(2) نهضة عاشوراء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-03

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 المقدمة
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
إذا كان "ما جرى في عاشوراء فريداً في تاريخ الإنسانيّة, ولم تشهد الإنسانيّة واقعة مثلها على مدى حياتها"1, كما يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله, الذي استقى كلامه من معدن الرسالة وأهل بيت النبوّة عليهم السلام, الذين قالوا: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله", كما عن إمامنا الحسن عليه السلام2, و"لا يوم كيوم الحسين", كما عن إمامنا زين العابدين عليه السلام3, فإنّ هذا الأمر يُلقي على عاتقنا مسؤوليّة خاصّة في كيفيّة التعاطي مع هذه الحادثة الاستثنائيّة, إن من حيث المضمون, أو المنهج, أو التحليل والدراسة, أو الاستفادة على صعيد الدروس والعبر..أو غيرها من الجوانب.. ولا ينبغي الاكتفاء بعرض الحادثة كما ذكرها المؤرّخون والرواة, فإنّها- وعلى ما في هذا العرض من غثٍّ وسمين لدى بعضهم أحيانا ً- ستتحوّل حينئذٍ إلى مجرّد حدث تاريخيّ لا يربط الماضي بالحاضر, ولا يستشرف المستقبل, وهو ما يتنافى مع عاشوراء التي يُنْظَرُ إليها كنهج وإلى كربلاء التي يُرتبط فيها كقضيّة.
 
وقد قام العديد من العلماء والمحقّقين والباحثين, وعلى طول التاريخ, بتقديم الشيء الكثير على صعيد البحث والتحقيق والدراسة, غير أنّ أهميّة هذه الواقعة, وعمق أبعادها وتجذّرها في الوجدان وعظيم ما تحمله من دلالات, جعلت منها معيناً لا ينضب ماؤه ولا يرتوي ورّاده, فبالرغم من جميع ما قدّم إلى الآن, تبقى الكثير
 
 
 
 

1- الكلمات القصار لآية الله العظمى السيّد عليّ الحسينيّ الخامنائيّ دام ظلّه، ص75. 
2-الصدوق، الأمالي ص 177.
3-المصدر السابق، ص547.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

1

المقدمة

 من الجوانب التي يجد القارئ، أو الباحث، أو المحقّق أنّها لا زالت بحاجة إلى بحث وتمحيص، وتحليل وتعميق..


ومن هنا جاء اهتمامنا، في معهد سيّد الشهداء، عليه السلام للمنبر الحسينيّ، بالجانب البحثيّ والتحقيقيّ العاشورائيّ، والذي عزمنا على العمل عليه من خلال أمرين: الأوّل: الندوات واللقاءات، والثاني: الكتب والإصدارت.

ولهذا قمنا بإعداد هذا الكتاب الجديد تحت عنوان: "الكتاب العاشورائيّ بحوث ودراسات"، والذي نضع بين أَيْدي القرّاء والخطباء الجزء الثاني منه، على أمل أن يوفّقنا الله، سبحانه، لنتحفهم بأجزاء أخرى لاحقاً إن شاء الله تعالى.

عملنا في هذا الكتاب:
ونلفت نظر القارئ الكريم إلى الآتي:
1- إنّ هذا الكتاب يأتي كجزء من سلسلة لمجموعة من الدراسات والبحوث المتعلّقة بالشأن العاشورائيّ الحسينيّ ينوي المعهد إصدارها تباعاً، والذي يضمّ موضوعات مختلفة ومتنوّعة، وقد يحتوي على ملفّ أو أكثر، أو على موضوعات متفرّقة.

2- يتضمّن هذا الكتاب ستَّةً من البحوث والدراسات، أربعةٌ منها تمّ تعريبُها من اللغة الفارسيّة، واثنان منها كُتبا باللغة العربيّة.

3- لقد جاء النص المعرَّب مع شيء من التصرّف بالحذف والتبديل، أو التقديم والتأخير، أو التغيير في الأسلوب أو صياغة العبارة، حسبما اقتضته الضرورة، أو استدعته السياسات المعتمدة للنصّ في المعهد.

4- اخترنا بعض العناوين التي يكثر الحديث أو التساؤل حولها، ويستفيد من الإجابة عنها القارئ والباحث على حدٍّ سواء، مع إمكان أن يتمّ التعرّض للموضوع نفسه في بحث أو دراسة أخرى في إصدارات أخرى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

2

المقدمة

 5- آثرنا عدم التعليق أو النقد لما جاء في بعض هذه البحوث والدراسات، رغم مخالفتنا في الرأي له، وذلك إفساحاً منّا في المجال للأخذ والردّ العلميّ، الذي لا يصل إلى حدّ التشكيك والتضعيف.


6- إنّ هذه البحوث قد كتبها مجموعة من الباحثين والمحقّقين، كما أشرنا، ومن هنا فإنّها تعبرّ عن رأي أصحابها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المعهد.

وختاماً، فإنّنا نطلب من القرّاء والخطباء والباحثين الأعزّاء تزويدنا بملاحظاتهم وإرشاداتهم البنّاءة، سائلين المولى تعالى أن يتقبّل منّا هذا العمل القليل، ويثيبنا عليه الثواب الجزيل بمنّه وكرمه، ويجعله ذخراً لمن ساهم فيه في نشره وحشره، وأن يحظى بالقبول والرضا من ساحة مولانا ومرتجانا بقيّة الله في أرضه، عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

3

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر1



تمهيد:
تحاول هذه الدراسة، ضمن مقطعين زمانيّين عامّين، التعريف بالمقاتل والمصنّفات التي تحدّثت عن تاريخ عاشوراء، منذ بداية تأليفها إلى عصرنا الحاضر.. ويتضمّن المقطع الأوّل بحثين اثنين، الأوّل يحتوي على المقاتل كعناوين، منذ بداية ظهورها حتّى القرن السابع، وفي البحث الثاني يحاول بحث تلك الآثار والمصنّفات وتقييمها.
 
أمّا المقطع الثاني فيتضمّن أيضاً بحثين اثنين الأوّل منهما - وبعد بيان مقدّمة - يقوم بتعريف عدّة آثار مهمّة من القرن الثامن حتّى عصرنا المعاصر. وفي البحث الثاني يستعرض أهمّ مصنّفات القرون المتأخّرة، التي كان لها الدور الأساس في تحريف ونشر الروايات الضعيفة وغير الصحيحة، بل الأسطوريّة، حول النهضة العاشورائيّة.
  
 

1- محسن رنجبر، أستاذ مساعد في مؤسّسة الإمام الخمينيّ قدس سره للتعليم والبحوث- قمّ المقدّسة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

4

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 المقدّمة:

لا شكّ أنّ واقعة عاشوراء تُعتبر الأهمّ من بين الأحداث التي حصلت في القرون الأولى بعد ظهور الإسلام، وقد امتازت من غيرها من الحوادث التاريخيّة، في جهات متعدّدة؛ إنّ عظمة هذه الواقعة وأهمّيّتها دفعت الكثير من الأشخاص منذ الأيّام الأولى، بعد تلك الحادثة، إلى أن يُؤدُّوا دورهم كرواة على أتمّ وجه، وينقلوا الوقائع بشكل مفصّل. إنّ هؤلاء هم الذين شاهدوا الواقعة عياناً؛ لأنّهم كانوا حاضرين في كربلاء وتابعوا الأحداث عن قرب.

وقد كان من بينهم الأفراد الذين بقوا أحياءً من القافلة الحسينيّة، وهؤلاء يمكن اعتبارهم أوثق رواة هذه الحادثة، وعلى رأسهم الإمام السجّاد عليه السلام، ومن جهة أخرى هناك بعض الرواة من الأعداء. بالإضافة إلى ذلك، هناك الروايات الواردة عن أئمّة الشيعة المعصومين عليهم السلام الذين كانوا باستمرار- ومهما بَعُدَ الزمن عن تلك الواقعة - يقومون بدورهم في إحياء تلك الحادثة، ويتكلّمون عن جزئيّاتها وتفاصيلها. وقد انتقلت هذه الطائفة من الروايات والأخبار بالتدريج من المشافهة إلى الكتابة والتصنيف.

في تلك الفترة التي لم تتميّز فيها العلوم الإسلاميّة، ومنها علم التاريخ، عن علم الحديث والمصادر الروائيّة، بل كانت المصنّفات الروائيّة مجموعة من الأحاديث التي تشمل مختلف الفروع والعلوم، حينها كان يمكن أيضاً مع المراجعة والبحث أن نصادف روايات وأحاديث مرتبطة بوقائع عاشوراء، في تلك المجامع الروائيّة.

ولكن بالتدريج، مع التصنيف الموضوعيّ للأخبار والروايات، برزت في الميدان مؤلّفات بعنوان (مقتل الحسين عليه السلام) أو ما شابهه من العناوين، تحتوي على روايات تتحدّث عن مقدّمات تلك الواقعة، وما جرى فيها وما نتج منها من الأحداث والوقائع. منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، كان أصحاب المقاتل يتناولون جزءاً كبيراً من التاريخ الإسلاميّ في مصنّفاتهم، وكان لهم سرد تاريخيّ خاصّ، تارة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

5

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 يذهب صعوداً وأخرى نزولاً، مع تغيّرات وتبدّلات وتحوّلات مختلفة.
إنّ هذه المقالة تتحدّث عن المقاتل والآثار المكتوبة المختصّة بتاريخ عاشوراء، وذلك في ضمن بحثين كليّين؛ في البحث الأوّل: نبدأ بعرض الآثار المذكورة من تصنيفاتها الأولى حتّى القرن السابع على شكل عناوين وأسماء، ومن ثمّ نأخذ بالبحث والنقد والتقييم لتلك المقاتل والآثار الأخرى التي تتحدّث عن تاريخ عاشوراء. وأمّا في البحث الثاني: الذي يتناول بالبحث مصنّفات تاريخ عاشوراء من القرن الثامن حتّى القرن الرابع عشر، فيشرع بالتحقيق والنقد حول بعض الآثار المهمّة، في تلك المرحلة الزمنيّة، ثمّ يختم بالحديث عن بعض المؤلّفات المهمّة التي ظهرت في القرون المتأخّرة، وكان لها أكبر الأثر فيما يقال إنّه تحريف لواقعة كربلاء، والتي يحلو لبعضهم تسميتها: بالمصادر المؤسّسة للتحريف.

ويلزم هنا، ذكر أمرين قبل الشروع بالبحث، 
الأوّل منهما: أنّ دائرة البحث في هذه المقالة يشمل كلّ الآثار والمصادر التي تتحدّث عن شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وعن تاريخ عاشوراء، سواءً كانت بعنوان (المقتل) أو أيّ عنوان آخر.

وأيضاً فإنّ محور موضوعنا يتضمّن المصادر المهمّة والمعتدّ بها، التي تتحدّث عن وقائع عاشوراء، وتمتاز بالقدم الزمانيّ سواءً كانت تصنيفات في تاريخ الأئمّة، أو التواريخ العامّة، أو المصادر التي تبحث في حال التراجم وأصحاب السير.

الأمر الثاني: إنّ كلّ ما تناوله هذا البحث حول الآثار التي تتحدّث عن واقعة عاشوراء والتي تتمتّع بالخصائص المذكورة، إنّما هو ما كان مصنّفاً إلى القرن السابع فقط، لأنّ البعض من روايات ومنقولات هذه الكتب قد نُقلت من مصادر تاريخيّة قديمة لم يبق منها أيّ أثر، وأمّا مصنّفات القرن الثامن وما بعده فقد سلمت من ذلك الواقع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وبعبارة أخرى فإنّ بعض المقاتل والمصادر القديمة مثل مقتل: هشام الكلبيّ، وابن أبي الدنيا، وأبي عبيد القاسم بن سلام الهرويّ، وأبي عبيدة معمّر بن المثنّى و... فقد كانت كلّها متوفّرة لدى مصنّفي المقاتل، وكتّاب السيرة الكربلائيّة، حيث استفادوا من تلك المقاتل في كتبهم بحيث إنّه لو غضضنا النظر عن هذه الكتب فإنّنا، في الواقع، سنفقد قسماً من روايات ومنقولات تلك المصادر القديمة التي لم يبق منها إلّا اسمها.

 
وأمّا الأخبار الواردة في مصنّفات القرن الثامن وما بعده، أو تلك الروايات المنقولة عن المصادر القديمة المتوفّرة، أو المصادر المتأخّرة، فإمّا أنّ اعتبارها يعتمد على اعتبار مصادرها وإمّا أنّها غير مسندة فلا اعتبار لها ولا يمكن الإستشهاد بها.
 
قبل الشروع بهذه المرحلة نبيّن المعنى اللغويّ والاصطلاحيّ لعبارة (المقتل).
 
المقتل في اللغة والاصطلاح
- (مقتل) على وزن مَفعل، إسم مكان من مادّة (قتل) بمعنى مكان القتل1.
- وأمّا في اصطلاح علم التاريخ، فالمراد من (مقتل الحسين عليه السلام ) نوع من السرد التاريخيّ الذي يشرح حال شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، وبكلمة واحدة هو دراسة واقعة كربلاء من أوّلها إلى آخرها.
 
وواضح أنّ إطلاق عنوان (المقتل) على الكثير من الآثار المذكورة هو باعتبار أنّ مصنّفي المقاتل ومؤرّخي واقعة عاشوراء، قد جمعوا كلّ الأخبار والروايات التي تتحدّث عن واقعة عاشوراء، وكيفيّة القتال فيها، واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام مع أنصاره، في مكان واحد وكتاب واحد. ولذلك فإنّ التعبير (مقتل الحسين عليه السلام) بمعنى المكان الذي جُمعت فيه الأخبار الواردة حول واقعة عاشوراء، ولا سيّما شهادة الإمام الحسين عليه السلام .
  
 
 

1- عليّ أكبر دهخدا - كتاب اللغة (لغت نامه) كلمة (مقتل).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

7

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 السير التاريخيّ في تصنيف المقاتل وحادثة عاشوراء في العالم الإسلاميّ:

كما سبق ذكره، يمكن تقسيم البحث العامّ، حول تاريخ كتابة المقاتل وسرد واقعة عاشوراء، إلى مرحلتين ومقطعين زمانيّين اثنين:


المقطع الأوّل: (من القرن الثاني إلى القرن السابع):
القسم الأوّل: التعريف الإجماليّ بالمقاتل والمصنّفات العاشورائيّة: في هذه المرحلة الزمانيّة بدأت المؤلّفات الكربلائيّة صعوداً من الناحية الكمّيّة ثمّ ذهبت نزولاً. كانت أعلى نسبة من التصنيف في هذا المقطع الزمنيّ خلال القرن الثالث والرابع، ثمّ بدأت بعد القرن الرابع بالاضمحلال. 
 
نحن هنا، سنشرع بذكر الآثار التي صنّفها مؤلّفو المقاتل ومؤرّخو السيرة العاشورائيّة حسب الترتيب الزمنيّ، سواءً ما طبع منها أو ما هو موجود من نسخها المخطوطة في المكتبات العالميّة، أو التي لم يبق منها إلّا اسمها، أو بقي منها روايات منقولة في بعض المقاتل المتأخّرة. ونبدأ على النحو الآتي:
 
1- آثار القرن الثاني:
1- (مقتل الحسين عليه السلام) جابر بن يزيد الجعفيّ. كان من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام وتوفّي في العام 1128.
2- (تسمية من قُتل مع الحسين عليه السلام من ولده وإخوته وأهل بيته وشيعته) الفضيل بن الزبير الرسان الكوفيّ (من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام).
3- (مقتل الحسين عليه السلام) القاسم بن الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ.
 
 

1- رجال النجاشيّ - ص 128- 129 الرقم: 332.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

8

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 من المشهور أنّ أقدم المقاتل هو ما كتبه الأصبغ بن نباتة، وقد اعتبر الشيخ الطوسيّ أيضاً بأنّ كتاب مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام هو من مصنّفات الأصبغ بن نباتة1. ولكن بالرغم ممّا نقله الشيخ الصدوق بأنّ الأصبغ بن نباتة قد أدرك شهادة الإمام الحسين عليه السلام 2 إلّا أنّ الأخبار والنصوص التاريخيّة لم تنقل عنه أيّة رواية حول واقعة عاشوراء، بل الذي نقل في بعض الأخبار حول هذا الأمر هو عن ابنه القاسم، وعليه فالظاهر أنّ الأثر المسمّى بالمقتل هو للقاسم بن الأصبغ الذي يروي بعض الأخبار حول حادثة كربلاء. وهذا ما نجده أيضاً عند الطبريّ3، وأبي الفرج الأصفهانيّ4، والشيخ الصدوق5، وسبط بن الجوزيّ6 حيث ينقلون عنه أخباراً بوساطة واحدة أو عدّة وسائط.

 
4- ما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام:
إنّنا لو غضضنا الطرف عن الروايات القصيرة الواردة عن الأئمّة عليهم السلام حول حادثة كربلاء، في الجوامع الروائيّة، فإنّنا نجد أحياناً بعض الروايات المطوّلة التي تعتبر بحدّ ذاتها في عداد المقاتل. ومن جملة ذلك الحديثُ المفصّل الذي نقله الشيخ الصدوق في أماليه مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام . إنّ هذا الحديث يتضمّن مراحل مختلفة من واقعة كربلاء منذ انطلاقتها في المدينة المنوّرة، بعد هلاك 
  
 



1- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 85- 86 الرقم: 119.
2- ينقل الشيخ الصدوق عن حادثة تعليق أحد جنود عمر بن سعد رأس أحد الشهداء رواية عن القاسم بن الأصبغ أنّه قال: (قلت لأبي: لو أنّ حامل هذا الرأس يرفعه قليلاً، أما يرى ما تفعله قوائم الجواد به؟!). قال الصدوق: إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الأصبغ كان لا يزال على قيد الحياة عند وقوع حادثة كربلاء. (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال- ص 219).
3- الطبريّ - تاريخ الأمم والملوك - ج 4- ص 343 (قال هشام عن أبيه محمّد بن السائب عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال:...) نقل ابن حمزة الطوسيّ أيضاً هذا الخبر مباشرة عن القاسم بن الأصبغ مع حذف الاسناد. 7- أبو الفرج الأصفهانيّ- مقاتل الطالبيّين- 78 (قال المدائنيّ أبو غسّان عن هارون بن سعد عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال:...).
4- الشيخ الصدوق- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال- ص 218- 219.
5- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة- ج 2- ص 252- 253 (حكى هشام بن محمّد عن القاسم ابن الأصبغ المجاشعيّ، قال:...)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

9

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 معاوية ومحاولة والي المدينة أخذ البيعة ليزيد، إلى حين شهادة الإمام عليه السلام، ثمّ يتناول جزءاً من وقائع أسر أهل البيت عليهم السلام ومجلس ابن زياد1.

 
وكذلك رواية عمّار الدهنيّ عن الإمام الباقر عليه السلام حول نهضة الإمام الحسين عليه السلام من أوّلها إلى آخرها مع حادثة أسر أهل البيت عليهم السلام في الشام ورجوعهم إلى المدينة المنوّرة، وحادثة خروج مسلم بن عقيل أيضاً، فإنّ هذا الخبر يعدّ من هذا القسم من الروايات2.
 
5- مقتل الحسين عليه السلام: عمّار بن أبي معاوية البجليّ الدهنيّ المعروف باسم عمّار الدهنيّ (م 1333 هـ).
لم يذكر أحدٌ من المؤرّخين وعلماء الرجال المتقدّمين مصنّفاً أو رسالة حول واقعة عاشوراء لعمّار الدهنيّ باسم (مقتل الحسين عليه السلام) إلّا أنّه - وكما أُشير سابقاً - فإنّ الطبريّ قد نقل في تاريخه، ضمن عدّة صفحات، خبراً مطوّلاً نسبيّاً، عن عمّار الدهنيّ، حول واقعة عاشوراء من بدايتها إلى نهايتها. 
 
وكذلك ما رُوي عنه من أخبار، في مصادر أخرى، حول هذه الواقعة3، وهذا ممّا يدلّ على أنّ للدهنيّ كتاباً مستقلّاً باسم المقتل- ولو مختصراً- كما هو ثابت عند كثيرٍ من المصنّفين المتقدّمين، وقد نصّ على ذلك أيضاً بعض المحقّقين المعاصرين ونسب للدهنيّ مقتلاً4.
 
6- مقتل الحسين: أبو مخنف لوط بن يحيى الأزديّ5(م 157 هـ).
  
 
 
 

1- راجع: الشيخ الصدوق- الأمالي- المجلس: 30- 31 و215- 232- من الواضح أنّه لا يمكن الاعتماد كثيراً على هذا الخبر باعتبار أنّ بعض مطالبه غير متوافقة مع الروايات التاريخيّة القديمة والمعتبرة.
2- الطبريّ - مصدر سابق - ج 4- ص 257- 260 و292- 294- جمال الدّين يوسف المزّي- تهذيب الكمال في أسماء الرجال- ج 6- ص 442- 430- الذهبيّ- سير أعلام النبلاء- ج 3- ص 306- 310 وابن حجر العسقلانيّ- الإصابة في تمييز الصحابة- ج 2- ص 69- 71.
3- محمّد بن سعد- ترجمة الحسين ومقتله- ص 38 و49- وابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق- ج 14- ص 199- 200.
4- محمّد باقر المحموديّ- عبرات المصطفين- ج 1- ص 6.
5- ابن النديم- كتاب الفهرست- ص 105- والشيخ الطوسيّ الفهرست- ص 204- رقم 204.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

 


10

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 2- آثار القرن الثالث:

يُعتبر القرن الثالث المرحلة الأقوى في كتابة المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة، من جهة الكمّ والعدد. ومن الواضح أنّ كتابة المقتل تقع أيضاً- مثل بقيّة الفروع العلميّة- تحت تأثير الظروف العامّة، ففي هذا القرن ظهرت المصنّفات بأنواعها المختلفة، ومنها الجوامع الروائيّة. وقد بُذلت الجهود الكبيرة في هذا القرن لتأليف المقاتل سواءً على يد الشيعة أو السنّة، وكان بعضها مصدراً لكثير من المؤلّفات التي ظهرت فيما بعد، وإن كان ما وصل إلينا هو النزر اليسير منها إذ إنّ أغلبها قد فُقد.
 
إنّ من بين المحدّثين والمؤرّخين الشيعة والسنّة الذين نُسب إليهم- كما ورد في المصادر الرجاليّة المتقدّمة- كتبٌ تحت عنوان (مقتل الحسين عليه السلام) أو ما هو قريب منه في ذلك القرن، يمكن ذكر ما يلي:
1- مقتل الحسين عليه السلام - هشام بن محمّد الكلبيّ1 (م 204 أو 206 هـ).
2- مقتل الحسين عليه السلام - محمّد بن عمر الواقديّ2 (م 207 هـ).
3- مقتل الحسين عليه السلام - أبو عبيدة معمّر بن المثنّى3 (م 209 هـ).
 
وقد نقل السيّد ابن طاووس خبراً عن هذا المقتل في كتابه الملهوف، حسب ما ورد في إحدى نسخه4.
  
 
 

1- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 434- 435- الرقم 1166.
2- ابن النديم- مصدر سابق- ص 111.
3- الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ- الذريعة إلى تصانيف الشيعة- ج 22- ص 28- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- أهل البيت في المكتبة العربيّة ص 533- وقد اختلفوا في سنة وفاته ما بين الأعوام: 210- 211- 213 ق. وغيرها أيضاً. (ابن النديم- مصدر سابق- ص 59 والخطيب البغداديّ- تاريخ بغداد- ج 13- ص 257.
4- السيّد ابن طاووس- الملهوف على قتلى الطفوف- ص 127 هذا الخبر يتحدّث عن دخول عمر بن سعد إلى مكّة في يوم التروية لقتل الحسين عليه السلام أو القتال معه بطلب من يزيد، ولكن الظاهر أنّ الذي دخل إلى مكّة هو عمرو بن سعيد الأشدق حاكم مكّة والمدينة (وليس عمر بن سعد) لأنّ يزيد وطبقاً لما رواه الطبريّ قد ألحق في سنة (60 ق) إمارة مكّة إلى عمرو بن سعيد إضافة إلى المدينة المنوّرة، (الطبريّ- مصدر سابق- ج 4- ص 301).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

11

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 4- مقتل الحسين عليه السلام - زحم بن مزاحم المنقريّ1 (م 212 هـ).

5- مقتل الحسين عليه السلام - أبو عبيدة قاسم بن سلام الهرويّ2 (م 223 أو 224 هـ). وسيأتي معنا أن ابن عبد ربّه3 قد روى هو ومحمّد بن أحمد بن تميم4 طائفة من أخبار هذا المقتل.
6- مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام 5 أو السيرة في مقتل الحسين عليه السلام 6 أبو الحسن عليّ بن محمّد المدائنيّ البغداديّ (م 224- أو 225 هـ).
وقد نقل عنه أبو الفرج الأصفهانيّ7- وسبط ابن الجوزيّ8 وجمال الدّين يوسف المزّيّ9.
7- ترجمة الحسين عليه السلام ومقتله من الطبقات الكبرى، محمّد بن سعد (م 230 هـ).
8- كتاب المقتل: أحمد بن حنبل (م 241 هـ).
وقد روى ابن شهرآشوب خبراً من هذا المقتل10.
9- مقتل الحسين عليه السلام - إبراهيم بن إسحاق النهاونديّ11 (م 269 هـ).
10- كتاب المقتل - عبد الله بن عمرو الورّاق (م 274 هـ)12. وقد أورد سبط ابن 
  
 
 
 

1- ابن النديم- مصدر سابق- ص 106 والشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 428- الرقم 1148.
2- الذهبيّ- سير أعلام النبلاء- ج 19- ص 306- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- مصدر سابق- ص 535- نقلاً عن السمعانيّ التحبير- ج 1- ص 185.
3- ابن عبد ربّه- العقد الفريد- ج 4- ص 352- 353 (عليّ بن عبد العزيز قال: قرأ عليّ أبو عبيد القاسم بن سلام وأنا أسمع...) راجع أيضاً- المصدر نفسه- ص 360.
4- محمّد بن أحمد التميميّ- كتاب المحن- ص 142- 147.
5- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 159- الرقم 405.
6- ابن شهرآشوب- معالم العلماء- ص 107- الرقم 486.
7- أبو الفرج الأصفهانيّ- مقاتل الطالبيّين- ص 51- 56- 57- 59- 61- 65- 72- 76- 78- 79.
8- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة عليهم السلام - ج 2- ص 179- 187- 225.
9- يوسف المزّي- تهذيب الكمال- ج 6- ص 407- 432.
10- ابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 155.
11- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 19- الرقم 21 والشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 39- الرقم 9- ابن شهرآشوب- معالم العلماء- ص 43- الرقم 27.
12- السمعانيّ- ذكره باسم أبي محمّد عبد الله بن أبي سعد، وقال: المقصود منه هو عبد الله بن عمرو عبد الرحمن بن بشر بن هلال الأنصاريّ الورّاق البلخيّ الإخباريّ، ولادته سنة: 197- ووفاته سنة: 274 هـ. (الأنساب- ج 1- ص 94- 95).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

12

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 الجوزيّ في بعض مصنّفاته خبراً عن هذا المقتل1.



11- مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام: ابن قتيبة الدّينوريّ2 (م 276 هـ). 
وذكر أيضاً في كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب إليه، أخباراً بما يقرب من ثماني صفحات حول نهضة الإمام الحسين عليه السلام تشبه كثيراً الأخبار التي نقلها حول ذلك ابن عبد ربّه في العقد الفريد3.
 
12- ترجمة ومقتل الإمام الحسين عليه السلام (المجلّد الثالث من مجموعة ثلاثة عشر مجلّداً باسم أنساب الأشراف). أحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ (م 279 هـ).


13- مقتل الحسين عليه السلام أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشيّ الأمويّ المعروف بابن أبي الدنيا4 (م 281 هـ).
 
استفاد عبد الرحمن بن الجوزيّ5 وابن عساكر6 من الأخبار الواردة في هذا المقتل- وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند سبط بن الجوزيّ (القرن السابع) الذي نقل عنه أخباراً في عدّة مواضع من كتابه7
 
14- رواية النهضة الكربلائيّة في الأخبار الطوال- أبو حنيفة الدّينوريّ (م 282 هـ).
15- مقتل الحسين عليه السلام - أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفيّ الكوفيّ صاحب كتاب الغارات8 (م 283 هـ).
  
 



1- السمعانيّ - المصدر السابق- ج 2- ص 191.
2- هذا الكتاب مأخوذ من كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة الموجود نسخة مخطوطة منه في الجامع الكبير في صنعاء، يحتوي على (92) من الصفحات تحت الرقم 2200- (عبد الجبّار الرفاعيّ- معجم ما كتب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام - ج 8- ص 72).
3- يقارن ما بين ما ذكر في السطر الثاني من الصفحة – 5 إلى 12 من كتاب الإمامة والسياسة مع العقد الفريد- ج 4- ص 352- 356.
4- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 170- الرقم 449- وابن شهرآشوب- معالم العلماء- ص 111- الرقم 506.
5- عبد الرحمن ين الجوزيّ- كتاب الردّ على المتعصّب العنيد- ص 35- 42- 44- 46- 47- 50- 51.
6- ابن عساكر- ترجمة ريحانة رسول الله الإمام الحسين عليه السلام (من تاريخ مدينة دمشق) ص 346- 375- 387- 399- 412- 436).
7- سبط ابن الجوزيّ- مصدر سابق- ج 2- ص 184- 188- 197- 199.
8- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 17- الرقم 19- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 37- الرقم 7- وابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ص 39.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

13

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 16- مقتل الحسين عليه السلام - حسن بن سهل المجوز البصريّ1 (م 290 هـ)2.

17- مقتل الحسين عليه السلام - أبو عبد الله محمّد بن زكريا الغلابيّ البصريّ البغداديّ3 (م 298 هـ).
روى ابن عساكر عنه خبراً حول قبر الإمام الحسين عليه السلام 4.
 
3- آثار القرن الرابع:
1- مقتل الحسين عليه السلام - محمّد بن سليمان الكوفيّ5 (كان على قيد الحياة إلى سنة 300 هـ). 
2- مقتل الحسين عليه السلام 6 أو مولد الحسين بن عليّ عليه السلام ومقتله7: أبو الفضل سلمة بن الخطّاب البراوستانيّ الأزدورقانيّ (م 301 هـ).
3- رواية النهضة العاشورائيّة في كتاب تاريخ الأمم والملوك: محمّد بن جرير الطبريّ (م 310 هـ).
4- مقتل الحسين عليه السلام - أبو القاسم في كتاب الفتوح- أحمد محمّد بن عليّ بن الأعثم الكوفيّ- م 314 هـ).
5- مقتل الحسين عليه السلام - أبو القاسم عبد الله بن محمّد البغويّ8 (م 317 هـ).
وقد نقل ابن عساكر9 عنه بعض الأخبار حول الإمام الحسين عليه السلام .
6- مقتل الحسين عليه السلام - أبو جعفر محمّد بن يحيى العطّار القمّي10 (م 328 هـ).
  
 
 

1- ابن ماكولا- الإكمال- ج 7- ص 216.
2- الذهبيّ- تذكرة الحفاظ- ج 2- ص 639- وله أيضاً- سير أعلام النبلاء- ج 13- ص 534.
3- ابن النديم- مصدر سابق- ص 121- والنجاشيّ- مصدر سابق- ص 346- 347- الرقم 936.
4- ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق- ج 14- ص 245.
5- ابن سليمان الكوفيّ- مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام - المقدّمة: ص 12.
6- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 140- الرقم 334- وابن شهرآشوب- معالم العلماء- ص 92- الرقم 378.
7- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 187- الرقم 498.
8- الحاج خليفة- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- ج 2- ص 1794.
9- ابن عساكر- تاريخ مدينة دمشق- ج 14- ص 115- 149- 171- 187- 199- 221- 228- 229.
10- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 353- الرقم 946.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

14

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 7- نهضة عاشوراء في كتاب العقد الفريد- أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسيّ (م 328 هـ).

8- مقتل الحسين عليه السلام وذكر الحسين عليه السلام - أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد عيسى الجلوديّ الأزديّ البصريّ1 (م 332 هـ).
 
9- نهضة عاشوراء في كتاب المحن- أبو العرب محمّد بن أحمد بن تميم التميميّ (م 333 هـ).
10- مقتل الحسين - أبو الحسين عمر بن الحسن الشيبانيّ القاضي المعروف بابن الأشنانيّ البغداديّ2 (م 339 هـ).
 
11- رواية النهضة الكربلائيّة في مروج الذهب ومعادن الجوهر- أبو الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ (م 346 هـ).


12- رواية واقعة كربلاء في كتاب البدء والتاريخ- مطهّر بن الطاهر المقدسيّ (المتوفّى بعد سنة 355 هـ).
 
13- رواية نهضة عاشوراء في مقاتل الطالبيّين- أبو الفرج الأصفهانيّ3 (م 356 هـ).
14- مقتل الحسين عليه السلام - سليمان بن أحمد حافظ الطبرانيّ (م 360 هـ).
 
يعدّ الطبرانيّ من محدّثي القرن الرابع الكبار، وله كتابان مهمّان في الحديث، أحدهما المعجم الكبير، والثاني المعجم الأوسط، وذكر ابن منده (م 475 هـ) للطبرانيّ عند ترجمته، كتاباً باسم (مقتل الحسين عليه السلام)4 وقد فُقد هذا الكتاب مع مرور الزمن، ولم يبق منه أيّ أثر، وأمّا الموجود بين أيدينا فهو جزء مستخرج
  
 
 

1- المصدر نفسه- ص 242- العدد 640- والعلّامة الحلّي- إيضاح الاشتباه- ص 245.
2- إسماعيل باشا البغداديّ- هديّة العارفين- ج 1- ص 780.
3- طبع من هذا الكتاب الجزء المتعلّق بشهادة الإمام الحسين عليه السلام وبني هاشم في كربلاء، بتحقيق السيّد مصطفى مرتضى القزوينيّ (عبد الجبّار الرفاعيّ- مصدر سابق- ج 8 ص 74).
4- أبو عبد الله بن منده الأصفهانيّ- ترجمة الطبرانيّ- ص 20- الرقم 39.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

15

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 من المجلّد الثالث لكتابه المعجم الكبير1 وقد طبع لأوّل مرّة ضمن كتاب بعنوان الحسين عليه السلام والسنّة، مع تحقيقات عليه للسيّد عبد العزيز الطباطبائيّ.

 
ورد في هذا الكتاب 148 رواية، تتضمّن كلّ واحدة منها شيئاً من حياة الإمام الحسين عليه السلام وفضائله، أو من واقعة كربلاء، أو الكرامات والمعجزات التي حصلت بعد شهادة الإمام عليه السلام .
 
وقد طبع هذا القسم أيضاً من المعجم بصورة مستقلّة تحت عنوان (مقتل الحسين بن عليّ ابن أبي طالب عليه السلام) مع تحقيقات لمحمّد شجاع ضيف الله، وقد امتاز تحقيقه من تحقيقات الطباطبائيّ بإضافة ثلاثين رواية تتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام .
 
من الواضح أنّ هذا القسم المستخرج من المعجم لا يعتبر مقتلاً بالمعنى المعروف والمصطلح، ولكن حيث إنّ هذه الروايات تتمتّع بميزة القدم الزمانيّ ونقلها الطبرانيّ أيضاً بشكل مسند، فإنّها تستحقّ الاهتمام والتوجّه والدراسة.
 
15- مقتل الحسين عليه السلام - الشيخ الصدوق2(م 381 هـ).
مع ملاحظة انتشار مذهب المحدّثين بين العلماء القميّين، فقد كان مقتل الشيخ الصدوق يعدّ كتاباً حديثيّاً مثل بقيّة كتبه الروائيّة، وقد نقل أغلب الروايات- إن لم نقل جميعها- مسندة إلى المعصومين عليهم السلام لا سيّما الإمام السجّاد عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام، ولو أخذنا بعين الاعتبار الاحتياط الذي كان موجوداً عند محدّثي حوزة قمّ في القرن الثالث والقرن الرابع- حيث كانوا يرفضون الأحاديث
  
 
 

1- من صفحة 94- 136- الرقم 2766- 2913.
2- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 237- ابن شهرآشوب- معالم العلماء- ص 147- الرقم 764- وقد عبّر الشيخ الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) ج 2- ص 598- عن هذا المقتل بهذه العبارة (وقد أخرجت في كتاب الزيارات وفي كتاب مقتل الحسين عليه السلام أنواعاً من الزيارات...) وقد ذكر هذا المقتل أيضاً في كتاب الخصال هامش الحديث رقم: 101).




 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

16

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 الضعيفة، بل وينتقدون المحدّثين الذين ينقلونها - فهذا يعني أنّ هذا المقتل، بالمقارنة مع المقاتل الأخرى، يحتوي على مقدار قليل من الأحاديث والروايات غير المعتبرة1 وقد بقي هذا المقتل متداولاً حتّى القرن السادس، ونقل عنه ابن شهرآشوب2

 
16- مقتل الحسين عليه السلام - محمّد بن عليّ بن فضل بن تمام بن شهريار الأصغر الملقّب بـ (سكين)3 (عاش في حدود 381 هـ).


17- مقتل الحسين عليه السلام - أبو جعفر محمّد بن أحمد يحيى الأشعريّ القمّي4 (القرن الرابع الهجري).
 
18- كتاب المقتل - محمّد بن إبراهيم بن يوسف الكاتب الشافعيّ (ولادته 281 ق. وفاته القرن الرابع)5.
19- نهضة سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليه السلام وانتقام المختار برواية الطبريّ وإعداد أبي عليّ محمّد بن محمّد البلعميّ (القرن الرابع الهجري)6.


20- مقتل الحسين عليه السلام - المصنّف مجهول7.


4- آثار القرن الخامس:
1- مقتل الحسين عليه السلام - أبو عبد الله الحاكم النيشابوريّ8 (م 405 هـ).
  
 
 

1- راجع مقتل الحسين عليه السلام - برواية الشيخ الصدوق (الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء على لسان المعصومين عليهم السلام )- تحقيق وترجمة محمّد صحّتي السردروديّ- ص 25- لقد قام المحقّق المذكور بجمع أكثر من مائتي حديث من روايات واقعة عاشوراء مستخرجاً إيّاها من المصنّفات الروائيّة المتبقيّة من مؤلّفات الشيخ الصدوق، وممّا نقله أيضاً البعض في كتبهم عن الصدوق ثمّ أخذ بتدوينها وتبويبها وترجمتها، وبذلك يكون قد جدّد هذا المقتل وأحياه من جديد.
2- ابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 64- 95.
3- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 385- الرقم 1046.
4- المصدر نفسه- ص 349- الرقم 939- وقد أثبت له ابن النديم كتاباً مستقلّاً بعنوان (ما نزل من القرآن في الحسين بن عليّ عليه السلام ) ويحتمل أن يكون كتاباً مغايراً لمقتل الحسين عليه السلام (مصدر سابق ص 277).
5- النجاشيّ- المصدر نفسه- ص 372- الرقم 1015- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 208- 209- الرقم 600- إنّ عنوان (المقتل) وإن كان اسماً عامّاً إلّا أنّه مع الالتفات إلى انصراف هذا العنوان للإنطباق على مقتل الإمام الحسين عليه السلام، فيكون المقصود منه بظنّ قويّ هو مقتل الإمام الحسين عليه السلام .
6- مأخوذ عن البلعميّ، الرسالة التاريخيّة للطبريّ.
7- توجد النسخة المخطوطة لهذا الكتاب في دار الكتب في القاهرة تحت الرقم 1245 (الطباطبائيّ- مصدر سابق- ص 548- الرقم 708).
8- الحاكم النيشابوريّ- المستدرك على الصحيحين- ج 3- ص 177.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

17

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 2- سيرة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته في كتاب الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - الشيخ المفيد (م 413 هـ).



3- فصل تاريخ عاشوراء من كتاب تجارب الأمم وتعاقب الهمم - أبو عليّ مسكويه الرازيّ (م 421 هـ).
 
4- مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام - أبو زيد عمارة بن زيد الخيوانيّ الهمدانيّ1 (المتوفّى قبل 450 هـ).
5- مقتل الحسين عليه السلام - الشيخ الطوسيّ2 (م 485 أو 460 هـ).
 
6- مقتل الحسين عليه السلام - أبو الحسن أحمد بن عبد الله البكريّ (القرن الخامس)3.


5- آثار القرن السادس:
1- مقتل الحسين عليه السلام - أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ (م 568 هـ).
2- مقتل الأئمّة عليهم السلام (فارسي) أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ- نقل كمال الدّين حسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ (م 910 هـ) في كتابه روضة الشهداء حول أحداث نهضة عاشوراء، مطالب متنوّعة في عدّة مواضع، عن كتاب تحت عنوان (نور الأئمّة) للخوارزميّ4. والسؤال الذي يُطرح هنا، هل إنّ الكتاب المذكور هو ترجمة مقتل الخوارزميّ، أم أنّ الخوارزميّ صنّف كتاباً آخر للناطقين باللغة الفارسيّة؟
 
إنّ الإجابة القطعيّة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون سهلة ودقيقة، من خلال
  
 
 

1- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 303- ص 827.
2- الشيخ الطوسيّ- الفهرست- ص 242- الرقم 714- معالم العلماء- ص 150- الرقم 766- وقد عبّر عن مقتل الحسين عليه السلام للشيخ الطوسيّ بعنوان (مختصر في مقتل الحسين عليه السلام ). 
3- الطباطبائيّ- أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة- ص 548- عبد الجبّار الرفاعيّ- معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام - ج 8- ص 74.
4- على سبيل المثال: الكاشفيّ- روضة الشهداء- ص 260- 315- 327- 338- 340- 360- 371- 420- 427- 440- 445- 473.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

18

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بحث سطحيّ ومقارنة إجماليّة سريعة، لأنّ بعض الأخبار التي نقلها الكاشفيّ عن الكتاب المذكور تشبه إلى حدّ كبير بعض المطالب الواردة في مقتله1، وفي المقابل هناك روايات أخرى منقولة إمّا أنّها غير موجودة أصلاً في مقتله2 وإمّا أنّها لا تشبه أبداً متن الأشعار العربيّة الواردة في المقتل، وذلك مثل الترجمة الفارسيّة للأشعار3.

 
3- مقتل الحسين عليه السلام - السيّد نجم الدّين محمّد بن أمير كا ابن أبي الفضل الجعفريّ القوسينيّ4 (المتوفّى قبل 585 هـ).


4- سيرة الإمام الحسين عليه السلام ومناقبه وفضائله ونهضة عاشوراء من كتاب: مناقب آل أبي طالب عليهم السلام - ابن شهرآشوب (م 588 هـ).


5- ترجمة ريحانة رسول الله الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق- أبو القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله المشهور بـ (ابن عساكر الدمشقيّ) (م 571 هـ).


6- مقتل الحسين عليه السلام - أبو القاسم مجير الدّين محمود بن مبارك بن عليّ بن مبارك الواسطيّ البغداديّ5 (م 592 هـ).


7- نهضة الإمام الحسين عليه السلام المأخوذ من كتاب الفتوح لابن الأعثم، ترجمة محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ6 (ترجم في عام 596 هـ).
  
 
 
 

1- على سبيل المثال تُقارَن هذه الصفحات: 205- 260- 269- 287- 289- 295- 364- 381 و391 من كتاب روضة الشهداء بالترتيب مع الصفحات- 283- 335- 350 (من المجلّد الأوّل لمقتل الخوارزميّ) و11 – 14- 17- 46- 47- 64- 65- 82- 83 (من المجلّد الثاني منه).
2- راجع الكاشفيّ- مصدر سابق- ج 1- ص 259- 271- 297- 353.
3- يقارن بين هذه الصفحات: 299- 315- 316- 337- 344- 346 من كتاب روضة الشهداء بالترتيب مع الصفحة 338 من المجلّد الأوّل لمقتل الخوارزميّ- والصفحات: 31- 35- 37- 38 من المجلّد الثاني منه.
4- منتجب الدّين عليّ بن بابويه الرازيّ- الفهرست- ص 119- رقم 457.
5- إسماعيل باشا البغداديّ- هديّة العارفين- ج 2- ص 404- وله إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- ج 2- ص 540- والسيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- مصدر سابق- ص 546- رقم 704- وقد ذكر الطباطبائيّ اسمه مجير الدّين، وأمّا إسماعيل باشا فأثبته هكذا: (محبر).
6- بتصحيح غلام رضا المجدّ الطباطبائيّ- طهران- مؤسّسة المنشورات العلميّة والثقافيّة- 1373 عدد الصفحات 109.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

19

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 8- مقتل الشهداء (فارسي) - أبو المفاخر الرازيّ1- كان الرازيّ من شعراء القرن السادس الناطقين باللغة الفارسيّة، ومقتله هذا يعتبر أهمّ أثر ومصنّف له، والظاهر أنّ المؤلّف قد أورد الكثير من أحداث واقعة كربلاء بقالب شعريّ.

 
وقد كان له سهم كبير في المقاتل الواردة باللغة الفارسيّة2، بسبب ترجمته للأرجوزات والأشعار التي أنشدها أصحاب الإمام الحسين عليه السلام. هذا المصنّف كان موجوداً لدى الكاشفيّ مؤلّف كتاب روضة الشهداء، حيث نقل عنه الكثير من الأشعار3 وأوردها في مواضع متعدّدة من كتاب الروضة4.


6- آثار القرن السابع:
1- رواية النهضة العاشورائيّة في الكامل في التاريخ- عزّ الدّين أبو الحسن عليّ بن أبي كرم المعروف بـ (ابن الأثير).
2- مثير الأحزان - نجم الدّين محمّد بن جعفر، المشهور بـ (ابن نما الحلّي) (م 45 هـ).
 
3- نهضة عاشوراء في كتاب الحدائق الورديّة في مناقب الأئمّة الزيديّة حميد ابن أحمد بن محمّد المحلّى (م 652 هـ).
4- درر السمط في خبر السبط - لكاتبه محمّد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعيّ، المعروف بـ (ابن أبار البلنسيّ) (م 658 هـ).
 
5- مقتل الحسين عليه السلام - عزّ الدّين أبو محمّد عبد الرزاق بن رزق الله ابن أبي بكر بن خلف الجزريّ- المشهور بـ (الرسعنيّ)5 (م 661 هـ).
  
 
 

1- الشيخ آغا بزرك - الذريعة- ج 22- ص 32.
2- رسول جعفريان- تاريخ التشيّع في إيران منذ نشوئه إلى دولة الصفويّين- ص 605- 381- 385- 392- 394- 395- 402- 411- 421 و 427.
3- الكاشفيّ- مصدر سابق- ص 261- 330- 349- 351- 360- 380- 381- 385- 392- 394- 395- 402- 411- 421 و427.
4- المصدر نفسه- ص 455- 474- 491.
5- شمس الدّين محمّد الذهبيّ- تذكرة الحفاظ- ج 4- ص 1452- ولكن حسب كلام الطباطبائيّ في كتابه (أهل البيت في المكتبة العربيّة- ص 548- الرقم 705) فإنّ ابن رجب الحنبليّ أثبت اسم الكتاب في هامش كتاب طبقات الحنابلة (ج 2- ص 275) بعنوان مصرع الحسين عليه السلام، وكذلك ما فعله عمر رضا الكحّالة في معجم المؤلّفين (ج 5- ص 218).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 6- الباب الخاصّ بالإمام الحسين عليه السلام من تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة - سبط بن الجوزيّ (م 654 هـ).



7- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب، أحمد ابن أبي جرادة الحلبيّ المشهور بـ (ابن العديم) (م 660 هـ).
 
8- الملهوف على قتلى الطفوف - السيّد رضيّ الدّين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (م 664 هـ).
9- رواية حادثة عاشوراء ومناقبها وأحداثها حسب ما ورد في كتاب كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام - عليّ بن عيسى الأربليّ (م 692 هـ).
 
10- ذكر واقعة عاشوراء بناءً على ما ورد في كتاب الكامل للبهائيّ في السقيفة- عماد الدّين الطبريّ (كان حيّاً إلى سنة 701 هـ).
 
كتب المراثي والعزاء:
مع مراجعة الآثار المصنّفة حول واقعة كربلاء في هذه المرحلة الزمنيّة، نصادف بعض الأحيان مؤلّفات لا تتحدّث عن تاريخ عاشوراء، ولكن باعتبار أنّها تتضمّن أشعاراً في رثاء وعزاء الإمام الحسين عليه السلام وتمتاز بالقدم الزمنيّ الخاصّ، بل إنّ أهل البيت عليهم السلام قد مدحوا بعض هؤلاء الشعراء، فقد أوردنا ذكرها هنا على النحو الآتي:
1- المراثي- أبو رميح عمير بن مالك الخزاعيّ (المتوفّى قريباً من سنة 100 هـ)1.
2- كتاب المراثي - جعفر بن عفّان الطائيّ (م 150 هـ) وهو من أعظم شعراء الشيعة في الرثاء على عهد الإمام الصادق عليه السلام وقد أثنى عليه الإمام عليه السلام بسبب الأشعار التي أنشدها في رثاء الإمام الحسين عليه السلام بين يدي الإمام 
  
 
 

1- جواد شبّر- أدب الطفّ أو شعراء الحسين عليه السلام - ج 1- ص 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

21

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 الصادق عليه السلام 1 - حسب رأي ابن النديم فإنّ كتاب الطائيّ في المراثي يصل إلى مائتين من الصفحات2.

 
3- مراثي الحسين عليه السلام - أبو عبد الله محمّد بن زياد الأعرابيّ (م 230 هـ). هذا الأثر حسب تصريح الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ، يوجد منه نسخة في المكتبة الخديويّة لدار الكتب المصريّة. وقد طبع مع مقدّمة وتعليقات عليه لأحد المحقّقين والباحثين الإنكليز3.
 
4- مراثي الحسين عليه السلام - إبن حمّاد بن عمر بن كليب مولى بني عامر بن صعصة الذي عاصر عهد بني أميّة وبني العبّاس معاً4.


5- كتاب المراثي - محمّد بن عمران المزربانيّ الخراسانيّ (م 384 هـ). يحتوي هذا الكتاب على ما يقرب من (500) صفحة5.


القسم الثاني: التعريف والتقييم للمقاتل والمصنّفات العاشورائيّة، من بداية القرن الثاني إلى القرن السابع.
كما سبق معنا في بداية هذه المقالة، فإنّ بعض الآثار المتضمّنة للتاريخ العاشورائيّ بقيت مَصونة من حوادث الزمان الغادرة، ونحن هنا نحاول ذكرها، والتعريف بها وبيان خصائصها، على الشكل الآتي:
1- تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام من ولده وإخوته وأهل بيته وشيعته، الفضيل ابن الزبير الأسديّ الرسّان الكوفيّ6.


أحصى الفضيل في هذا الكتاب أسماء الأشخاص الذين قتلوا مع الإمام عليه السلام
  
 
 

1- الشيخ الطوسيّ- اختيار معرفة الرجال- ج 2- ص 574- ح 508.
2- ابن النديم- الفهرست- ص 275.
3- آغا بزرك الطهرانيّ- مصدر سابق- ج 20- ص 293- والطباطبائيّ- مصدر سابق- ص 463.
4- آغا بزرك الطهرانيّ- مصدر سابق- ج 20- ص 293.
5- ابن النديم- مصدر سابق- ص 146- 148 ومحمّد بن عمران المزربانيّ الخراسانيّ- الموشّح- ص 5.
6- طبع هذا الأثر في مجلّة تراثنا الفصليّة العدد الثاني من سنة (1406 هـ) على يد المحقّق العزيز السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وفي بعض الأحيان كان يذكر أيضاً أسماء القتلة. في البداية ذكر أسماء عشرين من شهداء أهل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ثمّ أورد أسماء (86) من الأصحاب ليصبح المجموع (106) من الشهداء1، وقد أشار في الختام إلى حال الأسر الذي حصل لأهل البيت عليهم السلام وبعض الخطابات التي وردت عنهم عليهم السلام .

 
والملاحظ في روايات الفضيل بن الزبير وجود أخبار نادرة وغريبة، على سبيل المثال نجده مع اعترافه بمرض الإمام السجّاد عليه السلام إلّا أنّه ينقل مشاركته في بعض ميادين معركة كربلاء2.
 
وعلى الرغم من كون المصنّف محدّثاً من أصحاب الإمام الخامس والسادس إلّا أنّه - حسب رأي بعض علماء الرجال- زيديّ المذهب ومن الأصحاب البارزين المبلّغين بالمذهب الزيديّ3 ولكن مع ذلك فقد عدّوه ممدوحاً أو موثّقاً. سنة وفاته غير معلومة، وإن كان لا بدّ أن تكون في النصف الثاني من القرن الثاني. ثمّ إنّ الوصول إلى هذا الأثر غير ممكن في زماننا الحاضر إلّا عن طريق كتاب الأمالي الخميسيّة، لمؤلّفه يحيى بن حسين (م 479 هـ)4. وكتاب الحدائق الورديّة5، لمصنّفه حميد بن أحمد بن محمّد المحلّى (م 652 هـ).
 
2- مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزديّ الغامديّ (م 157 هـ)6
  
 
 

1- ما ذكر في تلك الرسالة هو (107) شهداء، وهذا خطأ في الطباعة حيث لم يُذكر زهير بن القين في الشهداء، بينما ذُكر قاتلاه منهم!!
2- المصدر المذكور، مجلّة تراثنا الفصليّة العدد الثاني من سنة (1406 هـ) ص 150.
3- سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّي- المقالات والفرق- ص 71- والخوئيّ- معجم رجال الحديث- ج 9- ص 262.
4- بيروت- عالم الكتب- ج 1- ص 171- 173.
5- حميد بن أحمد بن محمّد المحلّى- الحدائق الورديّة في مناقب الأئمّة الزيديّة- ج 1- ص 207- 212- إلّا أنّ المحلّى لم يذكر بعض المطالب التي تتحدّث عن بعض الشهداء، ولا ما ورد في آخر صفحة من الرسالة المذكورة.
6- ياقوت بن عبد الله الحمويّ- معجم الأدباء- ج 17- ص 41- محمّد بن شاكر بن أحمد الكتبيّ (764 ق) فوات الوفيات- ج 2- ص 175- والذهبيّ- سير أعلام النبلاء- ج 7- ص 302.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وهو أيضاً من مؤلّفي المقاتل في القرن الثاني، وقد عُدّ أبو مخنف عبر التاريخ أشهرهم وأقدمهم بعد تصنيفه كتاب (مقتل الحسين عليه السلام). وهو بالرغم من نشوئه في عائلة وبيئة شيعيّة (بالمعنى السياسيّ للتشيّع ومحبّة أهل البيت عليهم السلام) إلّا أنّ تشيّعه ليس ثابتاً، فقد قال النجاشيّ (عالم الرجال الشيعيّ المعروف) في كتابه الرجاليّ: شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم. ولم يقل (شيخ أصحابنا) ولذا فإنّ كلامه لا يدلّ على تشيّعه1

 
وذكر بعض المحقّقين قرينة أخرى على عدم تشيّعه (بالمعنى العقائديّ) هي عدم اتّهام علماء الرجال من أهل السنّة له بالرفض، كما كان متعارفاً عندهم تجاه الشيعة2. وصرّح أيضاً ابن أبي الحديد بعدم تشيّعه3، وقال طائفة من علماء الرجال بتشيّعه، ودليلهم على ذلك هو اتهام علماء الرجال من غير الشيعة له بالتشيّع4.
 
في كلّ الأحوال، وبغضّ النظر عن الرجل فإنّ مدح النجاشيّ له بقوله: (وكان يسكن إلى ما يرويه) يدلّ على وثاقته5.
 
ولأبي مخنف آثار عديدة، يعتبر أكثرها فريداً من نوعه حيث يتناول الأحداث المهمّة من القرن الأوّل والثاني، ومن بين هذه المصنّفات كتاب (مقتل الحسين عليه السلام) الذي يمتاز ببعض الخصائص من بقيّة الآثار، ونحن نذكرها على الشكل الآتي:
 
أوّلاً: أهمّيّة الموضوع، فإنّ حادثة كربلاء لها موقع خاصّ- لا سيّما عند الشيعة- من بين جميع الوقائع.
  
 
 

1- رجال النجاشيّ- ص 320.
2- راجع وقعة الطفّ (مقتل أبي مخنف) مع مقدّمة وتحقيق محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ- ص 19.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ج 1 ص 147.
4- عبد الله المامقانيّ، تنقيح المقال، ج 2 الرقم 9992.
5- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 320.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ثانياً: القرب الزمانيّ للمؤلّف والكتاب أيضاً من واقعة كربلاء، فقد كان أبو مخنف ينقل روايات هذا الكتاب مباشرة عن شهود عيان أو بوساطةٍ واحدة أو اثنتين، وهذه ميزة غير متوفّرة في المقاتل المدوّنة في الأزمنة المتأخّرة عن تلك المرحلة.

 
ثالثاً: اهتمام من تأخّر عنه من المؤرخّين بهذا الأثر- سواءً من الشيعة أو السنّة- حيث قاموا بنقل جميع رواياته أو معظمها، ومنهم تلميذ أبي مخنف هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ (م 204 أو 206 هـ). ومن بعده محمّد بن جرير الطبريّ (م 310 هـ) وأبو الفرج الأصفهانيّ (م 356 هـ) والشيخ المفيد (413 هـ) وسبط بن الجوزيّ (م 654 هـ).
 
رابعاً: رتبة المصنّف، وهي حسب قول النجاشيّ- (شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة) - وله روايات تاريخيّة كثيرة فريدة من نوعها.
 
وأمّا الحديث عن الزمان الذي كتب فيه أبو مخنف هذا المقتل، فيمكن القول طبقاً لبعض القرائن، إنّ تدوينه كان في العقد الثالث من القرن الثاني، فهو عند نقله خبراً عن دخول مسلم بن عقيل إلى دار المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ في الكوفة يقول: إنّ هذه الدار تعرف اليوم بدار مسلم بن المسيّب1 الذي كان عاملاً ليوسف بن عمر على شيراز سنة 128 هـ2.
 
وكتب اليعقوبيّ في خصوص هذه المرحلة الزمنيّة قائلاً: بعد شهادة زيد بن عليّ سنة (121 هـ) بدأ الشيعة في خراسان من العبّاسيّين والعلويّين بالتحرّك والثورة في وجه السياسة الأمويّة، وقد جمعوا أتباعاً كُثُراً، ومن الأمور التي قاموا بها فضح جرائم بني أميّة التي ارتكبوها مع أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا أيضاً يتذّكرون كتب الملاحم بين الناس3 طبعاً المقصود من هذا النوع من الكتب هو كتب معارك وحروب المسلمين التي كان من أبرزها المقاتل
  
 
 
 

1- الطبريّ - تاريخ الأمم والملوك - ج 4- ص 264.
2- المصدر نفسه- ج 6- ص 39.
3- تاريخ اليعقوبيّ- ج 2- ص 326.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ولا سيّما مقتل الإمام الحسين عليه السلام . ويظهر أنّ أبا مخنف قد وجد تلك المرحلة الزمنيّة مناسبة جدّاً من جهة الظروف والشرائط لتصنيف المقتل. وهذا ما ذكره بعض المحقّقين حيث قال: إنّ بعض مدّعي الخلافة من بني العبّاس قد شجّع وحثّ أبا مخنف على التشهير ببني أميّة ونشر جناياتهم ومفاسدهم، هذا من جهة.

 
ومن جهة أخرى كان الضعف والأفول لدولة بني أميّة قد بدأ، ممّا هيّأ أجواء مناسبة لأمثال أبي مخنف من أجل بثّ جرائم ومثالب بني أميّة في حقّ أهل البيت عليهم السلام من خلال جمع أخبار واقعة عاشوراء في مقتله1
 
بناءً على ذلك يمكن القول بأنّ مقتل أبي مخنف قد صنّف مقارناً تقريباً مع تصنيف جابر ابن يزيد الجعفيّ لمقتله.
 
ولكن للأسف فإنّ هذا المقتل فُقِد مع مرور الزمن، ولولا بعض المصادر التي نقلت عنه الأخبار مثل: تاريخ الطبريّ، ومقاتل الطالبيّين لأبي فرج الأصفهانيّ، والإرشاد للشيخ المفيد، وتذكرة الخواصّ لسبط بن الجوزيّ، لما بقي في زماننا المعاصر من هذا المقتل إلّا اسمه، كما وقع للكثير من المقاتل الأخرى.
 
وليس بعيداً أن يكون السبب الأساس لاندثار مثل هذا المقتل هو إقدام تلميذ أبي مخنف هشام بن محمّد على نقل كلّ روايات مقتل أستاذه، أو على الأقلّ معظمها في مقتله هو وبنفس الاسم أيضاً (مقتل الحسين عليه السلام) لأنّ هذا الأمر سيتسبّب بنسيان تدريجيّ لمقتل أبي مخنف لدى المؤرّخين ومصنّفي المقاتل خلال القرون اللاحقة.
 
الأمر الآخر الذي يقال ها هنا، أنّ كلّ عمل وإنجاز مهمّ ومميّز على مدى الزمان كان يصاب بأضرار مع مرور الأيّام، وهذا ما حصل لمقتل أبي مخنف، إذ لم يسلم من تلك الأضرار أيضاً، فنحن نجد بعض المصنّفين منذ القرن السادس وما بعده، ومن أجل أن يقنعوا قرّاء كتبهم وبأيّة وسيلة بما يروونه من الأخبار والأحاديث
  
 
 

1- وقعة الطفّ- تحقيق محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ- ص 16.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 الضعيفة، كانوا ينسبون تلك المنقولات إلى أبي مخنف1.

 
وقد وصل الحال إلى حدّ تصنيف كتاب منسوب إلى أبي مخنف باسم (مقتل الحسين عليه السلام) بسبب فقدان الكتاب الأصليّ للمقتل، وثَمَّ فرق فاحش بين ما يتضمّنه هذا الكتاب وبين ما ورد من الأخبار المنقولة عن أبي مخنف في المصادر التي سبق ذكرها.
 
هذا، مضافاً إلى الأخطاء الواضحة الموجودة في هذا الكتاب المنسوب إلى أبي مخنف2 والذي لا يُعلم زمان كتابته بشكل دقيق، وإن كان بعض المحقّقين يعتقد أنّ تاريخ تأليفه هو في العهد الصفويّ3. ومن المظنون أنّ هذا الكتاب كانت طباعته الحجريّة الأولى في سنة (1275 هـ) بخطّ محمّد رضا الخوانساريّ في طهران، مع كتاب الملهوف ومهيّج الأحزان في مجلّد واحد4.
 
وقد ترجم هذا الكتاب أيضاً- حسب معلوماتنا- إلى لغة الأردو مرّة، واللغة الفارسيّة مرّتين، الأولى سنة 1332هـ- على يد محمّد طاهر بن محمّد باقر الموسويّ الدزفوليّ في مجلّد واحد، مع كتاب أخذ الثار في أحوال المختار، الذي يُنسب أيضاً إلى أبي مخنف في (240) صفحة.
 
والثانية سنة (1405 هـ) بعنوان (مقتل الحسين عليه السلام ) في مجلّد واحد مع كتاب أخذ الثار في (317) صفحة5.
 
وقد بذلت جهود، في السنوات الأخيرة، من أجل جمع وتجديد آثار ومصنّفات أبي مخنف، ومن جملة ذلك ما قام به بعض المحقّقين من إحياء مقتله، تحت
  
 
 

1- على سبيل المثال يمكن ذكر خبرين نقلهما ابن شهرآشوب حول بعض وقائع يوم عاشوراء نقلاً عن أبي مخنف برواية رجل مجهول باسم الجلوديّ (مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 65- 66) إلّا أنّ هذين الخبرين لا أثر لهما في كتاب تاريخ الطبريّ ومقاتل الطالبيّين والإرشاد للشيخ المفيد.
2- وقعة الطفّ- المقدّمة- ص 22- 29.
3- السيّد عليّ مير الشريفيّ (أبو مخنف وسركذشت مقتل وي) مجلّة (آينيه بزوهش) العدد 2- 1369- ص 34- السيّد حسن الأمين- مستدركات أعيان الشيعة- ج 6- ص 255.
4- مير شريفيّ- مصدر سابق- ص 38- والسيّد حسن الأمين- مصدر سابق- ج 6- ص 275.
5- مير شريفيّ- مصدر سابق- ص 36- والسيّد حسن الأمين- مصدر سابق- ج 6- ص 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 عنوان (وقعة الطفّ) من خلال الروايات والأخبار المنقولة عن المقتل والواردة في المصادر التي سبق تعدادها1.

 
وهنا أمر آخر يجدر ذكره، وهو أنّ بعض المحقّقين قد صرّح بوجود أربع نسخ خطّيّة من (مقتل الحسين عليه السلام ) في مكتبة (كوته) الرقم (1836) وفي برلين (الرقم 159- 160) وليدن (الرقم 792) وسنت بطرزبورك (الرقم 78)- وعلى الرغم من تشكيك بعض المستشرقين بانتساب هذه المخطوطات إلى أبي مخنف إلّا أنّ أحداً لا يستطيع التشكيك في القدم الزمانيّ الخاصّ الذي تتمتّع به هذه المخطوطات2.
 
وينقل محقّق آخر أيضاً وجود نسخة من الكتاب مصوّرة أخرى باسم مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف موجودة في مكتبة أمبروز ياناي في مدينة ميلان الإيطاليّة تحت رقم (233)3 إلّا أنّ إحراز القدم الزمانيّ لهذه المخطوطة يحتاج إلى بحث وتحقيق.
 
3- مقتل الحسين عليه السلام - هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ (م 204 4 أو 206 هـ)5.
كما أشرنا سابقاً، فإنّ هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ هو أحد تلامذة أبي مخنف، وهو مؤرّخ معروف ومقبول لدى الشيعة والسنّة، وكان من تلامذة الإمام الصادق عليه السلام . من جملة مصنّفاته كتاب (مقتل الحسين عليه السلام ) الذي يحتوي على أخبار هي في معظمها تمثّل روايات أستاذه أبي مخنف6. ولكن باعتبار فقدان
  
 
 

1- جمع هذا المقتل من المصادر الأصليّة وحقّق على يد المحقّق الجليل الأستاذ محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ، وطبعه مركز المنشورات الإسلاميّة التابع لجامعة المدرّسين، وطبعه ونشره أيضاً المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام مع بعض الإضافات والتصحيحات في سنة 1385 هـ.
2- محمّد مهدي الجعفريّ- (تشييع درمسير تاريخ)- التشيّع عبر التاريخ- ص 254- 255.
3- شمس الدّين محمّد بن طولون- الأئمّة الاثنا عشر- ص 138.
4- المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ج 4 ص 27، والذهبيّ، ميزان الاعتدال ج 4 ص 305، وابن العماد الحلبيّ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج 3 ص 27.
5- ابن النديم- مصدر سابق- ص 108- والذهبيّ- تذكرة الحفاظ- ج 8- ص 343.
6- النجاشيّ- مصدر سابق- ص 435.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 كلّ أثر لهذا المقتل حاليّاً فلا يمكن الحكم بشكل صحيح على طريقة استفادته من أخبار أستاذه.

 
من الواضح أنّ الأخبار التي نقلها عن أستاذه أو عن غيره قد وردت فيما بعد في كتب أمثال تاريخ الطبريّ، ومقاتل الطالبيّين، وإرشاد الشيخ المفيد، ويمكن اعتبار هذا المقتل من مصنّفات القرن الثاني باعتبار أنّ وفاة هشام كانت في أوائل القرن الثالث ممّا يعني أنّ أغلب سنوات عمره قد قضاها في القرن الثاني.
 
4- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله (من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى) محمّد بن سعد (م 230 هـ).
 
لقد قدّم محمّد بن سعد بياناً مهمّاً في هامش الحديث عن شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام في كتابه الطبقات، إلّا أنّ الطبقة الأولى التي نشرت على أساس النسخة الناقصة ما بين سنوات 1904- 1917م، قد فقد منها قسم كبير من تراجم الرجال ومنها ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ولكن في الطبعة اللاحقة أُعيد ذكر تلك الموارد الناقصة، ومنها ترجمة حال الإمامين الحسنين (عليهما السلام) في ضمن ثلاثة أجزاء مستقلّة.
 
في العقدين الأخيرين قام السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ بتحقيق حول شخصيّة الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام على أساس نسخة محفوظة منذ القرن السابع في تركيا، ثمّ قام بطبعها. فيما بعد نشر هذا القسم الذي لم يكن مطبوعاً في البداية (ومن ضمنه ترجمة الإمامين الحسنين عليهما السلام) تحت عنوان الطبقات الكبرى- الطبقة الخامسة من الصحابة، في جزءين اثنين مع تصحيحات محمّد بن صامل السلميّ1. يتناول الجزء الأوّل الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام من صفحة 369- 519، طبعاً أكثر من نصف هذه الصفحات هي حواشٍ وهوامش لمصحّح الكتاب.
  
 
 

1- الطبعة الأولى- الطائف- مكتبة الصديق- 1414 هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

29

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 يتضمّن كتاب (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله) قسمين، أحدهما يتحدّث عن نسب الإمام عليه السلام وولادته وخصائصه وفضائله ومناقبه، والثاني يروي واقعة عاشوراء من بدايتها إلى نهايتها، ومن ضمنها شهادة الإمام عليه السلام . إنّ طريقة ابن سعد في كتابة التاريخ روائيّة، ولذا نراه قد نقل الأخبار بصورة مسندة، ففي القسم الأوّل نقل تسعين خبراً، وأمّا في قسم المقتل فقد نقل ما يقرب من خمسين خبراً، ولكنّه اكتفى ببعض الأسانيد العامّة في بداية المقتل، ولم يذكر سنداً مستقلّاً لكلّ واحد من تلك الأخبار.


وقد روى أيضاً ابن سعد بعض الأخبار حول الوقائع والأحداث الغريبة والخارقة للعادة، سواءٌ منها السماويّة أو الأرضيّة، وكذلك العقوبات والبلاءات التي أصابت بعض القتلة من جيش عمر بن سعد، بعد واقعة عاشوراء.

وعلى الرغم ممّا كان عليه أسلوب ابن سعد في كتابه (الطبقات) حيث لم يذكر الحوادث والتحوّلات التاريخيّة المهمّة التي تقع متزامنة مع حياة الأشخاص الذين هم في متناول بحثه، إلّا أنّ عظمة واقعة عاشوراء اضطرّته للحديث كثيراً حول هذه الحادثة وقائدها، ولكنّه مع ذلك لم يُبدِ رأياً في العديد من الموارد التي تناولها بالبحث من جهة صحّتها أو عدم صحّتها. ومن أمثلة ذلك تأكيده على الأخبار التي تبرّئ ساحة يزيد من دماء شهداء كربلاء، وتلقي بالمسؤوليّة على عاتق ابن زياد.

5- أنساب الأشراف - أحمد بن يحيى جابر البلاذريّ (م 279 هـ).
كان البلاذريّ مؤرّخاً وأديباً وعالماً بالأنساب من عهد المأمون إلى المستعين العبّاسيّ، وقد تناول الحديث في كتابه الضخم حول أنساب وتراجم العائلات الكبيرة والبارزة من عرب قريش. كتب في قسم من كتابه عن نسب أبي طالب وعائلته وأولاده، وعن أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده، ومنهم الإمام الحسين عليه السلام ومقتله، وأمّا القسم الذي يتحدّث عن الطالبيّين فقد طُبع في بيروت سنة 1397 هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 مع تحقيقات للمحقّق الشهير محمّد باقر المحموديّ، وفي السنوات الأخيرة طُبع ضمن مجموعة ثلاثة عشر جزءاً باسم (جمل من أنساب الأشراف) بتحقيق سهيل الزكار ورياض الزركليّ. وقد احتوت الصفحات من (142) إلى (228) الحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة كربلاء في الجزء الثاني من طبعة المجلّدين من (أنساب الأشراف) بتحقيق المحموديّ1. وفي طبعة الثلاثة عشر جزءاً هي موجودة في المجلّد الثالث من الصفحة (358) إلى (425).

 
بعد أن ذكر البلاذريّ عدداً من الأخبار حول ولادة الإمام الحسين عليه السلام وأولاده شرع ببيان واقعة كربلاء، وقد كانت الروايات الأولى التي أوردها تتحدّث عن علاقة الشيعة بالإمام الحسين عليه السلام منذ توقيع الإمام الحسن عليه السلام الصلح مع معاوية. وكانت طريقة البلاذريّ في كتابه هي التركيب مثلما فعل اليعقوبيّ والدينوريّ، ولذا نراه بدلاً من ذكر سند مستقلّ لكلّ خبر كان في أغلب الحالات يكتفي بنقله مكتفياً بعبارة (قالوا).
 
في بعض الأحيان يشير أيضاً إلى السند، فينقل مثلاً عن أبي مخنف2، أو هشام الكلبيّ3، أو عوانة بن الحكم4 أو هيثم بن عديّ5 أو عتبى6 أو عمر بن شبّه7، وفي بعض الأوقات كان يستخدم تعبير (حدّثني بعض الطالبيّين)8 و (حدّثني بعض قريش)9.
 
يُعدُّ كتاب (أنساب الأشراف) أحد المصادر التاريخيّة لواقعة عاشوراء، وهو 
  
 
 

1- طبعاً- حسب بعض الطبعات- يعدّ المجلّد الثاني هو الثالث، وقد نشر أيضاً في جزء واحد بتحقيق المحموديّ ضمن السيرة النبويّة.
2- المصدر- تحقيق سهيل الزكار،ورياض الزركليّ- ج 3- ص 368- 412.
3- المصدر- ص 409.
4- المصدر- ص 417.
5- المصدر- ص 415.
6- المصدر- ص 368.
7- المصدر- ص 413- 414- 416- 424.
8- المصدر- ص 411.
9- المصدر- ص 371.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 متوافق مع أخبار أبي مخنف وابن سعد، وعلى الرغم من بعض الاختلافات بينها، فإنّ بعضها يؤيّد بعضها الآخر.

 
6- الأخبار الطوال - أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوريّ (م 282 هـ).
يُعتبر أبو حنيفة الدينوريّ من علماء القرن الثالث وهو مؤرّخ ومنجّم وعالم رياضيّات ونحويّ ولغويّ وخبير في الأعشاب1. له آثار كثيرة في مختلف العلوم إلّا أنّ ما وصل إلينا من كلّ ذلك كتابان، أحدهما الأنواء، والآخر الأخبار الطوال.
 
وقد أولى الدينوريّ عناية خاصّة بتاريخ إيران- باعتبار أنّه إيرانيّ وولادته كانت في منطقة كرمانشاه - فكتب عن تاريخها قبل الإسلام وبعده في مصنّفه (الأخبار الطوال). لم يتعرّض الدينوريّ لشيء من السيرة النبويّة أو خلافة الشيخين بينما خصّص لنقل أحداث عاشوراء أكثر من ثلاثين صفحة2 من مجموع صفحات الكتاب التي تبلغ (400) صفحة (أي ما يقرب من عُشر الكتاب).
 
