الحياة الآخرة – دروس في المعاد والآخرة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-03

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

 

13

المقدّمة

15

المحور الأول: عقيدتنا في الموت والمعاد

19

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

21

تمهيد

21

الاختلاف في النظرة إلى الدنيا

22

في البعد الاقتصادي

23

في البعد الأخلاقي

24

في الجهاد والقتال

25

في المسائل السياسيّة والاجتماعيّة

31

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

33

أهميّة معرفة النفس

34

أسباب إنكار المعاد

34

تجرّد الروح وارتباطها بالمعاد

35

الشواهد القرآنية على وجود الروح وتجرّدها

39

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

41

دليل العدل على إثبات المعاد

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

42

دليل الحكمة على إثبات المعاد

42

دليل الفطرة على إثبات المعاد

44

دليل الإمكان على إثبات المعاد

49

الدرس الرابع: حقيقة الموت

51

الموت فناء أو انتقال؟

52

علّة الخوف من الموت

53

كي لا نخاف من الموت

54

المعصومون وتذكّر الموت

59

الدرس الخامس: الموت وسكراته

61

الحكمة من الموت

62

سكرات الموت

63

المؤمن عند سكرات الموت

63

الحالة الأولى: الراحة والسرور

64

الحالة الثانية: الشدة والوجع

65

الكافر عند سكرات الموت

66

كيف نخفِّف من سكرات الموت؟

71

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

73

الرؤية الصحيحة لعلاقة الدنيا بالآخرة

74

العلاقة بين العمل ونتيجته في الآخرة

75

تجسّم الأعمال في الآخرة

76

الحبط والتكفير


 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

81

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

83

تمهيد

83

ماهيّة البرزخ ومعناه

84

البرزخ في الكتاب والسُّنة

84

1- الآيات الكريمة

86

2- في النصوص الشريفة

86

تصوير عالم البرزخ

91

الدرس الثامن: حسابُ القبر

93

القبر

93

أوّل منازل القبر

94

السّؤال في القبر

96

ارتباط الرّوح في هذا العالم

101

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

103

تمهيد

103

حقيقة صور إسرافيل

104

حتميّة وقوع نفخ الصُّور

105

أقسام النفخ في الصّور

105

1- نفخ الإماتة

106

2- نفخ الإحياء

107

وقوع النفختين بغتةً

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

111

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

113

كتاب الأعمال

113

تسجيل الملائكة أعمال العباد

114

تسجيل الآثار

115

تقسيم الناس بحسب كتاب الأعمال

116

المحشر

116

يحشر الناس مع إمامهم

116

كل إنسان تهمّه نفسه

117

السُّؤال والحساب

119

الصراط

120

شفاعة الشفعاء

125

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

127

تمهيد

127

معنى الجنّة

128

الوصف العام للجنّة

128

خصائص نعيم الجنّة

129

نعيم محض

130

أبواب الجنّة

130

درجات الجنّة وأنواعها

131

غرف الجنّة

131

نساء الجنّة

132

طعام أهل الجنّة وشرابهم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

133

متاع أهل الجنّة وملبسهم

133

أنهار الجنّة وعيونها

135

النعم الروحيّة

141

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

143

تمهيد

143

خصوصيّات جهنّم

144

أبواب جهنّم ودركاتها

145

أهل جهنّم

146

أنواع العذاب في جهنّم

146

 1- إنضاج الجلود

146

2- صبّ الحميم والصهر

147

3- اللّفح

147

4- السّحب

147

لباس أهل النّار

147

طعام أهل النّار وشرابهم

149

من ألوان العذاب الروحيِّ

149

1- المهانة

149

2- كثرة اللوم والتقريع

150

3- الحسرة

153

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

155

معنى الرّجعة

155

الآيات الدّالة على الرّجعة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9


5

الفهرس

 

157

الروايات الدالة على الرجعة

159

الرّجعة في الأدعية والزّيارات

160

زمان حدوث الرجعة

161

الحكمة من الرجعة

161

من هم الذين يرجعون؟

167

المحور الثاني: أحكام الميّت

171

الدرس الأول: غُسل الأموات

173

أحكام الاحتضار

173

توجيه المحتضَر

173

من يجب تغسيله؟

174

من يسقط الغسل عنه؟

174

القطعة المنفصلة عن الميّت

175

وجوب الغسل

176

ولي الميت

179

الدرس الثاني: تغسيل الميت

181

شرائط المغسّل

182

كيفيّة غسل الميّت

182

شرائط غسل الميّت

182

1- تعذّر الخليطين

182

2- تعذّر الماء

183

الجسد المتضرّر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10


6

الفهرس

 

183

تغسيل المُحرِم

184

المجنب إذا مات

184

المدفون بلا غسل

184

عدم جواز أخذ الأجرة على التغسيل

184

تنجّس بدن الميّت

187

الدرس الثالث: تكفين الميّت

189

واجبات التكفين

189

شرائط التكفين

190

تنجّس الكفن

190

أحكام الحنوط

195

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

197

وجوب الصلاة على الميّت

197

شرائط المصلّي

198

شرائط صلاة الميّت

199

كيفيّة صلاة الميّت

201

إدراك الإمام أثناء الصلاة

201

1- الشكّ في عدد التكبيرات

201

2- تعذّر الاستقبال واشتباهه

201

3- سقوط الصلاة

201

4- تعدّد الجنازات

205

الدرس الخامس: الدفن

207

وجوب الدفن


 

 

 

 

 

 

 

 

11


7

الفهرس

 

208

نقل الميت إلى بلد آخر

208

الدفن في الأرض المغصوبة

208

نبش قبر المسلم

210

محو آثار القبور

210

إعادة الدفن

210

الدفن في مقابر الكفّار ونحوها

213

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مس الميّت

215

وجوب غسل المس

216

أحكام غسل مسّ الميّت

216

1- مسّ القطعة المنفصلة من الحيّ والميّت

216

2- أحكام الشكّ في وجوب الاغتسال

216

3- من لا يجب الغسل بمسّه

217

4- موت قطعة متّصلة بالحيّ

217

5- نقض المسّ للوضوء 

217

6- غايات غسل المسّ

217

7- أشياء مباحة للماسّ

217

أحكام الشهيد

219

تحديد الشهيد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

12


8

المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
المقدمة
يعتبر الاعتقاد بالمعاد والحياة الآخرة من أهمّ الأصول العقائدية في جميع الأديان السماوية. وقد أكدّ الأنبياء عليهم السلام كثيراً على هذا الأصل وتحمّلوا الكثير من المتاعب والتحدّيات في سبيل ترسيخ هذه العقيدة وتثبيتها في النفوس.
 
كما أنّ للاعتقاد بالمعاد أهمية بالغة على نفس الإنسان، كون الاعتقاد به يوفّر للإنسان الجواب حول سؤال مهمّ في حياته، وهو: ماذا بعد موته؟ هل أنّ الدنيا تنتهي عند الموت؟ هل الموت هو نهاية الحياة البشرية؟ أم أنَّ هناك عالماً آخر يسافر إليه الإنسان بالموت؟
 
في الإسلام، اعتبر القرآن الكريم الاعتقاد بالمعاد عدلاً وقريناً للاعتقاد بالتوحيد ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾1، كما وإنّ القرآن الكريم تحدّث عن شؤون الآخرة وأخبارها في أكثر من ألفي آية في سوره المختلفة.
 
أما الروايات الشريفة فهي أكثر من أن تحصى، وهي تارة تتحدّث عن أصل موضوعات المعاد، أو تقوم بتفسير الآيات الشريفة التي تتحدّث عن الآخرة وما يجري فيها على الإنسان.
 
وانطلاقاً من هذا الموضوع وحساسيته، كان لا بد من تناول موضوع المعاد والحياة الآخرة بالبحث والتحليل من وجهة نظر القرآن الكريم والروايات الشريفة، لما لهذا الاعتقاد من تأثير مباشر على سلوك الإنسان في هذه الحياة، ومصيره النهائي بعد 



1 سورة المائدة، الآية 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13
 

9

المقدمة

 الانتقال إلى العالم الآخر.


لذا كان هذا الكتاب "الحياة الآخرة" محاولة نسعى من خلالها إلى تلبية الحاجة الماسة إلى معرفة نظرة الإسلام إلى المعاد والحياة الآخرة.

وقد سعينا في هذا الكتاب إلى تحقيق عدة أهداف، هي:
- بيان دور الاعتقاد بالمعاد وأهميته وتأثيره على الإنسان من وجهة نظر الإسلام. 
- التعرّف إلى أهمّ الأدلة التي تثبت ضرورة المعاد والحياة الخالدة في الآخرة. 
- بيان حقيقة الموت وأنّه انتقال من دار إلى دار لا أنه فناء وزوال. 
- بيان ما يجري على أهل الجنّة والنار من نِعَمٍ وأهوال. 
- التعرّف إلى مراتب ودرجات الآخرة المختلفة وخصوصيات كل واحدة منها. 
- التعرّف إلى أهم الأحكام الشرعية المتعلّقة بالموت والميّت والتي هي مورد ابتلاء. 


مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

المحور الأول عقيدتنا في الموت والمعاد

 الكفايات: 

1- التعرف إلى حقيقة المعاد والآثار المترتبة على الإعتقاد به.
2- الاستدلال على ضرورة الحياة الآخرة وعلى قضية تجرّد الروح.
3- بيان معنى الموت وحقيقته وعلّة الخوف منه.
4- معرفة حقيقة البرزخ, والحكمة من وجوده.
5- التعرف إلى مراحل يوم القيامة من النفخ في الصور إلى الجنّة والنّار.
6- بيان أن الناس ينقسمون في الآخرة بحسب كتب أعمالهم.
7- بيان معنى الرجعة وحقيقتها والأدّلة على إثباتها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 الدرس الأوّل:

دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية الدّرس أن:
1- يبيّن أهم الآثار المترتّبة على اعتقاد الإنسان بالحياة الآخرة. 
2- يذكر أوجه تأثير هذا الاعتقاد في الأبعاد المختلفة لحياة الإنسان. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

12

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 تمهيد

يفصّل بعض النظريات الاجتماعيّة بين الدين والاعتقادات الدينيّة، وبين حياة الإنسان، إذ ترى الاعتقادات أموراً منفصلة عن حياة الإنسان الاجتماعيّة، وتعتبرها أموراً شخصيّة ترتبط بالعلاقة الفرديّة بين الإنسان وربّه. بينما تخالف النظريّة الإسلاميّة ذلك فترى في المعاد أمراً مهمّاً يلعب دوراً أساسيّاً في حياة الإنسان يوجب اختلافاً في نمط الحياة بين الإنسان الذي يمتلك اعتقاداً بالمعاد ومن لا يمتلك مثل هذا الاعتقاد. ونشير إلى بعض أوجه هذا الاختلاف:


الاختلاف في النظرة إلى الدنيا 
الإيمان بالمعاد يجعل نظرة الإنسان إلى الدنيا نظرةً مختلفة، لأنّه سوف يراها مرحلةً تمهيديّة غير باقية، وسوف يرى نفسه في حال سفرٍ وتأمين الزاد للحياة الأبديّة بعد الموت. أما الإنسان الذي ينكر المعاد، فإنّه سوف يرى حياته منحصرةً بهذه الدنيا، ويرى أنّ الدنيا هي كلّ ما لديه، فتنحصر الحياة عنده في هذه المدّة المحدودة مع ما فيها من مصائبٍ ومصاعبٍ وابتلاءات، والتي تلقي بظلالها عليه، فيعيش اليأس والاضطراب، وعدم الشعور بالمسؤوليّة والخمول.
 
ولن يكون سعيه نحو اللّذائذ الفانية إلاّ بسبب المصاعب التي تواجهه في الحياة الدنيا، فيُقدم على القمار والشراب والشهوات كنوعٍ من الاحتيال على النفس لكي تمرّ هذه الدنيا التي لا هدف منها بأي نحوٍ كان. ويتحدّث القرآن عن ذلك بقوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾1.



1 سورة القيامة، الآية 5 - 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

13

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 وأمّا في حالة إيمان الإنسان بالمعاد، فإنه سوف يرى الدنيا ممرّاً للآخرة ومزرعةً لها، ولا بدَّ له أن يزرع فيها بذراً يستفيد منه في الحياة الأخرى، ويرى كلَّ شيء في هذه الدنيا وسيلةً للوصول إلى الرقيّ والكمال في تلك الحياة, وستمتلئ حياته كلّها بالأمل والنشاط.


 
في البعد الاقتصادي
إنّ الاعتقاد بالمعاد له آثارٌ واسعةٌ في حياة الإنسان الاقتصاديّة، ومن أهمها تأطير عمله المنتج في إطار الأحكام الشرعيّة. ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد بمختلف مكوّناته، ولا سيما ما يرتبط بالحرص الشديد والدقة في استثمار كل الموارد والإمكانيات التي تساهم في نمو الاقتصاد.
 
وكذا ما يرتبط بجنبة الحذر التي يعيشها الإنسان تجاه كل ما يحصل عليه فالمؤمن بالمعاد يعرف أنّه سوف يُسأل عن كل ما يَدخلُ في يده: كيف جاءه؟ وكيف صرفه؟
 
فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه"1.
 
كما أنّه سيحجم عن التصرّف في مال الآخرين، لما في ذلك من التعرّض للعقوبة الإلهيّة، لا سيّما التصرُّف في أموال اليتامى، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾2، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً تُقذف في أفواههم النار وتخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً"3.
 
والأثر الآخر للإيمان بالمعاد هو الحذر من التطفيف4 في الميزان، قال تعالى: 



1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج27، ص134، مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان - الطبعة الثانية المصحّحة، 1983م.
2 سورة النساء، الآية 10.
3 الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج17، ص247. مؤسسة آل البيت ع لإحياء التراث، الطبعة الثالثة، 1414 هـ. ق، مطبعة مهر، قم.
4 التطفيف، بخس المكيال والميزان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

14

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾1.

 
وقد استخدم القرآن هنا كلمة "ظنَّ"، وهذا يعني أنّه اكتفى بالظن في تحقُّق الأثر مع أنّ الإيمان بالقيامة والمعاد لا بدَّ أن يكون قطعيّاً، وفي ذلك إشارة إلى أنّ مجرد الظن بيوم القيامة يكفي لاجتناب التطفيف2
 
في البعد الأخلاقي
وللإيمان بالمعاد دوره أيضاً في تربية الأخلاق الفاضلة، كالمحبَّة ومساعدة المظلومين والمحرومين، لأنّ المؤمن بالمعاد سوف يرى في كلّ عملٍ يقوم به فائدةً ترجع إليه.
 
قال تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾3
 
وقد تحدَّثت الآيات والروايات العديدة عن آثار الاعتقاد بالمعاد، وهنا نكتفي بذكر آيةٍ من القرآن تتحدّث عن تأثير الإيمان بالمعاد في ذكر الله والصلاة والزكاة حيث قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾4
 
وقد صرّحت الآية بأنّ الخوف من يوم القيامة هو سبب الآثار الواردة في الفقرات السابقة.
 
بشكلٍ عام إنّ المجتمع الذي يؤمن بيوم الحساب، ويخاف العقاب، ويأمل بالثواب لن يقوم بأي عملٍ سيّئىءٍ وقبيح، بل سيكون رحيماً بالفقراء والمستضعفين.



1 سورة المطففين، الآيات 1 - 5.
2 الطباطبائي، محمد حسين: الميزان، في تفسير القرآن، قم المقدسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1996م، الطبعة الثالثة، ج2، ص380.
3 سورة البقرة، الآية 272.
4 سورة النور، الآية 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

15

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 وعلى العكس من ذلك، من يرَ أنّ الحياة الدنيا هي الهدف النهائي له سوف يرى في المال والثروات أساس الحياة والسعادة الكبرى. وكحال قوم موسى عليه السلام, عندما قالوا: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾1

 
وأمّا لسان حال من يؤمنُ بالمبدأ والمعاد فهو قوله تعالى: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾2
 
ويتحدَّث القرآن الكريم عن إنكار المعاد كسببٍ واضحٍ وقطعيٍّ لموت العواطف الإنسانيّة، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾3.
 
فإذاً السبب الأساس لتسديد سعي الإنسان في الاتجاه الصحيح هو الإيمانُ بالمعاد والخوفُ من العقاب الإلهي. وقد وصف القرآن من ينكر المعاد بالمعتدي الأثيم: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾4.
 
في الجهاد والقتال
يعتقد المؤمنون بالمعاد بأنّ القتل في سبيل الله لا يعني الفناء وأنّ كل ما يبذلونه من مالٍ ونفس لا يذهب هدراً. فهو إنْ قتل عدوّاً فقد أحيا نفس, لأنّه سيخرجها من الظلم والجور، وإن هو قُتِل وصل إلى الحياة الحقيقيّة, فهو منتصرٌ على أي حال. بل يعتقد المؤمنون أنّ في الجنة درجةً لا تُنال إلا بالشهادة، وأنّ الشهادة تشكّل انتقالاً من عالم المصائب، والآلام، والأمراض، وزوال النِّعم إلى عالم النعمة الكبرى، والحياة الخالدة.
 
فلا ينظرون إلى الانتقال من العالم الأول إلى العالم الثاني بمنظار القانع أو المغلوب على أمره، بل يندفعون إليه باشتياقٍ وعشق.



1 سورة القصص، الآية 79.
2 سورة القصص، الآية 80.
3 سورة الماعون، الآية 1-3.
4 سورة المطففين، الآية 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

16

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 إنّ أثر هذا التفكير في ساحة الجهاد والقتال ومحاربة الأعداء، هو في أن يرى المجاهد ساحةَ الجهاد كما رآها أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ساحةً للأعراس. إنّ تاريخ الإسلام مليءٌ بقصص الفداء لمجاهدي جبهة الحق الذين لا يخافون الموت، وبهذا تمكّنوا من إجبار عدوّهم على الانهزام. وكان النصر حليف الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1.

 
بينما كانت عقيدة فئة أخرى من جيش طالوت: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾2.
 
في المسائل السياسيّة والاجتماعيّة
لا بدّ للإنسان من حياة اجتماعيّة يتمكّن من خلالها من الوصول إلى ما يريده ويبتغيه. ولأجل إيجاد علاقاتٍ اجتماعيّة صحيحة لا بدّ من وجود قانون، وإلا فإنّ العلاقات الاجتماعيّة الصحيحة لن تتحقَّق وستسعى كل فئة من الناس لاكتساب ما تريد من مصالحٍ على حساب الفئات الأخرى. وما يهمّنا هنا أنّه مع عدم الإيمان بالمعاد3، فإنّ هذه القوانين سوف تفقد ضمانة الإجراء والتنفيذ. 
 
والمولى في القرآن الكريم يؤكّد على أهميّة إجراء العدالة الإلهيّة الفرديّة والاجتماعية عبر حفظ الوحدة، وعدم الظلم والتعدّي: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾4.



1 سورة البقرة، الآية 249.
2 م. ن.
3 الإيمان بالمعاد بما هو جزء مكوِّن وأساسي في عقيدة المسلم وإيمانه بالدين الإسلامي فروعاً وأصولاً.
4 سورة النحل، الآية 90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

17

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 فلا بدّ لأفراد المجتمع من التعامل بعدالة فيما بينهم والامتناع عن التعدّي على حقوق الآخرين، والتعاطي مع كل فرد بالنحو الذي يستحقّه، ووضعه في المكان المناسب له لأجل الوصول إلى مجتمع موحّد، مستقل ومنسجم، والعمل على تربية وإصلاح الأفراد. وهذا كله إنّما يتحقّق عبر الإيمان بالمبدأ والمعاد. 

 
إنّ هذه الدعوى يشهد على صحّتها ملاحظة المجتمعات البشريّة، فإنّ ما يسعى إليه المُنكِر للمعاد هو السلطة، ولأجل ذلك لا يتورَّع في سبيل الوصول إلى هدفه عن سفك الدماء وفرض إرادته على المستضعفين، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾1.
 
إنّ المؤمن بالقيامة والمعاد ليس هدفه الوصول إلى السلطة، ومتى وصل إليها اعتبرها طريقاً لتحصيل الآخرة لنفسه وللآخرين ولنا في أمير المؤمنين علي عليه السلام خير قدوة وأسوة.
 
قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: "ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"2
 
إنّ من النتائج المترتّبة على الإيمان الحقيقي: أداء الحقوق، إيجاد المجتمع العادل، ثبات الحكومة، نصرة المستضعفين، محاربة المستكبرين وإطاعة القوانين الإلهيّة بشكل عام. وكلَّما ازداد إيمان الإنسان ازداد عمله بشريعة الإسلام. والثمرة المترتّبة على ذلك هي المجتمع الصالح الذي يملك رقيّاً. وعلى العكس من ذلك فإنّ عدم الإيمان بالمبدأ والمعاد موجبٌ لأنواع الظلم والجناية.



1 سورة القصص، الآية 83.
2 الرضي، السيد محمد بن الحسين بن موسى، نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، مؤسسة دار الهجرة، قم إيران، الطبعة الرابعة، 1427 هـ، الخطبة 33.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

18

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 المفاهيم الرئيسة

1- يرى من ينكر المعاد أنّ الحياة تنحصر في هذه الدنيا، فيما يرى من يعتقد بالمبدأ والمعاد أنّ الحياة الحقيقيّة تتعلَّق بعالم الآخرة. 

2- الدور الأساس للإيمان بالآخرة يظهر واضحاً بالتأمُّل في الآيات والروايات. 

3- لو لم يكن لدى الإنسان اعتقادٌ بالمعاد والوعد والوعيد فسيكون سعيه فقط في سبيل الأهداف الماديّة والحيوانيّة، وسيسعى لتحقيقها حتى لو أدّى ذلك إلى ارتكابه الظلم وتعدِّيه على حقوق الآخرين، الأمر الذي سيؤدّي بالمجتمع إلى الانحطاط. 

4- الاعتقاد بالمعاد سيحمل الناس على عدم تجاوز حقوق الآخرين، والسّعي لإقامة المجتمع العادل. 

5- إنّ تحمُّل مصاعب الجهاد والقتال ومواجهة القوى الظالمة سوف يكون من أهم ثمار الإيمان بالمعاد واليوم الآخر. 

6- إنّ الوصول إلى السّلطة لن يكون هدفاً لمن يؤمن بالآخرة، ولو وصل لسخّر ذلك لإحقاق الحق والعدالة في إطار القوانين الإلهيّة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

19

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 للمطالعة

 
الدنيا صورة الآخرة
بنيّتي! إن الدنيا وما فيها هي جهنم التي يظهر باطنها في نهاية الطريق، وإنّ ما وراء الدنيا حتى آخر مراتبها جنة، وهي تظهر في نهاية المسير بعد الخروج من حجاب الطبيعة، فإنّنا جميعاً نتحرّك نحو جهنم أو الجنة والملأ الأعلى.
 
لقد ورد في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً يوماً بين أصحابه فجاء صوت مخيف فقيل له: من أين هذا الصوت؟ قال: إنّ حجراً وقع من حافة جهنم قبل سبعين عاماً فبلغ قعرها الآن. فقال أهل المعنى: إننا سمعنا أنّ رجلًا كافراً كان يبلغ السبعين من العمر قد توفي الآن وبلغ قعر جهنم. إننا جميعاً في الصراط وإنّ الصراط جسرٌ على متن جهنم يمرُّ عليه الخلائق ويظهر باطنه في عالم الآخرة، وإنّ لكل إنسان في هذا العالم صراطاً خاصاً به وهو يسير فيه فهو إما أن يسير في الصراط المؤدي إلى الجنة وأعلى منها أو في صراط الانحراف إلى اليسار أو اليمين اللذين ينتهيان إلى جهنم. وإننا نسأل الله الصراط المستقيم ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ الذي هو انحراف وكذلك ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ الذي هو انحراف آخر. وإنّ هذه الحقائق تظهر في الحشر للجميع. وقد وصف صراط جهنم بالدقة والحدة والظلام وهو باطن الصراط المستقيم في هذا العالم. ما أشد دقة هذا الطريق وظلامه وما أصعب اجتيازه لأمثالنا من المساكين. إنّ من سلكوا الطريق دون أدنى انحراف يقولون (جزناها وهي خامدة) فإنّ كيفية سير كل شخص في الصراط هنا تظهر هناك أيضاً.
 
دعي الغرور والآمال الشيطانية الكاذبة جانباً واعملي للتهذيب والتربية إذ إنّ الرحيل قريب وكلما مرّ يوم وأنت غافلة فإنّ الوقت سينقضي. ولا تسألي لماذا أنت بنفسك لست مستعدّاً؟ (انظر إلى ما قال لا إلى من قال) فكلّ واحد منّا يتحمّل بنفسه مسؤولية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

20

الدرس الأوّل: دور الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

 أعماله فإنّ جهنم كالجنة نتيجتان لأعمال الشخص فكل ما زرعناه حصدناه. إنّ فطرة الانسان وجبلّته على الاستقامة والخير، وإنّ حب الخير من جبلّة الإنسان، وإننا نعرف هذه الفطرة ونبسط الحجب وننسج الخيوط من حولنا.

 
من وصية الإمام الخميني قدس سره (إلى فاطمة زوجة السيد أحمد)1.



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 18، ص 355.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

21

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 الدرس الثاني:

المعاد وتجرّد الروح


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهمّية الاعتقاد بالمعاد وأثر ذلك على سلوك الإنسان وأفعاله الدنيوية. 
2- يشرح قضيّة تجرّد الروح من خلال الأدلّة العقلية والنقلية, والربط بينها وبين حقيقة المعاد. 
3- يستدل من القرآن الكريم على إثبات المعاد وتجرّد الروح. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

22

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 أهميّة معرفة النفس

إنَّ الباعث على النَّشاطات والأعمال الحياتيَّة هو إشباع الحاجات والرَّغبات, وتحقيق الأهداف والطُّموحات, وبالتّالي الوصول للسعادة والكمال النّهائي.
 
كما أنَّ تقويمَ الأفعال, وكيفيّةَ توجيهها مرتبط بتحديد الأهداف التي تسعى جميع الجهود والنشاطات الحياتية لبلوغه, ومن هنا كان لمعرفة الهدف النهائي للحياة دور أساس في توجيه النشاطات, واختيار الأعمال وتعيينها.
 
وفي الواقع إنَّ العامل الرَّئيس في تحديد طريقة الحياة ومسيرته, يكمُن في نوع نظرة الإنسان ورؤيته ومعرفته بحقيقته وكماله وسعادته. فمن يعتقد أنَّ حقيقته ليست إلا مجموعة من العناصر والتفاعلات الماديَّة, ويرَ حياته محدَّدة بهذه الأيام القليلة للحياة الدُّنيويّة, ولا يعرف لذَّة أو سعادةً أو كمالاً آخر وراء هذه المنافع والمكاسب المرتبطة بهذه الحياة, فإنَّه سوف ينظِّم أعماله وسلوكه بما يشبعُ حاجاته الدُّنيوية ومتطلِّبات هذا العالم.
 
أمَّا ذلك الذي يؤمن بأنّ حقيقته أوسع وأبعد من الظواهر المادية, ولا يرى في الموت نهاية الحياة, بل يراه منعطفاً ينتقل من خلاله من هذا العالم المؤقَّت العابر, إلى عالم خالدٍ باقٍ, ويؤمن بأنَّ أعماله الصالحة وسيلة للوصول لسعادته وكماله الأبديين, فإنّه سوف يخطِّط ويضبط نظام حياته بطريقة تكون معها أكثر عطاءً وأفضل تأثيراً على حياته المؤبَّدة, التي سيعيش فيها حياته الحقيقية جسداً وروح, ويتمتع باللذائذ المادية والمعنوية الموعودة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

23

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 أسباب إنكار المعاد

من خلال التأمّل في الآيات القرآنيَّة أيضاً نستنتج أنّ القسم الأكبر من أحاديث الأنبياء, ومناظراتهم مع الناس كان يدور حول موضوع المعاد, بل يمكن القول إنّ الجهود التي بذلوها لإثبات هذا الأصل كانت أكثر من جهودهم لإثبات التوحيد, وذلك لأنّ أغلب الناس كانوا يتّخذون موقفاً أكثر عناداً وتشدّداً من هذا الأصل.
 
ويمكن أن نلخّص السبب في عنادهم وتشدّدهم هذين, في أمرين: 
الأول: عامل مشترك يتجسّد في إنكار كل أمر غيبي وغير محسوس.
الثاني: عامل مختص بموضوع المعاد, وهو الرغبة بالتحلّل وعدم تحمّل المسؤولية. لأنّ الاعتقاد بالقيامة والحساب يعتبر دعامة قوية وصلبة لتحمّل المسؤولية, ودافعاً قوياً للكف عن الظلم والاعتداء والفساد والمعصية. وبإنكاره, سوف يفتح الطريق أمام التصرفات المتحلّلة, وعبادة الشهوات والأنانيات وغيرها من الانحرافات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العامل في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾1.
 
تجرّد الروح وارتباطها بالمعاد
مما ذكرناه يمكننا أن نتصوَّر للحياة بعد الموت صورةً صحيحةً ومقبولةً, فيما لو اعتبرنا الرّوح غير البدن وخواصّه وأعراضه. بل علينا عدم اعتبار الرّوح صورة مادية تحلّ في البدن وتنعدم إذا تلاشى هذا البدن. إذن علينا في البداية أن نعترف بوجود الرّوح, وثانياً لا بدَّ من أن نعتقد بأنّ الرّوح قابلةٌ للاستقلال والبقاء إذا تلاشى البدن.
 
والملاحظة الأخرى التي يلزم التّنبيه عليها هن, هي أنّ تركيب الإنسان من الرُّوح والبدن, ليس من قبيل تركيب مادَّة كيميائيّة من عنصرين, مثل تركيب الماء من الأوكسجين والهيدروجين, بل إنّ الرّوح هي العنصر الأصليّ والأساس في الإنسان, وما 



1 سورة القيامة، الآيات 3 ـ 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

24

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 دامت الروح باقية، فإنّ الإنسان باقٍ أيضاً. وعليه فإنّ تغيّر خلايا البدن وتبدّلها لا يضرّ بحقيقة الإنسان، وذلك لأن حقيقة الإنسان بروحه الخالدة لا ببدنه الفاني. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، عند جوابه عن المنكرين للمعاد، حين سألوا: كيف يمكن للإنسان أن يكتسب حياةً جديدةً بعد أن تتلاشى أجزاء بدنه؟ أجاب: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾1. إذن، فإنسانيَّة كلِّ إنسان متقوّمة بذلك الشيء الذي يقبضه ملك الموت ويستوفيه، لا أجزاء بدنه التي تتفرّق وتتبعثر في الأرض. إذن مسألة المعاد تبتنى بشكل أساس على مسألة الروح وتجرّدها وبقائها بعد انعدام البدن المادي.

 
الشواهد القرآنية على وجود الروح وتجرّدها
يذهب القرآن الكريم إلى وجود الرّوح الإنسانية. وهذه الحقيقة القرآنيَّة مما لا تقبل الشكّ والتردُّد. ومما يدل على أصل وجود الروح قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
 
والرّوح تنسب لله تعالى، لشدّة شرفها وسموِّها2 كما يقول القرآن الكريم في كيفية خلق الإنسان: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾3 وفي مجال الحديث عن خلق آدم عليه السلام يقول الله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾4.
 
وكذلك، يُستفاد من آيات أخرى، أن الرّوح غير البدن، وخواصّه وأعراضه، وأنَّها تمتلك قابلية البقاء بدون البدن، ومن هذه الآيات، ما ينقله القرآن على لسان الكفّار: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾5 أي إذا تفرّقت أجزاء 



1 سورة السجدة، الآية 11.
2 الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب: الكافي، ج 1، ص 134، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، طهران، دار الكتاب الإسلامية, مطبعة حيدري، 1365 هـ. ش، ط2.
3 سورة السجدة، الآية 9.
4 سورة الحجر، 29. وص، 72.
5 سورة السجدة، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

25

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 أبداننا في التراب، ويجيبهم القرآن الكريم بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾1.

 
إذن، فملاك هوية الإنسان وحقيقته هي روحه، التي يقبضها ملك الموت، والتي تظلُّ باقيةً، وليس أجزاء البدن التي تتلاشى وتتفرق في الأرض.
 
وفي موضعٍ آخر يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. وفي مجال موت الظَّالمين يقول: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾3.
 
ونفهم من هذه الآيات، وآيات أخرى أنَّ نفسَ كلِّ امرئٍ تتحدَّد بذلك الشيء الذي يقبضه ملكُ الموت أو الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، وأنّ انعدام البدن لا تأثيرَ له في بقاء الرّوح ووحدة الإنسان الشخصية. 
 
ونتيجة ذلك كلّه: 
أولاً: أنّه يوجد في الإنسان شيء يدعى بالرّوح.
وثانياً: الرّوح الإنسانية قابلة للبقاء والاستقلال عن البدن، وليست هي من قبيل الأعراض والصور المادية التي تنعدم حين يتلاشى المحل.
وثالثاً: إنّ هويّة كلِّ امرئٍ مرتبطة بروحه، وبعبارةٍ أخرى: إنّ حقيقة كلِّ إنسان هي روحه، أمّا البدن فإنّه يقوم بدور الآلة بالنِّسبة للرّوح. 



1 سورة السجدة، الآية 11.
2 سورة الزمر، الآية 42.
3 سورة الأنعام، الآية 93.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

26

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 المفاهيم الرئيسة

1- الإيمان بالمعاد شرطٌ من شروط المجتمع البشريّ السَّليم. وهو لو تمَّ فلا يحتاج بعدها الإنسان كثيراً إلى استخدام القوَّة في سبيل تنفيذ القوانين والأحكام العادلة ومكافحة الظّلم والاعتداء على الآخرين. 

