الإسلاميون والمشاركة في مجتمع متنوع


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


الفهرس

 

الفهرس

5

المقدمة

11

القسم الأول

الإسلاميون بين مشروعية المشاركة المشاركة والمواطنة

15

نظام الحكم في الإسلام:آية الله السيد محمد حسين فضل الله

17

قراءة في المفهوم والتجربة

17

الحرية في الإسلام

18

الديمقراطية

19

الإسلاميون ونظام الحكم

23

الموقف من الأقليات الدينية

30

الإسلام وغير أهل الكتاب

32

سُبل العيش بين المسلمين وغيرهم

33

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم: الشيخ الدكتور عبد الله الحلاق

37

المقدمة

37

طروحات المعارضين للمشاركة السياسية

38

طروحات المؤيدين للمشاركة السياسية

69

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية

79

الخلاصة الشرعية والسياسة العامة

98

المراجع

100

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية (صحيفة المدينة المنورة نموذجاً) المحامي الدكتور علي الحمصي

103

مقدمة

103

المبحث الأول: مفهوم المواطنة

106

أولاً:تعريف المواطنة

106

ثانياً:مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته

107

المبحث الثاني: صحيفة المدينة المنورة

113

المبحث الثالث: المبادئ التي كرستها صحيفة المدينة المنورة في مفهوم المواطنة

118

الخاتمة:نتائج الدراسة

124

المصادر والمراجع

125

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر: الدكتور زكي جمعة

127

1-معنى المواطنة

127

2-المواطنة ولبنان

131

3-الإمام الصدر ورؤيته الوطن والإنسان

132

أ-الإمام والمشروع الوطني

132

ب-المواطنة في مشروع الإمام

148

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

القسم الثاني

ولاية الفقيه وواقع التنوع في لبنان

153

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن: الشيخ نعيم قاسم

155

تعريف الوطن

155

المبدأ واتجاهاته

157

الحزب الإسلامي

162

مرجع التقليد

168

الولاية الخاصة والولاية العامة

176

الإيمان بولاية الفقيه

182

معنى الأمة

185

نظرتنا إلى الوطن

187

تطبيقات ولاية الفقيه

194

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله: الدكتور غسان طه

223

الفصل الأول

ولاية الفقيه في مبادئها ومرتكزاتها

223

تمهيد

223

1-مرتكزات حكومة الولي الفقيه

226

2- حكومة الفقيه الواقع

227

1-2 تولي الفقيه سدة القيادة

228

2-2 الانتخاب أو الشورى

229

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

3-2 الأمة والشعب

236

3-خصوصية التجربة في مدرجات الدستور الإيراني

239

1-3 الخصوصية في أبعادها الثقافية

240

2-3 علاقة الفقيه بالدستور

243

أ- في تعيين الولي الفقيه

244

ب-حدود صلاحيات الولي الفقيه

246

ج-صلاحيات الولي الفقيه خارج البلاد

249

د- طبيعة الأحكام

251

4-تصدير الثورة خارج إيران

253

1-4 معنى تصدير الثورة

254

2-4 وسائل تصدير الثورة

256

أ- الدعوة السلمية

256

ب-تقديم النموذج العملي في الخارج

258

العدالة الاجتماعية

260

الفصل الثاني

الأبعاد الرؤيوية لتجربة حزب الله

262

تمهيد

262

1-الهوية والخطاب

263

1-1 معالم الذات الجماعية لأمة حزب الله

264

أ-الدائرة الولائية

266

ب-الدائرة الإنتمائية

269

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

ج-الدائرة الإنتمائية العامة

270

2-1 الآخر

273

2- في أبعاد الرؤية السياسية( مشروع الجمهورية الإسلامية)

278

1-2الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية

285

أ- الظروف الموضوعية

285

ب- العوامل الذاتية

287

2-2 مختزنات أطروحة ولاية الفقيه

289

أ-ضرورة قيام الحكومة الإسلامية

289

ب-الولاية والتنوع

290

ج-الحقوق الفردية عند الإمام

291

د- علاقة الفقيه بالدستور

292

استنتاجات

293

في تجربة حزب الله

267

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم: الأستاذ حسن محمود شعبان

297

مدخل

297

أولاً: في الدولة (حول المنهج والمفهوم)

299

ثانياً: في الدستور اللبناني

308

ثالثاً: في تحليل النص الدستوري اللبناني

316

1- حول الشكل العام للنظام السياسي

317

2- حول التشاركية الطوائفية في السلطة التشريعية ونفي الدولة

324

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9


5

الفهرس

  

3-حول علاقة التشاركية في السلطة التنفيذية ونفي الدولة

327

4-حول التكوين التشاركي للإدارة ونفي المركز

332

5-حول التشاركية في تعديل الميثاق التعاهدي

333

رابعاً:حول ما يمكن أن يكون نتيجة

335

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد (لبنان نموذجاً): الدكتور بلال نعيم

341

أ-مقاربة مفهوم الوطن

341

ب-بين الوطن الخاص والأرض الوطن

342

ج-الوطنية والإسلامية

343

د-لبنان الوطن بمشخصاته الجغرافية

346

هـ- الشيعة في لبنان

347

و-هل للشيعة مشروعهم الخاص في لبنان؟!

350

ز-لبنان المتمايز وأهميته للمشروع الحق

353

ح-المواءمة بين الانتماء إلى ولاية الفقيه والانتماء إلى الوطن لبنان

355

ط-الخلاصة والخاتمة

362

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10


6

المقدمة

 المقدمة
 
 
تكثر الدراسات التي تتناول الحراك الفكري والثقافي لدى الإسلاميين على امتداد العالم الإسلامي. وقد انصبت هذه الدراسات على تناول بعض الأبعاد المتصلة بهذا الحراك وما يتلازم معه من سلوكات عملية تتعلق بكيفية التعامل مع الذات ومع الآخر المغاير سواء في الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا، أو لناحية الدعوة إلى التجديد الديني وتكييف أحكام هذا الدين مع الواقع المفتوح على مقتضيات التطورات الحديثة في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وسائر ميادين المعرفة وما يرتبط بها من تبدلات في أنماط التفكير والسلوك. غير أن هناك من بين هذه الدراسات التي لا زالت تحظى باهتمام الباحثين إشكالية علاقة الدين بالدولة وهي فكرة لا تزال تجد تحدياتها جرّاء تطور الأشكال الحديثة للدولة لاسيما مع نشوء فكرة المواطنية التي أتاحت للدولة توفير حقل عمومي للأفراد وتأطيرهم بإطار الولاء الكلي عبر النظر إليهم بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعات متغايرة بفعل العقيدة أو الانتماءات ذات الطابع التاريخي التقليدي.

لقد طُرحت دولة المواطنة كبديل للدولة التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوروبا قبل بروز فكرة فصل الدين عن الدولة. وقد وجدت هذه الفكرة حاضناً لها لدى العديد من المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

 علماً أن الدولة في العديد من أقطار هذا العالم ما زالت تستند إلى الولادات التقليدية كالقبيلة والطائفة وسائر الأطر التي لعبت ولا تزال دوراً وازناً في الحقل السياسي.


وعلى ضوء هذا الواقع المتلازم مع الإخفاق في برامج التنمية والحرية التي وعدت بها الدولة الناشئة بعد عهود الاستعمار، برزت إتجاهات في الفكر الإسلامي بمواجهة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين ومدى ملاءمته للتطورات الحديثة في حقل السلطة والتشريع، وتلازمه مع مقتضيات العدالة والتنمية والتأطير العام خصوصاً في المجتمعات المتنوعة ومنها لبنان الذي يشكل أحد خصوصيات هذا الواقع بتعقيداته الاجتماعية والثقافيّة.

ففيما مضى كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو نفسه. وبعد وفاته طرحت الإشكالية حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي في كيفيّة انبنائه، وآليات تشكله.

حتى ذلك الحين لم تكن موضوعة الفصل بين الديني والزمني مطروحة بشكل حثيث على الفكر الإسلامي وإنما جلَّ ما كان مطروحاً هو ما كان حول الآلية التي يتم من خلالها تشكل السلطة، وبالتالي تكون مشروعية الحاكم هي المطروحة وليست مشروعية أحكام الدين باعتبارها أحكاماً فردية وأحكاماً اجتماعية تستوجب وجود سلطة لضمان تنفيذها وتشييد المجتمع الإسلامي على قواعد العدالة المفترضة بحسب التعاليم الدينية، فضلاً عن مشروعية التزام الحاكم بتعاليم الدين وضرورة طاعته أو عدمها.