كان أسلوب الدينوريّ في كتابة التاريخ على طريقة اليعقوبيّ والمسعوديّ، أي بشكل تركيبيّ ومع حذف الأسناد، وعندما يأخذ بذكر الأخبار يبدأ بعبارة (قالوا)3، ما عدا ما نقله عن عمر بن سعد من طريق حميد بن مسلم الذي كان صديقاً لابن سعد4. وعلى الرغم من ورود مضامين أخبار الدينوريّ في المصادر الأخرى القديمة، إلّا أنّ كلماته المستعملة في ذلك لها وقعها الخاصّ ولم ترد في غيره من المصادر. على سبيل المثال، من الأخبار المثيرة التي نقلها - وهي تدلّ على السيرة الدّينيّة والأخلاقيّة الخاصّة عند الشيعة - خبر الطريقة التي استخدمها جاسوس ابن زياد واسمه معقلاً للتعرّف على المكان الذي لجأ إليه مسلم بن عقيل، فقد ذكر أنّ معقل عندما ورد مسجد الكوفة لم يدر إلى من
  
 
 

1- ابن النديم- الفهرست- ص 86.
2- أبو حنيفة الدّينوريّ- الأخبار الطوال- ص 227- 262.
3- المصدر- ص 229- 243- 245- 247- 254- 257- 259- 260- 262.
4- المصدر- ص 260.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

32

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 يتحدّث فوجد رجلاً يتعبّد في إحدى زوايا المسجد، فحدّث نفسه: إنّ الشيعة كثيراً ما يقيمون الصلاة، ولذا توجّه إلى ذاك المصلّي الذي تبيّن أنّه مسلم بن عوسجة، فعرض عليه مسألته1.

 
وكتب أيضاً عن الفاصلة الزمنيّة بين قتل الإمام الحسين عليه السلام وبين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي خمسون عاماً، ثمّ أبدى تعجّبه الشديد من وقوع هذه الحادثة خلال هذه المدّة الزمنيّة القصيرة!!2.
 
7- تاريخ اليعقوبيّ، ابن واضح اليعقوبيّ (م 292 هـ).
إنّ ما يثير العجب من اليعقوبيّ الذي يعتبر مؤرّخاً شيعيّاً شهيراً وعالماً في الجغرافيا وصاحب تاريخ اليعقوبيّ أنّه- وخلاف المتوقّع منه- لم يتحدّث في تاريخه عن واقعة كربلاء بأكثر من أربع صفحات3، ولعلّ رعاية الاختصار والايجاز في كتابه قد أثّرا في هذا الأمر أيضاً.
 
وقد عدّ بعض المعاصرين لليعقوبيّ مصنّفاً مستقلّاً بعنوان (مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام )4 أو (مقتل الحسين عليه السلام )5 ولكن مع مراجعة المصادر القديمة حول آثار اليعقوبيّ لا نجد له مثل هذا المصنّف أبداً.
 
8- تاريخ الأمم والملوك، أبو جعفر بن محمّد بن جرير الطبريّ (م 310 هـ).
بيّن الطبريّ في هامش حوادث أعوام- 60 و61 هـ - بعض الوقائع المرتبطة بثورة عاشوراء، ويعتمد قسم كبير من رواية عاشوراء في هذا الكتاب على أخبار (مقتل الحسين) لأبي مخنف وقد نقلها الطبريّ عنه من خلال تلميذ أبي مخنف وهو هشام بن محمّد بن سائب الكلبيّ، فكان يروي على هذا النحو: (قال هشام بن 
  
 
 

1- أبو حنيفة الدّينوريّ- الأخبار الطوال- ص 235.
2- المصدر ص 259.
3- تاريخ اليعقوبيّ، ج 2 ص 243- 246.
4- الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ، الذريعة ج 22 ص 23.
5- الطباطبائيّ، أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة، ص 537.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

33

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 محمّد عن أبي مخنف) أو (قال هشام: قال أبو مخنف) أو (حدّثت عن هشام عن أبي مخنف)...1.

 
مضافاً إلى ذلك فإنّ الطبريّ نقل كثيراً عن مقتل هشام نفسه أيضاً وأخذ بعض الأخبار التي نقلها هشام عن غير أبي مخنف2.
 
وفي الحقيقة فإنّ هشام قد صنّف كتاباً يتضمّن كتاب أبي مخنف كلّه أو جلّه مع بعض الزيادات من طرق أخرى، فجاء الطبريّ بعد قرن من الزمن واستفاد من ذلك فائدة كاملة.
 
لم يهمل الطبريّ الروايات الواردة عن الواقديّ أيضاً3 ونقل كذلك من خلال رواية عمّار الدهنيّ بعض المطالب عن الإمام الباقر عليه السلام فيما يتعلّق بموت معاوية وطلب الوليد بن عتبة البيعة ليزيد من الإمام الحسين عليه السلام إلى رجوع أهل البيت عليهم السلام للمدينة وإقامة بني هاشم مجالس العزاء فيها، كلّ ذلك نقله في قسمين4 اثنين من دون معرفة المصدر.
 
وقد نقل الطبريّ في القسم الأوّل المشار إليه أوّلًا رواية الواقعة من بدايتها إلى شهادة مسلم بن عقيل بشكل مختصر عن عمّار الدهنيّ ثمّ فصّلها نقلاً عن أبي مخنف5
 
وقد طبعت جميع روايات واقعة كربلاء الواردة في تاريخ الطبريّ مضافاً إلى رسالة رأس الحسين عليه السلام مع تحقيقات للسيّد جميلي6.
 
وجمعت أيضاً روايات الطبريّ حول ثورة الحسين عليه السلام تحت عنوان (الثورة الخالدة- قيام جاويد) مع ترجمة وتصحيح لحجّة الله الجودكي7.
  
 


1- الطبريّ- تاريخ الرسل والملوك- ج 4- ص 250- 267- 286- 302- 311- 331- 355- 357- 358.
2- المصدر- ص 260- 265- 290- 300- 310- 343- 348- 351- 354- 356- 358.
3- المصدر- ص 255- 296.
4- ج 4- ص 257- 260- 292- 294.
5- المصدر- ص 257- 260.
6- بيروت- دار الكتاب العربيّ- 1417 هـ.
7- الطبعة الأولى- طهران- المؤسّسة الثقافيّة للمنشورات- تبيان- 1377.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 9- تاريخنامه طبري (تاريخ الطبريّ) أبو عليّ البلعميّ (القرن الرابع):

شرع البلعميّ حديثه عن واقعة كربلاء تحت عنوان (خبر خلافة يزيد بن معاوية) إلى حين إرسال يزيد أسرى أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة المنوّرة1. على الرغم من اشتهار القول بأنّ تاريخ البلعميّ هو ترجمة فارسيّة لتاريخ الطبريّ، إلّا أنّ الرجوع إلى هذا الكتاب مع قليل من التأمّل، شاهد بنفسه على أنّ الأمر ليس كذلك، أي ليس ترجمة تامّة ودقيقة لأخبار وروايات الطبريّ بل هو ترجمة مختصرة لتاريخ الطبريّ مترافقاً مع بعض الزيادات والإضافات من قبل المترجم. ولذا فإنّنا نجد هذا الجزء من البحث، أي رواية ثورة الإمام الحسين عليه السلام يشتمل على بعض الأخبار التي لا يمكن العثور عليها في كتاب تاريخ الطبريّ بأيّ وجه من الوجوه.
 
على سبيل المثال هو يدّعي أنّ الإمام الحسين عليه السلام أرسل مسلم بن عقيل باقتراحٍ من ابن عبّاس2، وأنّ الطفل الرضيع للإمام عليه السلام كان يبلغ من العمر سنة كاملة3 وأنّ الجسد الطاهر للإمام الحسين عليه السلام بقي في العراء مع بقيّة الشهداء مقطوع الرأس والأقدام ثلاثة أيّام على أرض كربلاء4، وأيضاً تعيينه محلّ دفن الإمام عليه السلام وعليّ الأكبر وأبي الفضل العبّاس5.
 
إنّ مثل هذه الأخبار لم ترد أبداً في تاريخ الطبريّ، نعم الخبر الأخير فقط موجود بنقل الشيخ المفيد في الإرشاد6.
بقي أمر آخر وهو أنّ القسم المتعلّق بالإمام الحسين عليه السلام من (تاريخنامه طبري) قد طبع مع رواية ثورة المختار وطلبه للثأر استناداً إلى نسخة محفوظة من القرن السادس تحت عنوان (ثورة سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليه السلام وثأر
  
 
 

1- البلعميّ (تاريخنامه طبري) ج 4- ص 698- 715.
2- المصدر- ج 4- ص 699.
3- المصدر- ص 710.
4- المصدر- ص 712.
5- المصدر نفسه.
6- المفيد- الإرشاد- ج 2- ص 114.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 المختار) قيام سيّد الشهداء حسين بن عليّ عليه السلام وخونخواهي مختار1.



10- كتاب الفتوح، أبو محمّد أحمد بن الأعثم الكوفيّ (م 314 هـ)2
صنّف ابن أعثم الكوفيّ كتابه بعنوان (الفتوح) لبيان وقائع التاريخ الإسلاميّ منذ وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيّما حروب وفتوحات الخلفاء والحكّام المسلمين طبقاً للتسلسل الزمنيّ للحوادث، وعندما وصل إلى أحداث سنة (60- 61 هـ). شرع بتناول وقائع ثورة عاشوراء التي خصّص من صفحات كتابه ما يقرب من 157 صفحة (أي ما يقرب من عشر كتابه) وقد بدأ ابن أعثم روايته لثورة كربلاء تحت عنوان (ابتداء أخبار مقتل مسلم بن عقيل والحسين بن عليّ وولده وشيعته)3. ثمّ أنهى روايته تلك برجوع أسرى أهل البيت عليهم السلام مكرّمين إلى المدينة المنوّرة بأمرٍ من يزيد4.
 
إنّ أسلوب إبن الأعثم في كتابة التاريخ شبيه لما هو موجود عند اليعقوبيّ والدينوريّ، أي من دون ذكر الأسانيد, وبنحوٍ تركيبيّ وفي بعض الموارد على طريقة القصص والحكايات5، ولذلك يجب التحرّي في رواياته عن واقعة عاشوراء والاحتياط فيها ومقابلتها مع أخبار أبي مخنف في تاريخ الطبريّ والإرشاد للشيخ المفيد وروايات المؤرّخين من أمثال: البلاذريّ والدينوريّ، فإذا لم تكن متعارضة معها ومنافية لها فيمكن الأخذ بها والاعتماد عليها.
  
 
 

1- المصنّف محمّد سرور مولاي- (انتشارات بنياد فرهنك إيران- 1359هـ) وأيضاً (طهران- بزوهشكاه علوم إنساني ومطالعات فرهنكي 1377).
2- قال الحمويّ إنّ لابن الأعثم كتاباً تاريخيّاً بقي إلى آخر عهد المقتدر (معجم الأدباء- ج 2- ص 231) يعلم من هذه العبارة أنّ ابن الأعثم كان لا يزال على قيد الحياة إلى نهاية خلافة المقتدر، أي إلى سنة (320 هـ).
3- ابن الأعثم- كتاب الفتوح- ج 4- ص 322.
4- المصدر- ج 5- ص 134.
5- على سبيل المثال هو ينقل بالتفصيل كيفيّة خروج الإمام عليه السلام من المدينة خلافاً لكلّ الأخبار المعتبرة، فهو يقول إنّ الإمام طولب بالبيعة فرفض ذلك، وبعد خروجه من بيته ومحاججته مع مروان بن الحكم أرسل الوليد بن عتبة حاكم المدينة خبراً إلى الشام برفض الإمام عليه السلام البيعة. طبعاً كان الجواب من يزيد يحتاج إلى أيّام عدّة ليصل إلى المدينة، وعندما وصلت الرسالة التي تأمر بقتل الحسين عليه السلام كان لا يزال متواجداً هناك لعدّة أيّام يذهب خلالها إلى قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي إحدى الليالي (يظهر أنّها الليلة الثالثة) يخرج الإمام عليه السلام من المدينة ( المصدر- ج 5- ص 10- 22) ولكن حسب ما نقل عن المصادر المعتبرة فإنّ الإمام عليه السلام قد خرج من المدينة في الليلة الأولى، وهذا ما تؤيّده الشواهد والقرائن والظروف الحاكمة في ذلك الوقت).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ومع كلّ ذلك، فإنّ هذا الأثر يعتبر من المصادر التاريخيّة القديمة الهامّة التي اعتمد عليها الشيعة والسنّة عبر التاريخ، فنرى على سبيل المثال بعض أخبار المناقب لابن شهرآشوب وبحار الأنوار والكثير من مطالب (مقتل الحسين عليه السلام) للخوارزميّ قد نقلت عن ذلك الكتاب.

 
ثمّ إنّ بعض روايات ابن الأعثم تتمتّع بمميّزات خاصّة، لأنّ له الأسبقيّة في نقلها قبل غيره من المؤرّخين، مثل خبر وصيّة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة وكلمته المشهورة حول فلسفة نهضته عليه السلام, حيث يقول: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً و..."1.
 
ومن الأخبار المهمّة التي نقلها: الخطبة القاصعة التي ألقتها السيّدة زينب عليها السلام عند تقريعها لأهل الكوفة، فإنّ ابن الأعثم يعدّ الناقل الثاني لهذه الخطبة بعد ابن أبي طيفور2 (م 280 هـ). وكان أيضاً هو السبّاق على جميع المؤرّخين وأصحاب المقاتل فيما نقله من الحوار الذي جرى بين الإمام السجّاد عليه السلام وبين الشيخ الشاميّ عند دخول الأسرى إلى الشام واقتناع الشيخ بكلام الإمام عليه السلام وتوبته3, ويظهر أنّ الشيخ الصدوق أيضاً (م 381 هـ) الذي نقل هذا الخبر فيما بعد4 كان قد أخذه عن ابن الأعثم.
 
وكذلك فإنّ كتاب ابن الأعثم يُعتبر أقدم المصادر التي نقلت خطبة الإمام
  
 
 

1- ابن الأعثم- كتاب الفتوح- ج 5- ص 25 طبعاً- وحسب ما سيأتي- فإنّ ابن شهرآشوب (م 588 هـ) أورد هذه الجملة المشهورة بعنوان جواب شفهي (وليس وصيّة مكتوبة) من قبل الإمام الحسين عليه السلام على اقتراح عبد الله بن مطيع، ومحمّد بن الحنفيّة وابن عبّاس لمنع الإمام عليه السلام من التوجّه إلى العراق. الأمر الآخر في هذا المجال، هو أنّ بعض المصادر الشيعيّة المتأخّرة مثل (بحار الأنوار) نقلت هذه العبارة الشهيرة بعنوان وصيّة مكتوبة ضمن رسالة (راجع البحار- ج 45- 329- 330) إنّ العلّامة المجلسيّ وإن كان قد نقل ذلك من كتاب (تسلية المجالس) للسيّد محمّد بن أبي طالب الموسويّ، إلّا أنّه ومع قليل من البحث والمراجعة يعلم أنّ كتاب تسلية المجالس قد نقل ذلك أيضاً عن (مقتل الحسين) للخوارزميّ الذي نقل ذلك بدوره عن ابن الأعثم.
2- ابن أبي طيفور- بلاغات النساء- ص 23- 24.
3- ابن الأعثم- كتاب الفتوح- ج 5- ص 130.
4- الشيخ الصدوق- الأمالي- المجلس 31- ص 230- الرقم 3.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

37

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 السجّاد عليه السلام في مجلس يزيد.1وهكذا بعض الأخبار التي نقلها حول علم الإمام الحسين عليه السلام بشهادته مسبَّقاً، ومن جملتها عندما رأى الإمام عليه السلام جدّه في منامه عند قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة حيث أخبره بذلك قائلاً له: "إنّي يا بنيّ عن قريبٍ أراك مقتولاً في أرض كربلاء بيد قومٍ من أمّتي عطشانَ ظمآنَ"2.

 
هذا، مضافاً إلى ما نقله من تنبّؤ الملائكة والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باستشهاده بل هو يذكر أيضاً خبراً عن اليهوديّ كعب الأحبار في ذلك3، والحال أنّ المصادر القديمة والمعاصرة لابن الأعثم لا تذكر مثل هذه الأخبار إلّا قليلاً وبالإشارة فقط.
 
ترجمة كتاب الفتوح:
ترجم محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ4 في القرن السادس (596 هـ). كتاب الفتوح الذي يذكر الوقائع التاريخيّة، منذ خلافة أبي بكر إلى نهاية واقعة عاشوراء. وقد صُحّح وطُبع منذ عدّة سنوات5.
 
إنّ المترجم، وبسبب ميوله الشيعيّة، زاد بعض العبارات والآراء الشيعيّة في ترجمته6.
يتحدّث في القسم الأخير من الترجمة عن واقعة عاشوراء من بدايتها إلى نهايتها، ويوجد فيه بعض الاختلافات مع المتن الأصليّ للكتاب، ويظهر ذلك جليّاً عند المقارنة بينهما.
 
مثلاً في حادثة حفر الإمام الحسين عليه السلام بئراً في كربلاء، ينقلها المترجم كما 
  
 


1- ابن الأعثم- المصدر- ج 5- ص 132- 133.
2- المصدر- ص 19- وأيضاً: ص 87- 99- 100.
3- المصدر- ج 4- ص 323- 327.
4- راجع فيما يتعلّق بمترجم كتاب الفتوح (ترجمة الفتوح- مقدّمة المصحّح- ص 18 وما بعدها).
5- تصحيح غلام رضا المجدّ الطباطبائيّ- طهران- (إنتشارات وآموزش انقلاب إسلامي) 1372- ص 819 و924.
6- على سبيل المثال يقارن بين الصفحات 499- 567- 644- 811- من ترجمة الفتوح مع متن كتاب الفتوح- ج 2- ص 496- ج 3- ص 77 و159 وج 4- ص 346.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 هي موجودة في كتاب الخورازميّ، لا كما هي واردة في كتاب ابن الأعثم1. ومن المحتمل وجود هذا الخبر في نسخةٍ من كتاب الفتوح عند المترجم أو أنّه نقل ذلك من مقتل الخوارزميّ وأضاف ذلك إلى نقل ابن الأعثم خلال الترجمة.

 
وقد اعتبر المترجم أيضاً بعض الأشخاص مثل مالك ابن أوس المالكيّ2 وعمرو بن خباوه3 من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام مع أنّه ليس فقط لم يذكرهما ابن الأعثم، بل لم يرد ذكر مثل هؤلاء في أصحاب الإمام عليه السلام في أيّ مصدر من المصادر المعتبرة أبداً.
 
الأمر الأخير الذي يُذكر هنا هو أنّ هذا القسم الذي يختصّ بسيرة الإمام الحسين عليه السلام في هذه الترجمة قد طُبع بصورةٍ مستقلّةٍ تحت عنوان (قيام إمام حسين)- نهضة الإمام الحسين عليه السلام المنتخبة من كتاب الفتوح4.


11- العقد الفريد - أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسيّ (م 328 هـ):
كتب ابن عبد ربّه الأندلسيّ عدّة صفحات حول نهضة عاشوراء، عند ذكره لحوادث سنة (61 هـ)5. وبيّن بشكلٍ مختصر ثورة الإمام الحسين عليه السلام من بدايتها إلى نهايتها. إنّ ممّا يلفت النظر في هذه الصفحات هو المصادر التي اعتمدها هذا المصنّف في كتابه ذلك. هو في البداية ينقل عن مقتلٍ مفقودٍ لمؤلّفه قاسم بن سلام الهرويّ بوساطة شخص يُدعى عليّ ابن عبد العزيز، ثمّ ينقل أخباراً عن بعض المحدّثين والمؤرّخين وعلماء الأنساب والرجال مثل الزبير بن بكّار (بوساطة عليّ ابن عبد العزيز) والضحّاك بن عثمان الخزاعيّ، والشعبيّ (نقلاً عن يحيى بن إسماعيل) والحسن البصريّ (نقلاً عن أبي الحسن المدائنيّ).
 
 
 
 

1- ابن الأعثم - ترجمة كتاب الفتوح- ص 893- يقارن مع كتاب الفتوح- ج 5- ص 91.
2- ابن الأعثم - ترجمة كتاب الفتوح- ص 905.
3- المصدر نفسه.
4- طهران- شركة انتشارات علمي وفرهنكي- ص 109.
5- ابن عبد ربّه- العقد الفريد- ج 4- ص 352- 362.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ينقل ابن عبّد ربّه عن قاسم بن سلام بعض الروايات المخالفة للمشهور، مثل حادثة لقاء الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى مكّة، بعبد الله بن مطيع حيث أجابه الإمام عليه السلام بعدما سأله عبد الله عن وجهة سيره، فقال عليه السلام: "إلى العراق, فإنّ أهله قد دعوني إليهم في رسائل تقدر بأكثر من حمل بعير"1.

 
هذا مع أنّ دعوة أهل العراق للإمام عليه السلام - كما سيأتي- إنّما كانت بعد إقامته في مكّة أيّاماً عديدة.
 
12- كتاب المحن, أبو العرب محمّد بن أحمد بن تميم التميميّ (م 333 هـ):
أورد مصنف هذا الكتاب بعض الأخبار حول شهادة الإمام الحسين عليه السلام لا سيّما ما وقع بعدها من الحوادث الخارقة للعادة مثل ظهور الحمرة في السماء، وخروج الدم من تحت الأحجار2.
 
إنّ الصفحات الستّ الأولى ممّا ذكره أبو العرب منقولة عن قاسم بن سلام التي رواها أيضاً عنه ابن عبد ربّه.
 
13- مروج الذهب ومعادن الجوهر, أبو الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ (م 346 هـ):
يُعتبر المسعوديّ من مؤلّفي وعلماء الجغرافيا المشهورين في القرن الرابع، وهو من أحفاد عبد الله بن مسعود3، أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تناول بالحديث في عدّة صفحاتٍ حول واقعة كربلاء عند بيانه لوقائع عام (61 هـ)4.
 
إنّ ما أورده المسعوديّ حول عاشوراء، وإن كان مذكوراً في المصادر القديمة المشهورة، إلّا أنّ بعض رواياته قد اختصّ بها وحده. مثلاً هو يعتقد أنّ دخول
  
 
 

1- ابن عبد ربّه- العقد الفريد- ج 4- ص 352.
2- التميميّ- كتاب المحن- ص 142- 155.
3- ابن النديم- الفهرست- ص 171.
4- المسعوديّ- مروج الذهب- ج 3- ص 65- 73.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 مسلم بن عقيل إلى الكوفة كان في اليوم الخامس من شهر شوّال1، ويذكر أيضاً أنّ عدد أصحاب الإمام عليه السلام عند مسيره إلى كربلاء مع عسكر الحرّ هو (500) راكب وما يقرب من ( 100) راجل)2. واعتبر أيضاً أنّ شهداء كربلاء قد بلغوا (87) شهيداً3.

 
14- البدء والتاريخ, المطهّر بن الطاهر المقدسيّ (المتوفّى ما بعد 355 هـ):
تعرّض مصنّف هذا الكتاب، في عدّة صفحات، إلى أبحاثٍ مثل طلب البيعة ليزيد، وسفر مسلم إلى الكوفة، وواقعة كربلاء وأشعار يزيد عند نكته شفتي الإمام الحسين عليه السلام بقضيب الخيزران الذي كان في يده4.
 
15- مقاتل الطالبيّين, أبو الفرج الأصفهانيّ (م 356 هـ):
كان الأصفهانيّ من الشيعة غير الإماميّة، فهو أمويّ النسب وشيعيّ الميول5. كتب في مصنّفه (مقاتل الطالبيّين) خلال ذكره للروايات المسندة حول ثورات آل أبي طالب وقتلاهم، ما يقرب من (38) صفحة عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وما حصل من السبي لحرمه أيضاً6.
 
في البداية تحدّث أبو الفرج عن أسماء شهداء بني هاشم وكيفيّة شهادتهم، وقد بلغوا (23) شهيداً (مع الإمام الحسين عليه السلام) ثمّ ذكر كيفيّة شهادة مسلم بن عقيل في الكوفة بشكل مفصّل. وفي الختام روى حادثة شهادة الإمام الحسين عليه السلام والأخبار الواردة حول سبي النساء وأهل بيت الإمام عليه السلام, وقد كان بيانه لكلّ هذه الوقائع مقتضباً ومبنيّاً على الاختصار والإيجاز.
  
 
 

1- المسعوديّ- مروج الذهب- ج 3- ص 65.
2- المصدر السابق- ص 71.
3- المصدر نفسه- ص 72- طبعاً المقدسيّ أورد مثل هذا الإحصاء من بعد الأصفهانيّ (البدء والتاريخ- ج 6- ص 11).
4- البدء والتاريخ- ج 6- ص 138.
5- يمكن استفادة ذلك من مقاتل الطالبيّين، وأمّا تشيّعه الإماميّ فلا يمكن إثباته.
6- أبو الفرج- مقاتل الطالبيّين- ص 84- 121- إنّ طريقة الأصفهانيّ هي روائيّة، فعادة ما ينقل الأخبار مرافقةً للأسانيد.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 نقل أبو الفرج أخباراً حول واقعة كربلاء عن عدّة رواة، إلّا أنّ القسم الأهمّ من تلك الحادثة نقله عن أبي مخنف، وأمّا الوسائط بينه وبين أبي مخنف فتارة كان يذكر اسم نصر ابن مزاحم المنقريّ1, وتارة أخرى كان يورد اسم أبي الحسن المدائنيّ2.

 
وقد نقل أيضاً في ذلك أخباراً عن الإمام السجّاد عليه السلام والإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام3. وفي بعض الموارد- مثل أخبار كيفيّة شهادة الإمام عليه السلام - فقد نقلها الأصفهانيّ بأسلوب تركيـبـيّ، فبعد ذكر الأسانيد دفعة واحدة يشرع بذكر النصوص والأخبار. إنّ طريقته الروائيّة، والتزامه بذكر الأسانيد فتح الباب أمام نقد رواياته من جهة السند، وإن كان ما قام به الأصفهانيّ يعطي الأمل بإحياء المقتل المفقود لأبي مخنف (ولو بالمقدار الذي نقله عنه).
 
وأورد أيضاً في بعض الأحيان قصائد عن شعراء الرثاء مثل الكميت بن زيد الأسديّ4 وسليمان بن قتّة5.
 
16- شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار عليهم السلام , القاضي النعمان التميميّ المغربيّ (م 363 هـ).
يُعدّ القاضي المغربيّ من العلماء الشيعة الذين كتبوا مقتلاً عن الإمام الحسين عليه السلام في هذا القرن، وقد روى في كتابه (شرح الأخبار) أكثر من خمسين رواية حول شهادة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة كربلاء والأحداث التي حصلت من بعدها6.
 
لم يكن القاضي النعمان شيعيّاً في الأصل بل كان من أتباع المذهب المالكيّ7 
 
 
 

1- أبو الفرج- مقاتل الطالبيّين- ص 113.
2- المصدر- ص 85- 92- 94- 102- 109 و114.
3- بالترتيب: الأولى- التاسعة وأربع روايات في ص 85- 88- 90- 91- 92- 93- 97- 99- 113.
4- المصدر السابق- ص 90.
5- المصدر نفسه- ص 121.
6- القاضي النعمان- شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار عليهم السلام - ج 3- ص 134- 199- الرقم- 1074- 1128.
7- ابن خلكان- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- ج 5- ص 415.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 (وعلى قولٍ إنّه كان حنفيّاً)1، وأمّا أنّه صار إماميّاً أو إسماعيليّاً فهناك خلاف في ذلك بين من ترجم له، فالكثير من علماء الشيعة وبعض من ترجم له من غير الشيعة عدّوه شيعيّاً إماميّاً، إلّا أنّه لم يظهر ذلك في كتاباته تقيّةً بسبب سلطة الدولة الفاطميّة، ولذا نراه يطلق الكنى على الأئمّة عليهم السلام من بعد الإمام الصادق عليه السلام بطريقةٍ مشتركةٍ بينهم2.

 
أورد النعمان، في البداية، الروايات التي تتحدّث عن شهادة الإمام الحسين عليه السلام والأخبار التي رويت عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام في ذلك، ثمّ ذكر مسير الإمام عليه السلام من المدينة إلى كربلاء، ثمّ شهادة مسلم في الكوفة، والمعركة التي حصلت في كربلاء وشهادة الإمام عليه السلام والأحداث التي وقعت بعد ذلك، مثل أسر أهل البيت عليهم السلام ومجلس ابن زياد ويزيد.
 
وقد نقل قولين فيما يتعلّق باسم عليّ الأكبر، هل هو الإمام السجّاد أم لا؟ وذكر احتمالين بالنسبة إلى عدد أصحاب الإمام عليه السلام هل كانوا (72) شخصاً أو أقلّ من ذلك؟ وحسب ما رواه أيضاً فإنّ قاتل الإمام عليه السلام هو سنان بن أنس النخعيّ، وقاطع رأسه الشريف هو خولّي.
 
وفي جزءٍ من مقتله يبيّن أسماء الشهداء من أهل بيت الحسين عليه السلام, وكانت طريقة القاضي في نقل الأخبارعادةً مع ذكر الأسانيد، إلّا أنّه كان يتّبع أسلوب نقل جزء من السند وترك الجزء الآخر منه، اعتماداً على إسناد الراوي.
17- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد, محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بـ (الشيخ المفيد) المتوفّى عام (413 هـ):
  
 
 

1- ابن تغري البرديّ- النجوم الزاهرة في أحوال ملوك مصر والقاهرة- ج 4- ص 106.
2- يمكن الرجوع للتعرّف على حياته ومعتقداته ومذهبه وكتبه إلى: مقدّمة شرح الأخبار، بقلم المحقّق السيّد محمّد الحسينيّ الجلاليّ- قم مركز المنشورات الإسلاميّة التابع لجماعة المدرّسين- 1409 هـ. ج 1- ص 825- وقد بحث محقّق آخر حول مذهبه بالتفصيل، وأثبت انتماءه للمذهب الإسماعيليّ بالأدلّة والشواهد, راجع ( أمير جوان راسته = قاضي نعمان ومذهب) أو القاضي النعمان ومذهبه- فصلنامه هفت آسمان- السنة الثالثة العدد (9) و (10) 1388- ص (58) وما بعدها.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

43

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 تناول الشيخ المفيد بعد حديثه عن أمير المؤمنين عليه السلام حياة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة عاشوراء في فصلٍ مستقلّ بأكبر حجمٍ ورد في كتابه (ما يقرب من (109)من الصفحات أي سُبع حجم الكتاب تقريباً) وهذا يدلّ على مدى اهتمامه وتعلّقه العظيم بهذه الواقعة ووقعها الخاصّ لديه.

 
وصرّح الشيخ المفيد بأنّ أخبار واقعة كربلاء قد نقلها عن هشام الكلبيّ (الذي كان هو بدوره ينقل أيضاً عن مقتل أستاذه أبي مخنف) وعن المدائنيّ وغيرهما.
 
إنّ مراجعة الأخبار التي أوردها الشيخ المفيد ولو بشكل إجماليّ تظهر لنا بسهولةٍ أنّ معظم الموارد التي ينقل فيها روايات (تاريخ الطبريّ) كانت مع حذف السند وبنحوٍ مختصر، فالمقارنة بين ما هو موجود في تاريخ الطبريّ مع الأسانيد وبين ما نقله الشيخ المفيد يثبت هذا الأمر بوضوح، وفي المقابل يوجد أمر يستحقّ الالتفات في منقولات الشيخ المفيد وهو الاضافات الموجودة عنده, ولا يمكن الحصول عليها في أخبار الطبريّ، على سبيل المثال فقد نقل المفيد كيفيّة قتال أبي الفضل العبّاس وشهادته2 وبيّن مكان دفن عليّ الأكبر والعبّاس وغيرهما من الشهداء3 ممّا لم يذكره الطبريّ أصلاً.
 
18- مقتل الإمام الحسين عليه السلام من كتاب تاريخ الخلفاء (المصنّف الذي عاش ما بين القرن الثالث إلى القرن الخامس مجهول) تحقيق رسول جعفريان:
طبع في موسكو عام 1968 م. كتاب تحت عنوان (تاريخ الخلفاء) لمصنّف مجهول، يحتوي جزء منه على رواية واقعة كربلاء عند كلامه حول خلافة يزيد. يعتقد محقّق ذلك الكتاب أنّ أسلوب كتابة هذا الأثر يتناسب مع كتابات القرن الثالث والرابع، وتتلاءم رواياته مع المتون القديمة والموثّقة.
  
 
 

1- الشيخ المفيد- الإرشاد- ج 2- ص 27- 135.
2- المصدر السابق- ص 108- 109.
3- المصدر نفسه- ص 114.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

44

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 إنّ مؤلّف هذا الكتاب قد استفاد من المصادر القديمة المعتبرة ونقل أخبار واقعة عاشوراء مع حذف الأسانيد وبشكل مختصر وبأسلوبٍ تركيـبـيّ مع تغيير طفيف في العبارات، من دون إضافة شيء جديد إلى المتون.

 
هو لم ينقل خبر الاحتجاج والحوار بين الإمام السجّاد عليه السلام وبين ابن زياد إلّا عن حميد بن مسلم1 (الذي كان من عسكر الأعداء وحضر مجلس ابن زياد ونقل أبو مخنف عنه الكثير من الأخبار بوساطة سليمان بن أبي راشد).
 
يقول المصنّف في آخر حديثه عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام: إنّ ما فصّلناه من القول في سيرة الحسين عليه السلام ومقتله يعدّ قليلاً جدّاً مع ما هو منقول عن الرواة والمحدّثين، وإنّ علّة هذا الشرح والتفصيل هي عدم وقوع مثل هذه الحادثة من قَبل الإسلام ولا من بعده، ولا يوجد لها مثيل حتّى في الديانات الأخرى، بل لم يقع ما هو قريب منها أيضاً!!!2
 
19- تجارب الأمم وتعاقب الهمم, أبو عليّ مسكويه الرازيّ (م 421 هـ):
كتب أبو عليّ مسكويه ما يقرب من (40) صفحة من كتابه هذا حول واقعة كربلاء عند تناوله لوقائع عصر خلافة يزيد، وقد اكتفى في هذا القسم من كتابه بتلك الأخبار الواردة عن الطبريّ في تاريخه من طريق أبي مخنف وغيره من الرواة، وكان نقله لأخبار هذه الحادثة بشكل مختصر وبأسلوب تركيببيّ مع حذف الأسانيد من بداية طلب البيعة ليزيد حتّى عودة أسرى أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة المنوّرة3.
 
20- الإستيعاب في معرفة الأصحاب, أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ القرطبيّ (م 463 هـ):
كتب القرطبيّ تقريباً خمس صفحات حول شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام في

 
 

1- مقتل الحسين عليه السلام - تحقيق رسول جعفريان- مجلة تراثنا الفصليّة (فارسي) العدد 48- ص 244.
2- المصدر السابق- ص 247.
3- ابن مسكويه الرازي- تجارب الأمم وتعاقب الهمم- ج 2- ص 38- 83.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

45

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 هذا الكتاب1. ومن الأمور التي ذكرها خبر يحيى بن معين الذي نقل عن أهل الكوفة أنّ قاتل الإمام عليه السلام هو عمر بن سعد، وقد حاول توجيه كلام الكوفيّين بالقول: إنّ عمر بن سعد هو القاتل باعتبار أنّ شرط حكومة الريّ الذي وعده بها ابن زياد هو قتال الحسين عليه السلام وكان هو قائد جيش إبن زياد في تلك المعركة2.

 
إنّ الأخبار التي ذكرها ابن عبد البرّ- باستثناء بعض الروايات الفقهيّة - لا تحمل شيئاً جديداً، بل هي أخبار مشهورة وردت في مصادر أخرى.
 
21- روضة الواعظين, محمّد بن فتّال النيشابوريّ (م 508 هـ):
لقد رتّب ابن فتّال كتابه هذا بطريقة المجالس، فكتب حول حياة الأئمّة عليهم السلام وحوادث عصرهم تحت عنوان (مجلس)3 ونقل الأخبار الرئيسيّة والأساسيّة عن كتاب الإرشاد للشيخ المفيد، وكتاب الأمالي للشيخ الصدوق، حيث نقل باختصار أخبار شهادة الإمام الحسن عليه السلام وحركة الشيعة في العراق، إلى حين التحاق الحرّ بن يزيد الرياحيّ بالإمام الحسين عليه السلام عن إرشاد الشيخ المفيد4. وأمّا الحوار الذي حصل بين الإمام عليه السلام وبين عبد الله بن حوزة واحتجاجه على الناس، إلى شهادة القاسم فقد نقلها عن الشيخ الصدوق5. ثمّ رجع مرّة أخرى، في نقل شهادة الطفل الرضيع وشهادة الإمام عليه السلام (بشكل مختصر) إلى حين داست الخيل على جسده الشريف، إلى الشيخ المفيد6. ثمّ أورد بعد ذلك عن كتاب الأمالي للشيخ الصدوق أخبار تلطّخ وجه الجواد ورأسه بدماء الإمام عليه السلام وأخبار حضور الأسرى من أهل البيت عليهم السلام في الكوفة واحتجاجاتهم على ابن زياد ويزيد، مع تقديم وتأخير بعض الأخبار، وحذف بعضها الآخر7.
  
 
 
 

1- ابن عبد البرّ- الإستيعاب في معرفة الأصحاب- ج 1- ص 442- 447- الرقم 574.
2- المصدر نفسه- ج 1- ص 443.
2- محمّد بن فتّال النيشابوريّ- روضة الواعظين- ص 169- 195.
3- المصدر- ص 171- 185- يقارن مع (الإرشاد- الشيخ المفيد)- ج 2- ص 32- 100.
4- المصدر نفسه- ص 185- 188- يقارن بالأمالي- الشيخ الصدوق- المجلس 30- ص 221- 226.
5- المصدر نفسه- ص 188- 189- يقارن بالإرشاد- الشيخ المفيد- ج 2- ص 108- 113.
6- المصدر نفسه- 189- 192- يقارن بالأمالي- الشيخ الصدوق- المجلس 30- ص 226- 227- والمجلس 31- ص 228- 232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

46

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وفي الختام، ينقل باختصار خبر عودة أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة المنوّرة، بأمرٍ من يزيد مع مجالس عزاء بني هاشم فيها، عن الشيخ المفيد1.



في الصفحات الثلاث الأخيرة2 من هذا المجلس، وكذا في الصفحتين الأوليين منه3 نجد ابن فتّال قد ذكر عدّة روايات وردت أيضاً، إمّا في كتاب الإرشاد، وإمّا في كتاب الأمالي.


22- إعلام الورى بأعلام الهدى, الفضل بن الحسن الطبرسيّ (م 548 هـ):
تحدّث الشيخ الطبرسيّ في هذا الكتاب عن حياة الإمام الحسين عليه السلام ضمن (59) صفحةٍ في خمسة فصول4:
الفصل الأوّل: ولادة الإمام عليه السلام وعمره الشريف.
الفصل الثاني: ذكر أدلّة إمامته والروايات التي صرّحت بإمامته على لسان والده عليه السلام وأخيه عليه السلام .
الفصل الثالث: بعض خصائصه وفضائله ومناقبه.
الفصل الرابع: ذكر أخبار ثورته على يزيد وشهادته بنحوٍ مختصر. 
الفصل الخامس: عدد أولاده وأسماؤهم.
 
لقد نقل الشيخ الطبرسيّ أخبار واقعة عاشوراء عن الشيخ المفيد وإن لم يصرّح بذلك، وهذا يظهر بسهولةٍ من خلال المقارنة بين ما ذكره الطبرسيّ وبين ما رواه المفيد في هذا الخصوص مع اختصارٍ قليل واختلافٍ يسير في بعض العبارات، نعم هو في آخر ما أورده يذكر القول المختار عند الشيخ المفيد حول دفن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام 5.
  
 
 

1- محمّد بن فتّال النيشابوريّ- روضة الواعظين- يقارن بالإرشاد- الشيخ المفيد- المجلس 30- ص 122- 125.
2- المصدر نفسه- ص 193- 195.
3- المصدر نفسه- ص 169- 171.
4- الطبرسيّ- إعلام الورى بأعلام الهدى- ج 1- ص 420- 478.
5- المصدر نفسه- ص 477.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

47

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 23- مقتل الحسين عليه السلام الموفّق بن أحمد الخوارزميّ (م 568 هـ).

المصنّف هو أبو المؤيّد الموفّق1 بن أحمد بن محمّد2 البكريّ المكّي الحنفيّ المعروف بـ (أخطب خوارزم)- فقيه وخطيب وقاضٍ وأديب وشاعر، لقّب بـ (صدر الأئمّة) و (أخطب خوارزم)3 و(خليفة الزمخشريّ) ولد تقريباً عام (484 هـ)4. وتوفّى في سنة (568 هـ)5.
 
يمكن القول بالنسبة إلى مذهب الخوارزميّ, وباعتبار أنّ المذهب الحنفيّ هو المتعارف في عصره بين الناس في بلاد خراسان الكبرى وما وراء النهر والتي منها منطقة خوارزم, فإنّ الخوارزميّ كان على المذهب الحنفيّ في الفروع، ومن الشواهد القويّة على ذلك كتابه (مناقب أبي حنيفة) الذي يتضمّن فضائل أبي حنيفة، وقد أورد في الكتاب مدحاً كبيراً له في قصيدة طويلة.
 
نعم، في الأصول العقائديّة هو أشعريّ، ولكن وبالرغم من كلّ ذلك فقد كان يحمل ميولاً شيعيّة وعلاقة قويّة بأهل البيت عليهم السلام وهذا ما تدلّ عليه مصنّفاته التي كتبها عنهم عليهم السلام فمضافاً إلى كتاب (مقتل الحسين عليه السلام) فقد صنّف في فضائل أمير المؤمنين كتاباً تحت عنوان: (المناقب) وكتاب (ردّ الشمس لأمير 
  
 
 

1- اعتقد البعض خطأ أنّ اسمه هو (موفّق الدّين) (محمّد بن عبد الحيّ الكنويّ الهنديّ- الفوائد البهيّة في تراجم الحنفيّة- ص 39).
2- اعتبر البعض أنّ جدّ الخوارزميّ يدعى (إسحاق) وكنيته (أبو سعيد) (ياقوت بن الحمويّ- معجم الأدباء- ج 19- ص 212- وجلال الدّين عبد الرحمن السيوطيّ- بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة- ج 2- ص 401- ومحمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ الأصفهانيّ- روضات الجنّات- ج 8- ص 124- وعبد الحسين أحمد الأمينيّ- الغدير- ج 4- ص 398). إلّا أنّ تصريح أكثر علماء الرجال بأنّ جدّه يدعى (محمّد) يدلّ على أنّ هذا القول هو الأقرب إلى الحقيقة. 
3- ذكر البعض من أمثال القرشيّ (عبد القادر بن أبي الوفاء القرشيّ، الجواهر المضيئة- ج 2- ص 188) والفاسيّ (تقيّ الدّين محمّد ابن أحمد الحسنيّ الفاسيّ المكّي، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين- ج 7- 310) أنّ الخوارزميّ يلقّب بـ (خطيب خوارزم) وهذا لا يدلّ على اختلافٍ زائدٍ. طبعاً عندما نعته البعض بصيغة أفعل التفضيل (أخطب) إنّما أراد بذلك إظهار التعظيم والتقدير والإحترام له وبيان تبحّره في إنشاء الخطابة. (راجع الخوارزميّ- المناقب- مقدّمة جعفر السبحانيّ- ص 17).
4- القرشيّ- المصدر نفسه- ج 2- ص 188- السيوطيّ- المصدر- ج 2- ص 401- محمود بن سليمان الكفويّ- أعلام الأخبار من فقهاء مذهب النعمان نقلاً عن: مير حامد حسين النيشابوريّ الهنديّ- عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار عليهم السلام - ج 6- ص 296.
5- جمال الدّين أبو الحسن عليّ بن يوسف القفطيّ- إنباه الرواة على أنباه النحاة- ج 3- ص 232- القرشيّ- المصدر نفسه- ج 2- ص 188- والفاسيّ- المصدر- ج 7- ص 310.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

48

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 المؤمنين عليه السلام) وكتاب (قضايا أمير المؤمنين عليه السلام) و(الأربعين في مناقب النبيّ الأمين) و(وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام).

 
يُعتبر هذا المصنّف (مقتل الحسين عليه السلام) كتاباً تاريخيّاً روائيّاً، حيث ذكر في معظم أخباره السلسلة السنديّة. وقد أخذت أكثر مطالبه- كما صرّح بذلك الخوارزميّ في عدّة مواضع من كتابه - من كتاب الفتوح لابن الأعثم في فصله التاسع إلى نهاية فصله الحادي عشر، وهي الفصول التي تتحدّث عن معاوية حيث شرع بطلب البيعة لولده يزيد وتنتهي بشهادة الإمام الحسين عليه السلام مع أنصاره.
 
كان الخوارزميّ يضيف في بعض الموارد أخباراً على الروايات التي ينقلها عن ابن الأعثم ثمّ يرجع ويقول استمراراً في نقل الأخبار: (قال أحمد بن أعثم الكوفيّ)وقد كان ينقل معظم هذه الأخبار المضافة مسندة عن مشايخه، وعلى رأسهم عند الخوارزميّ: جار الله بن عمر الزمخشريّ (م 538 هـ). وأبو منصور الشهردار بن شيرويه الديلميّ (م 558 هـ). والحسن بن أحمد العطّار الهمدانيّ (م 544 هـ). وأبو الحسن عليّ بن أحمد العاصميّ.


فصول مقتل الخوارزميّ:
يحتوي كتاب الخوارزميّ على مقدّمةٍ وخمسة عشر فصلًا ضمن جزءين في مجلّدٍ واحد. يشتمل الجزء الأوّل على عشرة فصول، والقسم الأوّل من الفصل الحادي عشر، ويتضمّن الجزء الثاني القسم الثاني من الفصل الحادي عشر، والفصول الأربعة المتبقّية. أمّا عناوين هذه الفصول فهي على النحو الآتي:
الجزء الأوّل:
1- بعض فضائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
2- فضائل خديجة بنت خويلد.
  
 
 

1- الخوارزميّ - مقتل الحسين عليه السلام - ج 1- ص 254- 263- 308- 323.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 3- فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أمّ أمير المؤمنين عليه السلام.

4- بعض فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
5- فضائل فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
6- فضائل الحسن والحسين عليهما السلام.
7- الفضائل الخاصّة بالحسين عليه السلام .
8- تنبّؤ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول الحسين عليه السلام وما يجري عليه.
9- ما جرى بين الحسين عليه السلام وبين الوليد بن عتبة ومروان بن الحكم في المدينة، على عهد معاوية وبعد مماته.
10- ما حصل مع الحسين عليه السلام حين إقامته في مكّة، والرسائل التي وصلت إليه من أهل الكوفة، وإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة وشهادته هناك.
11- خروج الحسين بن عليّ عليه السلام من مكّة إلى العراق، والحوادث والوقائع التي حصلت أثناء المسير، ونزوله في أرض الطفّ (القسم الأوّل).

الجزء الثاني: شهادة الإمام الحسين عليه السلام (القسم الثاني).
12- العقوبات التي نزلت بقتلة الحسين عليه السلام .
13- بعض قصائد الرثاء التي قيلت في الحسين عليه السلام .
14- زيارة الحسين وفضيلتها.
15- الانتقام الذي نفّذه المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ ثأراً للحسين عليه السلام .
وقد تعرّض الخوارزميّ، في نهاية هذا الفصل، لحادثة قتل مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله.

الخوارزميّ وابن الأعثم:
إنّ الخوارزميّ، وكما سبق معنا، قد استفاد كثيراً في روايته لواقعة كربلاء، من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بدايتها إلى ما قبل يوم عاشوراء، من كتاب الفتوح لابن الأعثم, ولكن عند المقارنة بين أخبار ابن الأعثم وبين الروايات التي أوردها الخوارزميّ نجد بعض الإضافات والاختلافات والاختصارات, والظاهر أنّ سبب ذلك يعود إلى عوامل ثلاثة، الأوّل: أنّ كتاب الفتوح له نسخ متعدّدة، وهي مختلفة من جهة الزيادات والاختصارات، وممّا يشهد لهذا المدّعى، اختلاف النسخ الموجودة فعلاً عن النقل الذي ذكره الخوارزميّ، ومن الأمثلة البارزة على ذلك اختلاف الأشعار التي ذكرها ابن الأعثم، في الفتوح، من جهة الكمّ ومن جهة المضمون، عن الأشعار التي أوردها الخوارزميّ في مقتله.

 
الثاني: أنّ الخوارزميّ كان من أصحاب المنبر والخطابة، وقد كان لهذا العمل تأثير كبير في تغيير بعض روايات ابن الأعثم من ناحية الكمّ، أو من ناحية الكيف، أو النقل بالمعنى لتصبح تلك الأخبار أكثر قبولًا عند القرّاء، وأقوى منطقاً لدى المستمعين. طبعاً هذا التغيير في الكثير من الموارد كان إلى حدّ عدم تحريف أصل الوقائع والأحداث.
 
الثالث: أنّ الحوادث والقضايا التاريخيّة يقع فيها- في الأعمّ الأغلب- بعض التغييرات والإضافات والاختصارات، لا سيّما مع طول المدّة الزمنيّة الفاصلة بين المؤلّفين الذين يشرعون بالكتابة في القرون المتأخّرة، وبين وقائع القرون الغابرة، فيقع حينئذٍ تلك التبدّلات عند الحديث عن التفاصيل والتفريعات التي لا يوجد منها أيّ أثرٍ في مصادرها الأوّليّة.
 
24- مقتل الحسين عليه السلام: أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمّد البكريّ (القرن الخامس والسادس).
كتب البكريّ رسالة مختصرة حول الإمام الحسين عليه السلام, يوجد نسخة منها محفوظة باسم (حديث وفاة سيّدنا الحسين عليه السلام) في مكتبة جامعة القرويّين في مدينة فاس في مراكش تحت الرقم (575/3، ص 77- 86)1.
  
 
 

1- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ - أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة- ص 548- الرقم 706.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

51

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 انتقد علماء الرجال من أهل السنّة البكريَّ انتقاداً لاذعاً ونعتوه بـ(الكذّاب الدجّال)1 و(القصّاص) وأشدّ كذباً من مسيلمة الكذّاب2. وأضاف ابن حجر قائلاً: إنّ البكريّ أورد في كتابه المشهور (الذروة في السيرة النبويّة) أخباراً في حروب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إمّا أنّها غير موجودة أصلاً، وإمّا أنّه نقلها بطريقةٍ خاطئة ومغلوطة3.

 
إنّ رسالة البكريّ هذه، وإن كانت مختصرة، إلّا أنّ أسلوب كتابتها كان مميّزاً وعلى طريقة القصّاصين والأدباء، وكانت هذه طريقة جديدة ومبتكرة من أمثال البكريّ الذي عاش في القرن الخامس والسادس، وقد كان هذا فتحاً جديداً في عرض تاريخ عاشوراء بهذه الطريقة التي سلكها البكريّ في كتابه "الذروة في السيرة النبويّة".
 
25- ترجمة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام (من تاريخ مدينة دمشق): أبو القاسم عليّ بن الحسن هبة الله الشافعيّ المعروف بـ (ابن عساكر الدمشقيّ) - (م 571 هـ).


عندما شرع ابن عساكر بالحديث عن العظماء والأشخاص البارزين الذين سكنوا دمشق أو جاؤوا إليها وإلى أطرافها وضواحيها، تعرّض للكلام حول الإمام الحسين عليه السلام 4. وقد تضمّن كلامه عن الإمام عليه السلام وواقعة كربلاء من الروايات (402) رواية استغرقت من الصفحات (150) صفحة ولو أنّ الكثير منها مكرّر.
 
إنّ هذا الكتاب لا يتمتّع بنظمٍ وترتيبٍ مناسبَيْن، بل في بعض القضايا والعناوين نجد الأخبار موجودة بشكلٍ متفرّقٍ ومشتّت5. إلّا أنّ الأمر الذي يلفت الانتباه في
  
 


1- الذهبيّ - ميزان الاعتدال - ج 1- ص 112- وابن حجر- لسان الميزان- ج 1- ص 202.
2- الذهبيّ - سير أعلام النبلاء- ج 19- ص 36.
3- ابن حجر- المصدر نفسه.
4- تاريخ مدينة دمشق- ج 14- ص 111- 260- الرقم 1566- وقد قام أيضاً المحقّق الجليل محمّد باقر المحموديّ بتحقيق هذا القسم وطبعه مستقلّاً تحت عنوان (ريحانة رسول الله الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق). مضافاً إلى ما اختاره المحقق السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ من أخبار هذا الكتاب، وطبعه ضمن عدّة أبوابٍ تحت عنوان (الحسين عليه السلام سماته وسيرته. 
5- كما ورد في الأخبار المتعلّقة بولادة الإمام وشهادته وعمره الشريف، والروايات التي تتحدّث عن العقوبات التي نزلت بقتلة الإمام عليه السلام .


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

52

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 مصنّف ابن عساكر هو نقله قسماً من مقدّمة مقتل ابن سعد1 بأسانيدها المذكورة عنده أيضاً2. هذا بالاضافة إلى الأخبار الأخرى التي أوردها أيضاً عن ابن سعد بصورةٍ متفرّقة في تاريخ دمشق3:



أولاً: إنّ المصنّف اختار من الأخبار ما كان غير مشهور ومعروف منها، بل ذكر بعض المسائل والقضايا التفصيليّة القليلة الأهمّيّة من تلك الروايات.


ثانياً: ما أشرنا إليه سابقاً، وهو التكرار الزائد لمضامين الروايات التي نقلها ابن عساكر؛ يوجد مثلاً ما يقرب من مائة رواية تتحدّث عن يوم وسنة ولادة الحسين عليه السلام وشهادته ومدّة عمره الشريف، واسمه وكنيته4، وأكثر من (120) رواية (أي أكثر من ربع سيرة الإمام عليه السلام) حول مناقبه وفضائله5. هنا نجد أنّ هذين القسمين من الأخبار يحتويان على الكثير من الروايات المتكرّرة، وهناك أكثر من ثلاثين روايةٍ تتحدّث عن تنبّؤ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام بمقتل الإمام الحسين عليه السلام ويوجد أكثر من عشر روايات تذكر منع بعض الأشخاص الإمام عليه السلام من الذهاب إلى الكوفة7، وأكثر من عشرين رواية حول ثورة الإمام عليه السلام مع الخطب التي ألقاها في يوم عاشوراء8، وأكثر من عشرين خبراً يتحدّث عن الوقائع الغريبة والخارقة للعادة التي حصلت بعد شهادته عليه السلام9، وهناك عشرون رواية 
  
 
 

1- ابن سعد- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله- ص 53- 63- الرقم 282- 285.
2- ابن عساكر- ترجمة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام - ص 287- 301- الحديث 255- 258- وله أيضاً: تاريخ مدينة دمشق- ج 14- ص 204- 213.
3- راجع مثلاً: ابن عساكر- المصدر- ص 37- والحديث 31- ص 275- 276- والحديث 241- 242- ص 308- 309- والحديث 266- 268 وص 386 الحديث 310- 311- يقارن بالترتيب بروايات إبن سعد في كتابه ص 17- 49- 50- والحديث 278- 280- ص 64 والحديث 290 وص 90- الحديث 320.
4- ابن عساكر- ترجمة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام - ص 20- 40- الحديث 10- 38- وص 412- 443- الحديث 349- 396.
5- المصدر نفسه- ص 51- 199- رقم الخبر 55- 177.
6- المصدر السابق- ص 236- 275- الحديث- 213- 240- وص 341- 344- الخبر 278- 280.
7- المصدر نفسه- ص 278- 285- الحديث 244- 254 وأيضاً ص 288- 293- 298.
8- المصدر السابق- ص 287- 325 و340- الخبر 255- 277.
9- المصدر نفسه- ص 353- 367- الحديث 287- 309.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

53

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 تتضمّن العقوبات التي نزلت بقتلة الإمام عليه السلام 1، وأمّا ما تبقى من الأخبار فهي متفرّقة ومختلفة في مضامينها وموضوعاتها.

 
كما يلاحظ، فإنّ ابن عساكر - وبالمقارنة بحجم الترجمة التي عرضها حول الإمام الحسين عليه السلام - نجد فقط ما يقرب من العشرين رواية تتحدّث عن ثورة الإمام عليه السلام وشهادته مع أنصاره، مضافاً إلى بيان ما هو الأهمّ أيضاً من كلّ ذلك، وهو الهدف من نهضته عليه السلام. إنّ السبب في هذا الإجمال يكمن في كونه من أهالي بلاد الشام ومن سكّان دمشق الذين كانوا يوالون بني أميّة ويؤيّدونهم، كما هو حال الكثير من مؤرّخيهم، ولا نجد لديهم في المقابل اهتماماً ملحوظاً بأهل البيت عليهم السلام ولا المحبّة لهم، ولذا نرى هؤلاء لا يذكرون، كما ينبغي، جنايات بني أميّة التي ارتكبوها في حقّ الإمام الحسين عليه السلام وعياله وأنصاره في واقعة عاشوراء.
 
الأمر الأخير الذي يجدر ذكره هنا، هو أنّ المزّيّ2 (م 742 هـ) والذهبيّ3 (م 748 هـ) نقلا الكثير من روايات ابن عساكر فيما يرتبط بسيرة الإمام الحسين عليه السلام وثورته.
 
26- مناقب آل أبي طالب أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن شهرآشوب (م 588 هـ):
تناول ابن شهرآشوب الحديث عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام في فصل مستقلٍّ عندما تعرّض لسيرة الإمام عليه السلام وفضائله ومناقبه، فهو بعد أن بيّن في عدّة فصول شيئاً من معجزات الإمام عليه السلام ومكارم أخلاقه والحوادث الخارقة للعادة التي حصلت بعد شهادته، وبعد أن أورد بعض الأخبار التي تبيّن المحبّة الشديدة والعلاقة القويّة بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبين الإمام الحسين عليه السلام والتي تتحدّث أيضاً عن تاريخ ولادته وألقابه، وعندها شرع بالبحث حول واقعة عاشوراء.
  
 
 

1- ابن عساكر- ترجمة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام - ص 368- 376- الحديث 310- 317- وص 446- 448- الحديث 398- 399.
2- جمال الدّين أبو الحجّاج يوسف المزّي- تهذيب الكمال في أسماء الرجال- ج 6- ص 396- 449- الرقم 1323.
3- شمس الدّين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ- سير أعلام النبلاء- ج 3- ص 280- 321- الرقم 48.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

54

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 كما هو واضح من عنوان الكتاب فإنّه ليس مصنّفاً تاريخيّاً، بل إنّ المؤلّف حاول جمع الأخبار والروايات حول مناقب الأئمّة عليهم السلام وفضائلهم، مع الإشارة إلى شيء من وقائع عصرهم، من دون مراعاةٍ للترتيب الزمنيّ فيها.

 
إنّ ابن شهرآشوب، وبسبب مراعاة الاختصار في كتابه واجتناب التفصيل والتطويل فيه، لم يتعرّض إلى جزئيّات واقعة عاشوراء وتفصيلاتها، لكنّه تناولها بالإجمال مضافاً إلى أنّه لم يراع كثيراً الترتيب الزمنيّ بين الأحداث، بل لم يتعرّض أصلاً لكثير من الوقائع بسبب اختياره بعضها دون البعض الآخر.
 
وقد نقل المصنّف حول سيرة الإمام الحسين عليه السلام ومناقبه وواقعة عاشوراء وشهادته عليه السلام روايات عديدة عن الإمام السجّاد عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام, مضافاً إلى الأخبار التي أوردها عن مصادر متعدّدة مثل: أنساب الأشراف للبلاذريّ، وتاريخ الطبريّ، ومقتل ابن بابويه، وفضائل العشرة لأبي السعادات، وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهانيّ، وعن أشخاصٍ مثل أبي مخنف، وشعيب بن عبد الرحمان الخزاعيّ، والسيّد الجرجانيّ، وابن مهديّ المامطيريّ وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وشاكر بن غنمة وأبي الفضل الهاشميّ.


هنا يجدر ذكر بعض الأمور حول الأخبار والروايات التي نقلها ابن شهرآشوب:
الأوّل: يعتبر ابن شهرآشوب الشخص الوحيد، بعد ابن الأعثم، الذي ينقل كلام الإمام الحسين عليه السلام المشهور "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً...", إلّا أنّه مع وجود فارقٍ بينهما وهو أنّ ابن شهرآشوب يعتبر هذا الكلام جواباً من الإمام عليه السلام (وليس وصيّة خطيّة منه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة) لأشخاص من أمثال محمّد بن الحنفيّة، وعبد الله بن مطيع وابن عبّاس الذين حاولوا منع الإمام عليه السلام من الذهاب إلى العراق224. 
 
الثاني: أنّ ابن شهرآشوب، وإن كان قد نقل بعض الأخبار عن أبي مخنف، ولكنّه 
  
 
 

224- ابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 96- 97.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

55

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 في بعض الموارد، روى عنه روايات1، مضافاً إلى أنّها غير معقولة ولا يمكن القبول بها، فإنّنا لا نجد لها أثراً في المصادر القديمة المعتبرة. وهنا يظهر أنّ الأخبار المجعولة التي نسبت إلى أبي مخنف كانت رائجة في عصر ابن شهرآشوب الذي نقل بعضاً منها.

 
الثالث: إنّ ابن شهرآشوب وإن لم يصرّح بأنّ أخبار مبارزات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وارتجازاتهم منقولة عن فتوح ابن الأعثم، إلّا أنّه، ومع قليل من التأمّل والبحث والمقارنة بين هذين الكتابين، يتبيّن بسهولةٍ التشابه الكبير بينهما، وأنّ ابن شهرآشوب قد نقل الكثير عن كتاب ابن الأعثم2.
 
الرابع: إنّ ابن شهرآشوب هو المؤرّخ الوحيد من المتقدّمين الذي نقل أخباراً حول واقعة كربلاء لا يمكن تعقّلها ولا القبول بها، مثلاً هو يروي أنّ قتلى الأعداء بيد الإمام الحسين عليه السلام - ما عدا الجرحى - قد بلغ (1950) رجلاً3. وكذا ما ذكره حول شهادة أبي الفضل العبّاس، فإنّه يختلف عمّا رواه الشيخ المفيد.
 
الخامس: إنّ هذا الكتاب يعدّ أقدم مصدر للأراجيز التي أطلقها العبّاس، وما قاله أيضاً الإمام الحسين عليه السلام منها4، في يوم عاشوراء والتي لم يرد ذكرها في أيّ مصدر آخر..


27- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد بن الجوزيّ (م 597 هـ).
تحدّث ابن الجوزيّ في جزء من كتابه عن واقعة عاشوراء عند عرضه لوقائع سنة 
  
 
 

1- ابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 65- 66.
2- المصدر السابق- ص 109- 118- يقارن بابن الأعثم- كتاب الفتوح- ج 5- ص 101- 115- كان ابن شهرآشوب بعد نقله مبارزة كلّ واحد من أصحاب الإمام عليه السلام وما يرتجزه من الأشعار، يذكر عدد قتلى عسكر عمر بن سعد بأعداد كبيرة لا يعلم المصدر الذي اعتمد عليه.
3- المصدر نفسه- ج 4- ص 120.
4- مثل أبيات: "أنا الحسين بن عليّ أحمي عيالات أبي...".


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

56

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 (60 و61 هـ)1. وكانت طريقة كتابته تركيبيّة مع حذف الأسانيد، ورواياته في هذا المجال شبيهة جدّاً بروايات الطبريّ، ولو أنّه كان يذكر في بعض الموارد أخباراً مسندة2.

 
28- الكامل في التاريخ: عزّ الدّين أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم المعروف بـ (ابن الأثير) (م 630 هـ).
كتب ابن الأثير كتابه (الكامل في التاريخ) بعد الطبريّ بثلاثة قرون وقد صرّح بنفسه في مقدّمة كتابه3, أنّ معظم روايات هذا الكتاب مقتبسة من تاريخ الطبريّ، ولذا نراه قد نقل أيضاً أخبار حوادث سنة (60 و61 هـ). حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام عن روايات الطبريّ مع الاختصار وحذف الأسانيد4. طبعاً هو صرّح أيضاً في مقدّمة الكتاب5 أنّه قام بزيادة بعض الاضافات ضمن روايات الطبريّ6 أو في أواخرها 7. وفي مصنّف آخر لابن الأثير وهو (أُسْد الغابة في معرفة الصحابة) تعرّض فيه للحديث عن ولادة الإمام الحسين عليه السلام وشهادته وبعض مناقبه وثورته ضمن خمس صفحات8. وقد صرّح في قضيّة قاتل الإمام عليه السلام بعد نقله أقوالاً عديدة: إنّ الصحيح أنّ قاتل الحسين بن عليّ هو سنان بن أنس9.
 
29- مثير الأحزان: نجم الدّين جعفر بن محمّد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله ابن نما المشهور بـ (ابن نما الحلّي) (م 645 هـ)10.
  
 
 
 

1- ابن الجوزيّ- المنتظم- ج 5- ص 322- 329- 335- 347.
2- المصدر السابق- ج 5- ص 342- 346.
3- ابن الأثير- الكامل في التاريخ- ج 1- ص 5.
4- المصدر نفسه- ج 3- ص 263- 303.
5- المصدر السابق.
6- كما في نقل بيتين عن عمر بن سعد: (أأترك ملك الريّ والريّ منيتي...)- (المصدر- ج 3- ص 283).
7- كما في نقل خبرين حول شهادة الإمام الحسين عليه السلام أحدهما عن ابن عبّاس والآخر عن أمّ سلمة (المصدر- ج 3- ص 303).
8- ابن الأثير- أسد الغابة في معرفة الصحابة- ج 2- ص 18- 22.
9- المصدر السابق- ص 21.
10- اختلف العلماء حول سنة وفاته، قال الشيخ آقا بزرك إنّها عام 645- (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)- ج 13- ص 170- وج 19- ص 349 وأمّا المحدّث القمّي فقد اعتبر أنّ تلك السنة هي عام وفاة أبيه نجيب الدّين، ولم يذكر سنة وفاة نجم الدّين (الكنى والألقاب- ج 1- ص 442).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

57

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 رتّب ابن نما هذا الكتاب حول واقعة كربلاء في ثلاثة مقاصد، الأوّل: يتحدّث عن الأمور التي حصلت قبل معركة كربلاء، مثل ولادة الإمام الحسين عليه السلام وتنبّؤ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الإمام عليه السلام ووقائع ثورة عاشوراء من حين موت معاوية وطلب البيعة ليزيد وخروج الإمام عليه السلام من المدينة إلى حين الوصول إلى كربلاء، وأيضاً عرض النشاطات والتحرّكات الشعبيّة، وثورة مسلم بن عقيل.

 
المقصد الثاني: تحدّث فيه المصنّف بشكل مختصر، عن أيّام الإقامة في كربلاء، وليلة عاشوراء ويومها، ووقائع المعركة وشهادة بني هاشم، إلى حين شهادة الإمام عليه السلام وبعض الحوادث التي وقعت بعد الشهادة.
 
المقصد الثالث: يتناول فيه بعض القضايا التي حصلت بعد الشهادة وبيان حادثة أسر أهل البيت عليهم السلام وحملهم إلى الكوفة ثمّ إلى الشام ثمّ إرجاعهم إلى المدينة المنوّرة.


نقل الخوانساريّ عن الشهيد الثاني احتمال أن يكون كتاب (مثير الأحزان) وكتاب آخر له باسم (ذوب النضار) ليسا لابن نما بل لحفيده الذي يحمل اسم جدّه1. إلّا أنّ العلّامة السيّد محسن الأمين ردّ هذا الكلام بقوله: ليس معلوماً أن يكون لابن نما حفيد يحمل اسمه2.


30- الحدائق الورديّة في مناقب الأئمّة الزيديّة: حميد بن أحمد بن محمّد المحلَّى (م 652 هـ).
تحدّث المحلَّى الذي يعدّ من علماء الزيديّة ومحقّقيهم، في كتابه هذا، بما يقرب من خمسين صفحة3 حول ثورة الإمام الحسين عليه السلام عند بحثه في سيرة الأئمّة الذين خاضوا ثورات ضدّ حكّام وسلاطين زمانهم.
  
 


1- محمّد باقر الخوانساريّ- روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات- ج 2- ص 179.
2- السيّد محسن الأمين العامليّ- أعيان الشيعة- ج 4- ص 159.
3- المحلّى- الحدائق الورديّة في مناقب الأئمّة الزيديّة- ج 1- ص 188- 234.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

58

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 فبعد عرضه لأخبار ولادة الإمام عليه السلام وخصائصه وصفاته ومناقبه، تحدّث، باختصارٍ، عن ثورة عاشوراء، معتمداً على الروايات المشهورة. إنّ من مميّزات هذا الكتاب اللافتة للنظر هو تعداده لأسماء شهداء كربلاء التي نقلها عن الفضيل بن الزبير وإن لم يصرّح المحلَّى بذلك إلّا أنّه عند المقارنة بين الكتابين يظهر جليّاً أنّ الجزء الأكبر من هذا الموضوع قد نقله عن الفضيل.

 
ومن الروايات التي ذكرها أيضاً بيان حوادث ما بعد شهادة الإمام عليه السلام وحمل الأسرى إلى الكوفة ثمّ الشام، واحتجاجاتهم هناك، إلى حين العودة إلى المدينة.


ونقل أيضاً زيارة جابر وعطيّة العوفيّ لقبر الإمام الحسين عليه السلام ومحاولة المتوكّل لمحو أثر القبر الشريف.
 
في الصفحات الأخيرة يذكر المحلَّى قصائد بعض الشعراء في رثاء الإمام عليه السلام. ومن رواياته المثيرة للاهتمام تعيين سنة ولادة عليّ الأكبر، ويعتبرها قبل نهاية خلافة عثمان بسنتين أي في عام (33 هـ)1. هذا، مع أنّ بعض المصادر المتقدّمة، مثل مقاتل الطالبيّين، ذكرت أنّ عليّ الأكبر قد ولد في عهد خلافة عثمان، من دون تعيين أيّ زمانٍ في ذلك. يمكن القول- بشكلٍ عامّ- إنّ المصنّف قد استفاد كثيراً، في روايته وقائع ما بعد الشهادة، من كتاب (مقتل الحسين عليه السلام ) للخوارزميّ.
 
31- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة عليهم السلام يوسف بن قزغليّ البغداديّ المعروف بـ (سبط بن الجوزيّ) (م 654 هـ):
تحدّث سبط بن الجوزيّ بما يقرب من ثلث المجلّد الثاني من هذا الكتاب، في الباب التاسع حول سيرة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته2 في البداية، وبعد الإشارة إلى تاريخ ولادة الإمام عليه السلام وكنيته وألقابه، نقل أخباراً تدلّ على المنزلة
  
 
 

1- المصدر السابق- ص 201.
2- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة عليهم السلام - ج 2- ص 115- 282.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

59

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 والمكانة الخاصّة للحسين عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الروايات حول موقف الإمام الحسين عليه السلام من الخليفة الثاني ومروان بن الحكم. ثمّ أورد تحت عنوان (ذكر سيرته مختصراً) روايات ثورة كربلاء التي بدأت مع موت معاوية وطلب البيعة ليزيد. إنّ إحدى الروايات التي تفرّد ابن الجوزيّ في نقلها بالتفصيل هي رواية الرسالة التي بعث بها يزيد إلى ابن عبّاس ليمنع الإمام الحسين عليه السلام من القيام بثورته، مع ذكر جواب ابن عبّاس عليها1.

 
ومن ثمّ يتناول بالحديث ثورة مسلم في الكوفة، وشهادته وذهاب الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، واستشهاده مع أنصاره، وذكر أسماء شهداء بني هاشم. ونقل حول قاتل الإمام عليه السلام عدّة أقوالٍ، ثمّ صرّح بأنّ أصحّها هو سنان بن أنس النخعيّ بمشاركة الشمر.
 
البحث الآخر الذي تعرّض له سبط بن الجوزيّ ما يرتبط بحمل الأسرى مع الرؤوس إلى الكوفة والشام.
وذكر بالنسبة إلى مكان دفن رأس الإمام عليه السلام خمسة أقوالٍ ثمّ قال: ففي أيّ مكان رأسه أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر، قاطن في الأسرار والخواطر, أنشدنا بعض مشايخنا في هذا المعنى:2
لَاْ تَطْلُبُوْا المَوْلَىْ حُسَيْنَ    بِأَرْضِ شَرْقٍ أَوْ بِغَرْبِ
وَدَعُوْا الجَمِيْعَ وَعَرِّجَوْا      نَحْوِي فَمَشْهَدُهُ بِقَلْبِي 
 
وأمّا المطالب المتبقيّة من هذا الفصل فهي: بعض المرثيّات الواردة في الإمام عليه السلام ثمّ ذكر الحمرة التي ظهرت في السماء بعد شهادته عليه السلام وما لحق ذلك، ورسالة يزيد إلى ابن عبّاس (بعد شهادة الإمام عليه السلام) وجوابه
  
 


1- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة عليهم السلام - ج 2-ص 133- 136- ذكر ابن سعد باختصار خبر الرسالة وجوابها- (ترجمة الحسين عليه السلام ومقتله- ص 59- 60)
2- المصدر نفسه- ج 2- ص 206- 209.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

60

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 عليها, وأولاد الحسين عليه السلام, وجزاء قتلة الإمام عليه السلام والانتقام من الذين اعتدوا عليه عليه السلام, (وثورة التوّابين والمختار وقتل ابن زياد). وفصل حول جواز لعن يزيد بن معاوية.



من الروايات المثيرة للانتباه، في هذا الكتاب، ذكر خبر شهادة الطفل الرضيع، حسب رواية هشام الكلبيّ (تلميذ أبي مخنف) التي تختلف عن الروايات الواردة في المصادر المتقدّمة ويقول: عندما أخذ الطفل بالبكاء من شدّة العطش تناوله الإمام عليه السلام بين يديه ونادى بالناس: "أيّها القوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل", فرمى أحد الأعداء الطفل بسهم فقتله1
 
المسألة الأخرى التي تستحقّ الالتفات، في هذا الكتاب، هي أنّ ابن الجوزيّ كان في حوزته بعض المقاتل المفقودة في زماننا الحاضر، والتي نقل عنها بعض المؤرّخين المتقدّمين في مصنّفاتهم، وقد نقل ابن الجوزيّ بعض الأخبار عن تلك المقاتل، كما نقل في عدّة مواضع عن مقتل الحسين لمحمّد بن هشام الكلبيّ2 والواقديّ3 والمدائنيّ4 وابن أبي الدنيا5، وهذا ممّا يدلّ على أنّ هذه المقاتل كانت لا تزال موجودة إلى القرن السابع، وما قبل غزو المغول لبلاد المسلمين.
 
32- درر السِّمْط في خبر السِّبْط: محمّد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعيّ المعروف بـ (ابن أبار البلنسيّ) (م 658 هـ):
هذا الكتاب هو عبارة عن رثاء نثريّ في الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، كما أنّ مصنَّفه الآخر (معادن اللجين في مراثي الحسين عليه السلام) هو رثاء شعريّ في ذلك.
 
