التربية الجهادية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 المحتويات

مقدّمة

6

المحور الأول: ماهية الجهاد وأهدافه وآثاره

9

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

11

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

29

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

45

المحور الثاني: شروط الجهاد في سبيل الله

61

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

63

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

79

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

95

المحور الثالث: موانع الجهاد في سبيل الله

109

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

111

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

127

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

143

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

159

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4


1

الفهرس

 

المحور الرابع: تبعات ترك الجهاد

173

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

175

الدرس الثاني عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 2

189

المحور الخامس: قدسيّة الشهادة

203

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة, فضلها وثوابها

205

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

221

المحور السادس: أحكام المجاهد 

237

الدرس الخامس عشر: أحكام عبادة المجاهد

249

الدرس السادس عشر: أحكام الأموات

259

 

 

 

 

 

 

 

 

5


2

المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
هذا المتن
هو الكتاب الثالث من سلسلة رافد للتأهيل الثقافي، ويتضمّن مجموعة من الدروس التثقيفية الهادفة إلى تقديم الأسس والمرتكزات الفكرية والإيمانية في الجهاد والشهادة؛ وفق ما جاء في القرآن الكريم، وروايات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وبيان الأبعاد الإيمانية والآثار التربوية، والبركات الكبيرة المترتّبة على الجهاد في سبيل الله، وقد راعينا فيه مجموعة من الضوابط المنهجية والمضمونيّة أهمها: 
- أنه كتاب تعليمي، وزِّعت دروسه ضمن محاور، ووضعنا أهدافاً عامّة لكل محور، وأهدافاً خاصة تعليمية - تعلّمية لكل درس.
- يجب الانطلاق من الأهداف المحدّدة لكل درس خلال عمليات التحضير والتدريس والتقييم، والحرص الدائم على تحقيقها.

- أردفنا كل درس بمجموعة من المفاهيم الرئيسة المستخلصة منه، للتسهيل على المدرّس تثبيت أهم المفاهيم للطلاب نهاية كل درس.
- ابتعدنا كثيراً عن الصياغة والأسلوب الإنشائي، واستفدنا كثيراً وبشكل مباشر من مداليل الآيات والروايات، اعتماداً على مصادر التفسير والحديث المعتبرة.

اعتمدنا سياسة توسيع مضامين الدروس وتفصيلها بملاحظة أمرين: 
- الأوّل: لنضع بين يدي المدرّس مادة مفصّلة يستند عليها في التحضير، تمكّنه من الإحاطة بمصادر وشواهد أكثر للأفكار والموضوعات التي تدور حولها الدروس. والأمل معقود على الأساتذة الكرام أن يحيطوا بالأهداف الموضوعة لكل درس وأفكاره الرئيسية لكي تسهل عليهم مهمة إبلاغ المفاهيم بشكل أتمّ وأفضل، لتتحقّق بذلك الغايات والأهداف المنشودة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

3

المقدمة

 - والثاني: خاص بالمتدرّب والطالب كي يتمكَّن من قراءة مادّة كاملة حول المواضيع المطروحة.

وضعنا كتاباً تطبيقياً تابعاً للمتن، يتضمّن تمارين وتطبيقات خاصة بكل درس تساهم في تحقيق الأهداف المحدَّدة.

أدرجنا ضمن كتاب التطبيقات والتمارين مجموعة بطاقات للتدبّر والتأمّل في دلالات ونتائج وأهداف أهم المعارك التي حصلت في صدر الإسلام.

ابتعدنا عن التعقيد المعنوي واللفظي في صياغة الدروس، وحرصنا على صياغتها بلغة علمية سلسلة أحياناً، وسهلة أحياناً أخرى، ولهذه الغاية شرحنا بعض المصطلحات المعقدّة الواردة في الروايات في الهامش.

والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

4

المحور الأول: ماهية الجهاد وأهدافه وآثاره

 ماهية الجهاد وأهدافه وآثاره




أهداف المحور الأول:
- التعرّف على معنى الجهاد، حقيقته وفضله. 
- التعرّف على أهداف الجهاد وفلسفة تشريعه. 
- التعرّف على آثار الجهاد الدنيوية والأخروية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

 


5

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الدرس الأول: حقيقة الجهاد



أهداف الدرس: 
- التعرّف على فضل الجهاد في الآيات والروايات.
- بيان أهمية القيام بالجهاد كتكليف إلهي وشرعي.
- بيان الحكمة من فرض الجهاد مع شدّته وكراهيته.
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الجهاد في اللغة والاصطلاح: 

الجهاد في اللغة: 
اشتقّت كلمة "الجهاد" من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء"1 وبمعنى "الوسع والطّاقة", وعليه, يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء والمشقة.
 
الجهاد والقتال في القرآن: 
استخدم القرآن المجيد في آياته التي تحدّثت عن موضوع بذل الجهد والوسع في قتال العدو, مفردتين اثنتين هما: الجهاد والقتال, في قوله تعالى ﴿انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في‏ 
 
 
 

1- راجع تاج العروس، ج4، ص407-409.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1، وقوله عزّ وجلّ ﴿وَقاتِلُوا في‏ سَبيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾2.

 
وتطلق كلمة الجهاد غالباً على عملية صَدِّ العدوّ عن طريق الحرب، إلاّ أنّ معناها يتّسع ليشمل دفع كل ما يمكن أن يصيب الإنسان بالضرر، كالمواجهة مع الشيطان الذي يُضلّ الإنسان، أو النفس الأمّارة التي تدعو إلى ارتكاب السيئات وترك العمل بالطاعات، حيث وصفت بعض الروايات مخالفة هوى النفس بالجهاد الأكبر، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر"3.
 
وقد اعتبر بعض المفسِّرين أنّ آيات الجهاد الواردة في القرآن الكريم ناظرة في الواقع إلى هذين النوعين من الجهاد: جهاد النفس وجهاد العدو. فعلى سبيل المثال، فسّر العلامة الطبرسي قدس سره معنى الجهاد في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾4 بجهاد الكفار، وبمجاهدة أهواء النفس5. أمّا كلمة "القتال" فهي بمعنى الحرب، ولم تستعمل في القرآن المجيد سوى للإشارة إلى الحرب مع العدو الظاهري والخارجي.
 
الجهاد في الاصطلاح: 
وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف الفقهاء مصطلح الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجهٍ مخصوص أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان"6.
  
 
 

1- التوبة،41.
2- البقرة، 244.
3- بحار الأنوار،ج67،ص65.
4- العنكبوت، 69.
5- يُراجع: تفسير مجمع البيان، ج8، ص41. 
6- جواهر الكلام، ج21، ص3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 أما من حيث معنى الجهاد ومعياره، فقد شرح الإمام القائد الخامنئي دام ظله بعض ذلك حينما قال: "الجهاد هو كل كفاح من أجل تحقيق هدف سامٍ مقدّس. والملاك في صدق الجهاد هو أن تكون هذه الحركة موجّهة، وتواجه عقباتٍ تنصبّ الهمم على رفعها. فهذا هو الكفاح. والجهاد هو مثل هذا الكفاح الذي إذا كان ذا منحىً وهدفٍ إلهي فسيكتسب بذلك طابعاً قدسياً"1.

 
فضل الجهاد وأهميّته في الآيات والروايات: 
1- في الآيات: 
عندما ننظر إلى آيات القرآن الكريم نجد أنّه قلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلامي كما هو الحال بشأن الجهاد. ثم نجد أنّه نزلَ البعضُ منها بلسانٍ صريحٍ، ينصّ على الجهاد والقتال، والبعض الآخر بلسانٍ غير مباشر، يتعرّض إلى المسائل الجانبية المتعلّقة به.
 
ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد، عمد إلى مقارنته بخدمة الحجاج وعمارة المسجد الحرام اللذين كانا محلاً للافتخار والمباهاة في الجاهلية، ثم صرّح بأفضلية الجهاد عليهم، حيث قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾2.
  
 
 

1- الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله. نقلاً عن: WWW.KHAMENEI.IR
2- التوبة، 19-20.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 كما أن سورة "العاديات" تشير إلى عظمة الحركة الجهادية حيث أقسم القرآن الكريم بخيول المجاهدين وقدح النار من تحت حوافرها وسنابكه، قال تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾1، إنّ هذه الآيات لشاهد قويٌّ على عظمة الجهاد لأنَّه تعالى لا يُقسم إلا بالأمر العزيز.

 
ويلاحظ المرء أنَّ كل الآيات التي تحدّثت عن فضل وعلوّ منزلة المجاهدين في سبيل الله، تحكي في الوقت نفسه عن أهمّيّة الجهاد وفضله، حيث إن الجهاد يتقوّم بالمجاهدين ولا ينفكّ عنهم كما في قوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ عَلَى الْقاعِدينَ أَجْراً عَظيماً﴾2.
 
وفي آية أخرى جعل الله تعالى نفسه مشتريَ أرواحِ المؤمنين المجاهدين وأموالهم، في صورة تدلّل على قبول الله تعالى لجهاد المجاهدين المؤمنين، فهو تعالى يمتدحهم ويقدّم الوعد الجميل، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾3.
 
كما أشار تعالى إلى أنّ المجاهدين هم أحباؤه واقعاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾4، ووعدهم بالأجر
  
 
 

1- العاديات، 1- 4.
2- النساء، 95.
3- التوبة، 111.
4- الصف، 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 العظيم والجزيل: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾1، واعتبرهم الفائزين في هذا العالم وبشّرهم برحمةٍ منه ورضوان، وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالمين: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾2.

 
ويكفي لمعرفة أهمّيّة الجهاد الالتفات إلى ما وعد الله تعالى به من الأجر العظيم حيث قال عزّ من قائل: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾3. إذ أطلق الله تعالى لفظ الأجر العظيم ولم يحدّد ماهيته وقدره، لكي يوضح لنا أنّ هذا الأجر هو فوق ما يتصوّره الإنسان، فقال عزّ اسمه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾4، لأجل تحريك العواطف الإنسانية قال عزوجل: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾5، ثمّ بلسان الأمر في نهاية المطاف لما للجهاد من بركاتٍ وفوائد يعجز الإنسان نفسه عن
  
 
 

1- النساء، 74.
2- التوبة، 20-21.
3- النساء، 74.
4- البقرة، 216.
5- التوبة، 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 إحصائه، قال: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1

 
2- في الروايات: 
لقد أوضحت الروايات الكثيرة أهمّية الجهاد وحقيقته وفضله، ومنها: 
- أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله. قال: قلتُ: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله"2.
 
- وفي حديث آخر رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال "الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف"3.


- ورُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "من لقي الله بغير أثرٍ من جهاد لقي الله وفيه ثلمة"4.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال "من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبةٍ من نفاق"5.


وفي رواية أنّ رجلاً أتى جبلاً ليعبد الله فيه، فجاء به أهله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فنهاه عن ذلك، وقال: "إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوماً واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"6.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين، والأجر فيه عظيم مع العزَّة والمنعة، وهو الكَرَّةُ، فيه الحسنات 
  
 
 

1- البقرة، 244.
2- بحار الأنوار، ج97، ص11.
3- م.ن، ص9.
4- كنز العمال، ح10495. 
5- صحيح ميزان الحكمة، ج1، ص444. 
6- مستدرك الوسائل، ج11، ح12324، ص21. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 والبشرى بالجنة بعد الشهادة"1.

 
- وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّةٍ كان فيها ابن رواحة، وتحرّك الجيش مع الفجر نحو المنطقة المحدّدة، ولكنّ ابن رواحة تخلّف عنه ليصلي وراء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد الصلاة، رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ألم تكن في ذلك الجيش؟ فأجاب: بلى، ولكنّي أحببتُ أن أصلّي خلفك هذه الصلاة ثم ألحقَ بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما أدركتَ فضلَ غدوتهم"2.
 
- ومن خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السلام في أواخر عمره، حيث يقول: "إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فتحهُ الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودِرعُ الله الحصينةُ، وجُنّتهُ الوثيقة"3.
 
- وعن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد أصحابه: "ألاَ أُخبرك بالإسلام وفرعه وذروته وسنامه؟ قال: قلتُ: بلى جعلت فداك، قال عليه السلام: أمّا أصله فالصلاة، وفرعه فالزكاة، وذروته وسنامه الجهاد"4.
 
وبالإضافة إلى ما ذُكِرَ منَ الآيات والروايات، فإنّ التدقيق في دور الجهاد في الإسلام، ومنزلته بالنسبة لسائر الواجبات الدينية، يطلعنا أيضاً على أهمّيّته وعظمته. فالجهاد الدفاعي سبب في توفير الأمن، والذي في ظلّه فقط يمكن إقامة سائر الواجبات والحدود الإلهية. وفي الجهاد الابتدائي أيضاً رفع للموانع من أجل تبليغ الدين الإلهي، وهو موجب لميل عددٍ من المجتمعات البشرية نحو الدين الحقّ، ومن الواضح أنّه مع تحقّق هذا الميل وازدياد عدد المسلمين يصبح بالإمكان
  
 
 

1- نور الثقلين،ج1، ص408. 
2- جامع الصحيح، ح525، ص20.
3- نهج البلاغة، الخطبة 27.
4- بحار الأنوار، ج66، ص392.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 إرساء قواعد حكومة العدل وتنفيذ الأحكام الإسلامية بشكلٍ أوسع. وباختصار، إنّ تبليغ أصول الدين والعمل بفروعه، وحفظ الكرامات والدماء والأعراض والأرض وسائر المقدّسات مرهون في كثيرٍ من الموارد بأداء هذه الفريضة الإلهية الكبرى، وهو ما يدلّ بدوره على عظمتها وفضلها. وخير شاهدٍ على هذا في هذا العصر جهاد الثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان.

 
الجهاد تكليف إلهي وواجب شرعيّ: 
في بداية الدعوة كان المسلمون في مكّة يتعرّضون لأذى المشركين كثير، وكانوا يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين مشجوجٍ ومضروبٍ يشكون إليه ما يعانون من قهرٍ وأذى، فكان صلوات اللّه عليه وآله يقول لهم: "اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال"1. واستمرّ الحال كذلك حتّى هاجر صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل اللّه عليه قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾2. فبعد طول انتظارٍ أذن الله تعالى - لمن يتعرّض لعدوان الأعداء - بالقتال والجهاد، والسبب في ذلك أنهم قد وصلوا في نهاية الأمر إلى مرحلة لا يمكنهم فيها دفع الأذى والظلم عنهم إلا بالجهاد والقتال.
 
إذاً فجهاد المظلوم ضد الظالم - الذي يريد محو ذكر الله وجعل الناس عبيداً له - من الحقوق الطبيعيّة التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته كما سوف يأتي معنا في حقِّ الدفاع. ولقائلٍ أن يقول: لماذا أُجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟! ألم يكن بالإمكان تحقيق الأهداف الإسلاميّة باللجوء
  
 
 
 

1- بحارالأنوار، ج19، ص157
2- الحج، 39.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 إلى العقل والحوار والمنطق؟!

 
ولكن هل يمكن أن يكون الحوار والمنطق مفيداً لظالمٍ ترَك لغة الحوار واستبدل اللسان بالسنان وراح يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنبٍ اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد اللّه، وتراه يستولي على منازلهم وأموالهم، ولا يلتزم بأيّ قانونٍ ومنطقٍ تجاههم؟! فهل يمكن ردع هؤلاء الطغاة بغير لغة السلاح والقوّة بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية؟! 
 
وبعد الإذن بالجهاد أصبح الجهاد واجباً وتكليفاً إلهيّاً على كلّ مؤمنٍ مستطيع: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾1.
 
فقوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إشارةٌ إلى أن القتال حكمٌ وتشريعٌ إلهيٌّ حتميٌّ ومقطوع، وهو فرض على كافّة المؤمنين بدليل أن الخطاب متوجّه إليهم جميع، إلا من كان معذوراً. 


والقتال المكتوب يستبطن في داخله شدّةً لا بدّ منها على المؤمنين، فالقتال مستلزمٌ لإفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، لاقترانه بأنواع المشقّات والمصائب، وغير ذلك ممّا تكرهه النفس الإنسانية وتجده شاقّاً ومتعباً. 
 
وبعد إعلان تشريع التّكليف الإلهي بالجهاد والقتال وعدم جواز الرّضوخ للظّالمين من الكفّار والمشركين وغيرهم مهما كانت الظروف قاسيةً وصعبة، حتى لو اضطرّ المجاهد المسلم الواحد أن يقاتل العشرة في المرحلة الأولى، ويقاتل الاثنين بعد أن خفّف الله تعالى عنهم.
  
 
 

1- البقرة، 216.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ و﴿الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1.

 
هذا إضافة إلى الآيات التي حثَّت على الإعداد الإيمانيّ والبنيويّ للجهاد والقتال، وتهيئة المسلمين لما يمكن أن يُصابوا به من الخسائر والأذى والألم بسبب القتال في سبيله. فالواضح من هذا التّكليف الإلهيّ في القرآن، ومن سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام وأبي عبد الله الحسين عليه السلام في الجهاد والحرب والقتال، بأنّ الجهاد يرتبط بالدِّفاع عن الدِّين والمقدَّسات والأعراض والكرامات حتى لو كانت التَّضحيات كبيرة وغالية. وفي كلّ الحالات يجب أن يلبّي المجاهدون نداء الدّفاع عن الحق والقتال في سبيل الله حتّى لو أدى ذلك إلى المشقّة وترك الأعزّاء، أو كرهته النّفوس التزاماً وتعبّداً بالتّكليف الشرعي الإلهي.
 
ما الحكمة من وجوب القتال مع كراهيته؟
فلسائلٍ أن يسأل أنّه إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان، مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة؟! فالمفروض في الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟!
 
في البداية يجب أن نعرف أن الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع 
 
 

1- الأنفال، 65-66.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الإنسان فيما لو اقترنت بالمعرفة. فصحيح أن الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أما لو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارّة، فمن الواضح في هذه الحالة أنّ فطرته وبسبب هذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح أيضاً.

 
وفي مورد الجهاد فإن الذين لا يرون فيه سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعي أن يكون مكروهاً لديهم.
أمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا هم يرحّبون به ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيه، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابي على سلامتهم وصحّتهم يتقبّلونها برحابة صدر. 
 
من هنا يشير الحق تعالى في هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساسٍ حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة فيقول: ﴿وَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾1. فلا عبرة بكرهكم وحبّكم لأنكم ربما تخطئون الواقع، لجهلكم فلا تقدرون على الاهتداء بأنفسكم إلى حقيقة الأمر.
 
وفي الختام يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكلٍ حاسم أنّه لا ينبغي للبشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصّة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عزّ 
  
 
 

1- البقرة، 216.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

17

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 وجلّ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾1. فالناس لأنهم لم يدركوا إلا القليل من أسرار الخلقة ومن القوانين التكوينيّة الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة. 

 
والكلام هو نفسه بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالإنسان لا يعلم بكثيرٍ من المصالح والمفاسد الموجودة فيه، لذا فقد يكره شيئاً في حين أنّ سعادته تكمن فيه، أو يفرح بشي‏ءٍ ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته. وعليه فلا يحقّ للإنسان مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحق اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أن الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعاً ما كالجهاد مثلاً؛ فإنه لا يشرّعه إلّا لأنه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة. لذا على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم.
 
إذ، إن التزم الإنسان بأحكام الحق فالنفع يعود إليه لا إلى الحق، كما أخبر تعالى في قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يجُاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنىِ‏ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾1.
 
فاللّه تبارك وتعالى وجود غير متناهٍ من جميع الوجوه وهو الكمال المطلق، وغير مفتقر لأي شي‏ء، ولا ينقصه شي‏ء حتى يكمله الآخرون، بل كل ما عندهم منه، وليس لهم شي‏ء من أنفسهم!! إذ، فجميع منافع الجهاد ترجع إلى الشخص المجاهد نفسه، فهو بجهاده سيفوز بخير الدنيا والآخرة. والفائدة الكبيرة الأولى 
  
 
 

1- البقرة، 216.
2- العنكبوت، 7،6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

18

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 لجهاده هي تكفير الذنوب والعفو عنها وستره، كما أن الثواب سيكون من نصيبه كما يقول تعالى في نهاية هذه الآية المباركة: أنه سيرفع درجة المجاهدين إلى ما يناسب أحسن أعمالهم. فإذا كانت بعض أعمالهم تشوبها المشاكل فإنه تعالى سيعاملهم في كل واحد منها معاملة من أتى بأحسن الأعمال، فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة وإن اشتملت على بعض الشوائب وهكذا...


الجهاد وتهذيب النَّفس:
تعدَّدت الأخبار التي تصف جهاد النَّفس بأنّه أكبر من جهاد العدوّ، وأنّ من غلب نفسه وجاهده، فهو الشّديد والمنتصر، ومن الواضح أنّ منشأ أرجحيّة جهاد النَّفس على جهاد العدوّ، هو أنّ جهاد العدوّ مع ما فيه من صعوباتٍ ومحن إنَّما ينهض به المجاهد بعد أن يغلب نفسه، ويطوّعها لحمل تلك المشاقّ وتجاوز تلك الصُّعوبات والمحن، ولو غلبته نفسه وأبت عليه أنْ يُجاهد لما جاهد، فجهاد العدو ما هو إلا فرعٌ من أصلٍ بالنِّسبة إلى جهاد النّفس.

ومع هذا يجب أن نلتفت إلى أنّ الجهاد العسكريّ في سبيل الله الذي يكون لنشر الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد والدفاع عن المستضعفين هو إحدى العبادات الكبرى الموجبة لتكامل النّفس، والتقرّب إلى الله، والارتقاء إليه، وهذا ما يفهم من الآيات والروايات الكثيرة التي تحدَّثت عن الدّرجات العظيمة، والمنزلة الرّفيعة للمجاهدين، من الفوز والبشرى برحمة الله تعالى، والخلود في جنّته في الآخرة. فالله تعالى يعطي الذي يجاهد ويقتل في سبيله أفضل المقامات وأرفعه، كلّ ذلك لأنّ المجاهد لا ينطلق في جهاده لتأمين أهداف شخصيّة أو ماديّة، بل إنّه يستثمر أكثر الأشياء قيمةً في سبيل السّير والسّلوك إلى الله والوصول إلى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

19

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

 الهدف، فهو يضحّي بروحه وكلّ وجوده ويسلّمه إلى الله مخلص، تاركاً كلّ متعلِّقات الدّنيا والمادّة والشّهوات باختياره ويسلّم روحه دفعةً واحدةً إلى الله. بل يمكن القول إنّ ما يصل إليه المجاهد في خنادق الجهاد قد لا يحصل على ما يشابهه في العبادات الأخرى، فهو يحطّم قفص المادّة، ويحلّق في عالم رضوان الله، ويرتقي عبر أرفع المقامات نحو ربّه بنحو أشرع وأقوى.

 

 

 

 

 

 

 

 

26


20

الدرس الأول: حقيقة الجهاد

  المفاهيم الرئيسية

1- الجهاد في اللغة من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء" وبمعنى "الوسع والطّاقة"، وعليه، يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء والمشقّة.
 
2- كلمة الجهاد غالباً ما تستعمل للدلالة على عملية صَدِّ العدو عن طريق الحرب، غير أنّ معناها قد يتّسع ليشمل دفع كل ما يمكن أن يصيب الإنسان بالضَّرر (كالشيطان، أو النفس الأمّارة).
 
3- يبيِّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد في مواطن كثيرة، فيقول على سبيل المثال: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾.
 
4- لقد أوضحت روايات كثيرة أهمية الجهاد وحقيقته وفضله، ومنها حين سأل أبو ذرّ الغفاري النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله. قال: قلتُ: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله".
 
5- الجهاد في الإسلام والشريعة المقدسة هو تكليف إلهي وواجب شرعي.
 
6- أمر الله تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد فقال له ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.
 
7- مع أن الجهاد فريضة فيها مشقّة كبيرة، إلا أن الله تعالى فرضها على الإنسان. وكراهية الإنسان لها نتيجة عدم رؤية الصورة الكاملة للجهاد، والاعتقاد بأن الجهاد هو تعب وخسائر مادية فقط، بينما الإسلام ينظر إلى النتائج البعيدة للجهاد من النصر والعزّة والكرامة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 الدّرس الثاني: أهداف الجهاد


أهداف الدرس: 
- بيان ملاك تشريع الجهاد وفلسفته.
- بيان وتوضيح منطلقات الصراع بين الحق والباطل.
- بيان أهم الأهداف الفردية والاجتماعية للجهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 فلسفة تشريع الجهاد: 

من الأسئلة التي تخطر في ذهن من يطّلعُ على حكم الجهاد في الإسلام، ومن أكثرها أهمّيّة، هي تلك التي تدور حول فلسفته: ما هو الهدف من تشريع حكم الجهاد؟ وهل يسعى الإسلام وراء فتح البلدان والسيطرة عليها؟ وهل الهدف الحقيقي هو جمع الغنائم؟ وهل الأهداف المادية هي التي تدفع بالمسلمين نحو الجهاد؟...

والصواب أنّ أيّاً من الأمور المذكورة آنفاً لم تكن من أهداف الجهاد أصلاً. فالجهاد في الإسلام ليس مشابهاً لحروب طواغيت التاريخ وحملاتهم العسكرية، بل إنّ ما دفع لتشريع هذا الحكم في الحقيقة هو أمر فطريٌّ مغروسٌ ومتجذِّرٌ في نفوس جميع الموجودات،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

23

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 إنّه حقُّ الدفاع. فكلّ موجودٍ حيٍّ، سواء كان إنساناً أم غير إنسان، يرى في الدِّفاع عن نفسه مقابل العدو حقاً طبيعياً له، وخالق العالم قد أودع في جميع الموجودات وسائل استيفاء هذا الحقّ.

 
وإنّ الحقّ الفطري للدفاع عن النفس هو حقّ يتوسّل به حتى المتسلّطون والظَّالمون - ولو بغير حقّ - للدِّفاع عن نتائج أعمالهم وإنجازاتهم. وعليه، ليس هناك من شكٍّ ولا شُبهةٍ بشأن أصل الاستفادة من هذا الحقّ، وقد متَّنه الإسلامُ من خلال تشريعه لحكم الجهاد.
 
الصراع بين الحق والباطل: 
في الواقع ليس من الممكن إلغاء شيءٍ اسمه صراع من على وجه هذه الأرض، طالما أن هنالك "حق" و"باطل" فالصراع قائم بين الحق والباطل منذ بدء الخليقة وهو موجود ومستمر، والحياة قائمة على معادلة الصراع كما يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمينَ﴾1
 
فطبيعة الحياة إذاً قائمة على مبدأ الصراع، فالحيوانات مثلاً في حالة صراعٍ دائمٍ فيما بينها، ولهذا السبب هي مجهّزة بوسائل الهجوم والدفاع الطبيعية، مثل الأنياب، والمخالب، والقوة البدنية. أما الإنسان فيختلف في معركته عن الحيوان، فإذا كان الأخير يدخل الصراع دخولاً عشوائياً وبلا هدف، فإن الإنسان إنما يخوض الصراع من أجل هدف وخطة مرسومة. وبالطبع قد تختلف الأهداف عند هذا الإنسان وذاك، وقد يكون بعضها نبيلاً والبعض الآخر سيئاً وقبيحاً. 
 
 


1- البقرة، 251.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

24

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 فالبعض يدخل الحرب من أجل نشر رسالات الله، والدفاع عن المستضعفين والمحرومين، ومن أجل إقامة العدل والحرية. والبعض الآخر قد يشعل نار الحرب ويهلك الحرث والنسل من أجل المصالح الدنيوية كحب السيطرة والتملّك، والوصول إلى دفّة الحكم. أي أن هنالك صراع حقٍّ وصراع باطل، وهناك معركة بين الحق والباطل. 

 
إن الصراع الحق - بحسب مفهوم الدين الإسلامي - هو من أجل إنهاء كل الصراعات الزائفة والباطلة التي تهدف إلى سلب حقوق الإنسان، وبالتالي هو دفاع عن الإنسان والإنسانية، وهو يهدف إلى تحقيق السلام والعدل والمساواة والحرية والرفاه الشامل، بما فيه مصلحة الإنسان فرداً وجماعة في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان الجهاد في الشريعة الإسلامية فريضة واجبة مقدسة، بل و من أوجب الواجبات والفرائض حتى صار ذروة الإسلام كما في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه قلت بلى جعلت فداك قال أمّا أصله فالصّلاة وفرعه الزّكاة وذروة سنامه الجهاد"1. وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يُقتلَ الرّجل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"2.
 
أهداف الجهاد في سبيل الله: 
إن معرفة الأهداف الواقعية للجهاد ووضعها نصب أعيننا من الأمور الهامّة والضرورية لنجاح أيّ عمل جهادي، فالعمل الذي لا يملك هدفاً إلهيّاً واضحاً 
 
 
 

1- أصول الكافي، ج2، ص 23.
2- أصول الكافي، ج2، ص348.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

25

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 ومشخّصاً هو عمل عبثيٌّ في أغلب الأحيان، واحتمالات الفشل فيه أكثر بكثير من فرص النجاح، ناهيك عن أنه لو سجّل نجاحاً مرحلياً فهو بعيد عن مشروع العدالة ومصلحة الإنسانية قال الله تعالى ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾1. فلمعرفة الهدف من أيّ عمل أو تكليف دور أساسيّ في تحقيق النتائج المرجوّة، وبالتالي تفادي حصول التعدّي ووقوع الإهمال أو التداخل في الوظائف والمهمّات والتي لن تعود بالفائدة في نهاية المطاف على أحدٍ بل الجميع سيكون خاسراً! 

 
وللجهاد في سبيل الله نوعان من الأهداف، فهناك أهداف على المستوى الفردي وأخرى على المستوى الاجتماعي.
 
الأهداف الشخصية والفردية للجهاد: 
قد تتعدّد الأهداف الشخصية للجهاد وتختلف من شخصٍ إلى آخر، فأبواب طاعة الله تعالى كثيرة، ولكن يمكن أن نختصر هذه الأهداف الفردية بثلاثة أهداف أساسية، وكل الأهداف الأخرى في الحقيقة ترجع إليها وهي: 
1- الدفاع عن النفس: 
من حق كلّ نفس بشرية أن تدافع عن كل ما كان المساس به مهدداً لوجودها، وعن المال والعرض والأرض والكرامة والوطن. فقد ورد في كتاب الله تعالى قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾2. ولهذا جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات دون عقال 
 
 
 

1- الملك، 22.
2- البقرة، 190.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

26

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 من ماله مات شهيداً"1. وقد أفتى فقهاء المسلمين جميعاً بوجوب الدفاع عن النفس، فلا إشكال في أنه من حقّ الإنسان أن يدفع المحارب والمهاجم واللصّ ونحوهم عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع، حتى لو أدّى ذلك إلى قتل المهاجم2.

 
2- نيل رضى الله تعالى: 
وهو الهدف الأسمى والأساسي الذي تتمحور حوله كلّ حركة يقوم بها الإنسان المؤمن أو سكون يلتزم به. وإذا غدا الجهاد طريقاً لتحقيق رضى الله تعالى، وباباً للتقرّب منه، فأيّ نعمة وأيّ توفيق لمن أتيح له الدخول إلى هذا الميدان الذي عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة"3.
 
3- الفوز بمقام الشهادة: 
إن الشهادة كانت أمنية الصلحاء والجائزة التي يرغب بها كل مجاهد بعد طول عناء وجهاد في سبيل الله تعالى.
بل نجد الأئمة المعصومين ‏عليهم السلام ينتظرون لحظة الشهادة ويعتبرونها كرامة من الله تعالى، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يقول مخاطباً ابن زياد: "أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟! أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة"4. هذا هو النهج الإسلامي الصحيح الذي يؤكّد على حب الشهادة، 
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج11، ص93.
2- تحرير الوسيلة، الإمام الخميني قدس سره،ج1،ص487.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص444.
4- بحار الأنوار، ج45، ص118.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

27

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 فكما أن النصر والظفر هي أمنيته فكذلك الشهادة هي أمنية له. يقول تعالى في كتابه الحكيم: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾1. إنها حقاً لكرامة ليس دونها كرامة أن تُختم حياة الإنسان بالشهادة في سبيل الله!

 
الأهداف الدينية والاجتماعية للجهاد: ‏
إنّ أهداف الجهاد لا تقف عند الأفراد أو عند أعتاب الحالة الفردية، بل للجهاد دوره الاجتماعي وآثاره العامة التي تطال المجتمع والبيئة العامّة. ويمكن اختصار مصالح المجتمع ضمن الأهداف التالية: 
 
1- حفظ الدين وحمايته:
كتب الإمام الباقر عليه السلام في رسالة إلى بعض خلفاء بني أميّة يحدّثهم عن ذلك فقال: "...ومن ذلك ما ضَيَّع الجهاد الذي فضَّلهُ الله عزّ وجلّ على الأعمال وفضّل عَامِلَهُ على العُمَّال تفضيلاً في الدّرجات والمغفرة والرّحمة، لأنّهُ ظهر به الدّين، وبه يُدفَع عن الدّين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بَيْعاً مُفْلِحاً مُنْجِحاً اشترط عليهم فيه حِفْظَ الحدود"2.
 
فحماية الدين وحفظ حدوده الشرعية من أن تُعطّل أحكامه، والحفاظ على منهج الإسلام وعلى حدود الأمّة الإسلامية وحماية استقلالها وحماية الإنسان من تلاعب الظالمين، كلّها أمور تدعونا إلى الجهاد، الذي هو طريق لصلاح الدين والدنيا على حدٍّ سواء، لا كما يُظنّ بأنه على خلاف صلاح الدنيا وإعمارها، كما قال 
 
 
 

1- التوبة، 52.
2- أصول الكافي، ج5،ص 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

28

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 الإمام علي عليه السلام: "إن الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره والله ما صلح الدنيا ولا دين إلا به"1. 

 
لذا أكّدت الروايات على هذا المنطلق والهدف الأساسي للجهاد كما ذكر أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في قوله: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنَرِدَ المَعَالِم من دينك، ونُظهِر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المُعَطَّلَةُ من حدودك"2.
 
2- إحقاق الحقّ: 
من الأهداف المهمّة والأساسية لتشريع الجهاد كونه الوسيلة الأنجع لذلك، إحقاق الحق وجعل كلمة الله تعالى هي العليا، وإبطال الباطل وجعل كلمته هي السفلى بعد اليأس من الوسائل السلميّة الأخرى، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الحْقَّ ويُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾3.
 
يبيّن الله تعالى في هذه الآية نعمه ومننه على عباده، فهو وعد المسلمين بإحدى الطائفتين إما "العير" والسيطرة على القافلة التجارية لقريش، أو "النفير" ومواجهة جيش قريش، والأولى كان يتمنّاها المسلمون وقد اختار لهم الله سبحانه المواجهة العسكرية مع قريش وهي "الشوكة" والتي هي تعبير يرمز إلى الحدّة والشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، واستعملت هذه الكلمة أيضاً في 
 
 

1- أصول الكافي، ج5، ص8.
2- نهج البلاغة، خطبة 131.
3- الأنفال، 7-8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

29

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 نصول الرماح، ثمّ استعملت توسّعاً في كلّ نوع من الأسلحة، لما تمثّله هذه الأسلحة من القوّة والقدرة والشدّة.

 
إن الثمرة العملية من الحرب التي يخوضها المؤمنون في سبيل الله تعالى تظهر بعد أن تضع تلك الحرب أوزارها، إذ يرى المراقب أنَّ الخير والصلاح كان يكمن في تحطيم قوّة العدوّ العسكرية لتصبح الطريق أسهل أمام انتصارات كبرى في المستقبل.
 
3- القضاء على الشرك: 
من أهداف تشريع الحق تعالى للجهاد أيضاً، أنه يريد أن يكون المعبود الأوحد في كل أرجاء الأرض، حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتىَ‏ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1، إنّ المراد بالفتنة هنا الشرك بالله. وكفّار قريش كانوا يقبضون على المؤمنين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته ويعذّبونهم ويجبرونهم على ترك الإسلام والرجوع إلى الكفر، فعُرف عملهم هذا بالفتنة، وعندها أُمر المسلمون بقتالهم حتى يطهّروا الأرض من عبادة غير الحق، ويكون الإيمان بالله الواحد الأحد هو الحاكم دون غيره. 
 
إنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة الحقّ لأنهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء، ولو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع منهم أو منع صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليتحرّروا من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والاجتماعيّة، لاعتبر هذا العمل عدوانياً بنظر كل عقلاء العالم فضلاً عن شريعة الأديان، وكان للمعتدى عليه حق الاستفادة من جميع الوسائل 
 
 
 

1- الأنفال، 39.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

30

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 المتاحة لتهيئة هذه الحريّة، ولو كان ذلك عبر استخدام القوّة المشروعة كالجهاد والقتال العسكريين.

 
4- إزالة الظلم والعدوان: 
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾1.
 
إنَّ المؤمن المجاهد أبعد ما يكون عن الأنانية والعيش ضمن دائرة الهموم الشخصيّة الخاصّة الضيّقة بل إنَّه إنسان رساليّ يحمل همّ الإنسانية كلها، ويستشعر أكثر من غيره معاني ومفردات الظلم وتأثيره الهدام على الفرد والمجتمع، ولذا تراه يبادر ومن دون أدنى خوفٍ أو وجلٍ أو تردّدٍ إلى قلع جذور الفساد والظلم. وأما جهاده فإنَّه لا يعرف الحدود الجغرافية ولا القوميّات ولا التكتلات العرقية، بل هو يحمل همَّ نصرة المظلوم وتحقيق العدل، وكما ترى أن الآية المباركة تحثّ المؤمنين على نصرة المستضعفين ومواجهة الظلم والعدوان كجزءٍ من مفهوم الحركة الاجتماعية الناهضة.
 
5- إعلاء ذكر الله: 
من الأهداف الأساسيّة لتشريع القتال في سبيل الله، إعلاء ذكر الحق كما يقول عزّ اسمه في كتابه المجيد: ﴿وَلَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لهَّدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
 
 
 

1- النساء، 75.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 لَقَوِىٌّ عَزِيز﴾1.

