يمضي إلى لقاء والي المدينة، حاوره عبد الله بن الزبير في ذلك وأظهر تخوّفه عليه من كيد بني أميّة، فكان ممّا أجاب الإمام عليه السلام به ابن الزبير: "... فأكون على الامتناع، ولا أُعطي المقادة والمذلّة من نفسي..."2، إنّ هذه القاطعيّة في الإباء وعدم المداهنة هي التي جعلت من أبيّ الضيم عليه السلام رمزاً للعزّة، والدرس الذي يقدّمه الإمام عليه السلام لأتباعه على مدى التأريخ هو أنّ العزّة في الدفاع عن الحقّ وفي مقارعة الباطل، لا في الارتعاب من الباطل والمداهنة معه.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج4، ص27.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص182.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

200

البلاغات التأريخيّة

 ذلّة خصوم الحقّ

 
إنّ دم المظلوم المراق بلا حقّ يُمسكُ بخناق الظالم، والظالمون وأعوانهم يُبتلون بالذلّة والهوان، يُبتلى الظالمون بذلك جزاء ظلمهم، وتُبتلى الأمّة بالذلّة والهوان أيضاً جزاء تخلّيها عن جبهة الحقّ، خصوصاً إذا كان هذا الظلمُ قد حلّ بساحة الإمام المعصوم عليه السلام وأهل بيته المظلومين.
 
لمّا نزل الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى الكوفة منزل (بطن العقبة) لقيه شيخ من بني عكرمة يُقالُ له عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين عليه السلام: “الكوفة". فقال الشيخ: أُنشدك الله لما انصرفت، فوالله ما تقدم إلّا على الأَسنّة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال، ووطّاؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل. فقال له الإمام عليه السلام: “يا عبد الله! ليس يخفى عليَّ الرأي ولكنّ الله تعالى لا يُغلَبُ على أمره"، ثمّ قال عليه السلام: “والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأُمم!"1.
 
ولقد انتقم الله تعالى أيضاً من جميع الذين أعانوا الظالم في تلك الفاجعة العظيمة، وكان لهم دور بارز ومؤثّر فيها، فقتلوا وهم أذلّاء، يقول الشيخ المفيد (رضوان الله عليه): “وتظاهرت الأخبار بأنّه لم ينجُ أحدٌ من قاتلي الحسين عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم من قتل
 
 
 

1- راجع: الارشاد للشيخ المفيد، ج2، ص76.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

201

البلاغات التأريخيّة

 أو بلاءٍ افتضح به قبل موته"1.

 
هناك عبرٌ خفيّة في واقعة عاشوراء، إذا لم يُكشف عنها فتُعرف وتشخّص، ويتمّ الاعتبار بها وتُعالج الحالُ بدوائها، فإنّ من الممكن أن يكمن نفس ذلك الخطر ويتربّص بمجتمعنا اليوم، ويبرز أخطر ما يكون في اللحظات الحرجة على طريق ثورتنا وثوّارنا.
 
إنّ الذي أدّى إلى فاجعة عاشوراء الأليمة المحرقة للقلوب كان ما يلي:
 
- استسلام الأمّة لحكومة الظلم وتمكينها.
 
- التخلّي عن أداء التكليف في اللحظة الحسّاسة والمصيريّة.
 
- نسيان أو تناسي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
- تعاظم حبّ الدنيا والإنشداد إلى الرفاه والترف.
 
- غفلة النّاس وعدم اطّلاعهم على ما يجري في المجتمع.
 
- الإعراض والتخلّي عن القائد الإلهيّ وعدم إطاعته.
 
- تفرّق كلمة ورأي الأمّة الإسلاميّة.
 
- سيطرة الخوف والرعب على النّاس من بأس وبطش حكومة الباطل.
واليوم وفي كلّ زمان أيضاً، إذا فقدت القُوى المؤمنة والثوريّة حسّاسيتها في حرصها وخوفها على مصير الإسلام والمسلمين والثورة، وتهاونوا وقصّروا في قول الحقّ وأداء التكليف خوفاً على ما في أيديهم أو طمعاً بما ليس في أيديهم، وامتنعوا عن الحضور والتواجد في ميدان الدفاع عن القيم في الظروف التي يحتاج فيها المجتمع والثورة إلى الدم والشهادة، وتشتّتت وحدة كلمتهم، وتفرّقت آراؤهم وأهواؤهم، ولم ينسجموا روحاً واحدة حول محور ولاية الفقيه وقيادة الأمّة، وجعلوا القيم والأهداف تحت أقدامهم طمعاً في الحصول على المال والمنصب والمقام، ولم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاروا سُذّجاً تنطلي عليهم خدعُ شائعات العدوّ وأبواقه الإعلاميّة، فإنّ عاشوراء ستتكرّر مرةً أخرى، وسيتلقّى الإسلام الضربة كرّة أخرى، وستجدّد المظلوميّة مضاعفة على المسلمين وعلى جبهة الحقّ.
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ج2، ص133.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

202

البلاغات التأريخيّة

 وبتعبير قائد الثورة المعظّم:

 
"إذا كنتم أمام هذه المنافع الدنيويّة مجذوبين إليها- لا سمح الله- إلى الحدّ الذي لا تستطيعون التخلّي عنها والتنكّر لها إذا ما دُعيتم إلى تكليف صعب فهذه حالة أولى، وإذا كنتم تستمتعون بهذه المُتع والمنافع الدنيويّة وبمقدوركم التخلّي عنها والتنكّر لها حينما يحلّ بساحتكم امتحان صعب فهذه حالة أخرى... هناك حالتان للخواصّ من مؤيّدي الحقّ في كلّ مجتمع، فإذا كان ذلك القسم الجيّد من مؤيّدي الحقّ، يعني هؤلاء الذين بمقدورهم التخلّي عن هذا المتاع الدنيويّ حينما يلزم ذلك، إذا كان هؤلاء هم الأكثريّة، فسوف لن يُبتلى المجتمع الإسلاميّ في وقتٍ ما بحالة عصر الإمام الحسين عليه السلام..."1.
 
إنّ التعلّق بالدنيا مانع من أداء التكليف الإلهيّ دائماً، وقد ظهر هذا في زمان الإمام الحسين عليه السلام بشكل معيّن محدّد، وله ظهور أيضاً في مجتمعنا اليوم ولكن بصورة أخرى، وبتعبير قائد الثورة المعظّم أيضاً:
 
"... والبُعد الآخر الذي يجب أن يدرس هو مطابقة ما ينبغي أن يقوم به الخواصُّ مع وضع كلّ زمان، ليس زماننا فقط، في كلّ زمان كيف يجب أن تعمل طبقة الخواصّ حتّى يؤدّوا تكليفهم وواجبهم؟
 
إنّ قولنا: لا يكونوا أسرى الدنيا، هذه فكرة وحسب، يجب أن يدرس: كيف لا يكونون أسرى الدنيا؟ ما هي أمثلة ومصاديق ذلك؟ "2.
 
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة المعظّم في جمع من قادة ومتطوّعي فيلق محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
2- نفس الخطاب السابق


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

203

البلاغات السياسيّة

  إيضاح


الإسلام هو دين ذو بعد سياسيّ قويّ جدّاً، فالأحكام ذات الجنبة السياسيّة والاجتماعيّة، ودور مسؤوليّة الفرد المسلم الملقاة على عاتقه إزاء قضايا الحقّ والباطل، وكذلك أهميّة مسألة الحكومة والقيادة، وتدخّل الأمّة في مصيرها الإجتماعيّ، ونظارتها على طريقة عمل الحكّام والمسؤولين، كلّ ذلك يمثّل زاوية من هذا البعد السياسيّ للإسلام.

ولقد تجسّدت فلسفة الإسلام السياسيّة، ومنهجه في إدارة المجتمع في صورة "الولاية".

إنّ معايير الدين الإسلاميّ في مسألة أولياء الأمور ملاكات إلهيّة قيّمة، فالحكومة في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعصور الأئمّة عليهم السلام هي لهم صلوات الله عليهم أجمعين، وهي في عصر الغيبة حقّ "الوليّ الفقيه" النائب عن المعصوم عليه السلام، ومبنى التصدّي للحكومة هو الجدارة العلمّية ولياقة القوى لا القوّة والقهر، والحكّام كذلك إنّما يمارسون إدارة أمور الأمّة في إطار أحكام "دين الله".

من خلال هذه المقدّمة، نرى أنّ "عاشوراء" حركة ثوريّة ضد الانحراف السياسيّ والدينيّ للحكّام الطغاة المستبدّين، وأنّ نهضة سيّد الشهداء عليه السلام مليئة بالمعاني والحقائق السياسيّة، إذ إنّ وقوع الأمّة في أسر مخالب الحكومة الظالمة، والسعي من أجل استنقاذها من ذلك، وتسليم قيادة الأمور بيد "الإمام الصالح" لنشر الحقّ والعدل في المجتمع، يكشف عن زاوية من هذا البعد، كما أنَّ حركة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره لأجل توعية جماهير الأمّة، ورسم معالم شخصيّة القائد اللائق الجدير،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

204

البلاغات السياسيّة

 وفضح صورة وحقيقة الولاة والحكّام عبّاد الدنيا الظالمين غير الملتزمين بالدين، تكشف عن زاوية أخرى من هذا البعد السياسيّ أيضاً.


من هنا، فإنّ لنهضة عاشوراء بلاغاً ورسالة إلى جميع أولئك الذين يطلبون الحقّ، ويريدون العدالة، والمقاومين والمدافعين عن المظلوم، والمجاهدين في سبيل الله، وطلّاب الشهادة، والمصلحين الاجتماعيّين، والمتحرّرين، وأحرار الفكر، وبشهادة التأريخ فإنّ كيان كثير من الثورات ضدّ الظلم، والانتفاضات في وجه التجاوز والعدوان، والحركات من أجل إقامة وتشكيل الحكومة الإسلاميّة كان قد قام واستحكم على هدي دروس عاشوراء.

وإذا ما عُرضت واتّضحت ماهيّة نهضة عاشوراء السياسيّة والنضاليّة لجميع أبناء هذا العالم بأفضل صورة ممكنة كما ينبغي، فسيكون لها كثير من المؤيّدين والأتباع في أوساط النّاس الأحرار، والأمم المستضعَفة والمستعبَدة، وطلّاب الحريّة ودعاتها.

إنّ "عاشوراء" جواب وافٍ لمثل هذه الأسئلة: من هو الحاكم اللّائق؟ ما هي الصفات اللازم توفّرها في قائد المسلمين؟ ما هي واجبات وتكاليف الحكومة إزاء الرعيّة؟ ما هي حقوق وواجبات النّاس في المجتمع الإسلاميّ؟ كيف يجب التعامل مع نظام الجور؟ ما هي الممهّدات اللازمة لنهضة الأمّة؟

ما هي حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ما هي معايير ومباني الكيان السياسيّ للمجتمع؟ لمن تجب البيعة والولاية؟... وغيرها من المسائل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

205

البلاغات السياسيّة

 الولاية والقيادة

 
إنّ "الولاية" من أهمّ أصول الإسلام، وهي بمعنى التسليم التامّ لقيادة الإمام الإلهي، والاعتقاد بأنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم الولاية على النّاس من قبل الله تبارك وتعالى، فالنظام السياسيّ في الإسلام ومنهج الحكومة الدينيّة قائم على أساس الولاية، و"وليّ الله" هو الحاكم الإلهيّ على النّاس، وإطاعته بعنوان أحد "أولي الأمر" واجبة على الأمّة.
 
و"الولاية" كما هي مسألة عاطفيّة ووجدانيّة من حيث ارتباطها بأصل وجوب المودّة لأهل البيت عليهم السلام، كذلك هي مسألة إعتقاديّة من حيث الإيمان بأنّ إمامة الأئمّة المعصومين وولايتهم من قبل الله تعالى، وأنّهم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه، كما أنّها أيضاً موضوع سياسيّ، يعني أنّ منهج ونظام الحكم الإسلاميّ في عصر الحضور وولاية الأمر بعهدة الأئمّة عليهم السلام، وفي عصر الغيبة بعهدة فقهاء الشيعة العدول.
 
وترتكز الولاية في الإسلام على أساس الجدارة والصلاحيّة، وأصلح أفراد المجتمع الإسلامي لتسنّم زعامة وقيادة المسلمين هم الأئمّة المعصومون، ولهم عليهم السلام تصريحات متظافرة في صدد هذه الحقيقة، فالإمام الحسين عليه السلام مثلاً يقول:
 
"ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم..."1.
 
والعقيدة بهذه الولاية تجعل الإنسان الموالي في خطّ قيادة "وليّ الله"، فهو إنْ يعشق
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص170.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

206

البلاغات السياسيّة

 فإنّما يعشق الوليّ الصالح، إذا سلّم أمره وأطاع فلهذا الوليّ، وإذا كانت عنده نصرة ومؤازرة يبذلها فإنّما يبذلها هديّة لهذا القائد الربّانيّ، وإذا قاتل فإنّما يقاتل تحت لواء حجّة الله وبأمره، وهذه موهبة إلهيّة لا يؤتاها أولئك الذين لا يؤمنون أساساً بهذه العقيدة، أو الذين مع اعتقادهم بولاية أئمّة أهل البيت عليهم السلام يتهرّبون على صعيد العمل من أداء التكليف القائم على أساس "قبول الولاية"، أو الذين في العمل ينقادون لولاية الظالمين.

 
جاء في الرسالة التي كتبها الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة وأهلها: "أمّا بعدُ، فإنّ الله اصطفى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبيّه، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به صلى الله عليه وآله وسلم، وكُنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ النّاس بمقامه في النّاس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلمُ أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقِّ علينا ممّن تولّاه... وقد بعثت برسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ السُنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله"1.
 
وممّا قاله عليه السلام في خطابه بعد أن التقى جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ:
".. فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله..."2.
 
والإمام عليه السلام لاعتقاده بأنّ "الولاية" حقّ له فقد دعا النّاس إليها واحتجّ عليهم بها.
 
بعد موت معاوية حينما أراد والي المدينة أن يأخذ البيعة ليزيد من الإمام عليه السلام بأمر من يزيد، رفض الإمام عليه السلام ذلك، وأخبر عبد الله بن الزبير بأنّه لن يبايع ليزيد أبداً وعلّل ذلك قائلاً: "لأنّ الأمر إنّما كان لي من بعد أخي الحسن عليه السلام "3.




1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص280.
2- نفس المصدر، ج3، ص303.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص182.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

207

البلاغات السياسيّة

 وفي بعض متون الزيارات يستعمل تعبير"مولى" في مخاطبة الإمام الحسين عليه السلام.

 
إنّ استمرار هذه الولاية في عصور ما بعد عاشوراء يتمثّل في الانقياد إلى الزعامة الربّانيّة والتسليم لأولياء الله عليهم السلام ولنوّابهم، ويجب أن يضع هذا الاعتقاد جميع جهود ومساعي الإنسان ومواقفه وولاءاته في مسار خطّ "الولاية"، وتكون حركة الإنسان الموالي مرتكزة على محور الولاية.
 
من الذخائر المهمّة الكامنة في حركة عاشوراء تعريف "القائد الصالح" إلى الأمّة الإسلاميّة، وفضح عدم جدارة أدعياء القيادة، إذ إنّ الفلسفة السياسيّة في الإسلام قائمة على هذا المحور وهو أنّ زعامة المجتمع وقيادته تعهد إلى الرجل المتوفّرة فيه الكفاءة العلميّة، واللياقة الأخلاقيّة، وأهليّة الحسب والنسب، والقدرة الإداريّة، والقاطعيّة في الموقف والقرار.
 
ومن الصعب معرفة هذه الكفاءات واللياقات وتشخيصها بالنسبة إلى أكثر النّاس، وغالباً ما يؤثّر الهوى والهوس والميول الخاصّة في أحكام النّاس، لذا فإنّ التعيين والاختيار الإلهيّ هو أفضل الانتخاب، وقد عيّن الله تبارك وتعالى الأئمّة المعصومين عليهم السلام لقيادة المجتمع الإسلاميّ خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك لأنّهم أفضل البشر، والمتقدّمون عليهم في جميع الكمالات اللازمة والجهات والخصائص المطلوبة في "الإنسان القدوة"، وهم "معصومون" أيضاً.
 
إنّ هذا الخطّ السياسيّ في مسألة القيادة من نقاط القوّة والامتياز عند الشيعة، إذ يعتقدون بوجوب توفّر صفات خاصّة في "القائد"، سواء أكان هذا القائد أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام، أو أحد الفقهاء العدول الذين تعهد إليهم ولاية الأمر في عصر الغيبة1.
 
 
 

1- راجع أيضاً ما مرّ سابقاً حول موضوع الولاية والقيادة في (البلاغات الاعتقاديّة).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

208

البلاغات السياسيّة

 التولّي والتبرّي

 
إنّ الولاية والبراءة من فروع الدين ومن الواجبات العمليّة في الإسلام، أي الموالاة لأولياء الله ومعاداة أعدائه والبراءة والتنفّر منهم.
 
و"الموالاة" و"الولاية" و"التولّي" جميعها من أصل واحد، ولها مفهوم واحد، وهي دالّة على الالتحام المنهجيّ والفكريّ والسياسيّ للإنسان المسلم مع القادة الربّانيّين وأئمّة الحقّ عليهم السلام، فالمسلم الموالي هو الذي يتّخذ الله ورسوله والإمام "وليّاً" له، ويتقرّب إلى الله ورسوله وأوليائه بالطاعة والتقوى والعمل الصالح، ويربط نفسه وحياته بهم، فالعمل الصالح والورع قوام الولاية، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام: “لا تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"1.
 
فالحياة الإيمانيّة للإنسان المسلم توجب عليه أنّ يشخّص ويحدّد خطّه الفكريّ والسياسيّ في المجتمع، وموقفه إزاء قضايا الحقّ والباطل، وألّا يبقى حيالها محايداً لا إلى الحقّ ولا إلى الباطل، بل يتّبع الحقّ ويمتثل أمر "وليّ الله"، ويكون خصماً وعدوّاً لأعداء الدين والإمامة والزعامة الصالحة.
 
إنّ الارتباط بأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وموالاتهم ومودّتهم تكليف إلهيّ، والبراءة من أعدائهم أمر واجب، لا عند حدّ الشعار والقول فقط، بل في السلوك والعمل، وهذه البراءة والولاية ربّما قادت المسلم الملتزم إلى ميدان الجهاد، وإلى الشهادة أيضاً، ولا خوف عليه لأنّ ذلك في سبيل الله، وله الثواب الجزيل عند الله تبارك وتعالى.

 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج11، ص196.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

209

البلاغات السياسيّة

 يقول الإمام الرضا عليه السلام: “كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدوّنا"1.

 
وقيل للإمام الصادق عليه السلام:إنّ فلاناً يواليكم إلّا أنّه يضعف عن البراءة من عدوّكم! فقال: "هيهات! كذب من ادّعى محبّتنا ولم يتبرّأ من عدوّنا"2.
 
وفي عصر الإمام الحسين عليه السلام كان قد تجلّى الحقّ في وجوده عليه السلام، وتمثّل الباطل في شخص يزيد، وكان من الواجب على كلّ مسلم ملتزم أن "يتولّى" الإمام الحسين عليه السلام و"يتبرّأ" من أعدائه، كما صنع أنصار الإمام (قدّس سرّهم)، إذ وقفوا معه للدفاع عنه ولنصرته بشجاعة لا نظير لها، وتبرّأوا من يزيد وابن زياد وأعوانهم، وقد كشفت عن هذه الحقيقة أشعارهم وأقوالهم فضلاً عن مواقفهم: فمّما ارتجز به أبو الشعثاء الكنديّ (رضوان الله عليه) يوم عاشوراء، قوله: 
 
يا ربّ إنّي للحسين ناصرٌ            ولابن سعد تاركٌ وهاجرٌ3
 
وممّا قاله برير بن خضير (رضوان الله عليه):
"اللّهمّ إنّي أبرأُ إليك من فعال هؤلاء القوم..."4.
 
وفي ليلة عاشوراء لمّا أظهر أصحاب الإمام عليه السلام عزمهم على البقاء معه وعلى عدم التخلّي عنه، وقف نافع بن هلال (رضوان الله عليه) بين يدي الإمام عليه السلام وقال:
 
"نوالي من والاك ونُعادي من عاداك..."5.
 
إنّ خطّ التولّي والتبرّي لا ينتهي بانتهاء عصر الإمام الحسين عليه السلام، ذلك لأنّ خطّ أبي عبد الله الحسين عليه السلام مستمرٌّ دائمٌ بلا انقطاع على هذه الأرض من بعده، وتقتضي موالاته عليه السلام والبراءة من أعدائه أن يوالي الإنسان المؤمن أنصاره والسائرين على نهجه ويتبرّأ من أعدائهم على مدى التأريخ.
 
في متون زيارات المعصومين عليهم السلام عامّة، وزيارات الإمام الحسين عليه السلام خاصّة، يرد ذكر موضوع التولّي والتبرّي كراراً كأحد الاعتقادات والأعمال التي يتقرَّب بها إلى
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج27، ص58.
2- نفس المصدر.
3- وقعة الطفّ، ص237.
4- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص252.
5- عنصر شجاعت، ج1، ص316.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

210

البلاغات السياسيّة

 الله تعالى، نقرأ مثلاً في زيارة الإمام الحسين عليه السلام في النصف من رجب: "إنّي أتقرّب إلى الله بزيارتكم وبمحبّتكم، وأبرأ إلى الله من أعدائكم"1.

 
وجميع التحيّات وإظهار المحبّة والمودّة هو وارد في متون زيارات الإمام الحسين وبقيّة الأئمّة عليهم السلام علامةٌ لهذا "التولّي"، وجميع اللعنات والدعاء على أعدائهم وظالميهم وإظهار السخط عليهم شهادة على "التبرّي" منهم، وتموج متون الزيارات بالسلام والتحيّات الزاكيات على الأئمّة عليهم السلام وأنصارهم ومواليهم، وتموج كذلك باللعنات على أعدائهم ومخالفيهم، بل حتّى على الراضين بفعلهم، لأنّهم بالفعل منهم، نقرأ مثلاً في أحد متون زيارات الحسين عليه السلام:
 
"لعن الله قاتلك، ولعن الله خاذلك، ولعن الله من رماك، ولعن الله من طعنك، ولعن الله المعينين عليك، ولعن الله السائرين إليك... ولعن الله أعوانهم وأتباعهم وأشياعهم وأنصارهم ومحبّيهم..."2.
 
وهذه ذروة البراءة وغاية الشمول في التبرّي...
 
ونقرأ في الزيارة الجامعة، وزيارات أخرى منها زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام:
"فمعكم معكم، لا مع عدوّكم، إنّي بكم مؤمن، وبإيابكم من المؤمنين، وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين..."3.
 
لقد استوجب أن يكبّ على منخريه في نار جهنّم كلّ من سمع واعية الإمام الحسين عليه السلام واستغاثته ولم ينصره، وهذه الصرخة والاستغاثة: "هل من ناصر..." لم تزل تطنُّ في الآذان مدى الأجيال.
 
وبلاغ عاشوراء هو أن لا تكونوا غير مبالين بما يجري في ميادين الصراع بين الحقّ والباطل في كلّ زمان وكلّ مكان، بل انهضوا لنصرة الحقّ ولموالاة وليّ الله، وتبرّأوا من أتباع الباطل المخالفين لأئمّة الحقّ، حتّى تكون الشهادة التي تعطونها في زيارة الأربعين شهادة حقّ وصدق لا شهادة شعار وكذب: "اللّهمّ إنّي أُشهدك أنّي
 
 
 
 

1- راجع: مفاتيح الجنان، ص442، زيارة النصف من رجب.
2- تهذيب الأحكام، ج6، ص72.
3- نفس المصدر، ص76.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

211

البلاغات السياسيّة

 وليٌّ لمن والاه، وعدوّ لمن عاداه..."1.

 
يقول إمام الأمّة (قدس) بصدد استمرار هذا الخطّ في كلّ العصور:
 
"مع أنّ بني أميّة انقرضوا وأُلقوا في جهنّم لكنّ لعنهم وصرخة التظلّم من جورهم هي صرخة في وجوه جميع ظلمة العالم، وحفظ هذه الصرخة حيّة يحطّم الظلم"2.
 
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، زيارة الأربعين، ص468.
2- صحيفة نور، ج21، ص173.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

212

البلاغات السياسيّة

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


إنّ حياة المجتمع الإسلاميّ رهينة استمرار رعاية الأمّة لأحكام الله وحرصها على تنفيذها وإجرائها، ورقابتها العامّة على سلوك وتصرّفات وعمل أولياء الأمور والمسؤولين والنّاس عامّة، ويطلق على هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة في الاصطلاح الإسلاميّ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو من أهمّ الواجبات الدينيّة الملقاة على عاتق جميع المسلمين.

و"المعروف" هو كلّ عمل صالح وحسن يرضاه الله تبارك وتعالى وقد أمر به في الإسلام، و"المنكر" هو كلّ عمل سيّء طالح غير مرضيّ يدعو إليه الشيطان، وهذه الحسنات والسيّئات، والصالحات والطالحات، منها ما يتعلّق بالحياة الفرديّة، ومنها ما يرتبط بالحياة الاجتماعيّة.

ولقد ورد في القرآن الكريم وفي الأحاديث تأكيدات كثيرة على أهميّة هاتين الفريضتين وعلى أثرهما ودورهما الإصلاحيّ، وعلى خطورة الأضرار والمفاسد المترتّبة على تركهما، وقد عدّت فريضة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أفضل الفرائض التي أمر بها الإسلام، ذلك لأنّ قوام واستمرار الأحكام الإلهيّة الأخرى في ظلّ قيام وحياة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي صدر الإسلام بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، تراخى المسلمون في أدائهم لهذا التكليف المهمّ حتّى تفشّى الضعف فيهم إلى درجة أن قصّر أكثرهم في حقّ هذا الواجب المقدّس، فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر لا في قول ولا في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

213

البلاغات السياسيّة

 عمل، بسبب الخوف على ما في أيديهم وعلى أنفسهم، أو طمعاً بما ليس في أيديهم، حتّى آل أمرهم إلى تسلُّط الفاسقين عليهم.

 

 
ولقد أشار الإمام الحسين عليه السلام إلى هذه الفريضة المهمّة في عرضه لدوافع نهضته المقدّسة قائلاً: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"1.
 
إنّ أحد الدروس الكامنة في هذا التصريح الشريف هو أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تنحصر في الوعظ والتذكير حيال بعض الذنوب الجزئيّة التي تصدر عن أفراد عاديّين، بل تشمل القيام والثورة ضدّ حكومة الظلم والجور، والسعي لإصلاح الكيان السياسيّ والاجتماعيّ للأمّة، وتشكيل حكومة على أساس الحقّ والقرآن، تماماً كما اعتبر الإمام الحسين عليه السلام ملحمة عاشوراء التي صنعها من مصاديق أداء التكليف على صعيد فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
ولهذه الفريضة المقدّسة ثلاث مراحل، مرحلة القلب، ومرحلة اللسان، ومرحلة اليد، فمرحلة القلب هي أن يكون الإنسان في قلبه محبّاً للمعروف والصالحات، ومبغضاً للمفاسد والمنكرات، فإذا جرى هذا الإحساس والشعور من قلبه على لسانه يكون قد دخل في المرحلة الثانية، فإذا عمل من أجل إقامة الحقّ والمعروف، ودحض الباطل والمنكر، فقد دخل في مرحلة اليد.
 
وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام إلى مرحلة القلب في دعائه عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قُبيل خروجه من المدينة، حيث قال: "... اللّهمّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر..."2.
 
أمّا في مرحلة اللسان، فإنّ تصريحات وبيانات الإمام الحسين عليه السلام التي فضح فيها حقيقة يزيد وأتباعه دالّة على أدائه التامّ لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرحلة القول، كان عليه السلام قد صرّح في أكثر من مناسبة - بل حتّى في رسائله الاحتجاجيّة على معاوية- أنّ يزيد غلام شارب للخمر، فاسق، قاتل للنفس المحترمة، وأنّ أتباعه قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأنّ الحكّام الأمويّين
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص291.
2- بحار الأنوار، ج44، ص328.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

 


214

البلاغات السياسيّة

 أحلّوا حرام الله، وحرّموا حلال الله، وأحيوا البدعة وأماتوا السنّة، ومع وجود هذه المنكرات المعلنة غير المستورة في السلطة الحاكمة فإنّ القيام والانتفاضة ضدّ يزيد تحت عنوان النهي عن المنكر تكليف وواجب إلهيّ.

 
وعلى رغم الألسن ووسائل الإعلام التابعة لقصور الخلفاء والسلاطين الظلمة التي اتّهمت "الحركة الدينيّة" التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام بأنّها خروج على الخليفة، وشقّ لعصا المسلمين، وتمرّدٌ وعصيان، فتستحقّ أن تحبط ويقضى عليها ويقضى على القائمين بها... ينبغي على وارثي منهج الشهادة وأتباع هذا الخطّ ألّا ينسوا دماء شهداء كربلاء، فالتأكيدات المتكرّرة الواردة في متون زيارة الإمام الحسين عليه السلام على شهادة الزائر بالقول: "... أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر..."1 إنّما جاءت من أجل تبيين وتجلية فلسفة نهضة الإمام عليه السلام حتّى لا تتمكّن غوغاء وسائل إعلام الأعداء من تشويه الهويّة الدينيّة الخالصة لهذه النهضة المقدّسة أو التعمية عليها.
 
إنّ أتباع خطّ عاشوراء مع دوام الاستلهام من هذه الملحمة الخالدة هم القلب النابض لحركة الأمور والوضع الفكريّ والسياسيّ لهذا المجتمع، وبحضورهم الفعّال الدائم في ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضيّقون الخناق على المفسدين في عرصات حياة هذا المجتمع، ذلك لأنّ سكوتهم وتراجعهم في هذه الجبهة عن أداء هذا التكليف المقدّس يعني تقدّم أعداء الحقّ والمفسدين في المجتمع وتجاسرهم أكثر على نشر الفساد.
 
إنّ "مرحلة الأمر والنهي باللسان" هي الحدّ الأدنى للعمل والقيام بأداء هذه الفريضة المقدّسة في مثل هذه الظروف، وإذا ما تُركت هذه الفريضة أو نُسيت، تعطّلت الحدود الإلهيّة وصارت أحكام الله عرضة للاستهزاء والسخرية والتحقير.
 
يقول الإمام الحسين عليه السلام في إحدى خطبه في منزل (البيضة) من منازل مسيره إلى العراق:
 
"أيّها النّاس! إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم 
 
 
 

1- راجع: مفاتيح الجنان في زياراته المطلقة والمخصوصة، ص758 و777 و775 و427 مثلاً.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

215

البلاغات السياسيّة

 والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله!..."1.

 
وكان عليه السلام قد خطب قبل هذا في منزل (ذي حسم)، وكان من خطبته:
"...إنّه قد نزل من الأمر ما ترون! وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حذاء فلم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء! وخسيس عيش كالمرعى الوبيل! ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة (سعادة) ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً"2.
 
إنّ السكوت إزاء الظلم والبدعة والانحراف كان من أخطر المنكرات التي راجت في ذلك العصر، حيث كان النّاس لا يعترضون على أصرح المنكرات التي ترتكب في المستويات العليا لمجتمعهم، كلّ ذلك خوفاً على أنفسهم، أو تحاشياً من التعرّض للخطر والضرّر، أو طمعاً في الدنيا وفي الحصول على الذهب والفضّة!
 
وقد فتحت نهضة كربلاء طريق "انتقاد حكومة الجور" و"الاعتراض على الظلم" و"الثورة على الطاغوت"، ومنذ ذلك الحين استلهم الكثيرون من دماء شهداء كربلاء تكليفهم وخطّ سيرهم، وأقاموا جهادهم ومقاومتهم استناداً إلى النهضة الحسينيّة.
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص307.
2- نفس المصدر، وفي اللهوف، ص 34: سعادة بدلاً من شهادة، هكذا سائر المصادر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

 


216

البلاغات السياسيّة

 الدعوة إلى العدالة


كان ظلم النّاس وعدم الاهتمام بحقوقهم من أبرز مفاسد الحكم الأمويّ وكانت العدالة ومقارعة الظلم من أبرز محاور نهضة عاشوراء أيضاً.

والعدل ممّا أمر به الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويشمل العدل في نطاقه جميع أمور الحياة ومجالاتها، حتّى معاملة الوالدين العادلة مع أبنائهم، ولكنّ أبرز وأهمّ مصاديق العدل هو العدالة الاجتماعيّة ومراعاة حقوق الأفراد من قبل الحكومات.

والأمويّون كما ظلموا أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كذلك ظلموا النّاس وعاملوهم معاملة ظالمة قائمة على أساس الطغيان والعدوان، والتكليف الشرعيّ لكلّ مسلم يوجب مقارعة الظلم والقيام ضدّه، خصوصاً إذا كان المسلم رجلاً مثل الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي هو سيّد هذه الأمّة و"إمام الحقّ" فيها، فتكليفه الشرعيّ في مواجهة الظلم ومقارعته والعمل على تحقيق العدالة هو التكليف الأثقل والأكبر.

في خطبته التي خطبها عليه السلام في منزل البيضة من منازل طريقه إلى العراق والتي ذكر فيها حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله!" قال عليه السلام مشيراً إلى ظلم بني أميّة وإفسادهم في الأرض، وإلى تكليفه الأكبر والأثقل في التغيير والإصلاح: "... ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

217

البلاغات السياسيّة

 وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر..."1، وروي أنّه عليه السلام قال للفرزدق: "... وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا"2.

 
وفي كلام آخر يقول عليه السلام: “وتعدّت بنو أميّة علينا"3.
 
وفي رسالته إلى وجهاء الكوفة يقول عليه السلام: “فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله"4.
 
ويقول عليه السلام في كلام آخر: "... الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك..."5.
 
وهدف تحقيق العدالة صرّح به أيضاً أنصار الإمام الحسين عليه السلام، فهذا مسلم بن عقيل عليه السلام مثلاً، لمّا قال له ابن زياد: "إيهٍ يا ابن عقيل! أتيت النّاس وهم جميعٌ فشتّت بينهم، فرّقت كلمتهم، وحملت بعضهم على بعضٍ؟!
 
قال: كلّا، لستُ لذلك أتيتُ، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتينا لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب..."6.
 
ونقرأ في زيارة الإمام الحسين عليه السلام أيضاً: "... أشهدُ أنّك قد أمرتَ بالقسط والعدل ودعوت إليهما..."7.
 
إنّ عنصر الدعوة إلى العدالة والسعي إلى تحقيقها في نهضة عاشوراء، وجهاد الإمام الحسين عليه السلام ضدّ الظلم ومقارعته إيّاه، كان أحد الأصول التي استلهمتها أمّتنا
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص307.
2- تذكرة الخواص، ص217.
3- البحار، ج44، ص383.
4- الإرشاد، ج2، ص39، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام .
5- تحف العقول، ص239.
6- الإرشاد، ج2، ص62.
7- مفاتيح الجنان، ص439، زيارته عليه السلام أوّل رجب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

218

البلاغات السياسيّة

 من نهضة عاشوراء في قيامها ضدّ الطاغوت في إيران.

 
وكان قد صرّح الإمام الخمينيّ مشيراً إلى الأصل المهمّ من أصول نهضة سيّد الشهداء عليه السلام قائلاً:
 
"منذ ذلك اليوم الأوّل الذي قام فيه سيّد الشهداء سلام الله عليه، كان قيامه من أجل إقامة العدل، كان دافعه إقامة العدل..."1
 
"سيّد الشهداء سلام الله عليه كان قد بذل كلّ عمره وكلّ حياته من أجل إزالة المنكر، والوقوف في وجه حكومة الظلم، ومنع المفاسد التي أوجدتها الحكومات، لقد أنفق جميع عمره، وأنفق جميع حياته في هذا الأمر، وهو أن تنتهي هذه الحكومة، حكومة الجور، وتزول من الوجود"2.
 
العدالة بمعنى أن يتمتّع الجميع بالحقوق الإنسانيّة والإسلاميّة، وأن يرعى الحقّ بين الجميع بالتساوي، وينظر إلى الجميع بعين واحدة في الحقّ، كانت أيضاً قد تجلّت في نهضة عاشوراء.
 
كان الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء يحضر مصارع جميع الشهداء، فلا يفرّق بين ابنه الشابّ وبين غلامه، أو بين المولى وبين الخادم، لقد حظي جميع الشهداء في ذلك اليوم العصيب بشرف حضوره عليه السلام عند مصارعهم.
 
ومن جملة ما كانت مولاتنا زينب الكبرى عليها السلام قد وبّخت به يزيد بن معاوية مجافاته العدل عمداً وإصراره على الظلم قصداً، حيث قالت: "...أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا... ؟! "3.
 
فبلاغ عاشوراء دعوة البشريّة إلى السعي من أجل إقامة العدل والقسط، إذ بدون الحياة الاجتماعيّة القائمة على العدل تضيع جميع القيم الإنسانيّة، وتنشأ أسباب موت القوانين الدينيّة والأنظمة الإلهيّة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “العدل حياة الأحكام"4.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج20، ص189.
2- نفس المصدر، ص190.
3- بحار الأنوار، ج45، ص158.
4- غرر الحكم، ج1، ص104.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

219

البلاغات السياسيّة

 مقارعة الباطل

 
الصراع بين "الحقّ" و"الباطل" ممتدّ في التأريخ البشريّ وتأريخ الأديان الإلهيّة على امتداد حياة الإنسان على هذه الأرض، والباطل سواء على صعيد الأفكار والعقائد، أو على صعيد السلوك والأخلاق، أو على الصعيد الاجتماعيّ والسياسيّ، هو الشيء الذي كان جميع الأنبياء والأوصياء والأئمّة عليهم السلام قد قارعوه وخاضوا الجهاد ضدّه. وكان من السنن الإلهيّة أيضاً أنّ الله تبارك وتعالى دائماً يدمغ الباطل ويزهقه بقوّة الحقّ: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)1.
 
إنّ الله هو الحقّ، والشرك والشركاء باطل، والإسلام هو الحقّ، والكفر والنفاق باطل، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام حقٌّ وأهل الحقّ، ومخالفوهم باطل وأهل الباطل، والعدل والصدق حقّ، والظلم والخداع باطل، والحكومة الإسلاميّة حقّ، وحكومة الطاغوت باطل.
 
وكان الإمام الحسين عليه السلام في زمانه أَمَامَ باطلٍ صريحٍ وعلنيّ متمثّل في "حكومة يزيد"، وكان تكليفه المقاومة والجهاد ضدّ هذه الحكومة الفاسدة وتصرّفاتها الباطلة في المجتمع، وقد أعلن سيّد الشهداء عليه السلام أنّ أحد دواعي نهضته هو: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما"2.
 
 
 
 

1- الأنبياء، 18.
2- بحار الأنوار، ج44، ص381.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

220

البلاغات السياسيّة

 و"البدعة" مصداق آخر للباطل، يعني أنّ الشيء الذي هو ليس من الدين يُروَّجُ له في المجتمع على أنّه من الدين ويعمل به على أساس ذلك، وكان الخطّ الذي يتنبّاه الحكم الأمويّ هو إماتة السنّة وإحياء البدعة، ولذا فمن أجل مقارعة هذا الباطل كان الإمام الحسين عليه السلام قد اختار طريق الجهاد والشهادة، ذلك لأنّه رأى أنّ السنّة قد أميتت والبدعة قد أحييت، وقد صرّح بهذا الداعي للنهضة في رسالته إلى إشراف البصرة، حيث قال عليه السلام: “فإنّ السُنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت"1، وكان عليه السلام قد صرّح قبل ذلك أيضاً أمام والي المدينة: 

 
"... ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله..."2.
 
إنّ أساس الصراع بين أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبين آل أميّة هو التضادّ بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، لا الخصومة الشخصيّة والعائليّة، يقول الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام: “نحن وبنو أميّة اختصمنا في الله عزَّ وجلَّ، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة"3.
 
وكان سعي أهل البيت عليهم السلام لإعادة الخلافة الإسلاميّة وحاكميّة الإسلام إلى مجراها الحقّ والأصيل، وللقضاء على سلطة الباطل الجائرة، صفحة أخرى من صفحات هذا الجهاد لمقاومة ومقارعة الباطل، يقول الإمام الحسين عليه السلام مشيراً إلى حقّانيّة جهاده وأحقيّته بالخلافة، وضرورة خلع الأمّة لحكومة الأمويّين الباطلة: "ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان"4.
 
وفي الخطبة المهمّة التي ألقاها الإمام الحسين عليه السلام في منزل البيضة والتي طبّق فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله!"5 على حكومة
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص107.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص184.
3- الخصال، ج1، ص42، ح35.
4- وقعة الطفّ، ص170.
5- تاريخ الطبريّ، ج3، ص307.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

221

البلاغات السياسيّة

 يزيد، حيث قال عليه السلام بعد ذلك: "ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله..."1، كان عليه السلام بهذا قد أوضح بجلاء تكليف "مقاومة الباطل" بصورة كليّة ودائميّة، وهو أنّ على المسلمين قبال قوى الباطل ألّا يسكتوا ولا يداهنوا.

 
 
 

1- نفس المصدر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

222

البلاغات السياسيّة

 الجهاد


"الجهاد" من تكاليف المسلمين المهمّة في الحفاظ على الدين، والذود عن كيانهم، وفي مواجهة الأعداء، وهو بذل غاية الجهد من كلّ جهة وعلى جميع الأصعدة بما يتناسب مع الظروف الزمانيّة والمكانيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وما سواها، من أجل دفع تجاوزات الأعداء، أو الدفاع عن المظلومين، أو حفظ الإسلام وأرواح المسلمين وأموالهم.

وهذه الفريضة التي هي من "فروع الدين" كانت ولا تزال سبب عزّة المسلمين، ولقد كانت واقعة عاشوراء أحد مظاهر العمل بهذا التكليف الدينيّ، فالجهاد ربّما كان ضدّ المتجاوزين والأعداء من الخارج، وربّما كان ضدّ المتمرّدين وأهل البغي والفساد في الداخل، وربّما كان مقاومة ومقارعة لحكومة ظالمة تسعى جاهدة لهدم الإسلام، ولقد ورد في الروايات أنّ من "الجهاد" قول كلمة حقّ أمام إمام ظالم.

ولقد كان النّاس في عصر الإمام الحسين عليه السلام قد ابتلوا بحكومة ظالمة وفاسدة لا ترعى أيَّ حرمة للإسلام والمقدّسات الدينيّة ونواميس المسلمين، وكان الإسلام في ظلّ هكذا حكومة عرضة للزوال، فكان تكليف الجهاد ضدّ الحكومة الظالمة هو الذي دفع الإمام الحسين عليه السلام للخروج على يزيد والإعلان عن نهضته المقدّسة، وقد اتّخذ عليه السلام هذا الموقف استناداً إلى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

223

البلاغات السياسيّة

 مدخله"1.

 
لقد رأى الإمام الحسين عليه السلام أنّ من الواجب القيام والنهضة ضدّ مثل هذه الحكومة، فامتنع عن البيعة ليزيد، وأعلن عن نهضته، وتوجّه إلى مكّة، ومنها تحرّك نحو الكوفة ليقود الشيعة في الجهاد ضدّ الظلم.
 
وكان الشيعة في الكوفة قد كتبوا الرسائل الكثيرة جدّاً إلى الإمام عليه السلام وهو في مكّة، يدعونه فيها إلى الكوفة ليخرجوا تحت رايته على السلطة الأمويّة.
 
إذن فجهاد الحسين بن عليّ عليهما السلام  كان من أجل إحياء الدين والدفاع عن الحقّ والعدالة، وكان عليه السلام وأنصاره (قدّس سرّهم) أيضاً على أتمّ الاستعداد للاستشهاد في هذا السبيل ثمناً لرفضهم حكومة الظلم، لقد كان جهاده عليه السلام من نوع الجهاد ضدّ "البغي الداخليّ".
 
في لقائه مع الفرزدق في أحد منازل الطريق إلى الكوفة، قال عليه السلام له: "يا فرزدق! إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا"2.
 
وخلافاً لإعلام أعداء أهل البيت عليهم السلام وتبليغاتهم التي سعوا من خلالها إلى إيهام الأمّة بأنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام نوع من التمرّد والعصيان ضدّ الخليفة، ليجوّزوا بهذا قتله وقتل أنصاره، كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يصرّون ويركّزون على أنّ قيام عاشوراء جهاد في سبيل الله، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره مجاهدون محقّون وشهداء، قاموا لله، من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن دين الله، ومكافحة البدع، ونقرأ في متون الأخبار والزيارات الكثيرة الواردة عنهم عليهم السلام كثيراً من قبيل هذه التعريفات والمعاني، ففي حقّ الإمام الحسين عليه السلام نقرأ مثلاً: "الزاهد الذائد المجاهد، جاهد فيك المنافقين والكفّار، جاهدت في سبيل الله، جاهدت
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص307.
2- تذكرة الخواص، ص218.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

224

البلاغات السياسيّة

 الملحدين، جاهدت عدوّك، جاهدت في الله حقّ جهاده، و...."1، وفي حقّ أنصاره عليهم السلام نقرأ مثلاً: "جاهدتم في سبيله، أشهد أنّكم جاهدتم في سبيل الله، الذابّون عن توحيد الله و..."2.

 
إنّ أعلى مراحل الجهاد تلك التي يقوم المؤمن فيها لله مخلصاً بكلّ قوته واستطاعته ليقاتل أعداء الله حتّى آخر نفس، باللسان وبالسلاح، ببذل الدّم والروح حتّى الشهادة، ولقد بلغ الإمام الحسين عليه السلام وجميع المستشهدين بين يديه وفي سبيله في نهضة عاشوراء هذا المستوى الجهاديّ الكامل، ولذا نقرأ في زيارة الحسين عليه السلام، وزيارة مسلم بن عقيل عليه السلام، وبقيّة الشهداء هذا التعبير: "... جاهدت في الله حقّ جهاده...".
 
لقد كانت عاشوراء ميدان تجلّي هذا التكليف الدينيّ، ووجوب الجهاد ضدّ الكفّار وأعداء الإسلام أيضاً فرضٌ ديني على الجميع وفي جميع العصور وضدّ جميع الأعداء.
 
وكان علماء الدين على طول القرون سبّاقين دائماً إلى الجهاد ضدّ أعداء الإسلام والطامعين بالتسلّط على المسلمين.
 
وكان الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) يرى أنّ دروس عاشوراء في الجهاد والشهادة للجميع ولكلّ العصور: "عاشوراء ثورة الداعين إلى العدل، كانت قد قامت بعددٍ قليل وإيمان وعشق عظيم لمواجهة الظالمين سكّان القصور والمستكبرين اللصوص، وقانونها هو أن يكون هذا النهج عنوان حياة الأمّة في كلّ زمان وكلّ أرض.
 
إنّ الأيّام التي مرّت بنا كانت عاشوراء، فالميادين والشوارع والأزقّة والأحياء التي سالت فيها دماء أبناء الإسلام كانت كربلاء"3.
 
إن هذا الجهاد الدينيّ الضامن لترقّي الأمّة الإسلاميّة واسع جدّاً، ولا ينال المسلمون العزّة إلّا في ظلال الجهاد، يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: “فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك... والجهاد عزّاً للإسلام..."4، ويقول إمام الأمّة في
 
 
 

1- في الزيارات المختلفة، راجع: مفاتيح الجنان، ص418 و423 و425 و441 و444.
2- راجع: نفس المصدر ونفس الصفحات.
3- نفس المصدر، ج9، ص57.
4- نهج البلاغة، نظم صبحي الصالح، ص512، الحكمة رقم 252.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
248

225

البلاغات السياسيّة

 شمول هذا الإيمان الباعث على العزّة: "حربنا حرب العقيدة، وهي لا تعرف الحدود والحواجز الجغرافيّة، ويجب علينا في حربنا العقائديّة أن نعبّئ لها التعبئة العظيمة من جنود الإسلام في العالم"1.

 
 

1- صحيفة نور، ج20، ص236.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

226

البلاغات السياسيّة

 الإختبار


المقصود من الاختبار هنا هو امتحان الأنصار واختبار الأصحاب في الحركة الانقلابيّة والإصلاحيّة، فإنّ الدخول في ميدان العمل الجهاديّ لا يوفّق ولا يحقّق الأهداف المنشودة إلّا بأنصار وأصحاب خاضوا امتحانات هذا الطريق ونجحوا فيها.

إنّ انتخاب قائد الحركة لأعوانه، وتصفية القوّة الذاتيّة لحركته من الأتباع غير الخالصين- الذين لا يحملون هموم ودوافع الحركة، أو التحقوا بها طمعاً في مكاسب دنيويّة، أو الذين يفتقرون إلى الهمّة العالية الكافية لمواصلة السير في خطّ الحركة إلى نهاية المطاف- من شروط نجاح الحركة في تحقيق أهدافها المنشودة.

والأمر الذي يشكّل محور هذا الاختبار هو الاعتقاد الواقعيّ والإيمان القويّ لأفراد قوى الحركة بخطّ وأهداف هذه الحركة، وإطاعة القيادة في المحبوب والمكروه بلا مناقشة أو اعتراض، والتقيّد والالتزام بالتكاليف وببرامج الحركة، وتوفّر الإخلاص والصدق فيهم، والقدرات الجسميّة والقتاليّة في الحرب، والروحيَّة القويّة اللازمة للثبات والاستقامة حتّى نهاية المطاف.

ولقد عرّض الإمام الحسين عليه السلام من خرج معه من مكّة ومن التحق به أثناء الطريق للاختبار مرّات عديدة ليخلّص قوّته الحقيقية من القوى العالقة بها لأيّ سبب من الأسباب الخارجة عن دوافعه وأهدافه، وذلك من خلال إخبار من كان في ركبه بمجريات أحداث الكوفة ومستجدّاتها، أو إخبارهم بأنّ هذا الركب سائر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
250

227

البلاغات السياسيّة

 إلى الشهادة، وأنّه عليه السلام سوف يُقتل ويُقتل أنصاره، وفعلاً فقد تفرّق عنه نتيجة هذه الإخبارات كثيرون كانوا لا يحملون دوافعه ولا يعيشون أهدافه، ولم يعقدوا النيّة والعزم على إطاعته، وآخرون صحبوه طمعاً في الدنيا وغنائمها، وآخرون لم تسمح أنفسهم بعد بالموت، فلم يبق معه إلّا عشّاق الشهادة الخالصون المخلصون في الإطاعة والتضحية، "وإنّما فعل ذلك لأنّه إنّما تبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه"1.

وقد أكّد القرآن أيضاً على هذه السُنّة الحركيّة في اختبار القوّة الذاتيّة في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)2.
 
في منزل "زبالة" قرأ الإمام الحسين عليه السلام على من حوله في ركبه هذا الكتاب:
 
"بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع، قُتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرجٍ ليس عليه ذمام" فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفرٍ يسير ممّن انضووا إليه...3، وفي نقل السيّد ابن طاووس: "فتفرّق عنه أهل الأطماع والارتياب، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب"4، وفي نقل الدينوريّ: "ولم يبق معه إلّا خاصّته"وفي نقل القندوزيّ أنّه عليه السلام كان قد قال للنّاس حينذاك: "أيّها النّاس! فمن كان منكم يصبر على حدّ السيف وطعن الأسنّة فليقم معنا وإلّا فلينصرف عنّا"6.
 
وكان عليه السلام قد ذكر أيضاً مثل هذا القول في آخر خطبة له بمكّة، حيث قال:
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص166.
2- آل عمران، 179.
3- الإرشاد، ج2، ص75 و76.
4- اللهوف، ص32.
5- الأخبار الطوال، ص247. 
6- ينابيع الموّدة، ص406.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

228

البلاغات السياسيّة

 "... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا..."1.

 
وفي ليلة عاشوراء في خطبة الإمام المعروفة بين أصحابه بعد أن أثنى عليهم ثناءه الخالد، وشكرهم وجزّاهم خيراً، قال عليه السلام: “... يا أهلي وشيعتي! اتّخذوا هذا الليل (جملاً لكم) وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، وأنتم في حلّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني"2، لكنّ أحداً من أنصاره لم ينصرف عنه تلك الليلة3، حتّى أنّ القاسم بن الحسن عليهما السلام  لمّا سأل عمّه: وأنا فيمن يُقتل؟ لم يجبه الإمام عليه السلام ابتداءً بل سأله: يا بنيّ كيف الموت عندك؟ قال القاسم عليه السلام:يا عمّ! أحلى من العسل! حينذاك وبعد أن امتحنه فوُفِّقَ في الامتحان بشرّه بالشهادة4.
 
ولقد كانت مولاتنا زينب عليها السلام ليلة عاشوراء منتبهةً إلى هذه النكتة المهمّة التي تعتبر من الأصول الحربيّة، فحينما جاء الإمام عليه السلام إلى خيمتها وجلسا يتحدّثان، كان نافع بن هلال (رضوان الله عليه) واقفاً خارج الخيمة، فسمع زينب عليها السلام تسأل أخاها قائلة: هل استعلمتَ من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة! فقال عليه السلام لها: "والله لقد بلوتهم فما وجدتُ فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه!"5
 
 
 
 

1- مثير الأحزان، ص41.
2- مدينة المعاجز، ج4، ص214، ح295.
3- الإرشاد، ج2، ص91.
4- مدينة المعاجز، ج4، ص214، ح295.
5- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص265.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

229

البلاغات السياسيّة

 الإصلاح

 
حينما يتباعد المجتمع عن معايير الدين الأصيلة وموازين القيم والأخلاق، يمدُّ الفساد آنذاك في كيان هذا المجتمع جذوره، وتُبتلى الروابط الإنسانيّة والعلاقات الاجتماعيّة والصلة بين الحاكم والأمّة بالانحراف عن الصراط القويم، وما انتشار عدم الالتزام والانفلات واللامبالاة ورواج الظلم وهيمنة الأغنياء والحيف على الفقراء وخيانة بيت مال المسلمين والتعرّض الجائر لأموال وحياة وأرواح المسلمين وفقدان الأمن والعدل، إلّا بعض من زوايا هذا "الفساد الاجتماعيّ".
 
