هُدىً وبشرى


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

9

المقدمة

13

الدرس الأول: تهذيب النفس

14

أعدى الأعداء

14

حقيقة النفس الأمّارة

16

مجاهدة النّفس وتزكيتها أساس الطريق

17

التخلّي عن الصفات الذميمة

19

التحلّي بالصفات الفاضلة

21

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

22

النميمة مرض قاتل

23

كيف نتعامل مع النمّام؟

24

آثار النميمة الدنيويـّة والأخرويـّة

25

إيَّاكم والكذب

25

لا تستخفّوا بألوان الكذب

26

عواقب الكذب وخيمة

27

نزّه لسانك عن القول الفاحش

27

كيف وُصِفَ الفاحش؟

29

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

30

حقّ السمع

30

نزّه سمعك عن الغناء

31

الغناء يُنبت النفاق في القلب

32

الغناء وعواقبه الوخيمة

33

العين نعمة أو نقمة!

34

طلائع القلوب

34

إيّاك والنظر المحرّم

35

آثار غضّ البصر

36

كيف تُعالج آفّة النظر؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

39

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

40

معنى الذنب

40

كبائر الذنوب وصغائرها

41

الذُّنوب كلُّها شديدة

42

اتّقوا المحقّرات من الذنوب

43

ما هي أسباب الذنوب؟

45

العلاج بالطهارة

47

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

48

آثار الذنوب

48

الفساد في الأرض

49

نزول العذاب الإلهي

50

حبط الأعمال في الدُّنيا

50

قساوة القلب

52

زوال النِّعمة

53

نقصان العمر

53

نسيان العلم

54

عدم استجابة الدُّعاء

54

عدم التَّوفيق للعبادة

55

الهزيمة العسكريَّة

57

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

58

آثار الذنوب في البرزخ

62

الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي

71

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

72

فضل الأصدقاء وأهمّية الصّداقة

73

من هم أصدقاء السوء؟

77

خير الإخوان

81

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

82

ما هي الأمانة؟

82

إنَّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات

84

الأمانة وأنواعها

85

آثار أداء الأمانة

86

لا تأتمن الخائن

87

ما هو كتمان السِّرِّ؟

87

إفشاء السرّ خيانة

88

إفشاء الأسرار العسكرية

89

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

90

خدمة النَّاس رحمة إلهيَّة

91

خدمة النَّاس هي خدمة الله‏

92

خدمة الناس أفضل الأعمال‏

93

كيف نخدم؟

94

الثّمار الطّيّبة لخدمة النّاس‏

99

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

100

حقيقة التدبير

101

أهميّة التدبير

102

ما المقصود من التدبير في المعيشة؟

102

التدبير في القرآن والسنّة

104

آثار حسن التّدبير

105

آثار سوء التّدبير

107

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

108

استراتيجية للحياة

108

نظّم أوقاتك

109

خطّط جيّداً

110

شاور الآخرين

112

كن حازماً في اتّخاذ القرارات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

112

اعمل بجدٍّ واجتهاد

115

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

116

الحرص على الكسب الحلال

117

آثار الكسب الحلال

117

إيّاك والكسب الحرام

118

كيف نستهلك المال؟

124

استثمار المال

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

المقدمة

 المقدمة

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد...
 
إنّ صدور التكليف من الله عزّ وجلّ ووصوله إلى المكلَّف، يجعل هذا التكليف منجّزاً بحقّه، فلو خالفه سوف يوجّه إليه السؤال: لماذا لم تمتثل التكليف؟ وبالتّالي سوف يُدان وسوف يكون مستحقاً للعقاب على تركه للطاعة. قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1، ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾2.
 
ونحن البشر نُدرك بعقولنا وبفطرتنا أنّ لهذا الكون خالقاً، هو الله تعالى، مفيض الوجود على جميع الموجودات، وهو مدبِّر أمر جميع المخلوقات والكائنات، والقاضي والآمر والناهي والفاعل لما يشاء في مملكة الوجود؛ لأنّه المالك الحقيقي لهذا الوجود: ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾3، لذا كان له حق العبادة والطاعة على مخلوقاته، ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾4ونحن منهم، عبيد مأمورون في ساحة سلطانه ومولويّته. بل إنّ سعادة الإنسان وكماله، وصلاح أمره وحلّ كل مشاكله منحصر بطريق طاعته وشكره: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾5. وفي المقابل إنّ شقاء الإنسان وهلاكه وخسارته وضياعه وخيبة أمله تكمن في ترك طريق الطاعة 




1 سورة الحجر، الآيتان 92 - 93.
2 سورة الصافات، الآية 24.
3 سورة آل عمران،الآية 189.
4 سورة نوح، الآية 3.
5 سورة النور، الآية 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

 والعبودية لله، وتحدّي سلطانه والتمرّد عليه وعصيانه: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا﴾1.

 
لذا كانت مسؤوليّاتنا تجاه الخالق سبحانه وتعالى بمثابة العهد الذي عهده الله إلينا، وهذا العهد الذي يرسم فيه الإنسان معالم الشكر والحمد على نعم الله وعطاءاته التي لا تنتهي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾2.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره : ...فلا بدّ للعبد أن يقوم بحق المولى إلى حده ويقوم بأدب العبودية الذي ذكره هذا الحديث حتى يعامله الحق تعالى شأنه باللطائف الربوبية كما يقول تعالى ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾3"4. وهذه المسؤولية بطبيعة الحال تتّسع باتساع مجالات التكليف الإلهي، والتكليف الإلهي مرتبط بجميع المجالات الحياتية وشتّى جوانبها، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ إِلَى أَنْ قَالَ فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَكُلُّ شَيْ‏ءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ حَتَّى الْأَرْشُ‏ فِي‏ الْخَدْشِ"5. وما هذه السعة والشمولية إلا لضمان حقّ العبودية والطاعة المطلقة لله عز وجل، فلا يلجأ الإنسان إلى غيره قيد أنملة ولا يكون عابداً لسواه ليحوز بذلك على رتبة الأولياء والصدّيقين بكل فخر واعتزاز، ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾6.
 
 
 
والحمد لله رب العالمين



1 سورة النساء، الآية 42.
2 سورة البقرة، الآية 172.
3 الإمام الخميني، آداب الصلاة، ص 313.
4 الإمام الخميني، معراج السالكين، مركز باء للدراسات والنشر، بيروت ، الطبعة الأولى2009، ص 224.
5 الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل،ج18، ص385، تحقيق ونشر مؤسسة أهل البيتعليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، الطبعة الأولى المحققة، 1988م، باب ثبوت أرش الخدش...، ح3.
6  سورة الأنفال، الآية 34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

الدرس الأول: تهذيب النفس

 الدرس الأول: تهذيب النفس

 
 
 
النصّ القرآنيّ:
قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾1
 
 
 
النقاط المحوريّة:
• أعدى الأعداء.
• حقيقة النفس الأمّارة.
• مجاهدة النّفس وتزكيتها أساس الطريق.
• التخلّي عن الصفات الذميمة.
• التحلّي بالصفات الفاضلة.



1  سورة الشمس، الآيات 7 - 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

الدرس الأول: تهذيب النفس

 أعدى الأعداء

عندما يُشمّر الإنسان عن ساعد الهمّة، ويعقد النيّة على اتّباع طريق الحقّ وسلوك درب الآخرة ولقاء المحبوب الأوحد والكمال المطلق، وينزل إلى ساحات العمل والجهاد، فإنّه سيصطدم بمجموعةٍ من الموانع والعراقيل التي تقف حجر عثرةٍ أمام تكامله وتدرّجه في مراتب القرب من الحقّ. وأخطر هذه الموانع وأشدّها فتكاً وأذىً على الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه! هذه النفس التي يصفها القرآن الكريم بـأنها أمّارة بالسوء ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾1. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"2. والمقصود بالنفس هنا النفس الأمّارة بالسّوء التي توقع الإنسان في المعاصي والأخطاء، وارتكاب المخالفات حتى تتلوّث نفسه بالذنوب المبعدة عن ساحة القدس الإلهي وجنّة لقائه. ويصفها الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاة الشاكين فيقول: "إلهي إليك أشكو نفساً بالسّوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل، طويلة الأمل"3.
 
حقيقة النفس الأمّارة
النفس الإنسانية بحدّ ذاتها جوهرة لطيفة وطاهرة من كلّ دنس وخبث ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾4. 
 
ولكنّها عندما تعلّقت بعالم المادّة، واستغرقت بعالم الطبيعة



1 سورة يوسف، الآية 53.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج67، ص64،تحقيق: السيد إبراهيم الميانجي- محمد الباقر البهبودي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، الطبعة: الثالثة المصححة، 1983 م، باب مراتب النفس ،ح1.
3 الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية ابطحي-، مناجاة الشاكين، ص403، السيد محمد باقر الموحد الابطحي الإصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف / مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر - قم - ايران، نمونه - قم، الطبعة الأولى، 25 محرم الحرام 1411.
4 سورة التين، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

الدرس الأول: تهذيب النفس

 أكثر من الحدّ المطلوب، نسيت الحياة الروحيّة الحقيقيّة في الآخرة والعيش المعنويّ، وأخلدت إلى الأرض حتى تلوّثت بالمعاصي والصّفات السيّئة، والأخلاق الرذيلة، من البخل والحسد والطمع والأنانيّة والحرص والشهوة والغضب وغيرها من الصّفات الخبيثة. وما ذلك إلا لأجل استجلاب الفوائد والمنافع الماديّة، والتوسّع في الحياة الدنيا، وتحصيل اللذّات الحسّيّة فقط. وكانت النتيجة أن ردّه الله تعالى إلى أسفل سافلين: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾1، ولو شاء الله لرفعه إليه مجدّداً وقرّبه منه، ولكنّه أخلد إلى الأرض فكان مثله كمثل الكلب الذي يلهث من شدّة العطش أو الإعياء فإنّه يستمرّ في اللهاث سواء تركته أو زجرته، وهذا هو حال من أخلد إلى الحياة الدنيا واتّبع هواه، فإنه ضالّ في كلّ حال سواء أرشدته إلى الحقّ ووعظته أم لم تعظه: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾2.

 
إذاً، فمشكلة النّفس تكمن في تعلّقها بالحياة الدنيا والاستغراق في ملذّاتها وشهواتها، وما ينتج عن هذا التعلّق من الوقوع في المعاصي والذّنوب، بسبب مخالفة الأوامر والأحكام الإلهيّة، واتّباع أوامر النفس وما تهواه: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾3. فتتغيّر مسيرة الإنسان وينغمس شيئاً فشيئاً في ظلمة الشهوات والأهواء النفسيّة وتُصبح النفس هي الآمر والناهي في مملكة الإنسان لا الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾4، فيغفل الإنسان تماماً عن مسيرته الأصليّة، وعن برنامج سعادته وكماله، وعن عالم النور الواسع، وعن جنّة الرّضوان، بسبب انشغاله بزينة الحياة الدنيا والعرض الأدنى.



1 سورة التين، الآية 5.
2 سورة الأعراف، الآية 176.
3 سورة ص، الآية 26.
4 سورة الجاثية، الآية 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

الدرس الأول: تهذيب النفس

 مجاهدة النّفس وتزكيتها أساس الطريق

إذا أراد الإنسان أن يُعالج مشكلة النّفس التي تأمره بالسّوء، ومن سلطة الأهواء النفسيّة والشهوات الحيوانيّة، فلا سبيل له إلى ذلك إلّا بالمجاهدة. والمقصود من المجاهدة مخالفة أوامر هذه النّفس بهدف إخراج الأنا وحبّ النفس والدنيا من القلب حتى تصفو وتُصبح مستعدّة لاستقبال النّعم والفيوضات الإلهيّة. لأنّه كلّما تطهّر القلب من الأنا والأهواء كلّما سما وارتقى في مراتب القرب والكمال: ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1. والإنسان كادح إلى ربّه لا محالة شاء ذلك أم أبى، ولكنّ هذا الكدح وهذه المجاهدة تارةً تكون عن وعي واختيار كما هو الحال عند أهل الآخرة، وأخرى عن قهر وإكراه كما في حالة أهل النار والعذاب: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾2. فما لم يقطع الإنسان أغلال التعلّقات الماديّة والأهواء النفسيّة، ولم يتحرّر من قيود عالم الطبيعة، بواسطة المجاهدة والتزكية وتحمّل الكدح والتّعب، فإنّه لن يصل إلى منزل اللقاء المنشود. فبعد أحد عشر قسماً يحصر الله تعالى فلاح الإنسان بأمر واحد فقط، وهو تزكية النفس وتهذيبها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3. وفي آيةٍ أخرى يذكر الحقّ تعالى المجاهدة والتزكية كهدفٍ ومقصد أساسي من بعثة الأنبياء والرّسل إلى الناس: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾4. وإذا أردنا أن نختصر برنامج المجاهدة فيمكن أن نختصره بأمرين أساسيين هما:
1- التخلّي: وهو تصفية الباطن وتخلية النفس من الأهواء النفسيّة والصفات الرذيلة والأخلاق السيّئة، الناتجة عن حبّ النفس والدنيا والتعلّق بهما.
 
2- التحلّي: وهو تحلية النفس بالصفات الحميدة والأخلاق الإلهيّة.



1 سورة المائدة، الآية 6.
2 سورة الانشقاق، الآية 6.
3 سورة الشمس، الآيات 7 - 10.
4 سورة الجمعة، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

الدرس الأول: تهذيب النفس

 التخلّي عن الصفات الذميمة

كلّ إنسان معرّض لأن يتلوّث بالصفات الرذيلة بحدود تعلّقه بالحياة الدنيا وغفلته عن الآخرة. وليس أمام سالك طريق الآخرة واللقاء من حلٍّ سوى إزالة هذا التلوّث، وتصفية باطنه من الصفات الناشئة عن حبّ الدنيا والتعلّق بها، حتى يتمكّن بقلب طاهر وصاف من تحلية نفسه بالصفات الحميدة وتهيئتها لإشعاع الأنوار الإلهية.
 
والمقصود من التخلية؛ تنزيه الباطن وتطهيره من الصفات الرذيلة، وكلّ ما لا يُلائم الحياة الأخرى. ومنشأ هذه الصفات عموماً كما ذكرنا هو حبّ الحياة الدنيا والتعلّق بها. فعندما يشغف الإنسان بالحياة الماديّة ويتعلّق قلبه بها، ويرى أنّ نعم الحياة ولذائذها وزخارفها محدودة، وفي المقابل طلّابها ومنافسوه كثر، فبطبيعة الحال سيميل إلى ردّ منافسيه ودفعهم، والسعي المتواصل لتحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع الدنيويّة. من هنا تظهر الصفات الأخلاقية الرذيلة من البغض والحقد والعداء والغضب والحسد، وسوء الظنّ والحرص والطمع والتكبّر والمفاخرة والتعصّب، وقساوة القلب وحبّ الجاه وطول الأمل والغفلة وغيرها من الصفات الذميمة التي تتولّد من فرط التعلّق بالدنيا. لذا على الإنسان الباحث عن طريق الحقّ أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويُدقّق كثيراً في حالاته وصفاته النفسانيّة، ويعمل على إخراج القبيح والسيّئ منها من نفسه:
أولاً: من خلال محاربة منشأ ظهور هذه الصفات وهو حبّ الدنيا، بواسطة التفكّر والدراسة الموضوعيّة لحقيقة الحياة الدنيا، ودورها، ومخاطر الرضا والاكتفاء بها، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾1، ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾2.



1 سورة البقرة، الآية 86.
2 سورة التوبة، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الدرس الأول: تهذيب النفس

 ثانياً: من ناحية الهدف، فبما أنّ هدف الإنسان ومقصده المنشود هو الوصول إلى الله تعالى ولقائه: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1، لذا ينبغي أن يكون هذا الهدف دائماً نصب عينيه، فلا يغفل ولا يحيد عنه قيد أنملة كي لا يسقط في متاهات الدنيا الفانية وملذّاتها الموهومة التي لا تزيده عن الحقّ تعالى إلا بعداً: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾2.

 
ثالثاً: إنّ برنامج محاربة الصفات الرذيلة والأخلاق الذميمة هو بالعمل بأضدادها. وتوضيحه أنّ لكلّ صفة من الصفات الذميمة صفة ضدّها لا يمكن أن تجتمع معها في مورد واحد. فإذا تحقّقت إحدى الصفات انتفى ما يُقابلها من ضدّ مباشرة. فمثلاً كفران النعمة ضدّه الشكر، والجزع ضدّه الصبر، والتكبّر ضدّه التواضع، والغضب ضدّه الحلم، والطمع ضدّه القنوع، والشهوة ضدّها التقوى، والرياء ضدّه الإخلاص، والبخل ضدّه العطاء، والحسد ضدّه الرضا، والغفلة ضدّها التوجّه والانتباه، والجهل ضدّه العلم، والظلم ضدّه العدل، والجبن ضدّه الشجاعة والخيانة ضدّها الأمانة... وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقيّة، هو ما ذكره علماء الأخلاق، وهو أن يأخذ الإنسان كلّ واحدة من الصّفات القبيحة التي يراها في نفسه، وينهض بعزم وجدّ على مخالفة نفسه إلى أمد، ويعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الصفة الرذيلة، كما يقول إمامنا الخميني قدس سره: "الأسلوب الوحيد للتغلّب على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما"3. ومع الوقت والمداومة على هذه المخالفة سيزول هذا الخلق السيّء من النفس، ويحلّ محلّه الخلق الحميد بإذن الله تعالى.
 
رابعاً: التقوى، وهي وقاية النفس من الأمور التي يمكن أن تضرّها وتُسبّب الأذى لها: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾4. فالمتّقي هو الذي



1 سورة العنكبوت، الآية 5.
2 سورة يونس، الآيتان 7 - 8.
3 الإمام الخميني، الأربعون حديثاً: ص 130، الحديث الرابع، في بيان معالجة الكبر، تعريب محمد الغروي، دار التعارف - بيروت، ط6، 1998م.
4 سورة البقرة، الآية 223.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

الدرس الأول: تهذيب النفس

 يكون في حالة إشغال دائمة للنفس بما يُرضي الله، من خلال الاتّباع الدائم لأوامره وأحكامه الشرعيّة، والابتعاد عن نواهيه. وبذلك يبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالتخلّص من سلطة النفس الأمّارة بالسوء والأهواء التي لا همّ لها سوى ملذّات الدنيا وشهواتها. فإذا داوم الإنسان على الطاعات، وأداء الواجبات الشرعيّة، فسوف يخرج من سلطة النفس الأمّارة والأهواء، فتتعافى نفسه بالكامل من الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة، وتُصبح طاهرة مطهّرة من كلّ رجز وسوء.

 
خامساً: التوسّل بالله بواسطة الأدعية والمناجات، وبأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، لرفع هذه الصفات الخبيثة عن قلب الإنسان: ﴿وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾1.
 
فالخير كلّه بيده وهو على كلّ شيءٍ قدير: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
 
التحلّي بالصفات الفاضلة
على الإنسان أثناء وبعد تنزيه الباطن وتطهيره عن الصفات الخبيثة إثر مجاهدته والتوفيق الربّاني، أن يبدأ أيضاً بتحلية النفس بالصفات الروحانيّة والأخلاق الإلهيّة. وعلى ضوء ما عرف سابقا،ً فإنّ الصفات الرذيلة تنشأ بمقتضى الحياة الماديّة المحدودة والمظلمة، وكلّما انقطع الإنسان عن التعلّق بالحياة الدنيا ومحبّتها تتهيّأ الأرضيّة المناسبة لحياة الآخرة الروحانيّة والنوارنيّة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾3، حتى يتخلّص الإنسان بالكامل من ظلمة العالم المادّي وتقييده، ويدخل في عالم الآخرة الروحاني، وتُشرق في قلبه لمعات القرب من الله، متّصفاً بصفاته ومتخلّقاً بأخلاقه.



1 سورة النساء، الآية 32.
2 سورة آل عمران، الآية 26.
3 سورة القصص، الآية 83.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

الدرس الأول: تهذيب النفس

 ففي عالم الآخرة لا يوجد أثر للأنانيّة والاستكبار والتكبّر، ولا لسوء النيّة وإرادة الإفساد، ولا أثر هناك للكدورة والاختلاف والنفاق. وبمقتضى هذا المناخ الروحاني ينبغي أن تتلاءم صفات كلّ إنسان وحالاته مع تلك الظروف والأجواء الأخرويّة، وينبغي لمن يسلك طريق اللقاء ويطلب الحياة الروحانيّة الخالدة، أن يتّصف بالحالات والصفات المناسبة والملائمة مع حياة الآخرة. وهذا الأمر ضروريّ للغاية، فبعد أن يُخلي الإنسان ساحة نفسه ويُطهّرها من التعلّقات الدنيويّة والصفات الذميمة، تُصبح أرضيّة النفس صالحة ومُهيّأة لاستقبال نعم الله وفيوضاته وإحسانه: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾1، فكلّ خير ينزل على الإنسان هو من الله عزّ وجلّ: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾2، و ﴿كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾3، أمّا الإنسان، فإنّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّا،ً لأنّه مخلوق ضعيف: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾4، وفقير: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾5.

 
إذاً، تكليف الإنسان الأساس هو تطهير النفس والقلب من المفاسد والرذائل، لأنّ الصفات الخبيثة إذا انتفت تحقّق مقابلها مباشرة. فإذا طابت النفس وطهرت، وانجلت ظلمة الرّين عنها، تبدأ الأخلاق الإلهيّة والصفات الربّانيّة بالظهور فيها شيئاً فشيئاً، وتعود النفس إلى أحسن تقويم.
 
وسوف نذكر فيما يأتي نماذج في كيفية تطهير جوارح النفس وقواها من الآثام والمعاصي, ومنها اللسان والسمع والبصر.



1 سورة الإسراء، الآية 20.
2 سورة النساء، الآية 79.
3 سورة النساء، الآية 78.
4 سورة الروم، الآية 54.
5 سورة القصص، الآية 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 
 
النصّ الروائي: 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب"1.
 
 
النقاط المحوريّة:
• النميمة وآثارها الدنيوية والأخروية.
• كيف نتصرَّف مع النمَّام؟
• تنزيه اللسان عن الكذب والفحش من القول.‏
• الآثار الدنيوية والأخروية للكذب.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص 212.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 النميمة مرض قاتل

قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾1.
 
النميمة مرض نفسيّ لسانيّ قاتل وخطير، وهي تعني: "نقل قول الغير إلى المقول فيه سواء بالتكلّم أو الكتابة أو الإشارة أو الرمز"2.
 
وهي المصداق البارز لإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، لما فيها من الفساد والإفساد.
 
عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "من قال في مؤمنٍ ما رأته عيناه وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾3"4.
 
وعنه عليه السلام قال: "وإنّ من أكبر السحر النميمة، يُفرّق بها بين المتحابّين، ويجلب العداوة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور، والنمّام أشرّ من وطى‏ء الأرض بقدمٍ"5.



1 سورة القلم، الآيات 10 - 13.
2 الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج6، ص180. مرتضوي، چاپخانهء طراوت، الطبعة الثانية، شهريور ماه 1362 هـ. ش.
3 سورة النور، الآية 19.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص357. تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية - طهران، حيدري، الطبعة الخامسة، 1363 ش، باب الغيبة والبهت،ح2.
5 ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج9، ص151.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 كيف نتعامل مع النمّام؟

من الجميل أن نتعلّم من أهل البيت عليهم السلام كيفيّة التعاطي مع النمّام, حيث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه أتاه رجل يسعى إليه برجلٍ، فقال له عليه السلام: "يا فلان نحن نسأل عمّا قلت، فإنْ كنتَ صادقاً مقتناك، وإنْ كنتَ كاذباً عاقبناك، وإنْ شئت أنْ نُقيلك أقلناك، قال: أقلني يا أمير المؤمنين"1.
 