 
تشريع القتال إنّما هو لحفظ المجتمع من شرّ أعداء الدين الذين يسعون إلى إطفاء نور الله وذكره. ولولا ذلك لهُدّمت المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك، لأن اللّه تعالى لو لم يدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أماكن العبادة والمساجد التي يذكر فيها اسم اللّه. ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة اللّه. إذ أنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّؤهم في مجابهة الظلم والكفر والانحراف. وإنّ كلّ دعوةٍ لعبادة اللّه وتوحيده تعارضها دعوة المتجبّرين الذين يريدون أن يعبدهم الناس من دون الله تعالى تشبُّهاً منهم بالحق تعالى، والذين يعملون على هدم أماكن توحيد اللّه وعبادته.
 
إنّ الصراع قائم وباستمرار بين الدعوتين، وطبيعيّ أن يقوم المؤمنون بصدّ الدعوة المقابلة والوقوف في وجهها، طبقاً لتعاليم الإسلام العزيز الذي شرَّع الجهاد بهذا الغرض والذي يتمحور حول إعلاء ذكر الله وعلى كلّ المستويات.
 
6- كفّ بأس الكفار: 
من أهداف الجهاد في سبيل الله أيضاً ردّ كيد الكفّار إلى نحورهم وكفّ بأسهم، حيث يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿فَقَاتِلْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المْؤْمِنِينَ عَسىَ اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا﴾2.
 
 
 

1- الحج، 40.
2- النساء، 84.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

32

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 بعد أن أمر الله تعالى نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة أعدائه وجهادهم، رغم قلّة الناصر، بيّن له أحد الأهداف الأساسية لهذا التكليف المقدّس، ألا وهو الجهاد في سبيل الله والذي هو الطريق لكسر شوكة الظالمين وقوّتهم، وكفّ أذاهم وشدّتهم وبأسهم عن المؤمنين الموحّدين. كما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالالتزام بهذا التكليف ولو كان وحيداً فريداً، معتمداً على الله تعالى مصدر كلّ قدرة وقوّة في هذا العالم، إذ هو عزَّ اسمه أقوى من كلِّ ما يدبِّرُهُ الأعداء من مكائد ودسائس بوجه دعوة الحق. 


7- الاستقلال والحرية: 
الاستقلال والحرية لهما الأهمية الكبرى في الحياة الاجتماعية الناجحة، بل يشكّلان الدافع نحو الإبداع والتطوّر في كل الميادين، ولذلك عملت القوى المستعمرة على حرمان الشعوب منها كي يسهل لها السيطرة والتسلّط على البلاد والعباد. إن كل حضارة وكل مجتمع يحتاج إلى عناصر القوة كي تبقى لديه حالة الاستقلال والحرية، وأهم عناصر القوّة هي القوات المسلّحة المقتدرة، التي تمنع طمع الطامعين وتضمن عدم تقديمهم وتجاوزهم.

ومع غياب مثل هذه القوّة سيكون من غير الممكن المحافظة على الاستقلال والحرية. ومجرّد وجود طاقات علمية واقتصادية عالية لا يعتبر لوحده ضماناً لاستقلال الدول والشعوب، بل القوات المسلحة وحضورها الدائم وقيامها بواجباتها في الميادين اللازمة هي التي تضمن الاستقلال والحرية وتضمن بقاء وتفعيل الطاقات العلمية والاقتصادية. وعليه، فالحركة الجهادية من جملة أهدافها تحقيق وحماية الاستقلال والحرية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

33

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 8- استنهاض الشعوب: 

عندما تعيش المجتمعات نوعاً من الإحباط واليأس والاسترخاء والتراجع عن مواجهة الأعداء، فإن العدو سيتمكن من السيطرة على مقدّراتها وسيفرض هيمنته وتسلّطه عليها وستكون ذليلة أمامه مهما كانت تمتلك من طاقات ومن نقاط قوة في مواجهته، لذلك وقبل كل شي‏ءٍ لا بدّ من تأمين إرادة المواجهة والحضور في الميادين اللازمة. واستئصال حالة الإحباط والتحييد والاسترخاء. وهذا لا يتأتّى إلا من خلال تقديم القدوة المجاهدة بشكلها المشرق والصحيح، لتستثير كوامن الجهاد في ضمير الأمّة وتعيدها إلى ساحة الحضور. إذاً لا بد من إثبات القدرة الجهادية والإمساك بزمام المبادرة لتعود الأمة إلى الثقة بنفسها، وهذا ما يعبّر عنه بالعمل الجهادي لاستنهاض الشعوب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

34

الدّرس الثاني: أهداف الجهاد

 المفاهيم الرئيسية

1- الهدف من تشريع الجهاد هو الحفاظ على النفس والدين، ويسمى بحقّ الدفاع.

2- إن الصراع في المفهوم الديني هو الصراع لإرساء الحق الذي يريد تحقيق حكم الله على الأرض وما سواه صراع زائف وباطل. 

3- من أهداف الجهاد الأساسية حماية الدين وحفظ حدوده الشرعية، خوفاً من أن تُعطّل أحكامه، والحفاظ على منهج الإسلام وعلى حدود الأمّة الإسلامية وحماية استقلالها وحماية الإنسان من ظلم الظالمين.

4- الجهاد هو طريق لصلاح الدين والدنيا على حدٍّ سواء، إذ قد يظنّ البعض أنه على خلاف صلاح الدنيا وإعمارها، قال الإمام علي عليه السلام: "إن الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره والله ما صلح الدنيا ولا دين إلا به". 

5- إنَّ للجهاد أهدافاً منها الشخصية التي تتعلَّق بذات الإنسان وما يطمح إليه من أهدافٍ خاصّة هي نتيجة خصوصيّة شخصيته الفكرية والمعنوية. ومن هذه الأهداف الشخصية: الدفاع عن النفس، الفوز بمقام الشهادة.

6- للجهاد أهداف اجتماعية هي بمجموعها تحافظ على الصالح العام للمسلمين في الدنيا والآخرة. ومن هذه الأهداف الدينية والاجتماعية: إحقاق الحقّ، القضاء على الشرك، إزالة الظلم والعدوان، إعلاء ذكر الله تعالى، كفّ بأس الكفار، الاستقلال والحرية، استنهاض الشعوب. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

35

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله


أهداف الدرس: 
- بيان أنَّ الجهاد في الإسلام له آثار دنيوية وأخرويّة.
- التعرُّف على أهمّ الآثار الدنيوية للجهاد.
- التعرُّف على أهمّ الآثار الأخروية للجهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

36

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 آثار الجهاد: 

الجهاد في سبيل الله له آثارٌ بالغةُ الأهمية على النفس والمجتمع تحتّم علينا الوقوف عندها والتفكّر فيها. 
إنّ الحق تبارك وتعالى لم يشرّع شيئاً إلا لمصلحة البشر وسعادتهم، فكيف إذا كان هذا التكليف هو الجهاد والتضحية في سبيله بأغلى ما يملكه هذا الإنسان وهي حياته ووجوده في هذا العالم؟! وهو الذي أمر عباده صراحة: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلَا يحُرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ﴾1. وطلب من أولئك الذين يريدون الحياة الآخرة أن يسعوا في شرائها: ﴿فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشرْونَ 
 
 
 

1- التوبة، 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

37

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بالآخرة﴾1. هي إذاً مسألة بيعٍ وشراءٍ في أسمى تجارةٍ مع الله تعالى، فما عساها أن تكون الفوائد والآثار المترتّبة على هذه التجارة؟! يمكن تقسيم هذه الآثار والنتائج الناتجة عن الجهاد إلى آثار ونتائج دنيوية وأخروية: 

 
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولداً"2، وفيه إشارة واضحة إلى أنّ بقية السيف، وهم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم والدفاع عن الدين والمقدّسات وفضَّلوا الموت على الذلّ، فيكون الباقون شرفاء وعددهم أبقى، وولدهم أكثر، بخلاف الأذلاء، فإن مصيرهم إلى المحو والفناء. وأبرز مثال على ذلك علي بن الحسين عليه السلام بقيّة السّيف من أبناء الحسين عليه السلام، والذي به حفظ نسل أبي الشهداء عليه السلام. فلم يتمكّن لا السّيف ولا القتل أن يقضي على هذه السّلالة الطّاهرة، ومن يسير على نهجها، بل كلّما استشهدت في هذه القافلة كوكبة من الشهداء كانت بقيّة السيف تجد طريقها سريعاً نحو النموّ والتّكاثر، وهذه سنة مستمرّة لا تختصّ بزمان دون آخر، ونعيشها اليوم في لبنان بشكل واضح في جهادنا ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، حين النمو وازدياد القوة دائمين وفي تطوّر وتصاعد مستمرّ بتوفيق الله وفضله. 
 
الآثار الدنيويَّة للجهاد: 
1- العزّة والرفعة: 
ترتبط حياة المجتمع بحياة أفراده. فالمجتمع الذي يتواجد فيه أشخاصٌ مجاهدون بفعاليةٍ، يبقى في حالةٍ دائمةٍ من النشاطِ والتقدُّم السَّريع، ويحافظ على دوامه واستمراريّته، ولكنّ المجتمع الذي يحوي أفراداً ضعافاً وخاملين وبلا تأثير، هو مجتمعٌ ميّتٌ وفاشل. 
 
 
 

1- النساء، 74.
2- نهج البلاغة، ج4، ص19.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

38

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 ومن هنا، يُعدُّ حفظ المجتمع عزيزاً ومنيعاً من أفضل آثار الجهاد بنظر الإسلام العزيز، حيث يكونُ الجميع فيه مستعدين للدفاع عن الدين الإلهي وعن المظلومين وعن مشروع العدالة، وإلحاق الهزيمة بالعدوّ في الفرصة المناسبة؛ لإبطال كيده وإضعافه أو القضاء عليه.

 
إن فضل الجهاد كبيرٌ من هذه الجهة، وطالما يحافظ المجتمع على روحيته هذه فلن يبتلى بالذل أبداً، ويبقى دائراً بين إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وقد بيّن القرآن الكريم المنشأ لصيانة المجتمعات الإيمانية في أمره لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾1.
 
إنّ تاريخ صدر الإسلام هو خير شاهد على هذا المدّعى. فإلى الزَّمن الذي تمسّك فيه المسلمون بالجهاد، وحافظوا على كون زمام المبادرة بالهجوم في أيديهم ضمن الشرائط العامَّة، كانوا يعيشون مكلّلين بالنصر والعزّة. وإن تاريخنا المعاصر الذي تخطّه المقاومة الإسلامية في لبنان لهو شاهد قويّ على هذه العزّة والرفعة أيضاً. فبعد سنوات طويلة ومديدة من الاستضعاف انقلبت المعادلة وصارت قوّة هذه الثلّة المستضعفة في الأرض بحجم أمّة كبيرة مترامية الأطراف، بفضل الجهاد والتضحية والإيثار في سبيل الدين ونصرة المستضعفين.
 
كما أنَّ العزّة والرفعة اللذين يحدثان من أثر الجهاد يمتدُّ أثرهما أحياناً إلى الأجيال اللاحقة، ولا يقتصران على الجيل الحاضر. وعلى هذا الصعيد، يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أُغزوا تُورِّثوا أبناءكم مجداً"2.
 
 

1- النساء، 84.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

39

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 2- تقوية روح المبادرة والعزيمة: 

إنَّ حصول الحرب وما ينتج عنها من مشكلاتٍ يدفع الناسَ إلى التحرّك، فتصير سبباً لاهتمام الجميع بالسُّبل الآيلة إلى صدِّ العدوّ.
 
إن الحرب تمنعُ أكثر أفراد المجتمع من الخوض في الأمور الجزئية وغير المفيدة، تبدّل روحيّة حبِّ الاسترخاء والرفاه إلى روحيّة السعي والجدّ وارتفاع المعنويات القتالية. ومن المعلوم أنَّ الجهود والقدرات العسكرية تعدُّ أيضاً من أفضل الآثار التي تنشأ على أثر تحرّك قوى العدوّ.
 
وفي سياق بيانه أنّ الحرب تخرج الناس من حالة الخمود وتجبرهم على التحرّك، يقول الإمام الخميني قدس سره: "تعدّ الحرب أمراً جيداً من بعض النواحي، وذلك أنّها تُبرِز الشجاعة الموجودة في داخل الإنسان، وتؤدّي إلى تحريكه وإخراجه من حالة الخمود... فإنّ قوى الإنسان تتّجه دائماً نحو الخمود، وأولئك الذين يعتادون على الرخاء والرفاهية خصوصاً، سيكون حالهم أسوأ، ولكن عندما تقع حرب ما وتتجلّى خلالها الملاحم، ولا يبقى إلاّ صوت المدافع، فكلُّ ذلك يُخرج الإنسان من حالة الخمود والضعف، فتظهر حقيقة الإنسان وتبرز فعاليته وطاقاته إلى العلن"1.
 
3- تقوية روح الاكتفاء الذاتي: 
إنّ الحربَ تؤدِّي إلى إيجاد صعوبات جمّة، وإلى وقوع المجاهدين تحت وطأة الحصار. وهذه الضغوط نفسُها تدفع بالشعب إلى قطع يد الاعتماد على الأجانب، والاعتماد على النفس في المقابل.
 
فعامل الاعتماد على النفس والسعي لأجل رفع الاحتياجات عن طريقه، يؤدّي إلى نموّ الأدمغة ونضجها، ولهذا السبب قال إمام الأمة قدس سره: "لقد كانت هذه الحرب وهذا الحصار الاقتصادي وإخراج الخبراء الأجانب هدية إلهية كنّا غافلين 
 
 

1- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص272.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

40

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 عنها. واليوم، مع توجّه الحكومة والجيش لحظر بضائع ناهبي العالم، وللسير في طريق الابتكار بكلّ جدٍّ ونشاط، فإنّ الأمل معقود على حصول البلد على الاكتفاء الذاتي، والنجاة من الفقر والتبعية للأعداء. ولقد رأينا بأمّ العين كيف أنّ كثيراً من المصانع والوسائل المتطوّرة - كالطائرات وغيرها من الوسائل – والتي لم يكن يُتصوّر أن يتمكّن المتخصّصون الإيرانيون من تشغيلها، في وقت كان الجميع قد مدّوا أيديهم إلى الغرب أو الشرق من أجل أن يدير متخصّصوهم هذه المصانع والوسائل. ورأينا كيف أنّه وعلى أثر الحصار الاقتصادي والحرب المفروضة، قام شبابنا أنفسُهم بصنع قطع الغيار الضرورية وبقيمة أقلّ من المعروض، وسدّوا باب الحاجة، وأثبتوا أنّنا إن عزمنا فنحن قادرون على القيام بكل شيء"1.

 
4- فصل الحق عن الباطل: 
من الآثار الأخرى المهمّة للجهاد، هو فصل خط النفاق عن المجتمع الإسلامي ومعرفة الصديق من العدو. ففي كلِّ مجتمع يعيش المؤمنون الخُلّص جنباً إلى جنب مع ضعاف الإيمان والمنافقين من الناس، ومن الصَّعب جداً في زمن السِّلم والصُّلح تمييز هذه الفئات، إذ كثيراً ما يُظهر المنافقون وضعاف الإيمان أنفسهم بصورة المدافعين عن الحقّ أكثر من المؤمنين الحقيقيين. ولكن في الشدائد، وخاصّة في أوقات الحرب والجهاد، تُعرف معادن الرجال وتمتاز صفوف الحقّ عن الباطل، فيبقى المؤمنون الحقيقيون، الصابرون والأوفياء في الساحة حتى النهاية، في الوقت الذي يُخلي الآخرون الميدان ويفرّون.
 
ولقد أشار القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة بشكلٍ متكرِّرٍ، وبيَّن أنّ اللهَ أراد أن يمتاز الخُلّص عن غير الخُلّص في ساحة الحرب ضمن قاعدة الأسباب والمسبّبات ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾2.
 
 
 

1- بلاغ، سخنان موضوعى إمام خميني قدس سره، ج3، ص454.
2- محمد، 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

41

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 وفي آية أخرى، ولأجل توبيخ المنافقين، يخاطب تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾1، ومعنى الآية، أنه قد عفا الله عنك "وهو دعاء له بالعفو" لم أذنت لهم في التخلّف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم وكانوا أحقّ به، حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، فيتميّز عندك كذبهم ونفاقهم "لو خرجوا معك إلى الحرب"، والآية في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان2.

 
5- الوحدة والتماسك: 
إنّ الشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة. فإنّ الحرب تقود جميع الطاقات والقوى في اتجاه واحد، وتجعلها تنضوي تحت راية واحدة، وتوجِدُ روح التعاون فيما بينها، وتصير سبباً في بروز الإيثار والتسامح وعشرات الصفات الأخلاقية السامية، والله تعالى أشار إلى هذه الحقيقة بوضوح في كتابه المكرَّمِ عندما قال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾3
 
6- النصر: 
يُعدّ الانتصار على العدو، في بعض الموارد، أحد أفضل آثار الجهاد، لأنّه مع عدم بذل الجهد في ساحة الحرب لا يتحقّق الانتصار، والشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
 
 
 

1- التوبة، 43.
2- راجع، تفسير الميزان، ج9، ص284-285.
3- آل عمران، 103.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

42

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 والقرآن المجيد، بعد تعداد الآثار المعنوية والأخروية للجهاد، يشير في سورة الصف المباركة إلى هذا الأثر الدنيوي، حيث يقول تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾1.

 
وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ المجاهدين في سبيل الله منتصرون وأعزاء حتماً، سواء عن طريق الانتصار الظاهري وهزيمة العدو، أم بنيل الشهادة والوصول إلى جوار رحمة الحقّ سبحانه، حيث قد أثنى القرآن الكريم على هاتين النتيجتين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾2.
 
الآثار الأخروية للجهاد: 
1- البشرى والفوز العظيم: 
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾3.
 
عرّف اللّه سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، ولما كانت كل معاملة تتكوّن في الحقيقة من خمسة أركان أساسيّة، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار اللّه سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة ثمناً لهذه المعاملة. وأما طريقة تسليم 
 
 
 

1- الصف، 13.
2- التوبة،52.
3- التوبة،111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
.
 
53

43

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 البضاعة فبواسطة القتال. والحق سبحانه وتعالى حاضر في كل مكان وبالأخصّ في ميدان الجهاد لتقبّل هذه الصفقة، سواء كانت روحاً أم مالاً يبذل، وإذا كان هذا القتال في سبيله فهو تعالى سوف يكون المشتري فيقبل هذه الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.

 
وثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجّلاً، إلّا أنّه مضمون، لأنّ اللّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع، لا يوجد من هو أوفى بعهده منه. فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يخلف وعده والعياذ باللّه، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشكّ في وفائه بعهده. والأروع من كلّ شي‏ء أنّه تعالى قد بارك للطّرف المقابل صفقته، وتمنّى له أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجار، والأكثر من ذلك وعده بالبشرى والفوز العظيم على هذه المعاملة العظيمة والصفقة الكبيرة. فهل يتصوّر الإنسان رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟! 
 
ويقول الله عزّ وجل في آية أخرى من كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَائزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾1.
 
الآيات الكريمة هي في مقام بيان أجر المجاهدين في سبيل الله من أجل الذود والحفاظ على دينهم السماوي المقدَّس. فالمؤمنون الذين ‏صدّقوا بوحدانية اللّه تعالى وهاجروا عن أوطانهم التي هي ديار الكفر، وجاهدوا الكفّار في طريق مرضاة اللّه وإعلاء كلمة الحق، وبذلوا المال والنفس في سبيل الله حتى الشهادة، وتحمّلوا المشاقّ من جرّاء ذلك كلّه، هم أَعظم درجة عند اللَّه ممّن سواهم من
 
 
 

1- التوبة، 20-22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

44

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 المؤمنين الّذين لم يكن لهم نصيب من ذلك كلّه، وهم المستحقّون للفوز بثواب الله الموعود ما داموا قد استمرّوا على عقيدتهم وإيمانهم. والله تعالى يزفّ إليهم البشرى - بما صبروا واحتسبوا في جنبه - بالفوز والرحمة والرضوان. ويبشّرهم أيضاً بالجنّة خالدين فيها إلى الأبد، مع ما فيها من النّعم الدائمة التي لا حدّ لها ولا انقطاع. هذا هو أجر وثواب من يهب نفسه وماله لله ويجاهد في سبيله ويضحّي بأغلى ما يملك من أجله. 

 
2- المغفرة والجنة: 
يقول الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمُ‏ْ عَلىَ‏ تجِارَةٍ تُنجِيكمُ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتجُاهِدُونَ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكمُ‏ْ وَأَنفُسِكُمْ ذَالِكمُ‏ْ خَيرْ لَّكمُ‏ْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِر لَكمُ‏ْ ذُنُوبَكمُ‏ْ ويُدْخِلْكمُ‏ْ جَنَّاتٍ تجَرِى مِن تحَتهِا الْأَنهْارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأخْرَى‏ تحُبُّونهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾1.
 
لقد شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة، و أن الناس في الحياة الدنيا تجّار يأتون إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه اللّه سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من يربح ويسعد، ومنهم من لا يجني سوى الخيبة والخسران. والمجاهدون في سبيل اللّه هم من الصنف الأول. 
 
إنّ الهدف الأساسي لهذه الآيات المباركة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه، وهما وإن عُدّا من الواجبات المفروضة، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحهما بصيغة الأمر، بل قدّمتهما بعرض تجاريّ مقترن بتعابير تبيّن اللطف اللامتناهي للبارئ عزّ وجلّ. 
 
فممّا لا شكّ فيه أن النجاة من العذاب الأليم أمنية كل إنسان، وهذه النجاة
 
 
 

1- الصفّ، 10-13.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

45

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 موقوفة كما يقول تبارك وتعالى على أمرين أساسييّن: الإيمان، والجهاد. 

 
فالإيمان بالله وبرسوله، والجهاد بالنفس والمال هما رأس مال هذه التجارة المنجية من العذاب، فالإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان باللّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم‏ وجود الوسائل والإمكانات المالية، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ الله تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة. 
 
أما العوض لهذه المعاملة العظيمة والترجمة العمليّة لهذه النجاة الموعودة فهي المغفرة والجنة. إذ أنّ أوّل هدية يتحف اللّه سبحانه بها عباده الذين جاهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة جميع الذنوب، لأنّ هذه المغفرة مقدّمة للدخول في جنّة الخلد ولا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب. 
 
ثمَّ إنَّ مقابلة المال والنفس المبذولين وهما المتاع القليل، بجنّات عدن الخالدة، مما تطيب به نفسُ المؤمن وتقوى إرادته لبذل النَّفس والتضحية بها، واختيار البقاء على الفناء. ثم يبشّرهم الحق تعالى في نهاية المطاف بنعمة يحبّونها وهي النصر القريب. فيا لها من تجارة مباركة مربحة تشتمل على النجاة من العذاب، والمغفرة والجنة، والفتح القريب. ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بالفوز العظيم، وزفَّ لهم بشراها. 
 
3- هداية السبيل: 
قال الله تعالى ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
 
 
 

1- العنكبوت، 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

46

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 بالرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بطريق المسير إلى اللّه إلّا أن هناك حقيقة ثابتة، وهي أن اللّه يمنح الهداية والقوّة والاطمئنان مقابل هذه المشاكل للذين يجاهدون فيه. والجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما يخالف هوى النَّفس ومقتضى الطَّبع. وله معنى واسع ومطلق فهو يشمل كلّ سعيٍ وجهدٍ في سبيل اللّه ومن أجل الوصول إلى الأهداف الإلهية. سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر عن المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أيّ عملٍ حسن وصالح! ولكن هذه الهداية مشروطة بأمر أساسيٍّ وهي أن تكون في الله فقط، بمعنى أن تكون خالصة له. والمراد بالسبل الطرق المتعدّدة التي تنتهي إلى اللّه.

 
وعليه، فإن الجهاد في أيّ طريق كان من هذه الطرق إذا كان خالصاً لوجه الله فهو سبب للهداية إلى الطريق الذي ينتهي إلى اللّه. وهذا وعدٌ وعده اللّه لجميع المجاهدين في سبيله، وأكّده بأنواع التأكيدات، فجعل الهداية والتوفيق والانتصار والرقيّ في أمرين أساسييّن هما "الجهاد" و"خلوص النية".
 
4- محبّة الحق: 
يقول الله عزّ وجل في كتابه الكريم ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فىِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾1. تبيّن الآية الكريمة وتؤكّد بشكل واضح أن الذين يقاتلون في سبيل الله هم مورد محبّته. وكما نلاحظ أنّ التأكيد هنا ليس على القتال فحسب، بل على القتال الذي هو "في سبيله" تعالى وحده، أضف إلى خاصّية أخرى ينبغي أن يتمتّع بها المجاهدون لكي ينعموا بمحبة الحق، وهي ثباتهم ووقوفهم بشكل قويّ وراسخ أمام العدوّ بصورة تعكس قوة صفّهم الذي ليس فيه تصدُّع أو تخلخل. فالانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميدان القتال من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر.
 
 
 

1- الصفّ، 4.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

47

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحروب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وإلّا فلن يكون النصر التامّ حليفنا. فتشبيه القرآن العدوّ بأنّه كالسيل العارم والمدمّر و الذي لا يمكن صدّه والسيطرة عليه إلّا من خلال سدّ حديديّ محكم ومنيع، والتعبير بأن على المؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص من أروع التعابير عن الوحدة والرسوخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ، دوراً معيّناً في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء الأخرى، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تشقّقات أو ثغرات فيه، سيصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، وهكذا هو حال المؤمنين في تراصّهم ووحدتهم إذا ما حاول العدوّ النيل منهم فإنه سيرى المواجهة القوية وسيعود خائباً. 


وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه يلزم من ذلك أنّه سبحانه وفي نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة، ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم!!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

48

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 المفاهيم الرئيسية

1- للجهاد في سبيل الله آثار مشرقة على صعيدي الفرد والمجتمع.
2- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: العزّة والرفعة، وتقوية روح المبادرة والعزيمة، وتقوية روح الاكتفاء الذاتي. 
 
3- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: فصل الحق عن الباطل، والوحدة والتماسك، فالشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة. 
 
4- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: النصر، إذ يُعدّ الانتصار على العدو، أحد أفضل آثار الجهاد، فالشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
 
5- من الآثار الأخروية للجهاد: البشرى والفوز العظيم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾.
 
6- من الآثار الأخروية للجهاد: الفوز بالثواب، يقول الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
 
7- من الآثار الأخروية للجهاد: هداية السبيل، يقول الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
 
8- من الآثار الأخروية للجهاد: محبّة الحق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

49

الدّرس الثالث: آثار الجهاد في سبيل الله

 المفاهيم الرئيسية

1- للجهاد في سبيل الله آثار مشرقة على صعيدي الفرد والمجتمع.
2- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: العزّة والرفعة، وتقوية روح المبادرة والعزيمة، وتقوية روح الاكتفاء الذاتي. 
 
3- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: فصل الحق عن الباطل، والوحدة والتماسك، فالشَّعب الذي يكون مُبتَلىً في أيام الصُّلح والهدوء بالمشاكل الداخلية، ومشغولاً بالاختلافات الجزئية، يتوحّد على أثر اشتعال الحرب وظهور العدو، ويحوّل كل طاقاته نحو المواجهة. 
 
4- من الآثار الدنيويَّة للجهاد: النصر، إذ يُعدّ الانتصار على العدو، أحد أفضل آثار الجهاد، فالشعب الذي قد جلس منتظراً النصر دون تحمّل العناء وتقديم الجهود، لن يقطف سوى الحسرة جرّاء ذلك ويعيش الهوان والذلّ.
 
5- من الآثار الأخروية للجهاد: البشرى والفوز العظيم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ﴾.
 
6- من الآثار الأخروية للجهاد: الفوز بالثواب، يقول الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهَّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
 
7- من الآثار الأخروية للجهاد: هداية السبيل، يقول الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنهَدِيَنهَّمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
 
8- من الآثار الأخروية للجهاد: محبّة الحق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يحُبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

50

أهداف المحور الثاني: شروط الجهاد في سبيل الله

 شروط الجهاد في سبيل الله


أهداف المحور الثاني:
- التعرّف على الشروط المعنوية والمادية للجهاد.
- بيان أهمّية التحلّي بالوعي والبصيرة وأثرهما في تحقيق الأهداف الجهادية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

51

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد


أهداف الدرس: 
- بيان توقّف الجهاد على شروطٍ لازمة.
- التعرّف على الشروط المعنوية للجهاد.
- بيان كيفيّة تحقيق المجاهد للشروط المعنوية للجهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

52

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 مدخل:

إنّ الجهاد عمليةٌ هدفها تحقيقُ إحدى الحسنيين: إما النَّصر والغلبة على العدوّ وبالتالي رفع ظلمه وردّ عدوانه وبسط العدالة ورفع لواء الحرية عالياً، وإما الفوز بوسام الشهادة في سبيل الله. ولكي تتم هذه العملية بأبهى صور النجاح والكمال، كان لا بدّ من وجود مجموعة من الشروط والظروف المعنوية والعقائدية، بحيث يصير الوصول إلى الأهداف الإلهية الكبرى متيسّراً بفعل هذه الشروط مجتمعة.

الإخلاص لله تعالى: 
الإخلاص يعني تخليص النيّة أو الدّافع نحو العمل من كلّ شيءٍ عدا الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يكون
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

53

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 للإنسان قصد أو دافع من وراء أيّ فعل أو حركة أو حتى تفكير وميل سوى رضا الله والتقرّب إليه، وهو روح العبودية لله تعالى وجوهرها. وهو من الصفات الهامّة التي ينبغي أن يتحلّى بها المجاهد لأنها منشأ وأصل كل هداية وتوفيق، ولكي يصدق على الإنسان أنه مجاهد في سبيل الله لا بدّ أن يكون دافعه نحو الجهاد هو الله عزّ وجل فقط دون أحد سواه. فالله عزّ اسمه أمر الناس ودعاهم إلى عبادته حيث قال: ﴿إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم﴾1، ولكنه لم يأمر بأيّ عبادة بل أمر عزّ وجلّ بالعبادة الخالصة له التي لا يشاركه فيها أحد، قال تعالى ﴿وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّين﴾2، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه"3

 
مخاطر ترك الإخلاص: 
إن الأعمال مرهونةٌ بالنيّات وإذا لم تكن النوايا خالصة فهذا يعني أنه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه﴾4، ولا يقبل إلا ما كان له خالصاً كما في الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال:  
ويعرّف الإمام الصادق عليه السلام الإخلاص فيقول: "والعمل الخالص
 
 


1- يوسف، 40.
2- البّينة، 5. 
3- أصول الكافي، ج2، ص16.
4- النساء، 48
5- الكافي، ج2، ص295.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

 


54

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النّيّة هي العمل. ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ﴾ يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ"1.

 
فإن جعل العمل والعبادة والحياة لله لا يكون بمجرّد تطبيقها على ما يريده الله في الظاهر فقط، وليس بموافقتها لأحكامه فحسب، بل بمعنى أن لا نطلب من ورائها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص الذي يتوقّف عليه قبول الأعمال عند الله تعالى. فالإخلاص هو تصحيح النيّة وتوجيهها نحو الله وما يريده منّا في كل حركة وسكنة وقول وفعل ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتي‏ وَنُسُكي‏ وَمَحْيايَ وَمَماتي‏ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ﴾2.
 
فالمجاهد في سبيل الله عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة هو في حالة عبادة، ولأعماله بعدٌ إلهيّ يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين ويقرّبه من الحق نجيّاً في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص. أما إذا لم تكن النوايا خالصةً ولم يكن الدافع الأساسي من وراء الجهاد رضا الله وأداء التكليف الشرعي فلن تكون الأعمال مقبولةً، وبالتالي لن ينال الأجر والثواب الذي يستحقّه. لأن الذاهب إلى ميادين الجهاد لن يصدق عليه وصف المجاهد في سبيل الله ما لم تكن هجرته إلى الله، وما لم يكن دافعه الأساسي وهدفه النهائي هو الحق سبحانه وتعالى لا غير ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾3.
 
 
 

1- أصول الكافي،ج2،ص16.
2- الأنعام،162.
3- الكهف، 110.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

55

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 أمثلة على عدم الإخلاص: 

حب المدح: من أهم علامات الإخلاص عدم انتظار المديح من أحد، كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "العمل الخالص، الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله"1.


الرِّياءُ: وهو إظهار الأعمال الصالحة والصفات الحميدة والعقائد الحقّة لأجل الحصول على منزلة في قلوب الناس، والاشتهار بينهم، وهذا من الشرك الذي هو مبطل للعبادة. قال الله عزّ وجلّ ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى‏ كَالَّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ﴾2
 
وفي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الجنّة تكلّمت، وقالت: إنِّي حرامٌ على كلَّ بخيلٍ ومراءٍ"3.


وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "كلُّ رياءٍ شركٌ، إنّه من عملَ للنَّاس كان ثوابه على النَّاس، ومن عمِلَ لله كان ثوابُهُ على الله"4.
 
العُجْب: وهو تعظيم العمل واستكثاره والسرور به والتغنّج والدلال بواسطته من دون أيّ هدفٍ إلهيّ. عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من دخله العُجْبُ هلك"5.


وعن علي بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام قال: "سألته عن العجب الذي يُفسد العمل فقال: العجب درجات، منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنّه يُحسِن صنعاً. ومنها أن يُؤمِن العبد
 
 
 

1- أصول الكافي، ج2، ص16.
2- البقرة، 264.
3- مستدرك الوسائل، ج1، ص107. 
4- الأربعون حديثاً، ص44.
5- الكافي، ج2، ص313.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

56

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 بربّه فيَمُنَّ على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المَنُّ"1. 

 
حب الرئاسة: قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾2. وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "حُبُّ الرّئاسة رأس المحن"3. وعنه عليه السلام أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، ويصوم صيام أهل السماء والأرض، ويطوي عن الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العابدين، ثم أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّةً أو سمعتها أو رئاستها أو صيتها أو زينتها، لا يجاورني في داري، ولأَنزعنّ من قلبه محبّتي، ولأُظلمنّ قلبه حتّى ينساني، ولا أذيقه حلاوة محبّتي"4.
 
الذكر الدائم لله: 
من الأوامر الأخرى التي أوصى بها القرآن المجيدُ المؤمنينَ المجاهدين هي أن يذكروا الله في ساحة الحرب والقتال، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾5.
 
فذكر الله يوجّه المؤمنين نحو القدرة الإلهية اللامتناهية، وهو ما يؤدّي بدوره إلى تقوية معنويّاتهم وثباتهم. يقولُ الإمام عليّ عليه السلام بشأن ذكر الله في الحرب: "إذا لقيتم عدوّكم فأقلّوا الكلام وأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ"6.
 
 
 

1- م.ن.
2- القصص، 83.
3- مستدرك الوسائل،ج11، ص383.
4- مستدرك الوسائل، ج12، ص36. 
5- الأنفال، 45.
6- بحار الأنوار، ج93، ص154.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

57

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 وقال عليه السلام أيضاً: "رأيت الخضر في المنام قبل بدرٍ بليلة، فقلتُ له: علّمني شيئاً أُنصرُ به على الأعداء، فقال: يا هو يا من لا هو إلاّ هو فلمّا أصبحتُ قصصتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: يا عليّ عُلِّمتَ الاسم الأعظم، وكان على لساني يوم بدر"1.

 
ومن الممكن أن يكون المراد من "ذكر الله" في ساحة الحرب، هو استحضار المعارف الإلهية التي تتناسب مع روحيّة طلب العون والمساعدة الموجودة لدى كل مجاهد خلال القتال. 


وإنّ ترك التعلّق بالدنيا وزخارفها هو الآخر ثمرة جميلة لذكر الله في الحرب، حيث يؤدّي التعلّق بها إلى ضعف المقاتلين. ولذا، يطلب الإمام السجّاد عليه السلام من الله في دعائه أن يُنسي حماةَ الثغورِ هذه الزينة الدنيوية، فيقول عليه السلام: "اللهم صلّ على محمد وآله وأَنسِهم عند لقائهم العدوَّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور، وامحُ عن قلوبهم خطراتِ المال الفَتُون، واجعلِ الجنَّةَ نُصبَ أعينِهِم ولوِّحْ منها لأبصارهمْ ما أعدَدتَ فيها من مساكنِ الخُلدِ ومنازلِ الكرامةِ والحورِ الحسانِ والأنهارِ المطّردةِ بأنواعِ الأشربةِ والأشجارِ المتدلّيةِ بصفوفِ الثّمرِ، حتى لا يَهُمَّ أحدٌ منهم بالإدبارِ ولا يُحدِّثَ نفسَهُ عن قِرْنِهِ بفرار"2.
 
 
 

1- م.ن، ج19، ص310.
2- الصحيفة السجادية، دعاء أهل الثغور.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

58

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 الصبر: 

من العوامل والشروط الأخرى للتوفيق في الجهاد، وتحقيق الغايات منه، هو تحلِّي المجاهد بالصَّبر، الذي وصفته الروايات الشريفة بأنه رأس الإيمان. فقد سُئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان ما هو؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصبر"1. وعن الإمام علي عليه السلام قال: "الصبر أن يحتمل الرجل ما يَنُوبه ويكظم ما يُغضبه"2.
 
والصبر كما عُرِّف "هو حبس النفس على المكروه امتثالاً لأمر الله تعالى"3.
وتبرز قيمة الصبر وأهميّته في حياة المجاهدين من خلال ما ورد من آيات تشير إلى أن الصبر من أرقى الطرق التي يمكن معها تحصيل الرضا الإلهي والوصول إلى مقام التقوى، كما يقول الله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾4. فنرى كيف أنّ الله سبحانه وتعالى ربط الإمداد بالملائكة والوصول إلى مقام التقوى بالصبر فقدّمه، وما ذلك إلا للعلاقة الجوهريّة به.
 