2- الاعتقاد بالحياة الأُخروية، إنّما يكونُ له تأثيره في توجيه السّلوك والأفعال الفرديَّة والاجتماعيّة، فيما لو تمّ التّسليم بوجود نوع من علاقة بين ما يتحقّق في هذا العالم من المواقف والأفعال، والسعادة والشقاء في عالم الآخرة. 

3- أشار القرآن الكريم إلى آثار إنكار المعاد ومضاعفاته، وذكرَ النِّعم الأبدية في الآخرة، كما وتعرَّض القرآن إلى أنواع العذاب الأبدي والعلاقة بين الأعمال الحسنة والسيئة مع نتائجها وآثارها الأخرويّة. 

4- الرّوح هي العنصر الأصليّ والأساس في الإنسان، وما دامت باقية، فإنّ إنسانيّة الإنسان باقية، كما وإنّ تغير خلايا البدن وتبدلها لا يضر بروح الإنسان. 

5- يذهب القرآن الكريم إلى وجود الرُّوح الإنسانية. وهذه الحقيقةُ القرآنيَّة مما لا تقبل الشكَّ والتردُّد، فهي الرّوح التي تنسب لله تعالى، لشدّة شرفها وسموّها. 

6- إنّ ملاك هوية الإنسان وحقيقته هو روحه، التي يقبضها ملَك الموت، والتي تظلّ باقية، وليس أجزاء البدن التي تتلاشى وتتفرق في الأرض. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

27

الدرس الثاني: المعاد وتجرّد الروح

 للمطالعة

 
الشفاعة الحقيقية1
بنيّ! لا تضيّع الفرصة وأصلح نفسك في الشباب.. على الشيوخ أيضاً أن يعلموا أنّهم يستطيعون ما داموا في هذا العالم أن يتلافوا الذنوب والمعاصي ولكن الأمر سيخرج من أيديهم إذا انتقلوا من هنا. إنّ التعلق بشفاعة الأولياء - عليهم السلام - والتجرّؤ في المعاصي هما من الخدع الشيطانية الكبيرة. انظروا في حالات أولئك الذين علّقوا الآمال على شفاعتهم، انظروا إلى تأوّهاتهم وأدعيتهم ولو اعجهم وخذوا العبر. وقد جاء في الحديث ما مضمونه أنّ عليكم أن تتوجّهوا غداً إلى محضر الله بالعمل ولا تظنّوا أنّ تعلّقكم بي ينفعكم في شي‏ء.
 
وفضلاً عن ذلك فإنّ من المحتمل أن تكون الشفاعة من نصيب الذين يكون ارتباطهم المعنوي مع الشفيع حاصلاً، والذين تكون رابطتهم الإلهية معهم بحيث يكون لديهم الاستعداد لنيل الشفاعة، وإذا ما لم يحصل هذا الأمر في هذا العالم فربما يستحقون الشفاعة بعد التصفيات والتزكيات في عذابات البرزخ، بل جهنّم، والله يعلم مقدار أمدهم.
 
وفضلاً عن ذلك، فقد وردت في القرآن الكريم آيات حول الشفاعة إذا أخذناها بنظر الاعتبار فإنّ من غير الممكن أن يكون هناك اطمئنان للإنسان، كقوله تعالى ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وكقوله ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، وأمثالهما. 
 
ففي نفس الوقت الذي تكون فيه الشفاعة ثابتة إلا أننا لا نعلم لمن ستكون ولأي جماعة وفي أية ظروف وفي أي وقت، وهو أمر لا يمكنه أن يُغري الإنسان ويشجّعه. 
 
نعم إنّ لنا الأمل بالشفاعة ولكن هذا الأمل يجب أن يقودنا إلى طاعة الحق تعالى لا إلى معصيته!
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 16، ص 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

28

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 الدرس الثالث:

إثبات ضرورة المعاد

أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ على المعاد بدليل العدل والحكمة. 
2- يستدلّ على المعاد بدليل الفطرة. 
3- يستدلّ على المعاد بدليل الإمكان. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

29

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 دليل العدل على إثبات المعاد

لقد ثبت لدينا بالأدلّة العقلية أنّ الله عزّ وجلّ عادل. وبمقتضى العدل الإلهي لا بدَّ من وجود يومٍ يحاسبُ فيه الناس على ما يقومون به من أعمال ليجازى المسيء ويثاب المحسن. لأنه لا يمكن تحقيق مجازاةٍ وافيةٍ للمجرم وبالمقدار الذي يستحقّه في دار الدنيا، وكذلك الأمر بالنسبة لمكافأة المؤمن فلا تمكن إثابته بالقدر الوافي مقابل أعماله وذلك نظراً لمحدودية هذه الدنيا. فلو لم يكن هناك معادٌ فهذا يعني أنّ الأفراد المحسنين لن تصل إليهم النِّعم الإلهيّة التي يستحقّونها، وكذلك لن يرى المسيء آثار ظلمه وتجاوزه كما ينبغي: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾1.
 
وأيضاً: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾2.
 
فإنَّ تساوي المؤمن مع الكافر، المظلوم مع الظالم، الأعمى مع البصير يوم القيامة منافٍ للعدالة الإلهيّة. إنّنا في معظم الأحيان نرى الكافر في هذه الدنيا في حالة نعمةٍ ورخاء، والمؤمن في حالة شقاء، ومقتضى العدالة الإلهيّة أن يكون هناك يومٌ يقطف فيه الإنسان ثمار عمله.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾3.
وقال تعالى أيضاً: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾4.



1 سورة ص، الآية 28.
2 سورة غافر، الآية 58.
3 سورة غافر، الآية 59.
4 سورة الجاثية، الآية 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

30

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 دليل الحكمة على إثبات المعاد

إنّ مقتضى الحكمة الإلهيّة أن يوجد هدفٌ وغاية للخلق. إنّ عالم الخلقة عالمٌ عجيب التنظيم يسير نحو هدفٍ معيّن. والإنسان كمخلوق في هذا العالم - بل أشرف المخلوقات في هذا العالم - يسير أيضاً نحو هدفه وهو الكمال. إذ لا يمكن أن تكون هذه الدنيا المحدودة والمقرونة بالمصاعب هي الهدف من خلق الإنسان، فلا بدّ بمقتضى الحكمة التي تستوجب وجود هدفٍ لخلق الإنسان والعالم، من وجود عالم آخر يتحقّق فيه هذا الهدف وهو لقاء الله. ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾1.
 
فإن لم يكن هناك قيامة ولم يكن هناك معاد فهذا يعني أنّ الخلق كان عبثاً، والله تعالى حكيم لا يصدر عنه أي فعل دون غاية. وتبيّن الآية الكريمة هذه الحقيقة: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾2.
 
دليل الفطرة على إثبات المعاد
من المسائل الفطريّة التي جُبِل عليها الإنسان مسألة المعاد والقيامة. فلو تأمّل الإنسان في نفسه وفي وجدانه فإنّه سوف يرى فيها ميلاً نحو الحياة الأبديّة الدائمة فيتحرَّك لإرضاء هذا الميل الداخلي. وهذا الميل والتحرُّك نحو إرضائه لا يختصّ بزمانٍ معيّن بل هو دائم، ولذا لا يحبّ الإنسان الموت مهما كبُر في السن. وحيث كانت الحياة الدنيا حياةً فانيةً غير دائمة كان لا بدَّ من وجود عالمٍ آخر تكون الحياة فيه خالدةً أبديّة لا موت فيها، حتى يُشبع الإنسان فطرته هذه. وهذا العالم هو عالم الآخرة. 
 
ومن تجلّيات هذا الأمر الفطري يمكن أن نلاحظ ما اتّخذه الإنسان القديم من تدابيرَ مع الأموات. فمثلاً كان المصريُّون القدامى يعتقدون بأنّ السعادة تتحقّق في



1 سورة ص، الآية 27.
2 سورة المؤمنون، الآية 115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

 


31

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 الحياة بعد الموت، ولذلك قاموا بالعمل على حفظ أبدان موتاهم وتحنيطها وجعلها مومياء، أو وضعوا مجسَّماً صغيراً على توابيتهم، حتى أنّهم ملأوا قبورهم ببعض الاحتياجات والمستلزمات كالأثاث وأنواع المأكولات والمشروبات ووسائل التسلية والرياضة والحياة، وإن كان الميِّت من أكابرهم جعلوا معه بعض الأشياء الأخرى كآلات الزينة ذات القيمة العالية1.

 
وقد قرّر الامام الخميني قدس سره هذا الدليل على النحو التالي: إنّ المعاد أو يوم القيامة من الأمور الفطرية المجبولة عليها طينة البشر...
 
اعلم أنّ من الفطريات الإلهية التي فُطِرت عليها العائلة البشرية كافة هي فطرة حب الراحة. فلو أنك في كل أدوار التمدّن والتوحّش، والتديّن والعناد، رجعت إلى هذا الإنسان، الجاهل والعالم، والوضيع والشريف، والمدني والبدوي، وسألته: لِمَ كل هذا التعلّق المتنوِّع والأهواء الشتى؟ وما الغاية من تحمّل كل هذه المشقات والصعوبات والمعاناة في الحياة؟ فإنهم جميعاً وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين: إنّ كل ما يتوخونه إنما هو لراحتهم، والغاية النهائية والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من العناء. فلما كانت هذه الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه المعشوقة المفقودة لدى كل إنسان مقصورة في شيء، لذلك فهو عندما يحب شيئاً يتصور محبوبه فيه، مع أنّ مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه. إذ ليس من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم. إنّ جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني، وما من لذة إلاّ وفيها ألم. إنّ العذاب والتعب والألم والحزن والهم والغم تملأ أرجاء الأرض.
 
وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته ونصبه، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناءً على ذلك فإنّ معشوق



1 تاريخ الأديان الجامع، ترجمة علي أصغر حكمت، ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

32

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 الإنسان لا يوجد في هذا العالم الدنيوي. إنّ العشق الفطري الذي جبل عليه أبناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلاً.

 
إذاً، لا بُدَّ من أن يكون هناك في دار التحقّق وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاق، سرور دائم خالص لا يعتوره حزن ولا همّ. ذلك العالم هو "دار نعيم الله" عالم كرم ذات الله المقدّسة.
 
وهو عالم يمكن إثباته بفطرة الحرية ونفوذ الإرادة الموجودة في فطرة كل إنسان. ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الإنسان وإرادته، فلا بُدَّ إذاً، أن يكون هناك عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم فعّالاً لما يشاء والحاكم بما يريد، حسبما تقتضيه الفطرة.
 
إذاً، يعتبر العشق للراحة والعشق للحريّة الجانبين المودعين لدى الإنسان، بموجب فطرة الله التي لا تتبدل، فيحلق بهما في عالم الملكوت الأعلى متقرباً إلى الله"1.
 
دليل الإمكان على إثبات المعاد
من أهمِّ أدلَّة إمكان الشيء وقوعه في الخارج. إنّنا وبنظرة سريعة إلى الطبيعة نرى أنّ الأرض والشجر والنبات في فصل الشتاء تفقد حياتها الظاهريّة، وعند بداية الربيع تعود لتستعيد حياتها من جديد. وقد أكَّد القرآن الكريم على مسألة حياة الأرض لأجل نفي استبعاد وقوع المعاد، وذلك في مقابل منكري المعاد الذين لم يكن لديهم أيُّ دليلٍ على مدَّعاهم.
 
قال تعالى: 



1 الإمام الخميني قدس سره، روح الله الموسوي، الاربعون حديثاً، ص229-230.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

33

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.

 
وفي روايةٍ أنّ أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يحيي الله الموتى؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أما مررت بأرضٍ لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة؟ قال: بلى. قال: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾2".



1 سورة الروم، الآية 50.
2 القرطبي، تفسير القرطبي، ج1، ص195، تصحيح أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

34

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 المفاهيم الرئيسة

1- إنّ من لوازم العدل الإلهي، وبملاحظة عدم إمكان مجازاة المحسن والمسيء في هذه الدنيا، أن يكون هناك عالمٌ آخر تستوفي فيه كل نفس ما تستحقه. 

2- إنّ المولى الحكيم لم يخلقِ الإنسان عبثاً ودون غايةٍ وهو يصل إلى غايته عند المعاد والقيامة. 

3- يرى الإنسانُ في نفسه ميلاً نحو الحياة الأبديّة، ويسعى بشكلٍ دائمٍ نحو إرضاء رغباته الداخليّة، ورغبته هذه لا تتحقّق إلا في عالم الآخرة، فالإيمان إذاً بالمعاد من الأمور التي فطر عليها الإنسان. 

4- توجد أدلّةٌ أخرى على المعاد كإحياءِ الأرض بعد موتها حيث تدلّنا عملية الإحياء هذه على وجود حياةٍ بعد الموت. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

35

الدرس الثالث: إثبات ضرورة المعاد

 للمطالعة

 
أحقاب العذاب1
إنّ الله تبارك وتعالى ذو عناية بعباده، أعطاهم العقل، وأعطاهم القدرة على تهذيب أنفسهم، ولم يكتف بذلك، بل أرسل اليهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وأرسل الأولياء، وأرسل المهذبين. وإذا لم يحقّق كلُّ ذلك أثراً على العباد، فإنّ الله تعالى يعرض عبيده للقيد والخناق، ويعرّضهم للسجن، فيمنعونهم من بعض الأعمال، ويخلعون عمائمهم، ويهينونهم آلاف الإهانات. إن ذلك كله عناية من الله بكم، غير أننا لا ندرك مدى اللطف في ذلك. ومع كل ذلك إذا لم يصلح أمر الإنسان فإن الله تعالى يبتليه بالأمراض، وإذا لم يؤثّر ذلك أيضاً، فإنه تعالى يضيق عليه كثيراً عند النزع، وإذا لم تنفع تلك الأمور أيضاً، فإن هناك مهالك وعقبات في البرزخ، إن لم تنفع هي الأخرى يتعرّض في يوم القيامة إلى ضغوط عظيمة، كل ذلك من أجل ألا ينتهي به الأمر إلى جهنم، ولكن ماذا لو لم ينفع معه كل ذلك؟ حينها سينتهي به الأمر إلى "آخر الدواء الكي" - لا سمح الله -.
 
ورد في الحديث أنّ هذه الآية ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ تصف حال أولئك الذين هم من أهل الهداية، أي من أمثالي وأمثال سماحتكم، هؤلاء يلبثون في جهنم أحقاباً، كل حقبة من تلك الأحقاب عدة آلاف من السنين.
 
إخواني، إنّ أحدكم اليوم لا يمكنه الإمساك بحجر محمّى، فكيف هناك؟ إنها النار، فاحذروا النار، أخرجوا هذه النيران من الحوزات، أخرجوا هذه الاختلافات من قلوبكم، هذّبوا أنفسكم، فأنتم تهدفون إلى العودة إلى المجتمع لتهذيبه، وإن لم يحصل منكم التهذيب، فهل يتمكن من لا يستطيع السيطرة على نفسه أن يسيطر على الآخرين؟
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج2، ص28.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

36

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 الدرس الرابع:

حقيقة الموت


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن ماهية وحقيقة الموت. 
2- يذكر العلّة الحقيقية للخوف من الموت. 
3- يشرح كيفيّة معالجة آفّة الخوف من الموت. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

37

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 الموت فناء أو انتقال؟

يأتي الإنسان إلى هذه الدنيا دون اختيار منه، ويكون في بداية ولادته بلا إدراك ولا قدرة. ومع مرور الأيام ينمو ويتعرّف إلى العالم حوله. وبعد إدراكه للجزئيّات يتمكّن من إدراك الكليّات. وعبر الاستفادة من الطاقات التي وهبها الله تعالى له يتمكّن من الوصول إلى أعلى الرتب ويحوز أفضل العلوم. وفي بعض الأحيان يعرض عليه ما يوجب انتهاء حياته في بداية ولادته أو في مقتبل الشباب.
 
والسؤال هنا: هل ينتهي كل شيء بمجرّد الموت وانتهاء الحياة الدنيا؟ وهل تدفن الآلاف من علامات الاستفهام مع موت هذا الإنسان؟ أو أن الجواب الصحيح يحصل عبر التفكير العميق من خلال الاستعانة بالعقل وبالروايات الواردة عن المعصومين؟
 
والجواب: إنّ الموت ليس عدماً بل هو انتقال من دنيا محدودةٍ إلى عالمٍ واسعٍ غير محدود، بل عالمٍ أكمل من هذا العالم. قال الإمام علي عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم يا بُنيّ أنك إنّما خُلقت للآخرة لا للدنيا..."1. فالموت في واقعه مرحلة من السير التكاملي للإنسان نحو الآخرة ورجوع إلى الله عزّ وجلّ. كالجنين الذي يعيش مدّة من الزمن في ظلمات الرحم ثم يخرج إلى الحياة ليسير في تكامله.
 
وقد أجاب الإمام الجواد عليه السلام عن الموت لمّا سُئل عنه فقال: "هو النوم الذي يأتيكم كل ليلة إلا أنّه طويلٌ مدّتُه لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يُقَادِرُ قَدْرَهُ ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره؟ فكيف



1 السيد الرضي، نهج البلاغة، خ21.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

38

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 حالُ فرِحٍ في النوم ووجلٍ فيه؟ هذا هو الموت، فاستعدّوا له"1. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"2

 
علّة الخوف من الموت
إنّ السبب الأساسي لخوف الإنسان من الموت هو ضعف الإيمان واليقين القلبي بالله وبيوم القيامة، والنظر إلى الموت على أنّه فناءٌ وعدمٌ. كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "وحيث إننا لا نؤمن بعالم الآخرة ولا تطمئن قلوبنا نحو الحياة الأزلية والبقاء السرمدي لذلك العالم، نحبّ هذا العالم ونهرب من الموت"3. والسبب الآخر أيضاً في الخوف من الموت هو الانشغال بالحياة الدنيا والإخلاد إلى الأرض. "وأما خوف وكراهة المتوسطين للموت فلأن قلوبهم انشدت إلى تعمير الدنيا وغفلت عن تعمير الآخرة، ولهذا لا يرغبون في الإنتقال من مكان فيه العمران والازدهار إلى مكان فيه الدمار والخراب"4، كما يقول الإمام قدس سره أيضاً. وقد أشارت الروايات إلى بعض العلل الأخرى منها عدم تمهيد طريق الآخرة، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام: "أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: ما لي لا أحب الموت؟ فقال له: ألك مال؟ قال: نعم. قال: فقدّمته؟ قال: لا. قال: فمن ثم لا تحب الموت"5.
 
وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام بقوله: "آهٍ من قلة الزاد وطولِ الطريق وبعدِ السفر وعظيمِ المورد"6



1 الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، معاني الأخبار، الصدوق، ص 289، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
2 معاني الأخبار، ص 289، ح 3.
3 الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، ص 405.
4  مصدر نفسه.
5 بحار الأنوار، ج 6، ص 127.
6 نهج البلاغة، الحكمة 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

39

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 وقد جاء رجلٌ إلى الإمام الحسن عليه السلام فقال له: يا ابن رسول الله ما لنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال عليه السلام: "إنكم أخْربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم فأنتم تكرهون النَقْلةَ من العمران إلى الخراب"1.

 
نستفيد من هذه الرواية أن سبب كراهيّة الموت هو عدم السعي للآخرة، بل عدم الالتفات إلى الآخرة. إنّ التوجّه المحض إلى الدنيا هو الموجب لخراب الآخرة. وخراب الآخرة سببه الأعمال السيئة والذنوب والمعاصي، لذا يذكر القرآن علّة خوف اليهود من الآخرة: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾2.
 
ويفسّر العلماء ذلك بأن المراد به: ما قدّمت أيديهم من الذنوب وما نتج عنها من الكفر. فارتكاب الذنوب هو من العوامل المؤدية إلى الخوف من الموت.
 
كي لا نخاف من الموت
إنّ الخطوة الأولى التي ينبغي أن يقوم بها الإنسان ليتخلّص من خوفه من الموت هو أن يدرك حقيقة الموت كما تقدّم معناه.
 
إنّ الالتفات إلى حقيقة الموت يقلّل وإلى حدٍّ كبير من مسألة الخوف من الموت، ولذا روي عن الإمام الجواد عليه السلام بعد بيانه لحقيقة الموت: "هذا هو الموت فاستعدُّوا له"3.
 
وفي رواية أخرى: "قيل لمحمد بن علي عليه السلام: ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال: لأنهم جهلوه فكرهوه ولو عرفوه وكانوا أولياء الله عزّ وجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خيرٌ لهم من الدنيا، ثم قال عليه السلام:.... ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المنقّي لبدنهم والنافي للألم عنه؟ قيل: لجهلهم بنفع الدواء. قال: والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً إنّ من استعدّ للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا التعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعم لاستدعوه



1 بحار الأنوار، ج 6، ص 129.
2 سورة الجمعة، الآية 7.
3 بحار الأنوار، ج 6، ص 155.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

 


40

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"1.

 
إذاً الأركان الأساسية لإزالة حالة الخوف من الموت تكون في: الإيمان بالمبدأ والمعاد، والعمل الصالح، والتقرُّب إلى الله. وكلَّما زاد إيمان الإنسان قلّ خوفه من الموت، ولذا يبقى ضعيف الإيمان دائم الخوف من الموت لأن عقيدته ضعيفة باليوم الآخر، ولأنه يرى الموت عدماً وفناءً. وهو إن كان يحتمل وجود الآخرة إلا أنّ سجلّه خالٍ من أي عملٍ صالح.
 
المعصومون وتذكّر الموت
الحياة الدنيا مقدّمة للآخرة، وكلما استفاد الإنسان من هذه المقدّمة في طريق التكامل، كان طول مدّتها أفضل، لأنّها تزيد من كمال الإنسان وتفتح له المجال لنيل الدرجات الرفيعة في الآخرة. لذا نرى دعاء الأئمة عليهم السلام لأنفسهم بطول العمر، وقد ورد عن الإمام السجاد عليه السلام قوله في الدعاء: "وعمِّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك فإذا كان عمري مرتعاً للشياطين فاقبضني إليك"2.
 
وفي دعاء السيدة الزهراء عليها السلام: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي"3.
 
فالحياة في هذه الدنيا مطلوبة ولكن بعنوان كونها فرصة لنيل الكمال الأفضل. عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ عمرك مهْدُ سعادتك إن أنْفَذْتهُ في طاعة ربك"4.
  



1 معاني الأخبار، ص 290.
2 الإمام زين العابدين عليه السلام ، الصحيفة السجادية: من دعاء مكارم الأخلاق.
3  بحار الأنوار، ج 94، ص 225.
4 الري الشهري، الشيخ محمدي، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر وطبع دار الحديث، الطبعة الأولى، 1375، قم، طهران، ج 6، ص 225.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

41

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 فالموت راجحٌ على الحياة في بعض الأحيان، وذلك عندما يكون الموت طريقاً لاكتساب الكمال كالشهادة في سبيل الله، وقد قال الإمام الحسين عليه السلام عند سيره إلى العراق: "وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف"1.

 
وأصحاب الأئمة عليهم السلام أيضاً كانوا كذلك. إنّ برير بن خضير الهمداني أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لما وصل إلى اليقين بلقاء الله عزّ وجلّ والشهادة، ولشدّة فرحه، أخذ يمازح أصحابه مع أنّه لم يكن يوماً من أصحاب المزاح2.
 
فلا بدّ من السعي لتهيئة أنفسنا للموت. وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام جواباً لمن سأله عن التحضّر للموت كيف يكون، فقال عليه السلام: "أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه"3.



1 بحار الأنوار, ج 44، ص 466.
2 م. ن، ص 41.
3 بحار الأنوار، ج 41، ص 7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

42

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 المفاهيم الرئيسة

 

1- إنّ روح الإنسان خالدة، والموت انتقال ومرحلة من السير التكاملي نحو عالم الآخرة، ولا بدّ للإنسان من أن يمهّد لذلك. 

2- الكافر يرى الموت عدماً وفناء ولذا يخاف من الموت. 

3- إنّ أسباب الخوف من الموت متعدّدة كعدم المعرفة الصحيحة بالموت، وضعف الإيمان، وارتكاب الذنوب وعدم تمهيد الطريق بشكل سليم للآخرة. 

4- كلّما ازداد إيمان الشخص وعمله الصالح قلّ خوفه من الموت. 

5- إنّ الحياة الدنيا إذا كانت في سبيل طاعة الله وكسب الكمال فكلّما طالت كانت أفضل، ولكن في بعض الأحيان قد يكون كمال الإنسان بالموت وهذا هو مقام الشهادة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

43

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 للمطالعة


في بيان سبب ازدياد حب الدنيا
اعلم أنّه ولما كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإنّ حب الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قلبه ونما. وبما وهبه الله من القوى الشهوانية ووسائل التلذّذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية، يزداد حبه ويقوى تعلّقه، ويظن أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذات، وحتى لو كان يعرف من أدلة الحكماء أو أخبار الأنبياء (صلوات الله عليهم) أنّ هناك عالماً أخروياً فإنّ قلبه يبقى غافلاً عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبّله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلّقه بهذه الدنيا.

وبما أنّ حب البقاء فِطري في الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ويظنّ أنّ الموت فناء. ولو أنّه آمن بعقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأنّ العالم الآخر عالم بقاء سرمدي، فما دام إيمانه العقلي هذا يكون موجوداً، ولم يدخل الإيمان قلبه، بل ولم يحصل الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للإيمان القلبي. فهو لا يزال يميل فطرةً إلى الدنيا والبقاء فيها كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة، مثل قلوبنا، وإن كنا نصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإما أنها لا اطمئنان فيها، فيكون حب البقاء في هذا العالم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجوداً. ولو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنها دار الهلاك ودار النقص، وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا. 

ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

44

الدرس الرابع: حقيقة الموت

 الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلّق به، والصورة الباطنية لذلك العالم ـ عالم الآخرة ـ والتعلّق به، لأصبح هذا العالم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه ولنفر منه، واشتاق للتخلّص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغيّر، كما جاء في كثير من كلام الأولياء.

 
يقول الإمام علي عليه السلام: "وَاللهِ لابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَديِ أُمِّهِ"1.
 
ذلك لأنّه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيءٌ أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة، لحظة واحدة، في سجن الطبيعة المظلمة. إنّ الوقوع في الكثرة ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التأييدات الملكوتية، يعدّ كل ذلك للمحبين والمنجذبين ألماً وعذاباً ليس بقدورنا أن نتصوّرهما.
 
إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو لألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنّهم لا يحجبهم حجاب مُلكي أو ملكوتي، وقد اجتازوا جحيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلّق بالدنيا وتطهّرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. إلاّ أنّ الوقوع في عالم الطبيعة هو بذاته تلذّذ طبيعي وقسري، مما كان يحصل لهم، ولو بأقل مقدار، فكان ذلك من باب الحجاب. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما ليَغانُ عَلَى قَلْبِي وإنّي لأَسْتَغفِرُ الله فِي يَوْمٍ سَبْعينَ مَرَّةً"2.3



1 بحار الأنوار، ج28، ص 233. 
2 م. ن، ج67، ص 44.
3 الأربعون حديثاً، ص156-158.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

45

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 الدرس الخامس:

الموت وسكراته



أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر الحكمة من الموت وكيفية التخفيف من سكراته. 
2- يبيّن معنى وحقيقة سكرات الموت. 
3- يبيّن حال الناس عند سكرات الموت. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

46

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 الحكمة من الموت

الموت في الرؤية الإسلامية هو عبارة عن مرحلة يتمّ فيها الانتقال من دار سمّيت بدار الدنيا وهي مكان للاختبار والابتلاء، إلى دار أخرى هي دار المعاد حيث يتم فيها الكشف عن مجهود الإنسان وحصيلة عمله الذي سعى به في الدار السابقة.
 
والحكمة من الموت هي الانتقال به إلى الدار الحقيقية التي كان يبنيها حجراً حجراً، وشبراً شبراً، من خلال أفعاله وأعماله ومسلكياته في الحياة الدنيا. فالموت هو أداة الكشف عن الآخرة، والحياة الحقيقية، وهي التي وصفها الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾1. الحيوان مصدر "حي" وهي المبالغة في الحياة، وهي الحياة الدائمة التي لا يعقبها الموت2. وفي هذه الآية ما يفيد التأكيد على كون الحياة الأخرى هي الحياة المقصودة والمنشودة، لأنها دائمة لا زوال فيها ولا اضمحلال. والتأكيد في الآية بـ ﴿وَإِنَّ﴾، وباللام في ﴿لَهِيَ﴾، ثم بضمير الفصل (هي)، واستخدام الجملة الاسمية أيضاً، كلها تفيد التأكيد الشديد على كون الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً لِتَزوَّدوا منها الأعمال إلى دار القرار"3.
 
لذلك لا بد من الانتباه إلى عدم الوقوع في الخطأ، واعتبار أنّ الحياة كلفظ يقع في مقابل لفظ الموت. فالموت ليس سوى محطة نحو حياة أخرى، غير أنها محطة مهولة وصعبة تحتاج إلى تحضير وإعداد مسبق لعبورها بيسر وسلامة.



1 سورة العنكبوت، الآية 64.
2 المصطفوي التبريزي، الشيخ حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، طبع مؤسسة الطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1477 هـ. ق، طهران إيران، ج 2، ص 336.
3 نهج البلاغة، خ 132.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

47

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 سكرات الموت

إنّ حتمية الموت، سنّة إلهية وقانون ربّاني، لأنّه من جهة يرتبط بإظهار قدرة الله تعالى في إفناء مخلوقاته، ثم في إعادة بعثها من جديد، ومن جهة أخرى يرتبط بمبدأ الحكمة والعدل الإلهيين في إبداع عالم آخر تتم فيه المحاسبة والجزاء والثواب. لذلك كان الموت حتمياً. وانتقال الروح من عالم إلى عالم آخر أمر حتمي أيضاً، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1. ويقرِّر الإمام علي عليه السلام هذا المبدأ والقانون الإلهي النافذ، بكلمات واضحة وبسيطة حينما يقول "لكلّ حيٍّ موت"2.
 
إنّ بداية رحلة الآخرة تبدأ بتجاوز مرحلة الموت. لكن لا يتصوّرنّ أحد أن تجاوز هذه المرحلة أمر هيّنٌ، بل هو أمر صعب وشديد. وتشير الآيات القرآنية إلى صعوبة هذه المرحلة فتصفها "بالـسكرة"، وهي من السُّكر، والسُّكر هو كل ما يذهب بالعقل والرشد. فصوَّر القرآن الموتَ بأنّه يزيل العقل بسبب شدة الآلام والأوجاع التي ترافقه. فليست العملية سهلة حينئذ، خاصة حينما تكون الروح متعلّقة ومتجذّرة بالجسد، بسبب طغيان حب الحياة الدنيا والتوجّه الدائم نحو هذا البدن الترابي وشهواته، فيصبح اقتلاعها من الجسد من أكثر الأمور إيلاماً، لدرجة أنَّ العقل يكاد يُذهَب به إلا من رحم الله. قال تعالى في كتابه المنير: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾3 فعندما تحين منية الإنسان ويبدأ بمعاينة ملك الموت وأعوانه، الذين وكّلهم الله تعالى بقبض الأرواح، أرواح المؤمنين والكافرين، عندها سوف تبدأ الرحلة المهولة والصعبة. يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾4.



1 سورة الجمعة، الآية 8.
2 الآمدي، غرر الحكم، ص 161.
3 سورة ق، الآية 19.
4 سورة الأنعام، الآية 61.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

48

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 المؤمن عند سكرات الموت

إنّ كرامة الإنسان المؤمن المطيع لأمر الله تعالى والنائي بنفسه عن معاصيه، أعظم من أن تساوى بكرامة الفاسق والفاجر الذي سلكَ درب الشهوة، وارتكب الموبقات وألوان القبائح حتى سقط من عين الله ورحمته. لذلك وعلاوة على ما للمؤمن من الكرامة والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى إلا أنّه اختصه أيضاً بكرامة أخرى تظهر له حين موته وترافقه حتى آخر لحظة في المحشر. فالمؤمن في سكرات الموت وقبض الروح، حاله غير حال الكافر والفاسق والذي خلط في عمله بين الحلال والحرام. ولكي نتحرّى الدقة في الكلام، فإنّ الروايات عن آل بيت العصمة والطهر عليهم السلام، تفصّل حال المؤمن حين الموت إلى حالين: حالة أولى تعبّر عن القاعدة العامة في حالة موته وكيفيتها، والثانية هي استثناء لتلك القاعدة:
 
الحالة الأولى: الراحة والسرور
وهي حال المؤمنين الذين كانوا يستترون بلباس التقوى في الدنيا: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾1، وكانت أعمالهم ترضي ربهم، وقلّما وقعوا في ذنب فلازموه إلا وأقلعوا عنه ورجعوا إلى ربهم خاشعين منيبين. فهذه الثلة لا يرضى الله لها إلا كل ثناء جميل ولطف عميم. لذلك فحال هؤلاء (حال الموت) هي حال جميلة ولطيفة لا وجع فيها ولا ألم، اللهم إلا ما يشعرون به من مس الفراق وترك الإخوان والأهل والأحبة، لكنها هنيهات قليلة سرعان ما يتبعها راحة، وذلك كما يقول الله تعالى عن هؤلاء الثلة الفائزة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾2.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ أشدّ شيعتنا لنا حباً يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في يوم الصيف الماء البارد الذي ينتَقِعُ به القلوب"3.



