موكب الأحزان


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

              فهرس الموضوعات

 

فهرس الموضوعات

5

تقديم

7

مصدرُنا الأساسي وبيان حظّه من الثقة

11

خريطة الطريق من "العراق" إلى "دمشق"

17

قراءةٌ في الدّلالات والمغازي

33

       تمهيــــد

33

الحَدَثُ الكربلائيّ يتفاعل

37

خلاصاتٌ ونتائج

63

مكتبـةُ البحث

71

كشاف تحليلي شامل

75

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم


تقديـــم 

نقفُ في هذه الصفحات على شأنٍ تفصيليٍّ، ممّا تطرحه على الباحث والمُتأمّل وقائعُ الأداء السلطوي ووقائعُ الأداء الشعبي الذي تلا واقعة"كربلا". بدءاً من حيث انتهت بشهادة الإمام الحسين  عليه السلام  وأهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم بُعيد ظهر العاشر من المُحرّم سنة 61هـ/10تشرين الأول (أكتوبر)680م، حتى رجوع موكب السبايا إلى مدينة جدّهم رسول الله  صلوات الله عليه وآله . وهي وقائع غنيّةٌ بالتفصيلات. التي سرعان ما تتحوّلُ نتيجةَ البحث والتأمّل إلى إشكاليّات عسيرة. وذلك لسببيَن: 

ـ الأوّل: غيابُ الشّهود. لقد كانت عملاً محصوراً بأفرادٍ معدودين، هم المُكلّفون بمُرافقة الموكب من"كربلا" إلى"دمشق"، ثم منها إلى"المدينة". وهؤلاء ليس لديهم أدنى دافع لرواية الأحداث. ومع أنّ الطريق الذي سلكوه طويلٌ جدّاً، عامرٌ بالتجمّعات السُكّانيّة، فإنه لا دليل لدينا على أنّ الناس الذين شهدوا هذه المرحلة أو تلك من حركة الموكب، كانوا وهم يشهدون الموكب الحزين العابر بلدهم يعرفون مَن هم هؤلاء حقيقةً، ممّا يكون سبباً لديهم لرواية ما شهدوه. إنهم بالنسبة لهم، وفقاً لما كان يُقالُ لهم، مُجرّد"خارجين على أمير المؤمنين".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

2

المقدمة

 وذلك خلافاً لوقعة"كربلا"، التي شهدها بكامل تفصيلاتها الأُلوفُ الكثيرة من الناس، الذي كانوا يعرفون جيّداً مَن هؤلاء ومَن هؤلاء من الفريقيَن. وطبعاً فإنهم لذلك وعوا الأحداث، ووُجد منهم مَن رواها فيما بعد. وغالباً من موقع التعاطُف مع الضحايا. 


ـ الثاني: إنّ ما يتصل من تلك التفصيلات/الإشكاليّات بالمقاصد والنوايا هو من السّرائر، التي لم يُفصح أصحابُها عن منازعها. إنّ الأعمال المُستَهجَنة التي ارتكبها القتَلةُ بعد مصرع الشـهداء، هي ممّا يصعُبُ تفسـيرُه بغير الغباء السياسي وبلادةِ الحسِّ تجاه الناس ومشاعرهم، التي لو كانوا يعقلون لقدّروا أنها ستولّد حتماً مواقف في غير مصلحة مُرتكبيها، بالنظر لوحشيّة الأعمال وهُجنتها، وبالنظر لمكانة الضحايا. فإذا كانت مقاصدُ السُلطة قد تحقّقت كاملةً بقتل الإمام  عليه السلام  ومَيْلِ كفّة أهل"الكوفة" إلى جانبها، فلماذا أوطأتْ بحوافر الخيل صدرَه وظهرَه؟ لماذا ارتكبتْ ذلك العمل الاستعراضيّ الغبي، فتجشّمتْ عناءَ حمل الرؤوس ومَن نجا من المذبحة والنساءِ والأطفالِ تلك المسافة الطويلة؟ وكلا الأداءين سابقةٌ بذاته، ومن الأُمورغير المألوفة التي لا يجدُ لها المؤرّخُ أمثالاً. 

ولكن من الجهة الأُخرى، فإنّ ممّا لاريب فيه أنّ تلك الأعمال الخرقاء قد عجّلتْ في تسريع تفاعلاتِ الحَدَثِ الكربلائي الرّهيبِ في نفوس الناس، كما أنها منحتْ بقيّةَ السيف فرصةَ تنظيم عملٍ تصحيحيٍّ مُعاكسٍ لتضليلات ومقاصد السُلطة. وتكامُلُ العامليَن أدّى إلى ما لم يكُن يخطرُ للمجرمين ببال. فسقطتْ الدولة السُّفيانيّة تحت وطأة العار، فقط العار. وتلك حالةٌ من أندر ما يكون في تاريخ البشريّة على تنوّعه وطوله. وبسقوطها المُدوّي ضاعتْ الجهودُ الشّاملة التي بذلها مؤسّسها الدّاهية معاوية في بناء العناصر المعنويّة لحُكم بيته حكماً طويلاً أبديّاً، عنوانُه الثأرُ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

3

المقدمة

 من هذا الطّارئ الذي اسمه الإسلام. وانفتحَ ما اُريد منه أن يكون خاتمةً على بداياتٍ جديدة. انفتحتْ النهايةُ عن بداية. مهما يكُن الطريقُ أمامَها طويلاً ولكنه شارعٌ، وفقَ مارسمه الخالقُ سبحانه لعباده ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾1. ( الأنبياء/ 35 ) في معركةٍ طويلةٍ، لن يكون فيها مُنتصرٌ نهائيّاً، ولا مهزوم نهائيّاً، إلا لهُنيهةٍ قُبيل لحظة الختام، يوم يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجورا. وذلك هو لُبُّ النهضة الحسينيّة. 

 
بُغيتُنا ممّا سيأتي هي أن نرسم خارطةَ الطريق الذي سلكه موكبُ السبايا والرؤوس، منذ أن غادروا أرض المعركة في"كربلا"، حتى وصولهم إلى"دمشق". وهو غرضٌ قد يبدو للقارئ ضئيلَ الأهميّة، وذلك فهمٌ بعيدٌ عن الصواب. ذلك أنّ البحثَ في مثل تلك التفصيلات /الإشـكاليّات، التي تسترُها عنّا القرون الطوال، بالإضافة إلى بؤس ما سجّله المؤرّخون، يحسُنُ أن يبدأ من النقاط الثابتة، وفي رأسها طبعاً عنصرالمكان. وهو عنصرٌ أساسيٌّ في الحَدَث إجمالاً من بين عناصرثلاثة، ثانيها الزمان، وثالثها السلوك البشريّ. وعندما تتكامل العناصر الثلاثة سيفوزُ الباحثُ حتماً بصورةٍ تاريخيّةٍ ناصعة.أمّا حيث تعول، خصوصاً عن عنصر الأداء البشري، فإنّ من أوّل ما ينبغي أن نُحاولَه البدءُ بعنصر المكان، ذلك لأنّه العنصرُ الوحيدُ الثابتُ العصيّ على التغيُّر. وعن هذا الطريق فإنّنا نملكُ أملاً معقولاً بأن نتلمّسَ طريقنا عبرَه إلى تركيب صورةٍ للحدَث بدرجةٍ ما من الوضوح. 
 
هكذا، فإننا، كما قُلنا، سنرسم خريطةَ طريق اعتماداً على ما بين
 
 
 

1- الانبياء:35
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

 


4

المقدمة

 أيدينا من معلومات. بيدَ أننا ـ طبعاً ـ لن نقِفَ عند هذه النتيجة، بل سنبذلُ كلَّ ما عندنا من وُسعٍ في استنطاقها واستخراج دلالاتها ومغازيها. ذلك أنّ الإنسان، وهو يتحرّك في المكان، يكشف ضمناً، وحتى دون أن يقصد، عن الخطّة الكامنة في ذهنه وعن غرضه الذي يرمي إليه. وإننا نأملُ باتباع هذا المنهج أن نُقدّم للقارئ أُنموذجاً ناجحاً في البحث، حقيقٌ بأن يُحتذى.

 
 سنبدأُ بالتعريف بالمصدر الذي اعتمدناه في رسم خريطة الطريق، وبيان حظّه من الثّقة، بحيث يصحُّ اعتماده فيما نرمي إليه. ونُثنّي برسـم معالم خريطة حركة الموكـب، وهو يتحرّك بين البلدان.  ونُثلّثُ بما يجعلُ من هـذه الخريطة ناطقةً عمّا كتمه التاريخ من دلالات ومغازٍ، سواءٌ فيما يتصلُ بمقاصد الجُناة، أم فيما يتصلُ بارتكاس الناس على الحدث إجمالاً. وتفاعلاتُ كلّ ذلك على صعيد ما كتمه عنّا المؤرّخون. وفي هذا المقصد الأخير نصِلُ إلى ذروة البحث، بل ذروة أيّ بحثٍ من مثله. حيث نُلامسُ، بما يُشبه لمسَ اليد، ضمائرَ الناس وحوافزهم ومُحرّكاتهم وهم يعملون، فيُسجّلون بما عملوا حقيقةَ وُجدانهم وميولهم الكامنة. وذلك غايةُ ما يسعى إليه كلُّ مؤرّخٍ سليمِ السّليقة، غاية سعيه أن يُعيدَ تركيبَ التاريخ، كما حدث فعلاً على يد صانعه الحقيقي الإنسان. الذي يستنكفُ عنه المؤرّخُ السلطوي، لصالحِ تأريخٍ مجزؤ لا يُحرّكه سوى صاحبُ السلطان.  والحمد للّه ربّ العالمين.
 
 
 
 بعلبك في
7 ربيع الأول 1432هـ
10 شـباط  2011 م  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

5

الدرس الأول: مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة

 مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة 

 
من المعلوم أنّ قيمةَ أيّ خبريحتملُ الصّدقَ والكذبَ هو من حال قائله، ثم من حال مصدره هو إلى ما أخبرَ به. ولذلك فإن علينا أن نُعرّفَ بالاثنين معاً. نُعرّف أولاً بصاحب المصدر، ونُعرّف بمصدره هو إلى ما أخبرنا به.
 
أمّا صاحبُ مصدرنا العتيد فهو أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي ( ت: 611هـ/1214م ). و"الهروي" كما هو معلوم نسبةً إلى"هَراة"، المدينةُ الخراسانيّةُ التي غدتْ اليوم من دولة"أفغانستان". ولكنّه، خلافاً لاسم المدينة التي نُسبَ إليها، موصليّ المولد حلبيّ المسكن. والثابتُ أنّه اكتسب تلك النسبة إلى"هراة" من أصله القريب أو البعيد1
 
ثم أنّ الهرويّ من ذلك الطراز النادر في تاريخنا الثقافي، الذي صرفَ جُهده إلى ما نُسمّيه اليوم التاريخ الجغرافي أو الجغرافيا التاريخيّة. وهو نمطٌ من أنماط الكتابة التاريخيّة التي تعتمدُ ليس النقولات، ما كان
 
 
 

1 ـ ابن خلّكان: وفيات الأعيان، ط. بيروت 1417هـ/1997م: 2 / 164 ـ 65. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

الدرس الأول: مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة

 منها تحريريّاً مكتوباً أو ماكان منها شفويّاً محكيّاً، بل المعالمَ الإنسانيّةَ المادّيّةَ القائمة َبالفعل. فهو بمنهجه هذا أشبهُ بالآثاريّ، الذي يقرأ التاريخ من خلال ما تركه صانعوه على ظهر الأرض أو في باطنها. ومن الغنيّ عن البيان أنّ هذه القراءة تُنجينا من كثيرٍ من آفات التاريخ المنقول، الذي يتأثرُ كثيراً بميول صاحبه وبمصلحة من كُتبَ التاريخُ لحسابهم من ذوي السلطان.

 
ولقد وصفنا الهرويَّ أعلاه بأنه"حلبيّ المسكن"، وهو وصفٌ صحيحٌ  دون ريب. لكنّ الحقيقةَ أنّ هذا الوصف يصحُّ فقط على السنوات الأخيرة من عمره. ذلك أنّ الرجل قضى عمره في التجوال في البلدان، حتى قال فيه ابن خلّكان:"كاد أن يُطبّق الأرضَ بالدوران برّاً وبحراً وسهلاً ووعراً حتى ضُرب به المثلُ. فقال جعفر ابنُ شمس الخلافة في رجلٍ: 
    قد طبّق الأرضَ من سهلٍ ومن جبل              كأنـه خطُّ ذاك السائح الهروي" 1 
 
ووصفه المؤرّخ الذهبي بـ"الزّاهد الفاضل الجوّال الشيخ عليّ بن أبي بكر الهرويّ، الذي طوّف غالب المعمور. وقلّ أن تجدَ موضعاً مُعتبراً إلا وقد كتب اسمَه عليه"2. ثم استوطن في آخر عمره"حلب"، حيث نال إعجابَ أميرها الملك الظاهر ابن صلاح الدين الأيّوبي، الشيعيّ الوحيد من أبناء صلاح الدين3، فبنى له فيها مدرسةً بظاهر
 
 
 

1 -وفيات الأعيان:2/165. 
2- الذهبي: سير أعلام النبلاء، ط. بيروت باعتناء بشّار معروف:22/56 ـ 57. وهذه إشارةٌ إلى أنّه كان يكتب اسمه أينما حلّ. 
3-والملك الظاهر هو الذي كان حسام الدبن بشارة بن مُقبل الغسّاني، أمير "جبل عامل" فيما بعد، شُحنته، أي المسؤول عن الأمن في  إمارته. انظر كتابنا: حسام الدين بشارة أمير جبل عامل، ط. بيروت 1426هـ/2005م. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

7

الدرس الأول: مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة

 المدينة فدرّسَ بها وخطبَ، إلى أن توفي بعد أن شاخ. ودُفن في قبّة مدرسته. وربما يُستشمُّ من تقديم الملك الظاهر له وعنايته به، أنه كان هو أيضاً شيعيّاً. وعلى كلّ حال فإنّ عنايته الخاصّة بقبور أهل البيت (عليهم السلام) وبالمشاهد المنسوبة إليهم دليلٌ على حبّه لهم. 

 
ما يهمّنا من هذا السّرْد على سيرة الرجل أنّه كان أثناء تجواله في البلاد يُسجّل المعلومات عمّا يُشاهده فيها. ومن الثمرات الباقية من تلك التسجيلات كتابه النفيس (الإشارات إلى معرفة الزيارات)، الذي اعتنى بتحقيقه ونشره المُستعربُ الفرنسي جانين سورديل ـ طومين1.  وهو المصدر الأساسي لبحثنا. 
 
استوعبَ الهرويُّ في كتابه ذكرَ المزاراتِ في"الشام" و"مصر" و"العراق". وهو أوّل كتابٍ من نوعه على هذا الموضوع. وما ندري ما الذي جعله يُفكّرُ أساساً بالاهتمام بهذا الموضوع دون سابقةٍ بتخصيص كتابٍ عليه. هذا لا يعني أنّه أوّلُ من اهتمّ بذكرِ المزارات في البلدان. بل إنّ كثيراً ممّا كُتبَ على أدب الرحلات حافلٌ بذكرها. ولكنه في هذه يأتي عَرَضاً، في سـياق مُشاهداتِ الرحّالة. أمّا الهروي فإنّه قصد في كتابه، منذ العنوان الذي اختاره له، أن يُخصّص كتابه لهذا الموضوع بالذات. 
 
إنّ أهمّيّةَ كتاب الإشارات هي أساساً في أنّه نتيجة خُبْرٍ ومُعاينةٍ شخصيّةٍ. وهذه أعلى درجاتِ الإخبار. أمّا أهميّة موضوعه  فهي في أمرين، لا دليلَ على أنّ مؤلفه قد قصدهما. بل لا نظنُّ أنّه التفتَ إليهما.
 
 
 
 

1 -نشرة المعهد الفرنسي بدمشق 1953 م. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

8

الدرس الأول: مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة

 ـ الأمر الأوّل: أنّه سجّل ضمناً معلوماتٍ عن ضمائر ووُجدان وولاء الناس. أكثرها ممّا ضاع واندثرتْ آثاره في التغيّرات التاريخيّة الجذريّة التي حصلت في تقلّبات الزمان بأهله. ذلك لأنّ الناس حين يبنون المزارات ويحفظونها ويُثابرون على زيارتها، فإنهم يُعبّرون ضمنأً عمّا تُكنّه نفوسهم ووُجداناتهم من مشاعر الحبّ والولاء والتقدير لأصحاب هاتيك المزارات. بيـدَ أنّ الزمان قد يذهبُ بمَن بنوا تلك المعالم وحفظوها زمناً، أو ربما تتغيّرُ نفوسُهم لسببٍ أو غيره، وغالباً تحت وطأة مُتغيّرٍ سياسيٍّ قاهرٍ. ولكنّ تلك المعالمَ / المزاراتِ تبقى شاهداً أميناً على الحقبة الضائعة. يقرأها المؤرّخُ فيما بعدُ، ويستفيد منها في تركيب صورةٍ ما لتاريخٍ ضائع. وفي بعض ما سنأتي على ذكره منها مثالاتٌ أكيدةٌ على ما نقول. 