فالخروج من العبوديّة للنفس إلى تحصيل الرضا الإلهي لا يكون إلا بواسطة الصبر، لذلك نرى الإمام المقدّس روح الله الموسوي الخميني قدس سره يقول: "من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبوديّة النفس، الصبر في البلايا والنوائب"وهل هناك موطنٌ أعظم للتحرّر من عبوديّة النَّفس من ساحة الجهاد وساحة الاستشهاد، والتي هي ساحة الصبر؟
 
 
 

1- منتخب ميزان الحكمة، ص287.
2- ن.م، ص288.
3- م.ن.
4- آل عمران، 125.
5- الأربعون حديثاً، ص 306، باب الصبر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

59

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 وعليه فالتحرّر من عبوديّة النفس ينتج صبراً وإيماناً، كما أن الصبر في ساحات الجهاد ينتج عبودية لله وتحرراً من عبودية النَّفس.

 
الصبر وتحقّق النصر: 
ولأهميّة الصبر في تحقيق النصر كان لا بدّ وأن نُفرد له بحثاً خاصّاً كونه أحد أهم أسباب النصر، فقد قال الله تعالى ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1 كما أنه تعالى قيّد الغلبة بالصبر، فقال ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾2.
 
فلم يعطِ الله تعالى أيّ اهتمام للعدوّ حتى لو كان كثيراً ببركة الصبر الذي هو رهن الإنتصار، وبالتالي، نرى أنّ الله أخبر عن حالة المسلمين في حُنين عندما راهنوا على عددهم فقال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً﴾3.
 
وهذا ما نفهمه من السنّة الإلهية التي تعتبر النصر من الله تعالى، ولكن بعد تحقّق الشرط الأساسي له وهو الصبر ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾4.


ويقول الله تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾5.
 
 
 

1- البقرة، 249.
2- الأنفال، 65.
3- التوبة، 25.
4- محمد، 7.
5- آل عمران، 142.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

60

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 الشجاعة: 

الشجاعة من أهم الصفات التي تميَّز شخصية المقاتل في سبيل الله، والتي بها يقتحم الموت بجسده ولا يستشعر الضعف أمام مقدّرات الأعداء، ويكون ببركة الشجاعة والإقدام جديراً بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
 
والشجاعة في اللغة "هي شدَّةُ القلب عند البأس والحرب، والشّجاع هو من قويَ قلبه، واستهان بالحروب، وكان جريئاً ومقداماً"1


فالشجاعة صفة في النفس تدفع بالمجاهد إلى الثبات في ميادين الحرب والجهاد في مواجهة أعداء الله تعالى وأعداء الإنسانية، وتؤهّله لتحمُّل الشدائد والصعاب وأعباء القتال ولوازمه.


قال تعالى ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾2.
 
وفي الحديث: "قيل للحسن بن علي عليه السلام: ما الشجاعة؟ قال: موافقة الأقران والصبر عند الطِعان"3.
 
كيف يتحلّى المجاهد بصفة الشجاعة؟
إن تكوين صفة الشجاعة هو أمر ميسور وسهل، لأنّها من الصفات والسجايا المرتكزة في جبلّة الإنسان وفطرته وغرائزه، وهي تعود إلى ضبط الغريزة الغضبيّة وجعلها معتدلة بين الإفراط والتهوّر والزيادة، وبين التفريط والنقص والشلل.
 
قال الإمام علي عليه السلام "الفضائل أربعة أجناس: أحدها الحكمة
 
 
 

1- راجع مجمع البحرين، مادة شجع.
2- الفتح، 29.
3- ميزان الحكمة، ج5، ص27.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

61

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 وقوامها في الفكرة، والثاني العفّة وقوامها الشهوة، والثالث القوّة وقوامها الغضب، والرابع العدل وقوامها في اعتدال قوى النفس"1.

 
إن قوّة الاعتدال مخلوقةٌ فينا، وهي تتحكّم بقوّة الشهوة والغضب والوهم، وتجعل هذه القوى في حدِّها الأوسط من دون إفراطٍ أو تفريط، وتعتمد هذه الصفة (العدل) على ميزان العقل والشرع اللذين تلطّف الله بهما على الإنسان بمنِّه وكرمه ورحمته.
 
وعليه فغريزة الاعتدال تضبط القوّة الغضبيّة وتربِّي الإنسان على الشجاعة التي هي الحدّ الوسط الممدوح، فلا يكون خمولاً يعيش الخوف والضعف والكسل وقلَّة الصبر والاستسلام للمصائب وعدم الغيرة والخمود وعمل الظلم وقبول الرذائل وعدم الثبات في المواقف الحسّاسة وميادين الحروب، وكذلك لا يكون متهوّراً ومفرطاً في قوّته الغضبيّة بحيث يتوتّر لأَتفه الأسباب وينفعل لأيِّ استفزاز، فقد يقتل النفس المحترمة بغير الحقّ وقد يتسرّع بأخذ قرار مخالفة القيادة الحكيمة، فلا يُقوّم في الوقت المناسب، ولا يتراجع في الوقت المناسب، فهو انفعاليّ من دون تثبُّت، ويدور في دائرة وحاله أشبه بالجنون.
 
إن تربية النفس على الاعتدال والشجاعة أمر ميسور ومقدور، فمتى رأى المجاهد في نفسه الشجاعة فليحمد الله على هذه النعمة. وإن رأى في نفسه خلاف ذلك من إفراط أو تفريط فليعمل على ترويض نفسه وتهذيبها ضمن نقطتين: 
 
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص45.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

62

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 العلاج العلمي: وهو عملية إقناع النفس بآثار الشجاعة العظيمة وبركاتها الكبيرة، ويعلم أن هذه الخصلة نعمة من الله ليدافع بها عن كرامته وكرامة المسلمين. وليدافع بها عن دينه وشرفه ووطنه، وأن الشجاع هو على خطى الأئمة الأطهار عليهم السلام، وعلى رأسهم الإمام عليّ عليه السلام الكرّار في الحروب ذو البأس والثبات كثبات الجبال أمام الرياح العاتية، ويكفي في ذلك أن الشجاعة تفتح أعظم باب لرحمة الله تعالى وهو باب لقاء الله جلَّ شأنه.

 
ومن الأمور المفيدة والمهمة التي ينبغي أن يعلمها المجاهد الشّجاع أنّ الجهاد ليس سبباً في تقصير العمر أو الحد منه، كما وأن اعتزال الجهاد وتركه ليس هو الآخر سبباً لطور العمر ومدّته، لأن ساعة الإنسان إذا ما حان وقتها فلا مبدّل لها كما قال عز وجلّ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾1. ونفهم أيضاً، من كلام أمير المؤمنين عليه السلام مع ولده محمد ابن الحنفية في معركة الجمل عندما أمره بالتقدّم فقال له: "احمل على القوم، فقال: لا أجد متقدماً إلا على سهمٍ أو سنان، فقال علي عليه السلام: يا بني احمل بين الأسنّة فإن للموت عليك جُنّة"2.
 
والظاهر بأن ضربات الأسنّة ورشقات السّهام، منعته من التقدّم فوقف قليلاً، فسرعان ما وصل إليه الأمير عليه السلام قائلاً: "احمل بين الأسنّة" بإشارة واضحةٍ إلى أنّ خوضَ غمار الحرب في أوجها ليس سبباً مباشراً للخوف أو الموت.
 
 
 

1- النساء، 78.
2- نهج السعادة،ج1،ص317.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

63

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 العلاج العملي: ويكون في أمور: 

- الإقدام على الأمور العظيمة والمخيفة مرّة بعد أخرى، فإن ذلك يبطل الخوف والتردّد.
- الذهاب إلى ميادين الحرب، فإنها أمكنة تربّي القلب على الثبات والعناد والتحدِّيات.
- الجهاد والمشاركة العمليّة في القتال مع أعداء الله فإنّها ساعات تصقل النفس بالشجاعة والإقدام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

64

الدرس الرابع: الشروط المعنوية للجهاد

 المفاهيم الرئيسية

1- الجهاد لا يتمّ بأبهى صور النجاح والكمال، إلا بتحقيق مجموعة من الشروط والظروف المعنوية والعقائدية، بحيث يصير الوصول إلى الأهداف الإلهية الكبرى متيسّراً بفعل اجتماع شروطها.
 
2- من شروط الجهاد المعنوية، الإخلاص. وهو يعني تخليص النيّة أو الدّافع نحو العمل من كلّ شيءٍ ما عدا الله سبحانه وتعالى. 
3- من علامات فقدان الإخلاص لدى المرء: حبّه للمدح، ووجود الرِّياء، العُجْب، وحب الرئاسة.
 
4- من شروط الجهاد المعنوية: الذكر الدائم لله، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾.


5- من شروط الجهاد المعنوية: الصبر، يقول الله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وهو "حبس النفس على المكروه امتثالاً لأمر الله تعالى".
 
6- من شروط الجهاد المعنوية: الشجاعة، يقول الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.


7- الشجاعة هي شدَّةُ القلب عند البأس والحرب، والشّجاع هو من قويَ قلبه، واستهان بالحروب، وكان جريئاً ومقداماً.
 
8- تحصيل صفة الشجاعة من خلال الإقدام على الأمور العظيمة والمخيفة مرة بعد أخرى فإن ذلك يبطل الخوف والتردّد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

65

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد


أهداف الدَّرس: 
- بيان الحكمة من توقّف الجهاد على تحقّق الشروط المادية.
- بيان أن الاستعداد المادّي للحرب واجب شرعيّ.
- التعرّف على بعض التوصيات العسكرية المهمّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

66

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 وجوب الإعداد والاستعداد: 

إنّ عقل الإنسان يحكم كما فطرته وغريزته بضرورة توفير الاستعداد الكافي في أيام الصلح والسلم، للتمكّن من الدفاع ومواجهة العدو وصدّه إن هو قام فجأةً بهجوم خاطف وسريع. 

وقد دلّت التجارب على أنّ الشعوب اليقظة والمستعدّة تمكّنت على الدوام من صدّ الحملات المفاجئة للعدو، وحفظت بقاءها واستمرار وجودها. وعلى العكس من ذلك، فإنّ الشعوب التي كانت تعيش الغفلة واللامبالاة، كانت تسقط دائماً ضحيّة لغفلتها وتتعرّض للهزيمة.

والإسلام يأمر أتباعه أن يُعدوّا ما استطاعوا من قوّة لأجل الدفاع عن أنفسهم وأن يبقوا في جهوزيّة تامّة، وذلك قبل وقوع الحرب وظهور الحاجة إلى مستلزمات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

67

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

  الدفاع. فقد صرّح القرآن الكريم بوجوب التجهّز والاستعداد، في قوله تعالى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1.

 
فهذه الآية هي بلسان التحذير البليغ لكلّ المجتمعات الإسلامية من الغفلة عن الأعداء المعروفين بل وغير المعروفين أيضاً، ومن عدم الجهوزيّة المسبقة حتى على مستوى التخطيط في مواجهة العدوّ. لأنّنا إن غفلنا فالعدوّ لن يدعنا وشأننا، وسيتحيّن الفرص للهجوم والانقضاض على البلاد الإسلامية. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من نامَ لم يُنَم عنه"2.
 
فهذه الآية تريد أن تشير إلى أنّ هذا الأمر الإلهي بضرورة الإعداد شامل لآحاد المسلمين تماماً كما يشمل الحالة الاجتماعية وعلى رأسها الحكومة الإسلامية والعاملين عليها. وقد استخدمت الآية في بيانها لمعنى الجهوزيّة المطلوبة مفردتين اثنتين هما: "القوّة" و"رباط الخيل".
 
والمقصود من "القوّة" هو كلّ شيء يؤدّي إلى تقوية المجاهدين في كامل تخصّصاتهم سواء على الصعيد المادي أم المعنوي. ولأنّ هذا التعبير هو تعبير مطلق، نستنتج منه أنّه لا حدَّ لتنّوع هذه القوّة ومقدارها، وهي تشمل تهيئة كلّ الإمكانات اللازمة لتعلّم فنون القتال المختلفة، وهي تتبدّل بتبدّل الأزمنة، والميزان فيها أن تكون مناسبة لمواجهة العدوّ وفي الزمان والمكان المناسبين.
 
وهذا ما يستفاد من الروايات التي تبيّن مصاديق هذه القوّة وبيان اتّساع معناها
 
 
 

1- الأنفال، 60.
2- نهج البلاغة، الرسالة 62.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

68

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 وشموله. فقد عُبّر عن هذه القوة في بعضها بتعبير "الرماية" كما قيل أيضاً أنّ المقصود من القوّة هو "وحدة الكلمة والثقة بالله تعالى والرغبة في الثواب الإلهي"، وفُسِّرت بمعنى "الحصن"، وأحياناً فُسِّرت - كما في بعض الروايات - بالسلاح والسيف والترس، وحتى بصبغ الشعر الأبيض للمجاهدين1.

 
أمّا التَّعبير الثَّاني في الآية، وهو تعبير "رباط الخيل" (أي الخيل المربوطة والمستعدّة)، فيُعَدُّ أيضاً من مصاديق تلك القوّة. ولأنّ الخيل الأصيلة والسَّريعة كانت هي أفضل وسيلة للركوب والقتال في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذُكِرَت بعنوان النموذج الأفضل، وذِكْرُ هذا المصداق يستطيعُ أن يُرشدنا أيضاً إلى ضرورة إعداد أكثر العتاد الحربي تقدّماً وتأثيراً.
 
حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعداد القوّة:
ولأجل تحقّق وجود هذه القوّة والجهوزية عملياً، كان النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه وآله وسلم يشجّع المسلمين على إقامة مسابقات الرماية وسباق الخيل، كما كان يرافقهم بنفسه لمشاهدتها، وأحياناً كان يشارك شخصياً فيها2. وقد أولى صلى الله عليه وآله وسلم استمرارية هذا التعليم لفنون القتال عناية خاصة، حيث كان يطلب من أصحابه أن لا يغفلوا عن ذلك، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعلّم الرمي ثمّ تركه فقد عصاني"3.
 
ومن المعروف أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما علِم في أيام حرب "حُنين" باختراع سلاح جديد في اليمن أرسل على الفور رجلاً كي يشتري هذا السلاح للمجاهدين4.
 
 
 

1- يُراجع: تفسير نور الثقلين، ج2، ص164-165.
2- كنز العمال، ح10812، 10841، 10844، 10847.
3- الدر المنثور، أبو بكر السيوطي، ج3، ص193.
4- تفسير الأمثل، ج5، ص472.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

69

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 وبناءً عليه، يمكن في هذا الزمان أن نعتبر إعداد الوسائل العسكرية المتطوّرة كالدبابات المتنوّعة، والطائرات، والسفن الحربية، والتدريب المتواصل للقوات العسكرية، هو من مصاديق إعداد هذه القوَّة.

 
وفي هذا الصدد يقول الإمام القائد الخامنئي دام ظله: "يجب أن تكونوا دائماً في حالة تقدّم، لأنّ العدو ينتظر الأرضية الملائمة للنفوذ، وهو ينتظر تأخّركم ليشنّ هجومه. وأفضل طريقة لصدّ هجومه هو الهجوم عليه. وإنّ تقدّمكم وتطوّركم هو هجوم على العدو. فالبعض يتصوّر أنّ الهجوم على الأعداء معناه حمل المدفع والأسلحة إلى مكان ما أو التصدّي السياسي من خلال الخطابات، ولا شكّ بأنّ هذا لازم في محلّه، ولكنّ الهجوم لا يكون بهذه الأمور فحسب، فإنّ بناء الإنسان لنفسه ولأبنائه ولمن ولِّيَ عليهم من أفراد هذه الأمّة الإسلامية هو من أعظم الأعمال"1.
 
توصيات جهاديّة من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام: 
إنّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام عابقة بالعديد من المواقف الجهادية، ولا سيّما أمير المؤمنين عليه السلام الذي خاض غمار الحروب. حيث نجد في كلامه العديد من التوصيات العسكرية التي تصلح لكل زمان ومكان، وهي نتيجة أيضاً لخبرته عليه السلام وقدراته وبعد نظره. 
 
فثمّة صفات ضرورية، يجب تربية المجاهد عليها مثل: هدوء الأعصاب، والسرعة، والحسم، والدقّة، والقدرة على التنسيق والضبط...
 
يقول الإمام علي عليه السلام "معاشر المسلمين استشعروا الخشية،
 
 
 

1- جمهوري إسلامي، 25، 9، 1375هـ.ش(1996م).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

70

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 وتجلببوا السكينة، وعضّوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام"1

 
فالخشية هي الخشية من الله تعالى، والسكينة هي الهدوء في الأعصاب، والعضّ على الأسنان يزيل توتر الأعصاب. ومن يتحلّى بهذه الصفات يكون مقداماً، حاضر الذهن، ثابت الجنان، وبالتالي يستطيع أن يكون بعيداً عن متناول السيوف، بعد أن يتخلص منها بسيطرته على أعصابه وهدوئه. 
 
ويقول الإمام علي عليه السلام وهو يبيّن بعض مبادئ القتال التي يجب أن يأخذها بعين الاعتبار كلّ مجاهد: "وأكملوا اللامّة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظّبى، وصلوا السيوف بالخطا"2
 
ويقول عليه السلام في مجال اختيار ساحة الحرب والموقع الاستراتيجي: "فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم:
- فليكن معسكركم في قبل الإشراف (المواقع المرتفعة) أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كما يكون لكم رداءً، ودونكم مردّاً. 
- ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين.
- واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافة أو أمن. 
- واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم.
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص565.
2- نهج البلاغة، ج1، ص114. الخزر: النظر كأنه من أحد الشقين، وهو علامة الغضب. اطعنوا الشّزر: بالفتح الطعن في الجوانب يميناً وشمالاً. نافحوا: كافحوا وضاربوا . والظبا: بالضم جمع ظبة طرف السيف وحده . صلوا: من الوصل أي اجعلوا سيوفكم متصلة بخطا أعدائكم، جمع خطوة، أو إذا قصرت سيوفكم عن الوصول إلى أعدائكم فصلوها بخطاكم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

71

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 - وإياكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً.

- وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كِفَّة، ولا تذوقوا النوم إلا َّ غِراراً أو مَضْمَضَة"1
فالجيوش الجرّارة، والأسلحة الفتّاكة، والقوّة الجبّارة، لا يمكن ردّها وإلحاق الهزيمة بها، إلا بالتفوّق عليها ـ ليس عبر الكلمة ـ وإنما بإعداد الرجال وامتلاك القوّة التي ترهب العدوّ وتردّه خاسئاً على أعقابه. 
وههنا بعض التوصيات العسكرية المهمّة التي نقلت عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهي في موارد: 
 
مباغتة العدو: 
وهو أسلوب المفاجأة، ووضع الكمائن في أماكن لا يتوقّعها العدوّ، أو شنّ غارات وعمليات عسكرية سريعة ومباغتة لضرب الخصم، وفي هذا الشأن يقول الإمام علي عليه السلام: "اغزوا القوم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِيَ قوم قطّ في عقر ديارهم إلا ذلّوا"2.
 
الرصد والاستطلاع والحراسة:
وهو من الأمور الروتينية الأساسية التي لا تنفكّ الجيوش تستعد له باستمرار من قبيل تجهيز أفراد وفرق مدرّبة على الرصد والاستطلاع، لأن الجيش بدون
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج33، ص411.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص561-571.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

72

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 معلومات يكون أعمى، وبدون معرفته بأماكن تواجد العدوّ وبدون درايته بالطرق والمسالك الأسلم يكون قد وضع نفسه في معرض الخطر المحدق. وفي هذا المورد يقول الإمام علي عليه السلام - في وصيّته لزياد بن النضر- "اعلم أن مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم ، فإذا أنت خرجت من بلادك ودنوت من عدوك فلا تسأم من توجيه الطلائع في كلّ ناحية وفي بعض الشعاب والشجر والخَمَر1 وفي كل جانب، حتى لا يغيركم عدوّكم، ويكون لكم كمين"2

 
هذا إضافة إلى الحراسة المشدّدة والواعية للأفراد، ولكلّ التجهيزات والعتاد العسكري والمواقع العسكرية المختلفة، فقد روي بأنّ جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سار يوم حنين فأطنبوا السير، حتّى كان عشيةً، ثم قال: "من يحرسنا الليلة؟ قال أحد أصحابه: أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فاركب، فركب فرساً له، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استقبل هذا الشّعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرّنّ من قبلك الليلة"3.
 
قوة النفس: 
ومن ضمن التوجيهات التي يسوقها أمير المؤمنين عليه السلام للحفاظ على كلّ مصادر القوّة لديه، وبالأخصّ شحن الثقة في شخصيّة المقاتل يقول عليه السلام "فقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمْوَرُ للأسنّة، وغضّوا 
 
 
 

1- الخَمَر: كل ما يستتر به.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص561-571.
3- ميزان الحكمة،ج1،ص578.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

73

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 الأبصار، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنه أطرد للفشل"1.

 
مساعدة رفاق القتال:
وهو أمرٌ أساسيّ في الجبهة، إذ لا بدّ للمقاتل من أن يكون حاضراً في جنب إخوته يساعد ضعيفهم إذا رآه عرضة للخطر أو القتل.. فعن الأمير عليه السلام "وأي امرئ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلاً، فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضّل بها عليه كما يذبُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله"2
 
اعتماد التكتيكات العسكرية المناسبة:
كالخدعة مثلاً، واعتماد الأساليب الأمنيّة أو الإعلامية أو حتى التمويهات الميدانية المناسبة، وهي بالتالي تحمي المجاهدين وتقرّب لهم النصر، وتخدع العدو وتوهمه بأشياء غير حقيقية فتتأثر تحضيراته للمعركة تبعاً لنوعية هذا الأسلوب ومداه. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إنما الحرب خدعة فاصنع ما تريد"3. وفي مجال الحرب الإعلامية والنفسية يقول صلى الله عليه وآله وسلم "قل ما بدا لك، فإن الحرب 
 
 
 

1- الكافي، ج5، ص39. الدارع: لابس الدرع . والحاسر: الذي لا مغفر له ولا درع. وأنبأ أي أبعد وأشد دفعاً . قيل: الوجه في ذلك أن العضّ على الأضراس يشدّ شؤون الدماغ ورباطاته فلا يبلغ السيف مبلغه. والهام جمع هامة وهي الرأس. قيل: أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحري أن يمور السنان أي يتحرك عن موضعه فيخرج زالقاً وإذا لم يلتووا لم يمرّ السنان ولم يتحرك عن موضعه فينخرق وينفذ ويقتل. وأمرهم بغضّ الأبصار في الحرب لأنه أربط للجأش أي أثبت للقلب لأن الغاضّ بصره في الحرب أحرى أن لا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر. وأمرهم بإماتة الأصوات وإخفائها لأنه أطرد للفشل وهو الجبن والخوف وذلك لأنَّ الجبان يرعد ويبرق والشجاع صامت.
2- بحار الأنوار، ج32، ص172.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص566.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

74

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 خدعة"1. وعن عديّ بن حاتم: يوم التقى أمير المؤمنين عليه السلام، ومعاوية بصفّين ورفع بها صوته ليسمع أصحابه: "والله لأقتلنّ معاوية وأصحابه ثم يقول في آخر قوله: إن شاء الله - يخفض بها صوته - وكنت قريباً منه فقلت: يا أمير المؤمنين! إنك حلفت على ما فعلت ثم استثنيت، فما أردت بذلك؟! فقال لي: إن الحرب خدعة، وأنا عند المؤمن غير كذوب، فأردت أن أحرّض أصحابي عليهم لكيلا يفشلوا وكي يطمعوا فيهم فأفقههم بها بعد اليوم إن شاء الله"2

 
كما أن استخدام الخدعة في الميدان أثناء القتال لا حدود له، كأن يستعمل المقاتل وسائل لإثارة الدخان أو الضباب أو الأصوات ليوهم العدوّ فيأتيه من مكان آخر أو غير ذلك، ونرى ذلك مثلاً في ما حصل مع الأمير عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري، وهي لفتة ذكية منه عليه السلام "فقال له علي: يا عمرو! أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت عليّ بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين عليه السلام مسرعاً على ساقيه فأطنّهما جميعا، وارتفعت بينهما عجاجة... وأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم... فقال رسول الله: يا علي! ماكرته؟ قال: نعم يا رسول الله! الحرب خديعة"3.
 
 


1- م.ن.
2- م.ن.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص567.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

75

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 تفقّد السلاح والجهوزيّة الدّائمة

عندما نتدبّر في الإجراءات العسكرية التي كان يتّخذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في المعارك المختلفة التي خاضها المسلمون ضد الكفّار والطواغيت، نجد بأنّهم كانوا يخطّطون للمعركة، ويؤمّنون كل الوسائل والمستلزمات بما فيها المادية منها. فنلاحظ مثلاً بأنّ النبيّ عليه السلام قد أمر بحفر الخنادق لحماية المدينة والمسلمين، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام حفر خندقاً في بعض أطراف المعركة، بهدف توجيه ميدان المعركة من جهة واحدة وتأمين الحماية للمقاتلين، وتوفير أفضل مدىً للحركة لهم داخل الميدان. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين"1.
 
وعندما نضمّ هذه الأفعال من قبلهم عليهم السلام إلى الروايات التي تؤكد على اليقظة الدائمة وعدم الغفلة عن السّلاح طرفة عين، ندرك تماماً بأنّ الاستعداد والاحتياط واليقظة والاهتمام بالسلاح والعناية به من الثوابت العسكرية في أيّة حرب.
 
فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يأمر بتفقّد السّلاح قبل الحرب كما ذكرنا في الحديث المتقدّم "وأكملوا اللاّمة وقلقلوا السّيوف في أغمادها و..."2، وكلّ ذلك إشارةٍ واضحةٍ إلى ضرورة تفقّد السّلاح وإبقائه في حالة جهوزيّة. فالسّيف قد يصدأ ويعيق الاستفادة منه في الحرب.
 
ونقرأ في السّيرة الحسينيّة بأنّ أصحاب الحسين عليه السلام كانوا يصلحون سيوفهم ودروعهم ليلة العاشر من المحرّم مع أنّ معركتهم استشهاديّة.
 
 
 

1- بحار الأنوار،ج33،ص411.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 114.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

76

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 وكذا الحال في يوم العاشر، مع أنّ الإمام قد بشّرهم بالجنّة، فكانوا يلبسون الدّروع، والبيضة، ويحملون اللاّمة، كلّ ذلك في سبيل تأكيد مبدأ عسكريّ هامّ، وهو الاستفادة من جميع التقنيات والوسائل المادية، بالإضافة إلى الإيمان والتّسليم والتوكّل على الله تعالى.

 
استخدام مختلف الأسلحة في الحرب:
فعن الإمام علي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "يُقتل المشركون بكلّ ما أمكن قتلهم به، من حديد أو حجارة أو ماء أو نار أو غير ذلك، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وقال عليه السلام: إن كان معهم في الحصن قوم من المسلمين فأوقفوهم معهم، ولا يتعمّدهم بالرمي وارموا المشركين، وأنذروا المسلمين إن كانوا أقيموا مكرهين، ونكّبوا عنهم ما قدرتم"1
 
القتال في كل مكان حتى البحر:
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جلس على البحر احتساباً ونية احتياطاً للمسلمين، كتب الله له بكل قطرة في البحر حسنة"2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم "من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر"3
 
 
 

1- م.ن، ص568.
2- م.ن، ص569.
3- م.ن، ص.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

77

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 الإسعاف الحربي:

لقد كان المسلمون يُخرجون معهم للحرب من يقوم بتطبيب جريحهم وإسعاف مصابهم، ولقد كانوا يستعينون بالنساء حينها لقلّة عديد الرجال وعدم القدرة على تخصيص عدد منهم لمهام الإسعاف، فسقوط وجوب الجهاد عن النساء لا يلغي بالضرورة السماح لهنّ بالخروج مع الجيوش الإسلامية لمهام التَّمريض والإسعاف، على أن يكون ذلك بإذن الحاكم وتحت نظره المقدَّس. فعن أحد الإمامين الباقرين عليهما السلام: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج بالنساء في الحرب حتى يداوين الجرحى، ولم يقسم لهن من الفيء، ولكنه نفلهن"1.
 
 

1- أصول الكافي، ج5، ص45.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

78

الدرس الخامس: الشروط المادية للجهاد

 المفاهيم الرئيسية

1- يأمر الإسلام أتباعه أن يُعدوّا ما استطاعوا من قوّة لأجل الدفاع عن أنفسهم وأن يبقوا في جهوزيّة تامّة، وذلك قبل وقوع الحرب وظهور الحاجة إلى الدفاع.
 
2- المقصود من "القوّة" هو كلّ شيء يؤدّي إلى تقوية المجاهدين، فلا حدَّ لتنّوع هذه القوّة ومقدارها، والميزان فيها أن تكون مناسبة لمواجهة العدوّ وفي الزمان والمكان المناسبين.
 
3- من التوصيات العسكرية المهمّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام: 
 
4- مباغتة العدوّ. فعن الأمير عليه السلام: "اغزوا القوم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم إلا ذلّوا".
 
5- العمل على الرصد والاستطلاع. 
6- الالتزام بتوجيهات قتالية ميدانية لتجنّب الخسائر. 
 
7- مساعدة رفاق القتال وتقديم العون لهم عند الحاجة. 
8- اعتماد التكتيكات العسكرية المناسبة، كالخدعة مثلاً وغيرها. 
 
9- استخدام مختلف أنواع الأسلحة المناسبة في الحرب.
10- تخصيص عدد من الأشخاص مهمّتهم تقديم المعونة الطبية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

79

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 الدرس السادس: الوعي والبصيرة


أهداف الدَّرس: 
- بيان أهمّية امتلاك المجاهد للوعي والبصيرة. 
- بيان أهمّ العناصر التي تميّز صفاء بصيرة المجاهد.
- التركيز على أن نجاح الجهاد مرتبط بتحقّق البصيرة السليمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

80

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 مدخل:

من وجهة نظر الإسلام يجب على المجاهد المسلم إضافة إلى ضرورة حيازة الشروط والصفات المعنوية والأخلاقية وحتى الجسمية اللازمة، أن يتمتّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتخاذ القرارات الصائبة، والتعامل مع أمور الحياة بحكمة وروية. وهذه البصيرة هي بعينها تلك التصوّرات العميقة التي أظهرها الدين الحنيف، وقامت عليها دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ هذِهِ سَبيلي‏ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَن﴾1.
 
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين الأوائل زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم
 
 
 

1- يوسف، 108.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

81

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 بأمر واعظهم"1. وفيما يلي أهم مظاهر البصيرة والوعي المطلوبين عند المجاهدين: 

 
الإيمان بالله تعالى: 
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالقٍ، لا يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أن ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضاً، لأنه الخالق ولا يوجد منبع للقدرة والكمال في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ المؤمنين والمجاهدين في سبيله، وفي آنٍ هو عدوُّ الظالمين والمشركين...إلخ.
 
فالمجاهد الذي يمتلك مثل هذه الاعتقادات الواعية، سوف يكون من عشّاق الوصال وتكون غايته قرب الله وجلب رضاه. وما الإيمانُ، وأداءُ الأعمال الصالحة - ومن جملتها ذهابُه إلى الجبهة وقتالُه - إلا لأجل نيل جوار الحقِّ سبحانه ولقائه.
 
ومن خلال هذا المفهوم الارتقائي، لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف المادية الرخيصة، ولا يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال إلى المحبوب، وتكون تطلّعاته دوماً منحصرة في سبيل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾2.
 
ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره لأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على
 
 
 

1- نهج البلاغة، خطبة 150.
2- النساء، 76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

82

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 نفسه الرحمة، وعليه يتوكّل وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، ويعتقد أنّ كل ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾1، وهذا هو معنى التوحيد العملي في حياة الإنسان المؤمن المجاهد.

 
والمجاهدون في عقيدتهم التوحيدية، لو نالوا نصراً فإنّهم يرونه من عند الله، ويعتبرون أنّ الله هو الناصر ومن وراء كل سببٍ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ به: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾2.
 
وعليه فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلون معها بالغرور والعجب والمفاسد الأخلاقية، لأنّهم -وبناءً على التوحيد الأفعالي - يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت نظر الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد الله تعالى، وأنّهم ليسوا سوى وسائط قبلها الله برحمته، فإن هزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفّذين لإرادته: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.
 
روحيّة الطَّاعة وأداء التَّكليف الشرعي: 
إنَّ الطَّاعة لأولي الأمر والتسليم لأمرهم ونهيهم، من أوَّليات قيام نظام العدالة في المجتمع، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ القائد ولو كان على مستوى المعصوم، فإنَّ 
 
 
 

1- التوبة، 51.
2- آل عمران، 126.
3- الأنفال، 17.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

83

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 فعالية قيادته وإمامته تكون بطاعة الأمة له، وانقياد الناس لأوامره، فإذا ما انعدمت الطَّاعة اختلّ النِّظام وتهاوى وفُتحت الأبواب للفتن الدَّاخلية والعبث بالحقوق وقيام الأنظمة الظَّالمة والمستبدّة ولو تلبَّست بزيّ الدّيمقراطية والحريّة. والطاعة هي الانقياد والموافقة في العمل طبقاً للأمر المتوجّه من الآمر باتجاه المأمور.

 
والأصل بحكم العقل هو طاعة الله فقط، لأنَّ الله هو المولى ونحنُ العبيد الضيوف على مائدة رحمته ولطفه، ووظيفة العبد هي الطاعة لمولاه والتسليم لحكمه، وعلى هذا قامت سيرة العقلاء في مورد طاعة العبيد لمواليهم.
 
أمَّا طاعة المخلوق لمخلوقٍ مثله فالأصل بحكم العقل هو المنع، لأنَّ الناس كلّهم سواسية بين يدي الخالق المقتدر الحكيم.
 
قال الإمام علي عليه السلام: "يا مالك" ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"1.
 
وإنما جاءت الطاعة بحكم الشرع ورسالة السماء للأنبياء عليهم السلام والأولياء عليهم السلام والفقيه النائب عن المعصوم عليه السلام بالأدلّة الخاصة التي أظهرت مقام القيادة فيهم ومقام الطاعة لهم، حفظاً للنظام العام القائم لحماية مصالح الفرد والجماعة. وعلى مستوى الجسد والروح وعلى مستوى الدنيا والآخرة.
 
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾2.
 
ثمَّ إنَّ الطاعة للإمام في زمن الغيبة هي للفقيه الجامع للشرائط المعتبرة، وهي في نفس مستوى طاعة الإمام المعصوم. 
 
 
 

1- نهج البلاغة، كتاب 53.
2- النساء، 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

84

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 والنظام العسكري الذي يقيمه الوليّ الفقيه قائم على وجود القائد لهذه المجموعة أو تلك المجموعة، والطاعة للقيادة العسكرية يكمن فيها سرُّ النَّجاح وتحقيق النَّصر، ومن دون الطَّاعة لا بدّ وأن يقع التنازع والفشل والخسارة.

 
ففي سؤال وجِّه للإمام الخميني قدس سره: "يُلحظ أحياناً أنّ بعض الإخوة المقاتلين لا يراعون بدقَّة المقرّرات المعيّنة من قبل القادة، ولا يستخدمون الوسائل المؤمِّنة والواقية كخوذتهم ونظّاراتهم الخاصَّة وما شابه ذلك، وعدم الاعتناء هذا ينجرُّ أحياناً إلى الشهادة وجرح هؤلاء أو مقاتلين آخرين غيرهم، وهم يتصوَّرون أنّ ذلك عملٌ صحيح لأنه يؤدّي إلى الشهادة، فهل هذا العمل جائز أم لا، نتمنَّى بيان رأيكم المبارك؟
 
قال في الجواب: يجب على المقاتلين الأعزَّاء العمل بحسب مقرّرات الجبهة وأوامر مسؤوليها، ومراعاة الوسائل المؤمِّنة والواقية، ولا يجوز التخلُّف"1.
 
وقانون طاعة أولياء الأمر، والذي هو من التكاليف الكبرى، يستبطن التسليم لحكم الله سبحانه الذي أوصله لنا الأنبياء العظام والأولياء المعصومون والمراجع المحترمون، كما قال تعالى ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾2.
 
وفي هذا المورد قال العلامّة الطباطبائي قدس سره: "وهذا موقف من مواقف الإيمان، يتلبّس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها التسليم لأمر الله، ويسقط فيه التحرُّج والاعتراض والردّ من لسان المؤمن وقلبه، وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقاً"3.
 
 
 

1- أحكام الإسلام، ص408.
2- النساء، 65.
3- تفسير الميزان، ج4، ص405.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

85

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديثه لخيثمة: "أبلغ شيعتنا أنّا لا نُغني من الله شيئاً، وأبلغ شيعتنا أنَّه لا يُنال ما عند الله إلا بالعمل، وأبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره، أبلغ شيعتنا أنَّهم إذا قاموا بما أُمِروا أنَّهم هم الفائزون يوم القيامة"1.

 
وقال الإمام الخميني قدس سره: "محبُّ أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم هو الذي يشاركهم في أهدافهم، ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم، إن ما ذُكر في الأخبار الشريفة من أنّ الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان، فهو بيان لسرّ طبيعي، ولسنّةِ الله الجارية، لأن حقيقة الإيمان تلازم العمل والتنفيذ"2.
 
المعرفة بالزمان والمكان: 
من لوازم العقيدة الصحيحة، وجود البصيرة السياسية التي تصون الإنسان المؤمن من السقوط ضحيّة للمؤامرات. يقول الإمام الرضا عليه السلام "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللّوابس"3.
 
وعليه، فمعرفة الزمان والظروف الخاصّة لكل عصر، ومعرفة الصديق من العدوّ، ومعرفة خطط العدوّ الشيطانية، تعدُّ كلُّها جزءاً من البرامج الأساسية للمؤمن.
 
وإنّ تبديل العدو لأساليبه لا يجعلُ المؤمنَ يشتبه، ولا تؤثّر فيه دعايات العدو، ولا يُسئمه طول مدّة الحرب أو يتعبه. 
 
ومثل هذا المجاهد يأخذ العبر من الحوادث المُرَّة والحلوة التي تقع، ويَجِدُّ من
 
 
 

1- الأربعون حديثاً، ص506.
2- المصدر السابق، ص512.
3- الكافي، ج1، ص27.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

 


86

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 أجل اكتساب التجارب، ولا تزلزله وساوس المثبّطين، بل يقف بثبات وشجاعة، نموذجاً، ففي واقعة الجمل، نشاهد من هؤلاء المجاهدين، حيث وقف أشخاصٌ في وجه طلحة والزبير، ولم تستطع سابقتهما في الإسلام، أن ترمي بهم في أحضان الخديعة، وقد كان هذا العمل أمراً صعباً جداً. يقول الإمام علي عليه السلام واصفاً الموقف آنذاك: "ولا يحملُ هذا العلمَ إلاّ أهل البصر والصبر والعلمِ بمواقع الحقّ"1.