إنّ نثر هذا الكتاب (درر السمط) عميق ومعقّد ومسجّع، يحتوي على نكاتٍ أدبيّة
  
 
 

1- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ من الأمّة بذكر خصائص الأئمّة عليهم السلام - ج 2- ص 164.
2- المصدر- ج 2- ص 135- 145- 148- 156- 163- 167- 172- 182- 185- 187- 203- 206- 207.
3- المصدر نفسه- ص 133- 134- 138- 151- 154- 157- 163- 171- 182- 187- 193- 198- 199- 209.
4- المصدر- ص 179- 187- 225. 
5- المصدر- ص 184- 188- 197- 199- 200.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

61

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وقد أنشئ على طريقة المقامات، ومتن ألفاظه مختصر، طبع هذا الكتاب في (126) صفحة مع حواشٍ لمصحّحه ومحقّقه، الذي تناول حياة المصنّف ومكانته العلميّة وقيمة كتابه إلى الصفحة (60) بما يقرب من خمسين صفحة، وأمّا الصفحات المتبقيّة (66 صفحة) فما يقرب من نصفها يُعتبر حواشيَ وهوامشَ، وعليه فإنّ أصل الكتاب لا يتعدّى (30) صفحة يتضمّن نصفها الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام1.

 
لا يوجد لمطالب هذا الكتاب عناوين، بل كلّ قسمٍ منه يبدأ بعنوان (فصل). وقد أشار المصنّف، في حديثه عن نهضة عاشوراء، إلى الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة للحسين عليه السلام وإرسال مسلم إليهم، وخروج الإمام عليه السلام من مكّة وذهابه إلى العراق، وملاقاته مع الحرّ وشهادته في آخر المطاف. وقد عدّ البعض البلنسيّ شيعيّاً بسبب المدائح التي أبداها للحسين عليه السلام وأنواع الذمّ والتقريع الذي كاله ليزيد2. كتب أبو سعيد بن مسعود الماغوسيّ (م 1016 هـ) في أوائل القرن الحادي عشر، شرحاً على كتاب البلنسيّ باسم (نظم الفرائد الغرر في سلك فصول الدرر)3.
 
33- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام - (من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب) كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبيّ المشهور بـ (ابن العديم) (م 660 هـ).


يحتوي هذا الكتاب على (248) رواية حول الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء وهو مأخوذ من كتاب (ابن العديم) المفصّل, من استخراج وتحقيق وتصحيح بعض المحقّقين المعاصرين.
  
 
 

1- الفصول التي تتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام من الصفحة 93 وما بعدها.
2- الشيخ آقا بزرك- المصدر- ج 4- ص 409- وج 8- ص 124- 125.
3- للإطّلاع أكثر حول هذا الكتاب يراجع- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة- ص 165- 167- 647- 648.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

62

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 إنّ أسلوب السرد الروائيّ، في هذا الأثر من ناحية المطالب والمباحث والموضوعات، شبيه بما هو موجود في كتاب ابن عساكر، ما عدا الجزء المتعلّق بالمقتل فإنّه مقتبس من كتاب الدينوريّ (الأخبار الطوال)1 كما صرّح بذلك الكاتب نفسه.

 
34- الملهوف على قتلى الطفوف عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (م 664 هـ):
رتّب السيّد ابن طاووس هذا الكتاب على ثلاثة عناوين وأقسام، كما فعل ابن نما في كتابه مثير الأحزان. في القسم الأوّل تحدّث عن الأمور التي حصلت قبل معركة كربلاء، والقسم الثاني فيه بيان لمعركة يوم عاشوراء، والقسم الثالث يعرض وقائع ما بعد الشهادة.
 
وقد ذكر المصنّف أنّ الهدف من تصنيف هذا الكتاب هو اصطحاب زائري الإمام الحسين عليه السلام كتاباً في المقتل، مضافاً إلى كتاب (مصباح الزائر وجناح المسافر) ليكتفوا به عن أيّ مقتل آخر، وقد جعل ابن طاووس هذا المقتل مختصراً ليتناسب مع وقت الزائرين الضيّق2. وفي رأيه أنّ كلّ من يطّلع على هذا الكتاب وعلى ترتيبه سيكتشف علّة اختصاره، وما يمتاز به من بقيّة المقاتل3.
 
إنّ الأخبار والروايات التي رواها ابن طاووس وطريقة كتابتها واختياره للمطالب تشبه كثيراً ما هو موجود في كتاب (مثير الأحزان) وإن ذكر هو- حسب رأيه - أنّ أحداً لم يسبقه في كتابة هذا المقتل بخصائصه وامتيازاته من قبل أبداً4.
 
وهناك بعض الروايات التي تفرّد بنقلها السيّد ابن طاووس، مثل حديث (المشيّة) المشهور، وكذا الحوار الذي حصل بين محمّد بن الحنفيّة وبين الإمام الحسين عليه السلام 
  
 


1- ابن العديم- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام - ص 141- 156- يقارن قسم المقتل من هذا الكتاب برواية الدّينوريّ حول هذا الموضوع في كتابه: الأخبار الطوال- ص 247- 261.
2- السيّد ابن طاووس- الملهوف على قتلى الطفوف- ص 87.
3- المصدر السابق- ص 234.
4- محمّد الإسفندياريّ- مصنّفات سيرة الإمام الحسين عليه السلام - ص 80 نقلاً عن السيّد ابن طاووس- الإجازات لكشف طرق المغازات فيما يخصّني من الإجازات- ص 65.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

63

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 أثناء خروجه من مكّة، ومثل القولين المشهورين عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الأوّل: "إنّ الله شاء أن يراك قتيلاً", جواباً لمن سأل: لماذا يريد الإمام عليه السلام الخروج من مكّة؟. والثاني: "إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا", جواباً لمن سأل عن علّة إخراج الإمام عليه السلام للنساء معه1. إنّ هذا الخبر وإن لم يكن موجوداً في أيّ مصدرٍ سابقٍ على كتاب (الملهوف) إلّا أنّه وحسب بعض نسخه فإنّ ابن طاووس قد نقل هذا الخبر من مصدرٍ قديم تحت عنوان (أصل أحمد ابن الحسين بن عمر بن بريدة) الذي ينقل هو بدوره عن شخصٍ آخر باسم محمّد بن داود القمّي2.

 
مضافاً إلى ما ذكر فإنّ بعض روايات هذا الكتاب مأخوذة من مقتل الخوارزميّ الذي ينقل هو بدوره- وكما سبق القول منّا- عن كتاب الفتوح لابن الأعثم، وهذا ما نجده في الكلمة المشهورة: "ما رأيت إلّا جميلاً" المنسوبة إلى السيّدة زينب عليها السلام.
 
35- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام : عليّ بن عيسى الأربليّ (م 692 هـ)3.
كتب الأربليّ هذا الكتاب في القرن السابع، حول سيرة الأئمّة عليهم السلام, وخصّص للحديث عن سيرة الإمام الحسين عليه السلام وثورة عاشوراء، اثني عشر فصلاً مضافاً إلى بحثٍ حول الوقائع التي حصلت بعد شهادة الإمام عليه السلام بما يقرب من ربع المجلّد الثاني4، وهذه هي عناوين تلك الفصول:
1- ولادة الإمام الحسين عليه السلام 2- نسبه الشريف 3- تسميته 4- كنيته ولقبه 5- ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حقّه وإمامته 6- شجاعته ومروءته 7- جوده وكرمه 8- أقواله 9- أولاده 10- عمره الشريف 11- خروجه إلى العراق 12- شهادته ومقتله.
 
حسب كلام الأربليّ فقد كتب المجلّد الأوّل من هذا الكتاب (الذي يتحدّث عن 
  
 


1- السيّد ابن طاووس- الملهوف على قتلى الطفوف- ص 127.
2- المصدر السابق.
3- المصدر نفسه- ص 201- للاطلاع على شخصيّة الأربليّ وسيرة حياته وكتاب كشف الغمّة وغيره من مصنّفاته، يراجع: رسول جعفريان عليّ بن عيسى الأربليّ وكشف الغمّة- وأيضاً (الأربليّ- كشف الغمّة- مقدّمة محقّق الكتاب- ج 1- ص 7- 45).
4- الأربليّ- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة- ج 2- ص 429- 554.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

64

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام في عام 178 هـ1، وأنهى المجلّد الثاني منه (الذي يتناول حياة السيّدة الزهراء عليها السلام وباقي الأئمّة عليهم السلام) في سنة 687 هـ2.

 
إنّ المصنّف قد نقل عن مصادر متعدّدة، منها: مقتل الحسين للواقديّ- وترجمة الحسين ومقتله، لابن سعد- كتاب الفتوح لابن الأعثم- الإرشاد للشيخ المفيد- حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهانيّ- تاريخ مواليد الأئمّة عليهم السلام ووفياتهم لابن خشّاب- مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة الشافعيّ- معالم العترة الطاهرة لعبد العزيز بن أخضر الجنابذيّ (كتابادي) وغيرها، وواضح أنّه قد نقل الكثير من مطالب هذا القسم من المصدرين الأخيرين.
 
وباعتبار أنّ الأربليّ يجمع الأخبار من مصادر مختلفة، فإنّ ترتيب هذه الأخبار كان يختلف عن المصدر الذي يأخذ منه، على سبيل المثال: فقد كان أحياناً يذكر سلسلة الرواة وفي أحيانٍ أخرى كان يعرضها بأسلوب تركيبيّ. إنّ نثر الكتاب مسجّع وفصيح بليغ، وقد نقل أيضاً قسماً من كتابه عن ابن طلحة الشافعيّ في كتابه مطالب السؤول الذي يعدّ كتاباً مسجّعاً بليغاً، فكان الأربليّ يذكر مطالبه، قبل كلام الشافعيّ أو بعده، بنفس الطريقة والأسلوب3.
 
بالنسبة إلى الشعر، فقد أورد، في عدّة مواضع من كتابه، أشعاراً عن أبي مخنف4، ومن ذلك يعلم وجود ديوان ينسب إلى أبي مخنف في ذاك الزمان، إلّا أنّ أبا مخنف - وكما ذكرنا سابقاً - لم يأت على ذكر القصيدة المعروفة (غدر (كفر) القوم وقدماً رغبوا) في ديوانه5.
 
36- الكامل في السقيفة: (كامل البهائيّ) حسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن
 
 
 

1- الأربليّ- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة- ج 2- ص 136.
2- المصدر السابق- ج 1- مقدّمة المحقّق- ص 64- أمّا الشيخ آقا بزرك فقد اعتبر أنّ تاريخ كتابه هو عام 682 ق. (المصدر السابق- ج 18- ص 47).
3- على سبيل المثال: راجع الأربليّ- المصدر- ج 2- ص 449- 468 الفصول المتعلّقة بعلم الإمام عليه السلام وشجاعته وجوده.
4- المصدر السابق- ص 482- 489.
5- المصدر نفسه- ص 489.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

65

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 حسن الطبريّ، المعروف بـ (عماد الدّين الطبريّ)- كان حيّاً إلى عام 701 هـ.



استغرق كتابة هذا الأثر من الوقت- كما صرّح بذلك الطبريّ نفسه - ما يقرب من اثنتي عشرة سنةً، وفرغ منه في عام 675 هـ1. يحتوي الكتاب على (28) باباً يتضمّن كلّ باب عدّة فصول، وقد تحدّث الطبريّ عن واقعة كربلاء من أوّلها إلى آخرها في الفصول الأخيرة من كتابه، أي في الفصل السابع عشر والثامن عشر من الباب السابع والعشرين، والفصول الستّة الأولى من الباب الثامن والعشرين.
 
اعتمد الطبريّ في عرضه لواقعة كربلاء - من دون ذكر أسماء المصادر التي استند إليها- في الأعمّ الأغلب، على المصادر القديمة المشهورة إلّا أنّه في بعض الأحيان كان يذكر روايات لا وجود لها في تلك المصادر. مثلاً هو وحده الذي نقل في قضيّة خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة قائلاً: إنّ الحسين عليه السلام خرج من المدينة مع جميع بني هاشم ما عدا محمّد ابن الحنفيّة ركباناً على (250) جملاً بعدما طلب من قيس بن سعد بن عبادة أن يلحق به مع مائتي رجلٍ حتّى إذا ما أرسل حاكم المدينة جلاوزته للقبض على الحسين عليه السلام وأصحابه، يتآزر رجال قيس مع الحسين عليه السلام وأنصاره للقضاء على هؤلاء الجلاوزة2. وأيضاً حادثة قطع رأس الإمام عليه السلام من القفا3، ودفن جسد الحرّ بن يزيد الرياحيّ على يد أقاربه في المكان الذي قتل فيه4، ورواية القول الآخر حول دفن أجساد الشهداء، وأنّه كان على يد بعض اليهود من سكان ضواحي كربلاء5، ودخول أسرى أهل البيت عليهم السلام في السادس عشر من ربيع الأوّل6، ووفاة السيّدة أمّ كلثوم في دمشق7، إنّ كلّ هذه الروايات واردة عن الطبريّ فقط ولا غير.
  
 
 
 

1- عماد الدّين الطبريّ- الكامل في السقيفة- ج 2- ص 306.
2- المصدر السابق- ص 271.
3- المصدر نفسه - ص 287.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر السابق- ص 288.
6- المصدر نفسه- ص 293.
7- المصدر نفسه- ص 302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

 


66

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 النتيجة:

نستنتج، من خلال البحث في الآثار التي صنّفت في هذا المقطع الزمانيّ، أنّ المقاتل التي كتبت من القرن الثاني إلى القرن السابع يمكن الاستفادة منها والاعتماد عليها والوثوق بها باعتبار قدمها وعدم دخول التحريف عليها، وذلك بسبب عرضها واقعة عاشوراء مستندة إلى مصادر تاريخيّة أصيلة وأساسيّة، مثل مقتل أبي مخنف وهشام الكلبيّ وغيرهما، بصورة روائيّة مع ذكر الأسانيد.

نعم، يوجد بعض المؤرّخين من أمثال البلاذريّ والدينوريّ واليعقوبيّ والشيخ المفيد الذين كتبوا، في تاريخ كربلاء، رواياتٍ محذوفة السند ومختصرة مع ترك التفاصيل وعلى طريقة التلفيق والتركيب، من أجل رعاية الاختصار، أو لرفع التناقض والتنافي الموجود في بعض الروايات والأخبار.

من الواضح أنّه، عند المقارنة بين كتابات هؤلاء المؤرّخين وبين أخبار المؤرّخين وكتّاب المقاتل القدماء، سنجد الانسجام والتناسب والتوافق الكامل بينهما، وإن وجد من أولئك المؤرّخين مثل ابن الأعثم الكوفيّ الذي كان - وبسبب استعداده الخاصّ، وذوقه المميّز في كتابة السيرة وعرض المجريات- يعرض تلك الأخبار والروايات الأصيلة مع بعض الإضافات والزيادات التي لا يمكن العثور عليها في تلك المصادر.

هنا ينبغي للباحث والمحقّق أن يحتاط ويأخذ حذره عند الاستفادة من أمثال تلك المنقولات، إلّا أنّه- وبشكلٍ عامّ- يمكن الاعتماد على مصادر تاريخ عاشوراء المصنّفة خلال فترة ما قبل القرن السابع، وأمّا ما كان منها في القرن الثامن وما بعده، فإنّه لا يمكن الوثوق بها.. بسبب النهب والخراب الذي أصاب بلاد المسلمين على يد المغول وفقدان ميراثٍ علميِّ إسلاميّ كبير- لا سيّما عند الشيعة- ومنها بعض المصادر العاشورائيّة المعتبرة.

وما استند إليه أولئك المصنّفون، في تلك الحقبة الزمانيّة منها ما مصادره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

67

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ضعيفة وغير معتبرة وقد نقل منها الحكايات والأساطير والقصص المجعولة والملفّقة، ما يضطر معه الباحث إلى الاجتناب عن نقلها. نعم، ما نقلته تلك الآثار من الأخبار والروايات عن مصادر أصيلة وموثّقة يمكن الأخذ به والاستناد إليه وحده لا غير.

 
المقطع الثاني: (من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر)
قبل الشروع في هذه المرحلة التاريخيّة، يلزم التذكير بأمر، وهو أنّ أزمنة القرن الثامن والتاسع والعاشر كانت مرحلة أفول وانحسار تصنيف المقاتل وكتابة الآثار الكربلائيّة، ما عدا بعض الموارد المحدودة التي تذكر حيث لم يدوّن في هذه القرون آثار مهمّة معتدّ بها، وحتّى لو قلنا بتأليف مثل تلك المصنّفات، إلّا أنّها، بالإضافة إلى عدم وجودها في يومنا هذا فإنّه لا يوجد لها أيّ اسم وذكر في مؤلّفات الأزمنة اللاحقة أبداً. نعم، كانت العصور الذهبيّة والمتفوّقة، خلال هذه المرحلة كلّها، في القرن الرابع عشر.
 
وأمّا بالنسبة إلى مستوى تأليف المقاتل في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر فهو متساوٍ، مع الالتفات إلى أنّ قسماً من مصنّفات تاريخ عاشوراء من القرن الثامن إلى عصرنا الحاضر قد أخذت من الأخبار والروايات الموجودة في المصادر القديمة لواقعة كربلاء، وهناك قسم آخر منها قد اعتمد في نقل الأحاديث على مصادر ضعيفة الاعتبار، لذلك فإنّ استعراض هذه الكتب بشكلٍ مفهرس- لا سيّما وأنّها آخذة في الازدياد- من القرن الثاني عشر إلى الآن، غير مستطاعٍ في هذه المقالة1، مضافاً إلى أنّه لا فائدة من ذلك، ومع عدم إمكان استعراضها- ولو بالاسم- فإنّ الحديث عنها والتعريف بها غير ممكنٍ بطريق أولى.
  
 
 
 

1- للإطّلاع على فهرسة هذه المصنّفات راجع: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، لا سيّما ج 22- عبد الجبّار الرفاعيّ: معجم ما كتب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ج 7- 8 ومحمّد الإسفندياريّ - كتابشناسي تاريخي إمام حسين عليه السلام - (معرفة كتب سيرة الإمام الحسين عليه السلام ).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

68

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ومن هنا فإنّنا سنبدأ بتعريف بعض الآثار المهمّة والمشهورة حول واقعة عاشوراء، خلال تلك المرحلة الزمنيّة، ومن ثمّ نتناول الحديث حول بعض المصنّفات المهمّة التي كان لها الدور الأكبر في ظهور ما يسمّى بالصورة المحرّفة لحادثة كربلاء وانتشارها، والتي يحلو لبعضهم تسميتها (مصادر التحريف).

 
البحث الأوّل: التعريف ببعض الكتابات المهمّة حول عاشوراء:
سواءٌ ما كان مستقلّاً أو ضمن مصنّفات أخرى:
بالرغم من أنّ التعرّض للكثير من مصنّفات هذه المرحلة الزمنيّة قليل الفائدة، إلّا أنّ البعض من آثار هذه المرحلة يتمتّع بامتيازات خاصّة وخصائص مميّزة، ولذا فإنّ تناولها بالبحث ولو إجمالاً، يعدّ مفيداً، بل هو لازم في بعض الموارد، وهي كالآتي:
 
1- البداية والنهاية: أبو الفداء بن إسماعيل بن كثير الدمشقيّ (م 774 هـ).
إنّ ابن كثير مؤرّخ شافعيّ المذهب، هو ينقل معظم أخباره حول نهضة الإمام الحسين عليه السلام عن تاريخ الطبريّ بشكل مختصر1. هذا، مضافاً إلى ما نقله عن بعض المقاتل الأخرى مثل مقتل أحمد بن حنبل2، وابن أبي الدنيا3والبغويّ4، وينقل أيضاً عن بعض المحدّثين من أمثال الشعبيّ5 ويعقوب بن سفيان6 وغيرهما.
 
وقد تأثّر ابن كثير بأفكار أستاذه ابن تيميّة7 (مؤسّس الفكر الوهّابيّ، م 728 هـ) المتشدّدة تجاه الشيعة، ولذا نراه في كتاباته ينتقد الشيعة بسبب مجالس العزاء 
  
 
 
 

1- ابن كثير- البداية والنهاية- ج 8- ص 156- 230.
2- المصدر: ص 206- 216 و218- 219.
3- المصدر: ص 218.
4- المصدر: ص 217.
5- المصدر: ص 173.
6- المصدر: ص 174- 183.
7- يوسف رحيم لو (ابن كثير) دائرة المعارف بزرك إسلامي (الإسلاميّة الكبرى) ج 4- ص 511.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

69

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 التي يقيمونها للإمام الحسين عليه السلام ويعتبر هذا العمل من البدع1، بل قد تجرّأ أكثر في ذلك عندما تحدّث، تحت عنوان (قصّة الحسين بن عليّ وسبب خروجه من مكّة في طلب الإمارة2..) عن هدف النهضة الحسينيّة والباعث الذي دفع الإمام عليه السلام للثورة، فقد حرّف بكلامه ذاك الهدف الصحيح والباعث الحقيقيّ الذي قام الإمام عليه السلام من أجله، وجعله ابن كثير طالباً للسلطة والإمارة، مثل بقيّة الناس الذين لا دين لهم ولا إيمان، وبهذا يكون قد فسّر الحركة الدّينيّة الإلهيّة بحركة سياسيّة ودنيويّة.

 
مضافاً إلى ذلك، فقد بدأ بحثه حول وقائع سنة (61 هـ) ونهضة الإمام الحسين عليه السلام بوضع عنوان (وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمّة هذا الشأن، لا كما يزعمه أهل التشيّع من الكذب). وبذلك يكون قد أبدى تشدّده تجاه الشيعة وعداوته معهم. هو في بحثه هذا وبالرغم من نقله للأخبار الواردة عن الطبريّ الذي ينقل هو أيضاً أغلب تلك الروايات عن أبي مخنف وغيره من الرواة، إلّا أنّه في النهاية ينتقد الطبريّ لنقله الأخبار عن أبي مخنف الشيعيّ (الذي عدّوا رواياته ضعيفة بالرغم من أن أهل السنّة قد اعتبروه من أهل الضبط؟!) ثمّ يضيف ابن كثير: ولولا نقل الطبريّ وأمثاله هذه الأخبار حول ثورة عاشوراء لما نقلها هو أيضاً، وقد ناقش في بعض تلك الروايات وأبدى رأيه الخاصّ بها3
 
ثمّ هو وإن قبل الروايات التي تتحدّث عن العقوبات الدنيويّة لقتلة الإمام الحسين عليه السلام واعتبر أنّ القليل منهم قد نجا بحياته منها4، إلّا أنّه أنكر الحوادث الخارقة للعادة التي حصلت بعد شهادة الإمام عليه السلام مثل احمرار السماء، وبكائها دماً، وكسوف الشمس وجريان الدم من جدران قصر ابن زياد، وصرّح قائلاً: إنّ
  
 
 

1- ابن كثير- المصدر- ج 8- ص 220- 221.
2- المصدر- 160.
3- المصدر- 220.
4- المصدر- 220.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

70

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 أمثال هذه الأحاديث الملفّقة والكاذبة هي من تأليفات ومجعولات الشيعة، مع اعترافه بورود مثل هذه الأخبار في مصنّفات الطبريّ والحاكم النيشابوريّ1.

 
2- تسلية المجالس وزينة المجالس - السيّد محمّد بن أبي طالب الحسينيّ الموسويّ الحائريّ الكركيّ (المتوفّى في القرن العاشر).


يعتبر مؤلّف هذا الكتاب من علماء القرن التاسع والعاشر المجهولين، فمن جهة لا يوجد معلومات دقيقة حول زمن ولادته ووفاته، إلّا أنّه في موضع من كتابه هذا تحدّث عن زيارته للمرقد الشريف للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم سنة (921 هـ)2. وفي مكان آخر من الكتاب نفسه يذكر مصنّفاً آخر من تأليفه باسم السجع النفيس في محاورة الغلام (الدلام وإبليس)3. وبرأي آغا بزرك الطهرانيّ فإنّ هذا الكتاب قد صنّف في سنة (955 هـ)4. وعليه يكون زمان تأليف كتاب (تسلية المجالس) بعد عام (955 هـ).
 
يحتوي هذا الكتاب على عشرة مجالس: في المجلس الأوّل (ج 1- ص 53- 139) والمجالس من الخامس إلى العاشر (ج 2- ص 85- 548) يتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام . وفي كلّ من المجلس الثاني والثالث والرابع يتناول بالترتيب الكلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام.
 
وباعتبار أنّ معظم الكتاب يتضمّن سيرة الإمام الحسين عليه السلام، فقد اشتهر الكتاب باسم (مقتل الحسين عليه السلام)5.
 
يدّعي المصنّف - ومن دون التصريح باسم كتاب (روضة الشهداء) بل يشير إليه بالقول- أنّ ما كتبه هو شبيه به6. إلّا أنّه مع المقارنة بين كتابه وبين كتاب
  
 
 

1- ابن كثير- المصدر- ج 8- ص 219.
2- الحسينيّ الموسويّ الحائريّ الكركيّ- تسلية المجالس وزينة المجالس- ج 1- ص 212.
3- المصدر- ج 1- ص 50.
4- المصدر- ج 12- ص 148.
5- المجلسيّ- بحار الأنوار- ج 1- ص 21- آغا بزرك الطهرانيّ- الذريعة- ج 22- ص 27.
6- الحسينيّ الموسويّ الحائريّ الكركيّ- المصدر- ج 1- ص 51- 52.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

71

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 (روضة الشهداء) يتّضح أنّ هذا الأثر لا يتمتّع بالنظم والأسلوب الموجود في كتاب الروضة، نعم هو من جهة النثر فصيح ومسجّع مثله، وكذلك من جهة تأثّره بالأساس والقاعدة التي اعتمد عليها كتاب الروضة، ونُظم ورُتّب في ضوئها، وهي مسألة وقوع البلاءات والمصائب على أولياء الله تعالى وأحبّائه، وأنّ أعظم الناس بلاء الأنبياء عليهم السلام والأولياء عليهم السلام ثمّ الأمثل فالأمثل.


يُعدّ هذا الكتاب أثراً تاريخيّاً روائيّاً، وقد تأثّر كثيراً في روايته لثورة كربلاء بالأخبار الواردة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، وقد نقل الكثير منها مع اختلاف يسير، ونجد أيضاً العلّامة المجلسيّ قد نقل في كتابه بحار الأنوار الكثير من هذا الكتاب.

وأمّا موضوعات تلك المجالس التي تتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام فهي على الشكل الآتي:
- المجلس الأوّل: المصائب التي جرت على الإمام الحسين عليه السلام وثواب البكاء عليه.
- المجلس الخامس: فضائل الإمام الحسين عليه السلام ومناقبه وروايات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حول شهادته.
- المجلس السادس: خروج الإمام عليه السلام من المدينة، وإقامته في مكّة، وإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة.
- المجلس السابع: توجّه الإمام عليه السلام نحو الكوفة، والحوادث التي وقعت أثناء المسير إلى كربلاء، إلى حين الوصول إليها وشهادة الإمام عليه السلام وأنصاره.
- المجلس الثامن: وقائع ما بعد عاشوراء، وحمل الأسرى إلى الكوفة والشام، والخطابات التي حدثت خلال ذلك.
- المجلس التاسع: عناوين متفرّقة مثل: عدد جراحات الإمام الحسين عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

72

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 والروايات الواردة في شهادته - ثواب الشهادة - وموقف حكّام بني أميّة وبني العبّاس من قبر الإمام عليه السلام وثورة المختار.

 
- المجلس العاشر: فضيلة ثورة الإمام الحسين عليه السلام وثوابها.
 
3- بحار الأنوار (المجلد 44- 45) وجلاء العيون: محمّد باقر المجلسيّ (م 1110 هـ).
عندما شرع العلّامة المجلسيّ بالحديث عن سيرة الأئمّة عليهم السلام في كتابه بحار الأنوار، خصّص للحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله والوقائع التي حدثت بعد شهادته، سبعةً وعشرين باباً تبدأ من المجلّد الرابع والأربعين (الباب 24 ص 174 وما بعدها) وتنتهي في آخر المجلّد الخامس والأربعين (إلى آخر الباب 50 من الطبعة الجديدة الموافق للجزء الثاني والثالث من المجلّد العاشر من الطبعة القديمة) فيكون المجموع أكثر من مجلّد ونصف المجلّد من كتاب بحار الأنوار. ويعرف هذا القسم من الكتاب بعنوان: مقتل بحار الأنوار- وقد أنهى المجلسيّ كتابة هذا الجزء (المجلّد العاشر من الطبعة القديمة) في ربيع الأوّل- 1079 هـ1
 
أمّا عناوين هذه البحوث في هذين الجزءين فهي متعدّدة، نذكر بعضها على النحو الآتي: إمامة الحسين عليه السلام ومعجزاته، ومكارم أخلاقه- إحتجاجاته مع معاوية- الآيات المؤوّلة بشهادته، إخبار الله تعالى أنبياءه عليهم السلام بشهادته عليه السلام - ثواب البكاء على مصائبه- حوادث ما بعد بيعة الناس ليزيد إلى حين شهادته- وقائع ما بعد شهادته- الحوادث الخارقة للعادة التي وقعت بعد مقتله عليه السلام (مثل بكاء السماء والأرض والخسوف والكسوف وغيرهما)- المراثي التي قيلت في عزائه- العقوبات التي نزلت على قاتليه- أحوال أهل زمانه - نساؤه وأولاده - أخبار المختار- اعتداء الخلفاء والحكّام على قبره الشريف).
 
هنا ينبغي الإشارة إلى أنّ المجلّد (98) من كتاب بحار الأنوار يتحدّث أيضاً عن
 
 
 
 

1- المجلسيّ- بحار الأنوار- ج 45- ص 409.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

73

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 فضيلة زيارة الإمام الحسين عليه السلام وثوابها مع نقل عدد من الزيارات المختلفة هناك.

 
إلّا أنّ المجلسيّ نقل بعض الأحاديث الضعيفة والشاذّة بسبب جمعه لأخبار ثورة عاشوراء في هذا الكتاب من مصادر متعدّدة يوجد فيها روايات ضعيفة ومجهولة وشاذّة- على سبيل المثال..أسطورة الجمّال الخرافيّ للإمام الحسين عليه السلام 1 وحكاية شفاء البنت اليهوديّة بدماء جناح الطير2، وقصّة الرجل من بني أسد مع بعض السباع3.
 
وقد تُرجم وطُبع قسم المقتل من هذا الكتاب تحت عنوان (محن الأبرار في ترجمة مقتل البحار) في مصائب وكرامات قرّة عين أحمد المختار، بقلم محمّد حسين الهشتروديّ التبريزيّ4. وطبع أيضاً بشكل مرتّب ومشذّبٍ بعنوان (المختار من مقتل بحار الأنوار: عرض وثائقيّ موجز لأحداث ثورة الحسين عليه السلام) بإشراف محسن الأراكيّ5.
 
وقد خصّص المجلسيّ أيضاً أكثر من ثلث كتابه الفارسيّ (جلاء العيون) الذي يتحدّث فيه عن سيرة المعصومين عليهم السلام الأربعة عشر، لنقل الروايات عن حياة الإمام الحسين عليه السلام ومناقبه ومعجزاته والأخبار التي تتنبّأ بمقتله، والنهضة العاشورائيّة والوقائع التي حصلت بعدها، وذلك ضمن (23) فصلاً6.
 
نقل المصنّف في هذا الكتاب أخباراً وروايات متعدّدة عن مصادر قديمة ومتأخّرة ولم يسلم هذا الكتاب أيضاً.. من نقل بعض الأخبار الضعيفة والملفّقة والمجعولة7.
 
 
 

1- المجلسيّ- بحار الأنوار- ج 45- ص 316- 319.
2- المصدر- ص 191- 193.
3- المصدر- ص 193- 194.
4- خان بابا مشار- (فهرست كتابهاي جابي فارسي)- ج 4- ص 4630.
5- الطبعة الأولى- مجمع الفكر الإسلاميّ- محرّم- 1411- (174 – صفحة).
6- المجلسيّ- جلاء العيون- ص 262- 447.
7- راجع مثلاً: المصدر نفسه- ص 370- 371- 374- 376- 377- 387.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

74

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 4- مقتل الإمام الحسين عليه السلام (الجزء (17) من كتاب عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال)- عبد الله البحرانيّ (م 1130 هـ).

 
يُعتبر عبد الله البحرانيّ من تلامذة العلّامة المجلسيّ البارزين، وقد خصّص- كأستاذه المجلسيّ- سبعةً وعشرين باباً في المجلّد السابع عشر من كتابه المفصّل (عوالم العلوم) للحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته، وما حصل بعد ذلك من الوقائع مثل ثورة المختار الثقفيّ.
 
إنّ طريقة التأليف والأبواب والعناوين الموجودة في العوالم شبيهة إلى حدٍّ كبير بما هو موجود في كتاب بحار الأنوار، لأنّ أكثر ما نقله من هذه الموضوعات إنّما هو- وكما في بقيّة أجزاء كتاب العوالم - مقتبس من كتاب أستاذه المجلسيّ، وقد أضاف إليها بعض المطالب في بعض الموارد، وهذا ما جعل مقتله أكبر حجماً من مقتل البحار بما يقرب من مائة صفحة. ويظهر أنّ التبويب فيه وتقسيم فصول الكتاب أفضل ممّا هو في كتاب البحار.
 
5- القمقام الزخّار والصمصام البتّار: لمؤلّفه فرهاد ميرزا معتمد الدولة (م 1305 هـ).
إنّ مصنّف هذا الأثر ابن عبّاس ميرزا وحفيد فتحعليّ شاه، من رجال دولة العهد الناصريّ1. شرع بتأليف الكتاب سنة (1303 هـ) وأنهاهُ في ذي الحجّة من سنة (1304 هـ)2.
 
صُنّف الكتاب باللغة الفارسيّة، وقام بتأليفه بسبب تفاؤلٍ بالقرآن ونذرٍ قد نذره3 وقد عنون الكتاب بهذا الاسم الغريب وغير المتعارف (القمقام... والصمصام...).
 
يعدّ هذا الكتاب من المقاتل المهمّة لأنّ المؤلّف - وكما ذكر هو بنفسه - قام 
  
 
 

1- للإطّلاع أكثر على سيرة حياته يراجع: إسماعيل نوّاب الصفا- شرح حال فرهاد ميرزا معتمد الدولة.
2- ميرزا معتمد الدولة- قمقام زخار وصمصام بتار- مقدّمة عماد زاده- ص 4- ومقدّمة المؤلّف- ص 8.
3- المصدر- ص 5- 6.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

75

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بالكثير من التتبّع والتحقيق في ذلك الكتاب، ولم ينقل شيئاً من المصنّفات التي كُتبت بعد القرن الحادي عشر (لعدم اعتبارها وضعفها) 1ولهذا فإنّ هذا الأثر يتمتّع باعتبار خاصّ بالمقايسة مع المؤلّفات المعاصرة، بل ما قبلها أيضاً.

 
رُتّب هذا الكتاب في مجلّدين: الأوّل منهما يتحدّث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام وبعض البحوث مثل: ثورة مسلم بن عقيل، وأحداث النهضة الحسينيّة يوم عاشوراء من بدايتها إلى شهادة الأصحاب. 
 
وأمّا المجلّد الثاني فقد تضمّن مباحث مثل: شهادة بني هاشم والإمام عليه السلام، وما حصل بعد الشهادة مثل أسر أهل البيت عليهم السلام ونقلهم إلى الكوفة والشام ثمّ إعادتهم إلى المدينة المنوّرة، والعقوبات التي أصابت قتلة الإمام عليه السلام وثورة التوّابين وثورة المختار، ونقل بعض الأشعار في رثاء الإمام الحسين عليه السلام .
 
من الميزات الخاصّة والمحقّقة في هذا الكتاب، الضبطُ الصحيح لأسماء الأشخاص والأمكنة، والبيان الدقيق لمعاني الأسماء والأمكنة واللغات والأشعار والأمثال في كثير من الموارد، وفي بعض الأحيان كان يتعرّض لترجمةٍ مختصرةٍ حول بعض الأفراد.
 
البحث الثاني: التعريف ببعض المصنّفات المهمّة من مصادر التحريف لتاريخ عاشوراء في القرون الأخيرة:
كما مرّ معنا فإنّ هناك الكثير من المؤلّفات كتبت في القرون المتأخّرة حول ثورة سيّد الشهداء عليه السلام والتي يوجد من بينها مصنّفات كان لها- وبسبب شهرة مؤلّفيها أو بسبب بعض الخصائص الموجودة فيها- تأثير كبير في نشر وترويج بعض الأخبار الضعيفة والمحرّفة وغير الصحيحة بل والموهنة في بعض الحالات لواقعة عاشوراء والثورة الحسينيّة.
  
 
 

1- ميرزا معتمد الدولة- قمقام زخار وصمصام بتار- مقدّمة عماد زاده - ص 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

76

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 طبعاً إنّ البحث والمطالعة، حول علل وعوامل جعل ونشر مثل هذه الأخبار والمسائل المحرّفة والمخرّبة لتاريخ عاشوراء، يحتاجان إلى دراسة مستقلّةٍ، والمقدار الذي يمكن الإشارة إليه في هذا المختصر، هو أنّ كتابة التاريخ والسيرة قد بدأت بالانحسار منذ القرن الخامس وما بعده. أمّا الأسباب التي أدّت إلى ذلك فهي متعدّدة، فمن جهةٍ هناك البعد الزمنيّ عن المصادر القديمة وذهابها في عالم النسيان، ومن جهة أخرى هناك الإهمال بل الحذف المتعمّد لتلك المصادر من قبل بعض الفرق المذهبيّة المتعصّبة، ومن جهة ثالثة فقد ظهر إقبال واهتمام قويّان في المجتمع للتعرّف أكثر على هذه الواقعة، فتهيّأ نتيجةً لذلك، المناخُ الملائم لانحسار المصنّفات المحقّقة واستبدالها بكتاباتٍ مصنّفةٍ على طريقة علماء الأدب والاجتماع والتي أكثرها متأثّر بعوامل مثل المعتقدات المذهبيّة، والسليقة الشخصيّة والفكريّة للمؤلّفين، مضافاً إلى الظروف الاجتماعيّة والجغرافيّة الحاكمة، والاهتمام بما يرغب فيه ويطلبه المخاطبون والقرّاء والجمهور، وبعبارةٍ أخرى فإنّ كتابة المقاتل والسيرة العاشورائيّة خلال تلك العصور، وبسبب تلك العوامل التي سبق ذكرها، قلّصت من الاهتمام بالمصادر القديمة لواقعة عاشوراء، هذا من ناحية.


ومن ناحيةٍ أخرى وبسبب عظمة هذه الحادثة وانفتاح المجتمع الشيعيّ، بل السنيّ أيضاً على هذه الواقعة للتعرّف عليها أكثر، كلّ ذلك قد فتح الباب للتوسّع والتفريع في بعض أخبار هذه الواقعة، بل في بعض الموارد أضافوا إلى حوادثها من عنديّاتهم وبأذواقهم الخاصّة وتفنّناتهم في هذا المجال، حتّى وصل الحال من القرن العاشر وإلى زماننا المعاصر ومع كتابة (روضة الشهداء) إلى بروز هذه الطريقة على الساحة وبشكل واسع وسريع على مدى القرون الأربعة الأخيرة المتتالية من خلال مصنّفاتٍ أمثال: المنتخب للطريحيّ، وتظلّم الزهراء للقزوينيّ، ومحرق القلوب للنراقيّ، والدمعة الساكبة للبهبهانيّ، ومعالي السبطين للمازندرانيّ، والأهمّ من كلّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

77

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ذلك إكسير العبادات للدربنديّ.


وباعتبار أنّ اهتمام مؤلّفي هذه المقاتل كان يعتمد على أمرين اثنين: أحدهما قضيّة الابتلاء والامتحان والاختبار، والثاني إثارة العواطف والأحاسيس، فقد درسوا هذه الواقعة العظيمة من هذه الجهة ونقلوا الروايات التي تتناول هذا الجانب (الذي يساعد كثيراً في إيجاد الحزن والبكاء والغمّ والهمّ) ولذا فقد أهملوا مراجعة المصادر القديمة التي يمكن الاستناد إليها والاعتماد عليها، بل كان كلّ اهتمامهم وتوجّههم إلى القضايا التي تحرّك العواطف والمسائل التي تثير- وبأكبر قدرٍ ممكن- الأحزان والآلام عند المخاطبين والسامعين لأحداث كربلاء ووقائع عاشوراء في مجالس العزاء الحسينيّة.

ومن هنا فقد كان استخدام المصطلحات والعبارات التي تصبّ في ذلك الهدف وتلك الفائدة كثيراً جدّاً، وفي بعض الأحيان مع المبالغة أيضاً، مثل: البكاء والدمع والمصيبة والحزن والغمّ والغربة والوحدة والعطش، والأسر والابتلاء.

إنّ من الأمور التي ساعدت على انتشار هذه الطريقة، في إحياء مناسبات عاشوراء، والسيرة الكربلائيّة وتأييدها وتقويتها، هو اكتفاء بعض الشعراء وقرّاء العزاء بالأسلوب السطحيّ في عرض قضايا عاشوراء، والاهتمام بما هو مقبول عند عوامّ الناس من أجل إثارة مشاعرهم أكثر، ويكون التأثير فيهم أكبر لدفعهم من هذا الطريق إلى الحزن والغمّ والبكاء وذرف الدموع بدرجة أقوى، باعتبار أنّ البكاء والتعزية في مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام - حسب الروايات الكثيرة - لهما الفضل العظيم والأجر الجزيل.

وفي عقيدة بعض هؤلاء لا مانع من استخدام أيّة وسيلة للوصول إلى ذلك الثواب الكبير، ولو كان على حساب الأخبار الصحيحة والمعتبرة الواردة في هذه الحادثة؛ لأنّ الكثير من هذه الأخبار لا تنسجم مع تلك المعاني والمضامين المطلوبة لهم، ولا تستطيع أن تحقّق ذاك الهدف المقصود عندهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

78

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 على كلّ حالٍ فإنّ نظرةً إجماليّة إلى أسماء وعناوين بعض الآثار التي صنّفت حول عاشوراء منذ العهد الصفويّ وما بعده- لا سيّما في العصر القاجاريّ- سيثبت هذه الدعوى بشكل قويّ.


من جملة تلك المصنّفات: طريق البكاء - طوفان البكاء - عمان البكاء - محيط البكاء - أمواج البكاء - رياض البكاء - مفتاح البكاء - منبع البكاء - مخزن البكاء - معدن البكاء - مناهل البكاء - مجرى البكاء- سحاب البكاء - عين البكاء - كنز الباكين - بكاء العين - مبكي العيون - مبكي العينين- المبكيات - بحر البكاء في مصائب المعصومين - بحر الحزن - بحر الدموع- بحار الدموع- فيض الدموع- عين الدموع - سحاب الدموع - ينبوع الدموع - منبع الدموع - دمع العين- مدامع العين - مخازن الأحزان - بيت الأحزان- رياض الأحزان- قبسات الأحزان- كنز المصائب - مجمع المصائب - وجيزة المصائب - إكليل المصائب - إبتلاء الأولياء، وهناك بعض المؤلّفات الفارسيّة، مثل: بحر غم - داستان غم - غمكده مأتمكده - بستان ماتم - هم وغم - بلا وابتلا در رويداد كربلا.

هنا نبيّن أهمّ هذه المصادر التي صار بعضها من مصادر الروايات غير المعتبرة والضعيفة والغريبة لتاريخ عاشوراء، مع ذكر بعض تلك الروايات:

1- روضة الشهداء:
مصنّف هذا الكتاب هو كمال الدّين حسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ (م 910 هـ) أستاذ في الأدب الفارسيّ. وقد أورد في كتابه هذا كلّ البلايا والمصائب التي وقعت للأنبياء عليهم السلام منذ آدم عليه السلام إلى النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ يكمل الكلام حول مصائب الأئمّة عليهم السلام .

في هذا المجال يخصّص المؤلّف أكثر من نصف الكتاب للحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة عاشوراء والحوادث التي حصلت بعدها، أي أربعة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

79

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 أبواب منه (من السابع إلى العاشر) في سيرة الإمام عليه السلام وعياله وأصحابه، وما بقي من الكتاب (أي من الباب الأوّل إلى السادس) مع الخاتمة هو أقلّ من النصف!

 
وهذه عناوين الأبواب التي لها علاقة بالإمام الحسين عليه السلام:
الباب السابع: مناقب الإمام الحسين عليه السلام منذ ولادته، وبعض أحواله من بعد أخيه.
الباب الثامن: شهادة مسلم بن عقيل بن أبي طالب وقتل بعض أولاده.
الباب التاسع: وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وجهاده ضدّ الأعداء، وشهادته مع أولاده وأقاربه وأصحابه.
الباب العاشر: الوقائع التي حصلت مع أهل البيت عليهم السلام بعد كربلاء، والعقوبات التي نزلت بالأعداء الذين شاركوا في المعركة1.
 
إنّ الكاشفيّ قدّم بحثه حول واقعة كربلاء على أساس البلاء والأذى والامتحان الذي يقع على أولياء الله تعالى، بمعنى أنّ الله، سبحانه، من خلال حادثة عاشوراء ووقائعها المؤلمة، كان يريد أن يرفع من درجات أحد أوليائه المصطفين، وهذه هي سنّة الله تعالى مع خلقه وأحبّائه.
 
ولم يتعرّض الكاتب، في بحثه أبداً، لأيّ بُعد آخر لثورة عاشوراء، لا سيّما البعد السياسيّ.
كان تصنيف هذا الكتاب بطلب أحد أعيان وسادات مدينة هرات الكبار، واسمه (مرشد الله) المعروف بـ (السيّد ميرزا) وذلك في أواخر عمر الكاشفيّ2، أيّ من المرحلة التي تكثر فيها الموانع مثل الكبر والضعف فلا يستطيع بعد أن ينزل
 
 
 
 

1- إنّ هذا الفهرس هو حسب طبعة المنشورات الإسلاميّة.
2- حسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ- روضة الشهداء- ص 23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

80

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 ببلاغته وفصاحته العالية إلى الميدان1. كان تأليف هذا الأثر سنة (907 هـ) وليس (908 هـ) فقد صرّح المصنّف نفسه قائلاً: (إنّ الفاصل بين شهادة الإمام الحسين عليه السلام وبين تاريخ تصنيف هذا الكتاب يقرب من 847 عاماً)2.

 
بالنسبة إلى مذهب الكاشفيّ، يمكن القول إنّه كان على المذهب السنّي الحنفيّ، كما نقل ذلك الأفنديّ عن الميرداماد في بعض فوائده3.
 
لم يبيّن الكاشفيّ كثيراً من مصادر كتابه، بل حتّى في نقله للأخبار المهمّة كان يهمل ذكر مصادرها، وفي كثير من الموارد عندما يصرّح بمصادر رواياته يتبيّن أنّها غير مشهورة، ولا معتبرة. وهذا ما ذكره الأفنديّ أيضاً عند تعداده لبعض المصادر الشيعيّة التي نقل عنها الكاشفيّ مثل: عيون أخبار الرضا، والإرشاد، وإعلام الورى، وكتاب الآل لابن خالويه، حيث يقول الأفنديّ هناك: إنّ روايات هذا الكتاب بل كلّها مأخوذة من الكتب غير المشهورة والتي لا يمكن الاعتماد عليها4
 
وأمّا سبب فقدان القيمة العلميّة لهذا الكتاب فهو أنّ الكاشفيّ لم يعتمد، في بيانه للأخبار المهمّة لهذه الواقعة التاريخيّة العظمى، على الأسلوب العلميّ في كتابة التاريخ، أي الاعتماد على المصادر التاريخيّة القديمة والموثّقة، ونقل وتحليل ونقد الأخبار الواردة فيها حول هذه الحادثة.
 
ولهذا فإنّ كتاب (روضة الشهداء) بالفارسية وبتعبير بعض المحقّقين المعاصرين، ليس كتاباً تاريخيّاً بل هو مصنّف أدبيّ5 يشتمل على حكايات تاريخيّة أعان على تأليفه وانتشاره بعض الظروف الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة التي كانت 
  
 
 

1- حسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ- روضة الشهداء- ص 23.
2- المصدر نفسه- ص 441- يعلم من خلال الجملة الأخيرة أنّ هذا الأثر صنّف قبل محرّم (847) أي في عام 846، ولو أضيف إليه (61) عاماً لأصبح عام (907) وليس (908) كما قال الكثيرون.
3- الميرزا عبد الله الأفنديّ الأصفهانيّ- رياض العلماء وحياض الفضلاء- ج 2- ص 186.
4- المصدر نفسه - ج 2- ص 190.
5- رسول جعفريان (ملا حسين واعظ الكاشفي وكتاب روضة الشهداء) المصدر السابق- ص 354. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

81

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 مسيطرة على عهد المؤلّف.

 
وبعبارة أخرى إنّ هذا الكتاب هو نتيجة مرحلةٍ زمنيّة كان النقد والبحث العلميّ فيها ضعيفاً جدّاً، لدى المراكز الأكاديميّة والعلميّة الإيرانيّة وما وراء النهر، بل إنّ ما كان منتشراً ومتداولاً بين أيدي الناس هو بعض المتون القصصيّة، مثل رسائل أبي مسلم ورسائل أبي حمزة التي استبدلت بعد اضمحلالها بكتاب من تصنيف الكاشفيّ1.
 
ويصرّح محقّق آخر حول أسلوب هذا الكتاب وقيمته التاريخيّة قائلاً: إنّ (روضة الشهداء) كتاب قصصيّ أكثر منه كتاباً تاريخيّاً، ولذا فإنّه يحتوي على حكايات خياليّة، وحيث إنّ مؤلّفه أديب مبدع فإنّ اختراع القصص ظاهر فيه أيضاً2.
 
وقد أخذ هذا الكتاب مكانه الخاصّ بسرعةٍ فائقة في المحافل والمجالس الشيعيّة والسنّيّة، نتيجة للقبول الواسع والكبير لمثل هذه المؤلّفات، لدى عموم الناس، بل وحتّى من قبل العلماء والمفكّرين. حيث كان الكثير من الوعّاظ والخطباء يتحدّثون، على المنابر، عن مصائب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته استناداً إلى هذا الكتاب، وحتّى مصطلح (قارئ الروضة) إنّما استعير من اسم هذا الكتاب لإطلاقه على مجالس قرّاء الروضة، أي العزاء3.
 
الأمر الأخير، في هذا الموضوع، هو أنّ لهذا الكتاب عدّة نسخ موجودة في المكتبات، وطبع مختصراً مرّات عديدة، وترجم أيضاً بلغاتٍ مختلفة، وفي بعض هذه الترجمات طبع منظوماً4.
  
 
 

1- رسول جعفريان (ملا حسين واعظ الكاشفي وكتاب روضة الشهداء) المصدر السابق- ص 354. 
2- المصدر نفسه.
3- محمّد الإسفندياريّ- نفس المصدر.
4- راجع للإطّلاع على نسخات هذا الكتاب وتلخيصاته وترجماته: شارلز آمبروز استوري (ادبيات فارسي برمبناي تأليف أستوري) ج 2- ص 903- 912- أحمد منزوي (فهر ستواره كتابهاي فارسي) ج 3- ص 1661- 1664.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

82

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض النماذج الغريبة والضعيفة:

1- ذكر بعض الأسماء المجهولة والغريبة تحت عنوان: أسماء أنصار الإمام الحسين عليه السلام وجنود عمر بن سعد، مثل: زهير بن حسّان الأسديّ، وسامر، وحجر الحجّار، وحمّاد ابن أنس، والقاصّ بن مالك، وشريح بن عبيد، وقيس بن منبه، وهاشم بن عتبة وغيرهم1.
2- قصّة عرس القاسم2.
3- حضور زعفر الجنّيّ الزاهد في كربلاء، واستعداده لنصرة الإمام الحسين عليه السلام ورفض الإمام عليه السلام ذلك3.
4- حادثة شفاء البنت اليهوديّة المعلولة بوساطة دماء جناح الطير4.
5- أسطورة السيّدة شيرين5. وغير ذلك.
2- المنتخب في جمع المراثي والخطب (المشهور بـ الفخريّ):
فخر الدّين الطريحيّ (979- 1087 هـ)هو مصنّف هذا الكتاب7 إلّا أنّ هذا الكتاب لا يمكن اعتباره مصنّفاً تاريخيّاً في سيرة الإمام الحسين عليه السلام أو ثورة عاشوراء ومقتل سيّد الشهداء، بل هو مجموعة روايات مثيرة للحزن والبكاء رتّبت على صورة خطابٍ نثريّ وشعريّ.
  
 
 

1- راجع للإطّلاع على نسخات هذا الكتاب وتلخيصاته وترجماته: شارلز آمبروز استوري (ادبيات فارسي برمبناي تأليف أستوري) ج 2- ص 903- 912- أحمد منزوي (فهر ستواره كتابهاي فارسي) ج 3- ص 354- 388.
2- المصدر نفسه- ص 400- 410.
3- المصدر نفسه- ص 431- 432.
4- المصدر السابق- ص 447- 449.
5- المصدر نفسه- ص 459- 462.
6- راجع حول نسب الطريحيّ وولادته ووفاته وسيرة حياته وآثاره: مجمع البحرين- ج 1- ص 186- المقدّمة. وقد جمع المحقّق المذكور في هذه المقدّمة المصادر التي تتحدّث عن سيرة حياة الطريحيّ ومن جملتها: الأفنديّ- رياض العلماء وحياض الفضلاء- ج 4- ص 332- 335- والخوانساريّ- روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات- ج 5- ص 349- 353- والمحدّث القمّي- الكنى والألقاب- ج 2- ص 448.
7- بناءً على قول الشيخ الحرّ العامليّ فإنّ للطريحيّ كتاباً آخر بعنوان (مقتل الحسين عليه السلام ) مغايراً لكتابه المنتخب (محمّد حسين الحرّ العامليّ- أمل الآمل- ج 2- ص 215) وهو كتاب مخطوط لم يطبع بعدُ، وقد رأى الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ نسخة منه في مكتبة محمّد عليّ الخوانساريّ في النجف (الذريعة إلى تصانيف الشيعة- ج 22- ص 27).



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

83

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 إنّ معظم أبحاث هذا الكتاب تتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام وجزء منها يتناول شيئاً من حياة بعض الأئمّة عليهم السلام وقد كتب على صورة كشكول. يتألّف هذا الأثر من جزءين، كلّ جزءٍ يحتوي على عشرة مجالس، كلّ مجلسٍ يتضمّن عدّة أبواب، يشتمل كلّ مجلسٍ وكل بابٍ على مواضيع متعدّدة لا رابط بينها.

 
اعتمد هذا المؤلّف في كتابه على منقولات كتاب (روضة الشهداء) للكاشفيّ ونقل عنه الكثير من المطالب الضعيفة وغير المعتبرة... إلّا أن الطريحي كان يعدّ في فترة كتابته لهذا المصنّف من الوعّاظ المقتدرين وصاحب خبرةٍ في فنّ الخطابة.
 
ومع مراجعة الكتاب يتبيّن أنّ الكاتب كان في البداية يلقي بعض مطالبه في أيّام محرّم عند قراءة العزاء في المحافل والمجالس، ومن ثمّ ينظمها إلى مجالس مكتوبة ومقروءة. وقد كان هذا الكتاب مورد نقدٍ من قبل الكثير من العلماء المحدّثين بسبب نقله الأخبار والروايات غير المعتبرة والمرسلة1، ومع كلّ ذلك فقد أخذ هذا الأثر موقعه المهمّ بين قرّاء العزاء، وكان له أثر كبير على المقاتل التي صنّفت من بعده، بل كان له الأثر في وجود بعض الروايات الضعيفة والغريبة التي وقعت في قراءة مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام في القرون الأخيرة.
 
1- عدد أفراد جيش عمر بن سعد كان سبعين ألفاً2.
2- قصة عرس القاسم3.
3- قتل الإمام الحسين عليه السلام عشرة آلاف رجلٍ من جيش العدوّ من دون هزيمة ذلك الجيش بسبب أعداده الكبيرة4.
  
 
 

1- المحدّث النوريّ- اللؤلؤ والمرجان- ص 183- 184- الميرزا محمّد الإشراقيّ المعروف بأرباب- الأربعين الحسينيّة- ص 14- 56- 208.
2- الطريحيّ- المنتخب في جمع المراثي والخطب- ص 37- 280.
3- المصدر نفسه- ص 372- 375.
4- المصدر نفسه- ص 463.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

84

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 4- أسطورة راعي إبل الإمام الحسين عليه السلام 1.

وغير ذلك..
 
3- مقتل الحسين عليه السلام المنسوب إلى أبي مخنف:
إنّ بعض الأخبار الكاذبة والضعيفة قد نسبت- وكما أُشير إلى ذلك سابقاً- إلى أبي مخنف منذ القرن السادس وما بعده، بسبب اعتبار ووثاقة أخباره وقدمها الزمانيّ، إلّا أنّ تلك الأخبار غير موجودة في أيّ مصدر من المصادر المعتبرة التي نقلت روايات أبي مخنف. فقد وصل الحال في نسبة الأخبار الكاذبة والضعيفة والسخيفة إلى أبي مخنف في القرون المتعاقبة إلى حدّ أنّ البعض قد ألّف كتاباً، في القرون المتأخّرة، منسوباً إلى أبي مخنف تحت عنوان (مقتل الحسين عليه السلام المشتهر بمقتل أبي مخنف) من أجل أن تلقى الأخبار والروايات الكاذبة والضعيفة قبولاً لدى القرّاء والمستمعين.
 
بعض النماذج الغريبة والمحرّفة:
1- نقل أخبار المقتل عن أبي مخنف، وهو عن هشام، عن أبيه محمّد بن سائب الكلبيّ، والحال أنّ هشاماً هو تلميذ أبي مخنف، وهو الذي يروي عن أستاذه وليس العكس!!2
2- نقل خبرٍ عن الكلينيّ، مع أنّ أبا مخنف توفّي عام (157 هـ) ووفاة الكلينيّ كانت عام (329 هـ)3.
3- خبر رجوع الإمام الحسين عليه السلام عن مسير كربلاء نحو المدينة، عند سماعه خبر شهادة مسلم وهاني، ولواذه بقبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكائه هناك4.
  
 
 

1- المصدر السابق- ص 90- 92.
2- أبو مخنف - مقتل الحسين عليه السلام - ص 2.
3- المصدر نفسه- ص 7.
4- المصدر السابق- ص 39.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

85

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 4- ركوب الإمام عليه السلام سبعة من الجياد وتخلّيه عنها بسبب توقّفها عن الذهاب إلى كربلاء1.

5- رواية شهادة الطرماح بن عديّ في كربلاء، والحال أنّه لم يذهب إلى كربلاء أصلاً2.
6- خبر الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام وأنّه كان ذا ستّة أشهر، وبقاؤه ثلاثة أيّام لم يذق ماءً، وذبحه بسهم من الأذن إلى الأذن الأخرى3.
7- جلوس الشمر على صدر الإمام عليه السلام والحوار الذي جرى بينه وبين الشمر حول شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هل هي أفضل أم الحصول على الجائزة من يزيد؟ وعندما أجاب الشمر بأنّ الحصول على الجائزة أفضل طلب الإمام عليه السلام منه ماءً، فرفض الشمر وقال: لا والله لن تشرب الماء حتّى تذوق الموت4.
 
4- تظلّم الزهراء من إهراق دماء العباد:
إنّ مؤلّف هذا الكتاب هو رضى بن نبي القزوينيّ (عاش إلى سنة 1134 هـ). وتاريخ تأليفه كان عام (1118 هـ)، يقول الكاتب في مقدّمة كتابه: هذا الأثر هو شرح لكتاب الملهوف للسيّد ابن طاووس ومعظم مصادره هي مصادر بحار الأنوار مثل: الملهوف، ومجالس (الأمالي) للشيخ الصدوق، والإرشاد للشيخ المفيد، والمنتخب للطريحيّ، ومثير الأحزان، ومقاتل الطالبيّين، ومناقب آل أبي طالب، وتسلية المجالس للسيّد محمّد بن أبي طالب الحسينيّ وغير ذلك5.
 
إنّ ترتيب هذا الكتاب وتبويبه هما على نسق ترتيب كتاب الملهوف وتبويبه، حيث 
  
 
 

1- المصدر نفسه- ص 48- 49.
2- أبو مخنف - مقتل الحسين عليه السلام - ص 72.
3- المصدر نفسه - ص 92.
4- المصدر السابق- ص 92.
5- رضى بن نبي القزوينيّ- تظلّم الزهراء من إهراق دماء آل العباد- ص 6.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

86

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 يتألّف من ثلاث مقدّمات وثلاثة مقاصد وخاتمة، كلّ مقصد مع الخاتمة يحتوي على عدّة مجالس.المقدّمة الأولى: بعض معجزات الإمام الحسين عليه السلام وكراماته ومكارم أخلاقه واحتجاجاته. المقدّمة الثانية: بعض الروايات حول فضيلة البكاء والتباكي على الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة الأئمّة عليهم السلام. المقدّمة الثالثة: الروايات الواردة في آداب التعزية لا سيّما في اليوم التاسع والعاشر.

 
وأمّا المقاصد، فالمقصد الأوّل: يتحدّث عن بعض الأمور التي حصلت قبل المعركة في كربلاء وفيه ستّة مجالس. المقصد الثاني: وقائع كربلاء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره وفيه أربعة مجالس. المقصد الثالث: أسر أهل البيت عليهم السلام والمسير إلى الكوفة والشام ورواية حضور أهل البيت عليهم السلام يوم الأربعين إلى كربلاء ورجوعهم إلى المدينة، وفيه أربعة مجالس. وأمّا خاتمة الكتاب - وهي أكثر من (160) صفحة، فإنّها تتضمّن مباحث مثل: رجعة الإمام الحسين عليه السلام في زمن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، والعقوبات التي نزلت بقاتلي الإمام الحسين عليه السلام وثورة المختار، وموقف الحكّام الأمويّين والعبّاسيّين من قبر الإمام الحسين عليه السلام .
 
وقد قال الواعظ التبريزيّ الخيابانيّ، مضافاً إلى ذمّه لبعض الأخبار الواردة في هذا الكتاب وانتقاده بشدّة مؤلّف هذا الكتاب، لنقله مثل هذه الأخبار، قال: إنّ بعض النساخ قد غيّر وبدّل وتصرّف بهذا الأثر1، إلّا أنّ بعض المحقّقين تجاهل كلام الخيابانيّ وعمل على تصحيح ذاك الكتاب!!
 
بعض النماذج الضعيفة:
1- خبر خروج الطرماح بن عدي يوم عاشوراء2، مع أنّه لم يكن موجوداً أصلاً في كربلاء.
  
 
 

1- الواعظ التبريزيّ الخيابانيّ- وقائع الأيّام في تتمّة محرّم الحرام- ج 4- ص 112- 121.
2- رضى بن نبي القزوينيّ- المصدر- ص 227.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

87

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 2- نقل خبر منتخب الطريحيّ حول قتل الإمام الحسين عليه السلام عشرة آلاف مقاتل من جيش الأعداء، مع توجيه ذلك الخبر وتأييده1.

 
3- حكاية الطائر المجروح جناحه وشفاء البنت اليهوديّة2.


5 - محرق القلوب:
إنّ مصنّف هذا الكتاب هو محمّد مهدي بن أبي ذرّ الكاشانيّ المشهور بالنراقيّ3 (12094 أو1211هـ5). وهو والد الملّا أحمد النراقيّ صاحب كتاب معراج السعادة وجامع السعادات. 
 
كتب هذا الأثر باللغة الفارسيّة بشكل مفصّل، ويحتوي على مقدّمةٍ وعشرين مجلساً6، وباعتبار أنّه يتضمّن بعض المطالب الغريبة والضعيفة، لم يلق قبولاً فيما مضى، وهو مطبوع فقط بنسخةٍ حجريّة.
 
نماذج من المطالب الضعيفة والغريبة:
1- حضور هاشم بن عتبة المرقال (ابن عمّ عمر بن سعد) يوم عاشوراء في كربلاء، وسماح الإمام عليه السلام له بقتال الأعداء، وحكاية قتاله الخرافيّة7، والمعروف من خلال الروايات التاريخيّة المعتبرة أنّ هاشماً كان من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام وكان حامل لوائه في حرب صفّين، وقد قاتل ضدّ جيش معاوية حتّى استشهد8.
 
2- وصول جيش من أهل الشام قوامه ألف مقاتل إلى كربلاء بإمرة شمعان (شمعون) ابن مقاتل9.
  
 
 

1- المصدر السابق- ص 208.
2- المصدر- ص 233- 235.
3- راجع حول سيرة النراقيّ ومصنّفاته: الميرزا محمّد التنكابنيّ (قصص العلماء)- ص 132- 133. 
4- الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ- الذريعة إلى تصانيف الشيعة- ج 20- ص 149.
5- إسماعيل باشا البغداديّ- هديّة العارفين- ج 2- ص 351.
6- النراقيّ- محرق القلوب- ص 2.
7- المصدر نفسه- ص 118- 119.
8- نصر بن مزاحم المنقريّ- وقعة صفّين- ص 193- 353.
9- النراقيّ- المصدر نفسه- ص 118.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

88

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 3- حكاية زعفران الزاهد1.

4- قصة عرس القاسم، والطريقة الخياليّة في قتاله الأعداء2.
5- قصّة الطائر الملطّخ بالدماء وشفاء البنت اليهوديّة3.
 
6 - إكسير العبادات في أسرار الشهادات:
هذا الأثر من تصنيف الملّا آغا بن عابد بن رمضان بن زاهد الشيروانيّ الدربنديّ الحائريّ المعروف بـ (الفاضل الدربنديّ) (م 1285 أو 1286هـ)4 ويشتهر هذا الكتاب باسم (أسرار الشهادة) حيث شرح فيه المؤلّف واقعة عاشوراء بشكل موسّعٍ وقد ضمّن المصنّف كتابه ((24) مجلساً و(12) مقدّمة وخاتمة تحتوي أيضاً ثلاثة مجالس) وقد استغرق هذا الكتاب من الزمن لتصنيفه ثمانية عشر شهراً، وتاريخ الانتهاء منه هو يوم الجمعة الخامس عشر من ذي القعدة سنة 1272 هـ5.
 
يتمتّع هذا الكتاب بخصائص عديدة نشير إلى ثلاثة منها:
1- ميزة التحليل: لم يكتف المؤلّف بتدوين الأخبار وذكر الوقائع بل عمل على تحليل الروايات والجمع بين الأخبار المتعارضة، إذ إنّه كان يمتاز بذهنٍ خلّاق وفكر وقّاد مضافاً إلى معرفته بالحكمة وعلم المعقول.
2- وجود الأخبار المجعولة والأسطوريّة فيه: إنّ كاتب هذا الأثر، بالإضافة إلى نقله الكثير من الروايات الملفّقة بل الخرافيّة في بعض الموارد، حاول توجيه تلك المنقولات وذكر أدلّةٍ على صحّتها.
3- التفصيل والتوسّع في المطالب: إنّ هذا الكتاب يعدّ- إلى زمان تصنيفه - أكثر المؤلّفات تفصيلاً بين جميع الكتب التي صنّفت حول تاريخ عاشوراء6.
 
 


1- المصدر السابق- ص 152.
2- المصدر نفسه- ص 126- 130.
3- النراقيّ- محرق القلوب- ص 108.
4- محمّد حسن خان معتمد السلطنة: المآثر والآثار- ص 139- والشيخ آغا بزرك الطهرانيّ- المصدر- ج 11- ص 139- 279.
5- الفاضل الدربنديّ- إكسير العبادات في أسرار الشهادات- ج 3- ص 919.
6- محمّد الإسفندياريّ- المصدر- ص 111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

89

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 كان الدربنديّ مواظباً على إقامة مجالس العزاء لسيّد الشهداء عليه السلام ومتشدّداً في ذلك ومصرّاً عليه بحيث إنّه كان يغمى عليه من شدّة البكاء، وفي يوم عاشوراء كان ينزع ثيابه عن بدنه، ويتستّر بإزار، وينثر التراب على رأسه، ويمسح الطين بجسده، ثمّ يذهب على هذه الهيئة إلى المنبر1.

 
يُعتبر الدربنديّ هو المؤسّس أو المروّج لعادة التطبير (ضرب الرأس) وقد كتب "مهدي بامداد" حول ذلك قائلاً: (كان يرى جواز ضرب الرأس بآلةٍ حادّة بل فعل ذلك أيضاً، ومنذ ذلك الوقت جرى عوامّ الناس على ذلك العمل تبعاً له في أيّام عاشوراء)2.
 
إنّ الدربنديّ وباعتبار مبناه الخاصّ في نقل واقعة كربلاء، نجده لا يتأبّى عن نقل المطالب والأخبار الضعيفة وغير المسندة، بل في بعض الأحيان الروايات موهونة. ولذا نرى ضعف هذا المبنى وسخافته ووهن أساسه في نقل وقائع تاريخ عاشوراء عندما نرجع إلى كلامه حول كيفيّة تصنيف هذا الكتاب، بالاستفادة من كتابٍ آخر ألّفه أحد قرّاء العزاء المعاصرين له واسمه السيّد جعفر3.
 
ومن هنا فإنّنا - وبسبب ما يحمل كتاب الدربنديّ من الأخبار الضعيفة وغير الموثّقة - نجد هذا الأثر- منذ بداية تأليفه - مورداً للإشكالات القويّة والنقد اللاذع والتوهين الشديد من قبل الباحثين المعاصرين للدربنديّ، والعلماء المتأخّرين عنه، وأيضاً من قبل المحدّثين والمحقّقين أمثال: المحدّث النوريّ4 والتنكابنيّ5 والشيخ آغا بزرك الطهرانيّ6 والسيّد محسن الأمين7 والأستاذ المطهريّ8.
  
 
 

1- الميرزا محمّد التنكابنيّ- المصدر- ص 109.
2- مهدي بامداد- شرح حال رجال إيران- ج 4- ص 138.
3- الفاضل الدربنديّ- المصدر- ج 2- ص 305- 306.
4- الميرزا حسين النوريّ- المصدر- ص 167- 169- 195.
5- الميرزا محمّد التنكابنيّ- المصدر- ص 108.
6- آغا بزرك الطهرانيّ- المصدر- ج 2- ص 279.
7- السيّد محسن الأمين العامليّ- أعيان الشيعة- ج 2- ص 88.
8- الشهيد المطهريّ- حماسه حسيني- ج 1- ص 55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

90

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 وقد قام الدربنديّ - حسب قول الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ - بترجمة جزء من هذا الكتاب من فصل (مقام الوحدة للحسين عليه السلام) الذي يضمّ ثلاثة عشر باباً (يحتوي كلّ بابٍ على عدّة مجالس) وجعله على اسم ناصر الدّين شاه فسمّاه (سعادات ناصري) الذي طبع مرّاتٍ عديدة1.

 
كذلك قام شخص يدعى الميرزا محمّد حسين بن عليّ الأكبر بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسيّة تحت اسم (أنوار السعادة في ترجمة أسرار الشهادة) وطبعه في تبريز2.


وباعتبار أنّ متن كتاب أسرار الشهادة صُنّف باللغة العربيّة وكان مفصّلاً جدّاً، فقد ألّف الدربنديّ مقتلاً فارسيّاً مختصراً بعنوان (سرمايه إيمان وجواهر إيقان در ترجمة وشرح أسرار الشهادة)3 وهو مطبوع أيضاً4.
 
وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الطبعة القديمة من كتاب الدربنديّ فيها بعض من المطالب الكاذبة وغير الواقعيّة، وأمّا في الطبعة الجديدة المحقّقة فإنّ بعض هذه المطالب السخيفة والضعيفة قد حُذفت منها5.
 
ومع صرف النظر عن المبنى غير الصحيح والمخالف للموازين العلميّة لدى المصنّف، فإنّه لا يمكن توقّع الدقّة العلميّة والمتانة في اختيار الأخبار الصحيحة والروايات المعتبرة من واقعة عاشوراء في كتابٍ يعدّ من المطوّلات وصنّف بهذه السرعة (فقد سبق معنا أنّ هذا الكتاب كان إلى زمان تصنيفه أكثر الكتب تفصيلاً 
  
 


1- آغا بزرك الطهرانيّ- المصدر- ج 2- ص 279- وج 12- ص 179- 180.
2- المصدر- ج 2- ص 429.
3- المصدر- مقدّمة الكتاب- ص 3- (من دون ذكر أيّ علامة للكتاب)- إلّا أنّ الناشر وضع عنواناً لهذا الكتاب باسم جواهر الإيقان وسرماية إيمان.
4- المصدر- ج 5- ص 264.
5- المصدر- ج 1- ص 29- كمثال على ذلك، فقد ورد في الطبعة القديمة (طهران- منشورات الأعلميّ) المجلس العاشر- ص 6- يذكر الدربنديّ أنّ عدد جيوش الأعداء (460) ألف جندي، قتل منهم على يد الإمام الحسين عليه السلام (330) ألفاً، وقتل على يد أبي الفضل العبّاس- عدا الجرحى- (25) ألفاً- و(25) ألفاً على يد بقيّة بني هاشم ولم يبق من معسكر عمر بن سعد سوى ثمانين ألفاً، إلّا أنّه في الطبعة الجديدة حذفت هذه الرواية لأنّها من الأساطير والخرافات الواضحة (ج 2- ص 545).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

91

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 حول سيرة الإمام الحسين عليه السلام وقد كتب خلال ثمانية عشر شهراً مع تلك الإمكانات الضعيفة في ذلك الزمان للاطلاع على المصادر المعتبرة فضلاً عن تنقيتها وتهذيبها للاستفادة منها).



بعض النماذج الضعيفة والغريبة:
إنّ هذا الأثر وبسبب أبحاثه المفصّلة والمبسوطة- قد احتوى على الكثير من الأخبار المجعولة والواهية والغريبة والأسطوريّة...وسنكتفي هنا بالإشارة إلى بعض تلك الموارد:
 
1- الرواية الغريبة حول كيفيّة خروج الإمام الحسين عليه السلام بعياله من المدينة المنوّرة مع أربعين محملاً من الحرير والديباج على هيئة الأمراء والسلاطين!!1
 
2- الخبر الأسطوريّ والخياليّ عن أعداد جيش عمر بن سعد، حيث وصل إلى (160.0000)2 رجل، وفي مكان آخر (460.000) رجل، قتل منهم (330.000) بِيَد الإمام الحسين عليه السلام و (25.000) قتيل على يد بقيّة الأنصار من بني هاشم، ولم يبق منهم على قيد الحياة إلّا ثمانون ألفاً فقط!!3
وفي موضع آخر وصل عدد القتلى من الأعداء على يد الإمام الحسين عليه السلام إلى أربعمائة ألفٍ من الجيش الذي بلغ تعداده خمسمائة ألف مقاتل4.
 
3- إنّ يوم عاشوراء كان سبعين ساعة5 أو اثنتين وسبعين منها6.
 