غير أنه وبعد مرور قرون من الزمن، لا سيما مع دخول الاستعمار الغربي إلى العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ومن ثم نشوء الكيانات القطرية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية التي كانت تمثل بنظر الكثير من المسلمين امتداداً لنظام الخلافة الإسلاميّة، أدى نشوء هذه الكيانات إلى بروز حركة شديدة الاعتراض حول الواقع الجديد خصوصاً لدى الحركات الإسلامية.


استناداً إلى هذا الأمر، وفي ظل تنامي الدعوة إلى أسلمة النظام السياسي من جهة وإلى الفهم الديني المقترن بقدرة الدين وأحكامه على التعاطي مع تعقيدات الواقع، كانت هذه المقاربة التي انطلقت من هاجس معرفة اتجاهات الفكر الإسلامي في مقاربته لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة مسنودة إلى الحقل السياسي المفتوح على واقع التنوع في مصادر السلطة فضلاً عن تنوعه المجتمعي. وبالاستناد إلى هذه الإشكالية حاولت المقاربة الرد على بعض التساؤلات المتفرعة عنها من قبيل التسويغات التي يقدمها المفكرون الإسلاميون حول المشاركة في الحقل السياسي العمومي أو نزعها عنه، وقد تراوحت هذه المقاربة بين شقين أحدهما عام يتناول إشكالية السلطة ببعدها العام، والآخر ذو طابع خاص اتخذ من التجربة اللبنانية ميداناً له.

أخيراً لا يفوتنا القول إن أهمية هذه المقاربات تجد دعامتها من راهنيتها التي ما زالت ميداناً للبحث وموئلاً لميادين شتى في المعرفة لدى المهتمين.

كما وأننا إذ نأمل لهذا الكتاب أن يشكل مورداً إضافياً للرصيد الفكري وللمهتمّين من المثقفين، نشكر الفريق الإداري الذي اضطلع بتنسيق جهود الباحثين والذي توِّج جهده في إخراج هذا الكتاب إلى النور.
 
 
منتدى الفكر اللبناني_الشيخ خليل رزق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

القسم الأول

 القسم الأول  :

الإسلاميون بين مشروعية المشاركة والمواطنة

1.نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة 
                                          آية الله السيد محمد حسين فضل الله

2.الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
                                               الشيخ الدكتور عبد الله حلاق

3.مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية-صحيفة المدينة المنورة نموزجا
                                           المحامي الدكتور علي نديم الحمصي

4.المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
                                                          الدكتور زكي جمعة
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

 


10

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة 


آية الله السيد محمد حسين فضل الله

إن للإسلام أسلوبه الخاص في صنع الحضارة وفي حل مشكلة الإنسان. وقد يختلف في مفهومه عن الحضارة والمدنية عن مفاهيم أخرى، تماماً كما تختلف الماركسية عن الرأسمالية أو الاشتراكية عن الرأسمالية في طبيعة أسلوب الحياة التي تريدها للناس.

لذلك فنحن نؤكد أن الإسلام قادر بمفاهيمه وتشريعاته على أن يحقق السعادة للناس ولكن على طريقته الخاصة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نفرض على الإسلام صورة المدنية أو الحضارة على الطريقة الغربيّة، فنحن لا نعتبر أن الطريقة الغربية في الحياة المدنية هي الطريقة الفضلى. وهنا نسأل هل يستطيع الإسلام أن يكفل حياة مدنية للإنسان على الطريقة الغربية، أو بالطريقة غير الغربية، كما أن للاشتراكية مفهومها الخاص حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الرأسمالية؟ إن للإسلام مفهومه حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الاشتراكية والرأسمالية معاً، ولكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يحقق للإنسان التقدم في كل مجالات الحياة، وفي كل المجالات الإنسانية العامة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ونحن هنا لسنا في صدد التعمق أكثر، ولكن نؤكد أن الإسلام استطاع في مدى مئة سنة منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، أن يصنع حضارة علمية وفكرية وإنسانية عالمية اعتُبرت كما يقول رئيس وزراء الهند السابق الراحل، جوهر لال نهرو "أم الحضارات الحديثة".


وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يصنع حضارة متقدمة أغنت الحضارة الغربية، وأعطتها قوة دفع وانطلاق، فإنه قادرٌ على صناعة هذه الحضارة في شكل أفضل بعد التقدم الإنساني، الذي لا يتنكر له الإسلام، بحال من الأحوال.

الحرية في الإسلام

من جهة أخرى، إن الإسلام يؤكد الحرية في دائرة الالتزام كما تؤكده كل الأنظمة الأخرى، فنحن نرى أن كل الأنظمة لا تدعو إلى الحرية الفوضوية، وإنما إلى الحرية المنظمة الملتزمة في دائرة التشريعات التي تفرضها الدولة. ونحن نؤكد حرية الإنسان داخل النظام الإسلامي ضمن الدائرة الأخلاقية التي يخضع لها التشريع الإسلامي في تنظيمه لحياة الإنسان، كما أننا لا نحرك الإسلام على أسسٍ ديكتاتورية، بل نعتبر أن للناس دورهم في هذا المجال.

إننا لا نتنكر للناس وللأمة فيما يراد أن يتخذه النظام الإسلامي من مواقف سياسية أو اقتصادية أو ما إلى ذلك. إن النظام الإسلامي لا يمثل الحكم الإلهي المطلق كما كان في القرون الوسطى حيث يعتبر رئيس الدولة نفسه ظل الله على الأرض، وأن كلمته - التي قد تنشأ عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 مزاجه - نافذة على كل الناس، بل إن رئيس الدولة هو إنسان يتقيد بالقانون في قراراته، كما يتقيد أصغر إنسان بالقانون، وللأمة أن تحاسبه على أخطائه، ولها أن تعزله إذا انحرف.


لذلك، نعتقد أن النظام الإسلامي عندما يتحرك في الدائرة الإنسانية العامة قد يختلف مع بعض الأنظمة الأخرى في نظرته إلى الحرية، أو في نظرته إلى تفاصيل الديمقراطية، ولكن لن تكون تلك الأنظمة أفضل منه في التعامل مع إنسانية الإنسان.

الديمقراطية

هذا، وعندما نريد أن ندرس الديمقراطية من خلال قاعدتها الفكرية، فإننا نجد أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام، لأن المفهوم الذي تختزنه الديمقراطية في مضمونها الفكري هو أنّ شرعية أي قرار ينطلق من تصويت الأكثرية عليه وليست هناك أية شرعية لأي عنوان آخر في هذه الدائرة.

وفي ضوء هذا يستمد الإسلام شرعيته في حركة الواقع، من خلال اختيار الناس له لا من خلال كونه وحياً يحمل في ذاتيته معنى الشرعية، بل أعلى أنواع الشرعية، وانطلاقاً من هذا، فلو أنّ الناس رفضوا الإسلام لفقد شرعيته في حركة الواقع وفي الوعي السياسي العام. إنّ المسألة قد لا تكون لها انعكاسات عملية بالمعنى السياسي، لأنّ بعضهم قد يقول: ما همك إذا استطعت أن تحكم إسلامياً باسم الديمقراطية، بين أن يفكر بعض الناس بأنّ شرعيتك منطلقة من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 اختيار الأكثرية أو أن شرعيتك منطلقة من الله سبحانه وتعالى؟ ولكن على الرغم من أن حركة الواقع تفرض الإسلام، إلاّ أنّنا نلاحظ أنّه عندما يختار الإسلاميون عنوان الديمقراطية لحركتهم السياسية فإن معنى ذلك أنهم يلتزمون كل مضامينها وإيحاءاتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطوط الثقافة الإسلامية في وعي الأمة، كما ينعكس على التزامات الإسلاميين بالنتائج السلبية أو الإيجابية للنهج الديمقراطي في مواجهتهم للنادي السياسي الذي يتحركون فيه. لذلك فإننا نتصور أن المسألة تحمل سلبية في الجانب الفكري والإيحائي ثم تتطور بعد ذلك، لتستطيع أن تطرح إمكانية تغيير هذا الحكم أو ذاك. لكننا إذا أردنا أن ننطلق من واقع الديمقراطية، بعيداً عن العنوان الفكري أو العنوان السياسي الذي يكون واجهة لحركتنا السياسية، فإنّ من الممكن عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي أن نستفيد من هذا المجتمع، وأن ننطلق لنشارك في العمل على الدخول إلى كل مواقعه من خلال الفرصة العامة التي يفرضها اختيار الأكثرية عندما نؤمن بأننا نملك الأكثرية أو حتى عندما لا نملك الأكثرية، فإنّ التحرك في هذه الدائرة للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات يمنحنا حضوراً سياسياً في الواقع السياسي العام، الأمر الذي يؤدي إلى إيجابيات كبيرة.