 
فإنّ سطوع نور هذه العناصر الواعية قياساً بضعاف النفوس الذين وقعوا في حيرة الضياع والشبهة خلال المعركة، ولم يعرفوا الحقّ وإلى جانب من كان، لهو ظاهر بوضوح. فأحدُ الأشخاصِ جاء إلى الإمام عليٍّ عليه السلام وسأله: أيمكن أن يكون طلحة والزبير على الباطل؟ فأجابه عليه السلام بجواب بيّن له فيه طريق اكتساب البصيرة، وقال: "إنّك لملبوس عليك. إنَّ الحقَّ والباطل لا يُعرفان بأقدار الرِّجال. اعرف الحقّ تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله"2. وعليه، فالميزان الحقيقيُّ هو معرفة الحقّ، ثمَّ عرضُ الناسِ عليه، وليس العكس. وإنّ معرفة الزمان وأحداثه في العالم المعاصر، ومعرفة المكانة الواقعية للمقاومة والثورة الإسلامية وكل ظواهر الحق، وكذلك معرفة الحيل المعقّدة والخبيثة للاستكبار العالمي إضافة إلى معرفة أعداء الداخل والخارج، جميعها تفرض علينا ضرورة امتلاك تصوّر صحيح بواسطة بصيرة ثاقبة عن الزمان الذي نعيش فيه وما يجري فيه من مسائل سياسية.
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 172.
2- أنساب الأشراف، ج2، ص238-239.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

87

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة:

إنّ المجاهد المؤمن الذي ينظر إلى هذا العالم وعالم الآخرة على ضوء العقيدة الإلهية، ويرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة، فهو ليس فقط لا يخشى الموت، وإنّما يسرع إلى استقباله إذا ما تتطلّب الواجب منه ذلك.
 
إنّ المجاهدين المؤمنين بخطّ الشهادة قد أعدّوا أنفسهم لأي نوع من أنواع الموت الذي قُدِّرَ لهم، وعلى رضاً من أنفسهم، وعشقهم أن يكون خروجهم من هذا العالم عن طريق الشهادة، وأن تختم حياتهم في هذا العالم بهذا الشرف العظيم. والإمام علي عليه السلام نفسه كان يَعدُّ الأيام شوقاً إلى هذه الأمنية، حيث يقول: "إنّ أكرمَ الموتِ القتلُ، والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألفُ ضربة بالسيف أهونُ عليَّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"1.
 
وفي آخر عهده لمالك الأشتر، يتمنّى من الله لنفسهِ ولصاحبه الوفيّ أن يرزقهما الشهادة في سبيله، فيقول: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قُدرته على إعطاء كل رغبة... وأن يختمَ لي ولك بالسعادة والشهادة"2.
 
وإنّ التسابق إلى الشهادة بين جُندِ صدر الإسلام المضحّين، وكذلك بين أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ومجاهدي الإسلام خلال الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية المباركة، كان ناشئاً من إدراك هذه الحقيقة، التي استلهموها من آيات القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام، حيث كانوا يعلمون أنَّ الشَّهادة هي أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله تبارك وتعالى.
 
إنّ أفضل صورة على الإطلاق تبيّن حقيقة نظرة المؤمن إلى الشَّهادة، هو
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 122.
2- م.ن، الرسالة 53.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

88

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 حديث السيدة زينب الكبرى عليها السلام في مجلس ابن زياد لعنه الله، عندما سألها قائلاً: كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته: "ما رأيت إلاّ جميلاً"1.

 
ومعنى كلمتها المباركة هو، أنّ شهادة جميع الشهداء في كربلاء، وسبيَ النساء والأطفال، وكل مشاهد المأساة هي جميعاً من وجهة نظر السيدة زينب’، أمورٌ جميلة لأنها من أروع آيات التضحية والفداء والإيثار على أعتاب الرضا الإلهي، ويجب على كل مؤمن تصادفُه أن يستقبلها ويتقبّلها بصدر واسع، ويراها حسنة وجميلة.
 
معرفة حقيقة النصر: 
في قوله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾2، دلالة واضحة على أن تحقّق النصر الإلهي شرطه الأول والأساسي هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام بالتكاليف الشرعية التي يحددها الله أو وليّه في الأرض بجد وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ﴾3.
 
إنّ المجاهدَ المؤمنَ يرى أن المبدأ الأساسي والأصل الحاكم في المسيرة الجهادية هو الطاعة والعبودية لله سبحانه التي تتجلّى من خلال ثقافة وروحية أداء التكليف الشرعي، سواء وصل إلى النتيجة الظاهرية لجهاده أم لا. لأن النصر الحقيقي يكمن في الالتزام بالتكليف الشرعي وبلوغ رضا الله جلّ شأنه، وعلى أي حال كان، لأنَّه امتحان لله لنا في عبوديتنا الخالصة له من دون أي شائبة حتى ولو كانت على نحو الاغترار بالنصر المادي على العدو. وفي المقابل، لو قصّر
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص116.
2- محمد،7.
3- آل عمران،160.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

89

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 المجاهد في أداء تكليفه وبلوغ رضا الله سبحانه، فإنّه يعتبرُ نفسه مهزوماً حتى لو تمكّن من الانتصار على العدوّ في الظاهر.

 
إنّ القرآن الكريم يعلّمنا كيف ننظر إلى النَّصر الحقيقي، وكيف نجيب من يتربّص بالمجاهدين الدوائر والهزيمة من أهل الفسق والنفاق، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾1.
 
وعليه، لا معنى للهزيمة بالنسبة للمجاهد، المطمئنّ إلى وعد الله بالنصر وبعلوّ شأنه وأصحابه بفضل من الله وقوةّ. كما أشار القرآن المجيد إلى هذا الوعد بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾2، وهذا العلوّ متحقّق حتماً في كلا الحالين - النصر أو الشهادة - والغلبة دوماً هي للمؤمنين على الكافرين ما دامت الطريق تعبّد بمرضاة الله وألطافه.
 
 
 

1- التوبة، 52.
2- آل عمران، 139.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

90

الدرس السادس: الوعي والبصيرة

 المفاهيم الرئيسية

1- على المجاهد المسلم إضافة إلى حيازة الشّروط والصّفات المعنويّة والأخلاقيّة وحتّى الجسميّة اللازمة، أن يتمتَّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتخاذ القرارات الصّائبة. 
2- من غير الصحيح أن يتقدّم المجاهد نحو ميدان المعركة من دون وعي وبصيرة وتفكّر في أسباب الجهاد ونتائجه وأهمية ما يقوم به من طاعة لله تعالى.
 
3- المجاهد في سبيل الله يعتقد ويؤمن بأنّ كل ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى ولسان حاله ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
 
4- الطاعة هي الانقياد والموافقة في العمل طبقاً للأمر المتوجّه من الآمر باتجاه المأمور. والمجاهد عليه أن يطيع الله تعالى وأولي الأمر من أجل الحفاظ على النظام العام ومصالح المجتمع، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾.
 
5- ينبغي أن يكون لدى المجاهد أن يكون لديه معرفة بالزمان الذي يعيش فيه. فمن لوازم العقيدة الصّحيحة وجود البصيرة السياسية التي تصون الإنسان المؤمن عن السقوط ضحية للمؤامرات كما يقول الإمام الرّضا عليه السلام: "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللوابس".
 
6- من الأمور التي تميّز الإنسان المؤمن امتلاكه للنظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة، فالمجاهد المؤمن يرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة.
 
7- المجاهد الحقيقي يرى أن النصر الحقيقي يكمن الالتزام بالتكليف الشرعي وبلوغ رضا الله جلّ شأنه. أما لو قصّر في أداء تكليفه، فإنّه يعد نفسه مهزوماً ولو تمكّن من الانتصار على العدوّ في الظاهر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

91

المحور الثالث: موانع الجهاد في سبيل الله

 المحور الثالث: موانع الجهاد في سبيل الله




أهداف المحور الثالث:
التعرّف على أهمّ الموانع والعوائق التي تحول دون تحقّق الجهاد الواعي والهادف في سبيل الله.
بيان كيفيّة رفع هذه الموانع والعوائق عن طريق المجاهدين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

92

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت


أهداف الدرس: 
- بيان معنى الجبن وأسبابه ودوافعه.
- بيان حقيقة الموت والأسباب الكامنة وراء الخوف منه.
- التعرّف على سبل علاج كلّ من الجبن والخوف من الموت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

93

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 الجبن: 

1- حقيقة الجبن:
من الرذائل الأخلاقية التي قد يُبتلى بها الإنسان صفة الجبن، وهو الخوف غير المنطقي. وهو يقابل الشجاعة والجرأة الّتي تُعد مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الاجتماعية، وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشري سواءً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع، وحتّى في الميادين العلمية. ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"1
 
وهي صفة تورث الإنسان المذلّة والمهانة وسوء العيش، وتحطّ من منزلة صاحبها، وتؤدّي إلى هدر
 
 
 

1- بحار الانوار، ج72،ص301.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

94

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 طاقاته، وتفضي إلى أن يتسلّط عدوّه عليه. والمجتمع الذي يتّصف أفراده بالجبن يكون مجتمعاً خنوعاً ذليلاً خاضعاً لسياسة الظالمين غير قادرٍ على مواجهة التحديات الكبرى وتقديم الحلول الناجعة، ولا يُرجى له الرقيّ والتكامل في كافة مجالات الحياة، ويكون بعيداً عن تحقيق الأهداف الإلهية الكبرى من قبيل بسط الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

 
وهذا ما سجّلته صفحات التاريخ الإسلامي في الفترة الأخيرة التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتنة الصخياء التي حلّت بالأمة آنذاك، حيث جبن البعض ولم يلتزم بالوصايا الصريحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ أهل بيته عليهم السلام، فلم يلتزم بمبايعة خليفته أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه المعصومين عليهم السلام المنصوص عليهم بالإسم، بل وعمد إلى التآمر عليهم من خلال محاربتهم والتَّنكيل بهم وبأصحابهم بهدف القضاء الماديّ والمعنوي عليهم.
 
والمراد بالجبن هنا هو الخوف غير المنطقي من المواقف أو المظاهر التي لا تستبطن خطراً حقيقياً، بل يتصوّرها الإنسان الجبان ويتوهّم أنها أمور خطيرة، مع أنها ليست كذلك. وهذا بخلاف الخوف من الأمور التي تتضمن خطراً واقعياً على حياة الإنسان أو أنها يمكن أن تسبّب الضرر والأذى له، فإن الاندفاع نحو هذا النوع من المخاطر دون تفكيرٍ ورويّة يوقع الإنسان في مفسدة أخرى لا تقلّ خطراً عن الجبن وهي التهوّر، وهو القائل في كتابه العزيز: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إلى التَّهْلُكَة﴾1.
 
 
 

1- البقرة،195
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

95

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 2- دوافع الجبن:

سوء الظنّ بالله: لأن الشخص الذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكّل على الله والتصديق بوعده، لن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولن يتردّد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة، ولن يتزلزل أمام التحدّيات، ولن يهاب أحداً من الأعداء لأنه يرى أن قدراتهم محدودة ولا تعادل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن بالله"1.
 
ضعف الإيمان واليقين: من أهم خصائص الإنسان الجبان ضعف نفسه وعجزها عن مواجهة الصعاب والتحدّيات المختلفة، لذا نراه يلجأ دائماً إلى التذرّع بالأعذار الواهية هرباً من المسؤوليات أو الواجبات المطلوبة منه، والمنشأ الرئيسي لهذا العجز هو ضعف الإيمان بالله تعالى. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدّة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين"2. فالجبن لا ينسجم مع روح الإيمان، لأنّ المؤمن يتوكّل في جميع أموره على الله تعالى، ومن كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يكون للجبن طريق إلى قلبه لأنّه يعيش الأمل برحمة الله وفضله فلا يتعلّق قلبه بكل ما سوى الله تعالى. وبالعودة مجدداً إلى حديث الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"3، نستنتج منه أيضاً أن الجبن لا يجتمع مع الإيمان. 
 
الخوف من قوّة العدوّ: إن قوّة العدوّ المادية وعديده وعدّته وحجم الخسائر في صفوف المسلمين، كلّها عوامل ومؤثّرات قد تقود أحياناً إلى الرهبة والخوف التي
 
 

1- بحار الأنوار،ج33،ص602.
2- غرر الحكم،ص263.
3- بحار الأنوار، ج72،ص301.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

96

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 قد يتبعها الهزيمة والفشل لا سمح الله. وهذا ما يحاول العدو تحقيقه والوصول إليه في دعايته الإعلامية وحربه النفسية. ونحن لو رجعنا إلى عديد جيش الإسلام الأول في معاركه، فسنجد أن التوازن العددي مفقود: ففي معركة بدر كان عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشرك على سبيل المثال، ولكن الأمر كان ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾1. وفي معركة الخندق كان المشركون على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل، والمسلمين لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف2. لكن المسلمون الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾3. وقال الله تعالى مخاطباً نبيه موسى عندما أمره بالذهاب إلى لمواجهته: ﴿يا مُوسى‏ لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾4.

 
الجهل وقلّة المعرفة: حيث غالباً ما يسبّب للإنسان الخوف الموهوم، كما يلاحظ في حالة خوف الإنسان من الموارد التي لا يعرفها جيداً. أما عندما تتّضح له الصورة جيداً فإن حالة الخوف ستذهب من نفسه تدريجياً.
 
طلب الراحة والعافية: وهو أحد الأسباب التي تكون منشأً للخوف غير المبرر، لأن خوض أي معتركٍ يتطلّب من الإنسان أن يُقحم نفسه في دوامة من المشاكل والصعاب، مما يعني أن يتخلّى عن حظوظه من الراحة.
 
 
 

1- الأنفال، 65.
2- بحار الأنوار، ج20، ص228.
3- آل عمران، 173.
4- النمل،10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

97

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 الآثار الناجمة عن خوض تجارب مؤلمة: فالحوادث المرّة غالباً ما تترك في نفس الإنسان حالةً من الخوف والرعب لأنها تترسّخ في ذهنه وتحول دون إقدامه على خوض تجارب جديدة. 

 
الإفراط في توخّي الحذر: إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً لأنه يدفع بالإنسان إلى توقّي كل ما يحتمل فيه الخطر، فيعيش التردّد والخوف من الإقدام دائماً.
 
3- كيفيّة معالجة الجبن:
إن أحد الطرق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية كما في سائر الرذائل الأخرى هي التفكّر في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على صعيد الفرد والمجتمع. فعندما يتعرّف الإنسان على الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتّب عليه من مذلّة وحقارة وتخلّف وحرمان، فإنه سيتحرّك حتماً لإزالة هذه الرذيلة من نفسه.
 
أما الطريق العملي لعلاج هذه الآفة فهو بالسعي إلى قطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس. فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظن بالله من سماء القلب، وتشرق شمس الإيمان والتوكل على الله في فضاء الروح الإنسانية، فإن ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة من النفس. ومن الطرق الأخرى المفيدة في العلاج أيضاً، أن يورّط الإنسان نفسه في الميادين المثيرة للخوف والوحشة، ويعمل على إقحام نفسه فيها مرات عديدة، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس حتماً. ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم مما تخاف منه"1.
 
 
 

1- بحار الأنوار،68،ص362.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

98

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 الخوف الموت: 

 
1- حقيقة الموت:
ما هو الموت؟ وهل الموت يعني الفناء والعدم أم أنه تحول وانتقال من مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم آخر؟ هذا السؤال كان على الدوام ولا يزال يجول في خاطر جميع البشر، وكل إنسان من دون استثناء يودّ أن يحصل على الجواب الصحيح لهذه المسألة. 
 
الموت في نظر القرآن الكريم ليس عدماً بل هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى، ومن عالم إلى عالم آخر، هو انتقال من دنيا محدودة وفانية إلى عالم واسع خالد وغير محدود وخالد. يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا"1. فالموت في واقعه مرحلة من السير التكاملي للإنسان نحو الآخرة والرجوع إلى الله عزّ وجل، كالجنين الذي يعيش مدّةً من الزمن في ظلمات الرحم ثم يخرج إلى الحياة لتبدأ رحلة جديدة من التكامل. وقد أجاب الإمام الجواد عليه السلام لمّا سئل عن حقيقة الموت بالقول: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلا أنه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يُقادِر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟! هذا هو الموت فاستعدّوا له"2
 
وقال رجلٌ لجعفر بن محمّد عليه السلام: "يا أبا عبد الله إنّا خُلِقنا للْعَجَبِ،
 
 

1- نهج البلاغة،خ21.
2- بحار الأنوار،ج6،ص155.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

99

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 قال وما ذاك الله (لله‏) أنت، قال: خُلِقنا للفناء، فقال: مه يا ابن أخ خُلِقنا للبقاء وكيف تفنى جنَّة لا تبيد ونار لا تخمد، ولكن قل إنّما نتحوّل من دار إلى دار"1

 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في حقيقة الموت قال: "أيها النّاس وإنّا خُلِقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ولكنكم من دار إلى دار تُنقلون فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه"2
 
يقول إمامنا الخميني قدس سره: "وإذا كنتم في خدمة الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى فإنّ هذه الأنفس ستصبح أنفساً طاهرة وزكيّة وسعيدة، أينما كانت وعلى أيّة هيئة كانت. إنّ موت الإنسان - الإنسان الطاهر- هو بداية حياته الإنسانية، فهنا حياته الحيوانية وحياته المحدودة، أمّا تلك الحياة الإنسانية فهي غير محدودة وعالم غير محدود. ولو نزّهتم أنفسكم وطهّرتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، إذاً طهّرتم أنفسكم، فلا تخافوا شيئاً. إنّ الموت أمر يسير وليس بذي بال، فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه مولى الجميع حينما يقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه" فلأنّه فهم حقيقة الدنيا وحقيقة ما وراءها، وفهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة"3.
 
 

1- بحار الأنوار،ج5،ص313.
2- بحار الأنوار،ج68،ص264.
3- صحيفة الإمام، ج6، ص248.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

100

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 2- الخوف من الموت وحب البقاء: 

شكّل التخويف من الموت أحد أهم الحجج التي اعتمدها المنافقون والكافرون لمنع المؤمنين من التوجّه إلى الجهاد، حيث يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾1. إنّ هذا الكلام يزعزع الإيمان، ويُضعف المعنويات، ويزلزل روحيّة المسلمين، ولكنه في نهاية المطاف يعبِّرُ عن غريزةٍ وأساسيَّةٍ في الإنسان وجبلَّتِهِ، ألا وهي حُبُّ البقاء والخوفُ من الموت. 
 
على الرغم من هذه الغريزة وحضورها القويّ في حياة الإنسان، إلا أنّ التربية الإسلامية أبت أن تجعلها حاكمة ومتسلّطة على تفكير الإنسان وأفعاله، فوضعت لها قواعد عامّة ومحكمة، وأخضعتها للتهذيب والتوجيه. 
 
لقد بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت، فالموت في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كلّ إنسان كما يقول تعالى في القرآن الكريم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْت﴾2. وما من أحد بإمكانه أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد أجله، بل هو أمر بيد الله وحده ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾3
 
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أيُّها الناس إنّ الموت لا يفوتُه المُقيم، ولا يُعجِزه الهارب، ليس من الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات،
 
 

1- آل عمران، 156.
2- الأنبياء، 35.
3- الأحزاب، 16.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

101

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 إنّ أفضل الموت القتل" وفي حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"1

 
والموت في الرؤية القرآنية والإسلامية ليس فناءً ولا إعداماً، إنّما هو حالة انتقال من دار إلى دار، من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: "إنما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرِّكم"2. والإنسان لم يخلق إلا للخلود والبقاء كما ورد في وصية الإمام علي عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا"3.
 
إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة هذه الحياة الفانية والمتصرّمة ومفارقة روحه لجسده، ويؤمن بالحياة الخالدة في دار الآخرة، حيث ينتقل إليها روحاً وجسداً، فسوف تتبلور الرؤية أمامه وتتوضّح أكثر حقيقة هذه المرحلة الانتقالية المهمّة التي اسمها الموت، والتي هي بمثابة القنطرة التي سوف يعبر من خلالها إلى جنان الله الفسيحة والخالدة وستتبدّد مخاوفه ويسلّم أمره إلى الله ولا يكلّف إلا الصّبر، كما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه قبل واقعة الطفّ: "صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرّاء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدّائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج32، ص203. 
2- ميزان الحكمة، ج1، ص33.
3- نهج البلاغة، خطبة 21.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

102

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 إنّ أفضل الموت القتل" وفي حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"1

 
والموت في الرؤية القرآنية والإسلامية ليس فناءً ولا إعداماً، إنّما هو حالة انتقال من دار إلى دار، من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: "إنما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرِّكم"2. والإنسان لم يخلق إلا للخلود والبقاء كما ورد في وصية الإمام علي عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا"3.
 
إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة هذه الحياة الفانية والمتصرّمة ومفارقة روحه لجسده، ويؤمن بالحياة الخالدة في دار الآخرة، حيث ينتقل إليها روحاً وجسداً، فسوف تتبلور الرؤية أمامه وتتوضّح أكثر حقيقة هذه المرحلة الانتقالية المهمّة التي اسمها الموت، والتي هي بمثابة القنطرة التي سوف يعبر من خلالها إلى جنان الله الفسيحة والخالدة وستتبدّد مخاوفه ويسلّم أمره إلى الله ولا يكلّف إلا الصّبر، كما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه قبل واقعة الطفّ: "صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرّاء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدّائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج32، ص203. 
2- ميزان الحكمة، ج1، ص33.
3- نهج البلاغة، خطبة 21.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

103

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاءِ إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"1.
 
3- علّة الخوف من الموت: 
علّة الخوف من الموت ترجع إلى ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والنظر إلى الموت على أنه فناء وإعدام للإنسان، مع أن الصحيح خلاف ذلك كما بيّنّا. ومن جهة ثانية سببه أيضاً أعمال الإنسان السّيئة في الدنيا وما احتطبه الإنسان على ظهره من الآثام والمعاصي والأعمال السيئة التي بطبيعة الحال سوف يخاف من نتائجها وعواقبها عند حلول الموت والحياة الآخرة. ففي الحديث عن الإمام الصادق قال: "أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: ما لي لا أحب الموت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: ألك مال؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فقدّمته؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فمن ثم لا تحبّ الموت!"2.
 
وجاء رجلٌ إلى الإمام الحسن عليه السلام فقال له: "يا ابن رسول الله ما لنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال عليه السلام: إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النُقلة من العمران إلى الخراب"3.
 
إننا لو فكّرنا قليلاً لماذا يكره معظم الناس الموت ينفرون منه لوجدنا أن السبب يكمن في نظرتهم للموت حيث يرون فيه خسارة وزوال النعم الدنيوية. فالإنسان الذي يرى أن سعادته وكماله يكمنان في الدنيا وكمالاتها، كيف سيرضى بتركها والانتقال عنها إلى عالم آخر لم يمهّد له من قبل؟! فالذي كان محور
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج6، ص 154.
2- بحار الأنوار، ج6، ص127.
3- بحار الأنوار، ج6، ص129.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

104

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 همّه وتعلّق قلبه بالنساء والأولاد والمال والجاه وغيرها من ملذّات الدنيا الفانية وشهواتها البالية كيف يمكنه أن يستغني عن مصدر سعادته هذه ويستأنس بالموت؟! في الحقيقة لو رجع أولئك الذين يفرّون من الموت إلى أنفسهم وسألوها عن السبب الحقيقي والخفيّ لنفورهم من الموت لأدركوا حتماً أن علّة هذا الأمر هو تعلّق قلوبهم بالدنيا وانعقاد آمالهم على لذائذها فكانت النتيجة أن غفلوا عن الآخرة والسعي الصالح لها ﴿إِنَّ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ﴾1.

 
إن من كانت همّته للدنيا ومن أجل تحصيل كمالاتها ومناصبها وجاهها وسمعتها لن يتعدّى أقصى طيرانه نيل هذه الملذّات الفانية والمشوبة بالمنغّصات حتماً. ومن كانت همّته لله وفي سبيل الله رأى الدنيا قفصاً ضيّقاً يمنعه من التحليق إلى كماله الحقيقي فيسعى للتحرّر منه والفرار من أسره كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر"2.
 
وحدهم أولئك الذين أدركوا أنّ "الدنيا ساعة"3، وأنها "مزرعة الآخرة"4 والذين لا يرضون بالسعادة المحدودة عن المطلقة بدلاً، هم الذين يجعلون دنياهم سفراً دائماً نحو محبوبهم حيث الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية والراحة الأبدية.
 
 
 

1- يونس،7.
2- بحار الأنوار،ج44،ص297.
3- بحار الأنوار،ج1،ص151.
4- عوالي‏ اللآلي،ج1،ص267.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

105

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 4- كيفيّة الخلاص من هذا الخوف: 

أما كيفيّة التخلّص من الخوف من الموت فعبر خطوات أولاها تكمن في إدراك حقيقة الموت كما تقدّم، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه. والخطوة الثانية بعد معرفة حقيقة الموت هي بالاستعداد كما في الحديث "هذا هو الموت فاستعدّوا له"1. والاستعداد للموت يكون من خلال الإيمان والاعتقاد الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي لا يبتغي منه المرء إلا وجه الله تعالى والتقرّب إليه، كذلك وتذكّر الموت دائماً والاتّعاظ به وبمجرياته.
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الجواد عليه السلام قال: "والذي بعث محمداً بالحقّ نبياً إن من استعدّ للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا العلاج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النّعم لاستعدوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"2.
 
وعن كيفيّة الاستعداد للموت يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشّهوات"3.
 
وعنه عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير"4.
 
وفي رواية أخرى، قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: "ما الاستعداد للموت؟ قال عليه السلام أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه"5.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج6، ص155.
2- م،ن.
3- بحارالأنوار، ج68، ص264
4- وسائل الشيعة، ج9، ص409.
5- مستدرك الوسائل، ج2، ص100.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

106

الدّرس السابع: الجبن والخوف من الموت

 المفاهيم الرئيسية

1- الجبن هو الخوف غير المنطقي وهو يقابل الشجاعة والجرأة.
 
2- صفة الجبن لا تنسجم مع الإيمان القوي والراسخ بالله، وهو يورث الإنسان المذلّة والهوان. 
 
3- للجبن دوافع عديدة أهمّها: ضعف الإيمان والنفس، الخوف من قوّة العدوّ، الجهل والاعتقادات الخاطئة، حبّ الراحة، الحوادث السلبية والتجارب الحياتية المؤلمة، الإفراط في توخّي الحذر.
 
4- للجبن علاجان، الأول علمي عبر التفكّر في الآثار السلبية له، وعلاج عمليّ يكمن بقطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس من خلال إقحامها في المواقف الخطيرة حتى تتعود.
 
5- بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت إذ هو في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كل إنسان، يقول تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾. 
 
6- لا يمكن لأحد أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد كيفيّته، بل هو أمر بيد الله وحده ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. 
 
7- الموت في الرؤية القرآنية والإسلامية ليس فناء ولا إعداماً، بل هو حالة انتقال من دار إلى دار، من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء. 
 
8- إن علّة الخوف من الموت تكون من جهة ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والنظر إلى الموت على أنه فناء وإعدام للإنسان، مع أن الصحيح خلاف ذلك.
 
9- كيفية التخلّص من الخوف من الموت تكمن في إدراك حقيقة الموت، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه، كما في الحديث عن الأمير عليه السلام "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

107

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب


أهداف الدرس: 
- بيان حقيقة اتّباع الهوى وكونه مخالفة للتكليف الإلهي.
- التعرّف على المخاطر والآثار السلبية لاتِّباع الهوى. 
- بيان خطورة السعي لنيل المقامات الدنيوية.
- بيان إمكانية الجمع بين المقام الدنيويّ والمقام المعنوي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

108

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 الهوى:

1- حقيقة اتّباع الهوى خطر عظيم: 
الهوى هو حب الشيء والميل إليه والتعلّق به واشتهاؤه، من دون فرقٍ بين أن يكون متعلّقه أمراً حسناً أو قبيحاً. وهوى النفس هو عبارة عن حبّ النفس وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً. واتّباع أوامر النفس في غير مرضاة الله تعالى يعدّ شركاً به لأن المطاع فيه هو النفس وليس الله.

وإنّ الأمر الصادر من النفس إن كان خيراً فلا ضير فيه ما دام في طاعة الله وضمن الأهداف الإلهية ولو في دائرة المباحات، وإن كان شراً فهو باطل لأنّه صادرٌ عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

109

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 النفس الأمّارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالسوء دائماً وتدفعه إلى معصية الرب ومخالفة أمره. وقد تحدّث الله تعالى عن هذه الحقيقة وأشار إلى أن المتّبع لهواه في طريق الضلال هو عابدٌ لغير الله ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْديهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾1

 
فالآية واضحة الدلالة على أنّ الإنسان يمكن أن يتسافل إلى الحدّ الذي تصبح فيه نفسه هي المعبودة والمطاعة وليس الحقّ عزّ وجلّ، والمشكلة الكبرى في هذه التبعيّة للنفس تكمن في أنها تضلّ الإنسان عن جادّة الحق والصّراط المستقيم، كما قال عزّ اسمه: ﴿وَإِنَّ كَثيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدينَ﴾2.
 
2- مخالفة الهوى تكليف إلهي: 
الأخطر في اتّباع الهوى هو أنّه يصدّ عن سبيل الحق، ويحول دون الوصول إليه، وهل بعد سبيل الحق إلا الضلال!؟ فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنما أَخاف عليكم اثنتين‏؛ اتّباع الهوى وطول الأَمل أَما اتّباع الهوى فإنه يصدّ عن الحق وأَما طول الأَمل فينسي الآخرة"3.
 
لقد صرّح القرآن الكريم بضرورة تجنّب هوى النفس وعدم طاعتها، لأنها لن تورث الإنسان إلا العذاب والضّلال، قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا
 
 
 

1- الجاثية، 23
2- الأنعام، 119.
3- الكافي، ج2، ص355.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

110

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 يَوْمَ الْحِسابِ﴾1، وعن الإمام علي عليه السلام أيضاً أنه قال: "إنّ طاعة النّفس ومتابعة الهوى أسُّ كلّ محنة ورَأس كلّ غواية"2

 
إن اتّباع هوى النفس الذي يتخوّفه علينا الإمام علي عليه السلام يكون بطاعتها واتّباع الأوامر الصادرة عنها دون الله والانصياع التام لتلبية رغباتها، والحل لا يكون إلا بمخالفة هذا الهوى كما قال الباري عزّ وجل: ﴿وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏﴾3. والسبيل الوحيد لنهي النفس عن الهوى والخروج من سلطان طاعتها يكمن في مخالفتها وعدم طاعتها. بمعنى آخر إنّ الحلّ الوحيد يكمن في مخالفة هذه الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة والعقل في كافّة شؤون حياتنا، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النفس. 
 
3- كيفيّة مخالفة الهوى: 
من يشعر بوجود الله دائماً في حياته ويراه حاضراً وناظراً إلى سلوكياته وأفعاله، ويرى محكمة العدل الإلهية يوم القيامة بعين البصيرة لا يمكن أن يتجرّأ على كسر طوق الحدود الإلهية ويتجاوز التشريعات الدينية ويتلوّث بمفاسد الشهوات والرذائل ولا يرتدع برادع العقل. 
 
والمجاهد في ميدان المعركة يصطدم دائماً بحاجز حب النفس والهوى، فهو في كل حركة وخطوة تحدّثه نفسه بالسلامة والحفاظ على النفس وتوقّي الجهد والتّعب والمشقَّة، وربما إلقاء ذلك على كاهل الآخرين، وبالتالي الوقوع في مخالفة
 
 
 

1- ص، 26.
2- مستدرك الوسائل، ج12، ص114.
3- النازعات، 40-41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

111

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 الأوامر والتكاليف. وهذا الأمر غالباً ما يؤدي إلى تصدّع جبهة الحق وبالتالي الهزيمة والفشل العسكري القاتل، كما في قصة خذلان بعض الجنود المكلّفين بحماية ظهر الجيش الإسلامي في معركة "أحد" طلباً للغنائم وحباً للدنيا، وبالتالي اتِّباعاً للهوى النفسي، حيث سبّب ذلك نكسة للمسلمين، وطعناً في قلب الرسول الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا عبرة وموعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

 
لذا ينبغي أن يكون نظر المجاهد شاخصاً دائماً نحو تكليفه الشرعي فلا يحيد عنه قيد أنملة، لأن النظر الدائم للتكليف الشرعي والعمل به هو الضمانة الوحيدة والوسيلة الشرعية المُثلى للتفلّت من أهواء النفس واتّباع أوامرها. لأنه من جهة لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته، ومن جهة ثانية لا يمكن التفلّت من أسر الهوى ونيل الدرجات العلى إلا بالطاعة.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " فإنّ الله لا يُدرك شي‏ء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرّم الله في ظاهر القرآن وباطنه فإنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحقّ ﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَه﴾"1
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "رحم الله امرأً أقمع نوازع نفسه إلى الهوى فصانها وقادها إلى طاعة الله بعنانها"2، وقال عليه السلام: "من أحبّ نيل درجات العلى فليغلب الهوى"3، وقال عليه السلام: "أفضل النّاس من عصى هواه وأفضل منه من رفض دنياه"4.
 
 
 

1- أصول الكافي، ج8، ص7.
2- مستدرك الوسائل، ج11، ص255.
3- مستدرك الوسائل، ج12، ص115.
4- مستدرك الوسائل، ج12، ص114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

112

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 فالمجاهد الذي يصارع هواه ويبحث عن الدرجات العلى لا يحتاج إلى كثير عناء ليقوم بالتضحيات متى ما نودي إليها. كذا كان الأمير عليه السلام جاهزاً دائماً لأداء الواجب الشرعي وللشَّهادة في سبيل المولى تعالى، خصوصاً في المواقف الحرجة والمصيرية كما فعل عليه السلام عندما فدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه حينما بات على فراشه، فأثنى عليه ربّ العالمين حينما قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾1

 
حبّ الجاه والمنصب:
1- العواقب الوخيمة لحب الجاه والمنصب:
ميّز الدين الإسلامي في موضوع الرئاسة بين أمرين: بين حبّ الجاه وطلبه لنفسه وبين التصدّي للمسؤولية لوجود الكفاءة أو القدرة، فذمّ الأول كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاك والرّئاسة فما طلبها أحد إلا هلك"2. وأوجب الثاني كما في قول الإمام الحسين عليه السلام: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك"3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يا عليّ أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدّنيا اخدُمي من خدمني وأتعبي من خدمك"4.
 
 
 

1- البقرة، 207.
2- وسائل الشيعة، ج27، ص129.
3- بحار الأنوار، ج34، ص110.
4- بحار الأنوار، ج74، ص53.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

113

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 وقد ذمّ أئمة أهل البيت عليهم السلام طلب الرئاسة وحب المنصب والجاه في العديد من الروايات منها:

عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: "ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة"1.
 
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من طلب الرّئاسة لنفسه هلك فإنّ الرّئاسة لا تصلح إلا لأهلها"2.
 
عن عبد الله بن مسكان قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك"3.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ملعون من ترأس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه"4.
 
عن أبي حمزة الثمالي قال: "قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إياك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجال، قال: قلت: جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا ممّا وطئت أعقاب الرجال فقال لي: ليس حيث تذهب، إياك أن تُنصِّب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كل ما قال"5.
 
عن أبي الربيع الشامي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال لي: ويحك يا أبا
 
 
 

1- أصول الكافي، ج2، ص297.
2- مستدرك الوسائل، ج11، ص381.
3- أصول الكافي،ج2،ص297.
4- أصول الكافي،ج2،ص298.
5- أصول الكافي،ج2،ص298.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

114

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 الربيع لا تطلبنّ الرئاسة، ولا تكن ذئباً ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف ومسؤول لا محالة فإن كنت صادقاً صدقناك وإن كنت كاذباً كذبناك"1.

 
ونختم الكلام بوصية الإمام الخميني قدس سره لولده فيقول: "ولدي! لا تلق عن كاهلك حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق.. فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقلّ من جولاته وصولاته بين المسؤولين والمتصدّين للأمور (العامة). ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان - سواء المقام المعنوي أم المادي- متذرّعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية أكثر.. أو أني أريد أن أخدم عباد الله. فإن التوجّه إلى ذلك من الشيطان.. فضلاً عن بذل الجهد للحصول عليه. الموعظة الإلهية الفريدة، إسمعها بالقلب والروح، واقبلها بكل قوّتك وسر في خطّها ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾"2.
 
2- الرجال الإلهيّون والشؤون الدنيوية: 
أهمية هذا العنوان تكمن في توضيح الشبهة القائلة بوجود التناقض بين المقامات الدنيوية وسلوك طريق التديّن والعبودية. إن إرادة الله تعالى اقتضت بجعل خليفة له في هذه الأرض وتخصيصه بجنس البشر ينقض الشبهة السابقة، ويجعلنا بحاجة إلى إعادة النظر في الموضوع للخروج بالنتيجة الصحيحة.
 
فكيف جمع الرجال الإلهيون بين مقاماتهم الروحية وبين التصدّي للشؤون الدنيوية؟ للإجابة بدقّة يجب اللجوء إلى الثقلين اللذين من تمسّك بهما نجا،
 
 

1- أصول الكافي،ج2،ص298.
2- وصايا عرفانية، ص55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

115

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 فالجواب الصحيح يأتي بطرق الباب الصحيح.