وطريق إزالة الفساد يتمثّل في إجراءات إصلاحيّة لإقالة المسؤولين عن الإفساد من الحكّام وأعوانهم ولتطبيق العدل والتنفيذ الدقيق للقانون والعمل بالكتاب والسنّة.
 
وهذا نوع من الحركة الإصلاحيّة التي كان الإمام الحسين عليه السلام يسعى إلى تحقيقها في نهضته المقدّسة، إذ لم يكن يقرّ بصحّة فوضى الأوضاع الاجتماعيّة السيّئة، ولم يكن ليطبق الفم ساكتاً عنها.
 
ولقد أشار سيّد الشهداء عليه السلام إلى هذا الهدف الإصلاحيّ في وصيّته التي كتبها إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، في قوله عليه السلام: “... وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي..."1.
 
ويقول عليه السلام أيضاً في خطبته التي انتقد فيها العلماء المتواطئين مع السلطان الظالم: "... اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول 
 
 
 

1- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص89.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

230

البلاغات السياسيّة

 الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك..."1.

 
وهذا العمل الإصلاحيّ كما يتعرّض لتغيير أساليب سلوك الحكومة الجائرة والمسؤولين، يتعرّض كذلك لإصلاح الخصال الاجتماعيّة وتصرّفات وسلوك الأمّة.
 
من الملفت للانتباه أنّنا نقرأ في بعض خطب الإمام الحسين عليه السلام ترغيبه في التضحية والجهاد والحثّ عليهما مقترناً برسم صورة للأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة التي تعيشها الأمّة يومذاك، فمن خطبته التي خطبها في منزل (ذي حسم) مثلاً قال عليه السلام: “... وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حذاء، فلم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة (سعادة) ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما"2.
 
إنّ النهضة الإصلاحيّة لأبي عبد الله الحسين عليه السلام قد استمدّت جذورها من النهضات الإصلاحيّة للأنبياء عليهم السلام، إذ هو وارث الأنبياء في خطّ صلاحهم وخطّ إصلاحهم، وقد بذل عليه السلام مهجته في هذا السبيل من أجل القضاء على المفاسد، لنقرأ هذا المعنى الكريم عن لسان الإمام الخمينيّ  (قدس سره) :
 
"لقد أتى جميع الأنبياء من أجل إصلاح المجتمع، وجميعهم كانوا على إيمان بهذه المسألة: وهي أنّ الفرد يجب أن يكون فداءً للمجتمع... ولقد تحرّك سيّد الشهداء عليه السلام حسب هذا الميزان، فضحّى بنفسه وبأنصاره، إذ إنَّ الفرد يجب أن يكون فداءً للمجتمع، يجب أن يصلح المجتمع"3.
 
كان إمام الأمّة (قدس) يرى أنّ نهضته على نفس هذا النهج، وبالاستلهام من نهضة عاشوراء ثار على الطغيان والطاغوت والمفاسد الاجتماعيّة وفوضى الأمور، يقول (رضوان الله عليه) مشيراً إلى ارتباط هذه النهضة بنهضة عاشوراء:
 
"حينما يرى سيّد الشهداء عليه السلام أنّ حاكماً ظالماً جائراً يحكم النّاس، ويظلم 
 
 
 
 

1- تحف العقول، ص239.
2- تاريخ الطبريّ، ج3، ص307، واللهوف، ص34.
3- صحيفة نور، ج15، ص148.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
254

231

البلاغات السياسيّة

 النّاس، فعليه أن يقف بوجهه ويمنعه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فقام عليه السلام بمجموعة من الأفراد، بعدّة من الأفراد، وهم لا يُحسب لهم حساب قبال ذلك الجيش الجرّار، لكنّ التكليف كان آنذاك أنّ على الإمام عليه السلام أن يثور ويبذل دمه حتّى يصلح هذه الأمّة، حتّى يُسقط راية يزيد، وهكذا صنع الإمام عليه السلام فعلاً، وتمَّ الأمر... لقد ضحّى عليه السلام بكلّ ما لديه من أجل الإسلام. أفنحن، أفدماؤنا أعزّ من دم سيّد الشهداء؟! لِمَ إذن نخاف من أن نجود بدمائنا، أو نجود بأرواحنا؟! "1.

 
إنّ إصلاح المجتمع من زاوية المبانيّ الاعتقاديّة، والخصال الأخلاقيّة، وتحكيم المعايير القيّمة، وترويج الثقافة الدينيّة، ومكافحة الخرافات والبدع والظلم، تندرج بنحو ما ضمن مفهوم "مكافحة البدعة" وبلاغ "الإحياء" أيضاً، حيث تحظى هناك بدقّة وتحقيق أكثر، وقد أقام الإمام الحسين عليه السلام بعداً من أبعاد طلبه الإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم على مبنى إحياء الكتاب والسنّة وإزالة البدعة والجاهليّة عن أفكار وأعمال النّاس2
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ج2، ص208.
2- فليراجع القارئ الكريم ذلك القسم من البحث.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

232

البلاغات السياسيّة

 انتصار الدم على السيف!

 
إنَّ الفتح لا يعني النصر العسكريّ دائماً، فربّما كان سلاح المظلوميّة أنجح وأقوى من سلاح الحديد والنّار، وربّما أدّى دم الشهداء في مواجهة من مواجهات الحقّ ضدّ الباطل إلى إضعاف ركائز السلطة الجائرة، ومهّد ليقظة الأمّة ووعيها، ثمّ أشعل فتيل ثورتها وأجّج نارها، فانهزم الجبابرة الظالمون بعد افتضاحهم وخزيهم وأُبيدوا، وهذا هو مفهوم انتصار الدم على السيف.
 
ولأنّ نهضة عاشوراء قامت على أساس الإيمان والإخلاص والدعوة إلى الحقّ، وضحّى شهداؤها بأرواحهم أداءً للتكليف الإلهيّ ولنصرة حجّة الله على الخلق، فقد أفاض الله تبارك وتعالى على هذه النهضة بركاتٍ وآثاراً كثيرة ومتواصلة ما بقيت الأرض والسماء، وكان أبطال ملحمة عاشوراء في الواقع هم المنتصرين، إذ لم يزل ولا يزال ذكرهم وشرف شهادتهم وعزّهم يتعاظم يوماً بعد يوم، أمّا الأمويّون فقد بادوا ونُسوا ولم تبق لهم إلّا اللعنات المتواصلة ما عَنَّ ذكرهم.
 
لمّا عاد الإمام السجّاد عليه السلام ببقيّة الركب الحسينيّ إلى المدينة المنوّرة بعد واقعة عاشوراء ورحلة الشام، جاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: من الغالب؟ فقال عليه السلام: “إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف من الغالب"1.
 
وهذا دليل على نوع آخر من الفتح والانتصار هو أعلى وأفضل من الفتح العسكريّ، وهو بقاء وخلود وانتصار فكر ورأي ومنهج ومنطق الإنسان الذي ضحّى بنفسه 
 
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص370.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

233

البلاغات السياسيّة

 وبأنصاره وبكلّ ما لديه فداءً للإسلام.

 
إنّ التأثير الذي تركته شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره على أفكار وعواطف وضمائر النّاس في ذلك العصر بلغ من السعة والعمق والشمول إلى الحدّ الذي أثّرت هذه الفاجعة حتّى على عائلة يزيد وعوائل أتباعه، وهذا دليل على انتصار شهادة المظلومين على أسلحة الظالمين1.
 
نقرأ هذا الخطاب الشريف في زيارة الإمام الحسين عليه السلام:
 
"أَشهدُ أنّك قُتلت ولم تَمُت بل برجاء حياتك حييت قلوب شيعتك، وبضياء نورك اهتدى الطالبون إليك، وأشهد أنّك نور الله الذي لم يُطفأ ولا يُطفأُ أبداً،... وأشهد أنَّ هذه التربة تربتك، وهذا الحرم حرمك، وهذا المصرع مصرع بدنك، لا ذليل والله معزُّك، ولا مغلوب والله ناصرك..."2.
 
كما أنّ ما نقرأه في متون زيارات شهداء كربلاء عليهم السلام في مخاطبتهم بالفائزين الذين فازوا فوزاً عظيماً هو مظهر آخر من مظاهر هذا النوع من انتصار الدم على السيف، نقرأ مثلاً: "أشهدُ أنّكم الشهداء والسعداء وأنّكم الفائزون في درجات العُلى..."3.
 
ونقرأ عن لسان الإمام الحسين عليه السلام في هذا البُعد أيضاً أنّ الشهادة تكريم له من الله وهوان لأعدائه، فمن أقواله عليه السلام في يوم عاشوراء: "... وأيمُ الله إنّي لأرجو أن يُكرمني ربّي بالشهادة بهوانكم، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون..."4، وقوله عليه السلام لعمر بن سعد في يوم عاشوراء أيضاً: "أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم"5.
 
 
 
 

1- نقرأ في المصادر التأريخيّة وكتب المقاتل أنّ زوجة يزيد أنكرت عليه قتل الحسين عليه السلام وهتك حجاب بنات الرسالة، وكذلك أنكر عليه معاوية ابنه قتل الإمام عليه السلام ، وأنكرت أمّ عبيد الله بن زياد (مرجانة) على ابنها جريمته بقتل الإمام عليه السلام ، وكذلك أنكر عليه فعلته أخوه، وأنكرت زوجة خولّي على زوجها إتيانه برأس الحسين عليه السلام إلى بيتها وأصرّت على فراقه والتخلّص منه، و...
2- مفاتيح الجنان، ص443، زيارة النصف من شعبان.
3- نفس المصدر، ص440، زيارة أوّل رجب.
4- بحار الأنوار، ج45، ص51.
5- أعيان الشيعة، ج1، ص609.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

234

البلاغات السياسيّة

 ولقد صار هذا المنطق عنوان ثورات الشيعة على الطواغيت، وفي الثورة الإسلاميّة في إيران لم تكن الأمّة ليمتلكها خوف من بذل الدماء وتقديم الشهداء ذلك لأنّها كانت تعلم أنّ هذا هو الممهّد للانتصار النهائيّ على الطاغوت، وإمام الأمّة الذي هو سمّى شهر المحرّم شهر انتصار الدم على السيف، كان يقول بصدد هذا الشهر الدامي في ضوء هذه الرؤية والعقيدة:

 
"الشهر الذي انتصر فيه الدم على السيف، الشهر الذي دحضت فيه قوّة الحقّ الباطل إلى الأبد، وختمت بوصم (البطلان) على جباه الظالمين والحكومات الشيطانيّة، الشهر الذي علّم الأجيال على طول التأريخ طريق الانتصار على الرماح... الشهر الذي يجب أن تنتصر فيه قبضات دعاة الحريّة والمنادون بالاستقلال والناطقون بالحقّ على الدبّابات والرشّاشات وجنود إبليس، وتمحو كلمة الحقّ فيه الباطل..."1.
 
ويقول  (قدس سره)  بصدد هذه التضحيات الدامية التي تحقّق السعادة للأمّة: "إنّ طريق ونهج الشهادة لا يُمكن أن يُعمَّى عليه، وهذه الأمم والأجيال القادمة هي التي سوف تقتدي بطريق الشهداء، وستكون تربة الشهداء الطاهرة هذه إلى يوم القيامة مزاراً للعاشقين والعارفين ودار الشفاء للأحرار"2.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج13، ص225.
2- نفس المصدر، ج20، ص239.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

235

البلاغات السياسيّة

 التأسّي والإقتداء


يتأثّر النّاس بسلوك وتصرّفات الأشخاص ويقتدون بها أكثر ممّا يتأثّرون بأقوالهم وكتاباتهم، فالتأثير الذي تتركه حادثة ما أو السلوك القدوة على أفكار النّاس وأعمالهم أكبر بكثير ممّا تتركه الأقوال من تأثير. 

من هنا عرّف القرآن الكريم أُناساً بعنوان "الأسوة" ليقتدي النّاس ويتأسّوا بهم في الإيمان والعمل، وما ورد في القرآن أيضاً من وقائع سير ومواقف من حياة أُناسٍ وأُمَمٍ من القرون السالفة، خصوصاً ما يتعلّق منها بأعمالٍ صالحة وإيمان وصبر ومجاهدات وطاعات وإيثار الصلحاء والحكماء، إنّما ورد ذكره للتعريف ب-"الأسوات".

ولقد كان تأريخ الإسلام والشخصيّات الإسلاميّة المرموقة "أُسوة" أيضاً للمسلمين في كلّ العصور، ولقد أوصى أيضاً أئمّتنا عليهم السلام وأمرت تعاليم ديننا بأن نتأسّى ونقتدي بالنماذج من النماذج السامية المرموقة على صعيد الكمالات الشرعيّة والروحيّة والأخلاقيّة.
ومن بين الحوادث التأريخيّة تتمتّع "ملحمة عاشوراء" و"كوكبة شهداء كربلاء" بمكانة سامية خاصّة في أفق معنى "الأسوة" و"التأسّي"، فلقد كانت ولا تزال هذه الملحمة الخالدة المقدّسة إلى قيام الساعة مشهداً من مشاهدها، وبطلاً من أبطالها، أُسوة وقدوة لجميع طُلّاب الحقّ والدعاة إليه، المقارعين للظُلم والجور.

ومن نافلة القول أن نذكّر هنا أيضاً أنّ "أهل البيت عليهم السلام " عامّة أُسوات لنا في حياتهم ومماتهم، وفي أخلاقهم وجهادهم، وفي كمالاتهم الإنسانيّة، وفي كلّ شيء هو
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

236

البلاغات السياسيّة

 ممّا ينبغي التأسّي بهم فيه، إذ إنّ من دعائنا الدائم:

 
"اللّهمّ اجعل محياي محيا محمّد وآل محمّد، ومماتي ممات محمّد وآل محمّد"1.
 
والإمام الحسين عليه السلام في نهضته وقيامه ضدّ طاغوت عصره أُسوة للآخرين حيث يقول عليه السلام في خطبته التي خطبها في منزل (البيضة): "فلكم فيَّ أُسوة"2.
 
ونهضة عاشوراء ليست بدعاً من الأمر، إنّها مُستلَهَمةٌ من سيرة الأنبياء عليهم السلام وملاحم طلاّب الحقّ ودعاته الماضين من الأوصياء والربانّيين، ومن العلائم على هذا التأسّي مثلاً استشهاده عليه السلام بقول موسى عليه السلام حينما خرج من المدينة خائفاً من سلطة فرعون متوجّهاً إلى مدين، حيث قرأ الإمام عليه السلام حين خروجه من المدينة متوجّهاً إلى مكّة قوله تعالى: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)3.
 
وفي الوصيّة التي كتبها عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة قبل خروجه من المدينة، وذكر فيها أسباب نهضته المقدّسة، كان ممّا ذكره عليه السلام فيها أنّه يستهدي في هذه النهضة بهدي وسيرة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وأبيه عليه السلام، وأنّ ما يقوم به امتداد لخطّ تلك السيرة المقدّسة، حيث قال عليه السلام: “... وأسيرُ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب..."4، وهذا النهج ضمانة صحّة سير واختيار الإنسان المجاهد المتأسّي بمحمّد وآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم القدوات المعصومة وحجّة شرعيّة لعمله.
 
ويقول عليه السلام في كلام آخر مخاطباً أُخته زينب عليها السلام: “... أبي خيرٌ منّي، وأمّي خير منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولهم ولكلّ مسلم برسول الله أُسوة"5.
 
ولقد عرّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبطيه الحسن والحسين عليهما السلام  قائلاً: "إبناي هذان إمامان، قاما أو قعدا"6.
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، ص457، زيارة عاشوراء.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص361.
3- القصص، 21.
4- بحار الأنوار، ج44، ص329.
5- وقعة الطفّ، ص201.
6- الإرشاد، ج2، ص30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

237

البلاغات السياسيّة

 إذن فنهضة عاشوراء كانت على نفس هذا الخطّ أيضاً، خطّ كون الإمام الحسين عليه السلام إماماً وأُسوة وقدوة، وأنّ عمله عليه السلام أسوة ونهج للأمّة، ومستند شرعيّ لأتباع مذهب الإمامة للاشتراك في النهضة ضدّ حكومة يزيد، تلك النهضة التي هي امتداد لجهاد جميع أنبياء الله عليهم السلام، ولجميع الحروب المقدّسة التي خاضها المسلمون في صدر الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 
نقرأ في زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام: “... أشهدُ أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريّون، المجاهدون في سبيل الله، المبالغون في جهاد أعدائه ونصرة أوليائه..."1.
 
وهذه العبارة تدلّ على أنّ "شهداء بدر" أُسوة، وأنّ شهداء نهضة الإمام الحسين عليه السلام ضرّجوا بدمائهم تأسّياً بشهداء بدر.
 
ونقرأ في زيارة أنصار الإمام عليه السلام شهداء الطفّ: "السلام عليكم أيّها الربّانيّون ورحمة الله وبركاته، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع وأنصار"2.
 
إنّ وحدة الخطّ وغاية الجهاد بين المجاهدين الإسلاميّين وبين الأُسوات التي ارتضاها الله تعالى وعرّفها الدّين للناس تمنح المشروعيّة لجهاد المتأسّين بتلكم الأُسوات وتضفي عليه القداسة.
ولأنّ نهضة عاشوراء كانت "أسوة"، فقد غصّ بالحسرة والتأسّف أولئك الذين لم يشتركوا بتلك النهضة لسبب من الأسباب، كما انضمّ المقصّرون عن نصرة الإمام عليه السلام إلى حركة التوّابين أملاً في جبران ما كان من تقصيرهم، وهذا دليل على سموّ وامتياز نهضة الإمام عليه السلام.
 
وفي تاريخ الإسلام هناك أيضاً الكثير من الثورات ضدّ الظلم والنهضات الداعية إلى الحريّة كانت قد تكوّنت وحقّقت أهدافها بالاستلهام من نهضة عاشوراء صانعة العزّة والإباء، حتّى أنّ النضال من أجل استقلال الهند الذي قاده المهاتما غاندي كان ثمرة من ثمرات التأسّي بعاشوراء، يقول غاندي: "لقد قرأت بدقّة حياة الإمام الحسين
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، ص402.
2- تهذيب الأحكام، ج6، ص76.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

238

البلاغات السياسيّة

 عليه السلام ذلك الشهيد العظيم، واهتممتُ اهتماماً كافياً بتأريخ واقعة كربلاء، واتّضح لي أنّ الهند إذا أرادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بالإمام الحسين عليه السلام "1.

 
ويقول الزعيم الباكستاني محمّد عليّ جناح أيضاً: "لا يوجد في العالم أيّ نموذج للشجاعة أفضل من تلك التي أبداها الإمام الحسين عليه السلام من حيث التضحية والمغامرة، وفي عقيدتي أنّ على جميع المسلمين أن يقتدوا بهذا الشهيد الذي ضحّى بنفسه في أرض العراق"2.
 
فعاشوراء إذن كما تنادي بهذا البلاغ: وهو أنّه ينبغي الإقتداء والتأسّي بهذه "الأسوة" التي هي المثل الأعلى في جميع المجالات، مثل: الشجاعة، والإيثار، والإخلاص، والمقاومة، والبصيرة، ومقارعة الظلم، ومعرفة العدوّ، والتضحية، وإطاعة الإمام، وعشق الشهادة والحياة الخالدة، و... تعلن كذلك أنّ ماهيّة نفس نهضة عاشوراء مستلهمة ومستوحاة من سيرة أنبياء الله وأوليائه عليهم السلام ونهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وتؤكّد كذلك بشهادة التأريخ أنّ نفس واقعة عاشوراء كانت ولم تزل أهمّ أُسوة في المواجهات بين أهل الحقّ وأتباع الباطل.
 
ومن أبرز الأمثلة على هذا الصعيد الثورة الإسلاميّة في إيران حيث كانت دروس عاشوراء ومُثُلها العليا أقوى رأسمال لجهاد الأمّة ضدّ الطاغوت، ولدفاع أبطال الإسلام في جبهة الحرب المفروضة على إيران مدى ثماني سنوات.
 
إنّ جهاد المظلوم واستشهاده من أجل فضح الظالم، وأداء التكليف في أشدّ حالات الوحدة حيث لا ناصر ولا معين، وعدم التخلّي عن الهدف والغاية حتّى مع قلّة العدّة والعدد ومع شهادة الأنصار، كلّ ذلك من ثمرات التأسّي بعاشوراء.

ويمكن الاستلهام من عاشوراء أيضاً حتّى على صعيد التخطيط، وفنون القتال، وكيفيّة المواجهة، وتنظيم القوّات وخطّ سير الحرب، وكثير من الموضوعات الأخرى، يقول الإمام الخمينيّ  (قدس سره)  في هذا الصدد:
 
"لقد علّمنا سيّد الشهداء بعمله كيف ينبغي أن يكون الموقف في الميدان،
 
 
 
 

1- فرهنك عاشوراء، ص279.
2- فرهنك عاشوراء، ص279.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

239

البلاغات السياسيّة

 وكيف يكون الموقف خارج الميدان، وكيف ينبغي أن يقاتل أولئك الذين هم أهل المواجهة المسلّحة، وكيف ينبغي أن يبلّغ أولئك الذين هم خلف الجبهة كيفيّة المواجهة، كيف ينبغي أن يكون القتال بين عدد قليل وجيش كبير، كيف ينبغي أن يكون القيام والثورة بعدّة معدودة ضدّ حكومة متجبّرة مسيطرة على كلّ شيء، هذه أشياء كان سيّد الشهداء عليه السلام قد علّمها أُمّتنا..."1.

 
من الجدير أن يُتأمّل في نهضة عاشوراء مرّات ومرّات، لتتّضح وتتجلّى أكثر فأكثر أساليب المواجهة، وخطوط التبليغ والإعلام الأساسيّة، وأسباب بقاء وخلود حركة إنقلابيّة، واستمرار فوائدها المباركة على مدى سنين متمادية، والدروس التي تبعث الحياة والحركة في الأمم الخامدة، ولتتحوّل عاشوراء إلى "مدرسة" و"جامعة".
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج17، ص60.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

240

البلاغات السياسيّة

 التدبير والتخطيط


لقد كانت نهضة عاشوراء نهضة متقنة ومعدَّة إعداداً دقيقاً في ضوء خطّة متكاملة، ولم تكن انتفاضة عمياء بلا هدف.

لقد أُعمل لحركة أحداثها لحظة بلحظة ويوماً بيوم ومقطعاً بمقطع تفكيرٌ بعيد وعميق وتدبير دقيق، ولقد أُعدّت لجميع احتمالاتها وصورها المتوقّعة حلولاً وعلاجات ناتجة عن تأمّل محيط ودقيق، ويمكن ملاحظة مثل هذا التدبير والتخطيط سواء فيما يرتبط بما يصدر عن الإمام الحسين عليه السلام وركبه ومعسكره لتنفيذ خطّة النهضة أو فيما يرتبط بالخطط والأعمال التي تصدر عنها الإمام عليه السلام لإبطال مؤامرات العدوّ.

ومن مقوّمات موفقيّة أي حركة نضاليّة تمتّعها بالتّخطيط الناجح، وتُعدُّ نهضة عاشوراء "الأسوة" لهكذا مواجهة وقعت في مركز وقلب قوّة غاشمة مسلّطة باطلة، وفي ظروف محدودة خانقة، وسيطرة محكمة ودقيقة للعدوّ.
وبمرور عابر على حركة أحداث هذه النهضة المقدّسة منذ بدء حركة الإمام الحسين عليه السلام من المدينة المنوّرة إلى ختام هذه النهضة يمكننا ملاحظة نماذج كثيرة لهذا التخطيط والتدبير، منها على سبيل المثال والإشارة لا الحصر والتفصيل:

- استخدام الإمام الحسين عليه السلام ثلاثين رجلاً من شبّان بني هاشم لحراسته وحمايته في لقائه مع الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

241

البلاغات السياسيّة

 - تعيينه عليه السلام قوّة إستخباراتيّة في المدينة لجمع المعلومات وإيصالها إليه، حيث كلّف أخاه محمّد بن الحنفيّة بهذا الأمر.

 
- إبطاله عليه السلام لمؤامرة اغتياله في مكّة أثناء الحجّ، والتي كان من المقرّر أن يتمّ تنفيذها بتدبير من عمرو بن سعيد الأشدق والي مكّة.
 
- جمع المعلومات عن تطوّرات الوضع في الكوفة من العابرين والمسافرين القادمين منها على طول مسير الإمام عليه السلام من مكّة إليها.
 
- جذب قوّة مناصرة لجبهة الحقّ من خلال دعوته عليه السلام أفراداً كثيرين لنصرته على طول الطريق من مكّة إلى الكوفة، كما حصل في انضمام زهير بن القين إليه عليه السلام.
 
- تصفية قوّته الحقيقيّة الخالصة من جميع الأفراد العالقين بها طمعاً في مكسب من مكاسب الدنيا، وذلك من خلال الاختبارات المتتابعة.
 
- كيفيّة صفّه عليه السلام وتنظيمه واستعراضه لقوّته القتالية في كربلاء، وكيفيّة نصب المخيم وحفر الخندق خلفه.
 
- تنظيمه وتوزيعه عليه السلام لأفراد معسكره لمنع نفوذ الأعداء من خلال خيم معسكر الإمام عليه السلام.
 
- طلبه عليه السلام يوم تاسوعاء المهلة حتّى صباح عاشوراء، من أجل تقوية أنصاره روحيّاً ومعنويّاً، ولتكون تفاصيل حركة أحداث المعركة ووقائع مظلوميّته عليه السلام ومظلوميّة أهل بيته وأنصاره في وضح النهار، فتكون مكشوفة للجميع ولا يمكن التعمية عليها، وهذا شأن تبليغيّ مهمّ جدّاً.
 
- اليقظة التامّة والحذر والاحتياط خوفاً من مباغتات العدوّ.
- إستفادة بعض الأفراد من غطاء الانضمام إلى جيش الكوفة من أجل الالتحاق بالإمام عليه السلام في كربلاء.
 
- القدرة على ابتكار أساليب العمل في كربلاء، من حيث النزول والاستقرار.
 
- السعي لإيجاد الاختلال في قرارات قادة جيش العدوّ.
 
- و...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

242

البلاغات السياسيّة

 وعلى صعيد التخطيط الإعلاميّ والحرب النفسيّة ضدّ تحرّكات جيش الكوفة وحكومة الشام، يمكن الإشارة أيضاً إلى بعض النماذج، التي يمكن اعتبار كلّ منها شكلاً من أشكال "التدبير"، فمثلاً:


- القول بعدم مشروعيّة خلافة يزيد.

- اصطحاب الإمام عليه السلام النساء والأطفال ليكونوا شهود عيان لكثير من تفاصيل الواقعة، وليبلّغوا بذلك فيما بعد.