وإليك أخي الكريم بعض النصائح والإرشادات في كيفية التعامل مع النمّام:
1- لا تُصدِّق النمّام: وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾2.
 
2- تبيّن قبل ترتيب الأثر لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾3, فلا تظنّ بأخيك السوء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾4، ولا يحملك القول فيك على التجسّس: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾5, فلا ينبغي أن ترضى لنفسك ما نُهيت عنه، فتقع فيما وقع فيه غيرك.
 
3- انْهِ النمَّام واردعه عن فعله وامره بالمعروف لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾6.
 
4- أبغِضْهُ في الله‏ إذا علم منه معرفته بعمله وإصراره على فعله, لأنّ النمّام ملعون بعيدٌ عن الله, يزرع الضغينة أينما حلّ, كما ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك والنميمة فإنّها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله"7.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص270.
2 سورة القلم، الآيتان 10 - 11.
3 سورة الحجرات، الآية 6.
4 سورة الحجرات، الآية 12.
5 سورة الحجرات، الآية 12.
6 سورة لقمان، الآية 17.
7 غرر الحكم، الآمدي، ص 167.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

17

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 آثار النميمة الدنيويـّة والأخرويـّة

 
1- الضغينة والحقد:
حذّرت الروايات والنصوص الشريفة من النميمة لأنّها تُباعد بين القلوب وتزرع فيها الحقد والضغينة، فقد ورد عن الإمام جعفر عليه السلام: "إيّاك والنميمة فإنّها تزرع الشحناء في قلوب الرجال"1.
 
2- غضب الله وهتك الستر:
أوصى أهل البيت عليهم السلام بتجنّب النميمة والابتعاد عن النمّامين، لأنّ صحبتهم لا تورث سوى الغضب الإلهي وهتك الستر، فقد ورد في كتاب الصادق عليه السلام إلى عبد الله النجاشي والي الأهواز، قال له: "إيّاك والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقن بك أحدٌ منهم، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك"2.
 
3- شرار خلق الله‏:
من الآثار المُخزية للنميمة أنَّها تدنّي النفس الإنسانية إلى أسفل المدارك فتجعله من شرار الخلق، كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "أُلا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب"3.
 
4- عذاب القبر:
تُعدُّ النميمة أحد أسباب العذاب في القبر، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنَّه قال: "عذاب القبر يكون من النميمة"4.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص 202.
2 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج17، ص 207، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرفة، مهر - قم، الطبعة الثانية، 1414، باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ومع اصحابه، ح1.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص 212.
4 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص 339.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

18

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 5- عدم دخول الجنّة:

النميمة تؤدّي إلى سوء العاقبة ، فالنمّام لا يشتمّ ريح الجنّة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يدخل الجنّة نمّام"1.
 
إيَّاكم والكذب
الكذب من أسوأ الذنوب الّتي يُمكن للعبد أن يرتكبها، والكذّاب يفقد ثقة الناس به؛ لأنّ العلاقات الاجتماعيّة السليمة الّتي يبتغيها الناس هي العلاقات القائمة على الصدق، وقد كثرت الآيات والروايات الّتي تُحذّر من الكذب مبيّنة مبغوضيّته عند الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾2، وهذا ما أكّدته الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "جانبوا الكذب، فإنّه مجانب للإيمان"3.
 
وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أعظم الخطايا اللسان الكذوب"4.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "وتحفّظوا من الكذب فإنّه من أدنى الأخلاق"5.
 
لا تستخفّوا بألوان الكذب
هناك نماذج من الكذب قد يستخفّ بها الإنسان ويعتبرها غير سيّئة وقد يُعطيها تسميات لتخفيفها كاسم كذبة بيضاء أو كذبة أوّل نيسان... وقد أكّد الإسلام على رفض ذلك وعدم استسهال الكذب بجميع مسمّياته وألوانه، وفي رواية عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمّي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أُعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أردت أن تُعطيه؟ قال: أردتُ أن أُعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما إنّك لو لم تُعطه شيئاً كُتبتْ عليك كذبة"6.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص 268.
2 سورة النحل، الآية 105.
3 خطب الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة،ج1، ص150، شرح: الشيخ محمد عبده، دار الذخائر - قم - ايران، النهضة - قم، الطبعة الأولى، 1412 - 1370 ش.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص 133.
5  م.ن، ح75, ص64.
6 محمّدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص 2675.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

19

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سألته أسماء بنت يزيد: إنْ قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يُعدّ ذلك كذباً؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الكذب يُكتب كذباً حتّى تُكتب الكُذَيْبة كُذَيْبَة"1.

 
عواقب الكذب وخيمة
للكذب آثار وعواقب وخيمة على الإنسان، منها:
1- الحرمان من الهداية: فإنّ الكذب يحرمه من نعمة الهداية، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾2، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾3.
 
2- إنبات النفاق في القلوب: يقول الله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾4.
 
3- المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"5، وأمّا سبب العذاب في الآخرة فلأنّ الكذّاب سيظهر كذبه أمام الملأ، وسيُجرّ إلى جهنّم كما وعده الله تعالى، وأمّا المهانة في الدنيا فلأنَّ الكذب يذهب بهيبة الإنسان وبهائه، إذ إنّ الكاذب منبوذ بين الناس ويشيرون إليه بالأصابع لعدم ثقتهم به، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من عُرف بالكذب قلّت الثقة به، من تجنّب الكذب صدقت أقواله"6.
 
4- الحرمان من صلاة الليل: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيُحرم بها صلاة الليل"7.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج69، ص258.
2 سورة الزمر، الآية 3.
3 سورة غافر، الآية 28.
4 سورة التوبة، الآية 77.
5 الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 209, تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، نشر وطبع دار الحديث، ط1.
6 محمدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص 2677.
7 العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج69، ص260.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

20

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 5- نقصان الرزق: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكذب يُنقص الرزق"1، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"2.

 
نزّه لسانك عن القول الفاحش
من العادات القبيحة الّتي لا ينبغي أن تكون في الإنسان المؤمن: الفحش وبذاءة اللسان، والفحش هو أن يستعمل الإنسان الألفاظ القبيحة في السبّ والشتم وغيرها من المقالات السيّئة، وقد ذمّ الله تعالى هذا الصنف من الناس في كتابه العزيز حيث قال: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾3، ومعنى الآية الشريفة كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "هو الفاحش اللئيم"4. وعن الإمام الرضا عليه السلام قوله: "ليَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَاجْتَنِبِ الْفُحْشَ‏ مِنَ الْكَلامِ"5.
 
واعتُبر الفحش من النفاق، عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: "الْفُحْشَ‏ وَالْبَذَاءَ وَالسَّلَاطَةَ مِنَ النِّفَاق"6.
 
لذا ينبغي للإنسان اجتناب الفحش وتنزيه لسانه عن القول القبيح، وحفظ قلبه من النفاق، لكي يُحشر سليم القلب معافاً من الذنوب والآثام، فيدخل في رضا الرحمان الذي لا يُرِده: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾7.
 
كيف وُصِفَ الفاحش؟
أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باجتناب الفُحش من القول، ونهى عن ارتكابه، كما أوصى باجتناب مجالسة الإنسان الفاحش، ووصفه بأنَّه أشرّ العباد وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإِنَّ مِنْ أَشَرِّ عِبَادِ اللهِ مَنْ تُكْرَهُ مُجَالَسَتُهُ لِفُحْشِه"8.



1 محمدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص 2678.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج69، ص261.
3 سورة القلم، الآية 13.
4 محمّدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، ص 2377.
5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج93، ص 275.
6 م. ن.
7 سورة الشعراء, الآية 89.
8 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص225.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

الدرس الثاني: تهذيب اللسان

 ووصفت الروايات الشريفة الإنسان الفاحش بأوصاف كثيرة منها:

1- أنّه مبغوض لدى الله تعالى: ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله يُبغض الفاحش المتفحّش"1.
 
2- السفيه: ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "أسفه السفهاء المتبجّح بفحش الكلام"2.
 
3- من أهل النار: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الناس لسانه فهو في النار"3.
 
4- من شرّ الناس: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من شرار الناس من تركه الناس اتقاء فحشه"4.
 
إلى أوصاف أخرى تُدلّل على مدى قبح هذه الصفة، نسأل الله تعالى أن يُنزّهنا عن النقائص والعيوب، إنّه نعم الموفّق والمعين.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص224.
2 ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل،ج12،ص83.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص327.
4 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

22

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 
 
النصّ القرآنيّ:
قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾1.
 
 
 
النقاط المحوريّة:
• النظر المحرَّم وعواقبه الوخيمة.
• غضّ البصر وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة.
• ما هو حقّ السمع؟
• تأثير استماع الغناء على القلب.
• الغناء وعواقبه الوخيمة.



1 سورة النور، الآيتان 30 - 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

23

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 حقّ السمع

عن الإمام السجّاد عليه السلام: "وأمّا حقّ السمع، فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك، إلّا لفوهة كريمة تُحدِث في قلبك خيراً أو تُكسب خُلقاً كريماً، فإنّه باب الكلام إلى القلب يؤدّي إليه ضروب المعاني، على ما فيها من خير أو شرّ، ولا قوّة إلّابالله"1.
 
يختصر الإمام السجّاد عليه السلام في رسالة الحقوق وفي كلمات قليلة حقّ السمع الّذي لا بدّ وأن نراعيه، ولكنّه يشير في أوّل كلامه عليه السلام إلى تأثير السمع في القلب، ومعرفة هذا التأثير يعتبرها الإمام عليه السلام من أوّل الحقوق.
 
فهذا السمع في الحقيقة ما هو إلّا باب إلى قلب الإنسان وعقله، وإنّ نفس العضو المختصّ بالسمع أي الأذن لا يملك مصفاة تُصفّي ما يصلح سماعه أو لا، بل إنّها تستقبل أيّ شي‏ء سواء كان حسناً أم قبيحاً.
 
ومن هنا يأتي دور الإنسان، فعليه أن يتحكّم بما يسمعه من خلال وجوده في الأماكن الّتي لا يضطرّ فيها لسماع أمر غير مرغوب فيه، أو على الأقلّ عدم الإصغاء إليه.
 
فما هو المطلوب أن نُنزّه أسماعنا عنه؟ هناك الكثير من الضوابط الشرعيّة الّتي ينبغي مراعاتها، والكثير من الانحرافات الّتي ينبغي تنزيه الأذن عن سماعها، ولكن سنشير إلى أمر يُعتبر من أخطر المحرّمات على الأذن، وهو استماع الغناء.
 
نزّه سمعك عن الغناء
الغناء ترجيع الصوت على الوجه المناسب لمجالس اللهو، وهو من المعاصي ويُحرم على المغنّي والمستمِع، أمّا الموسيقى فهي العزف على آلاتها، فإنْ كانت بالشكل



1 ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ص257. تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.مط، الطبعة الثانية، 1404 - 1363 ش.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

24

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 المتعارف في مجالس اللهو والعصيان فهي محرّمة على عازفها وعلى مستمعِها أيضاً1.
 
فالغناء من المحرّمات الّتي جاء بها الكتاب يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾2، وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "الغناء ممّا وعد الله عليه النار"، وتلا هذه الآية3.
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر"4.
 
وكما يُحرم الاستماع للغناء فإنّه لا يجوز الحضور في مجلس الغناء والموسيقى المطربة اللهويّة المناسبة لمجالس اللهو والعصيان، إذا أدّى ذلك للاستماع إليها أو إلى تأييدها5.
 
فامتثالاً للأوامر الإلهية، وتجنّباً لغضبه، ولأنّه تعالى الأعلم بمصالح الأمور ومفاسدها، ينبغي للإنسان العاقل أن يُنزّه سمعه عن الباطل ومنه الغناء.
 
الغناء يُنبت النفاق في القلب
‏إنّ لكلّ عمل يقوم به الإنسان أثراً في قلبه، ويتبع الأثر في حُسنه أو قبحه طبيعة العمل، فإنْ كان العمل طاعة لله تعالى كان الأثر إيجابيّاً وحسناً ويجلب توفيقاً من الله تعالى، ولكنّ الطامّة الكبرى في أثر الأعمال الناشئة من حبّ الدنيا الّذي يُعتبر أساس كلّ المعاصي ومنه الغناء، يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ ما تناله النفس من حظّ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلّقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثّر القلب وتعلّقه بها وحبّه لها، إلى أن يتّجه القلب كُلّيّاً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إنّ جميع 



1 الإمام السيد علي الخامنئي، أجوبة الإستفتاءات، ج2، ص 24، نشر مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في لبنان، ط7, 2010م.
2 سورة لقمان، الآية 6.
3 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة آل البيت ، ج17، ص 305.
4 م. ن، ج12، ص230.
5 الإمام السيد علي الخامنئي، أجوبة الإستفتاءات، ج2، ص115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

25

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيّئات سببها هذا الحبّ للدنيا والتعلّق بها"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "حُبّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلّ خَطِيئَة"2.

 
فللاستماع إلى الغناء أثر كبير في القلب الّذي يهمّ السالكين إلى الله تعالى أن يبقى أبيضَ ناصعاً غير ملوّث بأكدار المعاصي، فمن آثاره أنَّه يورث النفاق ويُنبته في قلب الإنسان وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "استماع اللهو والغناء يُنبت النفاق كما يُنبت الماء الزرع"3.
 
الغناء وعواقبه الوخيمة
1- مجلس الغناء محلّ غضب الله:
أينما حلَّ الغناء يحلُّ الغضب الإلهي، لذا نهت الروايات عن الدخول إلى تلك المجالس، فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: "لا تدخلوا بيوتاً الله مُعْرِضٌ عن أهلها"4.
 
وعنه عليه السلام: "بيت الغناء لا يُؤمَن فيه الفجيعة، ولا يُجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملائكة"5.
 
2- يُعذّب مستمعه بأنواعٍ من العذاب:
من أشدّ أنواع العذاب في يوم الآخرة أن لا ينظر الله عزّ وجلّ إلى الإنسان، والمغنّي هو ممّن ينالهم ذلك العذاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خمسة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.. إلى أن قال: والمغنّي"6.
 
أضف إلى ذلك ألوان العذاب الأخرى عند الحشر وفي القبر، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يُحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم"7.



1 الإمام الخميني ، الأربعون حديثاً، الحديث السادس, ص185.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص131.
3 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج17، ص 316.
4 م. ن، ص306.
5 م.ن، ص 303.
6 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج13، ص 213.
7 المحقِّق النراقي، مستند الشيعة، ج14، ص 132، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - مشهد المقدسة، ستارة - قم، الطبعة الأولى، ربيع الأول 1415.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

26

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 3- قد يؤدّي إلى الزنا:

الغناء سبب ومقدِّمة للوقوع في الزنا، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغناء رَقيَّة الزنا"1.
 
وحيث إنَّ الغناء هو صوت لهويّ ينبع من الشهوة واللذّة الحيوانيّة، فإنَّ من آثاره السيِّئة تحريك شهوة المغنِّي والمستمِع، فيغفلان عن ذكر الله والآخرة بنحوٍ يُهيّئهما لارتكاب الفحشاء.
 
ما ورد كان لمن لم يُنزِّه نفسه عن الغناء، فماذا ينتظر من نزّه نفسه عنه؟
 
عن الإمام الرضا عليه السلام: "من نزّه نفسه عن الغناء فإنَّ في الجنّة شجرة يأمر الله عزَّ وجلَّ الرياح أن تُحرّكها، فيسمع منها صوتاً لم يسمع مثله، ومن لم يتنزّه عنه لم يسمعه"2.
 
العين نعمة أو نقمة!
العين هي نعمة إلهيّة كبرى للإنسان، إذ يُبصر بها ما حوله من المخلوقات والأشياء فيستثمرها، وبها يقرأ الكتب ويرى الآخرين ويرى جمال الكون وعجائبه، إلا أنّها ومع كلّ هذا فقد تكون وبالاً ونقمة على الإنسان في آخرته، إذا لم يُحسن استخدامها ضمن الحدود الّتي وضعها الله تعالى لها، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"3.
 
فمن أسماء يوم القيامة يوم الحسرة والندامة لعظيم الحسرة والندامة فيه، وذلك لسوء استخدام النعم الإلهية في الحياة الدنيا، ومن أبرز النعم، كما ذكرنا، الحواس ومنها العين الباصرة، التي قد تورث الحسرة والندامة فتُصيِّر النعمة إلى نقمة.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج76، ص 247.
2 م. ن، ص‏ 317.
3 م.ن، ج68، ص293.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

27

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 طلائع القلوب

‏ إنّ كلّ ما تُمعن به العين النظر لا بدّ وأن تنطبع صورته في عقل الإنسان وقلبه، ويترك آثاراً في روحيّته ونفسيّته، حتّى لو نسيه في فترات معيّنه، إلّا أنّ آثاره الباطنيّة قد تبقى لتؤثّر بشكل غير مباشر، أو لتتفعّل في أوقات وظروف معيّنة، ولذا فإنّ هذا الأمر خطير على الإنسان، فالعين هي من أبواب حصن النفس، وفتح هذا الباب ليدخل منه كلّ صالح وطالح إلى النفس النظيفة سيتسبّب بتلوّثها، ولذا ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العيون طلائع القلوب"1 ويقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾2.
 
فقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات في تلك الآية الكريمة بغضّ الأبصار، ثم ذكر عزّ وجلّ تأثير النظر على طهارة القلب وتزكية النفس، والشاهد على المعنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾.
 
إيّاك والنظر المحرّم
أكّدت الكثير من الروايات الشريفة على خطورة هذا النظر على روح الإنسان المؤمن وقلبه، لدرجة أنّها تُفسد الإيمان وتُنسي الآخرة والحساب، ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"3.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: إيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"4.



1 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص32.
2 سورة النور، الآيتان 30 - 31.
3 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص285.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج14، ص306.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

28

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 وحذّرت الروايات في كثير من المواضع من عواقب تلك المعصية فجزاء النظر المحرّم عند الله تعالى شديد جدّاً بحيث إنّ بعض الروايات عبّرت عن صور عجيبة للّذي يملأ عينيه من النظر الحرام ومن هذه العواقب:

1- يملأ عينيه ناراً: ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلّا أن يتوب ويرجع"1.
 
2- الحسرة يوم القيامة: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"2، والله أعلم بمقدار هذه الحسرة والندامة الّتي ستعتري الإنسان يوم القيامة حين يرى النعيم ويُمنع منه لأجل نظرة إلى حرام، يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾3.
 
3- الغضب الإلهيّ: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اشتدّ غضب الله عزَّ وجلَّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها"4.
 
آثار غضّ البصر
كما أنّ للنظر إلى الحرام عواقب قد ذكرنا بعضاً منها، فإنّ لغضّ البصر عن محارم الله تعالى آثاراً حميدة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الآثار:
1- حلاوة العبادة: إنَّ الشيطان يسعى جاهداً ليوقع الإنسان في المحرّمات، الّتي يسهل الوقوع بها تحت ضغط الشهوات، كالنظر المحرّم، فعندما ينتصر الإنسان على شيطانه بعد جهاد النفس يجد حلاوة الانتصار من جهة، ويزداد إيمانه رسوخاً وقلبه نوراً من جهة أخرى، كما يحصل للجيوش الّتي أنهكها التعب بعد انتصارها، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم ينظر امرأة أوّل رمقة ثمّ يغضّ بصره إلّا أحدث الله تعالى له عبادةً يجد حلاوتها في قلبه"5.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج73، ص334.
2 م. ن، ج68, ص293.
3 سورة مريم، الآية 39.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج73، ص366.
5 محمّد الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص3292.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

29

الدرس الثالث: تهذيب السمع والبصر

 2- راحة القلب: ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "من غضّ طرفه أراح قلبه"1، ولعلّ راحة القلب تأتي بسبب التخلّص من هذا المرض القاتل للحسنات والذي يجرّ صاحبه إلى النار.

 
3- الحصانة: وهي تحفظ الإنسان من الوقوع في الذنوب، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغضّ البصر، فإنّ البصر لا يغضّ عن محارم الله إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال"2.
 
كيف تُعالج آفّة النظر؟
إنّ الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من الوقوع في النظرة الحرام، ويُعيده إلى الصواب، إذا وقع - لا سمح الله - في الانحراف، هما أمران أساسان:
1- تقوى الله: الارتباط بالله تعالى وتقوى الله تعالى هما الأمران الأساسان لحفظ الإنسان وابتعاده عن المحرّمات، وقد تمّ التأكيد على تقوى الله في موضوع النظر وأمراضه، وعن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سُئل: بِمَ يُستعان على غمض البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطّلع على سرِّك"3، فإن كنّا عباداً لله تعالى فعلينا أن نقوم بواجبات العبوديّة من إطاعة أوامر الله تعالى والتجنّب عمّا نهى عنه ومن ذلك غضّ البصر، وإن كنّا عباداً لرغباتنا وشهواتنا ومتطلّباتها -والعياذ بالله من أن نكون كذلك - فقد خرجنا من دائرة العبوديّة لله تعالى إلى عبوديّة الشيطان وجنوده! ويصدق حينئذٍ قول إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾4.
 
2- الحياء: الحياء حاجز آخر يقف أمام انحراف الإنسان، وفي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان"5، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا لم تستح فافعل ما شئت"6.



1 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج16، ص 271.
2 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج101، ص 41.
3 م.ن، ج101، ص 41.
4 سورة ص، الآية 82 - 83.
5 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج8، ص 463.
6 م.ن، ج 8، ص 466.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

30

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 
النصّ القرآنيّ:
يقول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾1.
 
النقاط المحوريّة:
• معنى الذنب وأنواعه.
• الذُّنوب كلُّها شديدة.
• محقِّرات الذنوب.
• أسباب الوقوع في الذنوب.



1 سورة الكهف، الآية 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 معنى الذنب

الذنب هو مخالفةُ الأوامر الإلهيَّة الواردة في الشَّريعة الإسلاميَّة، من خلال ترك الواجبات أو ارتكاب المحرَّمات التي يُعاقب الله تعالى عليها. فكلُّ مخالفة لتلك الأوامر والنواهي تُعدُّ ذنباً، حتَّى لو كان هذا الذنب في نفسه هيّناً وبسيطاً، فهو عظيم لمخالفته الأوامر والنواهي الربّانية، والخروج عن رَسْمِ الطَّاعة والعبوديَّة.
 
كبائر الذنوب وصغائرها
لقد قسّم القرآن الكريم والروايات الشريفة الذنوب إلى نوعين هما: الكبائر والصغائر. ويدلُّ على صحّة هذا التقسيم الآية الشريفة الآتية، في قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾1.
 
يُستفاد من الآية أنّ الكبائر يُقابلها ما هو أدنى منها رتبةً، أي الصَّغائر، فالمنهي عنها هي المعاصي، الصغائرُ والكبائرُ، والسيِّئات في الآية هي الصَّغائر، لمناسبة المقابلة بينها وبين الكبائر. وكبر المعصية إنّما يتحقّق بأهمّية النهي عنها ، ولا يخلو قوله تعالى: ﴿مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ من دلالة على ذلك.
 
