المواطنة والدولة مقاربات واتجاهات


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


الفهرس

 الفهرس

 

الفهرس

5

المقدمة

9

الطائفية والمواطنة في لبنان الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان

13

د: بولس عاصي

13

1-مقدمة عامة

13

2-التطوّر التاريخي للكيان اللبناني

16

3-المواطنية من منظور النخب

27

4-الطائفة ومركب الأزمات

34

الخاتمة

42

مراجع البحث

45

المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان:

47

د.غسان طه

47

تمهيد

47

1-بروز فكرة المواطنية

48

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

2-مبادئ المواطنية

51

3-علاقة المواطنية بالديمقراطية

52

4-المواطنية في دائرة الواقع

58

5-الطائف وإشكالية العبور نحو دولة المواطنة

63

6-الدولة العادلة في الإمكان اللبناني

68

7-الدولة العادلة في الميزان

71

8-خلاصة

76

المواطنة عند فقهاء الإمامية " من ابن ملّي البعلبكي إلى الشهيدين" :

81

د خضر محمّد نبها

81

1-     مدخل سؤالي وإطار البحث

82

2-     المواطنة والفقهاء

83

3-     مفهوم المواطنة في بحثنا

84

4-     الإمامية، والمجتمع، والهجرة

85

5-     مواطنة ابن ملّي البعلبكي ومحاربة الاحتلال (شهيد الوطن)

86

6-     ابن ملّي والمقاومة في لبنان: مقاربة وتأمّلات

89

7-     مواطنة الشهيدين و" الدعوة للانتماء والتعايش"

91

8-     الإمامية والعمالة: مقالة مملّة

94

9-     الشهيد الثاني وقَبُول الآخر

95

10-     الإمامية و" الأرشيف" و"النبذ" و " الهمّ الوطني"

98


 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ محمد مهدي شمس الدين نموذجاً :

101

د.حسين رحال

101

القسم الأول: مفهوم المواطنة

102

أولاً: في الشكل

106

ثانياً: في المضمون الثقافي

110

مفارقات غربية

113

القسم الثاني: المواطنة في الفكر الإسلامي

116

محمد مهدي شمس الدين ومسألة المواطنة

116

الانتماء: الأمة أم الوطن؟

118

كيف نتجاوز الوطني- الوطنية لمصلحة الانتماء الأممي؟

120

التحول الفكري نحو الوطن والمواطنة

123

المواطنة والمساواة

127

نحو مواطنة أكثر وضوحاً

129

مفهوم "أهل الذمة"

133

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

المقدمة

 المقدمة

 

شغل موضوع المشاركة السياسية جدلاًَ واسعاًَ في الأوساط الفكرية والثقافية والاجتماعية على الصعيد العالمي بالترافق مع صعود حركة حقوق الإنسان ومقولة المجتمع المدني, إلى المطالبة بالمساواة والحق في المشاركة السياسية والاجتماعية وغير ذلك من المقولات, وكذلك ترك هذا الموضوع سجالاًَ واسعاًََ على المستوى العربي والإسلامي بعد تقسيمهما إلى كيانات سياسية ذات أطر وحدود جغرافية مرسومة, ما ترك إشكاليات كثيرة حول مفهوم الوطن والمواطنة, وكيفية المشاركة في مجتمعات تحكمها أديان وإثنيات واتجاهات ثقافية متعددة.
 
 وبات السؤال الأكثر إلحاحاًَ حول إمكانية إقتراب فكرة المواطنة من المشترك الإنساني ببعدها الكوني والحقوقي, خصوصاً في عصر العولمة حيث تسعى الشعوب إلى تجاوز الحدود الجغرافية باعتبارها أمراً اعتبارياً لا يصمد أمام ما تفرضه  الإتفاقيات بين الدول أو أمام الغزو الثقافي لأصحاب التسلط والهيمنة, ما يطرح إشكالية مزدوجة , فهل من الممكن الحفاظ على مفهوم المواطنة في خصوصيات الثقافات والكينونات والطوائف ضمن الإقليم الواحد ؟ وهل بات من الممكن أيضاً الحفاظ على هذا المفهوم الضيق للمواطنة ضمن الإقليم الواحد بينما أن نفس هذا المفهوم آخذ بالتوسع والتشكل بما يتلاءم مع مفهوم المواطنة العالمي؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

4

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الطائفية والمواطنة في لبنان 

(الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)
 
د. بولس عاصي1
 
1- مقدمة عامة 
 
يمكن تعريف المواطنية بأنها حالة يضمنها العرف والقانون يحق بموجبها لأعضاء المجتمع تسيير الشأن العام على قدم المساواة وفي كنف الحرية.
 
ولو تتبعنا تاريخ فكرة المواطنية لرأينا أنها عُرفت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد لتشكل أرستقراطية مدنية، لأنها كانت تستثني النساء والعبيد والأجانب والأطفال أي أغلبية المجتمع. لقد أُسند مفهوم المواطنية إلى قيم وحُددت له غايات. فقد كانت أثينا القديمة تسنده إلى الآلهة والأساطير وروما القديمة إلى روح القانون وجوهره وتعيده دويلات القرون الوسطى إلى متطلبات الحريات الجديدة والثورة الفرنسية إلى قيم ثلاث: "الحرية، المساواة، الإخاء". ولم تكن المواطنية حقوقاً تُمنح للمواطنين وواجبات تقع على عاتقهم إلا لأنهم يشعرون بأنهم أعضاء في مجتمع توجهه قيم مشتركة، حتى وإن كانت غير مجمع عليها. وظل
 
 
 

1-أستاذ في الجامعة اللبنانية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الفكر الليبرالي ولفترة طويلة يتنكر لضرورة نهج سياسة اجتماعية، وكان يربط مواطني المجتمع المشترك بعضهم ببعض: "كل واحد منا يضع نفسه وكل قوته تحت إدارة إرادة عليا مشتركة".


وتميّزت المواطنية بالحركة والتطوّر. وهذا ما يتبين من مسيرتها التاريخية التي تشير إلى أن كل مرحلة قدمت مساهمة أغنت مفهومها رغم وجود فترات شهدت فيها انحسار هذا المفهوم. كما شهدت تناقضات ناشئة عنه. نذكر هنا تفجّر التناقضات الاجتماعية وبأشكال عنيفة في فترة الثورة الفرنسية في الوقت نفسه الذي عرف فيه مفهوم المواطنية تألقه وشموله.

لذا كتب جان جاك روسو: "يأخذ المشاركون (في المجتمع) كمجموعة اسم الشعب ويسمى المشاركون في السلطة السياسية مواطنين ويسمون رعية لخضوعهم لقوانين الدولة. هذه الكلمات رعية، سيد، مواطن هي واحدة".

ويرى بعضهم أن المواطنية مثل الديمقراطية والمجتمع نتاج المتناقضات والتسويات، المنازعات والتوافق، قيم مشتركة ومجابهات، أفكار تتكافل وتتعارض.

ومع ذلك يبقى تعريف المواطنية عملاً يبتعد عنه غالبية الكتاب معتبرين أن كل التعاريف أو المقاربات أكانت قانونية أم سياسية أم اجتماعية أم تاريخية أم فلسفية تواجه إشكاليات تتعلق بخصائص هذا المفهوم.

فمن المنظور السياسي ليست المواطنية مجرد ممارسة لحق

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

6

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الانتخاب، فالمواطن بمقتضى المواطنية يتمتع بحقوق تخوله ممارسة أفعال سياسية مثل حق الإضراب الذي اعتبره المجلس الدستوري الفرنسي حقاً له الصفة الدستورية مثل مبدأ استمرارية الخدمة العامة، والتظاهر وتشكيل أحزاب سياسية وجمعيات ونقابات. لذا يعتبر العمل النقابي على أنه المواطنية في المشاريع كما النشاطات الاجتماعية – السياسية الذي يعبر عن آرائه بكل الوسائل التي تندرج تحت مبدأ الحريات العامة والخاصة.


من المنظور العام ليست المواطنية محصورة في المجال السياسي وممارسة الحقوق الوطنية فهي تشمل كل المجالات التي تخصّ الحياة الاجتماعية ومنها علاقات العمل التي أخذت أبعاداً جديدة بعد ازدياد أعداد العمال والمواطنين، فالاختيارات التي تطال السياسة الاقتصادية تؤثر تأثيراً واضحاً في المواطنية.

كما أن اتساع اللامساواة والفوارق الاجتماعية وظاهرة تهميش أعداد كبيرة جداً من المواطنين تجعل مفهوم المواطنية بلا معنى بالنسبة لهؤلاء. ونذكر هنا تهميش المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة وما يترتب على ذلك من صعوبات في الاندماج في المجتمع وفي مشاكل متفجرة تنتظر الفرص المناسبة للتعبير عنها وتصل غالباً إلى مجابهات عنيفة ومطالبات مستمرة بالمواطنية الكاملة وصولاً إلى المشروعية الديمقراطية السلطة السياسية ومركز النشاط الاقتصادي وتخصصه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 2- التطوّر التاريخي للكيان اللبناني


لا يمكننا الكلام عن المواطنية في لبنان دون إبراز التطور التاريخي للكيان اللبناني انطلاقاً من صورة فخر الدين في المخيلة التاريخية الجماعية لدى جماعة من اللبنانيين كأسطورة تأسيسية للبنان الحديث.

بينما الواقع هو أن الأمير في توسعه لم يطمح إطلاقاً إلى تحقيق مخطط معين لجمع المناطق اللبنانية في دولة موحدة بل كان فقط يستغل ضعف الدولة العثمانية للانطلاق إلى أماكن من المناطق الشامية النائية كعنجر مثلاً.

ولعل هذا الواقع الذي يتميز بتوسع العصبية المحلية انطلاقاً من قانون التغلب وولاية الأطراف هو الذي يفسح في المجال لتأويل مفتوح قادر على رؤية مشروع فخر الدين مشروعاً مطاطاً يتسع ويضيق في الإطار السلطوي العثماني. ويعد انهيار السلطنة العثمانية وتدخل الدول الكبرى تأثر لبنان بالانتداب الفرنسي الذي رسم مستقبل لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع ربطه بالاقتصاد الفرنسي عن طريق زراعة التوت لتأمين المواد الخام للمصانع الفرنسية في مدينة "ليون" الفرنسية. ومن الوجهة السياسية شجعت السلطة المنتدبة التعاون بين الطوائف لا سيما الموارنة والسنة وقيام تجربة ديمقراطية فريدة عانت وما زالت من التناقض الطوائفي ومن تجربة الديمقراطية التوافقية التي تشل المبدأ الذي تقوم عليه الممارسة الديمقراطية بين

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 أكثرية وأقلية.


إذاً علام يقوم النظام اللبناني؟ هل هو نظام مواطنية، يقوم على مبدأ الحق الطبيعي، والعقد الاجتماعي والرابطة الوجودية أم هو، بالأحرى، نظام طائفي؟

إن السلطة في لبنان تقوم على نظام طوائفي، تعاقبي، دوري، يقوم على مبدأ العقد الطوائفي، ما يضرب الأساس الطبيعي للنظام الديمقراطي والإيديولوجيات الطائفية، في لبنان، مترسخة في التربية والاجتماع، فضلاً عن السياسة والاقتصاد كما لو كانت إيديولوجيات تكوينية، قدرية، بينما الفرد، أساس المواطنية، لا حضور له ولا وجود له إلا في إطار الجماعة الطائفية.
فما هي جذور الظاهرة الطائفية في لبنان؟ وعلاقتها به؟ والعوائق التي تخلقها لعدم بناء الدولة الحديثة، دولة المواطن؟

الجذور التاريخية للطائفية: بدأ بروز الطائفية في تاريخ لبنان الحديث بالترابط مع تصاعد الصراع الخارجي بين السلطنة العثمانية المسيطرة على لبنان والمنطقة، وبين تغلغل الدول الأوروبية التي بلغ التطور الرأسمالي فيها مرحلة متقدمة حملت معها الصراع للسيطرة على بلدان وشعوب وأسواق أخرى وإعادة اقتسام العالم. وفي هذا الإطار طرحت المسألة الشرقية: اقتسام تركة الرجل المريض المتمثل بالسلطنة العثمانية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 أ- نظام القائمقاميتين: 1840-1860. كانت أولى نتائج هذا الصراع استخدام التعدد الطائفي وإثارة الحساسيات لطمس الصراع الطبقي الذي تجلى بالعاميات الشعبية الفلاحية ولإقامة نظام القائمقاميتين، واحدة يسيطر عليها الدروز على جنوب خط الشام، والأخرى للمسيحيين.


انتهت هذه المرحلة بمواجهة الثورة الفلاحية (طانيوس شاهين) بأحداث فتنة طائفية عام 1859-1860. وقد برزت أغراض التدخلات الخارجية وتصاعدها واستخدامها الطوائف والمذاهب داخلياً في بروتوكول 1861-1864.

ب- نظام المتصرفية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى: 1861-1919. أعطى الدول الأوروبية، بحجة حماية الطوائف، دوراً مباشراً في الداخل اللبناني. فرنسا ترعى الطائفة المارونية، روسيا الأورثوذكس، النمسا الكاثوليك، وانكلترا الدروز... الخ. وتبقى الطائفتان السنية والشيعية تحت رعاية وسلطة تركيا. وقد أُنشئت على هذا الأساس متصرفية جبل لبنان، مع لحظ مراعاة الطوائف في نظامها ومجلسه.

ج- مرحلة الانتداب الفرنسي: 1920-1943: تم تقسيم وتقاسم المنطقة وفقاً لاتفاق "سايكس بيكو". ومع بدء

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الانتداب الفرنسي وإعلان لبنان الكبير بحدوده الراهنة عام 1920، برزت مراعاة الطوائف في تركيبة المجالس لكن دون اعتماد توزيع المواقع الرئيسة على طوائف محدّدة.


دستور 1926 لم يتضمن نصاً يحدد التوزيع الطائفي رغم تضمنه مسألة مراعاة الطوائف في المجالس. "كان شارل دباس الأرثوذكسي رئيساً للجمهورية، ثم أيوب ثابت الإنجيلي".

بالإضافة إلى تثبيت الطائفية في المجالس التمثيلية، قام الانتداب بتثبيت عناصر التبعية في البنية الاقتصادية - الاجتماعية.

د- مرحلة الاستقلال: كان التوافق الذي جرى عام 1943 بين ممثلي طوائف (الميثاق الوطني والصيغة)، والذي أوجد عرفاً (اتفاقاً غير مكتوب)، بتوزيع المناصب الرئيسة للسلطة على أساس طائفي، مرتبطاً بحالة ظرفية ومؤقتة بهدف نيل الاستقلال، وتمهيداً لبناء الدولة المستقلة، (كلمة رياض الصلح) لكن البقاء على البنية نفسها للسلطة، وترسيخها في النظام القائم، أبقى الدولة والاستقلال في دائرة الحالة الظرفية رغم الإقرار بسلبياتها الكبيرة على الدولة والوطن والمجتمع. (المادة 95 من الدستور نصّت على اعتبار أن الطائفية مؤقتة). (الحالة الظرفية تتمثل في موقف فريق من المسيحيين يتمسك ببقاء فرنسا، وبمناداة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 فريق من المسلمين بالانضمام إلى سوريا، فكان الاتفاق على الميثاق والصيغة تحت عنوان طمأنة المسيحيين سبيلاً مسهلاً للاستقلال). كانت الكوتا الطائفية حتى عام 1989 (الطائف) على أساس إعطاء المسيحيين نسبة 7 على 6 للمسلمين في مؤسسات الدولة.


أحداث 1958 والحرب الأهلية 1975: لقد أدت الانقسامات التي جرى فيها استخدام الطائفية في ظل تصاعد أزمات النظام داخلياً واحتدام الصراع العربي الإسرائيلي وتقدم مشروع أيزنهاور الذي أجج الصراع الطائفي في عام 1958 والأحداث اللبنانية الفلسطينية عام 1969 ما أدى إلى إشعال الحرب الأهلية التي تفجّرت عام 1975، والتي تداخلت فيها العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية لزيادة طابعها التدميري. وقد كشفت هذه الحرب مدى الضرر والخطر الذي ينجم عن الطائفية على الشعب والوطن.

هـ - اتفاق الطائف 1989: أقر المناصفة بين ممثلي المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وموظفي الفئة الأولى. رغم ما جاء في اتفاق الطائف الذي أصبح في صلب الدستور اللبناني، من ضرورة تشكيل هيئة وطنية لبحث كيفية تجاوز الطائفية، وضرورة انتخاب أعضاء المجلس النيابي الثاني خارج القيد الطائفي، مع استحداث مجلس

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 شيوخ للطوائف، فإنه كرّس بالنص التقاسم الطائفي والمذهبي للمواقع الرئيسة للدولة. استتبع ذلك الممارسات السلطوية التي طغى عليها طابع المحاصصة الطائفية والفئوية، وترسيخ وتفشي الطائفية في الدولة والمجتمع. ولم يجرِ تشكيل الهيئة الوطنية لبحث كيفية تجاوز الطائفية، ولا انتخاب أعضاء المجلس النيابي الثاني بعد الأول القائم على المناصفة، خارج القيد الطائفي.


الايدولوجيا الطائفية: أدى تفشي الايدولوجيا الطائفية والانطلاق منها في النظر إلى تكوين الدولة ومؤسساتها وفي المجالات السياسية والتربوية والإعلامية وفي الموقف من الانتماء الوطني والقومي، بالإضافة إلى التنافس على المحاصصة ومواقع النفوذ، أدى إلى نشوء حالة من التناقض يستحيل معها تثبيت التوازنات الطائفية، وجعل الخلل هو السائد فيها منعكساً سلبياً على مجمل الحياة السياسية وعلى الاستقرار والوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومكّن ويُمكّن من تحويل معظم القضايا والمشكلات التي يواجهها شعبنا وبلدنا إلى معضلات كثيراً ما تصل إلى تشنجات وانقسامات طائفية عمودية تهدد وحدة الشعب والوطن.

الطائفية والوطن: تؤدي الطائفية وثقافة الطوائف المبنية على الانطلاق من مصلحة الطائفة ودورها وموقعها حيال الطوائف الأخرى

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

  وحقوقها في ظل البنية الطائفية للنظام، إلى الالتباس والضياع بين مفهوم الوطن والانتماء إليه، وبين مفهوم الطائفة والانتماء إليها. وينجم عن تعميم ثقافة الطائفة بديلاً من ثقافة الوطن المبنية على وحدة المواطنية، إضعاف الرابط والشعور الوطني كجامع أساس مشترك لكل الشعب، لصالح أولوية الطائفة والمذهب الذي يصبح العصب المشترك الأول بين المنتمين إليه. ويؤدي النظر إلى الوطن ومصلحته من منطلق مصلحة الطائفة وزعاماتها التي تتلطّى بها لخدمة مصالحها هي، إلى جعل الولاء للطائفة ورموزها قبل الولاء للوطن. كما يؤدي تعدد مصالح الطوائف وتباينها وتناقضها بعضها مع بعض إلى إضعاف وحدة الشعب والوطن. وإن حالة التناقضات الداخلية هذه تدفع قيادات هذه الطائفة أو تلك إلى المراهنة والاستقواء بالخارج في مواجهة خصومها الداخليين، وتستدرج التدخلات الخارجية، ما يحوّل الوطن إلى ساحة لفعل وتصادم العوامل الخارجية الإقليمية والدولية، ويجعل كل تغير أو خلل يطرأ في التوازن الخارجي، ينعكس على الاستقرار الداخلي.


الطائفية والكيان والنظام: اعتبار كيان لبنان مجموع كيانات طائفية يخلق حالة ارتباط عضوي وملتبس بين النظام والكيان. ويرمي هذا الأمر إلى تأبيد النظام الطائفي، تحت حجة أن تغييره يهدد الكيان بالتفكك وسقوط العيش المشترك، في حين أن الشعوب تغيّر أنظمتها في ظل بقاء كيانات بلدانها الوطنية. وإذا كان النظام

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

  الطائفي منع تحويل الكيان إلى وطن، فإنه من جهة أخرى عجز عن إقامة دولة حديثة لتبقى الدولة الطائفية القائمة مجموعة مزارع للطوائف والمذاهب وزعاماتها.


الطائفية والدولة: الدولة في لبنان يتداخل فيها استخدام العامل الديني بصيغته الطائفية وعبر الزعامات والمرجعيات السياسية والروحية، مع العامل المدني المرتبط بالحياة المدنية للمجتمع، وهي أشبه بفيدرالية طوائف منها إلى دولة بالمعنى العصري الحديث.

الدولة السيدة المرجوة في لبنان هي الدولة التي تبسط سلطتها وقوانينها على الجميع داخل حدودها، كي تستطيع فعلياً ممارسة سيادتها الوطنية في وجه التحديات الخارجية.

البنية الطائفية للسلطة والنظام، تتيح التداخل والتقاسم، كما يجري، بين سلطة الدولة وسلطات الطوائف. بدلاً من أن يكون دور الدولة وسلطتها هو السائد والوحيد في مختلف مجالات حياة الدولة والمجتمع، والضامن لوحدة اللبنانيين، يسمح النظام الطائفي بتزايد دور الطوائف ومرجعياتها على حساب الدولة، من السياسة إلى التربية، والإعلام، والأحوال الشخصية، وإلى تطييف الحياة السياسية والتعامل مع اللبنانيين كرعايا طوائف وليس كمواطنين، ما يبقيهم كمجموعة أقليات طائفية أكثر مما يجعلهم شعباً ومجتمعاً واحداً.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 لبنان مكوّن من مجموعة أقليات (طوائف ومذاهب). ويؤدي النظام الطائفي فيه إلى جعل كل أقلية منهم تشدد على التمايز والتباين عن الأخرى ويدفعها لتغذية عصبية معينة لجمع المنتمين إليها لتعزيز موقعها. وينجم عن ذلك بقاء الحساسية والحذر وأحياناً التنافر بين هذه الأقليات، والخوف من هيمنة واحدة على غيرها أو على الآخرين. ولا يستقيم الخروج من هذه الحالة إلا بإقامة دولة ديمقراطية حديثة على أسس علمانية تفصل الدين عن الدولة وتضمن حرية الفكر والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية للجميع، وتوفر الشروط والضمانات الفعلية لاحترام حقوق الإنسان وتعزيز تماسك الدولة وفاعليتها وبناء وحدة وطنية صلبة تكون ركيزتها قانوناً موحداً للأحوال الشخصية وقانوناً جديداً للأحزاب يمنع العمل للأحزاب الطائفية والمذهبية ويحصر العمل على مساحة الوطن بأربعة أحزاب يمين، يسار، تشكل من مختلف مكونات الشعب اللبناني وقانون انتخاب على أساس اللائحة الحزبية والنظام النسبي. وبعد إقرار مثل هذه المبادئ تصبح عملية إلغاء الطائفية السياسية سهلة المنال.


الطائفية والديمقراطية: الطبيعة الطائفية للنظام اللبناني تتعارض كلياً مع الديمقراطية التي تعني المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات إلى أي طائفة أو منطقة انتموا، بينما يعتمد النظام الطائفي معايير تميز بين طائفة وأخرى سواء

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 في توزع المواقع الأساس للسلطة (الرئاسات الثلاث) أم في السلّم المتعدد الدرجات في الحقوق بين المواطنين تبعاً لحجم وحصة الطوائف التي ينتمون إليها. وهذا التفريق والتمييز بين المواطنين يتنافى مع المبادئ الديمقراطية، ومع احترام حقوق الإنسان.


بقاء الطائفية والتوزع الطائفي في قانون الانتخاب لا يحرم الشعب والبرلمان صحة التمثيل فقط وإنما يؤدي في العديد من المحافظات والدوائر الانتخابية إلى جعل الثقل العددي الأكبر لطائفة ما، هو العامل المحدد لإنجاح أو إسقاط ممثلي طوائف ومذاهب أقلوية، ما يتنافى أيضاً مع المنطق الديمقراطي حتى في النظام الطائفي ويكرس صفة التبعية المطلقة في تأليف اللوائح الانتخابية.

الطائفية والإدارة: يفرض النظام الطائفي كممر إجباري للحصول على وظيفة وحتى خدمة، نمطاً من السلوك للمواطن يجعله محكوماً بالحصول على تزكية مرجعية أو زعامة طائفة. وهذا ما يجعل المواطن مرتهناً وتابعاً لهذا الزعيم أو المرجع، ويشيع ذهنية الارتهان والمحسوبية والوصولية بغرض إعادة إنتاج بنية السلطة والطبقة السياسية نفسها.

ينجم عن المظلة الطائفية واحتماء المحاسيب وحتى الزعامات بها، فساد وإفساد يستشري، وإضعاف دور هيئات الرقابة في الإدارة، إلى جانب تناقض هذا النمط المتبع بالأساس مع معايير الكفاءة والنزاهة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

17

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 في الوظيفة. وهذا ما يضعف الإنتاجية ويعرقل خدمة المواطنين، ويدفع المواطن للجوء إلى وساطة الزعيم والنافذ لإنجاز معاملته ليصبح مرتبطاً به. والارتباط عضوي بين النظام الطائفي والفساد.


الطائفية والشأن الاقتصادي: إن المصالح العامة للفئات المهيمنة على النظام والمكونة من قوى طائفية ومذهبية تمنع بناء دولة حديثة كما جرى في تجربة البلدان المتطورة، تلبي حاجاتها وتخدم مصالحها العامة بوتائر سريعة وبتعقيدات أقل. وهذه تستلزم بنية حديثة للدولة قادرة على مواكبة التطور الجاري في العالم، وعلى تأمين الاستقرار في السلطة والمجتمع، وهذا يتعارض مع وجود سلطة ونظام طائفي عشائري متخلف ومصدر للتجاذبات والتناقضات والهزات في السلطة والمجتمع، ينجم عنها أزمات وتفجيرات دورية وأضرار وخسائر كبيرة اقتصادياً.

رغم ذلك فإن الجانب الآخر للطائفية يلائم مصالح البرجوازية. ويتجلّى ذلك في استخدام النظام الطائفي كوسيلة لتشويه الوعي الطبقي والاجتماعي، لتفريق وتقسيم صفوف الطبقة العاملة والفئات الشعبية الأخرى على أساس عمودي طائفي ومذهبي، تجنباً لتوحيدها في النضال النقابي والشعبي والسياسي، دفاعاً عن قضاياها وحقوقها ومصالحها المشتركة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24
 

18

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 3- المواطنية من منظور النخب


إن المواطنية هي شكل من أشكال الانتماء إلى الوطن والمجتمع، وهذا الانتماء يفرض وجود ارتباط بين الوطن والمواطن، كما أنه يفرض حقوقاً على كل واحد منهم تجاه الآخر.

هناك عدة خطوات يجب اتباعها لكي يرتقي مجتمع متعدد الطوائف إلى تحقيق المواطنية التي تبدأ من الأسرة ومن ثم المدرسة، اللتين تعتبران من المؤسسات الأساس في بلورة مفهوم المواطنية وصولاً إلى الجمعيات والمجتمع الأهلي فالأحزاب السياسية العقائدية.

ومن خلال بعض المقابلات حاولنا معرفة آراء النخب حول السبيل الذي يقودنا إلى بلورة هذا المفهوم، انطلاقاً من الواقع السياسي اللبناني السيئ وغير المطمئن والذي يتخبّط بالكثير من المشاكل، وما من جهود بشرية تحاول التخفيف منها أو إعطاء حلول، وذلك لعدّة أسباب:

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

19

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 1- النظام الطائفي والمذهبي.


2- عدم الوعي الشعبي وجهله لمفهوم المواطنية.

3- الولاء لرئيس الطائفة.

4- انعدام الهوية.

5- الوراثة في الحكم.

6- نظام الوصاية.

7- سوء ممارسة النظام الديمقراطي في مجتمع غير متجانس.

8- عدم التوافق بين السياسيين.

9- الفروقات الاجتماعية بين العاصمة والمحافظات.

10- غلاء المعيشة.