ـ الأمر الثاني: أنّه سجـّل أيضاً، دون أن يقصد،  ما يُعطينـا اليومَ أن نرسـمَ أوثقَ خريطةٍ لحركة موكب السبايا. وذلك بأن ذَكَرَ المشـاهدَ التي بناها الناس، بمُبادرةٍ منهم، حيث نزلَ الموكبُ، في المحطّات الرئيسة على طريقهم الطويل. من الواضح أنّ الفضل الأساسيّ في هذا هو لأولئك الناس المجهولين، الذين بادروا، منذ اللحظة التي انفتحت فيها عيونُهم على الحقيقة الرّهيبة، فبنوا تلك المشاهد. لتبقى على مَـرِّ الزمان تعبيراً عن حبّهم وحزنهم وألمهم، وفوق هـذا عن لحظة انفتاح عيونهم وقلوبهم على الحقيقة التي خُودعوا عنها. فانطلقوا فيما يُشـبه النفيرَ العامّ يُقدّسون الأرضَ التي تشرّفتْ بمُلامسةِ تلك الأجساد الطاهرة. وخلّدوا اللحظةَ العابرةَ لمكثهم عليها بتلك السلسلة الفريدة من المشاهد، المُمتدّة من نطاق"الكوفة" إلى"دمشق"، وذلك أمرٌ لا نعرف سابقةً ولا لاحقةً له من مثله. وطبعاً له مغزاه الكبير، ممّا سنقفُ عليه إن شاء الله. 

لكنّ تخصيصَ أولئك الناس بفضل السابقة، لا ينتقصُ أبداً من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

9

الدرس الأول: مصدرُنا الأساسيّ وبيانُ حظّـه من الثّقـة

 فضل الهرويّ، الذي  جاء، بعد ما يزيدُ قليلاً على الخمسة قرون، ليُسجّلَ لنا ما عاينه ممّا بقي من تلك المشاهد . فلولاه ولولا غرامه بالتجوال في البلاد، وأيضاً لولا أنّه تفحّص معالمها واعتنى بتسجيلها بحيث وصلتْ إلينا، لَما كان لنا أن نكتبَ اليومَ هذا البحث، على نحوٍ مُرضٍ من حيث الدقّة والوثاقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

15


10

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 خريطة الطريق من العراق إلى دمشق 


سنعملُ في هذا الفصل على رسم خريطةٍ للطريق الذي سلكه ركبُ السبايا، على حدٍّ كافٍ من الثّقة. مُعتمدين المواقعَ التي ذكرَ الهرويُ أنّ فيها مشاهد حيث نزلوا. وأيضاً على ما هو ثابتٌ ومُؤكّدٌ مما فاته ذكره. وعلى كلّ حال، فإن أكثر مايذكره منها ما يزالُ قائماً معروفاً حتى اليوم. وهذا يُثبتُ بما لاريب فيه صحّةَ ما سجّله. كما أنّ فائدةَ الجمع بين الاثنين أنّه يُعطينا نتيجةً مؤكّدّةً على أصالةِ تلك المشاهد القائمة.
 
على أنّه قبل الشروع في بيان تلك المواقع يجبُ التنبيه على أمريَن: 
ـ الأمر الأوّل: إنّ الهروي لم يقصد إلى مثل ما نقصده نحن الآن. بل ذكر ما عاينه من مشاهد قائمةٍ بالفعل، بناها مَن عاش قبله بخمسة قرون أو تزيد. إذن، فلا يُمكننا أن نعتبرَ ما أتانا به سجلاًّ وافياً حصريّاً بكل الأماكن التي نزلها ركبُ السبايا. خصوصاً وأنّ بين بعض هاتيك المنازل مسافةٌ طويلة، لا يُعقل أن يكون الرّكْبُ قد قطعها دفعةً واحدةً. بل إنّ بعضها يحتاجُ إلى بضع أيامٍ لقطعه. وإذن، فلا بُدّ أن نفترضَ أنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 بينها منازل لم يُقيّض لها مَن يهتمّ بتخليد نزول الرّكب فيها، لسببٍ أو غيره ممّا لا نعرفه . وعلى كلّ حال، فإنّ ما استفدناه من الهروي كافٍ في رسم خريطةٍ إجماليّةٍ. يمكن ملءُ الفراغات بين معالمها المعروفة بسهولة، اعتماداً على الخرائط والمعلومات الجغرافيّة.  


الأمر الثاني: إنما اعتمدنا أساساً روايات الهروي، لأنّ الروايات الأُخرى التي تهتمّ بذكر منازل الرّكب كثيرةٌ مُتهافتةٌ، ينقضُ بعضُها بعضاً. وما من واحدةٍ منها مبنيّةٌ على أُسُسٍ معلومة. ولذلك فإنّه ما من سبيلٍ للباحث إلى نقدها والمُفاضلةِ بينها. وهكذا فإنّ الخيارَ الوحيدَ الباقي هو أن نُسقطَها جميعَها، ونعتمدَ غيرَها ممّا هو مبنيٌّ على أُسُسٍ واضحة. وقد عرفنا ممّا فات أنّ هذا الشّرط متوفّرٌ في كتاب الهروي. 

بعد هذا التمهيد نشرعُ ببيان المشاهد مشهداً مشهدا، مع التعريف بكلٍّ منها جغرافيّاً وتاريخيّاً: 
ـ 1: مشهد / مسجد الحنّانة. موقعه شمال شرق"النجف" على يسار الذّاهب إلى"الكوفة". ولا ذكرَ لتاريخ بنائه مسجداً. والموقع يتناسبُ مع طريق القادم من"كربلا"، حيث يفترقُ الدّربُ هناك، يميناً باتجاه"النجف"، ويساراً باتجاه"الكوفة". ومن الثابت أنه كان قديماً عبارة عن"قائم"، أي نَصَبٌ مَبنيٍّ عموديّاً، ومن هنا سُمّي بـ"القائم". والمعروف أنه بُني في الموضع الذي أُودعَ فيه رأسُ الإمام الحسين  عليه السلام  قبل دخول موكب السبايا"الكوفة". وبقي كذلك حتى زمان الإمام الصادق عليه السلام  على الأقلّ (114ـ 148هـ/ 732ـ745م). ففي حديثٍ في (وسائل الشيعة) ما نصّه:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 " جاز مولانا جعفر بن محمد  عليه السلام  بالقائم المائل في طريق الغري، فصلّى عنده ركعتين. فقيل له: ما هذه الصلاة؟ قال: هذا موضعُ رأس جدّي الحسين وضعوه ها هنا"1

 
والظاهر أنّ السّائلَ كان غريباً عن المنطقة، بحيث احتاج إلى السؤال. وعلى كلّ حال، فإنّه اليوم مسجدٌ غدا ضمن الامتداد الجديد لـ"النجف"، في حيٍّ يُعرف بـ"الحنّانة"، أخذ اسمه من اسم المسجد الذي يتوسّطه. 
 
واسـتناداً إلى المُحدّث المؤرّخ الشيخ عباس القُمّي (ت:1359هـ /1940م)،  فإنّ موكبَ السبايا وصل إلى الموضع ليلاً، فباتَ هناك2. ولم يدخل المدينة، لحِرصِ فريقِ السُلطةِ، وعلى رأسه فيها عُبيد الله بن زياد، على أن يكونَ دخولُ المدينة استعراضيّاً بالجُند والسّلاح ومظاهر الزينة. كما سيفعلون حيثما حلّوا في كلّ الطريق إلى"دمشق". وبالفعل دخلوا"الكوفةَ" صباحَ اليوم التالي، الثاني عشر من المُحرّم، الدخولَ العريضَ الذي تصِفهُ المصادر، كما تصِفُ لقاءَ السبايا بأهل"الكوفة"، والمجلسَ، وربما المجالسَ، التي عقدها ابنُ زياد في قصر الإمارة. حيث دار سجالٌ علنيّ بينه وبين السيّدة زينب، وخطبت في الناس هي ومَن اسمُها سُكينة، التي نظنُّ أنّها ابنة علي  عليه السلام ، المدفونة في"داريّا قُرب"دمشق"، وفاطمة بنت الإمام الحُسين  عليه السلام . ممّا يمكن اعتباره بداية عملٍ يرمي إلى اختراق الطوق الإعلاميّ الذي ضربته السُلطة حول ما جنتهُ يداها. وكان له، أي للعمل، من الأثر ما قلبَ ميزان القُوى السياسي في النهاية إلى غير صالحها.
 
 
 

1 ـ الحر العاملي: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط. بيروت، دار إحياء التراث العربي،لات:2/444. وفي مصباح الزائر لابن طاوس زيارةٌ خاصّةٌ بالمشهد. 
2 ـ القمّي: نفَسُ المهموم، ط. النجف 1375هـ/1956م / 42. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 لسنا نعرفُ كم مكثَ الموكبُ في"الكوفة". وإذا صحّ ما قيل، أنّ ابن زياد كتب إلى يزيد في"دمشق" يستأمره فيما يفعل وتلبّثَ بانتظار الجواب، فهذا يعني أنهم مكثوا فيها ما يزيدُ على الشهر في أقلّ التقادير. ولكنّنا نشكُّ في ذلك شكّاً كبيراً. لِما نعرفه من أنّ ابن زياد كان يعملُ ويتصرّفُ من موقع القادر المُتمكّن، لِما بينه وبين البيت الأُمويّ الحاكم من صلةٍ نسبيّة مزعومة، منذ أن استلحقَ معاويةُ أباه بأبي سفيان. ومذ ذاك بدأ يتسمّى بزياد بن أبي سفيان، بعد أن كان زياد بن أبيه المجهول. وعليه فإنّنـا نظنُّ ظنّاً قويّاً أنهم لم يمكثوا إلا بضع أيّام. 


بمقدار ما تقتضيه تهيئةُ المُرافقة العسكريّة، التي تقولُ المصادرُ أنّها كانت ما بين الألف وخمسمائة والألفي جندي، تحسُّبا لِما يمكن أن يحصلَ أثناء الطريق. فضلاً عن تهيئة عُدّة السفر والمُرافقين من غير العسكريين لهذا العدد الكبير من المُسافرين على الطريق الطويل. 

مهما يكُن، فقد غادرَ الموكبُ الكبيرُ"الكوفةَ"، مُتجهاً إلى"دمشق". والمُلاحظُ أنّ المصادرَ، التي وصفتْ دخولَ الموكب من قبلُ وصفاً دقيقاً مُفصّلاً، كما قالت لنا ما جرى في سكك"الكوفة" ودروبِها من أسئلةٍ وردودٍ وخُطب، هذه المصادر رغم اهتمامها الواضح بتسجيل كلّ ما جرى لا تأتي على وصف خروجه فيما بعد. الأمر الذي يمكن أن نفهم منه أن خروجَه تمّ سرّاً، كأن يخرجَ ليلاً، أو يتمَّ تجميعه في مكان ما  بعيدٍ عن الأنظار ومنه انطلق. ممّا يدلّ على أنّ فريق السُلطة كان يخشى أن ينقلبَ استعراضُهُ عليه. 

وممّا يُكملُ ويُؤيّدُ هذه الملاحظة أنّ مشهد/مسجد الحنّانة هو المشهدُ الوحيدُ لمرور الموكب الحزين في وسط"العراق"، من سلسلة المشاهد التي سنعرفُها طولَ الطريق. ممّا يدلُّ بدوره على أنّ آمري الموكب كانوا يتجنّبون المواطنَ المأهولةَ في هذه المنطقة الشّاسعة. حيث
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 من المُتوقّع أن تكونَ أصداءُ وقعة"كربلا" قد وصلت إلى مسامع الناس.الأمرُ الذي سيجعل تمويهات السُلطة وضروب خداعها للناس عن حقيقة الضحايا أمراً في غاية الصعوبة. فضلاً عن إمكانيّة حصولِ أعمالٍ انتقاميّةٍ من الناس الغاضبين. 

 
ـ 2: مشهد الموصل. وهي مدينة في شمال"العراق" اليوم على شاطئ نهر دجلة. تبعدُ عن"الكوفة" زهاء 600 كلم. وكان فيها إلى القرن السابع للهجرة/الثالث عشر للميلاد مشهدٌ يُسمىّ"مشهد رأس الحسين"." كان [ الرأس ] به لمّا عبروا بالسّبي"1. وما ندري ما مصير هذا المشهد، وهل هو باقٍ أم اندرس. 
 
ـ 3: مشاهد نصيبين. وهي مدينة في"تركيّة" اليوم، على نهرٍ صغيرٍ بين نهري دجلة والفرات، يفصلها عن مدينة"القامشلي" السوريّة خطُ الحدود. وهي من أغنى المُدُن التي عبر فيها موكبُ السبايا بالمشاهد. فيها ثلاثة:
ـ"مسجدُ زين العابدين"  عليه السلام . 
ـ"مشهد الرّأس" في أحد أسواقها، حيث"رأسُ الحسين عُلّقَ لمّا عبروا بالسبي إلى"الشام". 
ـ و"بها مشهدُ النقطة، يُقالُ أنّه من دم الرأس هناك"2.
 
 
 

1 ـ الإشارات إلى معرفة الزيارات / 70. 
2ـ المصدر نفسه / 66. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 وما ندري أيضاً ما مصيرُ المشهديَن. ولكن المسجد باقٍ على الأرجح. فالمساجد لا تندرس عادةً إلا باندراس البلد. 

 
ـ 4: مشاهد بالس / مسكنة. بلدةٌ تاريخيّةٌ قديمة. وهي أوّل بلدٍ من بلدان"الشام" من جهة الغرب، لمَن يأتيه قادماً من"الجزيرة". كانت يوم عبرَها ونزل فيها موكبُ السبايا على شاطئ نهر الفرات. ولكن مجرى النهر لم يزّلْ ينحرفُ عنها مُشرّقاً إلى أن صار بعيداً عنها. بيدَ أنّ النهر غطّاها أخيراً بعد بناء السّـدّ الذي أنشأ "بُحيرة الأسد". والقرية المعروفة اليومَ بالاسم نفسه هي قريةٌ جديدة، بُنيت بعد أن غمرتْ مياهُ السدّ القريةَ الأصليّة. وفيما بقي من القرية القديمة، بعد أن غمرتْ مياهُ السدّ أطلالَ"بالس/مسكنة" التاريخيّة، مشهدان:
 
ـ"مشهد الطُّرْح". أي الحَمْلُ الذي طرحته أُمّهُ قبل أوانه. ونحن نعرفُ أنّ موكبَ السبايا ضمّ زُهاء العشرين امرأةً. فمن المُتوقّع أن يكون بينهنّ عددٌ من الحوامل ، وأن يتعرّضَ بعضُهنّ لفقدان حملهنّ بسبب مشقّات الطريق. فهذا مشهد بُنى على المكان الذي دُفن فيه أحد الأجنّة. 
ـ"مشهدُ الحَجَر. يُقالُ أنّ رأسَ الحسين (رض) وُضع هناك عندما عبروا بالسّبي"1
وكلاهما على الضفّة اليُمنى لـ"بُحيرة الاسد"، على تلٍّ تُحيطُ به
 
 
 

1ـ الإشارات / 61. وانظر أيضاً: ابن شدّاد: الأعلاق الخطيرة في ذكر أُمراء الشام والجزيرة، ط. دمشق2006م باعتناء يحيى عبارة: الجزء الأوّل من القسم الأوّل / 178. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 مياهُ البحيرة من ثلاث جهات، يتوسّط مقبرةً قديمةً. ممّا يدلُّ على أنّ الناس كانوا يدفنون موتاهم قُرب المشهد تبرّكاً به. 

 
ـ 5: مشاهد"جبل جوشن". 
في"حلب". وهو مُرتَفَعٌ صخريّ غرب"حلب" القديمة، كان خارجَ السُّور يومَ مرور الرّكب. امتدّ إليه التوسُّعُ العمراني، فغدا اليومَ ضمن أحد أحيائها المُستحدَثَة. والمعروف أنّه سُمّي بهذا الاسم منذ أن نزل عليه ركبُ السّبايا، وفيهم من المُوكّلين بقيادة الرّكب الشّمِر بنُ ذي الجوشن، فكان أن أطلقَ الناسُ اسمَه على الجبل . والذي يُؤخذُ من مصادر مُتقاطعة أنّه كان في الموقع ديرٌ يُسمّى"دير البيعتين" أو"دير مرّوثا". وفيه يقول أحدُ الشعراء: 
      بديـر مـارتْ مَرُوثـا       الشّــــريف ذي البيعتيَــن 
     والـرّاهـب المُتحلّــي     والقـسّ ذي الطّمِريَــن
     إلاّ رثيـتِ لصَــــبٍ       مُشـارفٍ للحُســــين 
     قـد شـفّهُ منـكِ هجـرٌ    مـن بعـد لوعـةِ  بيـن 
وقد علّق ياقوتُ الحمويّ على ذكر الدّير فقال:" ذهب ذلك الدّير، ولا أثر له الآن [ سنة 625هـ/1227م ]. وقد استجدّ في موضعَه الآن مشهد"1.
 
 
 

1ياقوت: معجم البلدان، ط. بيروت، دار صادر لات:2/531، مادة"دير مارْت مَروثا". والذي يؤكّد صحة هذه المعلومات أنّ كلمة (مار/مارت) هي من الألقاب الكنسيّة السريانيّة التي ما تزال مُتداولةٌ حتى اليوم. وانظر مادة"جوشن" في المصدر نفسه. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

17

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 والظاهرُ أنّ هذه الواقعة (واقعةُ تحوّل الدير إلى مشهد) هي أصلُ الرّوايات الكثيرة التي تقول أنّ رأسَ الإمام  عليه السلام  وُضع في بعض مراحل الطريق لدى راهبٍ في دير. 

 
والموجودُ الآن في الموقع المشهدُ المُسمّى"مشهد رأس الحسين". لكنّ الذي يُؤخذُ من كلامٍ منقولٍ عن مؤرّخ"حلب" مُحيي الدين بن حميدة، المعروف بابن ابي طيّ الحلبي(ت:630هـ/1231م) في كتابه المفقود (تاريخ/رجال الشيعة/ الإماميّة) ـ، أنّ الذي كان في زمانه مشهدان، أحدهما"عامرٌ مسكون" هو"مشهد راس الحسين" نفسه، والثاني"إلى الخراب أقرب"" هو المشهد المعروف بمشهد النقطة"1، قِبليّ المشهد الأوّل. 
 
وفي المشهد القائم اليوم الصخرةُ التي وُضع عليها الرأس، وكان عليها أثرٌ من دمه. فالظاهر أنّها ضُمّتْ إلى المشهد الأساسي بعد أن آلَ مشهدُ الصخرة إلى الخراب. وفي البناء القائم حاليّاً مجموعةٌ من الرقائم، التي يمكن بدراستها وضعُ تاريخٍ دقيقٍ للمشهد. 
 