 
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾22 ويقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾1 فالكلام هنا عن مشروع إلهي لخلافة الإنسان في الأرض، وقد عرض القرآن صفات المستخلَفين بقوله: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾2، فهنا العلاقة بين ثلاثة أطراف: 
المُستخلِف: وهو الله سبحانه وتعالى.
المُستخلَف: وهو الإنسان الإلهي صاحب الصفات الخاصّة. 
مكان الاستخلاف: وهو الأرض.
 
باختصار نقول، إنّ الأصل أن تكون الأرض (الدنيا) هي مكان تنفيذ الإرادة الإلهية والمشروع الإلهي، وكما تفيد الآيات فالمنفّذ الوحيد لهذا المشروع هو الإنسان ولكن ليس أيّ إنسان، إنه الإنسان المتَّصف بصفاتٍ خاصَّةٍ وهي باختصار الإيمان والتقوى. فليس صحيحاً أن المقامات الدنيوية ليست مناسبة للإلهيين، أو أنَّها تؤثّر في مقاماتهم، بل على العكس فالشخص الإلهي هو الوحيد الذي يعرف كيفيّة التصرّف مع المقامات الدنيوية وإدارتها، فهو كالخبير في ترويض السباع الضارية، فهو يسيّر الدنيا كما يريد لا العكس.
 
 

1- البقرة، 30.
2- القصص، 5.
3- الحج، 41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

116

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 ولا بأس أن نعرض في المقام بعض الروايات التي تحكي سيرة القادة الإلهيين والتي تشير إلى هذا المعنى: 

إنّ النبي سليمان عليه السلام - مع ما لديه من مقام ومنزلة- كان كل صباح يستقبل الكبار والأشراف، وفي نفس الوقت كان يذهب إلى المحتاجين ويجلس معهم وروي عنه عليه السلام أنه: "إذا أصْبَحَ تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتّى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم ويقول مسكين مع المساكين"1.
 
رُوِيَ أيضاً: "أنّ سليمان بن داود عليه السلام مرّ في موكبه والطّير تُظلّه والجنّ والإنس عن يمينه وعن شماله بعابدٍ من عبّاد بني إسرائيل فقال: والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً فسمعه سليمان فقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمنٍ خير ممّا أُعطِي ابن داود، إنّ ما أُعطِيَ ابن داود يذهب وإنّ التّسبيحة تبقى"2.
 
وهذا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم صاحب المقام الرفيع عند الله ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾3، كان يجلس على الأرض ويفرش سفرة الطعام، وكان يأكل لحم الغنم بيده، وكان يقبل دعوة العبد ولو على قرص من الخبز.عن ابن عبّاس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويَعتَقِلُ الشّاة ويجيب دعوة المملوك على خبز الشّعير"4.
 
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام في منصب الخلافة كان يكتفي بقرصين من الشعير وطمرين خلقين، وكان يرى الدنيا أدنى من عفطة عنز، والحذاء المقطّع 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج14، ص83.
2- م .ن. 
3- النجم،8-9.
4- بحار الأنوار، ج16، ص222


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

117

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 أفضل من الرئاسة، يقول عليه السلام: "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمرَيه ومن طُعْمِه بقُرصَيه"1. ويقول عليه السلام أيضاً: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود النّاصر وما أخذ الله على العلماء ألا يُقَارُّوا على كِظَّةِ ظالم ولا سَغَبِ مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عَفْطَةِ عنز"2.

 
وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: "دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النّعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"3.
 
وأخيراً نقدم نموذجين من عصرنا الحاضر وهما الإمام الخميني قدس سره والقائد المعظّم حضرة آية الله الخامنئي حفظه الله، هذان العظيمان اللذان لم يسعيا أبداً لتحصيل القيادة والمرجعية بل المرجعية والقيادة هي التي سعت إليهما، وحملا على عاتقهما حمل قيادة الثورة والنظام الثقيل. يقول السيد حميد روحاني واصفاً الإمام الراحل قدّس سرّه: "منذ أيام الشباب ـ حيث وصل إلى مقام الاجتهاد، حتى اليوم حيث هو يجلس على كرسيّ القيادة والإمامة ـ لم يخط أدنى خطوة في سبيل تعريف نفسه والحصول على مقام أو منصب، ولم يصرف الأموال الشرعية وحقوق المحتاجين والمعذّبين من أجل طلب الشهرة والحصول
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج40، ص340.
2- نهج البلاغة، خطبة49.
3- نهج البلاغة، خطبة76.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

118

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 على المنصب والدعوة الشخصية، وكان ينفر من الرئاسة ومقام المرجعية كمن يهرب من إنسان ميّت. وفي الحقيقة هذه الرئاسة والمرجعية هي التي كانت تسعى وراء الإمام الخميني قدس سره، ولم ترفع يدها عنه"1.

 
3- الوقاية والعلاج من حب الرئاسة: 
في الختام نقدّم بعض النصائح التي قد تفيد في مجال الوقاية والعلاج من مرض حب الجاه الخبيث، ونستعرض هذه النصائح من جانبين: نظري وعملي.
 
الجانب النظري: 
العقل والفكر هو جوهر ثمين وهو نبيّ باطن أهداه الله للإنسان ليهتدي به، والروايات الشريفة أخبرت أن لحظة تفكّر أفضل من عبادة سبعين سنة. فمن الواضح أن التفكّر يجب أن يكون من أجل الحياة الأفضل وتهذيب النفس والتكامل الذي من جملته إزالة الرذائل الأخلاقية ومنها طلب الجاه. لذا على المرء أن يتفكّر في مضارّ هذه الصفة الخبيثة، وعواقبها الوخيمة على النفس والمجتمع وأن يعيذ نفسه من شرّها، لأنها إذا استفحلت في النفس واشتدّ عودها صارت فرص النجاة قليلة وعواقب السقوط في متاهات الظلم وسلب الحقوق أمراً سهلاً ويسيراً.
 
الجانب العملي: 
ما مرّ سابقاً هو في الواقع مقدّمة لوضع القدم في ميدان مواجهة حب الرئاسة بإرادة وحزم، والقيام بخطوات عملية مهمة ومؤثّرة، وعمدة هذه الخطوات وأساسها المتين الفرار من الرئاسة كفرارنا من الأسد عند لقائه، وعدم طاعة 
 
 
 

1- من موسوعة قبسات من سيرة الإمام الخميني.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

119

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 النفس فيما، تهوى وتحب من التأمرّ والترؤس على الناس لأن في ذلك الخطر العظيم والهلاك المؤكّد، إلا أن يكون هذا المنصب تكليفاً لا مناص منه ولا بديل لتوليّه غيرك. 


عندها لكن لسان حالك مثل لسان حال أوليائه الذين لم يروا في المسؤولية سوى فرصة أكبر لخدمة عيال الله. يقول السيد القائد الخامنئي دام ظله بعد أن وقع الاختيار عليه لمنصب القيادة: "ما زلت لحدّ الآن لا أرى نفسي سوى طالب بسيط للعلوم الدينية: ليس حيال هذه المسؤولية فحسب بلّ حتى تلك التي أقل منها بمرّات وكرّات، ولكن حيث أُلزمت بها فسأكون إن شاء الله مصداقاً لـ:(خذها بقوّة). وإني لأستمدّ وسأستمدّ العون من الله في كل لحظة لأصون هذه الأمانة ما وسعني ذلك. وهي ليست أكبر من الوسع. فهذا تكليفي وآمل أن يشملني الله وبقيّته بألطافه ورحمته الواسعة".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

120

الدّرس الثامن: الهوى وحب المنصب

 المفاهيم الرئيسية

1- هوى النفس عبارة عن حبّها وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً.
 
2- إنّ اتّباع أوامر النفس في غير مرضاة الله تعالى يعدّ شركاً به لأن المطاع فيه هو النفس وليس الله.
 
3- تحدّث الله تعالى عن اتّباع الهوى في القرآن وبيّن أنَّ المتَّبع لهواه هو في الحقيقة عابدٌ لنفسه لا لربّه ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْديهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾. 
 
4- اتّباع الهوى يصدّ عن سبيل الحق، وينسي الآخرة.
 
5- إن السبيل الوحيد لنهي النفس عن الهوى والخروج من سلطان طاعتها يكمن في أمر أساسي وجوهري وهو طاعة الله واتّباع شريعته.
 
6- المجاهد في ميدان المعركة يصطدم دائماً بفتنة حب النفس والهوى، لذا ينبغي أن يكون نظره شاخصاً دائما نحو الله وتكاليفه الشرعية، لأن النظر الدائم لأحكامه الشرعية والعمل على تطبيقها هو الضمانة الإلهية الوحيدة للنجاة من شرك الأهواء.
 
7- لقد ميّز الدين الإسلامي في موضوع الرئاسة بين أمرين، بين حبّ الجاه وطلبه لنفسه، وبين التصدي للمسؤولية لوجود الكفاءة أو القدرة، فذمّ الأول وأوجب الثاني.
8- للوقاية من حب الرئاسة بعدين: نظري، يتمثّل بالتفكّر والـتأمل في مخاطر هذه الآفة المهلكة وعواقبها الوخيمة على النفس والمجتمع. والعملي المتمثّل بعدم طاعة النفس فيما تهوى وتحب من خلال امتلاك روحية الطاعة المطلقة لله 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

121

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 الدرس التاسع: حبّ الدنيا


أهداف الدرس: 
- بيان حقيقة الدنيا ومنشأ الركون إليها.
- بيان أن الركون إلى الدنيا من مثبّطات الجهاد الأساسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

122

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 - التعرّف على سبل الوقاية التي يمكن أن تقي الإنسان من هذه الفتنة.

 

 

 

 

 

 

 

144


123

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 المشكلة في حبّ الدنيا: 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾1. وفي الحديث المشهور المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"2.
 
تبيّن هذه النصوص الشريفة بشكل واضح أن الاكتفاء والرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها يمكن أن يكون سبباً للكثير من المشاكل والتي منها دخول النار والعياذ بالله، لأن الرضا بالحياة الدنيا يكشف عن غفلة الإنسان عن الله والحياة الحقيقيّة في الآخرة. 
 
 
 

1- يونس، 7-8.
2- وسائل الشيعة، ج16، ص9.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

124

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 وما العذاب في الآخرة إلا بسبب هذه الغفلة. فالآية لم تذمّ الذين يعيشون في الدنيا، يأكلون ويشربون ويتمتّعون، بل الذين تعلّقت قلوبهم بالدنيا واطمأنّوا بها، واختاروها بدلاً عن رضا الله والحياة الآخرة وتشبّثوا بها حتى نسوا الله والدار الآخرة، ﴿الَّذينَ اتَّخَذُوا دينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾1. والمجاهد في سبيل الله هدفه الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى والحياة الخالدة في جنان القرب عند المليك المقتدر، حيث لا تعب ولا نصب، بل روح وريحان، سرور لا ينتهي وحبور دائم. 

 
لذا فإن كل ما يشغل المجاهد عن هدفه الأصلي هو عنده مذموم ولا قيمة له، بل و لا يستحق منه أدنى التفاتة وانتباه. من هنا كانت الدنيا عند المجاهد لا تساوي عنده عفطة عنز كما هي عند سيّده ومولاه إمام المجاهدين علي عليه السلام وهو القائل: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، و ما أخذ الله سبحانه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها و لألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز"2. وهو سلام الله عليه القائل أيضاً: "يا دنيا أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت هيهات هيهات غرّي غيري"3.
 
حب الدنيا في الآيات والروايات: 
لقد استفاضت الآيات والروايات في الحديث عن الدنيا والتحذير من مغبّة التعلّق بها وحبّها والاكتفاء بها، لأن ذلك يحرف الإنسان عن جادّة الحق وصراطه
 
 
 

1- الأعراف،51،
2- غرر الحكم، ص121. 
3- بحار الأنوار،ج33،ص274.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

125

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 المستقيم، ومن هذه الأدلّة ما يلي: 

قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ الَّذينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ في‏ ضَلالٍ بَعيدٍ﴾1
 
وقوله عزّ اسمه: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾2
وقوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحيمَ هِيَ الْمَأْوى﴾،3 وقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى﴾4.
 
وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾،وقوله تعالى ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ﴾6. وفي هذا إشارة واضحة إلى أن ما لا يتوصّل به من أمور الدنيا إلى سعادة الآخرة أمور وهمية عديمة النفع وسريعة الزوال، وهي لعبٌ يُتعب الناس به أنفسهم إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهذا فهي لهو يلهون به أنفسهم عمّا يهمّهم، وهذه الحالة ترافق الإنسان في مراحل حياته المختلفة لكنّه كلما ارتقى من مرحلة عمرية إلى أخرى أدرك أن تعلّقه في الدنيا كان وهماً ولعباً.
 
وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء 
 
 
 

1- إبراهيم، 2-3.
2- البقرة، 86.
3- النّازعات، 37-39.
4- الأعلى، 16-17.
5- الأنعام، 32.
6- آل عمران، 185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

126

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي عن الطعام مثل الملائكة ولبس لباس العابدين ثم أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها أو رئاستها أو صيتها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأَنزعنّ من قلبه محبتي ولأُظلمنّ قلبه حتّى ينساني ولا أذيقه حلاوة محبتي"1

 
وعن الصّادقِ عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾قال: "هو القلب الذي سلِم من حب الدنيا"3
 
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن كنتم تحبّون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا"4، وعنه عليه السلام أيضاً أنه قال: "إنك لن تلقى الله سبحانه بعمل أضرّ عليك من حب الدنيا"5
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "في مناجاة موسى عليه السلام: يا موسى إن الدنيا دار عقوبة، عاقبتُ فيها آدم عند خطيئته، وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي. يا موسى إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظّمها فقرّت عيناه فيها، ولم يحقّرها أحد إلا انتفع بها"6.
 
 
 

1- مستدرك الوسائل، ج12، ص36.
2- الشعراء، 89.
3- مستدرك الوسائل، ج12، ص40.
4- مستدرك الوسائل، ج12، ص40
5- م.ن.
6- الكافي، ج2، ص 317
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

127

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 منشأ حبّ الدنيا: 

منشأ حب الدنيا والتعلّق بها والاستغراق في ملذّاتها وشهواتها يعود إلى أمرين أساسيّين: 
الأول: توهّم الإنسان أن كماله وسعادته وراحته في هذه الحياة الدنيا وشهواتها من دون إعطاء أهميّة لرضا الله ولقائه. 
الثاني: جهل الإنسان بحقيقة الحياة الدنيا الفانية، وبدورها الحقيقيّ والمرحلي في حياة الإنسان، وأنها دار ممرٍّ وامتحان وتكليف، دون أن يخطر في بال هذا المسكين أن الدنيا فانية وزائلة لا محالة كما أخبر الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ﴾1، وأنّها لم تدم لغيره حتى تبقى له. فكيف يجد الإنسان سعادته في أمر فان؟! وكيف يعلّق آماله على شيء زائل ووضيع؟! فكلّ من يركن إلى الحياة الدنيا وينجذب إليها ولا يتورّع عن الدخول في حرامها ويسرف في حلالها لن يلبث أن يقع في المعصية التي إن أصرّ عليها أهلكته لا محالة. لذا كان بغض الدنيا بمعنى عدم الركون إليها والاغترار بها هو من أفضل الأعمال كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من عمل أَفضل عند اللَّه بعد معرفة اللَّه ومعرفة رسوله وأَهل بيته من بغض الدنيا"2
 
الدنيا مزرعة الآخرة: 
إن الحياة الحقيقيّة والأبديّة للإنسان ميسّرة في عالم الآخرة فقط، أما الحياة الدنيا فمتاعها قليل وهي فانية وزائلة ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ 
 



1- الرحمن، 26.
2- مستدرك الوسائل، ج12، ص36.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

128

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 لِمَنِ اتَّقى﴾1، ولكنّ هذا لا يعني أن لا قيمة لهذه الحياة الدنيا. 

 
فإذا عرف الإنسان حقيقة الحياة الدنيا ودورها وأدرك أنها مقدّمة للحياة الحقيقيّة الخالدة في عالم الآخرة، والتفت إلى أن اللحظات القصيرة التي جعلها الله تعالى له في الدنيا ستكون مفتاحاً لكنوزه الأخرويّة الأبديّة، وإذا فهم ماهيّة العلاقة بين الدنيا والآخرة وتأثير حياته الدنيويّة على حياته الأخرويّة الخالدة، وعرف أنه لا بدّ من الزراعة هنا حتى يتمّ الحصاد هناك كما قال عيسى عليه السلام: "بحقٍّ أقول لكم إن الدنيا خلقت مزرعة يزرع فيها العباد الحلو والمرّ والشر"2، وأنّ أولي النعمة هناك هم الذين أنجزوا أعمالاً هنا وسعوا وجدّوا من أجل تلك الحياة وتحصيل السعادة فيها. عندها سوف يدرك الإنسانُ أنَّ للدنيا دوراً وتأثيراً إيجابياً جدّاً في ارتقائه وتكامله، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنّما الدنيا دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذوا من ممرّكم لمستقرّكم"3

والإنسان الذي يتمتّع بهذه المعرفة لن يعادي الحياة الدنيا لأنه سيدرك هذه الحقيقة، وهي أنّه كلّما استمرّ وجوده في الدنيا أكثر كان قادراً على التكامل أكثر، وإنجاز المزيد من الأعمال الصالحة وبالتالي بلوغ مقامات أخرويّة أسمى. 
 
فالروايات والأدعية المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام والتي تتحدّث عن طلبهم طول العمر من الله قائمة على هذه الرؤية والاستنتاج المذكور. لقد كانوا على علم بأن الحياة الدنيا يمكن أن تكون وسيلة لنيل السعادة الأخرويّة. 
 
والتعابير الواردة في الروايات نظير "الدنيا مزرعة الآخرة"4 تشير إلى هذه الحقيقة وهي أن على الإنسان أن يعمل في الدنيا لكي ينال السعادة الدائمة في
 
 

1- النساء، 77.
2- بحار الأنوار، ج14،ص 312.
3- غرر الحكم، ص 149.
4- عوالي‏ اللآلي، ج1، ص267.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

129

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 الآخرة. فهذه الحياة مرحلة لا بدّ أن نجتازها ووسيلة ينبغي أن نستخدمها في مجالها وبصورة صحيحة، وأداة يجب الاستفادة منها بدقّة كي ننال سعادتنا والحياة اللائقة بنا في العالم الخالد. وفي هذه الحالة فقط يرغب الإنسان أن تطول فترة حياته الدنيويّة كي يوفّق للمزيد من الأعمال الصالحة. لذا وحدهم الشهداء يتمنّون الرجوع إلى الدنيا للقتال والجهاد لما يرونه من ثواب الله وفضله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من أحد يدخل الجنّة فيتمنّى أن يخرج منها إلا الشّهيد فإنّه يتمنّى أن يرجع فَيقتل عشر مرّات ممّا يرى من كرامة الله"‏1.

 
أما تمنّي الموت من قبل أولياء الله وشهدائه كما قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"2 فهو من أجل لقاء محبوبهم بعد الموت حيث فصلتهم الحياة المادّية عنه، وبالموت يرتفع هذا المانع وينالون لقاء محبوبهم. وهذا لا يتنافى مع طلبهم البقاء والدوام في هذا العالم كما ذكرنا، فهم من جهة يطلبون بقاءهم لكي يستعدّوا بنحوٍ أفضل للّقاء، ويتمنّون الموت من جهة أخرى شوقاً للقاء محبوبهم. فالمقصود الأصلي للإنسان هو النعم الأخرويّة والكرامات الإلهية ورضا الله تعالى. 
 
الدنيا الممدوحة والدنيا المذمومة: 
في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"3، ولكن ينبغي التنبيه إلى أنه ليس المقصود من حب الدنيا والتعلّق بها، حبّ الطبيعة من الجبال والأنهار وغيرها أو حبّ الناس، بل المراد بحبّ الدنيا
 
 
 

1- مستدرك الوسائل، ج11، ص13.
2- بحار الأنوار، ج28، ص234.
3- وسائل الشيعة، ج16، ص9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

130

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 تعلّق القلب بهذه الأمور بحيث تشكّل عائقاً أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الآخرة والحق. وبشكل أدقّ إن تعلّق القلب بملذّات الدنيا وشهواتها وأموالها وزينتها الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه إلى الوقوع في الحرام ومن دون اعتبار للوقفة في المحكمة الإلهية هو الأمر القبيح والمذموم، وهو الذي قالت عنه الروايات الشريفة أنه رأسُ كلّ ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنَّه ممّا وَعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: " يا عيسى.. واعلم أَن رأس كل خطيئة وذنب هو حب الدنيا فلا تحبها فإني لا أحبّها"1. وذلك لأن الدنيا والآخرة لا يجتمعان، وحبها وحب الله في القلب لا يلتقيان كما جاء عن مولى الموحّدين عليه السلام أنه قال: "كما أَن الشمس والليل لا يجتمعان كذلك حب اللَّه وحب الدنيا لا يجتمعان"2

 
وإذا أردنا أن نختصر الأمر نقول أن الدنيا في الحقيقة دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة، كما قال إمامنا السجاد عليه السلام: "الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة"3 وليس طلب مطلق الدنيا وطيّباتها حراماً ومذموماً ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾4.
 
ذات يوم جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال له: "إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها، فقال: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدّق، وأحجّ وأعتمر، فقال أبو عبد الله 
 
 

1- الكافي، ج8، ص131.
2- مستدرك الوسائل، ج12، ص 42
3- الكافي، ج2، ص131.
4- الأعراف، 32.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

131

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 عليه السلام: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"1.

 
وورد في نهج البلاغة أن شخصاً ذمّ الدنيا في محضر الإمام علي عليه السلام فعارضه الإمام عليه السلام بشدّة قائلاً: "أيها الذامّ للدنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثم تذمّها؟ - إلى أن قال - إن الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله..."2.
 
فالحياة الدنيا بنفسها غير مذمومة بل إن علاقة الإنسان بها وانخداعه واغتراره بها وغفلته عن الآخرة وانشغاله بالدنيا إلى الحدّ الذي ينسى معه الله تعالى ولقاءه هو المذموم. فالذمّ يتوجّه أوّلاً إلى سلوك الإنسان وعلاقته بالدنيا. هذه العلاقة التي قد تقوده إلى الوقوع في الحرام أو الإسراف في طلب حلال الدنيا دون حسيب أو رقيب، ودون الرجوع إلى الحدود والضّوابط الشرعيّة والأحكام الإلهية، والله تعالى هو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفينَ﴾3، ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي‏ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي‏ فَقَدْ هَوى﴾4.
 
‏فإن نقطة الانحراف الأساس والتي تنشأ منها كلّ العيوب هي الإفراط في اهتمام الإنسان بالدنيا وتعلّق قلبه بها وابتغاؤها بصورة مستقلّة وجعلها المنتهى والهدف. 
 
 
 

1- أصول الكافي، ج5،، ص72.
2- بحار الأنوار، ج70، ص 100.
3- الأعراف، 31.
4- طه، 81.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

132

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 علاج حب الدنيا: 

يجب على الإنسان المجاهد أن يحرص وبكلّ قواه على نبذ كل تعلّق له بالدنيا، لأنَّ القليل من هذا التعلّق المحرّم ربّما يؤدّي به إلى الحرمان والعذاب الأليم ولعنة الاستبدال، يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
 
ولك أنْ تُلاحظ مدى دقّة كلمة ﴿اثَّاقلتم﴾ في الخطاب القرآني، إذ أن التعلّق بالدنيا دون الحياة الأخرى الأصيلة يثقل كاهل الإنسان ويعمي بصيرته فيرضى بما هو زائل وتافه أمام الدائم الأبدي! ولاحظ أيضاً أن الخطاب موجّه إلى خصوص المجاهدين، وهو صريح في بيان مراده من تعرية حقيقة الدنيا أمام المجاهد ليسهل عليه ترك تعلقه المدمر بها. والسبيل إلى ذلك من خلال ثلاثة أمور: 
الأول: أن يعرف أن الدنيا ليست هي الهدف ولا الغاية، وأن السعادة فيها وضيعة وزائلة وغير باقية أصلاً ﴿وَما أُوتيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى‏ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾2.
 
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه رأى جابر بن عبد الله وقد تنفّس الصعداء فقال عليه السلام: "يا جابر على ما تنفسك.. أعلى الدنيا؟ فقال جابر: نعم. فقال له الإمام: يا جابر ملاذ الدنيا سبعة: المأكول والمشروب، والملبوس، والمنكوح، والمركوب، والمشموم، والمسموع. فألذّ المأكولات العسل وهو بصق ذبابة. وأحلى المشروبات الماء وكفى
 
 

1- التوبة، 38-39.
2- القصص، 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

133

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 بإباحته وسباحته على وجه الأرض. وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دود. وأعلى المنكوحات النساء، وهو مبال في مبال، وإنما يراد أحسن ما في المرأة أقبح ما فيها. وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل. وأجلّ المشمومات المسك وهو دم من سرّة دابة1

 
وأجلّ المسموعات الغناء والترنم وهم إثم. فما هذه صفته لم يتنفّس عليه عاقل!! قال جابر بن عبد الله: فوالله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي"2
 
الثاني: على الإنسان العاقل أن يتذكّر الموت دائماً، ويعتبر منه، ويحدّث نفسه به بالليل والنهار، لأنه أبلغ حقيقة وأقوى برهان على أن الإنسان لم يُخلق لهذه الحياة الدنيا، ولا للبقاء فيها. سأل أحدهم الإمام الباقر عليه السلام: "حدّثني بما أَنتفع به فقال: يا أَبا عبيدة أَكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا". 
 
ثالثاً: على المجاهد أن يصحّح نظرته إلى الدنيا ويدرك أن حياته ليست محصورة بهذه الحياة، بل هناك حياة أخرى خالدة وراءها. وأن يكتشف العلاقة الواقعيّة بين الدنيا والآخرة، من خلال المقارنة بينهما ليدرك أن علاقة الدنيا بالآخرة هي علاقة الطريق بالهدف، أو الوسيلة بالغاية، فالدنيا "دار ممرّ لا دار مقر"3 كما قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام. أمّا لو نظر إليها نظر إعجاب وافتتان بزينتها واتّخذها هدفاً نهائيّاً له، فسوف تكون رؤيته الخاطئة هذه منشأً للكثير من الأخطاء الفكريّة والسلوكيّة في المستقبل، لأنه اتّخذ الوسيلة هدفاً والطريق مقصداً. إن حال صاحب هذه الرؤية حال من يوفّر
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج75، ص11.
2- الكافي، ج2، ص131.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص919.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

134

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 مستلزمات السفر إلى بلد ما لأداء عمل ما ضروري، وفي أثناء الطريق ينجذب إلى الخُضرة والمشاهد الجميلة حتى ينسى هدفه الأساس من الرحلة.

 
الرابع: الزهد، فالذين يزهدون في الدنيا، لا يتخلّفون أبداً عن الجهاد. يقول الإمام علي عليه السلام: "من زهد في الدنيا أعتق نفسه، وأرضى ربه"1. وحقيقة الزهد يوضحها القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾2. فالمجاهد لا بّد وأن لا يتأثر ولا يعير اهتماماً لأعراض الدنيا الفانية، سواء ما خسر منها أو ما سيحصل عليه. فهو يتعامل مع الدنيا من موقع القوة، أي من موقع المعرفة بحقيقتها والعالِم بحدودها، ولذا فهو لا يمكنه أن يتمسّك ويتعلّق بشيء منها مقابل طاعة الله تعالى. وهذه المعرفة والقوة، هي بوابة الحرية الحقيقية للإنسان المجاهد الذي يأبى الخضوع للاستكبار والظلم والتعدّي، وفي ذات الوقت فإنَّهُ يأبى الخضوع للدنيا وكلِّ زينتها الآنية.
 
 

1- عيون الحكم والمواعظ، ص462.
2- الحديد، 23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

135

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 المفاهيم الرئيسية

1- الاكتفاء والرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها يمكن أن يكون سبباً للكثير من المشاكل والتي منها دخول النار والعياذ بالله، لأن ذلك يكشف عن غفلة الإنسان عن الله.
 
2- منشأ حب الدنيا أمران: الأول توهّم الإنسان أن كماله وسعادته وراحته فيها. والثاني: جهل الإنسان بحقيقة الحياة الدنيا الفانية، وبدورها الحقيقيّ. 
 
3- إنّ الدنيا في الحقيقة دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة، ما قال السجاد عليه السلام: "الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة".
 
4- إن طلب الدنيا وطيّباتها ليس حراماً ومذموماً على نحو الإطلاق، يقول الله تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ ولكن المشكلة هي في التعلّق القلبي بها الذي ينسي الآخرة ويجعل الإنسان غافلاً عنها.
 
5- يجب على الإنسان المجاهد أن يحرص وبكلّ قواه على نبذ كل تعلّق له بالدنيا، فالقليل من هذا التعلّق المحرّم يؤدّي به إلى الحرمان والعذاب الأليم ولعنة الاستبدال، يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾.
 
6- إنّ تعرية حقيقة الدّنيا أمام المجاهد تسهّل عليه ترك تعلّقه بها. والسّبيل إلى ذلك من خلال ثلاثة أمور: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

136

الدرس التاسع: حبّ الدنيا

 أولاً: أن يعرف أنّ الدّنيا ليست هي الهدف ولا الغاية.

ثانياً: أن يتذكّر الموت دائماً، ويعتبر منه، ويحدِّث نفسه به بالليل والنهار.
ثالثاً: أن يصحّح نظرته إلى الدنيا ويدرك أن حياته ليست محصورة بهذه الحياة، بل هناك حياة أخرى خالدة وراءها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

137

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه


أهداف الدرس: 
- التعرُّف على معنى سوءِ الظنِّ بالله عزّ وجلّ وحقيقة اليأس من روحه تعالى.
- التعرّف على حقيقة البلاءِ وعلاقته بتربية المجاهد.
- التعرُّف على آثار حُسن الظنِّ بالله تعالى، ودوره في 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

138

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 مدخل:

الجهاد في سبيل الله طريق ذات الشوكة الذي لا يُعدم فيه الإنسان المشقّات والشدائد والآلام التي تحيط به من كل جانب. فظروف الجهاد صعبة وليست بالأمر السهل، وإذا لم يكن المجاهد ذا ثقة بالله تعالى، وبأنه لا تصدر أحكامه وتكاليفه الشرعية إلا عن حكمة ومصلحة، لأنه الودود العطوف الرحيم بخلقه الذين خلقهم لكي يصلوا إلى كمالهم الإنساني فإنه سوف يحرم من بركات الجهاد وثماره الطيّبة. أما لو تسلّل اليأس وسوء الظن بالله وبأحكامه الشرعية إلى قلب المجاهد والعياذ بالله فإنه يخشى عليه من الوقوع فيما لا تحمد عقباه... 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

139

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 الحكمة والعدالة في الخلق والإيجاد: 

خلق الله سبحانه وتعالى الدنيا وأطبق عليها بسلطانه وأحكامه، وجعل ذلك كلّه مبنّياً على تقدير وحكمة إلهية تراعي مبدأ النظام والعدالة في كل شيء، بحيث وضع كل شيء في مكانه المناسب والصحيح بحسب قابلياته واستعداداته المودعة: ﴿وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ﴾1، فإن الله عزّ وجلّ يعطي كل موجود بحسب لسان استعداده وسؤاله ولا يظلم أحداً: ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْديكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ﴾2.
 
والله أجرى الأمور بأسبابها، والتغيير الفردي والاجتماعي نحو الأفضل لا بدّ أن ينطلق من إصلاح ما في النفس، لأنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم﴾3، وهذه قاعدة أساسية في البناء العقائدي والأخلاقي في الإسلام، فالله هو: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾4 وهو: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾5.
 
فهذا الكون المبنيّ بأفضل طريقة وأحسن صورة، هو نظام كامل لا يمكن أن تجد فيه عيباً ولا عوجاً، أو تدعي فيه نقصاً، وهو يمثل في الواقع أفضل عدّة وضعها الله تعالى للإنسان في مرحلته الانتقالية، كي يستفيد منها في صقل طاقاته وتنميتها لكي يصل إلى الهدف الحقيقي من خلقه وإيجاده. فالخلق له هدفٌ وليس أمراً عبثياً: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾6، وهذا الهدف 
 
 
 

1- إبراهيم، 34.
2- الأنفال، 51. 
3- الرعد،11. 
4- السجدة، 7.
5- الفرقان، 2.
6- الأنبياء، 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

140

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 ليس سوى أن يكون الإنسان خليفة الله في أرضه كما تبيّن الآية الشريفة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾1. وهذا الهدف السامي للحياة بدوره لن يكون أمراً قابلاً للتحقّق إلا من خلال أمر واحد وهو العبودية الحقّة والمطلقة لله سبحانه، وهو عزَّ اسمُه القائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2.

 
وعليه فأيَّة ذرّة شكّ وريب تحصل لدى الإنسان بأنّ بعض الأمور التي تحدث معه هي خارجة عن هذا النظام الكوني العام المسخر لخدمته وتحقيق كماله، هي إشارات لخلل في اعتقاده الذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله واليأس من روحه، وهو أمر خطير لأن عاقبته قد تكون الكفر والعياذ بالله، يقول الله تعالى ﴿وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾3، ﴿وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني‏ مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾4، وفي النهاية يأتي التحذير الإلهي ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾5.
 
لذا ينبغي على الإنسان المؤمن والمجاهد الصادق أن يحسن الظن دائماً بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون على يقين ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾6، وأن كل ما يجري ويحصل هو لخيره وصلاحه. وأنّ الظلم إن وقع فالمسؤول عنه هو الإنسان نفسه لا الله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ
 
 
 

1- البقرة، 30.
2- الذاريات، 56.
3- الأحزاب، 10.
4- النجم، 28.
5- يوسف،87.
6- النساء، 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

141

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾1، و﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾2

 
القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله: 
إن المجاهد في ميدان المعركة لا بدّ وأن يحقق في ذاته علاقة صافية مع الله تعالى وخالية من أية شائبة، وعمدة هذه العلاقة هو اليقين بأنّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحمل له إلا كل منفعة وبركة، لأنّه - أي المجاهد - إنّما يقوم بعمله الجهادي أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى، فلا يمكن أن يجازيه الله تعالى إلا بأفضل جزاء ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾3
 
هذه هي القاعدة الأساسية في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، أي أن يحسن الإنسان الظنّ بالله تعالى في كل ما يحصل معه وأن يثق به وبوعده وفيما يأمر به في جميع الأمور وأن لا يتجرّأ على الله فيما يظنّ أن فيه صلاحه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " قال الله جلّ جلاله يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلّمني ما يُصلِحك"4
 
ففي ميدان الجهاد وأثناء أداء المجاهد للتكاليف والواجبات الشرعية الموكلة إليه، من الطبيعي أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر المادي الذي يلحق بممتلكاته، أو للجوع والعطش والخوف والقلق وغيرها من البلاءات، والتي هي كلّها أمورٌ تصيب المجاهد دوماً بل هي من أهم سمات الجهاد في سبيل الله. ولكن كل هذه البلاءات والمنغّصات والآلام يجب أن لا تثني من عزيمة المجاهد ولا أن تكون سبباً في تزلزله أو شكّه




1- يونس، 44.
2- النساء،79.
3- الرحمن، 60.
4- وسائل ‏الشيعة، ج15، ص235. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

142

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 لا سمح الله، في حين أنَّ كلّ ما شرّعه الله وأمر به إنما هو لأجل خيره وصلاحه. ولو تبدّلت هذه القناعة في نفسه أو تغيّرت أو ضعفت في أي لحظة فإن الخسارة المادية والمعنوية هي التي ستكون الحاضر الأكبر في حياة هذا المجاهد. يقول تعالى ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ﴾1

 
وفي قوله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ الَّذينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾2، تصريح واضح بأن الله تعالى سوف يفتتن عباده الصالحين بأنواع الفتن والبلاءات لكي يرى صدق الإيمان في نفوسهم، ولا ضير ولا بأس في ذلك طالما أن العوض هو حياة الخلد في جنان الله الفسيحة. 
 
لذا يقول الله تعالى في آية أخرى ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرينَ﴾3. فالامتحان والفتنة من السمات والسنن الإلهية في هذه الحياة الدنيا، بل إن الله تعالى لم يخلق الناس إلا لأجل أن يمتحن إيمانهم وصدقهم. والآية الكريمة تشير بوضوح إلى أنّ الهدف من الفتن والبلاءات في الحياة والحوادث المؤلمة إنما هو لأجل: 
- تمييز المؤمنين حقاً عن أولئك الذين يدّعون الإيمان.
- تخليص إيمان الناس من شائبة الشرك والنفاق والكذب.
- تمييز المجاهدين والصابرين على الضرّاء والبأساء عن غيرهم.
 
 
 

1- فصّلت، 2.
2- البقرة،155-157.
3- آل عمران، 141- 142.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

143

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 وينبغي أن نعرف أنه لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها مثلاً قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه بالغفلة فيكون مصداقاً لقوله تعالى ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾1. من هنا يكون للشدائد والبلاءات في بعض الأحيان أو حتى للهزائم والنّكسات الجزئية الأثر البالغ في تربية النفوس وإصلاحها، وصياغة المجتمعات الإنسانية وتصحيح مسار بما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية. وبعد مرحلة التمييز بين المؤمنين وغيرهم لا بد من اختبارهم مجدداً لتمحيصهم وتخليصهم من العيوب والشوائب التي يمكن أن تطرأ على إيمانهم من حيث لا يعلمون، ليروا ما هم مبتلون به من نقاط ضعف. فالنعم الإلهية والانتصارات الكبرى لا يمكن أن تتحقّق في المستقبل ما لم يدخل المؤمنون في بوتقة الاختبارات ليقيّموا أنفسهم على أساسها، لتكون منطلقاً لتطهير النفوس وبناء المجتمعات الإنسانية الصالحة بشكل أفضل، فهناك علاقة متقابلة بين طهارة النفس وطهارة المجتمع. فالمؤمنون إذا امتازوا عن غير المؤمنين، وعُرِف المجاهد منهم والصابر، وطهّروا نفوسهم وبواطنهم من الشوائب والخبائث، فسوف يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر والإلحاد، وتطهير مجتمعهم من الفساد والظلم، وهذا يعني أنه لا بدّ أولاً من تطهير النفوس ثم تطهير الغير. وعليه فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر ومراتب الصفاء والتقوى وبين زوال الكفر والشرك واندثار معالمهما وآثارهما من ساحة الحياة الاجتماعية. وإن ساحة الجهاد المقدسة والقتال هي التي ستقوم فيها عملية التمييز والتمحيص بشكل أساسيٍّ لما لهذه الساحة من قدرة تغييرية جذرية 

 
 

1- الكهف، 104.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

144

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 فاعلة ومؤثّرة. هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخّصها القرآن لنا ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ﴾1، لتكون النتيجة والثمرة العملية الطيبة لهذه الفتنة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْديلاً﴾2.