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾2، و"اللَّمَمَ" عبارة عن الصغائر أو نوع خاص منها.
 
رُوي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: (في تفسير الآية)، قال: "الفواحش: الزِّنا والسّرقة، واللمم: الرّجل يلمّ بالذَّنب فيستغفر اللهَ منه. قلتُ: بين الضَّلال والكفر منزلةٌ؟ فقال: ما أكثر عُرى الإيمان"3.



1 سورة النساء، الآية 31.
2 سورة النجم، الآية 32.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص278.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

32

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 فاللّمَم هو ما يلمُ به العبد من ذنوبٍ صغيرةٍ بجهالةٍ، ثمَّ يندمُ ويستغفرُ ويتوبُ، فيُغفَرُ له.

 
ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾1.
 
ومن مجموع هذه الآيات يظهر لنا أنّ الذنوب نوعان: صغيرة وكبيرة، مع أنّ كلّ ذنب مخالف للأوامر الإلهية يُعتبر كبيراً وثقيلاً، ولكن هذا الموضوع لا يُنافي كون بعض الذنوب من حيث آثارها الوخيمةُ أكبر من بعضها الآخر، وعليه يُمكن لنا تقسيمها إلى كبيرة وصغيرة.
 
الذُّنوب كلُّها شديدة
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "الذّنوب كلّها شديدة، وأشدُّها ما ينبت عليه الّلحم والدَّم، لأنَّه إمَّا مرحومٌ وإمَّا معذَّبٌ، والجنَّة لا يدخلها إلا طيّب"2.
 
فالذّنوب كلّها شديدةٌ، أي بحسب ذواتها، لأنَّها مخالفةٌ للأوامر الإلهية، وهذا هو وجه شدّتها، وإن كان بعضها أشدّ من بعضها الآخر، وأشدّها -حسب الرواية- ما ينبتُ عليه اللحم والدم الذي قد يشمل أكل الحرام والإصرار على المعصية من دون تكفيرها بالتوبة.
 
فالإنسان المرحوم هو من كفّرت ذنوبه بالتوبة أو البلاء في الدنيا، ويُقابله المعذّب، وهو الذي لم تُكفّر ذنوبه بأحد الوجوه المتقدّمة، والجنّة لا يدخلها إلا طيّبٌ، أي طاهرٌ وخالصٌ من الذُّنوب3.
 
وعليه، فالذنوب كلّها شديدةٌ، وجميعها كبائر، ولا فرق بينها من جهة مخالفة المولى سبحانه وتعالى، وإنّما الكبائر والصَّغائر هي أمورٌ نسبيةٌ لا ذاتيةٌ، وإنّما نُطلِقُ عليها لفظ الصغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ونُطلق عليها لفظ الكبائر بالإضافة والنسبة إلى ما هو أصغر منها4.



1 سورة الكهف، الآية 49.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص27.
3 مولي محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج9، ص244، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1421 هـ- 2000م.
4 راجع: الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص144. بتصرف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

33

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 فالجرح بالنسبة إلى القتل صغيرةٌ، وبالنسبة إلى اللطم كبيرةٌ، والزنا بالنسبة إلى النظرة المحرَّمة كبيرةٌ1.

 
وعليه، يُفهم من الرواية المتقدِّمة ضرورة تجنُّب كلّ ذنب يُعلَم كونه ذنباً حسب ما نصَّت عليه الشريعة الإسلامية، بل ينبغي تجنُّب كلّ ما يُحتمل أنّه كذلك، وذلك لعظمة مقام الله تعالى وحقّ طاعته، فإنّ الجرأة على ذاته المقدَّسة محتملة حتَّى مع وجود الاحتمال، فمن احتمل أنّ في الكأس خمراً فعليه عقلاً أن يمتنع عن شربه، لا لمفسدة الخمر وضرره فحسب، بل لعظمة الله ووجوب طاعته في كلّ الموارد، حتى المحتملة منها.
 
اتّقوا المحقّرات من الذنوب
للشيطان أبوابٌ كثيرةٌ ومداخل مختلفةٌ، يأتي منها ابنَ آدم ويستدرجه إلى المعاصي، وإنَّ أكثر بابٍ يتسلَّلُ منه إلى قلوب الناس هو باب احتقار الذُّنوب واستصغارها من قِبَلهم، وذلك بعد أن ييأس الشيطان من إسقاطهم في كبائر الذنوب يسعى جاهداً لإيقاعهم في الصغائر، بل قد يُصرُّون عليها، لأنّها بحسب تصنيفهم من صغائر الذنوب. لكنّه لو عُلم مدى خطورتها عليهم لما وقعوا فيها ولما أصرّوا عليها، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تنظروا إلى صغر الذنب، ولكن انظروا إلى مناجترأتم"2.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تُغفر"، قلتُ (أي الراوي): وما المحقّرات؟ قال: "الرجل يُذنب الذنب فيقول: طوبى لي لم يكن لي غير ذلك"3. وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالباً"4.



1 وممّن يذهب إلى هذا الرأي: الشيخ المفيد، وابن البراج الطرابلسي، وأبو الصلاح الحلبي، وابن إدريس الحليّ، والشيخ الطوسي، بل نسبه الطبرسي في تفسيره مجمع البيان إلى أصحابنا مطلقاً.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص168.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص287.
4 م.ن، ص270.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

34

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 وروي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأبي ذر: "يا أبا ذر، إنّ الرجل ليعمل الحسنة فيتّكل عليها، ويعمل المحقّرات حتَّى يأتي الله وهو عليه غضبان، وإنّ الرجل ليعمل السيّئة فيفرق منها، يأتي آمناً يوم القيامة"1.

 
فالمحقّرات من الذُّنوب هي الذُّنوب التي يحتقرها الإنسان ويستصغرها، ويستهين بها، ويقول حسب ما ورد في بعض الروايات "أُذنِب وأَستغفر"، والله تعالى يقول: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾2.
 
فالذي يُحقّر ذنبه ويستسهل أمره، ألا يدري أنّ الذنب مهما كان صغيراً أو حقيراً فإنَّه من حيث كونه معصيةً لله العظيم فإنّه يُعدّ أمراً عظيماً، فلا ينبغي للمؤمن أن يُحقّر شيئاً من الذنوب، فقد لا يُغفر له بسبب تحقيره واستخفافه بها.
 
والصغيرة قد تقترن بقلّة الحياء وعدم المبالاة بها، وترك الخوف والاستهانة بالله العظيم والإصرار عليها، وهذا - بالمناسبة - ما يمنع من شمول الشَّفاعة للمذنب، فتتحوّل هذه الصغيرة إلى كبيرةٍ من الكبائر، كما صرّحت الروايات3.
 
ما هي أسباب الذنوب؟
لكي نستطيع التعرُّف إلى أسباب الابتلاء بالذّنوب والوقوع بها، ينبغي التنبّه إلى أسباب هذه الذنوب، مع الإشارة إلى أنَّه يوجد العديد من الأسباب والعوامل سوف نقتصر على ذكر عاملين أساسين منها، هما:
1- ضعف الإيمان في النفس:
إنَّ أهمَّ سببٍ من أسباب الوقوع في المعاصي هو ضعف الرَّادع الدِّيني لدى الإنسان، أو ما يُسمَّى بـ "ضعف الإيمان". فالإيمان أمرٌ يقبل الزيادة والنقصان، والشدّة والضعف، فنحن نشاهد في مجتمعنا كثيراً من النَّاس يشكون من قسوة قلوبهم، ومن قلّة خشوعهم



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص79.
2 سورة يس، الآية 12.
3 كما سيأتي في الدروس اللاحقة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

35

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 في صلاتهم، ونرى من سلوكيَّات بعضهم غلبةَ حرصهم على الدُّنيا ويأسهم وقنوطهم وحزنهم في الظُّروف والمصائب القاسية، بالإضافة إلى الأنانيَّة والغرور والتعصُّب، إلى غيرها من الأمراض المتعدِّدة، والتي ترجع إلى سببٍ واحدٍ وهو ضعفُ الإيمان، الذي يزدادُ ويشتدُّ عبر الطاعات وينقص ويضعف بالمعاصي، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾1.

 
ولا شكّ أنّ هذا الضعف أو القوّة في الإيمان لا يولد مع الإنسان، ولا يُجبر عليه أحد، فهذا ينافي مبدأ الاختيار وعقيدة "أمر بين أمرين" التي تعني نفي الجبر والتفويض للنّاس، وإثبات اختيارية التكليف الذي تؤمن به مدرسة أهل البيت عليهم السلام. فمن خلال هذا البيان نفهم أنّ هناك أسباباً تؤدّي إلى ضعف الإيمان، بل إلى تلاشيه في بعض الأحيان، وكأنّه غير موجود.
 
فما هي تلك الأسباب التي قد تؤدّي إلى اضمحلال الإيمان والتي تجرّ الإنسان إلى الذنوب والمعاصي؟
 
من أبرز أسباب ضعف الإيمان:
- الجهل وعدم المعرفة، فهو من أعظم أسباب ضعف الإيمان.
- غلبةُ الهوى وطولُ الأمل، فغلبة الهوى تجعل الإنسان يميل إلى الشّهوات، وطول الأمل يُنسيه الآخرة ويجذِبُه إلى الدُّنيا.
- مصاحبة السفهاء والفجّار.
- ارتياد أماكن المعصية.
- ترك تعاهد القرآن، وعدم الذهاب إلى المساجد والأماكن المقدَّسة.
- ترك مجالسة العلماء وأهل العبادة.



1 سورة التوبة، الآيتان 124 - 125.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

36

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 2- سيطرة الشهوات والغرائز على الإنسان:

نقصد بها مجموعة الغرائز والقوى الموجودة في باطن الإنسان التي إن لم يعرفها ولم يسعَ إلى تعديلها فإنّها ستؤدّي به إلى الهلاك الحتمي، والوقوع في المعاصي. فينبغي عليه أوّلاً معرفتها والسعي في تعديلها، بمعنى إخراجها عن حدِّ الإفراط والتفريط، لأنّ عدم ذلك سيؤدّي إلى طغيانها وعدم استقرارها، وهذا ما سيدفع بالإنسان إلى ارتكاب المعاصي.
 
إنّ هذه القوى الباطنية المودعة في الإنسان قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً على سلوكه وعلاقته بالله تعالى، فالله تعالى أوجد في الإنسان "قوّة العقل" وأعطاها جنوداً، وأوجد فيه "قوّة الجهل" أيضاً وأعطاها جنوداً.
 
فالإنسان في حركته التصاعدية العقلية قد يصل إلى درجة أعلى من درجة الملائكة إذا ابتعد عن الذَّنب بإرادته واختياره وتحكيمه لعقله وسيطرته على غرائزه، وقد يصل في حركته التنازلية من خلال اتّباعه للشهوات إلى درجةٍ يُصبح فيها كالأنعام، بل أضل سبيلاً، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾1، وما ذلك إلا لأنّه حكَّم هواه على عقله، واتَّبع غرائزه وشهواته النَّفسية.
 
العلاج بالطهارة
من أبرز القوى والغرائز النفسية التي منحها الله عزّ وجلّ للإنسان:
1- القوّة الشهويّة:
وهي القوّة التي لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبوديّة الفرج والبطن، والحرص على الجماع والأكل. وتوصف بالقوى البهيميّة، لوجودها الأصلي في البهائم. ومن خواصّها أنَّها تُنْزِل الإنسان إلى درجة الأنعام، إن لم يُوجّهها ضمن الضوابط التي حدّدتها الشريعة. وهي من القوى العنيدة التي لا تهدأ بسرعة.



1 سورة الفرقان، الآية 44.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

37

الدرس الرابع: ما هو الذنب؟

 2- القوّة الغضبيّة:

وهي القوّة التي تكون منشأً لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء والتوثّب على النَّاس بأنواع الأذى. وتمتاز القوّة الغضبيّة بأنّها قوّةٌ تهدأ بسرعةٍ بخلاف القوَّة الشَّهويّة، ومع أنَّها تمتازُ بشدَّتها من ناحيةٍ، لكنّها سرعان ما تهدأ من ناحية أخرى.

والإنسان إذا أطلق العنان للقوّة الشهوية والغضبية ولم يُخضعهما لميزان العقل والشرع فمن المؤكّد أنّها سوف توقعانه في المعاصي والذنوب وتدفعانه إلى مخالفة أوامر الله تعالى. لذا على الإنسان المؤمن أن يُطهّر قلبه وباطنه وجوارحه من مفاسد الشهوات والغضب، وأن يكون شديد الحرص والانتباه كي لا يكون أسير شهوته وغضبه، وأن يجعلهما دائماً في طريق الخير الذي يُرضي الله ورسوله، ولا يجعلهما في طريق الشيطان الذي يُبغضه الله ورسوله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

38

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 
 
النصّ القرآنيّ:
قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1
 
 
النقاط المحوريّة:
• للذنوب آثار دنيوية وأخروية.
• الآثار الدنيوية للذنوب هي الفساد في الأرض، نزول العذاب الإلهي.
• حبط الأعمال في الدُّنيا، قساوة القلب، زوال النِّعمة، نقصان العمر.
• نسيان العلم، عدم استجابة الدُّعاء، الهزيمة العسكريَّة.
• عدم التَّوفيق للعبادة.



1 سورة الروم، الآية 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

39

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 آثار الذنوب

إنّ لكلّ ذنبٍ من الذُّنوب آثاراً، ولكن تارةً نتحدَّثُ عن الآثار التي وضعتها وحدَّدتها الشَّريعة المقدَّسة، كمن يشرب الخمر فإنّه يُجلد، والسارق تُقطع يده، وهكذا، وهذا ما يتحدّث عنه الفقهاء، ونجده في الرسائل العملية، ونُطلق عليه اسم الآثار الشرعيّة، والتي ليست مورد بحثنا. وأخرى نتحدّث عن الآثار الوضعيَّة التكوينيَّة، وهي المقصودة في هذا الدرس. وإنّ طبيعة آثار الذّنوب تختلف من عالَم إلى عالَم، فعندما نقول إنّ الذَّنب الفلاني له أثر، فلا بدّ من تحديد طبيعة العالَم الذي نتحدّث عنه، فمن آثار الذّنوب في الدُّنيا مثلاً حرمان العلم أو الرِّزق وغيرها من الأمور التي تتناسب مع طبيعة عالم الدُّنيا، أمّا آثار الذّنوب في عالم البرزخ فإنّها تتناسب مع طبيعة ذلك العالم، كوحشة القبر وظلمته والمساءلة فيه ... وأيضاً آثار الذّنوب في الآخرة تتناسب مع طبيعة عالم الآخرة، من غضب الله، والحسرة والندامة، والعمى يوم القيامة... وفيما يأتي نُبيّن بعض الآثار الخطيرة للذنوب في الدُّنيا، وهي:
 
الفساد في الأرض
قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1. من آثار الذّنوب والمعاصي أنّها تُحْدِث في الأرض أنواعاً من الفساد في الماء والهواء والزّرع والثّمار وغير ذلك. فالآية الكريمة تدعو للاتّعاظ بما حلَّ بالأمم السَّابقة من المصائب التي ما كانت إلا بما كسبت أيديهم، من الفساد والذّنوب والآثام، فيوشك أن يحلّ بالمخاطَبين مثل ما حلّ بأولئك.
 
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "ما من سنة أقلّ مطراً من سنة، ولكنّ الله



1 سورة الروم، الآية 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

40

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 يضعه حيث يشاء. إنّ الله عزّ وجلّ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم، وإلى الفيافي والبحار والجبال، وإنّ الله ليُعذّب الجُعَلَ1 في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلّها خطايا من بحضرتها، وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوى محلّة أهل المعاصي. قال: ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾2"3.

 
نزول العذاب الإلهي
يعتمد القرآن الكريم في طرقه وأساليبه التَّربوية المتعدِّدة طريقةَ ربط الماضي بالحاضر، لأنَّ الارتباط بين هذين الزَّمنين يوضِّح الحقائق التاريخيَّة، ويكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة وضرورة اعتبارها بما حصل في الأمم السابقة، ويوقفها على واجباتها تجاه خالقها، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾4، وهذا يعني أنّ لله في الأمم سنناً عامّة لا تختصّ بهم، إذ هي تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سننٌ للتقدّم والبقاء، وسنن للتّدهور والاندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين الواعين لقداسة عملهم وأهميّة جهادهم، والاندحار والتَّدهور للأمم الكافرة، والأمم البعيدة عن عزّ الجهاد المقدَّس، والغارقة في الذّنوب والآثام.
 
وقد ورد في القرآن الكريم آياتٌ تشيرُ بشكلٍ واضحٍ إلى وجود نوعٍ من الارتباط الوثيق بين الأعمال والذّنوب التي يقترفها الإنسان، وبين المصائب والابتلاءات التي تُصيبه بسبب تلك الأعمال، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾5، وقال تعالى في آية أخرى ﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم 



1 الجعل، هي الحرباء.
2 سورة الحشر، الآية 2.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص272.
4 سورة آل عمران، الآية 137.
5 سورة الشورى، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

41

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾1.

 
روي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية ، قال: "وهي النقمة، ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ﴾ فتحلّ بقوم غيرهم، فيرون ذلك ويسمعون به، والذين حلّت بهم عصاة كفّار مثلهم، ولا يتّعظ بعضهم ببعض، ولا يزالون، كذلك حتَّى يأتي وعد الله الذي وعدالمؤمنين من النصر، ويخزي الله الكافرين"2.
 
حبط الأعمال في الدُّنيا
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾3. من الآثار السَّلبيّة والخطيرة للذنوب أنّها تُحبط الأعمال في الدُّنيا. والحبط هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخّرة، والتكفير عكسه، أي سقوط الذّنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة. ومرجع هذه الفكرة هو معرفة مدى التأثير المتبادل بين الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة، فجميع الأعمال لها تأثير على بعضها، أي إنّ هناك تأثيراً وتأثُّراً وحبطاً وتكفيراً بصورةٍ مستمرّةٍ.
 
إنّ رضا اللّه تعالى شرطٌ في قَبول الأعمال، بل وفي كلّ سعيٍ وجهد. وعليه، من الطَّبيعي أن تُحبطَ أعمال أولئك الذين يُصرّون على إغضاب الله عزّ وجلّ وإسخاطه، ويخالفون ما يرتضيه، ويودِّعون هذه الدُّنيا وهم خالو الوفاض، قد أثقلتهم أوزارهم وأرهقتهم ذنوبهم.
 
قساوة القلب
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...﴾4. إنّ قسوة القلب وذهاب اللين والرحمة والخشوع مرض خطيرٌ جداً، قد ذمّ الله عليه بعض 



1 سورة الرعد، الآية 31.
2 الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، ج2، ص507، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع - قم، مؤسسة إسماعيليان، الطبعة الرابعة، 1412 - 1370 ش.
3 سورة محمد، الآية 28.
4 سورة البقرة، الآية 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

 


42

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 الأمم السابقة كبني إسرائيل، وإنّ صاحب القلب القاسي أبعد ما يكون عن الله تعالى، وصاحبه لا يُميِّز بين الحقّ والباطل، ولا ينتفع بموعظة ولا يقبل نصيحة.

 
فالقلب إذا صَلُح استقام حال العبد، وصحَّت عبادته، وصار يعيش في سعادة وهناء، وذاق طعم الأنس ومحبّة الله ومناجاته، ولكن إذا قسا القلب وأظلم، فسُد حال العبد، وخلت عبادته من الخشوع، وغلبت عليه مظاهر وآثار متعدِّدة، فتراه لا يخشع في صلاته وعبادته ولا يتأثّر بقراءة القرآن، ولا تنفعه المواعظ ولا يتأثَّر بها، ويحسّ بضيقٍ شديدٍ وفقرِ نَفْسٍ رهيب، حتَّى لو ملك الدُّنيا بأسرها. روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال بهحتَّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله"1.
 
إنّ تراكم المعاصي وظلمتها على قلب الإنسان يُصيّره طبعاً له، لأنّ الذّنوب لها ظلمات إنْ تراكمت صارت ريناً، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾2.
 
وإذا صارت هكذا، طُبع على قلب الإنسان، وهذا ما قد يُعبّر عنه بالقلب الأسود أو المنكوس وغير ذلك. إذ يُصبح هذا القلب قابلاً لكلّ أنواع الضلالة والانحراف، فلو فرضنا أنّ فيه نوراً ما، فإنّ ارتكابه الذّنوب ينزع من قلبه النّور، ولا يعود قابلاً لتلقِّي الحقّ أبداً، بل يخرج منه ما كان فيه من الحقّ فيصبحُ خالياً قابلاً لكلِّ ضلالةٍ وانحراف، لأنَّها من سنخه المظلم. لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: إذا "أذنب الرجل خرج من قلبه نكتة3 سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت. حتَّى تغلب على قلبه، فلا يُفلح بعدها أبداً"4. وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذّنوب"5.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص268.
2 سورة المطففين، الآية 14.
3 النكتة، النقطة، وكلّ نقطة في شيء بخلاف لونه فهي نكتة.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص271.
5 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

43

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 زوال النِّعمة

"النِّعمة هي الحال الحسن والعيش الرَّغيد، ونعمة العيش حسنه ونضارته، وزوالها عقوبة إلهية لمن لا يشكر الله على النِّعمة والعطاء، وارتكاب الذّنوب بشكلٍ عام يؤدِّي إلى زوال هذه النِّعمة، وإن كان هناك ذنوبٌ خاصَّة توجب تغيير النِّعمة، مثل البغي على النَّاس، وترك اصطناع المعروف وكفران النِّعم وترك الشّكر"، وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في دعاء كميل: "اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ"1. فالله تعالى بمقتضى عدله المطلق وقصده في حكمه لا يُغيِّر نعمةً أنعمها على أحدٍ، ولا يسلبها أحداً إلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾2.3
 
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾4.
 
روي عن الإمام علي عليه السلام: "فما زالت نعمةٌ ولا نضارةُ عيشٍ إلا بذنوب اجترحوا، إنّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد، ولو أنّهم استقبلوا ذلك بالدّعاء والإنابة لم تزل"5.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فسلبها إيّاه حتَّى يُذنب ذنباً يستحقّ السَّلب"6.



1 الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 269، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.مط، لا.ط، 1379 - 1338 ش.
2 السيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج3، ص332، جواد القيومي الاصفهاني، مكتب الإعلام الإسلامي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، رجب 1414.
3 سورة الانفال، الآية 53.
4 سورة الأعراف، الآية 96.
5 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج5، ص178.
6 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص274.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

44

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 نقصان العمر

لقد تحدّثت بعض الرّوايات عمّا يوجب زيادة العمر والرِّزق ونقصانهما وعدم البركة فيهما، كبرِّ الوالدين وعقوقهما، وصلة الرحم وقطيعتها، روي عن الإمام الصّادق عليه السلام: "من يموت بالذّنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثرممّن يعيش بالأعمار"1.
 
فالله تعالى إذا أنعم على مجتمع أو فرد نعمة زيادة العمر، فذلك من أجل التكامل المعنوي والاستفادة من نعمة الحياة. فالحياة على قسمان: حياة الأبدان، وحياة القلوب، وعمر الإنسان الحقيقي ليس إلا أوقات طاعته وارتباطه بالله تعالى، وبالتقوى تزيد هذه الساعات التي هي عمره الأصلي، وإذا أعرض عن الله واشتغل بمعاصيه ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية، فالمعاصي تؤثّر على حياة الأبدان كما تؤثّر على حياة القلوب.
 