1 سورة الأعراف، الآية 26.
2 سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30.
3 بحار الأنوار، ج 6، ص 161.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

49

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 وعن سدير الصيرفي قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يُكْرهُ المؤمن على قبض روحه؟ قال عليه السلام: لا والله إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جَزِعَ عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليَّ الله لا تجزع فوالَّذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم لأنا أبرّ بك وأشفق عليك من والدٍ رحيمٍ لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويُمَثَّلُ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرّيّتهم عليهم السلام، فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام رفقاؤك، قال: فيفتح عينه فينظر فينادي روحه منادٍ من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى محمّدٍ وأهل بيته ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً بالولاية مَرْضِيَّةً بالثواب فَادْخُلِي فِي عِبادِي يعني محمّداً وأهل بيته وادْخُلِي جَنَّتِي، فما شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه واللّحوقِ بالمنادي"1.

 
الحالة الثانية: الشدة والوجع
هناك حالة أخرى للمؤمنين الذين يواجهون أثناء نزع الروح مشقة ووجعاً وألماً، حيث يُقبض روح أحدهم ولكنه يتوجّع في نزعه أشد الوجع والألم، فيتساءل البعض عن المغزى وراء هذا النزع الشديد!
 
يفسّر الإمام الكاظم عليه السلام هذه الحالة التي تحصل للمؤمن والتي هي على خلاف القاعدة العامة التي تقتضي أن يتم نزع روحه بسهولة ويسر، حيث إنّه دخل يوماً على رجل من شيعته المؤمنين وقد غرق في سكرات الموت وشدّتها فقال: "الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم"2.
 
إذن، عندما يكون الموت مرفقاً بآلام وأوجاع بالنسبة للمؤمن، فما هو إلا كفارة لما بقي عليه من بعض ذنوب وسيئات وآثام ارتكبها ولم يتطهّر منها قبل حلول أجله.



1 الكافي، ج 3، ص 128.
2 معاني الأخبار، ص 289.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

50

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 الكافر عند سكرات الموت

 
الحالة الأولى: شدة النزع
إنّ حال الكافر عند الموت والنزع هو غير حال المؤمن، وقد أخبر الله تعالى عن حال الكافر بالقول ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1.
 
فالكافر حين الموت يواجه سكرات لا تقوى على حملها الجبال، لأنّ غضب الله ونقمته على الكافر تبدأ منذ النزع وحتى نار جهنم. وفي هذا الشأن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإن كان لأوليائنا معادياً، ولأعدائنا موالياً، ولأضدادنا بألقابنا ملقّباً، فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه مثّل الله عز وجل لذلك الفاجر سادته الذين اتخذهم أرباباً من دون الله، وعليهم من أنواع العذاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، ولا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به. فيقول له ملك الموت: يا أيها الفاجر الكافر تركت أولياء الله إلى أعدائه، فاليوم لا يغنون عنك شيئاً، ولا تجد إلى مناص سبيلاً فَيَرِدُ عليه من العذاب ما لو قسّم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم"2.
 
وفي خبر آخر للإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في وصف موت الكافر والفاجر: "للكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد، قيل فإنّ قوماً يقولون إنّه أشد من نشر بالمناشير! وقرض بالمقاريض! ورضخ بالأحجار! وتدوير قطب الأرحية على الأحداق قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين"3. هذا هو حال الكافر المكثر من المعاصي والمعادي لأولياء الله، وما ذكرناه من شدة النزع هو عبارة عن قاعدة عامة في نزع الروح، ولكن هناك استثناء.



1 سورة النحل، الآية 28.
2 بحار الأنوار، ج 6، ص 175.
3 م. ن، ص 152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

 


51

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 الحالة الثانية: النزع الميسّر

أحياناً نرى بعض الكفّار وحتى الفسّاق يكون نزع روحهم يسيراً، بل لا يكادون يحسّون بالنزع لسهولته ويسره. فما هو السبب في ذلك وقد علمنا منذ قليل أنّ الكافر يتألّم في موته ونزعه؟ يجيب الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك حين سأله سائل: "فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يحدث ويضحك ويتكلّم، وفي المؤمنين أيضاً من يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد ؟ فقال: ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه، وما كان من شديدة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نقياً، نظيفاً، مستحقاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه، وما كان من سهولة هناك على الكافر فليوفّى أجر حسناته في الدنيا ليرد الآخرة وليس له إلا ما يوجب عليه العذاب، وما كان من شدة على الكافر هناك فهو ابتداء عذاب الله له بعد نفاد حسناته ذلكم بأنّ الله عدل لا يجور"1.
 
كيف نخفِّف من سكرات الموت؟
إنّ سكرات الموت وآلامه لا يطيقها بدن الإنسان ولا يحملها جسده، اللهم إلا من آمن واتقى وجعل من حياته في الدنيا مزرعة للآخرة، فزرع عملاً صالحاً عسى أن يلقى ربه وهو راضٍ عنه. وهناك بعض الأعمال إذا داوم عليها إنسان، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيخفّف عنه تلك الآلام التي تحدث عند سكرات الموت، وفيما يلي بعضها: 
1- التقليل من الشهوات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل وهو يوصيه: "أَقلِلْ من الشهوات يسهل عليك الفقر، وأقلل من الذنوب يسهل عليك الموت"2
 
2- صلة الرحم: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أحب أن يخفّف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وَصولاً وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوّن الله 



1 الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، علل الشرائع، ص 151 ـ 152.
2 بحار الأنوار، ج 74، ص 189.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

52

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 عز وجل عليه سكرات الموت ولم يصبه في حياته فقر أبداً"1

 
3- قراءة القرآن: عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ سورة ﴿يس﴾ وهو في سكرات الموت أو قرئت عنده جاء رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فسقاها إياه وهو على فراشه، فيشرب فيموت ريّان ويُبعث ريّان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء"2
 
4- الدعاء: عن أبي جعفر عليه السلام: "إذا دخلت على مريض وهو في النزع الشديد فقل له: أُدعُ بهذا الدعاء يخفّف الله عنه: أعوذ بالله العظيم رب العرش الكريم من كل عرق نفّار ومن شر حر النار سبع مرات، ثم لقّنه كلمات الفرج، ثم حوّل وجهه إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فإنّه يخفّف عنه ويسهل أمره بإذن الله تعالى"3
 
5- الصدقة: عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقاً على الله أن يكسوه من ثياب الجنة، وأن يهوّن عليه من سكرات الموت، وأن يوسّع عليه في قبره، وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى، وهو قول الله عز وجل في كتابه: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾"4



1 م. س، ج71، ص 66.
2 النوري، الطبرسي، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى المحققة، 1987م. مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ج 1، ص 322.
3 وسائل الشيعة، ج 2، ص 465.
4 م. ن، ج 5، ص 114.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

53

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 المفاهيم الرئيسة

1- الموت في الإسلام هو انتقال من دار إلى دار، من دار الابتلاء والعمل إلى دار الجزاء. 

2- الموت أمر حتمي لا مفرّ منه على الإطلاق، والإنسان إنّما خلق ليموت وينتقل إلى دار الحياة الحقيقية. 

3- عند الموت قد يواجه الإنسان ما يسمى بسكرات الموت أو النزع. 

4- شدة النزع وسهولته مردّهما بشكل أساس إلى تعلّق القلب بالدنيا، فالقلب المحبّ للدنيا سوف يعاني ألم الفراق، وهو السبب الرئيس للألم. 

5- يمكن للإنسان أن يخفِّف من سكرات الموت والنزع من خلال إفراغ القلب من حب الدنيا، والتقليل من الشهوات، وعدم ارتكاب المحرّمات، والصدقة، بالإضافة إلى المواظبة على قراءة القرآن والإكثار من الدعاء. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

54

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 للمطالعة

حب الدنيا في مرآة الموت1
بُنيّ! إنَّ الهدف من هذه الإشارات ليس أن يجد أمثالي وأمثالك طريقاً إلى معرفة الله وعبادته كما هو حقّه، رغم أنَّه قد نُقل عن أعرف الموجودات بالحقّ تعالى وحقّ عبادته وعبوديته قوله: "ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك"، بل لكي نفهم عجزنا وندرك تفاهتنا ونحثو التراب على أنانيتنا وإنّيتنا.. بل لكي نحدّ من تمرّد هذا الغول، علّنا أن نوفق إلى أن نُمسك بزمامه ونكبح جموحه، حتَّى نتخلَّص من الخطر الكبير الذي يُحرق ذكره الأرواح.
 
واحذر من الخطر الذي يحلّ في اللحظات الأخيرة من الانفصال عن هذا العالم والرحيل إلى المستقر الأبدي، وهو أنَّ الإنسانَ المبتلى بحبِّ النَّفس وحبِّ الدُّنيا- بأبعادها المختلفة - على إثر ذلك من الممكن أن يكتشف ويدرك في حال الاحتضار، أنَّ مأمور الله سيفصله عن محبوبه ومعشوقه، ليرحلَ وقد عاداه الله - جل وعلا- وغضبَ عليه وتنفّر منه وهذه هي عاقبةُ حبِّ النَّفس والدّنيا. وقد وردت الإشارة إليها في الروايات. نقل شخص متعبّد وموثوق به أنّه وقف عند سريرِ شخصٍ كان يُحتضر فقال المحتضر: "إنّ الظلم الذي يمارسه الله عليّ لم يفعله أحدٌ آخر، إنّه يريد أن يفصلني عن أطفالي هؤلاء الذين ربّيتهم بدم قلبي. فقمت وغادرت. ثم مات".
 
طبعاً من الممكن أن تختلف روايتي بعض الاختلاف عما قاله ذلك العالم المتعبّد، وعلى أي حال فإنّ ما قلته على فرض صحته، مهمّ إلى درجة بحيث إن الإنسان يجب أن يفكّر في حلّ له.
 
إنّنا لو فكرنا لساعة في موجودات العالم، التي نحن منها واكتشفنا أنَّ كلَّ موجود ليس له من نفسه شي‏ء، أنّ كلّ ما وصل إليه، هو ألطاف إلهية ومواهب مستعارة، وأن 



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 16، ص 165.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

55

الدرس الخامس: الموت وسكراته

 الألطاف التي تفضّل بها علينا الله المنّان سواء قبل مجيئنا إلى الدنيا أو في حال الحياة من الطفولة وحتى نهاية العمر وسواء بعد الموت بواسطة الهداة الذين أُمروا بهدايتنا، فربما تظهر فينا بارقة من حبّه - جل وعلا - الذي حُجبنا عنه وندرك خواءنا وانعدام قيمتنا وينفتح أمامنا طريق إليه - جل‏ وعلا - أو نتحرّر على الأقل من الكفر الجحودي ولا نعتبر إنكار المعارف الإلهية والتجلّيات الرحمانيّة مرتبة لأنفسنا ولا نفتخر بذلك كي لا نُسجن إلى الأبد في بئرِ ويل الأنانية والعجب. 


الإمام الخميني قدس سره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

56

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 الدرس السادس:

علاقة الدنيا بالآخرة


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أنّه لا تأثير للأمور المادية من غنى أو فقر على مصير الانسان الأخروي. 
2- يشرح حقيقة تجسّم الأعمال الحسنة والسيئة يوم القيامة. 
3- يبيّن أنّ الكفر يحبط الأعمال الحسنة، وأنّ الحسنات تمحو السيئات. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

57

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 الرؤية الصحيحة لعلاقة الدنيا بالآخرة

ليس هناك رؤية واحدة في بيان العلاقة بين الدنيا والآخرة وكيفية الارتباط بينهما. حيث يرى البعض إنّ ما يصل إليه الإنسان في هذه الدنيا هو ما سيلاقيه في الآخرة، فإن وصل في هذه الدنيا إلى المال والثروة فهو ما سيجده في الآخرة. وحكى قول هؤلاء القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾1.
 
ويعتقد البعض عكس ذلك، أي أنّ كل ما يصل للإنسان في هذه الدنيا من الثروة والنعم سوف يحرم منه في الآخرة، وأنه إن كان في الدنيا فقيراً فسوف يكون في الآخرة غنيّاً. وبالجملة، إنّ كل سرورٍ في الدنيا يقابله شقاءٌ في الآخرة2.
 
تدلّنا الآيات والروايات على أنّ كلا نوعي الاعتقاد هذا هو خطأ، فكم من الناس يعانون الحرمان والاستضعاف في هذه الدنيا وفي الآخرة لهم عذابٌ أليمٌ لأتباعهم المستكبرين: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾3
 
ومن جهة أخرى، سيكون نصيب الكثير ممّن عاش متنعِّماً في هذه الدنيا النعيم في الآخرة والجنّة أيضاً. والمثال البارز لذلك هو النبي سليمان عليه السلام، حيث أعطاه الله عزّ وجلّ مُلكاً في هذه الدنيا لم يحصل لأحدٍ من بعده وفي نفس الوقت كان نبيّاً وخليفةً لله ومن الأفراد المقرّبين.
 
وقد روي أنّ شخصاً يهوديّاً تعرّض للحسن بن علي عليه السلام وهو في شظفٍ من حاله وكسوفٍ



1 سورة الكهف، الآية 36.
2 مصباح اليزدي، الشيخ محمد تقي، معارف القرآن، ص 501.
3 سورة سبأ، الآية 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

58

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 من ماله بينما الحسن عليه السلام راكبٌ بغلةً فارهةً وعليه ثيابٌ حسنة، فقال: جدّك يقول: "إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأنا في السجن وأنت في الجنة‍؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فقال عليه السلام: لو علمت ما لك وما يترتّب لك من العذاب لعلمت أنّك مع هذا الضرّ ههنا في الجنّة، ولو نظرت إلى ما أعدّ لي في الآخرة لعلمت أني معذّب في السجن هنا"1.

 
وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة في الكثير من آياته:
﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2.
 
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾3.
 
العلاقة بين العمل ونتيجته في الآخرة
هل الارتباط بين العمل الصالح في الدنيا، وبين السعادة في الآخرة، وبين العمل الطالح في الدنيا، وبين العذاب والشقاء في الآخرة حقيقي أم اعتباري؟ وبعبارة أخرى هل يوجد علاقة بين العمل ونتيجته الأخروية؟ أو أنّه لا يوجد علاقة ورابطة بينهما؟ 
 
إنّ المستفاد من الآيات والروايات هو أن الارتباط بين الدنيا والآخرة ارتباط حقيقي بمعنى أنّه ليس أمراً وهمياً بل هو أمر حقيقي وله تحقّق في الخارج. وأما ما يكون من أجرٍ زائدٍ ومضاعفٍ من قبل الله تعالى فهو محض التفضُّل والإحسان منه عز وجلّ. ورد في القرآن الكريم: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ﴾4.
 
وتخاطب الملائكة الظالمين بقولها:



1 الحرّاني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطبعة الثانية، 1404هـ. ق، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران، ص 54.
2 سورة البقرة، الآيتان: 81 - 82.
3 سورة النساء، الآية 124.
4 سورة البقرة، الآية 110.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

59

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 ﴿ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾1.

 
وفي حديث لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾2.
 
وفي الروايات أنّ المذنب يعذّب بنفس الحقوق التي يأكلها.
 
فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبد منع زكاة ماله إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نارٍ مطوَّقاً في عنقه"3.
 
تجسّم الأعمال في الآخرة
إنّ آثار عمل الإنسان تمحى سريعاً بحسب الظاهر ولكنّها بحسب الواقع باقية غير زائلة، قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾4.
 
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾5.
 
ففي عالم الآخرة تتجسّم العقائد والأفكار، والصفات الحسنة والصفات السيّئة وجميع أعمال الإنسان بصورة خاصة، وتلازم الإنسان وترافقه. وقد بيّن القرآن وكتب التفاسير ذلك6.
 
وكمثال على ذلك ما ورد من الروايات من أنّ من أدخل السرور على أخيه المؤمن أسرّه الله في قبره ويكون معه يوم القيامة ويبشّره ويؤمنه من الخوف إلى أن يدخل الجنة7.



1 سورة الزمر، الآية 24.
2 سورة لقمان، الآية 16.
3 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تصحيح وتعليق وتحقيق، الشيد هاشم الرسولي المحلاتي، طبع المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، إيران، ج 1، ص 207.
4 سورة الكهف، الآية 49.
5 سورة الجاثية، الآية: 33.
6 راجع، الآيات: البقرة، 275. الحجرات، 12. النساء، 10. الحديد، 12. التوبة، 35. بحار الأنوار، ج 7، ص 228، وسائل الشيعة: ج 4، أصول الكافي، ج 3، إدخال السرور على المؤمن.
7 الكافي، ج 3، ص 289.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

60

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 ومثالٌ آخر ما يرد في حديث المعراج وبيان مشاهدات النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

"ثم مضيت فإذا بقومٍ بين أيديهم موائد لحمٍ طيِّبٍ ولحمٍ خبيثٍ يأكلون الخبيثَ ويدعون الطيِّب، فقلت من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من أمّتك يا محمد، ثم مضيت فإذا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون"1.
 
الحبط والتكفير
الحبط أو الإحباط بمعنى بطلان العمل وعدم ترتّب أثرٍ عليه. قال تعالى: ﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾2.
 
فالكفر من الأمور الموجبة لإحباط الأعمال، لأنّ الذنب المترتّب على الكفر يفوق الثواب المترتّب على الأعمال الحسنة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾3.
 
وأما "التكفير عن الذنوب" فهو محوها بواسطة الأعمال الحسنة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾4.
ويقول تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾5.



1 القمي، علي بن ابراهيم، تفسير القمي، تحقيق وتعليق وتقديم السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1404 هـ. ق، ج 2، ص 7.
2 سورة الزمر، الآية 65.
3 سورة آل عمران، الآيتان، 21 - 22.
4 سورة هود، الآية 114.
5 سورة الأنفال، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

61

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 وقال تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾1.

 
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اتبع السيّئةَ الحسنة تمحُها"2.



1 سورة النساء، الآية 31.
2 تفسير الميزان، ج 2، ص 269.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

62

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 المفاهيم الرئيسة

1- إنّ ملاك السعادة والشقاء الأخرويّين هو الإيمان والتقوى. والغنى والفقر لا تأثير لهما في هذا المجال. 

2- الآيات والروايات ترى أجر الآخرة بتبع العمل الصالح والإيمان سواء كان الإنسان غنيّاً أو فقيراً. 

3- إنّ الارتباط بين أعمال الانسان في الدنيا والآخرة هو ارتباط تكويني لا اعتباري، أي أنّ عمل الإنسان في الدنيا له أثرٌ في سعادته أو شقائه في الآخرة، وسعادة الإنسان في الآخرة معلولةٌ لعمله الحسن في الدنيا. 

4- إنّ كل قولٍ أو عملٍ يقوم به الإنسان له صورته المتناسبة معه في عالم ما بعد الموت، وهو سوف يتجسّم بهذه الصورة ويكون رفيقاً لهذا الشخص. 

5- إنّ الشرك والكفر بل وسائر الصفات والأعمال المنهي عنها تُبطل عمل الإنسان الحسن. وفي مقابل ذلك فإن الخوف من الله والابتعاد عن كبائر الذنوب والقيام بالأعمال الحسنة موجبة للتكفير عن الأعمال السيئّة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

63

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 للمطالعة

 
خطر اللسان!1
بنيتي! إنّ آفات الطريق كثيرة وإنّ لكل عضو ظاهر فينا أو باطن آفات، وكل واحد منه حجاب وإن لم نتجاوزه فإننا لا نستطيع أن نخطو الخطوة الأولى في السلوك إلى الله. إنّني أعاني وإنّ جسمي وروحي ألعوبتان بيد الشيطان وأود الإشارة إلى بعض آفات هذا العضو الصغير أي اللسان الذي إن خنته خانك وعندما يتحوّل إلى لعبة للشيطان ويصبح ألعوبة بيده فإنّه يفسد نفسه وروحه وفؤاده. 
 
لا تغفلي عن عدو الإنسانية والمعنويات هذا، فعندما تجمعك مع صديقاتك مجالس الأنس اذكري الأخطاء الكبيرة لهذا العضو الصغير قدر الإمكان وانظري ماذا يصنع هذا العضو بساعة واحدة من عمرك التي يجب أن تنقضي لكسب رضا المحبوب، وما هي المصائب التي يسبِّبها للإنسان عند اغتياب الإخوة والأخوات! انظري ماذا تصنعين بسمعة بعض الأشخاص، وما هي أسرار المسلمين التي تفشينها وكيف تخدشين شخصيات الأفراد وتهدمينها. ثم اجعلي هذا الاجتماع الشيطاني مقياساً لتنظري ماذا صنعت في هذه السنة، وماذا سوف تصنعين في الخمسين أو الستين سنة القادمة وما هي المصائب التي ستخلقينها لنفسك ولكنّك في نفس الوقت تستصغرينها، وإنّ ذلك من مكائد إبليس التي أرجو أن يحفظنا الله منها.
 
بنيّتي! إنّ نظرة على ما ورد من كلام حول الغيبة وأذيّة المؤمنين والبحث عن عيوبهم وكشف أسرارهم واتهامهم تربك القلوب التي لم يختمها الشيطان وتحوّل طعم الحياة من الحلاوة إلى المرارة. وانطلاقاً من حبي لك ولأحمد أحذركما من الآفات الشيطانية وبخاصة آفات اللسان الكثيرة وحاولا صونه. إنّه يبدو صعباً في بداية الأمر ولكنه يهون بالعزيمة والتفكير في عواقبه.



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 18، ص 360.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

64

الدرس السادس: علاقة الدنيا بالآخرة

 اعتبري من التعبير القرآني المعبّر للغاية حيث قال: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾. وهذا قد يكون إخباراً عن الصورة البرزخية لهذا العمل. وقد يكون في الحديث الذي روي عن سيد الموحّدين في مواعظه لنوف البكالي إشارة إلى هذا الأمر حسب أحد الاحتمالات، فقد جاء في الحديث أنّ نوفاً طلب منه وعظاً فقال له: "اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار" ثم قال: "يا نوف كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة" وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "وهل يُكَبّ الناس في النار يوم القيامة إلّا حصائد ألسنتهم؟". فإنّنا نفهم من هذا الحديث وغيره من الأحاديث أنّ جهنم هي الصورة الباطنية لأعمالنا.

 
الإمام الخميني قدس سره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

65

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 الدرس السابع:

عالم البرزخ وحقيقته

أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر معنى البرزخ والحكمة من وجوده. 
2- يستدل على البرزخ بواسطة الآيات والروايات الشريفة. 
3- يبيّن التصوّر والمعتقد الصحيح للحياة البرزخية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

66

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 تمهيد

عن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "إنّي سمعتك وأنت تقول كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان فيهم، قال عليه السلام: صَدَقْتُكَ كلّهم والله في الجنّة، قلت: جُعِلْتُ فداك إنّ الذّنوب كثيرة كبائر، فقال عليه السلام: أمّا في القيامة فكلّكم في الجنّة بشفاعة النَّبي المُطاع أو وصيّ النّبيّ ولكِنّي والله أتَخَوَّفُ عليكم في البرزخ، قلت: وما البرزخ، قال عليه السلام: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة"1.
 
ماهيّة البرزخ ومعناه
البرزخ لغةً هو الشيء الحاجز بين شيئين2، ثمّ توسّع الاستعمال لهذا اللفظ وأطلق على كلِّ ما يحول بين الشيئين، وهذا ما ورد في سورة الرّحمن ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾3، أي يوجد بينهما حائل، فيوجد بين البحرين، المالح والعذب، حاجز هو ما يسمّى بالبرزخ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. واصطلاحاً، هو العالم الذي يتوسّط بين الدّنيا والآخرة، أي أنّ الرّوح بعد انفصالها عن الجسد وقبل عودتها إليه ثانياً يوم القيامة، سوف تبقى في عالم يتوسَّط العالمين ويطلق عليه اسم البرزخ. يقول العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان: "إنّ الحياة البرزخيّة وهي المسمّاة بعالم القبر، عالم متوسّط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميِّت أو يعذّب حتى تقوم القيامة"4.



1 بحار الأنوار، ج 6، ص 267.
2 المنجد، ص 34.
3 سورة الرحمن، الآية 20.
4 تفسير الميزان، ج 1، ص 349.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

67

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدّنيا والآخرة"1.

 
وبالرَّغم من أنّ القرآن لم يتعرّض إلا إجمالاً لمسألة البرزخ وتفاصيلها، إلا أنّ الأدلّة الرئيسة التي يمكن الاعتماد عليها لإثباته، هي الأدلّة النقليّة الواردة في السُّنة الشّريفة. وبغضِّ النَّظر عن الاختلاف الموجود بين علماء المسلمين في تفاصيل عالم البرزخ، فإنّهم اتّفقوا جميعاً على أصل وجود هذا العالم.
 
البرزخ في الكتاب والسُّنة
1- الآيات الكريمة: 
ورد لفظ البرزخ في جملةِ آيات كريمة، نذكر منها قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾2. فالآيتان شرعتا بالحديث عن وضع الكفّار والظلمة والمجرمين، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ﴾ وسرعان ما يواجه بجواب سلبي فيقال له: ﴿كَلَّا﴾ ثمّ يضاف إلى الجواب: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ فبدايةً الآية الأولى من هاتين الآيتين تشير إلى المنزل الأوّل "الموت"، والثانية منهما تشير إلى المنزل الثَّاني، أي "البرزخ". وجملة ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ تعتبر قرينةً واضحةً على أنَّ عالم البرزخ هو مرحلةٌ تسبق يوم القيامة بعد الموت. 
 
ويقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾3



1  بحار الأنوار، ج 6، ص 218.
2 سورة المؤمنون، الآيتان 99 ـ 100.
3 سورة آل عمران، الآيتان 169 ـ 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

68

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾1.

 
الآيات من الأدلّة الواضحة على وجود عالم البرزخ، فالملاحظ فيها أنّها تتحدّث عن الشُّهداء بما هم "أحياء"، وليست الحياة هنا هي الحياة المجازيّة - كما تخيّل البعض - كبقاء أسمائهم وآثارهم وذكرهم ونحوه، لأنّ هذا لا يتناسب مع سياق الآيات والأوصاف الواردة فيها، وإنّما المقصود هو الحياة الحقيقيّة، وإلى هذا أشار السيد الطباطبائي في تفسير الميزان فقال: "والمراد بالحياة في الآية هو الحقيقية دون التقديرية"2.
 
أمَّا توجيه الخطاب في الآيات للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، إنّما ذلك لأنّ الكثير من الناس في أواسط عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يجهلون هذه الحياة البرزخية ما بين الموت إلى الحشر، فالثابت عندهم كان هو البعث للقيامة، بالإضافة إلى اعتقاد البعض والذين يرون كون النفس غير مجرّدة عن المادّة، وأنّ الإنسان يبطل وجوده بالموت، وانحلال التركيب، ثمّ يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة. بناءً على هذين الأمرين، يمكن أن يكون المراد هو بيان أنّ حياة الشهداء في ذلك العالم أفضل من حياة غيرهم، فحياتهم تشتمل على أنواع النعم والرزق الإلهيّ.
 
ولهذا فالمستفاد من الآية ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ﴾ في هذا الخطاب الموجّه للمؤمنين، أي لا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيد لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة. وكما يعين على هذا القول حواسُّكم فهم ليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسكم لا تشعر بهم، وإلقاء هذا القول على المؤمنين إنّما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم من الحياة بعد الموت.



1 سورة البقرة، الآية 154.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 347.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

 


69

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 2- في النصوص الشريفة: 

أمّا الروايات الواردة في البرزخ فقد ذكر الخواجة الطوسي: "إنّ روايات البرزخ من المتواترات لكثرتها". وورد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نادى عدداً من قتلى المشركين بأسمائهم، وقال: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً؟ فإنّي وجدت ما وعد ربي حقاً، فقالوا: يا رسول الله: أما تكلّم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنّهم لا يستطيعون جواباَ"1. وروي هذا الحديث بصيغ مختلفة كلّها تدلّ على نفس المضمون، وهذا أوضح في الدلالة على وجود عالم البرزخ، بل قد يستفاد منها أمور أخرى من ناحية ارتباطهم بهذا العالم.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "القبر إما روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران"2، ودلالته واضحة على حياة وعالم البرزخ. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ضرورة زيارة أهل القبور وقال: "زوروا قبور موتاكم وسلّموا عليهم فإنّ لكم فيهم عبرة"3 إلى ما هنالك من الروايات الكثيرة في هذا الخصوص، خصوصاً تلك التي تتحدّث عن تفاصيل حياة القبر، كلّها تدلّ على حياة القبر وعالم البرزخ. وإنّ الذي يتتبّعها بكلّ جزئيّاتها وتفاصيلها يتضح له أنّ تلك الحياة هي عالم آخر قائم بذاته قبل يوم البعث والحشر الأكبر.
 
تصوير عالم البرزخ
بناءً على ما ورد في الآيات والرّوايات من تفاصيل حول عالم البرزخ، نجدُ أنّه لا يوجدُ اختلافٌ في أصل وجود عالم البرزخ. ولكن عندما نحاول الاطّلاع على صورة هذا العالم نجد أنّ العلماء قد طرحوا تصوّرات مختلفة، إلا أنّ أوضحها وما ينسجم مع الروايات الواردة في المقام ما ذكر بعض العلماء من أنّ روح الإنسان بعد انتهاء الحياة الدّنيا، تحلّ في جسمٍ لطيفٍ يفتقد الكثير من أعراض الجسم الماديّة، ولكن



1 بحار الأنوار، ج 6، ص 207.
2 م. ن، ج 6، ص 205.
3 بحار الأنوار، ج 79، ص 64.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

70

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 لشبه هذا الجسم بالمادة أطلق عليه اسم "الجسم المثالي" أو "القالب المثالي". وقيل إنّ له نوعاً من التجرّد البرزخي. ولكن بما أنّ إدراك حقيقة الحياة الآخرة غير ممكن بالنسبة لنا نحن أسارى عالم المادّة، فالاطلاع الكامل على عالم البرزخ لا يكون ممكناً أيضاً، لأنّ عالم البرزخ هو أعلى مرتبة من هذا العالم.

 

 
ولتوضيح المقام نقول: يمكننا تشبيهه بعالم الرؤيا، فالرّوح الإنسانية في الأحلام الصادقة تتجوّل في نقاط مختلفة بواسطة الجسم المثالي، وتشاهد المناظر وتتلذّذ بالنعم، كما أنّها أحياناً تشاهد المشاهد المرعبة فتضجر بشدّة وتصرخ وتصحو من نومها. وهنا يذكر العلامة المجلسي في البحار: "إنّ تشبيه عالم البرزخ بحالة النوم والرؤيا كثيراً ما ورد في الأخبار"1.
 
يعتقد البعض، أنّ القالب المثالي موجود في جسم كل إنسان لكنّه ينفصل عن الجسم بعد الموت ويبدأ حياته في البرزخ. فالرّوح تكون في حالة التنويم المغناطيسي، تتجوّل وتذهب إلى مناطق مختلفة. بل إنّ بعض الأرواح القويّة يتمكّن من السفر إلى مناطق بعيدة في عالم اليقظة فيطّلع على أسرار تلك المناطق، وكلّ هذا يتم بواسطة القالب المثالي2.
 
وخلاصة الكلام إنّ هذا القالب المثالي، ليس مادّةً كثيفةً ولا يتشكّل من العناصر الماديّة، بل هو جسمٌ لطيف نوراني لا يحتوي على العناصر الماديّة المعروفة في هذا العالم المادي.
 
فقد ورد في المقام عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "فإذا قبضه (أي المؤمن) الله عزّ وجل صيّر تلك الأرواح في قالب كقالبه في الدّنيا"3.



1 بحار الأنوار، ج 6، ص 261.
2  الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 10، ص 514.
3 بحار الأنوار، ج 58، ص 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

71

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 وجاء في حديث آخر عنه عليه السلام، عندما سئل عن أرواح المؤمنين أجاب: "في حجرات في الجنّة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا"1.

 
وهذا واضحٌ في أنّ الأرواح تعيش في عالم البرزخ، لذلك يتمنّون قيام القيامة. هذا بالإضافة إلى أنَّ وجودهم في البرزخ المكاني يدلّ على حلول أرواحهم في القالب المثاليّ، وذلك لأنّها فارقت الأجسام التي كانت تعيش فيها في هذه الدّنيا.



1 الكافي، ج 3، ص 244.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

72

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 المفاهيم الرئيسة

1- البرزخُ لغةً هو الشَّيء الحاجز بين شيئين1، ثمّ توسّع الاستعمال لهذا اللّفظ وأطلق على كلّ ما يحول بين الشَّيئين. 
 
2- البرزخ اصطلاحاً العالم الذي يتوسَّط بين الدّنيا والآخرة، أي أنّ الرّوح بعد انفصالها عن الجسد وقبل عودتها إليه ثانياً يوم القيامة، سوف تبقى في عالمٍ يتوسَّط العالمين ويطلق عليه اسم البرزخ. 
 
3- ورد لفظ البرزخ في جملة آياتٍ كريمةٍ نذكر منها قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾2
 
4- ذكر بعض العلماء أنّ روح الإنسان بعد انتهاء الحياة الدّنيا تحلّ في جسمٍ لطيفٍ يفتقد الكثيرَ من أعراض الجسم الماديّة، ولكن لشبه هذا الجسم بالمادّة أطلق عليه اسم "الجسم المثاليّ" أو "القالب المثاليّ". 
 