- الإستفادة من حضور النساء والأطفال للتأثير العاطفيّ على النّاس الآخرين.

- المكاتبات والمراسلات بين الكوفة والبصرة وتوضيح أهداف النهضة.

- التعرّف على التوجّهات الفكريّة والعاطفيّة لأهل الكوفة، وعلى خريطة القوى المؤثّرة فيها، ومدى نفوذ زعاماتها، ذلك من خلال إرسال الإمام عليه السلام ممثّله مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الكوفة.

- الإعلان عن مشروعيّة النهضة وذلك بالإستناد إلى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الإنكار على الحاكم الجائر، ووجوب الأمر بالمعروف، ووجوب إصلاح كلّ مواقع الفساد في حياة الأمّة.

- استثمار الإثارة العاطفيّة من خلال التذكير بالنسب الشريف في كونه عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن فاطمة عليها السلام.

- إتمام الحجّة، والتعريف بنفسه المقدّسة، وسحب كلّ ذريعة من يد العدوّ.
- إعداده عليه السلام لأهل بيته وأنصاره روحيّاً ونفسيّاً لمواجهة تفاصيل وقائع المأساة.

- كسب بعض الأنصار من خلال الجذب العاطفيّ والأخلاقيّة السامية كما في سقيه عليه السلام الحرّ وجيشه الماء في أثناء الطريق.

- جبران قلّة عدد الأنصار بالكيفيّة والأهليّة العالية لهم، والاستفادة من الأنصار الشجعان الطالبين للشهادة.

- تقوية البُعد المعنويّ والروحيّ للأنصار بذكر الله وتلاوة القرآن والمناجاة ليلة عاشوراء.

- الخطب المتكرّرة التي ألقاها الإمام عليه السلام وبعض أنصاره المعروفين المرموقين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

243

البلاغات السياسيّة

 في يوم عاشوراء لزلزلة جيش العدوّ روحيّاً ونفسيّاً وعمليّاً.

 
- الاستفادة من الرجز والشعر الحماسيّ أثناء القتال وشنّ الحملات.
 
- الإعلام والتبليغ الذي مارسه أسراء أهل البيت عليهم السلام في الكوفة والشام لفضح العدوّ، ولتبيان مظلوميّة وحقّانيّة أهل البيت.
 
- إقامة مجالس الحزن والعزاء على شهداء الطفّ بعد العودة إلى المدينة المنوّرة.
 
- حرص الأئمّة من ذريّة الحسين عليه السلام مدى عصور متوالية على نشر ثقافة عاشوراء، وعلى إقامة العزاء، وعلى زيارة مراقد شهداء كربلاء.
 
- و...1.
 
في عالمٍ لا يتمُّ فيه إلقاء الأفكار ونشرها، أو محاربة فكرة ما، أو ترويج ثقافةٍ ما، إلّا من خلال تخطيط دقيق وتدبير عميق، ولا تكون فيه الأعمال الفاقدة للتخطيط والنظر البعيد مثمرة ومؤثّرة كما ينبغي، يكون من الضروريّ فيه الاستلهام من نهضة عاشوراء من أجل الاستفادة من الأساليب والطرق الناجحة في إلقاء ونشر فكر عاشوراء، فإذا عرضت للعالم ثقافة عاشوراء وبلاغها بذكاء ودراية وبرمجة دقيقة أمكن آنذاك جلب النّاس إلى هذا الخطّ النورانيّ بنجاح كبير.
 
 
 

1- راجع: هذه النماذج والشواهد بصورةٍ مفصّلة ومستندةٍ في كتاب " فرهنك عاشورا" للمؤلّف، في ذيل المدخل " تاكتيك هاى نظامى تبليغى" .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

244

البلاغات السياسيّة

 الأصول الإنسانيّة


مع أنّ الحرب تكون في العادة مصحوبة بالقتل وسفك الدماء والخسارات في الأموال والأنفس، إلّا أنّ لها مقرّرات وأعرافاً أيضاً، خصوصاً فيما يتعلّق بالمسائل الإنسانيّة التي كانت رعايتها ممّا اتّفق عليه منذ قديم الأزمان، ولم يزل الالتزام بها من المقرّرات الدوليّة والأمور المقبول بها عالميّاً، مثل عدم التعرّض للأطفال والنساء غير العسكريّين، والالتزام بمعاهدات الهدنة والصلح، وعدم الاستفادة من الأسلحة الميكروبيّة والكيمياويّة، وصيانة أرواح الأسرى، و...

وفي الفكر الدينيّ هناك ضوابط سامية لهذه المسألة، ذلك لأنّ "الإنسان" في هذا الفكر الربّانيّ يتمتّع بحرمة وكرامة خاصّة.

ويلاحظ في حركة أحداث واقعة عاشوراء أنّ معسكر الإمام الحسين عليه السلام كان ملتزماً التزاماً كاملاً بهذه الأصول الإنسانيّة وبمراعاتها، بالرغم من أنّ معسكر جيش الكوفة سحق جميع الأصول الإنسانيّة تحت قدميه ولم يعبأ بها، من ذلك مثلاً: شنّ الحملة العامّة على رجل واحد، التعرّض بالسلاح للأطفال والنساء، أسر المرأة المسلمة، الغارة على الخيم، منع الماء عن الإمام الحسين عليه السلام وجميع من معه، قطع رؤوس القتلى والتمثيل بالأجساد، و... كلّ ذلك كان من مظاهر السلوك غير الإنسانيّ والنقض لمقرّرات الحرب من قبل العدوّ.

أمّا الإمام الحسين عليه السلام فقد كان في جميع تفاصيل حركة أحداث نهضته ملتزماً بالأصول الإنسانيّة والأخلاقيّة التزاماً كاملاً ومراعياً لها مراعاة تامّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
268

245

البلاغات السياسيّة

 ففي أثناء سفره نحو الكوفة، لمّا قام عليه السلام بمصادرة حمولة القافلة العائدة ليزيد، قال لأصحاب الإبل: "لا أُكرهكم، من أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته، ومن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض"1، وفعلاً فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقّه، ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه.

 
وفي أثناء سفره هذا أيضاً، كان عليه السلام يخبر من معه في ركبه مراراً بالمصير الصعب الذي ينتظره في العراق حتّى يعلم من كانوا معه على ماذا يقدمون، وذلك حتّى لا يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه2.
وحينما التقى عليه السلام جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ وقد كاد أن يودّي بهم العطش، أمر عليه السلام أصحابه بسقيهم الماء عن آخرهم فلم يغادر منهم أحداً إلّا روّاه، ثمّ أمر عليه السلام حتّى بسقي خيولهم ودوابّهم3.
 
وفي يوم عاشوراء، لمّا اقترب شمر بن ذي الجوشن من مخيّم الإمام عليه السلام ورآه قد أُحيط من خلفه بحطب وقصب تضطرم فيه النّار، بادر إلى الإساءة بالقول إلى الإمام عليه السلام، فقال مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه):يا ابن رسول الله! جُعلتُ فداك، ألا أرميه بسهم فإنّه قد أمكنني، وليس يسقط سهم منّي، فالفاسق من أعظم الجبّارين!
 
فقال له الحسين عليه السلام: “لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم!"4
 
وكان الإمام الحسين عليه السلام قد حضر مصارع جميع الشهداء من أنصاره، حتّى مصرع مولاه ومصرع مولى أبي ذرّ، وكان يؤبّنهم ويبشّرهم ويدعو لهم، ولمّا حضر عليه السلام "جون" مولى أبي ذرّ وكان أسود اللون، وقد ضُرِّج بدمائه، وقف الإمام عليه السلام عليه ودعا له قائلاً: "اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمّد وآل محمّد"5.
 
 
 

1- وقعة الطفّ، ص157.
2- نفس المصدر، ص166.
3- نفس المصدر، ص168.
4- راجع: تأريخ الطبريّ، ج3، ص318.
5- راجع: بحار الأنوار، ج45، ص22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

246

البلاغات السياسيّة

 وهذا الاحترام للعبد الأسود كان لكونه "إنساناً"، وكان له عليه السلام نفس هذا التعامل السامي مع الغلام التركيّ (رضوان الله عليه) الذي خرج إلى الميدان لقتال القوم وكان قارئاً للقرآن، فجعل يقاتل وقتل جماعة، ثمّ سقط صريعاً، فجاءه الحسين عليه السلام فبكى، ووضع خدَّه على خدّه، ففتح عينيه فرأى الحسين عليه السلام فتبسّم ثمّ صار إلى ربّه رضي الله عنه1.

 
فعلى عكس تعامل وسلوك أتباع معسكر جبهة الباطل الذين لم يكونوا يرون للإنسان أيّة حرمة أو أيَّ حقّ، كانت نهضة عاشوراء مظهراً رائعاً لاحترام وتقديس الحقوق الإنسانيّة، ولحريّة النّاس وتحرّرهم في اختيار طريقهم، وللتعامل السامي من قبل القائد الربّانيّ مع أنصاره وأعوانه وجميع من كان معه في ركبه.
 
لقد قبل الإمام الحسين عليه السلام حتّى الحرّ بن يزيد الرياحيّ الذي حاصر الركب الحسينيّ وجعجع به حتّى أنزله في أرض على غير ماء ولا كلأ، ففي يوم عاشوراء لمّا ندم الحرّ على ما فرّط في جنب الإمام عليه السلام وعزم على التوبة والالتحاق بركب الإمام عليه السلام، فأقبل إليه آيساً من النجاة وقبول التوبة، استقبله الإمام عليه السلام بخلقه العظيم وقبل اعتذاره وتوبته، ولمّا صرع الحرّ (رضي الله عنه)، أتاه الإمام عليه السلام ووقف عليه ثمّ جعل رأسه في حجره الشريف وأبّنه.
 
 


1- راجع: نفس المصدر، ج45، ص30.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
270

247

البلاغات السياسيّة

 البصيرة

 
تُطلق البصيرة على المعرفة الواضحة اليقينيّة بالدين، والتكليف، وحجّة الله، والقائد، والطريق، والصديق والعدوّ، والحقّ، والباطل.
 
وهي من الصفات الحميدة السامية التي يجب أن تتوفّر في الإنسان المسلم في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، وتتّضح أكثر ضرورة التوفّر على البصيرة في الفعّاليّات والأنشطة والمواجهات والمواقف السياسيّة والاجتماعيّة، وبدون هذه البصيرة قد تكون جميع أعمال الإنسان عشواء أو عمياء، إذ ربّما قاتل الحقّ وهو يحبّه ويحبّ أهله، وربّما انضمّ إلى خطّ الباطل وهو يحسب أنّه يُحسن صنعاً!
 
إنّ الاختيار الصحيح مرتبط أيضاً ببصيرة الإنسان ورؤيته الصحيحة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف حَمَلة الحقّ المستبصرين: "حملوا بصائرهم على أسيافهم..."1.
 
إنّ أبطال ملحمة عاشوراء لم يأتوا إلى كربلاء عمياناً بلا هدف، لقد كانوا أهل البصائر، كانوا على معرفة يقينيّة بصحّة وحقّانيّة الطريق والقائد، وبأنّ تكليفهم نصرة إمامهم عليه السلام والجهاد بين يديه، وكانوا على معرفة تامّة بموقع الحقّ، وبالباطل وبالعدوّ، ولقد طفحت بحقيقة هذه البصيرة أقوالهم وأشعارهم.
 
إنّ معرفة الإمام عليه السلام بأنّ خاتمة هذه النهضة هي استشهاده واستشهاد جُلّ من معه، وإخباره أنصاره وجميع من معه بهذه الخاتمة، مؤشّرٌ واضح على امتلاك هذه
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، نظم صبحي الصالح، ص209 (من الخطبة 150).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

248

البلاغات السياسيّة

البصيرة، وعلى بثّ ونشر هذه البصيرة من أجل أن يختار مرافقوه مصائرهم عن وعي وبصيرة.
 
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعلم أنّه مقتول لا محالة: "ما أراني إلّا مقتولاً"1، وفي ليلة بعد لقائه مع جيش الحرّ جمع عليه السلام أصحابه وحدّثهم بما هم مقبلون عليه، وكان ممّا قاله لهم: "اعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قومٍ بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر لأنّهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصدٌ إلّا قتلي وقتل من يجاهد بين يديَّ، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكم ما تعلمون، أو تعلمون وتستحيون، والخدع عندنا أهل البيت محرَّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف..."2.
كان هذا من أجل أن يبقى من أراد البقاء معه للشهادة عن وعي وبصيرة، وكان عليه السلام على طول الطريق إلى العراق يُخبر مصاحبيه بمثل هذه الإخبارات، يقول أبو مخنف: "وإنّما فعل ذلك لأنّه إنّما تبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنّهم إذا بيَّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه!"3.
 
كان الإمام عليه السلام على علمٍ بغدر النّاس وعدم وفائهم، ومع هذا فقد أصرّ على التوجّه نحو الكوفة ليؤدّي تكليفه، وكان أصحابه أهل معرفة وتشخيص في شؤون ومجريات الحياة، فضلاً عن البصيرة التي توفّروا عليها ببركة كلام الإمام الحسين عليه السلام وتوجيهاته وتنبيهاته على طول المسير نحو العراق، فقد قيل في شأن "أبي ثمامة الصائديّ" مثلاً: "... وكان بصيراً، ومن فرسان العرب، ووجوه الشيعة"4.
 
وفي ليلة عاشوراء بعد أن خطب الإمام الحسين عليه السلام في أصحابه، وأذن لهم في الانصراف، أبوا إلّا البقاء والموت معه، وأعلنوا عن وفائهم بكلمات رائعة خالدة، وكان ممّا قاله نافع بن هلال الجمليّ (رضوان الله عليه) معرباً عن وفائه: "... فإنّا على نيّاتنا
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص87.
2- ناسخ التواريخ، ج2، ص158.
3- وقعة الطفّ، ص166.
4- الإرشاد، ج2، ص46.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

249

البلاغات السياسيّة

 وبصائرنا..."1.

 
وممّا قاله عابس بن أبي شبيب الشاكريّ (رضوان الله عليه) وهو يستأذن الإمام في قتال اليوم: "... السلام عليك يا أبا عبد الله، أُشهدُ الله أنّي على هديك وهدي أبيك"2.
 
وممّا قاله برير بن خضير (رضوان الله عليه) في محاورته مع بعض خبثاء جيش الكوفة في كربلاء: "الحمدُ لله الذي زادني فيكم بصيرة..."3.
 
وفي الكوفة بعد واقعة عاشوراء، لمّا أساء ابن زياد بالقول إلى الإمام الحسين عليه السلام كان عبد الله بن عفيف الأزديّ الصحابي العظيم البصير القلب حاضراً مجلس ابن زياد، فانتفض مدافعاً عن أهل البيت عليهم السلام قائلاً: "يا ابن مرجانة! الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك، والذي ولاّك وأبوه، يا ابن مرجانة! أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بكلام الصدّيقين؟!"4.
 
إنّ النماذج المتقدّمة على سبيل المثال دليل على بصيرة أولئك الأفذاذ في اختيار الطريق ومعرفة الأولياء من الأعداء، وبهذا السلاح القاطع من البصيرة النافذة دخلوا ميدان الحرب والمواجهة.
يقول الإمام الصادق عليه السلام في شأن أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة صلب الإيمان"5.
 
ونقرأ في زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل وأنّك مضيتَ على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين..."6، ونقرأ في فقرة سابقة منها: "... أشهدُ وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريّون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذّابون
 
 
 
 

1- عنصر شجاعت، ج1، ص316.
2- وقعة الطفّ، ص237.
3- نفس المصدر، ص266.
4- مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص327، دار الكتاب الإسلاميّ.
5- أعيان الشيعة، ج7، ص430.
6- مفاتيح الجنان، ص435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
273

250

البلاغات السياسيّة

عن أحبّائه..."1.
 
ونقرأ في زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام أيضاً: "أشهد أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون المجاهدون... وأنّك قد مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين ومتّبعاً للنبيّين..."2.
 
تعلّمنا عاشوراء أنّ علينا في ميادين الحياة، وفي الإتّباع والدفاع، وفي الولاءات والعداوات، وفي المواقف، أن نعمل على أساس المعرفة العميقة والبصيرة، وأن نخطو على الطريق بيقين تامّ واطمئنان كامل بصحّة العمل، وحقّانيّة المسير، ومعرفة النفس والأعوان، ومعرفة الأباعد والأعداء، والحقّ والباطل.
 
 
 

1- نفس المصدر، ص435.
2- مفاتيح الجنان، ص403.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

251

البلاغات السياسيّة

 كلّ يوم عاشوراء


من الدروس المهمّة لعاشوراء معرفة التكليف في الدفاع عن الحقّ ومواجهة الباطل والظلم في كلّ مكان وكلّ زمان، والنهضة الحسينيّة لم تكن تكليفاً خاصّاً بالإمام عليه السلام وأنصاره في ذلك المقطع الزمانيّ الخاصّ، لقد كانت تكليفاً دينيّاً اقتضته تلك الظروف آنذاك وقام على أساس دلائل دينيّة محكمة، وهذا التكليف ثابت أيضاً متى ما وأينما تحقّقت نظائر تلك الظروف.

كان الإمام الحسين عليه السلام يرى أنّ حركته ثورة على أولئك الذين استولوا على الحكم ظُلماً، فحرّموا حلال الله وأحلّوا حرامه، ونقضوا عهد الله، وعطّلوا حدود الله، وخالفوا سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أشار في خطبته التي ذكر فيها ذلك إلى أنّ هذه الصفات منطبقة على حكومة يزيد ومتحقّقة فيها، وكان عليه السلام يرى أنّ القيام ضدّ يزيد تكليف إلهيّ، وكان عليه السلام يقول: "فلكم فيَّ أسوة"1، فماهيّة ثورة عاشوراء جارية في كلّ أرض وكلّ زمان، فحيثما كان ظلمٌ وجور ينبغي القيام ضدّه والتضحية على طريق الحريّة والعزّة بالاستلهام من مدرسة عاشوراء.

إنّ عبارة "كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء" حتّى إذا لم تكن حديثاً عن المعصوم، هي حقيقة منتزعة من متن الدين ومن روح عاشوراء، وشعار كاشف عن استمرار وترابط سلسلة مواجهة الحقّ للباطل في كلّ مكان وكلّ زمان. حيث تشكّل واقعة عاشوراء سنة 61ه-.ق أهمّ وأبرز حلقات هذه السلسلة الطويلة الممتدّة في الزمان والمكان وما نقرأه
 
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج4، ص304، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

252

البلاغات السياسيّة

 في متون الزيارات مكرّراً من مثل هذه العبارة: "إنّي سلمٌ لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، ووليٌّ لمن والاكم، وعدوّ لمن عاداكم، فأسأل الله الذي أكرمني بمعرفتكم ومعرفة أوليائكم ورزقني البراءة من أعدائكم أن... وأن يزقني طلب ثأركم مع إمام هدىً ظاهر ناطق بالحقّ منكم..."1، دليل على استمرار وجود هذه الجبهة وهذا المعسكر على طول التأريخ، وإلّا فإنّ واقعة عاشوراء من حيث هي قد انتهت في حينها، كما أنّ أعداء الإمام الحسين عليه السلام الذين قاتلوه قد ماتوا هم أيضاً، إذن فالعداء لمن؟ والنصرة لأيّ معسكر؟

 
ونقرأ في زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “وأنا لكم تابع ونصرتي لكم مُعدَّة..."2، وهذا دليل على استمرار عاشوراء إلى الأبد.
 
إنّ حرب عاشوراء كانت قصيرة جدّاً من حيث الزمان، إلّا أنّها من حيث الامتداد أطول معركة ضدّ الظُلم والباطل، إنّها تمتدّ في الزمان ما رعف الزمان بآملٍ يأمل أن لو كان في كربلاء لينصر الإمام عليه السلام فيستشهد بين يديه، هذا الأمل والشوق الذي كانت ولا تزال الأجيال تقرأه في متون الزيارات: "يا ليتني كنت معكم فأفوز معكم..."3.
 
يقول الإمام الخمينيّ  (قدس سره)  في صدد مفهوم "كلّ يوم عاشوراء":
 
"هذه الكلمة - كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء- كلمة عظيمة... كلّ يوم ينبغي أن تعيش أُمّتنا هذا المعنى وهو أنّ اليوم يوم عاشوراء وعلينا أن نقف في وجه الظلم، وها هنا أيضاً كربلاء ويجب أن نحقّق دور كربلاء، فهي لا تنحصر بقطعةٍ من الأرض، ولا تنحصر بمجموعة من الأفراد، لم تكن قضيّة كربلاء منحصرة بجماعة من نيّف وسبعين نفراً وقطعة أرض كربلاء، كلّ الأراضي يجب أن تؤدّي هذا الدور وتفي به..."4.
إنّ الإلهام الذي تلقّاه عن كربلاء جميع مجاهدي طريق الحريّة، والثورات التي كانت قد دعت إلى العدالة وإلى إحياء الدين في تأريخ الإسلام هي حلقات أخرى 
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، ص457، زيارة عاشوراء.
2- نفس المصدر، ص435.
3- نفس المصدر، ص453، زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة، وص430، الزيارة السابعة من زياراته المطلقة.
4- صحيفة نور، ج9، ص202.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

253

البلاغات السياسيّة

 من مواجهة يوم عاشوراء في كربلاء، وهي دليلٌ على صحّة هذه المقولة المباركة أنّ كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء.


وهذه الجبهة لم تزل مفتوحة إلى الآن، إذ إنّ أتباع الحسين عليه السلام بالاستلهام من هذا الدرس والبلاغ يرون أنّ تكليفهم هو الحضور في كلّ مكان هو ميدان للدفاع عن المظلوم وللقضاء على الظالم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277
 

254

البلاغات السياسيّة

 التبليغ


رُبَّ عمل أو حادثٍ وقع في زمانٍ ما، ظلّ محجوباً عن النّاس خلف ستارٍ من التعمية أو الإبهام والغموض، أو نُقل إليهم خبرُه مُحرَّفاً ومُشوَّهاً، أو بقي لا يعلمُ به مَن إذا علمَه كان لعلمه به تأثير، وفي كلّ ذلك خسارة للغاية التي قام من أجلها ذلك العمل أو وقع ذلك الحادث.

فمن أجل أن تكون حركة ثوريّةٌ ما حركةً موفّقة يجب أن يصل "بلاغها" ورسالتها ونداؤها إلى النّاس، ليكون تنوير أذهانهم بمحتوى ندائها ورسالتها سبباً في جذب توجّههم إليها وكسب اهتمامهم بها ونصرتهم لها، أو يتمّ من خلال تبيين وتوضيح هويتها منع تحريف حقيقتها أو كتمانها، ومنع سوء الظنّ بها.

وفي نهضة عاشوراء كان قد استُفيد من عنصر "التبليغ" ذي التأثير المصيريّ أفضل الاستفادة، فقد بلّغ الإمام الحسين عليه السلام برسالة نهضته وغاياتها سواء في وصيّته التي كتبها لأخيه محمّد بن الحنفيّة قُبيل خروجه من المدينة المنوّرة، أو في لقاءاته وخُطبه أيّام إقامته في مكّة، أو أثناء مسيره منها نحو الكوفة، أو في رسائله التي بعث بها إلى وجهاء ورؤساء الكوفة والبصرة، أو من خلال ممثّله الخاصّ إلى الكوفة مسلم بن عقيل عليه السلام، كلّ ذلك من أجل إتمام الحجّة على الجميع، ولكي لا يبقى أحدٌ بلا خبرٍ عن هذه النهضة.

لمّا دخل مسلم بن عقيل عليه السلام الكوفة، واجتمع إليه جماعة من الشيعة، أخرج إليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام فقرأه عليهم، وهم يبكون، وكان مسلم عليه السلام كلّما 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278

255

البلاغات السياسيّة

 اجتمع إليه جماعة من الشيعة، أخرج كتاب الإمام عليه السلام وقرأه عليهم1.

 
وهناك من أنصار الإمام عليه السلام من استشهدوا في سبيل "تبليغ" رسالة الإمام الحسين عليه السلام، منهم قيس بن مسهّر الصيداويّ (رضوان الله عليه) الذي أُلقي القبض عليه في القادسيّة، وبُعث به إلى عبيد بن زياد، فطلب منه كتاب الإمام عليه السلام الذي بعثه معه إلى أهل الكوفة، فأبى قيس وكان قد خرّق الكتاب لكي لا يعلم ابن زياد ما فيه! فأمره ابن زياد أن يصعد المنبر ويسبَّ الإمام، فصعد قيس المنبر فبلّغ النّاس بخبر قدوم الإمام عليه السلام إليهم، ودعاهم إلى إجابته، ولعن ابن زياد وأباه، فأمر ابن زياد به فأُصعد القصر ورمي به من أعلاه فتقطّع ومات 2(رضوان الله عليه).
 
وللشهيد الآخر الصحابيّ عبد الله بن يقطر قصّة مماثلة في الاستشهاد في سبيل تبليغات ومراسلات نهضة الإمام الحسين عليه السلام3.
 
أمّا التبليغات التي كانت بعد استشهاد الإمام عليه السلام وأنصاره فهي مرحلة أخرى من رسالة إيصال دماء الشهداء إلى أهدافها المنشودة، وحيث تمَّ خلالها فضح الأعداء، وإيقاظ الأمّة من غفلتها، وإنقاذها من التضليل الإعلاميّ والسياسيّ الأمويّ، وإفشال خطط السلطة الظالمة في التغطية والتعمية على جنايتها العظمى في قتل الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره وسبي أهل بيته.
 
وقد تجسّد دور أسرى أهل البيت عليهم السلام على صعيد التبليغ برسالة دماء الشهداء بعد واقعة عاشوراء في اللقاءات والمحاورات والمواجهات الفرديّة، وفي المواقف الجريئة الحاسمة التي وقفها أعلام أهل البيت كالإمام السجّاد والعقيلة زينب الكبرى عليهما السلام  في وجه طواغيت بني أميّة كيزيد وابن زياد وابن سعد، سواء في كربلاء أو في الكوفة أو في الشام، حتّى يعلم ويفهم الجميع ماذا جنى الحكم الأمويّ بحقّ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
في وداعه الأخير لابنه الإمام زين العابدين عليه السلام كان الإمام الحسين عليه السلام قد
 
 
 

1- راجع: الإرشاد، ج2، ص41.
2- راجع: إبصار العين، ص112 - 114.
3- نفس المصدر، ص93.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

256

البلاغات السياسيّة

  أخبره بحال الأعداء وكيف استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، كما أخبره بمقتل جميع أنصاره وأهل بيته، ثمّ أوصاه خيراً ببقيّة الركب من الأطفال والنساء، وفي الختام قال له: "يا ولدي! بلّغ شيعتي عنّي السلام فقل لهم: إنّ أبي مات غريباً فاندبوه، ومضى شهيداً فابكوه"1.