والتقى الجميع على أن التركيبة السياسية هي وراء التقوقع الطائفي، ويظهر ذلك من خلال تقسيم المناصب السياسية بحسب المصالح والمحسوبيات والإرث السياسي من الوالد إلى الابن فالحفيد، محافظة على مصالحهم واستمرارهم ما يحرم الطرف الآخر في المجتمع من تحقيق غاياته ومصالحه. متسائلين: هل غياب النظام العلماني والأحزاب العلمانية يدفع كل فرد إلى اتباع زعيم طائفته الديني والسياسي؟

أما الحلول المقترحة لإخراج البلاد من أزمتها فهي:

1- إلغاء الطائفية السياسية.

2- تعديل المناهج التربوية لبلورة مفهوم المواطنية.

3- تفعيل دور الأحزاب السياسية الديمقراطية والعلمانية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26
 

20

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 4- تعديل قانون الانتخاب بحيث يأتي الرجل المناسب في المكان المناسب.


5- إفساح المجال أمام الشعب لمحاسبة ممثليه في السلطة.

6- تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

7- عدم الارتهان للخارج.

8- فصل الدين عن الدولة والخروج من النظام الطائفي المسيطر.

9- إعطاء الأفراد جميع حقوق المواطنية دون النظر إلى المذهب أو العدد.

10- التوافق بين السياسيين حول مفهوم لبنان كوطن للجميع دون تقديم طائفة على أخرى.

هذه المقترحات قد توصل إلى المواطنية إذا ما استتبعت بنصوص قانونية تعزز مبادئ المواطنية التي أساسها إلغاء التوظيف على أساس طائفي ومذهبي. وبالمقابل فإن الحرب الأهلية التي فرضت على الشعب أجبرته على التروّي للحد من الفرز الطائفي في زمن القتل على الهوية.

فالمجتمع اللبناني يتحدّر من مجموعة طوائف أتت من بلدان مختلفة واستوطنت في أماكن محدّدة محدثة تجمعات طائفية. والمهم إعادة دمج الفئات الاجتماعية في بوتقة وطنية واحدة.
فالتعددية الطائفية في لبنان تفرض قانون انتخاب يراعي كل

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الطوائف. ومن المقترحات التي نالت التوافق، اعتماد قانون انتخاب نسبي على امتداد الوطن أو القضاء وقانون آخر يحوّل الأقضية إلى محافظات بحيث ينتخب الشعب مجلس المحافظات حسب الواقع الديمغرافي، وبالتالي هذه المجالس تنتخب المحافظ بعيداً عن انتمائه الديني والمذهبي بل حسب كفاءته وقدراته على تحقيق مصلحة الجماعة، ويتمثل الشعب من خلال مجلس المحافظة المنتخب بعضوين على الأكثر في كل قرية.


أما فيما يخص البرامج التعليمية، الأحزاب، الجمعيات، المجتمع الأهلي والإعلام فهي تتأثر بالقوى الطائفية في بلورة مفهوم المواطنية الحقة ولا تؤدي وظيفتها بشكلها الصحيح.

فإذا نظرنا إلى البرامج التعليمية لوجدنا أنها تعزّز مفهوم الطائفية من خلال إهمال مادة التربية المدنية التي تعتبر أساس بلورة مفهوم المواطنية، وعدم وجود كتاب تاريخ موحّد بسبب تفرّد أشخاص معيّنين بتأريخ الماضي بحسب تطلعاتهم ووجهة نظرهم.

وبالنسبة للمدارس فهي مقسّمة حسب الانتماءات الدينية (المسيحية، الإسلامية) والتي تنقل لطلابها أفكارها الدينية والعصبية الطائفية عبر حصصها الدينية.

أما فيما يتعلق بالأحزاب والجمعيات والمجتمع الأهلي فقد اقتصر دورها على النشاطات الثقافية بالرغم من دورها الكبير في بلورة مفهوم المواطنية. ولكن بعضهم يرى أن هناك جمعيات تسعى بإخلاص لإيصال

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

22

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 صوتها ولكن القدرة المالية عند أصحاب المصالح تقف عائقاً أمام هذه الجمعيات. وبالمقابل كان هناك اتفاق شبه تام حول الأحزاب اللبنانية على أنها أحزاب سياسية، طائفية ومذهبية بحتة، وتستغل إهمال الحكومة لشعبها لتلعب دور الحاضن لمحازبيها فتقدّم لهم الخدمات التي تعجز هذه الدولة عن تقديمها. ففي كل الأنظمة الديمقراطية يلعب الإعلام دور السلطة الرابعة التي تعكس الرأي العام وتنقل مدى صلاحية النواب لمحاسبتهم من قبل الشعب. ولكن في الديمقراطية اللبنانية المسماة توافقية يلعب الإعلام دور السلطة التابعة لممثلي الشعب وأصحاب النفوذ التي تساعد السياسيين على تعبئة الشعب طائفياً ومذهبياً. ولكن بالرغم من هذه النظرة التشاؤمية هناك بعض وسائل إعلام تلعب دوراً إيجابياً لمصلحة المواطنين فهي تنقل الأحداث فور وقوعها، وتبقي المواطنين على بيّنة من كل التطورات التي تجري في المجتمع اللبناني.


وقد اتفقت أغلبية النخب على أن البرامج الحكومية لا تساعد في قيام إنماء متوازن مناطقياً وطائفياً، بحيث إن أغلبية المشاريع التي يمكن أن تحل المشاكل الاقتصادية لأي منطقة، كلها تنشأ وتنفذ في العاصمة بيروت في حين أن البقاع والجنوب والشمال تفتقدها، وهذا ما يجعل لبنان منقسماً إلى مناطق محرومة ومناطق غير محرومة.

وهناك نخب عارضوا الإنماء المتوازن وشجعوا الإنماء المتوازي مع بقية المناطق، لأن المتوازي يبدأ قبل الإنماء المتوازن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

23

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 فالمشاكل والاختلالات التي عاناها المجتمع اللبناني كلها أتت من خلال الحكومات المتعاقبة بعد الطائف، التي لم تطبق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب. فالفئة الحاكمة في المجتمع اللبناني تقوم بتقسيم الوظائف بحسب المحسوبيات، بغض النظر عن كفاءة المرشحين واختصاصهم، وأدخلت أيضاً الحكومات المتعاقبة ظاهرة جديدة وخطيرة إلى المجتمع اللبناني وهي البطالة المقنّعة إذ إن هناك الكثير من الموظفين الذين يحتلّون مراكز ويتقاضون رواتب دون أي مقابل ودون أي جهد بشري.


وبسبب هذه السياسة للحكومات المتعاقبة نرى تعارضاً بين الممارسات الحكومية والممارسات الشعبية من خلال النظرة إلى المواطنية. وهناك اتفاق أيضاً حول فصل الدين عن الدولة، فالدين لرجال الدين والسياسة لرجال السياسة، فلا يمكن أن نسأل أستاذاً مدرسياً عن أعمال النجارة وبالعكس، ولا يمكن أن نسأل طبيباً عن أعمال النجارة. وهذا هو الحال بالنسبة للدين والسياسة. فالدين لله والوطن للجميع. وبالمقابل هناك فئة دعت إلى محاربة العلمانية ومحاربة كل شخص يدعو إليها. وإن تطبيق المواطنية الحقة من شأنها أن تخرج لبنان من مشاكله السياسية بحيث إن الفرد يغلب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. وإذا اجتمع كل أفراد المجتمع حول هذه الفكرة فمن المؤكد أن لبنان سيخرج من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية.

وكان لاتفاق الطائف دور كبير في إدخال لبنان في العصبية بحيث

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

24

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 وسّع الفجوة السياسية الدينية عبر تقليص مسؤوليات رئيس الجمهورية أي مسؤوليات الطائفة المارونية وتفعيل مسؤوليات مراكز سياسية أخرى. بالإضافة إلى ذلك فقد لعب الطائف دوراً أساساً في الخلاف الطائفي الداخلي، فالموارنة يتقاتلون للوصول إلى المركز السياسي الخاص بهم والسنّة كذلك والشيعة. وكل فريق يطلب تمثيلاً لطائفته حتى يصل إلى مبتغاه الخاص.


وهكذا كل فئة تقف وراء متراس طائفتها للرد على الطائفة الأخرى. وكل هذا الاقتتال الطائفي أدى إلى إلغاء التفكير الوطني.

إن البقاع يمثل شريحة جغرافية كبيرة من أرض الوطن، وهو جزء لا يتجزأ منه متأثراً بمشاكله، ولكنه يختلف عن باقي المناطق في نظرته إلى الخلافات السياسية وهي أقل شدّة ووطأة، فالبقاع يضم فئات من مختلف المذاهب والطوائف ويتواصلون فيما بينهم وتحكمهم الجيرة والتعاون أكثر من باقي المناطق، وذلك يعود إلى التعاون والتضامن بين أهاليه.

وأغلبية النخب يأسفون على حال لبنان الحاضر وخاصة عندما يسمعون أحاديث أجدادهم عن مواطنيتهم القديمة وتفضيل العيش المشترك على المراكز السياسية، وتفضيل النخوة الوطنية والأخوة على المصالح الشخصية.

فهم يريدون لبنان الأخضر الذي يمتاز بطيبة شعبه الجبّار. يريدون لبنان الحاضن لشعبه، لبنان الذي يمتاز بشفافيته. وبالمقابل يريدون

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

25

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

  المواطن العلماني الجريء القادر على فرض رأيه على من هو أعلى منه وأقوى منه.


وأخيراً، ترى النخب أن مستقبل لبنان يرتبط بالمواطنية، فكل وطن يمر بالمشاكل، ولكن السؤال كيف تخطيها؟

4- الطائفة ومركب الأزمات

إن الأزمات التي يمر بها لبنان مع الأسف هي أزمات طائفية أو مذهبية أو في قليل من الأحيان لها البعد السياسي الصاخب. إذاً ما هي مشكلة لبنان؟ يمكن للمطّلعين أن يقولوا إن المشكلة اللبنانية هي مشكلة عيش حقيقي بين الطوائف، التكاذب والتعايش الذي يُرفع شعاره دائماً يسقط مع كل هزة ريح. لهذا السبب نقول يجب التفتيش عن مكونات صلبة لقيام النظام السياسي الحديث. فلنكن موضوعيين ونصارح بعضنا بعضاً، إن النظام الطوائفي تشكل بناءً لرغبات خارجية ويستمر انطلاقاً من دعم الخارج لهذه الطائفة أو تلك. كيف نخرج من الهيمنة المارونية إلى الهيمنة السنية فالهيمنة الشيعية؟ فإذا كان لبنان يتألف من ثماني عشرة طائفة كيف سنوفق بين هذه المكونات؟ من هنا كانت فكرة المواطنة أي أن نحمل مفهوم الإنسان كقيمة للإنسان نفسه لا أن نترك الإنسان عرضة لمزاج زعيم الطائفة أو المسؤول الطائفي وتعلقه بمذهبه وطائفته. من هنا الفكرة الأساس أن يُحترم الإنسان كفرد. وانطلاقاً من احترام الإنسان كفرد فكرنا بمسلمات أساس انطلاقاً من

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

26

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 التجارب الكبيرة التي عرفتها المجتمعات المسيحية حول التحول الكبير من الدولة الأمة في أوروبا والصراع الكبير الذي عشناه بين الكنيسة والملكية واستمر هذا الصراع طويلاً بين الدين ومفهوم المؤسسة السياسية إلى أن تفجر هذا الصراع وانتصرت الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر وأدى ذلك إلى ضرب المكونات السياسية الدينية ورفع شعار فصل الدين عن الدولة. وعايشنا التحول الكبير من الدولة التي ركيزتها المسيحية إلى الدولة التي ترتكز على القانون الوضعي المدني. هذه التحولات نقلت أوروبا وعلى رأسها فرنسا من مجتمعات متخلفة إلى مجتمعات متطورة وأصبحت تضاهي في التأثير بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس. إن التجارب التي عرفها لبنان من تدخلات خارجية من عهد القائمقاميتين إلى التدخل الخارجي حين كانت كل دولة تحمي طائفة محددة، هذا كله أجَّج الصراعات الطائفية في لبنان. 


ما زلنا نعيش في مرحلة ما بعد الاستقلال التعقيدات التاريخية السلبية، بين الطوائف ما أدى إلى هذه الخلخلة الطائفية والمذهبية منذ قيام لبنان حتى اليوم. لن أفرق بين طائفة وأخرى لأن النظام السياسي المبني على طوائف ومذاهب أدى إلى هذا البنيان السياسي الهش الذي جعل لبنان عرضة لكل هبة ريح داخلية، إقليمية أو دولية، يتأثر بها ويستنزف قواه. وما زلنا نعيش هذا المسلسل منذ 1860 وحتى اليوم. من هنا اقترحنا تطبيق مبدأ المواطنية. المواطنية كمفهوم هي شكل من أشكال الانتماء إلى الوطن وإلى مجتمع مدني ينخرط فيه المواطنون

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

27

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 بملء حريتهم، معبرين عن إرادتهم بالعيش معاً متضامنين في بنائه من خلال المؤسسات الرسمية والخاصة ومستعدين للذود عنه عندما يهددهم عدد من داخل وخارج، وذلك بدعم المؤسسات المختصة بشكل محدد لها حسب القانون.


إذاً في هذا التحديد الشامل لمفهوم المواطنة يكون للإنسان حقوق وعليه واجبات انطلاقاً من قيمته كفرد وليس من قيمته كشخص ينتمي إلى طائفة أو مذهب أو ما شابه. من هنا قدمت المواطنية الإنسان كفرد له قيمة مستقلة وسابقة على الانتماء إلى الطائفة والعائلة والمذهب. هذا أولاً في مفهوم المواطنية. فالمواطنية تهدف فيما تهدف من وراء ذلك إلى تعزيز قدرات المجتمع المدني لكي يكون له التأثير في تغيير الذهنية السائدة وصولاً إلى المبتغى من قيام الدولة المدنية.

ما هي شروط الدولة المدنية؟ هي دولة تمثل جميع المواطنين وتحمي جميع الحقوق وتأخذ موقفاً حيادياً من الجميع، ونتيجتها المؤسسات القادرة والعادلة، فتطبق الدولة المدنية القانون المدني على الجميع دون تمييز. إن تطبيق قوانين الأحوال الشخصية يكون مع مراعاة قوانين كل طائفة في بلد متنوع كلبنان. والقاضي المدني هو الذي يبتُّ في هذه النزاعات، وهي تكفل لكل إنسان حق اختيار الدين الذي يريد، كما عليها أن تحترم خيار من يصرِّح بأنه لا ينتمي إلى أي دين. الدولة المدنية التي مصدرها المجتمع المدني تحترم كل الأديان ولا تنحاز إلى دينٍ معين، ويكون دستورها مدنياً وقوانينها مدنية وتستمد شرعيتها من صناديق

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34
 

28

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 الانتخاب والقانون الذي ينظم هذه الانتخابات. الدولة المدنية تعبر عن مصالح الناس مهما اختلف الدين أو المذهب أو غيره، لأنها تصرُّ على فصل الدين عن الدولة، وهذه قضية للنقاش أيضاً بين كل المكونات التي تتألف منها، فميزات الانتماء إلى الدولة المدنية تسمح بالتمتع بالحقوق اللازمة للشخص والالتزام بواجباته وليس التمتع بقانون الالتزام بالطائفة أو المذهب. وهنا الفرق كبير، ما هي الحقوق الشخصية للفرد في الدولة المدنية؟ الحقوق الفردية للشخص تتلخص بالحرية التي كفلها الدستور لكل أبناء الوطن والمساواة أمام القانون والعدالة دون استنساب وممارسة الديمقراطية بأبهى صورها ونبذ العنف مهما كان نوعه.


أما الحقوق الاجتماعية في الدولة المدنية فتتلخص بالتعليم المجاني وتأمين العمل والعناية الصحية والحفاظ على البيئة.

أما الواجبات فهي التشبث بالوطن والحفاظ على وحدته وحريته وسيادته واستقلاله. ويتجلى ذلك بنبذ منطق الميليشيات والاستقواء بالخارج ما يؤدي إلى تصدع الوحدة الوطنية والخوف على المستقبل والمصير وانعدام الثقة وتفويت فرص العمل بسبب قلة الاستثمارات وتكاثر أعداد المهاجرين بحثاً عن عمل، وفي كثيرٍ من الأحيان عن أوطان بديلة، وهذا ما نعيشه في هذه الأيام العصيبة.

أيها السادة لا يمكن لهذه القضايا أن تطبق إلا بقيام دولة قادرة وعادلة بمؤسساتها التي تقدم أمثولة في الانضباط وتطبيق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب وسياسة الثواب والعقاب لأن الدولة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35
 

29

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 المدنية تقوم على القانون الوضعي وتحدُّ من هيمنة الطوائف على الدولة ولكنها لا تدعو إلى الإلحاد، بل تحدُّ من تدخل الطوائف والمذاهب في عمل الدولة، أما المستويات الثلاثة التي تقوم عليها هذه الدولة، 


فهي أولاً: الديمقراطية التي تقوم على التسامح وضمان حرية التعبير لكل الأفراد عن معتقداتهم السياسية والفلسفية وحتى الدينية شرط أن لا تتعارض ومشاريع وبرامج وقوانين الدولة المدنية.

ثانياً: الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية لكي تقوم دولة الحق والقانون.

ثالثاً: العدالة: لا يكفي للدولة المدنية أن تكتفي بالديمقراطية الشكلية بل عليها أن تطبق مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وحق الأقلية في مراقبة أعمال الحكومة كي لا تنزلق الحكومات التي تدعي الديمقراطية إلى الديكتاتورية. إن الانطلاق لتغيير المفاهيم السائدة في المجتمع اللبناني يتطلب أولاً: برنامجاً تربوياً موحداً لكل المواطنين، ثانياً: إلغاء التمييز الطائفي في الوظائف والمؤسسات، ثالثاً: إعلاماً وطنياً موحداً، رابعاً: قانوناً موحداً للأحوال الشخصية، خامساً: قانون أحزاب جديداً يتوافق والمبادئ المذكورة أعلاه، سادساً: قانون انتخاب يعيد النظر بالدوائر الانتخابية ويطبق مبدأ النسبية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

30

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 إن هذه المبادئ طرحناها في منطقة البقاع على مجموعة من الشبان. توجهنا إلى النخب البقاعية من بعلبك الهرمل إلى قضاء زحلة فقضاء البقاع الغربي وملأنا مئتي استمارة حول هذه المبادئ وحصلنا على نتائج في بعض الأحيان مشجعة، وفي بعض الأحيان كان هناك تقبّل وفي قليل من الأحيان كان هناك رفض لأن المعاناة كبيرة في كل الطوائف والمذاهب من عدم عدالة النظام السياسي الذي نعيش في ظله. وأصارحكم القول أن المواطنين كل المواطنين في البقاع يتمنون العدالة، يتمنون فرص العمل، يتمنون النظام السياسي العادل والمؤسسات العادلة، وتطبيق الأمن والقانون على الجميع. ولكن هناك تخوف، فقد تبين معنا من خلال الإحصاءات أن 25 أو26 % بالمئة يحبذون القانون الموحّد للأحوال الشخصية، بينما 75 بالمئة يقولون إن لكل طائفة ولكل مذهب خصوصيته ويجب الاحتفاظ ولو مؤقتاً بنظام المحاكم الشرعية لدى المسلمين أو لدى المسيحيين. لهذا نقول إن هذه المبادئ تُقبل في بعض اللحظات وقد ترفض في لحظات أخرى ولكن نقول إن لبنان، صدِّقوني، من خلال القراءات التاريخية التي اطلعتم عليها، لن يتمكن من الاستمرار في ظل ثماني عشرة طائفة على الرغم من الذين ينظِّرون لهذا العيش، هناك من يقول إن لدى المسيحيين رسالة عيش مشترك ويقول إن لبنان رسالة تعايش، كما قال قداسة الباب هو رسالة محبة وسلام إلى كل العالم العربي. هذه كلها كلمات لا تعالج المشاكل الحقيقية البنيوية التي يعيشها النظام السياسي اللبناني،


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

31

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 فلنفكر كلنا بمبدأ كيف نصل إلى مقاربة هذه القضايا لكي نصل إلى حلول لهذه المشاكل التي يعيشها لبنان. أصدرت دراسة بسيطة في عام 1996 حول القانون الأجدر للانتخابات وصدرت في الجرائد وأخذت الكثير من النقاشات كأن يوزع لبنان إلى عشر محافظات تشتمل على أقليات طائفية من الجميع دون أن تؤثر واحدة على أخرى. وافترضنا تقسيم لبنان على عشر محافظات عرضية من البحر إلى الجبل توزع حسب التوزيع المستطيل للبنان من الناقورة وصولاً إلى عكار وقلنا هذه مقدمة لكي ننشئ أربعة أحزاب في لبنان يمين ووسط وبيئة ويسار. وهذه القوى تتوزع على المحافظات العشر دون أن يكون لأي طائفة الغلبة في تنظيمها السياسي، أي أن كل طلب ترخيص لحزب يجب أن يشتمل على كل الطوائف والمذاهب الموجودة في لبنان. هذه المحاولة أظنها مرحلة أساساً وصولاً إلى المجتمع المدني فالدولة المدنية. كما حاولنا أن نشرح فصل النيابة عن الوزارة ومن ثم إدخال النسبية لكي تتمثل كل القوى وكل المحافظات وتصبح الانتخابات على أساس اللائحة الحزبية. من هنا التعارض كان كبيراً من كل القوى الإقطاعية والطائفية لهذا المشروع لأنه لا يناسب القوى السياسية الحاكمة.


فما نقترحه هو القبول بالمبدأ. وإذا أحببنا أن يستمر لبنان على القوى المؤثرة أن تتنازل لمصلحة الدولة العادلة والقادرة والتي تستطيع أن تدير شؤون التكوينات اللبنانية المختلفة. مع ثماني عشرة طائفة لا يمكن لهذا النظام الطائفي أن يستمر فهو ينتج الأزمات وينتج الأحداث

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

32

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 وينتج المشاكل كل فترة عشر سنوات إذا يمن السّنَّة على الحكم بعدها يطالب الشيعة وبعد ذلك يطالب الموارنة وهذه القضية لا تنتهي. ما نطمح إليه هو أن نعايش شباباً يعيشون القضايا المطلبية التي غابت اليوم عن مجتمع الشباب. كل فئة من الشباب تحاول أن تلتزم بمطالب الفريق السياسي التي تمثل. لقد غابت القضايا المصيرية. كنا في الجامعة اللبنانية في 1968 و1969 والـ1970 نعمل لقيام البناء الجامعي وعايشناه في الحدث بناءً على مطالبات مستمرة من قبل طلاب الجامعة اللبنانية. أين طلاب الجامعة من هذه القضايا المصيرية. أين الأبنية الجامعية؟ أين محاربة الغلاء؟ أين محاربة القضايا التي يعاني منها المواطنون في كل الطوائف والمذاهب؟ لهذا أمنيتي إلى الجميع أن نعزّز دور الشباب في قضاياهم المطلبية ونبعدهم قدر الإمكان عن المشاكل السياسية التي تعيشها الأحزاب بمختلف فئاتها في لبنان.


ويجب أن أركِّز على قضية فلسطين. كنا في مطلع الخمسينات والستينات نعالج قضايا أساساً، كقضية فلسطين، اليوم أصبحت القضايا القومية بمثابة مطالب شفوية، وهذا يدمي القلب لأن المطالب القومية تدحرجت أمام المشاكل الكبيرة التي يعيشها الشعب اللبناني والمواطنون اللبنانيون. من هنا يجب أن نقول إن المقاومة انتصرت بدعم كل الشعب اللبناني وحرَّرت الأرض. ويجب أن نتكتل حول القضايا القومية لكي تبقى مستمرة حتى تحرير الأرض المغتصبة، إن في الجنوب أو في فلسطين من الاغتصاب الإسرائيلي.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

33

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 أنا حاضر لكي أجيب عما ذكرت حول هذه الأفكار، هذه الأفكار التي قد تكون غريبة عن المجتمع الذي تعيشون فيه ولكنها متداولة في قسم كبير من الأوساط الفكرية السياسية. ولكن أقول لكم لن يكون التغيير غداً ولكن التغيير يبدأ بقفزة نوعية متضامنة من كل الفئات اللبنانية وشكراً لكم.


الخاتمة

إن المجتمع اللبناني مدرك لمشاكله ويعترف بوجودها. ولكن للأسف إن الشعب خاضع لتدبير عيشه بشقاءٍ وتعب بسبب سياسة التجويع التي تمارسها الحكومات المتعاقبة على هذا الشعب الأبي المناضل الذي تميز بمقاومته للغزاة الطامعين بأرضه على مرّ السنين ولأجيال طويلة.

إن الطائفية زعزعت التاريخ السياسي للبنان وهدّدت وحدته. لقد سأل "ريمون إده" "هنري كسنجر": ما سبب قيام الحروب على أرض لبنان؟ فكان جوابه أن الزلزال لا يصيب إلا الأرض المتصدعة. وهذا الكلام الخطير هو جزء من الواقع اللبناني الذي يدفعنا إلى السعي لإحداث تغيير جذري في القاعدة الفكرية عند هذا الشعب. فهذا التصدع يخدم الدول الكبرى التي تهدف للحفاظ على أمن دولة "إسرائيل" التي تلعب دوراً كبيراً في التعبئة الطائفية. ومن خلال هذه المقابلات مع بعض نخب المجتمع رأت هذه النخب أن التغيير يبدأ من الأسرة والمدرسة إلى جانب المجتمع الأهلي والجمعيات والأحزاب،

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

34

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 حتى الإعلام له الدور الأكبر بترسيخ المواطنية عند الرأي العام. ولكن تعتبر هذه الآراء نظرية غير مطبقة على أرض الواقع لأنه دون القيام بالمبادرة والسعي لتحقيقها ستبقى أفكاراً وأحلاماً وردية في رؤوس مقترحيها. أحد الزعماء العلمانيين أوصى لأبناء عقيدته: "... اتضح أن التوصيات الدينية والحزبيات الملية هي بلاء لا بلاء بعده... يجب أن نكون عصبة واحدة لا تفرق بيننا أي فكرة محلها الآخرة ولا يتميز بيننا أحد إلا بمقدار ما يجاهد ويبذل لخير الجميع... على الشعب أن ينهض نهضة واحدة بعقيدة واحدة وإيمان واحد...".


هذه الكلمات ليست بشعارات بل هي الحل لنهضة الشعب اللبناني المتميز بتنوعه وتعايش أبناء شعبه. ويجب إكمال ما بدأه فؤاد شهاب ورجالات الاستقلال والمقاومة اللبنانية لنتخطى العصبية الطائفية نحو المواطنية. ولكن لأي مدى مسموح لهذا الشعب بأن يرتقي من المصلحة الفردية إلى مصلحة الجماعة؟؟؟

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

35

الدرس الاول: الطائفية والمواطنة في لبنان (الواقع الطائفي ودولة المواطنة في لبنان)

 مراجع البحث


1- مسعود ضاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية، معهد الإنماء العربي 1986

2- فؤاد خليل، الطائفية كلام آخر، دار الفارابي، بيروت2000

3- كريم أبو حلاوة، إشكالية مفهوم المجتمع المدني، دار الأهالي، دمشق 1998

4- سليمان تقي الدين، المسألة الطائفية في لبنان، دار ابن خلدون

5- عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية 1992

6- سمير أمين، بعض قضايا المستقبل: تأملات حول تحديات العالم المعاصر، دار الفارابي، بيروت 1990

7- جمعية العمل من أجل خيار مدني، لمن يهمه الأمر، بدون تاريخ ودار نشر

8- محمد جمال باروت، المجتمع المدني مفهوماً وإشكالية، دار الصداقة، حلب 1995

9- أنطوان مسرة، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في لبنان، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1995

10- محمد عابد الجابري، إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، في: المستقبل العربي، العدد 167، كانون الثاني 1993

11- كمال جنبلاط، رسالتي للعدالة الإنسانية، الدار التقدمية، الطبعة الأولى، أيار 2004

12- بولس عاصي، قلق المواطن وقضاياه، دار الحداثة، بيروت 2008
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

36

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 
د. غسان طه1
تمهيد
 
لا يخلو مجتمع من المجتمعات في العصر الحديث من مجموعة من الانتماءات سواء كانت فطرية أو إرادية. كذلك هناك تنوع في الولاءات التي يقع الأفراد تحت تأثيرها.
 