 
آثار حسن الظنّ وعدمه وثماره: 
على المجاهد في سبيل الله أن يحافظ على يقينه الكامل بالله سبحانه وحسن الظن به، ولو لم يقدّر أحدٌ على وجه الدنيا كلها جهده وتعبه، ولو بقي كل ما فعله في الحرب مجهولاً، ينبغي أن يبقى يقينه بحسن جزاء الله موجوداً. وإذا ما عاودت الحرب أدراجها مجدّداً، وكان هذا اليقين موجوداً، فإنه سيبقيه نشيطاً وفاعلاً ومدافعاً عن ساحة حرمة الله ومقدّساته. وذلك بعكس ما لو سيطر اليأس وسوء الظن عليه، فإنه سيجبن ويضعف ويبخل على الله ببذل أي شيء ولو بمقدار فلسٍ من طين، وهذه حقيقة يقرّرها الإمام علي عليه السلام حين يقول: "البخل بالموجود سوء الظنّ بالمعبود"3.
 
ويقول عليه السلام في مورد آخر: "الجبن والحرص والبخل غرائز سوء يجمعها سوء الظنّ بالله سبحانه"4.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده
 
 
 

1- العنكبوت، 3.
2- الأحزاب، 23.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص232.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص 370


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

145

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثم يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه"1.

 
من خفايا ودقائق حسن الظنّ بالله تعالى، أن الذي يحسن الظنّ به لا يخاف غيره ولا يرجو إلا إياه، لأنه يعلم علم اليقين ويعرف معرفة علمية وعملية أن تعلقه بالله القادر والعظيم مالك السماوات والأرضين هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر، ولا جهالة ولا ظلم من الناس، وهذا المعنى من المعاني التي يُفسَّرُ بها قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾2. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا ذنبك"3
 
إنَّ مقتل المجاهد وموضع هلاكه الأكبر، هو عندما يتعلّق قلبه وطموحه وتفكيره بما سيقوله الناس عنه، وبمنزلته عندهم، وبما سيربحه من نوالهم وعطاياهم، وطريقة تقييمهم وتقديرهم لجهوده وجهاده. فهذا التوجّه وهذا التفكير متى ما حصل عند المجاهد، عليه أن يعلم أنّ بوصلة قلبه ووجدانه ووجوده قد انحرفت عن الله سبحانه وتعالى، فالمعبود والمطلوب هو غيره، وشاغل القلب لم يعد ربه، وهذا هو مكمن الشرك وآية عدم الإخلاص، فعن الإمام علي عليه السلام: "أوّل الإخلاص اليأس مما في أيدي الناس"4.
 
وقد يحصل كثيراً أن يشعر المجاهد بالحاجة الملحّة للظهور أمام الناس بمظهر أنه الرجل الذي ضحّى وقدَّم وجاهد و...إلخ، وهذا أمر ربما يتماشى مع الطبع، لأن من طبع الإنسان وميوله حب الظهور، وأن يبدو عزيزاً وذا شأنٍ أمام
 
 

1- ميزان الحكمة،ج2،ص1788.
2- محمد،7.
3- ميزان الحكمة،ج2، ص1788.
4- ميزان الحكمة،ج1، ص759.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

146

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 الناس. غير أن المنهج الإلهي يقوم على خلاف هذا المنطق الشيطاني المغلوط والخاطئ، فالأمر في الحقيقة معاكس تماماً كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال العزّ قلقاً حتى يأتي داراً قد استشعر أهلها اليأسَ ممَّا في أيدي النَّاس فيوطنها"1

 
المنافقون وسوء الظن بالله تعالى:
إنّ الآية الكريمة ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾2، تحوي درساً عملياً من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول مخاطر سوء الظن وآثاره. 
 
إذ تتحدّث الآية عن المنافقين من موقع الذمّ والتوبيخ، وهم الذين امتنعوا من السير في ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخروج معه في واقعة الحديبية، بل وتوهّموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين انطلقوا إلى مكة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً، بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية انعكست تماماً وعاد المسلمون بذلك النَّصر الباهر في صُلح الحديبية وهم سالمون لم يُصب أحدٌ منهم بأذىً.
 
ومفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد، وبما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشيء كما في المثل المعروف لدى العرب (كسد حتى فسد) فإنّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد، ثم أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة والاندثار، وأطلقت على الأرض الخالية من الشجر والنبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة وميتة.
 
وهكذا نجد أنَّ هذه الفئة من المنافقين الذين عاشوا هذا الظنّ السيءّ في 
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص1951.
2- الفتح، 12. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

147

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة، ومن المعلوم أنّه لم يصبهم الهلاك بمعنى الموت بل هلاكٌ خاصٌّ وهو الهلاك المعنوي والمحروميَّة من الثواب، ذلك لأنّ (بور) إما هي بمعنى الهلاك المعنوي والمحرومية من الثواب الإلهي وخلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية والشجرة الطيّبة للإيمان، أو يكون المراد بها الهلاك الأخروي بسبب العذاب الإلهي، والهلاك الدنيوي بسبب الفضيحة، وعلى أيّة حال فالآية الشريفة تدلّ بوضوح على النهي عن سوء الظنّ بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه المعصومين عليهم السلام وقادة الأمة العظماء فكيف الحال إذاً مع الله عزّ وجل1

 
 

1- بتصرّف، الأخلاق في القرآن الكريم، ناصر مكارم الشيرازي، ج3، ص287.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

148

الدرس العاشر: سوء الظن بالله واليأس من روحه

 المفاهيم الرئيسية

 
1- حسن الظنّ بالله عبارة عن الاعتقاد بأن الله تعالى قد خلق النظام الكوني بأفضل صورة تحقّق صالح الإنسان والإنسانية.
 
2- إن أدنى شكّ بأنّ بعض الأمور التي تحدث مع الإنسان هي خارجة عن هذا النظام الكوني العام، مؤشر سلبي لخللٍ في اعتقاده والذي يمكن أن يكون فيما بعد سبباً في ظهور مرض خطير اسمه سوء الظنّ بالله تعالى.
 
3- يقول الله تعالى في بيان خطورة سوء الظنّ به ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾.
 
4- المجاهد في ميدان المعركة لا بدَّ وأن يتيقَّنَ بأنَّ حضوره في ساحة المعركة هو أمرٌ لا يمكن أن يحملَ له إلا كلَّ منفعةٍ وبركة، لأنّه إنما يقوم بعمله الجهادي أداءً للتكليف وانتصاراً لله تعالى ولدينه وهو عزّ اسمه القائل ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
 
5- من الطبيعي أن يكون المجاهد عرضة للإصابات الجسدية أو الضرر المادي، أو غيرها من البلاءات، لكن رُغم ذلك يجب أن لا تنثني عزيمة المجاهد ويسوء ظنه بأداء الجهاد كتكليف شرعي، لأن ما شرّعه الله وأمر به إنما هو لأجل خيره وصلاحه. 
 
6- لولا البلاءات والحوادث المؤلمة في الحياة لما تبيّن الخبيث فيها من الطيّب، فالنعم الدائمة والانتصارات لوحدها قد تخدع الإنسان وتغريه وتصيبه بالغفلة، فيكون مصداقاً لقوله تعالى ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾.
 
7- الذي يحسن الظنّ بالله لا يخاف غيره ولا يرجو إلا إياه، لأنه يعلم أن تعلّقه بالله هو تعلّق لن يكسره عدوّ ولا جبّار ولن يؤثّر عليه فاقة ولا فقر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

149

المحور الرابع: تبعات ترك الجهاد

 المحور الرابع: تبعات ترك الجهاد


أهداف المحور الرابع:
- التعرّف على حقيقة الفرار من الزحف.
- التعرّف على آثار ترك ساحات الجهاد.
- بيان أنّ ترك ساحات الجهاد عنصر أساسيٌّ في الهزيمة وتسلُّط الظَّالمين، وسبب للمهانة والمذلّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

150

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1


أهداف الدرس:
- بيان معنى الفرار من الزحف وأهم ضوابطه الشرعية.
- التعرّف على بعض الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لترك الجهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

151

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 معنى الفرار من الزحف وضوابطه:

تعرّفنا في الدّروس السابقة على أهمية الجهاد في سبيل الله وآثاره على الفرد والمجتمع، وبيّنّا أهمّ الموانع التي تمنع الإنسان وتحول بينه وبين أداء هذا الواجب المقدس. ولو فرضنا أن أحداً ما وقع في شرك هذه الموانع التي تصدّ عن ساحات الوغى، وبالتالي صار عرضة للحرمان من هذا التوفيق العظيم، في هذه الحالة قد تسوّل له نفسه بترك الجهاد والقعود مع زمرة القاعدين، هذا القعود والترك الذي يصطلح عليه في الإسلام بالفرار من الزحف. "والفرار من الزحف هو الهروب من المعركة، وهو من أكبر الكبائر وإن لم يكن له داع شرعي"1. قال الله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ 
 
 
 

1- معجم المصطلحات الفقهية، ص 380.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

152

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 الْأَدْبارَ﴾1. وبيّن وليّ أمر المسلمين السيد علي الخامنئي دام ظلّه الضابطة الفقهية في الفرار من الزحف بالقول: 

- "لا يجوز الفرار من جبهة القتال في أي حال من الأحوال"2.
- "لا يجوز الانسحاب من أرض المعركة على خلاف الأوامر الصادرة من القيادة، إلا في بعض الموارد الاستثنائية التي تقتضيها الضرورة وكان الانسحاب من أرض المعركة من صلاحيات الإخوة المجاهدين"3.
 
وللفرار من الزحف آثار سلبية وعواقب وخيمة جداً وردت في الآيات الكريمة والروايات الشريفة نذكر منها:
العذاب الأليم: 
الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة. في الدنيا عاقبة المتخلّفين عن ركب المجاهدين والشهداء الخزي والعار والفضيحة، وفي الآخرة العذاب الأليم ونار الجحيم. لأنهم خالفوا أمر الله ورسوله وركنوا إلى الملذّات الفانية والشهوات الزائلة. ولم يكتف الفارّون الذين وصفهم الحق تعالى بالمنافقين بالهروب والتنصّل من الواجب، بل عملوا على إعانة الأعداء من خلال بثّ اليأس والخوف في قلوب المؤمنين لمنعهم عن أداء واجبهم، علّهم يجدون بذلك من يشاركهم قعودهم وتخلّفهم فترتاح نفوسهم قليلاً من عذاب الوحدة الموحشة ونظرات الناس المؤلمة إليهم. وهو ما كان يصبّ في مصلحة العدو، حيث وجد له أعواناً من داخل صفوف المسلمين يثبّطون العزائم ويبثّون الشائعات المفرّقة والمشتّتة للصفوف، لذا كان عذابهم أليماً وعاقبتهم
 
 
 

1- الأنفال،15.
2- من استفتاءات الإمام الخامنئي دام ظله، ج3،ص42،س3.
3- من استفتاءات الإمام الخامنئي دام ظله، ج3،ص53،س43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

153

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 سيّئة جداً. 

 
قال الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾1‏.
 
تستمرّ هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذّر المسلمين من الانخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة. وهذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلاً، أمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك أن لا يجالسهم أحد ولا يكلّمهم. فلمّا رأى هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعيّة الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم، وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقبل اعتذارهم ولا يصدّقهم، لأنّ الله تعالى قد فضح أمرهم وأخبر عن كذبهم ونفاقهم فيما يعتذرون منه، وأن الله ورسوله يشاهدان ما يعملون ولا يخفى عليهما شيء، وأنهم سوف يردّون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة في يوم القيامة فيخبرهم بحقائق أعمالهم ونيّاتهم. 
 
ثم تبيّن الآية الكريمة إيمان المنافقين الكاذب وتنبّه المسلمين إلى أن هؤلاء لن يتورّعوا عن اليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم وتعرضوا عما فعلوه، ثم تخاطب المؤمنين بلسان الحال: عليكم في هذه الحالة أن تعرضوا عنهم، ولا تعاتبوهم أو توبّخوهم لأنهم أرجاس لا ينفع فيهم التأنيب ولا يقبلون الطهارة. ومصيرهم النار لأنها المكان الطبيعي لهم الذي سوف يتكفّل بأمرهم، وكل ما سيلقونه هناك هو نتيجة ما كسبوه بأيديهم في الحياة الدنيا. ولشدّة
 
 
 

1- التوبة، 94-95.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

154

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 نفاقهم فإنهم سيحلفون لكم لكي يجلبوا رضاكم بدل أن يكون همّهم كسب رضا الحق تعالى. 

 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى مبيّناً بشكل صريح عاقبة من يتولّى عن الجهاد ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ... وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾1.
 
الاستبدال: 
يحذّر الله تعالى أن من يرتدّ عن دينه والإيمان الصادق به ويكفر بتعاليمه وبأنبيائه ورسله، ولا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه الجهادية وغيرها ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولّى معرضاً عن الدين الحنيف والملّة الحقّة، فسوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.
 
إن الله يستبدل بهؤلاء من يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكل ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، لا يخافون من لوم الناس والمنافقين عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحق.
 
إن هؤلاء المستبدل بهم على ثقة بالله وبدينه الحق. وعليه فإن المستبدَلين لن يضرّوا الله شيئاً بل هم المتضرّرون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى. يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾2.
 
 
 

1- الفتح، 16-17.
2- المائدة، 54.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

155

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 المقت الإلهي: 

الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى. فالمؤمن التقيّ على بصيرة من جهة وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، فلا يتثاقل ولا يستأذن في القعود. أمّا المنافق الفاقد للإيمان والتقوى فقلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد كما قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾1.
 
إنَّ عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للأسف، بل هو مدعاة للسرور، لأنّهم لن يكونوا ذوي نفع، بل سيكونون بنفاقهم ومعنويّاتهم المتزلزلة وانحرافهم الفكريّ والخلقيّ مصدراً للكثير من المشاكل. هذا مع فرض نية مشاركتهم، ولكنهم لم يوفقوا لمثل هذه النية ولو قرّروا الخروج لتأهّبوا واستعدّوا له وأعدّوا السلاح والمركب كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكمُ مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكمُ‏ْ سَمَّاعُونَ لهَمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّلِمِينَ﴾2.
 
نعم كره الله تعالى خروجهم مع المؤمنين ولم يوفّقهم لذلك لمعرفته بنفاقهم وبأنهم سيكونون عيوناً للمشركين على المسلمين، فضررهم أعظم من فائدتهم، فثبَّطهم (أي قلّل عزيمتهم على الخروج) لما علمه من فساد نيتهم نتيجة كفرهم 
 



1- التوبة، 44-45.
2- التوبة، 46-47.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

156

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 وتباطئهم عن المشاركة وميلهم للنميمة وكرههم للمؤمنين وزرع الشكّ والفتنة بين صفوف المقاتلين، وخصوصاً لدى ضعاف العقيدة والإيمان.

 
إنّ الآية في الحقيقة تعطي درساً مهمّاً جداً للمسلمين؛ بأن لا يكترثوا لكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكمّيّتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكّروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ويعملوا من أجل تربية الجيل المخلص، إن هذا درس بالغ الأهمية لمسلمي الحاضر والمستقبل.
 
الفضيحة في الدنيا: 
من أهمّ آثار الحرب تمييز المؤمنين عن المنافقين، فقبل معركة أحد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة. إن الله تعالى يريد أن يميّز الخبيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق فأمر بالخروج مع الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة المشركين في أحد، إلّا أن فئة من الذين خرجوا مع رسول عادوا أدراجهم أثناء الطريق، ولما سُئلوا عن سبب انكفائهم وقيل لهم أنه إن لم تريدوا القتال في سبيل الله فبالحدّ الأدنى دافعوا عن أنفسكم وحرمكم وأموالكم، إلا أن المنافقين تذرّعوا بأن الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدّى المناورة وعرض العضلات، ولن يصل الأمر إلى حدّ الحرب والقتال لقلّة عدد المسلمين، وكان لسان حالهم في الجواب لو تأكّدنا من أن الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم، وهذا الواقع للمنافقين يحكيه قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئذٍ أَقْرَبُ مِنهْمْ لِلْايمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فىِ قُلُوبهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بمِا يَكْتُمُونَ﴾1.
 
 
 

1- آل عمران، 167-168.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

157

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 إن المنافقين أرادوا أن يوحوا بجوابهم هذا، أن مجابهة المسلمين للمشركين ليست من نوع القتال والحرب في شي‏ء، وإنما هي عملية انتحار، لتفوّق العدوّ عدّة وعدداً. وأرادوا بقولهم هذا أن يخفوا نفاقهم، ولكن ما حصل فضَحهم، لأن كلامهم كان أقرب إلى نصرة الأعداء منه إلى نصرة المؤمنين، وإلى تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول، لذا كانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فضلاً عن أنّ كلامهم يُستشمّ منه الاستهزاء بالزحف والاستهتار بما يمضي إليه المسلمون، فانخذالهم عن القتال إمارة تؤذن بكفرهم وفساد باطنهم وقلوبهم. فهم في الواقع كانوا يظهرون الإيمان عبر ألسنتهم ويسرّون الكفر في قلوبهم، فسرّهم غير متطابق مع جهرهم والله تعالى يعلم ما يخفونه من كفر وما يبدونه من إيمان كاذب، لأنه عالم لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض وهو بكلّ شيء محيط. إذاً، من عواقب التخلّف عن الجهاد وعدم المشاركة فيه هو الافتضاح في الدنيا قبل الآخرة.

 
الطرد والإبعاد: 
يتحدّث القرآن الكريم عن المنافقين الذين يتذرّعون دائماً بالحجج والأعذار الواهية لأجل الفرار من ساحات القتال: 
﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾1.
 
ويخاطب الله تعالى نبيّه إنك لو دعوتهم إلى عرض أيّ إلى غنيمة أو مال دنيويّ زائل، أو إلى سفر قصير هيّن قريب المسافة قليل الجهد لاتّبعوك دون تأخّر أو تردّد طمعاً في الكسب. ولكن صعب عليهم الأمر لما يحتاجه من تضحية بالنفس
 
 
 

1- التوبة، 42.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

158

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 والمال، وبعدت عليهم المسافة لما فيها من مشقّة وتعب، فتشبّثوا بالباطل وراحوا يحلفون كذباً: "لو استطعنا لخرجنا معكم"!

 
وسيعتذرون عن خروجهم بعدم استطاعتهم، وسيقسمون الأيمان على عدم قدرتهم، ولكنهم يهلكونَ أَنفسهم ويخسرونها لما أضمروه حين أقسموا بالأيمان الكاذبة واعتذروا بالباطل الذي لا حقيقة له، واللَّه يعلم إنهم كاذبون وغير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم.
 
وهذا هو حال المنافقين دائماً، ففي كلّ مجتمع فئة على غرار المنافقين من الكسالى والطامعين والانتهازيّين الذين ينتظرون لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى، ويصرخوا بأعلى الصوت أنّهم كانوا مع المجاهدين الأوائل والمخلصين البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين دون أن يبذلوا أيّ جهد يذكر!! والمطلوب من القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإن لم يكن لديهم قابليّة الإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.
 
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾1.
 
في هذه الآية التي هي محلّ البحث إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم عندما يخالفون القانون الإسلامي، يقومون بأعمال مدمجة بالمراوغة والشيطنة فيحاولون من خلالها جبران ما صدر منهم، وتبرئة ساحتهم ممّا يستحقّون من العقوبة، كأن يطلبوا الإذن بالجهاد من جديد للإيحاء
 
 

1- التوبة، 83-84.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

159

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 بأنهم مع المجاهدين، وبهذه الأعمال المتناقضة والمخالفة لمراد الحق وأوامره، فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقيّة. لكن الله تعالى أظهر طردهم وإبعادهم عن رحمته وأمر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يعطيهم الإذن ولا يسمح لهم بالخروج معه للقتال لأنّ أمرهم قد افتضح وحيلتهم هذه لن تنطلي على أحد ولن ينخدع بها أحد. فهم رضوا بالتخلّف عن الجهاد والقعود في المرّة الأولى ولو كانوا قد ندموا على تخلّفهم وتابوا منه وأرادوا الجهاد حقّاً في ميدان آخر لقبل الله تعالى منهم ذلك ولما ردعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 
إن طردهم وإبعادهم لم يقف عند حدّ حرمانهم من المشاركة في القتال وافتضاح أمرهم بين الناس، بل تعدّاه إلى أمرٍ أشدّ وأصعب، فصدر الأمر الإلهي صراحة بعدم الصلاة على أحد منهم إن مات، وعدم الوقوف على قبره للدعاء له والترحّم عليه، لكي يعلم المنافقون أنه لا مكان لهم في المجتمع الإسلامي، لأن حرمان أحدهم من هذه المراسم الخاصّة بالدفن يعني طرده من المجتمع الإسلامي، وإذا كان الطارد هو النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الصدمة وأثرها على نفسيّة المنافقين ووجودهم سيكون شديداً جداً. 
 
الحرمان من الهداية الإلهية: 
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾1.
 
تخاطب الآية الكريمة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعنّف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين بسبب تعلّقهم وحبّهم لأرحامهم وأموالهم ومساكنهم. لأن ترجيح
 
 
 

1- التوبة، 24

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

160

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 مثل هذه الأمور على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن. فمن تشبّث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية اللّه كما يقول تعالى في الختام.

 
فهذه الآية ترسم بشكل واضح خطوط الإيمان الأصيل وتميّزها عن الإيمان المشوب بالشرك والنفاق. وتقول بشكلٍ صريح أن كلّ من يقدّم الحياة المادية ومتعلّقات هذه الحياة المادية من الأرحام والأقارب، والعشيرة، والمال، والاكتساب والتجارة، والمساكن، على الجهاد في سبيل الله، بمعنى أنها كانت أعزّ على قلبه وأغلى على نفسه من الله ورسوله وامتثال أمره بالجهاد في سبيله، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بها من أجل الله ورسوله والجهاد، فإيمانه الواقعي لم يكتمل بعد، لأن حقيقة الإيمان وروحه وجوهره تتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون أدنى تردّد. ومن لا يرغب بالتضحية بها، فسوف يظلم نفسه ومجتمعه، لأن الأمّة التي تتلكّأ في اللحظات الحسّاسة من تأريخها المصيري، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحّي أبناؤها، فستواجه الهزيمة عاجلاً أو آجلاً، ومن ثمّ ستكون هذه الأمور المادية التي تعلّقت القلوب بها عرضة لخطر الضياع والتلف بيد الأعداء. 
 
وفي ختام الآية تهديد صريح لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضّلونها على رضا اللّه، ويطلب الحق منهم الانتظار ليروا عاقبة أفعالهم ﴿فَترَبَّصُواْ حَتىَ‏ يَأْتىِ‏َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يهَدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، لأن كل من يخرج من زيّ العبودية لله تعالى والطاعة له فاسق عن أمر الله، ولا يستحقّ منه الهداية. وأي عاقبة أسوء من أن يحرم المرء من هداية الحق له؟ ولمّا كان هذا التهديد مجملاً "فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره" كان أثره أشدّ وحشة، وهذا التعبير يشبه قول القائل: إذا لم تفعل ما آمرك، فسأقوم بما ينبغي عليّ القيام به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

161

الدرس الحادي عشر: عواقب الفرار من الزحف _ 1

 المفاهيم الرئيسية

1- يعتبر الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة. 


2- لقد حصل في صدر الإسلام أن تخلّى بعض الناس من المنافقين عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن الإسلام، فنزلت آيات قرآنية عديدة تفضحهم وتلزم النبي والمسلمين بمقاطعتهم وعدم قبول ما يدّعونه من توبة وندم، وذلك عقاباً لهم وتأديباً لغيرهم ممن تسوّل له نفسه ترك الجهاد.
 
3- يحذّر الله تعالى من يرتدّ عن الدين والإيمان الصادق به، ولا يلتزم بالجهاد، إذ سوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.


4- إنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى.
 
5- إن المنافق الفاقد للإيمان والتقوى قلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد، قال تعالى: ﴿إنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَترَدَّدُونَ﴾.
 
6- من أهمّ آثار الحرب التَّمييز بين المؤمنين والمنافقين، فقبلَ معركة أحُد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة. 
 
7- من عواقب الفرار من الزحف الحرمان من الهداية الإلهية، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، فترجيح المال والولد والزوجة على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، ومن يتشبّث قلبه بتلك الأمور 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

162

الدرس الثاني عشر:

 عواقب الفرار من الزحف _ 2


أهداف الدرس:
- التعرّف على الآثار السلبية الأخرى الناجمة عن ترك الجهاد.
- بيان أنّ الفرار من الزحف سببٌ أساسيٌّ في الهزيمة وتسلُّط الظَّالمين على المؤمنين.
- التّعرّف على العاقبة السيئة للفرار من الزحف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

163

الدرس الثاني عشر:

 من العواقب الوخيمة والآثار السلبية الأخرى لترك الجهاد والقعود عنه:

خراب دُور التوحيد ومحالّ العبادة: 
من التبعات المضرّة لترك الجهاد، هو زوال دور التوحيد ومَحَالُّ عبادة الإنسان لله. فقد حذّر القرآن المجيد من أنّ الناس ما لم يقوموا بتكليفهم في الدفاع، فسوف تتهدّم دور عبادة المسلمين، بل جميع دور عبادة الأديان التوحيدية الأخرى، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1. ومن الممكن أن يكون ذكر المساجد
 
 
 

1- الحج،40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

164

الدرس الثاني عشر:

 والمعابد في الآية قد ورد على سبيل المثال، وعليه فهي تتعدّاها لتشمل المراكز الثقافية الواعية والأصيلة، وتلك المسؤولة عن تقدّم الأفراد والمجتمع ونضجهما. 

 
إن وخامة ترك الجهاد وإهماله، والفرار من الزحف، والتي هي من معاني فلسفة "دفع الله الناس بعضهم ببعض" لسوف تظهر في هدم بيوت العبادة وأماكن التوحيد والتي لها المردود الخطير على تطوّر الناس وتكاملهم المعنوي والفكري.
 
الذلّة والمهانة: 
من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"1
 
ونرى أيضاً أن أمير المؤمنين عليه السلام وبعد تشجيعه على الجهاد وبيان فضله في خطبته المشهورة حول الجهاد، فإنه يشير إلى تبعات التهاون والقعود عن القيام بالجهاد، حيث يقول: "فمن تركَهُ رغبةً عنهُ ألبسَهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ وشمْلَةَ البلاءِ ودُيِّثَ بالصَّغارِ والقَماءَة"2
 
ومن المشكلات الكبيرة التي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام طوال مدّة حكمه، عدم استعداد الناس للدفاع عن دين الله، وخلوّ عزائمهم من القوة والعزم على القيام لله تعالى. وقد بيّن الإمام علي عليه السلام في العديد من الكلمات والخطب عدم رضاه عن أصحابه وموقفِهم من مسألة الجهاد، موجّهاً انتقاداته لهم،
 
 
 

1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص736. 
2- نهج البلاغة، الخطبة 27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

165

الدرس الثاني عشر:

 وموضّحاً عواقب الضعف عن القيام بهذا الواجب في السياق.

 
وفي أحد هذه الموارد، يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ القعود عن الجهاد يؤدّي إلى انتصار العدو وانفلات زمام إدارة المجتمع من يد الحكّام، حيث يقول عليه السلام: "فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنّت عليكم الغاراتُ ومُلكتْ عليكمُ الأوطان"1.
 
ومن مظاهر هذه الذلّة التي تشملهم نتيجة ترك الجهاد، أنّهم يعجزون عن أن يكونوا قوّة يُنتقم بها من الباطل، أو يستفاد منها في تحقيق أيّ من أهداف الإسلام، حيث يقول عليه السلام: "فما يدركُ بكم ثارٌ ولا يُبلغُ بكم مُرام"2

وفي مثل هكذا مجتمع لا يتوقّع حدوث التوفيق والتقدّم، ويوماً بعد يومٍ يزدادُ الضَّعفُ وتقلُّ الاستفادة من المعارف الإلهية، ويُبتلى هذا المجتمعُ بسقوط القِيَمِ والانحطاطِ، بل يكون أكلة سائغة في فم الأعداء. 
 
وتشهدُ تجاربُ التاريخ على أنّ المجتمعَ الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يعيشُ فيه، والذي كان قد تركَ الجهاد، عانى من عواقب وخيمة وظلمٍ شديد، إلى الحدّ الذي تسلّط عليه - وخلال مدّة قصيرة - أشخاص خنقوا كلّ صوت يرتفع مطالباً بالحقّ، وقتلوا وسجنوا وعذّبوا المؤمنين وقادتهم!
 
وقد أشار القرآن الكريم في أحد المواطن، وبشكل صريح، إلى عاقبة الذلّة في الدنيا عند ترك الجهاد، حيث ذكر أنّ بني إسرائيل قد عوقبوا بالتيه أربعين سنة على أثر عصيان هذا الأمر الإلهي: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾3. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الإعراض عن الجهاد والانشغال بالدنيا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لئن أنتم 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 27.
2- م.ن، الخطبة 39.
3- المائدة، 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

 


166

الدرس الثاني عشر:

 اتّبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعِينَة وتركتم الجهادَ في سبيل الله، ليلزمنّكُم الله مذلّة في أعناقكم ثمّ لا تُنزعُ منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه أو تتوبوا إلى الله"1.

 
تسلّط الظالمين وفقدان القوّة والعزّة: 
إنّ الأثر الكبير الذي يظهر مباشرةً جرَّاء ترك الإنسان للجهاد وتقاعسه عنه، هو خذلانه لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع، وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس. 
 
إنّ التاريخ مملوء بأمثال هؤلاء، ومنهم المنافقون والفاسقون الذين كانوا يعرفون أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي حقّ ونور، لكنهم خذلوه وقت الشدة، ومنهم من قاتله وصارعه، محبةً منهم وولاية للكفّار والمشركين وطمعاً بالحفاظ على المال والأولاد والأملاك من بطش قريش. فهؤلاء رأوا بأم العين كيف انقلب عليهم ظهر المجن، وذاقوا طعم الفضيحة والخسران في الدنيا ﴿أُوْلئِكَ الَّذينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ﴾2 ويقول الله تعالى عنهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾3
 
ثم حصل هذا الأمر مع الإمام علي عليه السلام، حيث أصاب جيشه الإحباط في الهمم والفتور عن القتال والجهاد ضد معاوية وجيشه الظالم، ولذلك كان الأمير عليه السلام يعاني الأمرّين في شحذ هممهم وبث روح الشجاعة والحميَّة في نفوسهم، رغم أنّه عيَّرهم بتفوّق الأعداء عليهم وانتهاكهم أعراض المسلمين، فيقول عليه السلام 
 
 
 

1- كنز العمال، ج4، ص331.
2- النمل،5.
3- النمل، 14.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

167

الدرس الثاني عشر:

 في خطبته المشهورة في الجهاد "ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت الغارات عليكم وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان ابن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلمٌ ولا أُريق لهم دم"1، ولك أن تلاحظ أن أمير المؤمنين عليه السلام يلوم المتخاذلين بما فعله العدو بهم ويذكّرهم بأولئك الضحايا الذين قتلوا نتيجة تخاذلهم، وهو بالتالي كأنه يقول لهم أن هذه الحالة ستكون حالتهم أيضاً فيما لو تركوا الجهاد مرَّةً أخرى، بل هو يترقّى في تهديده لهم بقوله: "فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى يغار عليكم ولا تغيرون"2، إنها نتيجة الخذلان والتقاعس، حيث يصبح المجتمع بلا هيبة ولا قوة ولا منعة ولا عزة!

 
ومن الأمثلة التي تضرب على تسلّط الظالمين كنتيجة لترك الجهاد في سبيل الله مع الإمام العادل أو وليّه، هو ما حصل لأهل المدينة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء حيث وفدوا على يزيد بعد جريمته الكبرى، فوجدوه يعيش في حالات متطرّفة من الفسق والفجور فأبوا أن يقرّوا له بالبيعة. عندها
 
 
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص90.
2- م.ن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

168

الدرس الثاني عشر:

 أرسل جيشه إلى المدينة وعلى رأسه مسلم بن عقبة الفاجر الكافر، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً، لكنهم هزموا، فدخل جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام مستبيحاً لكل حرمة فيها، فقتل فيها سبعمائة من قرّاء القرآن، وأربعة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق بعدها بدريٌّ على وجه الأرض، وافتَّضت من بنات أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف عذراء، وكثر فيها قتل للناس حتى بلغ القتلى عشرات الآلاف، ثم أُرغم الناس على مبايعة يزيد على أنهم عبيد عنده! هذه هي نتيجة خذلان الإمام الحسين عليه السلام وتركه غريباً في المدينة، فلو أنهم ناصروه وقاموا بوظيفتهم الجهادية بين يديه، لربما انقلب الحكم إلى أهله ولما حلّ ظلم على أحد على وجه الأرض وحتى قيام الساعة. 

 
إن هذه الحقيقة التي حصلت مع أهل المدينة هي عبرة لنا، فلو تركنا الجهاد وفررنا من الزحف في مواجهة العدو الإسرائيلي لأمعن في قرانا ومدننا القتل والأسر والانتهاك لكل الحقوق!
 
إذاً، لا بد للمجاهدين المؤمنين أن يجعلوا هذه الحوادث والعبر عنواناً يظلّ ماثلاً أمام أعينهم، فلا يغفلوا عن نصرة الحق ولو أدّى ذلك إلى قتلهم وإبادتهم، وكما قال الأمير عليه السلام "الموت في حياتكم قاهرين، والحياة في موتكم مقهورين"1.
 
العاقبة السيّئة: 
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يجُاهِدُواْ بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فىِ الحْرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ 
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص447.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

169

الدرس الثاني عشر:

 أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كاَنُواْ يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كاَنُواْ يَكْسِبُون﴾1.

 
تتحدّث الآية الكريمة عن حال المنافقين الذين تخلّفوا عن الجهاد في غزوة تبوك2 وخالفوا تكليفهم الشرعي وكرهوا الجهاد بأموالهم وأنفسهم، ثم اعتذروا بالأعذار الواهية، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب، بدل أن يضعوا كل وجودهم وإمكاناتهم في سبيل اللّه ليفوزوا بشرف الجهاد وعنوان المجاهدين. 
 
ولم يكتفوا بتخلّفهم وتركهم للواجب بل سعوا في بثّ وساوسهم الشيطانيّة بين المسلمين، محاولين إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدورهم، وتشبّثوا بكل عذر يحقّق لهم هذا الهدف حتى لو كان العذر هو الحرّ!! فهم كانوا يطمعون من جهة في إضعاف إرادة المسلمين، ومن جهة أخرى كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن من المسلمين إلى صفوفهم حتى لا ينفردوا وحدهم بالجرم. فأمر الله تعالى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيبهم بلهجة شديدة وأسلوب قاطع أن نار جهنّم أشدّ حرّاً من الرمضاء، فشرارة واحدة من تلك النّار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألماً، ولكنهم وللأسف لضعف إيمانهم، ولقلّة إدراكهم لا يعلمون أيّة نار تنتظرهم! 
 
وهؤلاء ظنّوا أنّهم بتخلّفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن الجهاد قد فازوا وحقّقوا نصراً، فضحكوا لذلك وقهقهوا بمل‏ء أفواههم، إلّا أنّ القرآن حذّرهم من عاقبة ما اجترحته أيديهم وحذّرهم من العذاب الشديد الذي ينتظرهم، وسيندمون على ما أنفقوا من قدراتهم وعمرهم الثّمين، وما اشتروا من
 
 
 

1- التوبة، 81-82.
2- هي غزوة حصلت في السنة التاسعة للهجرة قام بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكي يصدّ تقدم جيش كبير أعدّه ملك الروم للقضاء على الإسلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

170

الدرس الثاني عشر:

 الخزي والفضيحة وسوء العاقبة إنّها النَّتيجة الطَّبيعيّة لما كسبوه بأيديهم في الحياة الدُّنيا.

 
الحسرة والندامة: 
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾1.
 
الآية الكريمة توجّه الخطاب إلى المؤمنين وتحذّرهم من مغبّة الوقوع في شراك المنافقين وخداعهم وتدليسهم. فلا يقولوا بمقالة المنافقين الذين لا همّ لهم سوى النيل من روحيّة المسلمين وإضعاف معنويّاتهم وزعزعة أسس إيمانهم. لأنهم إذا وقعوا تحت تأثير هذه الكلمات المضلّة الغاوية، وكرّروا نظائرها فستضعف معنويّاتهم، وسيمتنعون عن الخروج إلى ميادين الجهاد في سبيل الله، وعندها سيتحقّق للمنافقين ما يصبون إليه. بل عليكم أن تتقدّموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنويّات عالية، وعزم أكيد ودون تردّد ولا كلل، ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذولين أبداً. والآية تردّ على خبث المنافقين وتسويلاتهم بثلاثة أجوبة منطقيّة: 
الأول: إن الموت والحياة بيد اللّه على كلّ حال، وإن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغيّر من هذا الواقع شيئاً، وإن اللّه عالم بأعمال عباده جميعها وبصير بها. 
 
 
 

1- آل عمران، 156-158.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

171

الدرس الثاني عشر:

 الثاني: إنكم حتّى إذا متّم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجّل كما يظنّ المنافقون فإنّكم لن تخسروا شيئاً، لأن رحمة اللّه وغفرانه أعظم من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون من مال وثروة. بل لا مجال للمقارنة بين الأمرين، لأن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل اللّه، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار والمنافقون عن طريق حياتهم الموبوءة، المليئة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.