 
وما لدينا اليوم في فكرنا الدينيّ وتراثنا المذهبيّ من برامج واسعة وكثيرة متمثّلة في مجالس العزاء الحسينيّ، والبكاء، والنياحة، وزيارة قبور شهداء الطفّ، والالتزام بقراءة متون زياراتهم من قرب ومن بُعد، وإنشاد الشعر في واقعة عاشوراء ومظلوميّة أهل البيت عليهم السلام، وذكر الإمام الحسين عليه السلام والتسليم عليه عند شرب الماء، وغير ذلك من السنن الدينيّة الأخرى في هذا الصدد، إنّما هو بطريقةٍ ما تبليغ للآخرين برسالة دماء شهداء كربلاء.
 
ولقد كان أهمّ وأبرز دور ملحميّ قامت به العقيلة زينب الكبرى عليها السلام في كربلاء وما بعدها هو الدور التبليغيّ، ولولا ما قامت به هي والإمام السجّاد عليهما السلام  وبقيّة أهل البيت عليهم السلام من المواقف والخدمات التبليغيّة لما كان من المتيقّن أن تصل واقعة كربلاء إلى هذا المستوى العظيم من التأثير المتواصل الممتدّ، أو أن تحقّق هذا النجاح العظيم الباهر في فضح الأعداء الطغاة الجناة، وتكون السبب الرئيس في سقوط عروشهم وإزالة دولتهم.
 
وهكذا نهضة تظلُّ خالدة، وتبقى أهدافها حيّة لا تموت ولا تُنسى، وتظلُّ سُنّة إحياء ذكراها أيضاً سبباً في بقاء رسالتها حيّة دافقة ومؤثّرة، إذ لولا مثل هذه المراسم لنُسيت أهداف هذه النهضة، ولتعرّضت هويّتها وماهيّتها للمسخ والتحريف.
 
يقول الإمام الخمينيّ  (قدس سره)  في صدد ضرورة إحياء وتنظيم هذه الشعائر التي هي السبب في وعي المجتمع ويقظته وحفظ محتوى هذه النهضة على طول التأريخ:
 
"كلّ مذهب يحتاج إلى ضجّة، ويجب على أتباعه أن يتحمّسوا له، وكلّ مذهب لا يتحمّس له أتباعه ولا يلطمون على صدورهم لا يُحفظ... هذا الدور، هو الدور الذي حفظ الإسلام حيّاً على الدوام، الإسلام تلك الوردة التي يجب أن تُسقى بلا انقطاع من ذلك الماء، إنّ المحافظة على استمرار هذه النياحة وهذا البكاء هي
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص486.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

257

البلاغات السياسيّة

 التي حفظت مذهب سيّد الشهداء عليه السلام "1.

 
إنّ الرسالة الملقاة على عاتق وارثي دماء الشهداء، والجيل المتبقّي من آباء الثورة وأبطالها رسالة ثقيلة، وهي إيصال وتبليغ نداء ورسالة تلك الدماء والمجاهدات والتضحيات إلى أبنائهم وإلى الأمم الأخرى.
 
"لكلّ ثورة وجهان: دمٌ ورسالة... فكلّ الميادين كربلاء، وكلّ الشهور المحرّم، وكلّ الأيّام عاشوراء، فعلى الإنسان أن يختار: إمّا الدم أو الرسالة، إمّا أن يكون الحسين أو يكون زينب، إمّا ذلك الموت أو ذلك البقاء"2.
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج8، ص69.
2- پس از شهادت، ص13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

258

البلاغات السياسيّة

 إحياء الذكرى وتقديسها


إنّ واقعة عاشوراء كانت حدثاً موقظاً للضمائر والوجدان، ودافعاً للناس إلى مقارعة الظلم والقهر، هذا من جانب، وهي من جانب آخر حدث فاضحٌ للحكّام الطواغيت المستغلّين لجهل النّاس وغفلتهم، وكانت سلطتهم باسم الدين سلطة متجبّرة وضدّ الدين.

وكان المظلومون يأخذون عن هذه الملحمة الدرس والبلاغ، أمّا الطغاة الظالمون فكانوا يخافون من ذكر عاشوراء ومن بلاغاتها، ولذا فقد سعى الأمويّون جاهدين إلى التعتيم على حقيقة عاشوراء وإقصائها عن أذهان النّاس وإنسائهم إيّاها، وكانوا واهمين في هذا وخاطئين، أمّا أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد بذلوا غاية جهدهم في إحياء ذكر عاشوراء وتعظيمها وتقديسها، حتّى تبقى فعّالة ومؤثّرة بصورة مستمرّة. إنّ منهج إحياء ذكرى عاشوراء كان خطّاً مواجهاً لخطّ سياسة السكوت الداعي إلى الانزواء وتحريم إحياء ذكرها الذي كان يعتمده أعداء الحقّ.

وفي نطاق هذه "الذكرى" القائمة على محور عاشوراء وكربلاء تكوّن على مرّ السنين تراث يتضمّن مجموعة من السنن، من قبيل: البكاء على الحسين عليه السلام، إقامة مجالس العزاء الحسينيّ في المحرّم وصفر وعلى مدار السنة، تشكيل هيئات وجمعيات حسينيّة ودينيّة، إنشاء الحسينيّات والتكايا الحسينيّة، وإقامة التشابيه وتمثيل بعض أحداث عاشوراء، إقامة مواقع تقديم الماء والعصير للعطاشى في الطرق والميادين، وإطعام الطعام في مجالس العزاء وفي الطرق لعامّة النّاس،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
282

259

البلاغات السياسيّة

 زيارة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره في مناسباتها الخاصّة وعلى مدار السنة من قرب ومن بُعد، تقديس التربة الحسينيّة واستحباب السجود عليها، واستحباب الذكر والتسبيح بمسبحة التربة الحسينيّة، إنشاد الشعر في الحسين عليه السلام وأنصاره وأهل بيته وما جرى عليهم، قراءة المقتل وكتابته، وكتابة البحوث التحليليّة والتحقيقيّة في السيرة الحسينيّة، و... وغير ذلك كثير من هذه المراسم، ولكلّ منها أثر ودور في حفظ تلك الفاجعة حيّة خالدة، وتحويلها إلى فكر وتراث شيعيّ عامّ.


ولقد حرص الأئمّة عليهم السلام على إحياء ذكرى عاشوراء في صور مختلفة من الحزن والبكاء وإقامة مجالس العزاء بإنشاد الشعراء الشعر في الحسين عليه السلام، ورغّبوا النّاس في إحياء هذه الشعائر وأكّدوا على جزيل المثوبة فيها، وحثّوا عليها.
 
ولقد كان لشعراء عظام مثل: دعبل الخزاعيّ، والكميت، والسيّد الحميريّ، وعبد الله بن كثير، وغيرهم في زمن الأئمّة عليهم السلام، ولمئات الشعراء المرموقين في ما بعد ذلك من العصور، دور كبير في حفظ مشعل "ذكرى عاشوراء" متوهّجاً على الدوام وذلك من خلال أشعارهم التي نظموها في الحسين عليه السلام ونهضته ومصابه، تلك الأشعار التي لا زالت إلى اليوم وإلى قيام الساعة تُلهب قلوب المؤمنين بالتفجّع والتأثّر والحماسة، وتشدّهم إلى أخلاقيّات عاشوراء ومناقبيّاتها.
 
ويقول الإمام الصادق عليه السلام مخاطباً جعفر بن عفّان الطائيّ وكان من الشعراء المجيدين:
 
"بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتُجيد. قال: نعم. فأنشده، فبكى ومن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال: يا جعفر! والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون ههنا، يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر! ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر لك. فقال: ألا أزيدك؟ قال: نعم يا سيّدي! قال: ما من أحدٍ قال في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له!"1.
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج10، ص464، باب 104، ح1.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

260

البلاغات السياسيّة

 إنّ أمثال هذه الأحاديث كثيرة في كتب الشيعة الروائيّة، وهي دليل على ما كان عند الأئمّة عليهم السلام من عناية خاصّة وفائقة باستخدام الشعر والأدب للمحافظة على إبقاء حادثة عاشوراء حيّة مؤثّرة، ذلك لأنّ في حياة هذه الملحمة بناء حياة الآخرين، وبتعبير الإمام الخمينيّ (قدس سره):

 
"بهذه الضجّة، بهذا البكاء، بهذه النياحة، بهذه القراءة للشعر، بهذه القراءة للنثر، نريد أن نحفظ هذا المذهب كما هو كذلك محفوظ حتّى الآن"1.
 
إنّ مجالس العزاء الحسينيّ التي لا تُحصى، كانت السبب في إحياء أمر أهل البيت وحفظ خطّ الأئمّة عليهم السلام وحفظ حقيقة ومحتوى نهضة عاشوراء، بل كان لهذه المجالس ولا يزال بُعدها السياسيّ أيضاً.
 
يُروى أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لأحد أصحابه: "بلغني أنّ قوماً يأتونه -أي الحسين عليه السلام - من نواحي الكوفة، وناساً غيرهم، ونساءً يندبنه وذلك في النصف من شعبان، فمن قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي.
 
فقلتُ له: نعم قد شهدتُ بعض ما تصفه.
 
فقال: الحمدُ لله الذي جعل في النّاس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا..."2.
 
ويقول عليه السلام لفضيل: "تجلسون وتحدّثون؟ قال: نعم، جُعِلتُ فداك. قال: إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر!"3.

ويقول الإمام الخمينيّ  (قدس سره)  أيضاً:
 
"هذه المجالس كانت تُقام على طول التأريخ، وبأمر من الأئمّة عليهم السلام كانت تُقام هذه المجالس... كان الأئمّة عليهم السلام يصرّون كثيراً على أن: اجتمعوا، وابكوا...
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج8، ص71.
2- وسائل الشيعة، ج10، ص468، ح7.
3- نفس المهموم، ص42، ح12.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
284

261

البلاغات السياسيّة

 ذلك لأنّ هذا هو الذي يحفظ كيان مذهبنا"1.

 
ففي مثل هكذا إحياء لعاشوراء ولعزاء الحسين عليه السلام تتدفّق الدموع تحرس دماء الشهداء، ولتكون شاهداً على شوق وعشق أتباع عاشوراء، ولترسّخ محبّتهم الخالصة لشهداء كربلاء وملحمتهم وتزيدها عمقاً وخلوداً.
 
وعلاوة على جميع هذه التأكيدات على إحياء ذكرى عاشوراء، كان الأئمّة أنفسهم عليهم السلام من المذكّرين بهذه الفاجعة الأليمة على الدوام، إذ كانوا يبكون لذكرها، وكانوا يقيمون المجالس لأجلها، يقول الإمام الرضا عليه السلام في رواية عالية:
 
"إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرع لرسول الله حرمة في أمرنا.


إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام"2.
 
ويوصي الإمام الصادق عليه السلام أصحابه قائلاً:
 
"تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا"3.
 
إنّ الاستفادة من المجالس لإحياء خطّ الأئمّة عليهم السلام كان توصية منهم، وكذلك الذهاب إلى زيارة قبر سيّد الشهداء عليه السلام حيث وردت في ذلك أحاديث كثيرة في الثواب العظيم المترتّب على هذا العمل، ففي ظلّ زيارته عليه السلام يجتمع أهل القلوب الموحّدة في حبّه عليه السلام السائرون على نهج عاشوراء عند قبره الشريف ليعاهدوا دمه المقدّس وطريقه وهدفه على مواصلة المسير والمنهج، وليستلهموا الدروس من حياة وشهادة أولئك الشهداء العظام.
 
ولم تؤكّد النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام على زيارة قبر من القبور
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج10، ص217.
2- بحار الأنوار، ج44، ص83، ح17.
3- نفس المصدر، ص282.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285

262

البلاغات السياسيّة

 الشريفة كما أكّدت على زيارة قبر الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام  في كربلاء، ولقد ورد في الروايات أنّ ثواب زيارته عليه السلام يعدل عشرات ومئات من الحجج والعمرات، وسرُّ ذلك أنّ زيارته عليه السلام إحياء لمبادئ نهضة عاشوراء، وإحياء لثقافة الشهادة، وتجديد للعهد والميثاق مع الشهداء، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

 
"مَن لم يأت قبر الحسين عليه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعةٌ حتّى يموت، فليس هو لنا بشيعة"1.
 
وهناك أدلّة كثيرة على أنّ الحكّام الطواغيت في العصر الأمويّ والعصر العبّاسيّ كانوا قد منعوا النّاس حتّى من زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، ذلك لأنّ هذه الزيارة علامة على ارتباط الزائرين بنهج وأهداف أبطال ملحمة عاشوراء، وهي أيضاً توحّد جموع الزائرين وتُعّبئهم ضدّ الظالمين، ومن هنا كان الخلفاء العبّاسيّون قد سعوا مراراً لمحو آثار قبر الإمام عليه السلام ونبشه، ولتفريق الزائرين ومنعهم من التجّمع عند القبر الشريف.
 
في رواية عن القاسم بن أحمد بن معمر الأسديّ الكوفيّ قال: "بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده، وضمّ إليه كنفاً من الجند كثيراً ليشعّث (ليشعب خ) قبر الحسين عليه السلام ويمنع النّاس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطفّ وعمل ما أُمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه، وقالوا: لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا..."2.
 
وقد أُخرب قبر الإمام الحسين عليه السلام سبع عشرة مرّة بأمر المتوكّل العبّاسي3.
 
لقد كانت كربلاء وتربة سيّد الشهداء عليه السلام الدامية والفرات ونهر العلقميّ و...
 
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج10، ص336.
2- بحار الأنوار، ج45، ص397، ح5.
3- راجع: تتمّة المنتهى، للمحدّث القمّي، ص241.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
286

263

البلاغات السياسيّة

 في التأريخ على الدوام منبعاً للإلهام والإمداد الفكريّ والروحيّ عند عشّاق الحريّة والشرف.

 
وكان لعاشوراء ومزار قبر سيّد الشهداء عليه السلام الأثر العظيم في هذا الشأن1.
 
كما أنّ السجود على تربة الإمام الحسين عليه السلام يحمل نفس هذا التذكير بعاشوراء وبثقافة الشهادة، كتب الشهيد المطهّري في هذا الصدد يقول:
 
"قال أئمّتنا: الآن حيث يجب السجود على التراب، فالأفضل أن يكون ذلك التراب من تربة الشهداء إذا كان بإمكانك أن تُهيّئ لنفسك من تراب كربلاء الذي يعبق بعطر الشهيد. أنت حيث تعبد الله، إذا سجدت على أيّ تُراب فصلاتك صحيحة، ولكن إذا سجدت على ذاك التراب الذي له صلة، أو قرابة، أو مجاورة ولو قليلة بالشهيد، ويعبق بعطر الشهيد، فإنّ أجرك وثوابك يصير مائة ضعف ثواب السجود على أيّ تراب"2.
 
كان الأئمّة يتّخذون مسبحاتهم من تربة قبر "سيّد الشهداء عليه السلام "3 ويستعملونها في ذكر الله، وكانوا عليهم السلام يوصون بتحنيك المولود بتربة قبر الحسين عليه السلام: “حنّكوا أولادكم بتربة الحسين فإنّها أمان"4، وما ذاك إلّا لهذا التعاهد والارتباط مع الاعتقاد بالشهادة والإيثار، الذي كانت عاشوراء أبرز وأسنى تجلّياته.
 
إنّ إقامة مواكب العزاء، وقراءة المراثي، والمآتم الحسينيّة التقليديّة، من البرامج المهمّة في إحياء ذكرى عاشوراء.

إنّ عشّاق خطّ "ثار الله" الثوريّ من خلال تشكيلهم المواكب الحسينيّة وهيئات العزاء، وفي ظلّ الأعلام واللّافتات والشعارات الحسينيّة، يعبّرون عن عواطف حبّهم وتعلّقهم الصادق بالحسين عليه السلام ويحافظون بذلك على تلك العواطف حيّة دافقة، وبنشرهم لراية العزاء الحسينيّ يستشعرون حقيقة ولذّة انتمائهم الفكريّ والروحيّ 
 
 
 

1- راجع في هذا الصدد: " كربلاء كعبه دلها" للمؤلّف.
2- " شهيد" ضممية " قيام وانقلاب مهدى" ص 127، ولا يخفى على القارئ أنّ الشهيد المطهّري كان ينقل ما ينسبه إلى الأئمّة عليهم السلام بالمعنى لا بالنّص.
3- راجع: بحار الأنوار، ج 82، ص 333، ص 341.
4- وسائل الشيعة، ج 10، ص 410.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
287

264

البلاغات السياسيّة

 لعاشوراء، وفي ظلّ تلك الراية يخلّدون دروس وبلاغات عاشوراء.


يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه): “يجب أن نحافظ على هذه التقاليد الإسلاميّة، هذه المواكب الإسلاميّة المباركة التي تنتشر في الطرق للعزاء، في عاشوراء، وفي المحرّم وصفر، وفي المناسبات الأخرى التي تقتضي ذلك، علينا أن نؤكّد أنّ على النّاس أن يلتفّوا حولها أكثر فأكثر... إنّ إحياء أمر عاشوراء يتحقّق بنفس وضعه، بنفس ذلك الوضع السابق من قبل العلماء ومن قبل الخطباء، وبنفس ذلك الترتيب السابق من قبل جماهير النّاس حيث تنتشر مواكب المآتم الحسينيّة العظيمة المنظّمة في الشوارع والطرق لإقامة العزاء، يجب أن تعلموا أنّكم إذا أردتم أن تبقى نهضتكم محفوظة فعليكم أن تحفظوا هذه التقاليد"1.

خلاصة الكلام في نفس هذه الجملة الأخيرة، وبلاغ عاشوراء في مجال "الذكرى" لعصرنا الحاضر أيضاً هو هذا بالذات: أن نحافظ بأيّ شكل من الأشكال على ملاحم الشهداء الدامية، الباعثة على الأمل والمحفّزة على التحرّك، فنذكّر بها سواء بالبرامج المدروسة بدقّة، أو من خلال تبيين مباني موضوع الشهادة، الجهاد والمجاهدين، جبهات الحرب، التظاهرات، المواجهات مع الحكم الجائر، الشهداء الأعزّاء، الأسرى الأحرار والمعلولين، العمليّات الجهاديّة، عوائل الشهداء المعظّمة، مزارات قبور الشهداء الكرام، تدوين وتصوير قصص حياتهم وشهاداتهم، الأفلام الحربيّة المتعلّقة بالدفاع المقدّس، والآثار الفنيّة الأخرى المرتبطة بذلك، الرسم، تصميم اللوحات واللّافتات المعبّرة عن مختلف موضوعات هذه القضيّة المقدّسة، وجميع المظاهر المربوطة بثقافة الجهاد والشهادة والإيثار، المستلهمة جميعها من "عاشوراء" حتّى نجعل منها ثقافة جماهيريّة عامّة.

وكما أنّ عاشوراء بجميع مظاهرها ومضامينها احتلّت مكانها في قلوب وأرواح وأذهان وحياة أتباع الإمام الحسين عليه السلام مدى قرون طويلة، وبقيت حتّى اليوم حيّة مؤثّرة من خلال الشعائر المختلفة الكثيرة2، ينبغي علينا كذلك أن نخلّد في ذاكرة
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج15، ص204.
2- راجع: البحث الموسّع حول هذا الموضوع في مجموعة مقالات مهرجان " امام خمينى وفرهنك عاشورا" ، ج1، ص113 مقالة " سنت هاى احيا گرى روشهاى پاسدارى ازحماسه عاشوراء وفرهنگ آن در تاريخ فرهنگاسلامى" .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
288

265

البلاغات السياسيّة

 التأريخ قيم الشهادة والثورة في تأريخنا المعاصر حتّى تنتقل إلى الأجيال القادمة، وأن نستفيد أيضاً أكثر ما يمكن من نفس هذه المنابع بالذّات منابع الإلهام والفكر والتحريك في تربية جيل مؤمن، شجاع، مقدام، عزيز، أبيّ، وصبور، ومقاوم.

 

 

 

 

 

 

 

289


266

بلاغات الإحياء

 إيضاح


الدين ليس موجوداً في الآيات القرآنيّة وفي الروايات فحسب بل يجب أن يتجسّد في الحياة العمليّة للمجتمع الإسلاميّ، فلا يكفي صِرف الانتساب إلى الدين بدون أن يكون له حضور فعّال في متن حياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة، وإلّا فإنّ الإسلام لن يكون بلا تطبيق إلّا "هويّة شخصيّة" للمسلم، إضافة إلى هذا فإنّ أغلب ما يبقى من الحركات الثوريّة بعد مضيّ زمان طويل هو الظواهر السطحيّة والقشور، أمّا الأهداف الأصيلة للحركة الثوريّة ومحتواها الحقيقيّ فيترك في العادة وينزوي، أو يتعرّض إلى ضعف بعد قوّة، وفي أسوأ الأحوال تحتلّ "البدع" مجالات حياة المجتمع بدلاً من "السنن"، وتمسخ روح الدين، فلا يبقى منه إلّا الرسم والهيكل.

وهاهنا تفرض وتحتّم رسالة أئمّة الدين والعلماء الربانيّين في "إحياء" السنن الدينيّة ومقارعة البدعة أن يقوموا لِلَّه وينهضوا من أجل إعادة إحياء جوهر الدين ومحتواه والشعائر والأهداف الدينيّة، وتعريف النّاس بالبدع والمبتدعين حتّى يتضح سبيل الدين تماماً فلا يكتنفه إبهام ولا تشويش، وحتّى لا يُبتلى السائرون على هذا الصراط القويم بحيرة أو ضلالة.

وكان من الدور العام والرسالة المشتركة لأئمّتنا عليهم السلام دور ومهمّة "إحياء الدين" والحفاظ على المعالم الإسلاميّة التي نُسيت أو تعرّضت للتحريف نقيّة مشرقة على حقيقتها بلا تحريف، فكلٌّ منهم عليهم السلام حافظ للدين ومحيي للشريعة ومميت للبدعة، نقرأ في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في يوم عرفة: "ربّ صلّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك، وحفظة دينك... اللّهمّ إنّك أيّدتَ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
293

267

بلاغات الإحياء

 دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك... اللّهمّ فأوزع لوليّك شُكر ما أنعمتَ به عليه... وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك اللّهمّ عليه وآله، وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك..."1، ونقرأ في الدعاء للإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف): "... وأحي به سنن المرسلين ودارس حكم النبيّين، وجدّد به ما امتحى من دينك وبُدِّل من حُكمك، حتّى تُعيد دينك به وعلى يديه جديداً غضّاً محضاً صحيحاً لا عوج فيه ولا بدعة معه...."2.


ولقد كانت عاشوراء الحسين عليه السلام برنامج إحياء الدين ومعالمه المختلفة، ليقوم الدين في ظلّ بذل الدم والجود بالنفس، ولتكون سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قدوة المسلمين في العمل والسلوك، وليعود الدين عزيزاً في المجتمع3.
 
إنّ الجهود التي بذلها الأئمّة المعصومون عليهم السلام وأتباعهم والشعائر التي سنّوها لإحياء أصل واقعة عاشوراء وقيمها، ومواجهتهم لسياسة الأعداء في التعتيم على أمر الواقعة وحقيقتها وتشويه مجرياتها، ودفن تضحيات ومناقبيّة أبطال ملحمة عاشوراء في بئر النسيان، تُعتبر برنامجاً آخر على صعيد إحياء الدين، وبلاغ هذا البرنامج هو: ضرورة تبيين أهداف النهضة الحسينيّة، وتنوير أذهان النّاس بحقائقها وقيمها، والمحافظة على إحياء شعائرها وملاحمها وذكرياتها.
 
 


1- الصحيفة السجّاديّة، دعاء رقم 47.
2- مفاتيح الجنان، ص541 و542.
3- نقرأ في الدعاء لصاحب الزمان عليه السلام : "وأظهر به دينك" (مفاتيح الجنان، ص525 ونقرأ في دعاء آخر له عليه السلام : "اللّهمّ وأعزّ به الدين بعد الخمول، وأطلع به الحقّ بعد الأفول" (المصدر، ص527)، نقرأ في دعاء الإفتتاح: "اللّهمّ وأظهر به دينك وسنّة نبيّك..." ( المصدر، ص182).



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
294

268

بلاغات الإحياء

 الإحياء


ثَمَّ ملاحظة استقرائيّة تأريخيّة على مسار كثير من الحركات الثوريّة الإصلاحيّة والانقلابيّة، وهي أنّه بعد مدّة من عهد انتصارها وسيطرتها على الحكم، خصوصاً بعد رحيل قائدها الأوّل، أو بعد رحيل رعيلها الأوّل والجيل الذي صنع انتصاراتها، إذا سيطر على قيادتها وعلى مقاليد الحكم رجالٌ بلا تأهّل ولا استحقاق، يمضي أمرها سفالاً شيئاً فشيئاً، فتفقد أهدافها الأولى وقيمها الكبرى قوّتها أو تُنسى، وتتراخى هِمَمُ النّاس وعزائمهم عن الالتزام بها.

ويلاحظ على صعيد النهضات الدينيّة خاصّة أنّ ما ليس من الدين وهو (البدعة) يُقحم في متن الدين، وما هو من القواعد الدينيّة الأصيلة والأوّليّة ومن أُسس النهضة الدينيّة والمذهبيّة يُنسى ويُترك، وتروج المُحدثات المغايرة للسنن الأولى، ويُنقض حكم الله وقانونه.

ويُلاحظ على النّاس أيضاً أنّهم يخضعون لهذه الانحرافات ويألفونها شيئاً فشيئاً فلا يُرى منهم ردّ فعل معاكس يستحقّ الذكر، وأمّا الشعائر والمناهج والتقاليد فربّما تبقى هيكلاً بلا روح، وظواهر تشريفات ليس لها أثرٌ مهمّ.

وفي مثل أحوال كهذه يتحرّق حملةُ هَمِّ تلك الحركة والنهضة وورثة ذلك المذهب والدين أسفاً لما جرى، فيعملون ناهضين لإحياء رسالات وبلاغات الدين ومضامينه وأهدافه الأولى من جديد، لأجل إيقاظ المجتمع الخامد، وتوجيهه إلى أصول المذهب وما أوجبه الدين من الفرائض، وربّما اقترن هذا العمل بالتضحيات وبذل الأموال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
295

269

بلاغات الإحياء

  والأنفس، حيث يكون من الواجب على محييي سنن الشريعة أن يضحّوا بأنفسهم لكي يستيقظ المجتمع من رقدته وغفلته ولكي يحيا الدين.


ولقد كانت نهضة كربلاء أعظم حركة إحيائيّة لأُسس الدين وأحكام الله تعالى، وفي مطالعة أقوال وخُطب الإمام الحسين عليه السلام يجد المتتبّع مرتكزات كثيرة على دوافع وغايات عديدة، مثل: إحياء الدين، وإجراء الحدود الإلهيّة، وإحياء السُنّة، وإماتة البدعة، ومحاربة الفساد، والدعوة إلى حكم الله والقرآن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
296

270

بلاغات الإحياء

 إحياء الكتاب والسُنّة

 

 
في نهضة كربلاء كان الهدف من جهاد أبطال هذه الملحمة المقدّسة أن يستعيد دين الإسلام عزّته، وأن تُصان الحُرمات الإلهيّة وتُحترم مرّة أخرى، وأن يُنصر دين الله، ونجد في أقوال الإمام الحسين عليه السلام أمثلة تعرّض فيها عليه السلام إلى أنّ السُنّة قد أُميتت، وأنّ البدعة والجاهليّة قد أُحييت، كما نجد في أقواله عليه السلام إشارات إلى إحياء القيم الدينيّة ومعالم الإسلام والأصول الحقّة التي كادت أن تموت.
 