إذاً نحن نستطيع أن نستفيد من الديمقراطية في المجتمع المتنوع - كما يستفيد غيرنا أيضاً - من دون أن نتبنّاها كخط فكري، وفي هذا الجانب لا بد لنا من أن نحرك خطابنا السياسي عندما ننجح أو عندما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 نخسر بأسلوب ومنهجية لا يجعلان حركتنا السياسية - في وعي الناس الآخرين - حركة الإتجاه الذي يمنع الآخرين حرياتهم، كما لاحظنا في تجربة بعض البلدان الإسلامية التي استطاعت أن تحصل على قدر كبير من الاختيار الشعبي. إننا لاحظنا أنّ الخطاب السياسي، الذي تحرك في هذه الدائرة، أوجد إرباكاً في الجو السياسي والإعلامي لمصلحة خصوم الإسلام، ما جعلهم يهاجمون نتائج التجربة الشعبية من خلال طبيعة مفردات الخطاب السياسي الذي لم يكن مدروساً سواءً على مستوى خطوطه أو على مستوى توقيته.


هذا العرض الذي تحدّثنا عنه يتصل بالديمقراطية في شكل عام، ولكننا قد نستطيع أن نسأل في هذا المجال أننا عندما نعيش في مجتمع إسلامي هل يمكن أن نتبنى الديمقراطية؟ من الطبيعي أننا لن نستطيع أن نضعها في الوعي السياسي كمنهج فكري إذا أردنا أن نتحرك سياسياً في إطارها الشكلي، ولكننا نستطيع أن نحصنها بأن نطلق مسألة خيار الشعب بعد أن نضع الحدود للممارسة الديمقراطية من حيث الشروط التي لا بد من أن يتميز بها المرشح بما ينسجم مع الخطوط الإسلامية أو طبيعة الظروف الموضوعية للمسألة الإسلامية وشروطها الشرعية. وبذلك نستطيع أن نجمع بين أصالة الخط الإسلامي، لنكفل له عدم الانحراف في اتجاه آخر ونكفل مشاركة الأمة في القرارات التي تتحرك في حياة مجتمعاتها أو أفرادها من أجل إعطاء المسألة بعداً تلتزم فيه الأمة بخطوطها الشرعية في التزامها بالأشخاص والتزامها بالنظام،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 بحيث يمكن أن يحقق للدولة الإسلامية العمق السياسي الذي يطل على العالم، بالطريقة التي تقول إنّ الإسلام لا يلغي الأمّة عندما يتحرك في كل إدارته لشؤونها التفصيلية ولكنه يجمع بين الإسلام الذي هو خيار الأمة، باعتباره دينها، وبين رأي الأمة في المصالح والتفاصيل. إننا بذلك يمكن أن نحصل على مشاركة الأمة في كل القرارات السياسية التي لم يجعل الإسلام لها خطوطاً تشريعية تعبدية حاسمة في ما شرّعه الله، سبحانه وتعالى، أو في ما بيّنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك يمكن أن نجمع بين الأمرين.


ولعلنا في هذه المسألة نستوحي تشريع البيعة. إننا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله، سبحانه وتعالى، رسولاً للناس لتكون شرعيته من خلال إرسال الله له لا من خلال الناس، إننا نلاحظ أنّ البيعة التي تحدّث عنها القرآن في بيعة النساء والرجال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعطي معنى الحاجة إلى أن يلتزم الناس العقيدة على مستوى الإيمان، من خلال أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله، وأن يلتزموا السير في الواقع العملي لحركة العقيدة والشريعة في تفاصيلها في الالتزام بولي الأمر وبالخطوط التفصيلية للإسلام، على أساس أن يكون خيارهم من خلال إيمانهم والتزامهم. ربما كانت البيعة إشارة إلى ضرورة التزام الأمة القيادة والتعبير عن رأيها فيها حتى تلك التي تمثل قيادة معيّنة من الله، سبحانه وتعالى، ولن يكون رأي الأمة في القيادة هو الذي يعطيها شرعيتها ولكن ليعمق التزامها به وواقعية الحركة في هذا الاتجاه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ومن هنا يمكننا أن نستوحي نهجاً يشبه النهج الديمقراطي في النتائج وهو أن يكون للأمة عملية الاختيار في سياستها بالتعاون مع النظام السياسي الحاكم، الذي قد يأخذ شرعيته من نظرية ولاية الفقيه أو من الشورى أو من أي شيء آخر.

 
هذا عندما نتحدث عن الديمقراطية كخط سياسي، فإذا أردنا أن نتحدث عن الديمقراطية من خلال إيحاءاتها الأخلاقية، عندما يُقال فلان إنسان ديمقراطي أو هذه طريقة ديمقراطية أو روحية ديمقراطية لتكون نفياً للديكتاتورية وللاستبداد، فإنّ الإسلام ديمقراطي بكل ما للكلمة من المعنى الإيحائي والسلوكي للديمقراطية بعيداً عما هو المنهج الفكري الذي أشرنا إليه.
 
الإسلاميون ونظام الحكم
 
وحول النظام السياسي المتصل بالعقيدة والشريعة نود أن نوضح أن المنظومة الإسلامية تنطلق من مفهومين: مفهوم يتصل بالعقيدة وآخر يتحرك في الشريعة. أما المفهوم الذي يتصل بالعقيدة فهو أن الملك لله ولذلك فإن الحكم لله من موقع أنه خالق؛ فهو الذي يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وهو الذي يهيمن على الأمر كله وفي كل وجودنا وهو الذي يعلم من نفوسنا ويعلم كل ما يصلحنا وما يُفسدنا ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾( الملك: 14)
 
وعلى هذا الأساس، فإن الحكم عندما يكون حركة في تسيير المحكوم بكل مواقعه، فإن من الطبيعي أن يكون الله هو المهيمن على ذلك كله،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

17

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 لأنه إلهنا وربنا ونحن عباده، ولا يملك العبد، فيما هو مفهوم العبودية الحقة، أيّ موقف أمام سيده، فكيف إذا كان ذلك السيد هو الله؟

 
لذلك فإن الحاكمية بالمعنى التكويني الذي يعني خضوع وجودنا لإرادة الله، وبالمعنى الحركي الذي يقتضي انفتاح تحركنا على إرادة الله سبحانه وتعالى فيما يريدنا من ذلك، توحي بمفهوم الحاكمية لله من خلال العقيدة، وهذا هو الذي يرتبط بمعنى التوحيد ونفي الشرك. فلا يملك أحد غير الله أن يتصرف في وجودنا ومن ثم في شؤؤننا.
 
أما المفهوم الذي يتحرك في خط الشريعة فإنه ينطلق من الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ ( الأحزاب: 36) وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65 )وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾( الجاثية: 18) إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدث عن أن الحكم لله وعن الكفر والفسق والظلم، كصفات حركية في الجانب السلبي لمن لا يحكم بما أنزل الله.
 
إن ذلك يعني أن الله أرادنا أن نتحرك في خط شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبودية في الحياة أمامه. لأن الله يريد للحياة الإنسانية أن تنسجم مع الحياة الكونية، لتتحرك تلك بإرادة الله في التكوين وتتحرك هذه بإرادة الله في التشريع، ليكون هناك تكامل بين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

18

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 الإنسان الذي يطيع الله في أوامره ونواهيه وبين الكون الذي يعيش الإنسان في داخله ويخضع في وجوده التكويني لقوانينه، ليطيع الله في حركة السنن الكونية. فليس لأحد أن يشرّع في مقابل شريعة الله وليس لأحد أن يتجاوز الخطوط التي وضعها الله، تعالى، في مسألة الحكم والحاكم وفي تفاصيل القانون الذي ثبت أنه وحي من الله.


ولكن ليس معنى ذلك أن لا حكم للإنسان أو أن الإنسان لا يستطيع، في الدائرة الواسعة التي أوكل الله أمرها إليه ضمن ضوابط معينة أو التي أباح الله له أمر التحرك فيها وتحديد تفاصيلها، ليس معنى ذلك أن الإنسان يتجمد وأننا نطلق كلمة الحاكمية لله، لنظل نحدّق في البعيد من دون أن ننطلق في حياتنا من خلال أصولها العملية التي تمثل التفاصيل الحياتية للإنسان. إن الله تعالى يحكم من خلال الإنسان، فقد حكم الله من خلال أنبيائه وأوليائه ومن خلال كل الناس الذي ينسجمون مع الخط العريض للإسلام. ولذلك فإنه لا بد للناس من أن يحكمهم الناس. ولكن القضية هي أن الناس الذين يحكمون أو الذين يحكّمهم الناس في أنفسهم وفي الواقع لا بد من أن تكون لهم الصفات التي يرضاها الله سبحانه وتعالى للذين يتولّون مسؤولية الحياة، ومسؤولية الناس.