المقصود بالولاء هنا هو العلاقات التبعيَّة والهيمنة والانصياع والأسبقية للأفراد وللجماعات داخل المجتمع الواحد. وهي ولاءات تتجسد عبر المؤسسات والأطر الطبيعية والإرادية التي تؤطر الأفراد أو الجماعات بإطارها وتنظم العلاقات فيما بينها، والتي تتجلى في تعينات ونماذج متـنوعة كالأسرة والعائلة والطائفة، والحزب والنقابة، والدولة، والأمة.
 
ففي كل دائرة أو إطار من هذه الإطارات تنعقد روابط الأفراد وتقدم علاقات التعاون والمحبة والنزوع نحو تحقيق الأهداف.
 
ولا بد لكل من هذه الإطارات من معايير ضبطية وازنة تتحدد على 
 
 
 
 

1-أستاذ في الجامعة اللبنانية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

37

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 1-  أساسها سلوكات الأفراد بحسب المواقع والأدوار التي ترسمها الجماعة لنفسها. ومن هنا، تظهر لدى كل منها التراتبيات والمواقع المقرونة بمنظومة من القيم والمعايير والقوانين الخاصة التي تحدد الأدوار، وهي أدوار لا تخرج عن نطاق الأهداف الخاصة للجماعة.

 
وفي هذا السياق، فإن ترافق الولاء مع موضوعة الانتماءات الطبيعية والإرادية يثير إشكالية طُرحت ولا تزال على بساط البحث وهي تقوم على أساس السؤال حول كيفية حسم الولاء في حال وجود أكثر من انتماء للفرد كالانتماء إلى الطائفة والانتماء إلى الدولة، وفي حال التعارض بينهما لناحية الأهداف لأي من هاتين الدائرتين يحسم الفرد ولاءه؟ وثمة مثال عملي حول الموضوع يتمثل بالنزوع نحو بناء دولة المواطنة في لبنان، وهي قد تتعارض مع الدعوة إلى الالتزام بأهداف الطوائف والرؤى الفكرية ذات المنطلقات الدينية.
 
وبطبيعة الحال لا تكمن الإجابة عن الإشكالية في هذه المقاربة المقتضبة، بقدر ما هي محاولة لفتح باب النقاش حول هذه الفكرة التي ستعمد إلى بلورة فكرة المواطنية والبحث حول الإشكالات المثارة حولها، ثم تبيان مدى ملاءمتها مع الدعوة إلى بناء الدولة القوية العادلة.
 
1- بروز فكرة المواطنية 
 
يتعرض مفهوم الدولة في الإسلام منذ قرنين من الزمن إلى كثير من الجدل الدائر حوله. وترافق هذا الجدل في حيثياته الزمنية مع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

38

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 التطورات التي شهدتها المجتمعات الأوروبية جراء حسم الصراع لصالح الفصل بين الزمني والروحي من دائرة الاجتماع السياسي. لقد حُسِم هذا الصراع بعد سيرورة من التحولات التي عمت شمال أوروبا وغربها بينها معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أقرت مبدأ سيادة الدول المشاركة فيها على المناطق التي تخضع لسيطرتها، وبنتيجتها صار سكانها أتباعاً للدولة على اختلاف انتماءاتهم العرقية والثقافية، وصار للدولة سيادة تختص بإقليم جغرافي معين، وعلى المواطنين القاطنين في ذلك الإقليم، وهو ما يعني زوال عهد الإمبراطوريات وبداية مفهوم الدولة الأمة.


لم تكن هذه التطورات أسيرة الساحة الأوروبية فحسب، لكنها ستمتد إلى العالم الإسلامي جراء تحولات وتغيرات جرت في هذا العالم وان لم تكن مماثلة لما حدث في الغرب، وإنما بفعل انهيار السلطنة العثمانية التي كانت تمثل ولو رمزياً امتداداً لعهود الخلافة الإسلامية بامتداداتها الجغرافية واستيعابها لمكونات ثقافية وعرقية لم تكن تجد في ذواتها ما يؤدي إلى تأكيد خصوصياتها بالانفصال عن السلطنة، بل راحت تعلن لها الولاء ولو لم يكن بالمطلق، انطلاقاً من مبدأ مشروعية السلطة المتأسسة تاريخياً على الدمج بين الديني والسياسي.

إن انهيار السلطنة وبروز عهود الاستعمار والاحتكاك الثقافي المباشر مع الغرب من خلال النخب الثقافية، ثم محاولات حركات التحرر الوطني الانعتاق من الاستعمار، وبناء الدولة الحديثة، كل ذلك أدى إلى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

39

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 وضع موضوعة الدولة والسلطة على بساط البحث والجدل. وقد تشعبت الآراء بين نخب تنوعت في منطلقاتها وغاياتها بينها تلك التي حاولت الانعتاق من دائرة الدمج بين الديني والسياسي، والولوج إلى مقاربات تحاكي تلك التي بنى فيها الغرب دولته على قاعدة إعادة النظر بوظيفة السلطة وغاياتها وعلاقتها بالأرض والإقليم والجماعات القاطنة فيها كأفراد يمثلون ذواتهم الفردية في إطار علاقتهم بالدولة دون إلغاء خصوصياتهم الثقافية التي تبقى في إطار دوائرها الاجتماعية، فيما تعلو الدولة عليها وترتقي فوقها بشكل مستقل عن الأطراف التي تدخل في تكوينها المجتمعي.


جراء هذه التطورات، ما زال الحديث يتزايد حول فكرة المواطنية في عالمنا العربي والإسلامي منطلقاً من محورين أساسيَن: أولهما خارجي وهو الغرب الساعي نحو تعميم نموذجه الديمقراطي في عالمنا المعاصر في مقابل دعوات أسلمة السلطة والعودة إلى فكر الخلافة التي تتجاوز الجغرافيا بوصفها أحد مخلفات الاستعمار الحديث.

والمحور الآخر، هو المحور الداخلي الذي يمثله المثقفون ودعاة الحرية في التيارات العلمانية والإصلاحيون الإسلاميون الذين تجاوزوا فكرة دولة الخلافة أو الامامة إلى دولة المواطنة التي تقوم على أساس علاقة الفرد بالدولة في إطار جغرافي محدد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

40

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 2- مبادئ المواطنية:


بفعل التطور الحاصل في التنظير لفكرة دولة المواطنية ثمة جملة من المبادئ التي يمكن أن ترتكز عليها هذه الفكرة يمكن إيرادها على الشكل التالي:

تقوم المواطنية على أساس الانخراط العميق في مبادئ عامة واحدة قوامها الحقوق والواجبات التي يتساوى فيها المواطنون بوصفهم أفراداً قبل أن يكونوا جماعات وطوائف وأدياناً.

تقوم المواطنية على أساس الولاء للدولة التي تؤطر المواطنين بإطارها العام والكلي فيما يتحول الولاء إلى الجماعات التقليدية إلى ولاء ثانوي.

تستلزم المواطنية وجود الحرية بمستوياتها المتنوعة السياسية وأصلها حق الانتخاب والترشّح وتكوين الجماعات السياسية، وأن الشعب مصدر السلطة والحرية الدينية التي تستلزم احترام العقائد والأديان داخل الدولة نفسها، ثم الحرية الاقتصادية القائمة على مبادئ الحرية في الكسب والعيش في حدود القوانين التي ترعاها الدولة.

تقوم المواطنية على أساس تنظيم الخلاف عبر تحديدها لآليات الوصول إلى السلطة التي يكون الشعب مصدراً لها وليس شيئاً آخر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

41

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 تستند المواطنية إلى فكرة أن الشعب هو مصدر القوانين والتشريعات وليست الأديان.


تعتبر المواطنية أن المؤسسات تعلو على الأفراد، بوصفها مؤسسات عامة تتجاوز انتماءاتهم السياسية والاعتقادية.

تنظم دولة المواطنة سلطة الدولة باعتبارها صاحبة السيادة على أرضها ومواطنيها.

لا تخرج دولة المواطنة عن مفهوم الدين وغاياته، ويعتبر منظورها أن علاقة الفرد بخالقه مكفولة باحترام الدولة لتطبيق الشعائر الدينية، بل هي تجسد إحدى غايات الدين بتأكيدها المساواة بين البشر. وهي على هذه الحال ترتكز على أبعاد إنسانية وأخلاقية واجتماعية.

3- علاقة المواطنية بالديمقراطية:

تبرز فكرة المواطنية كأحد الحلول المطروحة في لبنان على أنها فكرة جاهزة للتطبيق. ولكن يمكننا القول إن البحث في موضوعة المواطنية لا يخلو من صعوبات خصوصاً عند محاولات شرح المفهوم لكونه خضع للتعديل عبر مسارات تاريخية متعددة حكمت علاقة الفرد بالدولة ولكونه يتداخل مع مفهوم الوطن والوطنية ومع مفهوم الهوية والأمة والشعب، ولذلك عبّر بعض الباحثين عن أنماط مختلفة من المواطنية عبر انتقاء عينات تناولتها دراساتهم انطلاقاً من عهود 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

42

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 اليونان والرومان مروراً بالعصور الوسطى وحتى عصرنا الراهن. وقد برزت خلالها أشكال متنوعة في ممارسة المواطنية. وكان من بين هذه الدراسات الأكثر شهرة وتأثيراً المواطنية والطبقات الاجتماعية من تأليف ت-هـ - مارشال وهي على شكل مقالات ألقاها عام 1949 ميز خلالها ثلاثة أشكال من المواطنية، وهي المدنية (مثلاً المساواة أمام القانون) والسياسية (التصويت على سبيل المثال) والاجتماعية ونموذجها دولة الخدمات الاجتماعية. هذا بحسب تطورها التاريخي بالنسبة لمارشال1.

 
قامت المواطنية كمبدأ مؤسس للسيادة الفردية وكمصدر لتضامن حي بين أناس أحرار، على الاعتقاد في مواجهة الكنيسة بصلاحية العقل الانساني كأساس للتفاهم العام.
 
ومع فكرة المواطنية لم تعد السياسة قائمة على علاقة روحية أو مشروطة بالإيمان، وإنما تحولت إلى نظام من التوازنات بين القوى والأفراد والجماعات، أي إلى سلطة شرعيتها نابعة من فكرة السيادة الشعبية. وضمن فضاء هذه الشرعية تتحقق السياسة بما هي منافسة، وبما هي مفاوضة وتقاسم للمصالح والامتيازات. وهذا الأمر عدل بشكل جذري في مفهوم الحقوق والواجبات والالتزامات الجمعية والفردية والمسؤوليات العامة، في كل ميدان2.
 
 
 
 

1- ديريك هيتر، تاريخ موجز للمواطنية، دار الساقي، بيروت 2007، ص 6.
2-برهان غليون، نقد السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1993، ص 159.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

43

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 تتلازم الديمقراطية مع المواطنية. وهي ضرورية لأن الديمقراطية تقوم على الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، تضمن الحقوق القانونية والسياسية لجميع مواطني بلد من البلدان بصرف النظر عن انتماءاتهم، المجتمعية والدينية والإثنية وغيرها.

 
كذلك فإن المواطنة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالهوية. ولكنها الهوية التي تعني الدولة الأمة بالمعنى الحديث بحيث يجب أن تكونا متطابقتين، رغم أن تلازمهما مع الديمقراطية يفرض عكس ذلك.
 
وفي التحديدات، ثمَّة تمايز بين المواطنية والمواطنة كمرادف للجنسية في الدولة ــ الوطن. فالفرد هو مواطن باعتباره يحمل جنسية الدولة، والأفراد المقيمون إما مواطنون وإما أجانب. ويمكن للفرد المواطن أن يكون مواطناً في دولة تحرم بعض مواطنيها من أنواع من هذه الحقوق الثلاثة التي تقدم بها مارشال لدولة جنوب أفريقيا قبل إلغاء قانون التمييز العنصري عام  11996. 
 
حتى القرن الثامن عشر، كان لكلمة أمة دلالات مختلفة عما هي عليه اليوم. اليوم أضحت الأمة مرادفة لـ "البلد" أو "أرض الأجداد" والشعب الذي سكنها.
 
ومثلما بدأت كلمة موطن تنسلخ عن معناها البلدي، وتلتصق بالدولة، كذلك أخذ تعبير أمة يتصل بالدولة أيضاً.2
 
 

1- المصدر نفسه، ص 170. 
2-ديريك هيتر، تاريخ موجز للمواطنية، دار الساقي، بيروت 2007، ص 134. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

44

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 لقد نجحت بلا شك، الدولة الأمة، عبر تثبيت نموذج دولة المواطنية بضبط توترات الجتمعات الأوروبية والغرب عموماً. ولكن ثمة فارق بين اعتمادها كنموذج يحتذى في لبنان، وبين الوعي بظروف وملابسات نشأتها التاريخية بالتلازم مع خصوصيات المجتمع الأوروبي. في سعي دولة المواطنية الديمقراطية نحو تثبيت فكرتها هذه، هجست بحلم الدولة التوحيدية والتجانسية. يقودنا هذا إلى مقاربة ممارسات عدّة على غرار مبدأ الديار الدينية الذي طغى على أوروبا أيام إيزابيل الكاثوليكية التي طردت اليهود، وقضت على الحضارة العربية، حتى نقض صك نانت من جانب لويس الرابع عشر عام 1685، وما تلاه من مجازر وتهجير ونفي داخلي وخارجي للبروتستانت الفرنسيين وخاصة في منطقة السيفين 1.

 
ولئن يدفعنا ذلك إلى القول بأن ذلك حدث إبان سيادة نظام الملكية في فرنسا، وسبق إعلان حقوق الإنسان عام 1789، وإنه لا مجال للحديث في عصرنا الحاضر عن اضطهاد للأديان المغايرة للمسيحية، أو المذاهب المغايرة للكاثوليكية في فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية، ولكن انطلاقاً من مبدأ المواطنية نفسه، وما يستند إليه من حقوق وواجبات وولاء للدولة الأمة التي تعكس انتماء الفرد لجنسية الدولة، فهل الحال ينطبق على اليهود الذين لا زالوا مشدودين
 
 
 
 

1-آلان تورين، ماهية الديمقراطية، دار الساقي، بيروت 1995، ص 98.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

45

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 لقد نجحت بلا شك، الدولة الأمة، عبر تثبيت نموذج دولة المواطنية بضبط توترات الجتمعات الأوروبية والغرب عموماً. ولكن ثمة فارق بين اعتمادها كنموذج يحتذى في لبنان، وبين الوعي بظروف وملابسات نشأتها التاريخية بالتلازم مع خصوصيات المجتمع الأوروبي. في سعي دولة المواطنية الديمقراطية نحو تثبيت فكرتها هذه، هجست بحلم الدولة التوحيدية والتجانسية. يقودنا هذا إلى مقاربة ممارسات عدّة على غرار مبدأ الديار الدينية الذي طغى على أوروبا أيام إيزابيل الكاثوليكية التي طردت اليهود، وقضت على الحضارة العربية، حتى نقض صك نانت من جانب لويس الرابع عشر عام 1685، وما تلاه من مجازر وتهجير ونفي داخلي وخارجي للبروتستانت الفرنسيين وخاصة في منطقة السيفين 1.

 
ولئن يدفعنا ذلك إلى القول بأن ذلك حدث إبان سيادة نظام الملكية في فرنسا، وسبق إعلان حقوق الإنسان عام 1789، وإنه لا مجال للحديث في عصرنا الحاضر عن اضطهاد للأديان المغايرة للمسيحية، أو المذاهب المغايرة للكاثوليكية في فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية، ولكن انطلاقاً من مبدأ المواطنية نفسه، وما يستند إليه من حقوق وواجبات وولاء للدولة الأمة التي تعكس انتماء الفرد لجنسية الدولة، فهل الحال ينطبق على اليهود الذين لا زالوا مشدودين
 
 
 
 

1-آلان تورين، ماهية الديمقراطية، دار الساقي، بيروت 1995، ص 98.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

46

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 والعمل على بناء دولتهم الخاصة. كذلك لم تستطع هذه العلمانية منع بروز الحركة الإسلامية التي صعدت إلى الحكم مع حزب الرفاه منذ عام 1994، وما زالت تسيطر على زمام السلطة هناك بالرغم من الضغوطات التي تتعرض لها تحت شعار اعادة النظر بقانونية ودستورية إطاراتها التنظيمية بحجة مخالفة أعراف العلمنة التركية.


بحسب ارند ليجفارت، وفي معرض دراسته لتطبيقات الديمقراطية في المجتمعات المنقسمة من الناحية الإثنية، يرى أن الديمقراطية الجذرية تقصي حزب الأقلية عن السلطة وتبقى "ديمقراطية" من الناحية النظرية. وقلة هي الأنظمة السياسية التي تستطيع أن تستمر إلى الأبد عن طريق استثناء الأقلية. فالمستثنون سوف يثورون في نهاية المطاف، ما يمهد الطريق لقمعهم أو لنشوب حرب أهلية.

وإن التفسير الذي يقدمه بعضهم للآليات الديمقراطية التناسبية في المجتمعات المنقسمة كيف أن الانتخابات الديمقراطية تكرر الانقسام الطائفي في البرلمان عندما تلتحم الهويات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية لانتاج أحزاب تمثل طبقة أو مجموعة إثنية واحدة تمثيلاً صارماً. فإذا استخدم الحزب الرابح سيطرته على البرلمان لكي يقصي الأحزاب الإثنية الاخرى عن السلطة بشكل دائم، لا يكون هناك حافز لدى الخاسر يدفعه إلى التمسك باللعبة الديمقراطية، ولن يكون بوسع الخاسرين أن يكونوا ديمقراطيين وبذلك يطرح التمثيل النسبي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

47

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 كمخرج لأزمة حتمية1.

 
وهذه المعضلة كان يجري التعبير عنها في أعمال ليبراليين كبار في القرن التاسع عشر مثل جون ستيوارت ميل ولورد أكتون، فميل، برغم أنه كان من الدعاة الثابتين لليبرالية ديمقراطية، يجادل بأن " المؤسسات الحرة تقرب من الاستحالة في بلد يتألف من قوميات مختلفة"2.
 
4- المواطنية في دائرة الواقع
 
لم يسقط الغرب نظام المواطنية دفعة واحدة، ولم يتم تكريسها على النحو القائم إلا بعد خطوات متدرجة استوجبتها طبيعة الانتقال نحوها.
 
فبلدان كمنطقة شمال الأطلسي أي الولايات المتحدة وجنوب أوروبا إضافة إلى استراليا ونيوزلندا، كانت طليعة الدول المبادرة إلى إرساء حقوق المواطنية وتوطيدها من القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا.
 
ولكن من خلال تتبع عملية الإرساء هذه، تبين أن إحدى المشكلات المتعلقة بالمواطنية هي صعوبة ترسيخها في الثقافة الاجتماعية السياسية في دولة ما خلال فترة وجيزة من الزمن. فالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وبريطانيا، وسويسرا، والبلاد الواطئة استغرقت عدّة أجيال لتصل إلى المستويات الحالية للحياة المدنية، وما زالت مستوياتها قاصرة عن بلوغ المثال المنشود بعدما تسنى للمواطنية أكثر
 
 
 
 

1- دانيال برومبرغ، التعدد وتحديات الاختلاف دار الساقي، بيروت 1997، ص 15.  
2- التعدد وتحديات الاختلاف، مصدر سابق، ص 114.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

48

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 من قرنين كي تنضج في الولايات المتحدة الأميركية1

 
ففي تجربة الغرب لم تكن المواطنية لتستوجب وجود دولة جمهورية كلية القدرة، بل وجود ترابط شديد بين المجتمع المدني والسستام السياسي. لذا جرى التمهيد للحداثة السياسية في الغرب. واستوجب الأمر مدّة طويلة عبر سلسلة من الخطوات على غرار القضاء على الملكية المطلقة في بريطانيا، كذلك إعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي، وإعلان الدستور الأميركي2
 
عقب حرب الاستقلال الأمريكية عام 1776، أُنجزت المواد الدستورية التي تم التصديق النهائي عليها حتى عام 1781 والقاضية بإقامة حكومة مركزية مؤقتة، في حين عولجت مسألة المواطنية في المادة الرابعة المسماة "فقرة التآلف" لأن الغرض منها هو تربية الشعور بالتقارب الاجتماعي بين الولايات المختلفة. وهي تنص على ضرورة أن ينعم السكان الأحرار في كل ولاية من هذه الولايات بجميع الامتيازات أسوة بالمواطنين الأحرار في الولايات المختلفة باستثناء من يعيشون عالة على الغير، كالمشردين، والهاربين من العدالة3.
 
لكن تبعات هذا الأمر كشفت أن كلمة الأحرار يكتنفها الكثير من الغموض بعدما بدت تعبر عن انقسامات في قوانين الولايات فيما يتصل 
 
 
 
 

1-تاريخ موجز للمواطنية، مصدر سابق، ص 173.
2-الان تورين، ماهية الديمقراطية، دار الساقي، بيروت 1995، ص 94.
3- تاريخ موجز للمواطنية، مصدر سابق، ص 149.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

49

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 بالعبودية حيث كان أعضاء "العرق الأفريقي" مستثنين في الدستور من مكانة المواطن بالرغم من أن ولاية ما يمكن أن تمنح حقوقاً للسود1. ولم يبطل هذا الأمر إلا بعد إلغاء حق الولايات في رفض المواطنية لجميع السود وبذلك زال نظام العبودية ذاته.

 
كذلك فإن انكلترا لم تعمم الحقوق الانتخابية إلا ببطء وعن طريق اتخاذها الإصلاح تلو الإصلاح بحيث لم تمنح الحقوق لمجمل الرجال البالغين إلا عام 1884.
 
ولذلك يمكننا القول إن الإيمان بضرورة اعتماد المواطنية في لبنان شيء والانطلاق نحو تطبيقها وترسيخها شيء آخر.
 
فمن بين ما يترتب على اعتماد مبدأ المواطنية، بما هي حقوق وواجبات في تعاطي الأفراد مع السلطة، أنها تخلق مناخاً سياسياً عاماً عبر اعتماد آليات ديمقراطية متجاوزة للطوائف تتيح الإقبال على صناديق الانتخاب من قبل المواطنين بوصفهم أفراداً لا أبناء طوائف. ولكن ماذا تعني حرية انتخاب الممثلين عن هؤلاء الأفراد أو الشعب إذا كان على سبيل الفرض هؤلاء الممثلون لا يشعرون بالانتماء إلى حقل سياسي عام بقدر ما يشعرون بالانتماء إلى طوائفهم؟ فهل تكفي القوانين والمبادئ الدستورية بهذه المهام ما لم يكن هناك وعي بمستلزمات المواطنية وهي تحتاج إلى مراحل من التربية والتنشئة أو
 
 
 

1-المصدر نفسه، ص 151.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

50

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 إلى عملية متدرجة من تجاوز الطائفية باستحداث قوانين تراعي مبدأ هذا التدرج، لا سيما أن الإقرار المنزل من قبل نخبة السلطة، قد لا يحوز على الاجماع بضرورة تطبيق هذا المبدأ؟ وما يمنع الممثلين الذين عبروا إلى السلطة بناء على استيلاد المجتمع العام من العمل على تغريز الوشائجية بين أبناء طوائفهم لضمان العبور مجدداً إلى السلطة حتى مع وجود آليات ديمقراطية مترتبة على اعتماد المواطنية؟


ثمة اعتبارات حقيقية تسهم في إنجاح تطبيق المواطنية وهي وجود وحدة مجتمعية داخل الدولة نفسها، في حين وجود مجتمع قائم على التنوع في مكوناته الاجتماعية والثقافية والدينية قد يعيق تطبيق مبدأ المواطنية.

قد يثير بعضهم النقاش حول وجود هوية واحدة لمكونات الاجتماع السياسي اللبناني. وقد أثير الجدل بين الكثير من المثقفين اللبنانيين، فاختلفت المقاربات باختلاف منطلقات هؤلاء المثقفين. فالمنطلقات التي تحيل إلى الدين والطائفة تقول بالتنوع داخل هذا المجتمع الذي يضم مسلمين ومسيحيين، بل حتى التنوع داخل الدين نفسه. والمقاربة التي تحيل إلى اللغة تتباين بين أصالة اللغة العربية بين هذه المكونات كافة وبين رأى آخر يراه آخرون ينطلقون في التفريق بين اللغة العربية كأم وبين التعريب الذي فرض على المسيحيين ليحل محل لغات لاتينية وسريانية إبان الفتوحات الإسلامية، وهكذا بالنسبة إلى الانتماء العرقي إلى أصول عربية وآخرى آرامية وسريانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

51

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 وبمعزل عن هذا الجدل الذي ازدهر في الخمسينات إبان صعود فكرة القومية العربية، فإن واقع الحال يشكل منطلقاً فعلياً للمقاربة وهي وجود هذا التنوع الذي يحيل إلى الدين أو الطائفة إن لم يكن إلى أكثر من ذلك. ولكن مع وجود هذا التنوع فما لا شك فيه إن تجريد هذه الانتماءات المتنوعة دينياً وطائفياً من أبعادها الوشائجية بما تعنيه من وظيفة تخدم الطائفة في حقل المغالبة والمحاصصة، يردها إلى أصالتها المفتوحة على القيم الدينية، فإن هذه التنوعات تتشارك بالبعد الايماني المتجاوز لخصوصيات الدين أو الطائفة. فإذا جاز القول إن عموم المجتمع اللبناني بتنوعاته وانقساماته هو مجتمع إيماني بغض النظر عن مدى تعبير كل فرد عن مضمون هذا الإيمان هذا اذا ما تم الفصل بين تحول الدين أو الطائفة إلى عصبية وبين حالته الأصلية بما هو انفتاح علاقة الفرد على عالم السماء.


اذن يبقى هاجس المواطنية غير مشدود، والحال كذلك، نحو البحث عن مجتمع قومي موحد، بقدر ما ترتبط القضية بعدم تحويل هذه التنوعات إلى مادة استعمالية من قبل الطامحين إلى سدّة السلطة، إلى وحدات سياسية تستثمر انتماءاتها السابقة على الشعور بالانتماء إلى حقل سياسي عام، وهو ما لا يتم إلا بتحرير مواقع السلطة من قيودها الطائفية.

ولكن يبقى السؤال الأهم أنه بحال تم تحرير السلطة باعتماد مبدأ الديمقراطية والمواطنة كيف تتم المحافظة والمواءمة بين علاقة الدولة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

52

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 مع مجتمعه بكونه يتشكل من أفراد وبين المحافظة على الانتماءات الأهلية؟


وكيف يصار بحال حكم الأغلبية إلى عدم طغيانها على الأقلية؟ إن العودة إلى فكرة إقامة الدولة العادلة كدعوة حوارية بين مكونات المجتمع اللبناني تشكل إحدى مقدمات الإجابات عن هذه المعضلة.

5- الطائف وإشكالية العبور نحو دولة المواطنة

بين دولة المواطنة التي سبق تحديد أسسها ومرتكزاتها وبين ديمقراطية التوافق والعيش المشترك بين الطوائف كما هو الحال في لبنان، ثمة فارق كبير. وقد رافق الوضع المأزقي الحاد في لبنان، انقسام رؤيوي استند إلى بعدين أساسين بين فريقي النزاع 14 شباط و8 آذار بحيث مال أحدهما للدفاع ومطالبة الفريق الآخر بضرورة الاعتراف والإقرار بمظلة دستور الطائف والركون إلى نصوصه الدستورية باعتبارها انبثقت عن إرادة وطنية تشكل الأساس في العبور نحو دولة المواطنة بكل ما تعنيه هذه الدولة من الاحتكام إلى المؤسسات الدستورية والتسليم بسيادتها على نفسها وأرضها وعلى أنها الحاضنة لأفرادها. وبهذه الحدود يمكن القول: إن هذه الأفكار تمثل بعضاً من المبادئ التي تقوم عليها دولة المواطنة.