فقد قال عليه السلام في رسالته إلى وجهاء البصرة وأهلها:
 
"... وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ السُنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد"1.
 
ويقول عليه السلام في موقع آخر:
 
"إنَّ أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألونني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ وإماتة البدع"2.
 
ويقول عليه السلام في لقائه مع الفرزدق: "يا فرزدق! إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج4، ص266، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت.
2- الأخبار الطوال، للدينوريّ، ص246.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
297

271

بلاغات الإحياء

 دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العُليا"1.

 
ونسمع أيضاً عن هذا الهدف لهذه النهضة المقدّسة وعن فلسفتها لسان مسلم ابن عقيل عليه السلام في الكوفة، فحينما أسروه وأخذوه إلى دار الإمارة، قال له ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل! أتيتَ النّاس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض!
 
فقال مسلم عليه السلام: “كلّا، لستُ أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب"2.
 
وهذه التهمة كانت قد قيلت للإمام الحسين عليه السلام، فقد ورد في الرسالة التي كتبها عمرو بن سعيد الأشدق للإمام عليه السلام ليثنيه عن خروجه إلى العراق ويعيده إلى مكّة: "... بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك..."، فردّ عليه الإمام عليه السلام، وكان من ردّه: "أمّا بعدُ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزَّ وجلَّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين"3.
 
وقد أراد عليه السلام بهذا أن يُثبت ويُظهر أنّ حركته قيام لله وللإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وليست خروجاً وتمرّداً لتفريق الأمّة وشقّ عصا وحدتها كما يزعم طغاة بني أميّة ليجعلوا من هذه التهمة ذريعة لقتله.
 
 
 

1- تذكرة الخواص، ص217 و218.
2- وقعة الطفّ، ص139.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص332 و333.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
298

272

بلاغات الإحياء

 الدفاع عن الدّين

 
في عهد سيطرة الأمويّين على مقدّرات المسلمين، وفي ظروف تلك السنين العجاف، كان الشيء الذي على وشك الزوال هو دين الله، وكان أهل البيت عليهم السلام أيضاً هم المدافعين والذابّين عن دين الله حقّاً، وكان الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام دفاعاً عن الدين، وكان الدفاع عن الدين آنذاك يتجسّد في الاشتراك في الجهاد ضدّ الظُلم، وفي فضح الكفر الأمويّ المتخفّي بزيّ الإسلام.
 
في ميدان الحرب يوم عاشوراء وعند اشتداد القتال ساعة زوال الشمس تذكّر أبو ثمامة الصائديّ (رضوان الله عليه) الصلاة، فقال للإمام الحسين عليه السلام: “ يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها". فرفع الحسين عليه السلام رأسه ثمّ قال: " ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها"1.
فوقف الحسين عليه السلام ليؤدّي الصلاة في أصحابه في موقف تذهل منه العقول ليحيي دين الله في ميدان الجهاد، فلمّا فرغ من الصلاة حرّض أصحابه على القتال قائلاً: "يا أصحابي! إنّ هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتّصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وزُيّنت قصورها، وتألّفت ولدانها وحورها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والشهداء الذين قتلوا معه، وأبي وأمّي يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم، وهم مشتاقون إليكم، فحاموا عن
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص 444.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
299

273

بلاغات الإحياء

 دين الله، وذُبّوا عن حرم رسول الله"1.

 
ثمَّ إنّه عليه السلام صاح بأهله ونسائه، فخرجن... وصحن:
 
"يا معشر المسلمين، ويا عصبة المؤمنين، ألله الله، حاموا عن دين الله، ذبّوا عن حرم رسول الله وعن إمامكم وابن بنت نبيّكم، فقد امتحنكم الله بنا..."2.
 
فلو لم يكن ذلك الجهاد والاستشهاد لما بقي للدين من أساس، وما بقي الدين محفوظاً وما علا صوت الأذان والتكبير مدى القرون إلّا ببركة تلك التضحيات وذلك الفداء، وكما قال الشاعر عن لسان حال الإمام الحسين عليه السلام:
 
إن كان دينُ محمّد لم يستقم                إلّا بقتلي، يا سيوف خذيني3
 
ويؤكّد أبو الفضل العبّاس عليه السلام أيضاً حقيقة أصل "الدفاع عن الدين" في شعره الذي أنشده بعدما قُطعت يمينه المباركة حيث يقول4
 
والله إن قطعتموا يميني                   إنّي أُحامي أبداً عن ديني5
 
فهنالك إذن أهميّة خاصّة وقيمة سامية لمعرفة ما هي الظروف التي يُصبح فيها دين الله عرضة للخطر وللاضمحلال أو للزوال، حيث يجب القيام للدفاع عن الدين ونصرة الحقّ، ومن هنا كان اعتقادنا بأنّ الإمام الحسين عليه السلام وبقية شهداء الطّف (قدّس الله سرّهم) "أنصار دين الله"، ونسلّم عليهم في متون زياراتهم قائلين:
"السلام عليكم أيّها الذابّون عن توحيد الله"6.
"السلام عليكم يا أنصار الله وأنصار رسوله... وأنصار الإسلام... "7.
"السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيّه..."8.
 
 
 

1- نفس المصدر، ص 445.
2- نفس المصدر، ص 445 – 446.
3- كما قال الشاعر: 
لولا صوارمُهم ووقعُ نبالهم لم تسمع الآذانُ صوتَ مُكبّر
عن كتاب: عنصر الشجاعة، فارسي، ج1، ص 18.
4- هذا البيت المشهور قائله الشاعر محسن أبو الحَبّ الكبير المتوفّى سنة 1305 ه- ق.
5- بحار الأنوار، ج45، ص40.
6- مفاتيح الجنان، ص448، زيارة الحسين عليه السلام والشهداء في عيد الفطر والأضحى.
7- نفس المصدر، ص440، زيارة الإمام الحسين عليه السلام .
8- نفس المصدر، ص453.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
300

274

بلاغات الإحياء

 الدفاع عن الحقّ

 
كان سيّد الشهداء عليه السلام قد دعا النّاس إلى فريضة نصرة الحقّ والدفاع عن المظلوم والذود عن أهل بيت النبيّ عليهم السلام، التي هي فريضة وتكليف على جميع المسلمين، ولم يَدَع الإمام الحسين عليه السلام على هذا الصعيد حتّى عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ الذي كان قد خرج من الكوفة ليعتزل مجريات حركة الأحداث فيها، ففي اللقاء الذي تمّ بينهما في خيمة عبيد الله بن الحرّ في منزل قصر بني مقاتل قال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً ابن الحرّ:
 
"أمّا بعدُ يا ابن الحرّ! فإنّ مصركم هذه كتبوا إليَّ وخبرّوني أنّهم مجتمعون على نصرتي، وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوّي، وإنّهم سألوني عليهم فقدمتُ، ولستُ أدري القوم على ما زعموا؟ لأنّهم قد أعانوا على قتل ابن عمّي مسلم بن عقيل رحمه الله وشيعته! وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد يبايعني ليزيد بن معاوية!! وأنت يا ابن الحرّ، فاعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ مؤاخذك بما كسبتَ وأسلفت من الذنوب في الأيّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت، فإنّ أُعطينا حقّنا حمدنا الله على ذلك وقبلناه، وإنّ مُنعنا حقّنا ورُكبنا بالظُلم كنتَ من أعواني على طلب الحقّ"1.
 
كان الإمام الحسين عليه السلام يرى الحياة في الموت في سبيل الحقّ وإحيائه، وكان لا يعرف الخوف ولا يبالي بالقتل في هذا السبيل، أليس هو عليه السلام القائل:
 
 
 

1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص366.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
301

275

بلاغات الإحياء

 "ما أهونَ الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ"1.

 
إنّ الموت من أجل الحقّ والاستشهاد في هذا السبيل عزّة وكرامة وشرف، وهذا الاعتقاد يمنح الإنسان الموقن به شجاعة ولا مبالاة بالموت، كمثل عليّ الأكبر عليه السلام الذي سمع أباه الحسين عليه السلام يسترجع وهم في مسيره نحو كربلاء، فقال: "يا أبت! جُعلتُ فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟
 
قال عليه السلام:يا بنيَّ إنّي خفقتُ برأسي خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا!
 
قال له: يا أبت، لا أراك الله سوءً - ألسنا على الحقّ؟
 
قال عليه السلام:بلى، والذي إليه مرجع العباد!
 
قال: يا أبت، إذن لا نبالي نموت محقّين!"2.
 
 
 
 

1- أعيان الشيعة، ج1، ص581.
2- وقعة الطفّ، ص177.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
302

276

بلاغات الإحياء

 إحياء شعائر الدّين


إنّ إحياء الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بُعدٌ آخر من أبعاد إحياء نهضة عاشوراء، نقرأ هذه الحقيقة في أقوال الإمام الحسين عليه السلام، ونقرأها أيضاً في متون زياراته عليه السلام وزيارات الشهداء الآخرين، مثلاً:

"أشهدُ أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حقَّ تلاوته، وجاهدت في الله حقّ جهاده...".

ونقرأ أيضاً خطاباً شبيهاً بهذا الخطاب في زيارة عاشوراء، وفي زيارة وارث وفي زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام، وفي زيارات أخرى.

إنّ تكريم وتعظيم الشعائر الإلهيّة أساس حياة الدين، وقد تحقّق في ظلّ النهضة الحسينيّة الفصل والتمييز بين صفّ الصادقين الأبرار المقيمين حقّاً لجوهر الدين ومعالمه، ولحقيقة الصلاة وآدابها، التالين القرآن حقّ تلاوته، وبين صفّ الكاذبين المتعاطين بظواهر العبادات، الساحقين حقيقة الدين وباطنه بأقدامهم.

إنّ الصلاة الحقّة هي التي توجد رابطة المحبّة بين العبد وبين الله تبارك وتعالى، وتجعل المصلّي على صراط الدين القويم، أمّا الصلاة التي كان يؤدّيها جيش الكوفة ومجموعة طواغيت الحكم الأمويّ فليس فيها من الصلاة المفروضة إلّا بعض ظواهرها وحركاتها، وكذلك كانت تلاوتهم للقرآن، وهكذا كان أداؤهم لمراسم الحجّ وباقي العبادات، ذلك لأنّهم كانوا غرقى في المفاسد والمظالم، وفي المآثم والذنوب والترف، وكانت أيديهم ملطّخة بدماء الأبرياء المظلومين، إنّ عدم التقوى والتحرّز من ارتكاب المظالم واجتراح المآثم والخوض بالمفاسد وبدماء الأبرياء دليل قاطع على أنّ عبادة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
303

277

بلاغات الإحياء

 هذا الإنسان الظالم الآثم المفسد الجاني عبادة قشريّة فاقدة للروح والحقيقة سواء في صلاة أو حجّ أو تلاوة قرآن أو غيرها من العبادات.

 
ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام هو الذي بعث الحياة والروح من جديد في هذه الشعائر الإلهيّة والسنن الدينيّة وأدّاها حقّ الأداء، وأقامها حقّ الإقامة، وآتاها حقّ الإيتاء، ذلك معنى ما نقرأه في مخاطبته:
 
"أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حقّ تلاوته، و...".
 
وهذا يعني أنّ الآخرين كانوا لا يتلون القرآن حقّ تلاوته، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا يؤتون الزكاة حقّ الإيتاء، ولا يقيمون الصلاة حقّ الإقامة بل على اعوجاج وإمالة.
 
إنّ تلاوة القرآن حقّ تلاوته تتجسّد في همّة المسلم وانبعاثه إلى إحياء تعاليم القرآن في واقع حياة المجتمع، وهو ما قام به الإمام الحسين عليه السلام، وقد كان هذا من ثمرات ودروس وبلاغات نهضته عاشوراء.
 
نعم، في ظلّ الطرح الصحيح للدين والقرآن على لسان أتباع منهج عاشوراء تفقد الأباطيل والخدع المزوّقة بلون الدين وظاهره، تلك الألوان والظواهر الكاذبة.
 
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه):
 
"لمّا رأى سيّد الشهداء عليه السلام أنّ هؤلاء يشوّهون دين الإسلام، ويرتكبون المحارم ويظلمون باسم الخلافة الإسلاميّة، وينعكس هذا في العالم أنَّ خليفة رسول الله هو الذي يقوم بهذه الأعمال، علم سيّد الشهداء عليه السلام أنَّ تكليفه هو أن يقوم وأن يُقتل أيضاً ليمحو آثار معاوية وابنه"1.
 
ومن أقواله أيضاً (رضوان الله عليه): "لقد أحيت الدين شهادة سيّد الشهداء عليه السلام، لقد استُشهد هو، وعاش دين الإسلام، ودفن النظام الطاغوتيّ لمعاوية وابنه"2.
 
وقال (رضوان الله عليه) أيضاً: "سيّد الشهداء عليه السلام أغاث الإسلام، سيّد الشهداء عليه السلام أنقذ الإسلام"3.
 
 
 

1- صحيفة نور، ج8، ص12.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر، ص69.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
304

278

بلاغات الإحياء

 الصلاة

 
لقد كانت النهضة الحسينيّة من أجل إحياء الدين في جميع مظاهره وأبعاده، ومن جملتها "الصلاة"، ولا يخفى أنّ أفضل وأسمى أبعاد الحياة هو بعدها المعنويّ والعباديّ. والصلاة أبرز معالم حياة المسلمين المعنويّة، وتتمتّع بأهميّة خاصّة في الإسلام لما لها من آثار تربويّة بنّاءة في حياة الإنسان المسلم الفرديّة وفي حياة المجتمع الإسلاميّ، ولما لهذا الارتباط بالله من قوّة نهي وردع عن الفحشاء والمنكر.
 
وكان الإمام الحسين عليه السلام قد اهتمّ بالصلاة اهتماماً كبيراً في نهضة عاشوراء، ففي المهلة التي أخذها عليه السلام من الأعداء عصر تاسوعاء إلى صباح عاشوراء كان قد أحيا عليه السلام وأصحابه ليلة العاشر بالصلاة وتلاوة القرآن والتضرّع والدعاء، واستمدّوا من هذا المنبع الإلهيّ المدد الروحيّ الكافي لملحمة يوم عاشوراء، لقد كان قلب الإمام عليه السلام طافحاً بحبّ الصلاة والدعاء وقراءة القرآن والاستغفار إلى حدّ أن قال لأخيه أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “إرجع إليهم، فإنْ استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفرهُ، فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"1.
 
وكما تنقل التواريخ، فإنّ خيم معسكر الإمام الحسين عليه السلام كانت تُسمع منها طيلة ليلة عاشوراء أصوات أنّات المناجاة وآهات الدعوات والتضرّعات وترتيل تلاوة القرآن.
 
 
 
 

1- تاريخ الطبريّ، ج3، ص314.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
305

279

بلاغات الإحياء

 وفي يوم عاشوراء بعد صلاة الصبح، خطب عليه السلام في أصحابه واستعَدّوا للقتال، وعند ساعة الزوال من ظهر عاشوراء تذكّر أبو ثمامة الصائديّ (رضوان الله عليه) الصلاة في وقتها، فقال له الإمام الحسين عليه السلام: “ذكرت الصلاة! جعلك الله من المصلّين الذاكرين! نعم، هذا أوّل وقتها"، ثمّ قال عليه السلام: “سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي"1.

 
ثمّ صلّى الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه، فاستقدم سعيد بن عبد الله الحنفيّ (رضوان الله عليه) أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً، فما زال يُرمى قائماً بين يديه حتّى سقط رحمة الله عليه2، فكان شهيد الصلاة الأوّل في معركة كربلاء.
 
كان قد تجسّد عشق الصلاة في الأتباع الحقيقيّين لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، منهم مثلاً: عبد الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) الذي كان يعيش في الكوفة، وكان مكفوفاً وملازماً لمسجد الكوفة يصلّي فيه، وفي نفس المسجد كان (رضوان الله عليه) قد انتفض معترضاً على ابن زياد لقتله الإمام الحسين عليه السلام ولسبّه إيّاه وأباه أمير المؤمنينL، وقد استشهد (رضوان الله عليه) في سبيل هذا الدفاع في نهاية المطاف، ولقد نقل المؤرّخون أنّ عبد الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) كان لا يفارق المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى الليل3.
 
فقولنا إذن حقّ في اعتقادنا بأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أحيا مبادئ الصلاة الحقّة وأقام عمود الدين بعد أن عرّضه الأمويّون للاعوجاج والإمالة والتشويه، وأنّه عليه السلام كما عبد الله مخلصاً له الدين، أقام أيضاً شعائر الدين، تماماً كما نقول في مخاطبتنا إيّاه عليه السلام في متن زيارته، معتقدين بذلك حقّ الاعتقاد:
 
"أَشهدُ أنّك قد أقمتَ الصلاة، وآتيتَ الزكاة... وعبدته مخلصاً حتّى أتاك اليقين..."4، ونقرأ هذه العبارة أيضاً في زيارة مسلم بن عقيل5 عليه السلام، ونلتقي
 
 
 

1- نفس المصدر، ج3، ص326.
2- راجع: وقعة الطفّ، ص232.
3- نفس المصدر، ص266.
4- تهذيب الأحكام، ج6، ص67، زيارة وارث.
5- راجع: مفاتيح الجنان، ص401.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
306

280

بلاغات الإحياء

 بمثل هذه العبارة أيضاً في كثير من زيارات سيّد الشهداء عليه السلام، وهذا كاشف عن مكانة الصلاة السامية في نهضة عاشوراء وأبطال ملحمتها.

 
بلاغ عاشوراء بلاغ إقامة الصلاة وتربية جيل مقيم للصلاة، محبّ لله، وأهل تهجّد وعرفان، وعلى أصحاب العزاء الحسينيّ أن يجعلوا "إقامة الصلاة" في الدرجة الأولى من اهتمامهم حتّى يؤكّدوا موالاتهم وتبعيّتهم الحقّة لمولاهم الإمام الحسين عليه السلام.
 
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) مؤكّداً على هذا الدرس المستفاد من عاشوراء الحسين عليه السلام:
 
"في ظهر نفس يوم عاشوراء، حيث كانت الحرب قائمة، وكانت تلك الحرب عظيمة، وكان الجميع معرّضين للخطر، لمّا أخبر أحد الأصحاب سيّد الشهداء عليه السلام أنّ الظهر قد حان، قال عليه السلام:ذكرتَ الصلاة! جعلك الله من المصلّين. ووقف عليه السلام في نفس ذلك المكان وأدّى الصلاة، لم يقل: إننا نريد أن نقاتل! كلاّ، إنّه قاتل من أجل الصلاة"1.
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج12، ص148.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
307

281

بلاغات الإحياء

 الهجرة


إنّ من أعظم الموانع التي تحول دون قيام الإنسان أو اشتراكه بالجهاد والحركة الثوريّة والعمل النهضويّ هو تعلّقه القلبيّ بالبيت والزوجة والأبناء وبالدنيا، وبمسقط الرأس والوطن، والحالة الموجودة المألوفة، وغير ذلك من التعلّقات الدنيويّة.

أمّا الهادفون أصحاب الهمم العالية فلا تقعد بهم هذه التعلّقات عن القيام بالتكليف، ويشترون عناء وعذاب النأي عن الأهل والدار والبعد عن الوطن والأقرباء مهما كلّفهم ذلك من ثمن، من أجل إيمانهم وتحقيق أهدافهم.

بل ربّما انطلقوا مختارين بلا إكراه في أرض الله الواسعة يبحثون عن وطن ومحيط وبلد أنسب للتعبير عن عقيدتهم والدعوة ولتحقيق أهدافهم.

ولكلّ من "الهجرة القهريّة" و"الهجرة الاختياريّة" أثر مهمّ في حياة الإنسان المبدئيّ الملتزم ذي الهمّة العالية، لقد هاجر الأنبياء عليهم السلام من أجل التبليغ برسالات الله تبارك وتعالى، حتّى لقد لُقِّب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بالمسيح لكثرة هجرته وتنقّله في الأرض.

ونلاحظ آثار الهجرة أيضاً في كثير من النهضات...

والقرآن الكريم يذكر "المهاجرين" ذكر ثناء وتعظيم، وفي تاريخ صدر الإسلام أيضاً هناك مهاجرون إلى الحبشة، ومهاجرون إلى يثرب، وكان ولم يزل لهم موقع خاصّ واحترام وتجليل في التأريخ الإسلاميّ وعند المسلمين، وتعتبر الهجرة في سبيل الله إحدى القيم الدينيّة السامية، وقد اتُّخذت مبدأ للتأريخ الإسلاميّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
308

282

بلاغات الإحياء

 وفي نهضة عاشوراء أيضاً كانت الهجرة في سبيل الله، فقد هاجر الإمام الحسين عليه السلام في سبيل الله لمواجهة حكومة الظلم والجور، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإحياء الدين، والإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هجرته الأولى من المدينة إلى مكّة، وهجرته الثانية من مكّة إلى العراق، وكان لهجرته عليه السلام أثرها البالغ في تجديد حياة الإسلام.

 
لمّا خرج سيّد الشهداء عليه السلام من المدينة بعد أن ودّع قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ أثناء خروجه الآية القرآنيّة التي تتحدّث عن هجرة النبيّ موسى عليه السلام خائفاً من ظلم فرعون: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)1

لقد كان من الصعب جدّاً على الإمام عليه السلام خلع قلبه ووجوده عن مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ومسقط رأسه الشريف، إلّا أنّ ذلك هيّن ومحتملٌ في سبيل الأهداف الإلهيّة فلمّا دخل مكّة المكرّمة وأقام فيها عدّة أشهر، صار عليه أن يهاجر مرّة أخرى فيترك مكّة متوجّهاً إلى العراق، من أجل أن يُفشل مؤامرة اغتياله في جوار بيت الله أيّام الحجّ على يد جلاوزة يزيد، واستجابة لدعوة شيعة أهل الكوفة بالقدوم إليهم.
 
هجرة واعية وعن علمٍ إلى أرض المصرع والاستشهاد والفداء على طريق أداء التكليف الذي استوجب بذل الدم والنفس.
 
ولقد دعا عليه السلام في هذه الهجرة عشّاق الشهادة في سبيل الحقّ أيضاً ليكونوا رفقاءه على هذا الطريق، ففي خطبته التي خطبها عليه السلام في مكّة قُبيل خروجه من مكّة المكرّمة التي ابتدأها بقوله: "خُطَّ الموت على وُلد آدم..." دعا إلى هذه الهجرة الاستشهاديّة قائلاً: "من كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله"2.
 
وفي هذه الدعوة كان عليه السلام قد شخّص شرطين لمن أراد أن يرحل معه في هذه الهجرة المقدّسة:
 
الأوّل: هو أن يكون مستعدّاً لبذل مهجته في حبّ أهل البيت عليهم السلام وفي سبيل أحقّيتهم
 
 
 
 

1- القصص، 21.
2- بحار الأنوار، ج44، ص367.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
309

283

بلاغات الإحياء

 وحقّانيّتهم. والثاني: هو أن يكون مستعدّاً للقاء الله تبارك وتعالى، فمن كانت هاتان الصفتان فيه فهو أهل لهذه الهجرة الاستشهاديّة المقدّسة.

 
ومن أصحابه في هجرة الفداء هذه مَن صحبه في الهجرة إلى مكّة والهجرة إلى العراق، ومنهم مَن هاجر من الكوفة إلى مكّة ليلتحق به عليه السلام، ومنهم مَن هاجر من البصرة إلى مكّة للالتحاق به، ثمّ هاجروا معه الهجرة المقدّسة إلى أرض المصرع، ومنهم مَن التحق بالإمام عليه السلام في أحد منازل طريق هذه الهجرة، ومنهم مَن هاجر إليه من الكوفة إلى كربلاء، ومنهم مَن هاجر إليه من كربلاء إلى كربلاء1.
 
وجميع هؤلاء "المهاجرين" في هذه الهجرة المقدّسة إلى الله وإلى الإمام عليه السلام كانوا قد تخلّوا عن كلّ شيء: عن الوطن، وعن الأهل، وعن المال، وعن النفس، وعن كلّ التعلّقات المانعة من الفوز بشرف شهادة الفتح المبين، فكانوا جميعاً خير من تعلّم درس "الهجرة" وعلّمه.

بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام كان أحد التعاليم الدينيّة لإحياء ثقافة عاشوراء والشهادة هو "زيارة" كربلاء التي أوصى بها وأكّد عليها الأئمّة عليهم السلام، وبشّروا بالثواب العظيم المترتّب عليها خصوصاً لأولئك الذين يقصدون تربة سيّد الشهداء عليه السلام من ديارهم البعيدة النائية، ولقد كان لهذه الهجرة من أجل الزيارة أهمّ الأثر في فترات الاختناق أيّام الحكم الأمويّ والعبّاسيّ، ولقد تحدّى الكثيرون من الشيعة قرارات منع زيارته عليه السلام من قبل الحكّام الطغاة، وقدّموا التضحيات الكبيرة على هذا الطريق ليفوزوا بزيارة كربلاء وقبر سيّد الشهداء عليه السلام، وبعض مَن النّاس أعرض عن زيارته عليه السلام بسبب الخوف من السلطة الجائرة، من هنا نقرأ في متن الزيارة الأولى المطلقة على لسان الزائر في مخاطبته الإمام الحسين عليه السلام:
 
"أنا عبد الله ومولاك وفي طاعتك، والوافد إليك، ألتمس كمال المنزلة عند الله وثبات القدم في الهجرة إليك، والسبيل الذي لا يختلج دونك من الدخول في كفالتك..."2.
 
 
 

1- راجع: كتاب إبصار العين للشيخ محمّد السماويّ.
2- مفاتيح الجنان، ص423.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
310

284

بلاغات الإحياء

 فالهجرة بلاغ عاشوراء سواء من أجل الدفاع عن الدين ونشر المذهب، أو في سبيل مقاومة الظلم ونصرة المظلومين في كلّ مكان من العالم، أو من أجل الفرار بالنفس والدين والأهل من المحيط الفاسد والصيرورة في أمان من التلوّث بمفاسده.

 
إنّ نضج الإنسان في أحضان الهجرة، كما أنّ تبلور وتطوّر الحضارات أيضاً ثمرة من ثمرات الهجرات المصيريّة.
 