4- ذكر أسماء بعض الأشخاص باعتبارهم من أنصار الإمام الحسين عليه السلام أو 
  
 


1- الفاضل الدربنديّ- المصدر- ج 2- المجلس العاشر- ص 628- 629.
2- المصدر- ج 3- المجلس 13- ص 43.
3- المصدر- ص 345 (الطبعة القديمة) كما سبق القول فإنّ هذا النقل حذف في الطبعة الجديدة لهذا الكتاب (المصدر- ج 2- ص 545).
4- المصدر- ج 3- المجلس الثالث عشر- ص 39.
5- المصدر- ص 43.
6- المصدر- ص 40.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

92

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 من جيش عمر بن سعد، والحال أنّ هؤلاء لم تَرِدْ أسماؤهم في أيّ مصدر معتبر، وذلك مثل: عبد الله بن شقيق1، وإسحاق بن مالك الأشتر2، وكثير بن يحيى الأنصاريّ3، ومارد ابن صديف التغلبيّ4، وغلام باسم (مبارك)5، ومسعود الهاشميّ6، وغيرهم...

 
حكاية راعي إبل الإمام الحسين عليه السلام 7.
ثورة بنتٍ تدعى (درّة الصدف) في حلب بدافع الانتقام والثأر للإمام الحسين عليه السلام وأخذ رؤوس الشهداء وتحرير الأسرى من أيدي جنود يزيد، عندما كانوا ينقلون الأسرى والرؤوس إلى الشام8.
 
7- الدمعة الساكبة:
مصنّف الكتاب هو محمّد باقر البهبهانيّ (م 1258 هـ) الذي كتب في سيرة الأئمّة عليهم السلام مجلّدات عديدة، اثنان منها (الرابع والخامس) يتحدّث فيهما عن الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء ضمن أربعة عشر فصلاً. كان البهبهانيّ من تلامذة الفاضل الدربنديّ ومريديه، ويعبّر عنه في كتابه هذا بقوله (قال الفاضل).
 
نقل الشيخ محمود العراقيّ في كتابه (دار السلام) عن الواعظ التبريزيّ الخيابانيّ مدحاً لمؤلّف كتاب الدمعة الساكبة حيث قال فيه:
 
كان يقرأ العزاء بالطريقة المتعارفة في ذلك الزمان والمكان (النجف) حيث يقرؤون المصيبة عن كتب المقاتل الفارسيّة مثل (روضة الشهداء) و(محرق
  
 
 

1- الفاضل الدربنديّ- المصدر- ج 2- المجلس العاشر- ص 275.
2- المصدر- ص 284.
3- الفاضل الدربنديّ- ص 291.
4- المصدر- ص 499.
5- المصدر- ص 299.
6- المصدر- ص 298.
7- المصدر- ج 3- ص 157- 162.
8- المصدر- المجلس الثامن والعشرون- ص 445- 450.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

93

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 القلوب) وأمثالهما وقد كان للبهبهانيّ تأثير عظيم في قراءته بسبب الإخلاص الذي كان يمتاز به، وإن لم يكن متمكّناً من العبارات العربيّة لعدم معرفته بها1.

 
استفاد البهبهانيّ كثيراً من كتاب (المنتخب) للطريحيّ في نقل وقائع عاشوراء، وهناك مصادر أخرى أيضاً استند إليها مثل: بحار الأنوار، وعوالم العلوم، وتظلم الزهراء، ومسند البتول، وتذكار الحزين، وجامع الأخبار، ونور العين، ومهيج الأحزان، ومعدن البكاء والمصائب، والمقتل المنسوب إلى أبي مخنف، والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام. وقد احتوى الكتاب على بعض المطالب الضعيفة والغريبة أيضاً2.
 
8- ناسخ التواريخ:
كتب الميرزا محمّد تقيّ لسان الملك المعروف بـ (سبهر الكاشانيّ) (1216- 1297 هـ) مجموعة تاريخيّة تمتدّ من عهد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى عصر المصنّف، وقد خصّص قسماً من هذا الكتاب للحديث عن سيرة الإمام الحسين عليه السلام بشكل موسّع.
 
كان زمان كتابة هذا الجزء من الكتاب في عهد ناصر الدّين شاه عام (1290- 1291 هـ)وكان هدف المؤلّف من هذا الكتاب- كما يظهر من اسمه المبالغ فيه- هو استغناء القارئ عن كلّ الكتب التاريخيّة الأخرى، ولذا فقد اشتمل على الكثير من المطالب الضعيفة وغير المعتبرة، ولهذا وباعتبار أنّ المؤلّف كان من رجال البلاط الملكيّ أيضاً، لم يلق كتابه قبولاً في المجامع العلميّة، بل إنّ بعض العلماء لم يجز مطالعته4.
 
ولكن بالرغم من كلّ ذلك فقد كان هذا المصنَّف معتمداً لدى عموم الناس والخطباء وأهل المنبر على مدى عدّة عقود.
  



1- الواعظ الخيابانيّ- وقائع الأيّام في تتمّة محرّم الحرام- ج 4- ص 25.
2- محمّد باقر عبد الكريم البهبهانيّ- الدمعة الساكبة- ج 4- ص 327 وص 331 وص 332 وص 322- 323 وص 324.
3- فقد قال هو في كتابه: (وقد وصلنا الآن في التاريخ الهجريّ إلى العام 1291 هـ) المصدر- ج 6- ص 361.
4- السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ (تحقيق درباره، أول أربعين حضرت سيد الشهداء عليه السلام )- ص 178.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

94

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض النماذج من الروايات الضعيفة والغريبة:

1- خبر تفرّق أنصار الإمام الحسين عليه السلام عنه ليلة العاشر، وبقاء أقربائه وخواصّه فقط!!1
2- الترجمة الخاطئة لكلمة (مسنّاة) بالإبل2.
 
3- الرواية الخياليّة لطرماح بن عديّ حول رجوع رأس الإمام عليه السلام إلى جسده الشريف، ورؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكان شهادته، مع أنّ طرماح لم يكن من الشهداء بل التقى بالإمام عليه السلام أثناء المسير فقط، ثمّ وصل إليه خبر شهادة الإمام عليه السلام قبل وصوله إلى كربلاء، فرجع أدراجه3.
 
4- قعود الشمر على صدر الإمام الحسين عليه السلام والحوار الذي جرى بينه وبين الشمر حول شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هل هي أفضل أم الحصول على الجائزة من يزيد؟ وعندما أجاب الشمر بأنّ الحصول على الجائزة هو الأفضل طلب الإمام عليه السلام منه ماءً فرفض الشمر وقال: لا والله لن تشرب الماء حتّى تذوق الموت عطشاً4.
 
9-تذكرة الشهداء:
مؤلّف هذا الكتاب هو الملّا حبيب الله شريف الكاشانيّ387 (م 1340 هـ) الذي يعدّ من العلماء البارزين في العهد القاجاريّ، وله مؤلّفات كثيرة في مختلف العلوم، منها هذا الكتاب المفصّل (تذكرة الشهداء) في تاريخ عاشوراء. يشتمل هذا الأثر على أخبار وروايات ضعيفة ومخدوشة أدّت إلى تشويه الصورة الحقيقيّة لواقعة عاشوراء.
 
 
 

1- السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ (تحقيق درباره، أول أربعين حضرت سيد الشهداء عليه السلام )- ص 237.
2- المصدر- ص 286.
3- المصدر- ص 299.
4- المصدر السابق- 293.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

95

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض النماذج من الروايات الضعيفة والغريبة:

1- خبر تفرّق أنصار الإمام الحسين عليه السلام عنه ليلة العاشر، وبقاء أقربائه وخواصّه فقط!!1
2- الترجمة الخاطئة لكلمة (مسنّاة) بالإبل2.
 
3- الرواية الخياليّة لطرماح بن عديّ حول رجوع رأس الإمام عليه السلام إلى جسده الشريف، ورؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكان شهادته، مع أنّ طرماح لم يكن من الشهداء بل التقى بالإمام عليه السلام أثناء المسير فقط، ثمّ وصل إليه خبر شهادة الإمام عليه السلام قبل وصوله إلى كربلاء، فرجع أدراجه3.
 
4- قعود الشمر على صدر الإمام الحسين عليه السلام والحوار الذي جرى بينه وبين الشمر حول شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هل هي أفضل أم الحصول على الجائزة من يزيد؟ وعندما أجاب الشمر بأنّ الحصول على الجائزة هو الأفضل طلب الإمام عليه السلام منه ماءً فرفض الشمر وقال: لا والله لن تشرب الماء حتّى تذوق الموت عطشاً4.
 
9-تذكرة الشهداء:
مؤلّف هذا الكتاب هو الملّا حبيب الله شريف الكاشانيّ (م 1340 هـ) الذي يعدّ من العلماء البارزين في العهد القاجاريّ، وله مؤلّفات كثيرة في مختلف العلوم، منها هذا الكتاب المفصّل (تذكرة الشهداء) في تاريخ عاشوراء. يشتمل هذا الأثر على أخبار وروايات ضعيفة ومخدوشة أدّت إلى تشويه الصورة الحقيقيّة لواقعة عاشوراء.
 
 
 

1- السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ (تحقيق درباره، أول أربعين حضرت سيد الشهداء عليه السلام )- ص 237.
2- المصدر- ص 286.
3- المصدر- ص 299.
4- المصدر السابق- 293.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

96

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض النماذج من الروايات الضعيفة والغريبة:

1- حضور أربعمائة رجل من أهل الفتوى في كربلاء أفتوا بقتل الإمام الحسين عليه السلام ومنهم ظفر بن ملجم، وإلقاء العصا والعود على الإمام عليه السلام بدلاً من استخدام الرماح والسيوف1.
2- عرض السيّدة زينب الترس الملطّخ بالدماء لأبي الفضل العبّاس عليه السلام على أمّه أمّ البنين التي أغمي عليها عندما رأته2.
3- تسليم الإمام الحسين عليه السلام قبضة من اللآلئ إلى أحد جنود الأعداء لإيصالها إلى ابنته التي أوصته حين خروجه من بيته أن لا يرجع من السفر إلّا وقد جلب لها معه هديّة3.
4- امتناع الجواد ذي الجناح عن المسير بالإمام عليه السلام إلّا أن يعده بالركوب عليه يوم القيامة عند الشفاعة للأمّة العاصية4.
 
10- معالي السبطين في أحوال السبطين الإمامين الحسن عليه السلام والحسين عليه السلام:
إنّ مصنّف هذا الكتاب هو محمّد مهدي الحائريّ المازندرانيّ (1300- 1385 هـ) وعلى الرغم من أنّ هذا الأثر يشمل سيرة الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام إلّا أنّ معظمه يتحدّث عن الإمام الحسين عليه السلام. وقد اعتمد المؤلّف في كتابه هذا على المصادر الضعيفة وغير الموثّقة، مثل: روضة الشهداء، ومنتخب الطريحيّ، ومقتل الحسين عليه السلام المنسوب إلى أبي مخنف، ومدينة المعاجز، وناسخ التواريخ، وأسرار الشهادة، وتظلّم الزهراء عليها السلام وأمثال تلك، ولذا فقد دخل على كتابه الكثير من التحريفات والأكاذيب.
 
 
 

1- الملّا حبيب الله الشريف الكاشانيّ- تذكرة الشهداء- ص 279- 280.
2- المصدر نفسه- ص 443.
3- المصدر السابق- ص 325.
4- المصدر نفسه- ص 312.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

97

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض النماذج من الروايات الضعيفة والغريبة:

1- حضور ليلى في كربلاء وخروجها من الخيمة حافية الأقدام ومكشوفة الرأس عند شهادة عليّ الأكبر..1
2- خرافة راعي إبل الإمام الحسين عليه السلام 2.
3- حكاية الطائر الملطّخ جناحه بالدماء وشفاء البنت اليهوديّة3.
 
11- نور العين في مشهد الحسين عليه السلام:
نُسب هذا الكتاب إلى إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران الشافعيّ الأشعريّ المعروف بـ (أبو إسحاق الأسفراينيّ) (م 417- أو 418 هـ) ولا يوجد في هذا المصنّف فصول ولا عناوين، ولم يذكر الكاتب أيّة أسانيد لرواياته، بل كان يقول عند أوّل كلّ نقلٍ، (قال الراوي)، ولهذا فإنّ طريقة هذا الأثر تشبه الحكايات الشعبيّة.
 
يعتقد بعض المحقّقين أنّ هذا الكتاب ملفّق في نسبته إلى الأسفراينيّ لأنّ أسلوب الكتابة فيه لا يتلاءم مع أسلوب مصنّفات القرن الرابع4، وممّا يؤيّد هذا الرأي، أنّ كاتب هذه السطور، صادف عند مراجعته لذاك الكتاب والبحث في بعض مطالبه عبارة حول محلّ دفن الرأس الشريف للإمام الحسين عليه السلام حوّلت ظنّه
 
 
 

1- الملّا حبيب الله الشريف الكاشانيّ- تذكرة الشهداء- ص 255.
2- المصدر نفسه- ص 35- 36.
3- المصدر نفسه- ص 33- 34.
4- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة- ص 655- الرقم 839- ولتأييد الكلام المذكور ينبغي القول بأنّ المصادر المتقدّمة التي تحدّثت عن سيرته لم تذكر مثل هذا الكتاب عند إحصاء مصنّفاته (ابن عساكر- تبيين كذب المفتري- ص 240- 241- ابن خلكان- وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان- ج 1- ص 28- تاج الدّين أبي نصر عبد الوهّاب بن عليّ السبكيّ- طبقات الشافعيّة الكبرى- ج 4- ص 257- شمس الدّين الذهبيّ- سير أعلام النبلاء- ج 17- ص 5- ابن كثير- البداية والنهاية- ج 12- ص 30- إنّ أوّل من نسب هذا الكتاب إلى الأسفراينيّ هو إسماعيل باشا نقلاً عن وفيات الأعيان (هديّة العارفين- ج 1- ص 8)، إلّا أنّ مراجعة كتاب الوفيات تنفي تلك النسبة، ومن بعده جاء يوسف اليان سركيس (معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة- ج 1- ص 436) والشيخ آغا بزرك (الذريعة- ج 17- ص 72- 73) وأخيراً السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ (المصدر- ص 654) ونسبوا هذا الكتاب للإسفراينيّ، ويظهر أنّ مستند هذه النسبة هو قول إسماعيل باشا لا غير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

98

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 إلى يقين بأنّ هذا الكتاب يُعتبر من المصنّفات المتأخّرة، وتلك العبارة هي: (روي عن طائفة الفاطميّة الذين حكموا مصر أنّ الرأس وصل إليهم ودفنوه في مشهده المشهور)إذ إنّ انتقال الرأس من عسقلان إلى مصر ودفنه في القاهرة وبناء مقام عظيم فوقه إنّما حصل - وبحسب روايات المؤرّخين للعصور الفاطميّة- بعد عام (548) أي بعد وفاة الأسفراينيّ بـ (130) عاماً2.

 
ونقل أيضاً بأنّ طلائع ابن زرّيك - الوزير الشيعيّ للخليفة الفاطميّ (الفائز بالله) بنى ذلك المقام الجليل عام (549 هـ) بعد نقل الرأس الشريف إلى القاهرة3.


وأمّا بالنسبة إلى القيمة العلميّة لروايات هذا الكتاب، فيلزم القول بأنّ الكثير من هذه الأخبار والمطالب ضعيفة ومجعولة وسخيفة، وليس لها أيّ اعتبار عند المحقّقين، كما صرّح بذلك الشهيد القاضي الطباطبائيّ قائلاً: (إنّ هذا الكتاب ضعيف جدّاً، ولا يمكن الاعتماد عليه)4، و(هو مجعول ومؤلّفه مجهول)5، وحسب رأيه هو مقتل مملوء بالروايات المجعولة والمنقولات الخياليّة والحكايات6.
 
الأمر الأخير في هذا الموضوع: أنّه لو ثبت نسبة هذا الكتاب إلى الأسفراينيّ فينبغي العلم أنّه في عقيدة الصاحب بن عبّاد كان من مثيريّ الفتن بين المسلمين، ولذا لا يمكن الاعتماد على مطالب هذا الكتاب7.
 
 
 
 

1- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ- أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة- ص 72.
2- شهاب الدّين- أحمد بن عبد الوهاب النويريّ- نهاية الإرب في فنون الأدب- ج 20-ص 300.
3- العلّامة عبد الحسين أحمد الأمينيّ- الغدير- ج 4- ص 349.
4- القاضي الطباطبائيّ- المصدر- ص 60.
5- المصدر السابق- ص 221.
6- المصدر نفسه - ص 640.
7- ابن عساكر- تبيين كذب المفتري- ص 241- تاج الدّين أبي نصر عبد الوهّاب بن عليّ السبكيّ- المصدر- ج 4- ص 257- شمس الدّين الذهبيّ- المصدر- ج 17- ص 354- الشيخ عبّاس القمّي- الكنى والألقاب- ج 2- ص 26.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

 


99

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 بعض الموارد الضعيفة والغريبة:

1- قتل مسلم بن عقيل من الرجال (1100) من أصل (2800) جندي أرسلهم ابن زياد لاعتقاله1.
2- قتل الإمام الحسين عليه السلام من الأعداء (1600) رجل2.
3- جلوس الشمر على صدر الإمام عليه السلام والحوار الذي جرى بينهما حول شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، هل هي أفضل أم جائزة يزيد؟ وجواب الشمر أنّ الجائزة أفضل، ورفض الشمر طلب الإمام عليه السلام شربة ماءٍ وقوله له: لا والله لن تشرب الماء حتّى تذوق الموت عطشاً3.
 
12- مقاتل ومصنّفات عاشوراء في زماننا المعاصر (القرن الأخير):
يجدر القول بأنّ كتابة المقاتل في المائة السنة الأخيرة كانت أيضاً مورد اهتمام المؤرّخين والباحثين المسلمين، إلّا أنّ أهمّ المميّزات البارزة في مصنّفات هذا العصر- مضافاً إلى الفوائد العاطفيّة التي تُعتبر ميراثاً للمصنّفات القديمة وتعدّ من مقتضيات حادثة عاشوراء- هي الثمرات السياسيّة من حركة الإمام الحسين عليه السلام والتوجّه إلى مفهوم مواجهة الظلم في واقعة عاشوراء، والتي أكّد عليها المؤرّخون لواقعة كربلاء حيث اعتبروا أنّ عاشوراء تعدّ من أهمّ العوامل التي جعلت الشيعة يرفضون الظلم ويقفون في وجهه ويقاومون السلاطين والحكّام الظلمة، وبعبارة أخرى إنّ مؤلّفات العصور المتأخّرة حول عاشوراء كانت متأثّرة بالظروف السائدة من حولها وخاصّة الحركات المطالبة بالعدالة، وتدخّل الدّين في السياسة حيث نفخت روح الوعي والحريّة في الأمّة كما حصل مثلاً بوضوح لدى الشعب الإيرانيّ المؤمن.

 
 

1- أبو إسحاق الإسفراينيّ - نور العين في مشهد الحسين عليه السلام ص 28- 29.
2- المصدر نفسه - ص 49.
3- المصدر نفسه- ص 50.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

100

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

 كلّ ذلك كان ولا زال ببركة المعاني السياسيّة والحكومتيّة لواقعة عاشوراء التي كانت تبرز في المجالس الدّينيّة، ومنذ ذلك الحين وإلى وقتنا الحاضر، نرى الفوائد والنتائج السياسيّة تعدّ من أهمّ ثمرات حادثة كربلاء، وهذه وجهة نظر خاصّة في فهم عاشوراء، إلى جانب وجهة نظر أخرى تستثمر من عاشوراء النتائج والفوائد المعنويّة والعاطفيّة.


إنّ البحث والدراسة في هذا المجال- فضلاً عن قصور هذه المقالة عن استيعابه - يحتاجان إلى مناسبة أخرى ومجال خاصّ.
ومن البديهيّ أنّ هذا الأسلوب المعاصر في دراسة كربلاء والتصنيف فيها له أهمّيّة كبرى بحيث يجعل تلك الواقعة، بكلّ أحداثها وشخصيّاتها العظيمة، حيّة خالدة على مدى العصور والأزمان.

النتيجة:
من خلال ما مرّ معنا، يمكن القول إنّ المقاتل والمصادر التاريخيّة لعاشوراء، يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
الأولى: المصنّفات التي كتبت ما بين القرن الثاني والقرن السابع وهي التي تمتاز بقيمة علميّة ويمكن الاعتماد عليها لقدمها الزمانيّ ومتانتها وقوّتها.

وأمّا روايات المجموعة الثانية التي صنّفت ما بين القرن الثامن إلى عصرنا الحاضر، فإنّ ما كان مصادره قديمة وموثّقة يمكن الاستناد إليه، وأمّا ما لم يكن كذلك فلا اعتبار له ولا يمكن الاعتماد عليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

101

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 الطفل الرضيع وعليّ الأصغر1

 

المشهور في كتب المقاتل والتواريخ أنّ طفلاً رضيعاً من أبناء سيّد الشهداء عليه السلام قد استشهد يوم عاشوراء بعد أن أصيب بسهم في عنقه الصغير، ما أظهر مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام وجرائم بني أميّة ضدّ الإنسانيّة للعالم أجمع وإلى الأبد.
 
أمّا ذلك الطفل المعروف بعبد الله الرضيع ووجوده وإصابته بالسهم فقد اعتبروا من المسلّمات كونه عليّ الأصغر وجعلوهما شخصاً واحداً.


وبما أنّ اسم عبد الله الرضيع هو الذي ورد فقط في زيارة الناحية المقدّسة، ولم يرد فيها طفل باسم "عليّ الأصغر" لذلك تُصُوِّرَ اتحادهما وكونهما شخصاً واحداً من غير أن يدقّق في ذلك. ولعلّه لم يخطر على الأذهان وجود أكثر من طفل صغير ولم يبلغ الحلم تعرّض للسهام يوم عاشوراء في ساحة كربلاء واستشهد على أيدي العتاة اليزيديّين.
 
مع أنّ هناك أكثر من عشرة أشخاص من بني هاشم ممّن هم من شهداء كربلاء، ولم يأت ذكرهم في زيارة الناحية المقدّسة، ومن المعلوم أنّ زيارة الناحية لم يكن غرضها إحصاء جميع الشهداء، بل كان غرضها الإشارة إلى أسماء الأجلاء والأعلى شأناً بينهم.
 
ويعلم من كلمة الإمام السجّاد عليه السلام عندما قال: "ذبحت أطفالنا"، أنّ ذبح الأطفال في كربلاء لم يقتصر على طفل واحد.
 
 
 

1- شهيد المحراب العلّامة المحقّق السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ، أوردها في ملحقات كتابه بالفارسيّة: "تحقيق در باره أول أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ".


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

102

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 ويتّضح بعد الدّقة في أحوال أولئك الأطفال وبالأخصّ طفلي الإمام عليه السلام الصغيرين: "عبد الله الرضيع" و "عليّ الأصغر" أنّه تمّ الخلط بينهما. فنقلوا الحالات المختصّة بأحدهما إلى الآخر ممّا أدّى إلى الاشتباه بينهما.

 
أمّا عبد الله فيتّضح من خلال لقبه: "الرضيع" أنّه كان لا زال يرضع، وكذلك يتّضح من تصريح الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد وإعلام الورى، أنّ الإمام عليه السلام جلس أمام الخيم وطلب ذلك الطفل من النساء، وقد تحدّث السيّد، كما ذكر في اللهوف، بأنّ زينب الكبرى عليها السلام جاءته بالصبيّ لكي يودّعه وأمّه رباب بنت امرئ القيس واسمه عبد الله وله من العمر ستّة أشهر، ولمّا قتل عبد الله بن الحسين عليه السلام كانت أمّه الرباب واقفة بباب الخيمة1. وعندما أصاب سهم حرملة رقبة الطفل، كم تغيّر حال نساء بيت العصمة ومخدّرات حرم الإمام عليه السلام؟! الله العالم.
 
ينقل أبو الفرج الأصفهانيّ - مسنداً- أنّ الإمام الحسين عليه السلام طلب طفلاً وأجلسه في حجره ثمّ رمى عقبة بن بشير سهماً ذبحه به.


ويظهر من عبارة أبي الفرج الأصفهانيّ وكذلك من عبارات العظماء أمثال الشيخ المفيد قدس سره حيث قال: (فأجلسه في حجره)2، أنّ الإمام عليه السلام قد أجلس ذلك الطفل في حجره ويبعد بالاعتبار العاديّ أن يجلس الرضيع في حجر الإنسان- فكما سيأتي نقله- لا بدّ أن يكون الطفل، بحسب العادة، أكبر سناً ليتمكّن الإمام عليه السلام من إجلاسه في حجره المبارك.
 
ويقول الشيخ المفيد قدس سره إنّ الإمام عليه السلام جاء بجسد عبد الله ووضعه بين شهداء أهل بيته: ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله3.


وعبد الله الرضيع الذي أصاب السهم نحره فذبحه أمام أعين النساء ومخدّرات أهل بيت العصمة وأمّه جالسة، دفعه الإمام إلى أخته زينب الكبرى عليهما السلام،
 
 
 

1- ذخيرة الدارين، ص 141، ط: النجف.
2- الإرشاد ص 254.
3- الإرشاد ص 254.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

103

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 ثمّ ملأ كفّيه من دم الطفل ورمى بهما إلى السماء كما جاء في اللهوف، أو بقول آخر: أنّه: "صبَّه في الأرض" كما جاء في الإرشاد للشيخ المفيد قدس سره وتاريخ الطبريّ.

 
يقول السيّد قدس سره في اللهوف: إنّ الإمام رأى مصارع أحبّته فنادى: "هل من معين يعيننا؟".
وقال: فارتفعت أصوات النساء بالعويل فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب عليها السلام : "ناوليني ولدي الصغير حتّى أودّعه"، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله، فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه فقال لزينب: "خذيه"، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ثمّ قال: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى". قال الباقر عليه السلام: "فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض"1
 
امتلأت كلتا كفّي الإمام عليه السلام المباركتين من دماء الطفل بعد أن أعطاه لأخته، وقد أخذت الطفل من الإمام بعد أن امتلأت كفّاه فرمى بهما نحو السماء كما تقتضيه العادة والاعتبار، فلو كان الطفل لم يزل بين يدي أبي عبد الله عليه السلام فلا يمكن أن تمتلئ كفّاه دماً والطفل ينتظر، إلّا أن تكون كفّاً واحدة، فامتلاء كلتا الكفّين شاهد على أنّ هذا العمل قد حصل بعد أن أعطى الطفل لأخته زينب الكبرى عليها السلام ، كما صرّحت به عبارة السيّد قدس سره في اللهوف، وتمّ نقله آنفاً.
 
ولم يرد في عبارة الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد، والسيّد قدس سره في اللهوف، ذكر لعطش الطفل "عبد الله الرضيع" والمذكور فقط أنّ الإمام عليه السلام تقدّم نحو الخيم وطلب الطفل ليودّعه ويقبّله، فرماه حرملة بسهم في هذه الأثناء.
 
يقول سبط بن الجوزيّ في تذكرة الخواصّ:
فالتفت الحسين عليه السلام فإذا بطفل له يبكي عطشاً فأخذه على يده وقال: "يا قوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل"، فرماه رجل منهم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول: "اللهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا"،
 
 
 
 

1- اللهوف، ص 66، طبعة صيدا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

104

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 فنودي من الهواء: "دعه يا حسين، فإنّ له مرضعاً في الجنّة"1.

 
إنّ الطفل الذي لم يذكر سبط بن الجوزيّ اسمه، والذي بيَّن إصابته بالسهم، كان يبكي من العطش حيث أخذه الإمام عليه السلام على يده المباركة، ثمّ خاطب القوم الظالمين المتوحّشين: "إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل!"، فرماه رجل منهم بسهم فذبحه.
 
إنّ هذا الوضع الذي يحكي عن وجوده في مقابل القوم يغاير قضيّة (عبد الله الرضيع) لأنّ هذا الطفل الذي حمله الإمام عليه السلام مقابل القوم هو عليّ الأصغر الذي كان يبكي من العطش حيث جاء به الإمام ليطلب له الماء، عندها خاطب القوم: "إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل!" فجعلوه هدفاً لسهامهم. ومن هنا يظهر الخلط بين حالات هذين الطفلين وأنّ النداء السماويّ الذي خاطب الإمام عليه السلام "دعه يا حسين، فإنّ له مرضعاً في الجنّة"، خاصّ بعبد الله الرضيع حيث دفع الإمام عليه السلام الطفل لأخته زينب بمجرّد سماعه النداء، وبما أنّ الأمور قد اختلطت ببعضها البعض، لذلك شاهدنا سبط بن الجوزيّ يذكر هذه الأمور حول عليّ الأصغر.
 
أمّا عليّ الأصغر فلم يكن رضيعاً حيث قال بعضهم: إنّ له من العمر أربع سنوات، ويبدو من خلال صلاة الإمام عليه السلام عليه أنّ له من العمر ستّ سنوات2، وقيل أكثر من هذا أيضاً3.
 
ومعنى ذلك النداء السماويّ هو: أن يا حسين اترك الرضيع، لذلك تركه الإمام عليه السلام فوراً وأعطاه لأخته زينب الكبرى عليها السلام وقال: "يا أختاه خذيه". لقد تلقّى الطفل السهم في عنقه أمام نساء أهل بيت العصمة، وأمام والدته الرباب والله تعالى يعلم ما هو حال وأوضاع مخدَّرات أهل بيت العصمة من مشاهدة

 
 
 

1- تذكرة الخواصّ، ص 252.
2- يقول المحقّق الخواجة نصير الدّين الطوسيّ قدس سره في نقد المحصّل أنّ أحد أبناء الإمام عليه السلام الذي استشهد في يوم عاشوراء واسمه عليّ كان له من العمر سبع سنوات، ص 179، ط: مصر.
3- عبد الله الرضيع، تأليف كاظم الحلفيّ، ص 17، ط: النجف (1376) هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

105

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 ذلك المنظر الأليم الذي ينفطر له القلب!

 
وبمقتضى البعد البشريّ فإنّ محبّة الأولاد كانت تأخذ طريقها إلى قلب الإمام عليه السلام المبارك ولذا جاءه النداء فوراً: يا حبيبي لا تسمح لمحبّة الأولاد عن طريق إصابتهم بالسهام أن تأخذ طريقها إلى قلبك المملوء بمحبة الله تعالى أبداً، بل اتركها وأخرجها من قلبك، لأنّ له مرضعاً في الجنّة وما عليك إلّا أن تشتغل بمحبّتي لتنصرف عن كلّ شيء حتّى عن الأولاد في سبيل ديني. لذلك خاطب الإمام عليه السلام أخته فوراً: "خذي الطفل"، ودفعه إليها.
 
وليس معنى ذلك النداء ما يقوله بعضهم: إنّ المقصود أن اترك الطفل أرضاً لتخرج روحه فإنّ له مرضعاً في الجنّة، وذلك كما أشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول ابنه إبراهيم عليه السلام: "إنّ له مرضعاً في الجنّة"1.
 
يقول محمّد بن طلحة الشافعيّ في مطالب السؤول:
كان له عليه السلام ولد صغير فجاءه سهم فقتله فرمّله عليه السلام بدمه وحفر له بسيفه وصلّى عليه ودفنه، وقال هذه الأبيات: "غَدَرَ الْقَوْمُ وَقِدَماً رَغِبُوْا ..." إلخ.


ثمّ قال: أمّا عليّ الأصغر فجاءه سهم وهو طفل فقتله، و قد تقدّم ذكره عند الأبيات لمّا قتل2
 
يقول الخوارزميّ أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد المكّيّ أخطب خوارزم المتوفّى عام (568 هـ) في كتاب مقتل الحسين عليه السلام :
فتقدّم إلى باب الخيمة وقال: "ناولوني عليّاً الطفل حتّى أودّعه"، فناولوه الصبيّ فجعل يقبّله ويقول: "ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم جدّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم" فبينما الصبيّ في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل الأسديّ، لعنه الله، بسهم فذبحه في حجره، فتلقّى الحسين عليه السلام دمه حتّى امتلأت كفّه ثمّ رمى به نحو السماء وقال:
 
 
 

1- يراجع الإصابة ترجمة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتهذيب الأسماء للنوويّ، ج 1، ص 102.
2- مطالب السؤول، ص 73.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

106

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 "اللهمّ إنْ حبست عنّا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا". ثمّ نزل الحسين عليه السلام عن فرسه وحفر للصبيّ بجفن سيفه ورمّله بدمه ثمّ صلّى عليه ودفنه، ثمّ وثب قائماً وركب فرسه ووقف قبالة القوم مصلتاً سيفه بيده آيساً من نفسه، عازماً على الموت، وهو يقول: "أَنَاْ ابْنُ عَلِيِّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاْشِمِ ..."إلخ1.

 
ومن خلال الدقّة في عبارات الخوارزميّ يظهر وجود خلط بين قضيّة عبد الله الرضيع وقضيّة عليّ الأصغر، لأنّهم اعتبروهما شخصاً واحداً، فنقلوا ما يتعلّق بهما معاً. وبناءً على ما صرّح به الأعاظم كالشيخ المفيد قدس سره والآخرين فإنّ الإمام عليه السلام عند وداع عبد الله الرضيع جلس على الأرض أمام الخيم وطلب الطفل للوداع، ولكنّ الخوارزميّ، ومع أنّه أشار إلى هذا الأمر، إلّا أنّه أضاف أنّ الإمام عليه السلام ترجّل عن الفرس بعد إصابة الطفل، وحفر بسيفه الأرض، ودفن الطفل والدماء عليه. وقد صرّح الخوارزميّ - كما في النسخة الخطّيّة-2 ومحمّد بن طلحة الشافعيّ أنّه دفنه، وكلاهما صرّحا بأنّ الإمام عليه السلام صلّى على ذلك الطفل.
 
الواضح أنّ قضايا هذين الطفلين قد اختلطت ببعضها: الإمام عليه السلام جالس على الأرض عند وداع عبد الله الرضيع، وراكب على الفرس أمام العسكر عند إصابة عليّ الأصغر بالسهم فطلب الماء له، ثمّ ترجّل عن الفرس، ثمّ صلّى عليه. من المفيد هنا ذكر عين عبارات الشيخ الأعظم المفيد قدس سره.


جاء في الإرشاد:
ثمّ جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط فأُتي بابنه عبد الله بن الحسين عليه السلام وهو طفل، فأجلسه في حجره فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين عليه السلام
 
 
 

1- مقتل الخوارزميّ، ج 2، ص 32، ط النجف وبعد مقارنة العبارة الواردة في المتن بالنسخة الخطيّة لمقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ التي استنسخت في العام (986) هـ ق، يظهر وجود كلمتين أو ثلاث زائدة في النسخة الخطيّة على المطبوعة، كذلك جاء في النسخة المخطوطة قبل الشعر: أنا ابن عليّ الخير... إلخ نقل الأشعار: كفر القوم وقدماً رغبوا- عن ثواب الله ربّ الثقلين... إلخ إلى (19) بيت شعر ثمّ شرع بنقل: أنا ابن عليّ الخير... إلخ كما قام في مطالب السؤول بنقل أشعار كفر القوم...إلخ في قضية عليّ الأصغر.
2- لا توجد عبارة: ودفنه في النسخة المطبوعة لمقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ راجع المجلّد 2، ص 32، ط النجف إلّا أنّها موجودة في النسخة الخطّيّة المكتوبة عام (986) هـ ق.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

107

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 دمه في كفّه، فلمّا امتلأت كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال: "يا ربّ إن يكن حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين"، ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته1.

 
إنّ جلوس الإمام عليه السلام أمام خيم الطاهرات لوداع الطفل، وإصابة ذلك الطفل بسهم أمام أعين النساء والمخدّرات من حرم الإمام عليه السلام ، (هو قضيّة أخرى) غير ذلك الطفل الذي كان يبكي من شدّة العطش، وقد أتى به الإمام عليه السلام مقابل العسكر وقال لهم: "إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل".


فالأوّل هو عبد الله الرضيع، والثاني عليّ الأصغر.
 
ويظهر من صلاة الإمام عليه السلام على ذلك الطفل الذي أصابه السهم، ونزول الإمام عليه السلام عن الفرس ليحفر الأرض بسيفه ويصلّي عليه ويدفنه أنّه عليّ الأصغر الذي قيل إنّ عمره آنذاك كان ستّ سنوات؛ لأنّ الظاهر من صلاة الإمام عليه السلام عند إرادة دفن الطفل هو الوجوب، والصلاة لا تجب على الطفل الذي يقلّ عمره عن ستّ سنوات واستحباب الصلاة على الطفل الذي لم يبلغ ستّ سنوات غير معلوم، وإن أفتى بها بعضهم، إلّا أنّ التحقيق أنّه محلّ إشكال، والاستحباب غير ثابت، إلّا أن تؤتى برجاء المطلوبيّة. وما يرد من احتمالات على بعض الأذهان حول الصلاة على عليّ الأصغر، فهي مشكوك فيها والأصل عدمها.


ولم يتعرّض السيّد المحقّق المعاصر قدس سره لموضوع اتحاد الطفلين أو تعدّدهما في كتاب مقتل الحسين عليه السلام فخلط بين حالاتهما، كما فعل الآخرون وقال:
ودعا بولده الرضيع يودّعه، فأتته زينب بابنه عبد الله2 وأمّه الرباب، فأجلسه في حجره يقبّله3 ويقول: بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم4،
 
 
 

1- الإرشاد، ص 254، ط: تبريز.
2- سمّاه ابن شهرآشوب في المناقب، ج 2، ص 222 عليّ الأصغر وذكر السيّد ابن طاووس في الإقبال زيارة للحسين عليه السلام يوم عاشوراء وفيها: صلّى الله عليك وعليهم وعلى ولدك عليّ الأصغر الذي فجعت به. 
13- اللهوف، ص 65، الشيخ المفيد قدس سره . ذكر أنّ الطفل أصيب بسهم وهو في حجر الإمام عليه السلام ثمّ يقول السيّد المعاصر: ثمّ أتى به نحو القوم... إلخ. فكيف يكون ذلك؟
4- البحار، ج 10، ص 203 ومقتل الخوارزميّ، ج 2، ص 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

108

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حرملة بن كاهل الأسديّ بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين عليه السلام الدم بكفّه ورمى به نحو السماء.

 
قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : "فلم يسقط منه قطرة"1 وفيه يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه: "السلام على عبد الله الرضيع، المرميّ الصريع، المتشحّط دماً، والمصّعّد بدمه إلى السماء، المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسديّ وذويه". (زيارة الناحية).
 
ثمّ نقل أبياتاً من الشعر وقال: ثمّ قال الحسين عليه السلام : "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى، اللهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إن كنت حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل، اللهمّ أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"، وسمع عليه السلام قائلاً يقول: "دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة"2، ثمّ نزل عليه السلام عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرمّلاً بدمه وصلّى عليه3، ويقال: وضعه مع قتلى أهل بيته4


لقد تمّ مزج قضايا عبد الله الرضيع وعليّ الأصغر ببعضها، فكيف تصحّ مسألة الصلاة على الطفل الذي ينبغي أن يكون قد بلغ، في أقلّ الحالات، ستّ سنوات، مع الصلاة على الطفل الرضيع؟ وأمّا القول بأنّ الإمام عليه السلام قد وضع الرضيع مع قتلى أهل البيت، والذي ذكر في الكتب المعتبرة أمثال الإرشاد للشيخ المفيد قدس سره ومثير الأحزان لابن نما قدس سره وإعلام الورى للطبرسيّ قدس سره فهو يتنافى وبشكل صريح 
 
 
 

1- في مناقب ابن شهرآشوب، ج 2، ص 222: لم يرجع منه شيء وذكر ابن نما في مثير الأحزان ص 34 والسيّد في اللهوف ص 44 رواية الباقر عليه السلام وذكر ابن كثير في البداية ج 8 ص 184 والقرمانيّ في أخبار الدول ص 108 ومقتل الخوارزميّ ج 2 ص 32: رمى به نحو السماء قال ابن كثير والذي رماه بالسهم رجل من بني أسد يقال له: ابن موقد النّار. ونقل الطبريّ رواية الإمام الباقر عليه السلام في التاريخ الكبير فقال: قال أبو مخنف قال عقبة بن بشير الأسديّ قال لي أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام : "إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً"، قال قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر وما ذلك؟ قال: "أتى الحسين بصبيّ له فهو في حجره إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه فتلقّى الحسين دمه فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض ثمّ قال ..." إلخ. ج 3، ص 312، القاهرة مطبعة الإستقامة سنة: (1358) هـ.
2- تذكرة الخواصّ، ص 144 والقمقام لفرهاد ميرزا، ص 385.
3- مقتل الخوارزميّ، ج 2، ص 32، والإحتجاج للطبرسيّ قدس سره، ج 2، ص 25، ط: النجف.
4- الإرشاد ومثير الأحزان.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

109

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 مع الصلاة على الطفل ودفنه والحقيقة أنّه لا يصحّ نقل قضايا متناقضة في حقّ شخص واحد.

 
حاول السيّد المعاصر، رحمه الله، الجمع بين إصابة الطفل بالسهم أمام الخيم والإتيان به إلى ساحة المعركة أمام جيش الضلال، وطلب الماء له، مع العلم أنّ صريح عبارات الشيخ المفيد قدس سره والطبرسيّ قدس سره والآخرين تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام جاء إلى أمام الخيم، وجلس على الأرض، وطلب وداع الطفل الرضيع، ثمّ أُصيب بالسهم عندما كان الإمام جالساً (ثمّ جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط)1
 
نقل السيّد المعاصر تلك العبارات، التي يظهر منها أنّ الإصابة بالسهم حصلت أمام الخيم حيث لا تتلاءم هذه الواقعة مع المجيء إلى ساحة المعركة أمام المعسكر.


بناءً على ما تقدّم فإنّ الذي يدعونا إلى الاطمئنان هو أنّ "عليّ الأصغر" غير "عبد الله الرضيع" وحالاته تختلف عن عبد الله الرضيع، لأنّه وبعد مدّة، تمّ جمع قضايا حادثة كربلاء من قبل أشخاص مطّلعين عليها، لذلك وقع ما نشاهده من اشتباه، كما هو الحال مع أمثال حميد بن مسلم، وهو من أتباع جيش عمر بن سعد، الذي سجّل أحداث يوم عاشوراء ونقل قضايا كربلاء.
 
وللإمام عليه السلام طفل وُلد يوم عاشوراء من أمّه فتوهّم البعض أنّه عليّ الأصغر وعبد الله الرضيع، فما هي المناسبة ليكون الطفل الذي وُلد في ساعة ظهر عاشوراء هو بنفسه ذَيْنِكَ الطفلين؟
 
وقد صرّح ابن واضح اليعقوبيّ قدس سره المتوفّى عام (292 هـ)، في تاريخه، والذي هو من أقدم الكتب التاريخيّة، بولادة ذلك الطفل في يوم العاشر، وقال صاحب "الحدائق الورديّة" وهو من علماء الزيديّة، أنّ والدة الطفل هي أمّ إسحاق بنت
 
 
 
 

1- الإرشاد، ص 354 وإعلام الورى، ص 243، ط: طهران، مطبعة حيدريّ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

110

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 طلحة بن عبيد الله التيميّة، وهي والدة فاطمة بنت الحسن عليه السلام زوجة الحسن المثنّى رضوان الله عليه.

 
أمّا عبارات اليعقوبيّ قدس سره في حالات الإمام، فيقول:
ثمّ تقدّموا رجلاً رجلاً حتّى بقي وحده، ما معه أحد من أهله ولا ولده ولا أقاربه، فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة فأذّن في أذنه وجعل يحنّكه، إذ أتاه سهم فوقع في حلق الصبيّ فذبحه فنزع الحسين عليه السلام السهم من حلقه وجعل يلطّخه بدمه، ويقول: "والله لأنت أكرم على الله من الناقة، ولمحمّد أكرم على الله من صالح"، ثمّ أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه1.
 
يتّضح من العبارة المنقولة أنّ الإمام عليه السلام كان على ظهر فرسه فجاءوا بالطفل المولود حديثاً، فأذّن الإمام في أذنه فجاءه السهم ثمّ إنّ الإمام عليه السلام تكلّم، بعد إصابة السهم للطفل الحديث الولادة، بكلمات غير الكلمات التي تحدّث بها أثناء إصابة عبد الله الرضيع وعليّ الأصغر، إلّا أنّ صاحب الحدائق الورديّة ذكر مسألة المولود الجديد لكنّه خلط بينه وبين عبد الله الرضيع، ثمّ ذكر رواية الإمام الباقر عليه السلام التي أراد بها عبد الله الرضيع حول هذا الطفل المولود حديثاً، لا بل أطلق على الطفل الجديد اسم عبد الله الرضيع.
 
تحدّث السيّد الجليل عبد المجيد الحائريّ قدس سره في ذخيرة الدارين مشيراً إلى الأسماء التي لم تذكرها زيارة الناحية المقدّسة لبني هاشم، وقال: إنّ منهم عبد الله الرضيع الذي وُلد يوم عاشوراء أثناء الظهر، حسب ما روى صاحب "الحدائق الورديّة":
 
قال: وُلد للحسين عليه السلام في الحرب وأمّه أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيميّة، زوجة الحسين عليه السلام فأُتي به وهو قاعد فأخذه في حجره، ولبّاه بريقه وسمّاه عبد الله، فبينما هو كذلك إذ رماه عبد الله بن عقبة الغنويّ، وقيل: هاني
 
 
 

1- تاريخ اليعقوبيّ قدس سره ، ج 2، ص 218، ط: النجف.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

111

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 بن ثبيت الحضرميّ بسهم فنحره، فأخذ الحسين عليه السلام دمه فجمعه ورمى به نحو السماء، فما وقع منه قطرة إلى الأرض، قال فضيل: وحدّثني أبو الورد، أنّه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزل العذاب"، انتهى كلام صاحب الحدائق1.



أمّا المعتمد عليه في قضيّة ولادة الطفل الجديد يوم عاشوراء، فهو ما نقله ابن واضح اليعقوبيّ رحمه الله على أساس أنّ ما كتبه هو أقدم كتب التاريخ وأقربُها زماناً إلى الذين دوّنوا حادثة عاشوراء، حيث نقل عمّن كتب بعد مائتي سنة منها، ومع ذلك خلط صاحب "الحدائق الورديّة" قضايا وحالات الأطفال ببعضها البعض، والله العالم.
 
أشار السيّد الأجل شاعر أهل البيت عليهم السلام السيّد حيدر الحلّي قدس سره إلى المولود الحديث في أبياته فقال:
لَهُ اللهُ مَفْطُوْراً مِنَ الصَّبْرِ قَلْبُهُ         وَلَوْ كَانَ مِنْ صُمِّ الصَّفَا لَتَفَطَّرَا
وَمُنْعَطِفٍ أَهْوَى لِتَقْبِيلِ طِفْلِهِ          فَقَبَّلَ مِنْهُ قَبْلَهُ السَّهْمُ مَنْحَرَا
لَقَدْ وُلِدَا فِي سَاعَةٍ هُوَ وَالرَّدَى        وَمِنْ قَبْلِهِ فِيْ نَحْرِهِ السَّهْمُ كَبَّرَا 2
 
يتّضح ممّا تقدّم، وبعد الدقّة والتأمّل، أنّ عليّ الأصغر غير عبد الله الرضيع. ويتّضح أنّ الذين قالوا بأنّ من أولاد سيّد الشهداء عليه السلام عليّاً الأكبر، وقد استشهد في كربلاء، وله من العمر حسب ما ذكر في المقاتل ثمانيَ عشرة سنة، حيث تمّ تصحيف وتحريف عبارة (ثمان وعشرين) فأصبحت في المقاتل (بثمانيَ عشرةَ). وأمّا الإمام السجّاد عليه السلام فهو عليّ الأوسط وعليّ الأصغر هو ذاك الطفل الذي أتى به الإمام عليه السلام إلى ساحة الحرب يطلب له الماء وهو الذي قال فيه: "إنْ لم
 
 
 

1- ذخيرة الدارين، ج 1، ص 161، ط: النجف.
2- ديوان السيّد حيدر الحلّي قدس سره، ج 1، ص 80، ط: النجف (1369) هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

112

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 ترحموني فارحموا هذا الطفل". وقد نقل سبط بن الجوزيّ ذلك وصرح به، وهو المشهور بين الشيعة.

 
ذكر محبّ الطبريّ في ذخائر العقبى، أنّ ثلاثة من أولاد سيّد الشهداء كانوا في كربلاء وكلّهم يحمل اسم (عليّ) وأوضح أنّ عبد الله غير عليّ الأصغر1. يقول الخواجة نصير الدّين الطوسيّ في كتاب "نقد المحصّل": "... أمّا ما قالوا: إنّ زين العابدين بعد الحسين كان صبيّاً فليس كذلك، لأنّه كان ابن ثلاث وعشرين سنة، وإنّما لم يحارب يوم الطفّ لأنّه كان مريضاً. وكان للحسين ابن آخر اسمه عليّ أيضاً، وكان له سبع سنين قتل ذلك اليوم2.
 
الواضح أنّ للإمام عليه السلام طفلاً آخر يبلغ من العمر سبع سنين، هو عليّ الأصغر، وهو غير عليّ الأكبر الذي يكبر الإمام السجّاد عليه السلام أيضاً.


أمّا تهجّم صاحب قاموس الرجال على محمّد بن طلحة الشافعيّ، في كتاب مطالب السؤال حيث ادّعى أنّ للإمام عليه السلام ثلاثة أبناء باسم (عليّ) حسب الترتيب الذي تقدّم، وأنّ ادعاءه من الغرائب فهو ممّا لا يُعتبر ولا يُلتفت إليه.
 
يتّضح ممّا تمّ نقله، منذ البداية إلى الآن، أنّ البعض صرّحوا باسم (عليّ الأصغر) والأمر غير محصور بصاحب مطالب السؤول والشيخ ابن شهرآشوب قدس سره كما تصوّر صاحب قاموس الرجال، وفي عبارات الزيارة التي نقلها ابن طاووس قدس سره في الإقبال، تصريح باسم (عليّ الأصغر) وهو أفضل شاهد على المدّعى3.
 
أمّا أن يكون الأطفال عرضة للسهام حيث يذبحون بها فليس ممّا يدعو للتعجّب، لأنّ يوم العاشر كلّ من خرج من أهل الحرم والأطفال من الخيام تعرّض لسهام الأعداء ونبالهم حتّى إنّ النساء لو خرجن من الخيم لتعرّضن لذلك، حيث كان 
 
 
 

1- محبّ الطبريّ في ذخائر العقبى- ص 151- ط مصر- وج 2، ص 300- ط: ديار بكر.
2- راجع نقد المحصّل ص 179 ط: مصر.
3- إقبال الأعمال، ص 572.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

113

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 الأعداء لا يبخلون بالسهام عليهنّ، فكنّ إذا خرجن يرجعن فوراً إلى الداخل1.

 
لا يخفى على أحد أنّ بعض العبارات التي نُقلت في تاريخ الطبريّ حول قضيّة عبد الله الرضيع وإصابته، أصبحت مستمسكاً بأيدي البعض الجاهل الذي حملها ليعلن من خلالها أنّ قضيّة الطفل الشهيد المظلوم لا واقع لها، على أساس أنّ الطبريّ قد أشار إليها بعبارة (زعم) ثمّ قال: قال: ولمّا قعد الحسين عليه السلام أُتي بصبيّ له فأجلسه في حجره، زعموا أنّه عبد الله بن الحسين... إلخ.
 
ثمّ قال بعد أسطر عدّة: وزعموا أنّ العبّاس بن عليّ قال لإخوته2... إلخ وتستعمل كلمة (زعم) إذا كانت المطالب مخالفة للواقع، وقد استعمل القرآن الكريم لفظ زعم في المعنى المخالف للواقع. ولكن لا بدّ من معرفة أنّ كلمة (زعم) في عبارات الطبريّ تعني (قال) فعندما يقول الطبريّ: (زعموا) فهذا يعني (قالوا).
 
يقول الفيّومي في المصباح المنير: زعم زعماً من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات... ويطلق بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفيّة، وزعم سيبويه، أي قال.
 
يقول ابن منظور في لسان العرب: زَعَمَ زَعْماً وزُعْماً وزِعْماً أي قال... وبالعودة إلى بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام يظهر أنّ لفظ (زعم) استُعمل في لسان الرواة وأعاظم المحدّثين، لا بل نُسب استعمال اللفظ إلى الإمام عليه السلام مع أنّهم لم ينسبوا ما هو خلاف الواقع إلى الإمام عليه السلام على الإطلاق، فهذا يعني أنّ مقصودهم غير المعنى المشهور للفظ (زعم).
 
بحث استطرادي حول كلمة "زعم":
وهنا، وتعميماً للفائدة، لا بأس بذكر ما في هذا الشأن في بعض المجموعات الفقهيّة والأصوليّة التي ما زالت عن طبعاتها الخطّيّة:
واعلم أنّ ما يوجد في بعض الروايات من أقوال الرواة من نسبة الزعم إلى
 
 


1- راجع جنّة المأوى، ص 217، ط: 1 تبريز.
2- تاريخ الطبريّ، ج 4، ص 342، ط: القاهرة، مطبعة الإستقامة، العام (1358) هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

114

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 المعصوم عليه السلام ليس المراد منه معناه المتداول في الألسن، وهو استعماله في خلاف الواقع، ويطلق في إنكار المقول على ما هو الغالب في استعمال ذلك اللفظ في المعنى المذكور فإنّه كثيراً ما يوجد ذلك في روايات الأعاظم ولسانهم من أصحاب الأئمّة عليهم السلام الذين لهم التقدّم في العلوم والمعارف الدّينيّة ومقامهم أجلّ وأسمى من أن ينسبوا إلى الإمام عليه السلام التكلّم على خلاف الواقع، بل مرادهم من ذلك استعمال لفظ "زعم" بمعنى "قال" أو ما أشبه ذلك.


ومن تلك الأخبار التي وقعت فيها هذه الكلمة، موثّقة ابن بكير التي رواها ثقة الإسلام عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير، قال: سأل زرارة أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... إلخ وابن بكير هو عبد الله بن بكير الذي نقل الشيخ الكشّيّ قدس سره إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وإقرارهم له بالفقه، وعن الشيخ العيّاشيّ قدس سره أنّه من فقهاء أصحابنا وعن الشيخ قدس سره في العدّة: إنّ الطائفة عملت بما رواه ابن بكير. وهو وإنّ كان فطحيّ المذهب إلّا أنّ علماءنا الرجاليّين وثّقوه، كما صرّح به العلّامة قدس سره في المختلف حيث قال: إنّ عبد الله بن بكير، وإن كان فطحيّ المذهب، إلّا أنّ المشايخ وثّقوه، قال ذلك في مسألة تبيّن فسق الإمام، فراجع.

وقول الشيخ العيّاشيّ قدس سره أنّه من فقهاء أصحابنا، مع أنّه فطحيّ المذهب، فإنّ الفطحيّة بالنسبة إلى الحقّ أقرب من سائر فرق الشيعة، لأنّهم قائلون بإمامة الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام إلّا أنّهم يقولون بإمامة عبد الله الأفطح بين الصادق والكاظم عليهما السلام لشبهة عرضت لهم. وليس حالهم مثل حال الواقفيّة، عن عناد وطمع لحطام الدنيا وزخرفها حيث قالوا بالوقف، طمعاً لأكل الدّينار والدرهم، التي كانت مجتمعة عندهم، ولم تطل أيّام الفطحيّة فإنّ عبد الله مات في مدّة قليلة، ورجع عن القول بإمامته جمع منهم، حيث انكشف الحقّ لديهم، وبقي جمع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

115

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 قليل قائلين بإمامته بسبب الشبهة الواهية.


فالغرض أنّ ابن بكير وإن كان فطحيّ المذهب، إلّا أنّه رجل فقيه جليل ثقة لا ينسب إلى الإمام عليه السلام الزعم بمعنى خلاف الواقع، فيحصل القطع لنا أنّ مراده من قوله: "زعم أنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" يعني أخرج كتاباً قال إنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويشهد على ما ذكرنا شهادة واضحة رواية عبد الأعلى مولى آل سام الكوفيّ فقد روى في الوسائل عن محمّد بن يعقوب، بسنده عن محمّد بن مالك، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: حدّثني أبو عبد الله عليه السلام بحديث، فقلت له: جعلت فداك أليس زعمت لي الساعة كذا وكذا؟ فقال: "لا". فعظم ذلك عليّ فقلت: بلى والله زعمت. قال: "لا والله ما زعمت". قال فعظم ذلك عليّ فقلت: بلى والله قد قلته، فقال: "نعم قد قلته، أما علمت أنّ كلّ زعم في القرآن كذب".
 
عبد الأعلى مولى آل سام من أصحاب الصادق عليه السلام كان من أجلّاء متكلّمي الإماميّة، أذن له الإمام الصادق عليه السلام في الكلام.

فقد روى الكشّي قدس سره مسنداً عن عبد الأعلى قال قلت: لأبي عبد الله عليه السلام إنّ الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلّم الناس، فقال: "أمّا مثلك ممّن يقع ثمّ يطير فنعم، وأمّا من يقع ثمّ لا يطير فلا".

والظاهر أنّ المراد من قوله عليه السلام : "مثلك ممّن يقع ثمّ يطير". يعني مثلك ممّن يلزم الخصم في البحث ويغلب عليه، وكلّما قرب إلزام الخصم له يجد لنفسه مخلصاً ومفرّاً.

ويظهر من ذلك أنّه كان حاذقاً في صناعة الكلام، ماهراً في المجادلة مع المخالفين، فهو مع ما عليه من هذه الجلالة لا يكون غرضه من قوله: "زعمت" نسبة خلاف الواقع إلى الإمام عليه السلام حتّى لا يكتفي بذلك، بل يحلف عليه كما هو واضح. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

116

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

 بل غرضه أنّك قلت لي كذا وكذا حيث استعمل لفظ "زعم" بمعنى "قال" ويكشف من ذلك حلف الراوي عليه وحلف الإمام عليه السلام أيضاً أنّه ما زعم.


وقوله: فعظم ذلك عليّ حيث عظم عليه قول الإمام عليه السلام ما زعمت فإنّه عليه السلام كان قد حدّثه بحديث قبل ذلك فأراد عليه السلام أن ينبّه له أنّ "زعم غالباً يستعمل في خلاف الواقع وأنّ ما "زعم" كذا وكذا على نحو الاستعمال الغالب وكان مراد عبد الأعلى من قوله: "زعمت" يعني "قلت" على ما يستعمله أهل العراق في ذلك المعنى، ولكن لمّا كان استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم في الكذب فأراد الإمام عليه السلام أن يردعه عن هذا الاستعمال على اصطلاح الراوي، وأنّه لا ينبغي لمثله هذا الاستعمال، وإن كان استعمال الراوي على خلاف معناه الغالب وبمعنى "قال" كما هو عادة أهل العراق، وهو عراقيّ كوفيّ.

ويُستفاد من الرواية شدّة اهتمام الأئمّة عليهم السلام في التأدّب بآداب القرآن، وتعليمهم ذلك على الشيعة وأنّه ينبغي التبعيّة للقرآن في كلّ شيء، حتّى في استعمال الألفاظ والكلمات المتداولة في الألسنة. والله الموفّق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

117

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام 

دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته1
 
 
تمهيد:
سنشرع في هذه المقالة بالبحث حول اسم الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام، ثمّ نتحدّث عن عمره، مع نقد رأي بعض المصادر المعاصرة حول هذا الأمر. وفي خلال ذلك نعرّج على كيفيّة شهادة هذا الطفل، ونختم بنقد رأي بعض المحقّقين المعاصرين، حيث اعتبر أنّ عليّاً الأصغر وعبد الله اسمان لطفلين اثنين وليس لطفلٍ واحد.
 
المقدّمة:
إنّ من المصائب الكبرى ليوم عاشوراء والحوادث القطعيّة التي وقعت في ذلك اليوم هو شهادة الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام والذي قتل في حضن أبيه بكلّ وحشيّة على يد جنود عمر بن سعد.
 
بعض المصادر القديمة لم تذكر شيئاً عن اسم هذا الطفل، بينما البعض الآخر منها تحدّث عنه باسم عبد الله بن الحسين عليه السلام أو عبد الله الرضيع. وكذلك فإنّ الكثير من المصادر ساكتة عن بيان عمره.
 
من ناحيةٍ أخرى نجد أنّ بعض المؤرّخين وأصحاب المقاتل قد بيّنوا بشكل مختصر شهادته وإصابته بسهم بشكل مختصر، والبعض الآخر منهم قال بأنّه أصيب بسهم في حجر أبيه إلى جانب الخيمة، وهناك رأي ثالث يروي أنّ
 
 
 

1- محسن رنجبر، أستاذ مساعد في مؤسّسة الإمام الخمينيّ قدّس سرّه للتعليم والبحوث- قمّ المقدّسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

118

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

  الإمام عليه السلام حمل الطفل قبال معسكر الكوفة، وبينما كان يخبرهم بعطشه، فإذا بسهم من الأعداء يذبحه بين يدي أبيه، ومضى شهيداً.

 
ونحن سنبحث حول اسم وعمر هذا الطفل أوّلاً، وذلك استناداً إلى المصادر القديمة (التي كان بعضها ينقل عن البعض الآخر، أو يختصر الأحداث بينما كان البعض الآخر يفصّلها)، ثمّ نعرّج على كيفيّة شهادته. وفي النهاية سنقوم بنقد القول والتحليل الذي اختاره بعض المحقّقين المعاصرين حول هذا الموضوع.
 
اسم الطفل:
ذكرت المصادر التاريخيّة اسم هذا الطفل بطرق مختلفة، وبعضها عبّرت عنه (من دون ذكر اسم) بعنوان (الصبيّ)1، كذلك ورد التعبير عنه في روايةٍ للإمام الباقر عليه السلام2، وفي بعض المصادر الأخرى ورد بعنوان (الصغير)3.
 
وضبطه الفضيل بن الزبير (أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام) مصرّحاً بأنّ اسمه هو "عبد الله"4.


وروى أبو مخنف في خبر ٍعن حميد بن مسلم، نقلاً عن بعضهم، أنّ اسمه هو عبد الله5 إلّا أنّه وفي مكان آخر أورد هذا الاسم مصرّحاً به6.
 
ومن بعد ذلك صرّح المؤرّخون وعلماء الرجال كمحمّد بن حبيب البغداديّ7 (م 2450 هـ) والبلاذريّ8 (م 279 هـ) وأبي نصر البخاريّ9 (عاش إلى سنة 341 
 
 


1- ابن سعد (ترجمة الحسين ومقتله) مجلّة تراثنا الفصليّة، العدد العاشر، السنة الثالثة 1408 هـ، ص 182، طبعاً هو يذكر عند البحث حول أولاد الإمام عليه السلام طفلاً قتل باسم عبد الله، (المصدر السابق، ص 128).
2- الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 342.
3- أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص 59، كمال الدّين محمّد بن طلحة الشافعيّ، مطالب السؤول في مناقب الرسول، ج 2، ص 66، ابن طاووس اللهوف على قتلى الطفوف، ص 96. 
4- الفضيل بن الزبير بن عمر بن درهم الكوفيّ الأسديّ (تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام ) مجلّة تراثنا، العدد الثاني، 1406 هـ. تحقيق السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ ص 150.
5- الطبريّ المصدر نفسه، ج 4، ص 342.
6- المصدر نفسه، ص 359.
7- محمّد بن حبيب البغداديّ، المحبر، ص 491.
8- أحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 407.
9- أبو نصر سهل بن عبد الله البخاريّ، سرّ السلسلة العلويّة، ص 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

119

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 هـ) و أبي الفرج الأصفهانيّ1 (م 356 هـ) والطبرانيّ2(م 360 هـ) والقاضي النعمان المصريّ3 (م 363 هـ) والبلعميّ4 (م 363 هـ) والشيخ المفيد5 (الذي نقل معظم وقائع عاشوراء عن أبي مخنف) وتبعه في ذلك الشيخ الطبرسيّ6 والشيخ الطوسيّ7 حيث صرّحوا جميعاً أنّ اسم الطفل هو عبد الله.

 
ومن المصادر المتأخّرة يوجد الكثير ممّن ذكره أيضاً بهذا الاسم8.
أمّا المؤرّخ الأوّل الذي ذكر هذا الطفل باسم (عليّ) فهو ابن الأعثم (م 314 هـ) وعبّر عنه بعنوان (عليّ في الرضاع)9 وكذلك الخوارزميّ (م 314 هـ)- الذي نقل كثيراً من أخبار مقتله عن ابن الأعثم- عبّر عنه بـ "عليّ الطفل" (من دون ذكر الأصغر)10.
 
ونحن نجد- حسب ما بأيدينا من المصادر- أنّ الشخص الأوّل الذي ذكر أحد أولاد الإمام عليه السلام (إضافة إلى عليّ الأكبر والإمام الرابع عليه السلام وعبد الله) باسم عليّ الأصغر هو الطبريّ الشيعيّ11 (من علماء القرن الرابع)، ومن بعده ذكر ابن 
 
 
 

1- أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص 59.
2- سليمان بن أحمد الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج 3، ص 103.
3- القاضي النعمان المصريّ، شرح الأخبار، ج 3، ص 178.
4- أبو عليّ البلعميّ (تاريخنامه طبري)، ج 4، ص 710.
5- الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 108- 135، وله أيضاً: الاختصاص، ص 83.
6- الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 466.
7- رجال الطوسيّ، ص 102.
8- محمّد بن فتّال النيشابوريّ، روضة الواعظين، 188، ومن الواضح وقوع الخطأ في النسخة الموجودة لهذا الكتاب، حيث ذكر أنّ عبد الله هو من أبناء الإمام الحسن عليه السلام ، (أبو منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ)، الاحتجاج، ج 2، ص 300- 301، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 570، السيّد ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 74، سبط بن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص 254، حميد ابن أحمد بن المحلّى، الحدائق الورديّة، ج 1، ص 201 و208، ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص 52، أحمد بن عبد الوهّاب النويريّ، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج 20، ص 286- 289، شمس الدّين الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج 5، ص 21، ابن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، ج 8، ص 203- 206، ابن صبّاغ المالكيّ، الفصول المهمّة، ص 197، محمّد بن أحمد الباعونيّ، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب، ج 2، المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 66، وأمّا في تاريخ خليفة بن الخيّاط فقد طبع خطأ اسم عبيد الله بدل عبد الله، (تاريخ خليفة بن الخيّاط، ص 179).
9- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 5، ص 115.
10- الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام ، ج 2، ص 37.
11- الطبريّ، دلائل الإمامة، ص 181.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

120

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 خشّاب البغداديّ1 (م 567 هـ) وابن شهرآشوب2 (م 588 هـ) أنّ اسم هذا الطفل هو (عليّ الأصغر) ومنذ ذلك الحين ظهر هذا الاسم في بعض المصادر المتأخّرة3.

 
عمر الطفل:
فيما يرتبط بعمر هذا الطفل ينبغي القول: إنّ الكثير من المصادر التاريخيّة- وكما سوف نلاحظ من خلال الأخبار الواردة فيها- لم تتعرّض لتحديد عمره، بل اكتفت بالإشارة إليه بعناوين مثل: الصبيّ، الصغير، الطفل، الرضيع. نعم، بعض المؤرّخين وأصحاب المقاتل، كالفضيل بن الزبير الرسّان (عاش إلى زمن الإمام الصادق عليه السلام) واليعقوبيّ (م 284 هـ) اعتبر أنّ هذا الطفل قد ولد في يوم عاشوراء4.
 
وأمّا الروايات التي يمكن الاعتماد عليها والتي أشارت إلى عمر هذا الطفل فهي مختلفة ومتفاوتة فيما بينها، ولذا يجب الاعتراف بأنّه لا يوجد أيّ طريق للجمع بينها، وهذه الروايات هي كالآتي:


الرواية الأولى - بحسب التسلسل الزمنيّ - هي رواية محمّد بن سعد (م 230 هـ) التي تتحدّث عن ولد للإمام الحسين عليه السلام يبلغ من العمر ثلاث سنوات قتله عقبه
 
 
 
 

1- عبد الله بن نصر بن خشّاب البغداديّ، تاريخ مواليد الأئمّة عليهم السلام ووفياتهم، ص 21، وهو يعتبر أنّ للإمام عليه السلام من الذكور ستّة ومن الإناث ثلاثاً ومن بين أولئك الستّة (عليّ الأصغر).
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 118، وقد صرّح أيضاً في الكتاب نفسه (ج 4، ص 122) أنّ عبد الله قتل في حجر الإمام عليه السلام .
3- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ترجمة محمّد بن أحمد المستوفيّ الهرويّ، ص 908، ابن طلحة الشافعيّ، مطالب السؤول، ج 2، ص 69، السيّد ابن طاووس، الإقبال، ج 3، ص 71، عليّ بن الحسين الأربليّ، كشف الغمّة، ج 2، ص 248- 249، محبّ الدّين الطبريّ، ذخائر العقبى، ص 151، ابن الطقطقيّ، الأصيليّ في أنساب الطالبيّين، ص 143، الملّا حسين الواعظ الكاشفيّ، روضة الشهداء، ص 426، المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 331، وج 98، ص 314، في البداية ينقل الأربليّ قول عبد العزيز الجنابذيّ الذي يشير إلى اسمي عليّ الأصغر وعليّ الأكبر ويعتبر أنّ عليّاً الأصغر هو الإمام السجّاد عليه السلام إلّا أنّه ينقد هذا الرأي بقوله: الصحيح هو أنّ الإمام عليه السلام كان له ثلاثة أولاد باسم عليّ، والإمام زين العابدين هو الأوسط بينهم كما قال بذلك كمال الدّين محمّد بن طلحة الشافعيّ.
4- الكوفيّ الأسديّ، تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام ، ص 150، وتاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 245.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

121

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 بن بشر الأسديّ بسهم1.

 
واعتبر البلعميّ - وهو من مؤرّخي القرن الرابع - في هامش الحديث عن كيفيّة شهادة الطفل الرضيع، أنّه كان في السنة الأولى من عمره2.
 
والقول الثالث هو لشاعر القرن الرابع الكسائيّ المروزيّ، حيث ذكر في بيت من الشعر أنّ الطفل كان في شهره الخامس:
ذَاكَ الطِّفْلُ ذُوْ الخَمْسَةِ أَشْهُرٍ آهٍ لِحَامِلِهِ مَاذَا فَعَلَ؟     حَتَّى صَارَ مُثْخَناً بِالجِرَاحِ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى قَرْنِهِ3 
 
وكما يُلاحظ فإنّه لا يوجد أيّ طريق للجمع بين هذه الأقوال الثلاثة، وإن كان يمكن ترجيح قول البلعميّ لعدّة أسباب، لأنّ بعض المصادر أشارت إلى أنّ هذا الطفل كان رضيعاً، وهذا لا ينسجم - بحسب العادة - مع قول ابن سعد، وبعض آخر منها ذكرت- كما سيأتي- أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يُقعد هذا الطفل في حجره وهذا لا يتلاءم مع طفل يبلغ من العمر خمسة أشهر فقط (كما هو قول الكسائيّ المروزيّ) لأنّه يلزم - عادةً - أن يكون الطفل الذي يمكن قعوده في حجر أبيه أكبر سنّاً ممّا قاله الكسائيّ.
 
ومن هنا، نجد أنّ هاتين الميزتين كلتَيْهما تتلاءمان مع القول بأنّ عمر الطفل كان يبلغ سنة كاملة، وإن كان يجب أن نعترف بنكتة مهمّة، وهي أنّ قول البلعميّ مرسل لم يستند فيه إلى رواةٍ ينقل عنهم.
 
 
 

1- محمّد بن سعد (ترجمة الحسين ومقتله) ص 182، وتحدّث الذهبيّ أيضاً عن طفل قتل وله من العمر ثلاث سنوات. (شمس الدّين الذهبيّ سير أعلام النبلاء ج 3 - ص 302).
2- أبو عليّ محمّد البلعميّ، (تاريخنامه طبري)، ج 4، ص 710، إنّ المسألة المهمّة في قول البلعميّ هي أنّ هذا الرأي كان هو المشهور جدّاً (على الأقلّ) بين الإيرانيّين في القرن الرابع، وإن كان هذا الرأي غير مسند بل ذكره البلعميّ مرسلاً. وأشار أيضاً الميرخواند (م 903 هـ) إلى عمر الطفل الرضيع وأنّه كان عاماً واحداً، (روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء، ج 5، ص 2256). 
3- آن بنج ماهه كودك، بارى جه كرد ويحك كز باي تا به تارك، مجروح شد مفاجا؟
ذبيح الله صاحبكاري، سيري در مرثيه عاشورايي، (نظرة في مراثي عاشوراء) ص 169،الكسائيّ المروزيّ (م 394 هـ) من شعراء العهد السامانيّ والغزنوبيّ، وهو أوّل شاعر فارسيّ يكتب قصائد دينيّة، وقد أورد هذا البيت ضمن قصيدة له في شهداء كربلاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

122

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 مناقشة رأي المشهور ونقده:

أمّا بالنسبة إلى ما ورد في المصادر القديمة، فيوجد في قباله قول آخر حول عمر هذا الطفل الرضيع، وهو كونه ذا ستّة أشهر، وقد شاع هذا القول في القرنين الأخيرين، وصار متداولاً بحيث أصبح اليوم ذا شهرة خاصّة على المنابر وفي مجالس العزاء.
 
حتّى لقد قام بعضهم، في السنوات الأخيرة، بالاحتفال بيوم ميلاده، حيث إنّهم يرجعون في الحساب إلى ما قبل عاشوراء (عام 61 هـ) ستّة أشهر، فيوافق العاشر من شهر رجب من العام (60 هـ).
 
بل إنّ هذا الأمر قد وصل إلى حدّ طبع تلك المناسبة في بعض التقاويم الدّينيّة بعنوان يوم ولادة هذا الطفل. مع أنّ هذا القول لا يستند إلى أيّ مدرك معتبر، بل إنّ المصدر الوحيد له هو خبر ورد في كتاب محرّف ومنسوب إلى أبي مخنف1، ومن هناك انتقل تدريجيّاً إلى مصادر المعاصرين.
 
كيفيّة استشهاد الطفل الرضيع:
بالنسبة إلى كيفيّة استشهاده فإنّ المصادر القديمة، بشكل عامّ، تتحدّث عن شهادته، إمّا بين يدي الإمام، أو في حجره إلى جانب الخيام.