أما الفريق الآخر، فقد أعلن نفسه معارضاً للسلطة وليس لدولة الطائف مرتكزاً في طرحه على ثنائية تعدّ وفق رؤيته منطلقاً للتأسيس
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

53

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

  لدولة حقيقية تقوم على مبدأي القوة والعدالة، دون الدخول في تفاصيل المندرجات والآليات. لعل الأمر كي يكون تعبيراً عن إرادات جميع اللبنانيين بحيث يشكل ذلك منطلقاً لنقاش كبير يبدأ من بلورة ما تختزنه الأبعاد المفهومية لمعنى القوة والعدالة، ثم الانطلاق نحو التساؤل هل التقيد التام بمندرجات الطائف يعبر عن هذه الدولة، أو ثمة مبادئ دستورية إضافية يمكن بموجبها إصلاح بعض الاختلالات النصية دون الخروج عن الدستور، أم أن الأمر مجرد حالة ميثاقية تتجلى بتوافق الإرادات على السير بها بمعزل عن المساس بنصوص الدستور؟

ولو سلمنا أن الأمر يجب الركون إليه من خلال الأبعاد الميثاقية التي ستنشأ بعد حوار جدي ومستفيض دون المساس ببنود الدستور، بل تبقى مندرجاته حاكمة على الحوار لا سيما وأن الكثير من هذه المندرجات يختزن في مضامينه معنى الدولة "القوية العادلة"، كأحد موارده التي تعطي الشرعية القانونية للسلطة الحاكمة وتحكم آلية عملها المؤسساتي، والتي تنص على أن لا سلطة تقوم خارج العيش المشترك، ما يعكس عدالة الدولة في توزيع السلطة بين الطوائف بمعزل عن الأحجام ويحكم عملها الخارج عن نطاق الطائفية في الممارسة ما يعطيها طابعاً عمومياً وهذا بحد ذاته يشكل القوة التي تضمن استمرارية الدولة وتوجه آلية عملها.

قد يصح ذلك من الناحية النظرية التي تأخذ من الأمور بما هو طاف على سطحها، غير أن الولوج إلى عمق الأمور يجعل من هذا المبدأ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

54

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 الدستوري مادة للنقاش المستفيض، على أنه يستوجب التسليم أولاً بأن العيش المشترك هو مطلب يجد عمقه الإنساني لدى جماعة تعيش حياة مشتركة على أرض واحدة، تعيشه بالمعنى الاجتماعي ثم السياسي، وعلى الأقل يجري التمسك به حتى ممن يخالفه عبر مبررات قد تكون ذاتية أو إيديولوجية كي لا يتهم في أخلاقيته الإنسانية أو الاجتماعية أوالسياسية.


فليس ثمة دولة في العالم ترفض هذا الأمر. ولعل الدولة الحديثة لا تذكره في دساتيرها بنصوص دستورية ولكنها تمارسه عبر وسائلها وآليات ممارساتها السياسية. ولذلك، فإن سوسيولوجيا الدولة الحديثة تفصح عن هذه الممارسة بما لا يحوجها إلى نصوص تأكيدية. فالعيش المشترك واقع لا محال. وأما من الناحية الفلسفية، فالتعايش ناشئ من عقد اجتماعي قائم على ثنائية الشعب والسلطة. ولكنها ثنائية بين طرفين أولهما الشعب ثم الحكام الذين يمارسون السلطة باسم الدولة. فيما واقع الحال أن العقد الاجتماعي في لبنان هو أقرب ما يكون إلى عقد الطوائف مع سلطة الدولة على أن تحفظ هذه الدولة عبر مؤسساتها مواقع النفوذ لكل طائفة من الطوائف، أي بما يشبه الدولة التي تقوم على فيدرالية الطوائف وليست دولة المواطنة بالمعنى الفعلي. هذا العقد معرض للاهتزاز حين إحساس طائفة ما بالغبن وتعمد الإقصاء من قبل الآخرين من الطوائف الأخرى، فتثور حينذاك مقولة العيش المشترك، ويجري الركون إليها كمسلمة لا يمكن الحياد عنها، وهو ما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

55

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

  يجعل الدولة عرضة للتصدع والانقسام ولا تستقيم الأمور إلا بعودة الحق إلى نصابه.


على هذا النحو، فالدستور براهنيته هذه يجعل الحياة السياسية للطوائف مفتوحة على الأزمات الآنية والدورية. ففي حين تبرز الأولى في آلية اشتغال السلطة تجاه صوابية إدارة العمل اليومي ومدى مراعاته لمبدأ العيش المشترك تبرز الأخرى مع الاستحقاقات الدورية من انتخابات نيابية وتشكيل مجالس الدولة ومؤسساتها. وفي كلا الحالين معاً، فثمة دورة أزمة مستجدة في كل حين. وهي من حين بروزها حتى انتهائها تسلك مساراً ثلاثي الأبعاد بحيث ينجلي الأول مع حدوث خلل يقع على إحدى الطوائف ثم تتعمق الأزمة بنقاشات واعتراضات ترخي بظلالها على مجمل التركيبة السياسية لتبلغ مرحلة الذروة، ثم لتخرج أخيراً من عنق الزجاجة إلى مرحلتها الأخيرة وهي التسوية. فطرق التسويات التي لا تمثل عادة أرجحية لطائفة على أخرى -و هي إحدى مبتدعات العبقرية اللبنانية في عبور الأزمات - ليست مقطوعة الصلة عن جذور الدستور، إذ لها ما يبررها في مسوغات العيش المشترك، وفي التوافق الذي هو أيضاً لم يغفل الدستور إبرازه في مواده ليتواءم مع فكرة ومبدأ العيش المشترك.

حين يحتدم النقاش ويتعمق الانقسام لا بد للأزمة من الانحراف عن مسارها إلى وسيلة لحسم النزاع، وهي الاستناد إلى رأي الأكثرية ثم تبريرها محملة بأوصاف مضافة على أن لبنان بلد ديمقراطي على 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

56

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

  غرار الدول العريقة في ممارسة الديمقراطية التي تصنع الأكثرية فيه قرارها وتتولى تنفيذه، فيما تحفظ للمعارضة حقها بإبداء الرأي. وهي مقولة قد تجد لها سنداً منطقياً يسوغ مقبوليتها من الناحية النظرية على الأقل، غير أنها تبقى مشوبة بالتشويه لكونها تشكل إحدى آليات الانتصار وتأكيد الذات في حقل المغالبة الطائفية بحيث تتقدم على مقولة العيش المشترك والتغني بعراقتها وفرادتها في لبنان دون غيره من سائر البلدان.


فهذه الآلية الدستورية إلى جانب تناقضها مع مبدأ العيش المشترك تطرح على الاجتماع السياسي اللبناني تساؤلات مستقبلية خطيرة. إذ ماذا لو توافقت طائفتان من الطوائف الكبرى بوجه إحدى الطوائف الكبرى التي تشكل أحد الأعمدة الأساس في نظام فدرالية الطوائف؟ فحينذاك تكون الأكثرية الممكنة قد وفرت الإمكانية لبروز دورة جديدة من الأزمات قد تخمد بعد أن تطول بالعودة إلى فكرة ومبدأ العيش المشترك، وقد تؤسس بحال لم تسلك سبيلها إلى الحل التسووي لدورة جديدة من الحروب الأهلية تعيد إنتاج النظام القديم في توليفة جديدة محملة بإصلاحات فلكلورية لا تخرج عن روحية وجوهر ما هو قائم من ذي قبل.

على هذا النحو، ومع أن دستور الطائف يمثل المظلة للخروج من الحرب بتكريسه لحالة السلم الأهلي بعيد حرب أهلية طاحنة بين مكونات الشعب اللبناني، غير أنه يحمل بذور ضعف كثيرة بينها هذه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

57

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 المقاربة الجزئية لأحد مندرجاته التعايشية، ما يعني أن هذه الصيغة المستولدة والمتجلية بروح النص ومندرجاته ليست سوى صيغة تطويرية لما سبقه عبر دستور 1926 والميثاق الوطني عام 1943، اللتين شكلتا، حين التوصل إليهما في مرحلتين منفصلتين، بادرتيَ أمل لطالما تغنى الكثير من اللبنانيين بهما حينذاك ليجدوا بعد ذلك أن كلاً منهما قد أسس حين الإشتباك مع واقع الأمور لإنتاج أزمات جديدة.


على هذا الأساس، فإن شعار ومطلب تحقيق الدولة القوية العادلة هو شعار استراتيجي من شأنه إخراج الاجتماع السياسي اللبناني والأهلي من دورة الأزمات المفتوحة، ويوفر الإمكانية للعبور نحو الدولة. وهو مشروع وطني كبير يحتاج إلى إرادات حقيقية ورجالات تاريخيين هم بحجم الشعار ويحتاج إلى إرادات جموع اللبنانيين لأن الدولة الحقيقية والوطن الحقيقي لا يصنعه إلا أبناؤه.

6- الدولة العادلة في الإمكان اللبناني

عندما تُطرح قضية الدولة العادلة كمخرج لأزمة الاجتماع السياسي اللبناني، فإنها بلا شك تعني مسألة السلطة. وهي مسألة لها عمقها التاريخي الذي يتصل بمحاولة الانسان ترتيب علاقاته الاجتماعية بوصفه كائناً يعيش في وسط جماعي. وقد تعرض لها الفلاسفة على مرّ التاريخ، فشهدت الدولة العديد من الأشكال سواء اتخذت شكلاً قهرياً استندت فيه إلى حق الحاكم المستبد في فرض القوة لتأمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

58

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 استقرار المجتمع، أو الدولة الوازعة التي نشأت بفعل الحاجة إلى وازع يفصل بين اختلاف مصالح الناس، أو الدولة الحامية والمدافعة عن رعيتها إزاء تهديدات خارجية استناداً إلى فكرة الحق في الحياة. ولعل ما شهدته القرون، التي تلت العصور الوسطى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين، من محاولات فكرية لتسويغ عملية الوصول إلى السلطة وما أنيط بها من وظائف، إنما يرتكز على منطلقات أساسها السؤال حول كيفية تحقيق العدالة بين الناس. ولقد ساد العديد من النظريات خصوصاً نظريات العقد الاجتماعي التي تستند إلى فكرة الحقوق الطبيعية للبشر بوصفهم أفراداً، وبين الدولة الناشئة انطلاقاًً من فكرة العقد هذه لتحاكي الفطرة الإنسانية وتسايرها وبذلك تتحقق فكرة العدالة.


من هنا فحين تطرح فكرة الدولة العادلة على بساط البحث، فهي تنطلق من اعتبار فكرة العدل قيمة إنسانية عامة جرى استلهامها في أزمنة تاريخية متنوعة كمنطلق للوصول إلى مجتمع ينشد الاستقرار والأمن والرفاه.

وقد أُخضع هذا المفهوم للتغيير مع تبدلات الظروف، ولذلك عرفت المجتمعات أشكالاً من النظم التي طرأت عليها تبدلات انطلقت من الإحساس بالحاجة إليها لسد الثغرات القائمة بفعل تطور الزمن.

ولا يخرج لبنان بصيغته التي شهدت تعديلات منذ ما بعد دستور 1926 وحتى يومنا هذا عن طبيعة المجتمعات البشرية التي عكست فكرة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

59

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 العدل خصوصياتها المجتمعية. ولكن الخصوصية اللبنانية تمظهرت فيه من ناحية التمثيل السياسي، وفق منطق أن العدالة تمر عبر الطائفة وليس عبر الفرد. وهو ما راعته المادة 95 من دستور 1926. غير أن فكرة العدالة في مقام السلطة والحكم لم تعبّر بالمطلق عن واقع الدولة، وهو ما تم الاعتراف به خلال المادة نفسها من أن اعتماد آلية العدالة من خلال التمثيل الطائفي هو ذو صفة مؤقتة وليست دائمة. كما وتحددت فكرة العدالة لاحقاً من خلال تعديلات ميثاق 1943 عبر تموضع جديد بين الطوائف ومن ثم التأكيد على صفتها المؤقتة على اعتبار أن الغاية هي الوصول إلى إلغاء الطائفية السياسية.


ولأن الطائف شكّل أحد المخارج التطويرية في التماسات العدالة على مستوى تشكيل السلطة والإدارة، لا تزال هذه الالتماسات الدستورية للعدالة موضع نقاش.

الدعوة إلى بناء الدولة العادلة تتجاوز المبدأ والاقتناع والرغبة إلى إتاحة تطبيقها في الواقع.

إن كيفية إتاحة العدالة في المجتمع هي أساس الحوار والتحاور، ولا بد اذ ذاك مع اختلاف القناعات والرؤى، من تحديد المنطلقات لمفهوم العدل وطبيعة العلاقة بين العدل الكوني والعدل الانساني، ومن ثم تطبيقاته في إطار الدولة وتكوين السلطة وإمكانية شموله الميدان الاجتماعي. هل يتم الوصول إلى ذلك عبر العلمنة، وتطبيق مبدأ المواطنية، والديمقراطية.. أي تحرير السلطة من قيود الطائفة؟ وبحال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

60

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 تم ذلك، كيف يصار إلى التوفيق بين إيجاد هوية عامة لمكونات المجتمع اللبناني باعتباره شعباً مؤلفاً من أفراد وليس طوائف، وبين خصوصيات الانتماء الديني والطائفي؟


وهل تتلاءم هذه النماذج التي طبقت في الغرب مع خصوصية المجتمع اللبناني؟ كيف تتلاءم الديمقراطية باعتبارها دعوة حرية قبل كل شيء، مع إلغاء الخصوصيات في الانتماء والهوية؟
بحال تم اعتماد إحدى هذه الصيغ التي تهدف إلى إيصال الأكثرية للحكم ما هي ضمانات الحفاظ على حقوق الأقلية؟

فهل يتم اتباع التدرج في تحقيق العدالة في الميدان الاجتماعي أولاً، ومن ثم يتم التدرج إلى الميدان السياسي نفسه، وداخله أيضاً باعتماد المرحلية انطلاقاً من محاولة ترسيخ الوعي الفردي بنموذج الدولة العادلة، وتحريرها تدريجياً من الوعي الطائفي؟ هذه الاسئلة وغيرها يمكن أن تشكل منطلقاً للحوار حول الدعوة إلى الدولة العادلة. 

7- الدولة العادلة في الميزان

تعرّض شعار "الدولة العادلة والقادرة" (الذي طرحه أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله) لعدد من المآخذ كتلك التي عرضها وجيه كوثراني حيث يرى أنّ العدالة والقدرة هي صفات نسبيّة وتاريخيّة أي هي نتاج لمسار تاريخي يتشكّل ويتكوّن. هي مشروع لا يهبط منجزاً من السماء بل هو جملة من البرامج والخطط والمنطلقات القانونية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

61

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 والدستوريّة، وهي إلى ذلك محكومة بنظرية معيّنة للدولة وبثقافة معيّنة في المجتمع الذي تنبثق عنه الدولة.

 
كذلك يجد أن العلاقة بين حزب الله والولي الفقيه تنطوي على مستويين من الإشكالات تجعل من شعار الدولة العادلة وبالتالي دولة المواطنة غير ذي جدوى:
 
أولاً: صعوبة الانتظام في دولة, وطن تنحو بحكم حركية الاجتماع السياسي المدني وضرورة الإصلاح، وبحكم تركيبها التعددي والطائفي، لأن تتحول إلى دولة مدنية، أي دولة مدنيين تنفصل فيها السلطة المدنية عن السلطة الدينية، وتتساوى فيها المواطنة في الحقوق المدنية والشخصية والسياسية، لتكون هناك دولة مواطنين، لا دولة طوائف.
 
وثانياً: إن الإيمان بولاية الفقيه المطلقة يشكل قطيعة أو على الأقل افتراقاً عن منهج الإصلاحية الشيعية الذي شهده التاريخ الإسلامي - الشيعي وهو ما يرى كوثراني أنه حمل المخرج النظري والفقهي للتكيف مع الدولة المدنية الحديثة والاندماج مع اجتماعها الوطني1.
وقد أدرج خلال مقاربته هذه آراء كل من الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ محمد مهدي شمس الدين كنموذجي للإصلاح الشيعي.
 
 
 

1-وجيه كوثراني، بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه، دار النهار للنشر، بيروت 2007، ص 49. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

62

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 إن اعتبار كوثراني مشروع الدولة العادلة مشروعاً تدريجياً لا يهبط من السماء لاعتبار نسبية مفهوم العدالة لدى البشر واحتياج نشدانها إلى مسارٍ تاريخي طويل، لا يعيب الطرح الذي تقدّم به سماحة السيد حسن نصر الله، بل يضفي عليه الكثير من العمق والموضوعيّة لملامسته طبيعة الفطرة الإنسانية في نزوعها الاجتماعي نحو تطبيق هذا المبدأ ولاختزانه الكثير من عناصر التحفيز لمكوّنات المجتمع اللبناني في الكشف أو التوصل إلى صيغة حكم تنطلق من خصوصياتها الثقافية والدينية ومن موقعية المشتركات بين الأديان في القيم والمعايير والغايات.


وعلى العكس من ذلك فلو كان مطلب الدولة العادلة يُراد له أن يُنفَّذ على نحو الإكراه من وجهة نظر حزب الله لخالف بذلك قواعد العدالة نفسها، لأن فرضَ رؤيةٍ ما بالإكراه وخلافاً للإرادة والمصلحة العامة يعدُّ ظلماً في كثير من الأحيان.

إذاً لا بد من إيجاد صيغة تطويرية للنظام اللبناني تتناسب مع الدعوة إلى بناء الدولة العادلة، وهي دعوة حوارية وليست إسقاطية، يصار خلالها إلى البحث بين النخب والمكونات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع اللبناني في كيفية الوصول إلى هذا المبتغى. فحين تشكل العدالة قاعدة للتحاور بين مكونات اجتماعية تصبح العدالة قيمة إنسانية مسنودة إلى فطرة الإنسان بشكل عام فكيف إذا كان هذا الإنسان ينظر إلى العدالة نفسها كقيمة بحد ذاتها انطلاقاً من إيمانه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

63

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 الديني بالعدل الإلهي والعدل في الوجود؟


على هذا الأساس لا تعود فكرة تطبيق العدالة متنازعاً عليها لأنها محل اتفاق ولكن الاختلاف في آليات الوصول إليها فالإيمان بالعدل أو العدالة ليس هو العدل نفسه حين يدخل إلى حيز التطبيق العملي.

وإذ يجد كوثراني أن الدولة العادلة محكومة بنظرية معيّنة وبثقافة معيّنة في المجتمع الذي تنبثق عنه الدولة - كما تقدّم ذكره - فإن تعددية وتنوّع المجتمع اللبناني سوف يؤديان إلى تباينات في هذه النظرة في حين يرى أن خصوصية حزب الله نابعة من تثقيف قاعدته الحزبيّة على أسس طائفية ومن ثم ربط نظرته إلى الدولة من خلال رؤية الولي الفقيه أي الدمج بين الدين والسياسة ومن ثم بين الطائفة والدولة المبنية على ولاية الفقيه.

على هذا الأساس فإن الدولة العادلة بنظر حزب الله ليست إلاَّ دولة الولي الفقيه. وهي تشكّل بنظر كوثراني قطيعة مع الرؤية الحداثوية التي تقوم على بناء دولة مدنية مستقلّة عن الشأن الديني. ولكن إذا ما عدنا إلى أدبيات الحزب التي يمكننا وفقها تحديد بعض الملامح الرؤيوية لمشروعه الوطني، نجد أن هذا المشروع لا يعبّر عن خصوصية ضيّقة بقدر ما يعبّر عن فهم خاص ينطلق من المرتكز الديني ليتسع أمام المكوّنات الاجتماعية اللبنانية وليتجسّد في خطاب يقوم على أساس الشراكة والمساواة. وهو مشروع حداثوي ينطلق من عمق الإيمان الديني الذي يتشارك به اللبنانيون بمختلف طوائفهم. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

64

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 ومن بين هذه الأدبيات التي تعبّر في بعض مندرجاتها عن المشروع الوطني لحزب الله، ما ورد في منشور صدر عن المؤتمر الدائم للمقاومة بقلم رئيس المجلس التنفيذي في الحزب سماحة السيد هاشم صفي الدين، حيث يجد أن حزب الله انطلق في بنائه للمشروع الوطني من حيثيات وأولويات نورد منها ما يلي:


- الحيثية الإيمانية: هي أن الإيمان بالله تعإلى والالتزام بالأحكام الفردية والعامة للإسلام هما أصل حاكم في حزب الله. وهما محور كل الأعمال والمواقف والأهداف والأساليب التي يتبناها الحزب ويمارسها، وهما ينطلقان من قناعات لدى الحزب بأن الإيمان يدعو إلى الالتقاء مع الآخر مهما كان معتقده، وهو لا ينفي الخصوصيات، وهي محل تقدير في نظر الحزب، بل هو يثيرها ويملؤها بقيم الخير والعدل وذلك حتماً غير الطائفية التي هي أقرب إلى مفهوم الجماعة الخاصة والقبيلة والعشيرة في خلفيتها وفي كل ما يترتب عليها من أحكام ومواقف. فالدين يحكم بالعدل، والطائفة لا تقره دائماً، والدين يمد حبل التواصل مع أتباع كل الديانات الأخرى من موقع التقدير والاحترام، والطائفية عقلية إقصائية حدودها المصالح الخاصة.

إن الإيمان يُلطّف الانتماء الطائفي، ويسحب منه عوامل التهديد المستمر. وهو بنظر الحزب عنصر قوّة في لبنان يعكس الحضارات والتعددية الدينية والثقافية ويحافظ عليها، بينما الذهنية الطائفية أثبتت فشلها وخطرها على الكيان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

65

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 إن الموقع الإيماني هو الذي يدعو إلى إقامة الوحدة الإسلامية دون استهداف للشريك المسيحي. وهو الذي يدعو إلى الوحدة الوطنية مع كافة الشركاء، دون الدخول أو المشاركة في أي مشروع عزل.

 
- الحيثية السياسية: وهي تعبّر عن الشراكة والمساواة كرؤية وطنية استوحاها حزب الله من انتمائه الديني، ومن فهمه للخصوصية اللبنانية جيّداً، على قاعدة أن مدماك بناء الدولة هو العدالة والدستور، وتوفير فرص المشاركة في بناء الوطن بالتساوي بين جميع أبنائه. والحزب يجد أن التعددية إذا أُحسن ربطها بالديانات والحضارة، هي مصدر غنى وقوّة. ويندرج ضمن موضوع المساواة والشراكة موضوع القيم والأخلاق التي يوليها الحزب أهمية خاصّة لتكون أساساً في صياغة مفهوم الدولة، وللتطلّع نحو وطن قوي وعادل، وطن الشراكة الوطنية والعيش المشترك تحت سقف الدستور الذي يشكّل صيغة العقد الاجتماعي والسياسي الملزِم للجميع1.
 
8- خلاصة
 
نخلص مما تقدم إلى القول إن الدعوة إلى بناء الدولة القوية العادلة وإن كانت دعوة حوارية تتجه إلى الفريق الآخر، ولكنها تحتاج إلى بلورة تفصيلية وإلى الكثير من التسويغ لدى الجهة الداعية نفسها لا سيما حين
 
 
 

1-السيد هاشم صفي الدين، المقاومة ومشروع بناء الوطن، منشور صادر عن المؤتمر الدائم للمقاومة.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

66

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

  تكون المنطلقات الفكرية تقوم على أسس ومبادئ مستمدة من فهمها لنصوصها الدينية خصوصاً في مجال تشكل السلطة أي في مصدرها وآلياتها ومصدر التشريع. وقد سبق تجاوز هذا الأمر عبر التأكيد على فكرة إلغاء الطائفية السياسية ثم التأكيد على فكرة الديمقراطية التوافقية وبعدها الدولة القوية العادلة.


وبلا شك فإن هذه الدعوات تشير إلى ممكنات تجاوز الدعوة إلى أسلمة السلطة ولكنها لم تترافق مع التسويغات الفكرية المطلوبة لاقناع الذوات الجمعية للإسلاميين قبل غيرهم الذين ينظرون إلى تلك الدعوات بعين الشك حيث لا تغدو بنظرهم سوى مناورة أو كإحدى الحلقات المندرجة في سبيل الوصول إلى أسلمة السلطة.

كذلك فإن دولة المواطنة بالمعنى الفعلي لا بالمعنى النفعي والتكتيكي الذي يطرحه العلمانيون خصوصاً أو الدعوة إلى الدولة القوية العادلة يستوجب تسويغهما انطلاقاً من مدى توافقهما أو تعارضهما مع مبادئ الشرع إلى نقاش مستفيض، ليس أقله مشاركة عميقة ممن لهم باع في النظر وإبداء الرأي في النصوص الفقهية، وفي الأحاديث الواردة، ومن ثم مقاربة جدية للمراحل التاريخية التي عاشها المسلمون، وتعاطيهم مع السلطات القائمة. مع ذلك، لا بد من إثارة بعض الإضاءات التي تحتاج بدورها إلى إعمال النظر في مدى ملاءمة دولة المواطنة كذلك بناء الدولة القوية العادلة للمنطلقات الدينية وهي على الشكل التالي:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

67

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 العدالة بمفهومها الفلسفي تقوم على أساس إعطاء كل ذي حق حقه أو وضع الأمور في نصابها. ولكن هل العدالة تنظر إلى الأفراد ومساواتهم داخل الدولة أو تنظر إلى الطوائف بحيث لا يتم انتقاص حقوق الطوائف ومن هنا نعود إلى الديمقراطية التوافقية؟


الإكراه المادي لسلطة دولة المواطنة لا يتحول إلى عسف الأكثرية الوهمية مع وجود الحرية ومبدأ الحقوق والواجبات.

هل تجسد دولة المواطنة التماهي مع مركوزات العقل، النظام حسن والفوضى قبيحة، العدالة حسنة والظلم قبيح؟

العقل الإجرائي والتاريخي قد يقع أسير الموازنة والترجيح بين المصلحة الجماعية الخاصة والمصلحة العامة. ليس من عقال ورادع لتفلته سوى الدولة التي توفر أسباب عقلنته بما هي نتاج توافر إرادات الأفراد أو العقل الجمعي.

الشرع لا ينافي العقل العام، بل ينافي المصلحة الخاصة إذا أضرت بالمصلحة العامة، بل يدعو إلى تجاوز المصلحة الخاصة لأجل الصالح العام وهو ما تجسده دولة المواطنة.

دولة المواطنة قانونية وليست شرعية، والشرعية قد تقوم بالإكراه والإجبار على المبايعة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

68

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 دولة المواطنة قانونية ولكن نشارك فيها كذوات فاعلة. وهي أفضل حالاً من القانونية الإكراهية التي تضطهد الخصوصيات الثقافية (العالم العربيمصر تركيا)


- الشرع أباح التعامل مع الدولة القانونية والإكراهية كأمر واقع في مقابل الفوضى وبمقابل تجسيدها لأحد مقتضيات العدالة ولو جزئياً. فكيف بدولة قانونية كل الذوات الجماعية فيها فاعلة وليست منفعلة بالإكراه؟ لو فعلها ابن الأصفر: التغاضي عن نزع الشرعية مقابل المصلحة العامة للمسلمين ولشوكة الإسلام.

- دولة المواطنة كذلك دولة الديمقراطية التوافقية كما في لبنان، تقوي نزعة الإيمان خلاف الدولة المادية. الدين يبقى محور العلاقات الاجتماعية. الطائفة تتحول إلى جماعة لا بد من اجتذاب الفرد ومن وضع أهداف ومعايير.

- دولة المواطنة وكذلك دولة التوافقية تقف في وجه العولمة التي أفرزت خصوصيات وذوبت بعضها.

- تؤكد أيضاً عالمية الدين وقدرته مع الاحتفاظ بعالميته على التعايش وليس الانحصار في دائرته الخاصة. العلاقة بالمقدس (الإيمان) وسريانه في المجتمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

69

الدرس الثاني: المواطنة ومشروع الدولة العادلة في لبنان

 - الدولة-المواطنة لا تضعف الدين بالضرورة (تركيا نموذجاً)، الدولة الدينية قد تقوي العصبية وليس الدين.


- دولة المواطنة تنمي روح التضامن جراء الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع مسؤولية تكاملية تجاه الأفراد (ضرائب) مسؤولية تطويرية (برامج اجتماعية، اقتصادية، بيئية..)، إحساس الفرد المحكوم كالحاكم.