نسيان العلم
إنّ نسيان العلم لعلّه من أصعب العقوبات التي تُصيب أرباب العلم، لأنّ العلم - كما تُعبّر بعض الروايات - هو نورٌ يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته، المنيبة إليه، والمعصية ظلمةٌ، ولا تنسجم الظّلمة مع النّور، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اتّقوا الذّنوب، فإنّها ممحقة للخيرات، إنّ العبد ليُذنب الذَّنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه"2.
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه"3. فالعلم على حدّ تعبير الإمام عليه السلام نورٌ يقذفه الله تعالى أو يقع في القلب، والمعصية ظلامٌ يُطفئ ذلك النّور، فإذا أكرم الله تعالى العبدَ بنور العلم، فينبغي عليه أن لا يُطفئه بظلمة المعصية.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص140.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص377.
3 م.ن، ج1، ص225.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

45

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 عدم استجابة الدُّعاء

فقد ورد في دعاء كميل: "اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الّذنُوبَ الّتي تُنْزِلُ البَلاَء"1. إنّ الذّنوب مانعةٌ من استجابة الدُّعاء، كما في الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه السلام، حيث قال: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة، فيكونمن شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيُذنب العبد ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضي حاجته واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي"2. "هذا يعني أنَّ للذّنوب والأعمال الخارجة عن طور الشَّريعة تأثيراً في سلب الرَّحمة، وذلك لأنّ الفيض الإلهي لا بُخْلَ ولا مَنْعَ من قِبَلِه، وإنّما ذلك بحسب عدم الاستعداد، وظاهر أنّ المذنب معرضٌ عنه غير معترض لرحمته، بل مستعدّ لضدّ ذلك أعني سخطه وعذابه، فاستحقّ بذلك أن لا ينال رحمته ويُحرم من الإجابة"3.
 
عدم التَّوفيق للعبادة
ينبغي أن تكون حياة الإنسان في طاعة الله، لأنّ الله تعالى خلقنا وجعل طاعته طريقاً أساسياً لمعرفته، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4، فهناك تبادلٌ بين ارتكاب المعصية وحرمان الطَّاعة، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "استماع الغناء واللهو يُنبت النفاق في القلب، كما يُنبت الماء الزرع"5. وهكذا الذّنوب تؤثّر على الطاعات، فكلّما ازداد العبد معصيةً وبُعداً كلّما تثاقل عن الطاعة وحُرِمَ منها، وأحبّ المعصيةَ وألِفَها. ولو لم يكن للذَّنب عقوبةٌ وأثرٌ إلا أن يصدَّ عن الطَّاعة لكان في ذلك كفاية لما فيه من الحرمان، روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليُذنب



1 الشيخ الصدوق، إقبال الأعمال، ج3، ص332.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص271.
3 مولي محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج9، ص248.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج6، ص434.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

46

الدرس الخامس: ما هي آثار الذّنوب في الدُّنيا؟

 فيُحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم"1، فشبّه الإمام عليه السلام السيّئة في الرواية بالسكّين، لسرعة النّفوذ وقوّة التأثير.

 
الهزيمة العسكريَّة
أحد أهمّ أسباب الهزيمة التي تُصيب الأمّة في مقتلها وتؤدّي إلى ضعفها ووهنها هو بُعدُ كثيرٍ من المسلمين عن دينهم، وانغماسهم بالذّنوب والمعاصي، وعدم اتّحادهم أمام عدوّهم، وعدم 
توحّدهم تحت قيادة واحدة.
 
والتاريخ الإسلامي حدّثنا عن نموذجٍ مهمّ وهو معركة أحد، التي انتهت بتحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة، والسّبب الرّئيس الذي أدّى إلى ذلك هو المخالفة والمعصية التي ارتكبها بعض الجنود، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2. وقد أخبر الله تعالى في سياق بيان تلك الأحداث في غزوة أحد، فقال: ﴿...وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ...﴾3 ، فالله تعالى يُحدّثنا في هذه الآية عن معصية تلك الفئة التي كانت ترمي النبال، وعن عصيان هؤلاء لأمر الوليّ، وما ترتّب على هذا العصيان من آثار طالت الجميع.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص272.
2 سورة آل عمران، الآية 165.
3 سورة آل عمران، الآية 152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

47

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 
 
النصّ القرآني:
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾1.
 
النقاط المحوريّة:
• من آثار الذنوب في البرزخ: سكرات الموت وشدّة النزع، وحشة القبر وغربته وضغطة القبر.
• الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي: استحقاق دخول النّار، الفضيحة في الآخرة، الذلّ والهوان،الحسرة والندامة.
• تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة.



1 سورة آل عمران، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

48

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 آثار الذنوب في البرزخ

البرزخ في اللغة: "الحاجز بين الشَّيئين والمانع من اختلاطهما وامتزاجهما"1. قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾2، وقال سبحانه: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾3. فالقرآن الكريم أراد من هذا الاستخدام للفظ البرزخ أن يوضح أنّ هناك عالماً آخر يفصل بين الدُّنيا والآخرة، ولا بدّ للإنسان من المرور به كمقدّمة ليوم القيامة، وفي الرِّوايات ورد أنّ البرزخ هو القبر، وأنَّه عالم الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "البرزخ القبر، وهو الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة"4. وفيما يلي نستعرض أهمّ آثار الذنوب في البرزخ:
1- سكرات الموت وشدّة النزع:
قال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾5.
سكرات الموت من العقبات الصعبة، فشدائدها تُحيط بالمحتضر من جميع الجهات، فمن جهةٍ يواجه شدّة المرض والوجع وذهاب القوى من البدن، ومن جهةٍ أخرى يواجه مشهد العائلة من بكاء وعويل ووداع أحبّة، ومن جهةٍ ثالثة فراق ما جمع في عالم الدُّنيا من مالٍ وأملاكٍ وغير ذلك، ومن جهةٍ رابعةٍ يواجه قدومه على نشأةٍ هي غير هذه النشأة، ثمّ إنّ عينيه تريان أشياء لم ترها من قبل، وقد اجتمع عليه إبليس وأعوانه ليوقعوه في الشكّ، وهم يحاولون جاهدين أن يسلبوه إيمانه، ليخرج من الدُّنيا



1 الطريحي، مجمع البحرين، ج1، ص186.
2 سورة الرحمن، الآيتان 19 - 20.
3 سورة المؤمنون، الآية 100.
4 الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص553.
5 سورة ق، الآية 19.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

49

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 بلا إيمان، هذا كلّه إلى جانب هول حضور ملك الموت، وبأيّ صورةٍ وهيئةٍ سيأتي، وبأيّ نحوٍ سوف يَقبض روحه1.

 
فملك الموت عزرائيل عليه السلام لا يأتي بصورةٍ واحدةٍ لكلِّ النَّاس، فالصورة إمّا قبيحةٌ وإمّا جميلةٌ، بل إنّ شدّة قُبح صورته، أو شدّة جمالها مرتبطةٌ بأعمال الإنسان في الدنيا، فإذا كانت أعماله صالحةً أتاه الملك بصورةٍ جميلة، وإذا كان مبتلىً بالرذائل والمعاصي أتاه الملك بصورةٍ قبيحةٍ.
 
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ما من الشِّيعة عبدٌ يُقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّةٍ تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته"2.
 
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُشبِّه فيه الموت بالمصفاة، فيقول: "الموت هو المصفاة تُصفّي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يُصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، وتُصفّي الكافرين من حسناتهم، فيكون آخر لذّةٍ أو راحةٍ تلحقهم هوآخر ثواب حسنة تكون لهم"3.
 
وعليه فإنّ قبض روح الإنسان شدةً أو ضعفاً، وصورة الملك قُبحاً وحسناً مرتبطة بطبيعة الأعمال في نشأة الدُّنيا، والتي تظهر آثارها البرزخية من لحظة النّزع، وتستمر في كلّ عقبات البرزخ، فالإنسان لحظة سكرات الموت والاحتضار يُشاهد صور أعماله وآثارها.
 
2- وحشة القبر وغربته:
كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد بن أبي بكر: "يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته"4.



1 الشيخ عباس القمي، منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، ص107، تعريب وتحقيق: السيد ياسين الموسوي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، محرم الحرام 1419.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص157.
3 م.ن، ص153.
4 م.ن، ص218.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

50

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 وحشة القبر هي أول المنازل التي يمرّ بها الإنسان، وقد عُبّر عنها في الروايات بتعبيرات متعدِّدة، وهذه التعبيرات إمّا أهوال مستقلّة بذاتها، أو تُعبّر عن وحشة القبر لكن بألفاظ متعدِّدة، من قبيل: غمّ القبر، ضيق القبر، ظلمة القبر، وحشة القبر1.

 

 
وإنّ لهذا المنزل أهوالاً عظيمة ومنازل ضيّقة ومهولة، يصعب تصوّرها على العقل البشري، ولذا شرحها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام. تبدأ المنازل بوحشة القبر، فضغطة القبر، ثم المسألة في القبر وهكذا. ونحن نذكر هذه الأمور باختصارٍ شديدٍ للفت النَّظر إلى علاقتها بطبيعة الأعمال في عالم الدُّنيا، فالذّنوب والمعاصي تظهر آثارها في ذلك العالم.
 
وما يؤيّد هذا الأمر (أهوال القبر) ما ورد في الروايات من استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأنّ للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يُقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة، ليأخذ أهبّته، ثم يُقدّمه إلى شفير القبر"2.
 
وليست الوحشة حال جميع النَّاس لزاماً، بل هناك فئةٌ من النَّاس يؤمنُها الله منها، كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين...وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين..."3.
 
هذا الدُّعاء - وغيره من الرّوايات - يدلّ على التَّرغيب في فعل ما يُزيلُ وحشةَ القبر، وما تستأنس به النُّفوس، وهي الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة، وذلك لما روي من أنّهما يظهران بصورةٍ حسنةٍ في القبر، وهكذا الأعمال السيّئة تؤدّي إلى وحشة القبر



1 الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص562، مؤسسة فقه الشيعة - بيروت - لبنان، لا.مط، الطبعة الأولى، 1411 - 1991م.
2 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا. مط، الطبعة الثانية، لا. ت.
3 الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، بحار الأنوار، ج91، ص123.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

51

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 وشدّة أهواله، روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "... فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنتُ أُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، قال عليه السلام: فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنّة، قال: ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قط أحسن منك! فيقول: أنا رأيك1 الحسن الذي كنتَ عليه، وعملك الصالح الذي كنتَ تعمله..."2.

 
3- ضغطة القبر:
ضغطة القبر تعني التَّضييق على الميِّت، وإنّ طبيعة الأعمال هي التي تُحدّد شدّة هذا الشّعور بالضِّيق والأذى في عالم البرزخ، وهي تُحدّد أيضاً أمَدَ استمرار هذه الضَّغطة التي قد تكون شعوراً وأذى روحياً مؤقّتاً يزول بعد حين، وقد يستمر أمداً طويلاً، وقد يبقى إلى البعث والنشور.
 
ويُفهم من الرِّوايات أنّ هذه الضَّغطة يختلف حالها من شخصٍ إلى آخر، وذلك حسب درجة إيمانه وطبيعة عمله في نشأة عالم الدُّنيا، وأنّ هذه الضَّغطة لا تشمل كلّ الأموات، ومنها ما دلَّت عليه الروايات بأنّ القيام ببعض الأعمال يؤدّي إلى النجاة من ضغطة القبر.
 
عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام "قلتُ: جعلتُ فداك، فأين ضغطة القبر؟ فقال: هيهات ما على المؤمنين منها شيء. والله، إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه، فتقول: وطأ ظهري مؤمن، ولم يطأ على ظهرك مؤمن، وتقول له الأرض: والله، كنتُأُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فتفسح له مدّ بصره"3.



1 الرأي: يعني الاعتقاد والإيمان.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص130.
3 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

52

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 وتعبير الإمام الصادق عليه السلام في الرواية المتقدّمة "ما أقلّ من يفلت منها" يدلّ على أنَّ بعض المؤمنين قد يفلت من ضغطة القبر، كما هو ثابت في حقّ السيّدة فاطمة بنت أسد، وذلك حسب روايات أهل البيت عليهم السلام حيث رُفعت عنها ضغطة القبر ببركة نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبرها الشَّريف.

 
وينبغي الإشارة إلى أن ّضغطة القبر على المؤمن - لو حصلت - فهي من باب تطهيره من الذّنوب المتبقية في عالم الدُّنيا، فيخرج نقياً إلى عالم القيامة، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النِّعم"1.
 
وفي الرّوايات أنّ الميّت يتعرّض لضغطة القبر أو ضمّة الأرض، وأنّ هناك أعمالاً تؤدّي إلى ضغطة القبر أو إلى شدّتها، نذكر منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "عذاب القبر يكون من النميمة، والبول، وعزب2 الرجل عنأهله"3.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - عندما وصف سعد - قال: "إنّما كان من زعارة4 في خلقه على أهله"5.
 
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثٌ من الذّنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على النَّاس، وكفر الإحسان"6.
 
الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي
إنّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب فيها، والآخرة دار حساب ولا عمل فيها، إذ يُجزى كلّ إنسان حسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ. قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ 



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص221.
2 عزب الرجل عن أهله معناه ابتعاده عن فراشه وطعامه، مع ظلمه لزوجته.
3 الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص309، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، لا. مط، لا.ط، 1385 - 1966م.
4 الزعارة: - بتشديد الراء وتخفيفها - شراسة الخلق، والرجل شرس أي سيء الخلق.
5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص261.
6 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص312.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

53

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾1. في الحقيقة هناك علاقةٌ مباشرةٌ بين عمل الإنسان في الدُّنيا وحاله في الآخرة، فلا انفكاكَ بين العمل وجزائه، بل الجزاءُ هو باطنُ العمل، والآخرةُ هي ظرف ظهور الجزاء لا وجوده. فكلُّ عملٍ سوف يتجسَّمُ في الآخرة، فيراها الإنسان بصورةٍ مجسَّدةٍ تُحاكي طبيعة عمله الدُّنيوي، فتكون سبباً لسعادته أو شقائه. وفيما يلي نذكر أهمّ الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي:

1- استحقاق دخول النّار:
قال الله تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2 فمن الآثار المعروفة للذُّنوب والمعاصي أنّ مرتكبها إذا لم يتب فهو مستحقٌّ لدخول النّار، وقوله تعالى - في آية أخرى - يؤكِّد هذه الحقيقة: ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾3.
 
هذه الآيات الشريفة تُبيّن أنّ هناك من يدخل النّار بسبب بعض أعماله التي قام بها في عالم الدُّنيا، لكن لا يُخلَّد فيها، لأنَّ استحقاق الدُّخول إلى النّار يُتصوَّر بسببين، هما: الكفر بالله تعالى، والتمرُّد على الله ومعصيته، والاستحقاق هو غير الخلود في النّار الذي يكون بخصوص الكفر أو الشرك.
 
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لا يُخلِّد الله في النّار إلا أهل الكفر والجحود، وأهل الضلال والشرك"4، فالمؤمن الفاسق خارجٌ عن كلِّ الأقسام التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرِّواية.
 
رغم كلِّ ما تقدَّم من أنّ المؤمنَ لا يُخلَّد في النّار، ولكن هذا لا يعني عدم فعليّة دخوله إلى النّار، فقد ورد في الرِّوايات أنَّ بعضَ الذّنوب توجبُ تطويلَ أمدِ العذاب، ويُعاقب عليها بألوانٍ متعدِّدة، أو إنَّ الشَّفاعة قد لا تصلُ إليه إلا بعد مئات السِّنين، روي عن



1 سورة النساء، الآية 14.
2 سورة البقرة، الآية 81.
3 سورة النمل، الآية 90.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج8، ص351.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

54

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مئة عام، وإنّه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعّمن"1، والحديث فيه دلالةٌ على أنّ الذَّنبَ يمنعُ من دخول الجنَّة مدّةً من الزَّمن، ولا دلالة فيه على أنّه في تلك المدّة يكون في النّار أو في شدائد القيامة.

 
وروي عن الإمام علي عليه السلام أنَّه قال: "لا تتَّكلوا بشفاعتنا، فإنَّ شفاعتنا لا تلحق بأحدكم إلا بعد ثلاثمئة سنة"2، والحديث يوضح أنّ الشفاعة قد تأتي إذا مات المؤمن على التوحيد والنبوّة والإمامة، ولكن بعد ثلاثمئة سنة، ومقدار السنة عند الله يختلف عن مقدارها عندنا.
 
وهناك آيات كثيرة أخرى تُشير إلى خلود الكفّار والمنافقين في النّار، كقوله تعالى: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾3، فالكافر والمنافق يُخلّدان في النّار دون المؤمن كما تقدّم.
 
2- الفضيحة في الآخرة:
قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾4، الأشهاد: جمع شاهد، وهم الذين يشهدون بالحقّ للمؤمنين على المبطلين والكافرين يوم القيامة، وفي ذلك سرور للمُحقّ وفضيحة للمبطل، في ذلك اليوم العظيم.
 
تُشير الآية إلى معنىً دقيق، وهو أنّ يوم الأشهاد هو اليوم الذي يُبسَط فيه الأمر في محضر الله تعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافّة الخلائق، وهو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه أروع ما يكون، إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء ويزيد في كرامتهم، وإنّه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، ويوم لا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد5. قيل: الأشهاد أربعة: الملائكة، 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص272.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص331.
3 سورة التوبة، الآية 68.
4 سورة غافر، الآية 51.
5 الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 15، ص283، بتصرف -.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

55

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 الأنبياء، أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجوارح1. وما يهم في الأمر أنّ العبرة من قيام الأشهاد، واعتبار قولهم هو بيان شدَّة إظهار الفضيحة.

 
لذا ينبغي على الإنسان المؤمن العاقل أن يخافَ أهوالَ ذلك اليومِ العظيمِ، وأنْ يخافَ الفضيحةَ أمامَ الله ورُسله والأمم والنَّاس أجمعين.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشَّعبانية: "إلهي، قد سترتَ عليَّ ذنوباً في الدُّنيا، وأنا أحوج إلى سترها عليَّ منك في الأخرى. إلهي، قد أحسنت إليّ إذ لم تُظهرها لأحد من عبادك الصالحين، فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد..."2.
 
3- الذلّ والهوان:
من المشاهد التي تظهر يوم القيامة مشهد الذلّ والهوان اللذين يُصيبان العصاة. كقوله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾3، أي وجوهٌ تظهر عليها علائم الخزي والهوان، ثم يصفها بأوصافٍ أخرى كقوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾4، أي إنَّ هؤلاء العصاة كانوا يعملون في الدُّنيا بجدٍّ ولكن لغير الله تعالى، فمع كلِّ تعبهم وعنائهم لم يستفيدوا شيئاً من أعمالهم، فتكونُ آثارُ الخيبةِ باديةً على وجوههم يوم القيامة، وزيادةً في بيان حالهم من الذُّلّ والهوان، يقول الله تعالى: إنّ هذه الوجوه: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾، أي تُقاسي حرّ النّار وتُعذَّب بها، لأنّ أعمالهم في الدُّنيا كانت خاسرةً، غلبها الشرّ وفارقها الخير. وهناك آيات أخرى أيضاً تدلّ على هذا المعنى كقوله تعالى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ﴾5.



1 راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج22، ص442.
2 الشيخ الصدوق، إقبال الأعمال، ج3، ص297.
3 سورة القلم، الآية 43.
4 سورة الغاشية، الآيات 1 - 4.
5 سورة الأنعام، الآية 124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

56

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 4- الحسرة والندامة:

إنّ أحد أوصاف يوم القيامة هو: "يوم الحسرة والندامة"، قال الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾1، ويُستفاد من الآية:
أولاً: إنّه في يوم الحسرة والندامة يندم الكافر على كفره، والظَّالم على ظلمه، والمقصِّر في طاعة ربِّه على تقصيره، لكن المشكلة أنّه يوم لا ينفع فيه الندم.
 
ثانياً: ينبغي أن لا يكون المؤمن في غفلةٍ، بل على استعدادٍ دائمٍ للقاء الله تعالى.
 
فإنّ من عِظَم الحسرة التي تُصيب أهل النّار أنّ الواحد منهم يتمنَّى أن يفدي نفسه من عذاب الله بماله وولده والنَّاس أجمعين، بل بملك الدُّنيا بأسرها، مع أنّه طُلب منه ما هو أهون من ذلك فلم يفعل، قال تعالى: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾2.
 
5- تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة:
من الآثار الأخرويّة للذنوب تجسّد الأعمال بصورةٍ تتناسبُ مع طبيعة الذَّنب.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ...﴾3.
 
وهذه الآية تُبيّن تجسيم الأعمال في الآخرة، وتدلّ على أنَّ الأموالَ المكتسبة عبر هذا الطَّريق المحرَّم، هي في الواقع نيرانٌ تدخلُ في بطونهم، وتتجسَّمُ بشكلٍ واقعيٍّ في الآخرة.
 
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾4.



1 سورة مريم، الآية 39.
2 سورة المعارج، الآيات 11 - 14.
3 سورة البقرة، الآية 174.
4 سورة آل عمران، الآية 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

57

الدرس السادس: ما هي الآثار البرزخية والأخروية للذنوب؟

 تشيرُ هذه الآية إلى حضور الأعمال الصَّالحة والسيِّئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئٍ ما عملَ من خيرٍ وما عملَ من شرٍّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصَّالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرُّعب، ويتمنُّون لو أنَّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها، ولم تقل الآية : يتمنّون فناء أعمالهم وسيّئاتهم، لأنّهم علموا أنَّ كلَّ شيءٍ في ذاك العالم لا يفنى، فلذلك تمنّوا الابتعاد عنها.

 
فالإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما كانت قليلة، وهذا ينسجم مع كلمة "تجد"، من الوجود من العدم في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾1.



1 راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،ج2، ص463 بتصرف -.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

58

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 
 
النصّ القرآنيّ:
قال الله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾1.
 
النقاط المحوريّة:
• فضل الأصدقاء
وأهمّية الصّداقة.
• من هم أصدقاء السوء؟
• خير الإخوان وكيفية اختيارهم.



1 سورة الفرقان الآيتان، 28-29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

59

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 فضل الأصدقاء وأهمّية الصّداقة

الإنسان مدنيّ واجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش بمفرده منعزلاً عن النّاس، لأنّ اعتزالهم باعث على استشعار الغربة والوحشة والإحساس بالوهن والخذلان، إزاء طوارئ الأحداث وملمّات الزمان. من أجل ذلك كان الإنسان توَّاقاً إلى اتّخاذ الخُلَّان والأصدقاء، ليكونوا له سنداً وسلواناً يُخفِّفون عنه المتاعب ويُشاطرونه السَّرَّاء والضَّرَّاء. وقد تضافرت دلائل العقل والنَّقل على فضل الأصدقاء والتّرغيب فيهم، ومنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله"1
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من استفاد أخاً في الله استفاد بيتاً في الجنّة"2. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "عليك بإخوان الصِّدق فأكثِر من اكتسابهم، فإنَّهم عُدَّة عندالرَّخاء وجُنّة عند البلاء"3.
 