5- يعتقد البعض أنّ القالب المثاليّ، موجود في جسم كلّ إنسانٍ لكنّه ينفصل عن الجسم بعد الموت ويبدأ حياته في البرزخ. وهذا القالب المثاليّ ليس مادةً كثيفةً ولا يتشكّلُ من العناصر الماديّة، بل هو جسمٌ لطيفٌ نورانيٌّ لا يحتوي على العناصر الماديّة المعروفة في هذا العالم الماديّ. 



1 المنجد، ص 34.
2 سورة المؤمنون، الآيتان: 99 ـ 100.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

73

الدرس السابع: عالم البرزخ وحقيقته

 للمطالعة

 
الحياةُ خطواتٌ نحو الموت1
إنَّ كل قدم تخطونها الآن تقودكم نحو القبر، فلا مجال للتأخير أبداً، وليس هناك ما يمنعكم من ذلك أبداً. كلُّ دقيقة تمرّ من أعماركم الشريفة تقرّبكم من القبر ومن المكان الذي ستتعرّضون فيه إلى المساءلة، وكلُّكم ستُسألون، وأنتم تقتربون تدريجياً. فكّروا في أنّ القضية هي الاقتراب من الموت، وأنّ أحداً لم يضمن لكم أنْ تُعمِّروا مائة وعشرين سنة، فليس متعارفاً بيننا أن يعمَّر أحدنا مائة وعشرين سنة، فالإنسان قد يموت وهو في الخامسة والعشرين من عمره أو في الخمسين أو الستين، ليس هناك من ضمان، لعلّ الأجل يحلّ بنا الآن - لا سمح الله - فلا ضمان.
 
يجب أن تفكّروا وتتأمّلوا في هذه الأمور. هذّبوا أخلاقكم، هذّبوها أكثر - إن شاء الله - ولتكن أعمالكم مطابقةً للإسلام، مطابقة لأحكام الإسلام، لكي توفّقوا - إن شاء الله - وأنتم تحت القبة المطهّرة للمولى - سلام الله عليه - بالتنعّم بأنوار العلم الذي يرضي الله‏ تعالى، العلم الذي هو نور، العلم الذي يقربكم من الله تبارك وتعالى.
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 2، ص 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

74

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 الدرس الثامن:

حسابُ القبر


أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن التصوّر الصحيح لعالم القبر وأنّه أول منازل الآخرة. 
2- يذكر حقيقة عذاب القبر وأنواعه والسؤال والمساءلة في البرزخ. 
3- يبيّن كيفيّة ارتباط الأرواح في البرزخ بعالم الدنيا. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

75

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 القبر

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "يدخل على الميِّت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والبرّ والدّعاء ويُكتب أجره للذي يفعله للميت"1.
 
من الصعب علينا أن ندرك حقيقة الحياة في القبر. وبشكلٍ عام يصعب علينا أن ندرك حقيقة هذا العالم، تماماً كما يصعب على الجنين وهو في بطن أمّه أن يدرك حقيقة الدّنيا. لذا فإنّ الطريق الوحيد الذي بين يدينا لتصوّر عوالم ما بعد الموت، يتمثّل فيما تعكسه الآيات والروايات، فالثابت عندنا أنّ القبر أوّل منازل البرزخ، وأنّ الميِّت يُسأل حتماً عن أصول دينه وعقيدته وعن عمره فيما أفناه، وأنّ القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران. 
 
ففي الحديث النبوي الشريف: "القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنّة"2.
 
أوّل منازل القبر
إنّ أوّل منازل البرزخ هو سؤال القبر، فبعد أن يقبض ملك الموت روح الإنسان، ويرقى بها نحو السماء، ليضعها في محضر الله سبحانه، تعود بعد ذلك إلى منزلها الأصلي في القبر، وهو أوّل منزلةٍ من المنازل التي يمضيها الميِّت في القبر.
 
وتؤكّد الأخبار أنّه يأتي مَلكان باسم "منكر ونكير" فيسألانه عن التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل. والمعلوم أنّ هذين الملَكين يأتيان الكفّار على صورةٍ مفزعةٍ مُخيفةٍ،



1 الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ايران، ج 1، ص 185.
2 الفيض الكاشاني، محمد محسن، علم اليقين، ج 2، ص 873.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

76

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 حيث جاء في الخبر أنّهما: "ملكان فظّان غليظان، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف"1. وقد أخبر بعض الروايات عن حضور الإمام عليه السلام في مثل هذا الموطن2.

 
السّؤال في القبر
 
ولكن عن أي شيءٍ يُسأل الإنسان في القبر؟
لم يتعرّض القرآن الكريم لذكر هذه الخصوصيات. وكل ما تعرّض له هو أنّ هناك برزخاً وأنّ فيه فريقاً يتنعّم بنعم الله تعالى، وفريقاً آخر في العذاب. إلا أنّ السنة المباركة تحدّثت بإسهاب عن هذه التفاصيل، فقد ذُكر في الروايات أنّ الإنسان عندما يوضع في القبر يأتي إليه اثنان من ملائكة الله فيسألانه عن أصول دينه، حتى أنّ بعض الروايات أشار إلى أنّه يُسأل حتى عن كيفية عمره من جوانب عدّة، كسُبل كسب المال ونحوه، وإن كان من المؤمنين فإنّه سوف يجيب بسهولة، وتغمره الرحمة الإلهيّة، وإلا فإنّه سوف يفشل في الإجابة ويغرق في العذاب. وقد أطلق على هذين الملكين اسم "ناكر ونكير، وفي رواية "منكر ونكير"، فيروى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه كان يعظ الناس ويذكّرهم بحضور "منكر ونكير" في القبر قائلاً: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبد، وعن نبيك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته، وفيما أتلفته، فخذ حذرك وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة"3.
 
وقال أبو عبد الله عليه السلام: "يُسأل الميِّت في قبره عن خمس: عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما



1  بحار الأنوار، ج 6، ص 223.
2 إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله لعلي: "يَا عَلِيُّ إِنَّ مُحِبِّيكَ يَفْرَحُونَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ عِنْدَ خُرُوجِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْتَ هُنَاكَ تَشْهَدُهُمْ وَعِنْدَ الْمُسَاءَلَةِ فِي الْقُبُورِ وَأَنْتَ هُنَاكَ تُلَقِّنُهُمْ وَعِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْتَ هُنَاكَ تَعْرِفُهُمْ" بحار الأنوار، ج 6، ص 200.
3 م. س.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

77

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 دخل فيكنّ من نقص فعليّ تمامه"1.

 
وكيف يتم هذا السؤال؟ ومع من؟ مع الرّوح في عالم البرزخ، أم مع نفس هذا الجسم والرّوح؟ وما هي نوعية الأسئلة التي تُسأل هناك؟
 
وفي الإجابة عن السؤال الأوّل قولان:
الأول: أن يتوجّه السؤال إلى نفس هذا الجسم والرّوح على نحو أنّها تعاد الرّوح إلى الجسم المادي بصورة مؤقتّة. ومن البديهي أنّ المقصود هنا ليس عودة الرّوح بصورة تامة بحيث يعود الإنسان كما لو كان في الدّنيا، بل تعود على قدر ما يمكّنه من الإجابة عن الأسئلة. فالمستفاد من موضوع بعض الروايات هو أنّ الرّوح تتعلّق وترتبط بنفس هذا الجسم المادي بنوع من التعلّق على قدر ما يتمكّن الميِّت من فهم الأسئلة والإجابة عنها. ولكن يبقى الثابت عندنا، عدم عودة النَّفس إلى هذا الجسم المادي بعينه كما هو الحال في الآخرة.
 
الثاني: أن يتوجّه السّؤال إلى الرّوح التي في القالب المثالي والبرزخي. وإلى هذا أشار العلاّمة المجلسي في تحقيقه حول أحاديث هذا الباب في البحار: "فالمراد بالقبر في أكثر الأخبار ما يكون الرّوح فيه في عالم البرزخ"2. أما نوعية الأسئلة في القبر فيتّضح من الروايات أنّها ليست أسئلة وأجوبة عاديّة يتمكّن الإنسان من الإجابة عنها بما يحلو له، بل هي أسئلة تنبع إجابتها من أعماق روح الإنسان ومن صحيح معتقداته، وما تلقين الأموات للشهادة إلاّ للإشارة إلى هذه الأمور. ويضاف إلى هذا الكلام وجود روايات أخرى تشير إلى أنّ السؤال يتناول أحياناً تفاصيل حياة الإنسان كساعات عمره، وتحصيله لرزقه، وكيفية صرفه، وهذا يعني أنّ سؤال القبر لا يتعلّق فقط بالكفر والإيمان على مستوى العقيدة والفكر أو بالأمور العقائدية فقط.



1 بحار الأنوار، ج 21، ص 260.
2 بحار الأنوار، ج 6، ص 270.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

78

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 ارتباط الرّوح في هذا العالم

نشير هنا إلى أمرين هامين:
1- عدم انفصال الرّوح عن الدّنيا مطلقاً. 
2- انتفاع الأرواح بالأعمال الصالحة. 
 
أمّا بالنسبة للأمر الأوّل، فيستفاد من خمس روايات ذكرها الشيخ الكليني في الكافي أنّ الرّوح عندما تنتقل إلى عالم البرزخ لا تنفصل عن الدّنيا بالمرّة بل تزور الدنيا بين الحين والآخر، فروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يُحب ويُستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويُستر عنه ما يحبّ"1.
 
أمّا الأمر الثاني، وهو انتفاع الأرواح بأعمال الآخرين الصّالحة، فقد دلّت الروايات عليه بكثرة، حيث أشارت النصوص إلى أنّ عمل الخيرات لأرواح الأموات تصل إليهم على شكل هدايا.
 
جاء عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عليه إنّا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرّات إلاّ غفر الله له ولصاحب القبر"2.
 
ويروى أنَّ السيد المسيح عليه السلام، مرّ على أحد القبور فوجد صاحبه في العذاب، وعندما مرّ في العام المقبل وجده في النعيم، فعندما سأل الله عن ذلك أخبره بأنّ السبب في هذا هو فعل خير أدّاه ابن مؤمن له، وهو إصلاحه لأحد الطرق وإيواؤه يتيماً.
 
هذا ويستفاد من روايات عدّة أنّ آثار بعض الأعمال ترافق الميِّت أو تتصل به إلى قبره وهي مثل الحسنات الجارية: من سنّ سنةً حسنةً، والولد الصّالح الذي يستغفر لوالده، غرس يغرسه، صدقة ماء يُجريها، إلخ...



1 الكافي، ج 3، ص 230.
2 بحار الأنوار، ج 79، ص 169.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

79

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

"ما تصدّقت لميّت فيأخذها ملك في طبق من نور ساطع ضوؤها يبلغ سبع سماوات. ثمّ يقوم على شفير الخندق فينادي: السلام عليكم يا أهل القبور، أهلكم أهدوا إليكم بهذه الهدية، فيأخذها ويدخل بها في قبره، فيوسِّع عليه مضاجعه"1.



1  القمي، الشيخ عباس، منازل الآخرة، تعريب وتحقيق السيد ياسين الموسوي، الطبعة الأولى، 1419 هـ. ق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران، ص 163.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

80

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 المفاهيم الرئيسة

1- الطّريق الوحيد الذي بين يدينا لتصوّر عوالم ما بعد الموت، يتمثّل فيما تعكسه الآيات والروايات من معالم لذلك العالم، إذ إنّ الثابت عندنا أنّ القبر أوّل منازل البرزخ. يُسأل الميِّت حتماً عن أصول دينه وعقيدته وعن عمره فيما أفناه، وأنَّه إمَّا أن يكون روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّيران، ففي الحديث النّبوي الشّريف: "القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنّة". 

2- تؤكّد الأخبار أنّه يأتي مَلكان باسم "منكر ونكير" فيسألانه عن التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل. والمعلوم أنّ هذين الملَكين يأتيان الكفّار على صورة مفزعة مُخيفة. 

3- يتوجّه السؤال في القبر إمّا: إلى نفس هذا الجسم والرّوح على نحو أن الرّوح تعاد إلى الجسم المادي بصورة مؤقتّة وبقدر ما يمكّنه من الإجابة عن الأسئلة، أو أن يتوجّه السؤال إلى الرّوح التي في القالب المثالي والبرزخي. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

81

الدرس الثامن: حسابُ القبر

 للمطالعة
 
سرُّ النَّصر1
إنَّ سرَّ نصركم هو الإيمان الثابت أولاً، ثم وحدة الكلمة، فاحفظوا هذين الأمرين، ورسِّخوا إيمانكم، فأنتم لستم مخلوقات مادية كما يقول أولئك إنّ الإنسان موجود مادي، ويعتبرون الإنسان كسائر الحيوانات، فأنتم مخلوقات لها بعدها المادي، ولها أسمى من ذلك البعد المعنوي. إنّ‏ فيكم أنفساً قدوسية. إنَّ فيكم أنفساً مجردة. وإذا كنتم في خدمة الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى، فإنّ هذه الأنفس ستصبح أنفساً طاهرة وزكية وسعيدة، أينما كانت وعلى أي هيئة كانت. إنّ موت الإنسان، الإنسان الطاهر، هو بداية حياته الإنسانية، فهنا حياته الحيوانية، وحياته المحدودة، أما تلك الحياة الإنسانية فهي غير المحدودة ولعالم غير محدود. ولو نزّهتم أنفسكم وطهرّتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، إذا طهرّتم أنفسكم فلا تخافوا شيئاً.
 
إنَّ الموت أمرٌ يسيرٌ وليس ذا بال. فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه مولى الجميع، حينما يقول: "إنّي لآنس بالموت مثلما يأنس الطفل بثدي أمه"، فلأنّه فهم حقيقة الدّنيا وحقيقة ما وراءها، فهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة. لقد أعطينا الشهداء، ولكن شهداءنا أحياء، أحياء يرزقون، وخالدون. ونحن ندعو الله أنْ يوفِّقنا للشهادة، فهي عناء لحظة وسعادة دائمة، تعب لحظة وبعدها سعادة دائمة، سعادة مطلقة.
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 6، ص 248.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

82

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 الدرس التاسع:

نفخ الصُّور

أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى وحقيقة الصّور والنفخ فيه. 
2- يبيّن أنّ النفخ بالصّور حتميّ الوقوع وأنّ الاعتقاد به من الضروريات. 
3- يذكر مرحلتي النفخ بالصّور، وهما نفخ الإماتة ونفخ الإحياء، وأنّهما تقعان بغتةً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

83

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 تمهيد

لقد طرح القرآن الكريم موضوع "نفخ الصُّور" في العديد من الآيات القرآنيّة1، وفي بعضها ورد التعبير عن الصُّور بـ ﴿النَّاقُورِ﴾2. وفي بعضها الآخر ورد التعبير بـ ﴿الصَّاخَّةُ﴾3 أي الصوت الشديد، كما ورد التعبير عنه بـ "الصيحة"4.
 
إنّنا وبالالتفات إلى هذه المعاني يمكن أن نوضح نفخ الصُّور الذي هو عبارة عن نفخ إسرافيل في بوقٍ، مصدراً صوتاً موجِلاً وموحشاً ومهيباً يؤدّي إلى موت جميع الخلق في السموات والأرض ثم إحيائهم بالنفخة الثانية.
 
حقيقة صور إسرافيل
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان حقيقة صور اسرافيل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "قرنٌ من نور التقمه إسرافيل"5. وقال العلامة المجلسي في البحار: "هو قرن ينفخ فيه إسرافيل"6.
 
وفي حديث آخر قال عليه السلام: "قرنٌ يُنفخ فيه"7.



1 راجع: الكهف، 99. المؤمن، 101. يس، 51. الزمر، 68. ق، 20. الحاقة، 13.
2 سورة المدثر، الآية 8.
3 سورة عبس، الآية 33.
4 سورة يس، الآية 49.
5 علم اليقين، الكاشاني، ج 2، ص 892.
6 بحار الأنوار، ج6، ص 312.
7 الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية 1983 هـ. ق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ج 4، ص 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

84

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إنّ الصّور قرنٌ عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق"1.

 
والتشبيه بقرن الثور هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لأجل تقريب المعنى للذهن وذلك لأنّ الألفاظ التي يمكن للبشر إدراكها لا يمكنها أن تحيط بعالم ما وراء الطبيعة وأن تحكي عنه.
 
ولذا لا ينبغي حمل ما ورد من ألفاظٍ لشرح وتوضيح عالم الغيب على ما هو موجود عندنا من معانٍ. فنفخُ الصّور له معنىً لا نعلم واقعه ولا يمكن لنا أن نحمله على معناه الظاهري بل لا بدّ وأن نقول: إنّ هذا التعبير هو كناية لطيفة عن حادثتين عظيمتين، في النفخة الأولى يكون موت كل من في السماوات والأرض وفي النفخة الأخرى بعث جديد.
 
حتميّة وقوع نفخ الصُّور
إنّ الدور الذي يؤدّيه النفخ في الصّور يدلّنا على أنّ وقوعه حتميٌّ، بل هو من المسائل المؤكّدة الوقوع يوم القيامة والحساب. ولذا فهو من ضروريّات الدين ولا بدّ من الاعتقاد به كالاعتقاد بأصل المعاد، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾2.
 
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾3.
 
روي عن الامام علي عليه السلام: "وينفخ في الصّور فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة، وتذل الشمُّ4 الشوامخ، والصمُّ5 الرواسخ"6.



1 لآلئ الأخبار، ج 5، ص 53.
2 سورة النمل، الآية 87.
3 سورة ق، الآية 20.
4 الشم، من الأشم، أي العالي والمرتفع، أي الجبال العالية.
5 الصمّ، أي الصلب والشديد الصلابة.
6 نهج البلاغة، خطبة 186.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

85

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 وعن الإمام السجاد عليه السلام في الدعاء الثالث من الصحيفة السجادية يقول: "وإسرافيل صاحب الصّور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن وحلول الأمر فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور"1.

 
أقسام النفخ في الصّور
للصّور نفختان: نفخٌ موجبٌ لموت الموجودات الحيّة والمسمى: بـ"نفخ الإماتة"، ونفخٌ موجبٌ لإحيائهم جميعاً وهو "نفخ الإحياء".
 
1- نفخ الإماتة: 
قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾2.
 
روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: "فينفخ (إسرافيل) فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعق ومات، ويخرج الصوت من إسرافيل، قال: فيقول الله لإسرافيل يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر الله السموات فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾"3.
 
وتصرّح الآيات القرآنيّة بهذه النفخة حيث قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾4.
 
إنّ المستفاد من هذه الآيات أنّه وعبر النفخة الأولى سوف يتغيّر كل هذا العالم فتتبدّل السموات غير السموات والأرض غير الأرض.



1 الصحيفة السجادية، الدعاء الثالث.
2 سورة الزمر، الآية: 68.
3 سورة الطور، الآيتان: 9 ـ 10. بحار الأنوار، ج 6، ص 324.
4 سورة الحاقة، الآيات: 13 ـ 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

86

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 والذي يظهر من الآيات والروايات المذكورة هو أنّ جميع الموجودات الحيّة حتى إسرافيل سوف يموت ولا يبقى إلا الله تعالى. ولكن القرآن في كلتا الآيتين يعبِّر بعد ذلك بقوله: ﴿إِلَّا مَن شَاء﴾ فهناك من هم مستثنون من نفخة الإماتة ومن الفزع، أفلا يقع التناقض مع المفاد السابق؟

 
والجواب: إنّ الاستثناء هو في مورد نفخ الصّور، أي أنّ جماعةً من المخلوقات ومنهم إسرافيل هم من فزع نفخ الصّور آمنون، ولا يكون هذا النفخ موجباً لموتهم ولكنّ الله عزّ وجلّ يقوم بعد ذلك بقبض أرواحهم فلا يبقى في الوجود إلا الله عزّ وجلّ.
 
2- نفخ الإحياء: 
بعد النفخة الأولى هناك نفخة أخرى تتمّ بأمر الله، وفيها تعود الحياة إلى كل المخلوقات ويأتي الناس للحساب. قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾1.
 
روي عن الإمام السجاد عليه السلام بعد بيان نفخة الإماتة يقول: "فنفخ الجبّار نفخةً في الصور يخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السموات فلا يبقى في السموات أحدٌ إلا حي وقام كما كان، ويعود حملة العرش، ويُحضَر الجنّة والنار، ويُحشَر الخلائق للحساب. قال الراوي: فرأيت علي بن الحسين عليه السلام يبكي عند ذلك بكاءً شديداً"2.
 
إنّ نفخ الإحياء وإن كانت نسبته إلى الله عزّ وجلّ ولكن ما نقلناه سابقاً من الدعاء الثالث من الصحيفة السجاديّة، وما دلّ عليه بعض الروايات أنّ نفخ الإحياء يكون أيضاً من إسرافيل. فالله عزّ وجلّ بعد موت الجميع يحيي إسرافيل وهو يقوم عبر النفخ بالصّور مجدّداً بإحياء الموتى.



1 سورة الزمر، الآية 68.
2 بحار الأنوار، ج 6، ص 325.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

87

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 وقوع النفختين بغتةً

إنّ المستفاد من الآيات والروايات أنّ كلتا النفختين تقعان فجأة، أما الأولى فتقع والناس في غفلةٍ مشغولون بمشاغلهم الدنيوية من عملٍ وجدالٍ وبيعٍ وشراء، قال تعالى: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾1.
 
وعن الصيحة الثانية قال تعالى: ﴿فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾2.
 
وتدلّنا الآية على أنّ النفخة الثانية أيضاً تكون فجأة. وبعد النفخة الثانية ترد الخلائق كلها ساحة المحشر وينتظر كلٌّ مصيره فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى جهنّم، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾3.



1 سورة يس، الآيتان: 49 ـ 50.
2 سورة الزمر، الآية 68.
3 سورة الكهف، الآية 99.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

88

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 المفاهيم الرئيسة

1- نفخ الصّور هو قيام إسرافيل بالنفخ في الصّور لتموت كل الموجودات الحيّة. 

2- ما ورد في الروايات الشريفة في حقيقة صور إسرافيل وأنه قرنٌ من نور هو من باب التشبيه بما نألفه، لأنّه لا اطّلاع لدينا ولا معرفة بحقائق ذلك العالم. 

3- إن الوارد في الآيات والروايات من وقوع النفخ في الصّور أمر حتمي وقطعي، وهو من معتقدات الدين الضرورية. 

4- إن للصّور نفختين: 
أ - نفخ إماتة.
ب - نفخ إحياء.

5- في نفخ الإماتة تموت جميع المخلوقات الحيّة، وفي نفخ الإحياء تُبعث من جديد. 

6- إنّ النفخ في الصّور يقع بشكلٍ مفاجىءٍ غير متوقّع. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

89

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 للمطالعة

 
الإنسان وعالم البرزخ1
لا بد أن تعرف أن عالم برزخ كل شخص، أنموذج من نشأته يوم القيامة، والبرزخ عالم يتوسّط بين هذا العالم وعالم القيامة، وتنفتح على هذا العالم كوَّة من الجنة أو النار. كما أشير إليه في نهاية هذا الحديث الشريف، وفي الحديث النبوي المعروف "الْقَبْرُ إمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أوْ حٌفْرَةٌ مِنْ حٌفَرِ النِّيرانِ"2
 
فتبيّن أن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها، ويسمع من ملك الموت بشارة الجنة أو الوعيد بالنار. وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلاً، كذلك تنكشف عليه الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه، من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو أضدادها أيضاً من الظلام والكدُورة والضغط وضيق في الصدر، فإن كان من أهل الإيمان والسعادة، يستعد قلبه عند معاينه البرزخ لمشاهده النفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله، وتشتعل في قلبه، جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الربوبية، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق! 
 
وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحق المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحق ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية، لرؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح. 
 
وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة، 



1 الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الثامن والعشرون.
2 بحار الأنوار، ج6، ص275.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

90

الدرس التاسع: نفخ الصُّور

 انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا وما وفّره واكتسبه لنفسه منها، من آثار السخط الإلهي والقهر، ونموذجاً من دار الأشقياء، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون عنده شيء أبغض من التجليات الجلالية والقاهرة للحق المتعالي ويستولي عليه من جرّاء هذا البغض والعداوة الشديدين، الضغوظ والظلام والصعاب والعذاب. لا يعرف حجمها أحد إلاّ الذات الحق المقدس، وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا. وينكشف على أهل المعاصي والكبائر، بقدر اجتراحهم للسيئات، نوذجاً من جهنمهم، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم، فيُرحلون بكل عنف وقسوة وعذاب، وفي نفوسهم حسرات لم تتحقق في هذه الأحوال.


الإمام الخميني قدس سره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

91

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

الدرس العاشر:
كتاب الأعمال والمحشر والصراط


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح أنّ لكل إنسان كتاباً تسجّل الملائكة فيه جميع أعماله بدقة. 
2- يبيّن أنّ الناس ينقسمون يوم القيامة بحسب كتب أعمالهم. 
3- يبيّن معنى المحشر والصراط وأحداثهما وبعض خصوصياتهما. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

92

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 كتاب الأعمال

لكل إنسان كتابٌ تُضبط فيه أعماله، وفي يوم القيامة سوف يقرأ كتاب أعماله الذي سيكون مثار عجب من شدّة دقّته. وفي كتاب الأعمال هذا سوف تسجّل تمام أعمال الإنسان والآثار المترتّبة عليها. وهذا الأمر هو من مظاهر القدرة الإلهيّة اللامتناهية. وإنّ الاعتقاد والإيمان بهذا الأمر له أثره العميق في حصول التقوى عند الإنسان، لأنّ الإنسان الذي يعتقد أنّ تمام أعماله مكتوب ومسجّل سوف يراقب كل ما يقوم به ومن لا يعتقد بذلك سوف يقدم على أيّ عمل دون حساب أو رادع.
 
تسجيل الملائكة أعمال العباد
إنّنا وبغضّ النظر عن السؤال حول كيفية تسجيل أعمال العباد (عن طريق الكتابة أو التصوير أو الحفظ) نعلم بأنّ الملائكة تقوم بتسجيل أعمال الخلق، كما قال تعالى: ﴿وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾1. ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾2.
 
وهؤلاء الملائكة يطّلعون على كل أعمال العباد، ولو خفي عنهم شيءٌ فإنّه لا يخفى على الله. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: "وكل سيّئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكّلتهم بحفظ ما يكون منّي وجعلتهم شهوداً عليَّ مع جوارحي وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم"3.
 
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾4.



1 سورة الزخرف، الآية 80.
2 سورة الإنفطار، الآيات 10 ـ 12.
3 مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
4 سورة النساء، الآية 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

93

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 وقال أيضاً: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾1.

 
يدلّ ظاهر الآية أنّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان خلال عمره تحضر بعينها أمامه، أي أنّ أعمال الإنسان مسجّلة يقيناً وإن كانت كيفيّة ذلك غير واضحة بالنسبة إلينا.
 
تسجيل الآثار
إنّ أعمال الإنسان وآثار أعماله كلها تُسجّل وبعد ذلك سوف يتذكّرها الإنسان ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾2.
 
سوف يرحل الإنسان عن هذه الدنيا ولكن يبقى لأعماله آثارٌ ستسجّل في كتاب الأعمال. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "خير ما يخلّفه الرجل بعده ثلاثة: ولدٌ بارٌّ يستغفر له، وسنّة خيرٍ يُقتدى به فيها، وصدقةٌ تجري من بعده"3.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾4 قال: "بما قدّم من خير وشر، وما أخّر ممّا سنَّ من سُنّة ليستنّ بها من بعده، فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم ولا ينقص من وزرهم شيء. وإن كان خيراً كان له مثل أجرهم ولا ينقص من أجورهم شيء"5.
 
وكذلك ممّا يسجّل في كتاب الأعمال، ما يرضى عنه الإنسان من أعمالٍ يقوم بها الآخرون ويرضى هو عنها، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عَقَر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا"6.



1 سورة الكهف، الآية 49.
2 سورة يس، الآية 12.
3 تفسير القمي، ج 2، ص 398.
4 سورة القيامة، الآية 13.
5 تفسير القمي، ج 2، ص 397.
6 بحار الأنوار، ج 60، ص 213.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

 


94

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 إنّ دين الإسلام يرى أنّ رضى الإنسان عن الطاعة والمعصية وغضبه لها مسجّلٌ في كتاب أعماله وسيحاسب عليها مهما تكن الفاصلة المكانيّة أو الزمانيّة بين من قام بالعمل وبين من رضي به. بل قد يقوم الإنسان بعمل خيرٍ ولكنّه يسجّل في كتاب أشخاصٍ آخرين أو العكس.

 
تقسيم الناس بحسب كتاب الأعمال
يقسّم الناس بحسب أعمالهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾1.
 
ويقول عز وجل في حق أصحاب الشمال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ *  بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾2.
 
ويقول تعالى أيضاً: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ﴾3.
 
وإنّ ما تذكره الآيات من وجود فئةٍ تأخذ كتابها بيمينها وأخرى بشمالها هو في حقيقة الأمر كناية عن السعادة والشقاء.
 
وقد ورد التعبير عن طريقة تلقّي صاحب الشمال لكتابه بنحوين: أحدهما تلقّيه من وراء ظهره وثانيهما تلقيه بشماله. وقد أبدى المفسّرون لبيان ذلك عدّة آراء وأنسب هذه الآراء أن نقول: إنّه عندما يتلقّى أحد أصحاب الشمال كتابه بشماله يخفي كتابه بيده وراء ظهره بسبب الذلّة والخجل، ليخفي سند جرائمه، ولكنّ لا فائدة من ذلك لأنه لن يتمكّن من إخفائه.



1 سورة الإنشقاق، الآيات 7 ـ 9.
2 سورة الإنشقاق، الآيات 10 ـ 15.
3 سورة الحاقة، الآيات 19 ـ 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

95

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 المحشر

هو مكان تجمُّع النَّاس يوم القيامة وفيه يكون حسابهم، أي بعد حصول النَفخ الثًاني في الصُّور وإحياء الموتى يأتي الناس جميعاً وبأمرٍ من الله إلى ساحة المحشر. وهناك يحاسب كل شخصٍ، وعلى أساس أعماله المضبوطة بدقة يُرسل إلى الجنّة أو إلى جهنّم. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾1. ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾2.
 
وقد ذكرت الآيات والروايات بعض خصوصيّات المحشر، نتعرّض لبعضها هنا:
1- يحشر الناس مع إمامهم: 
قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾3.
وقد جاء في تفسير مجمع البيان: أنّه ورد عن الإمام علي بن موسى عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يُدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيّهم"4.
 
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا تمجّدون الله، إذا كان يوم القيامة فدعا كل أناس إلى من يتولّونه، وفزعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفزعتم إلينا فإلى أين ترون يُذهب بكم؟ إلى الجنّة وربِّ الكعبة، قالها ثلاثاً"5.
 
2- كل إنسان تهمّه نفسه: 
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾6. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له بعض أهله: يا رسول الله، هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً، عند الميزان حتى



1 سورة الأنعام، الآية 22.
2 سورة الواقعة، الآيتان: 49 - 50.
3 سورة الإسراء، الآية 71.
4 بحار الأنوار، ج 8، ص 8.
5 م. ن.
6 سورة عبس، الآيات 34 ـ 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

96

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 ينظر أيثقل ميزانه أم يخفّ، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله..."1، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه ولا بنيه ولا والديه، وذلك قول الله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾2، مشغولٌ بنفسه عن غيره من شدّة ما يرى من الأهوال العظام. نسأل الله تعالى أن يسهّلها لنا برحمته ويهوّنها علينا برأفته ولطفه.

 
3- السُّؤال والحساب: 
الحساب يوم القيامة لجميع الخلق إلا من استثني مما سيأتي، قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾3.
 
عن الإمام علي عليه السلام في وصفه يوم القيامة قال: "يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق لا يتكلّم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، فَيُقام الرسل فيُسأل فذلك قوله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾ وهو الشهيد على الشهداء والشهداء هم الرسل عليهم السلام"4.
 
ولقد وعد الله تعالى جماعةً بعدم الحساب في يوم القيامة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ يُحاسب كلَّ خَلقٍ إلا من أشرك بالله عزّ وجلّ فإنّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار"5.
 
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾6.
فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم، والصابرون هنا المراد بهم الذين يصبرون على بلاءات الدنيا ومصائبها وفتنها، كما يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: 



1 البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص 586.
2 سورة عبس، الآية 37.
3 سورة الحجر، الآيتان 92 ـ 93.
4 بحار الأنوار، ج 7، ص 313.
5 م. ن، ج 7، ص 260.
6 سورة الزمر، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

97

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾1. وجاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذه الآية: "إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان، ولم ينشر لهم ديوان، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾".

 
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية: وقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ توفية الأجر إعطاؤه تاماً كاملاً، والسياق يفيد أن القصر في الكلام متوجّه إلى قوله: "بِغَيْرِ حِسابٍ" فالجار والمجرور متعلق بقوله: "يُوَفَّى" صفة لمصدر يدل عليه والمعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم ولا ينشر لهم ديوان ولا يقدر أجرهم بزنة عملهم. وقد أطلق الصابرون في الآية ولم يقيّد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة وإن كان الذي ينطبق على مورد الآية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والسوق من آمن بالله وأخلص له دينه واتقاه"2
 
كما وأنه من خصوصيّات الشهداء والمجاهدين في سبيل الله أنّهم لا يحاسبون في القبر وفي القيامة بل يدخلون الجنّة بلا حساب، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من قُتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته"3. أي أنّه يكون مورد العفو الإلهي ولا يحاسب على أعماله بشرط أن لا تكون مرتبطة بحقوق الناس التي في ذمته. كما ورد في بعض الروايات أن الله يعفو عن الشهيد في كل شيءٍ إلا في حقوق الناس.
 