جراء ذلك فثمة مجموعة من الحسنات، سواء في دولة المواطنة المنشودة، أو في دولة الديمقراطية التوافقية. ولكن يبقى السؤال أيهما تقترب من مفهوم الدولة القوية العادلة؟ هل تقوم بتبني دولة المواطنة أم مع إضفاء مبادئ إصلاحية وتطويرية على دولة ديمقراطية التوافق بين الطوائف؟ وما هي حدود كل ذلك مع المنطلقات الدينية؟ هل هذه المنطلقات تعمل انطلاقاً من مبدأ الواقع وتتكيف معه أم أنها تعلو عليه وتسعى لتكيفه مع مبادئها ومندرجاتها؟
وبالتالي هل الدعوة إلى بناء الدولة القوية العادلة تشكل المخرج لهذه الإشكالية؟ وإذا كانت الإجابة تتحدد بالإيجاب، ينطلق السؤال من جديد ليتمحور حول الخطوط العريضة وليست التفصيلية لمشروع الدولة المنشودة على قاعدة القوة والعدالة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

70

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 المواطنة عند فقهاء الإمامية 

 (من ابن ملي البعلبكي إلى الشهيدين)
د.خضر محمد نبها1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
يُعتبر هذا البحث جزء من خطّة أكبر، أريد من خلالها الاستوفاء لنقاط الفكر وفواصله، لحركاته وسكناته، ليس أن أختمه نهائياً، ولكن لأمارس شرط التحرير للفكر الأسير في اتجاه واحد، لا في اتجاهات عدّة. ومن هذه الممارسات تبيان موقف فقهاء الإمامية من المواطنة، وتحديداً الفقهاء اللبنانيين منهم.
 
وحاولت ضغط هذا البحث ضمن العناوين الآتية:
 
1- مدخل سؤالي، وإطار البحث.
 
2- المواطنة والفقهاء: ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة.
 
3- مفهوم "المواطنة" في بحثنا.
 
4- الإمامية، والمجتمع، والهجرة.
 
5- مواطنية ابن ملّي ومحاربة الاحتلال.
 
6- ابن ملّي والمقاومة في لبنان: مقاربة وتأمّلات.
 
 
 
 

1- أستاذ في الجامعة اللبنانية


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

71

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 7- مواطنة "الشهيدين" والدعوة للانتماء والتعايش.


8- الإمامية والعمالة: مقالة مملّة.

9- الشهيد الثاني وقَبُول الآخر.

10- الإمامية و"الأرشيف" و "النبذ" و "الهمّ الوطني".

في حركة هذه العناوين تدور ورقتي ومقاربتي.

1- مدخل سؤالي وإطار البحث:

ما هي علاقة فقهاء الإمامية اللبنانيين بالوطن؟ هل هي علاقة عَرَضية وزائلة، أم أنها جوهرية ودائمة؟ وبلفظ آخر، هل أن الشيعي الإمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن انتماءً حقيقياً، أم أن صفة المواطنة غائبة عنه، وبعيدة المنال؟

وبالأحرى، هل أن المواطنة والانتماء للوطن هو شعور راسخ عند الشيعة الإمامية، أم أنه شعور على دَخَن، وتالياً، يتجاوز الوطن إلى أوطان أخرى؟

ونتساءل أكثر، هل نجد عند فقهاء الإمامية القدامى ما يُشير إلى (حب الوطن) (والتعلق به)، (والدفاع عنه)؟ أم أنه لا أثر لذلك في سيرهم العملانية ومقالاتهم الفكرية؟ ويا تُرى، بماذا نفسّر ما أصاب هؤلاء الفقهاء من اضطهاد وتشريد، بل من قتل واستشهاد على يد السلطات الحاكمة؟ فهل هو نتيجة "العمالة" و"الخيانة" لأوطانهم، أم لأسباب وعوامل أكثر تعقيداً وخطورة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

72

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 هذا ما سوف أحاول أن أبيّنه في بحثي المضغوط هذا، مبتدئاً بالفقيه المجاهد ابن ملّي البعلبكي (ت699هـ / 1299م)، مروراً بالفقيه المؤسس الشهيد محمد بن مكي الجزيني (ت784هـ / 1382م)، والمشهور بـ"الشهيد الأول"، وانتهاء بالفقيه الوحدوي، عنيت به زين الدين بن علي الجباعي (ت965هـ / 1558م)، والأكثر شهرة بـ"الشهيد الثاني". وهذه المحاولة تستغرق ما يقرب من ثلاثة قرون من الزمن، حيث تبدأ من أواخر القرن السابع الهجري، مع مطاردة ابن ملّي وموته بعيداً عن منبت ولادته، وتنتهي أواخر القرن العاشر الهجري، باستشهاد الشهيد الثاني خارج وطنه أيضاً.

 
2- المواطنة والفقهاء: 
 
ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة:
 
أشار الفقهاء إلى نوعين من الأوطان: الوطن العرفي والوطن الشرعي1. وبيّنوا محدّدات كل واحد منهما.
 
ولكن، من المهم اليوم بيان الرؤية الفقهية تجاه هذه المقولة (الوطن والمواطنة)، والتي هي ليست علاقة عاطفية فحسب، بل هي علاقة قانونية، دستورية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، تتطلب صياغة "نظرية فقهية معاصرة" تجاه هذا الموضوع أو الظاهرة
 
 
 
 

1-راجع: حسين مرعي: القاموس الفقهي، دار المجتبى، لبنان، ط1، سنة 1922م، ص222 و223 و224. وأيضاً آية الله المشكيني، مصطلحات الفقه، دفتر نشر الهادي، قم، ط1، 1377 هـ.ق، ص561 و562. مع الإشارة إلى أن آية الله المشكيني ذهب في كتابه إلى أن الفقهاء قسّموا الأوطان إلى ثلاثة أقسام: الوطن الأصلي، والوطن المستجد، والوطن الشرعي... الخ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

73

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 الإنسانية المعاصرة، لأن الشعور الوطني أضحى اليوم من الحقائق الدستورية، والقانونية، والسياسية الهامة. والأمة الإسلامية، اليوم، موزعة في أوطان متعدّدة، وفي كل وطن مكوّنات متعددة، وقوانين مختلفة. والإنسان، عادة، ينتمي إلى دوائر إنسانية عديدة، ومنها دائرة الوطن، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذه الدوائر (الأسرة، القبيلة، المذهب، الوطن، الإنسانية...) وإمكانية انفتاح الانتماء الوطني على الإنسانية، لتصبح الإنسانية أكثر نبلاً، بدلاً من الانغلاق والتصحّر الإنساني؟

 
3- مفهوم المواطنة في بحثنا:
 
لن أدخل هنا في عمل معهود ومشهور، أي الحديث عن تعريف الوطن، والمواطنة، لأن في ذلك بساطة ورتابة، وهو في الأخير متوّفر وبشكل موسّع في الدراسات المختصّة، والقواميس، والموسوعات، لا سيما أن مصطلح (المواطنة) لا ينفك في يومنا، وببداهة، عن ربطه بالوَطَن والمَوطِن1، والحقوق والواجبات، فلذلك، فضّلت في ورقتي هذه، أن أترك هذا الجانب، والغوص رأساً في المقصود من (المواطنة) عند فقهائنا الثلاثة، لأن مفهوم (الوطن) (والمواطنة) في عصر هؤلاء، لا يعني بالتمام ما هو مقصود منه في عصرنا الحاضر، فقديماً اعتبر بهاء الدين العاملي (ت 1030هـ / 1621م) "أن الوطن هو ذلك المكان
 
 
 

1- راجع تفريق د.نصار بين المواطنين على أساس الوطن والمواطن وتعريفاته للوطن وغيره. ناصيف نصار:في التربية والسياسة, دار الطليعة البنيان,ط1, سنة 2000م, ص14 وما بعدها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

74

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 الذي لا اسم له"1. فلذلك، ومنذ البداية، أعني بـ " المواطنة والوطن" عند فقهائنا الثلاثة "الكيان الثقافي"، وليس "الكيان السياسي المعروف" لعدمه في حينه2 ، أعني بذلك، أن المواطنة عندهم تعني النشأة، والمولد، والانتماء للأرض والناس، والدفاع عنهم، والتشديد على رابطة التعايش السلمي بين أفراد يتشاركون أرضاً واحدة، لأن "الهوية المذهبية" عند فقهائنا الثلاثة، وغيرهم طبعاً، لم تكن قاعدة أو منطلقاً للصراع بين الأفراد والجماعات، بل غَدَت وعياً عميقاً في المسؤولية تجاه انتماءاتهم، فلذلك، قاتلوا، وجاهدوا بل واستشهدوا في سبيل هذا الوعي. ومن المؤسف حقاً، أن ما يحصل اليوم هو تمزيق "للذاكرة الجماعية" أو إعدام وجودها، فنرى بثّ الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، بل الأمة الواحدة، على قاعدة الانتماء الحقيقي أو العمالة.

 
4- الإمامية، والمجتمع، والهجرة:
 
نعم، لم يؤمن علماء الإمامية بـ"المجتمع المنغلق" Fe عليهم السلامmeé، أو بتعبير برغسون، بعالم محدود، صغير، وراكد. بل آمنوا "بمجتمع منفتح" Ouve عليهم السلامte، هدّموا فيه العوائق الضيّقة، وفتحوا نوافذه بوجه المجتمعات
 
 
 

1-يقول الشيخ البهائي في ديوانه الفارسي (مثنوي نان وحلوا) ما نصّه: ليس الوطن هو مصر والعراق والشام، بل الوطن هو ذلك المكان الذي لا اسم له. راجع الدين والعلم: مطارحات في ديننة العلم، مجموعة من الباحثين؛ تعريب الشيخ محمد زراقط، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، لبنان، ط1، سنة 2008، ص206.
2-راجع عن هوية لبنان وتشكله ككيان سياسي دراسة د. غسان طه: هوية لبنان، المركز الإسلامي للدراسات الفكرية، لبنان، ط1، سنة 2009م.   
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

75

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 والأديان الأخرى، لذلك آمنوا بـ"الهجرة"1، لأن وراء بزوغ كل حضارة "هجرة". لذا، نجد تاريخ الإسلام هو تاريخ ( الهجرة). ونرى في القرآن أن المهاجر في طريق الحقيقة يتقدّم على المجاهد، وبعد الإيمان تأتي الهجرة، كأصل عملي ووظيفة إنسانية مقدّسة2. لذلك نجد هجرة علماء الإمامية قديماً قد أنتجت حضارات، بل وجدناهم أينما حلّوا أشاعوا حبّ الإنسان، ومبدأ التعايش، والدفاع عن الأوطان. وورقتي هذه غايتها توضيح هذا المطلب. وأبدأ بالبطل المجاهد ابن ملّي البعلبكي.

 
5- مواطنة ابن ملّي البعلبكي ومحاربة الاحتلال (شهيد الوطن):
 
أودّ أن أطلق على هذا الفقيه اسم (شهيد الوطن) كمصطلح معاصر، لأننا اليوم نسمّي المدافع عن وطنه بالشهيد، فابن ملّي البعلبكي (ت699هـ - 1299م)3، ومنذ ما يزيد عن سبعمائة سنة، أعطانا درساً في المواطنة والهويّة، وحبّ الأوطان.
 
 
 

1-لنلاحظ هنا، هجرة علماء الإمامية القديمة إلى إيران وغيرها، مقاربة مع هجرة شيعة لبنان التجارية إلى بلدان العالم في يومنا المعاصر، وكأن الهجرة من مكوّنات فكرهم. وطبعاً، لن ننسى عامل الاحتلال الصهيوني للبنان
2-وذلك في قوله تعإلى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة البقرة: 18). راجع عن الإيمان والهجرة والجهاد د. شريعتي – محمد خاتم النبييّن. دار الأمير، لبنان، ط1، 2002، ص31 وما بعدها.
3-إنه نجم الدين، أحمد بن مُحسِّن (بضم الميم وتشديد السين المكسورة) بن ملّي الأنصاري البعلبكي (617-699هـ). أول فقيه شيعي إمامي أنجبته بعلبك، أصولي، ومتكلّم. ولد في بعلبك عام 617هـ. كان متبحراً في العلوم، كثير الفضائل، أسداً في المناظرة، فصيح العبارة، ذكياً، حاضر الحجّة، حاد القريحة، فارهاً، مقداماً. توفي عام (699هـ - 1299م) راجع موسى اليونيني – مرآة الزمان. وراجع الدراسة التي وضعها عنه الشيخ جعفر المهاجر، ستة فقهاء أبطال، مركز الدراسات والتوثيق والنشر، ط1، 1994، من ص46-77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

76

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 ابن ملّي أو (شهيد الوطن)1، هو أول فقيه إمامي أنجبته بعلبك. تلقّى علومه في دمشق، وحلب، وبغداد، وخصوصاً من ابن معقل الحمصي (ت644هـ / 1246م)، الذي هو آخر فقيه إمامي في حمص وقد سكن بعلبك.

 
كان شجاعاً وثائراً، فسمّاه اليونيني في كتابه "ذيل مرآة الزمان" بـ"الملك الأقرع"، وكأن ابن ملّي أراد بهذا اللقب أن يزيل النمط الثقافي الذي زرعته وعزّزته أنظمة الحكم المتوالية لمصطلح الفقيه، هذا النمط الذي لم يعط للفقيه إلاّ هامشاً ضئيلاً ينحصر بالشؤون الأخروية الصرفة، وبتغطية نظام الحكم، وتقديم التبريرات له عند الطلب، فكيف بفقيه يخرج من مصلاّه، وحلقة درسه، حاملاً سيفه ليقود حرب عصابات شعبية، ويقتل ويُقاتل؟! فجاء هذا الفقيه المجاهد مخترقاً كل المرتكزات، متجاوزاً إياّها بخبطة عبقرية واحدة، نقلته من موقعه الهلامي الهامشي، إلى موقع أشد صلابة بما لا يُقاس، من موقع (الفقيه) إلى موقع (الملك)2.
 
فإن يكن اتخاذ اسم الملك يحرّره من أثقال المفهوم الذي زرعته السلطة للفقيه، فإنّ صفة (الأقرع) المستعادة من منظر التتري، ذلك المقاتل الشرس القاسي الذي لم يغلبه أحد حتى الآن، تستحضر عند السامع صفة المقاتل الشرس الذي لا يُدافَع. وهكذا، يصبُّ الاسم
 
 
 

1-منذ الآن وصاعداً سأعتمد مصطلح (شهيد الوطن) للدلالة على ابن ملّي. 
2-الشيخ جعفر المهاجر: ستة فقهاء أبطال، ص67. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

77

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 والصفة كلاهما في الاتجاه نفسه.

 
ولكن من هي الجهة التي قاتلها ابن ملّي وجاهدها؟ هل هم مواطنوه، أو بالأحرى مخالفوه في الرأي؟ بالطبع لا، لأن ابن ملّي جمع كل مواطنيه، ووحّدهم لقتال المحتلين والجبّارين الذين لا يُهزمون1، عنيتُ بهم جيش هولاكو (أي المغول)، العدو الجديد للأمّة والمقاتل الشرس.
 
يقول اليونيني في "ذيل مرآة الزمان:" في سنة ثمان وخمسين وستمائة عند مجيء التتر على الشام، كان هو بجبال بعلبك، وأنّه جمع له جماعة نحو عشرة آلاف نفر، وأنّه تسمّى بالملك الأقرع، وأنهم كانوا يتخطفّون التتر في الطرقات، خصوصاً في الليل، لأن التتر ما يركبون في الليل"2.
 
استطاع ابن ملّي بإيمانه وعقيدته الثورية والجهادية ضد المغول، العدو المشترك، الذي احتل البلاد، من سمرقند إلى فارس، والعراق، وبلاد الشام... استطاع أن يؤثربجماهيره كفقيه شيعي يُقتدى به، فأعلن الجهاد، بعد أن انقسمت مدينة بعلبك بين مستسلم وخائف التجأ إلى القلعة3، وقرّر التصدّي والمقاومة، فأعلن الجهاد.
 
وأزعج التتر، متخذاً أسلوب حرب العصابات؛ في جبال تكسوها الغابات، صعبة المسالك والممرات، يعرفها جيداً هو ورجاله، في حين
 
 
 

1-لنتذكر اليوم ما كان يُقال عن الصهاينة. إنّ التاريخ عبرة لمن يعتبر.
2-اليونيني، ذيل مرآة الزمان (حوادث سنة 700).
3-م. ن.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

78

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 هي عصيّة على العدو. هذه الطبيعة المقاوِمة، شكلّت فيما بعد ملاذاً للثوار البعلبكيين ضد الأتراك والفرنسيين1.

 
وهنا نسأل، يا ترى ما كان مصير ابن ملّي بعد هزيمة التتار، واندحار دولتهم على يد المماليك؟ من المؤسف له حقاً أن يُلاحقَ ابن ملّي، وبعد قتال دام ما يقرب من سبعة شهور، وبدلاً من المكافأة والتقدير، نجده يُطارد ويلاحق من قبل السلطة الحاكمة الجديدة. يقول اليونيني ما نصه: "ولمّا زالت دولة التتر اختفى"2 ، نعم اختفى، لأن الدولة حشدت جيشاً للقضاء على الملك الأقرع، فخشي على أتباعه، فودّعهم، وسافر متخفياً إلى مصر، واستقرّ فيها سنين طويلة، ثم عاد إلى لبنان، ولم يتجرأ على العودة إلى موطنه بعلبك، فأقام في بخعون من منطقة الضنيّة، وفيها مات (699هـ / 1299م)3.
 
6- ابن ملّي والمقاومة في لبنان: مقاربة وتأمّلات:
 
يذكّرنا جهاد وموقف ابن ملّي اليوم، بجهاد ومواقف رجال المقاومة في لبنان، ضد العدو الإسرائيلي، فما استكانوا، وما هادنوا، وما خافوا أو لاذوا، بل فضّلوا القتال والاستشهاد، والدفاع عن أرضهم، وشعبهم، بدلاً من الاستسلام، وبعبارة أخرى، اختاروا الكرامة على السلامة.
 
 
 

1-من المؤسف له حقاً، أن هذه الجبال اليوم هي جرداء قاحلة. وكم تمنينا أن تشجر وتكسوها الغابات، ولا سيما أن وزير الزراعة اليوم، الصديق والحبيب، هو من منطقة بعلبك.
2- اليونيني: ذيل مرآة الزمان (حوادث سنة 700هـ).
3-يا حبذا لو أن حكومتنا الكريمة، تحاول البحث عن قبر هذا البطل، وتحدّد مكانه، لتكريمه في مماته، بعد المظلمة التي عاناها في حياته، ما دعاه للموت متخفياً. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

79

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 وعذراً سلفاً يا قارئي عن صراحتي الآن، لأنني عندما كنت أكتب هذه الوريقات، عن هذا البطل الكبير، إنتابني شعور غريب وتساؤل مريب، وهو: هل يا تُرى أن مصير أبطال المقاومة في لبنان سيكون كمصير ابن ملّي؟ بمعنى آخر، هل أن مجاهدات وبطولات شباب الإمامية في لبنان ستذهب سُدى، بل ستكون نهايتهم الغربة، والقلق، والتخفّي؟! لست أدري، ولو أنني أدري أن سماحة السيد حسن نصر الله هو الأمين على هذه الدماء التي زُهقت، وأنها أمانة بين يديه، وهي أضحت اليوم ملك التاريخ، فلن تهدر ولن تضيع إن شاء الله تعإلى، بل إن تاريخ لبنان واستقلاله، وحقيقة المواطنة فيه، بدأت مع هذه الدماء والبطولات. والعجب أن المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري، طلبت من المقاومة الإسلامية في لبنان أن تمثل أمامها قيادات وأفراد ومحبون للاستماع إلى شهاداتهم، ويرتاب المرء، هل وراء الأكمة ما وراءها، بمعنى اتهام المقاومين ومطاردتهم لاحقاً، فيصبح مصير قاهر الصهيونية كمصير ابن ملّي البعلبكي، فبدلاً من مكافأتهم على بطولاتهم، وهم أصلاً لا يطلبون ذلك، أقول، فبدلاً من تقدير جهادهم ونضالهم، فهل أن حالهم مع الحكّام المعاصرين، كحال ابن ملّي مع المماليك، أعني، الخوف، والقلق، والتخفّي؟ وأكثر من ذلك، أخشى أن يُخدش في "البعد المعنوي لمقاومتهم"، ويتحولوا مستقبلاً في العقل الجمعي، إلى مرتزقة، وعملاء، بدلاً من مقاومين وأبطال. أظن، أن الأيام حبلى فلننتظر!

 

 

 

 

 

 

 

 

88


80

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 هذه مسيرة أول فقيه إمامي بعلبكي وهو ابن ملّي، وأفضل تسميته بـ (شهيد الوطن). وبعد هذا، فماذا عن الشهيدين؟


7- مواطنة الشهيدين والدعوة للانتماء والتعايش:

أقصد بالشهيدين: الأول: محمد بن مكيّ الجزيني (ت784هـ / 1382م)1، والأكثر شهرة بالشهيد الأول، وأما الثاني فهو زين الدين بن علي الجباعي (ت965هـ / 1558م)2، 
والمعروف بلقب "الشهيد الثاني"، واختصاراً، أسميتهما بـ"الشهيدين".

إن العقل العاملي يبتعد عن صيغة التجزئة كما يبتعد عن منطق الأحادية في التفكير. هو عقل تركيبي تعدّدي يهتم بالكليات وكذلك بالجزئيات. والعقل العاملي عقل موزّع، وفي توزيعه وحدة، كما ينشد وحدة متكاملة في المعرفة، فلا تتجدد أفكاره داخل حقولها الخاصة المنتجة فيها، بل أيضاً من حركة الانفتاح المزدوج على بقية الحقول المعرفية، والقطاعات المجتمعية، وبالتالي تساهم في صنع الأحداث 

 
 
 
 

1-هو: محمد بن مكي بن محمد بن حامد بن أحمد المطلبي، المجتهد الإمامي العلم، شمس الدين، أبو عبد الله العاملي الجزيني، النبطي الأصل، المعروف بالشهيد. ولد في جزين سنة 734 هـ على المشهور. روى عن الكثير من فقهاء أهل السنّة، وأقام في الحلّة فترة، وأتقن الفقه وغيره، وصنّف فيها، وعاد إلى بلدته جزين، وأسس بها مدرسة، ونشر علمه بها. قُتل شهيداً في دمشق سنة 786هـ، ثم صلب ثم أحرق، وذلك في عهد السلطان برقوق، ونائبه بالشام بيدمر. راجع: الشيخ جعفر السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، دار الأضواء، لبنان، ط1، سنة 1999م، ج9 / 231 وما بعدها، رقم 2835.
2-هو: زين الدين بن علي بن أحمد بن جمال الدين الجبعي العاملي، المعروف بالشهيد الثاني. أحد أعيان الإمامية وكبار مجتهديهم. ولد في جبع، سنة 911هـ. تنقل بين قريته، وميس، وكرك نوح، ودمشق، ومصر وغيرها. قرأ على كثير من شيوخ أهل السنّة. صنّف كتباً ورسائل عديدة. مات شهيداً سنة 965هـ على يد السلطان العثماني. راجع: الشيخ جعفر السبحاني: موسوعة طبقات الفقهاء، ج10/ 201 وما بعدها، رقم 3145 (م.س).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

81

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 وتفاعل الأفكار1.

 
ولأن الإنسان في جوهره له عقل يُدرك ويرتّب ويَعي، فإنه يكشف العلاقات وأسباب الانبثاق2.
 
هذا ما اشتغل عليه الشهيدان، حيث نجد أثناء قراءتنا للفكر العاملي عامة، عملاً تأسيسياً "لوحدة العقل المختلف المؤتلف"، الذي يعمل على خلخلة ما هو مستوطن في الساحات الثقافية، ثم يعمل على ترتيبها وتنسيقها ضمن أفق معرفي خاص.
 
هذا ما تميّز به الشهيدان، حيث توسّع نشاطهما خارج جُبع، وجزين، فانتقلا إلى دمشق والقاهرة والحجاز، والآستانة، والقدس، والحلّة والنجف.. يستجمعان أوصال ما تقطّع بين الشيعة والسنّة، ولكن الصراع على الأفكار كان مطيّة للأذى الذي لحق بهما فيما بعد، وهو ما أدى إلى إعدامهما.
 
وكمثال حيوي عن منظومة الشهيد الأول في التعايش والحوار، نجده يستخلص تجربته الشخصية في وصيّة كتبها لإخوانه، وفيها التركيز على الوحدة، والتعايش، والانتماء، وقَبُول الآخر، فيقول الشهيد الأول ما نصّه: وأوصيهم (أي إخوانه) أن لا يذكروا أحداً من المسلمين إلا بخير على ما يُعتقد فيه من بدعة أو شبهة، ولا يفتحوا على أنفسهم باب التأويل
 
 
 

1-علي حرب: تواطؤا الأضداد، الدار العربية للعلوم ناشرون، مؤسسة الاختلاف، ط1، سنة 2008، ص61.
2-كمال البكاري: ميتافيزيقا الإرادة، دار الفكر العربي، لبنان، ط1، سنة 2000، ص41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

82

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 للوقيعة في المسلمين1. وأما الآخر غير المسلم، فسئل الشهيد الأول يوماً عن غير الكتابي إذا وجد تاجراً في بلاد الإسلام، فهل يحلّ ماله أم لا؟ وكذلك الكتابي، فأجاب الشهيد الأول بالنفي، وحرّم الاعتداء عليه، وأخذ ماله، فقال ما نصّه: "لا ريب في حرمة مال حربيّ دخل بأمان إلى بلاد الإسلام، وإن كان المؤمّن سلطاناً متغلّباً، لأنه شبهة. ويثبت في الذمة ماله. ومال الذميّ وكل كافر حرام. ويكون المطالب به يوم القيامة ذلك المأخوذ منه..."2. فهل هناك دعوة للتعايش، واحترام الآخر، أكثر من ذلك؟

 
وإذا ما تركنا نصوص الشهيد الأول، وتأملنا سيرته العملية، نجده مثالاً يُحتذى به في الصدق، والإخلاص، والانتماء الوطني. فهو رفض أي تعامل أو تآمر مع السلطة المملوكية المصرية الناشئة حديثاً، وفضّل الولاء لسلطان دمشق بيَدْمر، بل أظن أن حربه مع تلميذه "اليالوش"، الذي خرج عليه، ووقعت بينهما معركة حامية في مدينة النبطية، وسقط فيها العديد من الشهداء، حتى عرفت بمعركة الشهداء، أعتقد أن هذه المعركة كانت من ضمن هذا السياق، أي رفض التآمر على السلطة الحاكمة مع سلطة أجنبية في طور التكوين والنشوء.
 