ولا شكّ في أنّ مسألة الصُّحبة واختيار الصَّديق هي من المسائل المهمَّة الّتي ينبغي أن يعتني بها الشَّباب، فينبغي عليهم أن ينتبهوا إلى أنّ أصدقاء مرحلة الشّباب لهم دورهم المؤثِّر في بناء شخصيَّة الإنسان وتكوين طباعه وأخلاقه، فالصَّديق المؤمن العاقل يستطيع أن يهدي الإنسان إلى درب الفضيلة والكمال، وأمّا الصَّديق الفاسق السَّيِّئ فقد يجرُّ صاحبه إلى طرق الإثم، وبالتّالي سيُدمِّر حاضره ومستقبله الدّنيويّ والأخرويّ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم منيُخالل"4.
 
ولخطورة الصّداقة وضع الإسلام موازين دقيقة لاختيار الصَّديق، وألفت إلى صفات أصدقاء السّوء وأصدقاء الخير.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 169.
2 م. ن، ج 75، ص 78.
3 م. ن، ص 192.
4 م.ن، ج 75، ص 193.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

60

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 من هم أصدقاء السوء؟

أصدقاء السوء هم من الّذين لا ينبغي أن نُعاشرهم، وقد جرى تصنيفهم في أحاديث أهل البيت‏ عليهم السلام على الشكل الآتي:
1- الأحمق الكذّاب:
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إيّاك وصحبة الأحمق الكذّاب، فإنّه يُريد نفعك فيضرّك، ويُقرّب منك البعيد، ويُبعّد منك القريب، إنْ ائتمنته خانك، وإنْ ائتمنك أهانك، وإنْ حدّثك كذّبك، وإنْ حدّثته كذّبك، وأنت منه بمنزلة السَّراب الذي: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾1"2.
 
إنّ هذه الأخطار الأخلاقيّة والعواقب السّيّئة الّتي عدّدها الحديث من قبيل الإضرار والخيانة والإهانة والتّكذيب، كافية للرَّدع عن معاشرة من يتَّصفون بهذه الصِّفات، ومعرفة أنَّ مصير العلاقة معهم هو الفشل، لأنّها ستكون هدّامة ومؤدِّية إلى الانحطاط لا إلى الارتقاء.
 
2- صاحب الغاية الدُّنيويَّة:
وهو الّذي يصحبك، ليستفيد منك مالاً أو جاهاً، أو غير ذلك من الأطماع الّتي لا تجعل تلك الصُّحبة قائمة على أساس التّقوى وليس فيها الصِّدق والإخلاص. وهو الذي سرعان ما يتخلَّى عن تلك العَلاقة حينما يصل إلى هدفه منك.
 
3- الضَّال المُضلّ:
من أهمّ آثار ونتائج الصُّحبة السَّيِّئة أنَّها عامل مباشر في ضلال الإنسان وخروجه عن جادّة الحقّ والصِّراط المستقيم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾3.



1 سورة النور، الآية 39.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص 192.
3 سورة الفرقان الآيتان، 28-29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

61

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 4- الفاجر:

الفاجر هو كثير العصيان، بمعنى آخر هو المنبعث في المعاصي والذنوب1، عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لا تصحب الفاجر فيُعلّمك من فجوره"2.
 
ثمَّ قال عليه السلام: "أمرني والدي بثلاث ونهاني عن ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بنيّ‏َ من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يُتّهم، ومن لا يملك لسانه يندم"3.
 
5- الفاسق:
فَسَقَ فلان: خرج عن حجر الشّرع ، وذلك من قولهم: فَسَقَ الرُّطَبُ ، إذا خرج عن قشره ، وهو أعمّ من الكفر . والفِسْقُ يقع بالقليل من الذّنوب وبالكثير ، لكن تعارف فيما كان كثيراً، وأكثر ما يُقال الفَاسِقُ لمن التزم حكم الشّرع وأقرّ به ، ثمّ أخلّ بجميع أحكامه أو ببعضه، وإذا قيل للكافر الأصليّ: فَاسِقٌ، فلأنّه أخلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة4.
 
وقد أمرت الشريعة بتجنّب مصاحبة الإنسان الفاسق، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال لولده الباقر عليه السلام: "يا بنيّ انظر خمسة فلا تُصاحبهم ولا تُحادثهم ولا تُرافقهم في طريق...(إلى أن قال) وإيّاك ومصاحبة الفاسق، فإنَّه بايعك بأكلة أو أقلّمن ذلك"5.
 
6- البخيل:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام في نفس الرواية السّابقة أنّه قال: "وإيّاك ومصاحبة البخيل، فإنَّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه"6.



1 ابن منظور، لسان العرب، ج5, ص 45، نشر أدب الحوزة، لا.مط، لا.ط، محرم 1405.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 71، ص191.
3 م. ن، ج 68، ص 278.
4 الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 636-637، صفوان عدنان داوودي، طليعة النور، سليمان زاده، الطبعة الثانية، 1427.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص376-377.
6 م.ن. ص 377.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

62

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 7- القاطع لرحمه:

روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنِّي وجدته ملعوناً في كتاب الله،ـ عزّ وجلّ، في ثلاثة مواضع: قال الله عزّ وجل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾1 وقال عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾2"3.
 
8- الكافر:
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يواخينَّ كافراً"4.
 
9- الشِّرّير:
قال الإمام الجواد عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة الشِّرّير، فإنَّه كالسَّيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره"5.
 
10- صاحب اللهو:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك، فإنَّه يخذلك ويوبقك"6.
 
11- الجبان:
الجبن من الصفات القبيحة والمذمومة، وقد ردعت الروايات عنها وعن مصاحبة الجبناء، لأنّ الجبان يخذلك ويخذل أهله، في ذروة الحاجة إلى مساندته، عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تُصادق ولا تواخِ أربعة: الأحمق والبخيل والجبان والكذّاب..." إلى أن يقول عليه السلام: "وأمّا الجبان، فإنَّه يهرب عنك وعن والديه"7.



1 سورة محمد، الآية 22.
2 سورة الرعد، الآية 25.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص376.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج ‏71، ص ‏197.
5 م. ن، ج 71، ص 198.
6 الآمدي، غرر الحكم، ص 294.
7 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص 192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

63

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 12- ناشر المثالب1:

ورد النهي عن مصاحبة من ينشر العيوب ويستر المناقب، لأنَّ فعله ناتج إمّا عن بغض، وإمَّا عن حسد، ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تواخِ من يستر مناقبك وينشر مثالبك"2.
 
13- رهين المداراة:
وهو الّذي لا يمكن استمرار الصَّداقة معه على قواعدها السَّليمة دون الخضوع إلى كثير من التَّكلّف والتَّجمّل، وهو ما يكون مع الأشخاص الّذين هم سريعو الغضب والانفعال، وإذا ما غضبوا هم لا يغفرون. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لك بأخٍ مناحتجت إلى مداراته"3.
 
14- مجهول الموارد والمصادر:
يقول الإمام الحسن‏ عليه السلام: "لا تواخ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره، فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة، فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العُسرة"4.
 
15- الزاهد بأخيه:
ورد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ترغبَّن فيمن زهد فيك، ولا تزهدنّ فيمن رغب فيك"5.
 
16- صاحب البدعة:
البدعة مرفوضة في الشريعة الإسلامية، والبدعة إدخال أمر في الدين ليس موجوداً فيه. جاء عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تُجالسوهم، فتصيروا عند النّاس كواحدٍ منهم..."6.



1 المثالب: العيوب.
2 الآمدي، غرر الحكم، ص294, الحديث الحكمة- 9565.
3 م.ن، ص 284, الحديث الحكمة - 9551.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص105-106.
5 م.ن، ج71، ص166.
6 الشيخ الكليني، الكافي، ج‏2، ص‏375. بحار الأنوار، ج 74، ص 138.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

64

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 17- النمّام، الخائن، الظلوم:

قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "احذر من النّاس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ‏َ إليك سينمُّ عليك"1.
 
18- متتبِّع العيوب:
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إيّاك ومعاشرة متتبّعي عيوب النّاس، فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم"2.
 
خير الإخوان
حدّدت لنا الروايات الشريفة صفات عديدة للأصدقاء والإخوان، وأرشدتنا إلى كيفية اختيار أفضلهم، وأقربهم إلى الله، لأنَّ القرين والصاحب يؤثّر على دين المرء وسلوكه، فالمرء على دين خليله كما ورد في الروايات الشريفة.
 
لذا ينبغي أن نختار من توفّرت فيه الملامح التي رسمها وحدّدها المعصومون عليهم السلام على الشكل الآتي:
1- الدَّاعي إلى الله تعالى:
والمراد منه من كانت دعوته بالعمل، إضافة إلى القول، كما عبّرت عن ذلك النصوص الشريفة حيث ورد عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام: "خير إخوانك من سارع إلى الخير وجذبك إليه وأمرك بالبِرّ وأعانك عليه"3.
 
2- المعين على الطّاعة:
الطّاعة هدف خلقة الإنسان الحقيقي في هذه الدُّنيا، وخير الأصدقاء من يُعين على هذا الهدف السّامي. ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا سُئل من أفضل الأصحاب: "من إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكّرك"4.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 138.
2 الآمدي، غرر الحكم، ص 284, الحديث الحكمة - 9887.
3 م.ن، ص284, الحديث الحكمة - 9534.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 138.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

65

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "المعين على الطّاعة خير الأصحاب"1.

 
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه"2.
 
3- الصَّادقون:
وهم الّذين ينبغي معاشرتهم، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وعليك بإخوان الصِّدق فأكثِر من اكتسابهم، فإنّهم عُدّة عند الرَّخاء وجُنّة عند البلاء"3.
 
وعن الإمام الحسن عليه السلام في وصيِّته لجنادة في مرضه الّذي توفّي فيه: "إصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلتَ صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددتَ يدك بفضلٍ مدّها، وإن بدت عنك ثلمةسدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن سألتَه أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمَّات به ساءك"4.
 
4- من يُذكّرنا بالله والآخرة:
عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينما سُئِل أيّ الجلساء خير؟ فقال: "من ذكّركم بالله رؤيته وزادكم في علمكم منطقه. وذكّركم بالآخرة عمله"5.
 
5- مصاحبة العلماء:
أكّدت الرّوايات المباركة على صحبة العلماء ومجالستهم، لأنّهم قادة الركب الرَّبَّانيّ الّذين يأخذون بيد المرء إلى العالم العلويِّ ويصلون به إلى حيث أراد الله سبحانه، من خلال بثّ معارفهم وممارسة دورهم في الهداية والتّربية، والدِّفاع عن مبادى‏ء الدِّين وصيانة الشَّريعة من أن تدخلها البدع والانحرافات. وممّا ورد في ذلك عن أمير 



1 الآمدي، غرر الحكم، ص 284, الحكمة - 9508.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 164.
3 م.ن، ج 71، ص 187.
4 م. ن، ج 44، ص 139.
5 م. ن، ج‏71، ص‏186.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

66

الدرس السابع: الأخوّة والصّداقة

 المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "جالس العلماء يزدد علمك ويحسن أدبك"1.

 
وما في وصية لقمان لابنه: "يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنَّ الله عزّ وجلّ يُحيي القلوب بنور الحكمة، كما يُحيي الأرض بوابل السَّماء"2.
 
وفي المقابل، فإنّ ترك مجالسة العلماء موجب للخذلان، لأنَّ الابتعاد عنهم معناه الابتعاد عن المدرسة الإلهيّة الّتي أمر المولى سبحانه بالتَّربّي في كنفها وتحت ظلالها، وهذا ما جاء صريحاً في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "أو لعلّك فقدتني منمجالس العلماء فخذلتني"3.
 
6- مصاحبة الحكماء والحلماء:
وهناك روايات أكّدت أيضاً على مصاحبة الحكماء ومجالسة الحلماء، لِما في هذين الصنفين من النّاس من مواصفات عالية تترك آثارها في الجنبة العلميّة والعمليّة بما يُساعد الإنسان عبر العلاقة بهم في طريقه إلى الكمال.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أكثر الصَّلاح والصَّواب في صحبة أولي النُّهى والصَّواب"4.



1 الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص430، نشر مكتب الاعلام الاسلامي، قم , 1407هـ.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 1، ص 204.
3 م.ن، ج 95، ص 87.
4 الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

67

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 
 
 
النصّ القرآنيّ:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾1.
 
النقاط المحوريّة:
• ما هي الأمانة؟
• الأنواع المختلفة للأمانة.
• آثار وفوائد أداء الأمانة.
• ما هو كتمان السِّرِّ؟
• إفشاء السرّ من مصاديق الخيانة.



1 سورة النساء، الآية 58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

68

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 ما هي الأمانة؟

المقصود من الأمانة مراعاة وحفظ أمور معيّنة، وأداء المسؤولية والتكليف تجاهها على أتمّ وجه.
 
وتُعتبر الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وقد ورد الحثّ عليها في الإسلام بشكل كبير جدّاً. وأولاها علماء الأخلاق والسّالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذّات والشّخصيّة، وعلى العكس من ذلك "الخيانة" فتُعتبر من الذُّنوب الكبيرة والرّذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعيّ.
 
فالأمانة رأس مال المجتمع الإنساني والسبّب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الرّوابط بين النّاس، في حين أنّ الخيانة بمثابة النّار المحرقة الّتي تُحرق العلاقات الاجتماعيّة وتؤدّي إلى الفوضى والشَّقاء.
 
إنَّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات
ورد لفظ الأمانة والأمر بها بشكل صريح في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى، في محكم كتابه:
﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾1.
 
وفي وصف الله تعالى، للمؤمنين يقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾2.
 
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾3.



1 سورة البقرة، الآية 283.
2 سورة المؤمنون، الآية 8.
3 سورة النساء، الآية 58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

69

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 ويقول جلّ وعلا: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾1.

 
ولم يكن التّأكيد في السنة الشريفة على مسألة الأمانة أقلّ شأناً ولا أنقص من الآيات الكريمة، حيث ورد من الأحاديث الشّريفة عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمّة المعصومين عليهم السلام ما يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة، إذ وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الأصول والمباديء الأساسيّة المشتركة بين جميع الأديان السّماوية، وتارة أخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرِّزق والثَّروة والثِّقة والاعتماد لدى النَّاس وسلامة الدِّين والدُّنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الرِّوايات الشَّريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة: في حديث آخر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ"2. وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَميَبعَثْ نَبِيّاً إلاّ بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفـاجِرِ"3.
 
وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أُقسم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن، أدِّ الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلَّ حتّى في الخيط والمخيطِ"4. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "عليكم بأداء الأمانة، فوالّذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ عليه السلام ائتمنني على السَّيف الّذي قتله به لأدّيته إليه"5.
 
وورد عن الإمام الرّضا عليه السلام قوله: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم، وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"6.



1 سورة البقرة، الآية 283.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص198. تحقيق: البهبوديّ.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص104.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 273.
5 م. ن، ج 72، ص 114.
6 م. ن، ج 72، ص 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

70

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 وعن لقمان الحكيم قائلاً لابنه: "... كُن أميناً، فإنّ الله تعالى لا يُحبّ الخائنين"1.

 
إلى غير ذلك الكثير من الرِّوايات الشَّريفة الّتي تمدح الأمانة وتذمّ الخيانة.
 
الأمانة وأنواعها
عند الحديث عن الأمانة فإنّ أغلب النّاس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأمور الماليّة، إلّا أنّ الأمانة بمفهومها الواسع تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنِّعم الرّبّانيّة على الإنسان.
 
إنّ جميع النّعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات إلهيّة بيد الإنسان.
 
1- الأموال: الأموال والثّروات المادّيّة، والمقامات، والمناصب الاجتماعيّة، والسياسيّة، هي أمانات بيد النّاس، ويجب عليهم مراعاتها وحفظها وأداء المسؤوليّة تجاهها.
 
2- الأبناء: الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، والكائنات الطّبيعيّة أمانة بيد الإنسان لا ينبغي التّفريط فيها.
 
3- التَّكليف الشّرعي: قد أطلقت الآيات القرآنيّة الأمانة على التّكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾2.
 
فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة والتّكليف الملقَى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة والإرادة.
 
4- الصّلاة: وكذلك الرِّوايات أطلقت الأمانة على الصّلاة، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عندما سُئل عن سبب تغيّر حاله وقت الصّلاة، قال: "جاء وقت الصّلاة، وقت أمانة عرضها الله على السّموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"3.



1 الآمدي، غرر الحكم، ص 223, الحديث الحكمة - 7415.
2 سورة الأحزاب، الآية 72.
3 الحويزي، نور الثقلين، ج 4، ص 313.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

71

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 5- عمل الإنسان: عن أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً للأشعث بن قيس: "وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة"1.

 
6. الأسرار: في الحديث النّبويّ: "المجالس بالأمانات"2، لأنّ في المجالس أسراراً وخصوصيّات لا ينبغي إفشاؤها.
 
آثار أداء الأمانة
إنّ من أهمّ فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعيّ هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة النّاس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التَّعاون والثِّقة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
 
فلولا وجود الثِّقة والاعتماد لساد قانون الغاب، ولحلّ التَّنافر بدلاً من التّكاتف والتّعاون والتّعامل.
 
ثمّ إنّه إذا سادت الأمانة في المجتمع، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسّكينة الفكريّة والرّوحيّة، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف للأفراد، بحيث يعيشون حالة من الإرباك في علاقاتهم مع الآخرين من الخطر المحتمل الّذي ينتظرهم.
 
والأمانة سبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين أفراد المجتمع، في حين إنّ الخيانة تُعتبر عاملاً للكثير من الجرائم والحوادث السلبيّة وأشكال الخلل الاجتماعي. وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ، فَإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ ابتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ"3.



1 نهج البلاغة، تحقيق الصّالح-، ص 366.
2 الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 75، تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف، لا.مط، لا.ط، 1386 - 1966م.
3 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج15، ص 254.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

72

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث، كما إنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، والأمانة نوع من الصدق في العمل، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك وتُعبّران عن وجهين لعملة واحدة، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إذا قَويَت الأَمـانَةُ كَثُرَ الصّدقُ"1.

 
لا تأتمن الخائن
المؤمن كيّس فطن، ينبغي أن يتعامل مع أهل الأمانة، ولا يكن بسيطاً يأتمن أيّاً كان، ومن هنا جاء التَّحذير من التَّعامل مع بعض النَّاس.
 
فعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان، لأنّه قد نهاه أن يأتمنه"2.
 
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد علمه، فليس له على الله ضمان ولا أجر له ولا خلف"3.
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن"4.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "مَن عرف مِن عبد مِن عبيد الله كذباً إذا حدّث، وخلفاً إذا وعد، وخيانة إذا ائتمن، ثمّ ائتمنه على أمانة، كان حقّاً على الله تعالى أن يبتليه فيها ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره"5.
 
في هذه الروايات نهي صريح عن ائتمان الخائن، وتحذير من التعامل معه وإلا فإنَّ ائتمانه سيؤدّي حتماً إلى الندم والخسران.



1 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص285.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 76، ص 127.
3 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 19، ص 84.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 335.
5 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 19، ص 88.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

73

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 ما هو كتمان السِّرِّ؟

كتمانُ السِّرِّ هو عدم البَوْح والإذاعة به، لما لذلك من خطر وضرر على الفرد، أو الجماعة، أو الجهة. ومن النّاحية الشّرعية، فإنّ كلّ ما يؤدِّي إفشاؤه وإذاعته إلى ضرر على الفرد، أو المجتمع، هو من المحرَّمات المؤكّدة وكتمانه من الواجبات.
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "سِرُّك أسيرك فإنْ أفشيته صُرت أسيره"1، وقال عليه السلام: "كاتم السرِّ وفيٌّ أمين"2. وقال عليه السلام: "ملاك السِّرِّ سَتْره"3.
 
إفشاء السرّ خيانة
حفظ السرّ هو من الخصال الإلهيّة، ومن أوصاف المؤمنين الكاملين، وعلامة العقل ومنبع الخيرات. الإنسان الذي يحفظ السرّ وفيّ وأمين، وهو يحفظ منزلته بحفظ الأسرار، وهو يحترم أعراض ونواميس الآخرين. من هذه الجهة يؤكّد الإسلام على حفظ الأسرار، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ"4. ويقول عليه السلام في مكان آخر: "كن بأسرارك بخيلاً"5.
 
إنّ دور حفظ الأسرار في حياة الإنسان حيويّ، بمنزلة دمه الذي يجري في عروقه: "سرّك من دمك، فلا يجرينّ من غير أوداجك"6. يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّه كما إنّ جريان الدم في البدن موجب لاستمرار الحياة، فإذا أُريق إلى الخارج أدّى بالإنسان إلى الموت، فإنّ أسرار الإنسان أيضاً كذلك، إذا خرجت وسارت في غير مجراها الطبيعي، فإنّ حياة الإنسان ستتزلزل وستكون عرضة للخطر الجديّ.
 
فبنفس المقدار الذي يؤكّد فيه الإسلام على حفظ الأسرار وكتمانها، فإنّه في المقابل أيضاً نهى بشدّة عن إفشاء الأسرار، وعدّها من مصاديق الخيانة، كما عن أمير



1 الآمدي، تصنيف غرر الحكم، ص320.
2 م. ن.
3 م. ن.
4 الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج7، ص436، تحقيق وتصحيح: الشيخ حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.مط، لا.ط، 1418.
5 الآمدي، تصنيف غرر الحكم، ص320.
6 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص71.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

74

الدرس الثامن: الأمانة وكتمان السر

 المؤمنين عليه السلام: "ولا تذع سرّاً أُودِعْتَه، فإنّ الإذاعة خيانة"1. وفي بعض الروايات عُدّ إفشاء الأسرار مشاركة في قتل النفس البريئة والأنبياء الإلهيّين، وعواقب هذا العمل كما هو معروف العذاب الأليم في نار جهنّم. فعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾2، قال عليه السلام: "أما والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولكنأذاعوا سرّهم، وأفشوا عليهم، فقُتلوا"3.

 
إفشاء الأسرار العسكرية
إفشاءُ الأسرار العسكريّة لدولة الإسلام وللمجاهدين بشكل عام هو من الكبائر لما فيه من مخاطر قد تؤدِّي إلى قتل النُّفوس وإباحة الممتلكات، ناهيك عن الهزيمة لجيوش المسلمين وسقوط دولتهم. وبهذا اللحاظ وردت الأدلَّة الشّرعيّة الّتي تُربّي الفرد والجماعة على الكتمان.
 
إنَّ كتمان الأسرار العسكريّة هي من الأخلاق العمليّة، التي ينبغي أن تتملَّك شخصيّة المجاهدين، لموقعهم الحسَّاس والخطر، والخطأ الّذي يُرتكب هو الأوَّل والأخير، والنَّتيجة ستكون في غاية الخطورة عندئذ ومن ورائها خسارات كبرى لا تُعوَّض، من قتلٍ وأسرٍ واحتلال مواقع. وقد تؤدِّي الأمور إلى هزيمة الجيش بكامله، كما حدث في معركة أحد، وقد تؤدِّي إلى سقوط دولة الإسلام بكاملها.
 