يذكر الفضيل بن الزبير حول هذا الأمر: عبد الله بن الحسين عليهما السلام، وأمّه الرباب بنت امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن حكيم 
 
 
 

1- هذه هي الرواية: (ثمّ أقبل إلى أمّ كلثوم وقال لها: "يا أختاه أوصيك بولدي الأصغر خيراً فإنّه طفل صغير وله من العمر ستّة أشهر") ص 83 وكما مرّ سابقاً إنّ هذا القول قد وصل إلى بعض المقاتل المعاصرة غير المعتبرة، وأصبحت تدريحيّاً ومن خلال تداولها في المجالس الحسينيّة والمحافل مشهورة جدّاً بحيث إنّ مخالفتها تُعَدُّ أمراً مشكلاً (راجع على سبيل المثال: الفاضل الدربنديّ، إكسير العبادات، ج 2، ص 763، القندوزيّ الحنفيّ، ينابيع المودّة، ج 3، ص 79، الميرزا محمّد تقي سبهر، ناسخ التواريخ، ج 2، ص 363، محمّد مهدي المازندرانيّ، معالي السبطين، ج 1، ص 424، محمّد باقر الخراسانيّ، الكبريت الأحمر، ص 125) وبالمناسبة للوقوف على الجعل والتحريف الواقع في المقتل المنسوب إلى أبي مخنف يراجع: وقعة الطفّ، تحقيق محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ، مقدّمة المحقّق، ص 22- 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

123

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 الكلبيّ30، قتله حرملة بن الكاهل الأسديّ الوالبيّ، وكان ولد للحسين بن عليّ عليه السلام في الحرب، فأُتي به وهو قاعد، وأخذه في حجره ولبّاه بريقه، وسمّاه عبد الله، فبينما هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهل بسهم فَنَحَره1، فأخذ الحسين عليه السلام دمه، فجمعه ورمى به نحو السماء، فما وقعت منه قطرة إلى الأرض. قال فضيل: وحدّثني أبو الورد: أنّه سمع أبا جعفر عليه السلام يقول: "لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزل العذاب"2.

 
وقال اليعقوبيّ أيضاً: فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد وُلد له في تلك الساعة فأذّن في أذنه وجعل يحنّكه إذ أتاه سهم فوقع في حلق الصبيّ فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطّخه بدمه ويقول: "والله لأنت أكرم على الله من الناقة، لمحمّد أكرم على الله من صالح". ثمّ أتى به فوضعه مع ولده وبني أخيه3.
 
وكتب الطبريّ أيضاً: قال عقبة بن بشير الأسديّ: قال لي أبو جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام : "إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً". قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر؟ قال: "أُتي الحسين عليه السلام بصبيّ له، فهو في حجره إذ رماه أحدكم، يا بني أسد، بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين دمه، فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض ثمّ قال: ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين"4.
 
وفي خبر آخر نقل عمّار الدهنيّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ الحسين قال، عندما أصيب الطفل الرضيع بالسهم في حجره: "اللهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا 
 
 
 

1- ليس المقصود من امرئ القيس الشاعر الذي كان قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل هو الذي أسلم في عهد عمر بن الخطّاب. (يراجع: الشيخ عبّاس القمّي، نفس المهموم، ترجمة وتعليق أبو الحسن الشعرانيّ ص 300).
2- يلاحظ في هذا المصدر والمصادر اللاحقة أنّها لم تذكر صفة خاصّة للسهم الذي أصاب الطفل الرضيع. 
3- الفضيل بن الزبير، تسمية من قتل مع الإمام الحسين عليه السلام ، تحقيق السيد محمد رضا الجلالي، مجلة تراثنا، العدد الثاني ص 150.
4- اليعقوبيّ، المصدر، ج 2، ص 150.
5- الطبريّ، المصدر نفسه، ج 4، ص 342. وكذلك اعتبر أبو الفرج الأصفهانيّ في إشارة مختصرة أنّ قاتل الطفل الرضيع هو عقبة بن بشير (المصدر- ص 59).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

124

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 لينصرونا ولكنّهم قتلونا"1.

 
وروى البلعميّ: كان للحسين طفل رضيع يبلغ من العمر سنة واحدة، اسمه عبد الله فسمع أبوه منه أنيناً فأشفق عليه، وطلبه فأحضروه له، فوضعه إلى جانبه وهو يبكي، فرمى رجل من بني أسد سهماً فوقع في أذن الطفل فمات من ساعته ودفنه الحسين عليه السلام في ذاك المكان ثمّ قال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أعنّي يا ربّ على هذه المصائب"2.
 
ونقل الشيخ المفيد وتبعه الطبرسيّ: ثمّ جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط فأتى بابنه عبد الله ابن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين عليه السلام دمه فلمّا ملأ كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال: "ربّ إن تك حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين"، ثمّ حمله ووضعه إلى جانب بقيّة الشهداء من أهل البيت عليهم السلام3.
 
وذكر أبو الفرج الأصفهانيّ (م 356 هـ) وابن شهرآشوب أنّ الحسين عليه السلام أخذ من دماء نحر هذا الطفل ورمى بها نحو السماء (لا الأرض) فلم يرجع منه شيء، ثمّ قال: "اللهمّ لا يكن هذا الطفل أهون عليك من ناقة صالح عليه السلام "4.
 
وأمّا ابن أعثم والطبرسيّ فقد كتبا حول ذلك: بعد أن قُتل جميع من كان مع الحسين عليه السلام من أنصاره وأهل بيته، لم يبق معه إلّا اثنان أحدهما ولده
 
 
 
 

1- الطبريّ، المصدر السابق، ج 4، ص 293، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 5، ص 340، سبط بن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص 252، وابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 214.
2- أبو عليّ محمّد البلعميّ، المصدر، ج 4، ص 710.
3- الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 108، الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 466، أورد ابن سعد هذه الحادثة مختصرة (ترجمة الحسين ومقتله)، مجلّة تراثنا، ص 182، ونقل ابن فتّال النيشابوريّ هذه الواقعة ولكن من دون ذكر دعاء الإمام عليه السلام في آخرها، وعدّ أيضاً خطأ، كما سبقت الإشارة، عبد الله من أولاد الإمام الحسن عليه السلام لا الحسين عليه السلام .
4- أبو الفرج الأصفهانيّ، المصدر، ص 60، وابن شهرآشوب، المصدر، ج 4، ص 118.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

125

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 عليّ زين العابدين عليه السلام والآخر طفله الرضيع واسمه عبد الله1 أو عليّ2. جاء الحسين عليه السلام إلى باب الخيمة ليودّع أهل بيته فقال: "ناولوني الطفل لأودّعه"، فبينما هو يقبّله ويقول: "يا بنيّ، الويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم جدّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"، فإذا بسهم حرملة بن كاهل الأسديّ3 قد وقع على ذاك الطفل فيقتله وهو في حجر أبيه، فأخذ الحسين عليه السلام الدم بيده حتّى امتلأت ثمّ رمى به نحو السماء وقال:

"إلهي إن تكن حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير لنا"4، ثمّ نزل الحسين عن فرسه، وحفر للصبيّ بجفن سيفه، ورمّله بدمه، وصلّى عليه5، ثمّ دفنه6.


وقد ذكر البعض - كما مرّ سابقاً - أنّ الحسين عليه السلام أتى بجثمان هذا الطفل ودفنه إلى جانب بقيّة الشهداء7.
 
وكتب السيّد ابن طاووس في هذا الموضوع: ولمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى: "هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم
 
 
 
 

1- أبو منصور أحمد بن عليّ بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ، الاحتجاج، ج 2، ص 300- 301.
2- ذكره ابن أعثم باسم (عليّ في الرضاع) وأمّا الخوارزميّ فدعاه باسم (عليّ الطفل).
3- لم يذكر ابن أعثم والطبرسيّ أيّ اسم لقاتل الطفل الرضيع.
4- الخوارزميّ، المصدر نفسه، ج 2، ص 37.
5- لم يورد الطبرسيّ صلاة الإمام عليه السلام .
6- ابن أعثم، الفتوح، ج 5، ص 115، الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام ، ج 2، ص 37، الطبرسيّ، الاحتجاج، ج 2، ص 300- 301. في الترجمة الفارسيّة لكتاب الفتوح، بعد ذكر الطفل الرضيع باسم عليّ الأصغر، قال: حمل الحسين طفله الرضيع الذي كان يضطرب من العطش ووقف بين الصفّين ثمّ نادى: "أيّها الناس، إن كنت أنا المذنب فلا ذنب لهذا الطفل، فاسقوه شربة من الماء"، عندها رماه أحدهم بسهم فوقع في حلق الطفل الرضيع ووصل إلى عضد الحسين عليه السلام فأخرج الإمام عليه السلام السهم ومات الطفل، ثمّ حمله إلى أمّه وقال لها: "خذي ولدك فقد سقوه من حوض الكوثر". (ابن أعثم، الفتوح، ترجمة محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ، ص 908).
وقد أخطأ المترجم أيضاً عندما تحدّث- قبل بيان كيفيّة شهادة الطفل الرضيع- عن شهادة طفل للإمام الحسن عليه السلام باسم عمر، له من العمر سبع سنوات وذلك حين وداع الإمام الحسين عليه السلام له عند خيمة النساء حيث جاء سهم وأصاب صدر الطفل، بينما كان الإمام عليه السلام يقبّله فوقع الطفل شهيداً، عندها نزل الإمام عليه السلام وحفر له حفرة ثمّ دفنه (من دون الصلاة عليه) وكما هو واضح فإنّ مترجم كتاب الفتوح قد خلط بين شهادة الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام وبين طفل آخر باسم عمر، ولا نعلم لماذا وكيف ومن أين جاء ذلك الخلط!!
7- اليعقوبيّ، المصدر، ص 245، الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 110، فضل بن الحسن الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 466، ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص 53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

126

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟"، فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: "ناوليني ولدي الصغير حتّى أودّعه"، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله، فرماه حرملة بن الكاهل الأسديّ، لعنه الله تعالى، بسهم فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب: "خذيه"، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى". قال الباقر عليه السلام: "فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض"1

 
ونقل سبط ابن الجوزيّ عن هشام بن محمّد الكلبيّ (تلميذ أبي مخنف وراوي مقتله) حول هذه الحادثة رواية أخرى جديرة بالاهتمام، وهي: سمع الحسين عليه السلام طفلاً يبكي من شدّة العطش، فأخذه ورفعه على عاتقه في قبال جيش ابن سعد ونادى قائلاً: "إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل لله"2. ثمّ رمى رجل من معسكر عمر بن سعد سهماً أصاب الطفل وقتله فبكى الحسين عليه السلام وقال: "اللهمّ احكم بيننا وبين هؤلاء القوم فإنّهم دعونا لينصرونا فإذا هم يقتلوننا"، ثمّ نادى منادٍ من السماء: "دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة"3.
 
 



1- السيّد ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف، ص 69، وقد ذكر أيضاً ابن نما الحلّي كلام الإمام عليه السلام حيث طلب النصرة من الناس (المصدر نفسه- ص 52).
2- لقد ورد هذا التعبير في بعض المصادر هكذا: "إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل لله". عمر بن شجاع الدّين الموصليّ الشافعيّ- النعيم المقيم لعترة النبأ العظيم- ص 294.
3- سبط بن الجوزيّ- تذكرة الخواصّ-ص 252- وقد نسب أيضاً خبراً آخر للسيّد ابن طاووس يؤيّد ما جاء في رواية ابن الجوزيّ بهذا النحو: وقد روي من طرق أخرى ما هو أقرب إلى العقل وأكثر قبولاً، لأنّ ظروف القتال والحرب لا تساعد على توديع طفل بل إنّ زينب (أخت الإمام) هي التي أتت بالطفل خارج الخيمة وقالت له: يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاثة أيّام ما شرب الماء، فاطلب له شربة من الماء، فأخذ الطفل وتوجّه نحو القوم وقال: "يا قوم، قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري وما بقي غير هذا الطفل يتلظّى عطشاً، فاسقوه شربة من الماء". فبينما يخاطبهم إذ أتاه سهم مشوم من ظالم غشوم، فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن- اللهوف على قتلى الطفوف- ص 83- 84، ولكن لا يمكن نسبة هذا الكلام إلى ابن طاووس لعدّة أسباب، منها: أنّ هذا الكلام ليس موجوداً في بعض نسخات هذا الكتاب- ومنها: أنّ هذا النقل يشبه كثيراً ما هو موجود في الكتاب المحرّف المنسوب لأبي مخنف- والذي يؤيّد تحريف ذاك النقل والنسبة المجعولة لأبي مخنف أنّ هذه العبارات المستعملة فيه تشبه كثيراً أسلوب النثر في زماننا المعاصر، وهي بعيدة جدّاً عن كتابات القرن السابع. هذا بالإضافة إلى وجود بعض العبارات المبهمة الواردة في هذا النقل، مثل عبارة (هذا ولدك له ثلاثة أيّام ما ذاق الماء) حيث لا يعلم هل المقصود هو أنّ الطفل له من العمر ثلاثة أيّام أم أنّه منذ ثلاثة أيّام لم يتذوّق ماءً. وكذا عبارة (المختار وغيره) فمن المقصود بكلمة (غيره) أي غير المختار؟؟ فيظهر من كلّ ذلك أنّ بعض المحشّين نقلوا هذه الرواية من الكتاب المحرّف المنسوب لأبي مخنف، ثمّ أدخلوا عليها بعض التعبيرات وسجّلوها في بعض نسخات كتاب اللهوف!!


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

127

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 وقد ورد في بعض المصادر أنّه وقف بعد شهادة الطفل الرضيع وقال:

1-كَفَرَ القَوْمُ وَقِدَماً رَغِبُوا             عَنْ ثَوَابِ رَبِّ الثَّقَلَيْنِ
2-قَتَلُوا قِدَماً عَلِيّاً وَابْنَهُ               حَسَنَ الخَيْرِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ
3-حَنَقاً مِنْهُمْ وَقَالُوا: أَجْمِعُوا          نَفْتِكِ الْآنَ جَمِيْعاً بِالحُسَيْنِ
4-يَا لَقَوْمٍ مِنْ أُنَاسٍ رُذُلٍ              جَمَعُوا الجَمْعَ لِأَهْلِ الحَرَمَيْنِ
5-ثُمَّ صَارُوْا وَتَوَاصَوا كُلُّهُمْ            بِاجْتِيَاحِي لِإِرْضَاءِ المُلْحِدَيْنِ
6-لَمْ يَخَافُوا اللهَ فِي سَفْكِ دَمِيْ        لِعُبَيْدِ اللهِ نَسْلِ الكَافِرَيْنَ
7-وَابْنِ سَعْدٍ قَدْ رَمَانِيْ عُنْوَةً          بِجُنُوْدٍ كَوُكُوفِ الهَاطِلَيْنَ
8-لَا لِشَيْءٍ كَانَ مِنَّا قَبْلَ ذَا          غَيْرَ فَخْرِي بِضِيَاءِ الفَرْقَدَيْنِ
9-بِعَلِيِّ الخَيْرِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ           وَالنَّبِيِّ القُرَشِيِّ الوَالِدَيْنِ
10-خِيْرَةُ اللهِ مِنَ الخَلْقِ أَبِيْ           ثُمَّ أُمِّيْ فَأَنَا ابْنُ الخِيْرَتَيْنِ
11-فِضَّةٌ قَدْ خُلِقَتْ مِنْ ذَهَبٍ       فَأَنَا الفِضَّةُ وَابْنُ الذَّهَبَيْنِ
12-مَنْ لَهُ جَدٌّ كَجَدِّيْ فِيْ الوَرَىْ     أَوْ كَشَيْخِيْ فَأَنَا ابْنُ القَمَرَيْنِ
13-فَاطِمُ الزَّهْرَاءُ أُمِّيْ وَأَبِيْ            قَاصِمُ الكُفْرِ بِبَدْرٍ وَحُنَيْنِ
14-عُرْوَةُ الدِّيْنِ عَلِيُّ المُرْتَضَىْ         هَادِمُ الجَيْشِ مُصَلِّي القِبْلَتَيْنِ
15-وَلَهُ فِيْ يَوْمِ أُحْدٍ وَقْعَةٌ            شَفَتْ الغِلَّ بِفَضِّ العَسْكَرَيْنِ
16-ثُمَّ بِالأَحْزَابِ وَالفَتْحِ مَعاً         كَانَ فِيْهَا حَتْفُ أَهْلِ الفَيْلَقَيْنِ
17-فِيْ سَبِيْلِ اللهِ مَاذَا صَنَعَتْ        أُمَّةُ السُّوْءِ مَعاً بِالعِتْرَتَيْنِ
18-عِتْرَةِ البِرِّ التَّقِيِّ المُصْطَفَىْ         وَعَلِيِّ القُرْمِ يَوْمَ الجَحْفَلَيْنِ
19-عَبَدَ اللهَ غُلَاماً يَافِعاً              وَقُرَيْشٌ يَعْبُدُوْنَ الوَثَنَيْنِ
20-وَقَلَا الوِثَانَ لَمْ يَسْجُدْ لَهَا         مَعْ قُرَيْشٍ لَا وَلَا طَرْفَةَ عَيْنِ
21-طَعَنَ الأَبْطَالَ لَمَّا بَرَزُوا          يَوْمَ بَدْرٍ وَتَبُوْكٍ وَحُنَيْنِ1
 
 
 
 

1- الطبرسيّ- الإحتجاج- ج 2- ص 301 ووردت هذه الأشعار في المصادر الآتية مع بعض الاختلافات: ابن الأعثم- الفتوح- ج 5- ص 115- 116- الأربليّ- كشف الغمّة- ج 2- ص 236- ابن طلحة الشافعيّ- مطالب السؤول في مناقب آل الرسول- ج 2- ص 66- ابن صبّاغ المالكيّ- الفصول المهمّة- ص 179- محمّد بن أبي طالب- تسلية المجالس وزينة المجالس- ج 2- ص 315- 316- المجلسيّ- بحار الأنوار- ج 45- ص 47- 48- نقل الخوارزميّ فقط ثلاثة أبيات من هذه الأشعار (مقتل الحسين عليه السلام - ج2- ص 37) بعض المصادر لم تبيّن الزمن الدقيق الذي أنشد فيه الإمام عليه السلام هذه الأشعار- ابن شهرآشوب- مناقب آل أبي طالب- ج 4- ص 86- 88- 119- المجلسيّ- المصدر السابق- ج 45- ص 92.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

128

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 هل عليّ الأصغر هو غير عبد الله الرضيع؟

استنتج المحقّق الشهيد القاضي الطباطبائيّ، من خلال الأخبار التاريخيّة المختلفة حول شهادة الطفل الرضيع، أنّ الحسين عليه السلام كان له ثلاثة أطفال، الأوّل: مولود جديد ولد في يوم عاشوراء، وقد نقل اليعقوبيّ خبراً في هذا الأمر- الثاني: عبد الله ذو الأشهر الستّة وكان رضيعاً- الثالث: عليّ الأصغر وله من العمر ستّ سنوات، إلّا أنّ المؤرّخين لم يتحرّوا الدقّة في نقل روايات شهادة هؤلاء الأطفال الثلاثة، وقد خلطوا في كتبهم بين شهادة كلّ واحد منهم مع الآخر، فذكروا أحدهم مكان الآخر، ومع مرور الوقت أصبح هؤلاء الثلاثة بمثابة طفلٍ واحدٍ، اسمه في المصادر القديمة عبد الله الرضيع وفي المصادر المتأخرّة عليّ.

في طيّ بحثه أورد المحقّق الطباطبائيّ لإثبات مدّعاه قرائن وشواهد ننقلها نحن باختصار مع بعض التصرّف على النحو الآتي:
1- كانت شهادة عبد الله الرضيع بهذا الشكل: فقد جاء الإمام عليه السلام وجلس أمام الخيمة على الأرض ووضع طفله في حجره فجاء سهم وأصاب ذاك الطفل في تلك الحال وقُتل. يتبيّن من هذه الرواية أنّ عبد الله ليس هو عليّاً الأصغر، لأنّ عليّاً الأصغر قُتل في ميدان المعركة حيث حمله أبوه عليه السلام وهو راكب على جواده في قبال معسكر الأعداء، وطلب منهم- حسب نقل سبط بن الجوزيّ- أن يسقوا هذا الطفل الظمآن شربة من الماء، وعندها رموه بسهم وقُتل، فنزل الإمام عليه السلام عن جواده و...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

129

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 2- بالنسبة إلى خبر شهادة عليّ الأصغر فإنّ الإمام عليه السلام كان قد صلّى عليه، ممّا يدلّ على أنّ عمر ذلك الطفل ليس أقلّ من ستّ سنوات، لأنّ الصلاة على من لم يبلغ من الأطفال ستّ سنوات - حسب رأي الفقهاء - غير واجبة ولا مستحبّة، بل بنظر التحقيق هي مورد إشكال شرعيّ، وأمّا رواية عبد الله فلم تذكر الصلاة عليه أصلاً، وبناءً على ذلك فإنّ رواية الصلاة على الطفل لا تنطبق على الطفل الرضيع ولذا فلا يمكن عدّ هذين الطفلين واحداً.

 
3- لقد قام الإمام - حسب الروايات - بوضع الطفل الرضيع بجانب شهداء كربلاء، وأمّا عليّ الأصغر فقد دفنه الإمام عليه السلام بعد أن صلّى عليه، وهذا أيضاً يدلّ على أنّ عبد الله الرضيع ولد آخر للإمام عليه السلام غير عليّ الأصغر الذي كان على الأقلّ يبلغ من العمر ستّ سنوات.
 
4- إنّ ما نقله سبط بن الجوزيّ حول الطفل ذي الستّ السنوات هو أنّ الإمام عليه السلام عندما سمع بكاءه بسبب العطش أخذه قبال معسكر عمر بن سعد وطلب الماء له، وأمّا الطفل الرضيع فلم ينقل عنه شيء غير وداع الإمام عليه السلام له، وقد حصل ذلك - حسب النقل - أمام الخيمة وليس في ساحة المعركة1.
 
نقد وتحقيق:
صحيح أنّ القرائن والشواهد التي أوردها المحقّق القاضي الطباطبائيّ لإثبات مدّعاه تبدو- بحسب ظاهرها ولأوّل نظرة- قويّة ومتينة، وكذلك ما ذكره الطبريّ الإماميّ وابن خشّاب- كما مرّ سابقاً - حول تعداد أولاد الإمام عليه السلام فإنّه يدلّ على أنّ عبد الله ليس هو عليّ الأصغر، إلّا أنّ أدنى تأمّل وتدقيق فيها يثير سؤالاً مهمّاً وهو: ما دام أنّ عليّاً الأصغر هو غير عبد الله الرضيع فلماذا لم يورد أبو مخنف أيّ ذكرٍ لعليّ الأصغر في كتابه الذي يُعتبر أهمّ المصادر المعتمدة في تاريخ عاشوراء، والذي ينقل فيه بوساطة واحدة أو اثنتين لا غير؟!
 
 
 
 

1- السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ- تحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء/فارسي- ص 660- 679.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

130

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 وكذلك الشيخ المفيد - الذي كان يعتمد على منقولات أبي مخنف- لم يذكر شيئاً عن عليّ الأصغر، بل بدأ تداول تلك الروايات عن عليّ وبالإجمال أيضاً منذ القرن الرابع للهجرة فقط!! لماذا ورد ذكر الطفل الذي صلّى عليه الإمام عليه السلام ويبلغ من العمر ستّ سنوات في رواية مرسلة لابن الأعثم فقط، الذي صنّف كتابه بعد حادثة عاشوراء بأكثر من قرنين ونصف القرن، بينما لا نجد أيّ شيء عن اسم ذلك الطفل وأنّه عليّ، ولا عن كيفيّة قتله في المصادر المتقدّمة؟!

 
وأمّا استدلال المحقّق باختلاف الروايات حول شهادة الطفل الرضيع فيمكن القول بأنّ بعض المصادر نقلت شهادته بطريقة تنسجم مع رواية أبي مخنف والشيخ المفيد، من جهةٍ ومع رواية ابن الأعثم والخوارزميّ، من جهةٍ أخرى، كما ذكر ذلك الطبرسيّ (م 560 هـ) فنصّ على مجيء الإمام عليه السلام راكباً على الجواد إلى باب الخيمة، وأنّ الإمام نزل بعد قتل الطفل الرضيع عن جواده وحفر له حفرة ودفنه فيها، ولكنّه لم يذكر شيئاً في روايته عن صلاة الإمام عليه السلام على ذلك الطفل لأنّه يعتبر أنّ الطفل كان رضيعاً1.
 
وكذلك ما ورد في رواية سبط بن الجوزيّ، فعلى فرض أنّنا قبلنا بأنّ أوّل رواية تدلّ- كما يدّعي المحقّق الطباطبائيّ- على أنّ عمر الطفل هو ستّ سنوات، إلّا أنّ آخرها يدلّ على أنّ هذا الطفل كان رضيعاً، لأنّ النداء من السماء ورد على هذا النحو: "دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة".
 
وبتعبير آخر فإنّ هذا النقل ذكر مجيء الإمام عليه السلام مع الطفل إلى الميدان قبال معسكر الأعداء، ...وذكر أيضاً أنّ هذا الطفل كان رضيعاً.
 
ومن هنا يظهر بأنّ اختلاف الروايات حول كيفيّة شهادة الطفل الرضيع لا يسمح
 
 
 

1- الطبرسيّ- الإحتجاج- ج 2- ص 300- 301- روايته على الشكل الآتي: لمّا قتل أصحاب الحسين عليه السلام وأقاربه وبقي فريداً ليس معه إلّا ابنه عليّ زين العابدين عليه السلام وابن آخر في الرضاع اسمه عبد الله فتقدّم الحسين عليه السلام إلى باب الخيمة فقال: "ناولوني ذلك الطفل حتّى أودعه"، فناولوه الصبيّ فجعل يقبّله وهو يقول: "يا بني، ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"- قيل: فإذا بسهم قد أقبل حتّى وقع في لبّة الصبيّ، فقتله، فنزل الحسين عليه السلام عن فرسه وحفر للصبيّ بجفن سيفه، ورمّله بدمه ودفنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

131

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 بالادّعاء أنّ عبد الله وعليّ الأصغر هما طفلان اثنان، أحدهما رضيعٌ، والآخر يبلغ من العمر ستّ سنوات1.

 
الأمر الآخر الذي يجب التنبّه له هو أنّ الكثير من المؤرّخين المتقدّمين والمتأخّرين يذكرون الإمام السجّاد عليه السلام باسم (عليّ الأصغر)2 حيث يعتبرون أنّ كلمة (أصغر) هي صفة للإمام زين العابدين عليه السلام لا للطفل الرضيع، والبعض الآخر كان يعتبر صفة (أصغر) هي لعليّ الأكبر (الذي استشهد في شبابه)بل إنّ عدداً كبيراً من الطالبيّين كالمحلّى والعقيقيّ4 كانوا يطلقون على الإمام السجّاد عليه السلام اسم عليّ الأكبر ويطلقون على عليّ الأكبر الشهيد اسم عليّ الأصغر، ثمّ إنّ الكثير من علماء الأنساب مثل الكلبيّ ومصعب الزبيريّ يعتبرون الإمام السجّاد عليه السلام هو عليّ الأصغر5. وبناءً على ذلك فإنّ أيّاً من هذين الفريقين لا يعتبر الطفل الرضيع هو عليّ الأصغر.
 
 
 
 

1- يصرّح الشيخ محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ الذي قضى جزءاً مهمّاً من عمره متنقّلاً بين البلاد والمجامع العربيّة بأنّ المحافل والمجالس العربيّة الشيعيّة يطلقون على الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام اسم عبد الله الرضيع وأمّا اسم عليّ الأصغر فهو موجود فقط في المحافل والمجالس الشيعيّة الإيرانيّة، ولذا يطلق على كلّ من يسمّي الطفل بـ (عليّ الأصغر) بأنّه أعجميّ.
2- محمّد بن سعد (ترجمة الحسين عليه السلام ومقتله) مجلّة تراثنا- عدد 10- السنة الثالثة- 1408 هـ- ص 127- 186- 187- وله أيضاً: الطبقات الكبرى- ج 5- ص 211- البلاذريّ- المصدر- ج 3- ص 362- 411- الدّينوريّ- الأخبار الطوال- ص 259- اليعقوبيّ- المصدر- ج 2- ص 247- الطبريّ- المصدر- ج 4- ص 347- وله أيضاً: المنتخب من ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين- ج 8- ص 24- 119- أبو زيد أحمد بن سهل البلخيّ- البدء والتاريخ- ج 2- ص 241- القاضي النعمان المغربيّ- شرح الأخبار- ج 3- ص 266- عليّ بن أبي الغنائم العمريّ- المجدي في أنساب الطالبيّين- ص 91- المطهّر بن الطاهر المقدسيّ- البدء والتاريخ- ج 6- ص 11- أبو الفرج ابن الجوزيّ- صفة الصفوة- ج 2- ص 66- سبط بن الجوزيّ- المصدر- ص 256- 258- جمال الدّين الحجّاج يوسف المزّيّ- تهذيب الكمال في أسماء الرجال- ج 20- ص 384- 388- الذهبيّ- سير أعمال النبلاء- ج 3- ص 303- وج4- ص 387- 390- صلاح الدّين خليل بن أبيك الصفديّ- الوافي بالوفيات- ج 12- ص 428- وابن كثير- المصدر- ج 9- ص 122.
3- الشيخ الصدوق- الأمالي- مجلس 30- ص 226- القاضي النعمان المغربيّ- المصدر- ج 3- ص 154- 156- الشيخ المفيد- الإرشاد- ج 2- ص 114- 135- الشيخ الطوسيّ- رجال الطوسيّ- ص 102- الطبرسيّ- إعلام الورى بأعلام الهدى- ج 1- ص 470- 478- ابن داود الحلّي- رجال ابن داود- ص 136- العلّامة الحلّي- خلاصة الأقوال في معرفة الأقوال- ص 174- من الواضح أنّ هذا القول غير مقبول لأنّه مخالف لرأي المؤرّخين وعلماء الأنساب وكذا نرى العمريّ وابن إدريس الحلّي يرفضانه (يراجع: العمريّ- المجدي في أنساب الطالبيّين- ص 91- وابن إدريس الحلّي- السرائر- ج 1- ص 655- 656).
4- الظاهر أنّ المقصود من السيّد عليّ بن أحمد العلويّ العقيقيّ هو أحد علماء الرجال.
5- حميد بن أحمد المحلّى- المصدر- ج 1- ص 201.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

132

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام دراسة حول اسمه وعمره وكيفيّة شهادته

 بالإضافة إلى كلّ ذلك، فإنّ المؤرّخين استخدموا (الأصغر) كلقبٍ لبيان عمر الإمام عليّ ابن الحسين في قبال عليّ الأكبر، وهذا ما ذكره أبو حنيفة الدينوريّ حيث قال: إنّ أحد الناجين من القتل كان عليّ الأصغر الذي كان بالغاً1.

 
النتيجة
إنّ ما يمكن الاطمئنان إليه في هذا الموضوع، هو أنّ الإمام الحسين كان له طفل في كربلاء واسمه بحسب القول الأوّل، هو عبد الله، وفي رأي الفضيل بن الزبير واليعقوبيّ أنّ هذا الطفل قد ولد في يوم عاشوراء، وقول ابن الزبير إنّ اسمه عبد الله، ولكنّ رواية أبي مخنف التي نقلها الطبريّ وأبو الفرج الأصفهانيّ والشيخ المفيد وغيرهم، لم تذكر شيئاً عن ولادته في يوم عاشوراء، وبالرغم من التشابه بين نقل أبي الفرج الأصفهانيّ وابن شهرآشوب مع رواية اليعقوبيّ حول كلام الإمام الحسين عليه السلام عن شهادة هذا الطفل، إلّا أنّ أيّاً من هذين المصدرين- وكما مرّ سابقاً- لم يذكر أيّ شيء عن ولادة الطفل الرضيع في اليوم العاشر من المحرّم.
 
وبناءً على ذلك، فإنّ بداية تسمية هذا الطفل بـ (عليّ) كانت في القرن الرابع وما بعده، وكان عمره ستّ سنوات، على أقلّ تقدير، حسب رأي تلك المصادر، باعتبار أنّ الإمام عليه السلام كان قد صلّى عليه صلاة الميّت (كما ذكر أصحاب ذلك القول).
 
 
 
 
 
 

1- الدّينوريّ- الأخبار الطوال- ص 259.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

133

مع الثقلين في كربلاء

 مع الثقلين في كربلاء1

 
مقدّمة
منذ سنوات وأنا أفكّر في ترويج تفسير القرآن، وفي هذا الإطار فقد منَّ الله عليّ بالعديد من التوفيقات. وشجّعني على هذا الأمر، الاقتراح الذي قدّمه بعض الأصدقاء في مركز التفسير عام 1380هـ. ش، بعد العودة من سفر الحجّ، فبدأت التفكير في ليلة عيد الغدير ويومه وسألت نفسي: هل يمكن جعل توجيه مسير المحاضرات في محرّم لتكون قرآنيّة؟ وهل يمكن الحديث عن الأحداث التي جرت في كربلاء بدءاً من معالم الإمام الحسين عليه السلام وأهدافه وقضايا كربلاء والحوادث التي جرت فيها إلى الصلاة وقبول العذر وتوبة الحرّ، ومن ثمّ تقدّم الإمام الحسين عليه السلام لإرسال ولده إلى ساحة المعركة، قبل الجميع، وإلى الآيات التي تلاها الإمام عليه السلام، وإلى وفاء أصحابه، وأمثال هذه الأمور التي أشارت إليها مئات الآيات القرآنيّة، فهل يمكن الحديث عن ذلك كلّه في قالب قرآنيّ يكون فيه محتوى الحديث هو الآيات القرآنيّة ونماذجه العينيّة ومصاديقه من كربلاء؟
 
حدّثت نفسي: أنّني إذا تكلّمت حول القرآن عوضاً عن المسائل الأخرى، فسيترك ذلك في النفوس آثاراً نورانيّة، وسنساهم في رفع شيء عن مهجوريّة القرآن الكريم، وسنتلمّس قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتمام حقيقته عندما قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض".
 
قلت: إذا أردنا طرح هذا الفكر بشكل عميق لا نقص ولا عيب فيه، فهذا يتطلّب
 
 
 

1- حجّة الإسلام والمسلمين الأستاذ الشيخ محسن قراءتي، أحد أشهر المبلّغين في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

134

مع الثقلين في كربلاء

 وقتاً طويلاً، ولكن من جهة أخرى فإنّ الابتعاد والتخلّي عن محرّم يبعث على الحسرة والأسف، من هنا - وفي ليلة ويوم - قمت بتدوين الآيات التي لها علاقة بحركة الإمام الحسين عليه السلام في عشرة أقسام، ويحتوي كلّ قسم منها ما بين العشر والعشرين آية شريفة، أردت بذلك تقديمها للإخوة المبلّغين والخطباء، وطبعاً فإنّهم سيضيفون عليها بعض الآيات والروايات المشابهة، ولتكون مقدّمة لزيادة علاقتنا وأنسنا بالقرآن الكريم شيئاً فشيئاً، وقربنا أكثر من قادتنا المعصومين عليهم السلام .

 
وكما أنّ بعض الأئمّة عليهم السلام كان يحدّث أصحابه بأنّهم لو سألوه عن كلّ ما يقول وأين أصله في القرآن الكريم، لأجابهم بأنّه من الآية الفلانيّة1
 
فكلّنا أمل أن يأتي ذلك اليوم الذي تصبح فيه كلّ قصصنا قرآنيّة، واستدلالاتنا قرآنيّة، ودروس العرفان، والأخلاق، والعقائد، قرآنيّة، وأن يصبح القرآن الكريم هو المحور في شؤون حياتنا وقضايانا الدوليّة، وحتّى مجالس عزائنا التي ينبغي أن تتمحور حول القرآن والكلمات النورانيّة لأهل بيت النبيّ، عليهم السلام (عدل القرآن) ولا نجد فيها حديثاً عن المنامات، أو الألفاظ الفارغة والقصص الضعيفة، ولنتحرّك نحو النور الواقعيّ. وحتّى لا نشاهد ضعف عشّاق الإمام الحسين في الاستفادة من القرآن الكريم، كما نشاهد ضعف الاستفادة من أهل البيت عليهم السلام لدى فريق آخر، وحتّى لا نصل عمليّاً إلى إيجاد الفصل بين جلسات حفظ وقراءة القرآن وليالي الأنس بالقرآن، وبين مجالس العزاء والهيئات الدّينيّة حيث يؤدّي هذا الأمر، شيئاً فشيئاً، إلى التقليل من أهمّيّة تاريخ وملحمة كربلاء المهمّة جدّاً. ولنعلم أنّ أمثال العلّامة الأمينيّ قدس سره كانوا يعتلون المنبر في يوم من الأيّام، لكن كيف يجب أن نكون مع الأجيال الجديدة المتعلّمة التي تحمل الكثير من الأسئلة
 
 
 

1- عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام : "إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله"، ثمّ قال في بعض حديثه: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال"، فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: "إنّ الله عزَّ وجلّ يقول:  (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء/ 114)، وقال:  (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء/ 5)، وقال: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة/ 101)،" ( الكليني: الكافي ج 1 ص 60).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

135

مع الثقلين في كربلاء

 والاستفسارات؟

 
اللهمّ اجعل القرآن نور فكرنا وعقيدتنا وقلمنا وبياننا وعملنا، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.


القرآن والإمام الحسين عليه السلام 
- إذا كان القرآن سيّد الكلام1 فإنّ الإمام الحسين عليه السلام سيّد الشهداء2.


- وإذا كنّا نقرأ في الصحيفة السجّاديّة حول القرآن: "وميزان القسط"، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يقول: "أمرت بالقسط"3.
 
- إذا كان القرآن موعظة من الله تعالى: ﴿مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ4، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام يقول في عاشوراء: "لا تعجلوا حتّى أعظكم بالحقّ"5.


- إذا كان القرآن يهدي إلى الرشد: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾6، فالإمام الحسين عليه السلام يقول: "أدعوكم إلى سبيل الرشاد"7.
 
- إذا كان القرآن عظيماً: ﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾8، فإنّ للإمام الحسين سوابق عظيمة: "عظيم السوابق"9.


- إذا كان القرآن حقّاً ويقيناً: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾10، فإنّنا نقرأ في زيارة الإمام الحسين عليه السلام : "وعبدته مخلصاً حتّى أتاك اليقين"11.
 
 
 

1- الطبرسيّ، مجمع البيان، ج 2، ص 361.
2- ابن قولويه، كامل الزيارات.
3- البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج 12، ص 481.
4- سورة يونس الآية 57.
5- الأمين السيّد محسن، لواعج الأشجان، ص 26.
6- سورة الجنّ الآية 1.
7- الأمين السيّد محسن، لواعج الأشجان، ص 128.
8- سورة الحجر الآية 87.
9- المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 98، ص 239.
10- سورة الحاقّة الآية 51.
11- ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 202.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

136

مع الثقلين في كربلاء

 - إذا كان للقرآن مقام الشفاعة: "نعم الشفيع القرآن"1، فللإمام الحسين مقام الشفاعة أيضاً: "وارزقني شفاعة الحسين"2.



- إذا كنّا نقرأ في الدعاء الثاني والأربعين من الصحيفة السجّاديّة أنّ القرآن هو علم نجاة: "وعلم نجاة"، نقرأ في زيارة الإمام الحسين عليه السلام أنّه كان علم الهداية: "أنّه راية الهدى"3.
 
- إذا كان القرآن شفاء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء﴾4، فتراب الإمام الحسين عليه السلام شفاء أيضاً: "طين قبر الحسين شفاء"5.


- إذا كان القرآن منار الحكمة، فالإمام الحسين باب الحكمة الإلهيّة: "السلام عليك يا باب حكمة ربّ العالمين"6.
 
- إذا كان القرآن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: "فالقرآن آمر وزاجر"7، فالإمام الحسين عليه السلام قال: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"حول الهدف من ذهابه إلى كربلاء.
 
- إذا كان القرآن نوراً: ﴿نُورًا مُّبِينًا﴾9، فالإمام الحسين نور أيضاً: "كنت نوراً في الأصلاب الشامخة"10.
- إذا كان القرآن للناس ولجميع الناس: "لم يجعل القرآن لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس"11، فنقرأ حول الإمام الحسين عليه السلام : "لا يُدرس أثره ولا
 
 
 

1- نهج الفصاحة، الجملة 662.
2- زيارة عاشوراء.
3- ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 70.
4- سورة الإسراء الآية 82.
5- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 446.
6- القمّي الشيخ عبّاس، مفاتيح الجنان.
7- نهج البلاغة، الخطبة 182.
8- الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج 1، ص 188.
9- سورة النساء الآية 174.
10- ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 200.
11- القمّي الشيخ عبّاس، سفينة البحار، ج 2، ص 413.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

137

مع الثقلين في كربلاء

 يُمحى اسمه"1.

 
- إذا كان القرآن كتاباً مباركاً:  كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ2، كانت شهادة الإمام الحسين عليه السلام سبب بركة ورشد للإسلام: "اللهمّ بارك لي في قتله"3.


- إذا كان لا يوجد أيّ اعوجاج في القرآن: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾4، نقرأ حول الإمام الحسين عليه السلام أنّه لم ينحرف لحظة عن الحقّ: "لم تمل من حقّ إلى الباطل"5.
 
- إذا كان القرآن كريماً: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾6، فالإمام الحسين ذو أخلاق كريمة: "وكريم الخلائق"7.
- إذا كان القرآن عزيزاً: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾8، فالإمام الحسين عليه السلام تحدّث عن أنّه لن يخضع للذلّ مطلقاً: "هيهات منّا الذلّة"9.
 
- إذا كان القرآن هو العروة الوثقى: "إنّ هذا القرآن ... العروة الوثقى"10، فالإمام الحسين عليه السلام هو سفينة النجاة والعروة الوثقى: "إنّ الحسين سفينة النجاة والعروة الوثقى"11.
 
- إذا كان القرآن هو البيّنة والدليل الواضح: ﴿جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾12، فالإمام الحسين عليه السلام كان على هذا النحو أيضاً: "أشهد أنّك على بيّنة من ربّك"13.
 
 
 

1- المقرّم السيّد عبد الرزّاق، مقتل الحسين عليه السلام .
2- سورة ص الآية 29.
3- المقرّم السيّد عبد الرزّاق، مقتل الحسين عليه السلام (هذا الكلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
4- سورة الزمر الآية 28.
5- الكلينيّ، فروع الكافي، ج 4، ص 561.
6- سورة الواقعة الآية 77.
7- القمّي الشيخ عبّاس، نفس المهموم، 7.
8- سورة فصّلت الآية 41.
9- ابن طاووس، اللهوف، 54.
10- المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 92، ص 31.
11- برتوى از عظمت حسين، ص 6. 
12- سورة الأنعام الآية 157.
13- الكلينيّ، فروع الكافي، ج 4، ص 565.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144
 

138

مع الثقلين في كربلاء

 - إذا كان ينبغي قراءة القرآن بهدوء وتأنٍّ: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾1، كذلك ينبغي التقدّم نحو قبر الإمام الحسين عليه السلام بهدوء: "وامش مشي العبد الذليل"2.

 
- إذا كان ينبغي تلاوة القرآن بحالة من الحزن: "فاقرؤوه بالحزن"3، كذلك ينبغي زيارة الإمام الحسين عليه السلام والإنسان بحالة الحزن: "وزره وأنت كئيب شعث"4.
 
نعم ! الحسين عليه السلام هو القرآن الناطق وصورة للكلام الإلهيّ.
 
حركة الإمام الحسين عليه السلام على أساس القرآن
الآيات التي استند إليها الإمام الحسين عليه السلام أثناء الطريق:
الآية الأولى: عندما قرّر رسول يزيد (مروان) أخذ البيعة من الإمام ليزيد في المدينة، خاطبه الإمام قائلاً: "ويلك يا مروان! إليك عنّي فإنّك رجس، وإنّا أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله عزَّ وجلّ على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾5.
 
الآية الثانية: أشار الإمام الحسين عليه السلام في نهاية وصيّته التي كتبها قبل التحرّك نحو كربلاء، إلى الآية الآتية: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾6.


الآية الثالثة: "عندما قرّر عدم إعطاء البيعة ليزيد، خرج من المدينة قاصداً مكّة (28 رجب)، ثمّ تلا الآية الشريفة: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾7.
 
الآية الرابعة: "يشير الشيخ المفيد قدّس سرّه إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام
 
 
 

1- سورة المزّمّل الآية 4.
2- ابن قولويه، كامل الزيارات.
3- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج 4، ص 857.
4- ابن قولويه، كامل الزيارات.
5- سورة الأحزاب الآية 33.
6- سورة هود الآية 88.
7- سورة القصص الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

139

مع الثقلين في كربلاء

 عندما تحرّك نحو مكّة، حضرت مجموعات من الجنّ والملائكة عارضة عليه المساعدة، إلّا أنّ الإمام تلا الآية الشريفة: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾1. وقال أيضاً: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾2.

 
الآية الخامسة: عندما دخل الإمام الحسين عليه السلام مكّة ليلة الجمعة في الثالث من شعبان (قبل التحرّك نحو كربلاء)، تلا الآية الشريفة: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾3.
 
الآية السادسة: عندما كان في مكّة يتحدّث إلى ابن عبّاس حول بني أميّة، تلا قوله تعالى: ﴿أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾4. وتلا قوله تعالى أيضاً: ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾5، وقال أيضاً: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾6، وقال أيضاً: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾7.
 
الآية السابعة: في أجواء عيد الأضحى حيث كان الإمام الحسين عليه السلام يتحرّك نحو كربلاء، قام عامل يزيد في مكّة بقطع الطريق على الإمام عليه السلام، إذ كان يخشى، كما قال، أن تؤدّي حركة الإمام إلى إيجاد حالة الشقاق بين الناس، في هذه الأثناء تلا الإمام عليه السلام الآية الشريفة: ﴿لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾8.
 
الآية الثامنة: عندما سمع الإمام الحسين عليه السلام في مسيره إلى كربلاء، خبر 
 
 
 

1- سورة النساء الآية 78.
2- سورة آل عمران الآية 154.
3- سورة القصص الآية 22.
4- سورة التوبة الآية 54.
5- سورة النساء الآية 142.
6- سورة النساء الآية 143.
7- سورة آل عمران الآية 185.
8- سورة يونس الآية 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

140

مع الثقلين في كربلاء

 شهادة مسلم، قال: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾1.



الآية التاسعة: عندما خاطب الحرُّ الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، سائلاً إيّاه عن سبب قدومه، أجابه الإمام بأنّه جاء بعد أن جاءته رسائلهم، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾2.
 
الآية العاشرة: عندما سمع الإمام الحسين عليه السلام خبر شهادة قيس بن مسهّر الصيداويّ، بكى وتلا الآية الآتية: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾3.


الآية الحادية عشرة: تلا الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء على مسامع ابنته سكينة، الآية الآتية حيث كان يشير إلى جيش يزيد: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾4.
 
الآية الثانية عشرة: عندما أرسل ابن زياد إلى الحرّ طالباً منه قطع الطريق على الإمام الحسين عليه السلام، نقل الحرّ ما يريده ابن زياد إلى الإمام الذي تلا الآية الشريفة: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ... ﴾5.
 
الآية الثالثة عشرة: تلا الآية الشريفة: ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ﴾6، يوم العاشر على مسمع جيش يزيد. وتلا أيضاً: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾7، وكذلك تلا قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ﴾وكذلك: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾9.
 
 
 

1- سورة البقرة الآية 156.
2- سورة الفتح الآية 10.
3- سورة الأحزاب الآية 23.
4- سورة المجادلة الآية 19.
5- سورة القصص الآية 41.
6- سورة يونس الآية 71.
7- سورة الأعراف الآية 196.
8- سورة الدخان الآية 20.
9- سورة غافر الآية 27.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

141

مع الثقلين في كربلاء

 تجلّيات القرآن في كربلاء

 
حثّ القرآن الكريم الناس على التفكير بالمنطق والحقّ، وليس بعدد الأشخاص، واستعمل بعض العبارات أمثال: ﴿أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾1 ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾2 و ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾3.
 
جاء في القرآن الكريم: ﴿أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾4. وفي اليوم العاشر قدّم الإمام الحسين عليه السلام وأبو الفضل والأصحاب عشر مواعظ لأجل إرشاد الناس.
 
وتحدّث القرآن الكريم بإجلال عن المضحّين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾5، وفي كربلاء الكثير من مظاهر التضحية ولعلّ أبرز نماذجها تضحية أبي الفضل العبّاس.


وأوصى القرآن الكريم بالعفو وقبول عذر الناس ومن أبرز مصاديقها في كربلاء العفو عن الحرّ بن يزيد الرياحيّ.
 
يقول القرآن: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾6 و ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾7، وإذا كان في كربلاء عشرات آلاف المجرمين الذين لا يُذْكَرون بالحسنى، إلّا أنّ ذكر أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الـ 72 لا يزال حيّاً.
 
وجاء في القرآن الكريم حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾8، وفي كربلاء أصبح اسم الإمام الحسين عليه السلام مرفوعاً إلى الأبد.
 
وجاء في القرآن الكريم: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾9، أي أنّ القائد ينبغي أن 
 
 
 

1- سورة الأنفال الآية 34.
2- سورة التوبة الآية 8.
3- سورة الشعراء الآية 223.
4- سورة يوسف الآية 108.
5- سورة الحشر الآية 9.
6- سورة الأعراف الآية 128.
7- سورة طه الآية 132.
8- سورة الإنشراح الآية 4.
9- سورة الزمر الآية 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

142

مع الثقلين في كربلاء

 يكون في المقدّمة، وفي كربلاء قدّم الإمام الحسين عليه السلام ابنه عليّاً الأكبر عليه السلام وأرسله إلى ساحة الحرب قبل فتية بني هاشم.

 
وجاء في القرآن الكريم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾1، وفي كربلاء تتجلّى أفضل صور الاستقامة في الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه.


القرآن الكريم لا يأتي على ذكر الأفراد عادة بل يذكر المعايير، مثلاً يتحدّث عن أنّ مولاكم هو الذي يتصدّق بخاتمه أثناء الصلاة، وهو الذي يجمع في لحظة واحدة بين الصلاة والزكاة، ثمّ يترك للناس الحريّة في التفتيش عن المصداق، وفي كربلاء، لم يقل الإمام الحسين عليه السلام : أنا لا أبايع يزيد، بل قال: "مثلي لا يبايع مثله". فالحقّ والباطل كانا متعارضين طوال التاريخ وسيبقيان على هذا الحال.
 
وجاء في القرآن الكريم: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾2، وفي كربلاء قطع الحرّ الطريق على الإمام الحسين عليه السلام، ولكن الإمام عليه السلام سمح بالماء لجيش الحرّ وخيولهم.


أوصى القرآن الكريم باتّباع الحقّ وأوليائه والوفاء، وأمّا ظهر يوم عاشوراء، فقد كان أصحاب الإمام عليه السلام يتلقّون سهام العدوّ، ومع ذلك كانوا يصرّون على الصلاة، حتّى إذا ما قضوا كان يأتي الإمام الحسين عليه السلام يقف عند رؤوسهم فيقول الواحد منهم: هل وفيت؟ وكأنّهم كانوا حتّى تلك اللحظة يشكّون في وفائهم للإمام عليه السلام .
 
يوصي القرآن الكريم في الكثير من الأماكن بالتوحيد، ويقول الإمام الحسين عليه السلام : "لا معبود سواك"، وهي أفضل تجلّيات آيات القرآن.


ويوصي القرآن الكريم بالنهي عن المنكر والغيرة في الدّين والدفاع عن الحريم وفي كربلاء وقف الإمام الحسين عليه السلام يخاطب جيش يزيد يطلب منهم عدم التعرّض للخيم والنساء: "فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم".
 
 
 

1- سورة هود الآية 112.
2- سورة الرعد الآية 22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

143

مع الثقلين في كربلاء

 أوصى القرآن الكريم بالرضا والتسليم أمام الله تعالى، وهكذا كان الإمام الحسين عليه السلام بين الرضا والتسليم، كان في يوم من الأيّام على كتف الرسول وفي يوم تطؤه خيل الأعداء، وكان راضياً مسلّماً.

 
القرآن، الصلاة، والإمام الحسين عليه السلام 
- إذا كان القرآن الكريم يتحدّث في بداية أكبر سوره: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾1، وتحدّث في أصغر السور أيضاً عن الصلاة، فالإمام الحسين عليه السلام هو الذي أقامها: "أشهد أنّك قد أقمت الصلاة"2.
 
- وإذا جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾3، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام أقام صلاة الجماعة على مرأى الأعداء.


- وإذا علّم الله تعالى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كيفيّة إقامة الصلاة في ساحة الحرب: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ...﴾4، فالإمام الحسين عليه السلام أقام الصلاة في ساحة الحرب.
 
- إذا كانت الصلاة في القرآن عبارة عن مصدر طاقة غيبيّة وقد دعا المؤمنين للاستعانة بها: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾5، فالإمام الحسين عليه السلام قد استعان بالصلاة في أوج الحرب.
 
- وإذا أوصى القرآن بإقامة الصلاة أوّل وقتها: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾6، فالإمام الحسين عليه السلام أقام صلاة ظهر يوم العاشر أوّل الوقت.


- وإذا كان عيسى مأموراً بالصلاة حتّى آخر نفس من حياته: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ 
 
 
 
 

1- سورة البقرة الآية 3.
2- زيارة عاشوراء.
3- سورة البقرة الآية 43.
4- سورة النساء الآية 102.
5- سورة البقرة الآية 153.
6- سورة الإسراء الآية 78.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

144

مع الثقلين في كربلاء

 وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾1، فالإمام الحسين عليه السلام كان برفقة الصلاة حتّى نهاية حياته.

 
- وإذا امتدح القرآن الكريم الذين ﴿لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾2، فماذا ينبغي القول حول الإمام الحسين عليه السلام الذي لم يجعله شيء، حتّى روحه ونفسه، غافلاً عن الصلاة؟!
 
- لم يصلِّ الإمام الحسين عليه السلام الصلاة بمفرده، بل صلّى مع ذلك صلاة المصلّين الآخرين، جاء في الحديث: ثلاثة تبعث على قبول الصلاة: حضور القلب، وصلاة النافلة، وتربة سيّد الشهداء.
 
- الإمام الحسين عليه السلام يطلب من أخته زينب أن تدعو له في صلاتها.
- يجب إقامة الصلاة في المجتمع بشكل علنيّ: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾، والإمام الحسين أقام الصلاة أمام أنظار الجميع، مع أنّ بإمكانه إقامتها في خيمته. 
 
- أُلقي ثلاثون سهماً على الإمام عند إقامته صلاة الظهر في عاشوراء، وهذا يعني سهماً مقابل كلّ كلمة من الحمد والركوع والسجود.


- في الواقع، ما هي هذه الصلاة التي أجّل الإمام الحسين عليه السلام الحرب بسببها من التاسع إلى العاشر من المحرّم حيث كان يقول: "إنّي أحبّ الصلاة" ولم يقل: أريد أن أصلّي، بل قال: إنّي أحبّ الصلاة؟ الكثير منّا يصلّي، ولكن كم نحبّ الصلاة؟
 
قال زرارة: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جعلني الله فداك أسألك في الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني، فقال عليه السلام : "يا زرارة بيت يُحجّ قبل آدم عليه السلام بألفي عام، تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً؟!"3.
 
 
 

1- سورة مريم الآية 31.
2- سورة النور الآية 37.
3- الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة، كتاب الحجّ، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ، ح 12.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

145

مع الثقلين في كربلاء

 لا يمكن خلاصة أسرارها ببضع كلمات.. مع العلم أنّ الكعبة وجميع أسرارها ورموزها التي أشار إليها الإمام عليه السلام، هي قبلة الصلاة فقط، والقبلة إحدى شروط الصلاة!!


كان الإمام الحسين عليه السلام حاضراً ليقطّع جسده إرباً إرباً، وأن لا تفقد الصلاة قيمتها. كان رأس الإمام الحسين عليه السلام يتمتم بآيات القرآن وهو على رأس الرمح، فالرأس كان مفصولاً عن البدن، ولكن القلب لم يكن لينفصل عن القرآن.

من هنا ينبغي دعوة محبّي الإمام الحسين عليه السلام أن لا ينسوا الصلاة، صلاة ظهر يوم العاشر وصلاة الإمام الأخيرة. عليكم إقامتها بإخلاص وعظمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152
 

146

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة1

 
تمهيد:
عبد الله بن عبّاس من الشخصيّات المهمّة المشهورة عند المسلمين سنّةً وشيعةً، وهو يحتلّ مكانةً مرموقةً عندهم، ومع أنّه من التلاميذ المخلصين لأمير المؤمنين عليه السلام، ومن أبرز الشخصيّات الهاشميّة في ذلك الوقت، وقد عاصر ثورة سيّد الشهداء عليه السلام ونهضته، بيد أنّه لم يشارك فيها، وهذا ما سنحاول معرفة أسبابه في هذا البحث.
 
المقدّمة: 
هو عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين في مكّة، وتوفّي سنة ثمان وستّين هجريّة في الطائف.


قال عنه السيّد الخوئيّ قدّس سرّه: عدّه الشيخ الطوسيّ تارةً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وثالثة في أصحاب الحسين عليه السلام، قائلاً: "عبد الله وعبيد الله معروفان"، وعدّه البرقيّ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عنه عطاء بن أبي رباح، في تفسير القمّي: سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، في تفسير قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾.
 
 

1- هذا البحث أخذناه من كتاب الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، الجزء الثاني من موسوعة مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة، تأليف الشيخ نجم الدّين الطبسيّ، وقد أجرينا عليه بعض التعديل والترتيب والتقديم والتأخير والإضافة في موارد قليلة ومحدودة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

147

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 قال العلّامة في القسم الأوّل من الخلاصة، من الباب (2) من حرف العين: "عبد الله ابن العبّاس، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان محبّاً لعليّ عليه السلام، وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام أشهر من أن يخفى. وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه! وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها رضي الله تعالى عنه" انتهى. وذكره ابن داود في القسم الأوّل (864)، وقال: "عبد الله بن العبّاس (ل- ي) رضي الله عنه، حاله أعظم من أن يشار إليه في الفضل والجلالة ومحبّة أمير المؤمنين عليه السلام وانقياده إلى قوله". انتهى.

 
وله مفاخرةٌ مع معاوية وعمرو بن العاص وقد ألقمهما حجراً، رواها الصدوق في الخصال: في باب الأربعة، قول معاوية: إنّي لأحبّك لخصالٍ أربع، الحديث 35.


وقد شهد عند معاوية بأنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، ثم ذكر بعد ذلك عليّ بن أبي طالب، والحسن بن علي، والحسين، وأولاده التسعة عليهم السلام . الخصال: باب الاثني عشر، في أنّ الخلفاء والأئمّة بعد النبيّ اثنا عشر، الحديث 41.
 
ثمّ إنّ الكشّي ذكر في عبد الله بن العبّاس (15) عدّة رواياتٍ مادحة....
هذا والأخبار المرويّة في كتب السير والروايات الدالّة على مدح ابن عبّاس وملازمته لعليّ ومن بعده الحسن والحسين عليهم السلام كثيرة، وقد ذكر المحدّث المجلسيّ قدّس سرّه مقداراً كثيراً منها في أبوابٍ مختلفةٍ من كتابه البحار، من أراد الإطّلاع عليها فليراجع سفينة البحار في مادة عبس. ونحن وإن لم نظفر بروايةٍ صحيحةٍ مادحةٍ، وجميع ما رأيناه من الروايات في إسنادها ضعف، إلّا أنّ استفاضتها أغنتنا عن النظر في إسنادها، فمن المطمأَنّ به صدور بعض هذه الروايات عن المعصومين إجمالاً"1.
 
وقال ابن أبي الحديد المعتزليّ: "وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته
 
 
 

1- معجم رجال الحديث ج 11 ص 188.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

148

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 له - أي عليّ عليه السلام - وانقطاعه إليه، وإنّه تلميذه وخرّيجُه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.."1

 
وقال الشيخ حسن بن الشهيد الثاني: "عبد الله بن العبّاس حاله في المحبّة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين، والموالاة والنصرة له، والذبّ عنه، والخصام في رضاه، والموازرة ممّا لا شبهة فيه.."2.


ابن عبّاس مع أمير المؤمنين عليه السلام:
كان الإمام عليّ عليه السلام يثق بابن عبّاس كثيراً، يدلّ على ذلك ما ذكره الرّيشهريّ نقلاً عن أصحاب السير، من أنّ الإمام عليّاً عليه السلام جعله قائد مقدّمة جيشه في حرب الجمل3، وكان آمر ميسرة جيشه في حرب صفّين4، وما ذكره أيضاً من أنّه عليه السلام قد استوزره5 وأنّه عليه السلام كان مصرّاً على تعيينه حكماً مقابل عمرو بن العاص6، لكنّ إصرار فئةٍ من جيش الإمام- وهم الذين صاروا خوارج بعد ذلك- حال دون ذلك.
 
ابن عبّاس وأكذوبة أموال البصرة:
وقد حاول أعداء أهل البيت عليهم السلام الطعن في هذه الشخصيّة الهاشميّة الجليلة فافتروا عليه أكذوبة اختلاس أموال بيت المال في البصرة أيّام كان والياً عليها في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد انبرى محقّقون كثيرون من علمائنا لتفنيد هذه الأكذوبة، ولتنزيه ساحة حبر الأمّة من أدرانها، ويحسن هنا أن ننتقي بعض المتون الواردة دفاعاً عن ساحة ابن عبّاس رضي الله عنه:
 
 
 

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1: 19. 
2- التحرير الطاووسيّ: 312.
3- موسوعة الإمام عليّ في الكتاب والسنّة ج 6 ص 47.
4- م. ن. ج 6 ص 218.
5- م. ن. ج 6 ص 78، نقلاً عن الإمامة والسياسة للدينوريّ.
6- م. ن. ج 6 ص 435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

149

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 روى السيّد المرتضى في أماليه قال: "دخل عمرو بن عبيد على سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بالبصرة فقال لسليمان: أخبرني عن قول عليّ عليه السلام في عبد الله بن العبّاس: يفتينا في النملة والقملة وطار بأموالنا في ليلة! فقال له: كيف يقول هذا؟! وابن عبّاس لم يفارق عليّاً حتّى قتل، وشهد صلح الحسن عليه السلام ! وأيّ مالٍ يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة عليّ عليه السلام إلى الأموال، وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كلّ خميس ويرشّه، وقالوا: إنّه كان يُقيل فيه! فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟! وهذا باطل!"9.

 
وقال السيّد الخوئيّ: "هذه الرواية - أي رواية اختلاس أموال البصرة - وما قبلها من طرق العامّة، وولاء ابن عبّاس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه السلام هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التهم والطعون عليه، حتّى إنّ معاوية.. كان يلعنه بعد الصلاة! مع لعنه عليّاً والحسنين وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر كما عن الطبريّ وغيره، وأقلّ ما يقال فيهم أنّهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف كان يلعنهم ويأمر بلعنهم؟!".
إلى أن يقول: "والمتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ عبد الله بن عبّاس كان جليل القدر مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهما السلام كما ذكره العلّامة وابن داود"1
 
وقال ابن أبي الحديد: "وقال آخرون وهم الأقلّون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عبّاس عليّاً عليه السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قُتل عليّ عليه السلام .. ويدلّ على ذلك ما رواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانيّ من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لمّا قُتل عليّ عليه السلام . قالوا: وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجرّه إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمّال أمير المؤمنين عليه السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير
 
 
 
 

1- أمالي المرتضى، 1: 177.
2- معجم رجال الحديث، 10: 239.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

150

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 المؤمنين عليه السلام، فما باله وقد علم النبوّة التي حدثت بينهما، لم يستمل ابن عبّاس ولا اجتذبه إلى نفسه، وكلّ من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقّة ابن عبّاس لمعاوية بعد وفاة عليّ عليه السلام وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام، وما كان يثني به على أمير المؤمنين عليه السلام ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضدّ لما اشتهر من أمرهما. وهذا عندي هو الأمثل والأصوب"1

 
وقال التستريّ: "الأصل في جعلهم هذا الخبر- اختلاس أموال البصرة - في ابن عبّاس إرادتهم دفع الطعن عن (بعضهم) باستعماله في أيّام إمارته المنافقين والطلقاء- كالمغيرة بن شعبة ومعاوية- وتركه أقرباء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.."2
 
ويحسن هنا أن ننظر إجمالاً في سندي خبري الاختلاس اللذين أوردهما الكشّي: سند الخبر الأوّل: "قال الكشّي: روى عليّ بن يزداد الصائغ الجرجانيّ، عن عبد العزيز بن محمّد بن عبد الأعلى الجزريّ، عن خلف المحروميّ البغداديّ، عن سفيان بن سعيد، عن الزهريّ قال: سمعت الحارث يقول:..."3
 
ويكفي هذا السند ضعفاً وجود سفيان بن سعيد (الثوريّ) فيه، الذي هو ليس من أصحابنا، وورد في ذمّه أحاديث صحيحة4.


هذا فضلاً عن عدائه لعليّ عليه السلام، ولا ننسى قوله المعروف: "أنا أبغض أن أذكر فضائل عليّ!"5
 
وفي السند أيضاً: الزهريّ الذي عُرف بأنّه كان يدلّس عن الضعفاء6.




1- شرح نهج البلاغة، 4: 171.
2- قاموس الرجال، 6: 441.
3- اختيار معرفة الرجال، 1: 279، رقم 109.
4- راجع: منتهى المقال، 3: 351.
5- سير أعلام النبلاء، 7: 353.
6- راجع: تهذيب الكمال، 30: 471، وميزان الاعتدال، 2: 169، وتهذيب التهذيب، 11: 218.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

151

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 وعُرِف الزهريّ بأنّه أفسد نفسه بصحبة الملوك، وترك بعضهم حديثه لكونه كان مداخلاً للخلفاء!1.

 
أمّا سند الخبر الثاني فهو: 
"قال الكشّي: قال شيخ من أهل اليمامة، يذكر عن معلّى بن هلال، عن الشعبيّ قال:..."2.
 
ونقول: 
1- لكلمة الشيخ إطلاقات عديدة: منها: من له إلمام بالحديث، الزعيم الدينيّ، رئيس القبيلة، لكنّ هذا العنوان لا محالة مهمل ولا يمكن الاعتماد عليه إذ لا يخرج عن الإبهام والترديد.


2- معلّى بن هلال: قال فيه أحمد بن حنبل: متروك الحديث، حديثه موضوع كذب، وقال فيه ابن معين: هو من المعروفين بالكذب ووضع الحديث. وقال فيه أبو داود: غير ثقة ولا مأمون. وقال سفيان: هذا من أكذب الناس.
 
وقال في المغني: كذّاب بالاتفاق3
 
3- الشعبيّ: وهو عامر بن شراحيل، قال الشيخ المفيد قدس سره: وبلغ من نصب الشعبيّ وكذبه أنّه كان يحلف بالله أنّ عليّاً دخل اللحد وما حفظ القرآن، وبلغ من كذبه أنّه قال: لم يشهد من الجمل من الصحابة إلّا أربعة، فإن جاؤوا بخامس فأنّا كذّاب.. كان الشعبيّ سكّيراً خمّيراً مقامراً، روي عن أبي حنيفة أنّه خرق ما سمع منه لما خمره وقمره4.
 
وروى أبو نعيم، عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق قال: ثلاثة لا يُؤمَنون على عليّ
 
 
 

1- راجع: سير أعلام النبلاء، 5: 339.
2- اختيار معرفة الرجال، 1: 279، رقم 110.
3- راجع: ميزان الاعتدال، 4: 152، وتهذيب التهذيب، 10: 241.
4- راجع: الفصول المختارة: 171، وقاموس الرجال، 5: 612.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

152

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 بن أبي طالب: مسروق، ومرّة، وشريح، ورُوي: أنّ الشعبيّ رابعهم1.

 
قال الشهيد الثاني: جملة ما ذكره الكشّي من الطعن فيه - أي ابن عبّاس - خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند.."2
 
وقال العلّامة الحلّيّ: ".. وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها"3.
 
وقال التفرشيّ: "وما ذكره الكشّي من الطعن فيه ضعيف السند"4.
 
ابن عبّاس مع الإمام الحسن عليه السلام:
استمرّ ابن عبّاس بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام في ولائه لأهل البيت الطاهر، وبقي إلى جانب الإمام الحسن، عليه السلام، حتّى استشهاده، فبعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ولمّا أنهى الإمام الحسن عليه السلام خطبته في الناس، قام عبد الله بن عبّاس بين يديه فقال: "معاشر الناس هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه.."5. وكان رضي الله عنه والياً للإمام الحسن عليه السلام على البصرة كما كان والياً لأمير المؤمنين عليه السلام عليها.
 
موقف ابن عبّاس من الثورة الحسينيّة: 
سجّل لنا التأريخ أكثر من محاورةٍ تمّت بين الإمام عليه السلام وبين عبد الله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها عن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمام عليه السلام من الخروج إلى العراق - لا لمنعه من القيام والثورة على الحكم الأمويّ -، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمام عليه السلام إلى الكوفة، أنّ على أهل الكوفة - قبل أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام -
 
 
 

1- انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 4: 98.
2- انظر: سفينة البحار، 6: 128.
3- خلاصة الأقوال: 103.
4- نقد الرجال، 3: 118.
5- كشف الغمّة: 2: 159، وراجع: مقاتل الطالبيّين: 33.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

153

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 أن يتحرّكوا عمليّاً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمام عليه السلام، كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه، وينفوا جميع أعدائهم من الأمويّين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذٍ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام، وإلّا فإنّ خروج الإمام عليه السلام إليهم- وهم لم يحرّكوا ساكناً بعدُ- مخاطرةٌ لا تكون نتيجتها إلّا القتل والبلوى، وممّا قاله ابن عبّاس للإمام عليه السلام في صدد هذه النقطة:

 
"أخبرني رحمك الله، أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك!."1.
 
وقال له أيضاً: "..فإن كان أهل العراق يريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلةٌ، وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية"2.
 
هذه أهمّ نقطةٍ أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع محاوراته مع الإمام عليه السلام، وهي كاشفةٌ عن محورٍ أساسٍ في تفكير ابن عبّاس يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام واعتراضه فقط على الخروج إلى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارقٌ كبيرٌ من مجموع الفوارق بين موقف ابن عبّاس وموقف عبد الله بن عمر الذي كان يعترض على أصل القيام ضدّ الحاكم الأمويّ الجائر.
 
لكنّ هذه النقطة بالذات كاشفةٌ أيضاً عن انتماء ابن عبّاس إلى مجموعة
 
 
 

1- الطبريّ: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 294.
2- تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ):204، رقم 255.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

154

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 الناصحين والمشفقين الذين نظروا إلى القضيّة بمنظار النصر الظاهريّ الذي لم تكن متطلّباته لتخفى على الإمام عليه السلام، لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول إلى ذلك النصر.


والآن فلنأتِ إلى نصوص محاورات ابن عبّاس مع الإمام عليه السلام:

المحاورة الأولى: 
وهي محاورةٌ ثلاثيّةٌ كان عبد الله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيّام الأولى من إقامة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذٍ ابن عبّاس وابن عمر (وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة)، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمام عليه السلام وبين ابن عبّاس، لأنّنا الآن بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.

وقد ابتدأ ابن عمر القول، في هذه المحاورة، محذّراً الإمام عليه السلام من عداوة البيت الأمويّ وظلمهم وميل الناس إلى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يقتل، وأنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "حسينٌ مقتولٌ، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة"1، ثمّ أشار على الإمام عليه السلام أن يدخل في صلحٍ ما دخل فيه الناس،‍ وأن يصبر كما صبر لمعاوية!!.

فقال له الحسين عليه السلام : "أبا عبد الرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أبيه ما قال؟!".

فقال ابن عبّاس: صدقتَ أبا عبد الله، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياته: "ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد!، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام، والذي نفسي بيده لا يُقتل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!".
 
 
 

1- الفتوح، 5: 26-27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

155

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 ثمّ بكى ابن عبّاس، وبكى معه الحسين عليه السلام .

وقال: "يا ابن عبّاس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!".
 
فقال ابن عبّاس: "اللّهمّ نعم، نعلمُ ونعرف أنّ ما في الدنيا أحدٌ هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيرك، وأنّ نصرك لفرضٌ على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى!".
 
قال الحسين عليه السلام :"يا ابن عبّاس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومولده، ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله؟!".
 
فقال ابن عبّاس: "ما أقول فيهم إلّا ﴿أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾1، ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾2، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن نظيرة البتول3، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافلٌ عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فما له من خلاق".
 
فقال الحسين عليه السلام : "اللّهمَّ اشهد".
فقال ابن عبّاس: "جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي
 
 
 

1- سورة التوبة، الآية 54.
2- سورة النساء، الآية 142- 143. 
3- يعني مريم ابنة عمران عليها السلام .



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

156

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر، وها أنا بين يديك مرني بأمرك".


وهنا يتدخّل ابن عمر ليغيّر مجرى الحوار- حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمام عليه السلام : "اللّهمّ اشهد" أنّ الحجّة قائمةٌ على المخاطب، وصار الحديث على لسان ابن عبّاس الذي أدرك مغزى "اللّهمّ اشهد" في وجوب نصرة الإمام عليه السلام ووجوب الانضمام إلى رايته في القيام ضدّ الحكم الأمويّ، الأمر الذي يعني أنّه (أي ابن عمر) مقصودٌ أيضاً بالامتثال لهذا الواجب- فقال لابن عبّاس: "مهلاً، ذرنا من هذا يا ابن عبّاس!!". 

ثمّ عطف يخاطب الإمام عليه السلام داعياً إيّاه إلى الرجوع إلى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتّى يهلك يزيد!!، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الإمام عليه السلام متروك ولا بأس عليه إن هو ترك القيام حتّى وإنْ لم يبايع!!

وهنا يُظهر الإمام عليه السلام تبرّمه من منطق ابن عمر، ثمّ يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طهره ورشده ومنزلته الخاصّة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأمويّين لا يتركونه حتّى يبايع أو يُقتل، ثمّ يدعوه إلى نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لا يسارع بالبيعة!!

ثمّ أقبل الإمام الحسين عليه السلام على ابن عبّاس رحمه الله..
فقال: "يا ابن عبّاس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليّ شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبُّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه السلام يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

157

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 الوكيل) فكانت النّار عليه برداً وسلاماً".

 
.. فبكى ابن عبّاس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين عليه السلام يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عبّاس إلى المدينة1.
 
تأمّل وملاحظات: 
1- أكّد ابن عبّاس رضي الله عنه - في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة - أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمام عليه السلام وتنصره، وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم الأمّة بأنّ الإمام عليه السلام لا يُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبويّ حيث قال إنّه سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولم ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة"، وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسين عليه السلام وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرّك لحماية الإمام عليه السلام ونصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعمتها أضاليل حركة النفاق عامّة، وفصيل الحزب الأمويّ منها خاصّة، فتناءت عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عبّاس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمام عليه السلام في البكاء!
 