فعن الإمام الباقر عليه السلام: "كل ذنب يكفّره القتل في سبيل الله إلاّ الدّين فإنه لا كفّارة له إلاّ أداءه أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له حق"4.



1 سورة البقرة، الآيتان 155-156.
2 الميزان في تفسير القرآن،17، ص244.
3 وسائل الشيعة، ج 11، ص 9.
4 بحار الأنوار، ج 100، ص 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

98

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 الصراط

الصراط يعني الطريق1، والمراد به جسر على جهنّم (أو في داخلها) لا بدّ للإنسان من عبوره2. ومن خصوصيّات الصراط أنّه لا بدّ لكل إنسان أن يعبره حتى الأنبياء والأوصياء عليهم السلام،قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾3.
 
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في توضيح الصراط، قال: "أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين أتى بجهنم ثم يوضع عليها صراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف عليه ثلاث قناطر الأولى عليها الأمانة والرحمة، والثانية عليها الصلاة والثالثة عليها رب العالمين لا إله غيرهُ فيكلّفون الممرّ عليها..."4.
 
إنّ المستفاد من مجموع الروايات أنّ الصراط يتناسب وأعمال الإنسان، لذا يكون عبوره للبعض من أهل الإيمان والعمل الصالح سهلاً يسيراً، ويكون عبوره للبعض الآخر من الكفّار والمجرمين صعباً جدّاً وعسيراً.
 
أما أحوال الصراط وكيفيّة عبوره فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يرد الناس النَار ثمّ يَصْدُرُونَ بأعمالهم فأوّلهم كلَمْعِ البرق ثمّ كمرِّ الرّيح ثمّ كحُضْرِ الفرس ثمّ كالرّاكب ثمّ كشدِّ الرّجل ثمّ كَمَشْيهِ"5.
 
ومن الواضح أنّ اختلاف سرعة العابرين على الصراط يرجع إلى تفاوتهم في مراتب الإيمان والعمل الصالح.



1 لسان العرب، ج 7، ص 340.
2 علم اليقين، الكاشاني، ج 2، ص 967.
3 سورة مريم، الآية 71.
4 الحويزي، الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي، تفسير نور الثقلين، صححه وعلّق عليه السيد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1411 هـ. ق، قم إيران، ج 5، ص 572.
5 بحار الأنوار، ج 8، ص 249.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

99

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 ويبقى السؤال عن فلسفة دخول المؤمن إلى جهنم وخروجه منها وعبور الصراط

والجواب: إنّ مشاهدة جهنم وعذاباتها سوف تكون مقدّمة ليتنعّم المؤمنون بلذائذ الجنّة بشكل أفضل وأكبر، لأنّ الإنسان لا يعرف قدر العافية إلا إذا رأى المصيبة. فالمؤمن عند عبوره جهنّم لا يصاب بعذابها وإنّما يرى العذاب الذي فيها ويشاهده، وكما تدلّنا الروايات أنّ جهنّم تصبح عليهم برداً وسلاماً، مضافاً إلى أنّ أهل جهنّم عندما يمرّ عليهم المؤمن في طريقهم إلى الجنة يزدادون حسرةً وعذاباً.
 
شفاعة الشفعاء
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾1. وقال عزّ وجل: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا﴾2.
 
الشفاعة من المسائل الحتميّة في القيامة. والشفاعة كسائر أمور القيامة هي بيد الله عزّ وجلّ وكل من يرى له صلاحيّة الشفاعة، وهو ممن يرضى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم3.
 
إن الذي يظهر من الآيات والروايات الواردة في شأن الشفاعة - وعلى خلاف ما يظنّه بعض أتباع الباطل - أنّها لا تشمل جميع الناس، وإنّها ليست نوعاً من التلاعب. بل من تشمله هذه الخصوصيّة هو ممّن كان من أصحاب الإيمان والعمل الصالح ولكنه قصّر في بعض الأعمال أو ارتكب بعض الذنوب التي لم تمنع استحقاقه للجنّة. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا وَقَدْ سَأَلَ سُؤْلًا وَقَدْ أَخْبَأْتُ دَعْوَتِي لِشَفَاعَتِي لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"4.



1 سورة مريم، الآية 87.
2  سورة الأعراف، الآية 53.
3 سورة طه، الآية 109.
4 بحار الأنوار، ج8، ص34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

100

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 والشفاعة بالأصل لله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾1. ولغيره بالتبع. والآيات التي تنفي الشفاعة عن غير الله تعالى إنما تنفيها على نحو الإستقلال في الملك والتصرّف. أما إذا ثبتت بإذن الله وتمليكه فلا إشكال فيها. ومن المعلوم أن كل ما بالغير لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات، فالله تعالى هو المبد وإليه المنتهى.

 
ولا ريب أن تأثير الشفيع عند المشفّع لديه، لا يمكن أن يكون اعتباطياً ومن دون مقاييس وضوابط محددة، وإنما لا بد من أن يتوفّر لدى الشفيع صفات محدّدة تكون مُوجبة لقربه من المولى وعلو منزلته لديه وكرامته عنده واصطفائه من قبله. وهذه المرتبة لا ينالها إلا نبي مرسل أو وليّ منتجب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان، أو شهيد في سبيل الله، كما يستفاد من ذلك من بعض الآيات والروايات والشريعة.



1 سورة الزمر, الآية 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

101

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 المفاهيم الرئيسة

1- إنّ أعمال كل إنسان تسجّل في كتابه من قبل الملائكة الموكّلين به. 

2- ما هو مسلّم به أنّ تمام أعمال الإنسان بصغائرها وكبائرها مسجّلٌ ومحفوظٌ، وسيراها يوم القيامة مدوّنة في كتابه. 

3- إنّ ما يرضى الإنسان به من أعمال الآخرين سوف يسجّل أيضاً في كتاب أعماله. 

4- ينقسم الناس يوم القيامة بحسب كتاب أعمالهم إلى فريقين: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. 

5- أصحاب اليمين كتاب أعمالهم موجب لسعادتهم وسرورهم، وأصحاب الشمال كتاب أعمالهم موجب لحزنهم وغمّهم، وهم من خجلهم يخفونه وراء ظهورهم. 

6- المحشر هو المكان الذي يجتمع فيه الناس يوم القيامة للحساب، فبعد نفخ الإحياء يساق الناس وهم في حالة وحشة واضطراب إلى ساحة المحشر، ويحشر كلُّ أناس مع إمامهم. 

7- لا ينظر يوم القيامة أحدٌ إلى شأن الآخرين بل يهتم فقط بنجاته. 

8- الصراط جسرٌ على جهنم وهو يتناسب مع أعمال الإنسان. وهو لقسمٍ من الناس سهل العبور وواسعٌ ولآخرين رفيعٌ طويلٌ وصعب العبور. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

102

الدرس العاشر: كتاب الأعمال والمحشر والصراط

 للمطالعة

 
الصِّرَاط المُسْتَقِيم1
لكم أن تختاروا أحد الطريقين: صراط الإنسانية المستقيم، أو الانحراف يميناً أو شمالاً، فإلى أيِّ الجهتين ينحرف الإنسان يبتعد عن الإنسانية، وكلّما تقدم في إحداهما ازداد بعداً عن إنسانيته. ومن ينحرف عن الصراط المستقيم يبتعد عن طريق الإنسانية الذي جاء به الأنبياء وأمروا أن يُعَرِّفوه للناس. والله - تبارك وتعالى - يقول في سورة الحمد المباركة: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ فأولئك الذين تفضّلت عليهم بنعمة الهداية، ورحمتهم بالاستقامة على هذا الصراط ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ والمغضوب عليهم طائفة منحرفة، والضالّون أيضاً طائفة منحرفة. وهم كلّما ساروا إلى الأمام ازدادوا بُعداً.
 
وأنتم كلّما درستم، ولم يكن درسكم لا﴾ ابتعدتم عن الصراط المستقيم، وكلّما درستم أكثر بغير هذا الاسم ازددتم بعداً، ولو صرتم أعلم من في الأرض ولم يكن علمكم ﴿باسم الرَّب﴾ فأنتم أبعد مَن عليها عن الله - تبارك وتعالى - والأبعد عن الصراط المستقيم. 
 
والصراط المستقيم رأسُه جسر جهنّم، وطرفه الآخر الطبيعة، أو طرفه الجنّة، وآخر مراتب الجنَّة لقاء الله حيث لا سبيل لأحد هناك غير الإنسان، السبيل للإنسان فقط. وكلّنا الآن واقعون في جسر جهنّم، الطبيعة متن جهنّم. ففي ذلك العالم الذي يظهر فيه ستكون الطبيعة بمثابة جهنم ونحن الآن نتحرَّك في متن جهنّم. فإذا طوينا هذا الطريق في ذلك اليوم الذي‏ يظهر فيه جسر جهنَّم لأعين الناس هذه، ففي ذلك العالم يتجلّى، ومَن طوى هذا الطريق يعبر جسر جهنم، ومن لم يطوِ هذا الطريق يقع في جهنّم، ويسقط عن الجسر. والطريق المستقيم الذي ذكروا أوصافه أيضاً وسمعتموها هو أدقّ من الشعرة وهو طريق ضيِّق ومظلم.
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 8، ص 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

103

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 الدرس الحادي عشر:

الجنّة ونعيمها


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر معنى الجنّة وحقيقتها. 
2- يبيّن أوصاف الجنّة ودرجاتها. 
3- يذكّر بعض نعم الجنّة ولذائذها. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

104

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 تمهيد

كلنّا يبحث عن السعادة، ولكن لا توجد سعادة كاملة في الدنيا، فالدنيا زائلة، والسعادة الحقيقية في الجنّة ونعيمها...
والجنّة دار جعلها الله تعالى مستقرّاً لمن أطاعه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾1.
 
وهي المرحلة النهائيّة لرحلة الإنسان المؤمن، حيث هي دار القرار، ومبدأ الحياة الأبدية، التي لا زوال عنها، وهي غاية المؤمنين، ولها يعملون إذ لا نعيم يدانيها، بل كلّ نعيمٍ دونها محقور، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وكلّ نعيمٍ دون الجنّة محقور"2.
 
وهناك آياتٌ كثيرةٌ تتحدث عن خواص الجنة وأصحابها، والنِّعم الموجودة فيها من الحدائق، والأنهار، والعيون، والأطعمة، والأشـربـة الطهورة، والألبسة، والحور العين، والولدان المخلّدين، والخدم، والاحترام، والإكرام المنقطع النظير من الملائكة، وكذلك المواهب المعنويّة واللذائذ الروحية.
 
فما هي الجنة؟ وماذا أعدّ الله لأهلها؟ وما سبب ورودها والفوز بها؟
 
معنى الجنّة 
أما المعنى اللغوي: فهي بمعنى البستان، والمكان الّذي فيه زرع وثمار وأشجار، تواري من سار فيها وتستره، أمّا في المصطلح الشرعي، فإنّها الدار التي أعدّها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة.



1 سورة البروج، الآية 11.
2 الكافي، ج 8، ص 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

105

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 الوصف العام للجنّة

لأنّ الجنّة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأنّها كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1، لذلك لا يصف الله تعالى الجنة بما هو واقعها، وإنّما يصفها على نحو التقريب فيقول عزّ وجلّ: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾2. ويقول في آية أخرى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ﴾3.
 
فالله تعالى يضرب لنا المثل فقط، لأنّ الألفاظ التي نتخاطب بها نحن قد وضعت لمعانٍ نعرفها، وإذا كانت في الجنة أشياء لم ترها عين ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على بال بشر، فمن الممكن أن نقول إنّه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، وبهذا نعرف أنّ هناك فارقاً بين "مثل الجنّة" وبين "الجنّة".
 
وهنا يتجلّى عجز اللغة عن أن توجد فيها ألفاظٌ تعبّر عن معنى ما هو موجود في الجنة، فلا أحد فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة في الجنة ما دام أحد منّا لم ير الجنّة.
 
خصائص نعيم الجنّة
إنّ الجنّة لا تفنى ولا تبيد، والدليل على هذا ظاهر في كتاب الله عزّ وجلّ، قال تعالى عن الجنة: ﴿عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾4، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾5، وقال عزّ 



1 سورة السجدة، الآية 17.
2 سورة الرعد، الآية 35.
3 سورة محمد، الآية 15.
4 سورة هود، الآية 108.
5 سورة ص، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

106

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 وجلّ: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾1، وقال تعالى عن فاكهة الجنّة: ﴿لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾2

 
والإقامة في الجنّة إقامةٌ دائمة لا تنتهي ولا تزول، وليست كذلك جنات الدنيا، فهب أنّ واحداً يتمتّع في الدنيا بالدور والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنّة الدنيا، فهل تدوم له؟ إنّ جنات الدنيا مهما عظم نعيمها، إما أن تفوتك، وإما أن تفوتها. 
 
نعيم محض
إنّ الجنّة نعيم محض، فلا يعتريها ما في الدنيا من الكدورة والشقاء، فالمياه في الدنيا عندما تجري، تكون حلوة ورائقة وصافية، وإن ركدت فهي تأسن (عطن: كلمة عامية). ولذلك يوضح لنا الحقّ سبحانه أنّ المياه في الجنة غير آسنة، وأنّها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدِّرها. وكذلك فإنّ اللبن إذا بقي لمدة طويلة، يتغيّر طعمه، ولذلك يضرب لهم المثل بوجود أنهار من لبن لم يتغيّر طعمه.
 
وأيضاً يضرب المثل بوجود أنهار من عسلٍ مصفّى، وبذلك يقدم لنا خير ما كنا نحبه من عسل الدنيا، ولكن بدون ما يكدِّره. 
 
ويوضح سبحانه أيضاً أنّ في الجنة أنهاراً من خمر، ولكنّها خمرٌ تختلف عن خمرِ الدنيا، فهي لا تؤثّر على التكوين العضوي للعقل، كما أنّ خمر الدنيا ليس فيها لذة للشاربين، لأنّها من كحول يكوي الفم ويلسعه. ويقول الحقّ سبحانه عن خمر أنهار الجنة: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ *  يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ *  بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾3 أي أنّه سبحانه ينفي عن خمر أنهار الجنّة كل المكدّرات التي تشوب خمر الدنيا. 
 



1 سورة الرعد، الآية 35.
2 سورة الواقعة، الآية 33.
3 سورة الصافات، الآيات 43 – 47.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

107

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 أبواب الجنّة

تحدّثت الروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام عن أبواب الجنة، ومن ذلك ما روِي عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إنّ للجنّة ثمانية أبواب: بابٌ يدخل منه النبيّون والصدِّيقون، وبابٌ يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً على الصِّراط أدعو، وأقول: ربّ سلّم شيعتي ومحبيّ، ومن تولّاني في دار الدنيا، فإذا النداء من بطنان العرش: قد أجيبت دعوتك وشُفِّعت في شيعتك. ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولّاني، ونصرني، وحارب من حاربني بفعل أو قول، في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه. وباب يدخل سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت"1.
 
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "أحسنوا الظنّ بالله، واعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض كل باب منها مسيرة أربعين سنة"2.
 
درجات الجنّة وأنواعها
للجنّة درجات بعضها فوق بعض، وأهلها متفاضلون فيها بحسب منازلهم فيها، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾3.
 
ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾4.
 
الجنّات نفسها متنوِّعة، فهناك جنّات الفردوس، وجنّات عدن، وجنّات نعيم... وهناك دار الخلد، ودار السلام، وجنّة المأوى، وهناك عليِّون التي هي أعلى وأفضل الجنّات.



1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة، ج 8، ص 39.
2 م. ن، ص 131.
3 سورة طه، الآية 75.
4 سورة الإسراء، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

 


108

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 غرف الجنّة

يقال (غرفة) للشيء الذي يُـرفـع ويُتناول ثم أُطلق ذلك على القسم العلوي للبناء (الغرفة كما قيل: البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت وهي كناية عن الدرجة العالية في الجنّة).
 
وللجنّة غرف بعضها فوق بعض كما في جاء في القرآن الكريم: قال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾1.
 
وفي تفسير هذه الآية ما روِي عن الإمام الباقر عليه السلام: فيما سأل به أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه "... فقال علي عليه السلام: بماذا بنيت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي تلك غرف بناها الله عزّ وجلّ لأوليائه بالدرِّ والياقوت والزبرجد، سقوفها الذهب، محبوكة بالفضة، لكلِّ غرفة منها ألف باب من الذهب، على كلِّ باب منها ملك موكّل به"2.
 
نساء الجنّة
ذكر تعالى أوصافاً عديدة لنساء الجنّة، إذ يقول عزّ من قائلٍ في محكم آياته:
﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾3، والياقوت حجر كريم ثمين جداً، وهناك الياقوت الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر، ومن خصائصه أنّ كثرة مسِّه ولمسه لا تعدمه بريقه وتألّقه. وأحد دواعي تشبيه الحور بالياقوت هو جانب الصفاء والتألّق، أما الجانب الثاني في علّة تشبيه الحور بالياقوت فهو جانب اللون، فهن حمراوات كالياقوت، بيضاوات كالمرجان.
 
ويقول تعالى في وصف الحور العين: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾4.
 
(حور) جمع (حوراء) و(أحور)، وعلى قول الكثير من أرباب اللغة والمفسِّرين 
 



1 سورة الزمر، الآية 20.
2 الكافي، ج 8، ص 97.
3 سورة الرحمن، الآية 58.
4 سورة الواقعة، الآيتان 22 – 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

109

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 (شدة بياض العين في شدة سوادها) وهذا غاية جمال العين، ولقد فسّره البعض ببياض جميع الجسم، أمّا كلمة (عـيـن) جمع (أعين)، (على وزن أفضل)، و(عيناء) في الأصل بمعنى العين الـوسـيعة، وتطلق هذه الكلمة على المرأة التي تمتلك عينين واسعتين جميلتين وجذّابتين، أو الرجل كذلك.

 
- إنّ الحور العين تتصف بجميع الصفات والمحاسن وحسن الظاهر والباطن 
- والفضائل الجسمانية والروحانية والأخلاقية، وبذلك فيتصفن بكل ما هو حسن. 
 
ويقول جلّ وعلا في وصفهن: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾1
 
ويقول سبحانه وتعالى أيضاً ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2
 
فكما يدلّ التعبير على نقائها وصفائها من كل النقائص والأقذار الجسمية والـخـلقية، كذلك يشمل أيضاً نزاهتها من العيوب والأدران المعنوية والخلقية، فالزوجة في الآخرة مطهّرة من كل ما يكرهه الزوج فيها، وما لم يحبّه في الدنيا يختفي. 
 
- ومن صفاتهن ما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾3
 
أي خلقناهن عذارى، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً. ويستفاد من بـعـض الـروايات وكلمات المفسِّرين أنّ هذه الحالة حالة دائمة لا تتغيّر، و(عرب) أي متحنّنات على أزواجهنّ متحبِّبات إليهم، وقـيـل: عـاشـقـات لأزواجهنّ، وقيل: العروب، اللعوب مع زوجها، وفسّرها البعض أيضاً بمعنى الدلال.
 
طعام أهل الجنّة وشرابهم
أما طعام أهل الجنّة، فهو فاكهة ممّا يتخيّرون، ولحم طير مما يشتهون، ولا يكون أثر الطعام هناك كأثر الطعام في الدنيا.
 



1 سورة الرحمان، الآيات 56.
2 سورة البقرة، الآية 25.
3 سورة الواقعة، الآيات 35 – 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

110

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 إنّ الجنّة تحتوي على جميع ثمار وفواكه الدنيا من حيث الشكل، ولكنّها تختلف تماماً عما في الدنيا من حيث طعمها، وقد ذُكر من ثمار الجنة التين - العنب - الرمان - الطلح (الموز) والبلح (النخيل) والسدر (النبق) وجميع ما خلق الله تبارك وتعالى لأهل الدنيا من ثمار.

 
وفواكه الجنة وثمارها في متناول أيادي أهل الجنة، وأنّى شاءوا، فما أن يشتهي المؤمن فاكهة ما حتى يهبط إليه غصنها وتقترب الثمرة المطلوبة عند فمه، فهو لا يحتاج إلى النطق والإفصاح عن حاجته أو رغبته أبداً كما قال تعالى: ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾1، ومعنى كلمة (دان) هو قريب، وهي مشتقة من الدنو فإنّ ثمار الجنتين وفواكههما قد دنت إلى المؤمن وأضحت في متناول يده وعند رغبته.
 
متاع أهل الجنّة وملبسهم
وأما لباس أهلها، فهو الحرير والذهب والسندس والإستبرق، قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾2، ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾3.
 
وأما فرشها، فمن إستبرق مفروشة في أعلى الرتب، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾4
 
وأما الأرائك فهي الأسرّة ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾5.
 
أنهار الجنّة وعيونها



1 سورة الرحمن، الآية 54.
2 سورة الحج، الآية 23.
3 سورة الكهف، الآية 31.
4 سورة الرحمن، الآية 54.
5  سورة الغاشية، الآيات 13 – 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

111

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 وهي مطلب لراحة النفس في الدنيا على ما فيها من مكدّرات، فكيف إذا كانت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ وقد تكرّر في القرآن الكريم في عدة مواضع قوله تعالى ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾1.

 
وهذا يدلّ على أنّها أنهارٌ حقيقية، وأنّها جارية لا واقفة، وأنّها تحت قصورهم، وقد ذكر تعالى في آية واحدة أربعة أجناس من الأنهار، قال عزّ وجلّ: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾2.
 
وقد نفى تعالى عن كلِّ واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغيّر طعمه الى الحموضة، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته.
 
وللجنّة أنهار وعيون تنبع كلها من الأنهار الأربعة الخارجة من الفردوس الأعلى، وقد ورد ذكر أسماء بعضها في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة منها: نهر الكوثر، وعين تسنيم.
 
يصف أمير المؤمنين عليه السلام نهر الكوثر فيقول عليه السلام: "وإنّ الكوثر ليفرح بمحبِّنا إذا ورد عليه، حتى أنّه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه،... من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ولم يستق بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمرّ بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدرِّ والياقوت، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضّة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كلّ فائحة حتى يقول



1 سورة البقرة، الآية 25.
2 سورة محمد، الآية 15.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

112

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 الشارب منه: يا ليتني تركت ها هنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً"1.

 
بالإضافة إلى أعين أخرى كعين السلسبيل، وهي شراب أهل اليمين، ويمزج لهم بالزنجبيل، والعين التي مزاجها الكافور، وهي شراب الأبرار، وجميعها أشربة لا تسكر ولا تصدع ولا تذهب العقل، بل تملأ شاربيها سروراً ونشوة لا يعرفها أهل الدنيا، يطوف عليهم بها ولدان مخلّدون كأنّهم لؤلؤ منثور، بكؤوس من ذهبٍ وقوارير من فضّة. 
 
النعم الروحيّة 
إضافة إلى كلِّ ما ذكر من الملذّات الجسمانية، فهناك ملذّات ونعم روحيّة كانت في الدنيا أملاً وأمنية، وهي لقاء رسول الله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام، ومجاورتهم والاتصال بهم، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لأمير المؤمنين عليه السلام: "وإنّك أوّل من يرد عليّ الحوض، وإنّك على الحوض خليفتي، وإنّك أوّل من يكسى معي، وإنّك أوّل داخل الجنّة من أمتي، وإنّ شيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي أشفع لهم، ويكونون غداً في الجنّة جيراني"2.
 
والأعظم من كلِّ ما ذكر مكالمة الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن، يقول الله تعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾3.



1 بحار الأنوار، ج 8، ص 23.
2 م. ن، ج 37، ص 272.
3 سورة يس، الآية 58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

113

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 المفاهيم الرئيسة

1- الجنّة هي الدار التي أعدّها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة. 
 
2- الجنّة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. 
 
3- إنّ الجنّة لا تفنى ولا تبيد وهي نعيم محض، فلا يعتريها ما في الدنيا من الكدورة والشقاء، فالمياه في الدنيا عندما تجري، تكون حلوة ورائقة وصافية، وإن ركدت فهي تأسن. ولذلك يوضح لنا الحق سبحانه أنّ المياه في الجنة غير آسنة، وأنّها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدرها. 
 
4- للجنّة درجات بعضها فوق بعض، وأهلها متفاضلون فيها بحسب منازلهم فيها، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾. 
 
5- إنّ الحور العين تتصف بجميع الصفات والمحاسن وحسن الظاهر والباطن والفضائل الجسمانية والروحانية والأخلاقية. 
 
6- أمّا طعام أهل الجنة فهو فاكهة ممّا يتخيّرون، ولحم طير مما يشتهون، ولا يكون أثر الطعام هناك كأثر الطعام في الدنيا. وأما لباس أهلها، فهو الحرير والذهب والسندس والإستبرق. 
 
7- للجنّة أنهار وعيون تنبع كلها من الأنهار الأربعة الخارجة من الفردوس الأعلى وقد ورد ذكر أسماء بعضها في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة: نهر الكوثر، وعين تسنيم، وعين السلسبيل وهي شراب أهل اليمين ويمزج لهم بالزنجبيل. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

114

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 للمطالعة

 
من هو هذا الإنسان1؟!
الإنسان الذي يرى نفسه محور الوجود - رغم أن الإنسان الكامل كذلك - غير معلوم أنّه كذلك في نظر سائر الموجودات. والبشر الذين لم يبلغوا الرشد ليسوا كذلك ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾2.
 
بنيّتي: بُعِث الأنبياء ليعطوا البشر الرشد المعنوي ويخلصوهم من الحُجُب.. وللأسف، فقد أقسم الشيطان وبواسطة أذنابه، أن لا يدع أهدافهم تتحقّق ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾3.
 
أما نحن فإنَّنا جميعاً نيام ومبتلون بالحجب "الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا"4 كأنَّ جهنم محيطةٌ بنا، وخدر الطبيعة مانعٌ من الشُّهود والإحساس ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾5.
 
وللكفر مراتب كثيرة. رؤية النفس ورؤية العالم والنظر إلى غير الله من مراتب ذلك. أوّل سورة من القرآن، إذا تدبّرناها ونظرنا إليها بعين غير هذه العين الحيوانية ووصلنا إليها بعيداً عن الحجب الظَّلمانية والنورانية فإنّ ينابيع المعارف سوف تتدفَّق إلى القلب، ولكن للأسف فنحن لا زلنا غافلين حتى عن افتتاحها (ومن اطلع وخرج من الغفلة لم يصلنا خبره).
 
وأنا القائل الغافل وغير العامل، أقول لابنتي تدبَّري القرآن الكريم، هذا المنبع للفيض الإلهي، ورغم أنَّ قراءته باعتباره رسالة المحبوب إلى السامع المحجوب لها 



1وصايا عرفانية، ص 112 ـ 114.
2 سورة الجمعة، الآية 5.
3 سورة ص، الآية 82.
4 بحار الأنوار، ج 4، ص 43.
5 سورة التوبة، الآية 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

115

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 أثار محببة، لكنّ التدبّر فيه يهدي الإنسان إلى المقامات الأعلى والأسمى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾1. وما لم تُفتح هذه الأقفال والأغلال وتتحطّم، فلن يحصل من التدبّر فيه أية نتيجة. يقول الله المتعال بعد قسم عظيم: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾2

 
وطليعة أولئك هم الذين نزلت فيهم آية التطهير.
 
أنتِ أيضاً لا تيأسي لأنّ اليأس من الأقفال الكبرى، واسعي قدر الميسور في رفع الحجب وكسر الأقفال للوصول إلى الماء الزلال ومنبع النور.
 
ما دام الشباب في يدك فجدّي في العمل وفي تهذيب القلب وكسر الأقفال ورفع الحجب، فإنَّ آلاف الشباب الذين هم أقرب إلى أفق الملكوت يوفّقون لذلك ولا يوفّق هرِمٌ واحد.
 
القيود والأغلال والأقفال الشيطانية إذا غُفل عنها في (مرحلة) الشباب تضرب جذورها في كلِّ يوم يمضي من العمر وتصبح أقوى "الشجرة التي تُقتلع الآن من جذورها بقوة تصبح بمرور الزمان عصيةً لا يمكن اقتلاعها"(شعر فارسي).
 
ومن مكائد الشيطان الكبرى والنفس الأخطر مما ذكرت، أنهما يعدان الإنسان بالإصلاح في آخر العمر وزمان الشيخوخة، ويؤخّران التهذيب والتوبة إلى الله إلى الزمان الذي تصبح فيه شجرة الفساد وشجرة الزقوم قوية والإرادة والقدرة على التهذيب ضعيفتين بل ميتتين.
 
لا تبتعدي عن القرآن! ففي هذه المخاطبة بين الحبيب والمحبوب والمناجاة بين العاشق والمعشوق أسرار لا سبيل لأحدٍ إليها غيره هو وحبيبه.
 
لعل الحروف المقطعة في بعض السور مثل ﴿الم﴾ ﴿ص﴾ ﴿يس﴾ من هذا القبيل.. وكثيرٌ من الآيات الكريمة التي لكلٍّ من أهل الظاهر والفلسفة والعرفان والتصوّف تفسيره أو تأويله الخاص لها، هي أيضاً من هذا القبيل.. 



1 سورة الواقعة، الآيات 77 ـ 79.
2 سورة محمد، الآية 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

116

الدرس الحادي عشر: الجنّة ونعيمها

 وتصل إلى الآخرين نفحةٌ من هذه الأسرار بواسطة أهل بيت الوحي الذين جرت عليهم الأسرار من منبع الوحي الفوار، وتصل منهم إلى آخرين وآخرين كلٌّ بمقدار قابليته. وربما يكون أكثر المناجاة والأدعية الواردة قد خصَّص لهذه الطريقة في التربية والتهذيب.


الإمام الخميني قدس سره
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

117

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها


أهداف الدرس:
1- يبيّن أهم خصوصيات جهنّم ودرجاتها. 
2- يذكر أنواع العذاب في جهنّم. 
3- يذكر صفات أهل جهنّم وأنواعهم وما يجري عليهم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

118

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 تمهيد

جهنم هي دارٌ أعدّها الله لمن كفر به، ولمن آمن به وعصاه، وهم الذين ألبسوا إيمانهم بظلم، وفيها ألوان من العذاب لا يطيقها هذا الإنسان الضعيف، وهو عذاب وصفه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "ليس هو جَرْحاً بالمُدَى ولا ضرباً بالسياط ولكنّه ما يُستصغر ذلك معه. فإيّاكم والتلوّن في دين الله"1
 
خصوصيّات جهنّم
لقد ذكرت الآيات القرآنية والروايات بعض خصوصيّات نار جهنّم، قال تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾2. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾3.
 
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ جبرائيل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا محمد قد وُضعت منافخ النار. قال صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافخ النار يا جبرائيل؟ 
 
قال: يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ أمر بالنار فنُفخ عليها ألف عام حتى ابيضّت ثم نفخ عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة لو أنّ قطرةً من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ولو أنّ حلقةً واحدةً من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها..."4.



1 نهج البلاغة، خطبة، 17.
2 سورة الفرقان، الآية 12.
3 سورة الفرقان، الآية 13.
4 بحار الأنوار، ج 8، ص 280.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

119

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 أبواب جهنّم ودركاتها 

ذكرت بعض الآيات أنّ لجهنّم أبواباً كما للجنّة أبواباً. ولكن هناك آية وحيدة ذكرت عدد أبواب جهنّم دون ذكر لعددها في الجنّة، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾1.

 
فما المراد من الأبواب؟ هل هي طرق دخول الناس إلى جـهنّم؟ أم أنّ المقصود هو طبقاتها ودركاتها التي ذكرها الكثير من الروايات؟
 
لدى المفسرين في هذا قولان:
القول الأول: إنّها سبع طبقات: بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدركات، ويدل على كونها كذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار﴾2.
 
ويطلق في اللغة العربية على الخطوات الصاعدة نحو الأعلى اسم (الدرجة) وعلى النازلة إلى الأسفل اسم (الدركة). 
 
وهناك روايات عديدة وردت عن أهل البيت عليهم السلام تشهد على هذا التفسير، منها ما رواه في المجمع عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "أنّ جهنّم لها سبعة أبوابٍ أطباق بعضها فوق بعض، ووضع إحدى يديه على الأخرى، فقال عليه السلام: هكذا، وإنّ الله وضع الجنان على العرض، ووضع النّيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنّم وفوقها لظى وفوقها الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية، قال وفي رواية أسفلها الهاوية وأعلاها جهنّم"3.
 
والقول الثاني: إنّ قرار جهنّم مقسوم سبعة أقسام، ولكلِّ قسمٍ باب، أولها: جهنّم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السّعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. 



1 سورة الحجر، الآيتان 43 – 44.
2 سورة النساء، الآية 145.
3 بحار الأنوار، ج 8، ص 246.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

120

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 وقوله تعالى: ﴿لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾1، معناه: أنّه تعالى يجزّىء أتباع إبليس أجزاء، بمعنى أنّه يجعلهم أقساماً وفرقاً، ويدخل في كلِّ قسم من أقسام جهنّم طائفة من هؤلاء الطوائف.

 
والخلاصة إنّ أعمال الإنسان مختلفة، وأصناف المجرمين والكفار متباينة، لهذا فإنّ عقوباتهم في العالم الآخر غير متساوية، وتختلف فيما بينها اختلافاً شاسعاً.
 