إنَّ المجاهد أمام مسؤوليَّةٍ كبرى وبين يديه أمانةُ إخوانه المقاتلين، وأمانة الأمّة التي سلَّمته ظهرها ليحرسها ويحفظ حدودها.
 
إنّ أيَّ إذاعة للسّرّ تُرتكب ولو من دون قصدٍ تُعتبر خيانة كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإذاعة خيانة"4.
 
ولا يمكن أن يجتمع جهاد في سبيل الله وخيانة، وهو أشبه باجتماع النَّقيضين، فإنّ المجاهد يبذل دمه في سبيل الوطن والأمّة، والإذاعة للأسرار العسكريّة هو إباحة الوطن والأمة للأعداء، ومن هنا غلَّظ الإمام عليّ عليه السلام الوصف بقوله: "من أقبح الغدر إذاعة السِّرّ"5.



1 الآمدي، تصنيف غرر الحكم، ص320.
2 سورة آل عمران، الآية 112.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص371.
4 الواسطيّ، عيون المواعظ والحكم، ص 37.
5 الآمدي، غرر الحكم، ص 223.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

75

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 
 
النصّ الروائيّ:
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنّما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسبّبها له، فإنْ قضى حاجته كان قد قَبِل الرَّحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنّه ردّ عن نفسه رحمة من الله عزَّ وجلَّ ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة، حتّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره..."1.
 
النقاط المحوريّة:
• خدمة النَّاس رحمة إلهيَّة.
• خدمة النَّاس هي خدمة الله‏ تعالى.
• خدمة الناس أفضل الأعمال‏.
• كيف نخدم النَّاس؟
• الثّمار الطّيّبة لخدمة النّاس‏.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 193.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

76

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 خدمة النَّاس رحمة إلهيَّة

من النّعم الإلهيّة الكبرى أن يوفّق الإنسان للقيام بخدمة أو معروف اتجاه إخوانه، لأنَّه لو اطلع على ما أعدّه الله تعالى له من عطاء أبدي لا ينفذ لأدرك أنّ الأمر بالعكس، بمعنى أنّ المحتاج والمخدوم هو الّذي يُسدي خدمة للخادم والباذل، لأنَّه السّبب في حصوله على هذه الهبة الرّبانيّة الفريدة، وعليه ليس من الصّواب أن تُتاح فرصة لأحدنا بتقديم مساعدة للآخرين وقضاء حوائجهم فيفوِّت تلك الفرصة. وقد دعت الشريعة المقدّسة إلى التنافس في خدمة الناس وتقديم المعروف إليهم فعن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإنّ للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا، فإنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عنشماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته..."1.
 
وإنْ طَرَقَ بابك أحدهم طلباً للمعونة استبشر خيراً، ، فتلك رحمة من الله تعالى ساقها إليك، فإنْ قضيتَ حاجته فقد قبلتَ الرحمة الإلهية وكان ذلك ذخراً وزيادة في ميزانك يوم القيامة، وإن رفضتها فقد منعت عنك الرحمة والخير، فقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنّما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسبّبها له، فإنْ قضى حاجته كان قد قبل الرَّحمة بقبولها، وإنْ ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنّه ردّ عن نفسه رحمة من الله عزَّ وجلَّساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة، حتّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إنْ شاء صرفها إلى نفسه، وإنْ شاء صرفها إلى غيره..."2.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 195.
2 م.ن ص 193.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

77

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 وفي الوصيَّة المتقدِّمة حدّثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن الثَّواب الجزيل المعدّ لأهل المعروف، جزاء مشيهم وخطواتهم في حاجات إخوانهم مشيراً إلى الميدان الّذي فيه تكون هذه التّجارة الرَّابحة مع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عليه السلام: "من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا". فعلينا اغتنام هذه الفرصة الثّمينة، وتزيين صفحات وجودنا بها، ولنا من الخالق سبحانه، خير الجزاء.

 
خدمة النَّاس هي خدمة الله‏
فيما جاء عن مولانا الصَّادق عليه السلام قوله: "من قضى لأخيه المسلم حاجة كان كمن خدم الله تعالى، عمره"1.
 
يكشف لنا هذا الحديث الشّريف عن عمق وحقيقة الخدمة الإنسانية مبيّناً أنّها خدمة إلهيّة طالما المراد بها وجه الله تعالى، ونيل رضاه، وإلّا لو كانت للتّباهي وكسب مودَّة أصحاب النُّفوذ والرياء يراد بها وجه الناس، فليس هناك شكّ في عدم اعتبارها خدمة للَّه تعالى وإنّما خدمة للنّاس بغية نيل مكانة لديهم أو الحصول على منصب من مناصب الدُّنيا الفانية.
 
وفي قول للإمام الخمينيّ قدس سره: "ليُهي‏ء الأحبّة الأعزّاء أنفسهم لخدمة الإسلام والشّعب المحروم وليشدّوا الأحزمة لخدمة العباد الّتي تعني خدمة الله"2.
 
عندما تُجعل خدمة الناس وخدمة الله عزّ وجلّ في كفّةٍ واحدة، بحسب ما ورد في السنة الشريفة، ففي ذلك تأكيد على عظمة ومكانة هذا العمل المبارك في الحسابات الإلهية.



1 العلّامة الحلّي، الرسالة السعديّة، ص 162، تحقيق: السَّيّد المرعشيّ بقّال، ط 1، المكتبة العامة لآية الله العظمى مرعشيّ نجفي، 1410هـ.
2 خدمة الناس في فكر الإمام الخميني، إعداد: مركز الإمام الخميني، ط 1، لا. م، مركز الإمام الخميني الثّقافي، 1429هـ 2008م، ص 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

78

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 خدمة الناس أفضل الأعمال‏

الخدمة طالما كانت خالصة لوجه الله تعالى، فهي من أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله عزَّ وجلّ،‏َ يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا أظنّ أنّ هناك عبادة أفضل من خدمة المحرومين".
 
لقد كانت حياة الإمام قدس سره عامرة من بداياتها، إلى أن التحق بالملكوت الأعلى بخدمة المؤمنين والشعب المستضعف والعلماء والأصدقاء. ينقل بعضهم أنّ الإمام الخميني قدس سره بعد أن تشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام في إحدى المرّات كان يترك رفاقه في الحرم المشرّف يتعبّدون إلى الصباح ويعود إلى المنزل لكي يُهيّى‏ء لهم الفطور ويشتري الخبز ويقوم بخدمات المنزل الذي نزلوا به وحينما سأله أحدهم: لماذا لم تبق أنت في الحرم المطهّر وتأمر أحدنا بأن يعود إلى المنزل ويقوم بتهيئة الطعام، يكون جوابه قدس سره: "لم يثبت عندي أنّ البقاء في حرم الإمام عليه السلام بعد الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين"1.
 
ويُحدّثنا مولانا الصَّادق عليه السلام عن هذه الحقيقة، قائلاً: "لأنْ أمشي في حاجة أخٍ لي مسلم أحبّ إليّ من أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة"2.
 
وفي حديث آخر: "قال الله عزَّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"3.
 
كما يُحدّثنا مولانا الباقر عليه السلام عن مدى حبّه وتفضيله لخدمة المحرومين حيث يقول: "لأنْ أعول أهل بيت من المسلمين. أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم، فأكفّ وجوههم عن النَّاس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجَّة وحجّة ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتّى بلغ السَّبعين"4.



1 مجلّة بقية الله، العدد 140، ص 43.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 197.
3 م.ن، ج 2، ص 194.
4 م. ن، ص 195.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

79

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 كيف نخدم؟

إنّ خدمة الناس ليست مجرّد شعار يستحضره الإنسان ليُطلقه عند حماسه ويتغنّى به في عروضه ومناظراته، بل هو برنامج لا بد أن ينتهجه وخطوات لا بدّ أن يسير بها، فما لم تتحوّل الخدمة من مجرّد شعار إلى برنامج وخطوات عملية مدروسة ومنسّقة ومتكاملة لن تتمكّن من تحقيق أهدافها، ولن تكون جدّية وبالمستوى المطلوب الذي يواجه الحرمان والحاجة...
 
والخدمة لا تنحصر بالأمور المادّية فقط، بل لها طرقها المتعدّدة، فبالإضافة إلى بذل المال في سبيل الخدمة الذي تُشير إليه العديد من الروايات.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن: إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه"1.
 
يُمكن الاستفادة من الجاه أيضاً.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى ليسأل العبد في جاهه كما يسأل في ماله، فيقول يا عبدي رزقتك جاهاً، فهل أعنت به مظلوماً أو أعنت به ملهوفاً"2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في منفعة برّ أو تيسير عسر، أعين على إجازة الصراط يوم دحض الأقدام"3. فيمكن استعمال الجاه للتخفيف عن المؤمن أيضاً.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان وصلة لأخيه بشفاعة في دفع مغرم أو جرّ مغنم، ثبّت الله قدميه يوم تزلّ فيه الأقدام"4.
 
ويمكن أن تكون الخدمة من خلال حفظ كرامته وصونه من بذل ماء وجهه.



1 الشيخ محمد مهدي الحائري، شجرة طوبى، ج‏2، ص‏439، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، لا.مط، الطبعة الخامسة، محرم الحرام 1385.
2 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج‏21، ص‏429.
3 ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج‏1، ص‏374، تقديم: السيد شهاب الدين النجفي المرعشي / تحقيق: الحاج آقا مجتبى العراقي، لا.ن، سيد الشهداء - قم، الطبعة الأولى، 1403 - 1983م.
4 الشيخ هادي النجفي، ألف حديث في المؤمن، ص‏324، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، شوال 1416.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

80

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 ففي الرواية عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في شيعتنا لمن يهب الله تعالى له في الجنان من الدرجات والمنازل والخيرات ما لا تكون الدنيا وخيراتها في جنبها إلا كالرملة في البداية الفضفاضة فما هو إلا أن يرى أخاً له مؤمناً فقيراً فيتواضع له ويُكرمه ويُعينه ويمونه ويصونه عن بذل وجهه له حتى يرى الملائكة الموكلين بتلك المنازل والقصور وقد تضاعفت..."1.

 
ويمكن أن تكون الخدمة على شكل كلمة تُشكّل نصيحة يحتاج إليها الناس، وتُساعدهم على حلّ مشاكلهم.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من مضى مع أخيه في حاجة فناصحه فيها، جعل الله تعالى بينه وبين النار يوم القيامة سبعة خنادق، والخندق ما بين السماء والأرض"2..
 
بل نجد الروايات تعتبر عدم النصيحة مع القدرة عليها خيانة!
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من مشى مع أخيه المؤمن في حاجة فلم يُناصحه فقد خان الله ورسوله"3.
 
وأقل ما يُمكن للإنسان أن يخدم أخيه بدعوة، فقد تكون الخدمة مجرّد دعاء يدعوه المؤمن بحقّ أخيه المؤمن. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "وما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكلّ الله به ملكاً يقول: ولك مثل ذلك"4.
 
الثّمار الطّيّبة لخدمة النّاس‏
في روايات أهل البيت عليهم السلام بيان كافٍ ووافٍ للآثار المترتَّبة على خدمة النّاس باختلاف أشكالها وأساليبها، حتّى ورد التَّفضيل في كلّ نوع من هذه الخدمات بما لها من ثمرات، من هذه الآثار:



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏8، ص‏47.
2 ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج‏1، ص‏375.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج‏2، ص‏372.
4 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج‏21، ص‏389.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

81

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 1- الأمن يوم القيامة: روي عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج النّاس هم الآمنون يوم القيامة"1.

 
2- ألف ألف حسنة: عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له ألف ألف حسنة"2. نُلاحظ هنا أنّ هذا الأثر الأخرويّ مترتِّب على السّعي حتّى وإن لم تُقض الحاجة، فلو بذل الإنسان وسعه وسعى ليقضي حاجة أخيه فلم يوفّق كان له هذا الأثر، فكيف لو قضيت؟ وكذلك يُشير هذا الحديث الشَّريف إلى مسألة طلب وجه الله تعالى بذلك لا طلب وجه الناس والدُّنيا.
 
3- ثواب عبادة تسعة آلاف سنة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره قائماً ليله"3.
 
4- كان الله في حاجته: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم، كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه"4.
 
5- استغفار الملائكة له: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزَّ وجلّ،‏ به ملكين: واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته"5.
 
6- ثواب المجاهدين: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله"6.
 
7- ثواب السعي بين الصفا والمروة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة"7.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج‏2، ص‏197.
2 م. ن.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج 71، ص 315.
4 م. ن، ص 286.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 195.
6 الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 288، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي - قم، أمير - قم، الطبعة الثانية، 1368 ش.
7 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 281.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

82

الدرس التاسع: خدمة المؤمنين

 8. كمن عبد الله دهره: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره"1.

 
9. الفوز بالجنّة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة"2.
 
10- تهون عليه سكرات الموت وأهوال القبر: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقّاً على الله أن يكسوه من ثياب الجنّة، وأن يُهوّن عليه سكرات الموت، وأن يوسّع عليه قبره، وأن يلقى الملائكة إذاخرج من قبره بالبشرى"3.
 
11- قبول الأعمال: عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلّا لم يقبل منكم عمل"4.



1 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 16، ص 36.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 194.
3 م.ن، ج 2، ص 204.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 79.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

83

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 
 
النصّ الروائيّ:
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"1.
 
 
النقاط المحوريّة:
• حقيقة التدبير
• أهميّة التدبير
• ما المقصود من التدبير في المعيشة؟
• التدبير في القرآن والسنّة
• آثار حسن التّدبير وسوء التّدبير



1 الحرّاني، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ص263 , لاط، قم المقدّسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

84

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 حقيقة التدبير

التدبير من الأفعال التي نسبها الله تعالى إلى نفسه، إذ وصف ذاته المقدّسة بالمدبّر، كما ألهم عباده هذه الخصلة الحميدة، وحثّهم على التحلّي بها، والسعي الجاد لاكتسابها، بوصفها فضيلة من أسمى الفضائل.
 
وعلى مرّ العصور، نجد أنّ العقل السليم يحكم بضرورة حُسن التدبير في شؤون الحياة، ووجوب التفكير في عواقب الأمور، لكي يتسنّى للناس التمتّع بحياةٍ طيّبةٍ.
 
وخلال التطوّر التدريجيّ الذي شهدته الحياة البشرية، واتّساع رقعة المدنيّة، اتّضحت أهمّيّة التدبير، ضرورة حياتية ملحّة، فانتهجه الناس، لترشيد أفكارهم وأعمالهم، في مختلف شؤون الحياة، السياسيّة، والثقافيّة، وغيرهما، نحو الاتّجاه الصحيح، بغية بلوغ الكمال المنشود.
 
وقد شجّعت الأديان السماويّة الإنسان على التدبّر في عظمة خلق الله تعالى، مسترشداً بهدي فطرته السليمة التي فطره الله تعالى عليها، وذلك لكي يستلهم من تدبير خالقه الطريقةَ المثلى لتدبير شؤون حياته المختلفة.
 
ومن هذا المنطلق، كان التدبير ذا تأثيرٍ مباشرٍ على مجالات الحياة كافّةً، ولا يختصّ بالمأكل والمشرب فقط، لأنّ تأثيره مشهودٌ على ثقافة الإنسان وعقائده وحياته، الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة1. لذا أكّد المعصومون عليهم السلام على وجوب اتّباع منهج التّدبير الصّحيح في مختلف شؤون الحياة2.



1 تجدر الإشارة إلى وجود عدّة كتب مدوّنة بصدد التّدبير, ما يؤكّد اهتمام العلماء والباحثين بهذا الموضوع الحسّاس، ونذكر منها ما يلي:
ـ تدبير المنزل- أو السياسة الأهليّة -، تأليف الشيخ الرئيس أبي عليّ الحسين بن عبد الله بن سينا، طبع في بغداد سنة 1347هـ.
ـ تدبير المنزل ورعاية الطفولةتدبير منزل ودستور بچه داري -، تأليف بدر الملوك تكين، طبع في طهران.
ـ تدبير المنزل تدبير منزل -، تأليف بدر الملوك بامداد، طبع في طهران.
2 الحكيميّ، محمّد رضا, علي رضا: الحياة، ط1، طهران، منشورات مكتب ترويج الثقافة الإسلاميّة، 1368هـ.ش، ج4، ص346-354.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

85

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 أهميّة التدبير

لا يختلف اثنان في أنّ تدبير شؤون الحياة يُعدّ من الأمور الهامّة لكلّ إنسانٍ. وبالطبع، فإنّ هذا الأمر مرهونٌ بتطبيق تعاليم الشريعة، والانتهال من منهلها العذب، والاستعانة بما أنعم الله علينا من قوى إدراكيّة.
 
فتنظيم شؤون الحياة حسب تعاليم ديننا الإسلاميّ، من شأنه أن يفتح لنا باب السّعادة على مصراعيه.
 
والشريعة الإسلاميّة تكفّلت بوضع برنامج شامل ومتكامل يهدي الإنسان إلى السعادة المنشودة في الدّنيا والآخرة، لأنّها تتناول جميع جوانب الحياة المادّيّة والمعنويّة، للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
 
فنبّهت الشريعة إلى أنّ تدبير شؤون الحياة لا بدّ وأن يكون متزامناً مع أمرين هامّين، هما: التعمّق في تعاليم الدين، والصبر على النوائب. وقد أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ:التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"1.
 
كما أكّدت على مسألتين هما: الاعتدال، بمعنى: عدم الإسراف، واجتناب تبديد الجهود، وإهدار الثّروة، والتّدبير، بمعنى: التّفكير في عواقب الأمور، وحسن التخطيط، والإدارة الصحيحة.
 
وروي أنّ رجلاً قال للإمام جعفر الصادق عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال عليه السلام: "لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ"2.
 
ولا بدَّ أن يكون التّدبير متناغماً مع العلم، والمعرفة، والخبرة، والعقل، ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامٌ رائعٌ عن التدبير، عندما خاطب ابن مسعود، قائلاً: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلاً فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ عملاً بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّجلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً"3.



1 الحرّاني، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ص263.
2 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، ص458، لاط، قم المقدّسة، منشورات مكتبة الداوريّ، لات، ج2.
3 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن: مكارم الأخلاق، ص458، ط1، طهران، منشورات دار المعرفة، 1365هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

86

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 ما المقصود من التدبير في المعيشة؟

التدبير، هو: التفكير بعاقبة الأمور، وإمعان النظر، والتحسّب لما سيكون. وأن يُدبِّر الإنسان أمره، هو: أن ينظر إلى ما تَؤول إليه عاقبته وآخرته. والتَّدَبُّر: التفكّر في الأمر1.
 
فالتدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء، ويُراد به: ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة، ونظمها، بوضع كلّ شيءٍ في موضعه الخاصّ به، بحيث يلحق بكلٍّ منها ما يُقصَد به من الغرض والفائدة2.
 
و(معايش) جمع (معيشة)، وهي: عبارة عن الوسائل والمستلزمات التي تتطلّبها حياة الإنسان، بحيث يحصل عليها بالسعي تارةً، أو تأتيه بنفسها من دون سعي تارةً أُخرى. ومع أنّ بعض المفسّرين حصر كلمة (معايش) بالزراعة والنبات، أو الأكل والشرب فقط، ولكنّ مفهومها اللغويّ أوسع من أن يُخصّص، ويُطلق ليشمل كلّ ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش3.
 
وباتضاح معنى التدبير ومعنى المعيشة يصبح معنى التدبير في المعيشة هو: ترتيب وتنظيم الحياة على مختلف الأصعدة، وفنّ التدبير في المعيشة، هو: مجموع الطرق التقنيّة الحديثة، لتسهيل مهمّة الإنسان في ترتيب أموره المعيشية وتنظيمها، ومساعدته في توفير أسباب الراحة والصلاح.
 
التدبير في القرآن والسنّة
أشار القرآن الكريم إلى أنّ التدبير صفةٌ من صفات الله تعالى4 وملائكته5. والتدبير الإلهيّ للعالم، هو: نظم أجزائه نظماً جيّداً مُتقناً، بحيث يتوجّه فيه كلّ شيءٍ 



1 ابن منظور: لسان العرب، ج4، ص273، لاط، بيروت، لان، لات.
2 الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لاط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة، ج11، ص289-290.
3 الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، قم المقدّسة، منشورات مدرسة الإمام عليّ عليه السلام، 1421هـ.ق، ج8، ص51, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص99.
4 سورة السجدة، الآية 5, سورة يونس، الآية 31, سورة الرعد، الآية 2.
5 سورة النازعات، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

87

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 إلى غايته المقصودة منه، وهي آخر ما يمكن أن يحصل له من الكمال الخاصّ به، ومنتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى. وتدبير الكلّ يعني إجراء النظام العامّ العالميّ، بحيث يتوجّه إلى غايته الكلّيّة، وهي: الرجوع إلى الله والقرب منه.

 

 
لذلك، فإنّ الله يُدبّر الأمرَ، أي يُقدّر، "ويُنْفِذُه على وجهه، ويُرتّبه على مراتبه على أحكام عواقبه"1، وهذا التدبير يشمل الهداية التكوينيّة والتشريعيّة للمخلوقات اللتين تتحقّقان عبر بعثة الأنبياء عليهم السلام والرسل عليهم السلام.
 
أمّا تدبير الملائكة، في قوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾2، ففيها أقوالٌ - أيضاً، أحدها: أنّ الملائكة تُدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة، كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام3.
 
إذن، يمكن القول: إنّ التدبير والتحسّب لعواقب الأمور، والتخطيط الصحيح، ونظم شؤون الحياة، تعدُّ الأركان الأساسيّة للرقيّ، وبلوغ الكمال المنشود. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "الكَمالُ كُلُّ الكَمالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبرُ عَلَى النّائبَةِ، وَتَقديرُ المعيشةِ"4. فمن خلال التدبير واتّباع النهج الصحيح في الأمور الاقتصاديّة، يمكن الوصول إلى الكمال.
 
ولا ريب في أنّ تدبير الإنسان، في استثمار ما لديه من إمكانيّاتٍ اقتصاديّةٍ محدودةٍ، واجتناب الإسراف في تسخيرها، يُعدّ أفضل من حيازته إمكانيّاتٍ اقتصاديّةً كبيرةً يُسرف في استثمارها، فينبغي للعبد أن يكون على صوابٍ من التقدير، وحكمةٍ من التدبير5. فالتدبير سببٌ في قوّة اقتصاد الحياة ورقيّه. وعن أيّوب بن الحرّ: سمعتُ رجلاً يقولُ لأبي عبد الله عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "لا، بَلْ هُو الكَسْبُ كُلُّهُ"6.



1 الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج5، ص136.
2 سورة النازعات، الآية 5.
3 الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج10، ص652.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص32.
5 انظر: الجعفي، المفضل بن عمر: التوحيد، تعليق كاظم المظفر، ط2، بيروت، مؤسّسة الوفاء، 1404هـ.ق/ 1984م، المجلس الأوّل، ص 10.
6 الشيخ الطوسي، الأمالي، ج2، ص 458.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

88

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 وقد أكّد الإمام عليّ عليه السلام على أنّ التدبير سبيلٌ للرقيّ الاقتصاديّ، حين قال: "حُسنُ التَّدبيرِ يُنمِي قليلَ المالِ"1.