في سنوات الدفاع المقدّس أيضاً كان أبطال الإسلام في إيران قد هاجروا إلى جبهات القتال امتثالاً لأمر إمام الأمّة (رضوان الله عليه)، وفي سبيل أداء هذا التكليف المقدّس تخلّوا عن الدار والعائلة والمنصب وكلّ التعلّقات الدنيويّة الأخرى، وفي هذا المسار كان الإمام الراحل نفسه (رضوان الله عليه) درساً وقدوة للمهاجرين في سبيل الله، في هجرته القهرية من إيران إلى تركيا، ثمّ في هجرته من تركيا إلى النجف، ثمّ من النجف إلى باريس، ثمّ في هجرته من باريس عائداً إلى الوطن من جديد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
311

285

بلاغات الإحياء

 إحياء عاشوراء


تشكّل المناهج التذكاريّة الواسعة التي كان يقيمها الأئمّة عليهم السلام أو يوصون بها لإحياء ذكرى واقعة عاشوراء المحور الرئيس لسنن إحياء شعائر تلك الملحمة المقدّسة الخالدة.

ولقد سعى الأمويّون دائماً للتعمية والتعتيم على تلك الواقعة ولإغفال النّاس عنها وإنسائهم ذكرها، من أجل التغطية على فضيحتهم المخزية بارتكابهم تلك الجناية العظمى، أمّا أئمّتنا عليهم السلام فقد حرصوا دائماً على إحياء ذكرى تلك الفاجعة من أجل فضح حقيقة كفر العدوّ، وبيان مظلوميّة أهل البيت عليهم السلام، وتوجيه الأمّة إلى ثقافة الجهاد والاستشهاد البنّاءة التي تضمّنتها نهضة عاشوراء الخالدة.

إنّ التأكيدات الكثيرة على زيارة سيّد الشهداء عليه السلام وباقي شهداء الطفّ (قدّس سرّهم)، وبيان الفضيلة والمثوبة العظيمة للبكاء في عزاء الإمام الحسين عليه السلام وشهداء عاشوراء، وإقامة مجالس العزاء والبكاء من قبل الأئمّة عليهم السلام على قتلى كربلاء، وترغيبهم وحثّهم على إنشاد الشعر وقراءة المراثي المشجية على سيّد الشهداء عليه السلام، والمراسم الأخرى في شأن هذه القضيّة، كلّ منها له نصيب مهمّ من الأثر الفعّال في إبقاء تلكم الملحمة الملهمة حيّة خالدة لا يطمرها النسيان حتّى قيام الساعة.

لنتبرّك مرّة أخرى بقراءة هذه الرواية الشريفة المرويّة عن زيد الشحّام: أنّ الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام قال لجعفر بن عفّان الطائيّ: "بلغني أنّك تقول
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
312

286

بلاغات الإحياء

 الشعر في الحسين عليه السلام وتُجيد! قال: نعم. فأنشده، فبكى ومَن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته! ثمّ قال: يا جعفر! والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون هاهنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر! ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر لك! فقال: ألا أزيدك؟ قال: نعم، يا سيّدي! قال: ما من أحدٍ قال في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له"1.

 
كلّ هذا التعظيم والثناء والثواب للبكاء والإبكاء والنياحة وقراءة المراثي على سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، من أجل الآثار المترتّبة على ذلك في إحياء واقعة عاشوراء، وبتعبير الإمام الخمينيّ (قدس سره):
 
"بهذه الضجّة، بهذا البكاء، بهذه النياحة، بهذه القراءة للشعر، بهذه القراءة للنثر، نريد أن نحفظ هذا الدين، كما هو كذلك محفوظ إلى الآن"2.
 
وفي رواية زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عن الإمام الباقر عليه السلام فيما يوصي به زائر الحسين عليه السلام في ذلك اليوم أنّه قال: "... ثمَّ ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه، ويأمر من في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام..."3.
 
هذه الشعائر إذن لأجل الحؤول دون نسيان عاشوراء، وهي سبب أساس من أسباب "إحياء أمر" أهل البيت عليهم السلام، الأمر الذي كان قد أكّد عليه أئمّتنا المعصومون عليهم السلام:أن أحيوا أمرنا وخطّنا ونهجنا وهدفنا.
 
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) أيضاً في صدد مثل هذه الشعائر:
 
"هذه مجالسٌ كانت تُقام على طول التأريخ، وبأمر الأئمّة عليهم السلام كانت هذه المجالس... لقد أصرّ الأئمّة عليهم السلام إصراراً بالغاً على أن اجتمعوا، وابكوا، ذلك لأنّ 
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج10، ص464.
2- صحيفة نور، ج8، ص71.
3- وسائل الشيعة، ج10، ص398.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
313

287

بلاغات الإحياء

 هذا يحفظ كيان مذهبنا..."1.

 
في تلك الظروف القاسية من الاختناق والضغط الذي مارسه الأمويّون والعبّاسيّون ضدّ أهل البيت عليهم السلام ونهجهم، كانت مثل هذه المجالس والنياحة ومحافل الذكر والإحياء تُحيي في روح أهل العزاء حسّ الدعوة إلى العدالة والسعي إلى الانتقام من الظالمين، كما كانت هذه الشعائر تضيّق الخناق على الظالمين، ذلك لأنّ كُلاًّ منها كانت صرخة اعتراض واحتجاج على الظلم، وسعياً لإحياء ذكر المظلومين والشهداء، وفضلاً عن بُعدها العاطفيّ كان لها بعدها السياسيّ أيضاً.
 
يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه): “المسألة ليست مسألة البكاء، المسألة ليست مسألة تباكي، المسألة مسألة سياسيّة أنّ الأئمّة عليهم السلام مع تلك الرؤية الإلهيّة التي كانت لهم، كانوا يريدون أن يُعبّئوا هذه الأمم معاً، يوحّدوها عن السُبل المختلفة حتّى لا يصيبها ضرر ولا نكبة..."2.
 
"البكاء على شهيد، محافظة على النهضة وإحياءٌ لها"3.
 
"إنّ جميع هذه المثوبات التي تُعطى من أجل العزاء، من أجل مجالس العزاء، من أجل البكاء والنياحة، إضافة إلى بُعدها العباديّ والروحيّ، هنالك بعدها السياسيّ المهمّ المحسوب في الأمر، فتلك الأيّام التي كانت قد صدرت فيها هذه الروايات، كانت أيّاماً قد ابتليت فيها هذه الفرقة الناجية بالحكومة الأمويّة، وبالحكومة العبّاسيّة أكثر، وكانت هذه الفرقة فئة قليلة جدّاً، أقليّة ضئيلة في مقابل قوى عظمى، آنذاك رسم الأئمّة عليهم السلام طريقاً صحيحاً لتنظيم الفعاليّة السياسيّة لهذه الأقليّة، وكان هذا الطريق منظّماً بذاته... كان الشيعة مع أقليّتهم آنذاك يجتمعون، ولعلّ كثيراً منهم لم يكونوا يعلمون ما هو الغرض والهدف، لكنّ الغرض هو تنظيم جماعة أقليّة في مقابل تلكم الأكثريّات، وعلى طول التأريخ كانت ولم تزل مجالس العزاء هذه تنظيماً عامّاً في كلّ البلدان الإسلاميّة، وفي إيران التي هي مهد التشيّع والإسلام والشيعة كانت مجالس العزاء هذه، وهذه
 
 
 
 

1- صحيفة نور، ج10، ص217.
2- نفس المصدر، ج13، ص153.
3- نفس المصدر، ج10، ص31.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
314

288

بلاغات الإحياء

 المواكب الحسينيّة، هي التي وقفت في وجه الحكومات الظالمة التي كانت تتوالى على الأمّة، وكانت تريد أن تمحو أساس الإسلام، وتمحو أساس الروحانيّة، وهذه المجالس والمواكب هي التي كانت تُخيف تلك الحكومات"1.

 
وكما أنّ سُنّة العزاء والجزع والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة شهداء عاشوراء حصن وحارس لحقيقة تلك الملحمة الملهمة، كذلك في ظلّ حفظ وحياة وبقاء تلك الذكرى انطوت أيضاً حراسة الدين والقيم الإسلاميّة.
 
 
 
 

1- نفس المصدر، ج16، ص217.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
315

289

بلاغات الإحياء

 زيارة كربلاء


ومن المظاهر الأخرى لإحياء نهضة عاشوراء الحضور والتجمّع عند تربة أولئك الذين أحيوا الدين، أبطال ملحمة كربلاء، الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره المستشهدين بين يديه عليهم السلام وزيارة مراقدهم المطهّرة.

وفضلاً عن الآثار التربويّة والروحيّة والعطاءات المعنويّة والأخلاقيّة الكامنة في زيارة تربة ومراقد الأئمّة الأولياء الأطهار، فإنّ لزيارة كربلاء ميزة أخرى أيضاً وهي الاستمداد من هذا المصدر والمنبع للحماسة والاستنهاض والتثوير من أجل الجهاد في سبيل الحقّ والتضحية في سبيل الله والدين.

وعلى رغم أحكام وقرارات منع زيارة كربلاء التي كانت تصدر عن الحكّام الطغاة الأمويّين والعبّاسيّين، كان أئمّتنا عليهم السلام دائماً يرغبّون النّاس في زيارة قبر الحسين عليه السلام ويحثّونهم عليها، ويوصون بعدم تركها، ومن خلال بيانهم للفضائل والمثوبات العظيمة التي تكون لزوّار قبر سيّد الشهداء عليه السلام كان الأئمّة عليهم السلام يريدون أنّ يبقى هذا المركز المُشعُّ بالمعنويّة والحماسة والاستنهاض حيّاً في قلوب وعقول النّاس دائماً، يرون ذلك أحد علامات الانتماء لخطّ أهل البيت عليهم السلام، ووفاءً من الشيعة بعهدهم وبيعتهم لأئمّتهم عليهم السلام.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:

"من لم يأت قبر الحسين عليه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتّى يموت، فليس هو
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
316

290

بلاغات الإحياء

 لنا بشيعة"1.

 
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنّه قال:
 
"زيارة الحسين بن عليّ واجبة على كلّ من يقرّ للحسين بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ"2.
 
إنّ دعوة الأئمّة عليهم السلام شيعتهم ومحبّيهم ومواليهم للذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام حتّى في ظروف الخوف والخطر وعدم الأمان، وتبشيرهم بالفضل الأعظم والثواب الأكبر المترتّب على مثل هذه الزيارة، دليل على الأثر والدور المهمّ الذي تقوم به الزيارة في إحياء حماسة عاشوراء وقيمها وبلاغاتها.
 
وفي رواية عن ابن بُكير أنّه شكى للإمام الصادق عليه السلام خوفه من عيون السلطان وسُعاته وأصحاب المسالح إذا أراد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام وأنّه يظلّ خائفاً وجلاً مُشخصاً (مشفقاً) حتّى يرجع، فقال له الإمام الصادق عليه السلام: “يا ابن بُكير! أما تحبُّ أن يراك الله فينا خائفاً؟ أما تعلم أنّه من خاف لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه، وكان محدّثه الحسين عليه السلام تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع النّاس ولا يفزع، فإنّ فزع وقرته الملائكة، وسكّنت قلبه بالبشارة"3.
 
وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال لمحمّد بن مسلم في صدد هذه المسألة:
 
"ما كان من هذا أشدّ فالثواب فيه على قدر الخوف، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم يقوم النّاس لربّ العالمين"4.
 
وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال:
 
"إيتوا قبر الحسين كلّ سنة مرّة"5.

كانت زيارة كربلاء في تلك العصور على الدوام محدودة مقيّدة أو ممنوعة، وما كان لزوّار قبر الإمام الحسين عليه السلام من حريّة كاملة ولا أمان ولا طمأنينة، ذلك لأنّ زيارة
 
 
 


1- وسائل الشيعة، ج10، ص334.
2- نفس المصدر، ص346.
3- كامل الزيارات، ص135 و136، ب 45، ح2.
4- بحار الأنوار، ج98، ص11.
5- نفس المصدر، ج98، ص13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
317

291

بلاغات الإحياء

 كربلاء كانت منشأ ومنطلق حركة ونهضة وتجمع الثوّار من محبّي أهل البيت عليهم السلام.

 
في سنة 121ه-.ق بعد ثورة زيد بن عليّ (رضوان الله عليه) في الكوفة واستشهاده مُنعت زيارة كربلاء من قبل هشام بن عبد الملك واشتدّت المراقبة من قبل السلطة الأمويّة بصدد هذا الأمر، وقد نشر هشام جنده وشرطته على طريق كربلاء للسيطرة على ذهاب النّاس وإيابهم1. وفي زمان هارون العبّاسيّ والمتوكّل خربوا قبر الإمام الحسين عليه السلام وكربوه عدّة مرّات، ومنعوا زيارته، حتّى أنّهم في زمان هارون قطعوا السدرة التي كانت علامة على قبر الإمام الحسين عليه السلام هناك، حتّى يضيع مكان القبر على النّاس فلا يجتمعون بعد ذلك عنده2.
 
لقد أخربوا قبر الإمام عليه السلام سبع عشرة مرّة بأمر من المتوكّل العبّاسيّ3، لكنّ تشدّد وعنف وإرهاب الحكّام الطغاة المتواصل لم يستطع أبداً أن يقطع علاقة النّاس مع القبر المقدّس لسيّد الشهداء أبي عبد الله عليه السلام.
 
"بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده، وضمَّ إليه كنفاً من الجُند كثيراً، ليشعَّث (ليشعب خ) قبر الحسين عليه السلام ويمنع النّاس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطفّ وعمل بما أُمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه، وقالوا: لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة، مُظهراً أنّ مسيره إليها في مصالح أهلها، والانكفاء إلى المصر.
 
فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير النّاس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام، وأنّه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من
 
 
 

1- راجع: تاريخ النياحة على الإمام الشهيد، ج1، ص126.
2- راجع: تاريخ الشيعة، محمّد حسين المظفّر، ص89.
3- راجع: تتمّة المنتهى، ص241.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
318

292

بلاغات الإحياء

 الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمّة ممّن زار قبره، ونبش القبر وحرث أرضه، وانقطع النّاس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب والشيعة، فَقُتِلَ، ولم يتمَّ له ما قدّره"1.

 
من السُنن الدينيّة في ما يتعلّق بشرف وفضل وقداسة تربة سيّد الشهداء عليه السلام ما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام:
 
"حنّكوا أولادكم بتربة الحسين فإنّها أمان"2.
 
وفي استحباب الاستشفاء بهذه التربة المقدّسة قال عليه السلام أيضاً:
 
"في طين قبر الحسين عليه السلام الشفاء من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر"3.
 
ولقد وردت هكذا روايات أيضاً في فضل ماء الفرات.
 
وهناك روايات عديدة في فضل السجود على تربة سيّد الشهداء عليه السلام، وفضل المسبحة المصنوعة من تربة الحسين عليه السلام وفضل الذكر بها، حتّى لقد روي أنّه كان للإمام الصادق عليه السلام خريطة ديباج صفراء (كيس) فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام، فكان إذا حضرت الصلاة صبّه على سجّادته وسجد عليه، وأنّه عليه السلام قال: "السجود على تربة الحسين عليه السلام يخرق الحُجب السبع"4.
 
إنّ أُنساً كهذا وأُلفة مع تربة سيّد الشهداء عليه السلام إحياءٌ لتلك الحماسات والبطولات التي كانت في ملحمة عاشوراء.
 
يقول العلّامة الأمينيّ (رضوان الله عليه): “أليس الأمثل والأفضل اتّخاذ المسجد من تربة تفجّرت في صفيحها عيون دماءٍ اصطبغت بصبغة حبّ الله، وصيغت على سُنّة الله وولائه المحض الخالص؟ من تربة عُجنت بدم من طهّره الجليل وجعل حبّه أجر الرسالة الخاتمة، وخُمّرت بدم سيّد شباب أهل الجنّة، حُبّ الله وحُبّ رسوله، وديعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لدى أُمّته كما جاء في السُنّة؟..."5.
 
 



1- بحار الأنوار، ج45، ص397.
2- وسائل الشيعة، ج10، ص410.
3- نفس المصدر.
4- راجع: بحار الأنوار، ج82، ص153 وص334.
5- سيرتنا وسنَّتُنا، للعلاّمة الأميني، ص166.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
319

293

بلاغات الإحياء

 وهناك أمرٌ آخر تنطوي عليه زيارة شهداء كربلاء، وهو المفاهيم العالية الاعتقاديّة والتربويّة التي تضمّنتها متون زيارات الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة شهداء الطفّ عليهم السلام. لقد كان أئمّتنا عليهم السلام بتعليمهم الشيعة هذه المتون الشريفة يذكّرون أيضاً بالقيم الدينيّة والمفاهيم القيّمة، إنّ التأمّل العميق في محتوى متون هذه الزيارات الشريفة يكشف بوضوح عن كثير من الإشارات واللفتات المنوّعة التي انطوت عليها هذه المتون فإضافة إلى كون هذه المتون فاضحة لما اجترحه آل أميّة من ظلم بحقّ أهل بيت الرسالة عليهم السلام، وإضافة إلى كونها ترسم صورة مشرقة وضّاءة للغرر الرشيدة والطلعات البهيّة للشهداء ولشخصيّاتهم الملهمة، تشعّ هذه المتون الشريفة أيضاً بالدروس الأخلاقيّة والاعتقاديّة والعرفانيّة، كما أنّها تكشف أيضاً عن خطّ الزائر وموقفه الفكريّ والعمليّ وانتمائه لصفّ أهل الحقّعليهم السلام.

 
بمرور عابر على متون الزيارات نجد أنفسنا أمام هذه المفردات والمفاهيم: المحبّة، الموالاة، الإطاعة، الصلوات، السلام، اللعن، العهد، الشفاعة، التوسّل، الوفاء، الجهاد، الدعوة، النصرة، التسليم، التصديق، الصبر، التولّي، التبرّي، المواساة، الزيارة، الصلاة، الزكاة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التبليغ، وراثة السمات الإلهيّة، المساعدة، التعاون، السعادة، الرضا، طلب الثأر، الحرب والصلح، التقرّب إلى الله، البراءة من الأعداء، الولاية، الفوز، النصيحة، الفداء، وعشرات العناوين الأخرى.
 
إنّ الشوق إلى زيارة مراقد أهل البيت عليهم السلام عامّة ومراقد شهداء الطفّ خاصّة، كان ولم يزل سبباً دائماً يدفع الشيعة ويثيرهم إلى الإعلان والكشف عن محبّتهم وولايتهم للأئمّة المعصومين ولشهداء الطفّ.
 
ولقد حُفِظت هذه الثقافة الإيمانيّة والسنن الولائيّة في أوساط العوائل والبيوتات الموالية لأهل البيت عليهم السلام طيلة قرون متمادية، إذ كانوا ولا يزالون يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويحرصون عليها كما يُحرص على الجوهرة النفيسة.
 
ولسبب هذه الآثار والبركات الكامنة في الارتباط والتعلّق بتربة قبر الإمام الحسين عليه السلام وتربة كربلاء، كان أئمّتنا عليهم السلام قد حثّوا وأكّدوا على زيارة كربلاء
 
 
 
 

1- راجع: البحث المبسوط في صدد هذا الموضوع في كتاب "كربلاء كعبةً دلها" (كربلاء كعبة القلوب) للمؤلف.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
320

294

بلاغات الإحياء

 حتّى تبقى تلك الملحمة الدامية خالدة ومؤثّرة، وهذا أيضاً نوع من الإحياء لثقافة ورسالة عاشوراء.


ولقد كان مشهوداً أيضاً أثر مثل هذا الارتباط والتعلّق بالتربة الحسينيّة وبتعظيم شعائر ومراسم العزاء والنياحة والبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام في تأريخ الثورة الإسلاميّة في إيران، وفي سنوات الدفاع المقدّس في الحرب المفروضة عليها، إذ كانت ثقافة الشهادة والزيارة هذه من العناصر المهمّة في بثّ روحيّة الجهاد والفداء، وفي تأسّي أبطال الإسلام واقتدائهم بشهداء كربلاء، حتّى لقد كان شعار المجاهدين وأملهم هو: إمّا الزيارة أو الشهادة!
إنّ بلاغ عاشوراء وتعاليم أئمّتنا عليهم السلام العمليّة ووصاياهم لإحياء تلك الملحمة المقدّسة ولمداومة ذكر تلك الدماء الطاهرة هو أنّ علينا أن نتّخذ من عطاءات وإلهامات دم الشهيد ومزار الشهيد واسم الشهيد وذكره منبعاً للاستلهام والتلقّي، ولأجل استمرار ودوام ثقافة الشهادة وحفظ بقاء ميراث الشهداء يجب أن نحرص على إقامة مجالس ذكرهم وتكريمهم وإحياء ذكرياتهم ومناسباتهم من خلال القلم والفن والشعر والأدبيّات الأخرى، وأن لا ننسى مواصلة هذا الالتزام أو نغفل عنه أبداً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
321

295

بلاغ إلى المرأة

 إيضاح


لا يمكن تحديد أو حصر عاشوراء في نطاق طبقة من النّاس، فإنّ تأثير هذه الملحمة يشمل الجميع، ودروسها للجميع أيضاً، ومن هنا فإنّ بلاغات عاشوراء المذكورة في هذا الكتاب عامّة للجميع، سواء النساء والرجال، والشباب والكهول.

ولكن، حيث إنّ النساء يشكّلن نصف المجتمع، وحيث إنّ إحدى المسؤوليّات المهمّة والمشهودة لنهضة عاشوراء كانت قد أُلقيت على كاهل نساء الركب الحسينيّ، وحيث إنَّ "عاشوراء" في خلودها مدينة بدرجة كبيرة إلى تضحيات أهل بيت الحسين عليه السلام عامّة، وزينب الكبرى عليها السلام خاصّة، لذا سنتناول في هذا الفصل المستقلّ بلاغات عاشوراء الموجّهة إلى المرأة المسلمة، من أجل أن تتجلّى الرسالة الاجتماعيّة السياسيّة للمرأة المسلمة في المجتمع، وكذلك من أجل دحض التضليل الإعلاميّ المعادي القائل بأنّ الإسلام يحرّم على النساء المشاركة في الأعمال الاجتماعيّة والحضور في ميادين الأنشطة العامّة، وليتّضح كذلك دور وأثر النساء المؤمنات في دعم جهاد الرجال ومجهودهم الحربيّ، وكذلك ليتبيّن كيف يمتزج العفاف والطهر مع الجهود والمجاهدات الاجتماعيّة التي يمكن أن تنهض بأعبائها النساء المؤمنات، وتتجلّى أيضاً المسؤوليّة الخطيرة التي تقوم بها الأمّهات المؤمنات في تربية وإعداد الشهداء، وتنشئة جيل مؤمن شجاع مدافع عن الحقّ، وكذلك الدور الخطير والحسّاس الذي تقوم به المرأة المؤمنة في تبيين غايات وأهداف الشهداء والتبليغ بها، وكذلك دورها في ذكر وتوضيح وإحياء وحراسة خطّ الشهداء الفكريّ والعمليّ.

إنّ مجموعة هذه المحاور المهمّة تقتضي أن نُلقي نظرة مستقلّة على حضور النساء ودورهنّ في نهضة عاشوراء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
325

296

بلاغ إلى المرأة

 فلنقرأ مثلاً هذه العناوين التالية:

- مشاركة المرأة في الجهاد.
 
- قيامها بتعليم وتلقين الصبر والمقاومة.
 
- دورها التبليغيّ بعد الملحمة والثورة والجهاد.

- دورها في المجاهدين وذوي الشهداء.
 
- دورها في إدارة أمور عوائل الشهداء ووارثي النهضة في الظروف الصعبة.
 
- دورها في حفظ القيم والأصول الإسلاميّة والالتزام بها حتّى في ظروف الأسر.
 
إنّ هذه العناوين من الممكن أن تكون موضوعاً لبحوث مفصّلة واسعة في مجرى معرفة عاشوراء، حتّى تكشف عن دور المرأة في تلك الملحمة المقدّسة.
 
ومن خلال نظرة أخرى، فإنّ المعرفة الإحصائيّة بحال ووضع المرأة في نهضة عاشوراء تبيّن بشكل أوضح كيف وفّى دور المرأة حقّ الحضور والمساهمة في النهضة أتمّ الوفاء.
 
وعلى هذا الصعيد يحسن التأمّل هنا بالمعلومات التالية:
 
إنّ النساء اللّاتي كُنَّ حضرن واقعة عاشوراء بعضهن بناتُ عليّ عليه السلام، والأُخريات غيرهنّ من بني هاشم ومن غيرهم. ومن بنات أمير المؤمنين عليه السلام يمكن أن نذكر: زينب، أمّ كلثوم، فاطمة، صفيّة، أمّ هاني، ومن بنات سيّد الشهداء عليه السلام:سكينة، وفاطمة.
 
الرباب، عاتكة، أمّ محسن بن الحسن، ابنة مسلم بن عقيل، فضّة النوبيّة، أَمَة خاصّة للإمام الحسين عليه السلام، أمّ وهب بن عبد الله، و... من جملة النساء اللاّتي كنّ حاضرات في كربلاء1.
خمس من النساء خرجن من الخيم نحو الميدان: جارية مسلم بن عوسجة، أمّ وهب زوج عبد الله الكلبيّ، أمّ عبد الله الكلبيّ، أمّ عمرو بن جنادة، وزينب الكبرى عليها السلام التي كان لها دور أكبر وأكثر إلفاتاً للإنتباه من دور الأُخريات.
أمّ وهب كانت امرأة قد استشهدت عند مصرع زوجها الشهيد.
 



1- راجع: زندكانى سيّد الشهداء، عماد زاده، ج2، ص124.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
326

297

بلاغ إلى المرأة

 وهناك امرأتان نهضتا من شدّة الغضب والتأثّر والإحساس، واندفعتا للدفاع عن الإمام عليه السلام وقاتلتا الأعداء: إحداهما زوجة عبد الله بن عمير، والأخرى أمُّ عمرو بن جنادة التي سيأتي ذكرها.

(دلهم) زوجة زهير بن القين كانت قد انضمّت مع زوجها إلى الركب الحسينيّ في أحد منازل الطريق إلى كربلاء.

ويُنقل أنّ الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام وهي أمّ سكينة وعبد الله الرضيع كانت أيضاً حاضرة في كربلاء.

إنّ خُطب زينب وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين عليهنّ السلام في الكوفة والشام تعتبر من الفصول المشرقة لهذه الملحمة المقدّسة، و... كذلك الأدوار والمواقف الأخرى التي قامت بها نساء وبنات قافلة النور طيلة مقاطع هذا السفر حتّى عودتهنّ إلى مدينة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّة أخرى.

ومن الجدير بالنساء اليوم أن يكون لهنّ حضور تديّنيٌّ وملتزم في ميادين المواجهات السياسيّة والفعّاليّات الاجتماعيّة بالاستلهام من منهج عمل وتصرّف وسلوك نساء عاشوراء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
327

298

بلاغ إلى المرأة

 حضور المرأة السياسي في المجتمع


إنّ التكليف الاجتماعيّ للإنسان المسلم لا يخصّ الرجال فقط، فالمرأة المسلمة أيضاً مكلّفة على أساس التزامها الدينيّ الإسلاميّ في أن يكون لها موقف اتّجاه حركة أحداث الصراع بين الحقّ والباطل في المجتمع، وفي مسألة الولاية والقيادة، فتدافع عن القيادة الحقّة، وتنتقد حكومات الباطل وأخطاء ومفاسد المسؤولين غير المؤهّلين، وأن يكون لها حضور فعّال في الميدان فيما إذا استوجب الدفاع عن الدين أن يكون لها ذلك الحضور.