2- أكّد ابن عبّاس رضي الله عنه في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسين عليه السلام وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: ".. وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة.."، وفي قوله: ".. لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا 
 
 

1- الفتوح، 5: 26-27 ومقتل الحسين للخوارزميّ، 1: 278 – 281، لقد تفرّد ابن أعثم الكوفيّ في كتابه "الفتوح" برواية تمام هذه المحاورة، ونقلها عنه الخوارزميّ في كتابه "مقتل الحسين عليه السلام "، وقد تضمّنت هذه المحاورة بعض الفقرات التي لا يمكن للمتتبّع المتأمّل إلّا أن يتحفّظ حيالها إن لم يقطع بكذبها ورفضها، خصوصاً في بعض نصوص التحاور بين الإمام وابن عمر..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

 


158

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر..".

 
3- كما أكّد رضي الله عنه على معرفته بكفر الأمويّين ونفاقهم، وأنّهم ومن أطاعهم في محاربة الإمام عليه السلام ممّن لا نصيب لهم من الخير في الآخرة.
 
4- قد يُستفاد من قوله رضي الله عنه: "كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك... إلى قوله: وها أنا بين يديك مُرني بأمرك" أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك لكنّه كان صحيح القوى، سليم الجوارح، وإلّا لما عرض استعداده للنصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلاً- كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمة رضي الله عنه بعد سماع صراخها تنعى الحسين عليه السلام 1- نعم يمكن القول إنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته مع ابن عبّاس لم يطلب منه الالتحاق به ونصرته، ممّا يقوّي القول بأنّه كان ضعيف البصر جدّاً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد، إلّا أنّه رضي الله عنه عرض للإمام عليه السلام استعداده للجهاد والتضحية بين يديه استشعاراً منه لوجوب نصرة الإمام عليه السلام والذبِّ عنه وإنْ كان معذوراً.
 
5- وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة أنّ الإمام عليه السلام رخّص لابن عبّاس رضي الله عنه بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قال عليه السلام له: "فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليّ شيء من أخبارك".
 
6- أخبر الإمام عليه السلام ابن عبّاس رضي الله عنه- في الأيّام الأولى من إقامته في مكّة المكرّمة - أنّ الأمويّين يريدون قتله وسفك دمه!، والإمام عليه السلام بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطّة وضعتها السلطة الأمويّة المركزيّة بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّه (ما لم يبايع يُقتل)، مؤكّداً بذلك على عدم صحّة دعوى بعض من يقول- كابن عمر مثلاً - إنّه عليه السلام لا بأس عليه ولا خطر إن ترك المعارضة وصبر حتّى وإن لم يبايع!
 
 
 

1- أمالي الطوسيّ ص 314- 315، المجلس 11، الحديث 640/ 87.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

159

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 7- ومع علمه عليه السلام بأنّه ما لم يبايع يقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تُستباح بقتله حرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قوله عليه السلام لابن عبّاس رضي الله عنه في ختام هذه المحاورة: "فإنّي مستوطن هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يحبُّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم.." أنّه عليه السلام أراد أن يطمئن ابن عبّاس (والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة) أنّه باقٍ أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك متّسعاً من الوقت، وإلّا فإنّ الإمام عليه السلام قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونصرتهم له! وهو عليه السلام يعلم أنّه ليس في (المكيّين) إلّا نزر قليل جدّاً ممّن يحبّ أهل البيت عليهم السلام1، فليس له في مكّة قاعدة شعبيّة تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأمويّة.

 
المحاورة الثانية:
ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عبّاس رضي الله عنه وبين الإمام عليه السلام بعد رجوع ابن عبّاس من المدينة إلى مكّة المكرّمة مرّةً أخرى، إذ تقول الرواية التأريخيّة: "وقدم ابن عبّاس في تلك الأيّام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مُسلِّماً.
 
ثمّ قال له: جُعلتُ فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه؟2.
فقال: "نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي3 هذه إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم".
 
فقال ابن عبّاس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنّك إنْ سرت إلى قومٍ قتلوا أميرهم، 
 
 
 

1- عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا.."، (كتاب الغارات: 393، وشرح النهج لابن أبي الحديد، 4: 104).
2- في تاريخ الطبريّ، 3: 294"فبيّن لي ما أنت صانع؟".
3- وفيه أيضاً: "قد أجمعت المسير في أحد يوميَّ هذين...".



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

160

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 وضبطوا بلادهم، واتقوا عدوّهم1، ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قومٍ دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم2، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال! وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله (!) وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتقِ الله والزم هذا الحرم، فإن كنت على حالٍ لا بدّ أن تشخص فَصِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

 
فقال الحسين عليه السلام : "لا بُدَّ من العراق!".
قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءَك فيُقال إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوالله ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.


فقال الحسين عليه السلام : "والله يا ابن عمّ، لئن أُقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون"3.


تأمّل وملاحظات: 
1- يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الأيّام الأخيرة من إقامة الإمام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله عليه السلام "قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه.."، أو أنّها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله عليه السلام كما في رواية الطبريّ: "قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين..".
 
2- تؤكّد نصوص هذه المحاورة أنّ تصميم الإمام عليه السلام على التوجّه إلى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها،

 
 

1- وفيه أيضاً: "أخبرني رحمك الله أتسير إلى قومٍ... ونفوا عدوّهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم...".
2- في تاريخ الطبريّ، 3: 294،".. وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذّبوك ويخالفوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك ... ". 
3- الفتوح، 5: 72، وعنه مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، 1: 309 – 310، ورواها الطبريّ في تأريخه، 3: 294 بتفاوت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

161

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 وهذا لا ينافي أن يبقي موعد السفر سرّيّاً لو أراد الإمام عليه السلام ذلك، مع أنّ نفس موعد سفر الركب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّيّاً إذ كان الإمام عليه السلام قد أعلن عنه في خطبته قبيل سفره حين قال فيها: "... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى"1.

 
3- في هذه المحاورة يتجلّي المحور الأساس في تفكير ابن عبّاس رضي الله عنه وموقفه من قيام الإمام عليه السلام فهو مع القيام، وضدّ الخروج إلى العراق قبل أن يتحرّك أهله عمليّاً لترتيب وتهيئة الأوضاع وتمهيدها استقبالاً لمقدم الإمام عليه السلام إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظاهريّ الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عبّاس رضي الله عنه ونصائحه، واللافت للانتباه أنّ الإمام عليه السلام لم يخطِّئ مثل هذه المشورة والنصيحة في جميع المحاورات التي طُرحت فيها من قبل ابن عبّاس وغيره2، بل كان يعلّق عليها بما يُشعر بصحّتها في حدود منطق الظاهر3.
 
4- في ضوء منطق (الظاهر) يمكن للمتابع المتأمّل أن يفسّر قول الإمام عليه السلام "لا بدّ من العراق" أنّ إصراره عليه السلام على التوجّه إلى العراق كان بسبب رسائل أهل الكوفة إليه، إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الاستجابة لهم والتوجّه إليهم، خصوصاً بعد وصول رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إليه وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً (أو أكثر)، وطالبه فيها بالقدوم إليهم، ويؤيّد هذا ما رُوي عنه عليه السلام أنّه قال لابن عبّاس
 
 
 

1- مثير الأحزان: 38.
2- كعمر بن عبد الرحمن المخزوميّ، وعمرو بن لوذان، ومحمّد بن الحنفيّة رضي الله عنه.
3- فقد قال عليه السلام لابن عبّاس في محاورة أخرى بعدها (تأتي) وقد طرح فيها نفس المشورة: "إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق"، وقال عليه السلام لعمر بن عبد الرحمن وقد عرض نفس المشورة: "فقد والله علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!"، وقال عليه السلام لعمرو بن لوذان وقد قدّم نفس هذا الرأي: "يا عبد الله، ليس يخفى عليّ الرأي ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

 


162

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 في محاورة أخرى: ".. وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم وقد وجب عليّ إجابتهم، وقام لهم العذر عليّ عند الله سبحانه"1.

 
أمّا في ضوء منطق "العمق" فإنّ قوله عليه السلام "لا بدّ من العراق" مع علمه بأنّ أهل الكوفة سوف يقتلونه ومن معه من أنصاره وتصريحات الإمام عليه السلام بأنّه سوف يُقتل كثيرة متضافرة لا بدّ أن يفسّر بأنّ الإمام عليه السلام يعلم أيضاً أنّ العراق هو الأرض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة "الفتح بالشهادة"، الواقعة التي تكون نتائجها جميعاً لصالح الإسلام المحمّديّ الخالص وأهل البيت عليهم السلام إلى قيام الساعة، ذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم إسلاميّ آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلاميّاً ونفسيّاً لصالح الأمويّين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فالعراق، آنذاك، هو أرض المصرع المختار لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثّر بالحدث العظيم "واقعة عاشوراء" والتغيّر على هدي إشعاعاتها.


ويؤيّد هذا التفسير (في العمق) أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه إلى الكوفة حتّى بعد انتفاء حجّة أهل الكوفة عليه عمليّاً حين بلغه خذلانهم لمسلم عليه السلام الذي أمسى وحيداً وجاهد وحيداً حتّى قُتل!
 
5- ورد في هذه المحاورة قول ابن عبّاس رضي الله عنه للإمام عليه السلام : ".. وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله!..." ولا شكّ أنّ المراد ب‍ـ (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيل عليه السلام، ولذا فإنّ هذه العبارة شاذّة ومخالفة للمشهور الثابت، ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام أتى الإمام الحسين عليه السلام بعد خروجه من مكّة في منزل من منازل الطريق (زرود)، ولعلّ هذه العبارة قد أُدخلت إدخالاً على أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.
 
 

1- معالي السبطين، 1: 151.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

163

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 كذلك الأمر في قول ابن عبّاس رضي الله عنه للإمام عليه السلام : ".. فاتقِ الله والزم هذا الحرم.."، ذلك لأنّ فيه من سوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عبّاس رضي الله عنه العارف بمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصّة وبمقام أهل البيت عليهم السلام عامّة.


6- يمكن حمل قول الإمام عليه السلام : ".. لئن أُقتل بالعراق أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة.." على أصل إصرار الإمام عليه السلام ألّا يكون هو القتيل في مكّة الذي تُستحلّ به حرمة هذا البيت، ويمكن حمل هذا القول أيضاً على حقيقة علمه عليه السلام بأنّ العراق هو أفضل أرض للمصرع المختار، كما قدّمنا قبل ذلك، ولأنّ الواقعة التي يُقتل عليه السلام فيها على أرض العراق سوف تكون إعلاميّاً وتبليغيّاً (على الأقلّ) في صالح الإمام عليه السلام تماماً بحيث لا يتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان هذه الأمّة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام، وهذا بخلاف ما لو قتِل الإمام عليه السلام بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عليها ويتنصّل من مسؤوليّته عنها، بل يستفيد من نفس الحادثة لصالحه إعلاميّاً، إذ يقتل القاتل الذي كان قد أمره هو بقتل الإمام عليه السلام فيظهر للأمّة بمظهر المطالب بدم الإمام عليه السلام الثائر له، فتنطلي اللعبة على أكثر الناس، وتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ.

7- في ختام هذه المحاورة نقف أمام قول الإمام عليه السلام : "وما قضى اللّه فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون"، وقد تكرّر قوله عليه السلام "أستخير الله" في بعض محاوراته عليه السلام مع ابن الزبير وابن مطيع، وفي ردّه على كتاب المسوّر بن مخرمة.

فهل عنى الإمام عليه السلام بالاستخارة طلب معرفة ما فيه الخيرة من الأمور؟! وهل يعني هذا أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار نهضته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

164

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 منذ البدء، ولم يكن لديه علم بما هو قادم عليه من مصير في مستقبل أيّامه، وأنّ بوصلة الاستخارة هي التي كانت توجّه حركته؟!

 
وهل يوافق هذا: الاعتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للإمامة المطلقة المتجسّدة في شخصيّات أئمّة أهل البيت عليهم السلام بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً على صعيد "علم الإمام عليه السلام ؟!
 
وهل يصدّق هذا التراث الروائيّ الكبير المتضافر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعنهم عليهم السلام في إخباراتهم عن (الملاحم والفتن) إلى قيام الساعة، وخصوصاً الإخبارات المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعن عليّ والحسن والحسين عليهم السلام بصدد (ملحمة عاشوراء)؟!
 
قبل الإجابة يحسن بنا أن نتعرّض، هنا، إلى معنى الاستخارة لغة واصطلاحاً.
 
معنى الاستخارة:
الاستخارة لغةً: طلب الخِيرَة في الشيء، واستخار الله: طلب منه الخيرة، و: أللّهمّ خِر لي: أي اختر لي أصلح الأمرين1.


وهي اصطلاحاً كما ورد في الروايات على معانٍ:
1- بمعنى طلب الخيرة من الله، بأن يسأل الله في دعائه أن يجعل له الخير ويوفّقه في الأمر الذي يريده.
2- بمعنى تيسّر ما فيه الخيرة. وهو قريب من الأوّل.
3- طلب العزم على ما فيه الخير، بمعنى أن يسأل الله تعالى أن يوجد فيه العزم على ما فيه الخير.
4- طلب معرفة ما فيه الخيرة، وهو المتداول في العرف2
 
 
 

1- لسان العرب 4: 266- 267.
2- راجع: مفتاح الكرامة، 3: 272، والحدائق الناضرة، 10: 524.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

165

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 لنرجع إلى أصل المسألة..

 
لا شكّ أنّ مراد الإمام عليه السلام من الاستخارة ليس معناها المتداول في يومنا هذا: وهو طلب معرفة ما فيه الخيرة، وأنّه عليه السلام كان يريد استكشاف الغيب بطريق الرجاء بلا جزم ويقين!!
 
إذ إنّ هذا ينافي الاعتقاد الحقَّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام عندهم علم ما كان وما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة موهبة من الله تبارك وتعالى، كما ينافي هذا روايات أخبار (الملاحم والفتن) الكثيرة المأثورة عنهم عليهم السلام والكاشفة عن علمهم بمسار وتفاصيل حركة أحداث العالم إلى قيام الساعة، وخصوصاً أخبار (ملحمة عاشوراء) المأثورة عن الخمسة أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير صلوات الله عليهم أجمعين1.
 
إذاً فمعنى الاستخارة، هنا، من الممكن أن يكون هو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى في أن يجعل له عليه السلام الخير في مسعاه ويوفّقه في الأمر الذي يريده، أو أن ييسّر له ما فيه الخير بتذليل كلّ الصعوبات والعوائق لبلوغ ما يبتغيه عليه السلام في طريق نهضته المقدّسة، أو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى في طلب المزيد من العزم والتصميم على ما فيه الخير وجزيل المثوبة.
 
ولا شكّ أنّ المتابع المتأمّل يُدرك أنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته التي ذكر فيها أمر الاستخارة أراد بذلك أن يُسكت المخاطب عن الإلحاح في نهيه عمّا هو عازم عليه.
 
 
 
 

1- ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام خاصّة ينبئ عن نهضته وعن مصرعه وعن قاتليه منذ طفولته، فعن حذيفة بن اليمان قال: "سمعت الحسين بن عليّ يقول: والله ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة، ويقدمهم عمر بن سعد. وذلك في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت: أنبّأَكَ بهذا رسول الله؟ قال: لا. فأتيت النبيّ فأخبرته فقال: علمي علمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته". (دلائل الإمامة: 183- 184).
لا يقال: كيف يمكن هذا في حقّ الحسين عليه السلام ؟! هذا من الغلوّ فيه وفي أهل البيت عليهم السلام !!
ذلك لأنّ القوم يعتقدون بهذا لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ويروون عنه من هذا القبيل، بل أكثر من هذا، فقد رووا عنه أنّه قال: "والله إنّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة". (راجع: سير أعلام النبلاء:2: 365، عن أحمد ومسلم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

166

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 ولا ينافي ما قدّمنا إذا حدّثنا التأريخ أنّ الإمام عليه السلام لجأ لقطع إلحاح المحاور، إلى الاستفتاح بالقرآن، وهو يعلم نتيجة الاستفتاح مسبّقاً كما فعل ذلك مع ابن عبّاس نفسه، فقد رُوي "أنّ ابن عبّاس ألحّ على الحسين عليه السلام في منعه من المسير إلى الكوفة، فتفاءل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾1، فقال عليه السلام : "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله". ثمّ قال: "يا ابن عبّاس، فلا تُلحَّ عليّ بعد هذا فإنه لا مردّ لقضاء الله عزّ وجلّ"2.

 
المحاورة الثالثة:
يقول التأريخ: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسين عبد الله بن عبّاس...
فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدرٍ، فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلةٌ ولأبيك بها شيعةٌ وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دُعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية!
 
فقال له الحسين عليه السلام : "يا ابن عمّ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير!".
 
فقال له ابن عبّاس: فإن كنت سائراً فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فواللهِ إنّي لخائفٌ أن تُقتلَ كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه!
 
ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلّا هو، لو أعلم أنّك إذا
 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية 185.
2- ناسخ التواريخ، 2: 122، ووسائل الشيعة، 4: 875.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

167

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني لفعلتُ ذلك!!

 
قال ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده فمرَّ بعبد الله بن الزبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير! ثمّ قال:
يَاْ لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بمَعْمَرِ          خَلَاْ لَكِ الْجَوُّ فَبيِضِيْ وَاصْفِرِيْ
وَنَقِّرِيْ مَاْ شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِيْ
 
هذا حسينٌ يخرج إلى العراق! وعليك بالحجاز!1.
 
المحاورة الرابعة:
روى الطبريّ (الإماميّ) المحاورة الرابعة عن عبد الله بن عبّاس قال: لقيتُ الحسين بن عليّ وهو يخرج إلى العراق..
 
فقلت له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!
قال فقال لي: "يا ابن عبّاس، أما علمتَ أنَّ منيّتي من هناك وأنّ مصارع أصحابي هناك؟!"
 



1- تاريخ الطبريّ، 3: 295، وقد رواها ابن عساكر بتفاوتٍ غير يسير. وأهمّ تفاوت فيها: "..فكلّمه طويلاً وقال: أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتِ العراق، وإن كنت لا بدّ فاعلاً فأقمْ حتّى ينقضي الموسم وتعلم على ما يصدرون ثمّ ترى رأيك- وذلك في عشر من ذي الحجّة سنة ستّين- فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق..". (راجع: تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام )، تحقيق المحموديّ: 204، رقم 255).
ولا يخفى أنّ تأريخ المحاورة الذي ذكره ابن عساكر لا يتوافق مع المشهور الثابت في أنّ الإمام عليه السلام قد ارتحل عن مكّة في اليوم الثامن من ذي الحجّة.
ورواها ابن أعثم الكوفيّ باختصار وتفاوت، وفي آخرها: "فقال الحسين: فإنّي أستخير الله في هذا الأمر وأنظر ما يكون. فخرج ابن عبّاس وهو يقول: واحسيناه!". كما روى الشعر الذي خاطب ابن عبّاس به ابن الزبير هكذا:
يَاْ لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بمَعْمَرِ خَلَاْ     لَكَ الْجَوُّ فَبيِضِيْ وَاصْفِرِيْ
وَنَقِّرِيْ مَاْ شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِيْ     إِنْ ذَهَبَ الْصَّاْئِدُ عَنْكِ فَابْشِرِيْ
قَدْ رُفِعَ الْفَخّ فَمَاْ مِنْ حَذَرِ      هَذَاْ الْحُسَيْنُ سَاْئِرٌ فَانْتَشِرِيْ
(راجع الفتوح، 5: 73، ورواها عنه الخوارزميّ في المقتل، 1: 311).
وقد روى العلّامة المجلسيّ قدس سرهفي البحار، عن الشهيد الثاني قدس سرهبإسناده عن ابن قولويه (ره)، بإسناد عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام أنّّه "لمّا تجهّز الحسين عليه السلام إلى الكوفة أتاه ابن عبّاس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ، فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما وكدي من الدنيا إلّا فراقها...". (البحار، 78: 273، باب 23، حديث 112). والوكد: المراد والقصد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

168

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 فقلتُ له: فأنّى لك ذلك؟

قال: "بسِرٍّ سُّرَّ لي وعلمٍ أُعطيته!"1.
 
إشارةٌ: 
لا يخفى على المتأمّل في ما عثرنا عليه من متون محاورات عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه مع الإمام الحسين عليه السلام، ظهور حقيقة - ما قدّمناه من قبل - أنّ المحور الأساس في تفكير ابن عبّاس رضي الله عنه هو تأييده لقيام الإمام عليه السلام، ومعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عمليّاً لنصرته.
 
ولم نعثر- حسب تتبّعنا - على نصٍّ منسوبٍ إلى ابن عبّاس رضي الله عنه يفيد أنّه كان معارضاً لقيام الإمام عليه السلام، أو أنّه رضي الله عنه نهى عن القيام، إلّا ما ورد في كتاب (أسرار الشهادة) للدربنديّ قدس سره نقلاً عن كتاب (الفوادح الحسينيّة)2، عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال للإمام الحسين عليه السلام في ختام واحدةٍ من محاوراته بعد أن بكى بكاءً شديداً: "يعزُّ واللّهِ عليّ فراقك يا ابن العمّ. (ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أميّة!!).
 
فقال الحسين عليه السلام: "هيهاتَ هيهاتَ يا ابن عبّاس، إنّ القوم لم يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت حتّى أبايعهم كرهاً ويقتلوني، والله لو كنتُ في جحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللّه إنّهم ليعتدُون عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون"3.
 
ونقل صاحب كتاب "معالي السبطين" هذه المحاورة قائلاً: وفي بعض الكتب: 
 
 
 

1- دلائل الإمامة: 74.
2- هناك كتابان بهذا الاسم ذكرهما صاحب الذريعة، الأوّل: هو " الفوادح الحسينيّة والقوادح البينيّة " المشهور بمقتل العصفور، للشيخ حسين العصفور ابن أخي صاحب الحدائق ... والثاني: هو " الفوادح الحسينيّة " للشيخ نمر بزّه، طبع مطبعة العرفان بصيدا، 33 صفحة في تسعة مجالس، ... والظاهر أنّ الكتاب الذي نقل عنه صاحب أسرار الشهادة هو الأوّل. 
3- أسرار الشهادة: 246- 247.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

169

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 جاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين عليه السلام وتكلّم معه بما تكلّم، إلى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أمية!!، وفي نقله إضافةً إلى نقل الدربنديّ أنّ ابن عبّاس قال للإمام عليه السلام بعد ذلك: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب فلا تعجل فأقم بمكّة!

 
فقال عليه السلام : "لأنْ أقتل والله بمكان كذا أحبّ إليَّ من أن أُستحلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليّ إجابتهم وقام لهم العذر عليّ عند الله سبحانه!".


فبكى عبد الله حتّى بُلَّت لحيته، وقال: وا حسيناه، وا أسفاه على حسين1.


والملاحظ المتأمّل يرى: 
1- أنّ ما ورد في هذين الكتابين من دعوى: أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه أشار على الإمام عليه السلام بالدخول في صلح بني أميّة وطاعة يزيد، شاذٌّ غريبٌ مخالفٌ للمشهور الوارد في الكتب المعتبرة.
 
2- أنّ صاحب أسرار الشهادة ينسب هذه الدعوى إلى كتاب الفوادح الحسينيّة (لا نعرفه في الكتب المعتبرة)، وصاحب معالي السبطين ينسبها إلى (بعض الكتب!)، ولا يخفى أنّها نسبةٌ ظاهرة الضعف.
 
3- أنّ عبارة الدعوى نفسها ليست قولاً نطق به ابن عبّاس فنقل عنه، بل هي من إنشاء صاحب أسرار الشهادة وصاحب معالي السبطين.
 
4- وهناك أيضاً تعارضٌ بيّن بين عبارتي صاحبي أسرار الشهادة ومعالي السبطين، ففي الأولى: (وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة)، أي أنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة، وفي الثانية: (فلا تعجل فأقم بمكّة) أي أنّ المحاورة حصلت في مكّة.
 
 
 

1- معالي السبطين، 1: 151.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

170

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 كما لا يخفى أنّ القول بأنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة أشدّ شذوذاً من أصل الدعوى نفسها لأنّ المشهور الثابت أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه لم يلتق الإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة المكرّمة.

 
خلاصة القضيّة: إنّ هذه الدعوى الشاذّة لا تستند ٍ إلى دليلٍ معتبرٍ يمكن الاطمئنان إليه، بل لا دليل عليها، ويبقى الأصل المستفاد من المتون المعتبرة صحيحاً في أنّ موقف ابن عبّاس رضي الله عنه يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام، ومعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عمليّاً لنصرته. نعم، هناك قولٌ للسيّد ابن طاووس قدس سره مبهم الدلالة وهو: وجاء عبد الله بن عبّاس رضوان الله عليه، وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه". قال فخرج ابن عبّاس وهو يقول: وا حسيناه!1.
 
ولا دلالة في هذه العبارة الغامضة: (فأشارا عليه بالإمساك) على أنّ ابن عبّاس أشار على الإمام عليه السلام بترك القيام، بل الأقوى دلالتها على ترك الخروج إلى العراق بقرينة المتون التفصيليّة الأخرى ذات المضمون نفسه التي أجاب فيها الإمام عليه السلام ابن عبّاس رضي الله عنه بأنّه ماضٍ إلى العراق بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لماذا تخلّف ابن عبّاس عن الإمام؟ 


عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمّة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2، عارفاً بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرضٌ كفرض الصلاة والزكاة3،
 
 
 

1- اللهوف: 101.
2- يكفي في الدلالة على ذلك متن المحاورة التي رواها سليم بن قيس بين معاوية وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس بمحضر الحسنين عليهما السلام ( راجع: كتاب سليم بن قيس: 231-238 / دار الفنون – لبنان ). وما رواه الخزّاز القمّي في كفاية الأثر من رواياتٍ مسندةٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنه في الأئمّة الاثني عشر وفي أسمائهم عليهم السلام ( راجع: كفاية الأثر: 10 -22 / انتشارات بيدار).
3- مرَّ بنا في المحاورة الأولى أنّه رضي الله عنه قال للإمام عليه السلام :" وأنّ نصرك لفرضٌ على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى ".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

171

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 وكانت سيرته مع الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام كاشفةً عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة1، وكان رضي الله عنه لا يتردّد في إظهار اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والانقياد لهم والامتثال لأمرهم، ومن جميل ما يُروى في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عبّاس حين رآه ذات يومٍ وقد أمسك للحسن والحسين عليه السلام بالركاب وسوّى عليهما: قائلاً: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب؟!

 
فقال: يا لُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ليس ممّا أنعم الله به عليّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما؟!2.
 
وكان ابن عبّاس رضي الله عنه قد حفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام، والأرض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلاً: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خرجته إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو بشطّ الفرات قال بأعلى صوته: "يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟"
 
قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!
فقال عليه السلام: "لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي!"
 
قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً وهو يقول: "أوّه أوّه، ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم"3.
 
وكان ابن عبّاس رضي الله عنه يقول: ما كنّا نشكّ، وأهل البيت متوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!.4
 
 
 
 

1- مرَّ أيضاً في المقدّمة أقوال بعض الأعلام في حقّه. 
2- مناقب آل أبي طالب، 3: 400؛ وفيات الأعيان، 6: 179.
3- أمالي الصدوق: 478، المجلس 87، حديث رقم 5.
4- مستدرك الحاكم، 3: 179.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

172

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 إذاً لِمَ لم يلتحق ابن عبّاس رضي الله عنه بالركب الحسينيّ ليفوز بشرف نصرة سيّد المظلومين عليه السلام وبشرف الشهادة بين يديه؟!

 
هل اثّاقل إلى الأرض وآثر الدنيا على الآخرة بعد عمرٍ شريفٍ عامرٍ بالجهاد ونصرة الحقّ؟!
 
إنّ العارف بسيرة ابن عبّاس رضي الله عنه قد يرفض حتّى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عبّاس هو القائل في محاورته الأولى مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة في شعبان سنة 60 للهجرة: جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! واللهِ الذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك.
إذاً هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة؟!
 
إذا علمنا أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه توفّي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون1، أدركنا أنّ عمره سنة 60 للهجرة كان اثنين وستّين عاماً أو ثلاثة وستّين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين عليه السلام بحوالي خمسة أعوام، إذاً فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام عليه السلام من حيث السلامة البدنيّة، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عبّاس كان مريضاً آنذاك، كما روي بصدد محمّد بن الحنفيّة رضي الله عنه مثلاً.
 
فما هي علّة تخلّفه إذاً؟!
لعلّ المتأمّل في موضوع علّة عدم التحاق ابن عبّاس رضي الله عنه بالإمام عليه السلام في نهضته المقدّسة يلاحظ- قبل الوصول إلى الجواب- نقطتين مهمّتين تساعدان على الاطمئنان إلى أنّه كان معذوراً، وهما:
 
 
 

1- راجع: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي)، 1: 272، وأسد الغابة، 3: 195.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

 


173

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 1- في جميع ما رُوي من لقاءات ومحاورات ابن عبّاس مع الإمام الحسين في مكّة سنة ستّين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عبّاس دعوةً مباشرةً إلى نصرته كما صنع مثلاً مع ابن عمر، وحتّى حينما قال الإمام عليه السلام في محاورته الأولى مع ابن عبّاس وابن عمر: "اللّهمّ اشهد"1 أدرك ابن عبّاس مغزى قول الإمام عليه السلام، وبادر إلى إظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الإمام عليه السلام وعدا هذا لا يجد المتتبّع أيّة إشارةٍ من قريبٍ أو بعيدٍ مؤدّاها أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عبّاس إلى نصرته.

 
2- لم نعثر- حسب تتبّعنا - على نصٍّ تأريخيٍّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفيد أنّ ابن عبّاس كان مقصّراً وملوماً ومداناً على عدم التحاقه بالإمام الحسين عليه السلام، بل لم نعثر على نصٍّ تأريخيٍّ عامٍّ يشير إلى إدانتهسوى هذا النصّ الذي نقله ابن شهرآشوب مرسلاً: وعُنِّفَ ابن عبّاس على تركه الحسين فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم!3، ويظهر من هذا النصّ أنّ ابن عبّاس لم يكن معذوراً في تركه الإمام عليه السلام ، لكنّ إرسال هذا الخبر، ومجهوليّة المعنِّف، ومعلوميّة ولاء ابن عبّاس رضي الله عنه لأهل البيت عليهم السلام، كلّ ذلك يفرض عدم الاطمئنان إلى صدر هذا الخبر، أي وعُنِّف ابن عبّاس!.
 
بعد هذا، ينبغي أن نذكّر بأنّ ابن عبّاس قد كفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كفَّ بصره4، وتعبير 
 
 
 

1- راجع نصّ المحاورة الأولى لفهم المراد في جوّ المحاورة نفسها، في صفحة 213-217.
2- بل ورد عن الصادق عليه السلام أنّ الإمام الباقر عليه السلام كان يحبّه حبّاً شديداً. انظر: اختيار معرفة الرجال: 57، الرقم 107.
3- مناقب آل أبي طالب، 4: 53/ ولعلّ ابن شهرآشوب نقل هذا عن كتاب التخريج الذي نقل عنه رواية قبل هذه الرواية.
4- تنقيح المقال، 2: 191، وقال الذهبيّ: "إنّما أخّر الناس عن بيعة ابن عبّاس- لو شاء الخلافة- ذهاب بصره" (سير أعلام النبلاء، 3: 356) "وخطب ابن الزبير بمكّة على المنبر وابن عبّاس جالسٌ مع الناس تحت المنبر، فقال: إنّ ها هنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره... فقال ابن عبّاس لقائده سعيد بن جبير: استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عبّاس قد كفّ بصره..."، "أنظر: قاموس الرجال، 6: 470، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 20: 130 و134، وسير أعلام النبلاء، 3: 354، ومنتهى المقال، 4: 201).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

174

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 "كفَّ بصره" مشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ إلى بصره حتّى استفحل عليه فكفّه عن رؤية الأشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ إلى بصره منذ أيّام معاوية (ويحتمل أنّ بصر ابن عبّاس قد كفَّ أواخر سِني معاوية)، هذا ما يشعر به قول ابن قتيبة في المعارف حيث يقول: ثلاثة مكافيف في نسق: عبد الله بن عبّاس، وأبوه العبّاس بن عبد المطلّب، وأبوه عبد المطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال معاوية لابن عبّاس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عبّاس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم!1، فلولا أنّ بصر ابن عبّاس رضي الله عنه كان قد ضعف جدّاً، أو قد كفّ بصره آنذاك، لما كان لقول معاوية مناسبةٌ ولا داعٍ.

 
ويقول مسروق: كنتُ إذا رأيت عبد الله بن عبّاس قلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدّث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكفَّ بصره في آخر عمره2.


فإذا علمنا أنّ مسروقاً هذا قد مات سنة 62 أو 63 للهجرة3، أمكن لنا أن نقول: إنّ ابن عبّاس كان مكفوفاً قبل سنة 62 أو 63 على الأظهر، هذا على فرض أنّ عبارة (وكفّ بصره في آخر عمره) من قول مسروقٍ أيضاً.
 
وهناك روايةٌ يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان ضعيف البصر جدّاً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستّين للهجرة، في الأيّام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بعدُ إلى أهل المدينة المنوّرة.
 
هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي قدس سره في أماليه بسندٍ إلى سعيد بن جبير (وهو الذي كان يقود ابن عبّاس بعد أن كفَّ بصره)، عن عبد الله بن عبّاس قال: بينا أنا راقدٌ في منزلي، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها!، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال
 
 


1- المعارف: 589.
2- اختيار معرفة الرجال، 1: 272؛ وتنقيح المقال، 2: 191.
3- سير أعلام النبلاء، 4: 68.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

175

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطلّب، أسعدنني وابكين معي، فقد واللهِ قتل سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد واللّه قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.

 
فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: "قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم".
 
قالت: فقمتُ حتّى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك! وأعطانيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "اجعلي هذه التربة في زجاجةٍ - أو قال في قارورةٍ - ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين". فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.
 
قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين عليه السلام، فجاءت الركبان بخبره، وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم...1.
 
فقول ابن عبّاس رضي الله عنه: فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها، كاشفٌ- على الأقوى - عن مكفوفيّة بصره آنذاك (أو عن ضعفٍ شديدٍ جدّاً في بصره)، لحاجته إلى قائدٍ يقوده هو، وليس إلى قائد يقود دابته- كما قد يحتمل - وذلك لقرب المسافة، بدليل أنّه سمع الصراخ بأذنيه وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أمّ سلمة رضي الله عنه.
 
ممّا مضى نكاد نطمئنّ إلى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان يعاني من ضعفٍ شديدٍ في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستّين للهجرة، وبالذات في الأيّام التي
 
 
 

1- أمالي الطوسيّ: 314-315، المجلس 11، الحديث 640/87.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

176

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 كان فيها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الالتحاق بالإمام عليه السلام والجهاد بين يديه، فكان رضي الله عنه معذوراً، ولعلّ هذا هو السرُّ في عدم دعوة الإمام عليه السلام إيّاه للانضمام إليه، وترخيصه إيّاه في العودة إلى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأمويّة والناس فيها، حيث يقول عليه السلام : "يا ابن عبّاس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليّ شيءٌ من أخبارك..."1.

 
ولا يقدح بما نطمئنّ إليه ما أورده المسعوديّ في مروج الذهب حيث يقول في ابن عبّاس رضي الله عنه: وكان قد ذهب بصره لبكائه على عليّ والحسن والحسين..2، إذ لا يُستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنّه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسين عليه السلام، بل الظاهر من هذا النصّ أنّ الذي سبب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد أمير المؤمنين عليٍّ3 والحسن والحسين عليهم السلام، ومؤدّى ذلك أنّ الضعف قد دبّ إلى بصره لكثرة بكائه منذ أيّام فقده لأمير المؤمنين عليه السلام ثمّ لفقده الحسن عليه السلام 4، ثمّ الحسين عليه السلام، ولا يخفى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان يبكي بكاءً شديداً للحسين عليه السلام وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الإمام عليه السلام من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التأريخيّة على ذلك كثيرةٌ متوافرةٌ.

 
 

1- الفتوح، 5: 27؛ ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، 1: 281.
2- مروج الذهب، 3: 108.
3- ورد في بعض المتون أنّ ذهاب بصره في آخر عمره كان بسبب البكاء على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام (انظر سفينة البحار، 6: 128 عن حديقة الحكمة).
4- ولعلّ هذا الضعف الذي دبَّ إلى بصره بسبب هذا البكاء المتواصل منذ فقده أمير المؤمنين عليه السلام كان قد اشتدّ واستفحل بعد فقد الإمام الحسن عليه السلام ، فكان ابن عبّاس قريباً من العمى أواخر 

عهد معاوية– فيما بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام - فلمّا التقى معاوية في تلك الأيّام كان ضعف بصره الشديد هذا هو الذي دفع معاوية إلى القول ساخراً: "أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم!".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

177

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 رسائل ابن عبّاس إلى يزيد:

تروي لنا بعض كتب التأريخ أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا نزل مكّة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس رسالةً طلب إليه فيها أن يتوسّط في الأمر ليثني الإمام الحسين عليه السلام عن عزمه على القيام 

والخروج على الحكم الأمويّ، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيويّة ما يتناسب وضعف نفسيّته هو!- أي يزيد -.
 
وتقول هذه المصادر التأريخيّة: فكتب إليه ابن عبّاس: أمّا بعدُ: فقد ورد كتابُك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة، فأمّا ابن الزبير فرجلٌ منقطع عنّا برأيه وهواه، يُكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وريَ الزناد، لا فكّ اللّه أسيرها، فارإ في أمره ما أنت رائه.
 
وأمّا الحسين فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرت 

إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمّة، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر 

له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يؤتَ أمله، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة! وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإنّ كلَّ ما شُغلت به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام"1.
 
وقد روى المزّيّ جواب ابن عبّاس مختصراً هكذا: فكتب إليه عبد الله بن عبّاس: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الألفة ويُطفئ به الثائرة"2.
 
 
 

1- تذكرة الخواص: 216.
2- تهذيب الكمال، 4: 492.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

178

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 ويبدو من نصّ هذه الرسالة - جواب ابن عبّاس - على فرض صحّة الرواية، أنّ هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عبّاس مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة لقاءه الأوّل الذي عاد بعده إلى المدينة (بعد الفراغ من العمرة)، كما يُستفاد من نصّها أنّ ابن عبّاس قَبِل القيام بدور الوساطة بين الإمام عليه السلام وبين يزيد! كما يظهر من نصّها أيضاً أنّ ابن عبّاس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع حتّى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!

 
والعارف بعبد الله بن العبّاس رضي الله عنه، وبولائه لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وبجرأته في الذَوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيّته في المحاماة عنهم في محاوراته مع رجال بني أميّة، لا يستبعد أن يكون نصّ هذه 

الرسالة- جواب ابن عبّاس - من إنشاء الواقديّ نفسه الذي يرويها1 (ونقلها عنه سبط ابن الجوزيّ في كتابه تذكرة الخواصّ)، ذلك لأنّ نَفَس هذا الجواب مغايرٌ تماماً لِنَفَس ابن عبّاس في مواقفه قبال بني أميّة.
 
ها هو ابن عبّاس رضي الله عنه في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبد الرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدّعاءاتهم وبهرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد ابن معاوية نفسه في قصر أبيه: مهلاً يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ ناءت بالبغضاء عنكم، لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا2.
 
 
 
 

1- الواقديّ: وهو محمّد بن عمر بن واقد الأسلميّ، وقد اتهمه جلُّ رجاليّي العامّة بالكذب والافتراء وأنّه متروك الرواية.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 6: 302.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

179

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 وها هو ابن عبّاس رضي الله عنه يجيب يزيد1 بقارعةٍ أخرى من قوارعه في رسالةٍ كتبها إليه قائلاً: من عبد الله بن عبّاس إلى يزيد بن معاوية. أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإنْ يَك ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولا وُدَّك، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ ودّي فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ!، بفيك الكثكثُ2، ولك الأثلَبُ3، إنّك إنْ تُمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.

 
لا تحسبني، لا أبا لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلّب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، 

وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد.
 
وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر4 ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأولى، وفي 

الممات والمحيا، إنّ نبيّ الله قال: "الولد
 
 
 

1- " أخذ ابن الزبير عبد الله بن عبّاس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبد الله بن عبّاس قد امتنع على ابن الزبير، فسرَّه ذلك، وكتب إلى ابن عبّاس: أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا، وطاعةً لله فيما عرَّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإنّي ما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ برَّك وحسن جزائك وتعجيل صلتك الذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر رحمك الله فيمن قِبَلَك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحِلِّ الملحد، والسلام. فكتب 
إليه عبد الله بن عبّاس..." (تاريخ اليعقوبيّ، 2: 247- 248).
2- بفيك الكثكث: أي بفمك التراب والحجارة. (راجع لسان العرب، 2: 179).
3- ولك الأثلب: كناية عن الخيبة، والأثلب أيضاً معناه التراب والحجارة. (راجع: لسان العرب، 1: 242).
4- يعني به عبيد الله بن زياد بن أبيه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

180

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 للفراش وللعاهر الحجر". فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلاً! وأحيا البدع والأحداث المظلّة عمداً!

 
وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ اطرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.
 
وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لا شكّ فيه أنّك للمُحرّف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
 
ثمّ إنّك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتّى يقتله ومن معه من بني عبد المطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، فنحن أولائك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.
 
ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة1، فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي 

ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشاء لا يُطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، وكان الله  
 
 
 

1- لعلّ ابن عبّاس رضي الله عنه يشير بهذا إلى- ما رُوي من- قول الإمام الحسين عليه السلام : "دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس". (تاريخ الطبريّ، 3: 312).أو "أيّها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض" (تاريخ الطبريّ، 3: 318).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

181

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

 الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرنّ بك يوماً.

 
فأمّا ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يَك ذلك كذلك، فقد واللهِ بايعتُ أباك1، وإنّي لأعلم أنّ ابني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم معاشر قريشٍ كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على من يجترىء على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذّبو المرسلين.
 
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبد المطلّب، وغلمةً صغاراً من وُلدِهِ إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أبا لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله2.
 
 
 
 

1- وفي هذا إشارةٌ إلى أنّه لم يبايع يزيد، بل كان قد بايع معاوية بعد الصلح، لكنّ نصّ هذه الرسالة المرويّ بتفاوتٍ كثيرٍ في بحار الأنوار: 45: 323 عن (بعض كتب المناقب القديمة) فيه: "فقد واللهِ بايعتك ومن قبلك..." وهذا كما هو ظاهرٌ لا يتلاءم مع نفس متن الرسالة الطافح بالتبرّي من يزيد وفعلته.
2- تاريخ اليعقوبيّ، 2: 248- 250؛ وانظر: بحار الأنوار، 45: 323.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

182

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 
مقدّمة التحقيق:1
الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيّين، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومن والاهم أجمعين، من الآن إلى قيام يوم الدّين.
 
أمّا بعد..
الحديث عن السياسة والسياسيّين، بالمفهوم العامّ والمطلق وعلى مرّ العصور، يعني الحديث عن تجاذبات ومشادّات واختلافات في وجهات النظر المتباينة بين هذا وذاك، سواء بين جماعتين مختلفتين، أو بين أنصار الجماعة الواحدة، وذلك بسبب الاختلاف الحاصل في الآراء والأفكار والرؤى التي تتبنّاها كلّ جهة أو كلّ شخص.
 
ومن أجل أن يمرّر كلّ طرف سياسته الخاصّة، أو يفرض آراءه ومعتقداته وأفكاره، عليه أن يعتمد على مبدأ المناورة والتلاعب بالألفاظ، وقد يصل الأمر أحياناً إلى حدّ التنازل عن القيم والمبادئ التي يؤمن بها، واعتماد مبدأ (الغاية تبرِّر الوسيلة) من أجل الوصول إلى ما يصبو إليه.
 
وقد نقل لنا التاريخ القديم والحديث كيف أنّ الذين اشتغلوا بالأُمور السياسيّة والقضايا السلطويّة كانت لهم أساليب وطرق نستطيع أن نعدّها غير شرعيّة - 
 
 


1- تأليف المرجع والعلاّمة الكبير، الشيخ محمّد حُسين كاشف الغطاء قدّس سرّه، المتوفّى سنة 1373 هـ، تحقيق عليّ جلال باقر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

183

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 والمقصود بغير الشرعيّة هنا إمّا أن تكون مخالفة للشرائع السماويّة، أو للقوانين الوضعيّة المانعة لمثل هذه الأساليب، وهذا ممّا يمكن القول عنه بالمصطلح الرياضيّ الحديث: "الضرب تحت الحزام" - للوصول إلى المناصب العليا والتبختر ببهرج السلطة والصول.

 
وهذه السياسات المتّبعة للوصول إلى السلطة وسدّة الحكم تدفع بالفرد إلى التشبّث بها والاستماتة من أجلها، ولو كان الثمن هو تحوّله إلى "دكتاتور" ومجرم وقاتل للنفس المحترمة ومرتكب لكلّ كبيرة، كما فعل ملوك بني أُميّة وبني العبّاس.
 
فهذا يزيد بن معاوية ارتكب أبشع الجرائم، واستباح كلّ محرّم، من أجل الحفاظ على تركة أبيه وسلطانه، والجلوس مجلسه، وهذا هارون الرشيد الخليفة العبّاسيّ يقول لابنه وفلذة كبده: "والله لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم"1.
 
وعصرنا الحاضر مليء بمثل هذه الأُمور، فمعظم الثورات والانقلابات - إنْ لم نقل كلّها - التي تحدث هنا وهناك من أنحاء العالم، وبالأخصّ عالمنا العربيّ والإسلاميّ، قوامها القتل والتدمير والعنف وسفك الدماء وإزالة الخصوم والمعارضين لهم بشتّى الوسائل، فكلّ الأُمور التي ذكرناها هي ضمن سلوك وسياسة أُناس عاديّين تتحكّم فيهم الأهواء، انطلاقاً من الأنانيّة، وتؤثّر فيهم المطامع الدنيويّة والمصالح الشخصيّة، وهوى النفس.
 
أمّا عندما يكون الحديث عن سياسة وسلوك رجل مثل الإمام الحسين عليه السلام، الذي عصمه الله تعالى من كلّ خطأ وزلل، بنصوص قرآنيّة وأحاديث نبويّة شريفة لا تكاد تخفى على ذوي العقول النيّرة والضمائر الحيّة البعيدة عن التعصّب الجاهليّ، فالأمر يكون مختلفاً تماماً.
 
فالإمام الحسين عليه السلام ليست السلطة مبتغاه، ولا الحكم غاية مناه، فهو كالكعبة
 
 
 
 

1- انظر: الاحتجاج ج 2 ص 166، عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 86.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

184

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 يؤتى ولا يأتي، وأفعاله لا تكون انعكاساً لنزواته وشهواته الدنيويّة وأهوائه، أو طبقاً لدوافع عاطفيّة أو عشائريّة ناتجة من خلاف بينه وبين بني أُميّة، أو غيرهم: فإنّ كلّ هذه الأُمور لا تعني عند الإمام الحسين عليه السلام شيئاً، وإنّ ما يعنيه هو:

1- موقفه الشرعيّ من بني أُميّة الّذين تسلّقوا إلى قمّة السلطة، وتربّعوا على كرسيّ الحكم، واتّخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، دون أن يكونوا أهلاً لقيادة هذه الأُمّة. أضف إلى ذلك علمه سلام الله عليه بمدى أثر هذا الأمر على جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يُرَ مبتسماً بعد أن أراه الله عزّ وجلّ نَزوَ بني أُميّة على منبره نَزوَ القردة1.
 
2- خوفه على مستقبل الإسلام وشريعة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الشريعة التي أصبحت عرضةً للتحريف والتزييف من قبل حكّام الجور والظلم، ولا سيّما بني أُميّة، هذه الشريعة التي ضحّى من أجل تثبيت دعائمها جدّه وأبوه وأخوه، روحي وأرواح العالمين لهم الفداء، فقد قال عليه السلام في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين أراد الخروج من المدينة...: "وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَوْلى بالحقّ، ومَن ردَّ علَيَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين"2.
 
ومن هنا، فإنّ سياسة الإمام عليه السلام كانت مدروسة بدقّة، وخطواته كانت بأوامر إلهيّة، فهو ممّن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ قال سلام الله عليه، عندما حاول بعضهم أن يثنيه عن المسير- وذلك لقصور أفكارهم وعدم إدراكهم مقاصده السامية - أو الخروج والمسير دون أخذ العيال والنساء معه، قال: "إنّ الله 
 
 
 

1- انظر تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن)، سورة الإسراء7 : 60، في تفاسير الفريقين.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص 329- 330.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

185

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 شاء ذلك، وجدّي أمرني به"، وقال عليه السلام مبرِّراً لأخذه العيال معه: "إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا".


فتشكيك المشكّكين بسياسة الإمام عليه السلام ما هو إلّا وجهات نظر ضيّقة لا تتعدّى كونها من أشخاص ينظرون إلى الإمام عليه السلام كنظرتهم لأيّ قائد عسكريّ فاشل، لم يحسب لمعركته مع يزيد بن معاوية الحسابات الدقيقة والصحيحة، دون النظر إلى عصمته ومنزلته ومكانته الإلهيّة.

أو من أشخاص يحاولون تبرير ما قام به حكّام بني أُميّة من تدمير للمبادئ وللقيم السماويّة ومكارم الأخلاق التي بُعِثَ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليتمّمها، وضحّى من أجلها بولده وريحانته الحسين عليه السلام.

وبسبب هذه الأفكار القاصرة والرؤى الضيّقة ترانا نسمع، بين حين وآخر، تساؤلات لا ترقى إلى مستوى تضحية الإمام الحسين عليه السلام، تساؤلات لو فكّر بها أصحابها بعيداً عن التعصّب والهوى لكانوا قد وفّروا على أنفسهم عناء البحث عن أجوبة مقنعة لها؛ لأنّ للإمام الحسين عليه السلام سياسة واضحة كوضوح الشمس، لا تحتاج إلى مزيد من التفكير للوصول إلى مغزاها.. فهو عليه السلام لم يستخدم وسائل غير شرعيّة ولا أسلحة محرّمة دوليّاً في حربه من أجل الدفاع عن شريعة جدّه، بل استخدم سلاح التضحية بالنفس - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - والأولاد والأموال من أجل رفع كلمة الإسلام وجعلها هي العليا، ودحض كلمة الباطل المتمثّلة بيزيد وأعوانه وجعلها هي السفلى.

ومن بين الّذين وقفوا في وجه هؤلاء المشكّكين - بالأدلّة والبراهين القاطعة- الشيخ كاشف الغطاء قدّس سرّه، الذي عُرف بمواقفه العظيمة في الدفاع عن مذهب ونهج أهل البيت عليهم السلام، من خلال قلمه السيّال، الّذي ما انفكّ يردّ المشكّكين وأصحاب العقول المتحجّرة.

فكانت هذه الرسالة التي بين أيدينا من جملة رسائله التي سارع فيها للدفاع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

186

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 عن حقيقة السياسة الحسينيّة، هذه الحقيقة التي حاولت يد الغدر والخيانة - من أصحاب الأقلام المأجورة من قبل ملوك بني أُميّة وبني العبّاس، ومَن لفّ لفّهم، وإلى يومنا هذا - تشويهها وطمس معالمها، لكي لا يتسنّى للناس معرفة مقدار التضحية العظيمة التي ضحّى بها الإمام الحسين عليه السلام من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام، ولكي لا يطّلع الناس على سوءات بني أُميّة.

 
ونتيجةً لهذه المحاولات الدنيئة نرى أنّ بعض ضعاف النفوس أخذوا يتخبّطون في وصفهم لقيام الإمام الحسين عليه السلام .. فمنهم من جعلها خروجاً عن طاعة الإمام، حتّى ولو كان هذا الإمام جائراً وفاسقاً وفاجراً.
 
ومنهم من جعلها إلقاءً للنفس بالتهلكة: لأنّه كيف لمثل الحسين وأنصاره الذين لا يتجاوزون السبعين نفراً أن ينتصروا على يزيد وجيش يزيد البالغ- على رأي المقلّين- 18 ألف نفر؟!
 
ومنهم من جعلها صراعاً على السلطة بين بني هاشم وبين بني أُميّة: لذا لا ينبغي التدخّل في صراع نشب بين أبناء العمومة.
 
فجاءت هذه الرسالة لتضع حدّاً لهذه الشكوك، ولتزيل الغشاوة عن أعين الناظرين إلى السياسة الحسينيّة، هذه السياسة التي أصبحت منهجاً لكلّ ثوار العالم الذين يرفضون الخضوع للظلم والظالمين على مرّ العصور والقرون.
 
ترجمة المؤلّف1:
هو: الشيخ محمّد حسين بن الشيخ عليّ بن محمّد رضا بن موسى بن الشيخ جعفر- صاحب "كشف الغطاء"- ابن الشيخ خضر بن يحيى، الذي يرجع نسبه إلى مالك الأشتر، وهو من خاصّة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
 
وُلد في النجف الأشرف في العراق سنة 1294 هـ، الموافق 1877 م.
 
 
 

1- انظر ترجمة الشيخ مفصّلاً في: مقدّمة جنّة المأوى، ومقدّمة المراجعات الريحانيّة، والعبقات العنبريّة في طبقات الجعفريّة، وشعراء الغريّ، ومصادر كثيرة أُخرى.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

187

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 بدأ دارساً المقدّمات - من نحو، وصرف، وبلاغة، ومنطق - على أساتذة هذه العلوم يومذاك في المساجد والمدارس الحاشدة بالجموع الغفيرة من روّاد العلم على اختلاف قوميّاتهم، فقد كانت النجف الأشرف مصدر إشعاع علميّ تشدّ له الرحال من أقطار نائية، وبدأ يتقدّم في هذا الميدان وكأنّه في حلبة سباق يطمح أن يحوز على قصب السبق، وأنهى هذه العلوم في مدّة زمنيّة قياسيّة قلّ نظيرها، وأصبح مؤهّلاً بعد اجتيازه لهذه العلوم - المقدّمات - أن يرقى إلى علم الأُصول الذي هو - في الحقيقة - الجهاز الذي من خلاله يستنبط الفقيه فتاواه لتحديد سلوك مقلّديه وفق الشريعة الإسلاميّة. درس الفقه على فقيهين كبيرين يشهد لهما القاصي والداني بغزارة علمهما، وهما: الملّا رضا الهمدانيّ والسيّد محمّد كاظم اليزديّ، وتتلمذ في الأُصول على الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ، صاحب "كفاية الأُصول"، الذي هو بدوره صاحب مدرسة أُصوليّة.


وافته المنيّة يوم الاثنين18 ذي القعدة1373 هـ، الموافق 1954 م، في إيران، في مدينة (كرند) التي سافر إليها وهو يحمل معه آلام المرض، وحُمل جثمانه من إيران إلى مدينة النجف الأشرف حيث وادي السلام مقبرة النجف الأشرف، ودُفن في قبره الذي أعدّه لنفسه عندما شعر بدنوّ أجله وقرب ساعته.

وأرّخ وفاته الشيخ عليّ البازيّ قائلاً:
مدينةُ العلم بكتْ قطبَها الحجّة العظمى، مثال التقى أبا حليم كيف يجدي البُكا؟ الدينُ قد أصبح ينعاك، والأيّام قد فقدت خيرة تأريخها ومَن إلى الإسلام إنسان عين فقيه شرع، شافع النشأتين عليك والنوح وصفق اليدين؟!

التي بها انجلى كلّ رين وافتقدت فيك الإمام الحسين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

188

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 منهجيّة التحقيق:

 

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على النسخة المطبوعة في قم، الصادرة عن دار الكتاب للطباعة والنشر، والمطبوعة بالأُوفسيت على نسخة الكتاب الصادرة عن المطبعة الحيدريّة في النجف عام 1368 هـ، واقتصرتُ في ذلك على الخطوات الآتية:
1- ضبط النصّ، من حيث التقطيع والتوزيع والتصحيح.
2- تصحيح الأخطاء المطبعيّة والإملائيّة الواضحة بدون الإشارة إليها.

3- استخراج الآيات القرآنيّة.
4- استخراج النصوص والأقوال الأُخرى الواردة في الرسالة من المصادر المنقولة عنها مباشرة أو بالوساطة، وقد اقتصرت فيها على ذِكرِ بعضِ أهمّ المصادر المخرِّجة لها: إذ لو أردنا التوسّع في ذِكر المصادر لخرج بنا المقام عن هدف الرسالة المؤلّفة لأجله، والتفصيل موكول إلى مظانّه، ممّا أُلّفَ في خصوص منهج وسياسة الإمام أبي عبد الله الحسين، عليه السلام .

5- استخراج الأبيات الشعريّة التي وردت في الرسالة، مع ترجمة مختصرة لقائلها.
6- التعريف ببعض الأعلام والوقائع المذكورة في الرسالة.

7- توضيح المطالب المهمّة، بشرحها والتعليق عليها، أو إحالتها على مصادرها الأصليّة.
8- شرح معاني الكلمات الغامضة والغريبة.

9- أدرجتُ عدّة عناوين لتوضيح رؤوس المطالب، ووضعتها بين العضادتين.
10- ألحقتُ بأصل رسالتنا هذه رسالةً صغيرةً كانت قد وردت إلى الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، قدّس سرّه، من مدينة مشيغن في أمريكا،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

189

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 بتاريخ شهر ربيع الآخر سنة1358 هـ، من المدعوّ عبد الله برّي، وردّ الشيخ، قدّس سرّه، عليها، الذي كتبه بتاريخ27 ربيع الآخر سنة1358 هـ: المنشورين في كتابه "جنّة المأوى": لصلتهما الوثيقة بموضوع رسالتنا، إتماماً للفائدة.

 
11- أبقيتُ على الهوامش التي أدرجها الشيخ كاشف الغطاء والسيّد القاضي الطباطبائيّ1، وألحقت بالأُولى جملة "منه قدّس سرّه"، وأضفت إليها التخريجات الجديدة وفق المصادر التي اعتمدتها في التحقيق، وجعلتها بين العضادتين.
 
وفي الختام:
أُسدي جزيل شكري إلى كلّ من أسهم وأعان في نشر هذه الرسالة إلى الملأ العلميّ، ولا سيّما الأخ الشيخ علاء السعيديّ، الذي لفت نظري إلى هذه الرسالة القيّمة وضرورة تحقيقها ونشرها، وإلى سماحة العلّامة السيّد عليّ الخراسانيّ لِما أتحفني به من ملحوظاته النافعة، وإلى الأخ المحقّق السيّد محمّد عليّ الحكيم، الذي أعانني في إبراز الرسالة بما يليق بها.
 
ولا يفوتني أن أشكر هيئة تحرير مجلّة "تراثنا" لِما بذلوه في هذا المجال..
 
داعياً المولى العليّ القدير أن يوفّقنا جميعاً لِما فيه خدمة المذهب الحقّ مذهب
 
 


1- هو: السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ، وُلد في تبريز سنة 1331 هـ، عالم فاضل، درس المقدّمات في تبريز عند والده السيّد محمّد القاضي وعمّه السيّد أسد الله القاضي وغيرهما من أساتذة الحوزة العلميّة هناك، ثمّ سافر إلى مدينة قمّ المقدّسة سنة 1357 هـ، فأخذ عن علمائها حتّى مرحلة البحث الخارج، وفي سنة1369 هـ، وبعد أن أكمل مرحلة السطوح شدّ الرحال إلى مدينة جدّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إلى حيث القبّة التي يرقد تحتها باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إلى النجف الأشرف، للاغتراف من نمير علمائها، والارتشاف من مناهل فطاحلها، ثمّ عاد إلى مدينته تبريز سنة1372 هـ، بعد أن حاز على درجة الاجتهاد، واتّجه نحو التأليف والتحقيق وإقامة صلاة الجماعة مع أداء واجباته الدينيّة الأُخرى. له مؤلّفات عديدة، منها: كتاب في علم الكلام، أجوبة الشبهات الواهية، رسالة في إثبات وجود الإمام عليه السلام في كلّ زمان، عائلة عبد الوهّاب، حديقة الصالحين. ومن أعماله: جمع وترتيب كتاب "جنّة المأوى" لأُستاذه الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، مع إضافة بعض البحوث العلميّة والتاريخيّة والتعليقات النافعة إليه، وسعى في طبعه ونشره لأوّل مرّة في تبريز. استشهد، قدّس سرّه، في تبريز في:11 ذي الحجّة 1399 هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

190

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 أهل البيت عليهم السلام، وبثّ علومهم ونشرها، إنّه نِعم المولى والمجيب، وآخر دعوانا أنِ.. "اللّهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتّعه فيها طويلا".


والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجبين، وسلّم تسليماً كثيراً.


عليّ جلال باقر الداقوقيّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

191

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 كتاب الشيخ عبد المهدي مطر

دفع إليَّ1 حضرة الإمام الحجّة - والدي - دامت بركاته، كتاباً كان قد ورد إليه، هذا نصّه: من الناصريّة، 20 شوّال سنة 1348 هـ.


سيّدي حجّة الإسلام، ومرجع الأنام، آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء مُدّ ظلّه.
 
إنّ بعض المواضيع التي ليست بذات أهمّيّة ربّما تعرض عليها عوارض التشكيك وطوارئ النقد فتكون أهمّ نقطة يوجّه إليها السؤال، فالعفو إن كان السؤال في هذا شيء من الركّة في البصيرة، أو الضعف في العارضة، إذا كانت الظروف قد طوّرته إلى هذا الحدّ.
 
مولاي! يسأل المشكّك أو الناقد عمّا إذا كان الحسين عليه السلام عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عرَّضَ بعِرْضِهِ إلى الهتك، وليس في تعريضه هذا شيء من الحسن العقليّ المعنويّ يوازي قبح الهتك، وكُنْتُ قد أجبتُ: أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين، لم تكن تحصل بقتل الحسين، عليه السلام، فحسب، وكانت الغاية للحسين عليه السلام في خروجه إطفاء نائرة الأُمويّين، والبروز في المظلوميّة بكلّ مظاهرها، من قتل، وحرق، وسبي.
 
غير أنّ المشكّك لم يقنع أن تكون وسائل الإطفاء قد قلّت على الحسين، عليه السلام، وهو بذلك المظهر الدينيّ، حتّى احتاج إلى عرض عائلته على الهتك.


فالأمل أن تفيضوا علينا من فيوضات أنواركم وجليّ بيانكم: ليقف المشكّك والناقد على صراط الاعتقاد.
 
خادمكم عبد المهدي
 
 
 

1- المتحدّث هو: الشيخ عبد الحليم ابن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

192

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 (جواب الشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء)

 
وعلمت أنّ هذا الكتاب من الفاضل الأديب الشيخ عبد المهديّ مطر دام فضله، وبعد أن استوفيته بالنظر أمرني الوالد أن أكتب في هذا الموضوع جواباً عن ذلك السؤال، وأن أعتمد على نفسي بدون الاستعانة بكاتب أو كتاب، إلّا ما يقضي به التاريخ، فكتبت ما يلي: الشكّ علّة البدع، ومنشأ الفساد، واختلاف العقائد، ما من أمر إلّا معرّض له1، كثيراً ما يطرأ على فكر المرء فيغيّر مجراه ويفسد عليه معتقده، حتّى من البعيد أن يخلو منه امرؤٌ في هذه الحياة الدنيا: لذلك من الصالح للمرء إزالته بأن ينظر فيه من هو أحصف عقلاً، وأثبت رأياً، وأسمى فكراً.
 
ومن تلك التي تلاعبت دول الشكّ في أسبابها، وكثر اللغط بها: هي الواقعة الشهيرة، وحقّاً إنّها الواقعة، جلّت وعظمت2، وبالحريّ أن تداولتها الشكوك، وتلاعبت بها الأفكار، وشخصت إليها الأنظار.
 
والآن، فلنداول فكرنا فيها إجابة للطلب، وإن كنّا لسنا من أصحاب الأفكار السامية والآراء الثاقبة، لكنّ الفكر يظهر من الردّ والبدل على نتيجة ناجعة.


فنقول: إنّا إذا نظرنا إلى تاريخ الحروب والوقائع نرى منها ما ظهر باسم الحقّ والواجب الدينيّ، وهي التي تقع بين منتحلي الأديان والفرق وأصحاب الحقوق والسيادة، وهي محلّ البحث ومجال النظر. 
 
ومنها ما ظهر بمظهر حربيّ سياسيّ صرف، وهي الحروب السياسيّة التي تقع بين الأُمم.


وبما أنّ واقعة الطفّ واقعة مذهبيّة داخليّة ظهرت باسم الحقّ والواجب الدينيّ، لا يمكن الغور في البحث عنها إلّا بعد أن نبيّن ذاتيّة الحسين، عليه السلام، من الجهة الدينيّة عندنا، ونجعلها مقياس البحث.
 
فالمعتقد فيها أنّها ذاتٌ مقدّسةٌ لا يعتبر بها الخطأ والزلل، تَعْلَمُ بالمغيّبات قبل 
 
 
 

1- كذا في الأصل، ولعلّ الأقرب إلى الصواب: ما من امرئ إلّا معرّضٌ له، أو ما من أمر إلّا عرضةٌ له، أي: عرضةٌ للشكّ.
2 - أي واقعة الطفّ الأليمة في كربلاء، في عاشوراء سنة 61 هـ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

193

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وقوعها بإذن الله، وهذا الاعتقاد هو داعي البحث ومجلس الشكّ.

 
فالحسين، عليه السلام، كما كان عالماً بقتله في خروجه، كذلك كان عالماً بقتله في بقائه: إذ من المعلوم ما للأُمويّين من الضغائن والأحقاد القديمة على بني هاشم، فهم يتطلّبون أدنى حجّة وفرصة للفتك بهم.
 
فيزيد1 الجائر لمّا رأى ما للعلويّين من التعصّب والتصلّب عليه، تأهّب للانتقام، فأوصى جميع ولاته وعمّاله بالحسين، عليه السلام، شرّاً حتّى ولو وُجد متعلِّقاً بأستار الكعبة، لكنّ لين العمّال وتردّدهم في اقتحام مهلكة جهنّميّة كهذه ممّا أمهل الحسين، عليه السلام، أن يصل إلى كربلاء، ولذلك ترى يزيد أكْثَرَ من عزل الولاة والعمّال أيّام الحسين عليه السلام، وأنّ الحسين خاطر الموت قبل أن يصل إلى كربلاء مرّتين، ولكنّ قضاء الله حال دون ذلك:
أوّلاً: في المدينة، وذلك أنّ خالد بن الحكم أو الوليد بن عتبة2 والي المدينة أرسل إلى الحسين وابن الزبير رسولاً، فذهبا معاً إليه، وكان عنده مروان بن الحكم، 
 
 
 

1 - هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وُلد سنة22 وقيل سنة 27 هجريّة، ثاني ملوك الدولة الأُمويّة، ترعرع في تدمر فنشأ نشأة بدويّة، وكان دائم الشغل بالصيد والعبث واللهو والشراب، يدخل المغنّين إلى قصر معاوية "الخضراء" في جوف الليل مع علم معاوية. أُمّه: ميسون بنت بحدل بن حنيف الكلبيّة، و"كلب" قبيلة كانت نصرانيّة، أسلمت بعد الفتح الإسلاميّ للشام.
كان يزيد أوّل من سنّ الملاهي في الإسلام، وآوى المغنّين، وأظهر الفسق وشرب الخمر، وكان ينادم عليها جون- مولاه- والأخطل الشاعر، وظهر الغناء بمكّة والمدينة في أيّامه، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان يفعل فعل المجوس من نكح الأُمّهات والمحارم، ويتّخذ الغلمان والقيان.
ذكر المؤرّخون أنّه أمر مسلم بن عقبة باستباحة المدينة ثلاثة أيّام في وقعة الحرّة، وقتل أهلها الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ وحتّى بقيّة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأمر أيضاً الحصين بن نمير بإحراق الكعبة بالمنجنيق ورميها بالنّار والحجارة حتّى هدّمت وأُحرقت البنية. إضافة إلى كلّ هذه الأفعال الشنيعة، فإنّه ارتكب جريمة يندى لها جبين البشريّة ووجه التاريخ إلى يوم القيامة، ألا وهي جريمة قتل سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذ عياله ونسائه سبايا، فهذه الجريمة النكراء هي وحدها كافية بأن تخرج يزيد اللعين من الدّين والملّة.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعدج 4 ص 212، أنساب الأشراف ج 5 ص 229- 376، الإمامة والسياسة ج 1 ص 234، وج 2 ص 5- 17، تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 154، تاريخ الطبريّ ج 5 ص 623، الفتوح- لابن أعثم- ج 3 ص 180- 188، البدء والتاريخ ج 2 ص 241- 244، العقد الفريد ج 3 ص 362، مروج الذهب ج 3 ص 67- 72، الأغاني ج 8 ص 336، البداية والنهاية ج 8 ص 181- 189، وللمزيد من التفصيل راجع: كتاب "يزيد في محكمة التاريخ" لجواد القزوينيّ.
2 - الصحيح هو: الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولّاه معاوية على المدينة سنة 58 بعد أن عزل عنها مروان. بعث له يزيد بن معاوية رسالة يطلب فيها منه أن يأخذ البيعة له من الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام بعد هلاك أبيه. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 252، تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 154، الكامل في التاريخ ج 3 ص 377.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

194

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 فقالا للحسين عليه السلام : بايع!

فقال: "لا خير في بيعة سرّاً".. إلى آخره.
فقال مروان: أُشدد يدك يا رجل فلا يخرج حتّى يبايعك، فإن أبى فاضرب عنقه.
 
وقال الزبير: قد علمت أنّا كنّا قد أبينا البيعة إذ دعانا إليها معاوية، وفي نفسه علينا ما لا نجهله، ومتى ما نبايعك ليلاً على هذه الحالة ترى أنّك قد أغصبتنا على أنفسنا، دعنا حتّى نصبح وتدعو الناس إلى البيعة فنأتيك ونبايعك بيعة سليمة، ولم يزالا به حتّى خلّى عنهما وخرجا.
 
فقال مروان: تركتهما؟! والله لن تظفر بمثلها منهما أبداً!
فقال: ويحك! أتشير علَيَّ أن أقتل الحسين؟! فوالله ما يسرّني أنّ لي الدنيا وما فيها، وما أحسب أنّ قاتله يلقى الله بدمه إلّا خفيف الميزان يوم القيامة.
 
فقال مروان مستهزئاً: إن كنت إنّما تركت ذلك لذلك فقد أصبت1.
وعلى أثر ذلك عُزل خالد، أو الوليد2.
 
ثانياً: لمّا صادف، عليه السلام، الحرّ الرياحيّ وعارضه، وقال له الحسين، عليه السلام : "ثكلتك أُمّك".. إلى آخره3.
 
وما ذكرنا ذلك إلّا ليطّلع الناقد على تشدّد يزيد في طلب الحسين، عليه السلام ، وأن لا بُدّ من قتله ما دام ممتنعاً!
وبما أنّ القتل كان عند العرب أمراً هيّناً لا أثر له في نفوسهم، آثر الحسين، عليه السلام
 
 
 

1 - انظر: تاريخ خليفة بن خيّاط ص177، أنساب الأشراف ج 5 ص 313- 317، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 269- 270، مقتل الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- ص 15- 20، مقتل الحسين- للخوارزميّ- ج 1 ص 268، البداية والنهاية ج 8 ص 118، تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 24، الملهوف على قتلى الطفوف ص 96- 98.
2 - الصحيح هو: الوليد، كما سبق أن أشرنا، وقد عزله يزيد عن المدينة وولّى بدلاً عنه عمرو بن سعيد الأشدق. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 304، حوادث سنة 60 هـ، الكامل في التاريخ ج 3 ص380 حوادث سنة 60 هـ، تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 25، حوادث سنة 60 هـ.
3 - انظر تفصيل الحوار الذي دار بين الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وبين الحرّ بن يزيد الرياحي في: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 305- 306، حوادث سنة 61 هـ، مقتل الحسين-لابن أعثم ص 89- 96، مقتل الحسين- للخوارزميّ ج 1 ص 329- 333.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

195

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 القتل في خروجه مع الهتك، لِما له من التأثير العظيم على نفوس العرب، ومن العاقبة الوخيمة على بني أُميّة، حذراً من أن يقتل في حرم جدّه، ويذهب دمه هدراً بلا تأثير عظيم على العالم الإسلاميّ، ولا الحصول على شرف خالد يستحقّ تمام الإعظام للعلويّين، أو الحصول به على أتباع يتظلّمون لهم ويتطلّبون بحقوقهم1، وأمّا ما قلت من أنّه ليس هناك حسن معنويّ يوازي قبح الهتك..

 
فهل هناك حسن معنويّ أكبر من تلك المحاسن التي تقدّمت، من شرف خالد، وإظهار مظلوميّته، والحصول على أتباع، إلى غير ذلك؟! والهتك - وإن كان قبيحاً في حدّ ذاته - لم يظهر هنا للعالم بمظهر القبح، بل ظهر بمظهر المظلوميّة.
 
وأمّا ما قلت: إنّ وسائل الإطفاء لم تك قد قلّت على الحسين، عليه السلام ..
فذلك صحيح، لم تك قد قلّت عليه، لكنّ تلك الوسائل لا تلبث أن يتلاشى أثرها بزوال الحسين كأن لم تك شيئاً: فإنّا إذا نظرنا إلى الوسائل التي يتّخذها الثائر بحدّها تنحصر:
 
أوّلاً: بوسيلة سياسيّة: دعايةً تكون في بادئ أمرها سلميّة تجعل الأُمّة تستفزّ من تلك الدولة حتّى تثور عليها، وذلك بأن تنشر بينها مثالب تاريخ تلك الدولة وفظائع أعمالها، وهذه لا تكون إلّا بعد مضيّ مدّة من الزمن على الدولة، حتّى تتراكم عليها مثالب التاريخ، وأنّه يحتاج في نشرها وتشكيل جمعيّتها إلى زمن غير قصير، وأنّها تحتاج إلى سياسة ودهاء وكذب، وهذه لا يمكن أن يقوم بها رجل كالحسين، عليه السلام،
 



1 - لقد أورد ابن عساكر حديثاً أحببت أن أذكره هنا لمناسبته للمقام، قال: و(حدثنا) موسى بن إسماعيل، (حدثنا) جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك، قال: حدّثني من شافه الحسين، قال: رأيت أبنية مضروبة بفلاة من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين. قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن، قال: والدموع تسيل على خدّيه ولحيته، قال: قلت: بأبي وأُمّي يا بن رسول الله! ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟! فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليَّ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمَة: يعني منفعتها. انظر: تاريخ دمشق ج 14 ص 216، ترجمة الإمام الحسين ابن عليّ عليه السلام . 
أقول: فوالله ما التفرّق والذلّ الذي يعيشه المسلمون عامّةً، والعرب خاصّةً، من بعد ذاك اليوم إلى يومنا هذا، وإلى يوم الوقت المعلوم، إلّا نتيجة الجريمة الشنعاء التي ارتكبها يزيد وأعوانه، بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة ابن بنت رسول الله وريحانته الإمام الحسين عليه السلام ، وخذلان غيرهم، ورضا وسكوت آخرين، من قبل وقعة الطفّ الفظيعة وحتّى زماننا هذا، فحقّ عليهم دعاؤه عليه السلام : " اللّهمَّ إنْ متّعتَهم إلى حين فَفَرِّقْهم فِرَقاً، واجعلْهم طَرَائقَ قِدَداً، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبداً: فإنّهم دَعَونا لِيَنْصرونا، ثمَّ عَدَوْا علينا فقتلونا". انظر: الإرشاد ج 2 ص 110- 111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

196

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ظاهر في أوائل الدولة، مُعَرَّضٌ- بامتناعه عن البيعة - للقتل، غير لائق به الكذب.