والذي يذكره الهروي"مشهدُ الدّكّة":" وبها [حلب] غربيّ البلد مشهد الدّكّة. به قبر المُحسّن بن الحسين2.
 
 
 

1كامل الغزّي: نهر الذهب في تاريخ حلب، ط. حلب، دار القلم العربي، الطبعة الثانية لات:2/211.
2ـ الإشارات /  4  . وانظر: بشير زهدي: شواهدُ قبورٍ عربيّةٍ قديمةٍ في سوريّا الشماليّة " دراسةٌ في: الحوليّات الأثريّة السوريّة، المجلد السادس:ج 1 ـ 2 / 94ـ104. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

18

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 _ 6: مشهد حماه. وفيها مشـهدٌ للرأس أيضاً، في حيٍّ من أحياء المدينة، بالقرب من قلعتها. والمُلاحظُ هنا أنّ هذا أوّل مشهدٍ داخلَ تجمُّعٍ سُكّانيٍّ كبير بحجم مدينة في ذلك الأوان. الأمر الذي نعرفُ أنّ قادةَ الرّكب كانوا يتجنبونه، خشيةَ اتصال الناس ببعض مَن كان في الرّكب. ممّا قد يترتّب عليه معرفةُ الهُويّة الحقيقيّة لأصحاب الرؤوس وللسبايا. والذي يبدو لنا أنّ العلّة في هذه الخصوصيّة هي وُجودُ القلعة، التي يبدو أنّ قادةَ الرّكب نزلوها بمَن معهم من نسوة أهل البيت (عليهم السلام). بحيثُ لم يكونوا مُضطرّين إلى نزول مكانٍ مُنعزل، لأن نزولهم داخلَ القلعة يمنع ُ اتصالَ الناس بهم. 

 
إنّ أوّل ذكرٍ لهذا المشهد نجده لدى محمد بن علي المازندراني، الشهير بابن شهرآشوب (ت:588هـ/1192م)1. وهو مُصنّف مشهور، عاش السنوات الأخيرة من عمره في"حلب"2.
 
والمشهدُ اليومَ غدا مسجداً اسمه"مسجد الحسنيَن". وذلك بعد أن جدّده نور الدين محمود بن زنكي، ونزعَ عنه صفةَ المشهد، كما سنراه يفعلُ بمشهد"بعلبك". وسُجّل ذلك على رقيمٍ حجريٍّ في المدخل الخارجي يقول:" بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله محمد رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم".
 
 
 

1ـ مناقب آل أبي طالب ط. بيروت1412 هـ/1991م: 4 / 90. 
2ـ انظر الترجمة له في كتابنا: أعلام الشيعة، ط. بيروت 1431هـ/2010م: 3 / 1347ـ48. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

19

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 " أمر بعِمارة هذا المسجد المُبارَك بعد هدمه في الزّلزلة الجارية سنة اثنتين وخمسين وخمس ماية الملكُ العادلُ المجاهد نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي". 

ومع ذلك فإنّ هذا التزييف لصفة المشهدالأساسيّة لم يؤدِّ إلى نسيانها، بشهادة أنّه بعد زُهاء ستة قرون من تجديد ابن زنكي له جُدّد أيضاً على يد أحد رجال الدولة العثمانيّة، الذي سجّل رقيماً آخر على المدخل نفسه، قال فيه:" جدّدَ المشهدَ الشهير برأس الحسين، الشهير نزهة أبصار، أحمد آغا المعروف بابن الشّرابدارمنشئ الخير من سُلالة أنصار 1023هـ." (1623م). 
 
كما وردَ ذكرُهُ بالصفة نفسها في القصيدة القسطنطونيّة، التي نظمها نوري باشا الكيلاني، الذي لا نعرفُ تاريخ حياته، ولكنه عاش في الفترة العثمانيّة بالتأكيد. والقصيدةُ على التٌّرَب والمقامات الموجودة في"حماه"، ومطلعُها: 
دار السـعادة هـذه وحماهــا     فالدارُ أين غـدتْ واين حماها 
 
إلى أن يقول: 
وبتاج فخري مَن له ختـم العبـا        مَن جـدُّهُ أسنى الخلائق  جاها 
أعني الحسين وذاك موضعُ رأسه     لمّا به قصـدوا يزيـدَ سـفاها 
قسـماً لحتـى الآن مسكٌ  عابقٌ       بمكانـه فينـا يؤجّــجُ آها 1
 
 
 

1ـ كامل شـحادة: التُرَبُ ومقاماتُ الزيارة في حماه". مقالةٌ في مجلّة الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة، المجلد الخامس والعشرين / 160 ـ 61. 



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

20

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 ـ 7: مشهد حمص: وأوّلُ مَن أشارَ إلى وجودِ مشهدٍ للإمام الحسين  عليه السلام  فيها هو أيضاً ابنُ شهرآشوب المازندراني1، الذي عرفنا أنّه عاش في المنطقة وعرفها معرفةً جيّدةً.ومكانه اليوم في شارع أبي الهَوْل، بالمدينة القديمة.عُرف لمّدّةٍ بـ"الزّاوية الحسنويّة" وهو عبارةٌ عن قطعة أرضٍ موقوفةٍ.

والأمرُ الذي كان معروفاً بين أهل المدينة حتى وقتٍ غير بعيد أن"الزّاوية الحسنويّة" كانت من قبل مشهداً للإمام الحسين  عليه السلام . ثم عُرف بـ"جامع علي والحسين"2، ثم جُعل زاوية، وانتهى قطعةَ أرضٍ بور، محميّةٍ لِما لها من صفةٍ وقفيّة. 
 
والحقيقةُ أنّ هذا لا يُفاجئنا إطلاقاً، لأننا نملكُ فكرةً طيّبةً عن التغيّرات الجذريّة، التي نزلتْ بالمدينة بعد أن حال أمرُ التشيّع في شمال ووسط"سوريّا" ومنها"حمص"، على يد العناصر العسكريّة القادمة من أطراف العالَم الإسلامي، على موجة جهاد الغُزاة الصليبيين. وكان من آثاره أن بدّل صفة الكثير من معالمها. وهذا منها.
 
ـ 8: مشهد بعلبك: وفيها مسجدٌ قديمٌ خَرِبٌ، موقعه إلى جانب البركة المُتكوّنة من نبع"رأس العين" المعروف. وما بقي منه يدلُّ على ما كان عليه في الماضي من عظمةٍ وجلال. ولا ذكر له في كتاب الهروي،
 
 
 
 

1ـ مناقب آل ابي طالب: 4 / 90. 
2ـ نعيم سليم الزهراوي: حمص دراسةٌ وثائقيّة، ط. حمص دار السلامة 2003م: 5 / 69ـ70. 



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 لأنه فيما يبدو بعيدٌ عن المدينة، لا يراه السائحُ كالهروي، إلا أنْ يكونَ قاصداً. ولذلك فإنّنا سنخُصّه بالبحث على تاريخه بشئ من التفصيل.

 
والمُتداولُ بين أهل المدينة أنّ أصلَه مشهدٌ أُنشئ في المكان الذي نزله موكبُ السبايا القادم من"حمص" في طريقه إلى"دمشق". ومن الثابت المُؤكّد أنّ الرّكبَ مرّ بـ "بعلبك" ونزلها، وأنّ أهل المدينة المُضلّلين استقبلوه بمظاهر الزينة والفرح. والمكان تتوفّرُ فيه كلّ الشروط التي نعرفُ ونتوقّعُ أنّ قادةَ الموكب كانوا يطلبونها في الأماكن التي ينزلونها. فهو بعيدٌ عن البلد مسافةً كافيةً بحيث يمتنعُ أو يصعُبُ على أهلها الاتصالُ بالسبايا، وبالتالي معرفة هُويّتهم الحقيقيّة. فضلاً عن أنه مكان نَـزِهٌ، بما فيه من أشجارٍ ظلّيلة وماءٍ سلسبيل، يُناسبُ غرضَ وحاجةَ مُسافرين مُتعبين. 
 
والاسمُ المُدوّنُ في سجلاّت مديريّة الآثار اللبنانيّة للموقع هو"مسجد الظاهر بيبرس". ولكنّ الاسمَ المُتداوَلَ على ألسنة الناس هو"مسجد / مشهد رأس الإمام الحسين عليه السلام". وممّا لاشكّ فيه أنّ لكلٍّ من الاسميَن مُستواه من حيثُ تاريخه. فالاسمُ المُدوّنُ في سجلاّت مديريّة الآثار، هو نسبةً إلى السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري (حكم:658ـ676هـ/1260ـ1277م). لكنّ الذي يؤخذُ من كافة الأدلّة والوثائق التي بين ايدينا أنّ الظاهر بيبرس لم يكُن هو الذي بنى المسجد بالتأكيد، وإنّما جرى تجديده بأمرٍ منه. فالمؤرّخُ المعاصرُ عزّ الدين بن شدّاد (ت:684هـ/1285م) يقول أنّ الظاهر جدّدَ المسجد وأضاف إليه 1. ثم أنّ رقيماً حجريّاً، موجوداً حتى اليوم على أحد جدران مدخل المسجد يقول ما نصّه:
 
 
 

1ـ الأعلاق الخطيرة: الجزء الثاني، القسم الثاني / 556.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

22

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 " عمّر[كذا!] هذا المسجد المبارك العبدُ الفقيرُ إلى الله سبحانه وتعالى بلبان الرّومي الدوادار الظاهري السّعيدي ابتغاء رضوان الله تعالى والقُربة إليه ليكتسبَ الأجرَ والثواب وهو ذُخرٌ له عند الله سبحانه وتعالى وكمُل ذلك في شهور سنة ستٍ وسبعين وستمائة بمُباشـرة العبد الفقير إلى الله حسن بن محمد الملكي الظاهري السعيدي ونظرِ العبد الفقير عباس" ويقولُ رقيمٌ ثانٍ مفقودٌ، ولكنه منقولٌ نقلاً مُوثّقاً:" جدّدَ هذا الجامع المبارك مولانا السلطان الملك السعيد ناصر الدنيا والدين بركه قاآن قسيم مولانا أمير المؤمنين خلّدَ اللهُ سلطانه وأعزّ أنصاره بن السلطان بيبرس البندقداري قدّس الله روحه وذلك بتاريخ مستهلّ ذي الحجّة عام سبعٍ وسبعين وستمايه".

 
والمفهوم من الجمع بين نصّي الرقيميَن، أنّ أعمالَ التجديد الأُولى قد بدأت في العام نفسه الذي توفي فيه الظاهر بيبرس، ومن ثمّ تابعها ابنه الملك السعيد إلى أن كمُلت سنة 677هـ/1278م. 

 فهذا هو أساسُ تسمية المشهد بـ"مسجد الظاهر بيبرس". 
لكنّ الذي لا ريبَ فيه، أنّ الظاهرَ وابنَه من بعده قد أمرا بتجديد ما كان قائماً بالفعل وأضافا إليه. وما تلك الإضافةُ إلا ما يتلاءمُ مع صفة المسجديّة التي منحاها له ( ابتغاءَ التغطية على صفته المشهديّة الأصليّة؟ هذا ما نُرجّحه. يؤيّد ذلك قوله في الرقيم الأوّل:"عمّر" مع أنّه جدّده ولم يبدأ عمارته. في حين أنّ ابنه كان أكثرَ أمانة حيث قال:"جدّدَ" ). وهي المحرابُ، الذي يشهدُ بروزُه عن جسم المسجد أنّه مُضافٌ على هندسته الأصليّة. والمنبر، الذي مايزال اساسُه ظاهراً إلى يمين المحراب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

23

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 والذي لا صعوبةَ إطلاقاً في إضافته على بيت الصلاة، لأن هندسته مُنفصلة.  

    
ولنُضفْ إلى ذلك مُلاحظةً في الغاية من الأهميّة،  هي أن ليس في هندسة المسجد/المشهد ما يدلُّ على أنّه كان له مئذنة، ولا أثرَ لها في خرائبه. مع أنّ جسمَ المئذنة هو من الأجزاء الأساسيّة في أي مسجدٍ. كما أنّ آساسَها تكونُ أمتنَ وأوثقَ بُنياناً، وبالتالي أقدرَ على مُقاومة عوامل الخراب المختلفة، لأنها تحملُ ثقلاً هائلاً على مساحةٍ ضيّقةٍ نسبيّاً. فعدمُ وجود أي أثرٍ لمئذنةٍ دليلٌ على أنّها لم تكُن أصلاً، وبالتالي فإن البناءَ الأوّلَ لم يكُن لمسجدٍ بالتأكيد.
 
فهذه أدلّةٌ قويّةٌ على صحّة الاسم المُتداول على ألسنة الناس وهو"مسجد/مشهد رأس الحسين عليه السلام". يُضاف إلى هذه الأدلّةِ أنّه من المُستبعَد جدّاً ومن غير المألوف أن يُشادَ مسجدٌ خارجَ البلد. كان يبعدُ عن سورها الجنوبي مسافةً كيلو متر تقريباً. 
هذا، ولقد انبعثتْ الهِمَمُ قبل عدّة سنوات إلى تجديد بنائه. ولكنّ اعتباراتٍ سياسيّةٍ حالت دون ذلك. 

ـ 9: دمشق: وفيها مشهدان: 
أ:"مشهدُ الرأس" وهو في بناءٍ مُستقلّ، مُلاصق للجامع الأُموي من شرقيّه. يتمّ الوصولُ إليه عبر"مشهد زين العابدين"  عليه السلام . وقد بُني مؤخّراً بناءً مُتقناً باهتمام الزعيم الديني للإسماعيلين البُهرة، وزُيّن من الداخل بهندسةٍ إسلاميّةٍ جميلة. وهو اليوم من المزارات المعروفة المقصودة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

24

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 ذكر هذا المشهد ابنُ عساكر(ت: 571هـ/1176م) باسم"مشهد الرأس"، قال: "يُقالُ أنّ رأس الحسين بن علي عليهما السلام وُضع به حين أُتي به إلى دمشق" 1. كما ذكره الهروي وسـمّاه "مشهد الحسين وزين العابدين" 2.  ويبدو أنّـه إنّما زاوجَ بين الاسـميَن لتجاور المشهديَن، بحيث ظنّهما مشهداً واحداً. وليس هـذا بالأمر المُستغرَب من سائحٍ عابرٍ مثله. 

 
ب:"مشهد زين العابدين". وقد بيّنّا مكانَه أعلاه. وله ذكرٌ عريضٌ في الكُتُب التي تؤرّخ لـ"دمشق". وقد يُسمّى في بعضها القليل"مشهد علي بن الحسين" 3
 
والظاهر أنّ تخصيصَ المشهد باسم الإمام  عليه السلام  لأنه كان يُشاهَدُ فيه وهو يُصلّي أو يجلس، أثناء المدّة التي قضاها في"دمشق". فكان أن أَطلقَ الناسُ اسمَه على المكان بعد أن غادرَ إلى"المدينة". ودلالةُ ذلك تُدهشُ المُتأمّل. وسنقفُ عندها إن شاء الله في حديثنا على الدّلالات والمغازي.
 
وقد نُسخَ هذا الاسمُ في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. ومُنح اسماً جديداً منسوباً إلى الفقيه الدمشقي تقي الدين ابن قاضي عجلون الشافعي (ت: 923هـ /1517م):"مشهدُ الشيخ تقي الدين". ثم تنوسي هذا أيضاً. ومن هنا، فيما يبدو، لم يأتِ علي الطنطاوي على ذكره فيما كتبه على مشاهدِ الجامع في كتابه (الجامع الأُموي في دمشق).
 
 
 

1ـ تاريخ مدينة دمشق، ط. بيروت 1415هـ/1995م:2 / 304. 
2ـ الإشارات لمعرفة الزيارات / 15.
3ـ النُعيمي: الدّارس في تاريخ المدارس، ط. دمشق 1367هـ: انظر فهرست الأماكن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

25

الدرس الثاني: خريطة الطريق من العراق إلى دمشق

 فأنت ترى من هذا أنّ الناس قد أنشأوا ثلاثة عشر مشهداً في تسعة مواقع، تنتشرُ على مسافةٍ شاسعةٍ، تمتدُّ من نطاق"الكوفة" حتى"دمشق". لا لغرضٍ إلا تخليداً لذكرى نزول موكب السبايا في هذا الموقع أو ذاك. وفي ذلك من الدّلالات والمغازي ما سنقفُ عليه إن شاء الله فيما بقي من البحث.

 

 

 

 

 

 

 

32


26

الدرس الثالث: قراءةٌ في الدّلالات والمغازي

 قراءةٌ في الدّلالات والمغازي


تمهيـد
كان كلُّ ما خُضنا فيه في الصفحات السابقة عَرْضاً أردناه وصفيّاً لحركةِ رَكْبِ سبايا يوم"كربلا" من نطاق موقع المعركة حتى"دمشق". استناداً إلى الآثار المادّيّة الباقية ممّا أنشأه الناسُ تخليداً لنُزول موكبهم في البلدان. ليكونَ (أعني ذلك الوصف) من ثمّ بمثابة قاعدةٍ نُطلُّ منها على ذلك الحَدَث المهول، وهو يتفاعلُ في النفوس. مُبدّلاً الثوابتَ أو ما هو في حُكمها. مُغيّراً المصائرإلى غير ما هو مُتوقَّع لأصحابها. فكأنّه زلزالٌ هزّ ظهرَ الأرضِ هزّاً، فما استبقى منها شيئاً كبيراً على ما كان عليه. 