 
ومن هنا، كان المسؤول اللائق بإدارة شؤون العائلة أو شؤون فئةٍ اجتماعيّةٍ ما، هو الذي يتمكّن من تمهيد الأرضيّة اللازمة، لاستثمار القابليّات والإمكانيّات أفضل استثمارٍ، وذلك عبر تخطيطٍ صحيحٍ، ومنهجيّةٍ مثاليّةٍ، وتنسيقٍ بين كافّة الأعضاء، على مختلف مستوياتهم ومسؤوليّاتهم. كما لا بدّ له من نظم نشاطاته وفعّاليّاته، ووضع كلّ شيءٍ في موضعه، وتأدية ما عليه من تكاليف في وقتها المناسب، حتى يستحقّ بذلك صفة المدبِّر.
 
ويُعدّ تدبير شؤون الحياة بطبيعته جزءاً من الدين2، لذا، فإنّ حسن التدبير كان صفة لازمة للمؤمنين بحيث يمتازون بها عن غيرهم، لأنّهم لا يستهلكون أموالهم عبثاً، ولا يُبذّرونها، بل يراعون الاعتدال في إنفاقها، ويخشون فيها غضب الله تعالى، في ما لو أفرطوا أو فرّطوا في إنفاقها، بخروجهم عن الحدود التي أجازها الله تعالى لهم في الإنفاق3.
 
آثار حسن التّدبير
أكّد الإمام عليّ عليه السلام على وجوب اتّصاف المؤمنين برؤيةٍ مستقبليّةٍ تدبيريّة، حين قال: "المؤمِنُونَ هُم الَّذينَ عَرَفُوا ما أمامَهُمْ"4.
 
فلحُسن التدبير تأثيرٌ كبيرٌ على رقيّ شخصيّة الإنسان، من خلال ما يمدّه من نفاذ بصيرة في شؤون الحياة كافّة، ويمكّنه من تحقيق أهمّ متطلّبات حياته في مختلف المجالات، مثل:
1- استثمار الثروة بطريقةٍ مُثلى.
2- اجتناب الإسراف في النعمة أو إتلافها بغير وجه عقلائي.
3- عدم الاضطرار إلى تكرار عملٍ ما.



1 الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 227.
2 عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "مِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعِيشَةِ": الطوسي، الأمالي، م.س، مجلس يوم الجمعة، ح17، ص670.
3 تتّضح نتائج حسن التدبير وعواقب سوء التدبير في خاتمة الكتاب.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

89

الدرس العاشر: ما هو التدبير؟

 4- المكانة الرفيعة في المجتمع.

5- الثقة بالنفس.
6- صحّة التعامل الماليّ مع الآخرين.
7- سلامة النفس، والعزّة، وراحة البال.
 
آثار سوء التّدبير
إنّ لسوء التدبير عواقب وخيمة على حياة الإنسان، قد تؤدّي إلى هلاكه وسقوطه والحيلولة بينه وبين كماله المنشود، منها ما يلي:
1- عدم الاستقرار والضَّياع.
2- التبعيّة الفكريّة والاقتصاديّة.
3- الفقر والحرمان.
4- الفساد الخُلُقيّ.
5- الذلّة والوضاعة الاجتماعيّة.
6- تسلّط الآخرين.
7- التخلّف الفكريّ والرجعيّة.
8- فقدان النعمة.
9- الاختلاف بين أعضاء العائلة الواحدة وتهديد كيانها.
 
فلو أمعنّا النظر في النتائج الحميدة لحسن التدبير والعواقب القبيحة لسوء التدبير، لأدركنا مدى أهمّيّة التدبير ووجوب اتّخاذه منهجاً في حياتنا. وتتأكّد هذه الأهمّيّة عندما نأخذ بعين الاعتبار بعض الأمور التي لها تأثيرٌ مباشر على حياة البشر قاطبةً، مثل: الدخل المحدود أو المتدنّي لبعض أبناء المجتمع، وارتفاع مستوى التضخّم المالي، والغلاء الفاحش، والصعوبة في توفير مستلزمات العيش، والإفراط أو التفريط في بعض الأمور، إضافةً إلى وجوب مراعاة الأصول الخلقيّة، والسلوكيّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة في جوانب الحياة كافّة1.



1 هناك تفاصيل كثيرة عن نتائج حسن التدبير وعواقب سوء التدبير في خاتمة الكتاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

90

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 
 
النصّ الروائيّ
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "أيُّهَا النّاسُ، لا خَيرَ فِي دُنيا لا تَدبِيرَ فِيها"1.
 
 
النقاط المحوريّة:
• معنى الاستراتيجية في تدبير المعيشة.
• الطُّرق المثلى لتدبير المعيشة:
1- تنظّيم الأوقات والانضباط وحُسن التخطيط.
2- مشورة الآخرين والحزم في اتّخاذ القرارات.
3- العمل بجدٍّ واجتهاد لتحقيق الأهداف.



1 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، ص5, تصحيح وتعليق السيد جلال الدين الحسيني، لاط، طهران، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

91

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 استراتيجية للحياة

الاستراتيجيّة بمعناها الشامل، تعني: القواعد والخطوات العامّة والطرق التي يجب اتّباعها، لتسخير شتّى الأمور السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والعسكريّة، وغيرها، من أجل تحقيق أهدافٍ معيّنةٍ مخطّط لها مسبقاً.
 
والاستراتيجيّة في المعيشة، تعني اتّباع برامج محدّدةٍ وقواعد معيّنة، لاستثمار المصادر المُتاحة خير استثمارٍ، بغية التمكّن من تحقيق الأهداف المعيشيّة البعيدة الأمد والقريبة الأمد بشكلٍ أمثل.
 
أمّا استراتيجيّات تدبير المعيشة، فهي: عبارةٌ عن البرامج العامّة التي من خلالها تتحقّق الرفاهيّة النسبيّة، والطمأنينة، والضمان الاقتصاديّ، وغيرها من الأهداف المعيشية.. وذلك لا يحصل إلا في ظلّ إدارةٍ رصينةٍ. وسنشير في الكلام الآتي إلى أهمّ هذه الاستراتيجيّات:
نظّم أوقاتك
حتى تكون مدبّراً ناجحاً لا بدّ لك من تنظيم وإدارة أوقاتك، بحيث يُؤدَّى كلُّ عملٍ في الزمان والمكان المناسبين، فالمدبّر الكفء: هو الذي يُراعي النظم والانضباط في عمله، ولا يُوكِل عمل اليوم إلى غدٍ، والإنسان المتديّن يؤمن بأنّ كلّ يومٍ يتطلّب عملاً خاصّاً به، وقد أكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذا الأمر بقوله: "فِي كُلِّ وَقْتٍ عَمَلٌ"1.
 
فجميع النشاطات التي يُمارسها الإنسان لتوفير معيشته، والخدمات التي يُقدّمها للمجتمع، وتوزيع الأعمال بين أفراد الأسرة الواحدة، وتنظيم الوقت لاستثماره بشكل كامل بكلّ خير ومصلحة، كلّها أمورٌ تنطوي تحت مبدأي النَّظم والانضباط، كما كان 



1 الواسطي، عيون الحِكم والمواعظ، ص354.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

92

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 يفعل أئمّتنا المعصومون عليهم السلام، حيث روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "كانَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام يَحتطِبُ ويَستقِي ويَكنِسُ، وكانتْ فاطمةُ عليها السلام تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبُزُ"1.

 
كما أنَّ اتّصاف الإنسان بالنّظم والانضباط في تكاليفه المُلقاة على عاتقه، يُحفّزه على السعي لأدائها، ويُجنّبه اللامبالاة، كما يُمكّنه من الوفاء بالتزاماته ووعوده في أوقاتها المحدّدة، فلا يُخالف قول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾2.
 
خطّط جيّداً
إنّ التخطيط لمختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، يُعدّ من أهمّ أساسيات التدبير في المعيشة.
 
على عكس ذلك ، فعند انعدام التخطيط، أو عند اتّباع خطّةٍ غير صحيحةٍ، فإنّ الإنسان سوف يبتعد عن هدفه وربّما لا يتمكّن من بلوغه أبداً. وفي بعض الأحيان يكون هذا الأمر سبباً للفقر والتخلّف، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "سُوءُ التَّدبِيرِ مِفتاحُ الفَقرِ"3.
 
فالفرد أو العائلة أو المؤسّسة التي تفقد حسن التدبير والتخطيط الصحيح في برامجها المعيشيّة، سوف تُحرَم من الخير. قال الإمام عليّ عليه السلام: "أيُّهَا النّاسُ، لا خَيرَ فِي دُنيا لا تَدبِيرَ فِيها"4.
 
والتخطيط بشكل عام يمكن أن يكون متوسّط المدى حيث إنّ النشاطات في هذا البرنامج، لا يتجاوز سنةً واحدةً.



1 الشيخ الكليني، الكافي،ج5، ص86.
2 سورة الإسراء، الآية 34.
3 الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 284.
4 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، تصحيح وتعليق السيد جلال الدين الحسيني، لاط، طهران، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش، كتاب الأشكال والقرائن، باب الثلاثة، ح9، ص5.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

93

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 أو تخطيطاً متوسّط المدى حيث يكون زمن تنفيذه لا يتعدّى السنة أو السنتين. أو يكون تخطيطاً بعيد المدى وزمن تنفيذ الخطط فيه يتراوح بين خمس وعشر سنواتٍ.


وهناك أمورٌ لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار عند التخطيط للمعيشة، إذ لها تأثيرٌ كبيرٌ على نجاحه، ونذكر منها ما يلي:
- تحديد الأهداف المرجوّة من وراء البرنامج الذي تمّ وضعه بشكلٍ واضحٍ وشاملٍ.
- استشارة ذوي الخبرة في هذا الصدد.
- تشخيص القضايا الهامّة، ومعرفة الأولويّات اللازمة في شتّى المجالات.
- تحديد البرنامج حسب الإمكانيّات المتاحة، والقيام بدراسةٍ واقعيّةٍ للمصادر والإمكانيات.
- الأخذ بعين الاعتبار الظروف الزمانيّة والاجتماعيّة، ودراسة ما قد يطرأ مستقبلاً.
- الاعتماد على النتائج الجديدة التي تمّ الحصول عليها، إثر التطوّرات الحديثة، وتجارب الآخرين، بغية الرقيّ بمستوى الخطّة الموضوعة، من خلال تشخيص الأخطاء، ومعرفة الطرق الصحيحة لمواجهتها.

شاور الآخرين
إنّ مشورة الآخرين ومعرفة آرائهم تُعدّ من أساسيات التدبير في جميع المستويات الفرديّة، والعائليّة، والاجتماعية. ومهما كان الإنسان عبقريّاً، فإنّه لا يستطيع أن يُدرِك زوايا الحياة كافّةً، وأن يُحيط بجميع مشاكل المعيشة.

لقد حظيت مسألة المشورة بأهمّيّةٍ بالغةٍ في التعاليم الإسلاميّة، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رغم امتلاكه قدرةً فكريّةً كبيرةً تؤهلّه لتسيير الأُمور وتصريفها من دون حاجةٍ إلى مشاورة أحد، نجده يشاور أصحابه في أُمور المسلمين العامّة التي تتعلّق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية.

ثمّ إنّ استشارة الآخرين ومعرفة آرائهم، تعني مشاركتهم في عقولهم، وتوسعة أُفق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

94

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 اتّخاذ القرار، الأمر الذي أكّد عليه الإمام عليّ عليه السلام في قوله: "مَن شاوَرَ الرِّجالَ شارَكَهُا فِي عُقُولِهِا"1.

 
كما أنّ المشورة تُعين الإنسان على تشخيص الخطأ، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "مَن استَقبَلَ وُجُوهَ الآراءَ عَرَفَ مَواضِعَ الخطَأ"2.
 
وهناك فائدةٌ أُخرى للمشورة، تكمن في أنّها خير محكٍّ لمعرفة جواهر الآخرين، والعلم بما يكنّونه للمستشير، من حبٍّ أو كراهيةٍ، وولاءٍ أو عداءٍ، ولا ريب في أنّ هذه المعرفة تُمهّد سبيل النجاح.
 
وللمشورة فوائد جمّة في حُسن تدبير المعيشة، فهي تحول دون تكرار العمل وتحول دون وقوع أخطاء لا تُحمد عقباها، وتُمكّن الإنسان من استثمار تجارب الآخرين وأفكارهم في قضايا المعيشة. وتُجنّب الإنسان الملامة والندم حيث تصون الإنسان من خسائر فادحة وتُجنّب الإنسان الديون التي لا مسوّغ لها، أضف إلى أنَّها تمنع بعض القرارات الطائشة التي تُتّخذ لأسبابٍ عاطفيّةٍ محضة، ترفع من المستوى المعيشيّ للإنسان.
 
على عكس الاستبداد بالرأي، الذي يعدُّ آفةً عظيمةً تزلُّ قدم الإنسان بها عن طريق الصواب، وتوقعه في المهالك. قال الإمام عليّ عليه السلام: "الاستبدادُ بِرأيكَ يزلُّكَ ويهوّرُكَ فِي المهاوِي"3.
 
انطلاقاً من تلك الفوائد والأهميّة ينبغي أن نعمل بسيرة ووصايا المعصومين عليهم السلام ونقدّم المشورة على اتّخاذ القرارات في مختلف شؤون حياتنا ونتوكّل على الله عزّ وجلّ في جميع الأمور سيّما عند اتّخاذ القرار النهائيّ تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾4.



1 الواسطي، عيون الحِكم والمواعظ، ص440.
2 الرضيّ، علي بن الحسين بن موسى: خصائص الأئمّة،ص110 ط1، مشهد، منشورات الروضة الرضويّة المقدّسة، 1406هـ.ق.
3 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ح 1208.
4 سورة آل عمران، الآية 109.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

95

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 كن حازماً في اتّخاذ القرارات

بعد مشورة الآخرين لا بدَّ من الحزم في القرار وعدم التردّد في تنفيذه فمعنى اتّخاذ القرار هو اختيار أمرٍ من بين عدّة أمورٍ، لتنفيذه في وقته المحدَّد، وبالطّبع، هناك مسائلُ عديدة لها تأثيرٌ في اتّخاذ القرار في موضوعٍ ما، نذكر منها ما يلي:
- مطالعة المعلومات ذات الصلة بالموضوع وتحليلها.
- معرفة حقيقة الموضوع.
- تشخيص الموضوع بشكلٍ صحيحٍ.
- سعة أفق التفكير.
- الحصول على حلولٍ مناسبةٍ.
- الاطّلاع على عيوب الموضوع ومحاسنه.
- معرفة أهمّيّة القرار.
- معرفة الجوانب المختلفة للموضوع.
 
ويُمكن تشبيه اتّخاذ القرار بقارئ الأقراص المدمجة المصوّرة، حيث يستقبل المعلومات على شكل رموزٍ رقميّة، ثمّ يترجمها إلى صورةٍ وصوتٍ. فعمليّة اتّخاذ القرار تشمل دراسة جوانب الموضوع من كافّة النواحي وتقويمها، وبعد ذلك يتمّ الاختيار. والمدبّر في قضايا المعيشة، هو الذي يتمكّن من اتّخاذ القرارات اللازمة بعزمٍ راسخٍ، متى ما رأى أنَّ المصلحة تقتضي ذلك ونتيجة ذلك النّجاح1 المُحتَّم، وأكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "الظَّفَرُ بالْجَزمِ والْحَزمِ"2.
 
اعمل بجدٍّ واجتهاد
لا يكفي تنظيم الوقت ووضع الخطط والبرامج، ومشورة الآخرين في ذلك، بل لا بدَّ من تنفيذها بجدٍّ واجتهاد، وعلى أكمل وجه.
 
يقول الباري عزّ وجلّ في محكم كتابه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾3. ومعنى الكبد



1 الحكيمي، دراسة ظاهرة الفقر والتنميةبديده شناسي فقر وتوسعه-، ج3، ص462-463.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص165.
3 سورة البلد، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

96

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 المعاناة والجهد، وفي ذلك دلالة على أنَّ الحركة والعمل والكبَد (المعاناة) هي أمورٌ ضروريّةٌ في حياة البشر، ولا بدَّ لكلّ إنسانٍ من مكابدتها.

 
وقد حثّ الله عزّ وجلّ عباده على العمل الدؤوب والجهد الحثيث، وذمَّ التكاسل والبطالة، ونستلهم من ثقافتنا الدينيّة أنّ النشاط والعمل ضرورةٌ من ضرورات الحياة التي لا يمكن التخلّي عنها بوجهٍ، فالمجتمع الذي يسوده الكسل، وتنتشر فيه البطالة، سوف تتزلزل أركانه. كما نستوحي منها ضرورة اشتراك جميع أبناء المجتمع في الجهد الإنتاجي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وكذلك وجوب تحمُّلهم مسؤولية ما فرضته عليهم الشّريعة العادلة من تكاليف1. لذلك، فإنّ الكسل، والبطالة، والحياة الاتّكاليّة، هي أُمورٌ ذمّتها تعاليمنا الدينيّة، وقبّحتها أشدَّ تقبيحٍ، بل لُعِن مَن يتّكل على الآخرين، حيث قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "إنّ اللهَ لَيُبغِضُ العبدَ النَّوّامَ، وإنّ اللهَ لَيُبغِضُ العبدَ الفارِغَ"2.
 
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَلعونٌ مَلعونٌ مَن ألقَى كَلَّهُ عَلى النّاسِ"3. ولو تصفّحنا التأريخ لوجدنا أنّ أنبياء الله تعالى عليهم السلام وأولياءه الصالحين عليهم السلام كانوا مثالاً يُحتذى وأُسوةً صالحةً، للعمل الحثيث، وتأمين متطلّبات الحياة بعرق الجبين، فقد أعاروا العمل أهمّيّةً بالغةً، وعدّوا ثوابه أعظم من ثواب المجاهدين في سبيل الله تعالى. حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة، فقد ورد عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: رأيتُ أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرضٍ له وقد استنقعت قدماه في العرَق، فقلتُ: جُعلتُ فداك، أين الرجال؟ فقال عليه السلام: "يا عَليُّ، قَد عَملَ بِاليدِ مَن هُو خيرٌ مِنّي في أرضِهِ، ومِن أبي". فقلتُ: ومن هو؟ فقال: "رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وأَميرُ المؤمِنينَ عليه السلام، وآبائي كُلُّهُم كانوا قَد عَملُوا بأَيدِيهِم، وهُو مِن عَملِ النَّبييِّن َوالْمُرسَلينَ والأوصياء والصّالِحينَ"4.



1 السبحاني، جعفر: الخطوط الأساسيّة للاقتصاد الإسلاميسيماى اقتصاد إسلامى-، ط1، لام، منشورات مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام للأبحاث والتعليم، 1378هـ.ش، ص40.
2 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص169.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص12.
4 م.ن، ج5، ص75-76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

97

الدرس الحادي عشر: الطرق المثلى لتدبير المعيشة

 كما أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على ذلك، عندما أعرب عن حبِّه لمن يكسب من عرق جبينه، ويعمل تحت حرارة الشمس، لتأمين لقمة عيشه، فقد روي عن أبي عمرو الشيبانيّ أنّه قال: رأيتُ أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاةٌ، وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له، والعرقُ يتصابُّ عن ظهرهِ، فقلتُ: جُعلتُ فَداك، أعطني أكفِكَ. فقال عليه السلام لي: "إنِّي أُحبُّ أنْ يَتأذَّى الرّجُلُ بِحرِّ الشَّمسِ في طَلبِ المعيشَةِ"1.

 
فالسعي الحثيث والعمل الدؤوب يُعدّان من الأمور الأساسية في حسن تدبير الأمور الحياتية والمعيشية، بل من ضروريات ولوازم استمرار الحياة البشرية، فالإنسان لا يمكنه تلبية حاجاته المختلفة إلا من خلال استثمار الثروات الطبيعية والنعم الإلهيّة، والذي لا يتحقّق إلا من خلال الجهد والعمل الدؤوب.
 
أضف إلى ذلك الفوائد الجمَّة التي يجنيها الفرد والمجتمع، من خلال العمل الحثيث، فالعمل قوّةٌ للجسم والرّوح وسببٌ لسلامتهما، ووازعٌ لتنامي قدرة الإنسان وتكامله بالتّالي تطوّر وتكامل المجتمع. وعلى العكس منه، البطالة، التي تتسبّب في إهدار الطاقة، وحصول الهمّ والأرق في نفس العاطل عن العمل. والإمام عليّ عليه السلام الذي يُعدّ مثالاً للعامل المجدّ، أشار إلى هذه الحقيقة، بقوله: "مَن يَعْمَل، يَزدَدْ قُوّةً، ومَن يُقَصِّر في العَمَلِ يَزدَدْ فَترَةً"2.
 
كما قال عليه السلام: "مَن قَصَّرَ فِي العَمَلِ، ابتُلِيَ بالْهَمِّ، ولا حاجَةَ للهِ في مَن لَيسَ للهِ فِي مالِهِ ونَفسِهِ نَصِيبٌ"3.
 
لذا، فإنّ الحياة الطيّبة الكريمة ستكون من نصيب المجتمع الإسلاميّ، متى ما اتّخذ أبناؤه الإيمانَ منهجاً لهم ورفعوا شعار العمل، لأنّ العمل شعارُ المؤمن، وجزءٌ من الإيمان4.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 76.
2 الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 454.
3 الشريف الرضي، نهج البلاغة، ما خطب الإمام علي عليه السلام، ص30.
4 الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ح1507.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

98

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 
 
النصّ الروائيّ:
رُوي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا رسول الله، أُحبّ أن يُستجاب دعائي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "طَهِّر مَأكَلتَكَ ولا تُدخِل بَطنَكَ الحرامَ"1.
 
 
النقاط المحوريّة:
• الكسب الحلال وآثاره.
• النهي عن الكسب الحرام.
• كيف نستهلك المال؟
• حُسن الادخار وتجنُّب الإسراف



1 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص145.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

99

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 الحرص على الكسب الحلال

من الأمور الأساسية في حُسن تدبير المعيشة هو الكسب الحلال، والدّخل الحلال.
 
والدّخل عبارة عن الإيراد الصافي أو الربح أو الأجر الذي يحصل عليه الفرد الواحد لقاء وظيفته أو إنتاجه أو تجارته. وقد حُدّدت مصادر الدخل في حديث مروي عن الإمام عليّ عليه السلام في خمسة محاور، حيث قال عليه السلام: "مَعايشَ الخلقِ خمسَةٌ، الإمارَةُ والعِمارةُ والتِّجارَةُ والإجارَةُ والصَّدَقاتُ"1. أمّا مقدار دخل الإنسان فإنّه يختلف في كلّ زمانٍ ومكانٍ، فالاقتصاد الإسلاميّ لم يُعيّن معدّلاً محدّداً له، لكنَّه أوجب أن يكون مصدره حلالاً.
 
لذا قُسّم الدّخل من حيث مصادر كسبه المختلفة إلى نوعين: دخلٌ حلالٌ، ودخلٌ حرامٌ.
 
وأكّدت الروايات الشريفة على ضرورة السعي في كسب لقمة العيش بطُرُقٍ مشروعةٍ، نذكر منها ما يلي:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العِبادَةُ سَبعونَ جُزءاً، أفضلُها طَلَبُ الحلالِ"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم - أيضاً -: "طُوبَى لِمَن اكتَسَبَ مِن المؤمِنينَ مالاً مِن غَيرِ مَعصِيَةٍ"3.
 