ثانياً: بوسيلة حربيّة: وهي تقوم بإشهار السيف، وهي التي لا مَفَرَّ للحسين منها، وهو أن يشهر السيف في مكّة والمدينة، فيذهب مع أصحابه الثائرين من أهل المدينة ليس له أثر في التأريخ عظيم، فإنّه لا يلاقي من تلك الفجائع التي تأخذ بالقسط الأوفر من التأثير على النفوس، فيذهب الحسين في المدينة كما ذهب أصحابه، من عبد الله بن الزبير وغيره من أهل المدينة، لا أثر لهم في صفحات المجد والتأريخ، فقط أنّه يمتاز منهم بما له من الحسب الشريف، وهذا لا يزيد كفّة الميزان شيئاً يُذكر ما لم يباشره شيء آخر.

فيتّضح من ذلك للناقد أن لا سبيل له في الانتقاد على الحسين، عليه السلام، في خروجه، وهو يرى أنّ الوسائل التي بيد الحسين عليه السلام لا تضع أثراً خالداً، ويرى أن لا بُدّ له من القتل، وإذا قتل بصورة بسيطة غير مفجعة لم تؤثّر في النفوس أثراً كبيراً، فنقول: قُتل كأصحابه، وأكثر العرب يموت قتلاً.

وهذا آخر ما تفضّل به عَلَيَّ الفكر: والسلام.

عرض الجواب على الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 
ثمّ إنّي رفعت هذا البيان وعرضته على مطالع والدي، الحجّة السامية، وبعد أن استوفاه بالنظر، قال: إنّه وإن كان على مقربة من الصواب، ولكن لا أحسب أنّ الخصم أو المشكّك يقنع به، ولا تُزاح عنه به العلّة، ولا تنقطع به الخصومة، والمسألة تحتاج إلى تشريح من البيان أوسع من هذا.

ثمّ أوعز بالحضور لديه في أوقات فراغه، والجلسات التي ينتهزها من متراكم أشغاله، بالبحث والمطالعة والتدريس وفصل الخصومات، فأملى علَيَّ في عدّة مجالس عدّة وجوه حاسمة للشبهة، وقاطعة للحجاج، فجاءت رسالة من أبدع ما يكون في بابها، بل هي باكورة الإبداع في موضوعها. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

197

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 جواب الشيخ كاشف الغطاء 

 

قال، دامت بركاته وامتدّت فيوضاته:
كَتَبْتَ إليَّ أيّها الفاضل - مدّك الله منه بالعون والعناية - تذكر سؤال الناقد المشكّك عن الحسين، عليه السلام، إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عَرَّضَ بِعِرْضِهِ إلى الهتك.
 
وأنّك أجبت: بـ "أنّ الهتك فيه مزيد شناعة لأعمال الأُمويّين لم تكن تحصل بقتله فحسب"، وذكرت أنّ المشكّك لم يقنع بهذا الجواب، وطلبت منّا جليّ البيان ليقف المشكّك على صراط الاعتقاد.
 
فنقول والله المستعان:
أوّلاً: إنّ هذا السؤال وأمثاله من البحث والنظر الذي يتمخّض عن الاعتراض والتحدّي لأعمال الأئمّة، بل ولأعمال رسول الله وخلفائه المعصومين سلام الله عليهم، لا موقع له على أُصول مذهبنا معشر الإماميّة، الّذين قادنا الدليل والبرهان إلى القول بعصمة أُولئك النفر المخصوص1.
 
فليس عندنا في مناهجهم الخاصّة، وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر، إلّا كمثل رَجُل عَرَفَ مِنْهُ المَلِكُ تمام الكَفاءَةِ، وأحْرَزَ مِنْهُ صِدْقَ الطاعةِ، فأرسلَه سفيراً إلى قوم، يَبُثُّ بينهم الدعاية، ويقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمناهج مخصوصة، وألزمه أن لا ينحرف عنه قيد شعرة.
 
ولكلّ واحد من الأنبياء والأئمّة سجلٌّ خاصٌّ به، من بدء قيامه بالسفارة والدعوة إلى منتهى أجله، حسب المصالح ومناسبات الظروف الخاصّة، والحِكَمِ التي اقتضت لذلك المَلِك الحَكيم أن يسجّلها على ذلك السفير، مِن قتل، أو سمّ، أو أسر، أو غير ذلك من قضايا التضحية والمفاداة.
 
 


1- راجع مباحث الإمامة في: دلائل الصدق ج 4 ص 205 وما بعدها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

198

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وعبء السؤال وعبء البحث عن تلك الحِكَم والأسرار مطروحٌ عن الرعية، وهو تكلّفٌ زائد، بل ربّما يكون نفس السفير غير واقف عليها تماماً، إنّما يجد في سجلّ أحواله: عليك أن تبذل نفسك للقتل في الوقت الفلاني: فيقول: سمعاً وطاعة: وليس له حقّ السؤال والمراجعة عن الحكمة أو المصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس أن قضايا ذلك الحَكَم1 وعزائِمَهُ كُلَّها مُنبَعِثَةٌ عن أقصى ما يمكن من الصلاح ومعالي الحكمة، ليس في الإمكان أبدع ممّا كان.

 
وكلّ هذه النظريّات سلسلة عقائد يبتني بعضها على بعض، وكلّها مدعومة بالحجّة والبرهان ممّا تمخّضت عن عقول الفلاسفة وآراء الحكماء من معاهد العلم والتأريخ، وكلّها فروع أصل واحد، ينتهي إليه البحث والجدل، وتنقطع عن الخصومة.
 
وما هو إلّا إثبات العناية الأزليّة والقوّة القاهرة الشاعرة، وأنّها هي المدبّرة لهذه العوامل، لا الطبيعة العمياء والمادّة الصمّاء الفاقدة للحسّ والشعور2، وبعد إثبات تلك العناية ورسوخ الاعتقاد بها يهون ويسهل إثبات ما يتفرّع عليها من تلك النظريّات.
 
وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشريّ: لتكميل الناقصين من بني جنسهم، ولا يتسنّى التكميل والاهتداء إلّا بالتسليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيّدون بتلك العناية.
 
وبعد الإلزام بكلّ هاتيك المبادئ عن براهينها، لا يبقى مجال للشكّ والارتياب، والنقد والاعتراض في شيء من أعمالها مهما كانت في الفظاعة والاستنكار في مطارح العقول المحدودة والأفكار المحجوبة.
 



1- كذا في الأصل، والظاهر أنّه تصحيف: "الحكيم"، بقرينة: "الملِك الحكيم" التي جاءت قبل عدّة أسطر.
2 - إشارة إلى المادّيّين الّذين يسلّمون بوجود المادّة وحدها، وبها يفسّرون الكون والمعرفة والسلوك، ويقولون بأنّ الطبيعة هي المدبّرة لعوامل الكون.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

199

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1.

 
ولعلّ إلى ذلك أشاروا، سلام الله عليهم، بقولهم - إنْ صحّ الحديث -: "نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشريّة: يا سلمان! أنزلونا عن الربوبيّة ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يُعرف، وكلمة الله لا تُوصف، ومن قال هناك: لِم؟ وممَّ؟ وبمَ؟ فقد كفر"2.
 
ولعلّ المراد بالكفر معناه الأوّل، وهو الظلام        إِنْ صَحَّ أَنَّ الْلَّيلَ كَاْفِرْ3 


يعني: إنْ تعرّضَ لتلك الاعتراضات فقد ظَلمَ وأظلمَ كمن خاض في لُجّ من الظلمات. وما ذكرتُ هذه النبذة إلّا للإشارة إلى جواب ذلك السؤال من الوجهة الدينيّة محضاً، وإن كنت أعلم أنّ ذلك ممّا لا يُعَوِّل عليه المشكّك الناقد، ولا يعتدّ به المُعْتَرِضُ المُتَحَيِّر، سيّما لو كان ممّن لا يعرف الحسين، عليه السلام، كما تعرفه علماء الشيعة وخواصّها، إماماً معصوماً لا يتطرّق إليه العبث والعيث4، فضلاً عن الغلط والاشتباه، بل غاية ما يقول فيه أنّه من عَلِيّةِ الرجال وأفاضلهم، نسباً ونفساً وشجاعة وبراعة، لكن لا يمنع كُلُّ ذلك مِنْ أنْ يجري عليه ما يجري على غيره مِن نوابغ الدهر،
 
 
 
 

1 - سورة النساء الآية 65.
2 - اللمعة البيضاء- للتبريزيّ ص 64- 65 عن معاني الأخبار، الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة- للسيّد عبد الله شبّر ص 210.
3 - عجز بيت من قصيدة للشاعر بهاء الدّين زهير، المتوفّى656 هـ، وتمامه في الديوان، ص 156: إنْ صحَّ أنّ الليلَ كافِرْ   لي فيكَ أجرُ مجاهِد والكَفر- لغةً-: ستر النعمة، وأصله الكَفر- بالفتح، أي: الستر، ومنه سُمّيَ المزارع كافراً لستره البذر، وقيل: الليل كافر، لأنّه يستر بظلمته كلّ شيء، وكَفَر الليلُ الشيءَ، وكَفر عليه بمعنى غطّاه. انظر: تفسير الطبريّ ج 1 ص 143، فيض القدير في شرح الجامع الصغير ج 1 ص 22، لسان العرب ج 12 ص 120، مادّة "كفر"، تاج العروس ج 7 ص 452، مادّة "كفر". - العَيْثُ: مصدر عاثَ يعيثُ عَيثاً وعُيوثاً وعَيثاناً: أفسد وأخذ بغير رفق، وقيل: هو الإسراع في الفساد. انظر: لسان العرب ج 9 ص 491، مادّة "عيث".
4- العَيْثُ: مصدر عاثَ يعيثُ عَيثاً وعُيوثاً وعَيثاناً: أفسد وأخذ بغير رفق، وقيل: هو الإسراع في الفساد. انظر: لسان العرب ج 9 ص 491، مادّة "عيث".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

 


200

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وأفذاذ البشر، من الصواب تارة، والخطأ أُخرى، والاستقامة أحياناً، والالتواء حيناً، وكرم سجاياه وعظم مزاياه لا يقع سدّاً بين العقول وبين النقد عليه في بعض سيرته وسياسته، إن لم يكن في كلّها: والكمال لله. وحينئذ فلنفرض الحسين، عليه السلام - كما يفترضه السائل - زعيماً من الزعماء، يرى نفسه بما أُوتي من شرف الحسب والنسب أَوْلى بالخلافة من يزيد، وأحقّ بالمُلكِ منه، ولا جرم أنّه يبذل كلّ ما في وسعه لاستعادة ذلك الحقّ المغصوب منه ومن أبيه.

 
أوّلاً: فعلى الأقلّ أنّه لا يبايع يزيد ويصير رعيّة له، مع ما هو المعلوم من المجاهرةِ بإحياءِ كُلِّ رذيلة، وإماتةِ كُلِّ فضيلة1.
وعليه: فالجواب الذي ذكرته إذا كُسي حلّة أُخرى من البيان لم يكن للخصم، لو أنصف أن لا يقتنع به.


وهل من سبيل إلى الكشف عن نفسيّة يزيد وخسّة طبعه وعدم أهليّته، من حيث لؤم عنصره، وخبث سريرته، وقبح سيرته- مع قطع النظر عن الدّين والشرع- أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامّة والعرب خاصّة والمسلمين بالأخصّ، من هتك حرم النبوّة صلى الله عليه وآله وسلم وودائع الرسالة، وجلبهم أُسارى من بلد إلى بلد، ومن قفر إلى قفر؟! وهل أعظم فظاعة وشناعة من التشفّي والانتقام بالنساء والأطفال بعد قتل الرجال؟! وأيُّ ظفر وغلبة على يزيد أعظم من إشهار هذه الجرائم عنه؟!
 
أمّا القتل: فقد كان عند العرب أهون شيء، وهو أمر معتاد متعارف لا شيء فيه من الفظاعة والغرابة، فكان الحسين، عليه السلام، أعرف أنّ يزيد وابن زياد من خبث الذات وسوء الملَكة مستعدّان لتلك الجرائم: فأراد أن يبرزها منهم إلى الوجود وتكون الناس منهم على بيّنة محسوسة، ثمّ يكون الغالب بعدها هو المغلوب، والقاهر هو المقهور.
 
نعم، يزيد قتل الحسين، عليه السلام، وأنصارَه، ولكنّ الحسين قتل يزيد وكلَّ بني أُميّة 
 
 
 
 

1 - كما مرّ في ترجمته في الصفحة 317 فراجع!

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

201

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 بأعظم من قتلهم له بألف مرّة: قتلهم يزيد يوماً واحداً، وقتلوه وقومه إلى آخر الأبد: فأيّ الظفرين أعظم؟! وأيّ القتلين أكبر؟!

 
وهذه الفلسفة قد أدركها حتّى الباحثون من الأجانب عن الإسلام، وقد ألمح إليها المستشرق الألمانيّ المسيو ماربين، حيث قال: "لمّا كان الحسين يعلم عداوة بني أُميّة وبني هاشم، ويعرف أنّه بعد قتله يأسِرونَ عياله وأطفاله، وذلك يؤيّد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيّما العرب، كما وقع ذلك، جلبهم معه وجاء بهم من المدينة...".
 
إلى أن قال: "ولمّا كانت أنظار المانعين محدودة، وأفكارهم قاصرة، ولا يدركون مقاصد الحسين العالية، وآخر ما أجابهم به: إنّ الله شاء ذلك، وجدّي أمرني به1، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟ فقال: إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا"2.انتهى3.
 
أقول: وهذا الجواب ليس كما تخيَّلَهُ المستشرق جواباً إقناعيّاً، ودفعاً وقتيّاً، بل له مقامه الراهن من الحقيقة، ولعلّ الله سبحانه، وجدّه صلى الله عليه وآله وسلم، إنّما أمراه بذلك كي يُفتضَح يزيد ويظهر حاله للناس، نحن لا نقول: إنّ الطريق لهتك يزيد انحصرت بهتك العيال: ولكن نقول: إنّه كان أحد الطرق التي لها التأثير الكبير في المقصود. والقول: إنّه لا يجوز في الدِّين أن يُعَرِّضَ نساءه للهتك مهما كان الأمر: فهو منبعث عن البساطة والسذاجة، فإنّ الذي لا يساعد عليه الدِّين، بل ولا تسمح به الغيرة، هو تعريض الإنسان عِرْضَهُ للهتك الموجب لِما يمسّ الشرف، ويخدش رواق العفّة والصيانة، وسرادق النجابة والحصانة.
 
أمّا الهتك الذي تستحكم به عرى القدس والطهارة والعزّة والمنعة، فذلك ممّا 
 
 
 
 

1 - انظر: البداية والنهاية ج 8 ص 131.
2 - الملهوف على قتلى الطفوف ص 128، بحار الأنوار ج 44 ص 364، ينابيع المودّة ج 2 ص 60. وانظر: أُسد الغابة ج 1 ص 498 رقم 1173، ترجمة الإمام الحسين- ابن سعد- ص59، تاريخ دمشق ج 14 ص 209.
3 - السياسة الإسلاميّة لماربين. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

202

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 لا يشين ولا يهين، وتلك الحرائر، صلوات الله عليهنّ، مهما سَفِرْنَ فَهُنَّ محجّبات، ومهما تَبَذَّلْنَ فهنّ مَصونات، وهنّ بحيث النجم من يد المتناول1 

 
يَشُعُّ عَلَىْ وَجْهِ الْبَرَاْقِعِ نُوْرُهَا      فَيَحْسَبُ رَاْءٍ أَنَّهُنَّ سَوَافِرُ2
 
والغرضُ: أنّ هذا الجواب محكم رصين، وله حظّه من الحقيقة، وإذا لم يقنع به الناقد والمشكّك فهناك:
وجه ثان وجيه أيضاً، وهو: أنّ الحسين عليه السلام، في كلّ أدواره وأطواره، ومنذ نشأ وشبّ إلى آخر نفَس من حياته، كانت شيمته الشمم والشهامة، وعزّة النفس والإباء والكرامة، تتجلّى وتشعّ من جميع حركاته وسكناته، وكلّ أحواله وملَكاته، ولو ذهبنا إلى سرد الشواهد على هذا لجاء كتاباً مفرداً، ومجموعاً وافياً.
 
ويخطر لي أنّ الحسن عليه السلام، لمّا صالح معاوية على الشروط التي لم يفِ بشيء منها، وكان قد حضر عند معاوية مع خواصّ أصحابه للبيعة، فبايع الحسن ومن معه، وطلب معاوية البيعة من الحسين عليه السلام، فقال: دعه! فإنّه لا يبايع، ولكن لا يأتيك منه سوء.
 
فقال: حسبنا منه ذلك3.
 
 
 
 

1 - المراد أنّ حرائر الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام كالنجم في البعد وعلوّ المرتبة، وفي منزلة يستحيل معها الوصول إليهن أو مسّهنَّ بما يخدش عفّتهنَّ، روحي وأرواح العالمين لهنّ فداء.
2- البيت للشاعر جواد بدقت الأسديّ، ضمن قصيدة من35 بيتاً، مطلعها:
رسوم بأعلى الرقمتين دوائرُ       بواعث أنّي للغرام مؤازرٌ 
إلى أن يقول:
فيحسب راء أنّهنَّ سوافِرُ           يطوف على وجه البراقع نورها
ويقول في آخر القصيدة: 
ويا ليت خدّي دون خدّك عافرُ     فيا ليت صدري دون صدرك موطئٌ
والشاعر هو: جواد بن محمّد حسين الأسديّ الحائريّ، الشهير بـ (بدقت) أو (بذكت)، وُلد في كربلاء عام 1210 هـ. كان فاضلاً أديباً مشهورَ المحبّة لأهل البيت عليهم السلام، ومن مشاهير شعراء القرن الثالث عشر، ساجل العديد من شعراء عصره، أمثال الشيخ صالح الكوّاز كما ذكر ذلك الشيخ اليعقوبيّ في "البابليّات".
نَظمَ في مختلف أبواب الشعر فأجاد وأبدع، له ملحمة رائعة يمتدح بها أهل البيت عليهم السلام، توفّي سنة 1281 هـ. انظر: أدب الطفّ ج 7 ص 144- 151.
3 - انظر: مناقب آل أبي طالب- لابن شهرآشوب ج 4 ص 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

203

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وبعد أن تمّ الأمر لمعاوية كان الحسين عليه السلام إذا اجتمع به في حشد من محافل الشام أو الحجاز يناضله ويناظره فيرضخه من القول بالصَّلادِم1، ويصكّ جبهته بما هو أمضّ من الصَّوارِم2 - ورُبّ قول أنفذ من صول3 -، ومعاوية يحتمل كلّ ذلك منه لِما يعلم من عزّة نفسه وشدّة شكيمته.

 
مرّ على الحسين عشرون عاماً- مدّة خلافة معاوية- ما ذاق فيها طعم الخضوع والاستكانة، حتّى إذا هلك معاوية وامتنع عن البيعة ليزيد، ورأى من السداد الهجرة عن المدينة: ليعرف العالم الإسلاميّ امتناعه عن البيعة، فخرج من المدينة بأهل بيته قاصداً مكّة، ولزم الطريق الأعظم الدرب السلطانيّ، فقيل له: "لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؟ فقال: لا والله لا أُفارقه أو يقضي الله ما هو قاض"4.
 
فالحسين- وعلى ذِكره السلام، هو يحمل بين جنبيه هذه النفس الكبيرة - لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق أبت نفسه الكريمة، وأنفت همّته القعساء5 أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشرّد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرض لنفسه إلّا أن يظهر بأسمى مظاهر الأُبَّهَةِ والهَيْبَةِ والجَلالِ والحِشْمَةِ في الموكب الملوكيّ، وفخامة الملك والسلطان. ومن المعلوم أنّ لحمل الحرم والعائلة من لوازم الفخامة والعظمة، وشوكة المناطق والسرادق، ما لا يحصل بدونها، ولو خرج سلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصّصين، وحاشا لسيّد أهل الإباء أن يرضى لنفسه بتلك المنزلة والخطّة السافلة، بل سار بأهله وذراريه ليكون
 
 
 

1 - الصِّلْدِمُ والصُّلادِمُ: الشديدُ الحافر، وقيل: الصِّلْدِمُ: القويّ الشديد من الحافِر، وجمعه: صَلادِم- بالفتح-، وفرسٌ صِلْدِمٌ- بالكسر-: صُلْبٌ شديد، ورأسٌ صِلْدِمٌ وصُلادِمٌ- بالضمّ-: صُلْب. وهي هنا كناية عن قوّة حجّة الإمام الحسين عليه السلام وبلاغته. انظر: لسان العرب ج 7 ص 387، مادّة "صلدم".
2 - أي: أحدّ من السيوف.
3 - من حِكَمِ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، انظر: نهج البلاغة 545 رقم 394.
4 - مقتل الإمام الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

204

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 على مهاد الدّعة والسكينة والهدوء والطمأنينة، كَسَيْر أكبر ملك من ملوك الدنيا وأوسعهم في القدرة والسلطان.

ولا تخالنّ في كلمتي هذه ضرباً من الخيال، أو شيئاً من المبالغة والغلوّ: كلّا، فإنّك لو نظرت إلى بعض الخصوصيّات في سيره لوجدت منها أوثق شاهد لك على ما ادّعيناه.
 
أنْعِمِ النظر في قصّة الحرّ التي اتّفقت على نقلها أرباب المقاتل وأُمناء التاريخ والسيَر1، حيث التقى بالحسين في قفر من الأرض لا ماء فيه ولا كلاء، وقد أمضّ به وبأصحابه العطش، وَهُمْ زُهاءَ ألف فارس على ألف فرس، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسقوا القوم وأوردوهم الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً"، ففعلوا وأقبلوا يملأُون القِصاع2، والطِساس3 من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقي آخر حتّى سقوها عن آخرها.
 
فانظر أوّلاً، واعجب ما شئت بهذا الحنان والرحمة والعطف والإشفاق، فإنّ القوم الّذين سقاهم الحسين عليه السلام، كانوا أعداءه، وقد جاءُوا مِنْ قِبَل ابن زياد للقبض على الحسين عليه السلام، حتّى إنّ عليّ بن طعّان المحاربيّ- وهو عراقيّ من أصحاب الحرّ-لم يعرف كيف يشرب من الراوية4 وكيف يخنث5 السقاء كما يفعله الحجازيّ، فكان يشرب والماء يسيل على أشداقه وثيابه، فنزل الحسين عليه السلام، بنفسه وخَنَثَ السِّقاء حتّى شرب وارتوى6.
 
 
 


1 - تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
2 - القَصْعَةُ: الصَّحفة أو الضَّخمة منها تشبع العشرة، والجمع: قِصاعٌ وقِصَعٌ وقَصَعات. انظر مادّة "قصع" في: لسان العرب ج 11 ص 193، تاج العروس ج 11 ص 375.
3 - الطَّسُّ: الطَّسْتُ من آنية الصفر، أُنثى تُذكَّر، وهي فارسيّة، والجمع: طِساس. انظر: تاج العروس ج 3 ص 90، مادّة "طست" وج 8 ص 340 مادّة "طسس".
4 - الراوية: هو البعير أو البغل أو الحمار يُستقى عليه الماء، والراوية هنا هي المِزادة والوعاء الذي يكون فيه الماء، سمّيت راوية لمكان البعير الذي يحمله. انظر: لسان العرب ج 5 ص 380، مادّة "روي".
5 - خَنَثَ: ثَنَى وكَسَرَ، خنَثَ فَمَ السِّقاء: ثنى فاهُ وكَسَرَه إلى الخارج، فشرب منه، وإن كَسَرَهُ إلى الداخل فقد قَبَعَهُ. انظر: تاج العروس ج 3 ص 207، مادّة "خنث".
6 - انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 305، مقتل الحسين للخوارزميّ ج1 ص 329- 330.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

205

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 واعجب ثانياً، لإيثاره بالماء في بادية قحلاء وصحصحان أجرد1، والماء فيه أعزّ من الذهب، وقد لا يجدونه في يومين أو ثلاثة أو أكثر، فأيُّ سخاء هذا السخاء؟! وأيُّ نفس تلك النفس؟! وأعجب ثالثا ً- وهو محلّ الغرض - كم كانت سعة ذلك الموكب السلطانيّ وإدارة ذلك الركاب الملوكيّ؟! وكم كان يحمل من الماء؟! حيث سقى نفسه وأعداءه، سقى ألف فارس وألف فرس، وعلى أقلّ تقدير أنّ النفوس التي كانت مع الحسين عليه السلام، من أولاده وأنصاره وعيالاتهم ألف نفس، وحمولهم2 المِكارَهْ التي تحمل خيامهم وأمتعتهم، وما إليها من قدور وقصاع وطساس، ونحو ألفين من الخيل والبغال غير الإبل، فتكون النفوس المحتاجة إلى الإرواء بالماء في ذلك الموكب - على أقلّ التقادير- خمسة آلاف أو أربعة آلاف نسمة، غير الفضلة الاحتياطيّة التي سقى منها الحرّ وأصحابه وخيولهم. فالموكب الذي يحمل من الماء ما يروي ستّة آلاف أو سبعة آلاف نسمة، كم ترى يكون ضخامة ملكه وفخامة سلطانه؟! وإذا صحّ ما رواه الطريحيّ في "مجمع البحرين" من أنّ الحسين عليه السلام، لمّا نزل كربلاء اشترى أرض نينوى والغاضريّة من بني أسد بستّين ألف درهم، واشترط عليهم أن يدلّوا زوّاره على قبره ويضيّفوهم: انتهى بمعناه3: فكم كان معه من الأموال والنقود التي يكون فضلتَها ستّون ألفاً؟! وأزيدك شاهداً على ذلك من عظمة الملك والسلطان قضيّة محمّد بشير الحضرميّ4 الذي رواه السيّد ابن 

 
 


1 - الصَّحْصَحُ والصِّحصحاحُ والصَّحصحان: كلّه ما استوى من الأرض وجَرَد، والجمع: الصحاصِحُ، والصَّحصحُ، الأرض الجرداء المستوية ذات حصىً صغار، وأرض صحاصحُ وصحصحان: ليس بها شيء ولا شجر ولا قرار للماء. انظر: لسان العرب ج 7 ص 277، مادّة "صحح".
2 - الحُمُول: الإبل وما عليها من الهوادج والأثقال. انظر: لسان العرب ج 3 ص 334، مادّة "حمل".
3 - انظر: مجمع البحرين ج 5 ص 461، مادّة "كربل".
4 - كذا في الأصل، والظاهر أنّ كلمة "بن" ساقطة، لأنّ بعض المصادر التي نقلت القصّة ذكرت أنّه "محمّد بن بشير الحضرميّ" ،كما في: ترجمة الإمام الحسين ومقتله لابن سعد ص 71، تاريخ دمشق ج 14 ص 182، اللهوف على قتلى الطفوف ص 153، بغية الطلب في تاريخ حلب ج 6 ص 2592، تهذيب الكمال ج 4 ص 483، ومصادر أُخرى ذكرت أنّه "بشير بن عمرو الحضرميّ" كما في: مقتل الحسين- لأبي مخنف- ص 156، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 330، وترجم له صاحب "تنقيح المقال" قائلاً: بشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرميّ الكنديّ، كان من حضرموت وعداده في كندة، وكان تابعيّاً، وله أولاد معروفون بالمغازي، وكان ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة. انظر: تنقيح المقال ج 1 ص 173 رقم 1331.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

206

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 طاووس وغيره حين قيل له ليلة عاشوراء ليلة القلق والأرق، الليلة التي كانت المَنايا فيها على الحَوايا1، والحِمام يحوم فيها على الخيام قيل له: إنّ ابنك أُسر في ثغرَي الريّ: فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما أُحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده: فسمع الحسين عليه السلام قوله، فقال له: "رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك". فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك. قال: "فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه". فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار2.

 
وعليه: فيكون قيمة كلّ ثوب مئتي دينار، مئة ليرة ذهب.
 
وأنا لا أدري ما كانت تلك الثياب التي قيمة الواحد مئة ليرة؟! وكم كان معه مثلها؟! ولماذا يحملها وأمثالها معه في تلك المراحل؟! هذه سؤلة لعلّك في غنىً عن الجواب عنها، ولكن أيّها الناقد المشكّك! 
 
أتحسب أنّ الحسين عليه السلام، كان صعلوكاً من صعاليك العرب، ولئيماً من لئامها، كابن الزبير، الذي يقول لجنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري؟!3 ويقول للوافد عليه، المستجدي منه، بعد أن قال له: إنّ ناقتي قد نَقِبَت4.
 
فقال: ارقعها بِهُلْب5، واخصفها بِسِبْت6.فقال الوافد: لعن الله ناقةً حملتني إليك. فقال: إنّ وراكبها7.
 
 
 
 

1 - الحويَّة: كساء محشوُّ حول سنام البعير، وهي السويّة، والحويّة لا تكون إلّا للجمال، والسويّة قد تكون لغيرها، لذا تقول العرب: المَنايا على الحَوايا، أي قد تأتي المنيّة للشجاع وهو على سرجه. انظر: لسان العرب ج 3 ص 409، مادّة "حوا".
2 - انظر: ترجمة الإمام الحسين ومقتله- لابن سعد- ص 71 رقم 292، تاريخ دمشق ج 14 ص 182، الملهوف على قتلى الطفوف 153- 154، بغية الطلب في تاريخ حلب ج 6 ص 2592، تهذيب الكمال ج 4 ص 483، بحار الأنوار ج 44 ص 394.
3 - انظر: شرح نهج البلاغة ج 2 ص 123، تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 266.
4 - النَّقِبْ: رقّة الأخفاف، نَقِبَ البعيرُ ينقبُ فهو نَقِبٌ، بالكسر إذا رقّت أخفافه. انظر: لسان العرب ج 14 ص 249، مادّة "نقب".
5 - الهُلْبُ: الشَّعر كلّه، وقيل: هو في الذَّنَب وحده، وقيل: هو ما غلظ من الشعر، والهُلْبةُ شعر الخنزير الذي يخرز به. انظر: لسان العرب ج 15 ص 111، مادّة "هلب".
6 - السِّبْتُ- بالكسر-: جلود البقر المدبوغة بالقَرظ، تحُذى منه النَّعال السبتية. انظر: لسان العرب ج 6 ص 140، مادّة "سبت".
7 - انظر: الأغاني ج 1 ص 18- 19، تاريخ دمشق ج 28 ص 261، وج 48 ص 285، النهاية في غريب الحديث والأثر ج 1 ص 78، شرح نهج البلاغة ج 20 ص 139. وذكر القصّة ابن منظور في لسان العرب ج 1 ص 244، مادّة "أنن"، وقال: "إنّ وراكبها، يعني: نعم مع راكبها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

207

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 لا يا هذا! الحسين أكبر ممّا تظنّ، الحسين أكبر من أن يتخلّص من طواغيت بني أُميّة الّذين أرادوا سفك دمه في حرم الله فتنتهك به حرمة الحرم، كما فعل ابن الزبير وفعلوا به، هو أكبر من أن يخلص بنفسه ويترك عياله يشرئبّون إليه ويتطلّعون إلى أخباره ويناشدون الركبان عنه.

 
وأمّا ما تخيَّلْتَهُ من أنّ هتك الحريم لا يقدم الغيور عليه مهما كان الأمر، فهو وَهمٌ زائف، وقد عرَّفناك أنّ الهتك المُشين هو الذي يلمس أذيال العفّة، ويمسّ ذلاذل1 الشرف، لا الذي تستحكم به أسوار الصون وسياج العفاف.
 
وبعد هذا كلّه، فهل أقنعك هذا الوجه، وعرفت كيف كانت منزلة الحسين عليه السلام من عظمة الشأن وسموّ السلطان؟!
 
وهناك وجه ثالث لحمل العيال، وهو: كما كانت العرب عليه من أنّهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب، ويصبروا للطعن والضرب، جعلوا الحريم خلفهم، واستقبلوا العدوّ، فإمّا الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار، وترك الحريم للذلّ والإسار، ويشهد لهذا عدّة وقائع لا تغيب عن الضليع في تاريخ العرب2، عليه حَمَلَ العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة السعادة بالشهادة كما فعلوا.
 
وهناك وجه رابع لعلّه أوجه من تلك الوجوه، وأقربها إلى الحقيقة، وإنْ كانت للحسين عليه السلام، ملحوظة وراء التعبّد والانقياد والرضا والتسليم للمشيّة القاهرة، وكانت سياسة عن فلسفة نظريّة، وتدابير بشريّة، فهي هذه الملاحظة التي سوف نبديها ونشير إليها على الجملة حيث لا سعة للتفصيل.
 
تقول أيّها الناقد: "إنّ الحسين عليه السلام، كان يعلم أنّه يقتل..".
نعم، وأنا أقول كذلك، بل يعلم أنّ جميع مَنْ معه مِن الرجال، بل وكثير من الأطفال
 
 
 
 

1 - ذلاذل القميص: ما يَلي الأرض من أسافله، الواحد ذُلذُلٌ. انظر: لسان العرب ج 5 ص 57، مادّة "ذلل".
2 - انظر: تاريخ الطبريّ ج 1 ص 467- 482، أحداث معركة ذي قار، و ج 2 ص 166 أحداث غزوة حنين سنة 8 هـ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

208

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 يُقتلون حتّى الرضيع1، ولا يفلت إلّا وَلَدهُ زين العابدين من أجل العلّة والمرض.

 
فلمّا عَلِمَ ذلك كُلّه، وَعَلِمَ أنّ بني أُميّة وأشياعهم سوف يموّهون، بل كانوا قد موّهوا على المسلمين أنّ الحسين عليه السلام، خارج على إمام زمانه، وهو يزيد المنصوب بالنصّ عليه بالاستخلاف من الخليفة الذي قبله وهو معاوية، فالحسين عليه السلام، بخروجه باغ، وحكم الباغي القتل فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله2، فتكون هذه الفتوى وهذا التمويه أعظم على الحسين مِن قتله.
 
وهذا الطلاء المبهرج، وإنْ كان لا يخفى على العارفين والنياقدة، ولكنّهم بالضرورة خاضعون للسلطة، قد شملتهم الذلّة، وأخملتهم القلّة، وألجمهم الخوف والتقيّة، سيّما بعد الفراغ من أمر الحسين عليه السلام، فلا رحمة لأحد بعده ولا حرمة، والناس كما قال هو سلام الله عليه، يوم الطفّ، وكما هو حالهم اليوم: "عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم"3، فمن ذا يقدر أن ينبسُ4 بالحقيقة، فضلاً عن الإصحار5 بها، وسيوف يزيد وابن زياد فوق أرؤسهم، وأموالهم نصب أعينهم؟!
 
وتعلم كيف يلعب الرجاء والخوف في النفوس، فحينئذٍ فلا يمرّ حول أو حولان إلّا وقد سجّل التاريخ أنّ الحسين عليه السلام - وأستغفر الله- باغٍ عاتٍ وقد قُتل بحكم شريعة جدّه. 
وبَعّدَ الناقدُ فريتَه بقوله: هلاّ بايع كما بايع أخوه الحسن عليه السلام، ودفع عن نفسه وأهله القتل؟!
 
 
 

1 - انظر: مقتل الحسين- لابن أعثم الكوفيّ- ص 140، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 332، الملهوف على قتلى الطفوف ص 168- 169.
2 - سورة الحجرات الآية 9.
3- انظر: تحف العقول ص174، مقتل الحسين- للخوارزميّ- ج 1 ص 337، كشف الغمّة ج 2 ص 32.
4 - نَبَسَ ينبسُ نبساً: وهو أقلّ الكلام، وما نبس، أي: ما تحرّكت شفتاه بشيء، وما نبس بكلمة، أي: ما تكلّم. انظر: لسان العرب ج 20 ص 14، مادّة "نبس".
5 - الإصحار: المجاهرة بالشيء، وأبرز له ما في نفسه صَحاراً، أي: جاهره به جهاراً. انظر: لسان العرب ج 17 ص 289، مادّة "صحر".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

209

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 كيف؟! وقد قال بعض النواصب في القرون الوسطى: إنّ الحسين قتل بسيف شريعة جدّه1.

وهذه عند الحسين- وهو عَلَمُ الحقّ، ومنارُ الهُدى، وجسمُ روحِ الغيرة والإباء- رزيّة لا رزيّة فوقها، ومصيبة لا مصيبة أعظم منها.
 
فعلى من يعتمد الحسين عليه السلام، في دفع هذه الغائلة2، وتفنيد هذه الضلالة، وإنقاذ المسلمين من هذه الورطة المهلكة؟!
 
أَعَلى رجال وكلّهم سوف يقتلون معه بعلم منه؟!
 
أم على زين العابدين، وهو أسير مشغول بعلّته، وقتله أهون عليهم من قتل ذبابة؟!
فمَن يقوم للحسين بهذه المهمّة بعد قتله؟!
 
ومَن ذا يقرع بالحجّة، ويوضح المحجّة، ويكشف الحقيقة، ويتعقّب القضيّة، ويخطب في النوادي الحاشدة، والجوامع الحافلة، تلك الخطبة البليغة، والحجج الدامغة؟!
 
تصوّر ذلك العصر مليّاً، واستوسع التأمّل في تلك الأوضاع، وانظر هل كان من الممكن أن يقوم بشيء من ذلك أكبر رجل باسل؟!
 
وهَبْ أنّ الممكن أن يفادي رجلٌ بنفسه للحقّ وإبداء الحقيقة، ولكن هل يُمهلونه إلى أن يستوفي الغرض ويبلغ الغاية؟!
أَوَليس عبد الله بن عفيف الأزديّ، ذلك البصير الذي ذهبت عيناه، واحدة يوم الجمل والأُخرى بصفّين: نعم، ذهبت عيناه، ولكن فتح الله له في قلبه عشر عيون،
 
 
 
 

1- أقول: لقد وصل ببعضهم الكره والبغض ونصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام إلى درجة النطق بمثل هذه التفاهات والترّهات، بل قالوا كلمة الكفر، ومن أمثال هؤلاء النواصب: أبو بكر بن العربيّ محمّد بن عبد الله، المتوفّى سنة 543 هـ، راجع تفاهاته في كتابه المسمّى "العواصم من القواصم" ص 211- 216، وعبد الرحمن بن خلدون، المتوفّى سنة 808 هـ، راجع مخاريقه في "مقدّمته" ص 170- 171. وقد تصدّى لإمثال هؤلاء النواصب، وردّ على ترّهاتهم وخرافاتهم المحققُ الكبير والعلاّمة السيّد عليّ الحسينيّ الميلانيّ في "نفحات الأزهار" ج 4 ص 236- 242، فجزاه الله خير الجزاء. 
2- الغائلة: الحِقد الباطن. انظر: لسان العرب ج 10 ص 161، مادّة "غيل".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

210

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وسقط الجهاد عنه بيده، ولكن جاهد في لسانه بعشرة أسياف إلى أن أحرز الشهادة في هذا السبيل!

فإنّه لمّا سمع خطبة ابن زياد على منبر الكوفة بعد قتل الحسين عليه السلام وهو يقول: الحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب، نهضت به الحميّة والحماية للحقّ، وفادى بنفسه في ذلك الحشد الرهيب، فقام وقطع عليه خطبته قائلاً له: "إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت ومن استعملك يا عدوّ الله، تقتلون أولاد النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين".
 
فغضب ابن زياد وقال: من هذا المتكلّم؟!
فقال: "أنا المتكلّم يا عدوّ الله!
 
أتقتل الذرّيّة الطاهرة الّذين أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟!
وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد صلى الله عليه وآله وسلم1؟!"، فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، وقال: عَلَيَّ به! فقام الجلاوزة فأخذوه، وقامت الأشراف من الأزد عشيرته فخلّصوه، وانطلقوا به إلى منزله. ولكن هل خلص ونجا من ذلك الطاغية؟! وهل كان آخر أمره إلّا أن أُحضر بين يديه فضرب عنقه صبراً وصلب جثمانه في السبخة2 في قصّة طويلة، وما ظفر ابن زياد به إلّا بعد حرب سجال وتحريش منه خبيث بين اليمانية والمضرية 
 
 
 

1- هنا إشارة إلى تفسير الآية الكريمة: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ) سورة الإسراء الآية 60، التي نزلت في بني أُميّة الّذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وقد نقلت ذلك كتب التفسير والحديث والتاريخ، انظر مثلاً: تفسير الثعلبيّ ج 6 ص 111، تفسير ابن جزيّ الكلبيّ ج 2 ص 174، تفسير القرطبيّ ج 10 ص 183- 184، تفسير الفخر الرازيّ ج 20 ص 239، زاد المسير ج 5 ص 40- 42، البحر المحيط ج 6 ص 54- 55، تفسير ابن كثير ج 3 ص 48، تفسير البيضاويّ ج 1 ص 575، الكشّاف ج 2 ص 455، الدرّ المنثور ج 5 ص 309- 310، تفسير غرائب القرآن- للنيسابوريّ ج 4 ص 361- 362، فتح القدير ج 3 ص 238- 240، فتح الباري ج 8 ص 508 ح 4716، عمدة القاري ج 19 ص 30، لباب النقول في أسباب النزول- بهامش تفسير الجلالين ص 235، مجمع البيان ج 6 ص 250، شرح نهج البلاغة ج 9 ص 220، وج 12 ص 81، مسند أحمد ج 2 ص 522، مجمع الزوائد ج 5 ص 240- 241، تاريخ الطبريّ ج 5 ص 621، حوادث سنة 284 ه، الخلفاء الراشدون- للذهبيّ- ص 209- 210، البداية والنهاية ج 6 ص 176- 177، و182، تاريخ الخلفاء- للسيوطيّ- ص 16.
2 - السبخة: أرضٌ ذات ملح ونَزّ، وجمعها سِباخ. انظر: لسان العرب، ج 6 ص 148، مادّة "سبخ".


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

211

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 على قاعدة التفرّق1. نعم، ما أنكر على ابن زياد إلّا عبد الله بن عفيف رضوان الله عليه، وإلّا ذلك الصحابيّ الضعيف بكلّ مواقع الضعف، ألا وهو زيد بن أرقم، فإنّه حين رأى رأس الحسين عليه السلام بين يدَي ابن زياد وهو يضربه بعوده، قال له: "ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما".

 
ثمّ بكى زيد، فقال له ذلك الخبيث: أتبكي لما فتح الله للأمير؟! لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأخذت الذي فيه عيناك! فخرج زيد وهو يقول: "ملَكَ عبدٌ حرّاً، أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، قتلتم ابن بنت رسول الله وأَمَّرْتُم ابن مرجانة"2. ولا أستحضر مُنْكِراً على ابن زياد غير هذين الرجلين، وكلماتهما وإنْ كانت ذات قيمة ثمينة في مثل تلك الأيّام العصيبة والمواقف الرهيبة، ولكن أيّ شيء لها من التأثير؟! وما ميلها في تلك التيّارات الجارفة والزوابع القاصفة؟! وهل هي إلّا كلمات قيلت وذهبت أدراج الرياح؟! وهل كانت تكفي لإيجاد بواعث الثورة، وتكوين الانقلاب على بني أُميّة وتحرير النفوس وغليان الأفكار وتأجيج النّار لطلب الثار؟! كلّا ثمّ كلّا، فإنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى المثابرة والتعقيب في الخطب الرنّانة والكلمات المهيّجة، وتشهير المثالب والمساوئ، ونقد السيّئات ونعيها على تلك الدولة الغاشمة والسلطة الظالمة والحكومة الجائرة. فإنّ بهذا ومثله تتكوّن في الأُمّة روح ثورة وانفجار يكتسح ظلم الظالمين، وتقتلع عروق الجور والاستبداد. قل لي برأيك، أيّها الناقد، أيّ رجالات ذلك العصر كان يقدر على القيام بتلك المهمّة، ويقوى على النهوض بذلك العبء؟! أليس قصارى أمره، مهما كان من البسالة والجرأة، أن يقول الكلمتين والثلاث، فيقال: خذوه فاقتلوه فاصلبوه في السبخة أو في الكناسة؟! أليس زين العابدين عليه السلام مع أنّه عليل أسير- والأسير لا يُقتل - قد أمر 
 
 
 
 

1 - انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 413- 415، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337، مقتل الحسين، لابن أعثم الكوفيّ ص 152- 156، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 58- 62، الردّ على المتعصّب العنيد ص 44، الكامل في التاريخ ج 3 ص 436.
2 - انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 412- 413، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 336، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 58- 62، الردّ على المتعصّب العنيد ص 44، الكامل في التاريخ ج 3 ص 436، أُسد الغابة ج 2 ص 21، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، البداية والنهاية ج 8 ص 152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

212

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ابن زياد بقتله لجواب خفيف وقول طفيف، فإنّ ابن زياد بعد أن فرغ من تحدّي زينب وأخرجته بقوّة العارضة والبيان من الميدان مكعوماً1 بالخزي والخذلان التفت إلى زين العابدين، فقال: من هذا؟! فقيل له: هو عليّ بن الحسين عليه السلام .

 
فقال: أليس قد قتل الله عليّاً؟!
فقال سلام الله عليه: "كان لي أخ يقال له عليٌّ قتله الناس".
فقال ابن زياد: بل الله قتله!
فقال الإمام: "الله يتوفّى الأنفس حين موتها"2. فقال له: أَوَبِكَ جرأةٌ على ردّ جوابي؟! يا غلمان! خذوه فاضربوا عنقه! فتعلّقت به زينب، وقالت: يا بن زياد! حسبك من دمائنا ما سفكت، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه. فقال الطاغية: عجباً للرحم! فوالله لَوَدَّتْ أن تموتَ دونه، اتركوه لِما به3. وما تركه رحمةً لها، ولكن قد رأى أنّ العلّة والإسار والأغلال والجامعة4 ستقضي عليه وتكفي ابن زياد مؤنة قتله. فإنّ سلامة زين العابدين وبقاء حياته كان من خوارق العادة، وعلى خلاف مجاري الأسباب، ولو قُتل أو مات في تلك البرهة لانقَطَعَ نسل الحسين، ولكنّ مشيئة الله سبحانه وقضاءه السابق بأنّ الأئمّة من ذرّيّته لا يردّ ولا يُغلب، وكانت زينب هي السبب في حفظه على الظاهر. فليكن هذا وجهاً خامساً لحمل العيال، فلعلّ الحسين عرف أنّ العلّة والمرض لا يكفي في سلامة ولده، وأنّهم قد يقتلونه على مرضه، وأنّ لزينب موقفها الباهر في المفاداة والدفاع عنه.
 
وكلّ غرضنا من سحب أذيال هذا المقال، أن يتجسّم لديك كيف كان الحال في كمّ الأفواه، وعقل الألسن، وإرجاف القلوب، ومشق الحسام لضرب الهام على أقلّ الكلام. 
 
 
 

1 - الكعام: شيء يجعل على فم البعير، كعم يكعمُ كعماً، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه، والجمع: كُعُم. انظر: لسان العرب ج 2 ص 110، مادّة "كعم".
2 - سورة الزمر الآية: 42.
3 - انظر: ترجمة الإمام الحسين عليه السلام لابن سعد ص 79، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337، مقتل الحسين عليه السلام لابن أعثم الكوفيّ ص 150- 151، الكامل في التاريخ ج 3 ص 435.
4 - الجامعة: الغُلُّ: لأنّها تجمع اليدين إلى العنق. انظر: لسان العرب ج 2 ص 359، مادّة "جمع".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

213

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 إذاً فمَن يَردّ تلك الأمانة ويؤدّي تلك الوديعة، وديعة الحقّ، وأمانة الصدق، والانتصار للحقيقة، وإزهاق الباطل؟!

نعم، قُمْنَ بكلّ تلك الوظائف على أوفى ما يرام، وأتمّ ما يحصل به الغرض، قامت به ودائع النبوّة وحرائر الوحي والرسالة، نهضن بتلك الأعباء الثقيلة التي تعجز عنها الأبطال وأُسود الرجال.
 
كأنّ الحسين عليه السلام علم - ولا شكّ أنّه علم - أنّه سيُقتل هو وجميع أهل بيته وأنصاره، ولا يبقى رجل يتسنّى له الكشف لجمهرة ذلك الخلق التعس عن فظاعة تلك الجناية وشناعة تلك الجرائم السيّئة، ولو أهمل هذه الناحية المهمّة لذهب قتله سدًى، ولفات الغرض والغاية، فلم يجد بُدّاً من حمل تلك المصونات معه لتكميل ذلك المشروع الذي ابتذل نفسه ونفوس أعزّته في سبيله. وعلم، سلام الله عليه، أنّ بني أُميّة، مهما بلغوا في خرق النواميس وهتك الحرمات والتجاوز على الشناشن1 العربيّة، والشرائع الإسلاميّة، ولكنّهم لا يقدرون على قتل النساء: لا يقدرون على قتل امرأة مصابة مفجوعة تكلّمت بشيء من الكلام تبريداً وتسكيناً للوعتها. ويوم الطفّ وإنْ قَتَلَ حزبُ بني أُميّة عدّةً من النساء الوديعات2، كما قتلوا الأطفال3، 
 
 
 
 

1 - الشِّنْشِنة: الطبيعة والخليقة والسَّجيّة، والشناشن العربية: يعني السجايا والأخلاق والطبائع العربيّة. انظر: لسان العرب ج 7 ص 220، مادّة "شنن".
2 - استُشهدت مع الإمام الحسين عليه السلام يوم الطفّ امرأةٌ واحدة، هي: أُمّ وهب النمريّة القاسطيّة، ذكر ذلك الطبريّ في تاريخه، بعد أن سرد قصّة التحاقها هي وزوجها عبد الله بن عمير الكلبيّ بركب الإمام عليه السلام يوم الطفّ، وخروج زوجها للمبارزة والقتال بين يدي الإمام عليه السلام، وخروجها هي أيضاً للقتال شاحذةً همّة زوجها، مناصرةً لإمام زمانها، ولكنّ الإمام عليه السلام منعها وردّها إلى الخيام، قائلاً لها: ارجعي رحمك الله إلى النساء، فإنّه ليس على النساء قتال. قال: وخرجت إلى زوجها بعد أن استشهد حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئاً لك الجنّة: فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام له يسمّى رستم: اضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها. تاريخ الطبريّ ج 3 ص 321- 322 و 326، وانظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 398، الكامل في التاريخ ج 3 ص 422، البداية والنهاية ج 8 ص 145، إلّا أنّ ابن أعثم الكوفيّ وابن شهرآشوب والخوارزميّ وابن طاووس رووا أنّها كانت مع ولدها وهب وزوجته، التي حاولت أن تثنيه عن الخروج والقتال مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في بادئ الأمر، لكنّ أُمّه كانت تشدّ من أزره وتحثّه على الاستشهاد بين يدي الإمام عليه السلام ليكون شفيعاً له عند ربّه يوم القيامة، إلّا أنّ زوجته أخذت- بعد ذلك- عموداً فأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل ليردّها إلى النساء، فأخذت بثوبه وقالت: لن أعود دون أن أموت معك، وظلّت تقاتل معه إلى أن ردّها الإمام الحسين عليه السلام إلى الخيمة. انظر: الفتوح لابن أعثم الكوفيّ ج 5 ص 116- 117، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج 4 ص 109- 110، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 15- 16، الملهوف على قتلى الطفوف ص 116.
3 - واستُشهد مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام يوم الطفّ من الأطفال الّذين لم يبلغوا الحلم خمسة، وهم: عبد الله بن الحسين الرضيع، وعبد الله بن الحسن، ومحمّد بن أبي سعيد، والقاسم بن الحسن، وعمرو بن جنادة الأنصاريّ، وقد ذكر أصحاب السير والتواريخ كيفيّة استشهادهم. انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 331- 334، الكامل في التاريخ ج 3 ص 428- 433، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 21- 22، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 104.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

214

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ولكنّ الحربَ لها أحكام وشواذّ لا تجري في غيرها.

 
لا، وكلّا، لا يستطيع ابن زياد - مهما طغى وتجبّر- أن يقتل ساعة السلم امرأة عزلاء، أسيرة بين يديه، لا تحمل من السلاح إلّا قلبها ولسانها، قلبها درعها، ولسانها سيفها، لا يستطيع أن يقتل امرأة مهما تجرّأت عليه، بل ولا يستطيع أن يمدّ يده إليها فيضربها1 إنّ زينب العقيلة لمّا سوّدت وجه ابن زياد ولطمته تلك اللطمة السوداء بقولها: "ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!"، اسودّت الدنيا في عينه، حيث عرف والحاضرون ما أرادت، فَهَمَّ أن يضربها، ولكنّ عمرو بن حريث، وهو من أكبر القوّاد في جند ابن سعد، وكان أميراً على الرجّالة بعد أن كان من خواصّ أمير المؤمنين في صفّين، أنكر عليه وجاءه بحجّة، وهي أنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فقال ابن زياد: أما تراها كيف تجرّأت علَيَّ؟!2.
 
كان الحسين وأنصاره قد وقفوا يوم الطفّ موقفاً تجسّمت فيه روح الشجاعة والبسالة، وأصبح المثل الأعلى للعزم والإقدام والاستهانة بهذه الحياة في سبيل العزّ والإباء، ودون موارد الذلّ! وقفوا موقفاً ما حدّثنا التاريخ بمثله، ولا سمع الدهر بنظيره! وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، ومددهم إلى الكوفة، بل إلى الشام متواصل، وهؤلاء لا مدد لهم، هؤلاء على شاطئ النهر يكرعون منه، وينتهلون كلّ حين، وأُولئك قد حُبسوا عن الماء يومين أو ثلاثة، والعطش وحرّ الهجير ورمال الصحراء أحرق أجسادهم، وفتّت أكبادهم، وأطفالهم يتصارخون من العطش نصب 
 
 
 
 
 

1- أقول: إنّ ابن مرجانة وأمثاله لا يتوانون ولا يتورّعون عن الاعتداء على حُرَمِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهمّه بضرب عقيلة الطالبيّين زينب عليها السلام ، التي اعتادت أن ترى مثل هذه الاعتداءات من هؤلاء القوم وأسيادهم، فمِن قبلُ رأت كيف عاملوا أُمّها الزهراء عليها السلام ولم يرعوا لها حرمة بمجرّد غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف قادوا أباها عليّاً عليه السلام ليأخذوا منه البيعة قهراً، وكيف رموا نعش أخيها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بالنبل، لَدَليل على ذلك، إلّا أنّ الله تعالى قيّض وجود بعض الّذين تحرّكهم الشيم والسجايا والأعراف العربيّة، وليس الورع والتقوى والمودّة في القربى التي أمر بها الكتاب العزيز، ووصّى بها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا حال دون ذلك. فانظر وتأمّل!
2 - انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

215

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 أعينهم، وعلى احتفاف أضعاف ذلك الرزايا والمحن بهم. نعم، ومع كلّه ما هانوا ولا استكانوا، ولا فشلوا ولا ذلّوا، بل كانوا يزدادون بشراً وطلاقة، وعزماً وصلابة، وعزّاً وشهامة. حقّاً إنّه لموقف باهر، ومقام قاهر، وحديث مدهش، ونفوس غريبة، بل وفوق الغرابة بمكان! ولكن ألا أدلّك على أدهى من موقف أنصار الحسين عليه السلام، وأدهش وأبهى وأبهر؟! هو موقف عقائل النبوّة في مجلس يزيد وابن زياد! أتستطيع أن تستحضر في نفسك، وتتمثّل في أُمّ رأسك مجلس ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد أَدْخَلوا عليه السبايا والرؤوس، وفيهنّ الحرّة الحوراء زينب الكبرى، وهو سكران بنشوة الفتح والظفر، ورؤساء الأرباع والأسباع1، ورؤوس القبائل مثول بين يديه، والدنيا مقبلة بكلّ وجهها عليه؟! دخلت عليه تلك العقيلة وجلست ناحية متنكّرة، فأبت نفسه الخبيثة أن يصفح صفح الكرام، ويغضي إغضاء الأماجد، أبت نفسه إلّا إظهار الشماتة، ولؤم الملَكة، وخبث الظفر، وسوء الاستيلاء، وقبيح الأثرة، فسأل- ولا شكّ أنّه.....2، ويهتكها - وهو المهتوك - وقال: مَن هذه المتنكّرة؟! فقيل له: هي زينب بنت عليّ عليها السلام .

فقال لها قول الشامت الشاتم: أرأيت كيف صنع الله بأخيك الحسين والعتاة المردة من أهل بيته؟! فقالت - قول الثابت الجَنان، المتدرّع بدلاص3 اليقين والإيمان، المستحقر له ولكلّ ما له من قوّة وسلطان: "ما رأيت إلّا جميلاً، أُولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفَلْج؟!4 ثكلتك أُمّك يا بن مرجانة!"، فلمّا لطمته بهذه اللطمة السوداء لم يجد سبيلاً للتشفّي منها والانتقام إلّا بأسوأ الكلام من
 
 
 
 

1 - الأرباع: جمع الرَّبْع، أي المنزل والمحلّة والدار. والأسباع: جمع السُّبْع- بالضمّ-: وهي جزء من سبعة. انظر: لسان العرب ج 5 ص 115، مادّة "ربع"، تاج العروس ج 11 ص 199، مادّة "سبع". ورؤساء الأرباع والأسباع كناية عن رؤساء العشائر والأحياء والمجاميع التي كانت حاضرة مجلس ابن زياد حين دخول حرم رسول الله سبايا إلى قصره.
2 - كذا في الأصل، والظاهر أنّ هناك سقطاً في الفقرة.
3 - الدِّلاص من الدروع: الليّنة، ودرعٌ دِلاص: برّاقة ملساء ليّنة بيّنة الدَّلَصِ، والجمع: دُلُصٌ. انظر: لسان العرب ج 4 ص 388، مادّة "دلص".
4 - الفَلْجُ: الظَّفَرُ والفوز، وقد فَلَجَ الرجلُ على خصمه يفلجُ فلجاً. انظر: لسان العرب ج 10 ص 314، مادّة "فلج".


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

216

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 السباب والشتيمة، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أُحدوثتكم.

 
فقالت- غير طائشة ولا مذعورة -: "إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا".
 
وقف الحسين وأنصاره ظهيرة عاشوراء وهم على خيولهم الجياد، وفي أيمانهم البيض الحداد1، وعلى متونهم السمر الصِّعاد2، قد رفلوا بأبراد العزّ، وتكلّلوا بتيجان الشرف، لا يُقتل منهم واحد حتّى يَقتلوا ألفاً من عدوّهم3، وهم ضاحكون مستبشرون، ثقة بما يصيرون إليه بَعدُ من منازل الفردوس الأعلى في دار النعيم.
 
كان هذا موقف الحسين وأنصاره يوم الطفّ.
 
ووقفت زينب بنت عليّ عليه السلام، والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد وهم في قيد الإسار، وذلّ الصغار، لا ترى أمام عينها إلّا عدوّاً شاتماً، أو كاشحاً4 شامتاً، أو قاتلاً لحُماتها وسُراتها، واليتامى والأيامى حولها، كلّ هذه الشؤون والشجون ممّا تذيب القلب، وتذهل اللبّ، وتطيش عندها الأحلام، وتخرس الألسنة، وتموت الفطنة، ولا يستطيع أجلد إنسان أن ينبس بكلمة في مثل تلك الكوارث.
 
أفهل تخشى - لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب - أن تقول: إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسين يوم الطفّ عند جند ابن سعد؟! قل ولا تخف، وعلَيَّ الإثبات. هل أحسستَ في تلك الساعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسي الظالم الشامت الشاتم أن تلجلج لسانها؟! أو اضطرب جَنانها؟! أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاستكانة؟! أو خضعت فانقطعت؟! أو عجزت عن 
 
 
 
 

1 - البيض الحِداد: السيوف الحداد القاطعة التي شُحذت ومُسحت بحجر أو مبرد. انظر: لسان العرب ج 1 ص 555، مادّة "بيض"، و ج 3 ص 80 مادّة "حدد".
2 - الصعدَةُ: القناة، وقيل: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى التثقيف، والجمع: صِعاد، وقيل: هي نحوٌ من الألّةِ، والألَّةُ أصغَرُ من الحربة. انظر: لسان العرب ج 7 ص 344، مادّة "صعد".
3 - جهة الالتئام دقيقة مع ما سبق في صحيفة 349: وقف سبعون رجلاً في مقابل سبعين ألفاً، بالمبالغة هنا والحقيقة هناك. منه قدس سره.
4 - الكاشح: العدوّ المبغض الذي يضمر لك العداوة ويطوي عليها كشْحَهُ، أي باطنه. انظر: لسان العرب ج 12 ص 99، مادّة "كشح".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

217

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع الساكن والمطمئنّ الآمن بعد ليال وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع، ورمزاً من رموز البراعة؟! فكيف وقد اندفعت بها في حشد الرجال على سبيل الارتجال، وهي على ما عرفتَ من الوضع: عنه يقال في الشدّة: "بين ذِرَاعَيْ وجبهة الأسد"1، تتقاذفها لهوات الكُرب، وتلوكها وتمضغها أنياب النوب، حتّى إنّ ابن زياد أعجَمَ عُودَها2، فرآهُ صلباً مرّاً، لا يلين لغامز، ولا يلذّ لماضِغ، وأنّها لا تنقطع ولا تكلّ، ولا تعرف للرهبة وللخوف معنىً، وخشي أن لا تُبقي من هتكه وفضيحته باقية، وأن تقلب عليه الرأي العامّ، وتُحْدِث في جماعته فتقاً لا يُرتق، غيَّرَ من خطّته، وتنازل عن غُلوائه3 وشدّته، فكان آخر كلامه معها بعد أن شفت غليلها منه: لعمري إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها؟!4 لا يا بن مرجانة! ما هي بسجّاعة، هي أُمثولة الصبر والثبات، ورمز غلبة الحقّ على الباطل، واحتقار الحكم الزائف والملك الزائل، وسلطنة الخداع والمكر.

 
لا يا بن مرجانة! هذه زينب بنت عليّ الذي عَلَّمَ الناس الفصاحة، والبراعة، والشجاعة، والسجاعة.
 
هذه زينب بنت الزهراء البتول، لا كمرجانة وسميّة ذَوَاتَيْ الأعلام في الجاهليّة والإسلام5.
 
 
 

1 - عجز بيت للفرزدق، وتمامه:
يا مَن رأى عارضاً أسرَّ به    بين ذراعي وجبهة الأسدِ
انظر: شرح ديوان الفرزدق ص 215، كتاب سيبويه ج 1 ص 180، إملاء ما مَنَّ به الرحمن ص 480، تفسير سورة الروم، خزانة الأدب ج 2 ص 281- 282، وأورده صاحب مغني اللبيب ص 498، رقم 707، وفي ص 809 رقم 1047، دون أن ينسبه لأحد.
2 - العَجْمُ: عَضٌّ شديدٌ بالأضراس دون الثنايا، وعجم الشيء يعجمه عجماً وعجوماً: عضّه ليعلم صلابته مِن خَورِه ورَخاوَته. انظر: مادّة "عجم" في: لسان العرب ج 9 ص 70، تاج العروس ج 17 ص 463. وأعجمَ عودَها: يعني اختبر قوّتها وصلابتها سلام الله عليها.
3 - الغُلْواء: سرعةُ الشباب وشِرّته، وغُلَواءُ كلّ شيء أوّلُه وشِرَّته. انظر: لسان العرب ج 10 ص 114، مادّة "غلا".
4 - انظر: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 337، مقتل الحسين لابن أعثم الكوفيّ ص 150، الكامل في التاريخ ج 3 ص 435، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 47- 48.
5 - سميّة: هي جارية للحرث بن كلدة، الطبيب الثقفيّ، كانت من البغايا ذوات الرايات بالطائف، وتسكن حارة البغايا خارجاً عن الحضر، وتؤدّي الضريبة للحرث، وكان قد زوّجها من غلام رومي له اسمه: عبيد، وفي أحد أسفار أبي سفيان للطائف طلب من أبي مريم الخمّار بغيّاً، فقدّم له سميّة فعلقت بزياد ووضعته على فراش عبيد سنة إحدى من الهجرة، وكان يُنسب إليه، ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان فقيل له: زياد بن أبي سفيان. ومرجانة: هي زوجة زياد بن أبي سفيان، وأُمّ عبيد الله بن زياد. انظر: الاستيعاب ج 2 ص 523، رقم 825، أُسد الغابة ج 2 ص 119، رقم 1800، مروج الذهب ج 3 ص 6.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

218

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 هذه زينب بنت الطاهرة العذراء، لا كهند الخرقاء1، صاحبة القارعة2 والفاكّة3، التي يقول فيها حسّان شاعر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

 
لِمَنِ الْصَّبِيُّ بِجَاْنِبِ الْبَطْحَاْءِ      ......................


البيتين4.
 
وما كانت تلك الشجاعة منها، سلام الله عليها، في مرّة أو مرّتين، بل كانت كلّما ضاق الأمر، واشتدّت المحنة، وتجمهر المتفرّجون عليهم عند دخولهم الكوفة، وعند خروجهم منها، وفي قصر الإمارة، وفي مجلس ابن زياد: في كلّ ذلك تتحدّى فتُدْهش، وتحتجّ فتُفْلج، وتخطب فتُعْجب، تخطب خطبة البليغِ المُدِرِّ5، والمِصْقَعِ6 المُفَوَّهِ7 الذي تهيّأت له كلّ أسباب الدَّعَة8 والراحة والفراغ والطمأنينة.
 
دخل السبي إلى الكوفة بحال يذوب الصفا منها ويشجي المحصبُ95، فجعل
 
 
 
 

1 - الخُرق: الجهل والحُمق، خَرُقَ خُرقاً، فهو أخرق، والأُنثى خرقاء، وامرأة خرقاء: أي غير صَنَاع ولا لها رِفق، فإذا بنت بيتاً انهدم سريعاً. انظر: لسان العرب ج 4 ص 74، مادّة "خرق".
2 - قارعة الدارِ: ساحَتها، وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: وسطه، وقيل: هو نفس الطريق.
وصاحبة القارعة: كناية عن المرأة التي تكثر الجلوس على قارعة الطريق ولا يسلم من لسانها المارّة، ولا تبالي بما يقال فيها. انظر: لسان العرب ج 1 ص 123، مادّة "قرع".
3 - الفاكُّ: الهَرمُ من الإبل والناس، فَكَّ يَفُكُّ فكّاً وفكوكاً، وشيخ فاكٌّ إذا انفرج لحياه من الهَرم. انظر: لسان العرب ج 10- ص 307- 308، مادّة "فكك".
4 - قال حسّان بن ثابت لهند ابنة عتبة بن ربيعة:
لِمَنْ الصَّبِيُّ بِجانِبِ البَطْحاءِ    ملقىً عليه غَيرَ ذي مَهْدِ 
نَجَلَتْ بِهِ بيضاءُ آنِسَةٌ مِن عَبْدِ شَمْس صَلْتَةُ الخَدِّ
انظر: ديوان حسّان بن ثابت ج 1 ص 396.
5 - المُدِرُّ: المكثِر السَّيّال، ودَرَّت السماء بالمطر دَرّاً، إذا كثر مطرها، وسماء مِدرارٌ أي: تدرّ المطر. وهي هنا كناية عن غزارة علم عقيلة بني هاشم السيّدة زينب سلام الله عليها وبلاغتها. انظر: لسان العرب ج 4- ص 324- 326، مادّة "درر".
6- المِصْقَعُ: البليغ الماهر في خُطبته، والجمع: مصاقِع. انظر: تاج العروس ج 11 ص 275، مادّة "صقع".
7 - المُفَوَّهُ: الرجل الذي يجيد القول. انظر: لسان العرب ج 10 ص 356، مادّة "فوه".
8 - الدَّعَةُ: السكينة والوقار والتَّرَفُّه. انظر: لسان العرب ج15 ص 250- 251، مادّة "ودع".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

219

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين، عليه السلام، وقد أنهكته العلّة: "تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحَكَمُ بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء"1. ثمّ تعاظمت الفجيعة فصار الرجال والنساء يبكون معاً، فقال عليه السلام : "أتبكون وتنوحون لنا؟! فمن قتلنا؟"2. قال بشر بن خزيم الأسديّ3: ونظرت إلى زينب بنت عليّ، عليه السلام، يومئذ فلم أرَ خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس4، ثمّ قالت: "الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله. أمّا بعد.. يا أهل الكوفة! يا أهل الختل5 والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلُكُم كمَثَلِ التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً"6

 
واندفعت كالسيل المنحدر، إلى أن قالت: "أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً
 
 

1 - الكلام لأُمّ كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كما في: ينابيع المودّة ج 3 ص 86، بحار الأنوار ج 45 ص 115.
2 - انظر: مقتل الحسين لابن أعثم الكوفيّ ص 147، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2- ص 45، الملهوف على قتلى الطفوف ص 192.
3 - كذا في الأصل، وقد اختلف أصحاب السير والتواريخ في ضبط اسمه، ففي بلاغات النساء ص 74- 77: حذام الأسديّ، ومرّة أُخرى حذيم، وفي الأمالي للشيخ المفيد ص 312: حذلم بن ستير، وفي نسخة بدل: حذلم بن بشير، وفي الاحتجاج ج 2 ص 29- و31: حذيم بن شريك الأسديّ، وفي مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 45: بشير بن حذيم الأسديّ، وفي الملهوف على قتلى الطفوف ص 192- 194: بشير بن خزيم الأسديّ، وفي الرجال للشيخ الطوسيّ ص 88: باب الحاء: حذيم بن شريك، وقد عدّه من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام .
4 - الجَرْسُ والجِرْسُ والجَرَسُ: الصوت الخفي، والحركة والصوت من كلّ ذي صوت، والجَرَسُ: الذي يُضرَب به، والجمع: أجراس. انظر: لسان العرب ج 2 ص 248، مادّة "جرس".
5 - الختل: تخادع عن غفلة، خَتَله يختُله ويختِله ختلا وختلاناً، وخاتلهُ: خدعه عن غفلة، والختل: الخديعة. انظر: لسان العرب ج 4 ص 24، مادّة "ختل".
6 - سورة النحل الآية 92.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

220

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها1. ويلكم! أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم؟! 

وأيَّ دم له سفكتم؟! أفعجبتم أن قطرت السماء دماءً ولعذاب الآخرة أخزى2 وأنتم لا تُنصرون، فلا يستخفنّكم الجهل، فإنّه لا يحفزه البِدار3، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد". قال: فوالله لقد رأيت الناس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً يبكي حتّى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يذلّ ولا يُخزى4. ثمّ خطبت أُمّ كلثوم بخطبة بليغة5. ثمّ خطبت فاطمة الصغرى بخطبتها التي تقول في أوّلها: "الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى.."6 إلى آخر ما قالت.
 
هذا كلّه وهم سائرون يُساقون في السبي على الهوادج والمحامل، وفي الكوفة، وعند ابن زياد.
ولكن هلمّ معي ندخل مع هذا السبي إلى الشام، وننظر كيف دخوله على يزيد ووقوفهم بين يديه، ولنستبق إلى مجلس يزيد نتبوّأ لنا موقفاً منه قبل ازدحام المتفرّجين وتزاحم النظّارة.. ووقفنا في حاشية النادي الأُموي نتطلّع..
 