أهل جهنّم
إنَّ أهل جهنّم فريقان:
1- فريقٌ يمكث في عذاب جهنّم لمدّة من الزمن ثم يخرجه الله منها. 
2- فريقٌ مصيره جهنّم إلى أبد الآبدين، ويعبّر عنهم القرآن بأنهم خالدون فيها أبداً. وهؤلاء هم الذين لا أمل لهم بالنَّجاة والذين أحاط بهم الكفر من كلّ جانب، قال تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾3.
 
وفي رواية ابن أبي حمير عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: قال: "لا يخلّد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك"4.
 
وفي رواية أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام: "يا أبا بصير! إنّ أعداء علي هم الخالدون في النار لا تدركهم الشفاعة"5.



1 سورة الحجر، الآية 44.
2 سورة البقرة، الآية 81.
3 سورة آل عمران، الآية 116.
4 بحار الأنوار, ج 8، ص 351.
5  م. ن, ج 8، ص 361.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

121

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 وما ينبغي الإشارة إليه في المقام، أنّ الشيعي لا ينبغي أن يصيبه الغرور من أنّه لا يدخل إلى جهنّم أو لا يخلد فيها فيقدم على ارتكاب الذنوب ويتجرّأ على المعاصي لأنّه لا يعلم الإنسان ماذا تكون عاقبة أمره. بالإضافة إلى أنّ القليل من عذاب جهنّم ليس سهلاً بل قد يطول آلاف السنين من سنين هذه الدنيا!

 
إنَّ مسألة الشفاعة وإن كانت من الأصول المسلّمة ولكن لا يُعلم من تشمل. والشفاعة تعطي الأمل ولكن لا ينبغي أن يصاب الإنسان بالغرور لأنّه قد يكون شيعيّاً ولكن قد لا يجيز الله تعالى له الشفاعة.
 
أنواع العذاب في جهنّم
كما أنّ الـثـواب الإلهي والنعم الموجودة في الجنّة تقسم يوم القيامة إلى قسمين، (روحية) و(مادية)، فكذلك عذاب جهنّم أيضاً، يقسم هو الآخر إلى نوعين: روحي، ومادي.
 
من ألوان العذاب الماديّ:
1- إنضاج الجلود: 
إنّ نار الجبّار سبحانه وتعالى تحرق جلود أهل النّار. والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإنّ الله يبدِّل لهم جلوداً أخرى غيرها، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾1.
 
2- صبّ الحميم والصهر: 
من ألوان العذاب صبّ الحميم فوق رؤوسهم. والحميم هو ذلك الماء الذي لا يُتصوّر مقدار حرارته، فلشدة حرارته تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾2.



1 سورة النساء، الآية 56.
2 سورة الحج، الآيتان 19 – 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

122

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 3- اللّفح: 

إنّ النّار تلفح وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾1.
 
وقال ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾2
 
4- السّحب: 
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار على وجوههم في النّار، يقول تعالى واصفاً هذه الحالة: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾3.
 
لباس أهل النّار
وكما في النّار طعام وشراب ففيها أيضاً اللباس، وليس اللباس لوقايتهم من الحرِّ، وإنّما هو زيادة في العذاب، قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾4، فهي ثياب من نار. 
 
وقال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَاد ِ* سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾5، والقطران هو النحاس.
 
طعام أهل النّار وشرابهم 
إنّ أهل النار يأكلون ويشربون، ولهم ألوان خاصة من الأطعمة والأشربة، ولكنّها كلّها لا تغني من جوعٍ، ولا تروي من ظمأ.
 
وأحد تلك الأطعمة (الزقوم)، وهي شجرة عظيمة مهيبة تنبت في قعر جهنّم ولها 



1 سورة الأنبياء، الآية 39.
2 سورة المؤمنون، الآية 104.
3 سورة القمر، الآيتان 47 – 48.
4 سورة الحج، الآية 19.
5 سورة إبراهيم، الآيتان 49 –50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

123

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 ثمر، قال تعالى ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *  كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾1. وهي كما وصفها المولى عزّ وجلّ في كتابه ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾2.

 
وهي اسم لعشب مرٍّ كريهِ الرائحة له أوراقٌ صغيرة، وهو عشب عصارته شديدة المرارة وحادة الطعم إذا لامس الجسم تورم. 
 
أما الضريع فهو كالزقّوم، يقطع الأحشاء من شدة حرارته، ولا يتجرّعه المجرمون من فرط مرارته. 
 
وأما الغسّاق كما في قوله تعالى: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾3، فقد قيل: إنه القيح الغليظ المنتن.
 
وأما الأشربة الوارد ذكرها في القرآن الكريم، فمنها (الحميم)، ومعنى كلمة (الحميم) هو الماء المغلي، أمّا كلمة (آن) فهي تعني (بالغ) وهي صفة للحميم، فماء جهنّم يصل إلى أقصى درجات السخونة والغليان بحيث إنّ حرارته تقطع لحم وجه الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾4.
 
كما أنّه يقطع الأمعاء ﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ﴾5.
 
أمّا (الغسلين) الذي ذكرته الآية الشريفة: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ﴾6، فإنّ الـمـعروف بين المفسِّرين وأصحاب اللغة أنّه دم يشبه الماء يخرج من أبدان أصحاب النّار، وبما أنّه يـشبه الماء الذي يغسل به الإنسان، سُمّي بـ (الغسلين).



1 سورة الدخان، الآيات 43 – 46.
2 سورة الصافات، الآية 65.
3 سورة ص، الآية 57.
4 سورة الكهف، الآية 29.
5 سورة محمد، الآية 15
6 سورة الحاقة، الآيات 35 – 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

 


124

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 وشرابهم فيها ماء صديد، قال تعالى ﴿وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ﴾1، (دم و قيح) يتجرّعه (يشربه غصباً) ولا يكاد يسيغه.

 
من ألوان العذاب الروحيِّ
يتعرض أهل النّار لعذاب من نوع آخر، غير العذاب الجسديّ، وهو العذاب الروحيّ. وقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمثلة لهذا العذاب منها:
1- المهانة: 
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾2.
 
تـدل هذه الآية وغيرها أنّ عذاب الجحيم مـقـرون بأنواع الإهانة والتحقير والاستهانة والغم والحزن الذي يعاني منه أصحاب جهنّم وهو ما يعكس آلامهم النفسية: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾3، فيقوم خزنتها بإرجاعهم إليها ليذوقوا العذاب.
 
2- كثرة اللوم والتقريع: 
وتقول الآية المباركة: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾4، فيقال لهم من قبل الله تعالى: ﴿قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾5.
 
وقـد صـرّح أصحاب اللغة والمفسِّرون بأنّ كلمة (إخسأ) تعبير يستخدم لطرد الكلب، وأنّ استخدامه هنا فيه دلالة على احتقار هؤلاء الظلمة والمستكبرين.



1 سورة إبراهيم، الآيتان 15 – 16.
2 سورة الحج، الآية 57.
3 سورة الحج، الآية 22.
4 سورة المؤمنون، الآية 107.
5 سورة المؤمنون، الآية 108.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

125

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 3- الحسرة: 

قال تعالى ﴿َوَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1.
 
وقال عزّ من قائل ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾2.



1 سورة سبأ، الآية 33.
2 سورة الفرقان، الآيات 27 ـ 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

126

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 المفاهيم الرئيسة

1- تحضر جهنّم يوم القيامة ولها تغيُّظٌ وزفير ولها الكثير من الخصوصيات الأخرى. 
 
2- يُغلّ الكافرون في جهنّم. وقد ذكر القرآن الكريم لجهنّم سبع دركات وقد وردت أسماؤها في الروايات "جحيم، لظى، سقر، حاطمة، هاوية، سعير، جهنم". 
 
3- ذكر بعض الآيات أنّ لجهنّم أبواباً كما للجنة أبواباً، ولكن هناك آية وحيدة ذكرت عدد أبواب جهنّم وهي قوله تعالى ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾.
 
4- كـمـا أنّ الـثـواب الإلهي والنعم الموجودة في الجنّة تقسّم يوم القيامة إلى قسمين (روحيّة) و(ماديّة) فكذلك عذاب جهنّم أيضاً يقسّم هو الآخر إلى نوعين: روحيّ، وماديّ. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

127

الدرس الثاني عشر: جهنّم وأهلها

 للمطالعة

المفاسد من الإنسان1
إن جميع المفاسد من الإنسان ومن نفسه، فهي لا تأتينا من مكان آخر إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم. إنّ المفاسد الكبيرة التي يشهدها البشر كلها من فساد الإنسان نفسه ومن فساد الحكومات والنفوس الخبيثة. فكل ما يأتينا في الآخرة فهو منّا. إنّنا الآن نجتاز الصراط الذي أحد جانبيه في الدنيا وجانب آخر في الآخرة، ونحن نسير في الصراط الآن. فإذا رفع الستار سنشاهد صراط جهنم الذي هو النار يحيط بكم، عليكم باجتياز هذا الفساد سالمين. إنّ الأنبياء يجتازونه قائلين: (جزناها وهي خامدة). إنّ النيران مطفأة لهم. كما كانت برداً وسلاماً على إبراهيم فيجتازها المؤمنون بسلام، فهي ليست خامدة ولكنها لا تضرّهم. إنّها صدى لهذا العالم، فليست شيئاً مستقلاً، فهي ما نراه في الدنيا، فكل ما يحصل في الآخرة صدى لما نشاهده في هذا العالم. إننا الآن نعبر الصراط وإن الصراط في جهنم وهي للأنبياء العظام والأولياء الكبار خامدة. فجهنم خامدة للمؤمنين وهي محيطة بالكافرين ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ولم يرد (ستحيط) بل هي محيطة الآن ولكننا لا ندرك ذلك. إن العين مغمضة هنا وعليها حجاب فإذا رفع الحجاب فمن كان من جهنم رأى نفسه فيها، ومن كان من الجنة رأى نفسه فيها، فالبرزخ جنة له. كما أنّ البرزخ جهنّم للثاني "القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة". فإذا نظرت العين إلى هناك ستظهر أشياء جديدة وهذه الأشياء الجديدة لا يمكن تداركها هناك بل يجب أن نفكِّر فيها اليوم.
 
الإمام الخميني قدس سره



1 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 18، ص 397.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

128

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 الدرس الثالث عشر:

الرَّجعة


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى الرّجعة في العقيدة الإسلاميّة. 
2- يذكر بعض الأدلّة العقلية والنَّقلية للرجعة. 
3- يبيّن الفئات المستهدفة في مسألة الرجعة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

129

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 معنى الرّجعة

وردت أحاديث كثيرة، تتحدّث عن مسألة الرّجعة، وقد رواها أكثر من أربعين من الثقاة العظام وكبار العلماء وأثبتوها في مؤلّفاتهم كالشيخ الكليني والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والسيد المرتضى والسيد ابن طاووس، وغيرهم من أقطاب المذهب الجعفري حتى ادُّعيّ التواتر في هذه المسألة.
 
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس منا من لم يؤمن برجعتنا"1.
معنى الرجعة: الرجعة هي عبارة عن عودة قوم عند قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ممن تقدّم موته من أوليائه وشيعته إلى الحياة الدنيا، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، وحشر قوم من أعدائه لينتقموا منهم وينالوا بعض ما يستحقّونه من العذاب والقتل على أيدي شيعته، وليبتلوا بالذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته. وهي مختصة بمن محّض الإيمان ومحّض الكفر. عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم عليه السلام من مَحَضَ الإيمان محضاً أو مَحَضَ الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب"2.
 
الآيات الدّالة على الرّجعة
يوجد آياتٌ عديدةٌ دلّت على الرجعة وفقاً للتفسير الذي ورد عن أهل البيت عليهم السلام،ومن هذه الآيات: 



1 بحار الأنوار، ج 155، ص 320.
2 م. ن، ج 6، ص 253.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

130

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 - الآية الأولى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾1. 

هذه الآية المباركة دلّت على الرجعة باعتبار أنّ الحشر الأكبر يوم القيامة يكون لكل النَّاس وليس للبعض دون الآخر أما هذه الآية فقد صرّحت بأنّ الحشر للبعض دون الآخر.
 
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية المباركة عندما سئل عليه السلام ما يقول النَّاس فيها، يقول الراوي قلت يقولون إنّها في القيامة، فقال عليه السلام: "أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجاً ويترك الباقين؟ إنّما ذلك في الرجعة، فأما آية القيامة فهذه: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾2".
 
- الآية الثانية: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾3
 
ومعناها أنّه إذا نزل العذاب عليهم عند اقتراب السّاعة، أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمهم بلسان يفهمونه، ودابة الأرض هي أمير المؤمنين عليه السلام كما تضافرت الأخبار بذلك عندنا حيث يخرج قبل يوم القيامة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان فيضرب المؤمن فيما بين عيني بالعصا، فينتقش فيها أنّه مؤمن حقاً، ويسم الكافر بين عينيه فينتقش فيه أنه كافر حقاً. 
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "أنا باب المَقَامِ وحجّة الخِصَامِ ودَابَّةُ الأرض وصاحب العصا وفَاصِلُ القضاء وسفينة النّجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"4.
 
- الآية الثالثة: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾5



1 سورة النمل، الآية 83.
2 بحار الأنوار، ج 53، ص 51.
3 سورة النمل:، الآية 82.
4 م. س، ج 1، ص 5.
5 سورة القصص، الآية 85.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

131

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسيرها قال: "ما أحسب نبيّكم إلا سَيطَّلِع عليكم إطّلاعَة"1.

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا والله لا تنقضي الدّنيا ولا تذهب حتى يجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام فيلتقيان ويبنيان بِالثُّوَيَّة، وهو موضعٌ بالكوفة، مسجداً له اثنا عشر ألف باب"2.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "رحم الله جابراً بلغ من فقه أنّه كان يعرف تأويل هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ يعني الرجعة"3.
 
﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾4.
 
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾5.
 
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾6.
 
الروايات الدالة على الرجعة
أما الروايات الدالة على الرجعة فهي كثيرة وادُّعي فيها التواتر نذكر منها:
ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لترجعنّ نفوس ذهبت، وليقتصنّ يوم يقوم ومن عذب يقتص بعذابه، ومن أُغيظ أغاظ له بغيظه، ومن قُتل اقتص بقتله، ويرد لهم أعداءهم معهم حتى يأخذوا بثأرهم، ثم يعمرون بعدهم ثلاثين شهراً ثم يموتون في ليلة واحدة، قد أدركوا ثأرهم وشفوا أنفسهم ويصير أعداؤهم إلى أشد النار عذاباً، ثم يقفون بين يدي الجبار (عزّ وجلّ) فيأخذ لهم بحقوقهم"7.



1 بحار الأنوار، ج 53، ص 113.
2 م. ن، ص 114.
3 م. ن، ج 22، ص 99.
4 سورة غافر، الآية 11.
5 سورة غافر، الآية 51.
6 سورة الأنبياء، الآية 95.
7 بحار الأنوار، ج 53، ص 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

132

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 من واضح أنّ هذه الرواية تتحدّث عن أناس يرجعون ويقتصّون من قاتليهم، ويثأرون منهم. وهذا الرجوع ليس يوم القيامة، لأنّه في يوم القيامة يرجع ويُبعث كل النَّاس والله تعالى هو الذي يتولى حساب النَّاس، بل في يوم القيامة يذهل النَّاس عن بعضهم البعض لهول المطلع: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾1.

 
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾2.
 
أما في هذه الرواية فإنّ المظلوم يقتص من ظالمه، والمقتول يثأر من قاتله، ويعيشون فترة من الزمن ثم يموتون ليُبعثوا بعدها يوم القيامة.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال المأمون للرضا عليه السلام: يا أبا الحسن ما تقول في الرجعة؟ قال عليه السلام: إنها الحق، قد كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون في هذه الأمة كل ما كان من الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة"3، وقال عليه السلام: "إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى ابن مريم عليه السلام فصلى خلفه"4، وقال عليه السلام: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء، قيل يا رسول الله ثم يكون ماذا، قال ثم يرجع الحق إلى أهله"5.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّي سألت الله في إسماعيل أن يبقيه بعدي فأبى، لكنه قد أعطاني فيه منزلة أخرى، إنه يكون أوّل منشور في عشرة من أصحابه ومنهم عبد الله بن شريك وهو صاحب لوائه"6.
 
وروي عن داوود الرقي قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام: إنّي كبرت ودق عظمي أحب



1 سورة الحج، الآية 2.
2 سورة عبس، الآيات 34 - 37.
3 بحار الأنوار، ج 9، ص 249.
4 م. ن، ج 25، ص 135.
5 م. ن.
6 م. ن، ج 53، ص 76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

133

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 أن يختم عمري بقتل فيكم. فقال عليه السلام: "وما من هذا بدّ إن لم يكن في العاجلة يكون في الآجلة، أي في الرجعة"1.

 
وروى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن المفضّل قال: ذكرنا القائم ومن مات من أصحابنا ينتظره فقال لنا أبو عبد الله عليه السلام: "إذا قام أتى المؤمن في قبره، فيقال له يا هذا إنّه قد ظهر صاحبك فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربك فأقم"2.
 
وروي أيضاً عن الصادق عليه السلام قال: "يخرج مع القائم من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى عليه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف ويوشع بن نون وسليمان وفي نسخة سلمان وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً"3.
 
وتوجد روايات كثيرة جدّاً تتحدَّث عن نفس المضمون لا مجال لذكرها كلِّها هنا، كما وذُكرت الرَّجعة كثيراً في الأدعية والزّيارات الواردة عن المعصومين عليهم السلام كما يأتي.
 
الرّجعة في الأدعية والزّيارات
في الزيارة الجامعة الكبيرة المشهورة المرويّة عن الإمام الهادي عليه السلام: "ويكرّ في رجعتكم، ويملك في دولتكم ويشرف في عافيتكم ويمكن في أيامكم، وتقرّ عينه برؤيتكم"4.
 
وفي زيارة وداع المعصومين عليهم السلام: "ومكنّني في دولتكم، وأحياني في رجعتكم"5.
 
وفي زيارة الأربعين: "وأشهد أنّي بكم مؤمن وبإيابكم موقن"6.



1 بحار الأنوار، ج 25، ص 308.
2 م. ن، ج 53، ص 459.
3 م. ن، ص 90.
4 م. ن، ج 99، ص 154.
5 م. ن، ج 53، ص 92.
6 م. ن، ج 98، ص 322.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

134

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 وفي الزيارة الجامعة الرجبية التي رواها ابن طاووس: "ويرجعني من حضرتكم خير مرجع إلى جنابٍ مُمْرِعٍ وخَفْضٍ موّسَعٍ... حتى العود إلى حضرتكم والفوز في كرّتكم"1.

 
وكذلك ما ورد في دعاء العهد في زمن الغيبة: "اللهم وإن كان الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرّداً قناتي ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي"2.
 
زمان حدوث الرجعة
إنّ ما يستفاد من الروايات أنّ زمان الرجعة هو عند ظهور صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. ومن أحد أهداف الرّجعة خروج بعض المؤمنين لنصرة صاحب العصر والزَّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وليقاتلوا بين يديه ويثأروا من قاتليهم.
 
يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إذا ظهر القائم ودخل الكوفة بعث الله تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صدّيق فيكونون في أصحابه وأنصاره"3.
 
وأيضاً الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا آن قيام القائم مُطر النَّاس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب لم ترَ الخلائق مثله، فيُنبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، وكأنّي أنظر إليهم مقبلين من قِبَلِ جهينة ينفضون شعورهم من التراب"4.
 
هذا بالإضافة إلى الفقرة التي ذكرناها من دعاء العهد في زمن الغيبة: "فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني".



1 م. س، ج 99، ص 195.
2 مصباح الكفعمي، ص 550.
3 م. ن،ج 53، ص 390.
4 م. ن، ص 90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

135

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 الحكمة من الرجعة

إنّ كل ما يصدر عن الحكيم لا بدّ أن يكون داخل إطار الحكمة ووجود الهدف تنزيهاً له عن اللغو والعبث، وكذلك الرجعة لا بد أن تكون موافقة لقانون الحكمة ووجود الهدف من ورائها، وإن خفيت عنا بعض تلك الوجوه للحكمة. نذكر هنا بعض الأهداف التي نطقت بها الروايات.
 
1- الرّجوع لنصرة الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا قَامَ أَتَى الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ يَا هَذَا إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صَاحِبُكَ فَإِنْ تَشَأْ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ فَالْحَقْ وَإِنْ تَشَأْ أَنْ تُقِيمَ فِي كَرَامَةِ رَبِّكَ فَأَقِمْ"1
 
2- رجوع بعض المؤمنين للاقتصاص والثأر من قاتليهم مثل: 
أ- رجوع الأنبياء لنصرة الإمام علي عليه السلام2.
ب- رجوع الإمام علي مع الإمام الحسين عليه السلام للانتقام من بني أمية ومعاوية ومن شهد حربه3.
ج- رجوع المؤمنين للانتقام من قاتليهم، كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لترجِعَنَّ نفوس ذهبت ولَيُقتصَّنّ يوم يقوم ومن عُذِّبَ يَقْتَصُّ بعذابه ومن أُغِيظَ أَغَاظَ بِغيظهِ ومن قُتِلَ اقْتَصَّ بقتله ويُرَدُّ لهم أعداؤهم معهم حتّى يأخذوا بثأرهم..."4.
 
من هم الذين يرجعون؟
إنّ من المسلّم به أنّ هناك قوماً من الذين ماتوا أو استشهدوا قبل ظهور الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف سيرجعون عند ظهوره المبارك، ولكن اختلفت الروايات حول أنّه هل 



1 بحار الأنوار، ج 53، ص 91.
2 م. ن.
3 م. ن، ص 74.
4 م. ن، ج 2، ص 44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

136

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 عامة المؤمنين يرجعون أم خصوص بعضهم؟

 
1- رجوع عامة المؤمنين: هناك روايات تدل على رجوع عامة المؤمنين لأنّ من مات يرجع ليذوق القتل، ومن قُتل يرجع ليذوق الموت كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾1 ليس أحد من المؤمنين قُتل إلا سيرجع حتى يموت ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى يُقتل"2
 
2- رجوع قوم خاصين من المؤمنين والكافرين: كما عن الإمام الصادق عليه السلام: "وأن الرجعة ليست بعامة وهي خاصة لا يرجع إلا من محّض الإيمان محضاً أو محّض الكفر محضاً"3
 
3- رجوع الإمام الحسين عليه السلام: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أول من تنشقّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السلام"4
 
4- رجوع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام: كما ورد أيضاً عن الصادق عليه السلام: "لا والله لا تنقضي الدنيا ولا تذهب حتى يجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام فيلتقيان ويبنيان بالثوية مسجداً، وهو موضع بالكوفة"5
 
5- رجوع كل الأنبياء والمرسلين: وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "فلم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا ردّهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام"6
 
على كل حال لا شك ولا ارتياب أنّ الرجعة ثابتة لما ورد من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 



1 سورة النمل، الآية 83.
2 بحار الأنوار، ج 53، ص 44.
3 م. ن، ص 29.
4 م. ن، ج 53، ص 39.
5 م. ن، ص 44.
6 م. ن، ص 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

 


137

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 والأئمة المعصومين عليهم السلام ولما اشتُهر من أقوال العلماء الأبرار وأجمع عليه فقهاء الشيعة الأخيار، وأنّه ثبت بالقطع خروج بعض الأموات من قبورهم، وأنّها من ضروريات المذهب، وقد ألّف فيها نحو خمسين مؤلّفاً، والاختلاف في عدد وخصوصيات وصفات الراجعين لا يضرّ في صحة ثبوت المسألة كما اختلف في كيفية الصراط وصفات الجنة والنار ولكن هذا الاختلاف لم يؤدِ إلى نفي الثبوت وإنكار الوجود.

 

 

 

 

 

 

163


138

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 الأفكار الرئيسة

1- إنّ الرجعة قد ذكرت في الكثير من الأحاديث بما يقرب من مائتي رواية وقد ذكرها العظام من الرواة الثقاة وادعي تواتر معناها. 

2- وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس منا من لم يؤمن بالرجعة".

3- الرجعة هي عودة قوم عند قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ممن تقدم موتهم عند قيامه من أوليائه وشيعته إلى الحياة الدنيا ليفوزوا بثواب نصرته ويكحلوا أنظارهم بالنَّظر إلى جمال طلته ويروا قيام دولته. 

4- ويعود إلى الحياة أيضاً قوم من أعدائه لينتقم الله تعالى منهم لينالوا ما يستحقون من القتل والعذاب على أيدي أصحاب الإمام الخلَّص. 

5- يمكن الاستدلال على الرجعة من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

139

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 للمطالعة

 
سوار القاضي والرجعة1
قال الحارث بن عبد الله الربعي: كنت جالساً في مجلس المنصور وسوار القاضي عنده، والسيّد الحِميري ينشده: 
إنّ الإله الذي لا شيء يشبهه           أتــاكم المــلك للدنيا وللدين
أتاكم الله مــلكاً لا زوال له             حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحــب الهند مأخوذ برمته           وصاحب الترك محبوس على هون
 
حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور. فقال سوار: إنّ هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، والله إنّ القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنّه لينطوي على عداوتكم، فقال السيد: والله إنّه لكاذب، وإنّني في مدحتك لصادق، وإنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإنّ انقطاعي إليكم ومودتي لكم أهل البيت، لمعرّق فيها من أبويّ، وإنّ هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام في أهل بيت هذا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ فقال المنصور: صدقت. فقال سوار: يا أمير المؤمنين إنّه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما، فقال السيد: أما قوله: إنّي أقول بالرجعة فإني أقول بذلك على ما قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ وقد قال في موضع آخر: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ فعلمنا أن ههنا حشرين: أحدهما عام، والآخر خاص، وقال سبحانه: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾،وقال تعالى ﴿فَأَمَاتَهُ اللّهُ 



1 بحار الأنوار, ج 53، ص 131.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

140

الدرس الثالث عشر: الرَّجعة

 مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ فهذا كتاب الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يحشر المتكبّرون في صور الذر يوم القيامة" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يجر في بني إسرائيل شيء إلا ويكون في أمتي مثله حتى الخسف والمسخ والقذف". وقال حذيفة: والله ما أبعد أن يمسخ الله عز وجل كثيراً من هذه الأمة قردة وخنازير. 

 
الرجعة التي أذهب إليها ما نطق به القرآن وجاءت به السنّة، وإنّي لأعتقد أنّ الله عز وجل يرد هذا - يعني سواراً - إلى الدنيا كلباً أو قرداً أو خنزيراً أو ذرّة، فإنّه والله متجبِّر متكبر كافر!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

141

المحور الثاني: أحكام الميت

 الكفايات: 

1- التعّرف على أحكام الغسل وشروطه وكيفيّة تغسيل الميّت.
2- بيان أحكام تكفين الميّت وشروطه الشرعية.
3- بيان كيفيّة الصلاة على الميّت والأحكام الشرعية المرتبطة به.
4- معرفة كيفيّة تكفين الميّت وأحكام الدفن والقبر.
5- بيان ما يجب غسله عند مسّ الميّت.
6- بيان الأحكام الشرعيّة الخاصة المتعلّقة بالشهيد الذي يسقط في أرض المعركة.



المحتويات:
الدرس الأول: غُسل الأموات
الدرس الثاني: تغسيل الميّت
الدرس الثالث: تكفين الميّت
الدرس الرابع: الصلاة على الميّت
الدرس الخامس: الدّفن
الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

142

الدرس الأول: غُسل الأموات

 الدرس الأول:

غُسل الأموات



أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر ما يجب فعله عند من ظهرت عنده أمارات الموت. 
2- يبيّن موجبات الغسل ومن يسقط عنه الغسل. 
3- يذكر من هم أولياء الميّت وترتيب ولايتهم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

143

الدرس الأول: غُسل الأموات

 أحكام الاحتضار

يجب على من ظهرت عنده أمارات الموت ما يلي:
الأوّل: أداء الحقوق الواجبة للخالق والمخلوقين.
الثاني: ردّ الأمانات التي عنده، أو الإيصاء بها مع الاطمئنان بإنجازها.
الثالث: الإيصاء بالواجبات التي لا تقبل النيابة حال الحياة، كالصلاة والصوم، والحجّ غالباً، ونحوها إذا كان له مال.
وأمّا ما يجب على وليّ المحتضر (كالصلاة والصوم) فيتخيّر المحتضر بين إعلام الوليّ وبين الإيصاء به.
 
توجيه المحتضَر
يجب كفاية1 توجيه المحتضَر المسلم (حتّى الصغير) إلى القبلة، بأن يُلقى على ظهره، ويجعل باطن قدميه ووجهه إلى القبلة، بحيث لو جلس كان وجهه إلى القبلة2.
 
من يجب تغسيله؟
1- يجب كفاية تغسيل كلّ مسلم، والأحوط وجوباً تغسيل المخالف بالجمع بين الكيفيّة التي عندنا والتي عندهم. 



1 الوجوب الكفائيّ: وهو المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّفٍ كان، فإذا قام به البعض سقط عن الجميع، وإلّا أثم الجميع.
ويقابله الوجوب العينيّ: وهو الذي تعلّق بفعل المكلّف وتعيّن عليه، ولا يسقط بفعل الغير.
2 الإمام الخامنئي: الأولى أن يوضع المسلم حال الاحتضار والنزع على ظهره وتوجيهه إلى القبلة بأن يجعل باطن قدميه إلى القبلة، وقد ذهب جمع من الفقهاء إلى وجوب ذلك على الشخص المحتضر مع قدرته على ذلك وعلى الآخرين أيضاً، فالأحوط عدم تركه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

144

الدرس الأول: غُسل الأموات

 2- لا يجوز تغسيل الكافر، ومن حُكم بكفره من المسلمين كالنواصب1 والخوارج2.

 
3- يجب تغسيل أطفال المسلمين حتّى ولد الزنا. 
 
4- يجب تغسيل السقط إذا تمّ له أربعة أشهر قمريّة. ولو كان له أقلّ من أربعة أشهر لا يجب غسله، بل يُلفّ في خرقة ويدفن3
 
من يسقط الغسل عنه؟
1- يسقط الغسل عن الشهيد، بشرط خروج روحه في المعركة قبل أن يدركه المسلمون حيّاً4. ويلحق بالشهيد المقتول في حفظ بيضة الإسلام5، فلا يُغسل ولا يحنّط ولا يكفّن، بل يصلّى عليه ويُدفن بثيابه، نعم إذا كان عارياً يجب تكفينه6
 
2- يسقط الغسل عمن وجب قتله برجم أو قصاص. 
 
القطعة المنفصلة عن الميّت
القطعة المنفصلة عن الميّت لها أربع صور:
الأولى: إن كانت لحماً غير مشتمل على العظم لا يجب غسلها، بل تُلفّ في خرقة وتُدفن على الأحوط وجوباً.
الثانية: إن كان فيها عظم، ولم تشتمل على الصدر، تُغسل، وتُلفّ في خرقة، وتُدفن.



1 النصب: المعاداة. والناصب: هو الذي يُظهر عداوة أهل البيت عليهم السلام.
2 الخوارج: فرقة من المسلمين خرجوا على الإمام عليّ عليه السلام .
3 الإمام الخامنئي: السقط إذا لم يتمّ له أربعة أشهر لا يجب تغسيله وإن ولجته الروح.
4 الإمام الخامنئي: المؤمن الذي يقتل في سبيل تنفيذ أحكام الإسلام أو في التظاهرات أو في الجبهة في سبيل تطبيق الفقه الجعفريّ له أجر وثواب الشهيد، وأمّا أحكام تجهيز الميّت الشهيد فتختصّ بمن استشهد في ساحة الحرب في المعركة أثناء اشتعال نار الحرب.
5 بيضة الإسلام: جماعته، وموضع سلطان المسلمين، ومستقرّ دعوتهم.
6 الإمام الخامنئي: المسلم الذي نفّذ فيه حكم الإعدام حكمه حكم سائر المسلمين، وتجري عليه الأحكام والآداب الإسلاميّة التي تجري على الأموات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

145

الدرس الأول: غُسل الأموات

 الثالثة: إن كانت عظماً مجرّداً، ولم تشتمل على الصدر تُدفن1، والأحوط استحباباً أن تغسل.

الرابعة: إن كانت صدراً، أو اشتملت على الصدر، أو كانت بعض الصدر الذي هو محلّ القلب (وإن لم يشتمل عليه فعلاً) فيجب أن تُغسل، ثمّ تكفّن، ويجوز الاقتصار في كفنها على الثوب واللفافة (القميص والإزار) إلّا إذا كانت القطعة مشتملة على بعض محلّ المئزر فيجب حينها، ويصلّى عليها وتدفن. وإذا كان معها بعض المساجد يحنّط ذلك البعض.
 
الأحوط وجوباً إلحاق القطعة المنفصلة عن الحيّ بالمنفصلة عن الميّت في أحكام الميّت2.
 
وجوب الغسل
1- تغسيل الميت واجب كفائي على جميع المكلفين وبقيام بعضهم به يسقط عن الباقين. وكذلك تكفينه والصلاة عليه. 
 
2- أولى الناس بتجهيز الميت كتغسيله وتكفينه أولاهم بميراثه، بمعنى أنّ الولي لو أراد القيام بتجهيزه أو عين شخصاً لذلك لا يجوز مزاحمته. بل لا يجوز لغير الولي القيام بتجهيز الميت بدون إذن الولي3
 
3- لو امتنع الوليّ عن التجهيز والتوكيل وإعطاء الإذن سقطت شرطيّة إذنه. 
 