ومن هنا، فإننا عندما ندرس نظرية الحكم في الإسلام، سواء كان ذلك على مستوى نظرية الإمامة أو نظرية الخلافة أو نظرية الشورى التي ربما تتحرك في إطار أوسع من شروط الإمامة والخلافة، بحسب الضوابط الموجودة لدى الفقهاء أو المفكرين المسلمين، عندما ندرس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

19

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ذلك نجد أن مسألة حاكمية الله لا تعني أن الحكم في الحياة يكون إلهياً، بمعنى أن يكون الحاكم ظل الله في الأرض من دون أية ضوابط وحدود؛ بحيث تكون المسألة هي ذاتية الحاكم في موقعه، لا موضوعية الخط الذي جعله الله له في حركته.

 
إننا نجد أن الله حدّد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو النموذج الأعلى للإنسان الذي جعله الله نبياً وخليفةً للناس، حدد له الحدود وقنّن له القوانين؛ فلا يستطيع النبي أن يحكم بمزاجه وإن كنا نفترض أن مزاجه لا ينفصل عن إرادة الله فيما أودعه الله في نفسه من القداسة ومن العصمة ومن الانفتاح على كل مواقع رضاه، ولكن الله لم يجعل ذلك منطلقاً من الذات بل من الخط. ومن هنا رأينا الله يتحدث معه كما يتحدث مع أي مسلم، ويتحدث مع الأنبياء كما يتحدث مع أي إنسان. ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( الزُّمر: 65.) و ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ﴾( الحاقَّة: 44-45).
 
ومن هنا، فإن مسألة الحكم ليست إلهية، بالمعنى الذي يفهم بعض الناس منه الحكم الإلهي، أي الإنسان الذي لا يسمح لأحد أن يناقش أو يسأل، والإنسان الذي يتحرك بمزاجه وبإرادته الذاتية، بعيداً عن الضوابط التي تحمي الناس منه أو تحميه من نفسه. ولذلك فإن الله أمر نبيه أن يشاور الناس مع أن النبي مرتبط بالوحي، فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159). لذلك إن الحكم في الإسلام ينطلق من حالة موضوعية، تتحرك فيها الذات القائدة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

20

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 بالضوابط التي يمكن للناس أن يرصدوا من خلالها حركة الحكم في انسجامها مع هذه الضوابط أو عدم انسجامها. فهو ليس الحكم الإلهي المطلق، ولكنه الحكم الإنساني الذي يستمد شرعيته من الخطوط التي جعلها الله تعالى للحكم ولحركته.

 
ولهذا لاحظنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو المعصوم من قبل الله في التبليغ وفي حركته في الواقع، ولذلك نرى أن السنّة هي قوله وفعله وتقريره. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف، فيما ترويه كتب السيرة، أمام المسلمين في آخر لحظات حياته، ليقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء وإنني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرم القرآن"، وفي رواية "إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرمت إلا ما حرم الله". كأنه يريد أن يقول لهم ادرسوا كل تاريخي معكم في حركة الدعوة والممارسة والحكم واعرضوا ذلك على شريعة الله التي بلَّغتكم إياها، لتجدوا أن أقوالي وأفعالي وعلاقاتي منسجمة مع هذا الخط، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الأنبياء ﴿وَمَا أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه﴾ أو ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.
 
إننا نفهم من ذلك أن الحكم في الإسلام هو حكم إنساني، يستمد شرعيته من الله في حدود الضوابط التي جعلها الله للحكم وللحاكم.
 
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، عندما تُطلُّ على بعض جوانب المعنى الإلهي في الدولة. فهي دولة مدنية لأن للحاكم فيها ضوابط معينة يستمر فيها ما استمر مع هذه الضوابط
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

21

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ويبتعد عنها ما ابتعد عن هذه الضوابط، بحيث إن الأمة إذا رأت أن هذا الحاكم فقد الضوابط الشرعية التي تجعله في موقع الشرعية للحكم فإن عليها أن تبتعد عنه. وهكذا نجد أن لهذه الدولة قانوناً شاملاً لكل المجالات العملية التي يعيشها الإنسان بحيث تستطيع الأمة أن تواجه الحاكم بالقانون، كما يستطيع الحاكم أن يواجه الأمة في أعماله أو في ما يريده منها من خلال القانون.


وعلى هذا الأساس، فإن الدولة ليست دولة الحاكم المطلق الذي يحكم باسم الله من خلال مزاجه أو أفكاره الذاتية الخاصة ولكنها الدولة التي يحكم فيها الحاكم باسم شريعة الله؛ فإذا كان معصوماً فإنه ينطلق من خط العصمة في ما تبلّغه وفي حكمه ولكن بالمستوى الذي يسمح فيه للآخرين بأن يثيروا أمامه علامة الاستفهام حول طبيعة حركته في الموقع. ولذلك لاحظنا مثلاً أن الإمام علياً كان يواجه الناس، ليطلب منهم أن ينقدوه وكان يقول لهم "فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق يُقال لي أو لعدل يُعرض عليّ فإن مَن استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطىء".

إن الحاكم هنا، الذي يعتقد فريق من المسلمين بعصمته في هذا المجال، يغري الناس بنقده وبمراقبة كل أفعاله، وبأن يقولوا له كلمة الحق ولو كانت قاسية وأن يشاوروه بكلمة العدل، مهما كانت طبيعتها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

22

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ويغريهم بذلك على أساس أن يقول لهم "إني لست بفوق أن أخطىء". إن معنى ذلك أن الحاكم الإسلامي هو حاكم مدني مسؤول يغري الناس بأن ينقدوه بدل أن يعظموه أو يمدحوه أو يرفعوه إلى الدرجات الذاتية العليا. إنه كان يقول لهم: "ليس أمري وأمركم واحد، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".


إننا عندما ندرس شخصية الحاكم الإسلامي في شخصية النبي عندما يحكم، وفي شخصية كل الخلفاء والأئمة الذين يمثلون الشرعية عند المسلمين، نجد أن الحاكم كان يحدث الناس عن الشريعة وعن كتاب الله وعن أسس الحكم، ولهذا فإننا نستطيع أن نقول: إنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة مدنية تتحرك في الخط الإلهي، أي الوحي الذي يحدد للحاكم شرعية الحكم وشرعية وقوفه في موقع الحكم، ليحدد له شرعية كل التفاصيل في نطاق القانون الشرعي أي الشريعة.

أما الحديث عن النموذج الغربي للديمقراطية باعتباره الأنسب والأصلح للواقع العربي فإنني لا أعتقد أن عملية إسقاط هكذا نموذج، نتج من ذهنية تعيش في أجواء محددة، يمكن أن تنجح بشكل آلي في مجتمعاتنا العربية. وأكاد أقول إن مجتمعاتنا تعيش الذهنية الشرعية، ذهنية "البطل" ولا تنسجم مع عقلية المؤسسة إلا من خلال المؤسس؛ الأمر الذي يجعل تأثير البطل في الواقع الشرعي أكثر من تأثير أية مسألة أخرى، ولهذا نجد هذا الالتزام الديني بالأشخاص في كل الأديان الشرقية يتقدم على الالتزام بالدين نفسه، ولذلك فإن التطور الديني
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

23

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 الشعوري يحوّل مسألة الالتزام بالأشخاص إلى نوع من العبادة وإلى حالة تقرب من الحالة الوثنية فتستغرق في الشخص أكثر من الاستغراق في قيمه ومفاهيمه.


نحن نتصور أن الديمقراطية الغربية ليست هي النموذج الأمثل للمرحلة العربية من خلال طبيعة التركيبة الذهنية. ونحن لا نعارض وجود فئات تعيش قلق الحرية ومعنى التعددية في تفكيرها، ولكن هذه الفئات بالذات، إذا نزلت إلى الأرض واستطاعت أن تمسك بزمام الحكم، فإنّ أصحابها يتخلّون عنها بسهولة، ولعل أفضل دليل على ذلك هو ديمقراطية الجزائر فقد لاحظنا أن الأسلوب الديمقراطي الذي ساهم في نجاح جبهة الإنقاذ (في الجزائر) قد انتفض عليه وعلى نتائجه بدعوى أن الديمقراطية لا يمكن أن تحتضن غير الديمقراطيين. 