إنّ وجهَ أهميّةِ ما نسعى إليه، أنّه يمنحُنا الفرصةَ لقراءةِ التاريخ قراءةً تركيبيّةً، تتصلُ فيها الأحداثُ بأسبابها، في سلسلةٍ مُترابطةٍ كما حصلتْ في الواقع. وليس كما تعرضُهُ أمام أعيننا عامّةُ كُتُبِ التاريخ الرّسميّ، أحداثاً تتوالى كأنّما بقوّةٍ ذاتيّةٍ كامنةٍ فيها. والأنكى من ذلك أنها قد تُزيّفَ لها أسباباً وبواعثَ تبتعدُ بها عن الحقيقة، في سياق سعيها المحموم إلى صياغة تاريخٍ يُرضي ذوي السلطان والحُكم، أو يُغطّي عوارهم على الأقلّ. وفي هذا السبيل قد يطمُسُ حقائقَ فتضيعُ وتُنسى، لكن هذه لا بُـدّ أن تبقى بعضُ آثارها، التي قد تنفعُ الباحثَ كموادّ لبناء تصوّر لبعض معالم ما ضاع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

27

الدرس الثالث: قراءةٌ في الدّلالات والمغازي

 هذا، ثم أنّ من المعروف والمُتداول بين المعنيّيّن من أهل التاريخ القولُ بأنّ ظهورَ التشيّع بوصفه ظاهرةً سُكّانيّةً،  وبوصفه لاعباً أساسيّاً على السّـاحة السياسيّة، قد بدأ بيوم"كربلا" المشؤوم. وأنا لا أذكرُ أنّني رأيتُ في ذلك بحثاً مُستقلاً، يُبيّنُ فيه كاتبُهُ الوجهَ والحُجّةَ في هـذا القول، وكيف كانت مجزرةٌ مهولةٌ نزلتْ بأهـل البيت (عليهم السلام)، بمثابة البادئ في أمرٍ كبيرٍ بحجم ظهور فرقةٍ، ظلّت مُـذ ذاك تنمو وتنتشرُ اُفقيّا / بشريّاً وعموديّاً / فكريّاً. ولذلك فإنّني أظنُ أنّ هذا الحُكم ليس إلا من قبيل الحدْسِ العلميّ، الذي يتأتّى لصاحبه ثمـرةَ ملاحظاتٍ مُنفصلة، تتراكمُ في ذهن صاحبها، فيتناولها العقلُ ليطبخَها بهدؤ، ويُحوّلَ شُتاتَها إلى حُكمٍ جامعٍ، تتقاطعُ فيه كلُّ تلك التي كانت من قبلُ ملاحظاتٍ مُتناثرة. وليس هذا في تاريخ التجربة البشريّة مع المعرفةِ ومُشكلاتِها بالأمر النادر ولا بالأمرالغريب. 


ومع أنّنا نذهبُ إلى صدقِ ذلك الحُكم إجمالاً. وأنّ صعودَ أمر التشيّع، بعد أن خرجَ من تحت الرُّكام الهائل الذي بناه بدهاءٍ ما بعده دهاء معاويةُ بن أبي سُفيان، قد بدأ (أعني الصعود) بالفعل بصدمة يوم"كربلا" ـ، فإننا نقول إنّه وإن نطقَ بالصواب، ولكنّه لم يقُل لنا كيف حصل ذلك؟  

كيف غدتْ جريمةٌ داستْ كلَّ القِيم الدينيّة والأخلاقيّة بادئاً لأمرٍ جديدٍ كبير عبرَ تداعياتها في كلّ الاتجاهات؟ مثلما تنداحُ الدوائرُ راكضةً في بركةٍ ساكنةٍ أُلقي فيها جسمٌ ثقيل. 
ما هي الآليّة التي سارت بها على الطريق الطويل من مستوى الغضب والألم وما إليهما، إلى مُستوى الباعث على فهمٍ وذهنيّةٍ ومِزاجٍ ومواقف جديدة لدى الناس. ومن المعلوم أنّ الإجابةَ على هذه (الكيف) هي مرحلةٌ مُتقدّمةٌ بكثيرعن مُستوى الحَدْس المُجرّد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

28

الدرس الثالث: قراءةٌ في الدّلالات والمغازي

 سنسعى فيما سيأتي إنشاء الله إلى سـدِّ ما يُمكنُ سَـدُّهُ من هذه الثغرة الفاغرة في أمرٍ يخصُّنا ويخصُّ تاريخنا في الصميم. مُستفيدين في الأساس ممّا وصفناه من مشاهد، بوصفها شواهدَ مادّيّةً لا تُدحَض على وُجدان وضمير مَن شادوها، سجّلوا فيها لحظة اليقظة والشفاء من التضليل السُّلطوي، الذي بدأه معاويةُ على مستوى المفاهيم والتركيبة السياسيّة الحاكمة وشـرعيّتها،  واسـتفادَ منه أخلافُهُ على مستوى الشعارات المُعلنَة وأيضاً على مُستوى الأداء السياسي.  وهي بهـذه الاعتبارات كنزٌ للباحث لا يُقدّر بثمن ، خصوصاً في ظلّ التجاهُل المُجحف والمُعيب لتاريخنا المكتوب لكلّ ما يتصلُ بشؤون الناس العاديين، باعتبارهؤلاء عنده مُجرّدُ عوامّ وغوغاء يستنكفُ عن تخصيصهم وشؤونِهم بالذكر. 


 هـذا على مُستوى الأداء الشعبيّ ومظاهره. 
ولكن هناك أيضاً سلسلةٌ من التداعيات الخطيرة غير العاديّة التي توالتْ حدوثاً، ميدانُها وموضوعُها السُلطةُ ورجالُها على أعلى مُستوى. نجدُ ذكرَها في كُتُب التاريخ على نحوٍ في الغاية من الغموض. وذلك إمّا بمنحها حجماً صغيراً جدّاً في المُدوّنات التاريخيّة، وإمّا بتزييف سببٍ واهٍ لها، يُفقدها معناها ودلالتها الحقيقيّة. لم يبرز منها على السطح إلا المصيرُ الغامضُ والبائس لثلاثةٍ من خلفاء البيت الأموي المُتوالين. بحيث أنّ الباحثَ، إذ يرى إليها ويتأمّلُ فيها بوضعها هذا، أي بوصفها سـياقاً مُتصلَ الحلقات، لا يسعهُ إلا أن يفترضَ أنّ هناك أُموراً جَلَلاً تحدث خلفَ السّتار في نطاق الأُسرةِ الحاكمةِ ورجالِها. لم ينـدّْ منه على السّطح إلا اختفاءُ أو الموتُ الغامضُ لثلاثةٍ من الخلفاءعلى التوالي، أثناءَ مُدّةٍ قصيرةٍ لا تزيدُ على السنتيَن من الزمان (64ـ65هـ/683 ـ685م)، وذلك أمرٌ غير عادي لا يمكن أن يتوالى بمحضِ الصُّدفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

29

الدرس الثالث: قراءةٌ في الدّلالات والمغازي

 سنقولُ ما عندنا على هذه التداعيات، بوصفها نتيجةً لازمةً للأداء الشّعبي، ما كانت لتحدث لولا أنّه أنشأ وضعاً سياسيّاً صعباً أوغير مُريحٍ على الأقلّ للبيت الحاكم. ولو ان ما سنقوله لن يكون بالتأكيد على النحو الذي نتمنّاه، من حيث التفصيل والإسناد. ذلك أنّنا في هذا نقرأُ الأحداثَ قراءةً غير مباشرة. فكأنّنا نراها في مرآةٍ صغيرةٍ، حيثُ تضيعُ معالمُ المنظور، فلا نرى منها إلا أشباحَها وهي تروحُ وتجئ على مسرح الأحداث. ولكنّ هذا أفضل بكثير من أن لا نرى شيئاً كما أراد لنا مُدوّنو التاريخ. 

نذكرُ في هذا السّياق أيضاً الحركاتِ التي انفجرتْ في"الكوفة"، بوصفها زلزالاً ارتداديّاً، نشأ من الزلزال الأساسي ( وقعةُ كربلا + ردّ الفعل الشعبي عليها ). ومن المعلوم أنّ هذه الحركات جعلتْ من"الكوفة" لمُدّة سنوات موطناً لحِراكٍ سياسيّ يدورُ على الانتقام من السُّلطة التي أمرتْ ( حركةُ التوّابين )، أو إنزال العقاب بالأشخاص الذين باشروا الجريمة ( حركة الأخذ بالثأر). 

سنبدأُ برصْدِ الحدَثِ الكربلائي وهو يتفاعل على المستوى الشعبي العامّ، ووصفِ قاعدته الشعبيّة في البلدان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

30

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 الحَـدَثُ الكربلائيّ يتفاعـل


اجتازَ ركبُ السبايا طريقَه الطويل من"الكوفة" إلى"دمشق". ونحن قد رصدناه فيما فات في تسعة مواقع رصداً مؤكّداً، استناداً إلى ما أنشأه الناس من مشاهدَ حيث نزلوا. على أننا ما نشكُّ في أنّ هناك أيضاً منازلُ أُخرى كثيرة قد نزلوها، بين تلك التسعة المنازل، لم يُقيّضْ لها مَن يُخلّدها على نحو ما شادوه في تلك التسعة، لسببٍ أولأسبابٍ مُختلفةٍ لا نعرفها. أو أنّه كان هناك مشاهد، ولكنها تنوسيتْ واندرستْ وضاع ذكرُها في التغيّرات السياسيّة الجذريّة الآتية. خصوصاً إذا نحن لاحظنا أنّ أوّل تسجيلٍ لّما نعرفه من مشاهد، لم يحصل إلا بعد ستة قرون من مرور موكب السبايا، جرتْ أثناءها تغيّراتٌ سياسيّة جذريّة لم تكن في صالح أهلها الأصليين من الشيعة. 

لسنا ندري كم بقي الرَّكبُ على الدّرب إلى"دمشق". ولكنّنا لا نظنُّ أنّه قطعه في أقلّ من شهر. ومن هنا فلا عِبرة بالأخبار التي تقول أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام)  كان في اليوم الأربعين من شهادة أبيه عند ضريحه راجعاً من"دمشق". حيث التقى بالصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (ت:  74أو78هـ/693أو697م) الذي كان يزورُ الضريحَ أيضاً. بل إنّ هذا الخبر من قبيل"حدّث العاقل بما لا يليق".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

31

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 فكيف يتأتّى لركبٍ كبيرٍ، يتحرّكُ بكامل أثقاله، أن يقطع ما يُناهزُ الأربعة آلاف كيلو متراً ذهاباً وإياباً (مع احتسابنا مدّة بقائهم في"الكوفة" ثم في"دمشق")، في مُدّة شهرٍ تقريباً ؟!. على أنّ هذا النقد لا ينفي أصلَ مُروره، لأنّ الإستشكال محصورٌ بالتاريخ فقط.  

 
ثم أنّنا لا نعرفُ شيئاَ عن أداء النسوة من أهل البيت (عليهم السلام)  أثناء الطريق. فهل أُتيح لهنّ أن يُتابعن المعركةَ المعنويّةَ التي بدأنها في سكك"الكوفة" وفي مجلس عُبيد الله بن زياد؟
 
في سياق بحثنا في الدّلالات والمغازي، فإنّ من المُهمّ جـدّاً أن نحصلَ على جوابٍ على هـذا السـؤال. ولكن حتى في غيابِ الجواب الشّافي، كما هو بالفعل، فإن ذلك لا يعني أنهنّ قد تخلّينّ عن المعركة التي خُضنها بشجاعةٍ في أصعب الظروف: في مجلس ابن زياد، تحت الخطر الدّاهم بأن يُقدمَ على عملٍ مجنونٍ، يقضي على البقيّةِ الباقيةِ من السُّلالة الفاطميّة بشخص الإمام زين العابدين  عليه السلام . ثم في مجلس يزيد نفسه في"دمشق"، حيث كان الخطرُ ماثلاً أيضاً وإنْ بنحوٍ أقلّ، بسـبب ميله الواضح إلى استيعاب ما يُمكنُ استيعابُه من آثار الجريمة، بعد أن بدأتْ تظهرُ للعيان إرهاصاتُ الزلزال الآتي. ممّا يراه المُتمعّن في المواقف العلنيّة المُدينة أو النّادمة على ما جرى 24.
 
 


1-قيل أنّ يزيد خاطبَ حاملَ الرأس، بعد أن تلا عليه تقريراً بما جرى في كربلا، فقال:"ياهذا لقد كنتُ أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. اما والله لو صار إليّ لعفوتُ عنه. ولكن قبّحَ اللهُ ابنَ مرجانة". وأنّ عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان استنكر الجريمة فعقّب يزيد بقوله:" لعن الله ابنَ مرجانة إذ أقدمَ على قتل مثلَ الحسـين بن فاطمة. أما والله لو كنتُ أنا صاحبه لَما سألني خصلةً إلا أعطيته إيّاها، ولدفعتُ عنه الحتفَ بكل ما استطعتُ، ولو بهلاك بعض وِلدي". بل إنّ مروان بن الحكم نفسه قال عندما بلغه ما جرى:"ويلكم ماذا فعلتم!" ثم نهض وترك المجلس. فهذا يدلُّ على حالة الرُّعب التي عاناها كبار رجال البيت الحاكم من عقابيل ما جنته أيديهم. ( الخوارزمي" مقتل الحسين، ط. قم لات: 2 / 56 ). بل إنّ مرجانة خاطبت ابنها عُبيد الله بن زياد،  فقالت:" ويلك ماذا صنعت وماذا ركبت" (الطبري:5 / 484 ). 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

32

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 علينا أن نتمعّنَ هنا في أنّ كل الرّوايات التي وصلتنا عن أعمال أولئك:النسوة، وعن المواقف الشُجاعة لعددٍ من الرجال المُستنيرين أدانوا بها الجريمة علناً (أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبد الله بن عفيف الأزدي، أبو برزة الأسلمي)1ـ، كلُّ هذه حصلتْ في مراكز مدينيّةٍ كبرى، وبحضور حشدٍ من الناس، فيهم الكثيرون العارفون ممَن هو أهلٌ لتقدير أهميّة ما يجري أمام عينيه، وممّن هو أهلٌ للرواية. ومن ثَمّ وُجد مَن يرويها، وعن هذا الطريق دخلتْ المصادرَ المكتوبةَ فيما بعد.

 
 أمّا أثناء الطريق إلى"دمشق" فالأمرُ مُختلفٌ. مسارحُ الأحداث هنا قُرى أو بلدان مُتباعدة، يجتازُها الموكبُ بسرعة، أولا يمكثُ فيها إلا بمقدار الضرورة. فضلاً عن أنّ مُجتمعات أكثر هاتيك المنازل، ربما باستثناء"حمص"، ليست من النمط الذي نتوقّع أن نجدَ فيه راويةً يحفظُ للآتين وقائعَ من مثلِ ما رواه الرّاوون عن مجلسي يزيد وابن زياد.  
 
نُوردُ هذا التحليل على سبيل التهيئة لِما سنخوضُ فيه بعد قليل. ممّا يصعبُ تفسيرهُ دون عاملٍ تحريضيّ، إضافيٍَ على العامل الأساسي، الذي هو منظرُ جمْعٍ من النسوةٍ والأطفالٍ، يُساقُ بهم من بلدٍ إلى بلدٍ،
 
 
 

1ـ مقتل الحسين: 2 / 43 و45 ـ 46 و 53 و 57 بالتوالي. وقد ورد لديه اسمُ أبي برزة الأسلمي مُصحّفاً (بُريرة).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

33

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 تحت الشمس الحارقة. في عملٍ استعراضيٍ غبيَ لقوّة الدولة وسطوتها، لا يرى منه الرّاؤون إلا ذلك المنظر الذي يُفتّتُ القلوب. 

إنّ حالةَ اليقظة الشعبيّة على الحقيقة المهولة، التي نقرأُ بعضَ آثارِها اليومَ في المُبادرة إلى إنشاء تلك السلسلة من المشاهد، ليس من السّهل تفسيرُها بدون عاملٍ حدّدَ مايراه الناس، وحرّرهم من تضليل السُلطة، وبيّنَ الهُويّة الحقيقيّة لأولئك المَسوقين سَوْقَ السبايا.  في مقابل المقولة التّجهيليّة الغامضة،  التي كان رجالُ السُلطة ينشرونها"هؤلاء خارجون على أمير المؤمنين". 

مهما يكُن فإنّ السؤالَ الذي تطرحُه تلك السلسلةُ من المشاهد بداهةً على المُتأمّل هو:
ـ مَن الذي بدأ فشادَ تلك المشاهد؟ 
ما كان غرضُه أو غرضهم منها؟

فلنقُلْ أوّلاً، وقبل مُباشرة الجواب، أنّ السؤالَيَن يقوداننا باتجاه الجانب غير المَرأيّ من تاريخنا المكتوب. حيث لا مطمعَ لنا في أن نحصلَ على جوابٍ شافٍ مباشرٍ على أسئلتنا استناداً إلى ما سجّله مُدوّنو التاريخ. اقصى ما نرجوه أن نتمعّنَ في لوازمِ الأشياء ومُقتضياتِها، مُتسلّحين بمعرفةٍ كافيةٍ بأحوالِها. عسى ولعلّ أن نحظى بتصوّرٍ ما للحقيقة الضائعة. 

من الممكن الجوابُ على السؤال الأوّل عفواً ودون كبير تأمّل، بالقول أنّ الذي لا ريب فيه أنّ الناس هم الذين بادروا من عند أنفسهم فشادوها. لأنّ الفرضيّةَ الأُخرى مُنحصرةٌ في أنّ السُلطةَ هي التي بادرت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

34

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 وشادت. وذلك أمرٌ غير معقول. وهذا واضح. شرط أنْ لا نفهمَ من الجواب أنّ البناءَ الأوّل كان على ماهو عليه الآن أو تدلُّ عليه آثارُه. لأنّ ذلك عملٌ عدائيٌّ كبيرٌ وفاقعٌ في وجه السُلطة الحاكمة. من العسير أن نتصوّرَ أنّ الناس أقدموا عليه، ومن الأشدّ عُسراً أن نتصوّرَ أنّ السُلطة سكتتْ عليه. وهذا واضحٌ أيضاً. وعليه فلنقُلْ، على سبيل قراءةِ التاريخ قراءةً معكوسةً، أي من الماضي البعيد إلى الماضي الأكثرَ بُعداً ـ، إنّ الناس قد بدأوا فشادوا أو وضعوا نُصُباّ بسيطةً باديَ الرأي، ثم مضوا يرفعون بُنيانَها ما أُتيحَ لهم. نقول ذلك لأنّه بدون هذا التصوّر لا يمكن أن نُفسّرَ وجودَ هاتيك المشاهد حتى اليوم. 