ولكن، ومن المؤسف له حقاً، أن هذا الإخلاص للسلطة الحاكمة في دمشق، لم يشفع له، بل نجد "بيدمر" سلطان دمشق، وبعد أن يدرك
 
 
 
 

1-رسائل الشهيد الأول، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، ط1، سنة 1423ق، ص300 (الوصية).
2-رسائل الشهيد الأول، ص274-275 (م.س).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

83

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 إرهاصات ولادة سلطة جديدة حاكمة،أعني بهم مماليك مصر، يُسرع الخطى نحو السلطة الجديدة، ويقيم حلفاً معها وتفاهمات سياسية، فمن هذه التفاهمات، كانت "صفقة دنيئة" تقضي بإعدام الشهيد الأول، القائد والفقيه الذي يشكّل إزعاجاً وحرجاً للسلطة الجديدة. وبالفعل وبعد شهرين من عودة "بيدمر" سلطان دمشق من مصر، نجده ينفذ حكم الإعدام في صديقه القديم، دون أن تشفع عنده تجربة الشهيد المخلصة، ولا ولاؤه الحقيقي له، فضلاً عن رفضه التحولات السريعة مع تبدلات الحكّام، لا سيما أنّ الشهيد نفسه رفض عرضاً جاءه من الأمير علي بن مؤيد الخراساني للذهاب إلى إيران، ومساعدة أميرها في حكمه، فنرى الشهيد يفضّل المكوث في وطنه، والعمل لأجل أهله، واكتفى بتسطير كتاب "اللمعة الدمشقية"، وإرساله للأمير للاستعانة على نشر الشريعة بين أتباعه1. فهل هناك أكثر انتماء ووطنية من هذا الموقف؟

 
8- الإمامية والعمالة: مقالة مملّة:
 
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فهذه الطائفة الإمامية اليوم في لبنان، تقاتل وتستشهد من أجل الوطن، وحرصاً منها على انتمائها الوطني،
 
 
 
 

1-هذا التحليل لا يقبله بعضهم، بل يذهب إلى أن الشهيد الأول لم يكن على علاقة بالسلطة، بمعنى أن عمله كان فردياً وخارج سياق السلطة الحاكمة. وأظن أن هذا الميل هو جنوح في الحكم، وبعيد عن واقعية الأحداث. راجع حول هذا الموضوع وسيرة الشهيد عامة: ستة فقهاء أبطال للشيخ جعفر المهاجر, وأيضاً كتاب المؤسسة الدينية الشيعية للدكتور جودت القزويني؛ ومجموعة مقالات المؤتمر العالمي للشهيدين وتحديداً مقال الصديق الدكتور يوسف طباجة. الصادر عن مركز العلوم والثقافة الإسلامية، قم، ط1، سنة 2009، وغيرها الكثير من الدراسات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

84

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 ورغم ذلك نجد بعض الأصوات العالية تتهمها بالخيانة والعمالة لإيران وسوريا، وتخدش بانتمائها الوطني. ولو أن الإمام المغيّب موسى الصدر عُرض عليه سابقاً صفقة التعامل مع إسرائيل، على قاعدة توحّد الأقليات (يُقْصَد بذلك تعاون الموارنة، والشيعة، وإسرائيل باعتبارهم من الأقليات في الوطن العربي). والصفقة تقتضي أن تعيش الطائفة الشيعية بأمن وسلام، مقابل التعاون. فنجد الإمام الصدر يرفض هذه الصفقة (على عكس غيره ممن يتشّدق اليوم بالوطنية والاستقلال)، ويجيب السائل أن الإمام الحسين عليه السلام منذ ما يقرب من 1400 سنة، علّمنا أن في الحياة طريقين: طريق السلامة وطريق الكرامة. وفضّل الإمام عليه السلام طريق الكرامة على السلامة، وكذلك هو يسير على الخطى نفسها1.

 
9- الشهيد الثاني وقَبُول الآخر:
 
ومهما يكن، فإذا تركنا الشهيد الأول جانباً، وأتينا إلى الشهيد الثاني (ت965هـ)، وبعد مرور ما يقارب من القرنين من الزمن، نجد السيرة ذاتها في التعاطي مع قضايا الوطن، وهموم الناس. فها هو الشهيد الثاني، ورداً على سؤال من أحد أتباعه، سائلاً إياه عن الصلاة خلف المخالف له في المذهب، يجيبه بما نصّه: "وأما الصلاة خلف 
 
 
 
 

1-فضلاً عن أن الإمام الصدر يبين للسائل الهدف من هذا العرض، وهو إشعال فتنة سنيّة وشيعية أولاً، ومن ثم الاستعانة بالشباب الشيعي للقضاء على السلاح الفلسطيني في وقته. راجع نص السؤال الذي طُرح على الإمام في ليبيا وفي آخر مؤتمر صحفي له قبل غيابه واختطافه من النظام الليبي. ولاحظ جواب الإمام الصدر عنه. راجع موسوعة الإمام موسى الصدر، سنة 1978.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

85

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 المخالف ففيها ثواب عظيم، بل هي أفضل وأكثر ثواباً من جماعة المؤمنين"1 !

 
بالطبع هذه دعوة للتعايش، وقَبُول الآخر، بل نجد الشهيد الثاني ورداً على سؤال، يجيز المقاضاة عند قاضي الجور26. فليست هذه الأجوبة وغيرها إلاّ دعوة للانتماء، والعيش بسلام مع أفراد الوطن الواحد، بل نرى الشهيد الثاني، حتى في المسائل العقيدية الخاصة بمذهبه، يحاول تخفيف مدلولاتها للتناسب مع العيش المشترك، فنراه عندما يُسأل عن الناصبي، فيحصره الشهيد بمن أعلن العداوة لأحد الأئمة عليهم السلام، لا من يجحد إمامتهم2. ويعلق بعد ذلك بما نصّه: "وعلى هذا فالناصبي قليل الوجود في الدنيا"3.
 
هذا درس عملي في التقريب، والتعايش السلمي، وقَبُول الآخر، والوفاق. فتفريق الشهيد بين "عداوة الأئمة"، و"الاعتراف بإمامتهم"، وتقريره بأن المعادي للأئمة عليهم السلام قليل 
الوجود في دنياه، لهو "نهج تأسيسي للعيش المشترك، والوفاق الوطني".
 
وليس هذا بالغريب عن نهج الشهيد الثاني، وهو ممن عُرِفَ عنه
 
 
 

1- رسائل الشهيد الثاني، صادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، ط1، سنة 1421ق، ج1/ 585.
2-م. ن. 1/589.
3-م. ن. 1/592.
4-م. ن.25
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

86

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 التدريس، في المدرسة النوريّة في بعلبك ، الفقه على المذاهب الخمسة، فكان يُفتي لكل مذهب على مذهبه1.

 
بل وصف الشهيد نفسه هذه المرحلة من حياته فاعتبرها "أياماً ميمونة وأوقات بهجة"2 ، وأنه "صاحب أهلها على اختلاف آرائهم أحسن صحبة وعاشرهم أحسن عشرة"3.
 
إذن، عمل الشهيد الثاني على بناء مجتمع على صورته، تلتقي فيه المذاهب والآراء، لقاءً مبنياً على التعارف والمعرفة، في مقابل التناكر والإنكار.
 
ولكن، لم يشفع منهج الشهيد التقريبي هذا له، بل نجد السلطة العثمانية الحاكمة، تلقي القبض عليه، وتعدمه، بل تجعل موته لغزاً، حيث لا قبر له ولا مدفن، ولا ذنب له، إلاّ العمل على التقريب، والدعوة للتعايش، والسلم الأهلي، كما نعبّر اليوم.
 
هذه هي خلاصة سيرة فقهاء ثلاثة من الإمامية، مع السلطات الحاكمة في حينه. يعملون على المقاومة فيُطاردون، ويسعون للتعايش والتقريب وترسيخ الانتماء، فيُعدمون ويُحرّقون. وبعد كل ذلك، يُتهمون بالعمالة والخيانة؟!
 
 
 

1-وما زالت آثار هذه المدرسة في مدينة بعلبك، وهي خربة، ولطالما تمنينا أن يعاد ترميم هذه المدرسة، وأن تحمل اسم الشهيد الثاني عليها، بل تحمل نهجه التقريبي، آملاً في المستقبل القريب ترميم هذه المدرسة وتحقيق حلم الشهيد في التقريب.
2-علي بن محمد العاملي: الدر المنثور، ج2/182.
3-م. ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

87

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 في نهاية المطاف:


إذا كان لا بد من خاتمة موجزة لهذا البحث المختصر والمضغوط فإن لي فيها أمنيتين:

أن تتسع صدور المخالفين، وبحيث يتم التعامل مع هذه الآراء بشفافية وشعور عالٍ بالمسؤولية.

أن نتخلى عن الأحكام المسبقة بحقّ بعضنا بعضاً، وبحقّ فقهاء الإمامية والطائفة الشيعية عامة، لأنّه ليس المُهّم أن يتربّع حاكمٌ على كرسي حُكْمٍ بائس لعَقد، أو عقدين من السنين، ثم ينتهي بعدها إلى مزبلة التاريخ تلاحقه لعنة الأجيال والأمم، إنما المهمّ أن تبقى كلمات ومواقف رجل لم يتسنّ له أن يمارس الحكم، أو مارس الحكم فترة محدودة، ولكنه يظلّ حيّاً في ضمائر الناس، يُمارس عليهم سلطته الفكرية والرّوحية، ويستنهضهم دائماً وأبداً للثورة ضد الجبابرة والطغاة، وكأنه حيٌّ لم يمت رغم مرور عقود، بل قرون طويلة على رحيله أو استشهاده.

هذا هو حالنا مع فقهائنا الثلاثة، بالرغم من عدم استلامهم السلطة، ولكنهم بقوا أحياء في قلوبنا، وما زالوا مصدر الثورة فينا.


10- الإمامية و "الأرشيف" و "النبذ" و "الهمّ الوطني":

أعتقد أن المذهب الإمامي، وفي لبنان تحديداً، لن يَجْنَح نحو التخلّي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

88

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 بصَمْتٍ عن إرادة أن يكون ذاتاً فاعلة. ولن يُدمن إلى حدِّ الهوس، ما أسمَاه دريد "مرض الأرشيف"، أي العيش على ذكريات النضال القديم، حيث يتحوّل الماضي إلى مأوى لأحلامه المجهضة أو المعذورة.

 
نعم، في معركة التغيير، تعرّضت الإمامية إلى ما أسماه فوكو (بعملية النبذ) بأشكال شتى، فكان من غير المسموح لها بالبوح بما تريده أو بأي شيء، ولا تعبّر عن نفسها في أي شكل، وبقيت، وما زالت، تناضل كيفما تطابق بين: وعيها، وهويتها، ووظيفتها. وهذا لا يعني، أننا ننظر إلى المواطنة عند فقهاء الإمامية كحالة مذهبية أو سجال مذهبي، إنما ننظر إليها باعتبارها "مشكلة وطنية"، لأن السجال المذهبي إن فُتح لن يُغلق بسهولة أبداً، فأرجو أن نرتقي على المذهبيّة، ولا نجعل أعداء الوطن ينتهزون هذه الفرصة، ويجعلون المذهبيّة أو الطائفية علاّقة يعلّقون عليها مشكلاتهم.
 
إن معالجة هذا المشكل الوطني هو في التوجّه نحو الإصلاح السياسي الشامل في الوطن، لأن الإصلاح الشامل يحتاج إلى تراكم الجهود، وينبغي للشعب وللمجتمع الأهلي أن يكون له الدور الكبير.
 
نحن لا نريد أن يتضخّم لدينا "المشكل الطائفي"، و"الهمّ الطائفي الخاص"، على حساب "الهمّ الوطني العام"، لأننا نرى ميلاً لدى الشعوب العربية إلى التدافع الطائفي1.
 
 
 

1-مجلة المستقبل العربي، عدد 364، حزيران 2006، بحث نيفين مسعد، ص76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

89

الدرس الثالث: المواطنة عند فقهاء الإمامية

 أعتقد أن هذا ما تشكل في عقول فقهائنا الثلاثة، وعملوا على تحقيقه، فقدّموا أرواحهم فداء لذلك. ويظهر أن التشيّع عند فقهائنا الثلاثة، وكما قال الإمام المغيب موسى الصدرهو "رؤية وسلوك" و"اجتهادات ومواقف"، وليس مشروع سلطة أو دولة مستقلة عن منظومة الأمة أو الوطن33. ويدلّل على ذلك أكثر وثيقة حزب الله الأخيرة. فلنعمل سوياً على ترسيخ الهمّ الوطني، لأنه كلما ارتقى الإنسان بطرحه، وبهمّه، أصبح في موقعية متقدّمة، واستطاع أن يخدم همّه الخاص خدمة أفضل1.

 
ولقد صدق من قال: "إذا كان المدفع قد انتزع من سيف البطل صولته، فإن المطبعة انتزعت من قلم الورّاق دولته".
 
والحمد لله ربّ العالمين.
 
 
 

1-راجع الشيخ حسن الصفّار: المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية، دار الانتشار العربي، ط2، سنة 2009، ص32.
2-موسوعة الإمام موسى الصدر, محاضرات في العقيدة,ج11, ص 155.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

90

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر

الشيخ محمد مهدي شمس الدين نموذجا
 
د.حسين رحال1
 
يواجه الفكر الإسلامي تحديات عديدة في علاقته بالدولة الحديثة، لعل من أبرزها مسألة المواطنة والوطن، سواء في مدى قدرته على استيعابها نظرياً في إطار منظومته المعرفية القائمة على أولوية الرابطة الدينية، أو في مدى قدرته على التعامل معها عملياً في إطار مؤسسات الدولة القائمة على الرابطة الوطنية، ومع مكونات المجتمع نفسه وبالتحديد العلاقة مع غير المسلمين من أبناء المجتمع الواحد.
 
لكن صعود حركات الإسلام السياسي عموماً والدعوات إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض البلدان، وكذلك المطالبات بحكم إسلامي في بلدان أخرى، قدّر لمسألة الحسم النظري لقضية المواطنة (لدى الحركات الإسلامية) أن تكون في الصدارة بسبب تأثيرها المجتمعي على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين داخل هذه البلدان من جهة، وعلى مستقبل الفكر الإسلامي المعاصر نفسه لناحية قابلية هذا الفكر على التطور والاجتهاد وتقديم حلول من داخل نسقه الفكري
 
 


1-أستاذ في الجامعة اللبنانية


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

91

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 1-   قابلة للحياة والتنافس مع الحلول الأخرى التي يقدمها الغرب بتجربته الحضارية من جهة أخرى.

 
من هنا يبدو ضرورياً مراجعة إحدى التجارب الإسلامية المعاصرة التي تناولت موضوع المواطنة والوطن، لفهم وتفسير حدود القدرة الإسلامية على معالجة هذا التحدي. وكان اختيارنا لتجربة الشيخ محمد مهدي شمس الدين باعتباره مفكراً إسلامياً عالج هذه المسألة من الناحية النظرية الفكرية كما أنه عايش خطورة هذا الموضوع عملياً في بلد متنوع يضم مسلمين وغير مسلمين وهو لبنان. وتنظيماً للبحث سوف نقسمه إلى قسمين: الأول، يتناول مفهوم المواطنة ومدلولاته. والثاني، يتناول تفاعل الفكر الإسلامي مع مفهوم المواطنة من خلال نموذج الشيخ محمد مهدي شمس الدين. 
 
القسم الأول: مفهوم المواطنة 
 
يرتبط مفهوم المواطنة بصيغته الحالية بنشوء الدولة الحديثة وتطور علاقتها بأفراد المجتمع وبالسياق الثقافي التاريخي لأوروبا الغربية الذي نشأت ضمنه هذه الدولة خلال القرون الأربعة الأخيرة وهي الفترة التي تعرف بالأزمنة الحديثة.
 
كان للقيم والأفكار والتحولات المعرفية التي جرت خلال هذه الفترة المعروفة بفترة الحداثة الأثر البالغ في بلورة مفهوم المواطنة وفي إعطائه الخلفية الثقافية والتاريخية التي يختزنها نتيجة لإعادة إنتاجه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

92

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  في هذه التجربة الخاصة القائمة على ولادة صورة جديدة للانسان عن نفسه، وعن الكون، وتغيير رؤيته للحياة ككل ولدوره فيها، ولعلاقته بتاريخه وبالطبيعة والعالم من حوله1 

 
وأخذاً بعين النظر هذه التحولات المعرفية والتاريخية تبدو المقارنة بين مفهومي المواطنة في السياقين التاريخيين الإسلامي ـ العربي من جهة والغربي من جهة أخرى، مبسطة ومختزلة إذا أريد منها التوصل إلى المماثلة أو التشابه بينهما، أو إلى الاستنتاج بوجود مفهوم المواطنة الحديث نفسه في السياق التاريخي الإسلامي. فالمواطنة لغوياً مشتقة من لفظة المدينة2 ( Citizenshi صلى الله عليه وآله وسلم) في اللغات الأوروبية، لكنها مشتقة في اللغة العربية من الوطن, وهوالمنزل، وموطن الانسان، ومحله. وفقد أثار هذا الأمر سجالات فكرية عند العديد من الباحثين العرب الذين رفض بعضهم اعتبار لفظة المواطنة مرادفاً وافياً بالمعنى نفسه لنظيرتها الأوروبية3.
 
 
 

1-لمراجعة مكثفة للإطار المعرفي المحيط بتبلور الحداثة والتحولات الفكرية لها يمكن العودة إلى محمد سييلا :التحولات الفكرية الكبرى للحداثة مساراتها الابستمولوجية ودلالاتها الفلسفية، في مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، العددان 110 – 111 ربيعصيف 1999
2- يعود ذلك إلى الجانب الاستبعادي- الإقصائيفي تعريف المواطن والمواطنة ، القائم على تحديد وتعريف غير المرغوب دخولهم إلى المدينة من جماعات أو أفراد. فالمدينة في القرن الثامن عشر وفقاً لميشال فوكو : هي مسرح تقنيات الأمن وتحديد الهويات. قبل أن يصبح الحدود الوطنية (حال الولايات المتحدة) في القرن العشرين.انظر البحث المقدم من الباحثة الكنديةماري إلين باريزو بعنوان: المواطنة والهوية وعلوم الجينات: خطوط فاصلة فى عالم معولم إلى مؤتمر المواطنة المنعقد في جامعة الروح القدس بالكسليك (لبنان) بين 15 و 17 آذار / مارس 2007.ونشر في الكتاب الصادر عن الجامعة نفسها حول المؤتمر ، ص69.
3-هيثم مناع، المواطنة في التاريخ العربي الاسلامي، القاهرة – مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، ط 1997م، ص. 5و6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

93

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 كما أنه من التبسيط الشديد التعامل مع مفهوم المواطنة كوصفة جاهزة للتطبيق1، حتى في السياق الغربي نفسه، حيث تبلورت المواطنة في سياقات متفاوتة داخل الدول الحديثة وفقاً لتطور أوضاع مجتمعاتها.

 
المواطنة مفهوم يشرح العلاقة بين الدولة والفرد المنتمي اليها، وبشكل أدق العلاقة المتبادلة بين السلطات داخل الدولة والمجتمع والفرد المواطن. وقد تطورت هذه العلاقة منذ العصور القديمة مروراً بأثينا والتجربة اليونانية ثم المسيحية والإسلامية لتصل إلى مرحلة جديدة يأخذ فيها مفهوم المجتمع المدني والقوى الفاعلة خارج جهاز الدولة الرسمي، دوراً جديداً على حساب الدولة، في إطار تطور مرحلة جديدة أسماها بعض الباحثين بالنسخة الثانية من عقد المواطنة، أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، عاملاً على زيادة الضمانات للمواطن الفرد رداً على تجاوزات الدولة والجبروت الذي عاملت به مواطنيها عندما انحرفت عن مبادئ المواطنة في بعض التجارب الأوروبية (وغير الأوروبية) خلال القرن العشرين2.
 
وتركز التعريفات التقليدية للمواطنة على كون العلاقة التي تربط 
 
 


1-يبدو محقاً الدكتور ملحم شاوول في إيراد هذه الفكرة في سياق نقده لهذا المنحى غير التاريخي في نسخ النماذج بين المجتمعات بعيداً عن سيرورات تطورها الخاص : انظر، ملحم شاوول (وآخرون) اشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان ، تحرير جاك قبانجي، بيروت- دار الفارابي والجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع، ط 2009، ص 61 – 62. 
2-أنظر: شاوول ، مصدر سابق، ص 62 – 63.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

94

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 الفرد بالدولة الحديثة الديمقراطية تخضع لقانون يقوم على الحقوق والواجبات الناجمة عن عضوية الفرد في الجماعة الوطنية التي تثبت رسمياً بالجنسية1. وقد تعددت الوثائق الرسمية التي أصدرتها الدولة الحديثة بدءاً من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لإثبات الجنسية والمواطنية، بين بطاقات الهوية وجوازات السفر، وبطاقات التموين، خصوصاً في التجربتين الفرنسية والألمانية2

 
إن ضرورات الأمن والمراقبة والضبط للأفراد والجماعات، كانت أساساً في إجراءات الدولة لتنظيم أعمال التعريف بالمواطنين وتمييزهم، واستخدمت لذلك تقنيات علمية، كبصمات الأصابع وقزحية العين. ودخلت لاحقاً خصوصاً بعد هجمات 11 أيلول 2001 اجراءات مشددة للتعريف والتمييز بين المواطنين أنفسهم أو بين المواطنين والأجانب – الدخلاء، مثل الاختبارات الجينية الوراثية (الدنا - DNA)3 وأجهزة الكشف الضوئي(سكانر)، مطيحة بمفاهيم حقوقية للمواطنين والأفراد، ما يظهر قدرة الدولة الحديثة ووسائلها التقنية على التحكم والسيطرة، ويظهر بناء عليه الحاجة إلى مواجهة تضخم 
 
 


1-حول تعريفات المواطنة أنظر : علي خليفة الكواري (وآخرون): المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت – مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 2004 ص 30 – 31 وكذلك انظر التفريق الذي يقيمه الدكتور عدنان الأمين بين مفهوم المواطنة كفعل يأتي على وزن مفاعلة، والمواطنة كصفة وكذلك تفصيله لمستويات التعريف في : عدنان الأمين (وآخرون) اشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان ، بيروتدار ا لفارابي ط 2009، م.س ، ص 19 – 51. 
2-ماري الين باريزو، مصدر سابق. 
3-انظر المصدر السابق. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

95

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 سلطات الدولة على حساب حقوق المواطنة. 

 
أما الحقوق والواجبات فتتوزع بين حقوق المواطن السياسية من خلال المشاركة وصناعة القرار ودوره في اختيار صناع القوانين والتأثير فيها كون المواطن أحد طرفي عقد1 تكون الدولة بموجبه الطرف الآخر. وعلى صعيد الواجبات، فإضافة إلى الالتزام بالقوانين، على المواطن واجبات مالية (مثل دفع الضرائب) ودفاعية (الخدمة العسكرية).
 
وإذا ما لاحظنا الكتابات التي تناولت الدولة الحديثة في علاقتها بمجتمعها نلاحظ تركيز بعضها على الجانب القانوني والسياسي في هذه العلاقة وهو ما سوف نسميه هنا بالنقاط التي تناولت الشكل في حين أن فهم إشكالية العلاقة العميقة بينهما تحتاج إلى التركيز أكثر على السياق الثقافي ـ التاريخي والمضمون المعرفي والذي سوف نعالجه تحت عنوان المضمون.
 
أولاً- في الشكل:
 
تشكل الدولة الحديثة شرطاً لوجود المواطنة، بعدما انتقل هيكل الدولة من الارتباط بشخص الحاكم إلى مؤسسات بيروقراطية شكلت الحاضنة لبروز المواطنة بما تقدم من ضمانات تتمثل في الدستور والقوانين والجهاز القضائي المستقل عملاً بمبدأ فصل السلطات. ويعتبر الكثير من
 
 
 

1-بخصوص هذه النقطة بالتحديد وتطور دور المواطن في صناعة القرار والقوانين انظر: أدونيس العكرة، التربية على المواطنة وشروطها في الدولة المتجهة نحو الديمقراطية، بيروت - دار الطليعة، ط ،2007، ص 1835
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

96

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  الباحثين أن النموذج الأهم انتجته الدولة النابليونية الحديثة وهي الدولة الرائدة في بناء هرمية حديثة في الجيشين العسكري والمدني البيروقراطي1.

 
تتميز الدولة الحديثة بانتمائها إلى النموذج الليبرالي الغربي وفقاً لمقولة السيادة المرتبطة بالأركان الثلاثة: الأرض والشعب والسلطة، وهو ما يميز الدولة القومية الحديثة الدولة ـ الأمة (Nation State) والتي تعتبر الحدود الاقليمية أساساً للسيادة والانتماء عبر الجنسية الوطنية والسلطة الوطنية التي تحكم ممثلة للشعب، الذي يعتبر قومية واحدة ذات لغة موحدة خصوصاً مع الاعتراف الرسمي (الدولي) بالسيادة الجغرافية للدولة (الوطن) في معاهدة وستفالي عام 21648.
 
المساواة كمبدأ أساس لحكم القانون وهي الضمانة للمواطنة الحديثة فلا مشاركة سياسية حقيقية دون مساواة فعلية، وبهذا المبدأ تتجاوز المواطنة التمييزات السابقة في التجارب التاريخية بين أفراد المجتمع أو بين جماعاته.
 
فقد ميّزت الحضارة الاغريقية وكذلك الرومانية بين مواطن كامل
 
 
 

1-أبرز من كتب – عربياً- عن هذا النموذج النابليوني الدكتور عبدالله العروي شارحاً دور البيروقراطية وكفاءاتها في أداء ادوار الدولة الحديثة معتمداً على ماكس فيبر وعلى آخرين: عبد الله العروي، مفهوم الدولة ، بيروتالمركز الثقافي العربي الطبعة السادسة (1998)، خصوصاً ص59 حتى86..
2-انظر للتعريفات ذات الطابع القانوني والسياسي : عصام سليمان ، مدخل إلى علم السياسة، بيروت(دون دار نشر)، ط 2010.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

97

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  العضوية في المجتمع والدولة، ويحظى بالمشاركة السياسية ومواطن منتقص العضوية (مواطنين غير احرار أو عبيد أو نساء) لا يتمتع بكل الحقوق والواجبات المتبادلة مع الدولة والمجتمع1.

 
كما أن الامبراطوريات القديمة كانت تتعامل مع المواطنين كرعايا تابعين للسلطات ، ليس فقط فيما يتجاوز وجود حدود إقليمية محددة او الاقتصار على قومية معينة ، بل أيضاً وبشكل خاص بوجود سلطة عليا هي التي تعطي الرعايا2 منحاً بدل الحقوق المتبادلة في مفهوم العقد الاجتماعي أو عقد المواطنة الضمني أو الصريح الذي تمتاز به الدولة الحديثة. ويشير جورج قرم إلى التفاوتات التي تربط الجماعات أيضاً وليس الأفراد فقط في مستوى علاقاتها وفي الحقوق والواجبات المتبادلة بينها وبين السلطة في الامبراطوريات3
 
وتعتبر هذه النقطة بالذات ـ المساواة بين المواطنين ـ مسألة إشكالية في الخطاب الإسلامي لأن معالجتها الفقهية والفكرية السابقة تنحصر عادة في الفقه السلطاني الذي يتعامل مع المواطنين بتصنيفهم بين:
 
 
 

1-علي خليفة الكواري (وآخرون) اشكالية المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية ، م. س. ، ص 25. في القرن الخامس قبل الميلاد وفي أثينا الاغريقية المعروفة بديمقراطيتها المباشرة كانت المواطنة تقتصرعلى الذكور الأحرار البالغ نسبتهمالسبع(1|7) من عدد السكان الذي يقارب الثلاثمائة الف شخص حيث تحرم النسوة من حقوق المواطنة، ويتعامل معهن رغم كونهن حرائر، كمستعبدات. لمزيد من التوسعة انظر كافين رايلي ، الغرب والعالم (القسم الأول) تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، ترجمة عبد الوهاب المسيري ، الكويتسلسلة عالم المعرفة، رقم 90، (يونيو، 1985) ص 10.
2-جورج قرم ، نقلاً عن ملحم شاوول، إشكالية الدولةم. س.،ص67 
3-انظر، شرح ملحم شاوول انطلاقاً من كتابات جورج قرم حول عدم المساواة القانونية والاجتماعية للرعايا المنتمين إلى جماعات مختلفة داخلالنطاق الإمبراطوري: شاوول ، إشكالية الدولة، م.س. ، ص 66 و67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

98

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  مسلمين وغير مسلمين (من أهل كتاب وآخرين). ومن بين مفردات هذا الفقه مفردة إشكالية أيضاً تتعلق بمفهوم أهل الذمة الذي كان يؤمّن (من خلال نظام المِلل العثماني مثلاً) حقوقاً متفاوتة بين الجماعات والأفراد والرعايا ولكن ضمن سقف الاعتراف بالتنوع الديني، الامر الذي كان نادراً في الامبراطوريات الدينية غير الإسلامية.

 
لقد شهدت هذه النقطة بالذات سجالاً حاداً حول انطباق مفهوم المواطنة الغربي على التشريعات الإسلامية السياسية، وكانت مورد اجتهادات عديدة خلال النصف الأخير من القرن العشرين.
 