الموقف من الأقليات الدينية

أما عن الإسلام والأقليات الدينيّة، فقد انطلق التشريع حول هذه المسألة في خطين عريضين:

الخط الأول: هو خط أهل الكتاب الذين ينتمون في صفتهم الدينية إلى كتاب منزلٍ كاليهود والنصارى والمجوس - في قول مشهور - والصابئة، فهؤلاء تنتهي مسألة القتال بين المسلمين وبينهم بالإسلام أو بدفع الجزية التي يفرضها وليّ الأمر الذي يتغلب عليهم، لتكون الجزية في مقابل الحماية الإسلامية
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

24

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 لهم من دون أن يلتزموا أي التزام عسكري في حماية ثغور المسلمين، هذا إضافة إلى حقوقهم الدينية في عباداتهم وطقوسهم وتقاليدهم في نطاق النظام العام للدولة من دون انتقاص إنسانيتهم، وذلك على أساس عقد الجزية الذي يخضع فيه الطرفان للالتزامات المتبادلة في المفاوضات في هذا الميثاق، وهذا هو الذي يطلق عليه عنوان "عقد الذمة" باعتبار أن هؤلاء يدخلون في ذمام المسلمين وفي مسؤوليتهم الأمنية والسياسية.


وإذا كان بعض الناس يثير هذه المسألة بطريقة سلبية على أساس أنها تنتقص عن حقوقهم الإنسانية، فإننا ندعوهم إلى دراسة المسألة في شكل دقيق بعيداً من الأساليب الاستهلاكية السياسية، ليروا أنها كانت تمثل أسلوباً حضارياً يحمي الأقليات ويمنحها حقوقها الدينية والاجتماعية والسياسية في نطاق النظام العام، ويبعدها عن الإحراج في إدخالها في الحرب التي قد تشنّها الدولة الإسلامية ضد الفئات التي تلتقي مع هذه الأقليات في انتمائها الديني، أو الحرب التي تتحرك للدفاع عن الإسلام الذي لا يؤمن به أتباع الأقليات ولا يرون مبرراً للتضحية بأنفسهم في سبيله.

إننا لا نريد الدخول في تفاصيل "عقد الذمة" أو عقد "الجزية" الذي يمثل حالة إنهاء الحرب مع أهل الكتاب، لأن البحث لا يستهدف الدخول
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

25

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 في التفاصيل، فلذلك مجال آخر، بل يستهدف إعطاء الأفكار العامة في نظرة الإسلام إلى الأقليات.


الإسلام وغير أهل الكتاب

الخط الثاني: هو خط غير أهل الكتاب، كالملاحدة والمشركين والأديان الأخرى غير السماوية، كالبوذية ونحوها.

ويرى الفقهاء المسلمون - من خلال الكتاب والسنّة في الاجتهاد المعروف فيما بينهم - أنه يُقبل منهم الإسلام حتى في صورته الشكلية التي لا تنطلق من قناعة ذاتية، لأن المطلوب - في هذه الحالة - إخضاعهم للسلطة الإسلامية، وإخراجهم من أجواء العداوة للإسلام والمسلمين، وإدخالهم في المجتمع الإسلامي كما لو كانوا جزءاً منه، لأن ذلك هو السبيل الأقرب لاندماجهم في الجو الإسلامي وانفتاحهم على حقائق الإسلام من خلال الوضع المنفتح على الحقيقة الإسلامية بهدوءٍ بعيداً عن حال التشنج العدواني الذي كانوا يعيشون فيه سابقاً.

وربما كان الأساس في ذلك هو أن الإسلام لا يعتبر الإلحاد والشرك فكراً محترماً يفرض احترام انتماء الناس إليه، بل يراه نهجاً منحرفاً عن طبيعة الأشياء منطلقاً من الجهل والتخلف والعصبية، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الكافرين والمشركين بأنهم ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ للإيحاء بأنهم كفروا من موقع جهل، لا من موقع فكرٍ مضاد.

وإذا كانت المسألة تتحرك في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن لا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

26

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 يحترم الإسلام الجهل في طبيعته ونتائجه، فيضغط على الذين يختارونه لينتقلوا منه إلى المواقع التي تتيح لهم إمكانات المعرفة المنفتحة على حقائق الغيب في آفاق الإيمان بالله.


سُبل العيش بين المسلمين وغيرهم

وليس هذا هو السبيل الوحيد للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب والكافرين والمشركين، فهناك سبيل آخر يمكّن للأقليات الدينية وغير الدينية - من الفئات المضادة للدين - من أن تتعايش مع المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، أو في بلدانها الخاصة المستقلة، من خلال الدخول في المعاهدة أو المهادنة أو المعاقدة مع المسلمين حسب الشروط التي تتفق عليها مع أولياء الأمر من المسلمين، تبعاً للمصلحة الإسلامية العليا التي تفرض على المسلمين إنهاء الحرب مع الآخرين أو تجميدها، والدخول إلى مواقع السلام مع الشعوب الأخرى التي لا تدين بالإسلام، سواء كان السبب في ذلك قوة الكافرين في عددهم وعدّتهم ومواقعهم السياسية أو الاقتصادية، بحيث لا يملك المسلمون الدخول معهم في حرب متعادلةٍ، ما قد يدفع المسلمين إلى طلب الدخول في محادثات سلام أو معاهدة معهم أو إلى قبول ذلك إذا قدّم الكافرون الطلب بمبادرة منهم، أو كان السبب وجود مصلحة عليا للمسلمين للتعايش مع الآخرين في سلام عادل متوازن من خلال طبيعة الأجواء الدولية التي تربط كل دول العالم في ميثاق شامل للصداقة أو عدم الاعتداء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

27

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 على طريقة ميثاق الأمم المتحدة، ما يجعل المسلمين في عهد شامل مع كل دول العالم، إلا الدول التي تنقض العهد وتعلن الحرب عليهم، أو الدول التي لا تملك أية شرعية سياسية لدى المسلمين، كإسرائيل.


وهذا الخط -خط المعاهدة- يختلف عن الخطين الآخرين، وهو الذي يمكن أن يزيل الكثير من السلبيات التي قد يثيرها بعضهم حول المنهج الإسلامي في نظرته إلى الآخرين ليكون السيف هو كل شيء في المسألة، ليفرض الإسلام أو الجزية أو القتل، مما يبتعد به المسلمون عن إمكان التعايش مع الشعوب الأخرى التي تختلف عنهم في الانتماء الديني أو عن إمكان التعامل بإنسانية وعدالة مع الأقليات الدينية الأخرى التي لا تريد الدخول في الإسلام ولا تحب دفع الجزية، ولا تعرّض نفسها للحرب الدائمة.

وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نتصور أن المجتمع الإسلامي في نطاق الدولة الإسلامية يحتوي على المواطنين الذين يتنوّعون في أديانهم مع مساواتهم في الحقوق المدنية أو السياسية العامة التي لا تتنافى مع الخصوصيات الذاتية للإسلام.

أقول إننا بحاجة إلى تطوير في الشكل لا في العمق، لأن الفكر الإسلامي الذي عاش تجربة طويلة متنوعة في طبيعته المنفتحة على حاجات الإنسان في كل مرحلة من المراحل، يوحي بأن النظام الإسلامي ليس مجرد عنوان فكري نحاول البحث عن أرض يمكن أن يتحرك فيها،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

28

نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة

 ولكنه يمثل كياناً قانونياً فكرياً فلسفياً على مستوى القواعد الفكرية النظرية والعملية. ومشكلتنا الآن هي: كيف يمكن إخراج هذا النظام الإسلامي إلى الواقع بطريقة عصرية جديدة؟

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

29

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

  الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 
الشيخ الدكتور عبد الله حلاق1
 
طروحات المعارضين للمشاركة السياسية
طروحات المؤيدين للمشاركة السياسية
تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية
 
المقدّمة 
 
اختلفت الآراء وتعددت المواقف لدى حركات وأحزاب ومفكري الصحوة الإسلامية تجاه مسألة مشاركة الإسلاميين في الحكم مع الأنظمة الوضعية (ملكية، ديمقراطية، ديكتاتورية)، على أساس التعددية السياسية في نظام الحكم، فمنهم من أيّد المشاركة وبيّن مصلحة المسلمين في ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية، ومنهم من رفض المشاركة السياسية وبيّن الضرر الذي يصيب المسلمين والمسيرة الإسلامية من ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية.
 