 
ثم أنّ هذا التصوّر يتناسبُ مع ما نعرفه جيّداً من تاريخ التطوّر العَقَدي للمنطقة الشاميّة. الذي بدأ أُمويّاً خالصاً، بسـبب استفراد معاوية به منذ بُعيد دخوله في دار الإسلام بالفتح، ومن ثَمّ بناؤه إيّاه عقيديّاً وشرعيّاً وأخلاقيّاً على طبق أغراضه ومراميه السياسيّة. ولكنّها ماعتّمتْ أن بدأت تبتعدُ عن هذا النهج، وتتجه بخطواتٍ مُتسارعةٍ صوبَ التشيّع. وذلك،  أوّلاً، بتأثير عاملٍ سُكّاني جديد حملته الهجراتُ الكبيرة القادمة من"العراق". وأكبرُها الهجرةُ الهمْدانيّة الكبرى، التي نزلت"حمص" و"بعلبك" وما والاهما، و"الغوطة" المُطيفة بـ"دمشق"، و"جبال الظّنّيين" شمال"لبنان". ثم هجرة بني ربيعة، التي نزلت"عرقة" وما والاها في شمال"لبنان" أيضاً 1. وربما، بل الأرجح، أنّ هناك هجراتٌ أُخرى أصغرُ حجماً، لا نجِدُ لها أثراً يدلُّ عليها بسبب قلّةِ عديدها وضَعفِ تأثيرها السياسي والاجتماعي . وثانياً بسببِ تحوّل قبيلة تغلب الكبيرة من المسيحيّة إلى الإسلام، الذي أعلنته يومَ استقبل بنو النمر بن قاسط
 
 
 
 
 

1ـ لتوسّع والتوثيق كتابنا: التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسورية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

35

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 التغلبيين الإمام عليّاً  عليه السلام   وهو قادمٌ إلى"صفين"، فانضمتْ إلى عسكره، وسارت معه إلى القتال. إلى غيرها من قبائل شمال ووسط"الشام"، وأكبرها بنو كلب وبنو كلاب. وكلُّ مواطن هاتيك القبائل سنراها، فيما سيأتي من الأيام، وقد غدتْ إماراتٍ شيعيّةٍ قويّةٍ لها من التاريخ نصيب. ممّا يدلُّ دلالةً بيّنة على التهيؤات التي كانت المنطقةُ تختزنها يوم مرّ فيها ركبُ السبايا : بنو حمدان التغلبيون (317ـ399هـ/ 929ـ1008م)، بنوعُقَيل الكلابيّون (380ـ489هـ /990ـ1095م)، بنو مرداس الكلابيّون(415ـ472 هـ /1024 ـ1079 م). بنو مُنقذ الكلبيّون (474ـ584هـ/1081ـ1188م) علينا أن نُلاحظَ هنا اتساقاً كاملاً بين منازل تلك الهجرات ومواطن هاتيك القبائل، من جهةٍ، وبين البلدان التي رصدنا فيها وجودَ المشاهد، من الجهة الأُخرى. فـ"حمص" و"بعلبك" من المنازل الرئيسة لهمْدان. و"الموصل" و"حلب" من مواطن تغلب، حيث ستظهرُ إمارةُ بني حمدان التغلبيين في"الموصل" أوّلُ ثم في"حلب". أمّا"نصيبين" و"حماة" فقد كانتا ضمن منطقة السيطرة السُكانيّة لبني كلب أو كلاب دون تحديد، لتداخل منازل هاتين القبيلتيَن. ونذكرُ أنّ"نصيبين" ومنطقتها حملتْ عِبْءَ مُناجزة معاوية بكامل الجدارة، في الفترة التي اتخذها مالكُ الأشترُ قاعدةً لعمليّاته ضدّ الغارات الخاطفة التي كان معاويةُ يشنّها على القرى والبلدان المُتاخمة لمنطقة حُكمه ـ، يومَ كان والياً عليها للإمام علي  عليه السلام ،  قبل وبعد يوم"صفّين". ممّا يدلُّ على المَيل الذي كانت تُكِنُّه.


يبقى الكلامُ على"دمشق"، بوصفها آخرَ المواقع في سلسلة المشاهد. فهذه لها خصوصيّتُها لأسبابٍ واضحة. ونحن لا نعرف مَبدأَ حدوث المشهديَن فيها، كما في غيرها. لكنّنا لا نظنُّ أنها ترقى إلى العهد الأُمويّ، لأسبابٍ واضحةٍ أيضاً. وهنا الفارق عن غيرها. على أنّنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

36

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 نعرفُ أنّ للمشهدين ذكراً مُتصلاً. فقد ذُكر"مشهدُ راس الحسين" في (المسالك والممالك) للأصطخري (ت.حوالى:350 هـ/961م) 1. ثم في (تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر (ت:571هـ/1176م). ثم في (الإشارات إلى معرفة الزيارات) للهروي (ت:611هـ/1214م) وقد وقفنا عليهما فيما فات. ثم في (زُبدة كشف الممالك وبيان الطُرُق والمسالك) 2 لخليل بن شاهين الظاهري (ت:893هـ/1487م). أي على مدى ستة قرونٍ عـدّاً. 

 
إذن فقد كان رَكْبُ السبايا يعبرُ أرضاً يحملُ أغلبُ سُكّانِها تهيّؤاتٍ شيعيّةٍ لا ريب فيها، أثناء الجزء الأكبر من طريقه الطويل، أي من"الموصل" إلى"بعلبك" على الأقلّ . 
 
 هـذه النتيجةُ الهامّةُ جـدّاً تطرحُ تساؤلاً هامّاً أيضاً، يجبُ أن نُعالجه قبل أن نصِلَ إلى الجواب على ثاني السؤاليَن اللذين ختمنا بهما الفقرة الثانية من هذا الفصل، هو: 
من المعلوم أنّ سالكَ الطريقِ من"الكوفة" إلى"الشام" كان في ذلك الأوان أمام خياريَن لا ثالثَ لهما، يلتقيان عند مدينة"الرِّقّة" على الفرات. ولذلك كانت هذه المدينةُ تُلقّبُ باب"بغداد". لأنّ كلّ الطُرُق من"الشام" إلى"بغداد" كانت تنطلقُ منها. فهو إمّا أن يسيرَ مع"الفرات": من"الكوفة" إلى"الرمادي /الأنبار" فـ"هيت" فـ"عانة" فـ"قرقيسيا" فـ"دير الزُّور" فـ"الرَّقّة".  وإمّا أن يسيرَ مع"دجلة": من غرب
 
 
 
 

1ـ ط. مصر 1381هـ/1961م باعتناء د. محمد الحيني / 45.
2ـ ط. بيروت 1417هـ/1997م / 41
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

37

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

  

"الكوفة" إلى"سامرّاء" فـ "تكريت" فـ"الموصل". وعند هذه ينفصل عن مجرى النهر، لأنه أصبح في مناطق مأهولة، وعند هذه النقطة أيضاً تتفرّعُ الطُرقُ، ويكونُ أمامَ السالك عدّة خيارات، ومنها"تل اعفر" فـ"نصيبين" فـ"رأس العين" فـ"الرّقّة". وهذه الثانية هي الطريقُ التي سلكها ركبُ السبايا. ومن الواضح أنّ انحصار الخِيار بين هذين الطريقيَن ناشئٌ من أنهما تتوفّر فيهما المياه بفضل النهرين. أمّا الطريق الثالث المسلوك اليوم عبر البادية، بخطٍ شبه مستقيم من"الرّمادي" إلى"دمشق"، فقد كان مُمتنعاً على السّالكين آنذاك لأن الجزء الأكبر منه قاحلٌ تماماً. 

ثم أنّ الطريق الثانية لم تكُن أبداً بالطريقَ المألوف المسلوك. أولاً لأنه أطول من الطريق الفراتي بكثير (30 %  تقريباً من مسـافة الطريق الفُراتيّة ). 
 
وثانياً لأنـه يمرُّ بمنطقةٍ جبليّة عسيرة المسالك، هي جبال"سنجار" بين"الموصل" و"نصيبين". ولذلك فإنّنا لا نجِـدُ له ذكراً في كُتُب البلدان المعنيّة بوصف المسالك بين المُدُن الإسلاميّة. 

إذن وهذا هو السؤال: لماذا اختارتْ السُلطةُ في"الكوفة" هذا الطريق على ما فيه من طولٍ وصعوبةٍ نسبيّةٍ؟ نقول:"السُلطة في الكوفة" بالتحديد، لأنّ لدينا من الأسباب ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ والي"الكوفة" عُبيد الله بن زياد قد انفردَ بإدارة المعركة السياسيّة في"الكوفة" والعسكريّة في"كربلا" وبما تلاهما، على الأقلّ في التفاصيل. على أنّ الاحتمالَ الاخَرَ، أي أن يكونَ قد تلقّى أمراً مُسبَقاً من السُلطة المركزيّة بحمْلِ الرؤوس والنسوة والأطفال إلى"دمشق"، هو احتمالٌ واردٌ ومقبولٌ ايضاً. وعلى كلّ حال، فسواءٌ كان هذا أم ذاك، فالسؤال مطروح.

إنّ أهميّةَ هذا السؤال أنّه يُمكن أن ينفذَ إلى باطن تفكيرِ السُلطةِ في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

38

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 إدارة أزمتها السياسيّة، التي نشأتْ حصيلةً للحِراك السياسي لـ"الكوفة" في مُواجهة خلافةِ يزيد وسلوكه ، واستجابة الإمام الحسين  عليه السلام  لها، كما هو معلوم. وفي أداء السُلطة العملي في هذا السّياق. 


من الواضح أنّ السؤالَ يدورُ على النوايا والسّرائر. وذلك أمرٌ يجتنبهُ الباحثُ، لأنّه أشبهُ بمحاولة إصابة هدفٍ في الظلام. ولكنّ التمعُّنَ في خريطة المنطقة يمكن أن يُعيننا على بناء تصوّرٍ مقبول للجواب، استناداً إلى طبائع الأُمور، وإلى ما نتصوّره من اعتباراتٍ سياسيةٍ وأمنيّة. 

لقد كانت"الكوفةُ" المدينةَ الوحيدةَ التي رفعتْ صوتها في وجه الانحراف الجذري الذي مثّلهُ سـلوكُ يزيد وبطانته. وذلك تأصيلٌ عن تاريخٍ مُزمن، بـدأ بقيادتها الثورةَ على عثمان قبل زُهاء الثلاثين سـنة. واسـتمرّ من بعدُ باتخاذِها جانبَ الإمام علي  عليه السلام . إلى أن وصلَ المشروعُ السياسي الذي حملتْ العبءَ الأكبرَ منه إلى نهايته المعروفة. كما كان الإمامُ الحسين  عليه السلام  الوحيدَ المؤهّلَ لأن تجتمعَ عليه الأُمّةُ في إصلاح أمرها. وها إنّ الاثنين قد التقيا في ساحة"كربلا"، ولكن بعد أن أُجهِضتْ"الكوفةُ" سياسيّاً، وغدتْ أداةً طيّعةً في يد السُلطة. ولم يبقَ من بابٍ للخطر عليها إلا الإمام  عليه السلام ، ومعه هذه الجماعة القليلة التي أحاطت به. ولذلك فإنّ ابنَ زياد رأى فيها فرصةً سانحةً لن تتكرّر للتخلّص من آخر مصدرٍ للإنتقاض على الدولة. فرفضَ كلَّ العُروض التي طرحها الإمامُ عليه السلام، على سبيل إلقاء الحُجّة، لاجتناب إزهاق الأنفس. وقال قولته الشهيرة: 
 الآن قـد علِقتْ مخالبُنا بـه   يرجو النجاةَ، إذن رجوتَ مُحالا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

39

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 بل إنه لم يكتفِ بقتل الإمام  عليه السلام  ومَن معه (رضوان الله عليهم)، مع أنّه بذلك يكون قد استوفى كامل بُغيته. بل أراد أن يجعلَ منهم بزعمه أُمثولةً لكلِّ مَن تُحدّثُه نفسُهُ بالسّير على دربِ الشهادة الذي سلكوه. فأوعز إلى ابن سعد بأن يـ"أمرَ أصحابَه أن يوطئوا خيلَهُم الحسين. فانتدبَ لذلك إسحاقَ بن حَيْوة الحضرمي في نفرٍ معه فوطِئوه بخيلهم"1. ثم أنّه أمر بحمل رؤوس الشهداء ومن نجا من المذبحة والنساءَ والأطفال إلى"الكوفة"، ومنها إلى"دمشق". 

 
نحن في هذه الفذلكة لم نأتِ بجديد على صعيد عَرْض الأحداث، وإنما نظمناها في سياقٍ ابتغاءَ النّفاذِ إلى الحوافز التي حرّكت أداءَ ابن زياد. ولم يبقَ إلا أن نُضيفَ إليها ملاحظةً نُلخّصُها فيما يلي:
 
هناك أمرٌ جامعٌ بين وطءِ جسد الإمام  عليه السلام  بحوافر الخيل، وبين استعراضِ النساءِ مع أطفالهنّ في البلدان والأقطار، هو أنّهما كلاهما لا سابقةَ معروفةً من مثله لا في الجاهليّة ولا في الإسلام. ذلك لأنّ الميتَ والمرأةَ كلاهما له حُرمةٌ خاصّةٌ عند العربيّ، بحيثُ أنّه يـرى هتْكَ حُرمتهما علناً، بهذه الطريقة الفَظّة، عملاً في غاية الفظاعة والدّناءة، وارتكابُه أمرٌ في غاية الخِسّة والنذالة، يتنافى مع المرؤة والنُّبل وشرف القتال. 
 
ولكنّ ابنَ زياد أو مَن وراءَه أو كلاهما، وهم تحت التأثير الكامل لغطرسة القوّة وخُيلاء السُلطة، لم ينظروا إليهما من هذا الجانب، أي من جانبِ الأذى الذي سينالُ من صورتهم هم حتماً عند الناس، ومن جانب حجمِ الاستفزازالعنيف لمشاعرهم بحيث يُخشى أن ينقلبَ عليهم بالسـوء، كما حصلَ بالفعل. بل نظروا فقط إلى تأثيره القمْعي، باعتباره
 
 
 

1 ـ المسعودي: مروج الذهب، نشرة شارل بللا الجمعة اللبنانيّة، الفقرة / 1907.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

40

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 سيُنشئ رادعاً إضافيّاً، بل ربما أكبرَ تأثيراً من العقوبة الشخصيّة أو القتل، يحولُ بين الناس وبين الخروج عليهم أو عصيانهم. ذلك أنّ المُسلمَ المؤمن نظر دائماً إلى الموت في سبيل الحق باعتباره شهادةً وشرفاً في الدنيا والاخرة. ولذلك فإنّ المؤمنين ما انفكّوا يتهافتون على المَهالك في سوح الجهاد باعتبارها إحدى حُسنيَين، ثانيهما النصر. أمّا أن يُمثّلَ بجسده بعد قتله بهذه الطريقة الوحشيّة، وبالأخصّ أن يؤدّي الأمرُ إلى هَتْك حُرمةِ نسائه، فذلك أمرٌ قد يكونُ فوقَ الاحتمال، وبالتأكيد سيجعلُ قرارَ الاستشهاد أكثر صعوبةً. من هنا فإنّنا لا نرى في ارتكاب السُلطةِ الأمرين في حقّ الأمام  عليه السلام  وفي حقّ نسائه ونساءِ أهل بيته إلا رسالةً برسم كلِّ مَن يُخشى خطرُه. وخصوصاً إلى كل من يُخشى غضبُهُ لجريمة"كربلا". كأنّها تقولُ لهم هوذا ما ينتظركم إنّ أنتم نبذتم طاعتنا. وما سيجري بعد قليل بـ"المدينة" في وقعة الحَرّة، من قتلٍ ذريع دون تمييز وهتكٍ للأعراض، تطبيقٌ حازمٌ لهذه السياسة.

 

 
أظنُّ أنّ قارئاً حصيفاً، وعى قلبُهُ كلَّ ما قلناه فيما فات على  المواقع التي نشأت فيها المشاهد وميول سكانها، ثم على ما يدلُّ عليه واقعُ الحال من أغراض وسياسـة السُلطة ـ، هذا القارئ يكفي أن يتمعّنَ في خريطة المنطقة إجمـالاً، ليعرف لماذا اختارتْ السُلطةُ الطريقَ الذي سلكه ركبُ السبايا. 

فلنُلاحظ أنّ خطّ الفرات، ما بين"الكوفة" و"الرَّقّة" لا يعبرُ إلا بـ"هيت" و"عانة" و"قرقيسيا". وهي قرى شبه بدويّة، أو نصف حضَريّة، غير ذات شأن. لا حضورَ سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو ثقافيّاً لها. أي أنّها، بالمقاييس التي تمحّصتْ لدينا من غرض السُلطة من استعراض السبايا، لا تعني شيئاً، ولا فائدةَ من إبلاغها الرسالة عبر عرْضِ اُمثولة"كربلا" على أهلها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

41

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 أمّا خطّ دجلة فيمُرُّ بـ"تكريت" و"الموصل" و"سنجار" و"نصيبين" و"حرّان". وكلُّها حواضرُ ذاتُ شأن. فضلاً عن أنّنا قد عرفنا أن"الموصل" و "نصيبين" و"حرّان" كانت ذات تهيّؤاتٍ شيعيّة. أمّا"تكريت" و"سنجار" فلكلٍّ منهما قصّة خاصّة. فالمعروفُ أنّ"تكريت" كانت إلى ماقبل مائتي سنة تقريباً بلداً شيعيّاً، بالمعنى الشامي لكلمة شيعيّ. ثم أنّها تحوّلتْ عن التشيّع. وهذا يُفسّرُ عُنفها في مُقابل التشيّع، الأمرُ الذي لا يزالُ معروفاً حتى اليوم. وكذلك الأمر في "سنجار"، وكذلك تحوّلت هي أيضاً عن التشيّع في تاريخٍ مُتقدّمٍ، ولكن في اتجاهٍ آخر معروف. 