 
ثالثا: بغضّ النظر عن كلّ ما قلنا فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يُخشى منه هذه الخشية ويُخاف منه هذا الخوف، ويُستوحش منه هذا الاستيحاش، بل هو نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأفضل، حياة موصوفة بالبقاء والخلود. إذاً، في كل الأحوال المؤمنون هم المستفيدون رغم أنف المنافقين وهذا ما يزيد الحسرة لديهم ويضاعفها فيهم.
 
الطبع على القلوب: 
يقول الله عزّ جل: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾1.
 
الآية تتحدّث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الثبات على الإيمان، والجهاد في سبيل اللّه، فإنّهم رغم ما يتمتّعون به من طَوْلٍ أي من قدرات جسمانية ومالية، إلا أنّهم يطلبون العذر والإذن بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار الذين لا قدرة لديهم على الحضور والمشاركة في الجهاد. فهم على الرغم من توفّر كلّ الشروط فيهم، وامتلاك كلّ المستلزمات المطلوبة للجهاد، مع
 
 
 

1- التوبة، 86-87.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

172

الدرس الثاني عشر:

 ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإلهيّ الحسّاس والخطير، فجاءوا إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلبون الإذن في الانصراف. فوبّخهم القرآن وقبّح فعلهم لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة في الحرب بسبب ضعفهم وعجزهم. وهم لكثرة ذنوبهم ونفاقهم طبع الله تعالى على قلوبهم فسلبهم القدرة على التفكير والإدراك والمعرفة الصحيحة، فهم الجاهلون. 

 

 

 

 

 

 

 

 

200


173

الدرس الثاني عشر:

 المفاهيم الرئيسية

1- من التبعات المضرّة لترك الجهاد، زوال دور التوحيد ومَحَال عبادة الإنسان لله، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
 
2- من العواقب الملموسة للإعراض والتخلِّي عن الجهاد، عاقبةُ الذلَّة والمهانة، في الدُّنيا والآخرة، والتي تشملُ كلَّ أمّةٍ تركت الجهاد في سبيل الله، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه".
 
3- من تبعات ترك الجهاد، خذلان الإنسان لأولياء الله تعالى وقادة المؤمنين وتركه لهم وحيدين في ميدان المواجهة والصراع، وبالتالي خذلانه للمبادئ والأسس التي قام من أجلها هؤلاء الناس. 
 
4- من علامات المنافق أنك إذا دعوته للجهاد في سبيل الله تذرّع لك بعدم القدرة وطلب الإذن والعذر بعدم المشاركة رغم ما يتمتّع به من قدرات جسمانية ومالية.، والقرآن قبّح فعل هذا الصنف من الناس بشدّة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي المعذورين عن المشاركة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

174

المحور الخامس: قدسيّة الشهادة

 قدسيّة الشهادة


أهداف المحور الخامس:
- بيان معنى الشهادة، حقيقتها وفضلها في الإسلام.
- التعرّف على ثواب الشهيد وأجره في الدنيا والآخرة.
- التعرّف على كيفية سلوك درب الشهادة ونيل هذا الوسام الرفيع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

175

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها


أهداف الدّرس:
- التعرّف على منزلة الشهيد وفضل الشهادة في الإسلام.
- التعرّف على روحيّة الشهيد ورسالته التي يحملها للناس. 
- التعرّف على جزاء الشهيد وثوابه الأخروي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

176

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 معاني الشهادة:

إنَّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، وقد تكون هذه التضحيات على مستوى التضحية بالمال والجهد والوقت، وقد تصل في نهاية الأمر إلى بذل النَّفس والتضحية بالروح، وهو الذي يسمّى في ثقافتنا الإسلامية بالشهادة. من الناحية الفقهية يقول إمامنا الخميني قدس سره: "الشهيد هو المقتول في الجهاد مع الإمام عليه السلام أو نائبه الخاصّ بشرط خروج روحه في المعركة حين اشتعال الحرب أو في غيرها قبل أن يدركه المسلمون حيّاً، ويلحق به المقتول في حفظ بيضة الإسلام"1
 
يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله في معنى الشهيد وحقيقته: "الشهيد هو الإنسان الذي يقتل في
 
 

1- تحرير الوسيلة، ج 1، غسل الميت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

177

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 سبيل الأهداف المعنويّة ويضحّي بروحه - التي هي الجوهر الأصلي لكل إنسان - لأجل الهدف والمقصد الإلهي. والله المتعالي يرّد على هذا الإيثار والتضحية العظيمة بأن يجعل ذكر ذلك الشخص وفكره حاضراً دائماً في أمّته ويبقى هدفه السامي حيّاً. هذه هي خاصيّة القتل في سبيل الله. فالأشخاص الذين يقتلون في سبيله يحيون، أجسادهم تموت ولكن وجودهم الحقيقي يبقى حيّاً"1.

 
وقد ورد للشهادة والشهيد معان عديدة أيضاً، منها2
الشهادة هي الحضور ويقابلها الغيب والضياع:
وهي عبارة عن حضور الإنسان في المحضر الإلهي باختياره وإرادته حيث يصل المجاهد في عشقه لله إلى درجة من الشوق والوله للقاء المحبوب لا يرى معها الدنيا إلا سجنا وقيداً ومانعا من الوصول إلى السعادة المطلقة. فيرفع حجاب الجسم المادي عن وجه الروح المعنوي وحياتها الأبدية ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في‏ سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾3.
 
الشهيد هو من عرف أسرار الحياة:
فشهد الدنيا بعين الحقيقة دار الغرور والقرية الظالم أهلها، ولم يغفل عن الآخرة التي هي دار الحيوان5 أي الحياة الحقيقية ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾4، فصار الموت عنده أمنية لأنه باب الوصول إلى تلك الحياة، وباتت دنياه جهاداً للقاء المحبوب.
 
الشهيد هو الشاهد على أمّته ومجتمعه وزمانه: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهيداً﴾5،
 
 
 

1- عطر الشهادة،ص13.
2- راجع لسان الميزان، ج3، ص241-246.
3- آل عمران،169.
4- هي دار الحياة الدائمة والخالدة كما ورد في تاج العروس،ج19،ص356.
5- العنكبوت،64.
6- النساء،41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

178

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 فهو الذي اكتشف الحقيقة قبل غيره من الناس، فدعا إليها بكل وجوده، وبذل نفسه في سبيل إيصال الآخرين إلى تذوّق حلاوتها.

 
الشهيد هو الذي سلك الطريق الأسرع والأقصر للقاء الله ونيل رضوانه:
﴿قالَ الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ﴾1، فهل هناك أسرع من القتل في سبيل الله للانتقال إلى عالم الحقيقة والآخرة وشهود الله تعالى؟! هذا الشهود الذي هو غاية منى العاشقين وآمالهم، وأقصى مراد الطالبين، وهو ثمرة حتميّة للشهادة. 
 
فضل الشهادة في الإسلام:
إن قطرة من دماء الشهداء ليست كباقي القطرات، إنها تختصر كل شيء، إنها التوحيد العملي والحقيقي الذي نطق به لسان العمل والفعل والتضحية، وإن تلك القطرات لأكبر شاهد على الإخلاص لله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾2. من هنا يقول الإمام الخميني قدس سره أنّه "لا يمكن للألفاظ والتعابير وصف أولئك الذين هاجروا من دار الطبيعة المظلمة نحو الله تعالى ورسوله الأعظم وتشرّفوا في ساحة قدسه تعالى"3. وقد زخر تراثنا الإسلامي بفيض الآيات والروايات التي تتحدّث عن الجهاد والشهادة وفضلهما والتي تكاد تنضح لكثرتها وتنوّعها وسعة معانيها وأبعادها.
 
من الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ﴾4، وفيها إشارة واضحة إلى أن الله تعالى
 
 
 

1- البقرة،249.
2- الأنعام، 162. 
3- صحيفة النور، ج19، ص40. 
4- آل عمران،140.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

179

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 يصطفي من هذه الأمة ثلّة من المؤمنين يتّخذهم شهداء، لما لديهم من الفضل والكرامة عند الله. وقوله تعالى أيضاً ﴿وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهمُ﴾1 الخاص بهم والذي خصّهم المولى عزّ وجلّ به لأنهم ببساطة أبوا إلا أن يشتروا الدنيا بالآخرة فكان أجرهم عند الله عظيماً وعظيماً جداً: ﴿فَلْيُقاتِلْ في‏ سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ في‏ سَبيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾2.

 
ومن الروايات الشريفة: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أشرف الموت قتل الشهادة"3، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كل ذي برٍّ برٌّ حتى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"4، والبرّ هو الخير وهو الطّاعة، وكمال الخير ومظهر الطّاعة الحقيقيّة لله تعالى هي مرتبة الشّهادة.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبَّطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه"5.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "ما من قطرةٍ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلا الله عز وجل"6. ولذلك كان الأئمة عليهم السلام يتمنّون دائماً الشهادة في سبيل المولى تعالى لمعرفتهم بأهمّيتها وفضلها العميم، ففي الدعاء عن الإمام السجاد عليه السلام: "حمداً نسعدُ
 
 
 

1- الحديد،19.
2- النساء،74.
3- بحارالأنوار،ج97،ص8.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1510.
5- م.ن.
6- م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

180

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 به في السّعداء من أوليائه، ونصيرُ به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه"1. وها هم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يتحلّقون حوله كالفراشات ورغم أنه أذن لهم بالانصراف إلا أنهم أبوا وكان لسان حالهم جميعاً ما قاله سعد بن عبدالله الحنفي للإمام عليه السلام: "والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم، والله لو أعلم أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أذرى ويفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتَى ألقى حمامي دونك وكيف أفعل ذلك وإنما هي موتة أو قتلة واحدة ثمّ هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا"2. هذا هو العشق الحقيق لله ولوليّه في الأرض، هذا هو الحب الخالص الذي لا حدود له ولا أمد.

 
الشهادة موت الأذكياء:
ينبغي أن نميّز بين نوعين من الموت قد يتمنّاها الإنسان، أوّلهما الشهادة والثاني الانتحار. ففي حين يمثّل الأول أعلى درجات الإنسانية وأرقاها وأسماها، يمثّل الثاني قمة التسافل والانحطاط. الشهيد يتمنّى الموت والأمل يخالجه على الدوام ويحيط به من كل حدب وصوب لأنه يتمناه حباً بالآخرة وطلباً للقاء الله، أما المنتحر فيتمنى الموت هروباً ويأساً من هذه الحياة، وحزناً عليها كونها تشكل أقصى مراده وغايته ومناه.
 
أما الشهيد فإنه يرى الدنيا حجاباً ومانعاً يحول بينه وبين مراده الفعليّ وغايته الحقيقية وهي لقاء الله ومجاورة أوليائه وأنبيائه. والمنتحر يرى الدنيا غايته التي يأسف لعدم الوصول إليها فيترجم هذا الأسف من خلال قتله لنفسه ظناً منه أنه بذلك سوف يرتاح من آلامه وعذاباته. فالفناء بالنسبة له يصبح أفضل
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج2، ص1510.
2- بحار الأنوار،ج45،ص70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

181

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 من إعراض الدنيا عنه وعدم حصوله على مبتغاه منها، إنه يطلب الموت أسفاً على الشهوات والملذّات الدنيوية التي لم تصل يده إليها. أمّا الشهيد فإنه يطلب الموت إقامة للدين ونصرة للحق. الشهيد إنسان واع، صاحب مبادئ وقيم إنسانية سامية، هدفه خدمة الناس ورفع الظلم عن البشرية ونصرة المستضعفين، قد ربح الدنيا والآخرة، أما المنتحر فأنانيٌّ ومجرم بحقّ نفسه قد خسر الدنيا والآخرة.

 
إذاً، قد يتشابه العملان (الشهادة والإنتحار) في الدنيا من حيث الظاهر، ولكن في الحقيقة والواقع هناك فرق جوهري بينهما، فمرّة يقتل الإنسان في سبيل الله وشوقاً إليه، وأخرى يقتل في سبيل نفسه وحسرة عليها وانتقاماً لهواها!!! يقول السيد القائد الخامنئي دام ظله: "الموت للجميع ونحن إذا توفّينا في سبيل الله لم نفقد شيئا بحسب الموازين المادية الظاهرية، والموت هو المصير الذي لا مفرّ منه لكل واحد منّا، وهذا المتاع (أي الروح) سنفقده لكن فقدانه يكون على نحوين: الأول أن نضيّعه والثاني أن نبيعه فأيهما أفضل؟! أولئك الذين لم يقتلوا في سبيل الله قد أضاعوا أرواحهم وفي المقابل لم يحصلوا على شيء. بينما الذين قدّموا هذا المتاع في سبيل الله وبذلوا أرواحم لأجل الله هم الأشخاص الذي باعوا واستعاضوا بذلك: فالشهيد يبيع روحه وفي المقابل يحصل على الجنة والرضا الإلهي الذي هو أفضل الأجور، علينا أن ننظر إلى الشهادة في سبيل الله من هذا المنظار. الشهادة هي موت الأذكياء الفطنين الذين لا يفقدون هذه الروح بدون ثمن، فهي رأسمالهم الأصلي"1. من هنا نفهم معنى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "أشرف الموت قتل الشهادة"2.
 
 
 

1- عطر الشهادة،ص15.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1512.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

182

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 روحيّة الشهادة:

يقول سماحة الإمام القائد الخامنئي دام ظله: "للشهداء حركتان وموقفان في منتهى الروعة والعظمة، وكلّ واحد منهما يحمل نداءً عميقاً: أحدهما موقف من الإرادة الإلهية المقدّسة وإزاء دين الله وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء الله. ولو أنكم وضعتم موقف الشهيد ومعنويّاته ودوافعه موضع التمحيص والدراسة لاتّضح لكم هذان الموقفان"1.
 
الموقف الأول: والذي يرتبط بالله وعباده ونصرة دينه فإنه يتجلّى ويظهر عند الشهيد بواسطة أمرين أساسيين هما التضحية والإيثار. إن المبدأ الأول الذي يحكم حياة الشهيد ومسيرته الجهادية هو إنكاره لذاته وعدم إدخالها في حساباته على الإطلاق، لأن همّه أبداً ودائماً هو الله وعباده لا نفسه، وهذا هو الإيثار بعينه. فالمجاهد الذي ترك الأهل والأولاد وانطلق إلى ميادين القتال لا لشيء إلّا لإعلاء كلمة الدين وقتال أعداء الله والإنسانية الذين استباحوا الأرض والحرم والمقدّسات أوقعوا أشدّ الظلم بالمسلمين، هذا المجاهد قد ضحّى بنفسه وراحته ودنياه وقرّر أن يسخّر وجوده النافع في سبيل الله وابتغاء لنيل محبته مرضاته على القاعدة التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله"2. ألم يضحّ أصحاب الحسين عليه السلام بكل ما يملكون في سبيل نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحفاظ على دين الإسلام؟ ألم يضحّ الشعب الإيراني المسلم في إيران بالآلاف من أبنائه من أجل نصرة دين الله وحماية الجمهورية الإسلامية الفتيّة؟ ألم يضحّ أبناء جبل عامل بأغلى ما لديهم من أجل طرد الغزاة الصهاينة أعداء الدين والإنسانية عن ديارهم وحرمهم؟ إن
 
 
 

1- عطر الشهادة،ص25.
2- وسائل الشيعة،ج16،344.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

183

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 موقف الشهيد ولسان حاله إلى كل الأحرار أن: يا أيها الناس من أراد أن يعمل لله وينال رضوانه فلينكر ذاته، لينسى أهواءه ويضع نصب عينيه الأهداف الإلهية فقط.

 
الموقف الثاني: للشهيد هو صموده وثباته أمام أعداء الله بحيث يصير مصداقاً حقيقياً لما أوصى به أمير المؤمنين عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية حين أعطاه الراية يوم الجمل قائلاً: "تزول الجبال ولا تَزُل، عَضَّ على ناجِذِكَ، أَعِر الله جمجمتك، تِدْ في الأرض قدمك، ارْمِ ببصرك أقصى القوم، وغُضّ بصرك واعلم أنّ النّصر من عند الله سبحانه"1.
 
بهذه الصفات يوصي أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون المجاهد أمام أعداء الله، والشهيد يوصل لنا هذا النداء من خلال عمله وسعيه. فهو الصامد، الثابت القدم في ميادين القتال، وهو على الدوام في طليعة المجاهدين وأوائل المضحّين، المطمئنين على الدوام في أصعب المواقف، الذين لا يتّخذون المواقف الانفعالية، وتراهم مستعدين دائماً لمواجهة العدو بكلّ ما أوتوا من قوّة دون أي استخفاف أو استهانة بقوّة العدوّ في الوقت عينه. ويوصي سماحة السيد القائد الخامنئي المجاهدين قائلاً: "الشهادة هي دليل الصلابة، والشهداء غالباً من يكونون العناصر الفولاذية في جبهة الحرب، عليكم أن تظهروا هذه الروحية والإرادة ذاتها أنتم أيضاً".
 
هذا هو نداء الثاني للشهيد لأمّته بأن لا تخضع لإرادة عدو الدين والإنسانية، وأن لا تهابه في محضر الله ووجوده المقدّس ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ﴾2 فتدرك بذلك نفحة من أسرار التوكّل عليه في جميع الأمور، والاستمداد الدائم منه للمواجهة إلى أقصى الحدود ﴿بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا 
 
 
 

1- بحار الأنوار،ج32،ص195.
2- الحديد،4.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

184

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمينَ﴾1.

 
هذه الروحية عند الشهداء هي التي حقّقت وما زالت تحقّق الانتصارات، وتصون هذه المسيرة الإيمانية والجهادية حتى بلوغ الأهداف والغايات الإلهية، وتحافظ على عزّة وشرف ومناعة هذه الأمّة.
 
جزاء الشهيد وثوابه:
إنَّ الشهيد في ديننا الإسلامي ذو منزلة عظيمة عند الله، وهذا ما يتبيّن لنا من خلال أنواع الجزاء الأخرويّ الذي سوف يلقاه ويحصل عليه الشهيد.


1- سبع خصال من الله: أول ما يناله الشهيد وهو في اللحظة الأخيرة من عالم الدنيا واللحظة الأولى للمرحلة التي بعده، قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم "للشَّهيد سبع خصال من الله: 
من أول قطرةٍ من دمه مغفورٌ له كلّ ذنب.
والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما.
والثالثة يُكسى من كسوة الجنة.
والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه. 
والخامسة أن يرى منزله. 
والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت. 
والسابعة أن ينظر في وجه الله وإنها لراحة لكل نبي وشهيد"2.
 
 
 

1- آل عمران،125.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص16.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

185

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 2- ثلاث مواهب سنيّة: يقول الله سبحانه وتعالى في سياق بيانه لمقام الشهيد ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيهَدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالهَمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجْنَّةَ عَرَّفَهَا لهَمْ يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكمُ‏ْ﴾1، تذكر الآية الشريفة ثلاث مواهب خصّ الله تعالى بها الشهداء وهي: 

 
- أنه تعالى سيهديهم إلى منازل السعادة والكرامة، والكمالات الإنسانية، والمقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوانه. 
 
- أنه سيصلح حالهم بالمغفرة والعفو فيصلحون لدخول الجنة، ويحييهم حياةً يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء، ويهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط المعنوي والروحي. 
 
- أنه سيدخلهم الجنّة التي وعدهم بها وادّخرها لهم، والتي سبق وأن عرّفها لهم إمّا في الدنيا عن طريق الوحي والنبوّة، وإما بالبشرى عند القبض. 
 
3- الحياة الحقيقية: إن الله تعالى خصَّ الشهداء في سبيله بمرتبة الحياة بعد الموت فيقول ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾2، لكن ليس المقصود من هذه الحياة هي الحياة العادية، إذ أنّ الآخرين من الناس هم أحياء في عالم البرزخ. مؤمنين منعّمين أو كفارا معذّبين. بل لهم حياة خاصّة لأن الشهداء يدخلون البرزخ أحياء ولا يغفلون عن حوادث الدنيا بل هم يطّلعون على أحوال الذين يسعون سعياً حثيثاً لحفظ النهج المحمدي الأصيل، ويستبشرون بهم كما قال تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾3
 
 
 

1- محمد، 4-7.
2- آل عمران، 169.
3- آل عمران، 170.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

186

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 4- تكفير كل الذنوب سوى الدَّيْن: قال الله تعالى ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في‏ سَبيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾1، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الشهادة تكفر كل شيء إلا الدَّيْن"2

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام "من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته"3.
 
5- لا يفتتن الشهيد في القبر: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من لقى العدو فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"34، والمقصود من عدم الافتتان في القبر، هو عدم تخلّي الميّت عن دينه وعقائده الحقّة التي كان يحياها في الدنيا، ذلك أن شدّة الموت والنزع وهول المطّلع والرهبة من منكر ونكير لا يثبت أمامها إلا من كانت عقائده ثابتة في قلبه، والشهيد الذي لم ترهبه الأسلحة ولا هول الحروب أجدر بأن يُؤمَن خطر الافتتان في القبر.
 
6- الدخول إلى عرصة القيامة بمراسم البهاء: ورد عن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجَّلوا لهم ممّا يرونَ من بهائهم..."4.
 
ويجب أن لا يغيب عن البال أنّه مع هذا التكريم الخاص للشّهداء في يوم القيامة إلا أنّ حال عامّة النّاس مختلفٌ كثيراً، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مثل النّاس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في الْقُرْبِ ليس له من الأرض إلا موضع قدمه كالسّهم في الكِنَانَةِ5 لا يقدر أن يزول هاهنا ولا هاهنا"6. أي كما تُسطر السهام وتُرصُّ في الكِنانة
 
 
 

1- آل عمران،157.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1514.
3- الكافي، ج5، ص54.
4- كنز العمال، ج4، ص282.
5- مستدرك الوسائل، ج11، ص12.
6- الكنانة، جعبة السهام.
7- بحارالأنوار،ج7،ص111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

187

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 جنباً إلى جنب، بحيث لا يمكن تحريكها لشدّة تماسكها ببعضها من التضايق والتزاحم.

 
وقوله تعالى ﴿إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعينَ مُقْنِعي‏ رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ﴾1، فمهطعين أي مسرعين، ومقنعي يعني رافعي رؤوسهم إلى السماء فلا يرى الرجل مكان قدميه من شدّة رفع الرأس، وذلك من هول يوم القيامة. وفي تصوير آخر لهذه الحالة يكون الناس في يوم القيامة ناكسي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم، فلا ترجع إليهم أعينهم ولا يطبّقونها ولا يغمضونها، وقلوبهم خالية من كل شيء فزعاً وخوفاً. قد فصّلت الآيات الكريمة في حال الناس في العديد من السور إلى أن قالت في وصف تلك اللحظات الشديدة ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخيهِ وَأُمِّهِ وَ أَبيه وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنيهِ﴾2.
 
7- الشفاعة: فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ويشفعُ الرجلُ منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرته، حتى أنَّ الجارين يختصمان أيهما أقرب"3.


وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيُشفّعهم: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"4. فقد اتّفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر والذنوب من شيعته، وأنّ المؤمن البرّ يشفع لصديقه المؤمن المذنب، فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله5.
 
8- مرافقة الأنبياء والصدّيقين والصالحين: وهي قول الله تعالى ﴿فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً﴾6.
 
 
 

1- ابراهيم،42،43.
2- عبس،34-37.
3- م.ن.
4- مستدرك الوسائل،ج11،ص 20.
5- راجع، أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص29.
6- النساء، 69.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

188

الدرس الثالث عشر: حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها

 المفاهيم الرئيسية

1- للشهادة معان عديدة تبدأ من الحضور في محضر الحق تعالى وتنتهي بلقاء الله.

2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله "أشرف الموت قتل الشهادة" وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عظمة الشهادة وعلوّ منزلتها عند الله.

3- للشهيد موقفان أساسيان: الأول التضحية والإيثار بالنفس نصرة للدين، والثاني الثبات والقوة بوجه أعداء الدين.

4- الشهادة موت الأذكياء لأن الإنسان لا محالة ميّت، والفطن هو الذي يختار أفضل وسيلة للموت وأشدّها كرامة وفضلاً عند الله، وأكثرها أجراً وثواباً.

5- للشهيد في الإسلام منزلة عظيمة وأجر جزيل وثواب يكاد لا يحصى: فمن المغفرة إلى الحور العين ودخول جنّة النعيم إلى الهداية والنظر إلى وجه الله ومرافقة الأنبياء والصدّيقين إلى الحياة الحقيقية والرزق المعنوي الذي لا ينقطع ولا ينتهي أبداً...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 219

189

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة



أهداف الدَّرس:
- التعرّف على حقيقة الشهادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
- بيان كيفية سلوك درب الشهادة وطريقها.
- بيان الشروط الأساسيّة التي بتحقّقها يصبح طريق الشهادة سهلاً يسيراً ومحقّقاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

190

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 الشهادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام:

لقد منّ الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام بأن شرّع لنا باب القتل في سبيل الله، وجعل سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الذي تشكّل الشهادة ثمرته الناضجة كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سياحة أمّتي ورهبانيّتهم الجهاد"1.
 
فأضحى باب الوصال والقرب الإلهي مفتوحاً على مصراعيه أمام المريدين، ولم يعد تهذيب النفس والتخلّص من الأنانية وحبّ الدنيا وغيرها من الحجب المانعة من نيل الفيض الإلهي، والتحقّق بالكمال الإنساني موقوفاً على ذلك السفر الشاقّ والطويل والمجاهدات العظيمة والسنوات العديدة.
 
لم يعد الإنسان يحتاج إلى خمس وعشرين سنة من
 
 
 

1- مستدرك الوسائل،ج16،ص53.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

191

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 عمره ليتخلّص من الرياء أو إلى ثمانين سنة ليقول بعدها: الآن زال حبّ الدنيا من قلبي، أو أن يعتزل الناس والمجتمع داخل صومعته ليبلغ الكمال وما هو ببالغه! 

 
لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمّته لا تحتاج إلى زمان مديد ومكان بعيد لتنال القرب الإلهي، فها هو قد اختصر بثلاث وعشرين سنة من عمره الشريف دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، بل وبلغ ما لم يبلغه أحد ممّن سبقه منهم، فصار الدين عند الله الإسلام. وها هو حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً"1 يختصر تلك العشرين والنيّف من السنوات بعشرة أيام، بل بيوم واحد، لا بل بعدّة ساعات من نهار فيحيي إسلام جدّه صلى الله عليه وآله وسلم من جديد ويجسّد في تلك الواقعة دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلّ ما فيه، فيصير الاستشهاد في سبيل الله شرفاً يحقّق مراد الصالحين "إن لك في الجنّة درجات لن تنالها إلا بالشهادة"2.
 
ومع شهادة الإمام الحسين عليه السلام صارت كربلاء هي المكان أبداً وصارت عاشوراء هي الزمان دوماً وأضحت خطى أبي عبد الله عليه السلام منهاج الحياة "إني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"3، من هنا كان: "كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، وهو أيضا ما أكّده حفيد الأئمة الأطهار الإمام الخميني قدس سره قولاً وعملاً: "إن كلّ ما لدينا من الإمام الحسين وثورة عاشوراء"4
 
 
 

1- بحار الأنوار،ج43،ص261.
2- بحار الأنوار،ج44،ص328.
3- بحار الأنوار،ج44،ص192.
4- وعشقوا الشهادة،ص9. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

 


192

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 درب الشهادة:

الشهادة هي غاية آمال العارفين ومطلوب المجاهدين وهي إحدى الحسنيين التي يشتاق إليها الصالحون ويدعون ربهم لنيلها في ليلهم ونهارهم كما في الدعاء "وَقَتْلًا فِي سَبِيلِكَ مَعَ وَلِيِّكَ فَوَفِّقْ لَنَا"1. غير أن الشهادة مقام لا ينال بالتمني والدعاء فقط، إن الشهادة هي منهج حياة وسلوك عملي، إنها عزم وطاعة وهجرة وجهاد، إنها تزكية نفس وتقوى وإخلاص. 
 
إن نيل مقام الشهادة والقتل في سبيل الله حقاً له شروط ومقدمات وهو ثمرة مراحل يعبرها المسافر إلى الله في هذه الدنيا ونشير إجمالاً إلى بعض هذه الشروط: 
 
تمنّي الموت في سبيل الله:
يعتبر القرآن الكريم أن تمنّي الموت هو دليل على المحبّة والولاية لله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ2. وأولياء الله هم المشتاقون دوماً لرؤيته والكادحون للقائه، الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، الذين "لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العقاب"3 كما يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام. فأولياء الله أدركوا حقيقة هذه الدنيا وأنها دار الفراق والهجران، وعالم التصرّم والزوال. واستيقنوا هذه الحقيقة بعدما ذاقوا
 
 
 

1- بحار الأنوار،ج95،ص117.
2- الجمعة،6.
3- بحار الأنوار،ج64،ص315.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

193

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 حلاوة القرب الإلهي واطّلعوا على عوالم الغيب والبقاء، فصارت الآخرة مطلوبهم لا طمعاً في الجنات والنعيم بل لأن الجنّة هي ساحة لقاء الحبيب، ولأن المحبّ يرضى ما يرضاه حبيبه، ويستعينون على ذلك بالصبر والجهاد المستمرّ في هذا السجن، لأن المحبوب قد كتب لهم أجلاً محدداً ولولاه لكانت أرواحهم الهائمة بحب بارئها قد عرجت إليه بلمح البصر. 

 
عدم الانشغال بالدنيا:
يسأل الله سبحانه تعالى عباده مستنكراً ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في‏ سَبيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَليلٌ﴾1 ! لأن حياتكم الحقيقية ليست هنا، بل شأنكم أعظم من هذه الدنيا وما فيها، بل ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَ زينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ﴾2
 
وحدهم أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وباعوا أرواحهم وأجسادهم لله ولم يرضوا بهذا العرض الأدنى قد تنبّهوا لتحذير الحق تعالى، فكان منطقهم ولسان حالهم ورسالتهم إلى قومهم على الدوام ﴿يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ﴾3، وإلى أعداء الله وأعدائهم لسانهم
 
 
 

1- التوبة،38.
2- الحديد:20.
3- غافر،39.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

194

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 أبداً ﴿فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضي‏ هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا﴾1.

 
فأهل الآخرة والسائرون على درب الشهادة يعيشون لله في كل آن من آناء أيامهم ولياليهم، والدنيا عندهم بكل ما فيها لا تساوي عندهم شيئا، بل كل ما يهمهم هو رضا الله تعالى والعمل وفق إرادته. لذا فهم منذ نهوضهم وحتى نومهم متفرّغون لخدمة دينه تعالى وخدمة عياله. همّهم دائماً في كيفيّة أداء التكليف بأفضل صورة وأكمل وجه وأخلص نيّة، وهم لا يرتبطون بالدنيا إلا على هذا الأساس. فالدنيا عندهم هي المكان الذي من خلاله ينشرون دين الله، ويدعون الناس إلى الهداية والصلاح فيها، وهي المكان الذي يخدمون فيه عباد الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحاربون الباطل. الدنيا عندهم ميدان لإعلاء كلمة الله وجعلها هي العليا، ميدان لقتال أعداء الدين والإنسانية، قطّاع طريق الهداية وسبيل الله، ﴿قُلْ هذِهِ سَبيلي‏ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني‏ وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ﴾2، فهذا هو سبيلهم إلى الله ومنها زادهم إلى جنات اللقاء والنعيم المقيم. 
 
وعليه من أراد أن يسلك درب الشهداء ويتّبع سبيلهم فما عليه إلا أن يصحّح علاقته بالدنيا ونظرته إليها وأن يقلع عن طلب الدنيا وحبّها وبالتالي تعلّقه القلبي بها لأن الله سبحانه وتعالى ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في‏ جَوْفِه﴾3 فإما أن يتعلّق قلبه بالدنيا ويتوجّه إليها وإما أن يتعلّق قلبه بالله. ولا يمكن أن يجتمع حبّ الله ولقائه مع حبّ الدنيا. بل عليه أن يقلع حبّ الدنيا من قلبه وذلك من خلال عدم الاشتغال بها، فالاشتغال بأمور الدنيا يؤدّي إلى تقوية الطلب والتعلّق 
 
 

1- طه،72.
2- يوسف،108.
3- الأحزاب،4.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

195

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 ويعطي إبليس المنافذ الكثيرة التي يمكن أن يتسلّل عبرها من حيث لا ندري أو نشعر فنقع في حبائله.

 
لذلك أهل الله لا شغل لهم بالدنيا، وهم إذا عملوا فيها فلأن ذلك مقتضى تكليفهم وواجبهم الشرعي لا أكثر. حتى إذا استدعاهم خالقهم لنصرة دينه والقتل في سبيله تسابقوا لتلبية النداء وكانوا خير الملبين ﴿أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ﴾1. وإذا ما فتحت أبواب السماء ولاحت بشرى الآخرة ودعتهم إليها تركوا كل ما يملكون وأسرعوا إلى لقاء المحبوب الأوحد الذي انتظروه كل حياتهم. 
 
خلوص النيّة:
تكتسب الشهادة معانيها العالية وقدسيّتها من الغاية التي يُقتل الإنسان المجاهد لأجلها؛ ﴿سَبيلِ اللَّه﴾، وهذا ما يعبّر عنه بلغة الدين بـ "النيّة"، التي هي في الواقع سبب قبول الأعمال وشرافتها وقيمتها كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما الأعمال بالنّيّات ولكلّ امرئ ما نوى‏"2. هذه النيّة إذا كانت لله خالصة من هوى النفس والتعلّقات الدنيوية، فإنها تجعل العمل مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى لأنه تعالى لم يأمر إلا بالإخلاص ﴿وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاء﴾3 كما أسلفنا سابقاً. 
 
فالمنزل الأول والمقدمة الأساسية لطلب الشهادة هي تطهير النيّة وصبغها بالصبغة الإلهية. وهذا يتطلّب الصدق والمراقبة الجادّة بشكل دائم ومستمر، لأن الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ صعوبة من القيام به كما فيه الحديث عن
 
 
 

1- المؤمنون،61.
2- بحار الأنوار،ج67،ص212.
3- البينة،5.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

196

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 الإمام الصادق عليه السلام: "الإبقاء على العمل حتّى يَخلُص أشدّ من العمل"1. فإذا صفّى المجاهد نيّته من غير الله تعالى فإن باب التوفيق للشهادة سوف يغدو مشرّعاً، عندها سوف تهون عليه كل الصعاب والمصائب، وتصير البلاءات عنده نعماً و آلاءً إلهية طالما أنها ستقوده إلى أمله ومناه إلى لقاء الله تعالى. وسيصبح الجهاد الذي هو كره للناس حلواً وعذباً عنده، والقتل والشهادة غايته إذ فيها لقاء المحبوب الأوحد الذي لا محبوب عنده سواه ولا مطلوب غيره، فتصبح ترنيمة عشقه كما هو لسان حال أبي عبد الله الحسين عليه السلام:

إلهي تركت الخلق طراً في هواك      وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إرباً            لما مال الفؤاد إلى سواك.
 
تذكّر الشهداء وزيارتهم:
لا معنى لأن يحتذي المرء حذو إنسان ما بهدف التأسّي به دون استذكاره واستحضار اسمه وأعماله ومنجزاته. والأمر بعينه ينطبق على من يسعى إلى الاقتداء بالشهداء والسير على منهاجهم. فالذكر الدائم للشهداء من خلال زياراتهم، والسَّلام عليهم، وتذكّر تضحياتهم وتفانيهم وصبرهم واحتسابهم، يترك بالغ الأثر في النفوس، فيحملها طوعاً على اتّباع طريقتهم المثلى. 


فالآيات والروايات بالإضافة لما ذكرته من فضل الشّهادة وقدسيّتها قد ذخرت بالأدعية والزيارات الخاصة للشّهداء والمروية عن أهل بيت العصمة والطهارة. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة العباس بن علي عليه السلام قوله:
 
 
 

1- أصول الكافي،ج2،ص16.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

197

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 "سلام الله وملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين...عليك يا ابن أمير المؤمنين...أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء...أشهد أنك قتلت مظلوماً وأنّ الله منجز لكم ما وعدكم...وأشهد أنك مضيت إلى ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله...أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود...(ثم يقول سلام الله عليه) فبعثك الله في الشهداء وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً"1. وما كان ليصل الشهداء إلى هذه المنزلة الرفيعة لولا صبرهم وبصيرتهم كما يقول الإمام عليه السلام في بقية الزيارة: "وأشهد أنك لم تهن ولم تنكل، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين".

 
ونقرأ في زيارة الإمام الصادق عليه السلام للشهداء أيضاً: "السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّائه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه، السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيّه وأنصار أمير المؤمنين عليه السلام وأنصار فاطمة سيدة نساء العالمين"2. وهكذا يرتقي الشهيد ليفوز الفوز العظيم، وليكون مدرسة للمريدين والتائقين إلى لقاء الله ومجاورة الأنبياء والصدّيقين.
 
 
 

1- مفاتيح الجنان، زيارة العباس بن علي عليه السلام.
2- مفاتيح الجنان، زيارة الحسين في يوم عرفة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

198

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 التآسّي الدائم بالإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:

إن للقدوة والأسوة الحسنة في الحياة الأثر البالغ والعميق في تحديد الوجهة والخيارات التي ينبغي أن يتّخذها الإنسان لنفسه ويعمل عليها، خصوصاّ إذا كانت هذه الخيارات مصيريّة ومفصليّة في الحياة وعليها يتأسس بنيان الإنسان. قال الله تعالى ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً﴾1، فالأمر الإلهي واضح وصريح بضرورة التأسّي بفكر ونهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر. هذا الفكر الذي عماده توحيد الله كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"2، ونهجه الجهاد والتضحية في سبيل الله "سياحة أمّتي الجهاد"3. هذا الفكر والنهج الذي تجسّد بأجلى صوره وأسمى آياته في بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم بشأنه "أنا من حسين وحسين منّي"‏4، حيث كان سلام الله عليه مجمعاً للتوحيد والجهاد والذي ظهر بشكله العملي في كربلاء ليرسم معالم الطريق لسالكي درب الشهود والحضور في محضر الله تعالى، درب اللقاء بالمحبوب الأوحد الذي إليه تهفو قلوب الصادقين، وأفئدة المريدين. فغدت كربلاء مدرسة ينهل من معينها كل تائق للقاء الله والخلاص من أسر هذا السجن الفاني والجسد البالي، وبالتالي صار الترجمان العملي والتطبيق الواقعي لرسالة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم متجسّداً في الإمام الحسين عليه السلام وكربلاء.
 