 
 

1- مدير مركز دراسات الوحدة الاسلامية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

30

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 طروحات المعارضين للمشاركة السياسية

 
طرح الذين لا يجيزون المشاركة السياسية أدلتهم الشرعية والفكرية والسياسية المحددة بالتالي:
 
1- يفتي الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير بكفر مَن يتحاكم من المسلمين إلى كتاب أو شرعة وضعية، فيقول: "في ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (إلياسا)1 وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين2... قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾3.
 
2- ويرى سيد قطب أن المشاركة السياسية تأتي في صالح الجاهلية وأنظمتها الوضعية، لا في صالح الإسلام والدعوة الإسلامية، وأنه لا يمكن الالتقاء مع الجاهلية في منتصف الطريق، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الصحابة الكرام، قد تحملوا
 
 
 

1- هي شرعة جنكيز خان التي كان يطبقها على البلاد التي يحتلها، وفيها الكثير من الظلم والاعتداء على الناس.
2- الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير - البداية والنهاية - م/7 - ج/13 - ص119.
3- النساء: 65.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

31

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 من إيذاء وعنت الجاهلية الأولى، أكثر مما تفعله الجاهلية الحديثة بالمسلمين، ومع ذلك لم يلتقِ معها، ولم يستجب لعروضها المغرية في المشاركة السياسية للأسباب التالية:

 
أولاً: لقد قال الرجل العربي -بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "هذا أمر تكرهه الملوك"، وقال رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته "إذاً تحاربك العرب والعجم". لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جذبتها في حس هؤلاء العرب... إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة. إنها الخروج من الأرض... إنها ذهاب السلطان... إنها إبطال شرعية الحكم... أو محاولة قلب نظام الحكم!... بالتعبير العصري الحديث1.
 
ثانياً: إن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج من الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال
 
 
 

1- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/3 - ص1348.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

32

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام... إنه ليس هناك أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق ولا إصلاح عيوب ولا ترقيع مناهج1.

 
ثالثاً: إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله... إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد أن قسم الله له الخير وكشف له الطريق وهداه إلى الحق وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه، شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت!، أو مؤداها -على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود وشرعية في السلطان وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله...
 
وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ولم يرفع راية الإسلام، بشهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة!2.
 
 

1- سيد قطب - المرجع نفسه - م/6 - ص3992.
2- سيد قطب - المرجع نفسه - م/3 - ص1319.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

33

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 رابعاً: ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي أن لا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال، وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين، والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم، وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم... فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه، عاملون في تشكيلاته... وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله وهم واعون مقدرون1.

 
خامساً: لقد كمل هذا الدين وتمت به نعمة الله على المسلمين. ورضيه الله لهم منهج حياة وللناس أجمعين. ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى... وأي تعديل في هذا المنهج -دعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة... وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين... وإن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء
 
 

1- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/4 - ص2101-2103.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

34

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 يه في بعض الملابسات والظروف. فحذر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات... ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾1. وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة لغرض من الأغراض في ظرف من الظروف ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾2. ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحّي شريعة الله عن حكم الحياة؟ ما الذي يستطيع أن يقوله وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟ الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ ألم يكن هذا كله في علم الله وهو يأمر المسلمين بأن يقيموا بينهم شريعته وأن يسيروا على منهجه وأن لا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟3

 
3- ويبيّن محمد قطب للذين يسعون إلى المشاركة السياسية مع الأنظمة الديمقراطية!... يبيّن لهم حقيقة الديمقراطية بقوله "أما الديمقراطية فهي الفتنة الكبرى! فتنة يقع فيها كثير من الدعاة اليوم كما وقع بعضهم في فتنة الاشتراكية
 
 
 

1- المائدة: 49.
2- المائدة: 50.
3- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/2 - ص903-905.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

35

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 من قبل1... وما عندي شك في إخلاص هؤلاء الدعاة... ولكنهم مع ذلك مخدوعون في هذه الديمقراطية يحسبونها تخدم الإسلام... ويلتبس عليهم الأمر بسبب الشبه الظاهر بينها وبين الشورى التي ألزم الله بها الأمة الإسلامية، فيحسبون الإسلام والديمقراطية شيئاً واحداً، أو شيئين متجانسين يمكن مزجهما في عجينة واحدة! وأحسب أن الذي يجذبهم إلى الديمقراطية حتى ليحسبونها هي الصورة التطبيقية لروح الإسلام، هو رقابة الأمة على الحاكم في النظام الديمقراطي ومحاسبتها له، والضمانات التي تكفلها الديمقراطية للفرد إزاء الدولة"... فإذا نظر أولئك الدعاة إلى أنفسهم في وسط النظم الاستبدادية التي تشردهم وتعذبهم وتقتلهم قالوا: يا ليت لنا نظاماً ديمقراطياً يحمي الدعوة ورجالها من العسف والاستبداد!... نعم! ولكن هذا لا يبرر الخديعة بالديمقراطية. إن هناك قضية كبرى في حياة المسلم، تنطلق من عقيدته، وتسري في فكره وفي سلوكه العملي... تلك هي قضية (من المعبود)؟ الله أم آلهة أخرى معه، أو من دونه؟ ويتفرع عنها قضية أخرى لا تقل خطراً عنها... تلك هي قضية (من المشرِّع)؟

 
 


1- يقصد بذلك الدكتور مصطفى السباعي عندما ألف كتابه اشتراكيتنا فاختلط لديه الأمر بين الاشتراكية والإسلام.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

36

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 فأما قضية (من المعبود؟) فيكفي لبيانها في الديمقراطيات أن (حق) الإلحاد مكفول في دساتير تلك الأمم تحت عنوان (حرية العبادة)!... وأما قضية (من المشرِّع؟) فالواضح في الديمقراطيات أن حق التحليل والتحريم هو (للأمة) مصدر السلطات، والبرلمان الذي يمثلها، نظرياً على الأقل، بصرف النظر عن كون أصحاب رؤوس الأموال، هم الثقل الحقيقي وهم أصحاب السلطان من وراء (المسرحية) الجميلة، مسرحية التمثيل النيابي وحرية الاختيار وحرية التعبير!، ولكن إذا أخذنا بالنظرية فالبرلمان هو الهيئة التشريعية العليا، ولا معقب لحكمه ولو أباح الفاحشة - وقد أباحها - ولو أباح الفاحشة الشاذة - وقد أباحها - ولو أباح أي شيء وكل شيء...! إنني أقول للدعاة الذين ينادون بالديمقراطية - مخلصاً- إن الديمقراطية بصورتها الموجودة عليها اليوم في الأرض لن توصلهم إلى الإسلام، لأنها تعارض معارضة أساسية مبدأ الالتزام المسبق بأي شيء ولو كان من عند الله... بل إن أول شيء نبذته هذه الديمقراطية هو الالتزام بما جاء من عند الله!... ثم أقول لهم مخلصاً: إنها لن توصلهم إلى الإسلام من جانب آخر. لأن المشرفين على (اللعبة) الديمقراطية يفتحون الأبواب لكل عابث ولكل مفسد، ولكنهم لا يفتحونها للإسلام!، وقضية الجزائر ما زالت حيّة لم تغب عن الذاكرة... من حق أي فريق من البشر أن يحصل على أغلبية في البرلمان... إلا الإسلاميين!1

 
 

1- محمد قطب - لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة - ص150-152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

37

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 4- ويفند الأستاذ عبد القديم زلوم1 جانباً آخر من جوانب النظام الديمقراطي، والمحدد بالحريات العامة التي ليس فيها ضوابط معتبرة، وهي تناقض الإسلام، في منطلقاتها وأهدافها، وهي التالية:

 
أولاً: إن حرية الاعتقاد تعني أن الإنسان يحق له أن يعتقد العقيدة التي يريدها، وأن يعتنق الدين الذي يود، دون ضغط أو إكراه، كما يحق له أن يترك عقيدته ودينه وأن يتحول إلى عقيدة جديدة، ودين جديد، أو أن يتحول إلى غير دين... بينما الإسلام يحرم على المسلم أن يترك عقيدة الإسلام، وأن يرتد إلى اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية2.
 
ثانياً: أما حرية الرأي في النظام الديمقراطي فإنها تعني أن الفرد له أن يحمل أي رأي وأي فكر، مهما كان هذا الرأي وهذا الفكر، وله أن يقول أي فكر وأي رأي، وأن يدعو إلى أي فكر وأي رأي، بمنتهى الحرية دون قيد أو حدٍ، وله أن يعبر عن ذلك بأي أسلوب من الأساليب المتاحة له... أما الإسلام فالأمر فيه مختلف، فالمسلم فيه مقيد في جميع أفعاله وأقواله بما جاءت به النصوص الشرعية، فلا يجوز له أن يعمل عملاً أو أن يقول
 
 

1- أحد أمراء حزب التحرير.
2- عبد القديم زلوم - الديمقراطية نظام كفر - ص55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 قولاً إلا إذا جاءت الأدلة الشرعية بجوازه... كما أن الإسلام أوجب على المسلمين مجابهة الحكام بالرأي ومحاسبتهم على أعمالهم1.