4- إذا كان الوليّ قاصراً4، أو غائباً وجب الاستئذان من الحاكم الشرعيّ5



1 الإمام الخامنئي: إذا انكشف قبر عن هيكل عظميّ وثبت أنّه يرجع لبدن مسلم ميّت وجب دفنه مرّة أخرى فوراً، وكذلك لو كانت عظاماً متفرّقة.
2 الإمام الخامنئي: الأحوط دفن القطعة المنفصلة من الحيّ سواء أكانت مشتملة على عظم أم لا.
3 الإمام الخامنئي: التصرّفات - المحتاج إليها لتجهيز الميت - المتعارفة من غسل وتكفين ودفن لا تتوقّف على إذن وليّ الصغير، ولا إشكال فيها من ناحية وجود القصَّر فيما بين الورثة.
4 القاصر: هو غير الكامل، والكامل هو البالغ العاقل والراشد.
5 الحاكم الشرعيّ: المجتهد الجامع للشرائط، والمتصدّي للتنفيذ. ويمكن استئذان وكيله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

146

الدرس الأول: غُسل الأموات

 ولي الميت

1- الوليّ هو كلّ من يرثه بنسب1 أو سبب2، وتترتّب ولايتهم على ترتيب طبقات الإرث، فالطبقة الأولى مقدّمون على الثانية، والثانية على الثالثة. 
 
2- في كلّ طبقة يقدّم الرجال على النساء، ويقدّم البالغون على غيرهم، ومن تقرّب إلى الميّت بالأبوين أولى ممّن تقرّب إليه بأحد الأبوين. ومن انتسب إلى الميّت بالأب أولى ممّن انتسب إليه بالأم. 
 
3- في الطبقة الأولى الأب مقدّم على الأولاد والأم، والأولاد مقدّمون على أولادهم. وفي الطبقة الثانية الجدّ مقدّم على الإخوة، والإخوة على أولادهم، وفي الثالثة العمّ على الخال، وهما على أولادهما. 
 
4- الزوج أولى بزوجته من جميع أقاربها، إلى أن يضعها في قبرها. 
 
5- لو أوصى الميّت في تجهيزه إلى غير الوليّ فالأحوط وجوباً الاستئذان من الوصيّ والوليّ. 



1 النسب: ما كان بين الميّت وبين الوارث من صلة رحم.
2 السبب: ما كان بين الميّت والوارث من مصاهرة وما شاكلها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

147

الدرس الأول: غُسل الأموات

 للمطالعة

 
مستحبّات عند الاحتضار
يستحبّ أمور، منها:
الأوّل: تلقينه الشهادتين، والإقرار بالأئمّة الاثني عشر عليهم السلام،وسائر الاعتقادات الحقّة، ويستحبّ تكرراها إلى أن يموت. 
 
الثاني: تلقينه كلمات الفرج1، وأن يقول المحتضر: "اللهمّ اغفر لي الكثيرَ من معاصيك، واقبل منّي اليسير من طاعتك"، وأن يقول: "يا من يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، إنّك أنت العفوّ الغفور"، وأيضاً: "اللهمّ ارحمني فإنّك رحيم".
 
الثالث: نقله إلى مصلاّه إذا اشتدّ نزعه، بشرط أن لا يوجب أذاه.
 
الرابع: قراءة سورتي يس والصافّات عنده لتعجيل راحته، وكذا آية الكرسيّ إلى ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وآية السخرة وهي (الأعراف، 54 إلى 56)، وآخر ثلاث آيات من سورة البقرة، وسورة الأحزاب.
 
مستحبّات ما بعد الموت
يستحبّ بعد الموت أمور، منها: 
الأوّل: تغميض عينيه، وتطبيق فمه.
الثاني: شدّ فكّيه.
الثالث: مدّ يديه إلى جنبيه، ومدّ رجليه.
الرابع: تغطيته بثوب.
الخامس: الإسراج عنده في الليل.



1 كلمات الفرج هي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العليّ العظيم، سبحان الله ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، وربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

148

الدرس الأول: غُسل الأموات

 السادس: إعلام المؤمنين ليحضروا جنازته.

السابع: التعجيل في دفنه، إلاّ مع اشتباه حاله، فينتظر إلى حصول اليقين بموته.

وإن كانت المرأة الميّتة حاملاً وكان جنينها حيّاً فينتظر إلى أن يُشقّ جنبها الأيسر لإخراجه، ثمّ خياطة الجرح.

يكره أمور، منها:
الأوّل: أن يُمسّ حال النزع، فإنّه يوجب أذاه.
الثاني: تثقيل بطنه بحديد أو غيره.
الثالث: إبقاؤه وحده.
الرابع: حضور الجُنب والحائض عنده حال الاحتضار. 
الخامس: التكلّم الزائد عنده. 
السادس: البكاء عنده.
السابع: أن يحضر عنده عَمَلة الموتى.
الثامن: أن يُخلّى عنده النساء وحدهنّ، خوفاً من صراخهنّ عنده.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

149

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 الدرس الثاني:

تغسيل الميت

أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر الشروط الشرعية التي ينبغي توفرها في المغسِّل. 
2- يبيّن أهم شرائط غسل الميت. 
3- يبيّن بعض أحكام الغسل الأساسية والإبتلائية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

150

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 شرائط المغسّل

يشترط في المغسّل ثلاثة أمور، وهي:
الشرط الأوّل: المماثلة بين المغسّل والميّت في الذكورة والأنوثة، فلا يغسل الرجل المرأة ولا العكس، حتّى ولو كان من وراء الستر ومن دون لمس ونظر1. ويستثنى من ذلك ثلاث حالات:
1- الطفل الذي لا يزيد عمره عن ثلاث سنين قمريّة، فيجوز لكلّ من الرجل والمرأة تغسيله ولو مع التجرّد. 
2- الزوج والزوجة، فيجوز لكلّ منهما تغسيل الآخر ولو مع وجود المماثل، ولو مع التجرّد، ويجوز لكلّ منهما النظر إلى عورة الآخر على كراهة. 
3. المطلّقة الرجعيّة بحكم الزوجة إذا حصل الموت قبل انقضاء عدّة الطلاق. 
4- يجوز أن يغسَّل الرجل محارمه من النساء وبالعكس، مع فقد المماثل، ويجب ستر العورة. وأمّا مع وجود المماثل فالأحوط وجوباً ترك ذلك. 
 
الشرط الثاني: الإيمان في حال الاختيار، فإن لم يتوفّر المؤمن الاثنا عشريّ يجزي تغسيل غيره من المحكومين بالإسلام. وإن لم يتوفّر المسلم بل انحصر المماثل بالكتابيّ أو الكتابيّة، أمر المسلم الكتابيّة، وأمرت المسلمة الكتابيّ أن يغتسل أوّلاً2، ثمّ يغسّل الميّت، والأحوط وجوباً - مع الإمكان - أن لا يمسّ الكتابيّ الماء وبدن الميّت المسلم بدون ساتر، وأن يغسله مع الإمكان في الكرّ والجاري.
 
الشرط الثالث: الأحوط وجوباً أن يكون المغسّل بالغاً.



1 الإمام الخامنئي: لو غَسَّل الميتَ غيرُ المماثل مع وجود المماثل لم يصحّ الغسل.
2 لأنّ المفروض عدم وجود مسلم مماثل، فيأمر المسلم الموجود الكافرة المماثلة للمسلمة الميتة، والعكس.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

151

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 كيفيّة غسل الميّت

1- يجب تغسيل الميّت ثلاثة أغسال: الأوّل: بماء السدر. الثاني: بماء الكافور. الثالث: بالماء الخالص1
2- كيفية كلّ غسل من الأغسال الثلاثة كغسل الجنابة. 
 
شرائط غسل الميّت
يشترط في غسل الميّت أمور، منها:
الأوّل: يجب إزالة النجاسة عن بدن الميّت، ويكفي غسل كلّ عضو قبل تغسيله2.
الثاني: الترتيب، بأن يبدأ بماء السدر، ثمّ بماء الكافور، ثمّ بالماء الخالص، ولو خالف الترتيب أعاد بما يحصل معه الترتيب.
الثالث: أن يكون كلّ من السدر والكافور بمقدار يصدق أنّه مخلوط بهما، مع بقاء الماء على إطلاقه.
الرابع: أن يكون كلّ غسل من الثلاثة ترتيبيّاً، ولا يكفي الارتماسيّ على الأحوط. فيبدأ بغسل الرأس والرقبة، ثمّ الطرف الأيمن، ثمّ الأيسر.
 
1- تعذّر الخليطين: 
لو تعذّر أحد الخليطين أو كلاهما وجب تغسيله بالماء الخالص بدلاً عمّا تعذّر، مع نيّة البدلية.
 
2- تعذّر الماء: 
لو فُقد الماء للغسل يُيمّم ثلاثة تيمّمات بدلاً عن الأغسال على الترتيب، ويكون التيمّم بيدي الميّت، والأحوط استحباباً ضمّ ثلاثة تيمّمات بيديّ الحيّ. وإن لم يمكن التيمّم بيديّ الميّت ييمّم بيديّ الحيّ.



1 الإمام الخامنئي: ما يوجد في الأسواق من زيت مستخرج من نبات السدر خاصّة لا يكفي بدل نفس السدر.
2 الإمام الخامنئي: يجب مع الإمكان تطهير بدن الميت قبل الغسل، وإذا أمكن الانتظار من أجل توقف النزف أو المنع منه وجب ذلك، وإلا فييمّمه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

152

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 الجسد المتضرّر

لو كان جسد الميّت محروقاً أو مجروحاً أو مجدوراً، بحيث يخاف من تناثر جلده لو غسّل ييمّم ثلاث مرّات بالترتيب، وإن لم يحصل الخوف من تناثر جلده وجب غسله1.
 
تعذّر بعض الماء:
1- لو لم يكن عنده من الماء إلاّ بمقدار غسل واحد، فمع وجود السدر يغسله بماء السدر، ثمّ ييمّمه مرّتين: واحد بدلاً عن ماء الكافور، والآخر بدلاً عن الماء الخالص. وإن لم يوجد السدر يغسّله بالماء الخالص بدلاً عن ماء السدر، ثمّ ييمّمه تيمّمين، بدون فرق بين ما إذا وجد الكافور أم لا. 
 
2- لو كان ما عنده من الماء يكفي لغسلين، فإن كان عنده السدر والكافور صرف الماء فيهما، وييمّم للثالث، ولو فقد أحد الخليطين يغسّل بالماء الخالص بدلاً عن المفقود ويُيمَّم بدلاً عن الماء الخالص، ويستعمل الخليط إن وجد، وإلاّ لو فُقِد كلا الخليطين فيغسّله بالماء الخالص بدلاً عن المفقود، وييمّمه بدلاً عن الماء الخالص. 
 
تغسيل المُحرِم
لو كان الميّت محرماً لحجّ أو عمرة ففيها صورتان:
الأولى: إن كان موته قبل التقصير في العمرة، أو قبل السعي في الحج فيغسل ثلاثة أغسال، لكن لا يخلط الماء بالكافور في الغسل الثاني، لأنّ الكافور طيب، وهو محرّم على المحرم.
الثانية: إن كان موته بعد التقصير في العمرة، أو بعد السعي في الحجّ يغسّل مع الكافور. وحكم الحنوط بالكافور نفس حكم الغسل بالكافور.



1 الإمام الخامنئي: يجب في الأغسال الثلاثة أن يصل الماء إلى تمام بدن الميت، وإن لم يمكن إزالة الحاجب فلا بأس بغسله مع وجود الحاجب، ولكن يضمّ إليه التيمّم بدلاً عن الأغسال المذكورة.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

153

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 المجنب إذا مات

لو كان على الميّت غسل جنابة أو حيض أو نحوهما أجزأ عنها غسل الميّت.

المدفون بلا غسل
لو دفن بلا غسل ولو نسياناً وجب نبشه لتغسيله إن لم يكن فيه محذور من هتك حرمة الميّت لأجل فساد جثّته، أو الحرج على الأحياء بواسطة رائحته أو تجهيزه.

عدم جواز أخذ الأجرة على التغسيل
غسل الميّت من العبادات، وهو يحتاج إلى نيّة، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه.

تنجّس بدن الميّت
لو تنجّس بدن الميّت بعد الغسل أو في أثنائه لا يجب إعادة غسله حتّى فيما لو خرج منه بول أو غائط، ويكفي تطهير موضع النجاسة.

والأحوط وجوباً إزالة الخبث ولو كان بعد وضعه في القبر، إلاّ مع التعذّر، أو مع استلزامه هتك حرمته بسبب الإخراج.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

154

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 للمطالعة 


البكاء على الميّت
يجوز البكاء على الميّت، بل قد يستحبّ عند اشتداد الحزن، ولكن لا يقول ما يسخط الربّ. وكذا يجوز النوح عليه بالنظم والنثر إذا لم يشتمل على الباطل من الكذب وغيره من المحرّمات. والأحوط وجوباً أن لا يشتمل على الويل والثبور.

ولا يجوز اللطم والخدش، وجزّ الشعر ونتفه، والصراخ الخارج عن حدّ الاعتدال على الأحوط وجوباً. ولا يجوز شقّ الثوب على غير الأب والأخ، بل في بعض الأمور المذكورة تجب الكفّارة، وذلك:
- في جزّ المرأة شعرها في المصيبة كفّارة شهر رمضان المبارك (كبيرة مخيّرة). 
- في نتفه كفّارة اليمين، وفي خدشها لوجهها إذا أدْمت كفّارة اليمين. والأحوط وجوباً ذلك إذا لم تسبّب الإدماء. 
- في شقّ الرجل ثوبه في موت زوجته أو ولده كفّارة يمين (وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام). 

من آداب تشييع الجنازة
الأوّل: أن يقول حامل الجنازة حين حملها: "باسم الله وبالله، وصلّى الله على محمّدٍ وآل محمّدٍ، اللهمّ اغفرْ للمؤمنين والمؤمنات".
الثاني: أن تُحمل الجنازة على الأكتاف، لا على الدابّة ونحوها، إلاّ لعذر.
الثالث: أن يكون المشيّع خاشعاً، متفكّراً، متصوّراً أنّه هو المحمول، وقد سأل الرجوع إلى الدنيا فأجيب.
الرابع: المشي، ويكره الركوب إلاّ لعذر، نعم لا يكره الركوب في الرجوع.
الخامس: المشي خلف الجنازة أو جانبيها، والأوّل أفضل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

155

الدرس الثاني: تغسيل الميت

 السادس: التربيع، بمعنى أن يحمل الشخص الواحد جوانبها الأربعة، والأفضل أن يبتدئ بمقدّم السرير من طرف يمين الميّت فيضعه على عاتقه الأيمن، ثمّ يحمل مؤخّره الأيمن على عاتقه الأيمن، ثمّ مؤخّره الأيسر على عاتقه الأيسر، ثمّ ينتقل إلى المقدّم الأيسر ويضعه على عاتقه الأيسر.

السابع: أن يكون صاحب المصيبة حافياً واضعاً رداءه، أو مغيّراً زيّه على وجه آخر مناسب للمعزّى حتّى يُعرف.
الثامن: ترك النساء تشييع الجنازة حتّى لجنازة النساء، ولا يبعد الكراهة للشابّة1.
 
ويكره أمور، منها:
1- الضحك واللعب واللهو. 
2- وضع الرداء لغير صاحب المصيبة، والإسراع في المشي على وجه ينافي الرفق بالميّت، ولا سيّما إذا كان بالعدْوِ، بل ينبغي الوسط في المشي. 
3- إتباع الجنازة بالنار، إلاّ المصباح بل مطلق الضياء في الليل. 
4- القيام عند مرورها إذا كان جالساً، إلاّ إذا كان الميّت كافراً فيقوم.



1 الإمام الخامنئي: لا بأس في اشتراك النساء في تشييع الجنائز وحملها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

156

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 الدرس الثالث:

تكفين الميّت



أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهم واجبات التكفين. 
2- يذكر أهم شرائط التكفين. 
3- يذكر أحكام الحنوط وما ينبغي فعله عند تنجّس الكفن. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

157

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 واجبات التكفين

1- يجب كفاية تكفين الميّت بثلاثة أثواب: مئزر، وقميص وإزار. 
الأوّل: المئزر، يستر بين السرّة والركبة.
الثاني: القميص، ويكون من المنكبين1، والأحوط وجوباً أن يصل إلى نصف الساق.
الثالث: الإزار ويجب أن يغطّي تمام البدن، ويجب أن يكون طوله زائداً على طول الجسد، وعرضه بمقدار يمكن أن يوضع أحد جانبيه على الآخر، ويُلفّ عليه بحيث يستر جميع الجسد.
 
2- عند تعذّر بعض الأثواب يؤتى بما تيسّر، ويقدَّم الأشمل على غيره، ولو لم يمكن إلاّ ستر العورة وجب. 
 
3- يجب أن تستر كلّ قطعة تمام ما تحتها. 
 
شرائط التكفين
1- شرائط التكفين سبعة، وهي: 
الأوّل: إباحة الكفن، فلا يجوز التكفين بالمغصوب ولو في حال الاضطرار.
الثاني: أن لا يكون التكفين بالحرير الخالص ولو للطفل والمرأة.
الثالث: أن لا يكون بجلد الميتة.
الرابع: أن لا يكون بالنجس حتّى ما عُفي عنه في الصلاة.
الخامس: أن لا يكون بأجزاء ما لا يؤكل لحمه.



1 المنكب: بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الكاف: مجتمع رأس الكتف والعَضُد.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

158

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 السادس: أن لا يكون بجلد المأكول على الأحوط وجوباً. ويجوز بصوف المأكول وشعره ووبره، بل لو عُمل جلد المأكول على نحو يصدق عليه الثوب يجوز في حال الاختيار أيضاً.

السابع: أن لا يكون بالمذهّب على الأحوط وجوبا1.
 
2- يختص عدم جواز التكفين بما ذكر - عدا المغصوب - بحال الاختيار، فيجوز الجميع في حال الاضطرار عدا المغصوب كما تقدّم. 
 
3- لا يشترط قصد القربة في التكفين. 
 
4- مع الدوران بين الممنوعات يقدّم النجس، ثمّ الحرير على الأحوط وجوباً، ثمّ المأكول، ثمّ غيره. 
 
تنجّس الكفن
1- لو تنجّس الكفن قبل وضعه في القبر أو بعد وضعه وجبت إزالة النجاسة عنه2 - مع الإمكان - بغسل أو قرض3 (إذا بقي الكفن ساتراً لما تحته). 
 
2- لو توقّف الغسل على إخراجه من القبر وجب إلاّ إذا استلزم الهتك فلا يجوز4
 
3- لو تعذّر التطهير أو القرض وجب التبديل مع الإمكان لو لم يلزم الهتك، وإذا لزم الهتك لا يجوز. 
 
أحكام الحنوط
1- يجب تحنيط الميّت، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولا يجوز تحنيط 



1 الشرط السابع غير مذكور في كتاب تحرير الوسيلة، بل هو إقرار الإمام الخمينيّ عليه في كتاب: العروة الوثقى.
2 الإمام الخامنئي: إذا تنجس الكفن بالدم قبل الدفن فإن أمكن غسل الموضع الملطخ بالدم منه أو قرضه أو تبديل الكفن وجب ذلك وإلا فيجوز لهم دفنه على حاله.
3 القرض: هو قطع جزء من الكفن بسكين أو نحوها.
4 الإمام الخامنئي: إذا تحقّق العلم بنجاسة الكفن واقعاً بعد وضع الميّت في القبر وإهالة التراب عليه لم يجب نبش القبر بل لا يجوز.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

159

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 المحرِم للعمرة قبل التقصير، ولا يجوز تحنيط المحرِم للحجّ قبل السعي. وأمّا بعد التقصير في العمرة وبعد السعي في الحجّ فيجب التحنيط. 


2- يشترط أن يكون بعد الغسل أو التيمّم، ويجوز قبل التكفين وبعده وفي الأثناء، والأوْلى أن يكون قبل التكفين. 

3- كيفيّة الحنوط: 
أولاً: يُمسح الكافور على مساجده السبعة (وهي الجبهة والجبينان وباطن الكفّين، والركبتان، وإبهاما القدمين)، ويستحبّ إضافة طرف الأنف إليها، بل هو الأحوط استحباباً.
ثانياً: لا يقوم مقام الكافور طيبٌ آخر حتّى عند الضرورة.
ثالثاً: لا يجب مقدار معيّن من الكافور في الحنوط، بل الواجب هو المسمّى ممّا يصدق معه المسح به.
رابعاً: لو تعذّر الكافور دفن بغير حنوط.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

160

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 للمطالعة


مستحبّات التكفين ومكروهاته
يستحبّ الزيادة على القطع الثلاث بأمور، منها:
الأوّل: العمامة للرجل، والمقنعة للمرأة، ولفّافة لثديي المرأة يُشدّان بها إلى ظهرها.
الثاني: خرقة يُعصب بها وسط الميّت، وأخرى للفخذين تلفّ عليهما.
الثالث: لفّافة خضراء فوق الكفن وتسمّى"الحبرة"، والأوْلى كونها بُرداً يمانيّاً.
الرابع: ستر العورتين بقطن ونحوه، ووضع شيء منه في الدبر والمنخرين وما شابه مع الخوف من خروج الدم.
الخامس: إجادة الكفن، وأن يكون من القطن، وأبيض اللون، ما عدا الحبرة،
السادس: كونه من الثوب الذي أحرم أو صلّى فيه، ومن غير الأموال المشتبهة.
السابع: أن يُخاط الكفن بخيوطه إذا احتاج إلى الخياطة.
الثامن: أن يُكتب على حاشية جميع قطع الكفن اسمه واسم أبيه، والإقرار بالشهادة، وكتابة دعاء الجوشن الكبير على إحدى قطعه في مقام يؤمن عليه من النجاسة.
التاسع: تهيئة مستلزمات الكفن قبل الموت.
العاشر: أن يكون المباشر للتكفين غير محدث.

يكره في الكفن أمور، منها:
الأوّل: قطعه بالحديد.
الثاني: عمل الأكمام والأزرار له، وبلّ الخيوط بالريق.
الثالث: تبخيره بدخان الأشياء طيّبة الريح، نعم يستحبّ تطييبه بالكافور والذريرة.
الرابع: كونه أسود اللون، ووسخاً، ومن الكتّان ولو ممزوجاً.
الخامس: أن يكون مخيطاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

161

الدرس الثالث: تكفين الميّت

 السادس: جعل عمامته بلا حنك.

السابع: المماحكة (المحاججة) في شرائه.

القول في الجريدتين
من السنن الأكيدة وضع عودين رطبين مع الميّت، والأفضل كونهما من جريدة النخل، وإن لم يتيسّر فمن السدر، وإلاّ فمن الخلاف، وإلاّ فمن الرمّان، وإلاّ فمن كلّ شجر رطب. والأوْلى كونهما بمقدار عظم الذراع، وإن أجزأ الأقلّ إلى شبر، والأكثر إلى ذراع.

والأوْلى في وضعهما جعل أحدهما في جانبه الأيمن من عند الترقوة إلى ما بلغ، ملصقاً بجلده، والآخر في جانبه الأيسر، من عند الترقوة إلى ما بلغ، فوق القميص تحت اللفافة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

162

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 الدرس الرابع:

الصّلاة على الميّت



أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن من تجب عليه صلاة الميت. 
2- يذكر أهم شرائط صلاة الميّت والمصلي عليه. 
3- يبيّن كيفية الصلاة على الميّت. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

163

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 وجوب الصلاة على الميّت

1- تجب كفاية الصلاة على كلّ ميّت مسلم وإن كان مخالفاً للحق. ولا تجوز على الكافر بأقسامه حتّى المرتدّ1، ولا تجوز على من حكم بكفره ممّن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج. 
2- تجب الصلاة على أطفال المسلمين حتّى ولد الزنا منهم إذا أكملوا ستّ سنوات قمريّة. 
3- تجب الصلاة على أجزاء الإنسان إذا كانت صدراً، أو مشتملة على الصدر، أو بعض الصدر الذي هو محلّ القلب وإن لم يشتمل عليه فعلاً. 
4- محلّ الصلاة بعد الغسل والتحنيط والتكفين، وقبل الدفن. 
5- إن لم يمكن تغسيله وتحنيطه وتكفينه يُصلّى عليه ويدفن كما هو. 
 
شرائط المصلّي2
1- يعتبر في المصلّي أمران: 
الأوّل: الإيمان.
الثاني: الأحوط وجوباً أن يصلّي البالغ على الميّت، مع كون صلاة المميّز غير



1 الكافر: هو من انتحل غير الإسلام، أو انتحل الإسلام وجحد ما يعلم من الدين ضرورة، بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة، أو تكذيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أو تنقيص شريعته المطهرة، أو صدر عنه ما يقتضي كفره من قول أو فعل.
والمرتّد نوعان: فطريّ وملّيّ.
أ- الفطريّ: وهو من انعقدت نطفته وكان أبواه مسلمين أو كان أحدهما مسلماً، ثمّ أسلم ثمّ أعلن كفره بعد بلوغه.
ب- الملّيّ: من انعقدت نطفته وكان أبواه كافرين، ثمّ بعد بلوغه أعلن إسلامه، ثمّ كفر.
2 الإمام الخامنئي: لا يبعد عدم اشتراط الشرائط المعتبرة في الجماعة، وفي إمام الجماعة في بقيّة الصلوات في صلاة الميّت وإن كان الأحوط مراعاتها فيها أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

164

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 البالغ صحيحة إلاّ أنّها لا تجزي عن صلاة البالغين على الأحوط وجوباً.

 
2- لا يعتبر في المصلّي الذكورة، فتصحّ صلاة المرأة ولو على الرجل. 
 
3- لا يشترط في المصلّي على الميّت الطهارة من الحدث والخبث، ولا سائر شروط الصلاة ذات الركوع والسجود، ولا يشترط ترك موانعها إلاّ مثل القهقهة والتكلّم فالأحوط وجوباً تركهما. 
 
4- أما أولياء الصلاة: فما مرّ عن الأولياء في غسل الميّت يجري هنا بتمامه. 
 
شرائط صلاة الميّت
الأوّل: نيّة القربة.
الثاني: تعيين الميّت على وجه يرفع الإبهام.
الثالث: استقبال المصلّي القبلة. 
الرابع: القيام.
 
لو لم يوجد من يستطيع الصلاة قائماً تعيّن وجوب الصلاة من جلوس.
 
الخامس: أن يوضع الميّت أمام المصلّي، مستلقياً على قفاه، محاذياً للمصلّي، وأن يكون رأس الميّت إلى يمين المصلّي، ورِجل الميّت إلى يسار المصلّي.
 
السادس: عدم الحائل بين المصلّي وبين الميّت، ولا بأس في النعش ونحوه ممّا هو بين يديّ المصلّي.
 
السابع: أن لا يكون بينهما بُعد مفرط، على وجه لا يصدق الوقوف على الميّت، إلاّ في المأموم البعيد بسبب كثرة الصفوف، فلا يضرّ البعد إذا كان متّصلاً مع الصفوف.
 
الثامن: أن لا يكون أحدهما أعلى من الآخر علوّاً مفرطاً.
 
التاسع: أن تكون الصلاة بعد التغسيل والتكفين والحنوط، إلاّ من تعذّر تجهيزه، أو سقط تغسيله وتكفينه (كالشهيد)، فيُصلّى عليه بدون ذلك.
 
العاشر: أن يكون الميّت مستور العورة مع عدم إمكان التكفين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

165

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 الحادي عشر: أن تكون الصلاة قبل الدفن:

1- يجب أن تكون الصلاة قبل الدفن لا بعده. 
 
2- لو دفن قبل الصلاة نسياناً أو لعذر آخر، أو تبيّن فسادها فلا يجوز نبشه لأجل الصلاة، بل يُصلّى على قبره مع مراعاة الشرائط، من الاستقبال وغيره، نعم إذا مضى مدّة تلاشى الميّت فيها، بحيث خرج عن صدق اسم الميّت، لا تجب الصلاة عليه. 
 
كيفيّة صلاة الميّت
1- وهي خمس تكبيرات: يأتي بالشهادتين بعد الأولى، والصلاة على النبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الثانية. والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الثالثة. والدعاء للميّت بعد الرابعة، ثمّ يكبّر الخامسة وينصرف. 
 
2- ليس في هذه الصلاة أذان ولا إقامة، ولا قراءة، ولا ركوع ولا سجود، ولا تشهّد ولا تسليم. ويكفي في الأدعية الأربعة مسمّاها1.
 
3- يستحب فيها الجماعة. 
 
4- لا يتحمّل الإمام شيئاً من الأدعية الواجبة عن المأمومين. 
 
ويستحب أن يقول في الصلاة على الميت:
أ- بعد التكبيرة الأولى: "أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحدهُ لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً صمداً فرداً حيّاً قيّوماً دائماً أبداً، لم يتّخذْ صاحبةً ولا ولداً. وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُهُ ورسوله، أرسله بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَه على الدين كلّه ولو كرِهَ المشركون".
 
ب- بعد الثانية: "اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ، وباركْ على محمّدٍ وآلِ محمّد،



1 فيجزي أن يقول بعد التكبيرة الأولى: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد الثانية، يقول: اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد وبعد الثالثة: اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وبعد الرابعة: اللهمّ اغفر لهذا الميت، ثمّ يكبّر الخامسة وينصرف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

166

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 وارحمْ محمّداً وآلَ محمّد، أفضل ما صلّيت وباركْت وترحمتَ على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّك حميدٌ مجيدٌ، وصلّ على جميعِ الأنبياء والمرسلين".


ج- بعد الثالثة: "اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأمواتِ، تابع اللهمّ بيننا وبينهم بالخيرات، إنّك على كلّ شيءٍ قدير".

د- بعد الرابعة: "اللهمّ إنّ هذا المُسجّى قُدّامنا عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أمتِكَ، نَزل بكَ وأنت خيرُ منزولٍ به، اللهمّ إنّك قبضْتَ رُوحه إليك، وقد احتاجَ إلى رحمتك، وأنت غنيُّ عن عذابه، اللهمّ إنّا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلمُ به منّا، اللهمّ إن كان محسناً فزدْ في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته، واغفر لنا وله، اللهمّ احشُره مع من يتولاه ويُحِبّه، وأَبعِدهُ ممّن يتبّرأ منه ويُبْغِضُه، اللهمّ أّلحِقْهُ بنبيّكَ وعرِّف بينهُ وبينه، وارحمنا إذا توفّيتنا يا إله العالمين، اللهمّ اكتُبْهُ عندَكَ في أعلى عِلِيّين، واخلُفْ على عَقبهِ في الغابرين، واجعلْهُ من رُفقاء محمّد وآله الطاهرين، وارحَمْهُ وإيّانا برحمتكَ يا أرحم الراحمين. اللهمّ عَفوَكَ عفوكَ عفوك". وإن كان الميّت امرأة، يقول: "هذه المُسجّاة قدّامنا أمَتُكَ وابنةُ عبدِكَ وابنةُ أمتك...". وإن كان الميّت طفلاً، دعا في الرابعة لأبويه، بأن يقول: "اللهمّ اجعلْهُ لأبويهِ ولنا سلفاً وفَرَطاً وأجراً".

إدراك الإمام أثناء الصلاة:
من أدرك الإمام في أثناء الصلاة جاز له الدخول معه، وتابعه في التكبير، وجعل المأموم أوّل صلاته هو أوّل تكبيراته، فيأتي بوظيفته لا بوظيفة الإمام، فيأتي بالشهادتين، فإذا كبّر الإمام الثالثة - مثلاً - كبّر المأموم معه وكانت له الثانية، فيأتي بالصلاة على النبيّ وآله عليهم السلام ، فإذا انتهى الإمام من صلاته أتمّ المأموم ما عليه من التكبيرات مع الأدعية إن تمكّن منها ولو مخففة، وإن لم يمهلوه اقتصر على التكبير من غير دعاء.
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

167

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 1- الشكّ في عدد التكبيرات: 

لو شكّ في التكبيرات بين الأقلّ والأكثر فالأحوط وجوباً الإتيان بوظيفة الأقلّ والأكثر برجاء المطلوبيّة في الأدعيّة.
مثلاّ: إذا شكّ بين الاثنين والثلاث بنى على الأقلّ، فيأتي بالصلاة على النبيّ وآله عليه السلام ويدعو للمؤمنين، ثمّ يكبّر ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويدعو للميّت، ثمّ يكبّر ويدعو للميّت، ثمّ يكبّر.

2- تعذّر الاستقبال واشتباهه: 
أولاً: لو لم يمكن الاستقبال أصلاً سقط.
ثانياً: إن اشتبهت القبلة ولم يمكن تحصيل العلم بها، يُرجع إلى الأمارات التي يُرجع إليها عند فقد العلم، وإن فُقدت الأمارات يُعمل بالظنّ مع الإمكان. وإن لم يمكن يصلَّى إلى الجهات الأربع.

3- سقوط الصلاة: 
أولاً: لا تسقط صلاة الميّت عن المكلّفين ما لم يأتِ بها بعضهم على وجه صحيح. 
ثانياً: مع الشكّ في أصل الإتيان بالصلاة يبنى على العدم.
ثالثاً: إن جاء بها البعض وشكّ في صحّتها حُمل عمل المسلم المكلّف على الصحّة، فتجزي.