فعندما ندقّق في كل موقف من مواقف كربلاء، وفي كل مشهد من مشاهدها، وفي كل حادثة من حوادثها نجد أن ما يجمعها جميعا هو الحبّ الخالص لله 
 
 
 

1- الأحزاب،21.
2- بحار الأنوار،ج18،ص202.
3- مستدرك الوسائل،ج11،ص14.
4- بحار الأنوار،ج43،ص296.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

199

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 ولوليه الممزوج بفرحة لقاء الله. هذا الحب الذي حوّل الموت عند الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه إلى سعادة لا تضاهيها سعادة "إني لا أرى الموت إلا سعادة"1، حتى غدا الموت عندهم أحلى من العسل، كما كان حال أصغرهم؛ القاسم بن الحسن عليهما السلام عندما سأل إمامه مستفهماً: "...وأنا فيمن أقتل؟ فأشفق عليه الإمام عليه السلام وقال له: يا بني كيف الموت عندك؟ فقال القاسم بن الحسن: يا عمّ أحلى من العسل!"2

 
وعندما أذن الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه بالانطلاق وجعلهم جميعاً في حلّ من أمرهم، وأن ليس عليهم أدنى حرج منه ولا ذمام طالما أن الأعداء لا يطلبون غيره، كيف كان ردّ فعلهم؟! وبماذا أجابوا إمامهم؟! وبأي حال توجهوا إليه سلام الله عليهم أجمعين؟!
 
ينتفض مسلم بن عوسجة من مكانه بعد سماع كلام إمامه ويقول: "والله لو علمت أني أقتل ثم أحيى ثم أحرق ثم أحيى ثم أحرق ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي من دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا. ثم قام زهير بن القين رحمه الله وقال: والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا الف مرة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت"3
 
فأي روح هي هذه التي كانت تسكن جنبات هؤلاء النجباء والأصفياء الذين عندما بشرهم إمامهم بالموت والقتل حمدوا الله وشكروه على هذه الكرامة والمنزلة!! إنها باختصار روحية الإستشهاد وتمني الموت التي يقول الباري عزّ 
 
 
 

1- بحار الأنوار،ج44،ص19.
2- مدينة العاجز، السيد هاشم البحراني،ج4،ص215.
3- بحار الأنوار،ج44،ص392.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

200

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 وجل بشأنها ﴿قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ﴾1، فغدو بحقّ أولياء لله واستحقّوا قول إمامهم فيهم ومدحهم لهم: "اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحابا هم خير من أصحابي"2.

 

 
وهذا درس مهم لمن يريد السير على هدي هؤلاء الأصحاب الأوفياء الذين وبعد أن وجد سلام الله عليه فيهم العزم على ملاقاة الحتوف والرضا بالمقدور قام عليه السلام وبشّرهم: "إنّكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل، قالوا الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دعا فقال لهم: ارفعوا رءوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم هذا منزلك يا فلان فكان الرّجل يستقبل الرّمّاح والسّيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة"3. هو درس لنا جميعاً عنوانه أنّ من أراد الفوز في الدنيا والآخرة ما عليه إلا تحصيل روحية الاستشهاد، وعماد هذه الروحية هو تمنّي الموت ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ﴾، الموت الذي تعقبه الحياة الحقيقية، سواء على المستوى الفردي أو الإجتماعي لأن الشهيد بشهادته سوف يحيا بالحياة الحقيقية، وسوف يحيي أمّته ومجتمعه ويبثّ فيهما روح الأمل من جديد.
 
فكربلاء هي مدرسة لتعليم الشهداء وتخريج الشهداء، وقد أراد أهل بيت العصمة والطهارة من خلالها فتح باب الشهادة على مصراعيه ليغدو كل يوم من أيام الموالين لخط أهل البيت عليهم السلام عاشوراء، وكل أرض تقلّهم كربلاء. فطالما 
 
 

1- الجمعة،6. 
2- الأمالي، الشيخ الصدوق،ص 220.
3- بحار الانوار،ج44،ص298.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

201

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 أن أمر هذا الدين لن يستقيم إلا بالاندفاع نحو الموت والشهادة كما يندفع المرء للقاء أحبّته دون تردّد أو وجَلٍ فمرحىً به "إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"1، لأن أعداء الدين والإنسانية كان سلاحهم على الدوام تخويف الناس بالموت وحرمانهم من نعمة الحياة الغالية على قلوبهم، وما من سلاح فتّاك يمكن أن يواجه تثبيط الأعداء وتخويفهم إلا سلاح الشهادة وحب الموت في سبيل الله. 

 
فمن كان يرغب بالانتساب إلى هذه المدرسة الحسينية والتزود من علومها، عليه الجلوس على مقاعدها متعلماً ومتأسياً وعاملاً لعله يوفّق في نهاية المطاف ليكون في ركب من أنعم الله عليهم ووفقهم لتلبية نداء حجّة الله في الأرض عجل الله تعالى فرجه الشريف بصدق ووفاء، هذا النداء الذي صدح في كربلاء في وما يزال يصدح في كل زمان ومكان "هل من ناصر ينصرنا". هذا النداء الذي ما زال غضاً طرياً في هذا العصر أيضاً، وباب التلبية فيه مفتوح لمن حاز على روحية الشهادة حتى استحوذت على كل كيانه ووجوده.
 
 
 

1- معالم المدرستين،ج3،ص303.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

202

الدرس الرابع عشر: طريق الشهادة

 المفاهيم الرئيسية

1- منّ الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام بأن شرّع لنا باب القتل في سبيل الله.

2- الشهادة في حقيقتها تشكّل ثمرة الجهاد الناضجة والتي يبحث عنها المجاهد ويطلبها حثيثاً.

3- مع شهادة الإمام الحسين عليه السلام صارت كربلاء هي المكان أبداً وصارت عاشوراء هي الزمان دوماً.

4- إن نيل مقام الشهادة والقتل في سبيل الله له شروط ومقدمات لا بد من تحقّقها.

5- يعتبر القرآن الكريم أن تمنّي الموت هو دليل على المحبّة والولاية لله سبحانه وتعالى وهو شرط الشهادة الأول.

6- من أراد أن يسلك درب الشهداء ويتّبع سبيلهم عليه إلا أن يصحّح علاقته بالدنيا ونظرته إليها وأن يقلع عن طلبها وحبّها.

7- المنزل الأوّل والمقدمة الأساسية لطلب الشهادة يكمن في تطهير النيّة وصبغها بالصبغة الإلهية.

8- من أراد الفوز في الدنيا والآخرة ما عليه إلا تحصيل روحية الاستشهاد، وعماد هذه الروحية هو التأسّي بالإمام الحسين عليه السلام وأصحابه النجباء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

203

المحور السادس: أحكام المجاهد (وفق فتاوى الإمام الخامنئي دام ظله)

 المحور السادس: أحكام المجاهد (وفق فتاوى الإمام الخامنئي دام ظله)


أهداف المحور السادس:
- التعرّف على نبذة من أحكام الجهاد والمجاهدين الابتلائية.
- التعرّف على نبذة من الأحكام العبادية التي هي مورد حاجة لدى المجاهدين.
- التعرّف على بعض أحكام الميت والغسل والتكفين.
- التعرّف على أهم أحكام السفر الشغلي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

204

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 الدرس الخامس عشر: الجهاد


أهداف الدرس:
- التعرّف على حكم الجهاد والدفاع عن النفس.
- التعرّف على أحكام المجاهد العبادية في ساحة الجهاد.
- التعرّف على أحكام الشهيد والعمليّات الاستشهادية.
- التعرف على أحكام الحراسة والمراقبة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

205

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 وجوب الجهاد: 

- الجهاد واجب كفائي إذا قام به البعض ممنّ به الكفاية سقط عن الجميع، وإذا لم يقم به أحد أو قام به من ليس به الكفاية دون الآخرين عُوقب المتخلّف عنه. 

- يجب على جميع المكلّفين الدفاع عن دين الله (الإسلام)، ونظام الدولة الإسلاميّة بأيّ نحو ممكن، ولا يشترط في ذلك إذن المجتهد أو غيره. 

- يجب على كلِّ مكلّف التعلّم على السلاح وفنون القتال بما يتناسب وزمانه ومكانه.

- لا يجب الاستئذان من الوالدين في الجهاد الدفاعي وإن لم يرضيا بذلك، ولكن مع ذلك ينبغي له السعي في تحصيل رضاهما مهما أمكن.

- لا يجوز الفرار من الجهاد في أي ظرف كان، ولا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

206

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 الانسحاب من ساحة المعركة إلا بعد أخذ الأوامر من القيادة. 

 
الدفاع عن النفس: 
- يجوز للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله وعرضه من العدو أو اللصّ. 
 
- يجب الدفاع بأيّ وسيلة ممكنة حتىّ لو أدّى ذلك الدفاع إلى قتل المهاجم، نعم لو كان الهجوم على ماله أو مال عياله يجوز له الدفاع وإن كان غير واجب. 
 
- الأحوط وجوباً في مجال الدفاع عن النفس أن يبدأ في الدفاع مقدِّماً الأيسر فالأيسر، فلا يصل مباشرة إلى مرحلة القتل. 
 
أحكام المجاهد: 
- يجب على المجاهد الالتزام بكافّة الواجبات الشرعيّة من الصلاة والصيام وترك المحرّمات. 
 
- يجب على المجاهد الالتزام بكافّة مقررات القيادة ممّا يساعد في استمرار الإسلام وحفظه وصيانته. 
 
- لا يجوز نقل وبث وذكر المعلومات والخطط والأسرار المتعلّقة بالعمل الجهادي مهما كان نوع وحجم تلك المعلومات، والخطط والأسرار، وعبر أيّ وسيلة كانت ولأيّ شخص كان. 
 
- لو أدّى نقل المعلومات إلى أثرٍ ما على المسيرة الجهاديّة أو كان سبباً في استشهاد أو جرح بعض المجاهدين، فإنَّ ذلك يعدّ مشاركةً في إراقة دمائهم. 
 
- لا يجوز إخفاء المعلومات التي تتعلّق بالعمل الجهادي عن الجهات المعنيّة سواء طلبت تلك الجهات هذه المعلومات أم لم تطلبها من الذين يمتلكونها، بل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

207

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 يجب على كلّ من توافرت لديه معلومات تتعلّق بالعمل الجهادي، وحفظ المسيرة الجهادية أن يبلّغها للجهات المختصّة. 


حكم العمليات الاستشهادية: 
- يجوز القيام بالعمليات الاستشهادية في مواجهة الأعداء، وهي نوع من أنواع العمليات العسكريّة، و تمثّل أعلى درجات التضحية في سبيل الله تعالى.
 
- يجب القيام بالعمليّات الاستشهاديّة إذا توقّف الدفاع عن الإسلام والمسلمين عليها. 

- لا تعتبر العمليات الاستشهادية انتحاراً، وإن صدق عليها أن المجاهد هو من يقدم على الموت بنفسه من دون مواجهة في ساحة القتال.

- المجاهد الذي يسقط في العمليات الاستشهادية هو شهيد، وتجري عليه جميع أحكام الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة (بالشروط المذكورة)، فلا يغسل، ولا يكفن، بل يصلى عليه، ويدفن. 

- قرار القيام بالعمليات الاستشهادية يرجع إلى القيادة. 

أحكام الشهيد: 
- أرض المعركة: هي المنطقة الجغرافية التي تحصل فيها الحرب وتمتد نيرانها إليها.
- الشهيد الذي لا يُغسَّل ولا يُكفّن هو الذي يُقتل في أرض المعركة:
1- أثناء اشتعال نار الحرب.
2- أن لا يدركه المسلمون حياً.
3- أن يكون ذلك بإذن الإمام عليه السلام أو نائبه الخاص أو العام في عصر الغيبة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

208

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 الكبرى(الولي الفقيه). 


- الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة (بالشروط المذكورة) لا يجب تغسيله، ولا تكفينه مهما كان نوع العمل الذي يقوم به (تبليغ، دعم، رصد، زرع ألغام، كمين...إلخ). 

- تجب الصلاة على الشهيد الذي يسقط في أرض المعركة (بالشروط المذكورة) وإن لم يجب تغسيله وتكفينه. 

- مسّ بدن الشهيد الذي سقط في أرض المعركة (بالشروط المذكورة) لا يوجب غسل مسّ الميت. 

- الناس الذي يسقطون أثناء الحرب في المدن والقرى هم شهداء، ولكن لا تجري عليهم أحكام الشهيد. 

التصرّف في ممتلكات الآخرين: 
- يجوز التصرّف في أموال وممتلكات الآخرين في الموارد التالية: 
- إذا توقّف الدفاع عن الإسلام والمسلمين على التصرّف في أموال وممتلكات الآخرين، بل حينئذ يكون واجباً سواء أكان في أرض المسلمين أم أرض العدو. 
- يجوز التصرّف إذا كان كفّ يد العدو متوقّفاً على ذلك، كأن يكون العدو متواجداً في مكان ما ولا يمكن مواجهته إلا من خلال استخدام أحد المنازل أو الأراضي. 
- يجوز التصرّف عند الضرورة كإجراء كمين، أو الحاجة إلى الطعام والشراب كالدخول إلى المحال التجارية والاستهلاكيات لأخذ شيء من المواد الغذائية. 
- جواز التصرّفات المذكورة منحصرٌ بحالة الضرورة ومقدارها، ويكون ضامناً لما يُتلف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

209

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 أحكام الحراسة: 

- تعتبر الحراسة من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها من بهم الكفاية سقطت عن الآخرين، وإذا انحصرت في أشخاص بعينهم وجبت عليهم عيناً.

- تجب الحراسة في ثغور الجهاد إذا توقّف على الحراسة حفظ المجاهدين والمؤسسات والمعدات العسكرية.

- تستحب الحراسة في ثغور الجهاد بالنسبة للأشخاص الذين لا تجب عليهم عيناً. 

- يجب الالتزام بكافة أنظمة ومقررات وضوابط الحراسة التي تقرها الجهات المعنية.

- لا يجوز ترك الحراسة إلا بعد الإذن المباشر من المسؤول لكي لا يحصل الضرر على المجاهدين والمؤسسات والمعدات العسكرية.

- الحراسة شعبة من شعب العمل جهادي، وللحارس الأجر والثواب الذي يأخذه المجاهد، وإذا سقط في أرض المعركة (بالشروط المذكورة) أثناء اشتعال نار الحرب تجري عليه أحكام الشهيد. 

أحكام المرابطة: 
- تعتبر المرابطة من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها من بهم الكفاية سقطت عن الآخرين، وإذا انحصرت في أشخاص بعينهم وجبت عليهم عيناً.

- تعتبر المرابطة في ثغور الجهاد من المستحبات الأكيدة في العمل الجهادي بالنسبة للأشخاص الذين لا تجب عليهم عيناً.

- يجب الالتزام بكافة مقررات وضوابط المرابطة التي تحدّد وتقرّ من قبل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

210

الدرس الخامس عشر: الجهاد

 الجهات المعنية.


- لا يجوز ترك المرابطة إلا بعد الإذن المباشر من المسؤول لكي لا يحصل الضرر على المجاهدين والمؤسسات العسكرية. 

- تعتبر المرابطة شعبة من شعب العمل جهادي، فللمرابط الأجر والثواب الذي يأخذه المجاهد، ولو سقط المرابط شهيداً في أرض المعركة (بالشروط المذكورة) جرت عليه كافّة أحكام الشهيد. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

211

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد


أهداف الدرس:
- التعرّف على أحكام الطهارة في ساحة الجهاد.
- التّعرّف على أحكام الصلاة الابتلائية في ساحة الجهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

212

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 القسم الأول: الطهارة الابتلائية: 


وضوء الجبيرة: 
- إذا كانت الجبيرة على بعض أعضاء الغسل في الوضوء، فهنا صورتان: 
- إن أمكن نزعها أو إيصال الماء إلى العضو ولو من دون النزع وجب ذلك. 
- إن لم يمكن نزعها ولا إيصال الماء إلى العضو يكفي المسح على الجبيرة بنداوة الوضوء.
- إذا كانت الجبيرة على بعض أعضاء المسح فهنا صورتان: 
- إن أمكن نزع الجبيرة ومسح ما تحتها وجب ذلك.
- إن لم يمكن ذلك مسح على الجبيرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

213

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 التيمّمم ومراتبه: 

المرتبة الأولى: التيمّم بالصعيد: وهو مطلق وجه الأرض (أي كلّ ما يعدّ أرضاً)، منه: التراب، الصخور، الرمل، الأحجار، الكلس، الجص1، المدر2، الآجر3، والخزف4، الوحل المجفف.


المرتبة الثانية: الغبار المجمّع: لو فقد ما يتيمّم به من المرتبة الأولى يتيمّم بغبار الأرض بعد جمعه، كالغبار الموجود على ثوبه أو فراشه.


المرتبة الثالثة: ظاهر ذي الغبار: إذا لم يستطع المكلّف جمع الغبار يتيمّم على ما يكون على ظاهره غبار الأرض، ضارباً على ذي الغبار.


المرتبة الرابعة: الوحل: مع فقد الغبار يتيمّم بالوحل، ولو تمكّن من تجفيفه وجب ذلك وإلا تيمّم بالوحل. 
 
ويوجد هنا مسائل: 
- لا يجوز الانتقال إلى المرتبة الدنيا إلا بعد فقدان المرتبة التي قبلها. 
- لو فقد المجاهد جميع هذه المراتب يصير فاقد الطهورين، أي كان غير متمكّنٍ من الوضوء والتيمّم، فالأحوط وجوباً الصلاة في الوقت من دون وضوء وتيمم، ثم القضاء مع الوضوء أو التيمم.
- يشترط فيما يتيمّم به أن يكون طاهراً ومباحاً، فلا يصح التيمّم على النجس أو على المغصوب. 
 
 
 

1- الجص: وهو الجفصين. 
2- المدر: هو الطين اليابس الذي لا يخالطه رمل. 
3- الآجر: وهو القرميد، ومنه الحجارة التي تستعمل في بناء بيوت النار في الأفران. 
4- الخزف: وهو نوع من الفخار. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

214

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 كيفيّة التَّيمُّم: 

أوّلاً: أن يضرب باطن الكفّين على ما يصحّ التَّيمُّم به دفعةً واحدة. 
ثانياً: أن يمسح تمام الجبهة والجبينين بباطن الكفّين بدءاً من منبت شعر الرَّأس إلى طرف الأنف الأعلى والحاجبين.
ثالثاً: أن يمسح تمام ظاهر كفّ اليد اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن كفّ اليد اليسرى، ثمّ يمسح تمام ظاهر كفّ اليد اليسرى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن اليد اليمنى.
رابعاً: أن يضرب باطن الكفّين مرّة ثانية على الأرض دفعة واحدة، ويمسح اليدين فقط كما تقدّم على الأحوط وجوباً.

القسم الثاني: الصلاة الابتلائية: 
أحكام عامة للصلاة: 
- تجوز الصلاة في ملك الغير حال الضرورة كالخوف من العدو أو أثناء اشتعال المعركة، أو التواجد في كمين...إلخ.

- لا تجوز الصلاة بالحذاء (العسكري وغيره) إلا في حال الضرورة كالخوف من العدو أو عدم إمكانية نزعه بسبب ظروف العمل العسكري.

- يجب أن يكون موضع سجود الجبهة طاهراً، وأمّا باقي أمكنة أعضاء السجود فلا يشترط أن تكون طاهرة بشرط أن لا يكون فيها نجاسة مسرية إلى باقي المساجد الستّ كلاً أو بعضاً. 

- مع عدم إمكان الصلاة في مكان طاهر تصح الصلاة ولو مع وجود نجاسة مسرية. 

- إذا لم يتمكّن المجاهد من الصلاة قائماً فيصلي بأيّ نحو تقتضيه الضرورة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

215

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 من الجلوس أو الاضطجاع أو الاستلقاء وتكون صلاته صحيحة ومجزية. 

 
- إذا لم يتمكّن المجاهد من قراءة السورة أو الفاتحة أو لم يتمكن من الركوع أو السجود أثناء صلاته بسبب اشتداد المعركة، فيجب عليه أن يعمل طبقاً لوظيفته المقررة في صلاة المضطرّ فيأتي بالأجزاء التي يتمكن منها في الصلاة. 
 
أحكام القبلة: 
- إذا تعذّر على المجاهد معرفة القبلة يبذلُ تمام جهده لإحرازها وإلا يعمل على ظنِّه. 
- في حالة الجهل بجهة القبلة، ولم يحصل ظنّ بأي جهة اتجاه القبلة يجب على الأحوط وجوباً أن يصلّى إلى الجهات الأربع مع سعة الوقت لأداء الصلاة إلى أربع جهات، وإن لم يسع الوقت لأداء الصلاة إلى الجهات الأربع، يصلّي إلى الجهات المحتملة لاتجاه القبلة بما يسع الوقت.
 
ما يعفى عنه في الصلاة: 
الأوّل: دم الجروح والقروح1 حتّى تبرأ: 
- يُعفى في الصلاة عن دم الجروح والقروح(كدم البواسير) في البدن واللباس حتّى تبرأ، قليلاً كان الدم أم كثيراً إذا لم يتمكن المكلّف من تبديل ثيابه أو تطهيرها. 
 
الثاني: الدم الأقلّ من سعة عقد السبّابة: 
- يُعفى في الصلاة عن الدم في البدن واللباس إن كان مقداره أقلّ من عقد السبّابة2
 
 
 

1- القروح: جراح باطنيّة، تنزف إلى الخارج، كالبواسير، والتقّرحات.
2- السبّابة: الإصبع التي بجانب الإبهام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
254

216

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 - إذا كان الدم متفرّقاً في الثياب والبدن(أي نقاط متفرّقة تارة على اليد وأخرى على السروال وهكذا) يمكن تقديره على الشكل التالي: 

أ- إن كان مقدار الدم أقلّ من سعة عقد السبّابة، فإنّه يُعفى عنه في الصلاة.
ب- وإن كان الدم أزيد من ذلك (أي بمقدار عقد السبّابة وأزيد)، فلا يُعفى عنه في الصلاة. 

الصلاة في النجاسة: 
- إذا شك المجاهد في لباسه أنّه نجس أم لا، فيحكم بطهارته، ويصح أن يصلّي فيه.
- أحكام الصلاة في النجاسة تشمل البدن والثياب، أي سواء أكان بدنه نجساً أمّ ثيابه تجري عليهما كافة أحكام النجاسة الآتية. 

- إذا صلّى المجاهد مع النجاسة متعمداً بطلت صلاته، ووجب عليه إعادة الصلاة، سواء أكان داخل الوقت أم خارجه.

- إذا صلّى المجاهد مع النجاسة ناسياً بطلت صلاته أيضاً، ووجبت عليه الإعادة، سواء أكان داخل الوقت أم خارجه.
- إذا صلّى المجاهد مع النجاسة جاهلاً بها (أي لم يكن يعلم بها أصلاً)، ثمّ التفت بعد الفراغ من صلاته فصلاته صحيحة. 

- إذا بدأ المجاهد بأداء الصلاة ثمّ تبين أثناء الصلاة أن على بدنه أو ثيابه نجاسة، فهنا ثلاث حالات: 
- إذا كان بإمكانه إزالة النجاسة من دون أن يقطع الصلاة أو يأتي بما يمحي صورة الصلاة، وجب عليه إزالة النجاسة وإكمال الصلاة، مثلاً ينزع قميصه أثناء الصلاة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

217

الدرس السادس عشر: أحكام عبادة المجاهد

 - إذا لم يتمكن من إزالة النجاسة، وكان لديه متسع من الوقت للصلاة، وجب عليه قطع الصلاة ،وإعادتها من جديد. 


- إذا لم يتمكن من إزالة النجاسة، ولا يستطيع تبديل ثوبه، ولا قطع الصلاة لخوف عدوٍّ مثلاً، ولا يمكنه الصلاة عرياناً، يصلى بالنجاسة، وصلاته صحيحة، ولا تجب عليه الإعادة. 

- إذا كان للمجاهد ثوبان واشتبهت النجاسة بينهما يكرر الصلاة بهما مع سعة الوقت، وإن لم يسع الوقت، فإذا أمكن ان يصلّي عرياناً وجب، وإلا فإذا لم يستطع تكرار الصلاة لضرورةٍ كخوفٍ من العدو ولشدة المعركة صلّى بواحدٍ منهما (الثوبين) وصلاته صحيحة ولا شيء عليه.

- الأحذية العسكرية المصنوعة من الجلود الحيوانية والمستوردة من بلاد غير إسلامية لها ثلاثُ صور: 
- إذا علم أنها غير مذكّاة (المذكى هو المذبوح على الطريقة الإسلاميّة) فهي محكومة بالنجاسة، ولا تجوز الصلاة فيها. 
- إذا شك أنها مذكّاة حكم بطهارتها، ولكن لا تجوز الصلاة فيها.
- إذا احتمل أن مستوردها المسلم قد أحرز تذكيتها حكم بطهارتها، وتجوز الصلاة فيها، وإلا وجب الاجتناب عنها. 
- إذا شك المجاهد في شيء أنّه من أجزاء الحيوان أو من غيره (كالصناعي) فهو محكوم بالطهارة، ولو كان من الكفار أو من أسواقهم، وتصحّ الصلاة فيه.
- إذا كان المجاهد في أرض المعركة ينزف بسبب جرح قد أصابه، فإذا كان في تطهير النجاسة مشقة نوعيّة (عند كلّ الناس) أو شخصيّة (على المجاهد نفسه) يجوز له الصلاة بالنجاسة، وصلاته صحيحة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

218

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 الدرس السايع عشر: أحكام الأموات


أهداف الدرس:
- التعرّف على أحكام الاحتضار.
- التعرّف على أحكام تجهيز الميت.
- التعرّف على أحكام صلاة الميت ودفنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

219

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 الاحتضار واجباته ومستحبّاته:

- يجب على الإنسان الذي ظهرت عليه أمارات الموت القيام بالأمور التالية: 
- التوبة والاستغفار لله سبحانه وتعالى. 

- إفراغ ذمته من كافة الحقوق المتعلّقة بها، سواء أكانت تلك الحقوق هي لله سبحانه وتعالى كالصلاة أو الصيام، أو للناس كالديون، بأن يوصي بأدائها حال حياته وإلّا يوصي بها لمن يثق ويطمئن بأدائها بعد موته. 

- يجب عليه ردّ الأمانات التي عنده إلى أصحابها أو الإيصاء بها إلى شخص يطمئن بأنّه سوف ينفِّذُ وصيته بها. 
- يجب عليه الإيصاء بالواجبات المترتّبة عليه، كأن كان عليه صلاة قضاء أو صيام أو غيرها من الواجبات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

220

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 الشرعية كالخمس. 

 
- الأحوط استحباباً توجيه المحتضر المسلم البالغ و الصغير إلى القبلة، وكيفيّة توجيهه: بأن يُلقى الميت على ظهره، ويجعل باطن قدميه إلى القبلة، بنحوٍ لو جلس يكون وجهه إلى القبلة. 
- يستحبّ تلقينه الشهادتين، والإقرار بالأئمة الإثني عشر عليهم السلام، والعقائد الحقّة، ويستحب أن يكرّر له ذلك إلى أن يموت. 
 
- يستحب قراءة القرآن الكريم عند المحتضر، وبالخصوص قراءة سورتي الصافات ويس وسورة الأحزاب لتعجيل راحته. 
 
أحكام الميّت
وهي الأحكام التي وضعتها الشريعة الإسلاميّة للميّت، حيث إنَّه يجب وجوباً كفائياً1 بعد موت الإنسان المسلم القيام بالأمور التالية:
 
أوّلا: غسل الميّت: 
- يجب وجوباً كفائيّاً تغسيل كلّ ميّت مسلم. 
- القطعة المنفصلة عن الميّت: القطعة المنفصلة عن الميّت يجب غسلها في صورتين فقط: 
أ- إذا كانت القطعة المنفصلة عن الميت فيها لحم وعظم، ولم تشتمل على الصدر، يجب غسلها، ولفّها بخرقة، ودفنها. 
ب- إذا كانت تلك القطعة صدراً، أو بعض الصدر من جهة القلب (وإن لم يكن
 
 

1- الوجوب الكفائي: وهو الوجوب المخاطب به جميع المسلمين، ولكن لو قام به من المسلمين من بهم الكفاية سقط عن الباقين، وإلا أثم الجميع. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

221

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 القلب موجوداً) فيجب غسلها، ثمّ تكفّن ويصلَّى عليها وتدفن، وإن كانت مشتملة على بعض المساجد السبعة يجب تحنيطه كأن يوجد فيها يد مثلاً.

 
- الأحوط وجوباً إلحاق القطعة المنفصلة عن الحي بالقطعة المنفصلة عن الميت في جميع أحكام الميت، فلو انفصل عن الحي يدٌ مثلاً تشتمل على لحم وعظم، فإنه يجب غسلها، ولفها بخرقة، ودفنها. 
 
كيفيّة غسل الميت: 
- كيفيّة غسل الميّت هي نفسها كيفيّة غسل الجنابة، فيغسل الرأس والرقبة، ثمّ الجانب الأيمن، ثمّ الجانب الأيسر. 
 
- يجب تغسيل الميت ثلاثة أغسال: 
الأول: الغسل بماء السدر1: أي أن يخلط مع الماء شيء من السدر. 
الثاني: الغسل بماء الكافور2: أي أن يخلط مع الماء شيء من الكافور. 
الثالث: الغسل بالماء الخالص: هو الغسل بالماء الخالص من دون خلطه بشيء مطلقاً. 
 
أحكام عامّة لغسل الميّت: 
- يجب إزالة النّجاسة عن بدن الميّت في حال وجودها.
- يجب في الأغسال الثلاثة للميّت أن يتم إيصال الماء إلى تمام بدن الميّت، ومع وجود الحاجب يجب إزالته، ولكن إذا لم يتمكن من إزالة الحاجب يغسله مع وجود الحاجب، ولكن يضيف إليه التيمّم بدلاً عن كل غسل من الأغسال الثلاث (أي ييمّمه ثلاث مرات).
 
- إذا كان جسد الميت ينزف بسبب جرح أو إصابة أو عمليّة جراحيّة، يجب الانتظار إلى أن يتوقّف النزيف، وإذا لم يمكن الانتظار، يمكن وضع شيء مانع
 
 
 

1- السدر: وهو شجر النبق، ويراد به هنا الورد المطحون. 
2- الكافور: هو طيب، يكون في أجواف شجر، خشبه أبيض. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

222

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 للنزيف، وإذا لم يتمكن حتى من وضع شيء مانع للنزيف فييمّمه بدلاً عن الغسل ثلاث مرات.


- إذا فقد السدر أو الكافور أو كليهما، يغسل بالماء الخالص بنيّة البدلية عن الخليط المفقود (السدر والكافور)، بمعنى أن يغسله بالماء الخالص بدلاً عن الغسل بماء السدر، ثم يغسله بالماء الخالص بدلاً عن الغسل بماء الكافور.

- إذا فقد الماء للغسل يُمّم الميت ثلاثة تيمّمات بدلاً عن الأغسال الثلاث على الترتيب المذكور سابقاً في الأغسال، ويكون التيمّم بيدي الميت، فيمسك الحي يدي الميت ويضرب بهما على ما يصح التيمم عليه، ثمّ يمسح له جبهته إلى طرف الأنف الأعلى، ثمّ يسمح يديه، ثمّ يضرب له يديه مرّة ثانية ويسمح بهما يديه مرّة أخرى على الأحوط وجوباً، وإذا لم يمكن ذلك ييمّم الميت بيدي الحي، أي يقوم الحي بضرب يديه على الأرض، ثمّ يمسح جبهة الميت إلى طرف أنفه الأعلى، ثمّ يمسح له يديه، ثمّ يضرب الحي يديه مرّة ثانية على الأرض، ويمسح يدي الميت مرة أخرى على الأحوط وجوباً. 

- إذا كان جسد الميت متضرراً كأن كان محروقاً، ولا يمكن غسله، يمُم بدلاً عن الغسل ثلاث مرات بالترتيب المذكور، فييمّم بدلاً عن الغسل بماء السدر، ثمّ بدلاً عن الغسل بماء الكافور، ثمّ بدلاً عن الغسل بالماء الخاص. 

- لو تنجّس بدن الميت بعد الغسل أو في أثنائه لا يجب إعادة غسله بل يكفي تطهير موضع النجاسة.

ثانياً: الحنوط: أحكامه وكيفيّته:
- يجب تحنيط الميّت المسلم، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى.
- يجب تحنيط القطعة المنفصلة عن الميّت إذا كانت تشتمل على بعض 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

223

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 أعضاء الحنوط كاليد إذا كان فيها كف، وهكذا القطعة المنفصلة عن الحي على الأحوط وجوباً. 


- لو فُقد الكافور يدفن الميت دون أن يحنّط.
- كيفيّة الحنوط: هو أن يمسح بالكافور على مواضع السجود السبعة4، وأما المسح فهو بأي طريقة كانت، ولكن بشرط أن يبقى أثر للكافور على مواضع المسح السبعة. 

ثالثاً: تكفين الميّت:
يكفّن الميت بثلاثة أثواب، وهي: 
- الثوب الأول: المئزر: وهو يستر ما بين السرّة والركبة. 
- الثوب الثاني: القميص: وهو يستر من الكتفين(المنكبين) تحت الرأس إلى نصف الساق من الأمام والخلف معاً. 
- الثوب الثالث: الإزار: وهو يستر تمام بدن الميت من أعلى الرأس إلى أسفل القدمين على أن يكون زائداً على الجسد، أمّا عرضاً فبمقدار يمكن وضع أحد جانبيه على الآخر من طرفيه، ويلّف على الميت بحيث يستر جميع بدنه، وأمّا طولاً فبمقدار يكون زائداً على طول الجسد. 

أما عن كيفيّة التكفين بعد توفّر الأثواب الثلاثة، فيتمّ أولاً إلباس الميت المئزر، ثمّ القميص، ثمّ بعد ذلك الإزار، ثمّ يجمع الإزار من الأعلى ومن الأسفل. 

أحكام عامة للتكفين: 
- إذا تنجّس الكفن قبل التكفين، وجب تطهيره أو تبديله، وإذا لم يمكن ذلك يقصّ ذلك الجزء المتنجّس بشرط أن يبقى الكفن ساتراً للميّت. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

 


224

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 - إذا تنجس بعد التكفين قبل وضعه في القبر أو بعد وضعه في القبر، ولكن قبل الدفن يأتي الحكم السابق.

- إذا علم بالنّجاسة بعد الدفن، ووضع الميت في قبره، وإهالة التراب عليه، فلا يجوز نبش القبر. 
- مع عدم إمكانية التطهير أو التبديل أو قصّ الكفن يُدفن الميت بالكفن النجس. 

رابعاً: الصلاة على الميّت: 
- يجب وجوباً كفائيّاً الصلاة على الميّت المسلم بعد غسله، وتحنيطه، وتكفينه.
- تجب الصلاة على أجزاء الميّت، إذا كانت صدراً أو مشتملة على الصدر، أو بعض الصدر من جهة القلب وإن لم يكن القلب فيه وإلا فلا تجب.
- لا تجب الصلاة على القطعة المنفصلة عن الحي، كما لو قطعت يده أو قدمه. 

شرائط الصلاة على الميت: 
يشترط في الصلاة على الميت عدة شروط هي:
- نيّة القربة لله تعالى، تعيين الميت.
- استقبال القبلة.
- الصلاة عن قيام.
- وضع الميت أمام المصلّي. 
- عدم وجود حائل بين الميت والمصلي.
- عدم البعد المفرط بين الميت والمصلّي على وجهٍ لا يصدق الوقوف عليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

225

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 - عدم العلو بين الميت والمصلي.

- ستر عورة الميت إذا لم يكن له كفن.
- الأذكار والأدعية الواجبة. 

كيفيّة الصلاة على الميت: 
الواجب من صلاة الميت خمس تكبيرات بعد كلّ تكبيرة ذكر معين، وهي على النحو التالي: 
- التكبيرة الأولى: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّداً رسول الله). 
- التكبيرة الثانية: (اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد).
- التكبيرة الثالثة: (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات).
- التكبيرة الرابعة: (اللهم اغفر لهذا الميت(ة). 
- التكبيرة الخامسة: وبذلك يكون قد أنهى الصلاة. 

أحكام عامة لصلاة الميت: 
- لا يوجد في صلاة الميت أذان ولا إقامة ولا قراءة ولا ركوع ولا سجود ولا تشهد ولا تسليم.
- لا يشترط في الصلاة على الميت الطهارة من الحدث والخبث، ولا طهارة اللباس والبدن ولا إباحته. 

خامساً: الدفن: 
- يجب وجوباً كفائياً دفن الميت المسلم، ذكراً كان أم أنثى، ومن بحكمه كالمجنون. 
- عظم الميت الذي تمَّ تغسيله ليس بنجس، ويجب دفنه تحت التراب. 
- يجب دفن الأجزاء المنفصلة عن الميت، كالشعر والسنّ والظفر على أن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

226

الدرس السايع عشر: أحكام الأموات

 تدفن مع الميت إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن ذلك فلا إشكال في دفن لوحدها.


كيفيّة الدَّفن: 
يجب في دفن الميَّت عدَّة أمور، هي: 
- يجب وضع الميت في حفيرة من الأرض تحرسه من السباع والسيول، وتكتم رائحته على الأحوط وجوباً، فلا يجزي أن يوضع الميّت على سطح الأرض ويُبنى عليه، وما شابه ذلك. 
- يجب وضع الميت في قبره مستقبلاً القبلة، وذلك بأن يوضع على جانبه الأيمن كالشخص النائم على يمينه مستقبلاً القبلة، فيكون رأسه ووجهه وبطنه وصدره وباقي جسده باتجاه القبلة، ويستحب وضع خده الأيمن على التراب بعد كشف وجهه، ويعمل له وسادة من تراب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
268

227
التربية الجهادية