في الدفاع عن الإمام المعصوم عليه السلام، وفي كشف أساليب الحكّام المنحرفة، وقفت زينب الكبرى عليها السلام أيضاً في نهضة كربلاء جنباً إلى جنب مع أخيها الحسين بن عليّ عليهما السلام تشاركه أعباء المسؤوليّات الخطيرة والثقيلة فيها، ومن أجل القيام بهذا الدور حقّ القيام كان لها حضور فعّال ومؤثّر في معيّة الإمام عليه السلام في المدينة، ومنها إلى مكّة، ومن هناك إلى كربلاء، ثمّ في الميادين والمشاهد المختلفة التي كانت بعد مقتل الحسين عليه السلام في أسفار الأسر، ثمّ في المدينة مرّة أخرى حيث كانت عليها السلام العنصر الرئيس المحرّض على الثورة والانتفاضة ضدّ الحكم الأمويّ.

إنّ المحاور الرئيسة التي يمكن تسجيلها عن "حضور المرأة في نهضة عاشوراء" هي:
1- الصبر والثبات والمقاومة قبال المصاعب والمصائب سواء في جميع حركة أحداث النهضة أو في حركة أحداث ما بعد واقعة عاشوراء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
328

299

بلاغ إلى المرأة

 2- الجرأة والشجاعة البطوليّة في كشف الحقائق وقول كلمة الحقّ أمام السلطان الجائر، وذلك في الإسلام من أعظم أنواع الجهاد.


3- تبليغ وتبيين وتوضيح أهداف وغايات وحقّانيّة نهضة عاشوراء طيلة مراحل السفر من قبل زينب وأمّ كلثوم وباقي نساء أهل البيت عليهم السلام، حتّى بعد عودته بقيّة الركب الحسينيّ إلى المدينة من كربلاء.

4- أعمال التمريض والمساعدة والإمداد في يوم عاشوراء وفي ما بعد ذلك.

5- رفع روحيّة أصحاب الإمام عليه السلام وتشجيعهم، أو حثّ أمّهات أو أزواج بعض الشهداء أبناءهنّ أو أزواجهنّ وتحريضهم على الدفاع عن الإمام عليه السلام وعلى الاستشهاد في سبيل الحقّ، كالذي قامت به بعض نساء أهل البيت عليهم السلام، وما فعلته (دلهم) زوجة زهير، وزوجة مسلم بن عوسجة، وأمّ وهب، وزوجة خولّى، وغيرهن...

6- العمل الإداريّ في ظروف الأزمات والشدائد، وكان هذا دور زينب الكبرى عليها السلام بالأساس، حيث كانت عليها السلام، سيّدة الأسارى، وكفيلة الأطفال، وهي التي قامت بحفظ بقايا الركب الحسينيّ المفجوعين وإدارة أمورهم في الظروف الصعبة أيّام الأسر، وفي مواجهة قوّات العدوّ، وفي الارتحال المرير من مدينة إلى مدينة، إلى أن وصلوا الشام، وفي رحلة العودة الحزينة مرّة أخرى.

7- تغيير ماهيّة الأسر وتبديلها إلى تحرير وتوعية النّاس وإيقاظهم واستنقاذهم من تضليل الإعلام الأمويّ، ولقد كان لزينب وأمّ كلثوم، وفاطمة بنت الحسين عليهنَّ السلام دور مهمّ في هذا الصدد.

8- تعميق البُعد المأساويّ لواقعة عاشوراء، وقد تحقّق هذا في نفس حضور النساء والبنات في الواقعة، وفي التأثير العاطفيّ الناتج عن حضورهن في ميادين ومشاهد ما بعد الواقعة، وفي تعبئة العواطف والمشاعر لصالح جبهة الحقّ، ولقد كان بكاء أهل البيت عليهم السلام وإقامتهم لمآتم العزاء، وإبكاء أهل الكوفة والشام بتأثير تلك الخُطب المُقرحة للقلوب، من أسباب تعميق هذا البعد العاطفي لمأساة ملحمة عاشوراء.
9- رعاية المرأة المسلمة الملتزمة للحدود الإلهيّة والعفاف ومتانة التصرّف والسلوك حتّى في ظروف الأسر أو في قبضة جنود العدوّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
329

300

بلاغ إلى المرأة

 مشاركة المرأة في الجهاد

 
يطول بنا البحث والمقام إذا أردنا أن نحقّق في جميع موارد وشواهد هذا "الحضور"، ولذا فإنّنا سنشير هنا إلى بعض المشاهد والمواقف لنساء مؤمنات من غير بيت أهل العصمة عليهم السلام، من أجل توضيح بُعد مشاركة المرأة المسلمة في الجهاد.
 
"طوعة" 
 
لمّا دخل مسلم بن عقيل عليه السلام الكوفة ممثّلاً للإمام الحسين عليه السلام، كان يقرأ على الشيعة كتاب الإمام عليه السلام إليهم كلّما اجتمعت إليه جماعة منهم، فبايعه منهم أُلوف عديدة، حتّى صار مسلم عليه السلام يشكّل خطراً حقيقيّاً على النظام الأمويّ في الكوفة، لكنّ الأوضاع في هذه المدينة تغيّرت بعد مجيء ابن زياد إليها شيئاً فشيئاً، حتّى اعتقل هاني بن عروة (رضوان الله عليه)، فاضطر مسلم عليه السلام إلى التعجيل بالخروج ضدّ ابن زياد، فكانت محاصرة القصر، ثمّ آلت الأمور إلى تفرّق النّاس عن مسلم عليه السلام وخاصّة أصحابه1، حتّى إذا جاء الليل مضى مسلم عليه السلام وحيداً إلى دار"طوعة" المرأة المؤمنة المضحيّة2، فآوت مسلماً عليه السلام تلك الليلة وقامت بخدمته خير




1- راجع التفصيل التحليليّ التحقيقيّ لحركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام في الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص49 - 172.
2- يقول الدينوريّ في حقّ طوعة: "وكانت ممّن خفّ مع مسلم" (الأخبار الطوال، ص239) أي أنّها رحمها الله ممّن خرج معه، أي أنّها كانت من الثوّار على ابن زياد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
330

301

بلاغ إلى المرأة

 قيام، معرّضة نفسها بشجاعة إلى خطر انتقام ابن زياد منها، كلّ ذلك وفاءً منها لمولاها الإمام الحسين عليه السلام وممثّله مسلم بن عقيل1 عليه السلام.

 
وفي آخر مرحلة من مراحل نهضة مسلم عليه السلام تحوّلت دار تلك المرأة المؤمنة المجاهدة "طوعة" إلى ميدان المواجهة بين مسلم عليه السلام وبين جُند ابن زياد، وفي ختام تلك المواجهة خرج عليه السلام من دار "طوعة" وقاتل الجند المهاجمين في ميادين الأزقّة....2
 
"دلهم" زوجة زهير بن القين:
 
تنقل بعض المصادر التأريخيّة أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا التقى زهير بن القين (رضوان الله عليه) في منزل (زرود) من منازل الطريق إلى الكوفة، أرسل عليه السلام رسوله إلى زهير يدعوه إلى لقائه، وفي البدء لم يكن زهير راغباً في لقاء الإمام عليه السلام وأظهر عدم ميله3، لكنّ زوجته (دلهم) عاتبته في ذلك وحثّته على لقاء الإمام عليه السلام قائلة: "أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه!؟ سبحان الله، لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفت!"4، وما إن ذهب زهير إلى الإمام عليه السلام حتّى عاد حسينيّاً قد انضمّ إلى الإمام 5عليه السلام.
 
فلعلّ زهير بن القين (رضوان الله عليه) ما كان ليوفّق إلى الانضمام إلى صفّ الحقّ والفوز بالشهادة في ملحمة عاشوراء الخالدة، لو لم يكن حثُّ وترغيب زوجته "دلهم بنت عمرو" إيّاه على لقاء الإمام عليه السلام.
 
 
 

1- هناك نقل تأريخيّ يصف حال مسلم عليه السلام في الليل وحيداً: "... ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه! فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق..." وهذا ما لا يقبله التحقيق العلميّ في الوقائع والحقائق التأريخيّة. راجع في هذا الصدد الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص 134 - 135.
2- راجع: الارشاد، ج2، ص57 و58.
3- هناك تشكيك في الدعوى التأريخيّة المشهورة بأنّ زهير كان عثمانيَّ الهوى، وكان يتحاشى لقاء الإمام عليه السلام في منازل الطريق... ذلك لأنّ هذه الدعوى تخالف الحقائق الزمانيّة المكانيّة والوثائقيّة (راجع الجزء الثالث من موسوعة مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، 215 - 302.
4- تاريخ الطبريّ، ج3، ص303.
5- راجع مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص208.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
331

302

بلاغ إلى المرأة

 "أمُّ وهب" 

 
كانت أمُّ وهب زوجة لعبد الله بن عمير الكلبيّ، وكانت تعيش معه في الكوفة، ولمّا عزم زوجها على الارتحال ليلاً من الكوفة إلى كربلاء لنصرة سيّد الشهداء عليه السلام، أصرّت عليه أمُّ وهب أن يأخذها معه أيضاً، فارتحلا ووصلا إلى كربلاء في الليل والتحقا بأنصار الإمام عليه السلام، وفي يوم عاشوراء لمّا برز زوجها إلى ميدان القتال أخذت أمّ وهب عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول:
 
"فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل إليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك! فجاء إليها الحسين عليه السلام وقال: جُزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ فإنّه ليس على النساء قتال. فانصرفت إليهنّ.
 
ولمّا استشهد عبد الله زوجها خرجت تمشي إلى زوجها حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة! أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك! فقال شمر لغلامه رستم: اضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها رحمها الله"1، فكانت المرأة الوحيدة التي استشهدت في معركة الطفّ يوم عاشوراء.
 
وكان لأمّ وهب ابن قد استشهد أيضاً يوم عاشوراء، أمّ وهب تشجّع ابنها وتحثّه يوم عاشوراء على الجهاد بين يدي الإمام حتّى الفوز بالشهادة، فلم يزل يقاتل حتّى قتل من الأعداء جماعة، فرجع إلى أمّه فقال: "يا أمّاه أرضيت؟ فقالت: ما رضيتُ أو تقتل بين يدي الحسين عليه السلام. فرجع فلم يزل يقاتل حتّى استشهد"2.
 
"أمُّ عمرو بن جنادة" 
كان عُمْرُ عَمرو بن جنادة (رضوان الله عليه) يوم استشهد يوم عاشوراء إحدى عشرة سنة، فهو أصغر أنصار الحسين عليه السلام سنّاً من غير الهاشميّين، وكان أبوه جنادة قد
 
 
 

1- راجع: إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ، ص 179 - 181.
2- راجع: بحار الأنوار، ج45، ص17، ويلاحظ المتتبّع أنّ هناك خلطاً في بعض المصادر التأريخيّة بين قصّة عبد الله بن عمير الكلبيّ (رضوان الله عليه) وبين قصّة وهب بن وهب (رضوان الله عليه) حيث تكون أمّ وهب مع الأوّل زوجته، وأمّ وهب مع الثاني أمّه، ولمعرفة تفاصيل هذا الخلط لا بأس بمراجعة الجزء الرابع من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص304 - 306.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
332

303

بلاغ إلى المرأة

 استُشهد يوم عاشوراء في الحملة الأولى، فأمرته أمّه بعد أن قُتل أبوه في الحرب أن يتقدّم لنصرة الحسين عليه السلام، فوقف أمام الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه، فلم يأذن له، فأعاد عليه الاستئذان، فقال الحسين عليه السلام: “ إنّ هذا غلامٌ قُتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمَّه تكره ذلك. فقال عمرو: إنّ أمّي هي التي أمرتني. فأذن له فتقدّم إلى الحرب فقُتل، وقُطع رأسه ورمي به إلى جهة الحسين عليه السلام، فأخذته أمُّه وضربت به رجلاً فقتلته! وعادت إلى المخيّم فأخذت عموداً لتقاتل به فردَّها الحسين عليه السلام "1.

 
وكانت هذه الأمّ المجاهدة تسمّى "بحريّة بنت مسعود الخزرجيّ" ويُروى أنّها لمّا حملت رأس ابنها قالت: "أحسنتَ يا بُنَيَّ، يا سرور قلبي، ويا قُرّة عيني!"2
 
"زوجة مسلم بن عوسجة" 
 
كانت "أمُّ خلف" زوجة مسلم بن عوسجة من نساء الشيعة المرموقات، وكانت من النساء اللّاتي حضرن كربلاء، ومن أنصار سيّد الشهداء عليه السلام.
 
حينما استشهد زوجها مسلم، تهيّأ ابنها "خلف" للقتال، غير أنَّ الإمام عليه السلام طلب منه أن يبقى لرعاية أمّه وخدمتها، لكنّ أمّه حرّضته على الجهاد في سبيل نصرة الإمام عليه السلام وقالت له: "لن أرضى عنك إلّا بنصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
فبرز"خلف" إلى الميدان مسرعاً، فقاتل قتال الأبطال حتّى استشهد... ولمّا ألقوا برأسه إلى أمّه حملت رأسه بشجاعة وقبّلته وبكت"3.
 
وهذه المرأة المجاهدة أيضاً، بتشجيعها ابنها وتحريضه وحثّه على الجهاد في سبيل نصرة الدين، وبموقفها المناسب اللائق عند استشهاد ابنها، تكون من القدوات اللّاتي يُلهمن أمّهات الشهداء كيف يستقبلن برحابة صدر تقديم أبنائهنّ من أجل نصرة الإسلام.
 
 
 

1- راجع: إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ، ص159.
2- راجع: تنقيح المقال، ج2، ص327، تسلية المجالس، ج2، ص297.
3- راجع: رياحين الشريعة، ج3، ص305.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
333

304

بلاغ إلى المرأة

 التزام المرأة بالحجاب والعفاف


من المظاهر البارزة لحضور النساء في ملحمة عاشوراء تقيّدهنّ والتزامهنّ بحرمات وأحكام الله ومراعاتهنّ لمسائل الحجاب والعفاف.

إنّ حضوراً كهذا كاشف عن أنّ مشاركة المرأة في ميادين الجهاد والدفاع عن الحقّ لا تتنافى مع الفعاليّات التي تقوم بها المرأة خارج البيت بشرط أن ترعى حريم عفافها والحدود الإلهيّة وتلتزم بما يجب عليها من متانة السلوك والتصرّف.

لقد كان أهل بيت الحسين عليه السلام في سفر الأسر أهل الدعوة إلى هذه المتانة وهذا العفاف برغم كلّ اعتداءات جيش الكوفة على حريمهنَّ المقدّس حيث سلبوهنّ وسائل حجابهنّ، لكن لأنّهنّ حرائر بيت النبوّة والرسالة فقد كُنَّ المعترضات بصرامة وشدّة على هتك حرمتهنّ، وهذا دليل آخر على أهميّة وقداسة حفظ الحجاب والعفاف حتّى في أسوأ الظروف الاجتماعيّة والتضييقات القهريّة المفروضة على المرأة المؤمنة الملتزمة، ولنعرض هنا بعض الأمثلة:

"أمّ كلثوم" ابنة أمير المؤمنين عليه السلام التي كانت امرأة على مستوىً رفيع من الفصاحة والبلاغة والقدرة على الخطابة، وما فتأت طيلة مدّة الأسر تفضح ظلم الحكّام الأمويّين وطغيانهم وجرائمهم بخُطبها، لمّا أدخلوا ركب الأُسارى إلى الكوفة واجتمع النّاس للتفرّج عليهم، خطبت عليها السلام في جموع الحاضرين من أهل الكوفة، ووبّختهم على ضعفهم وتقاعسهم عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وتقصيرهم في ذلك، وفي بدء دخولهم الكوفة لمّا رأت عليها السلام الجموع الغفيرة قد احتشدت للنظر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
334

305

بلاغ إلى المرأة

 إلى السبايا صرخت في وجوههم قائلة: "يا أهل الكوفة! أما تستحيون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبيّ؟!"1.

 
"ولمّا وضح لابن زياد ولولة النّاس ولغط أهل المجلس خصوصاً لمّا تكلّمت معه زينب العقيلة عليها السلام خاف هياج النّاس فأمر الشرطة بحبس الأسارى في دار إلى جنب المسجد الأعظم، قال حاجب ابن زياد: كنت معهم حين أمر بهم إلى السجن، فرأيت الرجال والنساء مجتمعين يبكون ويلطمون وجوههم. فصاحت زينب عليها السلام بالنّاس: "لا تدخل علينا إلّا مملوكة أو أمّ ولد، فإنّهنّ سُبين كما سُبينا"، ذلك لأنّ المسبيّة تعرف مضض عناء الذلّ فلا يصدر منها غير المحمود من شماتة وغيرها، وكان ذلك أيضاً لرعاية حريم حرائر بيت العصمة، وإبعاد أعين النّاس عن ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبنات الحسين عليه السلام وبقيّة نساء الركب الحسينيّ، وكان ذلك أيضاً لجلب عواطف الذين يعرفون أكثر من غيرهم معاناة الأسارى فيتصرّفون مع عوائل الشهداء تصرّفاً حسناً ويعاملونهم معاملة حسنة2.
 
من المحاور الرئيسة في خُطب زينب وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين (عليهنّ السلام) محور التشنيع بجناية الأعداء في هتكهم لحرمة أهل البيت عليهم السلام، والاعتراض على أسلوب معاملة الوالي الظالم ومأموريه مع حرم وحريم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ولمّا ورد ركب أُسارى أهل البيت عليهم السلام إلى الشام أيضاً، وقربوا من دمشق، "أرسلت أمّ كلثوم إلى الشمر تسأله أن يُدخلهم في درب قليل النظّار، ويخرجوا الرؤوس من بين المحامل لكي يشتغل النّاس بالنظر إلى الرؤوس. فسلك بهم على حالة تقشعّر من ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كلّ إنسان، وأمر أن يُسلك بهم بين النّظار وأن يجعلوا الرؤوس وسط المحامل"3.
 
وقد نُقل هذا الطلب أيضاً عن لسان سكينة بنت الحسين عليهما السلام. يُنقل عن سهل بن سعد وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خرجت إلى بيت المقدس حتّى
 
 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص400.
2- نفس المصدر، ص424.
3- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص324 و348، دار الكتاب الإسلاميّ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
335

306

بلاغ إلى المرأة

 توسّطتُ الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت الحجب والديباج، والنّاس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه! فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيدٌ لا نعرفه؟!

 
فقالوا: نراك يا شيخُ غريباً! 
 
فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فقالوا: يا سهل! ما أعجبك أنّ السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!
 
فقلت: وما ذاك؟!
 
قالوا: هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق!
 
فقلت: وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والنّاس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟
وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رأس ريحانته الحسين، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء، وبادر سهل إلى إحدى النسوة فسألها: من أنتِ؟
 
فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.
 
فقال: ألك حاجة؟ فأنا سهلٌ صاحب جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فقالت: قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنظر إليه ولا ينظرون إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم، فباعد الرأس عن النساء"1.
 
والمثال الأوضح والأبرز للاعتراض على هذا الهتك للحرمة، وللدفاع عن الحجاب، قد تجسّد في خطبة زينب الكبرى عليها السلام، تلك الخطبة المثيرة التي ألقتها هذه الصدّيقة الصغرى عليها السلام أمام يزيد في قصره بالشام، حيث كان ممّا خاطبته به قولها: "... أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء،
 
 
 

1- راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ، ج3، ص370 و371.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
336

307

بلاغ إلى المرأة

 فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك على الله كرامة؟!... أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا، قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد..."1.

 
إنّ هذه الاحتجاجات والاعتراضات على انتهاك وهتك حكومة يزيد لحرمة العفاف والحجاب، هي دفاع عن القيم الدينيّة وعن المقدّسات وعن حريم الحرمات الإلهيّة، كان يُسمع على لسان أسارى أهل البيت عليهم السلام.
 
 
 

1- نفس المصدر، ج3، ص378.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
337

308

بلاغ إلى المرأة

 تربية الشهيد


من نوع النماذج النسائيّة العالية التي مرّت بنا كأمّ وهب، وأمّ عمرو بن جنادة الأنصاريّ، وأمّ خلف، وغيرهنّ، يتجلّى لنا أنّ المرأة المسلمة النموذجيّة ليست لا تكتئب ولا تتضايق ولا تحزن لاستشهاد ابنها في سبيل العقيدة ودين الله فحسب، بل هي تحرّض وتحثّ وتشوّق ابنها لأجل مثل هذه المجاهدات والتضحيات، وترغّبه في القتال والاستشهاد في سبيل الإمام الحقّ.

إنّ تربية جيل يعشق الشهادة ويطلبها، جيل فداء وتضحية، بلاغ من بلاغات عاشوراء إلى جميع الأمّهات، ففي زينب الكبرى عليها السلام التي قدّمت ابنيها محمّداً وعوناً في كربلاء شهيدين بين يدي الإمام عليه السلام نرى تجلّياً آخر للأمّهات الملتزمات المربّيات للشهداء في حجورهنّ الطاهرة، كانت زينب عليها السلام ابنة شهيد، وأخت شهيد، وأمَّ شهيد، وعمّة شهيد أيضاً، وإنّ صبرها ومقاومتها في مواجهة فقد هذه القرابين الإلهيّة هما اللذان صنعا منها "بطلة الصبر".

يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه) في صدد نساء إيران الإسلاميّة الرشيدات الشجاعات:

"لقد أثبتت النساء في عصرنا أنّهنّ في الجهاد جنباً إلى جنب مع الرجال، بل هنَّ مُقدّمات عليهم".

"أنتنّ أيّتها الأخوات العزيزات الشجاعات أَمَّنتُنَّ النصر للإسلام جنباً إلى جنب مع الرجال".

"نساؤنا العزيزات صرن السبب في أن يجد الرجال أيضاً الجرأة والشجاعة".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
338

309

بلاغ إلى المرأة

 "كُلّما رأيت النساء المحترمات، المستعدّات بعزم وإرادة قاطعة لكلّ أنواع المعاناة والزحمات، بل للشهادة أيضاً في سبيل الهدف، يغمرني الاطمئنان بأنّ هذا الطريق خاتمته النصر"1.

 
إنّ مروراً عابراً بأقوال وتصريحات أمّهات الشهداء في صدد القرابين الإلهيّة الذين كنّ ولم يزلنَ يقدِّمنهم أضاحي على عتبة الإسلام في الثورة الإسلاميّة يكشف لنا بوضوح عن عمق تأثّرهنّ بالسلوك والموقف (الأسوة) للنساء المؤمنات المجاهدات الّلاتي حضرن واقعة عاشوراء.

حفظ المرأة ميراث الشهداء، وحراستها لخطّ ودم الشهداء مع التزامها بعفافها وحجابها، وتبيين أهداف وغايات الشهداء، والصبر على الشهادة والبلاء في سبيل الله، جميع هذه الدروس وغيرها ممّا تعلّمته نساؤنا من كربلاء.
 
بلاغ عاشوراء إلى النساء، دعوتهنّ إلى معرفة رسالتهنّ السياسيّة والقيام بها، وإسنادهنّ لكفاح الشهداء، وقيامهنّ بالفعّاليات الاجتماعيّة مقترنة بالتزامهنّ بالعفاف والنزاهة وصيانة الطهر والشرف، وتربية جيل يطلب الشهادة ويتوق إليها، وتبيين أهداف وغايات الشهداء والتبليغ بها، والصبر على استشهاد الأعزّاء الأحبّاء.
 
وكما كانت هكذا إلى الآن، سوف تبقى هذه الدروس والبلاغات خالدة إلى الأبد.
 
 
 

1- العبارات أعلاه مأخوذة من كتاب "الكلمات القصار"، ص207 و208، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
339

310

الفهرس

 الفهرس

المقدمة

13

مفهوم البلاغ

15

البلاغ

15

البلاغات الاعتقاديّة

23

إيضاح

23

التوحيد في العقيدة والعمل

26

المبدأ والمعاد

31

نبّوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

37

الشفاعة

40

الإمامة

43

شرائط الإمام

44

أهليّته عليه السلام للإمامة ونفيه لأهليّة الآخرين

45

مواجهة البدعة

51

البلاغات الأخلاقيّة

55

إيضاح

55

التحرّر

57

الإيثار

61

تكريم الإنسان

67

التوكّل

70

جهاد النفس

74

 

 

 

 

 

 

 

 

341


311

الفهرس

 

الشجاعة

79

الصبر والثبات

83

العزّة

88

العفاف والحجاب

93

أداء التكليف

96

الغيرة

101

الفتوّة والمروءة

104

المواساة

109

الوفاء

119

بلاغات الحياة الحقيقية

127

إيضاح

127

مفهوم الحياة

129

العقيدة والحياة

131

الإختيار

133

الحياة ميدان الإختبار

139

الأمّة الحيّة والأمّة الميّتة

141

الإغاثة

143

النصر والهزيمة

146

حياة بلا موت

148

شرف الشهادة

150

طلب الشهادة

152

الدنيا منام والآخرة هي اليقظة

158

البلاغات العرفانيّة

163

إيضاح

163

حبّ الله تعالى

165

البلاء والابتلاء

167

ذكر الله تعالى

170

 

 

 

 

 

 

 

 

342


312

الفهرس

 

التضحية في سبيل الله

175

الرضا والتسليم

179

الإخلاص

185

القيام لله

189

البلاغات التأريخيّة

193

إيضاح

193

تاريخ الإسلام أم تاريخ المسلمين؟

195

إتمام الحجّة

198

فضح الباطل وتعريته

203

العبر التربوية

208

عزّة خصوم الباطل

219

ذلّة خصوم الحقّ

221

البلاغات السياسيّة

227

إيضاح

227

الولاية والقيادة

229

التولّي والتبرّي

232

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

236

الدعوة إلى العدالة

240

مقارعة الباطل

243

الجهاد

246

الإختبار

250

الإصلاح

253

 

 

 

 

 

 

 

 

 

343


313

الفهرس

 

انتصار الدم على السيف

256

التأسّي والإقتداء

259

التدبير والتخطيط

264

الأصول الإنسانيّة

268

البصيرة

271

كلّ يوم عاشوراء

275

التبليغ

278

إحياء الذكرى وتقديسها

282

بلاغات الإحياء

293

إيضاح

293

الإحياء

295

إحياء الكتاب والسُنّة

297

الدفاع عن الدّين

299

الدفاع عن الحقّ

301

إحياء شعائر الدّين

303

الصلاة

305

الهجرة

308

إحياء عاشوراء

312

زيارة كربلاء

316

بلاغ المرأة

325

إيضاح

325

حضور المرأة السياسي في المجتمع

328

مشاركة المرأة في الجهاد

330

التزام المرأة بالحجاب والعفاف

334

تربية الشهيد

338

 

 

 

 

 

 

 

344


314
بلاغ عاشوراء