إلا أن المساواة الكاملة للمواطن لم تأخذ طريقها إلى الوجود مباشرة ودفعة واحدة حتى داخل التجربة الغربية، بل أخذت مساراً تدريجياً حيث لم يكتسب كل المواطنين حق الانتخاب والمشاركة السياسية دفعة واحدة، وتأخر حق النساء في التصويت الانتخابي في سويسرا مثلاً، حتى النصف الثاني من القرن العشرين1.
 
 
 

1-راجع النقاش العلمي الدقيق والواسع الذي يقدمه طارق البشري حول هذه المسألة في : المستشار طارق البشري، بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، القاهرةدار الشروق، الطبعة الأولى 1998، ص 8 حتى 39

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

99

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 ثانياً- في المضمون الثقافي:


يؤدي اقتصار فهم المواطنة على النقاط الواردة في الفهم الشكلي، كما شرح في الفقرات السابقة، إلى خلل والتباس في تفسير مفهوم المواطنة الغربي المنشأ. ولأن أي مفهوم علمي أو سياسي أو قانوني هو تجريد نظري منتزع من سياق اجتماعي ثقافي غني ، فإن الأكثر فائدة في تناول الموضوع هو معرفة الخلفيات المعرفية والثقافية والتاريخية التي انتزع منها، لأخذ صورة أكثر فهماً وتفسيراً.

انطلاقاً من ذلك تبدو الخلفية المعرفية لمفهوم المواطنة الحديث مرتبطة بجملة من المفاهيم الأخرى ارتباطاً وثيقاً. ويمكن معالجتها في مستويين:

مستوى الرؤية الكونية لدور الإنسان الحديث، وهذا المستوى على علاقة مباشرة بإنجازات فترة الحداثة على الصعيد الفكري، حيث كان لمبدأ مركزية الانسان والذات الانسانية في الفكر الغربي تأثيره على المبادئ السياسية الأخرى. فمحورية الإنسان الفرد ساهمت في الدعوة إلى إعطائه المزيد من الحقوق ومنها المشاركة السياسية والمساواة، وإلى الدعوة لتجاوز المبادئ السابقة التي كان المحور فيها مركزيات خارج الذات الإنسانية (كالكنيسة أو التفكير الميتافيزيفي)، وأدى ذلك لاحقاً إلى تكريس مفهوم سيادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطة، وإلى ارتباط انبثاق مفهوم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

100

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 المواطنة الحديث بمفاهيم أخرى ترتبط بالليبرالية الغربية: مثل الحريات الانسانية ومنها الحرية السياسية، و حق الانتخاب والتمثيل، ومفهوم المشاركة1 في السلطة وفي التأثير على السلطة من قبل الجماعات الصغيرة والكبيرة، وحرية الانتماء العقائدي للأديان أو للأفكار غير الدينية.

 
الخلفية الثقافية لنموذج الدولة ـ الأمة التي كرست الانتماء والهوية الخاصة لمواطنيها، وهو انتماء يتحدد بالبعد القومي لهذه الأمة ـ الدولة وبقيمها الثقافية الخاصة.
 
لقد ركزت الدولة الحديثة على الشخصية القومية وتعزيز الهوية الوطنية والتنشئة التربوية الوطنية لمواطنيها. فالدولة هذه ليست وعاءً فارغاً وإطاراً بلا مضمون أيديولوجي يحدد الانتماء الثقافي والسياسي لمواطنيها. وقد تتباين الدول الغربية في البناء الهوياتي الخاص بكل منها، لكنها تتبع المسار العام نفسه:
 
الهوية والانتماء جزء من المواطنة في علاقتها بالدولة. والقيم التي تجسدها هذه الهوية هي قيم أعلى من السلطات والأفراد، وهي المرجع عند حصول المنازعات الداخلية أو ذات الطابع الحذري التي تطال أسس تكوّن المجتمع.
 
 
 

1- ينتقد يورغن هبرماس وأعضاء مدرسة فرانكفورت انتكاس الحداثة  الغربية عن انجاز الديموقراطية بالعودة إلى تعليب المجتمع وقهره بواسطة بيروقراطية الدولة الحديثة مجتمعة مع القوة التقنية ما أفرغ مفهوم المشاركة من مضمونه.راجع بهذا الخصوص: رايان كريب ، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس،الكويت- سلسلة عالم المعرفة،العدد 244، ص 303 وما بعدها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

101

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 فالعلمانية الفرنسية، على سبيل المثال، هي قيمة حاكمة على سلوك المواطنين وحريتهم الفردية أحياناً (نموذج الحجاب وتناقضه مع قيم العلمانية الجمهورية) والدولة هنا ليست محايدة إنما هي ذات هوية دينية واضحة وهي الدين الوضعي1 الآتي على حساب الدين الكاثوليكي أولاً والأديان الإلهية التوحيدية لاحقاً.

 
تبدو التجربة الفرنسية (كدولة وحداثة) استثناءً لأن الحداثة نشأت في الغرب على توافق مع الدين وليس على النقيض معه2. وقد خصص ماكس فيبر قسطاً من أبحاثه لتحديد دور الدين في الانتقال إلى الحداثة الغربية 3. ويشير براين تيرنر إلى العلاقة الوثيقة بين الثقافة الوطنية والثقافة الدينية الخاصة بالمجتمع المحلي، وبنشوء الدولة الحديثة في بعض المجتمعات الأوروبية. ويعطي مثالاً على مدنية (علمانية) دولة لا تتنكر لانتمائها الديني – الثقافي هي الدنمارك التي ينصّ دستورها على أن المذهب الرسمي للدولة هو اللوثرية. ويركز الباحث نفسه على الطابع السوسيولوجي للعلمانية والتفاوت في نماذجها وفقاً لاختلاف الأنماط الثقافية والاقتصادية
 
 
 
 

1-الدين الوضعي أو الديانة الوضعية ليست صفة بل هي ديانة وضعية فرنسية مؤسسة لقيم الجمهورية وفقاًلأربز الدعاة الفلسفيين والاجتماعيين لهذه الجمهورية وهما اوغيست كويت واميل دوركهايم انظر حول آراء كل من كونت ودوركهايم : - نيقولا تيما شيف: نظرية علم الاجتماع, دار المعارف, مصر 1980. واميل بوترو: العلم والدين في الفلسفة المعاصرة, ترجمة: د. أحمد فؤاد الأهواني, الهيئة العامة للكتاب, القاهرة, 1973.
2-ملحم شاوول (وآخرين) في : اشكالية المواطنة والدولة والتنمية في لبنان – بيروت الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع ص 61. 
3-مثل كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية أبرز كتابات فيبر في هذا الإطار: ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، بيروت – مركز الإنماء القومي، 1998.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

102

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  للمجتمعات1. وعلى النقيض أيضاً من النموذج الفرنسي، تغدو القيم الحاكمة للدولة وللهوية الوطنية في الولايات المتحدة الأميركية مختلفة الاتجاه. وهي قيم ومباديء عامة متأثرة بفترة الاستقلال والنضال ضد المستعمر وبأفكار جون لوك2 حول قدسية الملكية الخاصة وحق التمرد (على السلطات التي تتجاوز الحقوق الطبيعية)، أما القيم الدينية فهي في التجربة الأميركية قيم ثقافية يهويدية بروتستانتية، مؤسّسة للدولة ولعلمانيتها الحامية للدين والممارسة الدينية، بما فيها الأديان الإلهية التوحيدية، بعكس التجربة والقيم المؤسسة لدولة مثل فرنسا، وتمثل هذه القيم الايديولوجي الوطنية الاميركية التي تحدد المعايير العامة للانتماء والمواطنة، ومن هو الاميركي برأي الثقافة المسيطرة3.

 
مفارقات غربية
 
يعاني المسار الغربي المتشعب هذا تناقضاً أولياً بين هوية وطنية من جهة وانتماء إنساني نابع من رؤية كونية متمحورة حول الذات الإنسانية
 
 
 
 

1- براين تيرنر، فيبر والإسلام (دراسة نقدية)، لندن - بوسطن – روتلدج وكيغان بول، ط 1974، ويصل الباحث إلى حد التأكيد أن العلمانية في الإسلام إن حدثت فستكون مختلفة عن العلمانية في المسيحية، وأن من ينظر إليها نظرة حتمية وكونية هو مخطىء ،لأنه يتجاهل الطابعالسوسيولوجي للعلمانية وتفاوت تطورها نسبة إلى اختلاف الأنماط الثقافية والاقتصاديةللمجتمعات.انظر صفحات:159 حتى 163.  
2-انظر، كافين رايلي، الغرب والعالم - القسم الثاني،م. س.ص 35.  
3- تبدو ثقافة الواسب (wasp) ،رغم كونها قيم البيض البروتستانت الذين لم يعودوا الأغلبيةفي المجتمع الامريكي، المرجعية التي تحدد من هو الأميركي الوطني ومن هو من الاقليات، وهي القيم والثقافة ذات النفوذ والشرعية والسلطة داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. انظر، دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، بيروت -المنظمة العربية للترجمة، ط 2009،ص 156 – 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

103

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  من جهة أخرى. فالهوية الوطنية في صورها المتطرفة تؤدي إلى وضع "المواطنات" (هويات المواطنين) في مواجهة بعضها بعضاً، وصولاً إلى الحرب (كما حصل في الحربين الأولى والثانية العالميتين). وهذا التناقض نفسه هو الذي تحاول "المواطنة" الأوروبية حله عبر الجمع بين "مواطنة" الهوية الوطنية ـ القومية ومواطنة ما فوق هذه الهوية, عبر المصالحة بين الانتماءين: الانتماء القومي داخل الدولة والانتماء القاري الجبهوي داخل حدود أوروبا. وصولاً إلى فكرة تتجاوز كل الانتماءات الوطنية والجهوية، وهي فكرة المواطنة العابرة للقومية1 والمواطنة العالمية أو الإنسانية. 

 
أما كونياً فقد أدت انتماءات الدولة ـ الأمة المتطرفة إلى عصبية "ثقافوية"، تبرر استعمار الآخرين تحت شعار تحديثهم أو تحت شعار المصالح القومية (الوطنية). وهي العصبية نفسها التي كرست تمايز الأعراق بمبررات ثقافية وبيولوجية تستند إلى علوم الفكر الغربي الحديث، ومنها العرقية الاجتماعية المستندة إلى الداروينية، والايديولوجيات القائمة على فكرة التفوق الحضاري على الآخرين خارج أوروبا.
 
هكذا نشأت نعوت "البربرية" تجاه الثقافات الأخرى فيما عرف بـ "المركزية الاثنية" والثقافية، الأمر الذي حدا بـ"كلود ليفي شتراوس"
 
 
 

1-ملحم شاوول، م. س.، ص 65، حيث يشير إلى تبلور المرحلة الثالثة من عقد "المواطنة"من خلال العبور من الكيانية الهوياتية إلى المواطنة العابرة للقوميات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

104

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  (الانتربولوجي المعروف) إلى اعتبار أن "البرابرة" هم من يصفون الآخرين بالبرابرة1.

 
أعاد الفكر الغربي تقويم التجربة بمراراتها وإخفاقاتها من جهة وإنجازاتها من جهة أخرى. وإذا كانت تجربة الاستبداد واحتكار السلطة والعنف بواسطة أجهزة الدولة الحديثة قد مثلت تجربة مريرة سواء في النسخة الاشتراكية والسوفياتية، أو في النسخة الأوروبية الغربية, الألمانية والايطالية (خلال أواسط الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين). الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى الدعوة لإعادة تعريف "المواطنة"، وإعطاء المواطن الفرد ضمانات سياسية واجتماعية جديدة عبر مستويين من مستويات تعزيز المواطنة: 
 
1- إعادة توزيع السلطة داخل المجتمع من خلال تغذية مراكز النفوذ الأهلية كـ"المجتمع المدني"2، وذلك حفاظاً على حقوق "المواطنة" عند أفراد الشعب في مواجهة سلطة الدولة القهرية المتعاظمة.
 
2- التركيز على أن عقد "المواطنة" يتضمن أيضاً مفاهيم العدالة 
 
 
 
 

1-انظر، دنيس كوش، مفهوم الثقافة..، م. س.،ص 59و60. ويعتبر الاميركي وليام سامر (Wlliam G.Summer) أول من أطلق مصطلح "المركزية الإثنية" عام 1906 في مصنفه ( Folk ways). (...)".كان العالم اليوناني الروماني القديم ينعت بـ"البرابرة" كل من كانوا خارج الثقافة اليونانية الرومانية. لاحقاً, في أوروبا الغربية, استعملت كلمة "متوحش" في المعنى نفسه بقصد إقصاء غير المنتمين إلى الحضارة الغربية خارج الثقافة, وبعبارة أخرى إقصائهم في الطبيعة".(المصدر والصفحة نفسهما) 
2-انظر شروحات جاك قبانجي استناداً إلى "أرنست غلنر" وغيره: جاك قبانجي (وآخرون) ، إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان، مصدر سابق، ص355.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

105

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 الاجتماعية وتوزيع الثروة والتنمية والإنماء المتوازن (بالمعنى اللبناني)، والتي هي من أهداف وجود السلطة والدولة (وحتى شرعيتها). فإذا ما عجزت الدولة عن إنجازها بشكل واضح فإنها لا تسقط وحدها بل إنها تهدد عقد المواطنة نفسه بالزوال.

 
القسم الثاني: المواطنة في الفكر الإسلامي
 
احتاج الخطاب الاسلامي إلى المرور بمراحل عدة والقيام بتكييفات سياسية وفكرية ضرورية قبل الوصول إلى تقبّل مفهوم المواطنة (والوطن) كما ورد من الغرب. وتمثّل تجربة الشيخ محمد مهدي شمس الدين نموذجاً واضحاً في هذا المجال.
 
محمد مهدي شمس الدين ومسألة المواطنة
 
لم يتبلور مفهوم المواطنة والمواطن (والوطن) بما يحمله من معانٍ حديثة، في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلا في مرحلة متأخرة من حياته، ذلك أنه كان يتبنى رؤية إسلامية سائدة بين الحركات الإسلامية الصاعدة حينذاك - في الستينات والسبعينات من القرن العشرين- تركز على العقيدة قبل الإنسان الفرد.
 
العقيدة الإسلامية هي محور الانتماء والهوية حينها والشريعة الإسلامية هي الهدف، فيما يغيب المواطن الفرد بما هو فرد تابع لدولة محددة، ذات سيادة محددة، حيث مواطنوها متساوون بغض النظر عن انتماءتهم. وبدلاً من ذلك تذوب شخصيات الأفراد والانتماءات
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

106

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 الخاصة داخل الدول ـ الأمم، والمجتمعات الأهلية لصالح الذوبان في الأمة الأكبر, الأمة الإسلامية.

 
المواطن الفرد لا يظهر هنا بل الفرد المسلم ، ومع ذلك فإن شرط الالتزام العقائدي يميز بين: مسلم مؤمن ملتزم هو الفرد الحقيقي والمحترم وصاحب الحقوق، ومسلم غير ملتزم وغير متدين هو منبوذ ولا يتحلى بكامل الاحترام. والمسلم الثاني هذا إذا لم يطبق تعاليم القرآن ويستوعبها، يصبح برأي شمس الدين أقرب إلى "الحمار" الذي يحمل أسفاراً، تشبيهاً له بما ورد في الآية الخامسة من سورة الجمعة من القرآن الكريم، إذ يعتبر: "إنه (المسلم) يعتقد الإسلام نعم، لكنه لم يتحد مع الإسلام ليتحول إلى طاقة فاعلة وإنما هو (يحمل) الإسلام فلذا بقي كتلة جامدة، إنه حمار (يحمل أسفاراً)"1.
 
يمثل كتاب شمس الدين بين الجاهلية والإسلام قمة المغالاة المثالية في رفض الغرب وقيمه باعتبارها حضارة مادية كافرة، وضرورة استعادة المسلم لهويته الإسلامية الخاصة القائمة على الرابطة الدينية والالتزام العقائدي الكامل خارج أي أطر مستوردة على الطريقة الغربية.
 
ما كان بالإمكان في هذه المرحلة الثورية المثالية من تفكير شمس الدين ونظرائه الإسلاميين، القبول بأي روابط ذات طبيعة وطنية أو قومية. واحتاج الأمر إلى سنوات عديدة للتعامل, أولاً بواقعية - برغماتية،
 
 
 

1-محمد مهدي شمس الدين، بين الجاهلية والإسلام، بيروت – مجد، ط 1984،. ص 306.(الطبعة الأولى عام 1975)

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

107

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 وثانياً إلى نحو عقدين من الزمن للانتقال إلى مصالحة مع المفاهيم الغربية عن الوطن والمواطنة الحديثة.

 
وفي هذا الإطار يسجل بقاء مفهوم الأمة الإسلامية التي تضم جميع المسلمين من كل الاقطار، مركزياً في تفكير الشيخ شمس الدين طوال فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، على حساب الانتماءات الوطنية (القطرية) والقومية الأخرى.
 
الانتماء: الأمة أم الوطن ؟
 
ما كان بإمكان شمس الدين الخروج عن الخطاب التقليدي للإسلام الحركي حتى أواسط الثمانينات من القرن العشرين، فكان يميّز بوضوح بين الانتماءات الثلاثة: الإسلامية والقومية والوطنية / القطرية، معطياً الأولوية للانتماء العقائدي, الرابطة الإسلامية، مستنداً إلى مفهوم الأمة الإسلامية التي تضم بلاد جميع المسلمين، المنتمية تاريخياً إليها.
 
إن استعادة وحدة الأمة بالمعنى السياسي الكامل والمباشر هو الهدف وهو المشروع السياسي والعقائدي والتربوي للمسلمين، وهيئاتهم القيادية المختلفة، وحتى لدولهم وأنظمتهم "(...) الأمة مصطلح سياسي اجتماعي له مضمون واحد، أو كيان واحد بمعنى من معاني التوحيد، وهو لا يتنافى مع التنوع أبداً حتى على صعيد تعدد الأئمة.."1.
 
 
 
 

1-محمد مهدي شمس الدين، دراسات ومواقف/ في الدين والسياسة والمجتمع جزء3، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر والمؤسسة الجامعية ط1، 1993، ص253 والنص في الاصل محاضرة بعنوان الوحدة الإسلامية ومفهوم الأمة، ألقيت في 9 تشرين الثاني 1987ص25.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

108

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 الوحدة السياسية للأمة الإسلامية المنشودة، لا تقوم بالضرورة على نموذج تاريخي سابق ينبغي نسخه، بل يجب أن تخلق نموذجها الخاص، وأن تكون "منسجمة مع حاجات المسلمين، ومع واقع النظام العالمي(...) ومع الدور المرتقب للأمة الإسلامية في العالم، الدور الثابت، الأمة الشاهدة، والأمة الوسط(...)"1.

 
أما كيف توحّد الأمة سياسياً، أيكون ذلك في قيام دولة إسلامية مركزية واحدة؟؟ فإن "هذه مسألة من المسائل التي ينبغي أن تطرح ولكنها ليست عائقاً ابداً، يوجد في علم الكلام، وفي الفقه السياسي حلول كثيرة، لأي صيغة من الصيغ التي يمكن أن تنسجم مع الكتل الدولية القائمة فعلاً"2.
 
يتعامل شمس الدين هنا مع الدولة القطرية / الوطنية كأمر واقع، وليس ككيان كامل الشرعية يحظى بالرضى من وجهة نظر إسلامية فكرية. ولذلك فإن أولوية الأمة ووحدتها تؤدي عملياً إلى مسارٍ يتجاوز 
 
على مختلف المستويات, كي لا يبقى واقعهم (غير الشرعي مبدئياً) والمُتعايش معه هو الأصل بل إن وحدة الأمة هي الحقيقة التاريخية والشرعية التي أبعدتها التجزئة والاستعمار.
 
كيف نتجاوز الوطني ـ الوطنية لمصلحة الانتماء الأممي؟
 
يؤكد شمس الدين على ضرورة أن تكون الوحدة السياسية للأمة 
 
 
 

1-المرجع نفسه، ص267.
2-لمرجع نفسه، ص256.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

109

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 همّاً عاماً لكل الجماعات في مختلف البلدان الإسلامية. لكن ذلك قد يثير إشكاليات عديدة، في العالم العربي، خصوصاً العلاقة بين مشروع الوحدة من جهة، والدولة الوطنية، أو التكتلات الإقليمية المتعددة، أو المشروع القومي من جهة ثانية، حيث يتساءل عن هذه الانتماءات والصيغ ما دون الأمة "(...) هل هي عوائق أمام مشروع الوحدة الإسلامية أم لا؟"1.

 
ويجيب في معرض الموافقة على كونها عوائق فعلية بمعنى ما من المعاني: "بالتـأكيد هي ليست عوائل مساعدة"2. ولكن ما هو الحل؟ يتعاطى شمس الدين ببراغماتية مع الانتماءات الوطنية والقومية في إطار إعطاء أولوية للانتماء الاسلامي ورابطة الوحدة, فالدولة الوطنية هي واقع ينبغي التعايش معه مؤقتاً عبر تحييده، كي لا يصبح عائقاً أكبر أمام مشروع الوحدة، وكذلك الانتماء القومي أو المشروع القومي هو من الوقائع غير المحبّذة، فالصيغة التي يحبّذها شمس الدين هي "أن يُحيد المشروع الوطني أو المشروع الأقليمي يُحيد، [وأن] يستمر المشروع الوحدوي على مستوى الأمة في تحركه (...)3 
 
يغيبُ هنا مشروع المواطنة والمساواة بين مختلف المواطنين، مسلمين وغير مسلمين، عن النقاش والأولوية المعطاة للمشروع ما فوق الوطني وما فوق القومي، أي مشروع الرابطة الإسلامية القائم على 
 
 
 

1-شمس الدين، المصدر السابق، ص267. 
2-المصدر نفسه، الصفحة نفسها. 
3-المصدر نفسه، الصفحة نفسها. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

110

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 وحدة أمة المسلمين جميعاً.

 
مع غياب مفهوم المواطنة الحديث تغيب المسلمات الحديثة حول الدولة وسيادتها، وكذلك أي دعوة للاندماج داخل الدولة نفسها عربية أو غير عربية. المهم أن يندمج المسلمون في مشروع سياسي واحد أكبر وأوسع من أوطانهم القطرية، ولو كان ذلك عبر مشروع طويل المدى قد يمتد إلى نصف قرن من الزمن1. ولا مانع في أن يكون ذلك عبر اعتماد صيغ مستحدثة، سواء عبر اقتراح "كومنولث اسلامي" سبق وأن طرحه "مالك بن نبي" (1900 ـ 1973) أو في مسار مشابه لمسار الاتحاد الأوروبي الوحدوي، أو عبر أممية دولية تشابه الأممية الاشتراكية الثانية أو الثالثة2. أما آليات الوحدة المقترحة من قبله فهي تعتمد على:
 
أ- الانطلاق من القاعدة الشعبية، وليس الانطلاق من فوق, أي من قرارات رؤساء وحكومات. فالوحدة ليست قراراً سياسياً فقط3. والصلات الشعبية هنا ينبغي أن تتواصل مخترقة الحدود الوطنية، حتى ولو كان ذلك عبر الضغط على الحكومات (القطرية): "إن المسألة الشعبية في كل بلد إسلامي، هي تضغط على نظامها الخاص ليكون أقرب إلى مواقع الوحدة منه إلى مواقع التجزئة"4.
 
 
 

1-المصدر نفسه ص262 وص 266. 
2-المصدر نفسه ص263. 
3-المصدر نفسه ص262. 
4-المصدر نفسه ص263.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

111

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 ب- الوحدة هي عقائدية دينية، وليست مجرد وحدة بين مسلمين أو أفراد أو جماعات: "لا نتصور وحدة إسلامية بدون إسلام، يعني وحدة مسلمين بدون إسلام. لا نتصور.. أن المفهوم الإسلامي كمعتقد، وكتشريع، وكسياسة يأتي في صميم مقولة الوحدة"1.

 
ج- دور أساس للحركات والأحزاب الإسلامية التي حولت الوحدة الإسلامية من همّ نخبوي إلى همّ شعبي عام، والتي هي ركيزة أساسية للعمل من أجل الوحدة2.
 
د- التربية على الوحدة في برامج التعليم والتنشئة، وإقرار مادة "الأمة الإسلامية" كمادة أساس في كل مجالات التعليم الابتدائي والعالي والمتخصص، "... لا أمانع من باب الرضوخ والاعتراف بالواقع أن تُعلم مادة التربية الوطنية، يعني تنمية الروح الوطنية، أو تنمية الروح القومية، لكن يجب أن تعلم مادة الأمة الإسلامية3.
 
إن تنمية الالتزام والوعي بالوحدة ليست مسألة تربوية فقط، بل لا بد من تنمية شعور المسلم العادي في كل البلدان الإسلامية بأنه جزء من أمة "وهي مسؤولية المسلمين السياسية عن بعضهم البعض"4.
 
 
 
 

1-المصدر نفسه ص261. 
2-المصدر نفسه ص 261 و263. 
3-مصدر سابق، ص265. 
4-المصدر نفسه، ص255.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

112

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 التحول الفكري نحو الوطن والمواطنة


انتظر الأمر بضعة سنوات أخرى قبل أن يطور شمس الدين موقفه الفكري والفقهي والسياسي من مسألة الدولة وحدودها الوطنية، وما ينتج عن ذلك من بداية شرعنة لمسألة المواطنة.
واحتاج ذلك إلى تكييفات فقهية وفكرية طالت منهج الرؤية الاجتهادية ككل وليس مجرد اجتهاد جزئي. وما كان ذلك ممكناً قبل بداية العقد الأخير من القرن العشرين أي تسعينات القرن نفسه. وقد استند الشيخ شمس الدين في ذلك إلى مصدرين أساسين: 

1 - مجموعة من الأدوات المفاهيمية طورها الفقه السياسي السني وخصوصاً المجددون المعاصرون أمثال: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور حسن الترابي والشيخ راشد الغنوشي.

2 - العودة إلى معطيات تاريخية إسلامية كانت مُغيّبة في السابق، ولم يكن يُعيرها الشيخ شمس الدين والخطاب الإسلامي التقليدي للحركات الإسلامية أيّ اهتمام فعلي، ومن هذه المعطيات "صحيفة المدينة" أو ما عُرف بالميثاق الذي عقده الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مختلف مكونات المدينة المنورة من قبائل عربية، ويهودية، ومسلمين عندما هاجر إليها من مكة المكرمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

113

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 كان الأهم في "عهدة" المدينة المنورة أنها تقرّ بإقامة مجتمع تعاقدي بين مسلمين وغير مسلمين ضمن أطر عامة متفق عليها في التعايش، وفي الدفاع، وفي احترام الخصوصيات، وفي إعطاء الدور القيادي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الاستناد إلى مرجعية داخل ـ إسلامية يسمح لأتباع الحركات الإسلامية المعاصرة (وشمس الدين كان أحد منظريهم) بمغادرة الخطاب الجامد والصلب حول الأمة الإسلامية الواحدة، بالمعنى السياسي، التي يوصلها بعضهم إلى حد وجوب إقامة خلافة إسلامية1. فيما يوصلها بعضهم الآخر كالشيخ شمس الدين (عام 1987م) إلى حد وجوب إقامة كيان سياسي جديد مع صبغة حديثة، كما شرحنا ذلك آنفاً.

 
يستنتج الشيخ شمس الدين من قراءته لميثاق المدينة خلاصات هامة في هذا الموضوع: "والخلاصة أنه يستفاد من الصحيفة وجود مفهومين للأمة في الفكر الإسلامي، أحدهما الأمة القائمة على التوحد في الانتماء الديني. وهذه يمكن أن تتوحد في التكوين السياسي، ويمكن أن تتعدد في هذا التكوين. وثانيهما: الأمة القائمة على التوحد في الانتماء إلى مشروع سياسي واحد، وكيان سياسي 
 
 
 

1-من أبرز الحركات التي ترفع شعار إعادة إحياء الخلافة الإسلامية كما جرت في التاريخ كبرنامج سياسي وفكري لها حزب التحرير الإسلامي الذي أسسه تقي الدين النبهاني (19091977م)، المحظور في غالبية البلدان الإسلامية حيث يعتبر الحزب أن إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924 أدى إلى زوال حكم الإسلام عن كل الأرض المستمر منذ عهد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك صارت البلاد الإسلامية "دار كفر". وقد أعد الحزب مشروع دولة إسلاميةتقوم على الخلافة.( فيصل دراج وجمال باروت، (منسقان)، الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، دمشق – المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، ج2، 2000م ، ص 51 حتى 55). 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

114

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 واحد. وهذه يمكن أن تتوحد في الانتماء الديني، ويمكن أن تتنوع في هذا الانتماء"1.