هكذا فعندما آثرتْ السلطةُ الطريقَ الذي اختارته لتستعرضَ عليه نصرَها الموهوم، فليس إلا لأنها تريدُ أنْ تُوظّفَ جرائمها المُتوالية في إنشاءِ روادعَ نفسيّة ذاتيّة، حيث تخشى أنْ تسلُكَ طريقاً آخرَ في اتجاه الثورة. هوذا ما يُسمّى في علم نفس الجريمة بالجريمة المُتسلسلة. حيث تكونُ الجريمةُ الأُولى بادئاً يُغرق مُرتكبَها في سلسلةٍ مُتواليةٍ من الجرائم. 

هذا كلّه فيما يعودُ إلى السُلطة الحاكمة وأدائِها ومنازعِه ودوافعِه ودلالة ِ ومغازي كلِّ ذلك. فمــاذا عن الناس؟ 
كيف تفاعلَ الناسُ مع الواقع الجديد الذي سيكونُ عنوانُه يومَ"كربلا" وما تلاه؟  ومنه، بل في الصميم منه، ذلك الاستعراض البالغ الغباء، البالغ النشوز لرؤوس الشـهداء وبقيّتهم ونسائهم وأطفالهم. الذي مضى على مدى شهر يشقُّ قلبَ العالَم الإسلامي من بلدٍ إلى بلد.  في محاولةٍ بائسةٍ لتقديمه للناس بوصفه نصراً مؤزّراً للشّـرعيّة، في مقابل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

42

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 الخارجين عليها. مُطالباً إيّاهم بأنْ يُمثّلوا دَوْرَ السّعيدِ بما يروه. أي بأنْ يُلغوا كلَّ مشاعرهم الإنسانيّة العفويّة وهم يرون نساءً وأطفالاً في أوضاعٍ تُحرّكُ الجماد. وبأنْ يُزيحوا جانباً وُجدانَهم الديني المُتصل بنبيّهم  صلوات الله عليه وآله  وبكلِّ مَن يمسّهُ بسبب. 


نَصِفُ يومَ"كربلا" بأنّه عنوانُ واقعٍ جديد، لأنّه وضعَ علاقةَ الناس بالدولة في إطارٍ غير مسبوق، عنوانُه القسوةُ التي لا حدودَ لها، وكسْرُ كلِّ الحُرُمات ِ الإنسانيّة والأخلاقيّة والدينيّة. ممّا سيراه الرّاؤون في الفظائع المَهولة التي ارتُكبتْ في مدينة رسول الله  صلوات الله عليه وآله   فيما يُعرف بـ"يوم الحَرّة"، وفي رمي الكعبة بحجارة المنجنيق وإحراقِها، وتسليطِ سفّاحٍ كالحجّاج على دماء المسلمين يُهرقُها كيف يشاء، بحيثُ أنّ"العراق" غرقَ أثناء ولايته الطويلة عليه في بحرٍ من الدماء. وما من ريبٍ في أنّ كلّ ذلك هو من تداعيات جريمة يوم"كربلا" الأساسيّة. التي شطرتْ المُجتمع الإسلامي وُجدانيّاً إلى شطريَن مُتنافريَن كلّ التنافُر. في جانبٍ منه السُلطةُ الحاكمةُ والمُنتفعون بها. وفي الجانب الآخَر الناسُ كلّ الناس. في ظلّ هذا الانشـطار بات من المُستحيل استمرارُ السُـلطة نفسها بالرضى والغبطة. ولم يبقَ إلا أقسى ألوان القمع وسيلةً. وهكذا كان. 

ونقولُ أنّ ذلك الاستعراضَ للسبايا كان في القلب من الواقع الجديد، لأنّ لدينا من الأسباب ما يدعونا إلى الاعتقاد، أنّه لولاه لَما كان للحدثِ الكربلائي أن يأخذَ حجمَ وشكلَ زلزالٍ في المنطقة الشاميّة، أي في قلب البيت الأُمويّ. بحيث كان له من المفعول السياسي ما سنقفُ عليه بعد قليلٍ إن شاء الله. وأنّه لو كان للذين ارتكبوه الحدّ الأدنى من الاحتراف والإدراك السياسـي، لكان من أوّلُ همّهم، بعد أن تخلّصوا من الخطر الذي تُمثّلهُ"الكوفةُ" والإمام الحسين  عليه السلام  عليهم، أن يعملوا على استيعاب الجماهير الغاضبة، أو التي يُتوقَّعُ أن تغضبَ لِما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

43

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 جنتهُ أيديهم، وبذلك يمكن أن يتداركوا الخطر القادم، الذي كان يجب أن يُقدّروه بدرجةٍ أو غيرها لو كانوا يعقلون. ولكنهم على العكس تماماً مضوا في استفزاز الناس واستغبائهم، بذلك العمل الشنيع الذي لا نمِلُّ من استغرابه واستهجانه ووصفه بأقذع الأوصاف. لأنّنا كلما تأمّلنا فيه وتعزّزَ فهمُنا إيّاه كلما زاد استهجانُنا واستغرابُنا له. 


على أنّنا حين نطرحُ على تاريخنا سؤالاً موضوعُه الناس" ماذا عن الناس"، فإنّنا لا نتوقّعُ أن نتلقّى عنه جواباً مُباشِراً. ذلك لأنّ هؤلاء هم آخِرُ من يهتمُّ بهم أهلُ هذا التاريخ البائس. لأنّ كلَّ اهتمامهم مُتوجّهٌ إلى جهةِ أُخرى، حيث السُلطةُ وأهلُها ومصالحُهم ورغباتُهم.
  
من هنا فإنّه لا يُفاجئُنا أبداً أن لانجِدَ في كلّ ما وصلنا من تسجيلاتٍ تأريخيّةٍ على تلك الأيام السّوداء، أيَّ ذكرٍ لحدوث أمرٍ غير عاديٍّ، مع أو بُعيدَ عبور رَكْبِ السبايا بلدان"الشام". مع أنّنا عرفنا أنّها كانت تكتمُ ميلاً شيعيّاً مقهوراً لا ريب فيه. رصدناه في الهجرات الكُبرى التي نزلته قادمةً من"الكوفة"، وفي التركيبة القبَليّة لوسط"الشام" وشماله. وخصوصاً في صيرورتها بعد هذا التاريخ إلى إماراتٍ شيعيّةٍ، بسطتْ سُلطانَها عليه حتى نهايات القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد. ولم تأخذ في الاختفاء إلا بعدَ وبسببِ دخولِ السلاجقة في الصّورة السياسيّة للمنطقة، قادمينَ من أطراف العالَم الإسلاميّ، على موجة الدّفاع عن بيضة الإسلام في وجه الغزواتِ الصليبيّة. وبذلك نكونُ قد قرأنا التاريخَ بطريقةٍ ارتجاعيّةٍ من الماضي إلى الماضي الأبعد. وهي قراءةٌ مقبولةٌ منهجيّاً، في ظلّ عَوْلِ التسجيلات التاريخيّة عن الأسئلةِ التي تطرحُها مُلاحظاتُ المؤرّخ الثابتة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 نعم، بقي لدينا من المؤشّرات التاريخيّة على ما كتمهُ عنّا المؤرّخون إيّاهم أمران: 

ـ الأمرُ الأول: المشاهدُ التي أنشأها الناسُ بمبادرةٍ منهم ولا ريب حيثما نزل ركبُ السبايا، وما تنطوي عليه من دلائل ومغازي، ممّا سنقِفُ عليه بعد قليلٍ إن شاء الله. 
ـ الأمرُ الثاني: أحداثٌ سياسيّةٌ خطيرةٌ مُتواليةٌ نزلت برؤوس السلطة، ممّا لا يمكن أن يحدثَ إلا في ظلّ نازلةٍ جَلَلٍ حاقتْ بها. وسيكون علينا فيما بقي من هذا البحث أن نتناولها بالعرض والتحليل. 

الأمرُ الأوّلُ يعودُ بنا إلى السؤال المُركّب الذي طرحناه قبل قليل، وهو: مَن الذي بدأ فشاد تلك المشاهد، وما كان غرضُهُ أو غرضهم منها؟ 
والشقُّ الأوّلُ من السؤال ممّا يسهُلُ الجوابُ عنه وإنْ بجوابٍ عامٍ، خلاصتُهُ أنّ الذين أخذوا على عاتقهم المُبادرةَ هم الناسُ، الناسُ العاديّون المقهورون، الممنوعون من التعبير عنه بنحوٍ أفصح عن وُجدانهم وولائهم وذاتِ أنفسهم. فلجأوا إلى هذه الوسيلة، التي يُمكنُ أنْ تكونَ قد بدأتْ صغيرةً  بحيثُ لا تحملُ تحدّياً صريحاً لأهل الحُكم. ثم أنّهم يتدرّجون في رفْع قواعدِها وإعلاءِ بُنيانِها كلّما أُتاحَ لهم الوضعُ السياسيّ ذلك، بحيث انتهتْ إلى النحو الذي وصلنا أو وصلتنا آثارُه: أبنيةً كبيرةً مُتقنَةً، مثلَ تلك التي نراها اليومَ في نماذج"حلب" و"حماة" و"بعلبك" على الأقلّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

45

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 لكنّ التأمُّلَ في دلالاتِ ومغازي ذلك يقودُنا إلى ملاحظتيَن هامتيَن: 

ـ الملاحظةُ الأُولى. وهي على اللّفتةِ العبقريّةِ الأخّاذاة في ابتداعِ ذلك الأُسلوب الناجح في التعبير، الذي يندرجُ في مقولةٍ يعرفُها جيّداً أهلُ التاريخ الإنسانيّ، هي أنّه من المستحيل أن تُؤخذّ كلُّ الطُرُق على كلِّ الناس في كلِّ الأوقات. بل هم يتّخذونَ بين ذلك سبيلاً. ذلك أنّنا لا نعرفُ في الإسلام سابقةً، لجأَ فيها الناسُ إلى تخليدِ لحظةٍ عزيزةٍ على أنفسهم، بإشادة بناءٍ في موقعِ حصولها. ومن ثَـمّ الدأبُ على الحِفاظِ عليها وتدبيرها وزيارتها. لا لغرضٍ إلا لكي تبقى حاضرةً في الذّاكرة الجَمْعيّةِ زمناً بعد زمنٍ، وجيلاً بعد جيل. فابتداعُها دليلٌ إضافيٌّ على ما قُلناه في الفقرة السابقة، ثم على ما يُسمّيه أهلُ علم الاجتماع بالذكاءُ الجَمْعي، الذي كثيراً ما يتفوّقُ على الذكاءِ الفردي .  
خلاصةُ هذه الملاحظة، أنّ فكرةَ أو ظاهرةَ بناء المشاهد، التي عمّتْ فيما بعد أقطارَ الإسلام، هي إبداعٌ شعبيٌّ ذكيٌّ، نشأ ردّاً على ابتداعٍ سُلطويٍّ غبيّ، هو استعراضُ نساءِ وأطفالِ يوم"كربلا". 

ـ المُلاحظةُ الثانية: إنّ النظرَ في سلسلة المشاهد، المُمتدّة من"الموصل" إلى"بعلبك"، أي على مسافةٍ تقربُ من الألف وخمسمائة كيلو متر طوليّ ـ، يشهدُ أنّ حافزاً عامّاً جامعاً كان وراءَ إشادتِها. وذلك أمرٌ يُثيرُ عند المُتأمّلِ العارفِ أقصى العجَب. فكأنّ الناسَ قد هبّتْ هبّةَ رجلٍ واحدٍ للتعبير تعبيراً مادّيّاً باقياً عن حزنهم وتضامُنهم ومُشاركتِهم الشُّعوريّة للضحايا شهداءَ وسبايا. 

هذه الملاحظةُ، إذا نحن ضمَمْنا إليها مضمونَ المُلاحظةِ السّابقة، وخصوصاً جِـدّةَ المُبادرةِ وطرافَتَها ـ، تودعُ في ذهن الباحثِ أنّ هاهنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 عاملٌ خفيّ، لا بدّ من فرْض وجوده لكي يكمُلَ التصوّرُ عندنا، وفقاً لِما تقتضيه طبائعُ الأحداث وسلوكُ البشر. أي أنّ فرْضَ وُجوده مُستندٌ إلى آثاره. وعليه فإنّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه على المُتأمّل هو: 

كيف تواصلَ أولئك الناس على بُعدِ الشـِّقةِ بينهم؟ أم كيف تبانَوا على إنشاء تلك المشاهد، وقـد عرفنا أنّها ظاهرةٌ غير مسبوقة؟ 

سؤالٌ لا نطمعُ في الحصول على جوابٍ مباشِرٍ عنه، للسببِ الذي عرضناه غير مرّة. 
   ومع ذلك فيمكننا أن نقول، على سبيلِ ملءِ الفراغ في جملةٍ منطقيّة:
نحن نعرفُ أن لا شئ مُعْـدٍ في سلوك البشر، بحيث ينتقلُ بسرعةٍ بين الجماعات، حاملاً معه صنوفَ أنماطِ السّلوكِ المناسبة، مثلَ حالاتِ الهياجِ الجَمْعيّ. خصوصاً إن كان يتغذّى من خزينِ غضبٍ عامٍّ. ومن الغنيّ عن البيان أنّ هذا الخزين العامّ قد انبجسَ نتيجةَ السلوكِ الطائشِ لأجهزة السُلطة الأموية،  حين استعرضت مُتفاخرةً أولئك النسوة والأطفال. 

فهل كانت حالةٌ من هذا هي ما لم يبقَ منه إلا تلك المشاهد دليلاً عليه؟ 
إن صحّ ذلك، وكلُّ ما عندنا يدلُّ على أنّه صحيحٌ، فهو تفسيرٌ مقبولٌ وأكثر. بيـدَ أنّنا لا نجِـدُ له ذكراً  في كل ما وصلنا من تسجيلاتٍ تاريخيّةٍ على الفترة. ولكنّنا نعرفُ أيضاً أنّ تاريخنا الأعورَ العين أخفى أحياناً ما هو أكبر من ذلك، لمصلحةِ سادتِه الحاكمين. بحيث أنّنا لا نجِـدُ عليه دليلاً إلا في بعض الأدبيّات الدينيّة أو الأدبيّة وما إلى ذلك ، وهو كثير. 

إذن فها هنا قطعةٌ من التاريخ ضائعةٌ تماماً، بحيثُ أنّنا لا نقرأُ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

47

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 عنها، كي لا نقولَ نقرأُها، إلا في تلك الهَبّة الجماهيريّة الواسعة لإشادة هاتيك المشاهد. وإذن أيضاً فإنّ في سـكوتِ المؤرّخين ما يخدعنا عن الحقيقة، ويوهمُنا أنّ الفعلَ والأثرَ كان في هذا لأجهزة السُلطة فقط، التى ارتكبتْ جريمةَ"كربلا" المَهولة، ثم ثنّتْ عليها ببدعة استعراضِ رؤوسِ الشهداء ونسائِهم وأطفالِهم في البلدان، وعملتْ على تغطيةِ فظاعةِ هذه بالقولِ أنّهم خارجون على الشّرعيّة. وما من شئ غير ذلك. وأمّا الناس في كافة الأقطار فلا يُذكرون، إن ذُكروا، إلا بوصفهم مُظهرين للفرح والسرور والشّماتة بما يرون، ناشرين معالمَ الزينة للنصر على هؤلاء البُغاة. هذا تزويرٌ تاريخيٌّ نموذجيّ لحقيقةِ ما كان يحدث ولإرادةِ الناس ومواقفهم. لم تفضحه إلا تلك المشاهدُ الصامتة ُ، التي ما تزالُ تنتصبُ منذ خمسة عشر قرناً كأنها تشهدُ على إحدى أكبر عمليّات التزويرفي تاريخنا المكتوب. 


ونقولُ أيضاً، إنّ ردَّ فعلٍ جماهيريّ بهذا الحجم والاتساع، مسكوناً بما نتصوّره من شحنة غضبٍ وحزن وإدانةٍ، لا يمكنُ إلا أن تظهرَ آثارُه في عالَم السياسة، مهما بذل َ المؤرّخون الرسميّون المُحترفون من جُهدٍ وبراعةٍ نشهدُ لهم بها في التزوير والتعتيم. 
والحقيقةُ أنّه ليس علينا أن نبعُدَ كثيراً لنرى أثارَ ردِّ الفعل الجماهيريّ هذا. 

إنّ أبرزَ ردّ فعلٍ على حالةِ الغضبِ الجماهيريّ العارمة، التي كانت أشبه بزلزالٍ ساحقٍ، نقرأُها في الانهيار المُفاجئ المُذهل للبيت السُّفيانيّ الحاكم، وهو في عزّ قوته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

48

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 بمقتضى الحسابات السياسيّة المُجرّدة،  فإنّ ذلك البيت كان ينبغي أن يزدادَ الآن قوّةً إلى قوّته. فها هو قد استلحقَ"الكوفة" استلحاقاً كاملاً، وهي التي تشهدُ كلُّ السّوابق أنّها مصدرُ القلاقلِ الأوّلِ عليه، من الثورة على عثمان، إلى يومي الجمل و"صفّين". ثم هاهو قد قتلَ الإمامَ الحسينَ عليه السلام ، وهو الوحيدُ المؤهّلُ، بالنظر إلى موقعه ومبادئه وحوافزه، لقيادةِ حِراكٍ سياسيٍّ مُضادٍّ. وبهذا وذاك يكونُ قد قضى على المصدريَن الرئيسيَن للخطر عليه. ومع ذلك فإنّ الأمورَ اتجهت فوراً ـ وياللغرابة ـ على العكس تماماً. فما أن استتمّ له كلُّ ما أراد حتى رأيناه ينهارُ فجأةً. مثلما ينهارُ طودٌ راسخٌ اُخليتْ آساسُهُ. 