 
 
 

1 - الشِّنار: أقبح العيب والعار. انظر: لسان العرب ج 7 ص 211، مادّة "شنر".
2 - سورة فصّلت الآية: 16.
3 - بادَرَ الشيء مبادَرَةً وبِداراً وابتَدَرَهُ وبَدَرَ غيره إليه يَبْدُرُه: عاجَلهُ، ولا يحفزه البِدار، أي لا تدفعه المعاجلة، والضمير عائد إلى الله سبحانه وتعالى. انظر: لسان العرب ج 1 ص 340، مادّة "بدر".
4 - انظر: الأمالي للشيخ المفيد ص 321- 324، الأمالي للطوسيّ ص 91، المجلس الثالث رقم 142، الاحتجاج ج 2 ص 109- 114، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 45- 47، الملهوف على قتلى الطفوف ص 192- 194. 
وقد أورد ابن طيفور الخطبة كاملة، إلّا أنّه نسبها إلى أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: "...عن حذام الأسديّ وقال مرّة أُخرى: حذيم، قال: قَدمْت الكوفة إلى أن قال...: ورأيت أُمّ كلثوم- رضي الله عنها- ولم أرَ خفرة... إلى أن قال: ..ورأيت شيخاً كبيراً من بني جعفي، وقد اخضلّت لحيته من دموع عينه، وهو يقول:
كهولكم خيرُ الكهول ونَسْلُكُمُ        إذا عُدَّ نسلٌ لا يبورُ ولا يُخزى 
انظر: بلاغات النساء ص 74- 77.
5 - انظر: بلاغات النساء ص 74، الملهوف على قتلى الطفوف ص 198.
6 - الاحتجاج ج 2 ص 104- 108، رقم 169، الملهوف على قتلى الطفوف ص 194- 197.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

221

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 هذا يزيد جالس على السرير فوق المصطبة العالية، وهو مخمور يرنّح1 أعطافه2 من خمرتين خمرة العُقار3، وخمرة الانتصار، ومنتشٍ بنشوتين: نشوة الملك، ونشوة الفتح والظفر4، ودونه طواغيت بني أُميّة من الأعياص والعنابسة5 من بني عبد شمس، وهم على كراسي الذهب والعاج، يرفُلون6 بحلل الديباج..وهذه أقداح الشراب والخمور، ونخب الفرح والسرور تدار عليه وعليهم، والأعواد والمزامير تضرب لديهم.. فبينما(هم) ومثله، إذ أدخلوا سبي آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مربَّقين7 بالحبال، بين نساء وأطفال.. هناك استفزّته نشوة الأُنس والطرب، وتمنّى حضور أشياخه قتلى بدر، من عتبة وشيبة والوليد8، ليشاهدوا أخذه 

 
 
 

1 - التَّرَنُّحُ: تَمَزُّز الشراب، ورَنَّحَ الرجلُ وغيره وتَرَنّحَ: تمايل من السُكر وغيره. انظر: لسان العرب ج 5 ص 331، مادّة "رنح".
2 - العِطفُ: المَنكِبُ، منكِب الرجل عطفه، وإبطه عِطفُهُ، والعُطوف: الآباط، وعِطفا الرجل والدابّة: جانباه عن يمين وشمال، وشِقّاه من لَدُن رأسه إلى وركه، والجمع أعطاف وعِطاف وعُطوف: وعِطفا كلّ شيء: جانباه. انظر: لسان العرب ج 9 ص 269، مادّة "عطف".
3 - العُقار: الخمر، سُمّيت بذلك لأنّها عاقرت العقل، يقال: عاقره إذا لازمه وداوَمَ عليه، والمعاقرة: إدمان شرب الخمر. انظر: لسان العرب ج 9 ص 317، مادّة "عقر".
4 - أقول: نقل لنا أصحاب السير والتواريخ أنّ الله عزّ وجلّ نغّص نشوة يزيد بقتله أبي عبد الله الحسين عليه السلام في لحظات، ولم يدعه يهنأ بهذه النشوة، ذلك حين جبهه يحيى بن الحكم أخو مروان، قائلاً:                       
لهام بِجَنبِ الطَّفِّ أدنى قرابةً               مِن ابنِ زياد العبدِ ذي الحسب الوغلِ 
سُميّة أضحى نسلُها عَدَد الحصى      وبنتُ رسولِ الله أضحتْ بلا نسلِ
وكذلك عندما اعترض عليه أبو برزة الأسلميّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: "ويحك يا يزيد! أتنكث بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبيّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، فقتل الله قاتِلَكُما ولعنه، وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً". انظر: أنساب الأشراف ج 3 ص 412، تاريخ الطبريّ ج 3 ص 338- 341، البدء والتاريخ ج 2 ص 242.
5 - كان لأُميّة بن عبد شمس من الوَلَد أحدَ عشرَ ذكراً، كلُّ واحد منهم يُكنّى باسم صاحبه، فمنهم: الأعياص، وهم: العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، والعويص لا كَنِيَّ له. والعنابس، وهم: حرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، وعمرو وأبو عمرو، وإنّما سُمّوا العنابس لأنّهم ثبتوا مع أخيهم حَرب بن أُميّة بعكاظ، وعقلوا أنفسهم وقاتلوا قتالاً شديداً فشُبِّهوا بالأسد، والأسود يقال لها العنابس، واحدها عنبسة. انظر: الأغاني ج 1 ص 17- 18، لسان العرب ج 9 ص 415، مادّة "عنبس".
6 - الرَّفْلُ: جَرُّ الذيل ورَكْضُه بالرِّجْل، ورَفَلَ الرَّجُلُ في ثيابه يَرفُلُ إذا أطالها وجرّها متبختراً. انظر: لسان العرب ج 5 ص 275- 276، مادّة "رفل".
7 - الربقة: الحبل، أو عروة في الحبل تُجعل في عنق الحيوان، والربق بالفتح: مصدر قولك: رَبَقْتُ الشاة والجدي أرْبُقُها وأربِقُها ربقاً، وربَّقها: شدّها في الربقة. انظر: لسان العرب ج 5 ص 123، مادّة "ربق".
8 - لقد برز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد يوم بدر إلى القتال، فبرز لهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعبيدة بن الحارث، فقتل أميرُ المؤمنين الوليدَ بن عتبة، وقتل حمزةُ شيبةَ بن ربيعة، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرَّ الإمام عليّ عليه السلام على عتبة فقتله. وعتبة بن ربيعة، هو والد هند زوجة أبي سفيان، أُمّ معاوية وجدّة يزيد، لذا هو يستذكر هنا أجداده من مشركي قريش الّذين هلكوا في معركة بدر الكبرى على يد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ويعدّ انتصاره على الإمام الحسين عليه السلام هو أخذاً بثارات بدر. انظر: تاريخ الطبريّ ج 2 ص 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

 


222

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 بثأرهم، وقيامه بأوتارهم، وأنّه زاد على أخذ الثار بقتل الرجال وسبي العيال، قائلاً:

 
لَيْتَ أَشْيَاْخِيْ بِبَدْرٍ شَهِدُوْا      ......................
 
هنالك قامت العقيلة زينب فقالت، واسمع ما قالت، وانظر كيف خطبت، وهل راعها أو هالها شيء من تلك المظاهر الهائلة، وتأمّل في فقرات خطبتها التي قصمت بها الفَقار1 من ظهر يزيد، وكانت أشدّ عليه من ضرب الحسام في يد الضرغام، وانظر كيف صيّرته- وهو بتلك الأُبّهة - أحقر من قُلامة2، وأقذر من قُمامة، قامت صلوات الله عليها فقالت: "صَدَقَ اللهُ كَذلِكَ حينَ يَقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾3.
 
أَظَنَنْتَ يا يَزيد حَيْث أَخَذْتَ عَلَيْنا أَقطارَ الأَرْضِ وَآفاقَ السَماءِ، فَأصْبَحْنا نُساقُ بَيْنَ يَدَيْكَ كَما تُساقُ الأُسارى، أنّ بِنا عَلى اللهِ هَواناً وَبِكَ عَلَيهِ كَرامَة، وَأنّ ذلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ عِنْدَه؟! فَشَمَخْتَ بِأنْفِكَ، وَنَظَرْتَ في عطْفِكَ، جَذلان مَسْروراً، حَيْث رَأيْتَ الدُنْيا لَكَ مُستَوْسِقة4، وَالأُمور مُتّسقَة، وَحِينَ صَفا لَكَ مُلْكُنا وَسلطانُنا.
 
فَمَهْلاً مَهْلاً! أَنَسيتَ قَولَ اللهِ عَزّ وَجَلّ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾5؟!.
 
أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرُك حرائرَك وإماءك، وسَوْقُكَ بنات رسول الله سبايا؟! قد هُتكت ستورهنّ، وأُبديت وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكبادَ الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
 
 
 

1 - الفِقرة والفَقَرَة والفَقار- بالفتح-: واحدة فَقار الظهر، وهو ما تنضّد من عظام الصلب من لَدُن الكاهل إلى العَجْب، والجمع: فِقَر وفَقار، وقيل: فِقْرات وفِقَرات. انظر: لسان العرب ج 10 ص 300، مادّة "فقر".
2 - القُلامة: اسم ما قطع من طرف الظفر. انظر: لسان العرب ج 11 ص 291، مادّة "قلم".
3 - سورة الروم الآية: 10.
4- وسقَ: وسقه يَسِقُه وسقاً ووسوقاً، أي: ضَمَّهُ وجمعه وحمله، واستوسقت الإبل، أي: اجتمعت، استوسقَ لك الأمر: أمكنَك، ومستوسقة: مجتمعة. انظر: تاج العروس ج 13 ص 481، مادّة "وسق".
5 - سورة آل عمران الآية 178.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

223

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ثمّ تقول غير مستعظم ولا متأثّم:

لَأَهَلُّوْا وَاسْتَهَلُّوْا فَرَحاً          .................... 
 
تهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلَتَرِدَنَّ وشيكاً مَورِدَهُمْ، وتودّنّ أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، حسبك بالله حاكماً، وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئسَ للظالمين بدلاً1 وأيُّكُم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً2.
 
أقول: ألا بحرمة الإنصاف والحقيقة قل لي: أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثّل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوّه بعطْفه، وسروره وجذله باتّساق الأُمور وانتظام الملك، ولذّة الفتح والظفر، والتشفّي والانتقام، بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل؟! وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدمغ خصمه بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت؟! ثمّ لم تقنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل وعزّة الحقّ، وعدم الاكتراث والمبالاة بالقوّة والسلطة، والهيبة والرهبة.
 
أرادت أن تُعَرِّفَهُ خِسَّةَ قدره، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله، وتعاليها عن حواره، وترفّعها عن مخاطبته، فقالت وتعاظمت بحقّ واستطالت:
 
"ولئن جرّت علَيَّ الدواهي مخاطبتك أنّي أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء".
 
ثمّ أرادت أن تجسّم له عياناً مقام العزّة، وموضع الصبر والجلد والثبات والسكينة..أرادت أن تعرِّفَهُ والناسَ جميل النظر في العاقبة، وأنّ الأُمور بعواقبها،
 
 
 

1 - سورة الكهف الآية: 50.
2 - سورة مريم الآية: 75.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

224

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 والأعمال بخواتمها، وأنّ شرف الغاية- كما يقال - يبرِّر الواسطة1.

 
أرادت أن تعرّفه شرف آبائها وأبنائها، وأنّ القتل والشهادة ما زادهم إلّا فخاراً، وما جلب لعدوّهم إلّا عاراً وناراً، فقالت وما أبلغ ما قالت: "فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تَرْخُصُ عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟!
 
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل"2.
 
هذا قليل من كثيرِ تلك الخطبة، التي هي آية في البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان!
 
وهل يختلجك الشكّ والريب بأنّ كلّ فقرة منها كانت على يزيد أشدّ من ألف ضربة؟!
 
وهل تشكّ أنّ هذه الخطبة وأمثالها كانت هي الضربة القاضية على مُلك يزيد ومعاوية؟!
 
وهل أبقت لهم من باقية؟!
 
وهل يبقى لك شكٌّ بعدُ أنّ مواقف زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى ورباب وسكينة، في الكوفة والشام، بل في كلّ موقف ومقام، كانت لا تقصر- إنْ لم تتفوّق- على موقف حُماتهنّ وسُراتهنّ يوم الطفّ؟!
 
 
 


1 - أقول: نعم، إنّ شرف الغاية يبرِّر الواسطة، ولكن لا يكون ذلك إلاّ لمَن عصمه الباري عزّ وجلّ عن كلّ خطأ وزلل، فتقييم المعصوم لشرف الغاية ونوع الوسيلة يكون تقييماً إلهيّاً لا يستند إلى الهوى والرغبات الشخصيّة، فكلّ الوسائل التي يتّبعها للوصول إلى الغاية لا تخرج عن كونها وسائل شرعيّة. ولعِلم المصنّف قدّس سرّه بأنّ مقولة: "شرف الغاية يبرِّر الواسطة" على إطلاقها غير صحيحة، لتعذُّر تشخيص الغاية الشريفة من غيرها ممّن هم دون مرتبة العصمة، الّذين تتعدّد اجتهاداتهم وآراؤهم تبعاً لأهوائهم وتصوّراتهم في تقييم الغايات وتشخيص الوسائل الصحيحة للوصول إليها، لذا اعترضها بقوله: "كما يقال" فلاحظ!
2- انظر: بلاغات النساء ص 70- 73، مقتل الحسين للخوارزميّ ج 2 ص 74، الاحتجاج ج 2 ص 122- 130، رقم 173، الملهوف على قتلى الطفوف ص 215- 218، بحار الأنوار ج 45 ص 134.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

225

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين، سلام الله عليه، لو قُتل هو ووُلْدُهُ، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جُبارا1، ولم يطلب به أحد ثاراً، ولضاع دمه هدراً، ولم يكن قتله إلّا قتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وأمثالهما ممّن خَمَدَ ذِكرهم وضاع وترهم؟!

 
نعم، لا يرتاب لبيب عارف بأسباب الثورات، وتكوين انقلابات الأُمم، وتهييج الرأي العامّ، أنّ أقوى سبب لذلك هو الخطابة والسحر البيانيّ الذي يؤثّر في العقول وينير العواطف!
 
وإذا استحضرت واقعة الطفّ المفجعة وتوالبها2، تعلم حقّاً أنّه ما قلب الفكرة على بني سفيان، وانقرضت دولة يزيد بأسرع زمان، إلّا من جرّاء تلك الخطب والمقالات التي لم يقدر أيّ رجل في تلك الأوقات الحرجة والأوضاع الشاذّة على القيام بأدنى شيء منها، فقد تسلسلت الثورات والفتن على يزيد من بعد فاجعة الطفّ إلى أن هلك.
 
بل ما نهضت جمعيّة التوّابين، وتلاهم قيام المختار لأخذ الثار3، وتعقّبتها واقعة الحرّة4، التي هلك بعدها يزيد بأيّام قليلة، ما كان كلّ ذلك إلّا من أثر تلك 
 
 
 


1 - الجُبار: الهَدَرُ، ذهب دمه جُباراً، أي هدراً. انظر: لسان العرب ج 2 ص 168، مادّة "جبر".
2 - التولب: ولَد الأتان من الوحش إذا استكمل الحول. وهنا كناية عمّا أولدته واقعة الطفّ من الحروب والثورات التي اندلعت على بني أُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام . انظر: لسان العرب ج 2 ص 41، مادّة "تلب". 
3 - راجع رسالة "أصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثار" للسيّد محسن الأمين العامليّ، تحقيق فارس حسّون كريم، المنشورة على صفحات مجلّة "تراثنا"، العدد المزدوج 66- 67، السنة السابعة عشرة- ربيع الآخر- رمضان 1422 هـ.
4 - هذه الواقعة هي عارٌ في جبين يزيد بن معاوية، وجريمة أُخرى تضاف إلى جريمته الكبرى التي ارتكبها بقتله الإمام الحسين عليه السلام . في هذه الواقعة من المآسي والويلات تكاد السماوات يتفطّرن من هولها، فقد استباح مسلم بن عقبة وجنوده وبأمر من يزيد مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيّام، واعتدوا على العذارى من بنات المهاجرين والأنصار، وقتلوا الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال اللائذين بقبر سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى إنّه لم يبق بعدها بدريّ، وأمر بعد ذلك بالبيعة ليزيد وعلى أنّهم خَوَلٌ وعبيد له، إنْ شاء استرقّ وإنْ شاء أعتق، فبايعوه على ذلك، وفيهم جابر بن عبد الله الأنصاريّ وأبو سعيد الخدريّ وغيرهما من بقيّة الصحابة. ثمّ بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزِّبعْرى يوم أُحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا   جزع الخزرج من وقع الأسلْ
انظر: أنساب الأشراف ج 5 ص 335- 337، الإمامة والسياسة ج 1 ص 234- 239، البدء والتاريخ ج 2 ص 243- 244، العقد الفريد ج 3 ص 372- 374، تاريخ الطبريّ ج 5 ص 623، البداية والنهاية ج 8 ص 177- 180، وفيات الأعيان ج 6 ص 276، الفخري لابن الطقطقيّ ص 119، الإتحاف بحبّ الأشراف ص 66.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

226

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 المواقف المشهودة لزينب وأخواتها.

 
فكان الحسين عليه السلام يعلم أنّ هذا عمل لا بُدّ منه، وأنّه لا يقوم به إلّا تلك العقائل، فوجب عليه - حتماً - أن يحملهنّ معه، لا لأجل المظلوميّة بسبيهنّ فقط، كما شرحناه في الجواب الأوّل1، بل لنظر سياسيّ وفكر عميق، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليّتها الأُولى!
 
فقد أصبح الدّين على عهد يزيد هو دين القرود والفهود، دين الخمور والفجور، والضرب بالعود والطنبور، وأوشك أن يذهب دين محمّد، صلى الله عليه وآله وسلم، أدراج الرياح، وتكون نبوّته كنبوّة مسيلمة2 وسجاح3، ونظرائهما4.
 
إذاً، فجزى الله تلك الحرائر بحسن صنيعهنّ عن الإسلام أحسن الجزاء، وكلّ مسلم مدين بالشكر لهنّ وللحسين، عليه السلام، إذا كان مسلماً حقّاً ويرى للإسلام حقّاً عليه.
 
 
 

1 - انظر: الجواب الأوّل في الصفحة 324 وما بعدها.
2 - هو: مُسيلمة بن حبيب من بني تميم، متنبّئ، كان يسجع لقومه السجعات مضاهاةً للقرآن، وضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا! وُلد باليمامة قبل ولادة والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان من المعمّرين، تلقّب بالجاهلية بـ "الرحمن"، وعرف بـ "رحمن اليمامة"، قالوا في وصفه: كان رُوَيْجِلاً، أُصيغر، أُخينس، كان اسمه مَسْلَمة، وسمّاه المسلمون مُسيلمة تصغيراً له، قُتل في غزوة اليمامة عام 12 هـ، وكان عمره آنذاك 150 سنة. انظر: تاريخ الطبريّ ج 2 ص 199- 200، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ ص 89، شذرات الذهب ج 1 ص 23.
3 - هي: سجاح بنت الحارث بن سويد، وقيل: بنت غطفان التغلبيّة التميميّة، تكنّى أُمّ صادر، كانت رفيعة الشأن في قومها، شاعرة، أديبة، عارفة بالأخبار، لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب، وكانت متكهّنة قبل ادّعائها النبوّة، وهي مع ادّعائها النبوّة فقد كذّبت بنبوّة مسيلمة الكذّاب، ثمّ آمنت به، فتزوّجها من غير صداق! ثمّ أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتَي الفجر والعشاء الآخرة!! وقيل: إنّها عادت إلى الإسلام بعد مقتل مسيلمة، فأسلمت وهاجرت إلى البصرة، وتوفّيت بها في زمان معاوية نحو سنة 55هـ.
انظر: مروج الذهب ج 2 ص 303، الإصابة ص 723، رقم 11361، البداية والنهاية ج 6 ص 239- 241، حوادث سنة 11 هـ، تاريخ الخميس ج 2 ص 159، لسان العرب ج 6 ص 174، مادّة "سجح"، الأعلام ج 3 ص 78.
4 - من أمثال: طُليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر الأسديّ، شهد معركة الخندق مع الأحزاب، وأسلم سنة 9 هـ، ثمّ ارتدّ وادّعى النبوّة في عهد أبي بكر، ثمّ كانت له وقائع كثيرة مع المسلمين، ثمّ خذله الله وهرب حتّى لحق بأعمال دمشق، ونزل على آل جَفْنَة، ثمّ أسلم وقدم مكّة معتمراً، ثمّ خرج إلى الشام مجاهداً، وشهد اليرموك، وشهد بعض حروب الفرس، وقُتل بنهاوند سنة 21 هـ. انظر: الاستيعاب ج 2 رقم 773، أُسد الغابة ج 2 ص 477، رقم 2639، تاريخ دمشق ج 25 ص 149- 172، رقم 2992، الإصابة ج 3 ص 542، والأسود العنسيّ، عيهلة بن كعب بن عوف العنسيّ المذحجيّ، قيل: إنّه كان أسود الوجه فسمّي الأسود للونه، متنبّئ مشعوذ، من أهل اليمن، أسلم لمّا أسلمت اليمن، وارتدّ في أيّام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكان أوّل مرتدّ في الإسلام، وادّعى النبوّة، قُتل قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أيّام، وكان ظهوره في سنة 10 هـ. انظر: الكامل في التاريخ ج 2 ص 201، البداية والنهاية ج 6 ص 228.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

227

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وعلى هذا، فيحقّ للجنس اللطيف - كما يسمّونه اليوم - أن يفخر على الجنس الآخر بوجود مثل تلك العليّات العلويّات فيه، وقد تجلّى واتّضح أنّ هذا الجنس الشريف قد يقوم بأعمال كبيرة يعجز عنها الجنس الآخر، ولو بذل كلّ ما في وسعه، وأنّ له التأثير الكبير في قلب الدول والممالك، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العامّ.

 
وهذه نكتة واحدة من نكات السياسة الحسينيّة، وغور نظره في الشؤون الدوليّة لو قطعنا النظر عن الوحي والإمامة، وجعلناه كواحد من الناس قد ثار على عدوّ له متغلّب عليه، يريد الانتقام منه، يريد أن ينقله من عرشه إلى نعشه، ومن قصره إلى قبره، ومن ملكه إلى هلكه، ويريد أن يقضي على دولة أبيه ودولته، ولا يدع حظّاً في الملك لولده وذرّيّته.
 
ومن تصفّح سيرة معاوية، وجهوده العظيمة، وتدابيره العميقة مدّة عشرين سنة، يعرف عظيم مساعيه، وكم كان حريصاً على توطيد دعائم الملك ليزيد، وحبسه أبداً عليه وعلى ولده، حتّى دسّ السمّ إلى الحسن، عليه السلام، وقتله مقدّمة لاستخلاف يزيد، وكم استعمل العامِلَين القويَّين السيف والدينار، والرغبة والرهبة، في تمهيد عرش يزيد وإعطائه صولجان الملك وتاج الخلافة الذي انتزعه من بني هاشم، وأعمل التدابير المبرمة في أن لا يعود إليهم أبداً.
 
ولكنّ الحسين، وعلى ذِكره آلاف التحيّة والسلام، بتفاديه وتضحيته، وتدابيره الفلسفيّة، وإحاطته بدقائق السياسة، ثَلَّ1 ذلك العرش، وهدم ذلك البنيان الذي بناه معاوية في عشرين سنة، هدمه في بضعة أيّام، وما أثمر ذلك الغرس الذي غرسه معاوية ليزيد إلّا العار والشنار، والخزي المؤبّد، واللعنة الدائمة، وصار معاوية المثل الأعلى للخداع والمكر، والظلم والجور، والرمز لكلّ رذيلة، ومعاداة كلّ فضيلة.
 
كلّ ذلك بفضل السياسة الحسينيّة وعظيم تضحيته، وصار هو وأهل بيته - إلى
 
 
 
 

1 - ثُلَّ عَرْشُ فلان ثَلاًّ: هُدِم وزالَ أمرُ قومه. انظر: لسان العرب ج 2 ص 123، مادّة "ثلل".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

228

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 الأبد - المثل الأعلى لكلّ رحمة ونعمة، وبركة وسلام، فما أكبره وما أجلّه!

 
وقد بقيت هناك دقائق وأسرار لم يتّسع الوقت لنظمها في هذا السلك، ولقد كنت أتمنّى منذ عشرين سنة أن أنتهز من عمري فرصة، وآخذ من مزعجات أيّامي مهلة، لأكتب كتاباً في دقائق السياسة الحسينيّة، وأسرار الشهادة، بما لم يكتبه كاتب، ولا حامَ حول شيء منه مؤلّف، ولا تفوّه وألَمّ خطيبٌ ببعضه، ولكنّ حوادث الأيّام وتقلّبات الصروف لا تزال تدفعني من محنة إلى محنة، ومن كارثة إلى أُخرى
كَأُرْجُوْحَةٍ بَيْنَ الْخَصَاْصَةِ...     وَمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْشَّقَاْوَةِ وَالْعَمَىْ
 
حتّى أصبحت كالآيس من الحصول على تلك الأمنيّة، ولا يأس من روح الله.
وهذا الذي ذكرنا هنا طرف من سياسة الحسين، عليه السلام، وناحية من نواحيها، ذكرنا منه ما يتعلّق به الغرض في الجواب، ودفع الشكّ والارتياب.
 
وفي الختام، أرجع فأقول: ما أدري، هل اندفع بهذه الوجوه الأربعة أو الخمسة اعتراض الناقد أو المشكّك على الحسين، عليه السلام، في حمل العيال؟!
 
وهل انكشف الستار عن تلك الأسرار1؟!
 
فإنْ كان كلّ ذلك البيان لم يقنعه، ولم يدفع شكّه وريبه، فأمره إلى الله، ولا أحسبه إلّا ممّن قال فيه سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾2، والله وليّ التوفيق لنا ولهم، وبه المستعان.
 
ربيع 2 سنة 1358 هـ
سؤال من أمريكا 
مشيغن
 
 
 
 

1 - ويحتمل البعض أنّ وجه حمل الحسين عليه السلام للعيال معه أنّه كان يخشى عليهنّ الأسر والسبي لو تركهنّ في بيوتهنّ بالمدينة، لأنّ بني أُميّة كانوا يتوسّلون إلى أخذ البيعة منه بكلّ وسيلة، وحينئذ فإمّا أن يبايع أو يتركهنّ في الأسر، فإن صحّ، فهو وجه خامس أو سادس (منه قدّس سرّه).
2 - سورة الأنعام الآية: 25.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

229

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 سيّدي الحجّة آل كاشف الغطاء

 
أُتيح لي أن أطّلع على كتاب "السياسة الحسينيّة"، لجامعه: ولدكم المحروس عبد الحليم، وما دار به من بحوث حول الحسين وسياسة الحسين عليه السلام، فخرجت من هذه المطالعة على وشك الاعتقاد الراسخ من أنّ الحسين لم يُقتل إلّا لأجل شيء معنويّ، وهذا الشيء المعنويّ لا يزال مجهولاً عند الباحثين عن تأريخ الحرب الأُمويّة، وعند أتباع الحسين عليه السلام، الّذين يتحرّون جميع الأساليب المؤثّرة، ويزيدونها على النواجيد1 الحسينيّة إثارة للذكريات الدفينة2 التي تمجّد موقف الحسين عليه السلام، وتخذل موقف يزيد والأُمويّين الّذين عاصروه ومشوا على مبادئه وسننه الظالمة.
 
إنّ الحسين لم يُقتل لأجل الدّين الإسلاميّ، كما تقول الشيعة بذلك، ولم يُستشهَد طلباً للمُلك والسلطان، بل قُتل، عليه السلام، محافظاً على معنويّاته الهاشميّة التي هي علّة وجود الأُمّة العربيّة وبعثها من جديد، متمتّعة بجميع أساليب الثقافة ووسائل النجاح الاقتصاديّ المادّي.
 
وهذه القَتْلَةُ التي يقولون عنها: إنّها كانت في سبيل الله، وسبيل المحافظة على معنويّة آل محمّد في سبيل الله أيضاً، هي الشيء المعنويّ الذي لا يزال مخبّأً عن أعين
 
 
 
 

1 - النَّجدة: الثِّقلُ والشِّدّة، والفزع والهول، والمنجود: المكروب. انظر: لسان العرب ج 14 ص 49، مادّة "نجد".
2 - أقول: إنّ حادثة الطفّ الفجيعة، وجريمة القتل الشنيعة، التي راح ضحيّتها حجّة الله على خلقه الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام وأهل بيته والخيرة من أصحابه، ليست كالحوادث التاريخيّة الأُخرى التي كلّما مرّ عليها الزمان يعتريها النسيان وتصبح في خبر كان. فتضحية الإمام الحسين عليه السلام هذه أحيت ديناً من الفناء، وأنقذت أُمّةً من الضياع والضلال، فلولا هذه التضحية لَما بقي من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه، لذا اقترن اسمه عليه السلام مع الدّين اقتراناً، فصارت أسرار ومزايا شهادته عليه السلام تتجدّد بتجدّد الزمان، وتطلع كلّ يوم على البشر طلوع الشمس والقمر، لا ينتهي أمدها، ولا ينطفئ نورها، ولا تبرد حرارتها. قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام: "نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسين بن عليّ عليهما السلام وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً". ثمّ قال عليه السلام : "بأبي قتيل كلّ عبرة". قيل: وما قتيل كلّ عبرة يا بن رسول الله"؟
قال: "لا يذكره مؤمنٌ إلاّ بكى". انظر: مستدرك الوسائل ج 10 ص 318، كتاب الحجّ ح 14. وقال الشاعر:
كذب الموتُ فالحسينُ مخلّدُ     كلّما مرّ الزمانُ ذِكرُه يتجدّدُ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

230

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 الباحثين. ونحن إذا قلنا: إنّ الحسين، عليه السلام ،مات دفاعاً عن شرف الدّين، نكون قد أسأنا إلى الدّين الإسلاميّ نفسه، الذي ليس يقوم على قَتْلة الحسين، عليه السلام، أو استشهاد أيّ نبيّ من الأنبياء، وليس هو صورة مادّية يملكها فرد من البشر، لتموت بموته وتحيا بحياته. والأفضل لكلّ مقتصد، أن يجعل هذه القضيّة قضيّة عائليّة تتفاوت عن حدّ وقوعها بين سموّ مبادئ الحسين وبين انحطاط مبادئ يزيد.

 
وقد أدرك ولدكم - حرسه الله - في جوابه على كتاب الشيخ عبد المهديّ شيئاً من هذا، إذ قال: إنّ الذي عرّض الحسين للقتل هو تمنّعه عن المبايعة ليزيد، وفي عدم القيام بهذه المبايعة يتعرّض الحسين لأن يقتل بسيوف الأُمويّين، حتّى ولو كان في عقر داره، دون أن يضطرّ إلى الخروج لمحاربة يزيد وأتباعه، وأن يعرّض نساءه وأطفاله للهتك الذي هو صورة القبح عند طبقات الأشراف الّذين منهم الحسين، كما زعم غير واحد في افترائه على الحسين وعائلة الحسين.
 
إنّ هذا الافتراض ممكن الوقوع أكثر من غيره، ومبايعة الحسن لمعاوية التي ظلّت أسبابها مغمضة في بحثكم1، هي التي أجّلت وقوع الحرب الأُمويّة إلى ما بعد وفاة معاوية، ويظهر أنّ الحسن بتعهّده لمعاوية أنّه لا يرى من الحسين شيئاً- كما جاء برسالة سماحتكم - وقف وقفة المشفق الذي لا يريد أن يُفجَع بأخيه وهو حيّ، أراد بمبايعته أن يحجب دماء الأبرياء التي أباحها يزيد في تعنّته وطغيه وفساده واعتدائه على أخيه الحسين. ولكنّ السياسة لعبت دورها يومذاك: إذ مات معاوية الذي كان عنده مخافة من الله أكثر من ولده يزيد2، وإذا توفّي الحسن- الذي يعدّ بحقّ نبراس السياسة الهاشميّة المؤدّية إلى إعمال السلام القوميّ- الذي وقف حائلاً في حياته دون وقوع حرب طاحنة كالحرب الأُمويّة، فيما لو ضمّ صوته إلى 
 
 
 

1 - للاطّلاع على تفاصيل صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، والظروف التي أحاطت بالإمام عليه السلام واضطرته إلى هذا الصلح، راجع كتاب "صلح الحسن" للشيخ راضي آل ياسين قدّس سرّه، ففيه بيان ما كان بين الإمام وابن أبي سفيان.
2 - ليس عنده ولا عند ولده يزيد شيء من مخافة الله، ولكنّ معاوية عنده سياسة وتدبّر دنيوي ويزيد ليس عنده دين ولا سياسة. كاشف الغطاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

231

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 صوت أخيه الحسين في زمن معاوية، الذي تعود مبايعته لهذا السبب الوفاقيّ- على ما أظنّ- لا لأسباب الخوف والوجل الذي عزاه كثير من ضعفاء العقول والنوايا1 السيّئة للحسن.

 
أمّا قضيّة العادة العربيّة التي قلتم- سماحتكم-: إنّها دفعت بالحسين إلى أن يصحب أولاده ونساءه معه مستميتاً في سبيل الكرامة والشرف، فهذه تخضع- على خروجها عن قلم سماحتكم- لضروب النقد والاعتراض، إذ كان الدّين الإسلاميّ، أو التعاليم الإسلاميّة- بتعبير أصحّ - حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم إلّا من وراء الحجاب، وأرجعتها إلى بيتها حيث تقوم بتربية وتهذيب أولادها وتدبير شؤون منزلها، الذي يعدّ نصف الحياة الزوجيّة - إذا لم يكن كلّها- في نظر قانون الزواج المدنيّ والدينيّ، فكيف بالحسين خرق حجاب هذا النظام وأصحب عائلته وتابعيه معه جرياً على العادة العربيّة المعروفة قبل ظهور الإسلام وبعده؟! 
 
وتعلمون أنّ العادة التقليديّة غير حكم الدّين التشريعيّ، فحكم الدّين أسمى مكانة في نفس الحسين من عاطفة العادة، فهل هناك ضرورة حيويّة دفعت بالحسين، أن لا يكترث بتعاليم الدّين، ويتّبع ما أوحته عاطفة العادة التي تعدّ ملغاة بحكم هذه التعاليم؟!
 
هذا ما نريد الإجابة عنه مفصّلاً.
 
وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصيّ، وهو: أنّ الخمسة الأثواب التي أعطاها الحسين إلى محمّد بن بشير الحضرميّ2 كان يزيد ثمن الواحد منها على المئة ليرة عثمانيّة، لا يتوافق اقتناؤها بهذا الثمن الباهظ من قبل الحسين مع دواعي الزهد التي كانت متجسّمة في أبيه وجدّه سيّد الرسل، إذ عرفنا عن طرق الأحاديث
 
 


1 - النيّة: عمل القلب، وهي مؤنّثة لا غير، وتُجمع جمع مؤنّث سالم، لذا يكون جمعها بـ "النيّات" لا "النوايا" التي هي خطأ شائع. انظر: لسان العرب ج 14 ص 342، مادّة "نوي".
2 - انظر ما تقدّم في الصفحة 336 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

232

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 المرويّة أنّ عليّاً والد الحسين كان يرتدي الصوف على بدنه داخلاً ويلبس الأطمار الرخيصة خارجاً، دلالةً على زهده وورعه وتقواه، أو تقليداً للنبيّ الذي هو المثل الأعلى للأُمّة الإسلاميّة، والذي جعل بهذا الارتداء أُمثولة عزاء للفقير الذي لا يستطيع أن يلبس ثوباً يساوي ثمنه مئة ليرة عثمانيّة ونحوها، كما استطاع الحسين أن يلبس1 مثل هذا الثوب ويهب خمسة على غراره إلى أحد أتباعه من الفقراء؟!

 
إنّ هذه الرواية - على ما فيها من استقراء في النقل - تصوّر لنا الحسين مسرفاً، طامعاً في خير الدنيا أكثر من خير الآخرة، بينما لو رجعنا إلى استقصاء ورع الحسين وزهده وتقواه لوجدنا ذلك أنّه لا يتوافق ورغبة الحسين في تضميد عواطف الفقراء المجروحة، والترفيه عن كلّ بائس محتاج!
 
ولو أنّ راوياً عزا ذلك إلى الحسن، الذي كان له مَيلٌ خاصٌّ وصِفةٌ خاصّة بهذا الثراء الدنيويّ لأمكننا أن نصدّق ذلك، بدليل أنّ الحسن نشأ على الأُبّهة والمجد في زمن جدّه وأبيه.
 
وأمّا الحسين فمن المعروف عنه أنّه كان لا يعرف قيمة للدنيا، ولو عرف لها قيمة لبايع يزيد، وبذلك كان أضاف إلى ثرائه ثراءً آخرَ يدفعه له يزيد بدلاً من تلك المبايعة، التي كانت منعت هذه الحرب وذلك الهتك، وحوّلت معنويّة الحسين من رجل شريف نزيه حافظ على مبدأ أجداده، ومعنويّة هذا المبدأ إلى رجل مادّي عبث بكلّ شيء، وخضع لكلّ شيء بتأثير المادّة2.
 
 
 
 

1 - لم يلبس الحسين تلك الثياب، وإنّما كان يقتنيها ليعطيها (كاشف الغطاء).
2 - أقول: إنّ هذه الفقرة تتضمّن من التناقضات الشيء الكثير الذي يستوقف أي قارئ، منها: قوله: "إنّ الحسن نشأ على الأُبّهة والمجد في زمن جدّه وأبيه". وهذا خلاف العقل والمنطق، إذ كيف عاش الحسن بهذا الوصف والحسين على العكس منه وقد ترعرعا سويةً في كنف أبيهما وجدّهما وتعلّما منهما الزهد والإيثار؟! فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام يميّزان بين الحسن والحسين؟! ألم تنزل آية الإطعام فيهم جميعاً؟! أم هل كان الحسن ابن حرّة والحسين ابن أَمة فقيرة؟! كلّ هذه الاستفهامات تلجئنا إلى اليقين القطعي أنّ مثل هذه المقولات وغيرها هي محض افتراءات وأكاذيب وضعها رواة بني أُميّة للنيل من منزلة الإمام الحسن عليه السلام، وهيهات! وقوله: "وأمّا الحسين فمن المعروف عنه أنّه كان لا يعرف قيمة للدنيا". وهذا- أيضاً- خلاف منهج الإمام الحسين عليه السلام : لأنّ قيمة الدنيا عنده عليه السلام معنوية أكثر ممّا هي مادّية، فهو لا ينظر إلى الدنيا على أنّها دار بقاء ومتاع ونزوات وشهوات وملذّات، وإنّما ينظر إليها من منطلق قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ولذا فالدنيا عند الحسين عليه السلام دار عبادة وطاعة للباري عزّ وجلّ، والدّين هو الوسيلة التي يحافظ بها الإنسان على الدنيا، فإذا ذهب الدّين ذهبت الدنيا، وخوفاً على الدّين من الاندراس وعلى الدنيا من الخراب وانتشار الفساد- بسبب ما يفعله بنو أُميّة - ضحّى الإمام عليه السلام بنفسه وأهل بيته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

233

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ورواية أُخرى لا تتوافق وصحّة النقل - وهي واردة بجواب سماحتكم - من أنّ زيد بن أرقم قال ليزيد يوم كان يضرب رأس الحسين بعوده: ارفع عودك عن هاتين الشفتين! فوالله طالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما، إذ إنّه من المعروف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبّل الحسين في نحره على اعتبار أنّه سيموت مقتولاً، ويقبّل الحسن في فمه على اعتبار أنّه سيموت مسموماً، فكيف تناقض المعنى الذي وقع فعلاً كما أشار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟! وكيف انتقل تقبيل فم الحسن إلى فم الحسين الذي مات منحوراً على قفاه، ولم ينتقل تقبيل نحر الحسين إلى نحر الحسن الذي مات مسموماً في فمه1؟!

 
وفي الاستعراض الدينيّ لأهل البيت نجد اعتراضاً على الحديث الذي ورد بلسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال مخاطباً سلمان الفارسيّ: "نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشريّة. 
 
يا سلمان! أنزلونا عن الربوبيّة ثمّ قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا يُنزف، وسرّ الغيب لا يُعرف، وكلمة الله لا تُوصف، ومن قال هناك: لِمَ؟! وممَّ؟! وبمَ؟! فقد كفر".
 
إذ إنّ من يتأمّل المعاني الاستهلاليّة من الحديث، يجد أنّ منها ما يعدّ استكباراً 
 
 
 

1 - أقول: لو تجشّم الكاتب قليلاً من عناء البحث في بطون الكتب التي روت فضائل الأئمّة عليهم السلام، لَما حارَ في أمر تقبيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للحسن والحسين عليهما السلام. فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن يعلى العامريّ، أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام دُعوا له، قال: فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذه، قال: فطفق الصبيّ ها هنا مرّة وها هنا مرّة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضاحكه حتّى أخذه، قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأُخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه فقبّله، وقال: "حسين منّي وأنا من حسين"، "أحبّ الله من أحبّ حسيناً"، "حسين سبط من الأسباط". مسند أحمد ج 4 ص 172، وهذا الحديث وما سبقه ممّا تقدّم- عن زيد بن أرقم، في الصفحة344، من تقبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفتَي الإمام الحسين عليه السلام ، وما تقدّم في الصفحة 360، الهامش رقم 1، عن أبي برزة الأسلميّ- من ترشيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفتَي الحسن والحسين، كُلّها تفيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبّل الحسنين من شفتيهما. نعم، اشتهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه كان يكثر من تقبيل الحسن عليه السلام من فمه والحسين عليه السلام من نحره، لعلمه صلوات الله وسلامه عليه بكيفية استشهادهما عليهما السلام، ولكن هذا لا يدلّ على التخصيص. انظر: فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 968، رقم 1361، تاريخ بغداد ج 2 ص 204، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 177- 178، شرح الأخبار ج 3 ص 112، ح 1049.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

234

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 في الأرض، وهو يخالف بمنطوقه إرادة الله التي جاءت في القرآن، فمحت آية الاستكبار الخليقة بالمستضعفين من الناس.


ويجد أنّ كلمة "أسرار الله المودعة" التي عمّت جميع "هياكل البشريّة" تتعرّض للشرّ حيناً، وللخير حيناً آخر، وتنقل من الزهد والتقوى دوراً، وإلى الفساد والإثم والفوضى دوراً آخر، حيث كانت هياكل البشر الطاهرة فيها.

فهل كان الرسول يعني أنّه هو وذرّيّته سرّ الله المودع في هياكل البشريّة الطاهرة فقط؟! أو في جميع الهياكل؟! سواء كانت طاهرة أو خبيثة، مجرمة أو مصلحة، مدنّسة أو غير مدنّسة؟! هذا سؤال نطرحه أمام سماحتكم من الشطر الأوّل من الحديث.

وأمّا الشطر الآخر، فيه: "ومن قال: لِمَ؟! وممّ؟! وبِمَ؟! فقد كفر"، فيكفينا أن نقول: إنّ فيه حَجْراً لعقل الإسلام الذي خُلق حرّاً طليقاً بحكم التشريع الإسلاميّ، ونتساءل كيف أباح النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لنا إدراك الله عن طريق العقل بعد التفكير والتكييف والمقارنة والمشابهة والظنّ والشكّ والريبة وما أشبه ذلك، ثمّ تكون هذه الأشياء كلّها شرعيّة بنظر القانون الإسلاميّ، ولم يبح لنا إدراك كنه "أسرار الله المودعة، وسرّ الله الذي لا يعرف، وكلمة الله التي لا توصف" المتجسّمة في شخصه وشخص ذرّيّته من بعده؟!

إنّ هذا المنع المجرّد عن العقل والرويّة يعرّض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- إذا كان صادراً عنه - إلى عدّة انتقادات عقليّة، أهمّها: إنّه أباح للعقل أن يدرك الله تعالى عن طريق الظنّ والتفكير الذي حرّمه لإدراك شخصه، وبذلك جعل نفسه فوق الله تعالى، وإنْ كانت هذه النفس هي خليقة الله والخاضعة لأمر الله!

هذا، فضلاً عن أنّ هذا الادّعاء المتجسّم في كلمة "سرّ الغيب الذي لا يعرف، وكلمة الله التي لا توصف" يجعل للشكوك والأوهام سبيلاً للوقوف حائلاً بين حكم العقل وعاطفة الاعتقاد، ولماذا لا يُعرف رسول الله الذي هو كلمة الله، وله أعمال 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

235

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وأقوال تدلّ على شخصه وتنمّ عن سجاياه وأخلاقه؟!

 
ومتى كانت أعمال الرجل وأقواله وتصرّفاته الدينيّة والاجتماعيّة بين أيدينا، يمكننا أن نحكم على شخصيّته من أنّها شخصيّة صالحة إذا كانت أعماله وأقواله توافق الصلاح، وأن نحكم على هذه الشخصيّة من أنّها شخصيّة مجرمة فاسدة فيما إذا كانت أعماله وأقواله تأتي الفساد، وترتكب الإجرام والفوضى الاجتماعيّة!
 
لا أعتقد أنّ هذا القول يصدر عن نبيّ- كمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم - كان متواضعاً جدّاً، وهو كإنسان بسيط يمشي في الأسواق، ويأكل ويشرب، فكيف به كنبيّ يقول مثل هذا القول الذي هو من صفات الإلهيّة؟!
 
بل أعتقد أنّ هذا الحديث من جملة الأحاديث التي دسّتها اليهود دسّاً في كتب الإسلام، انتقاصاً من قيمة الدعوة المحمّديّة، التي هي أسمى من كلّ شيء ظهر على وجه الأرض.
أمّا إذا كان هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بصحّتها، فأرجو من سماحتكم أن تتفضّلوا ببيان ذلك ولو مفصّلاً.
 
من مدرسة كاشف الغطاء الكبرى في النجف الأشرف
27 ربيع 2 سنة 1308 هـ
 
بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والمجد
 
إلى الحبر الفاضل، بل الإنسان الكامل، وما أعزّ الكمال في الإنسان!
 
كان قد وردني منك كتاب فيه شيء من الإطناب، ذكرت فيه بعض الملاحظات على بعض مندرجات "السياسة الحسينيّة"، ووعدتك أن أُجيبك، إن لم يكن عن كلّها فعن بعضها على الأقلّ، في كتاب أرجو أن يكون قد وصل إليك في البريد مع كتاب "أصل الشيعة"، هديّة للسيّد فائز حسين، أمين النهضة العربيّة الهاشميّة، حرسه الله وإيّاك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

236

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 تقول - أيّدك الله - في كتابك: ونحن إذا قلنا: إنّ الحسين عليه السلام مات دفاعاً عن شرف الدّين، نكون قد أسأنا إلى الدّين الإسلاميّ..." إلى آخر ما أبديت في هذا الموضوع، وكأنّه غاب عنك أنّنا حيث نقول: مات أو قتل دفاعاً عن الدّين، لا نريد أنّ الدّين الإسلاميّ يموت بموته ويحيا بحياته، بل نريد العكس، يعني أنّ الدّين يحيا بموته ويموت باستبقاء حياته وهذه حال جميع من قتل في سبيل الله، الّذين يقول الله جلّ شأنه عنهم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1، مثل: حمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث، وسعد بن الربيع2، وأمثالهم، ممّن بذلوا حياتهم في الدنيا لحياة الدّين، فوجدوا خيراً من تلك الحياة عند الله تعالى، فهم عند الله أحياء غير أموات وإن كانوا بالنظر إلى الدنيا أمواتاً غير أحياء.

 
ولا يلزم من هذا أن يكون الدّين الإسلاميّ صورة مادّية يملكها فرد من البشر كما تخيّلت، ضرورة أنّ الدّين هو عبارة عن تلك الأحكام والقوانين التي جاء بها الرسول الأمين من ربّ العالمين، وحياتها وموتها بالعمل بها وعدم العمل بها.
 
ولمّا سلك يزيد، في خلافته، مسلكاً يوجب إبطال العمل بشرائع الإسلام، حيث صار يجاهر بشرب الخمور وارتكاب الفجور وترك الصوم والصلاة، والناس يتّبعونه طبعاً، لأنّ "الناس على دين ملوكهم" كما قيل3، وكأنّه بهذا يريد القضاء على الإسلام وموته، لذلك ضَحّى الحسين عليه السلام بحياته وحياة خيرة أهل بيته وأصحابه، إنكاراً على يزيد، وإبطالاً لمساعيه، وإحياءً للدّين، ولحمل الناس على العمل بشرائعه، كما قال سلام الله عليه، أو قيل عنه:
إن كان دينُ محمّد لم يستقم          إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني!
 
فحقّاً أنّ الحسين - سلام الله عليه - ما بذل نفسه إلّا دفاعاً عن شرف
 
 
 
 

1 - سورة آل عمران الآية 169.
2 - سعد بن الربيع الخزرجيّ، أحد نقباء الأنصار من شهداء أُحد، انظر ترجمته في تنقيح المقال ج 2 ص 13 ط النجف. القاضي الطباطبائيّ.
3 - انظر: فتح الباري ج 7 ص 114، تذكرة الموضوعات- للفتني- ص 183، وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار ص 30، كشف الغمّة ج 2 ص 230، سير أعلام النبلاء ج 17 ص 507، رقم 328.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

237

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 الدّين وتفادياً للمبدأ المقدّس، ولا نكون بهذا قد أسأنا إلى الدّين، بل أحسنّا إليه، حيث جعلناه فوق نفس الإمام المعصوم، وأنّه يُفدى بأعزّ النفوس. 

 
ومن الغريب قولك - حرسك الله - على قولنا: "أنّ العادة العربيّة دفعت بالحسين عليه السلام أن يصحب أولاده ونساءه معه مستميتاً في سبيل الكرامة والشرف، فقلتم: إنّ التعاليم الإسلاميّة حرمت المرأة (من) مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم إلّا من وراء حجاب! أليس من الغريب أن تقول - وأنت بهذه الثقافة -: إنّ الدّين الإسلاميّ حرم المرأة من مخالطة الرجال، فتجعل ذلك وصمة شنعاء ولطخة سوداء في جبين الدّين الإسلاميّ؟!
 
كيف يقال هذا وهذه الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام بنت مشرّع الدّين الإسلاميّ، خطبت في المسجد النبويّ في حشد المهاجرين والأنصار تلك الخطبة البليغة الغرّاء التي تستغرق ما يقرب من ساعة، وكلّهم يسمعون ويشهدون1.
 
وهذه عائشة ما زالت مدّة عمرها تخطب2، وتحدّث الرجال بالأحاديث النبويّة، وإذا نظرت إلى كتب صحاح إخواننا السُنّيّين تجد الربع أو الثلث تقريباً ينتهي سنده إلى عائشة، حتّى نسبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خذوا ثلث دينكم من الحميراء"3.
 
دع عنك هذا! وراجع كتاب "بلاغات النساء" وأمثاله، وانظر إلى النساء اللاتي كنّ يخطبن في الجيوش في صفّين ويحرّضن أهل العراق على حرب أهل الشام4!
 
وانظر إلى كلام الوافدات 5 على معاوية بعد أن تمّ الأمر له، وكيف كانت تلك 
 
 
 

1 - انظر: بلاغات النساء ص 54- 69، شرح الأخبار ج 3 ص 40، معاني الأخبار ص 355، دلائل النبوّة لابن جرير الطبريّ ص 30- 41، الاحتجاج ج 1 ص 253- 292، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 232- 234، كشف الغمّة ج 2 ص 480- 494، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ج 1 ص 155- 169.
2 - انظر: بلاغات النساء ص 35.
3 - انظر: النهاية في غريب الحديث ج 1 ص 438، مادّة "حمر"، الإحكام في أُصول الأحكام ج 1 ص 211، مسألة 11، لسان العرب ج 3 ص 317، مادّة "حمر"، البداية والنهاية ج 3 ص 103، السيرة النبويّة لابن كثير ج 2 ص 137.
4 - مثل كلام الزرقاء بنت عديّ بن غالب، وبكارة الهلاليّة، وأُمّ سنان بنت خيثمة بن خرشة. انظر: بلاغات النساء ص 90- 93، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب ج 2 ص 235- 237.
5 - مثل كلام سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانيّة، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخزاعيّ رضي الله عنه، التي حبسها معاوية سنتين. انظر: "بلاغات النساء" لابن طيفور، و "أعلام النساء" لعمر رضا كحّالة، وأمثالهما من الكتب. القاضي الطباطبائيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

238

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 النسوة أجرأ من اللبوة، وأقوى قلباً من الصخور. 

 
أُنظر إلى الخنساء1 يوم حرّضت أولادها الأربعة في بعض حروب المسلمين حتّى قُتلوا جميعاً2. وبعد هذا، فهل تجد من الصحيح قولك: "إنّ الإسلام حرم المرأة من مخالطة الرجال"؟!
 
ألم تكن النساء تضمّد الجرحى وتسقي العطاشى، وتزغرد وتهلهل وتحرّض المقاتلين على الهجوم في حرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحرب الوصيّ عليه السلام ؟!
 
دع وانظر إلى صفايا النبوّة وحرائر الرسالة وبنات سيّد الموحّدين ويعسوب الدّين عليه السلام، من زينب وأُمّ كلثوم وسكينة وخطبهنَّ في كربلاء والكوفة والشام، وفي مجلس يزيد وابن زياد، وفي النوادي والمجتمعات، فهل مع هذا كلّه تقول: إنّ التعاليم حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم وأرجعتها إلى بيتها؟!
 
أمّا آية الحجاب، فهي واردة في خصوص نساء النبيّ عليه السلام ، وكان الأعراب الّذين أخبر الله جلّ شأنه عنهم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾3 يؤذون نساء النبيّ بالهجوم عليهنّ في منازلهنّ، فنهاهم الله عن ذلك، راجع سورة الأحزاب4. نعم، إنّ التعاليم الإسلاميّة حرّمت على النساء مطلقاً التبرّج وإظهار الزينة للرجال: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾5، وأين هذا من حرمة المخالطة؟!
 
 
 

1 - هي: الخنساء بنت عمرو بن الشريد، اتّفق أهل العلم بالشعر أنّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ووفدت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم، وتوفّيت سنة 646 ميلادية. القاضي الطباطبائيّ.
2 - انظر ترجمة الخنساء في: الاستيعاب ج 4 ص 1827- 1829، رقم 3317، أُسد الغابة ج 6 ص 88- 90، رقم 6876، الإصابة ج 7 ص 613- 616، رقم 11106.
3- سورة الحجرات الآية 4. القاضي الطباطبائيّ. وانظر تفسير الآية الكريمة- مثلاً- في: تفسير الطبريّ ج 11 ص 381- 382، تفسير الفخر الرازيّ ج 28 ص 117، مجمع البيان ج 9 ص 195، الدرّ المنثور ج 7 ص 552- 554.
4 - انظر مثلاً: تفسير الفخر الرازيّ ج 25 ص 224- 226، مجمع البيان ج 8 ص 152، الدرّ المنثور ج 6 ص 639- 643.
5 - سورة الأحزاب الآية 33. قال الجصّاص- المتوفّى 370 ه-: (ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأُولى) يعني إذا خرجتنّ من بيوتكنّ، قال: كانت لهنّ مشية وتكسّر وتغنّج فنهاهنّ الله عن ذلك، وقيل: هو إظهار المحاسن للرجل، وقيل: الجاهلية الأُولى ما قبل الإسلام، والجاهليّة الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أُولئك، فهذه الأُمور كلّها ممّا أدّب الله تعالى به نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صيانة لهنّ، وسائر نساء المؤمنين مرادات بها. انتهى. انظر: أحكام القرآن ج 3 ص 443 ط مصر . القاضي الطباطبائيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

239

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 ولو سلّمنا تنازلاً بحرمة المخالطة، فأيّ منافاة بهذا لِما أبديناه وأريناه من أنّ حمله لنسائه وأولاده استماتة في سبيل الكرامة والشرف؟! فإنّ حمله لهنّ لا يستلزم المخالطة بوجه، وإلاّ لَما جاز لامرأة أن تسافر من محلّ إلى آخر أبداً!

وأغرب من ذلك، بل وأعجب جدّاً قولك - أيّدك الله وسدّدك: "وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصيّ، وهو أنّ الخمسة الأثواب يزيد ثمن الواحد منها على مئة ليرة عثمانيّة لا يتوافق اقتناؤها مع دواعي الزهد التي كانت متجسّمة في أبيه وجدّه سيّد الرسل..." إلى آخر ما أفضت به وأفدت في هذه الناحية. وكأنّك - عافاك الله - تحسب أنّ الزهد هو الفقر والفَلاكة1 وعدم الوجدان، وأنّ الغناء والثروة تنافي الزهد؟! لا يا عزيزي، أعزّك الله! حقيقة الزهد هو عدم الحرص على المال، وعدم المبالاة في الدنيا، وأن يكون وجود المال وعدمه عنده سواء، وقد جمع الله الزهد في كلمتين: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾2، وحقيقة الزهد لا تظهر ولا تتجلّى إلّا مع توفّر النعم وغزارة المال وبذله، وعدم الحرص، والتعفّف عن رذيلة الشحّ والبخل ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3. 
 
أمّا الفقير المعدم، الذي لا يجد ولا يملك شيئاً، فأيّ زهد له؟! وأيّ فضيلة له بذلك الزهد القهريّ؟! وقد سئل الحسن البصريّ: "أنت أزهد أم عمر بن عبد العزيز- وهو خليفة المسلمين -؟ فقال: عمر بن عبد العزيز أزهد منّي، لأنّه وجد فعفّ، وتمكّن فكفّ، ولعلّ الحسن لو وجد وتمكّن لاستخفّ، وأكل فأسرف4.
 
 
 

1- الفَلاَكَةُ: الفقر، والمَفْلُوكُ: الفقير، وجمعه: مَفَاليك، وهي كلمة فارسيّة الأصل. هذا، وقد ألّف الدلجيّ، أحمد بن عليّ بن عبد الله الشافعيّ، المتوفّى سنة 838 ه، كتاباً حول الفقر والفقراء بحث فيه عن أسبابه وعلله وذويه وحالتهم، وأورد فيه أشهر من عضّهم الفقر بنابه وأناخ عليهم الدهر، سمّاه "الفَلاَكَةُ والمَفْلُوكون". انظر: هديّة العارفين ج 1 ص 124، إيضاح المكنون ج 2 ص 320، معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة ج 1 ص 877، المعجم المجمعي ج 6 ص 112، مادّة "فلك".
2 - سورة الحديد الآية: 23. القاضي الطباطبائيّ.
3 - سورة الحشر الآية: 9، سورة التغابن الآية: 16. القاضي الطباطبائيّ.
4 - انظر: ربيع الأبرار ج 1 ص 811 نحوه.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

240

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وأمّا رسول الله وأمير المؤمنين - صلوات الله عليهما وآلهما - حيث كانا يأكلان الشعير ويلبسان الصوف، فليس لأنّهما كانا لا يتمكّنان من المآكل الطيّبة والملابس الليّنة، ولكنّهما كانا يحتقران الدنيا ونعيمها الفاني، ويقولان عن أهل الدنيا: "أُولئك قومٌ عجّلت لهم طيّباتهم، ونحن أُخّرت طيّباتنا"1. ولأمير المؤمنين عليه السلام، في نهج البلاغة كلام مع العلاء بن عاصم، الذي ترك الدنيا ولبس الصوف، فقال له: "يا عُدَيَّ2 نفسه! لقد استهام بك الخبيث" يعني: الشيطان. فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟! قال: "ويحك! إنّي لستُ كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبيّغبالفقير فقره"4.

 
وللباقر والصادق عليهما السلام مع سفيان الثوريّ وأصحابه من متقشّفة ذلك العصر ومتصوّفة تلك الأيّام، حيث كانوا يعترضون على الأئمّة عليهم السلام إذا وجدوا عليهم بعض الملابس الفاخرة قائلين: "إنّ جدّكم رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما ما كانا يلبسان هذه الملابس؟! فيقول لهم الإمام: "ذاك حيث إنّ الزمان قلّ، أمّا إذا درّت الدنيا أخلافها فأَوْلى الناس بها أولياء الله"، أو ما هو بهذا المضمون5. وللرضا عليه السلام كلامٌ عال شريفٌ في هذا الموضوع6. ولقد كان لأمير المؤمنين عليه السلام في المدينة من الضياع والبساتين والمزارع، كعين أبي نيزر
 
 
 

1 - المستدرك على الصحيحين ص 117، ح 7072، زاد المسير ج 7 ص 177، مجمع البيان ج 9 ص 131، الترغيب والترهيب ج 4 ص 62، ح 120.
2 - عُدَيّ تصغير عدوّ. القاضي الطباطبائيّ. أقول: وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 11 ص 33، رقم 202، إضافة إلى هذا المعنى، أنّه يمكن أن يراد به التحقير المحض، ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لنفسه.
3 - تبيّغ: هاج، تبيّغ به الدم، أي هاج به، وتبيّغ بالفقير فقره، أي: هاج عليه وحمله على المنكر من الأعمال. انظر: لسان العرب ج 1 ص 558، مادّة "بيغ".
4 - نهج البلاغة ج 1 ص 423 ط مصر، (ص 324-325 رقم 209)، شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 111 ط مصر( ج 11 ص 32- 33، رقم 202). القاضي الطباطبائيّ.
5 - انظر: كشف الغمّة ج 2 ص 157، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج 3 ص 425، رقم 933، سير أعلام النبلاء ج 6 ص 261- 262، رقم 117، بحار الأنوار ج 47 ص 221 ح 7.
6 - نقل الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 279 رقم 81، حديثاً عن الإمام الرضا عليه السلام، عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سئل الصادق عليه السلام عن الزاهد في الدنيا، قال: الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه، ونحوه في معاني الأخبار ص 287.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
248

241

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 والبغيبغة وغيرها1، ما يدرّ كلّ سنة بأُلوف الدنانير، وقد أوقفها جميعاً في سبيل الله، وكان يضرب بالمسحاة بيده في عقار الله، لا حرصاً على الدنيا والأموال، ولكن حرصاً على الإنفاق في سبيل الله والإحسان على الضعفاء من عباد الله2.

 
 


1- انظر في ما يخصّ أملاك أمير المؤمنين عليه السلام التي تصدّق بها: تاريخ المدينة ج1 ص 219- 228، الكامل في اللغة والأدب ج 2 ص 153- 155، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لسليمان الكوفيّ ج 2 ص 81- 82، معجم ما استعجم ج 1 ص 262، الإصابة ج 7 ص 343، رقم 10660، معجم البلدان ج 4 ص 198 رقم 8699. وأبو نيزر- الذي تنسب إليه العين- هو مولىً للإمام عليّ عليه السلام، كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة- الذي هاجر إليه المسلمون- لصُلبه، وجده الإمام عليّ عليه السلام عند تاجر بمكّة فاشتراه منه وأعتقه مكافأةً بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه، وذكروا أنّ الحبشة مَرِجَ عليها أمرُها بعد موت النجاشي، وأنّهم أرسلوا وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع الإمام ليُمَلّكوه عليهم ويتوّجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى، وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن مَنَّ الله علَيَّ بالإسلام. انظر ترجمته في المصادر المذكورة آنفاً.
2 - قال السيّد رضي الدّين بن طاووس الحسنيّ قدّس سرّه في كتابه القيّم "كشف المحجّة" ما هذا لفظه: واعلم يا ولدي محمّد... أنّ جماعة ممّن أدركتهم كانوا يعتقدون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّك محمّداً وأباك عليّاً صلوات الله عليهما كانا فقيرين لأجل ما يبلغهم إيثارهم بالقوت واحتمال الطوى والجوع والزهد في الدنيا، فاعتقد السامعون لذلك الآن أنّ الزهد لا يكون إلاّ مع الفقر، وتعذّر مع الإمكان. وليس الأمر كما اعتقده أهل الضعف، المهملين للكشف، لأنّ الأنبياء عليهم السلام أغنى أهل الدنيا، بتمكين الله جلّ جلاله لهم ممّا يريدون منه جلّ جلاله من الإحسان إليهم، ومن طريق نبوّتهم كانوا أغنى أُممهم وأهل ملّتهم، ولولا اللطف برسالتهم ما كان لأهل وقتهم مال ولا حال، وإنّما كانوا عليهم السلام يؤثرون بالموجود ولا يسبقون الله جلّ جلاله بطلب مال يريد أن يطلبوه من المفقود.
وقد وهب جدّك محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّك فاطمة صلوات الله عليها فدكاً والعوالي من جملة مواهبه، وكان دخلها، في رواية الشيخ عبد الله بن حمّاد الأنصاريّ: أربعة وعشرون ألف دينار كلّ سنة، وفي رواية غيره: سبعون ألف دينار، وهي وزوجها المعظّم والواهب الأعظم من أعظم الزهّاد والأبرار، وكان يكفيهم منها أيسر اليسير، ولكنّ العارفين ما ينازعون الله جلّ جلاله في تملّك قليل ولا كثير، ولكنّهم كالوكلاء والأُمناء والعبيد الضعفاء، فيصرفون في الدنيا وفي ما يعطيهم منها كما يصرّفهم هو جلّ جلاله، وهم في الحقيقة زاهدون فيها وخارجون عنها. ووجدت في أصل، تاريخ كتابته سبع وثلاثين ومئتين.. عن مولانا عليّ أبيك أمير المؤمنين عليه السلام : تزوّجت فاطمة عليها السلام وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قُسّمت على بني هاشم لوسعتهم. وقال في الكتاب: إنّه عليه السلام وقف أمواله وكانت غلّته أربعين ألف دينار، وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟! ولو كان عندي عشاء ما بعته. وروى فيه أنّه قال مرّةً عليه السلام : من يشتري سيفي الفلاني؟ ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته، قال: وكان يفعل هذا وغلّته أربعون ألف دينار من صدقته...
ورأيت في كتاب إبراهيم بن محمّد الأشعريّ، الثقة، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قُبض عليٌّ عليه السلام وعليه دين ثمانمئة ألف درهم، فباع الحسن عليه السلام ضيعة له بخمسمئة ألف درهم فقضاها عنه، وباع ضيعة أُخرى له بثلاثمئة ألف درهم فقضاها عنه، وذلك أنّه لم يكن يذر من الخمس شيئاً وكان تنوبه نوائب. ورأيت في كتاب عبد الله بن بكير، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام ، أنّ الحسين عليه السلام قُتل وعليه دين، وأنّ عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام باع ضيعة له بثلاثمئة ألف ليقضي دين الحسين عليه السلام ...
وكان وقف جدّك أمير المؤمنين عليه السلام على أولاده خاصّة من فاطمة عليها السلام لها عامل من ذرّيّته، فكيف وقع الضعفاء أنّه كان فقيراً وأنّ الغنى لا يكون لمن جعله الله جلّ جلاله من خاصّته؟! وهل خلق الله جلّ جلاله الدنيا والآخرة إلّا لأهل عنايته؟! انتهى. (انظر: كشف المحجّة ص 123- 126). وغير خفيّ على القارئ الكريم أنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام استخرج عيوناً بكدّ يده بالمدينة وينبع وسويعة، وأحيى بها مواتاً كثيراً، ثمّ أخرجها عن مُلكه وتصدّق بها على المسلمين، ولم يمت وشيء منها في مُلكه، وجملة من وصاياه عليه السلام في صدقاته وموقوفاته مروية في الجامع الكبير "الكافي" للكليني رحمه الله ج 7 ص 47- 55، فراجع. ولم يورّث أمير المؤمين عليه السلام بنيه قليلاً من المال ولا كثيراً إلّا عبيده وإماءه وسبعمئة درهم من عطائه تركها ليشتري بها خادماً لأهله قيمتها ثمانية وعشرون ديناراً، على حسب المئة أربعة دنانير، هكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك. وكان أمير المؤمنين عليه السلام يعمل بيده يحرث الأرض ويستقي الماء ويغرس النخل، كلّ ذلك يباشر بنفسه الشريفة ولم يستبْقِ منه لوقته ولا لعقبه قليلاً ولا كثيراً، وإنّما كان صدقة، وقصّة عين أبي نيزر معروفة، نقلها أبو العبّاس المبرّد في "الكامل"، انظر: ج 3 ص 937 ط مصر (ج 2 ص 153- 155). وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وله ضياع كثيرة جليلة جدّاً بخيبر وفدك وبني النضير، والحوائط السبعة مشهورة وقد أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابنته الصدّيقة الطاهرة عليها السلام . وروي أنّ هذه الحوائط كانت وقفاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ منها ما ينفقه على أضيافه ومن يمرّ به، فلمّا قبض جاء العبّاس يخاصم فاطمة عليها السلام فيها، فشهد عليّ عليه السلام وغيره أنّها وقف. وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادي نخلة وضياع أُخرى كثيرة بالطائف. عن أبي بصير، قال: لمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أنّ طلحة والزبير يقولان: ليس لعليّ مال، فشقّ ذلك عليه، وأمر وكلاءه أن يجمعوا غلّته، حتّى إذا حال الحول أتوه وقد جمعوا من ثمن الغلّة مئة ألف درهم فنثرت بين يديه، فأرسل إلى طلحة والزبير، فأتياه، فقال لهما: هذا المال والله لي، ليس لأحد فيه شيء، وكان عندهما مصدّقاً، فخرجا من عنده وهما يقولان: إنّ له لمالاً. انظر: الجامع الكبير "الكافي" ج 6 ص 440، والبحار ج 41 ص 125- 126، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 433 ط مصر، (ج 15 ص 146 وما بعدها)، وسيرة ابن هشام ج 2 ص 40 ط مصر، (ج 4 ص 321- 327). القاضي الطباطبائيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

242

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 وكانت قِنية1 تلك الأثواب الثمينة تمسّ ورع الحسين عليه السلام وزهده لو كان يشحّ بها ويحرص عليها، أمَا وقد بذلها في فكّ الأسير المجاهد في سبيل الله فتلك فضيلة للحسين، عليه السلام، وكرامة تزيد في علوّ ورعه وزهده، ورغبته في تضميد عواطف الفقراء المجروحة، والترفيه عن كلّ بائس محتاج. ولعلّك - عافاك الله - حسبت أنّ الحسين، عليه السلام، يلبس تلك الثياب ويتظاهر فيها بالبذخ والخيلاء، أو نحو ذلك ممّا ينافي تلك القدسيّة السامية!

 
كلاّ يا عزيزي! فإنّ الحسين، سلام الله عليه، لو ملَكَ الدنيا كلّها لوهبها لحظة واحدة في سبيل الله، وفي سبيل البرّ والمعروف، وما كان يضع شيئاً من تلك الثياب على بشرة بدنه الشريف، وإنّما يقتنيها ليجود بها ويعطيها ويضعها في مواضعها اللائقة بها.
 
وقد ورد في بعض الأخبار أنّه سلام الله عليه لمّا استُشهد كان عليه من الدّين سبعة آلاف دينار ذهباً، أو سبعون ألفاً، وأنّ عليّ بن الحسين لمّا رجع إلى المدينة امتنع عن الطعام والمنام إلى أن قضاها عن أبيه2.
 
والخلاصة: أنّ الزهد هو قطع العلاقة عن الدنيا، وعن حبّ المال، لا عدم وجود المال، وليس الزهد هو لبس الثياب الممزّقة والأطمار المرقّعة والمآكل الخشنة!
 
 
 
 

1- قَنا يَقْنُو قَنْواً وقُنْواناً، والمصدر القِنيان والقُنيان، وتقول: اقتنى يقتني اقتناءً، وهو أن يتّخذه لنفسه لا للبيع، ويقال: هذه قِنيَةٌ واتّخذها قِنيةً للنسل لا للتجارة. انظر: لسان العرب ج 1 ص 329، مادّة "قنا".
2 - كشف المحجّة ص 125.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
250

243

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

 واسمح لي - يا نور عيني - أن أقول لك: إنّ أكثر الناس لا يعرفون من حقيقة الزهد شيئاً، والموكب العظيم الذي سار فيه الحسين عليه السلام من الحجاز إلى العراق، وسقى في قفر الأرض بِحَرّ الهجير ألف فارس وألف فرس1 أعظم من قضيّة الثياب الخمسة.

 
أمّا زيد بن أرقم وقوله: "إرفع عودك عن هاتين.." إلى آخره..
فلعلّ تقبيل رسول الله شفتَي الحسين، عليه السلام، من جهة أنّه تعالى أعلمه أنّهما موضع ضرب يزيد وابن زياد الّلذَيْن قرعا ثغر الحسين عليه السلام بالخيزرانة2.
 
وأمّا حديث: "نحن أسرار الله المودعة.." إلى آخره..
فحيث إنّه من الأسرار التي لا يليق إفشاؤها3، مضافاً إلى ضيق المجال وطول المقال، فالأجدر عدم الخوض فيه. ونسأله تعالى أن يعصم أفهامنا وأقلامنا من الهفوات.
 
وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلت وإليه أُنيب.
 
محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
 
 
 

1 - إشارة إلى قضيّة الحرّ رحمه الله ولقائه مع سيّد الشهداء عليه السلام، ومنعه الإمام عليه السلام من الدخول إلى الكوفة، مذكورة في كتب التاريخ والمقاتل، لا حاجة إلى ذكرها، ومن شاء أن يطّلع فعليه بالمراجعة إلى مظانّها. القاضي الطباطبائيّ.
2 - نقل العلّامة الزمخشريّ قضية زيد بن أرقم مع ابن زياد بهذه الصورة، قال في "الفائق" ما هذا لفظه: ابن زياد لعنه الله دخل عليه زيد بن أرقم وبين يديه رأس الحسين- عليه وعلى أبيه وجدّه وأُمّه وجدّته من الصلوات أذكاها، ومن التحيّات أنماها- وهو ينكته بقضيب معه، فغشي عليه، فلمّا أفاق قال له: ما لك يا شيخ؟! قال: رأيتك تضرب شفتين طالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّلهما، فقال ابن زياد لعنه الله: أخرجوه! فلمّا قام ليخرج قال: إنّ محمّديكم هذا لدحداح. انظر: الفائق ج 3 ص 329 ط مصر 1364 هـ (ج 1 ص 419) مادّة "دحح". القاضي الطباطبائيّ. وراجع أيضاً: ما تقدّم من المصادر في ص 344.
3 - أقول: لقد ورد عن الأئمّة عليهم السلام ما يؤكّد على كتمان أسرارهم وعدم إذاعة أمرهم في المجالس العامّة، وفي المحافل التي يغلب عليها الجهل ونصب العداوة لهم عليهم السلام، وذلك حذراً من عدم استطاعة العقول الضيّقة من تحمّل تلك الأسرار، ومن ثَمَّ تأويلها حسب الأهواء ممّا يدفع ببعضهم إلى الغلوّ لدرجة العبوديّة، وبعضهم الآخر إلى التكذيب بها فالبغض إلى درجة نصب العداء لهم وتكفير شيعتهم والموالين لهم. يقول أمير المؤمنين الإمام عليٌّ عليه السلام : "إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلّا عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلّا صدور أمينة وأحلام رزينة". انظر: نهج البلاغة ص 280، من كلامه في صعوبة الإيمان. 
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام : "إنّ حديثنا صعب مستصعب، لا يؤمن به إلّا ملَكٌ مقرّب، أو نبيٌّ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان، فما عرفت قلوبكم فخذوه، وما أنكرت فرُدّوه إلينا". انظر: بصائر الدرجات ص 41 ح 4. وإلى ذلك يشير الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام حين قال: "إنّه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله". انظر: أُصول الكافي ج 2 ص 251، باب الكتمان ح 5.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

244

الفهرس

 الفهرس

المقدمة

5

دراسة حول المقاتل والمصنّفات العاشورائيّة منذ بدايتها وإلى عصرنا الحاضر

9

المقطع الأوّل: من القرن الثاني إلى القرن السابع

13

آثار القرن الثاني

13

آثار القرن الثالث

16

آثار القرن الرابع

19

آثار القرن الخامس

22

آثار القرن السادس

23

آثار القرن السابع

25

كتب المراثي والعزاء

26

المقطع الثاني: من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر

73

البحث الأوّل: التعريف ببعض الكتابات المهمّة حول عاشوراء

74

البحث الثاني: التعريف ببعض المصنّفات المهمّة

 

من مصادر التحريف لتاريخ عاشوراء في القرون الأخيرة

81

الطفل الرضيع وعليّ الأصغر

107

الطفل الرضيع للإمام الحسين عليه السلام

123

اسم الطفل

124

 

 

 

 

 

 

 

252


245

الفهرس

 

عمر الطفل

126

مناقشة رأي المشهور ونقده

128

كيفيّة استشهاد الطفل الرضيع

128

هل عليّ الأصغر هو غير عبد الله الرضيع

134

نقد وتحقيق

135

النتيجة

138

مع الثقلين في كربلاء

139

القرآن والإمام الحسين عليه السلام  

141

حركة الإمام الحسين عليه السلام على أساس القرآن

144

تجلّيات القرآن في كربلاء

147

القرآن، الصلاة، والإمام الحسين عليه السلام  

149

عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة

153

ابن عبّاس مع أمير المؤمنين عليه السلام

155

ابن عبّاس وأكذوبة أموال البصرة

155

ابن عبّاس مع الإمام الحسن عليه السلام

159

موقف ابن عبّاس من الثورة الحسينيّة

159

معنى الاستخارة

171

لماذا تخلّف ابن عبّاس عن الإمام

177

رسائل ابن عبّاس إلى يزيد

184

نُبذَةٌ مِنَ السياسَةِ الحُسَيْنيّة

189

مقدّمة التحقيق

189

ترجمة المؤلّف

193

منهجيّة التحقيق

195

كتاب الشيخ عبد المهدي مطر

198

 

 

 

 

 

 

 

 

253


246

الفهرس

 

جواب الشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء

199

عرض الجواب على الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء

203

جواب الشيخ كاشف الغطاء

204

الفهرس

251

 

 

 

 

 

 

 

 

254


247
(2) نهضة عاشوراء