4- تعدّد الجنازات: 
يجوز التشريك بين الجنازات في صلاة واحدة، بأن يوضع الجميع قدّام المصلّي مع رعاية المُحاذاة. والأوْلى انفراد كلّ منها بصلاة إن لم يخشَ على بعضها الفساد من جهة تأخير صلاتها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

168

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 آداب الصلاة على الميّت

وهي أمور، منها:
الأوّل: أن يقال قبل الصلاة: "الصلاة" ثلاث مرّات، وهي بمنزلة الإقامة للصلاة، والأحوط الإتيان بها رجاءً.
الثاني: أن يكون المصلّي على طهارة من الحدث، من الوضوء أو الغسل، أو التيمّم، ويجوز التيمّم بدل الغسل أو الوضوء - هنا - حتّى مع وجدان الماء إن خاف فوت الصلاة لو توضّأ أو اغتسل، بل مطلقاً.
الثالث: أن يقف الإمام أو المنفرد عند وسط الذكر، وعند صدر الأنثى.
الرابع: نزع النعل، بل تكره الصلاة بالحذاء (وهو النعل)، دون الخفّ والجورب، وإن كان الحفاء لا يخلو من رجحان خصوصاً للإمام.
الخامس: رفع اليدين عند التكبيرات، ولا سيّما الأولى.
السادس: اختيار المواضع المعدّة للصلاة على الجنازة، وهو من الراجحات العقليّة، وأمّا رجحانه الشرعيّ فغير ثابت.
السابع: أن لا توقع في المساجد عدا المسجد الحرام.
الثامن: إيقاعها جماعة.

صلاة الوحشة
يستحبّ ليلة الدفن صلاة الهديّة للميّت، وهي المشتهرة في الألسن بصلاة الوحشة، ففي الخبر النبويّ: "لا يأتي على الميّت ساعة أشدّ من أوّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلّ أحدكم ركعتين...". وكيفيّتها على ما في الخبر المذكور: "أن يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرّة، وقل هو الله أحد مرّتين، وفي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

169

الدرس الرابع: الصّلاة على الميّت

 الثانية فاتحة الكتاب مرّة، وألهاكم التكاثر عشر مرّات، وبعد السلام يقول: اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وابْعَث ثوابها إلى قبر فلان بن فلان، فيبعث الله من ساعته ألف ملك إلى قبره، مع كل ملك ثوب وحلّة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويُعطى المصلّي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات، وتُرفع له أربعون درجة". 


وعلى رواية أخرى: "يقرأ في الركعة الأولى الحمد وآية الكرسيّ مرة، وفي الثانية الحمد مرّة، وإنا أنزلنا عشر مرّات، ويقول بعد الصلاة: اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد، وابعث ثوابها إلى قبر فلان".

وإن أتي بالكيفيّتين كان أوْلى، وتكفي صلاة واحدة عن شخص واحد، وما تعارف من عدد الأربعين أو الواحد والأربعين غير وارد، نعم لا بأس به إذا لم يكن بقصد الورود في الشرع، والأحوط قراءة آية الكرسيّ إلى هم فيها خالدون، ويجوز الاستئجار وأخذ الأجرة على هذه الصلاة، والأحوط البذل بنحو العطيّة والإحسان وتبرّع المصلّي بالصلاة، والظاهر أنّ وقتها تمام الليل، وإن كان الأوْلى إيقاعها في أوّله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

170

الدرس الخامس: الدفن

 الدرس الخامس:

الدفن



أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر ما يجب من أمور عند دفن الميّت. 
2- يبيّن حكم نبش قبر المسلم وما يجوز فيه من موارد. 
3- يذكر بعض الأحكام المتعلّقة بإعادة الدفن والقبر عند اندثاره. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

171

الدرس الخامس: الدفن

 وجوب الدفن

1- يجب كفاية دفن الميّت المسلم ومن بحكمه1، حتّى ولو كان سقطاً لم تلجْهُ الروح. 
 
2- يجب في الدفن أمور، وهي: 
الأوّل: المواراة في حفيرة من الأرض، فلا يجزي الوضع على سطح الأرض والبناء عليه، ولا ما شاكل.
 
الثاني: الأحوط وجوباً أن تكون الحفيرة بحيث تحرس جثّته من السباع، وتكتم رائحته عن الناس.
لو أُمن من السباع وأذى الناس من الرائحة جاز مجرّد المواراة.
 
الثالث: يجب كون الميّت مستقبل القبلة، بأن يضجعه على جنبه الأيمن، بحيث يكون رأسه إلى يمين المستقبل للقبلة، ورجلاه إلى يسار المستقبل2.
 
1- يجب استقبال القبلة مع إمكان تحصيل العلم أو الاطمئنان بها، ومع عدم إمكان العلم وما بحكمه فالأحوط وجوباً العمل بالظّن، ومع عدمه يسقط الاستقبال. 
 
2- دفن أجزاء الميّت: يجب دفن الأجزاء المنفصلة عن الميّت، حتّى الشعر والسنّ والظفر، ويجب دفنها مع بدن الميّت إن أمكن، فإن لم يمكن تُدفن وحدها3



1 كأولاد المسلمين ومجانينهم.
2 الإمام الخامنئي: إذا ماتت الحامل ومات ولدها بموتها، أو كان موت الأم قبل ولوج الروح في الجنين فلا يجب إخراج الجنين بل لا يجوز، ولكن لو بقي الجنين حيّاً في رحم أمّه الميّتة وقد ولجته الروح، واحتُمل بقاؤه حيّاً إلى إخراجه تجب المبادرة إلى إخراجه فوراً. وما لم يحرز موت الجنين في بطن أمّه الميّتة لا يجوز دفنها مع جنينها. ولو دفن الجنين الحيّ مع أمّه وبقي حيّاً حتّى بعد الدفن - ولو احتمالاً - وجب المبادرة إلى نبش القبر وإخراج الجنين الحيّ من بطن أمّه. كما أنّه لو توقّف حفظ حياة الجنين في بطن أمّه الميّتة على عدم المبادرة إلى دفنها فالظاهر وجوب تأخير دفن الأم, للحفاظ على حياة جنينها. ولو قال أحد بأنّه يجوز دفن الحامل مع جنينها الحيّ في بطنها، وقام الآخرون بدفنه, بظنّ صحّة رأيه، ممّا أدّى إلى موت الولد في داخل القبر- أيضاً - فالدية على من باشر الدفن، إلاّ إذا استند موت الجنين إلى قول هذا القائل فالديّة عليه.
3 الإمام الخامنئي: الأعضاء التي فصلت من بدن الميّت حكمها شرعاً أن تدفن مع البدن، فإذا لم يمكن ذلك فلا إشكال في دفنها منفصلة عنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

172

الدرس الخامس: الدفن

 نقل الميت إلى بلد آخر

1- يجوز نقل الميّت من بلد موته إلى بلد آخر قبل دفنه، على كراهية إلاّ إلى المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة, فلا كراهة في النقل إليها، بل فيه فضل ورجحان. 
 
2- إذا كان النقل إلى المشاهد أو غيرها يستلزم تغيّر الميّت وفساده وهتكه فلا يجوز في غير المشاهد قطعاً، والأحوط وجوباً الترك في المشاهد. 
 
3- لا يجوز نبش القبر للنقل إلى غير المشاهد، أمّا إلى المشاهد ففيه تأمّل وإشكال1
 
الدفن في الأرض المغصوبة
لا يجوز الدفن في الأرض المغصوبة، ومنها الأراضي الموقوفة لغير الدفن، ولا يجوز الدفن في المساجد حتّى لو لم يؤدّ إلى الإضرار بالمصلّين.
 
نبش قبر المسلم
1- يحرم نبش قبر المسلم ومن بحكمه، إلاّ مع العلم باندراسه وصيرورته رميماً وتراباً. 
2- لا يجوز نبش قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام وإن طالت المدّة، بل وكذا قبور أولاد الأئمّة والصلحاء والشهداء ممّا اتّخذ مزاراً أو ملاذاً. 
 
3- المراد بالنبش كشف جسد الميّت المدفون بعدما كان مستوراً بالدفن، فلو حفر القبر وأخرج ترابه، من دون أن يظهر جسد الميّت لم يكن من النبش المحرّم، وكذا إذا كان الميّت موضوعاً على وجه الأرض وبني عليه بناء، أو كان في تابوت من صخرة ونحوها فأخرج فلا يحرم. 
 
4- يجوز النبش في موارد منها: 



1 التأمّل والإشكال معناه الاحتياط الوجوبيّ، فيحتاط وجوباً بعدم النبش.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

173

الدرس الخامس: الدفن

 الأوّل: إذا دفن في مكان مغصوب عدواناً أو جهلاً أو نسياناً، ولا يجب على المالك الرضا ببقائه مجّاناً أو بالعوض، وإن كان الأولى بل الأحوط استحباباً إبقاؤه ولو بالعوض، خصوصاً فيما إذا كان وارثاً أو رحماً، أو دُفن فيه اشتباهاً.

 
- لو أذن المالك في دفن ميّت في ملكه وأباحه له ليس له أن يرجع عن إذنه وإباحته بعد الدفن، نعم لو خرج الميّت من القبر بسبب من الأسباب (كالسيل مثلاً) لا يجب على المالك الرضا والإذن فيه ثانياً في ذلك المكان، بل له الرجوع عن إذنه. 
 
- الدفن في مكان مباح ولكن مع الكفن المغصوب أو مال آخر مغصوب هو كالدفن في المكان المغصوب، فيجوز النبش لأخذه1
 
- الأحوط وجوباً للورثة عدم نبش القبر لو دفن مع الميّت شيء من أمواله من خاتم ونحوه. 
 
الثاني: يجوز النبش لتدارك الغسل أو الكفن أو الحنوط فيما إذا دفن بدونها مع التمكّن، كلّ ذلك مع عدم فساد البدن وعدم الهتك على الميّت.
 
الثالث: إذا توقّف إثبات حقّ من الحقوق على مشاهدة جسده2.
 
الرابع: فيما إذا دُفن في مكان يوجب هتكه، كما إذا دفن في بالوعة أو مزبلة، وكذا إذا دفن في مقبرة الكفّار.
 
الخامس: لنقله إلى المشاهد المشرّفة مع إيصاء الميّت بنقله إليها بعد دفنه، أو قبله فخُولِف عصياناً أو نسياناً أو جهلاً، فدُفن في مكان آخر، أو بلا وصيّة منه أصلاً، فيجوز النبش في الصورة الثانية لو لم يتغيّر البدن، والأحوط وجوباً ترك النبش في الصورتين الأولى والثالثة.



1  فيجوز إذا طالب المالك بذلك، ما لم يلزم من نبش قبره وإخراجه محذور أشدّ، كبقائه بلا دفن أو تقطّع أوصاله بالإخراج ونحوه، وإلا فلا يجوز.
2 كما إذا توقف إتقاذ حياة مسلم بريء على رؤية جسده.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

174

الدرس الخامس: الدفن

 السادس: لو خيف عليه من سبع أو سيل أو عدوّ ونحو ذلك.

 
لا يجوز نبش قبر الميّت قبل اندراس البدن، ولو نبش جاز دفن الغير معه1.
 
محو آثار القبور
يجوز محو آثار القبور التي عُلم اندراس ميّتها إذا لم يكن فيه محذور (ككون الآثار ملكاً للباني، أو الأرض مباحة حازها وليّ الميّت لقبره، ونحو ذلك)، وأولى بالجواز ما إذا كانت في المقبرة المسبّلة للمسلمين مع حاجتهم، عدا ما تقدّم من قبور الشهداء والصلحاء والعلماء وأولاد الأئمّة عليهم السلام ممّا جعلت مزاراً...
 
إعادة الدفن
- لو أُخرج الميّت عن قبره عصياناً أو بنحو جائز، أو خرج بسبب من الأسباب لا يجب دفنه ثانياً في ذلك المكان، بل يجوز أن يدفن في مكان آخر. 
 
الدفن في مقابر الكفّار ونحوها
- لا يجوز دفن المسلمين وأولادهم في مقبرة الكفّار. ولا يجوز دفن الكفّار وأولادهم في مقبرة المسلمين2



1 الإمام الخامنئي: 
أ- لا يجوز هدم قبور المؤمنين ونبشها ولو لأجل توسيع الأزقّة، وكذا إحداث شارع، إلا إذا كان إحداثه حيث وجود القبور ضروريّاً وطبقاً للقانون اللازم فلا إشكال.
ب- مجرد دفن الميّت في قبر ميت آخر لا يوجب نبش القبر لنقل الجسد إلى قبر آخر.
ج- قبل أن تصبح عظام الميت تراباً لا يجوز نبش القبر لأجل دفن ميت آخر.
د- لا يجوز نبش القبر حتّى لو شكّ أولياء الميت هل أنَّ المدفون ميتهم أم هو شخص آخر.
هـ- يجوز بناء قبور المسلمين من عدّة طبقات إذا لم يوجب ذلك نبش القبر ولا هتك حرمة المسلم.
و- يجوز التقاط الصور لبدن الميت المدفون دون حفر أو فتح القبر حيث لا يصدق عليه عنوان نبش القبر.
ز- إذا تبين بعد دفن الميت أنّه ليس من أهل تلك المدينة التي دفن فيها لم يجز نبش القبر لنقله إلى بلده، إذا كان قد دُفن وفق الأحكام والموازين الشرعية.
ح- الميّت المدفون في صندوق خشبيّ تحت الأرض يجوز إخراج الصندوق لنقله للدفن في بلده ما لم يصدق عليه نبش القبر الذي هو عبارة عن كشف جسد الميت بعدما كان مستوراً بالدفن.
2  الإمام الخامنئي: إذا توفي المسلم في بلاد الكفّار وكان نقله إلى بلده لدفنه في مقابر المسلمين يستلزم تشريحه لم يجز نقله، بل يدفن في مكانه في غير مقابر الكفّار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

175

الدرس الخامس: الدفن

 للمطالعة


مستحبّات الدفن
وهي أمور، منها:
الأوّل: دفن الأقارب متقاربين، وحفر القبر إلى الترقوة، أو بقدر القامة.

الثاني: اللحد في الأرض الصلبة، بأن يُحفر في حائط القبر ممّا يلي القبلة حفيرة بقدر ما تسع جثّته، فيوضع فيها، والشقّ في الأرض الرخوة، بأن يحفر في قعر القبر حفيرة شبه النهر، فيوضع فيها الميّت، ويُسقف عليه.

الثالث: وضع جنازة الرجل قبل إنزاله في القبر ممّا يلي الرجلين، وجنازة المرأة ممّا يلي القبلة أمام القبر، وأن لا ينزله في القبر فجأة، بل يضعه دون القبر بذراعين أو ثلاثة، يصبر عليه هنيئة، ثمّ يقدّمه قليلاً ويصبر عليه هنيئة، ثمّ يضعه على شفير القبر, ليأخذ أهبته للسؤال، ثمّ يسلّه من نعشه سلاًّ، فيدخله برفق، سابقاً برأسه إن كان رجلاً، وعرضاً إن كان امرأة.

الرابع: أن يكشف عن وجهه، ويجعل خدّه على الأرض، ويعمل له وسادة من تراب، ويسند ظهره بمدرة أو ما شاكل, لئلاّ يستلقي على قفاه.

الخامس: أن يسدّ اللحد باللُّبْن أو الأحجار, لئلاّ يصل إليه التراب، وإذا أحكمها بالطين كان أحسن، وأن يهيل عليه التراب غير أرحامه بظهر الأكفّ.

السادس: أن يكون من ينزله في القبر متطهّراً، مكشوف الرأس، حالّاً إزاره، نازعاً عمامته ورداءه ونعليه، وأن يكون المباشر لإنزال المرأة وحلّ أكفانها زوجها أو محارمها، ومع عدمهم فأقرب أرحامها من الرجال فالنساء، ثمّ الأجانب. والزوج أوْلى بها من الجميع.

السابع: تلقينه العقائد الحقّة بالمأثور، بعد وضعه في اللحد، قبل أن يسدّه.

الثامن: رفع القبر عن الأرض بمقدار أربعة أصابع مضمومة أو مفرّجة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

176

الدرس الخامس: الدفن

 التاسع: تربيع القبر، بمعنى تسطيحه وجعله ذا أربع زوايا قائمة، والأحوط استحباباً ترك تسنيمه.

 
العاشر: إحكام القبر، وأن يرشّ الماء على قبره. والأوْلى أن يستقبل القبلة ويبتدئ بالرشّ من عند الرأس إلى الرجل، ثمّ يدور به على القبر1.
 
الحادي عشر: وضع اليد على القبر مفرّجة الأصابع مع غمزها بحيث يبقى أثرها.
 
الثاني عشر: قراءة سورة القدر سبع مرّات.
 
الثالث عشر: الاستغفار والدعاء للميّت بالمأثور.
 
الرابع عشر: أن يلقّنه الولي أو من يأمره، بعد تمام الدفن، ورجوع المشيّعين وانصرافهم، الشهادة. وبذلك التلقين يدفع سؤال منكر ونكير.
 
الخامس عشر: أن يُكتب اسم الميّت على القبر، أو على لوح، أو حجر، ويُنصب عند رأسه.
 
 
مكروهات الدفن
يُكره في الدفن أمور، منها:
الأوّل: دفن ميّتين في قبر واحد، كجمعهما في جنازة واحدة.
الثاني: فرش القبر بالساج (شجر خاص) إلاّ إذا كانت الأرض نديّة، فيستحبّ وضع الميّت على التراب، وسدّ القبر وتطيينه بغير ترابه.
الثالث: نزول الوالد في قبر ولده, خوفاً من جزعه وفوات أجره.
الرابع: أن يهيل ذو الرحم على رحمه التراب.
الخامس: تجديد القبر بعد اندراسه، إلاّ قبور الأنبياء عليهم السلام والأوصياء والصلحاء والعلماء، ورفع القبر عن الأرض أزيد من أربعة أصابع مفرّجات.
السادس: الجلوس على القبر، والاتّكاء، والمشي من غير ضرورة، والضحك عنده.



 
1  الإمام الخامنئي: رشّ الماء على القبر يوم الدفن مستحب، وأما بعده فلا إشكال فيه بقصد الرجاء.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

177

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 الدرس السادس:

أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت


أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن وجوب غسل مسّ الميّت وأحكامه الشرعية. 
2- يتعرّف على أهم أحكم الشهيد الإبتلائية. 
3- يبيّن المصاديق الشرعية للشهيد في الإسلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

178

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 وجوب غسل المسّ

1- يجب الغسل بمسّ ميّت الإنسان بعد برد تمام جسده، وقبل تمام غسله. فلو مسّ الميت قبل برده (قبل انخفاض حرارة جسده) لا يجب الغسل بمسّه، ولو مسّ بعد تمام تغسيله لا يجب الغسل بمسّه أيضاً. 
 
2- لا فرق في الميّت بين المسلم والكافر، والكبير والصغير، حتّى السقط إذا تمّ له أربعة أشهر1
 
3- لا فرق في المسّ بين ما تحلّه الحياة وغيره، ماسّاً وممسوساً، فيجب الغسل بمسّ ظفر الميّت بظفر الحيّ -مثلاً-، ويستثنى من ذلك الشعر، فلا يجب الغسل بمسّ الشعر من بدن الميّت بأيّ جزء من بدن الحيّ، كما لا يجب الغسل بمسّ بدن الميت بشعر الحيّ. 
 
4- لا يجب الغسل بمسّ الميّت بعد غسله ولو كان غسلاً اضطراريّاً، كما إذا كانت الأغسال الثلاثة بالماء الخالص لفقد السدر2 والكافور3، بل وإن غسله الكافر عند فقد المسلم المماثل. 
 
5- لا يجب الغسل بمسّ الميّت لو يُمّم عند تعذّر التغسيل. 
 
6- تكرار المسّ لا يوجب تكرار الغسل، حتّى ولو كان الممسوس متعدّداً. 



1 الإمام الخامنئي: السقط إذا لم يتمّ له أربعة أشهر لا يجب الغسل بمسّه وإن ولجته الروح.
2 السدر: شجر النبق. ويراد هنا الورق المطحون.
3 الكافور: هو طيب، يكون في أجواف شجر، خشبه أبيض.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

179

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 أحكام غسل مسّ الميّت

1- مسّ القطعة المنفصلة من الحيّ والميّت 
القطعة المبانة1 من الحيّ إذا مُسّت ففيها ثلاث صور:
الأولى: إذا كانت مشتملة على اللحم والعظم يجب الغسل بمسّها2.
الثانية: إذا كانت عظماً مجرداً عن اللحم، لا يجب الغسل بمسّها، وإن كان الأحوط استحباباً الغسل بمسّها.
الثالثة: إذا كانت لحماً مجرّداً عن العظم لا يجب الغسل بمسّها3.
 
أما حكم مسّ القطعة المنفصلة من الميّت، يجب الغسل بمسّ القطعة المنفصلة من الميّت4، إلاّ الشعر5.
 
2- أحكام الشكّ في وجوب الاغتسال 
- لو مسّ ميّتاً، وشكّ أنّه قبل برده أو بعده، لا يجب الغسل. 
- لو مسّ ميّتاً بعد برده، وشكّ في أنّه كان قبل الغسل أو بعده، يجب الغسل6
 
3- من لا يجب الغسل بمسّه 
- الشهيد، فهو كالمغسّل فلا يوجب مسّه الغسل7
- من وجب قتله قصاصاً أو حداً، فأُمر بتقديم غسله ليقتل. 
 
4- موت قطعة متّصلة بالحيّ 
- إذا خرجت الروح من عضو من أعضاء الحيّ، فإن بقي متّصلاً ببدن الحيّ لا



1 المبانة: المنفصلة، المقطوعة.
2 الإمام الخامنئي: لا يجب غسل مس الميت بمس العضو المذكور.
3 الإمام الخامنئي: ما يخرج من أنسجة اللثّة عند قلع الأسنان لا يجب الغسل بمسّها.
4 الإمام الخامنئي: مسّ العضو المبان من الميت بعد برده وقبل غسله حكمه حكم مسّ بدن الميّت نفسه.
5 الإمام الخامنئي: مسّ جمجمة غير المسلم المجرّدة عن اللحم يوجب الغسل.
6 الإمام الخامنئي: إذا لم تحرز أصل غسل الميت وكان هناك شكّ في ذلك، فمع مسّ ذلك الجسد أو أجزائه يجب غسل مسّ الميت.
7 الإمام الخامنئي: لا يجب الغسل بمسّ الشهيد الذي سقط عنه وجوب الغسل والتكفين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

180

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 يجب الغسل بمسّه. وإن انفصل فقد مرّ حكمه1

 
5- نقض المسّ للوضوء 
مسّ الميّت ينقض الوضوء، فيجب الوضوء مع غسل المسّ لكلّ مشروط بالوضوء.
 
6- غايات غسل المسّ 
- يجب غسل المسّ لكلّ ما يكون جوازه مشروطاً بالطهارة من الحدث الأصغر كمس كتابة القرآن الكريم ونحوه. 
- هو شرط فيما يشترط في صحّته الطهارة، كالصلاة، والطواف الواجب2
 
7- أشياء مباحة للماسّ 
يجوز لمن عليه غسل المسّ دخول المساجد والمشاهد المشرّفة، والمكث فيها، وقراءة العزائم، ويجوز وطء الزوجة إن كانت ماسّة، فحال مسّ الميّت حال الحدث الأصغر إلاّ في إيجاب الغسل للصلاة ونحوها.
 
أحكام الشهيد
إن فضل الشهداء وثوابهم وأجرهم ومثواهم في الجنة بل وفي الدنيا أيضاً كبير جداً، بحيث إنّ الله تعالى قد اعتبرهم أحياء يرزقون وأنهم أمراء أهل الجنة وسادتهم، وقد تواترت الأخبار في هذا المعنى إلى حد كبير وهذا مما لاشك فيه.
 
ومن هنا اختص الشهيد مضافاً إلى الأجر والثواب والدرجة في الآخرة ببعض الأحكام الشرعية ميزته عن غيره من الناس الذين يقتلون أو يموتون.
 
ومن هذه الأحكام ما ورد في كيفية تجهيزه من جهة الغسل والكفن ومس بدنه.
 
وسوف نستعرض جملة من هذه الأحكام ضمن المسائل الآتية مضافاً إلى استعراض 



1 في الصفحة السابقة.
2 الطواف الواجب هو الذي يكون جزءاً من حجّ أو عمرة واجبين أو مستحبين. والطواف المستحبّ هو الذي لا يكون جزءاً لحجّ أو عمرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

 


181

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 بعض الموارد والحالات التي قد يحصل فيها الاشتباه والخطأ في تشخيص أن هذا المجاهد الذي قتل هل هو شهيد بالمصطلح الشرعي أم لا؟

 
وكذلك سوف نستعرض ونبيّن ما هو المراد من أرض المعركة وساحة الحرب التي هي الأساس في تشخيص المقتول فيها أنه من الشهداء أم لا.
 
وهذه الموارد نستعرضها ضمن المسائل التالية:
1- الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة لا يغسَّل ولا يكفَّن1. سواء دفن في أرض المعركة أو نقل بعد شهادته إلى بلد آخر ليدفن فيه. 
 
2- الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة لا يغسل ولا يكفن بل يجب دفنه بلباسه الذي قتل فيه بعد الصلاة عليه2.
 
3- إذا شك في أن المجاهد قتل في أرض المعركة أثناء المواجهات أو أنه قتل بعد انتهائها فإن كان هناك قرائن وأمارات تدل على استشهاده أثناء المعركة فيسقط عنه الغسل والتكفين وإلا فلا3
 
4- مسّ بدن الشهيد الذي سقط في أرض المعركة لا يوجب غسل مسّ الميت4.
 
5- إذا دخل أحد المجاهدين أرض العدو أثناء المعركة وهجوم العدو لاقتضاء الأمر لذلك واستشهد هناك فتترتب عليه أحكام الشهيد. إذ لا فرق في اتصاف المجاهد بالشهادة بين قتله في أرض العدو أو أي مكان آخر حين المعركة والحرب. وبالتالي يسقط عنه الغسل والتكفين5.
 
6- إذا لم يكن للشهيد وصية في دفنه في مكان معيّن ولم يكن دفنه في أرض المعركة موجباً للهتك فلا مانع من دفنه في أرض المعركة التي استشهد فيها



1 استفتاءات الإمام ج3- ص46- س20. استفتاءات الإمام ج1- ص80- س164.
2 استفتاءات الإمام ج1- ص80- س21.
3 استفتاءات الإمام ج3- ص47- س24.
4 استفتاءات الإمام ج3- ص47- س25.
5 استفتاءات الإمام ج3- ص51- س38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

182

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 ولكن يجب أن يكون ذلك بإجازة وليّه الشرعي1

 
7- يجب أداء المهر المؤجل لزوجة الشهيد من تركته المتبقية بعد شهادته2.
 
تحديد الشهيد3
1- الشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن هو الذي يقتل في معركة قتال العدو بإذن الإمام أو نائبه الخاص أو العام في زمان الغيبة لحفظ بيضة الإسلام. 
 
والمراد من بيضة الإسلام أصل الإسلام بحيث يخاف على هدمه وقلبه بضدّه ولو في منطقة من المناطق الإسلامية4.
 
2- أحد المجاهدين العاملين في تفكيك الألغام أرسل في مهمة لمنطقة خارج أرض المعركة لنزع الألغام منها، ولسبب ما انفجر أحد الألغام فيه وقتل فهذا الشخص تجري عليه أحكام الشهيد ويسقط عنه الغسل والتكفين5.
 
3- الناس الذين يقتلون في المدن والقرى جراء قصف العدو لهم أجر الشهيد إن شاء الله تعالى ولكن لا يسقط عنهم الغسل والتكفين6.
 
4- المجاهد الذي يجلس في البيت أو أحد المتاريس للاستراحة فأصيب المكان بقذيفة صاروخية من العدو أدّت إلى قتله، فإن كان هذا المجاهد في جبهة القتال (ساحة الحرب) فهو شهيد حتى وإن كان في حالة الاستراحة7.
 
5- الشخص الذي يعمل على جهاز اللاسلكي أو بالتبليغ أو الإعلام الحربي إذا كان في المعركة واستشهد في أرض المعركة فحكمه حكم سائر الشهداء من جهة الغسل والكفن8.



1 استفتاءات الإمام ج3- ص51- س39.
2 استفتاءات الإمام ج3- ص56- س54.
3 أي المراد من لفظ الشهيد والمقصود به بالمصطلح الفقهي.
4 استفتاءات الإمام ج1- رقم 43377.
5 استفتاءات الإمام ج1- ص82- س203.
6 استفتاءات الإمام ج3- ص47- س23.
7 استفتاءات الإمام ج1- ص505- س43.
8 استفتاءات الإمام ج1- ص80- س22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

183

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 6- الذي يقتل أثناء انفجار أحد الألغام المزروعة من قبل العدو خارج أرض المعركة أو بعد انتهائها في تلك المنطقة وكان الغرض من إزالته الألغام هناك الاستفادة من الأرض للزراعة ونحوه فهذا الشخص لا تجري عليه أحكام الشهيد بل يجب أن يغسل ويكفّن وإن كان له أجر الشهيد1

 
7- إذا أصيب أحد المجاهدين بجروح في أرض المعركة ولكنه لم يقتل هناك بل مات في المستشفى أو في سيارة الإسعاف أثناء نقله، فإن كان ذلك في المنطقة القتالية فهو شهيد ويسقط عنه الغسل والتكفين. وأما إذا مات خارج المنطقة القتالية فلا يترتب عليه حكم الشهيد بل يغسل ويكفّن2.
 
8- المجاهد الذي يكون بعيداً عن الخطوط الأمامية للجبهة (خط المواجهة مع العدو) ولكنه يعمل على المدفعية التي تقصف مواقع العدو أو يعمل على المضادات التي تصدّ الطائرات فإذا قصف من العدو أرضاً أو جوّاً وقتل فهو شهيد3.
 
- الأشخاص الذين لا يقاتلون ولكنهم يوجدون في المعركة لأجل التبليغ أو إصلاح الطرقات أو خطوط الاتصال أو إيصال المؤن والمساعدات الأخرى فإذا قتلوا هناك وكانوا يعدّون جزءاً من القوى العاملة على الجبهة فحكمهم حكم الشهيد4.
 
9- إذا قتل أحد المجاهدين خلف خطوط جبهة القتال اغتيالاً من قبل مخابرات العدو أو المتعاملين مع العدو فله ثواب الشهيد وأجره5.
 
10- المراد من أرض المعركة - التي يترتب على من قتل فيها أحكام الشهيد - هي المكان الذي يصل إليه رصاص العدو في حدود المنطقة التي تحصل فيها



1 استفتاءات الإمام ج1- ص505- س44.
2 استفتاءات الإمام ج1- ص505- س45.
3 استفتاءات الإمام ج1- ص81- س195.
4 استفتاءات الإمام ج1- ص81- س196.
5 استفتاءات الإمام ج1- ص82- س201.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

184

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 الحرب لا الأماكن والمدن البعيدة إلا إذا صدق عليها أيضاً أنها منطقة حربية وساحة حرب1




1 استفتاءات الإمام ج1- ص504- س42.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

185

الدرس السادس: أحكام الشهيد وغسل مسّ الميّت

 للمطالعة

 
تعزية أهل المصيبة وتسليتهم
من المستحبّات الأكيدة التعزية لأهل المصيبة، وتسليتهم، وتخفيف حزنهم، بذكر ما يناسب المقام، وما له دخل في هذا المرام، من ذكر مصائب الدنيا وسرعة زوالها، وأنّ كلّ نفس فانية، والآجال متقاربة، ونقل ما ورد فيما أعدّ الله - تعالى - للمصاب من الأجر، ولا سيّما مصاب الولد من أنّه شافع مشفّع لأبويه، حتّى إنّ السقط يقف وقفة الغضبان على باب الجنّة فيقول: لا أدخل حتّى يدخل أبواي، فيدخلهما الله - تعالى - الجنّة، إلى غير ذلك.
 
وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده، والأفضل بعده، وأجرها عظيم، ولا سيّما تعزية الثكلى واليتيم، فمن عزّى مصاباً كان له مثل أجره، من غير أن ينتقص من أجر المصاب شيء.
 
"وما من مسلم يعزّي أخاه المسلم بمصيبة إلاّ كساه الله من حُلَلِ الكرامة"1.
 
"وكان فيما ناجى به موسى عليه السلام ربّه أنّه قال: يا ربّ، ما لمن عزّى الثكلى؟ قال: أظلّه في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي"2.
 
"وما من عبد يمسح يده على رأس يتيم ترحّماً له إلاّ أعطاه الله - عزّ وجلّ - بكلّ شعرة نوراً يوم القيامة"3، إلى غير ذلك ممّا ورد في الأخبار.
 
ويكفي في تحقّق التعزية مجرّد الحضور عند المصاب لأجلها بحيث يراه؛ فإنّ له دخلاً في تسلية الخاطر وتسكين لوعة الحزن.
 
ويجوز جلوس أهل الميّت للتعزية، ولا كراهة فيه. نعم الأوْلى أن لا يزيد على ثلاثة أيّام، كما أنّه يستحبّ إرسال الطعام إليهم في تلك المدّة، بل إلى الثلاثة وإن كان مدّة جلوسهم أقلّ.



1 مستدرك الوسائل: الشيخ النوري، ط1، قمّ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408هـ.ق، ج2، باب استحباب التعزية، ح2171، ص352.
2 الكافي: الشيخ الكليني، ط1، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1365هـ.ش، ج3، باب ثواب التعزية، ح1، ص227.
3 من لا يحضره الفقيه: الشيخ الطوسيّ، ط1، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1413هـ.ق، ج1، 189.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

186
الحياة الآخرة – دروس في المعاد والآخرة