 
ينتقل شمس الدين إلى النتيجة الهامة المتعلقة بمسألة النقاش وهي المواطنة فيستنتج التالي مما سبق: "فقد تتساوى (المواطنة) مع الانتماء الديني حين يكون المجتمع السياسي كله ذا انتماء ديني واحد، فيتحد في الخارج المعاش مفهوم الأمة مع مفهوم الوطن والدولة والمواطنة"2.
 
يكتمل الانتقال من مستوى الوحدة السياسية للأمة الإسلامية التي دعا إليها قبل 3 سنوات فقط (عام 1987) إلى مفهوم الدولة ذات السيادة بحدود جغرافية واضحة على النمط الغربي الحديث مع استناد الشيخ شمس الدين إلى تجربة المدينة المنورة ليعطي الدولة (ذات السيادة والسلطة والحدود الجغرافية والشعب المحدد بالانتماء إلى حدودها، وهي شروط الدولة الحديثة المعاصرة، الشرعيّة الدينية الإسلامية من داخل التجربة الإسلامية.
 
ففي القسم الثاني من كتاب نظام الحكم والإدارة المعنون بـ"الإدارة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم" (وهو قسم لم يكن موجوداً في الطبعة
 
 
 

1-شمس الدين، نظام الحكم والادارة في الاسلام، قمدار الثقافة للطباعة والنشر ط 3، 1992 / وهي نسخة عن الطبعة الثانية 1991/ ص535. ولشدة اهتمامه بـ"صحيفة المدينة" أفرد لها شمس الدين مساحة واسعة في كتاب آخر له هو "في الاجتماع السياسي الاسلامي"، قم (ايران) – دار الثقافة، الطبعة الاولى في ايران عام 1994، ص285 وما بعدها. 
2-شمس الدين، نظام الحكم والإدارة..، م. س ، ص535. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

115

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  الأولى من الكتاب الصادرة عام 1955) وفي معالجة جديدة بالكامل تخالف رؤيته السالفة (في الطبعة الاولى) حتى في المصطلحات وخلال نقاشه للصحيفة (صحيفة المدينة) وفي فقرة جاءت تحت الرقم 5 وبعنوان له دلالة حديثة كالتالي: "5 ـ أرض الدولة وحدودها/ السيادة" وتحت هذا العنوان يوضح أن "الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أرسل بعض أصحابه أن يبنوا أعلاماً على حدود حرم المدينة: بين لاميتها شرقاً وغرباً، وبين جبل (ثور) في الشمال وجبل (عير) في الجنوب، ووادي (العقيق) داخل الحرم"1.

 
يتقدم شمس الدين خطوة أخرى إلى الرؤية الحديثة للدولة فيستفيد منها لإسقاطها على الدولة الإسلامية المفترضة نفسها، وفقاً لرؤية معاصرة تنطلق من المرجعية التاريخية والتراثية الإسلامية: "إن هذه النصوص تعني: أن الدولة الإسلامية، لها أرض خاصة بها ضمن حدود، وأن الانتماء إلى مجتمعها السياسي يكون بالانتماء إلى هذه الارض: "إقامة" "جنسية" (= مواطنة = ولاية)، وأن قوانينها، وأوامرها السياسية، نافذة المفعول على أرضها وضمن حدودها، وعلى المنتمين إليها دون غيرهم، وإن كانوا مسلمين"2.
 
هكذا تُصبح الحدود الجغرافية أساساً للدولة الإسلامية وسلطتها لكن ذلك يمثل الحد الأدنى، إذ لا مانع عند شمس الدين من الانطلاق 
 
 
 

1-شمس الدين، المصدر السابق، ص538. 
2-شمس الدين، نظام الحكم..، م. س.، ط2، ص539. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

116

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 إلى التوسعة1 وضم مسلمين وحدود جديدة، لكن ضمن الرؤية التي سبق وشرحها وهي مسألة السيادة التي تتعلق بالسلطة داخل حدود جغرافية. وهنا يبدو التكييف الكامل للفقه السياسي مع المعاصرة والحداثة الاوروبية في مجال التشريع السياسي للدولة.

 
المواطنة والمساواة
 
لا يكفي الاعتراف بالانتماء الوطني (المتعدد الأديان) والمحدد جغرافياً لكي تصبح المواطنة كاملة، فالمواطن غير المسلم يمثل فرداً لا يحظى بكامل حقوق المواطنة الحالية كما كانت تتعامل معه الرؤية الإسلامية التاريخية. وهذا ما احتاج من الشيخ شمس الدين إلى بذل جهود فكرية وفقهية، اضطر معها للاستعانة بالتطورات الحاصلة في المناخ الثقافي السني، والمستندة إلى جذور في الفقه السياسي السني، ليؤصّل حقوق المواطنة لغير المسلمين في جهاز الدولة الإسلامية وخصوصاً لجهة المساواة في تسلم المناصب الإدارية والسياسية.
 
هذا الرافد ما كان ممكناً لولا تطور معرفي حصل في بنية التفكير عند شمس الدين وهو تغير ابستمولوجي1 ما كان ليحصل لولا اطلاعه (الجزئي) على التطور المنهجي القائم في العلوم الإنسانية الغربية،
 
 
 

1-المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
2-بخصوص هذه النقطة بالتحديد انظر: حسين رحال: إشكاليات التجديد/ دراسة في ضوء علم اجتماع المعرفة، بيروتدار الهادي، ص310 وما بعدها. وكذلك انظر حسين رحال، محمد مهدي شمس الدين/ دراسة في رؤاه الإصلاحية ، بيروت – مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، ط 2010 ، حيث يتحدث الفصل الثاني عن تطور الاجتهاد لديه، من الناحية المعرفية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

117

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

وكان من نتيجة ذلك توصله إلى إمكانية التفريق بين بنية الدولة الإسلامية السلطانية في التاريخ، وبنية الدولة الحديثة البيروقراطية والتعاقدية.

 
من هنا يأتي نقد شمس الدين للدولة التاريخية الإسلامية في صيغتها التي كانت تتضمن سلطات مطلقة وفردية للعامل او الموظف الإداري، في حين أن الصيغة المعاصرة للدولة الإسلامية كما يتصورها شمس الدين لا تتضمن الصلاحيات نفسها للعامل في أجهزة الدولة الذي يحمل صلاحيات تنفيذية فقط، هو مجرد ناقل للقرار1 وليس صاحب القرار.
 
هذا الفهم المعاصر لبيروقراطية جهاز الدولة والاستعانة بمواد الفقه السياسي السني أمّنا النقلة المعرفية لجواز تسليم غير المسلم مناصب في الدولة الإسلامية في إطار المساواة ضمن المواطنة، ولذلك يورد شمس الدين عن الماوردي الشافعي (ت 450 هـ) في "الأحكام السلطانية" وأبي يعلى الفراء الحنبلي ( ت 458 هـ ) جواز أن يتولى غير المسلم وزارة التنفيذ: "ويجوز أن يكون (وزير التنفيذ) من أهل الذمة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم"2.
 
بقيت المسألة ضمن إطار الدولة الإسلامية فلم يطوّر شمس الدين هنا رؤية أكثر مساواتية لمفهوم المواطنة، إذ بقيت الإشكالية المطروحة
 
 
 

1-شمس الدين، نظام الحكم..، مصدر سابق، ص492. 
2-المصدر السابق، الصفحة نفسها 492. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

118

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  حول عمل غير المسلم في دولة المسلمين، لا في دولة تعاقدية تمثل قيم الطرفين. ولذلك فالمساواة هي ضمن إطار السلطة التنفيذية للحكومة التي تهتدي بهدي القيم الإسلامية العامة، وأجهزة الدولة التي توضع لها سياسات عامة إسلامية تمنع على "الكافر" أو غير المسلم أن يتخذ قرارات شخصية، وأن يستعلي على المسلمين1.

 
نحو مواطنة أكثر وضوحاً
 
لم يحصل الانتقال من مفهوم الأمة الإسلامية الموحدة سياسياً في مشروع ما أو كيان سياسي ما (وهي رؤية كانت توحّد بين الوطن والأمة عبر الرابطة الدينية في كيان سياسي) إلى مفهوم الوطن المتنوع المفصول فيه الانتماء السياسي عن الانتماء الديني، دفعة واحدة, ثمة مراحل متدرجة في الخطاب السياسي للشيخ شمس الدين قبل الوصول إلى نتيجة يمكن تسميتها "مدنية" الدولة والوطن.
 
عام 1990 حصل الانتقال الأول من الوحدة السياسية للأمة الإسلامية إلى القبول بالتجزئة السياسية ولكن بشرط الحفاظ على المضمون العقائدي للدولة, أي الدولة الإسلامية. وكان ذلك عبر القبول بنشوء أوطان إسلامية ودول إسلامية عديدة داخل الأمة. وبهذا المعنى تصبح أمة واحدة بالمعنى الثقافي وتنتهي وحدتها السياسية كما كان يطالب شمس الدين قبل نحو ثلاث سنوات أو أربع فقط: "فلا بد للحركات
 
 
 

1-انظر النقاش الواسع لشمس الدين حول هذه النقطة في المصدر السابق: ص491507.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

119

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  الإسلامية السنية من أن تستنبط صيغة فقهية للدولة الإسلامية المعاصرة (غير نظام الخلافة) تصلح للانسجام مع الواقع الدولي الإسلامي ومع الواقع الدولي العام، يمكن في إطارها إقامة أنظمة إسلامية في نطاق وطني أو قومي يحفظ لكل شعب مسلم كيانه السياسي الإقليمي وشخصيته الخاصة في إطار وحدة الأمة"1.

 
بات للمسلم انتماءان: واحد عقائدي، روحي (ثقافي)، وآخر سياسي لدولة محددة، يحمل جنسيّتها. وهنا بدأت "المواطنة" و"الجنسية" تأخذان الشرعية في الفكر السياسي الإسلامي من باب التنظيم والتدبير2
 
جاء تثبيت التجزئة القطرية والقومية على حساب وحدة الأمة، ولحق به تحوّل آخر بعد فترة صغيرة مماثلة، إذ بقيت القطرية والتجزئة وذهب الشرط السابق وهو إسلامية الدولة المعاصرة (هوية النظام السياسي)، فلم يعد هذا أساساً للحفاظ على الهوية (الإسلامية). أمكن لشمس الدين بدءاً من العام 1993 القبول بدول لها مجتمعات إسلامية وضمن هذه المجتمعات يمكن أن يكون هناك مجتمعات يشكل فيها المسلمون 95 % من السكان (وما فوق) ولها وضعها الخاص من ناحية الحكم (الإسلامي)، ومجتمعات (حتى ولو كانت ذات غالبية إسلامية) لا تصل إلى نسبة 95% من المسلمين، ولكنها يجب أن تكون مجتمعات 
 
 
 

1-شمس الدين، نظام الحكم والادارة..، م. س. ، ط2، ص414. 
2-شمس الدين، في الاجتماع السياسي الاسلامي، م. س.، ص 138 – 139.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

120

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 متنوعة1، عليها الحفاظ على تنوعها وهذا التنوع هو أحد أبعاد الهوية الذي كان سابقاً يُختزل في بُُعد واحد هو إسلامية الدولة والمجتمع.

 
هكذا تصبح مصر ولبنان مثلين على هذا المجتمع المتنوع الذي فيه مسلمون وغير مسلمين (مسيحيون). وفي هذه الفترة بالذات ينتقل التفكير السياسي للشيخ شمس الدين من فكرة الدولة والحكم الاسلامي المعاصر، الخارج عن الشكل التاريخي للخلافة أو الإمامة، إلى مجتمع المواطنة. هنا بالتحديد يبدأ تبلور فكر سياسي أقرب إلى النموذج الغربي الليبرالي, أصبح الوطن الآن انتماءاً فوق ديني، والتنوع فيه أساس هذا الانتماء. تمّ التحول هنا إلى رابطة "الوطنية" التي تحفظ التنوعات المختلفة. "(...) أنا أقبل بمجتمع متنوع. المجتمع اللبناني مجتمع متنوع، هذا التنوع يفرض نمطاً معينا ًفي النظام السياسي، وفي مشروع الدولة، وأنا ألتزم بكل مقتضيات التنوع من منطلق أن الوحدة السياسية للمجتمع هي المواطن وليس الطائفة"2
 
تخلي شمس الدين عن شرط إسلامية الدولة وقبوله بالتجزئة القطرية والقومية في الآن نفسه، فتح الباب أمام شرعيّة الدولة بصيغتها الحديثة دون شروط باستثناء واحد، هو شرط عام يلتقي فيه مع الفكر الليبرالي غير الإسلامي، وهو شرط موافقة الغالبية الشعبية واحترام 
 
 
 

1-شمس الدين. الأمة والدولة والحركة الإسلامية، بيروت- منشورات مجلة الغدير (المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى)،ايلول 1944 ص7842. والنص في الأصل حوار أجرته معه مجلة المنطلق في شتاء العام 1994. 
2-شمس الدين، المصدر السابق، ص 106 – 107.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

121

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 الإرادة الشعبية في اختيار النظام السياسي1

 
سمحت هذه التحولات بالقبول بالمساواة بين المسلمين وغير المسلمين (المسيحيين) في المناصب الرسمية مع استثناء مؤقت، هو منصب رئيس الدولة2، ولسبب سياسي ما يلبث أن يلغيه لاحقاً.
 
مع الأخذ بعين الاعتبار النقد الجذري الذي يقدمه شمس الدين للفكر الإسلامي السياسي، يبدو مفهوم المواطنة على النموذج الغربي هو أساس فكرة الوطن. وتعطى الدولة بنموذجها الغربي، على يد شمس الدين، الشرعية الكاملة لتجاوز الأفكار السابقة (له وللإسلاميين الآخرين) حول الدولة والحكومة الإسلامية سواء الموحدة أو المجزأة وتصبح مفردة المجتمع، ومفردة الوطن، ومفردة المواطن، هي الحاضرة بدل الدولة الإسلامية. إذ يتجاوز تحفظاته السابقة ليرسي قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين في الدولة الحديثة3, وبذلك لا يعود هناك أي مانع من تولي غير المسلم لأية وظيفة وتحمّل أية مسؤولية في الدولة الحديثة. هنا يطوي "الشيخ" صفحة الفقه السياسي السني الفاصل بين وزارة التنفيذ ووزارة التفويض باتجاه موقف جديد قائم على مقاربة جديدة لمسألة الدولة الحديثة وللمواطنة.
 
 
 

1-انظر الحوار الذي أجراه فؤاد إبراهيم مع الشيخ شمس الدين في: فؤاد إبراهيم، الفقيه والدولة – تطور الفقه السياسي الشيعي، بيروت – دار الكنوز الأدبية، ط 1998، ص 427 حتى 438. 
2-والسبب الذي يورده سجالي – حجاجي ، ومضمونه أنه "حينما ينضج المجتمع الفرنسي لقبول رئيس جمهورية مسلم، أنا أكون مسروراً بأن يكون رئيس جمهورية أي دولة عربية مسيحياً". شمس الدين، الأمة والدولة. م. س، ص 105.
3- شمس الدين، الحوار الإسلامي المسيحي/ نحو مشروع للنضال المشترك، بيروت ـ مؤسسة الإمام شمس الدين للحوار، ط2004، ص143 ـ 144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

122

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 مفهوم أهل الذمة

 
يتوقف الفقيه اللبناني عند مصطلح "أهل الذمة" في أكثر من مورد بحثي وكلامي متخذاً منه موقفاً مزدوجاً:
 
وجهه الأول، إحالة التراكم الفقهي الإسلامي في موضوع أهل الذمة إلى الشأن التاريخي باعتباره جزءاً من شروط تاريخية لم تعد موجودة، والتخلص من موجبات النظرة الفقهية وأحكامها تجاه أهل الكتاب ضمن مفهوم أهل الذمة، باحالتها إلى التقاعد الفكري باعتبار أن هذا النموذج من التعامل الحقوقي والفقهي نتج عن ظروف محددة لها علاقة بالصراع الفكري والسياسي حينها (تارة مع البيزنطيين وطوراً مع الصليبيين), وبذلك أبطل مفاعيل أحكام أهل الذمة السابقة1.
 
والوجه الثاني، هو الدفاع عن مبدأ فكري وعقائدي إسلامي هو أصل العلاقة مع أهل الكتاب كونهم في ذمة المسلمين أي كعهدة قانونية بين فئتين في مجتمع سياسي واحد.
 
والانتقاد الذي نشهده قاسياً في الوجه الأول للحكام المسلمين (أمويين وعباسيين وخلفائهم) وللفقهاء أنفسهم بسبب عدم الذمة الفقهية لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة باستثناء تعبير "ذمة بيتكم"2، هذا الانتقاد يتحول إلى دفاع عن روح وجوهر مبدأ "الذمة" في التاريخ الإسلامي (بغض النظر عن تجلياته الفقهية والقانونية 
 
 
 

1-انظر، شمس الدين، الحوار الإسلامي المسيحي، م.س، ص57، (الموقف جاء في مقابلة لصحيفة النهار عام 1997). 
2- المصدر السابق، الصفحة نفسها. 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

123

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 التاريخية)، إذ يرى في الدلالة اللغوية للمصطلح ما يشير إلى الرفعة والكرامة وليس إلى الدونية1. ومعنى كون المسيحي (واليهودي أيضاً) ذمياً فهو اعتراف بالتنوع الديني من خلال الاعتراف بكونه مختلف عقائدياً وثقافياً عن المسلمين في الانتماء الديني داخل المجتمع المدني، ولكنه بالمقابل ينتمي إلى المجتمع السياسي نفسه باعتباره مواطناً مثله مثل المسلم2.

 
وفيما يقع اللوم على الحكام المسلمين والتجاوزات التي قاموا بها في إطار تنزيه التشريعات والعقائد الإسلامية تجاه أهل الذمة، فإن الشيخ شمس الدين يلوم أيضاً طرفاً خارجياً هو المستشرقين3، الذين أسبغوا الصفات السلبية على مفهوم "أهل الذمة" وكرسوها في الأذهان. والنتيجة النهائية التي يصل إليها هي أن الإسلام أرسى حقوق المواطن وأوجد علاقات مواطنة بين سكان الدولة سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين و"جعل معنى المواطنة موضوعياً ودنيوياً وحقوقياً لا علاقة له بالانتماء الديني إطلاقاً"4.
 
 
 
 

1-شمس البدين، المصدر السابق، ص141. (والموقف هذا صدر العام 2000). 
2- المصدر السابق نفسه. 
3- المصدر السابق، ص140. 
4- المصدر نفسه، ص59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

124

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 هذا الانقلاب الكاملعلى فكرة الدولة الإسلامية (باستثناء ما يشكل المسلمون 95% من سكانها) يبقى مقيداً بقيد كون المجتمع مسلماً (وليس بالضرورة إسلامياً) فالهوية المسلمة (وكذلك المسيحية) 

 
 
 

65-وصل الأمر إلى انقلاب مضاد في الفكر السياسي عند شمس الدين بحيث صار كثير من الخطابات الإسلامية حول العدالة والأمة وشرعية السلطة مجرد خطابات عامة لا يمكن الركون اليها في وقتنا المعاصر دون الدخول في آليات عمل واقتراحات تشابه تقنياً الصياغات الليبرالية الغربية التي أعجب بها شمس الدين أيما إعجاب: "لا شك أن هذا الكلام في حدود الشعار هو نظري محض. لذلك لا بد من وجود صيغ لها لحم ودم وشكل لا أن تكون المسألة مجرد خطاب مديحي، لا ملامح له. إن ما يجعل الفكر واقعياً هو هذا، وأنا أقترح، من الناحية التقنية، تعلم صياغة الافكار، كما تصنعها الليبرالية الديموقراطية وهي ناجحة جداً" (شمس الدين، الأمة والدولة والحركة الإسلامية، ، ص47)
يكتمل الانقلاب على الفكر الذي آمن به شمس الدين نفسه قبل سبع سنوات فقط، فلا يعود استناد السلطة إلى الاسلام إلا مجرد شعار عام، بينما كان يرى فيه في السابق مصدراً لشرعية الأمة الإسلامية في كيانها السياسي: "فالقول بأن الاسلام هو مصدر شرعية السلطة، دون تحديد لآلية اختبار السلطة وكيفية ذلك يعد نظرياً وتجريدياً. والأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى شعار حاكمية الله. فهذه المصطلحات المعروفة، ليست سوى عناوين عامة وكلية لا تنفع في المقام شيئاً إن لم تقترن بآلية لتطبيقها" (ص 42).
ظن شمس الدين انه التقط الحل في موضوع الفقه السياسي للدولة المعاصرة عبر اعطاء الشرعية لسلطة دولة ذات حدود جغرافية من جهة ولشرعية سلطة نابعة من الأمة وهي الأمة التي تعد الوحدة حول الاسلام كمصدر للشرعية شرطاً لها، بل باتت امة مجتزأة تتحمل تعدد الاوطان والوحدات السياسية المتعددة باعتبار انها أمة بالمعنى الثقافي والروحي.
وكان هذا الحل في صيغة لها جذورها في التراث السني والفقه السياسي السني وهي صيغة "ولاية الأمة على نفسها" ولأن شمس الدين بات في اواسط التسعينات من القرن العشرين (اي في السنوات العشر الاخيرة من عمره هو) مغرماً بصياغة الافكار على الطريقة الليبرالية عبر اقتراحات وآليات لها شكل ولحم ودم فإنه وقع في الاشكال الذي انتقد غيره بشأنه، وهو عدم تحويل صيغته السحرية "ولاية الأمة على نفسها" (ص 45) إلى صياغات بآليات لها لحم ودم. وجاهد خلال ما تبقى له من عمر خلال عقده الاخير، فلم يستطع ان يجترح آليات محددة وقابلة للتطبيق تؤمن المواطنة والمساواة والعدالة والشرعية معاً في إطار "ولاية الأمة على نفسها". فبيقيت شعاراً نظرياً تجريدياً غير ناجز التطبيق، وفي المقابل فإن الصيغة الشيعية الأخرى التي تدعي قابليتها للتطبيق وتضمنها لولاية الأمة على نفسها من خلال انتخابات ومؤسسات محددة، وهي صيغة "ولاية الفقيه" فقد بقيت الصيغة الإسلامية الشيعية الوحيدة التي لها لحم ودم وشكل وآليات عمل مجربة على مدى 20 عاماً في حياة الشيخ شمس الدين وعشرة أعوام بعده، أنها لم تكن صيغة تجريدية لأنها قائمة بالفعل، ولم تستطع صيغة "ولاية الأمة على نفسها" أن تثبت نفسها في تجربة سياسية، فيما تدّعي صيغة "ولاية الفقيه" انها تضمن مشاركة الأمة في كثير من مؤسساتها الدستورية ورقابتها العامة، ضمن شرعية ولاية الفقيه أو ما يصطلح عليه داخل إيران "بالديموقراطية الدينية"، غير الناجزة وإن كانت الواقعية، رغم أن التجربة الايرانية ككل التجارب البشرية خاضعة للتجديد والاصلاح والتكيف مع ضرورات الزمن والمصالح العليا.
إلا أنها في النهاية تجربة غير قابلة للنسخ الحرفي في مجتمعمات مغايرة، لكنها بالتأكيد، نموذج قابل للاستفادة منه ومن تجربته الغنية القادمة من داخل الفقه الشيعي الاسلامي في زمن محدد.
جاءت بعض الآليات غير المكتملة في اقتراحات قدمها شمس الدين خارج نقاش "ولاية الأمة على نفسها" بل في تطويرات اخرى على اقتراحات سبق وأن قدمها مفكرون اخرون مثل آية الله مرتضى مطهري حول المرجعية الشيعية وضرورة ادخال التخصص اليها او إنشاء طلبات متخصصة من غير علماء الدين من خلال خبراء يساندون المجتهدين في الموضوعات المتعلقة بالتدبيرات وليس في الشؤون ذات الطابع العبادي او التعبدي؛ كالأسرة والزواج بل في موضوعات متغيرة من بينها المسائل العامة و"علاقات المواطنة"(ص 53)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

 


125

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

 للمجتمع تضع أمامه قيماً خاصة على الدولة أخذها بعين الاعتبار, فقيم المجتمع الإسلامي هي أحد أبعاد الهوية. تصبح الإسلامية هنا انتماءً ثقافياً - سوسيولوجياً، لا ينعكس في الانتماء السياسي المباشر للحكم. وتصبح الدولة هنا قائمة على المواطنة والحقوق السياسية المتساوية كما في الدولة الحديثة. أما مستوى "إسلاميتها" فموجود في ثنايا القيم والمسلمات الوطنية أي الهوية التي تشكل مرجعية عامة للدولة، وليس بالضرورة في كل تفاصيل الدستور، وفي شكل الحكم الديني المباشر.

 
أدرك شمس الدين في أواخر سنوات حياته أن الحل الذي نقدم به حول المواطنة في إطار دولة إسلامية، بالاستناد إلى نتائج الاجتهاد السياسي السني المعاصر، كان قاصراً عن بلوغ المساواة الحقيقية كما تقدمها الأنظمة السياسية الحديثة. فكان يجد حاجة إلى أفكار تتجاوز الحدود الاجتهادية القديمة، القائمة على خيار وحيد وهو إقامة صيغة جديدة لدولة إسلامية معاصرة. كانت تجربة الدولة الغربية التعاقدية تبدو له ناجحة في إطار المواطنة وحفظ النظام بالتراضي1. وما عاد الفقه السياسي الإسلامي العائد لفترة أبي حسن الماوردي وذلك العائد للحركات الإسلامية المعاصرة كحزب الدعوة ونظيريه السنيين(الاخوان والتحرير) كافياً لمعالجة المستجدات في بلاد المسلمين، ومنها مسألة المواطنة.
 
"(..) مسألة المجتمع، والتنوعات الدينية داخله التي ولّدت في الفكر الإسلامي الحديث مشكلة وتحدياً، وخصوصاً فيما يخص
 
 
 

1-شمس الدين، الأمة والدولة والحركة الإسلامية، م. س.، ص31. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

126

الدرس الرابع: المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر(الشيخ محمد مهدي مهدي شمس الدين نموذجا)

  المواطنة. الوضع الحقوقي للمواطن غير المسلم، هل هو مواطن أم غير مواطن؟ وإذا كان كذلك هل يتمتع بالحقوق نفسها التي تستحق لكل مواطن مسلم"1.

 
يقدم "الشيخ" إجابة من خارج التفكير الاسلامي التقليدي، مكرساً قبول النموذج الغربي بقالب إسلامي فضفاض: "أريد مجتمعاً مدنياً، ودولة مدنية بلا دين. (مكوّناً) من مسلمين مخلصين ومسيحيين مخلصين. هذا التنوع." (...) "أنا أقول يوجد مجتمع سياسي واحد، ويوجد مجتمع أهلي متنوع. يعني اللبناني، أو المصري لديه دينان: دين الله الذي هو دين مسلم أو مسيحي، ودينه السياسي الذي هو وطنه"2.
 
كان ذلك نتيجة تكييفات فقهية وفكرية أبرزها وضع مسألة الحكم في مجال الأحكام المتغيرة3 وليس الثابتة دينياً، خصوصاً موضوع المواطنة والمساواة بين المواطنين، بعدما أخرج هذه الموضوعات من مجال "المقدس"، إلى المجال التعاقدي المدني. وترافق ذلك مع تغيّر في الرؤية الاجتهدية4 لديه.
 
 
 

1-المصدر نفسه، ص52. 
2-المصدر نفسه، ص 107. 
3-المصدر نفسه، ص 53. 
4-المصدر نفسه، ص 52 – 61.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

127
المواطنة والدولة مقاربات واتجاهات