 
وممّا يزيدُ الأمور عند المُتمعّن غرابةً أنّه، أثناء أربع سنوات ممّا بعد يوم"كربلا"، توالى على منصب الخلافة ثلاثةُ رجال، كلّهم ماتوا قتلاً بطريقةٍ غامضةٍ. يزيدُ بن معاوية مات شاباً في الثلاثينات من العمر، على اختلاف الروايات في التفصيل. قيل أنه "سكِرَ فقام يرقصُ. فسقط على رأسه فانشقّ وبدا دماغُه"1. وقيل غير ذلك. ولكن من المُؤكّد أنّه لم يمُتْ حتفَ أنفه. وابنه ووليُّ عهده معاوية الثاني خلفَ أباه "فلم يمكث أربعين يوماً حتى مات"2. وقيل أنّه "دُسَّ له فسُقي سُمّاً فمات. وقال بعضُهم طُعن"3. وثالثهم مروان بن الحكم، خَلَفَ زّهاءَ سنةٍ من الزمان، ثم مات. قيل قتلته زوجتُه "غمّتهُ بوسادة قعدتْ على جوانبها فتلِف. وظُنّ أنه مات فجأةً"4.
 
هذا كلّهُ إن دلّ على شئٍ، فعلى أنّ هناك أمرٌ جلَلٌ يجري في
 
 
 

1 ـ سير أعلام النبلاء: 4 / 37. 
2 ـ نفسه: 4 / 139. 
3 ـ الطبري: تاريخ، ط. مصر، دار المعارف، لات: 5 / 530ـ31. 
4 ـ سير أعلام النبلاء: 3 / 316 والطبري: 5 / 611. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 أوساط البيت الأموي الحاكم. ذلك أنّ قتلَ أو اغتيالَ ثلاثة خلفاءٍ على التوالي أثناءمدّة قصيرةٍ،دون أن يُعرَفَ بالتأكيد كيف ماتَ مَن مات، وكيف اغتيل مَن اغتيل، فضلاً عن تسجيلِ جريمة قتلهم جميعاً ضدَّ مجهول، كما نقولُ اليوم ـ، كلُّ ذلك دليلٌ ساطعٌ على أنّ القاتلَ أو القتَلةَ هو أو هم من موقعٍ يُعطيهم أن يكتموا ما يشاؤن، أي أنّهم  من داخلِ البيت الحاكم. وإلا فإنّ انتهاءَ حياةِ ثلاثةِ خلفاءٍ على التوالي أثناءَ مدّةٍ قصيرةٍ ليس بالأمر الهيّنِ الذي يُمكن أن يمُرَّ بهذه البساطة، كما قالته الرواياتُ الثلاث، التي عرضَتْ أسباباً سخيفةً أو غامضةً لموتهم، وهي على كلّ حال كاذبة. القاعدةُ أنّه عندما يكثُرُ الكذبُ فإنما هو لغرضِ إخفاءِ الحقيقة. 


يدلُّ على ذلك روايتان، الأمرُ الجامع بينهما هو أنّهما تُشيران إلى حالةٍ غير عاديّةٍ بين رجال البيت الأُموي في"دمشق"، على أثر يوم"كربلا" واستعراض السّبايا. نوردُ نصّهما، مقدمةً لتحليلهما وكشْفِ خبيئهما.

     الروايةُ الأُولى:" لمّا قتلَ عُبيدُ الله بن زياد الحسينَ بن علي عليه السلام وبني أبيه، بعثَ برؤوسهم إلى يزيدَ بن معاوية. فسُرّ بقتلهم أوّلاً، وحسُنتْ بذلك منزلةُ عُبيد الله عنده. ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندِمَ على قتل الحسين. فكان يقول: وما كان عليَّ لو احتملتُ الأذى، وأنزلتُهُ معي في داري، وحكّمتُهُ معي فيما يُريد. وإنْ كان عليَّ في ذلك وَكَفٌ ووَهْنٌ في سلطاني. حِفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، ورعايةً لحقّه وقرابته". " لعن الله ابنَ مرجانة. فإنّه أخرجهُ واضطرّهُ. وقد كان سـأله أن يُخلّي سـبيله ويرجع، فلم يفعل. او يضعَ يدَهُ في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

50

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 يدي. أو يلحقَ بثغرٍ من ثغور المسـلمين حتى يتوفّاه الله عزّ وجلّ، فلم يفعـل. فأبى ذلك وردّهُ عليه وقتله. فبغّضني بقتلـه إلى المسلمين. وزرعَ لي في قلوبهم العداوةَ. فبَغَضَني البَرُّ والفاجر، بما استعظمَ الناسُ من قتلي حسيناً. ما لي ولابن مرجانة. لعنه الله وغضبَ عليه"1

 
 الرواية الثانية: ( وهي من خُطبةٍ لعُبيد الله بن زياد في أهل"البصرة" بعد أن بلغه موتُ يزيد ). قال فيها:".... إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية قد توفي، وقد اختلفَ أهلُ الشام. وأنتم اليومَ أكثرُ الناس عـدداً، وأعرضهُ فِناءً، وأغناه عن الناس، وأوسعهم بلاداً. فاختاروا لأنفسكم رجلاً ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أوّلُ راضٍ مَن رضيتموه..... الخ. 2
 
في الرواية الأُولى يبدو يزيدُ والنّدمُ يأكلُهُ على ما فرّطَ في أمر نفسه، بعد أن كان مسروراً لقتلِ الإمامِ  عليه السلام   وتسيير الرؤوس والنساء. ومن الواضح أنّ ذلك النّدم ليس عن يقظةِ ضمير، ولا عن هدى بعد ضلالة، ولا لأنّه قد ثاب إليه رُشدُهُ بعد الغيّ. بل إنّ يزيد هو نفسه من قبلُ ومن بعد. والذي تغيّر إنّما هو الظرفُ في الحاليَن. الأمرُ الذي عبّرَ عنه هو بكلّ جلاء بقوله:"فبغّضني إلى المسلمين. وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البَرُّ والفاجر". أي أنّ النتائجَ السياسيّة للجريمة  التي لم
 
 
 

1 ـ الطبري: 5 / 506. ولدى ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ط. بيروت 1385هـ/1965م: 4 / 87 روايةٌ مُشابهة، وفيها زيادةٌ بعد قوله ".... إلا قليلاً": "حتى بلغهُ بُغضُ الناس له ولعنهم وسبُّهم ". 
2 ـ الطبري: 5 / 504. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

 


51

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 تكُن منظورةً بعد ارتكابِها مُباشرةً، قد بدأتْ تظهرُ تِباعاً. بحيث أصبحتْ تيّاراً ضاغطاً أقضّ مضجعَ الخليفة. 


ومع ذلك فإنّ عبارةَ يزيد التي صوّر فيها موقعَه الجديد مُضلّلةٌ تماماً، على الرُغم من قوّتها، فهي قد توهمُ غيرَ العارف بأنّ الرجلَ كان ذلك الحاكم المحبوب، المُقـرّبَ من قلوبِ رعيّته. أو أنّه ذلك الخليفة الذي لم يكُنْ يهمُّهُ شئ بقدر اهتمامه بكسْبِ محبّة جماهير المسلمين له. وأنّه إنّما خسرَ ذلك الامتياز فقط بعد الجريمة التي ارتكبها واليه . ويا لبُعد هذا وذاك عن الحقيقة. 

الحقيقةُ أنّ صورتَه عند الكافّة كما كانت، وكما ما انفكّتْ حتى اليوم، هي ذلك الرجل المُتجاهر بكل ما يخطر بالبال من صنوف الفسق. والذي انضافَ إليها من بعدُ بجريمة"كربلا" وما تلاها، هو أنّه صارللمسلمين عنده الآن ثأرٌ شخصيّ بقتله ابنَ بنت نبيّهم صلوات الله عليه وآله  والتنكيل بأُسرته. الأمرُ الذي جعل منه خطراً ماثلاً على أهل بيته. 

هوذا بيتُ القصيد. وهوذا ما أقضّ مضجعَ يزيد وجعله يندمُ على قتل الحسين  عليه السلام  بعد أن كان به مسرورا. إنّ ردّة الفعل الشعبيّة الهائلة على الجريمة المُركّبة، قد انعكست على وضع البيت الأُموي إجمالاً، الذي وضع وِزْرَ ذلك كلّه في عنق يزيد. وهكذا غدتْ مشكلتُهُ الأساسيّةُ الآن مع أهل بيته. عرفنا ذلك من بعض ما قاله عُبيد الله بن زياد في خطابه بأهل"البصرة"، وخصوصاً من قوله"وقد اختلف أهلُ الشام" بعد أن نعى لهم يزيد. حيث"أهلُ الشام" تعني هنا رجالَ البيت الأُموي بالتحديد، وليس عامّةَ الناس الذين جمعهُم الغضب" فبغضني البرُّ والفاجر". ولذلك فإنّ ابن زياد ظلّ يترقّبُ مسارَ الأمور بين أهل الحُكم. بل الظاهر أنّه كان على اطلاعٍ، أو أنّه كان على الأقلّ يتوقّعُ اغتيالَ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

52

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 يزيد، بسبب الخلاف العالق بينهم على قاعدة المسؤوليّة عن قتل الإمام عليه السلام . فوضعَ في"دمشـق" مَن يتحسّسُ له الأخبار، كي يكونَ أولَ العارفين بما هو مُتوقّعٌ، فيُسـارع إلى اتخاذ الإجراء المُناسب لنفسه قبل فوات الأوان.  وبالفعل عاد رجلُهُ "وأسرّ إليه موتَ يزيد واختلافَ أمر الناس بالشام [.... ]. فأقبل عُبيدُ الله من فوره فأمر منادياً يُنادي: الصلاة جامعة. فلمّا اجتمع الناسُ صعِدَ المنبر فنعى يزيد وعرّض بثلبه.... الخ." 1. وتابع فأعلن تخلّيه عن الإمارة، تاركاً للناس حُريّةَ اختيارمَن يشاؤون ليتأمّر عليهم، كما رأيناه يقول فيما اقتبسناه من خطابه. ثم تسلّلَ من المدينة ليلاً هارباً، حاملاً معه ما في بيوت مالها من أموال 2.

 
من الواضح أنّ ما فعله ابنُ زياد هو أشبهُ ما يكونُ بفعلِ امرئٍ يرى السفينة التي يركبُها مُشرفةً على الغرق. فسارعَ إلى تركها لمصيرها المحتوم، دون أن يُفكّرَ بغير نجاته الشّخصيّة. دون أن ينسى الاستيلاءَ على كلّ ما نالتهُ يدُهُ من المال العام. 
 
تلك هي صورةُ الوضع السياسي العام المُستجدّ، الذي نشأ على قاعدةِ الغضبِ الشعبي العارِم والشّامل لقتل الإمام عليه السلام  وما تلاه. وذلك هو انعكاسُهُ على نظام العلاقاتِ داخلَ البيت الأُموي، الذي لم يعرف فيما مضى غير التكاتُف والتعاون في سبيل مصلحةِ أبنائه. وسعّرَهُ، أعني ذلك الغضب، منظرُ الرؤوس والنساء والأطفال يُطافُ بهم في البلدان على تلك الصورة التي تُحرّكُ الجماد، بالإضافةِ إلى المواقف الشُّجاعة والمؤثّرة لزينب ورفيقاتها عليهنّ السلام في"الكوفة" و"دمشق" على
 
 
 
 

1 الطبري: 5 / 507. 
2 ـ قصّة هربه من البصرة بالتفصيل في تاريخ الطبري : 5 / 507 ـ 13.  

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

53

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 الأقلّ، وربما، بل الأرجح، في غيرهما من البلدان، التي أسقطتْ الأُطروحةَ الغبيّة للسُلطة"هؤلاء خارجون على أمير المؤمنين".

 
تلك الصورة التقطناها من الجمع بين كلاميَن، صدرا عن اثنين من أعمدة النظام الأُمويّ الحاكم.  ولولاهما لَما كان لنا أن نطمعَ بالاطلاع على مثل هـذه الأسرارالخفيّة، التي كانت معروفةً لدى القريبين من أوساط الحكم، ورأوا فيه نهايةَ الحُكم الأُموي. من مثل قول الشاعريذكر ميتةَ يزيد: 
يا أيّها الملكُ المُغلّقُ بابَـه            حدثتْ أُمـورٌ شـأنُهنّ عظيـمُ 
قتلى بحَـرّةَ والذين بكابُلٍ            ويزيـدُ أُعلنَ شـأنُهُ المكتـومُ 
أبني أُميّـةَ إنّ آخرَ مُلكِكم           جسـدٌ بحوّاريـن ثَـمّ  مُقيـمُ 
طرقتْ منيّتُهُ وعند  وساده           كوبٌ وزِقٌّ راعـــفٌ مرثومُ
ومُرنّـةٌ تبكي على نشوانةٍ              بالصُبح تقعـدُ تارةً وتقـومُ 1
 
أعتقدُ أنّ القارئَ الحصيف قد غدا الآنَ على خُبرٍ كافٍ بالوضع السياسي المُعقّد الذي نشأ على قاعدةِ يوم"كربلا". وتسارعتْ أحداثُه بسببِ خطيئةِ استعراضِ نساء أهل البيت عليهم السلام. 
 
في غيابِ النصّ التاريخيّ المُباشِر، فقد بدأنا تركيبَ ذلك الوضع
 
 
 

1 ـ الكامل لابن الأثير: 4 / 154 ـ 55.  و قول الشاعر "جسدٌ بحوّارين" يعني به جسدَ يزيد الذي قيل أنّه مات بـ "حوأرين"، وهي "من تدمر على مرحاتيَن. وبها مات يزيد" (معجم البلدان، ط. بيروت، دار صادر، لات: 2 / 316). فموتهُ في هذا المكان المُنقطع في البادية، واعتبارُ الشاعر إعلانَ موته بعد أن كان مكتوماً من جملةِ أُمورٍ "شأنهنّ عظيم"، بحيثُ رأى فيها الشاعرُ نهايةَ مُلك بن أُميّة، يدلُّ على انطباعٍ لدى أهل الاطلاع أنه لم يمُتْ حتفَ أنفه، وأنّ واقعةَ ميتته كانت سراً مكتوماً، أُعلنَ ما يمكن إعلانُه منه. وإلا فإنّ مُجرّدَ موته لو كان عاديّاً لا يستدعي كلَّ هذه العظائم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

54

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 السياسي بملاحظةِ آثاره، التي كان من أبرزها مقتلُ ثلاثةٍ من الخلفاء على التوالي بطريقةٍ غامضةٍ. ثم رصدناه في تقاطُعاتِ كلام يزيد وعُبيد الله بن زياد. ونحن نعرفُ أنّ انهيارَ الوضع السّياسي قد توالى بحيث أدّى في نهاية المَطاف إلى سقوط البيت السُفياني من الأمويين، ونهوضِ الزُبيريين الذين وصل مُلكهُم إلى"دمشق" نفسـها، ولم يبقَ بيد الأُمويين من دار الإسلام الشّـاسعة إلا تلال"البلقاء"، أي موضع مدينة"عمّان" اليوم في"الأُردنّ". ولولا الأخطاء السياسيّة الفظيعة التي ارتكبها الزُبيريّون لانتهى مُلكُ بني أُميّةَ إلى الأبد.

 
وعلى قاعدةٍ من أخطاء الزُبيريين نهضَ عبدُ الملك بن مروان ليقضي على الزُبيريين، ويستعيدَ مُلكَ بيته كاملاً. وذلك بمُساعدةٍ أساسيّةٍ من الشيعة في"الشام"، الذين رأوا فيه فرصةً سانحةً للانتقام من قَتَلةِ إمامهم. وغرّهم من عبدُ الملك ماضيه بوصفه عابداً ناسكاً وأحدَ كبار الفقهاء في"المدينة". ولكنّ هذا، ما إن وطّدَ أركانَ مُلكه حتى انقلبَ على نفسه، فغدا ظالماً جبّاراً غشوماً مُتجاهراً بالكبائر 1. وانقلب على مَن كانوا السّببَ في مُلكه، كما هو معلوم. ولكنّ الشيعة الشاميين كانوا قد اكتشفوا قوتهم، ولن يعودوا كما كانوا مُجرّد نازحين، لا هدف لهم سوى البقاء. وهذه إشارةٌ سريعةٌ إلى التطوّرات المُتوالية الآخذِ بعضُها
 
 
 
 

1 ـ عن نافع، قال: لقد رأيتُ المدينةَ وما بها شابٌ أشدّ تشميراً ولا أفقهَ ولا أنسكَ ولا أقرأَ لكتاب الله من عبد الملك (ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، ط. بيروت 1415هـ / 1995م: 10 / 254). و روى الذهبي قال: كان عبد الملك كثيراً ما يجلسُ إلى أُمّ الدرداء في مؤخّرِ مسجد دمشق. فقالت: "بلغني أنك تشرب الطُّلاء [ الخمر ]  بعد  النُسك والعبادة ! فقال: إي والله، والدماء ". وقيل إنّه تأوّهَ من تنفيذِ يزيد جيشَهُ إلى حرب ابن الزبير. فلمّا ولي الأمرَ جهّزَ إليه الحجّاجَ الفاسق(سير أعلام النبلاء: 4 / 249 و 248على التوالي).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

55

الدرس الرابع: الحََـدََثُ الكربلائيّ يتفاعـل

 برقابِ بعض، اقتضاها ختامُ البحث. المُهمُّ بالنسبة لنا أنّها بدأتْ بيوم"كربلا" وما تلاه، وخصوصاً ببدعة تسيير نساء أهل البيت (عليهم السلام) في البلدان.