 
ثالثاً: أما حرية التملك -وهي التي أنتجت النظام الرأسمالي في الاقتصاد، وبالتالي أوجدت فكرة استعمار الشعوب، ونهب خيراتها، وسلب ثرواتها- فإنها تعني إباحة أن يتملك الإنسان المال ابتداء، وأن ينميه بأية وسيلة، وبأية كيفية كانت، فله أن يملك المال، وأن ينميه بأسلوب الاستعمار، ونهب الثروات وسرقة خيرات الشعوب المستعمرة، وبالاحتكار والمضاربة، وبالربا، وبالتدليس والغش والخداع والغبن الفاحش، وبالقمار والزنا واللواطة واستخدام أنوثة المرأة، وبصناعة الخمر وبيعها وبالرشوة وبغير ذلك من الأساليب... أما الإسلام فإنه نقيض هذه الحرية في أحكام تملك المال، فهو يحارب فكرة استعمار الشعوب، وفكرة نهب خيراتها، والاستيلاء على ثرواتها، كما يحارب فكرة الربا سواء أكان بفوائد مركبة أم بفوائد بسيطة، فالربا كله ممنوع. وقد حدد الإسلام أسباب تملك المال، وأسباب تنميته، وكيفية التصرف فيه، وحرم ما عداها... وبهذا يظهر أنه لا توجد حرية تملك للمال
 
 

1- عبد القديم زلوم - المرجع نفسه - ص56-57.
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

39

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 في الإسلام، بل المسلم مقيد في تملكه للمال وفي تصرفه بالمال بالأحكام الشرعية التي جاء الشرع بها، ولا يجوز له أن يتعداها1.

 
رابعاً: أما الحرية الشخصية، فهي حرية الانفلات من كل قيد، حرية التحلل من كل القيم الروحية والخلقية والإنسانية، حرية تحطيم الأسرة، وإفقادها كيانها وتماسكها. الحرية التي ترتكب باسمها جميع الموبقات، وتستباح كل المحرمات. وهي الحرية التي أوصلت المجتمعات الغربية إلى مجتمعات بهيمية يندى لها جبين الإنسان، وأوصلت أهلها إلى مستوى أحط من مستوى البهائم والحيوان. هذه الحرية قررت أن من حق الإنسان أن يتصرف في سلوكه الشخصي، وفي حياته الشخصية بالشكل الذي يروق له، بمنتهى الحرية، دون أن تملك الدولة أو غيرها حق الحيلولة بينه وبين القيام بما يريد أن يقوم به من تصرف أو سلوك. وأباحت له الزنا واللواطة والسحاق والخمر والعُرْيَ، ومزاولة أي عمل مهما كان خسيساً بمنتهى الحرية دون قيد أو حد، بدون ضغط أو إكراه... إن أحكام الإسلام تناقض هذه الحرية الشخصية مناقضة تامة. فلا حرية شخصية في الإسلام، والمسلم مقيد بأوامر الله
 
 
 
 

1- عبد القديم زلوم - الديمقراطية نظام كفر - ص58-59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

40

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ونواهيه في جميع أفعاله وتصرفاته، ويحرم عليه أن يقوم بفعل حرَّمه الله... والإسلام حرّم الزنا واللواط والسحاق والخمر والعري وغيرها من الموبقات، وجعل لكل منها عقوبة زاجرة، وأمر بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، وجعل المجتمع الإسلامي مجتمع الطهر والعفاف، ومجتمع القيم الرفيعة1.

 
5- ويرى سعيد حوى، أن على الإسلاميين أن لا يسعوا إلى تطبيق جزء من الإسلام تحت عنوان التعاون مع الآخرين، لأن هذا يعتبر مساومة على دين الله، ويؤدي إلى الذلة والخسران، ويشير إلى الفساد والمفسدين في العالم الإسلامي، ويحمل الحكام مسؤولية ذلك، بقوله: 
 
أولاً: إن حزب الله يرفض فكرة تبعيض الإسلام أياً كان مظهر هذا التبعيض، لأن التبعيض سبب من أسباب الذلة والخسران في الدنيا والآخرة، ولا يستمد حزب الله قوته إلا من الله الذي لا يعطي القوة لمن يتخلى عن جزء من دينه بل يذيقه ضعف الحياة وضعف الممات... إن تبعيض الإسلام سواء ظهر بشكل إسلام بلا سياسة أو ظهر بفكرة العهد المكي ثم المدني، أو ظهر بفكرة التعاون مع الآخرين على أساس اسم الإسلام
 
 

1- عبد القديم زلوم - المرجع نفسه - ص59-60.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

41

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 لا حقيقته أو ربع الإسلام أو خمسه كل ذلك مرفوض... إن حزب الله مكلف بإنهاء الردة والمرتدين مهما كان نوع الردة والمرتدين. هذا شأنه لا يمكن أن يضع يده بيدهم مهما كان نوع المصلحة التي يتوهمها الناس الآخرون في ذلك... وحزب الله لن يدخل في صراع مع الإسلاميين1 بل سيخدمهم ولكنه لا يعتبر إسلامياً إلا من آمن بشمول الإسلام وحرر ولاءه لأهله وعمل للإسلام2.

 
ثانياً: إن أكثر أقطار الإسلام اليوم قد سيطر عليه الكافرون والمرتدون والزنادقة والملحدون والمنافقون والفاسدون على شكل أفراد أو هيئات أو منظمات، أو أحزاب... وقامت حكومات أقطار العالم الإسلامي على هذا المزيج الكافر، وساعد هذه الحكومات أجهزة مهمة رجالها تثبيت الفساد... وأمام هذا كله فقد أصبح واجباً على المسلمين أن ينظموا عملية تطهير واسعة في كل قطر من أقطارهم يستأصلون بها من ذكرناهم في باب الشدة على الكافرين، ويستأصلون بها الفساد، ويستلمون زمام الحكم في كل قطر ويعيدون الأمر إلى نصابه... (ويقول عن الحكام)... فالكافر ليس إمام حق، والمبتدع ليس إمام حق، والداعي إلى الضلال ليس إمام حق،
 
 

1- أي الذين يشاركون في الحكم مع الأنظمة الوضعية.
2- سعيد حوى - جند الله ثقافة وأخلاقاً - ص44-45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

42

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 والذي لا يصلي ولا يلتزم أحكام الإسلام في ذاته ليس إمام حق، والذي يلغي أحكام الله، ويعطل شريعته، ويريد أن ينشر الفسوق والإباحية ليس إمام حق، والذي يريد أن يفرق بين المسلمين بالعصبية القومية والوطنية ليس إمام حق1.

 
6- ويبيِّن الشيخ عمر عبد الرحمن عدم جدوى دخول الإسلاميين إلى البرلمان، لأن فيه ضياع المبادئ الإسلامية، وفيه التضليل والحيرة للمسلمين، ويظهر ذلك من خلال أقواله التالية:
 
أولاً: إن ما نراه هو أن دخول هذه المجالس فيه فساد كثير، وفيه ضياع لمبادئ الإسلام، لأن هذه المجالس تصدر قوانين مخالفة للإسلام. والرئيس السابق للمجلس2 "محجوب" قال في جلسة من الجلسات: إن الربا من "المصالح المرسلة" وسكت الناس في مجلس الشعب، حتى الإسلاميون منهم. انظر الربا الذي حُرِّم بالكتاب جعله من المصالح المرسلة.
 
ثانياً: إن الناس حينما يرون الإسلاميين قد دخلوا هذه المجالس يقعون في حيرة. لو كان نظام الحكومة حقاً فلماذا يعيبون على هذا النظام؟ ولو كان نظام الحكومة باطلاً، فلماذا يدخل الإسلاميون في هذه المجالس؟ لذلك يقعون في حيرة شديدة
 
 
 

1- سعيد حوى - المرجع نفسه - ص386.
2- مجلس الشعب المصري الذي كان يترأسه مصطفى محجوب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

43

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 من دخول الإسلاميين ومشاركتهم في هذه المجالس، فإذا كان النظام على حق فلماذا يطالبون بتغييره؟ وإذا كان على باطل فلماذا يشاركون فيه؟.