لأنّ طهارة المال لها تأثيرٌ كبيرٌ على نقاوة القلب واستجابة الدعاء. رُوي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أُحبّ أن يُستجاب دعائي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "طَهِّر مَأكَلتَكَ ولا تُدخِل بَطنَكَ الحرامَ"4.



1 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج19، ص35.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص78.
3 م.ن، ج8، ص169.
4 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص145.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

100

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 آثار الكسب الحلال

للمال الحلال آثار وبركاتٌ كثيرةٌ ينعَم بها الإنسان، ذُكِرَت في الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، ونشير في ما يلي إلى بعضها:
1- ينوّر الله تعالى به قلب الإنسان: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ الحلالَ أربعينَ يوماً، نَوَّرَ اللهُ قلبَهُ"1.
 
2- يُعين الإنسان على عبور الصراط بيسرٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ مِن كَدِّ يدِهِ، مَرَّ عَلَى الصِّراطِ كالبَرقِ الخاطِفِ"2.
 
3- ينال الإنسان به ثواب المجاهد في سبيل الله تعالى: قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "مَن طَلَبَ هذا الرِّزقَ مِن حِلَّهِ، ليعُودَ بِهِ عَلَى نفسِهِ وعيالِهِ، كانَ كالمجاهِدِ فِي سَبيلِ اللهِ"3.
 
4- ينال الإنسان به رحمة الله الواسعة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ مِن كَدِّ يَدِهِ، نَظَرَ اللهُ إليهِ بالرَّحمةِ، ثُمَّ لا يُعَذِّبهُ أبَداً"4.
 
5- ينال الإنسان به ثواب الأنبياء عليهم السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ مِن كَدِّهِ، يكونُ يَومَ القيامةِ فِي عِدادِ الأنبياءِ، ويأخُذُ ثوابَ الأنبياءِ"5.
 
6- يفتح الله تعالى للإنسان بسببه أبواب الجنّة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ مِن كَدِّ يَدِهِ حلالاً، فُتِحَ لَهُ أبوابُ الجنَّةِ، يدخُلُ مِن أيِّها شاءَ"6.
 
إيّاك والكسب الحرام
نهى القرآن الكريم عن اتّباع الطرق غير المشروعة في الكسب نهياً شديداً، مثل أكل المال بالباطل، والرّبا، والظلم، والفساد. أمّا الأحاديث والروايات، فإنّها عدّت هذه



1 الحلّي، عدّة الداعي ونجاح المساعي، ص 140.
2 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج13،ص23.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 93.
4 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج13، ص 24.
5 م.ن، ج13، ص 24.
6 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

101

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 الطرق من الكبائر، بل شبّهت بعضها، مثل: الاحتكار، والخيانة، والرّبا، بأقبح الذنوب، كالقتل، لأنّ هذه الأعمال تشلّ النشاط الاقتصاديّ للإنسان، وتسوقه إلى الهلاك التدريجيّ1. وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام كلامٌ طويلٌ ذكر فيه ما حرّم الله تعالى، منه: "واجتنابُ الكبائرِ، وهي قَتلُ النَّفسِ التي حرَّمَ اللهُ تعالى، وأكلُالرِّبا بَعدَ البيِّنَةِ، والبَخسُ فِي المكيالِ والميزانِ، والإسرافُ، والتَّبذيرُ، والخيانَةُ"2.

 
فأكل الحرام سببٌ لتضييع الأعمال وعدم قبولها3، وهو يحول دون استجابة الدعاء4، ويوجب لعنة الملائكة5، وضَعف تديّن المرء . وخطاب الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء الذي وجّهه إلى عسكر عمر بن سعد، خير دليلٍ على هذه الحقيقة، حيث قال عليه السلام: "فَقَدْ مُلِئتْ بُطونُكُم مِن الحرامِ، وطُبِعَ عَلَى قُلُوبِكُم، وَيْلَكُم ألا تنصتُونَ؟! ألا تسمعُونَ؟!"6.
 
كيف نستهلك المال؟
الاستهلاك عبارة عن تسخير المصادر المُتاحة كالدخل الفردي أو المال الموروث وغيره، بهدف تحقيق متطلّبات الحياة الراهنة والمستقبليّة7.
 
إنّ أُسس الاستهلاك الأمثل في النظريّة الإسلاميّة هي وجوب اجتناب الإسراف8 والتبذير، واجتناب التقتير والبخل، أي الاعتدال في الإنفاق، والادخار. وسوف نفصِّل الكلام فيها وفق الشكل الآتي:



1 الحكيمي، المعايير الاقتصادية في السيرة الرضوية معيارهاى اقتصادى در تعاليم رضوى-، م.س، ص55.
2 ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين الصدوق-: عيون أخبار الرضا عليه السلام، لاط، طهران، منشورات الأعلميّ، لات، ج2، ص125.
3 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أكَلَ حَراماً، لَم يَقبَلْ اللهُ مِنهُ صَرفاً ولا عَدلاً". الحلّي، عدّة الداعي، م.س، ص140.
4 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أحبَّ أن يُستجابَ دُعاؤهُ، فليُطَيِّب مَطعَمَهُ ومَكسَبَهُ". الحلّي، عدّة الداعي، م.س، ص128.
5 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا وَقَعت اللُّقمَةُ مِن حرامٍ فِي جَوفِ العَبدِ، لَعَنَهُ كُلُّ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ والأرضِ". العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج63، ص314.
6 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص 8.
7 محمّدي، حميد رضا ملك: على هاوية النزعة الاستهلاكيّة بر لبه برتكاه مصرف كرائي-، ط1، إيران، منشورات مركز وثائق الثورة الإسلاميّة، 1381هـ.ش، ص20.
8 سوف نتطرّق إلى بيان الفرق بين الإسراف والتبذير لاحقاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

102

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 1- تجنّب الإسراف:

السّرف هو تجاوز الحدّ في كلّ فعلٍ يفعله الإنسان1 فالله تعالى عدّه من السُّنَن الفرعونيّة: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾2، وتوعّد المسرفين بعذابٍ أليمٍ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾3.
 
المراد من الإسراف في الاستهلاك تجاوز الحدّ في الإنفاق، أي أنّ الإنسان يتجاوز المستوى المتعارف في إنفاق المال، فينفق أكثر من حاجته، ويسرف في ذلك. فعلى سبيل المثال: شخص لا يتقاضى في اليوم أكثر من دولارين، لكنّه يشتري لنفسه ولأسرته ثياباً بمئات الدولارات.
 
وقد تطرّق الإمام جعفر الصادق عليه السلام لهذا الأمر، حين قال: "ربّ فقير هو أسرف من الغني، إنّ الغني ينفق ممّا أوتي، والفقير ينفق من غير ما أوتي"4.
 
وهذه الرواية تشير إلى بعض الموارد النادرة التي لا يتّبع فيها الفقير برنامجاً صحيحاً في معيشته، وذلك حينما ينفق ما يكسبه من مالٍ يسيرٍ في مسائل لا تتناسب مع وضعه الماديّ، وبالتالي يُهدرِ دخله، بسبب إسرافه. وبالتأكيد، فإنّ هذا الفعل بالنسبة للأثرياء قد لا يكون إسرافاً، إذ أنّ إسرافهم يتحقّق عبر إنفاقهم الأموال في أمورٍ أشدّ فداحة ممّا فعله هذا الفقير.
 
ومن هنا، يتّضح أنّ معيار حقيقة الإسراف نسبيّ، حيث تكون بعض مصاديق الإنفاق الصادرة من بعض الأفراد مؤدّية إلى الوقوع في الإسراف، ولكنّها ليست كذلك بالنسبة للبعض الآخر.



1 الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة "سرف".
2 سورة يونس، الآية 83.
3 سورة غافر، الآية 43.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

103

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 ويُعدّ الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعيّة تعدّياً على حقوق الآخرين، وإهداراً للثروة العامّة ونتيجة هذا الإهدار هي البعد عن رحمة الله تعالى ورضوانه.

 

 
ومن النتائج السيّئة الأخرى للإسراف والتبذير، ابتلاء الفرد والمجتمع بالفقر والحرمان. فالمُسرِف الذي لا يُحسن التدبير في معيشته، قد يُبتلى بالفقر، بسبب إسرافه، وبالتالي لا يتمكّن من تأمين متطلّبات معيشته. وكذلك، فإنّ عدداً من المسرفين قد يؤثّرون سلبيّاً على المجتمع برمّته إثر إسرافهم وإهدارهم الثروة العامّة، أي أنّهم يحرمون الآخرين من استثمار هذه الثروة، ليكون سوء تصرّفهم موجباً لحرمان المجتمع، ورواج الفقر فيه. يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الصدد: "إنَّ السّرفَيُورِثُ الفَقرَ، وَإنَّ القَصدَ يُورِثُ الغِنَى"1.
 
نهى تعالى عن البخل والإسراف، وأوصى الناس باتّباع الوسطيّة في الإنفاق: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾2.
 
فالحدّ المعقول من استثمار نِعَم الله تعالى والمقرّر حسب تعاليم ديننا الحنيف، هو ما كان مطابقاً للاعتدال والوسطيّة. فالإنفاق المعتدل، يعني: خلوّه من الإسراف والتقتير في آنٍ واحدٍ، وقد عبّرت عنه الأحاديث بـ "القصد" أو "الاقتصاد". والإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يطلب من الله تعالى أن يكرمه بهذه النعمة بدعائه: "وَاحجُبنِي عَن السّرفِ وَالازدِيادِ، وَقَوّمنِي بالبَذلِ وَالاقتِصادِ"3.
 
2- تحديد الأولويّة في إنفاق الأموال:
لا ريب في أنّ الدخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار، أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبية جميع متطلّبات حياته.
 
لذا، فإنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تسخير الأموال لتوفير المتطلّبات الضروريّة والأوليَّة، أمّا الأمور الثانويّة، التي لا ضرورة لها، فهي في الدرجة الثانية في



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص53.
2 سورة الفرقان، الآية 67.
3 الصحيفة السجاديّة، الدعاء30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

104

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 سُلّم الترتيب، وإن لم يلتزم بهذا الأمر سوف يضطرّ الشخص إلى الاقتراض، فيسبّب ضغوطاً تُنهكه وتُنهك أسرته.

 
فلا بدّ من التصرّف بوعيٍ، وكسب المعلوماتٍ اللازمةٍ، في كيفيّة تسخير الأموال لموردٍ ما، وإنفاقها فيه. كما يتوجّب عليه كسب معلوماتٍ بخصوص أسعار البضائع والخدمات التي تقدّم في مختلف الأماكن، بغية اتّخاذ القرار المناسب.
 
3- تدوين النفقات:
تُعدّ عمليّة تدوين النّفقات من الأمور الهامّة، لأنّها تُمكّن الإنسان من معرفة مقدار ما يحتاج إليه من أموالٍ في حياته، إذ يسعى من خلالها إلى رفع مستوى دخله.
 
وهناك مرحلة هامّةٌ في موضوع تدوين النفقات، تتمثّل عند نهاية كلّ دورةٍ يتمّ تدوينها، حيث، لا بدّ من الاطّلاع على مقدار النفقات، وتقويم مدى صحّة الإنفاق أو عدمه، فإذا كان الدّخل والإنفاق متوازنين، فهذا يدلّ على أنّ الخطط الاقتصاديّة صحيحةٌ، ولكن، إذا كان الدخل والإنفاق غير متوازنين، أي كان الإنفاق أكثر من الدخل، يجب حينها تشخيص أسباب عدم الاتّزان، ومعرفة هل إنّه ناشئٌ من التضخّم والغلاء، أم من البذخ في الضيافة، أم من النّفقات غير الضروريّة.
 
وبعد معرفة هذه الأسباب، يتوجّب على المدبّر التخطيط للمرحلة القادمة، واجتناب الأخطاء التي حصلت، لكي يتسنّى له إيجاد توازنٍ بين مقدار الدخل والإنفاق، وبالتالي، تحقيق تناسقٍ مطلوبٍ بين أمور المعيشة ومقدار نفقاتها.
 
وقد عُبّر عن التدوين في الأحاديث الشريفة، بالتقدير والتدبير، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التَّقدِيرُ نِصفُ العيشِ"1.
 
كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ"2.



1 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ح5904، ص416.
2 الآمدي، غرر الحِكم ودرر الكلِم، ح6807.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

105

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 4- وجوب الرضا والقناعة:

"القَناعة بالفتح: الرِّضا بالقِسْمِ"1. وفي اللغة تعني "الرضا باليسير من العطاء"2. قال الإمام عليّ عليه السلام: "طَلَبت الغِنَى، فَما وجدت إلا بالقَناعةِ، عَلَيكُم بالقَناعَةِ تَستَغنُوا"3.
 
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "الغِنَى فِي القَناعَةِ، وَهُم يَطلبُونَهُ فِي كَثرَةِ المالِ فَلا يَجِدُونَهُ"4.
 
وسبيل كسب القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، عيّنه لنا الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "انظُر إلى مَن هُو دُونكَ فِي المقدِرةِ، ولا تَنظُر إلى مَن هُو فَوقكَ فِي المقدِرةِ، فإنَّ ذلِكَ أقنَع لَكَ بِما قُسِمَ لَكَ"5.
 
من المفروض على كلّ مسلمٍ أن يُبرمج حياته الفرديّة والاجتماعيّة طبق أصول دينه ومبادئه، ويؤدّي أعماله وفق ذلك. كما أنّ الله تعالى منح الإنسانَ الحقَّ ببذل أمواله في ما يحتاج إليه، واستثمار نِعم الطبيعة، ففي الوقت ذاته كلّفه بواجباتٍ في هذا المضمار، وألزمه بأداء حقوق الآخرين، كالخمس، والزكاة، والحقّ المعلوم. والإذعان لهذا التكليف - بالتأكيد - من شأنه تقليص مستوى الفقر في المجتمع.
 
5- حُسن الادّخار:
لا يختلف اثنان في تأثير ادّخار الأموال على تماسك الأسرة والمجتمع ورقيّهما، وهذا الأمر طبعاً من أهمّ سياسات حُسن التدبير في المعيشة.
 
إذاً، لو سلك أعضاء الأسرة أو المجتمع نهج الإسراف والتبذير، فسوف لا يمكنهم ادّخار ما يلبّي متطلّباتهم عند الحاجة، حتّى وإن كان وليّ أمرهم مدبّراً وقانعاً. فإذا تمكّن الناس من ادّخار أموالهم وتسخيرها في النشاطات الإنتاجيّة، فسوف تتهيّأ



1 لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص298، مادّة "قنع".
2 ابن الأثير، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر، لاط، لام، منشورات المكتبة الإسلاميّة، لات، ج4، ص114.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص399.
4 الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص230.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص244.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

106

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 الأرضيّة اللازمة للرقيّ الاقتصاديّ، وتتوافر فُرص العمل، ويرتفع المستوى المعيشيّ للناس. كما أنّ الادّخار بذاته يُعدّ سبباً للحيلولة دون الإسراف والتبذير. وكلّما زادت قدرة الناس على الادّخار، فسوف يبتعدون عن طبيعة الاستهلاك المُفرِط إلى حدٍّ كبيرٍ.

 
ومصادرنا الدينيّة حافلةٌ بنصوصٍ تؤكّد على أهمّيّة الادّخار، منها: ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: "إنَّ الإنسانَ إذا أدخل (ادّخر) طَعامَ سَنَةٍ، خَفَّ ظَهرُهُ وَاستَراحَ. وَكانَ أبو جَعفر وَأبو عَبدِ اللهِ عليهما السلام لا يَشتَريانِ عُقدَةً، حَتَّى يُحرِزا طَعامَ سَنَتِهِما"1.
 
والادّخار يكون حميداً، لو كان الهدف منه حماية اقتصاد المجتمع، والحفاظ على تماسكه، لدرجة أنّ نبيّاً من أنبياء الله تعالى قد تولّى هذه المهمّة بنفسه.
 
فقصّة النبيّ يوسف عليه السلام في القرآن الكريم خير دليلٍ على أهمّيّة الادّخار، وذلك عندما فسّر رؤيا فرعون مصر في البقرات السبع العجاف بسنوات الجفاف، والجدب، ومن ثمّ اقترح عليه توفير القمح، لتجاوز هذه المحنة.
 
إنّ توفير الخدمات العامّة للمجتمع من شأنه المساعدة على ادّخار النعمة، وفي الوقت نفسه يُعدّ ذخراً معنويّاً للعبد في آخرته، كحفر بئرٍ، أو شقّ قناةٍ، لتأمين مياه الشرب والسَّقي للناس. ولهذا التوفير آثاره المعنويّة التي لا ينكرها أحدٌ. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "سِتُّ خِصالٍ يَنتَفِعُ بِها المؤمِنُ بَعدَ مَوتِهِ: وَلَدٌ صالِحٌ يَستَغفِرُ لَهُ، وَمُصحَفٌ يُقرَأ فِيهِ، وَقُلَيبٌ يَحفِرُهُ، وَغَرس يَغرِسُهُ، وَصَدَقَةُ ماءٍ يجرِيهِ، وَسُنَّةٌ حَسَنَةٌ يُؤخَذُ بِها بَعدَهُ"2.
 
أمّا إنْ كانت هذه الأهداف لا تنسجم مع حكم العقل والشرع، فسيكون الادّخار حينها مذموماً ومنهيّاً عنه، لأنّه يؤدّي إلى تسخير الثروة في غير رضا الربّ، ويحرم المجتمع والفقراء من منافعه.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص89.
2 الشيخ الصدوق، الأمالي، ص233.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

107

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 فالإمام الصادق عليه السلام يُعلّمنا الأسلوب الصحيح في توفير المال، وذلك بادّخاره في عدّة أماكن، كاستثماره في عدّة مشاريع، فذلك أنسب وأحفظ له. فلو وقعت حادثةٌ، فإنّ المال لا يتلف كلّه، ويبقى منه شيءٌ، ولا يحتاج الإنسان إلى الآخرين حينها.

 
استثمار المال
إنّ استثمار الأموال يُعدّ أحد العوامل الأساسيّة في النموّ الاقتصاديّ، ويؤدّي إلى القضاء على الفقر والحرمان فالمال والثروة رصيدٌ للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. والخطابات القرآنيّة في هذا المجال جاءت بصيغة الجمع1، وذلك للدلالة على أهمّيّة الرصيد المالي وقوّاميّته في المجتمع.
 
من هنا تبرز أهمّيّة الاستثمار وتوظيف المال في جميع المجالات الاقتصاديّة التي تخدم المجتمع، كالزراعة، والصناعة، والتعدين، والخدمات العامّة، وما إلى ذلك من نشاطات.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّما أعطاكُمْ اللهُ هذهِ الفُضولَ مِن الأموالِ، لتُوجِّهوها حيثُ وَجّهَها اللهُ، ولَم يُعطِكُموها، لتكنِزُوها"2. وقد تطرّقت المصادر الإسلاميّة إلى هذا الأمر وشجّعت الناس عليه، تحت عناوين مختلفةٍ: إمّا بشكلٍ مباشرٍ، مثل: إصلاح المال، والعمران، والإحياء، وإمّا بشكلٍ غير مباشرٍ، مثل: منع ركود الثروة، وحرمة الإسراف والتبذير، وحرمة إتلاف المال، وترويج مبدأ القناعة، والاقتصاد في استهلاك الأموال3.
 
فهنالك آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تطرّقت إلى نماذج عديدةٍ من استثمار الأموال في مختلف المشاريع، منها الآيتان 37 و38 من سورة هود، والآية 27 من سورة المؤمنين التي تشير إلى توفير بعض الأمور، من أجل صناعة سفينة نوح عليه السلام عن طريق الوحي. والآيتان 12 و13 من سورة سبأ تشيران إلى خطّة النبيّ سليمان عليه السلام الاستثماريّة في



1 وردت في القرآن الكريم عبارات عديدة بصيغة الجمع في هذا المجال، مثل: ﴿خَلَقَ لَكُم﴾ ﴿جَعَلَ لَكُمُ﴾﴿لِلنَّاسِ﴾ ﴿رِزْقاً لَّكُمْ﴾...
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص32.
3 الحسينيّ، رضا: نمط توزيع الدخل وسلوك المستهلك المسلم اُلكوي تخصيص درامد ورفتار مصرف كننده مسلمان-، ط1، لام، منشورات مركز الثقافة والفكر الإسلاميّ، 1379هـ.ش، ص159.
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

108

الدرس الثاني عشر: الكسب الحلال وكيفية استهلاكه

 صناعة جدران، وتماثيل، وأواني طعام كبيرة، وقدور ثابتة. وكذلك الأمر في الآيتين 10 و11 من سورة سبأ، والآيات 26 إلى 28 من سورة القصص التي تذكر مشروع النبيّ داوود عليه السلام الاستثماريّ في صناعة الدروع الحربيّة، وكذلك تشير إلى الاتّفاقيّة التي عُقِدَت بين النبيّ شعيب عليه السلام والنبيّ موسى عليه السلام في استثمار خدمات الأخير1.

 

 
ويوجد الكثير من الروايات المباركة التي تناولت قضيّة استثمار الأموال:
فقد روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ما يَخلُفُ الرّجُلُ بَعدَهُ شَيئاً أشَدَّ عَلَيهِ مِن المالِ الصّامِتِ". قال زرارة: قلتُ له كيف يصنع به؟ قال عليه السلام: "يَجعَلهُ فِي الحائطِ والبُستانِ أو الدّارِ"2. وروى محمّد بن عذافر، عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمئة دينارٍ، فقال له: "اتَّجِر لِي بِها". ثمّ قال عليه السلام: "أَما إنّهُ لَيسَ لِي رَغبَةٌ في رِبحِها، وإنْ كانَ الرّبحُ مَرغوباً فيهِ، ولكِنِّي أحبَبتُ أن يَراني اللهُ عزَّ وجلَّ مُتعرِّضاً لفَوائدِهِ". قال: فربحتُ له فيه مائة دينارٍ، ثمّ لقيته، فقلتُ له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينارٍ، ففرح أبو عبد الله عليه السلام بذلك فرحاً شديداً، وقال لي: "أَثبِتْها في رَأسِ مالِي"3.
 
- وقد أوصى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أحد أصحابه أن يشتري مزرعةً أو بستاناً، لأنّ الذي يمتلك رصيداً مادّيّاً يؤمّن حاجاته وحاجات عياله، سوف لا يعاني كثيراً، ويرتاح باله، لو تعرّض إلى نائبةٍ أو حادثةٍ. فقد روى محمّد بن مرازم، عن أبيه: أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال لمصادف مولاه: "اتّخِذْ عقدةً أو ضَيعةً، فإنّ الرّجلَ إذا نزَلت بهِ النّازِلةُ أو المصيبةُ، فذَكرَ أنّ وَراءَ ظهره ما يقيمُ عيالَهُ، كانَ أسخَى لنفسِهِ"4.
 
إضافةً إلى ما ذُكر، فإنّ جميع الروايات التي وردت في العقود التجاريّة، مثل: عقد المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، والشراكة، والجعالة، والإجارة، وما شاكلها، تجوّز استثمار الأموال، وتسخيرها، خدمةً للفرد والمجتمع.



1 لمعرفة المزيد عن الخطط الاستثماريّة التي وردت في القرآن الكريم، انظر: رجائي, وآخرون، معجم موضوعى آيات اقتصادى قرآن باللغة الفارسية-، م.س، ص104-110.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص91.
3 م.ن، ص 76.
4 م.ن، ص 92.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

109
هُدىً وبشرى