 

 

 

 

 

 

 

 

62


56

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 خُلاصـاتٌ ونتائج 

 
يكادُ أهلُ التاريخ يُطبقون على القول أنّ ظُهورَ الذّاتيّةِ الشيعيّةِ، بوصفها أمراً جامعاً له شخصانيّتُه السياسيّة المُميّزة، قد بدأ بيوم"كربلا"، غضباً مكتوماً مَشوباً بالنّدم في"الكوفة" على ما فرّطوا في حقّ الإمام  عليه السلام ، فلم ينصروه بعد أن دعوه. ثم ما أن بدأتْ إماراتُ الضعفِ في بُنيةِ السُلطةِ الحاكمةِ، بتأثير موكب السبايا، حتى تحوّلَ مطلبيّاً باتجاه الانتقام من قاتليه. فأعلنتْ  المدينةُ العصيانَ المَدَنيّ كما نقولُ اليوم. وطردتْ عمرو بن حُريث خليفةَ ابن زياد في "الكوفة"1. وطفقتْ النساءُ يُنظّمنَ المسيراتٍ في سككها وهُنّ يبكينَ 2. لقد غدَتْ"الكوفةُ" الآنَ مدينةً مسكونةً بالحُزنِ والعطشِ إلى الانتقام. ومن هنا سلكتْ سبيلَها إلى العمل المُباشِـر: حركةُ التوّابين، بما فيها من روح فُروسيّة لا تُعلّقُ كبيرَ أهميّةٍ على النتائج، بل كلُّ ماترمي إليه عقابُ النفس على التقصير. وحركةُ المُختارالتي اشتغلتْ بدمٍ باردٍ على مُلاحقةِ كلِّ من شرَكَ في دماء الشهداء.
 
 
 

1 ـ الطبري: 5 / 523. 
2 نفسه: 5 / 524. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

57

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 من هنا كانت البداية العملانيّة. ومن هنا أخذ التشيّعُ طريقَهُ في تطوّرٍ طويلٍ صاعد ما يزالُ عالقاً فاعلاً. 

هكـذا فعندما يُصرُّ أهلُهُ (أعني التشيُع) على تجديد ذكرى الشهادة الفريدة عاماً بعد عام، فليس لمُجرّد الشّجى، بل أيضاً، وربّما قبلُ، اعترافاً بفضل تلك اللحظة عليه، بعد أن أثبتَتْ بالملموس أنّها شُعلةٌ لا تنطفئ.

هـذا التحليل يصحُّ فقط بالنسبة لـ"الكوفة" وأهلها، ولمداها الحيويّ العراقي. 

  فماذا عن"الشام"، وماذا عن التشيّع الشامي؟ 
 في الجواب على السؤال الأوّل نقول: علينا أن نُلاحظَ هنا أنّ"الشـام" لم يكتوِ بالحَدَثِ الكربلائيّ اكتواءَ"الكوفة" به. فهو لم يكُنْ يعرفُ الإمامَ الحسين(عليه السلام) وموقعَهُ معرفةَ أهلِها به. ولم يتصِلْ بأحداثِ"كربلا" الرّهيبةَ اتصالاً مُباشراً. ولم تصِلهُ منها أو عنها، إنْ وصلتْ، إلا أصداءٌ بعيدة. ولم تسفعهُ نارُ النّدم والحسرة على التقصير، مثلما سفعتْ أهلَ"الكوفة". إلى غير ذلك من الحوافز، ممّا يُمكنُ لقارئٍ حصيفٍ، وعى قلبُهُ ما وصفنا به شأنَ أهل"الكوفة" بعد"كربلا" فيما فات، أن يُعزّزَ به الصورة. ولولا ذلك الأداء الغبي من النظام، إذ مضى يستعرضُ انتصارَه الموهوم بموكب السـبايا،  لربما لم يعرف الناس، خصوصاً في تلك البلدان النائية التي أحصيناها، حقيقةَ ما جرى في"كربلا". 

ومع ذلك فإنّه، أعني"الشام"، قد تفاعلَ مع الحَدَث، أو بالأحرى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

58

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 مع ما رآه منه، كما رأينا في متن الكتاب أعلاه، تفاعُلاً قويّاً جدّاً، لا يقلُّ عن تفاعُل"الكوفة" معه، إنْ لم يَـزِد بتأثيره. كان من قوّته أنْ أسقطَ دولةً في عزّ قوّتها ومِنعتها كما رأينا. وذلك بفضلِ غباء السُلطة ونزقها وبدعة موكب الضحايا. التي بذلتْ جُهداً خارقاً في عرْضه على أهل أكبر عددٍ ممكنٍ من البلدان. وبذلك نشرتْ جريمتها بنحوٍ لا يحلُمُ به أعدى أعدائِها. 

 
ونحن من أسفٍ عاجزون عن تبيان آليّةِ حُدوث ذلك التفاعل، بمثل ما بيّنّا به تفاعُلَ"الكوفة" مع الحَدَث الكربلائي، وإنّما عرفناه بآثاره فقط. ولكنني وقعتُ بعد البحث على مؤشّريَن أو مَظهريَن اثنيَن على ذلك التفاعُل المكتوم. 
 
المُؤشّـرُ الأوّل أنّ لعنَ يزيد كان يحصلُ في"دمشق" علناً  وعلى رؤوس الأشهاد 1. وهذا أمرٌ لا يُعقَلُ ولا يُتصوَّر أنّ يحدثَ في الظروف العاديّة. وهو دليلٌ قاطعٌ على سـقوطِ هيبةِ الدولة في عاصمتها بشخص رأسِها الخليفة. بل إنّ عُبيد الله بن زياد، رجلَ الدولة في المُلمّات، وابن عمّ يزيد المزعوم، بعد أن نعى يزيدَ لأهل"البصرة" نال منه من على المنبر2.  ومن الواضح أنّ هؤلاء لم يكونوا يفعلـون ذلك غيرةً على الإسلام وأهله، أو استنكاراً لأعمال يزيد الفاسقة ولجرائمه الكثيرة. بل الحقيقةُ أنّهم كانوا من مُقدَّمي أعوانه وأنصار دولته، وبحضور رجال الدولة وهم أيضاً من أعوانه. وإنّما لأنهم حمّلوه وزرَ خسارتهم هم
 
 
 


1 ـ لعنه علناً الضحّاكُ بن قيس أحدُ رجاله المُقرّبين (الطبري: 5 / 532. ولنتذكر هنا النص الذي اقتبسناه قبل قليل عن الكامل لبن الأثير، حيث قال عن يزيد:"بلغه بُغضُ الناس له ولعنهم وسبّهم إياه"" 
2 ـ نفسه: 5 / 507.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

59

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 بسقوط الدولة، التي يخشون أن تجُرَّهم معها إلى القبر، بسبب خطيئته الكبرى بيوم"كربلا" وما تلاه، وخصوصاً ما تلاه. 

 

 
المُؤشّـرُ الثاني أبياتٌ أربعة لشاعر شاميّ مُتقدّمٍ، في الغاية من الرقّة والجمال وصدْقِ ودقّةِ التصوير. أودعَ فيها انفعالَهُ البالغ القسوة بمنظرالرؤوس والنساء والأطفال في موكب السّبايا، وهي تُساقُ من بلدٍ إلى بلد ٍ. وما من شكٍّ عندي أنّ صاحبَها المجهول قد قال تلك الأبيات بعد أن شهِدَ الموكبَ الحزين باُمّ عينه، فنظمَ تلك الأبيات وهو تحت تأثير المشهد، فجاءتْ حيّةً صادقةً نابضةً غنيّةً بالصُّوَر.  ممّا يصلحُ أُنموذجاً يُمكنُ تعميمُه ليشملَ غيرَ الشاعر ممّن شهدوا ما شهد. بدليل أنّها حُفظتْ عنه، وتناقلتها الأجيال حتى وصلتنا. وهذه هي وظيفةُ الشاعر المُبدِع والشعر الجيّد: أنّهُ يقولُ عن الناس ما يعجزون عن التعبير عنه. 
 
   قـــال: 
 جاؤا برأسكَ يا ابنَ بنتِ محمدٍ           مُترمّـلاً بدمائه  ترميـلا 
 وكأنّما بـك يا ابنَ بنتِ محمٍد              قتلوا جهاراً عامدين رسولا
 قتلوك عطشاناً ولَمّـا يرقبوا                 في قتلكَ التنزيلَ والتأويلا  
 ويُكبّرون بأنْ قُتلـتَ وإنّمـا                 قتلوا بك التكبيرَ والتهليلا1
 
وإنّني أُلفِتُ القارئَ إلى قوله:"جاؤا برأسِكَ" و"يُكبّرون بأنْ
.
 
 
 

1 ـ نسبها ابن شهرآشوب (مناقب آل أبي طالب، ط. بيروت 1412هـ / 1991م:3 / 263) إلى ديك الجنّ الحمصي وليست في ديوانه المطبوع الذي جمعه الملوحي والدرويش. وفي (الطليعة من مشاهير الشيعة، ط. بيروت 1422هـ / 2001م:1 / 305) أنّها لخالد بن معدان الطائي. والذي نذهب إليه أنّ صاحبها الحقيقي مجهول. ونسبتُها إلى هذا وذاك أمرٌ مألوفٌ في الأبيات السّائرة المجهول قائلُها.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66
 

60

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 قُتلت"، ففي الأُولى منهما أنّ الرأسَ قد جِيء به، ممّا ينطوي على أنّ الشاعر شامي. وفي الثانية لحظةٌ حيّةٌ من مشهدِ موكب السّبايا والجمهور المخدوع. 


إذن، فهذا تسجيلٌ يصلُحُ أنْ يكونَ مؤشّراً للتأثير القوي الذي تركه استعراضُ السبايا بين أهل"الشام"، ممّا رأينا أثرَهُ المعنوي في المؤشّر الأوّل أعلاه. كما وقفنا على تأثيره السياسي في متن البحث. ورأينا آثارَه المادّيّةَ في سلسلة المشاهد هناك. 

بُغيتي من سَـوْقِ هذه المعلومات، وما عقّبنا به عليها من تحليلات، أن أقودَ تفكيرَ القارئ باتجاه السؤال التالي:  
هل كان لاستعراضِ موكبِ السّبايا في أنحاء"الشام" من قُوّةِ الصّدمة بين أهله، مثلما كان ليوم"كربلا" بين أهل"الكوفة"، فنقلهم من حـالٍ إلى حـال، ففرَزَهم سياسيّاً، ووضعَ أمامَهم مطلباً، ممّا كان القاعدةَ والأسـاسَ للتطوّراتِ المُتلاحقة التالية؟ 

السؤالُ يعودُ بنا إلى سؤالٍ طرحناه في طليعة هذا الفصل:  ماذا عن التشيّع الشـامي؟ 
من المعلوم والثابت عندنا أنّ القاعدةَ البشريّةَ، المُتهيّئةَ ثقافيّاً ووُجدانيّاً لاستيعاب معنى ومغزى حقيقةَ ما تراه في موكب السّبايا، كانت موجودةً بكثافةٍ. في أطراف"الجزيرة":"الموصل" و"نصيبين". وفي شمال"الشام":"حلب" وما والاها. وفي وسطه:"حمص" و"حماه" و"بعلبك" و"دمشق". وفي غربه:"طرابلس" وكلّ الساحل اللبناني. وكلّ هذه البلدان ـ عدا"طرابلس" والساحل ـ ممّا شَـهدَ أهلوها الموكبَ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

61

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 الحزين. وقد استوفينا الكلامَ عليها بمقدار الحاجة فيما فات من هذا الكتاب. وأرجعنا القارئَ الطُّلعَةَ الرّاغبَ بالتفصيل إلى كتابنا (التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريّة). 


ثم أنّ إشادةَ هاتيك المشاهد، هو بنفسه بمثابةِ إعلانٍ صريحٍ من بُناتِها عن هُويّتهم عند أنفسهم، وعن علاقتهم الوُجدانيّة المتينة بأُولئك الضحايا، شُهداءَ وسبايا. فكأنّهم يقولون : هؤلاء يخصّوننا في الصّميم. ولو لم يكُن الأمرُ على هذا النحو، لاكتفوا بإظهار الحزن والأسف لِما يرون، مثلاً، ثم مضوا في حال سبيلهم. مثلما يُظهرُ البشرُ السليمو الطويّة تعاطُفَهم المؤقّت مع ألَم الآخَر. وبذلك تنتهي علاقتهم بما يرون مهما يكُن مُحرّكاً للعواطف مُثيراً للشّجى. 

هكذا فعندما ابتدعَ أسلافُنا هذه الوسيلة في التعبيرعمّا تُكنُّهُ أنفسُهم، فمضوا يبنون تلك المشاهد في البلدان، إنما كانوا يخطون أوّلَ خطواتهم على الطريق الطويل، الذي انتهى في القرنين الرابع والخامس للهجرة / العاشر والحادي عشر للميلاد، إلى أنّ أغلب التكوينات السياسيّة في"الجزيرة" وشمال ووسط وغـرب"الشـام" كانت شيعيّة، كما عرفنا فيما فات، وفيما هو ثابتٌ على كلّ حال. وهذا يؤشّـرُ بما لاريب فيه باتجاه قاعدةٍ سُكّانيّةٍ مناسبة. فضلاً عن أنّ كلّ الحياة العقليّة قد انحصرتْ في بعض تلك الإمارات، بحيث أنّه خلالَ ذينك القرنين كانت"حلب" في الشمال، و"طرابلس" على الساحل في الغرب، منارتَي الشام الوحيدتين. وفيهما عاش وأنتجَ عشراتُ العلماء والأدباء. ولولا الكارثة الصليبيّة التي قضت على كلَّ المراكز الشيعيّة الكُبرى. ثم أتتْ العناصرُ العسكريّةُ القادمةُ من الأطراف، على موجة جهاد الصليبيين، تحملها شهوةُ السيطرة والثروة، فأكملتْ ما بدأهُ هؤلاء ـ، لولا ذلك لكُنّا اليومَ في"شـامٍ" مُختلفٍ تمامَ الاختلاف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

62

الدرس الخامس: خُلاصـاتٌ ونتائج

 واليومَ، حين نرمي ببصرنا إلى أعماق ذلك التاريخ، الذي لخّصناه بكلماتٍ أعلاه، قارئينَ مُحلّلين، نرى في عُمق الصّورة موكبَ الأحزان، المُحرّكَ الأوّلَ لأولئك الأسلاف، ومُذ ذاك سلكوا ذلك الطريقَ التطوّريَّ الصاعدَ مدّةَ خمسة قرون. مثلما حرّك يومُ"كربلا" إخوانَهم في"العراق". 

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ﴾
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

63

الدرس السادس: مكتبـة البحـث

 مكتبـة البحـث 


ـ ابن الأثير،علي بن محمد الشيباني: 
     الكامل في التاريخ، ط. بيروت 1385هـ / 1965م. 
ـ ابن خلّكان، أحمد بن محمد: 
     وفيات الأعيان، ط. بيروت 1417 هـ / 1997. 
ـ ابن شدّاد، محمد بن علي: 
     الأعلاق الخطيرة في ذكر أُمراء الجزيرة، ط. دمشق 2006 م. 
ـ ابن شهرآشوب، محمد بن علي المازندراني: 
     مناقب آل أبي طالب، ط. بيروت 1412هـ / 1991 م. 
ـ الاصطخري، إبراهيم بن محمد: 
     المسالك والممالك، ط. مصر 1381 هـ / 1961م. 
ـ جعفر المهاجر: 
     أعلام الشيعة، ط. بيروت 1431هـ / 2010 م 
     التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسورية، ط. بيروت 1413هـ / 1992م. 
     حسام الدين بشارة أمير جبل عامل، ط. بيروت 1426 هـ / 2005م.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

الدرس السادس: مكتبـة البحـث

 ـ الحرّ العاملي، محمد بن الحسن: 

     وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط. بيروت، دار إحياء التراث العربي، لات. 
ـ خليل بن شاهين الظاهري: 
     زُبدة كشف الممالك وبيان الطُرُق والمسالك، ط. بيروت 1417 هـ / 1997. 
ـ الخوارزمي، المُوفّق بن أحمد المكي: 
     مقتل الحسين، ط. قم، لات. 
ـ الذهبي، محمد بن أحمد: 
     سِيَر أعلام النبلاء، ط. بيروت باعتناء بشار معروف، لات. 
ـ الطبري، محمد بن جرير: 
     تاريخ الرُسل والملوك، ط. مصر، دار المعارف، لات. 
ـ عباس القمّي: 
    نفَـس المهموم، ط. النجف 1375 هـ / 1956 م. 
ـ علي بن أبي بكر الهروي: 
     الإشارات إلى معرفة الزيارات، ط. دمشق باعتناء جانين سورديل 1953. 
ـ كامل القزّي: 
     نهر الذهب في تاريخ حلب، ط. حلب، دار القلم العربي، الطبعة الثانية، لات. 
ـ محمد السّماوي: 
     الطليعة من مشاهير الشيعة، ط. بيروت1422 هـ /2001م. 
ـ المسعودي، علي بن الحسين: 
     مروج الذهب ومعادنُ الجوهر، نشرة شارل بلّلا، ط. بيروت 1966 م. 
ـ نعيم سليم الزّهراوي: 
     حمص دراسةٌ وثائقيّة، ط. حمص 2003 م. 
ـ النُّعيمي، عبد القادر بن محمد: 
     الدّارس في تاريخ المدارس، ط. دمشق 1367هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الدرس السادس: مكتبـة البحـث

 ـ ياقوت بن عبد الله الحموي: 

 معجم البلدان، ط. بيروت، دار صادر، لات. 
     الحوليّات الأثريّة السوريّة. دوريّة تصدر عن مديرية الآثار في الجمهورية العربية السورية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66
موكب الأحزان