 
ثالثاً: إن الديمقراطية كما عرّفوها، حكم الشعب للشعب بالشعب، والإسلام يقول (لا حكم إلا لله) فكيف يكون ذلك؟ فالله هو الذي يحكم بين عباده ويصدر التشريعات لهم ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾1. فالحكم لله وحده. والشرع من عند الله. وليس للشعب ولا لفرد ولا لجماعة ولا لحزب ولا لمجلس ولا لهيئة ولا لفريق أن يشرعوا. الله هو الذي جعلنا على شريعة وهو الذي يحكم بيننا، الحكم له وحده، فلا يصح أن يكون للشعب، فالديمقراطية أمر لا يوافق عليه الإسلام من حيث إعطاء الحكم للشعب، لكن الحكم لله وتوجد المشورة في حدود مبادئ الإسلام وما بيّنه الإسلام من منهج.
 
رابعاً: مهما تكن النسبة العددية للإسلاميين في هذه المجالس البرلمانية فإنهم لن يحققوا شيئاً، ولك أن تسأل عن: ماذا حقق هؤلاء الإسلاميون بنسبهم العالية لدينهم فضلاً عن دنياهم؟ إنه نظام مرسوم، والحكام الذين يشرفون عليه لن
 
 

1- الجاثية: 18.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

44

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 يقبلوا بتطبيق الإسلام ولا يريدون اليوم أن يطبق فيه. ولن ينجح الإسلاميون بتحصيل شيء من هذه التجربة. وإذا كانوا يعتقدون أنهم سوف يحققون الإسلام بهذه الطريقة وحصل لهم ذلك فهو خير. لكنني أود أن أنبه إلى أن ما أُخِذَ بسهولة يُنزع بسهولة. وما أُخذ بالانتخاب يُنزع بالانتخاب، فإذا وصلوا إلى الحكم فإن هذا يُنزع عنهم بالسهولة نفسها التي وصلوا بها. فإذا تكالبت عليهم قوى الشر وأهل الأحزاب الأخرى وكانوا أكثر نزعوا منهم. ولكن إذا كان الوصول إلى الحكم عن طريق قول الحق والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله فإن أحداً لا يستطيع نزعه عنهم أبد1.

 
7- ويبيّن الدكتور عبد الله عزام موقفه من القانون الوضعي، ومن مسألة التحاكم إلى الطاغوت والرضى به، وخطورة إبعاد الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة، من خلال تفسير قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾2. ويظهر ذلك من خلال التالي:
 
أولاً: هذه الآية الكريمة تمثل القاعدة الكبرى في هذا الدين،
 
 
 

1- مجلة العالم - لندن - العدد 355 - 1/12/1990.
2- النساء: 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

45

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 هذه القاعدة التي لا يكون بدونها إيمان، ولا إسلام، وهي قضية المسلم الكبرى يوم أن تنزَّل هذا القرآن. وهي قضيته الأساسية والكبرى كذلك في كل زمان، وهي قضية العصر الراهنة التي يجب أن تشغل اهتمام كل مسلم. إن التحاكم إلى الكتاب والسنّة هو الإسلام فحسب. ولذا فقد جاءت هذه الآية بهذا القسم المزلزل الذي ترتعش حياله الأوصال، وترتجف عند سماعه الأعضاء. وهذه بديهية من المفروض ألا تغيب عن بال بشر، وذلك لأننا عبيد لله، نعيش في ملك الله ونحن خلق من خلقه. ولذا يجب أن ينفذ فينا شرعه، ويطبق علينا حكمه، وإلا فهو تمرد على خالق الأرض والإنسان، وهو تصرف بغير إذن المالك بل مناوأة للسيد في ملكه وحكمه وعبيده، ومن ثم تصبح القضية خروجاً وفسوقاً وكفراً بمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾1. فدين الله هو: أوامره ونواهيه، وهي في جوانب العقيدة. كما أنها تتمثل في إقامة الشعائر -بالعبادات وغيرها- وأخيراً فهي تكون في جانب الشرائع والقوانين. وهذه الجوانب كلها متكاملة إذا غاب أي جزء من هذه الأجزاء فقد تخلف هذا الدين عن الوجود، لأن الإسلام كالجهاز المتناسق

 
 

1- الأنبياء: 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

46

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الذي يتوقف إذا رُفع منه أي جزء، أو أُضيفَ إليه جزء غريب عن كيانه1.

 
ثانياً: وعلى هذا فكل من رضي بالقوانين الأرضية وبالشرائع القانونية التي شرعوها بغير إذن الله، بل هي مصادمة للنصوص القرآنية والنبوية، أقول: كل من رضي بها أو تحاكم إليها غير مكره، أو تدخل في تقنينها أو إقرارها أو تنفيذها راضياً فهو ممن ينسحب عليهم حكم الآية ويخرج بهذا العمل من دائرة الإيمان، لا سيما وأن البخاري يروي أنها نزلت في رجل من الأنصار، وهو قطعاً يقيم الشعائر ويعلن إسلامه، ومع ذلك فقد كان القسم رهيباً وجازماً في أن الذي لا يتحاكم إلى شرع الله ورسوله ليس مؤمناً2.
 
ثالثاً: ومن ناحية أخرى، فلقد جازت الحيلة على المسلمين البسطاء وأصبح الدين الجديد -القانون الوضعي- الذي حل محل دين الله في الأرض قانوناً يدرسه أبناؤنا وأقيمت الجامعات والمعاهد، وتتصدر هذه الجامعات الكلية التي تدرّس "الدين الجديد" وهي كلية الحقوق، ودخلها الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين يدرسون هذا الدين، ويتخصصون
 
 
 

1- الدكتور عبد الله عزام - العقيدة وأثرها في بناء الجيل - ص 68.
2- الدكتور عبد الله عزام - العقيدة وأثرها في بناء الجيل - ص 80.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

47

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 فيه ويصبحون هم بالتالي سدنته وكهنته وحماته، وبتخطيط عجيب يتسلم هؤلاء إدارة المحاكم وزمام الدولة، وقيادة الأمة والمؤسسات الحيوية في كل بلد كان في يوم ما داراً للإسلام... وبإمكاننا أن نقول: كل من رفض التحاكم إلى شريعة الله أو فضّل أي تشريع على تشريع الله، أو أشرك مع شرع الله شرائع أخرى من وضع البشر وأهوائهم، وكل من رضي أن يستبدل بشرع الله قانوناً آخر، فقد خرج من حوزة هذا الدين وألقى ربقة الإسلام عن عنقه، (و) رضي لنفسه أن يخرج من هذه الملة كافراً1.

 
8- ويشير الأستاذ عبد القادر عودة إلى فشل النظام الديمقراطي الوضعي، ويوضح فساد النظام الديكتاتوري وما أدى إليه من كوارث، ويصل بالنتيجة إلى أن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية هي الحل لكل معضلات المسلمين، وكل مشاكل البشرية... فيقول في ذلك:
 
أولاً: وإذا كان فشل البلاد الديمقراطية في تطبيق مبدأ الشورى يرجع في الأصل إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديمقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح
 
 
 

1- الدكتور عبد الله عزام - المرجع نفسه - ص83-84.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

48

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى المبدأ ذاته، واعتنق الكثير من البلاد الديمقراطية مبدأ الديكتاتورية1 وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجاً لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب. ولكن التجارب أثبتت أن الديكتاتورية انتهت بفشل أفظع من فشل الديمقراطية، لأنها تؤدي إلى كم الأفواه وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختيار وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر2.

 
ثانياً: أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق. وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديمقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه بريء من العيوب التي تنسب للديمقراطية والديكتاتورية معاً. ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية،
 
 
 

1- مثل ألمانية وإيطاليا والاتحاد السوفياتي في الثلاثينات من القرن الماضي.
2- عبد القادر عودة - التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - م/1 - ص40.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

49

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي، فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في آخر القرن الثامن عشر، وعلى إثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأتِ بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي1.

 
ثم يوضح أنه لا يصح مقارنة الشريعة الإسلامية بالقانون الوضعي الذي خطه البشر للأسباب التالية:
 
1- أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلا الشريعة والقانون تتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة، أو وجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن
 
 

1- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

50

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 وصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان. أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال، حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾1، لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان2.

 
2- أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شؤونها وسد حاجاتها. فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غداً... أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شؤون الجماعة3.
 
3- أن الجماعة هي التي تضع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها - والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شؤون الجماعة ولا يوضع لتوجيه الجماعة- ومن ثم كان القانون متأخراً عن الجماعة وتابعاً لتطورها، وكان القانون من صنع
 
 
 

1- يونس: 64.
2- عبد القادر عودة - التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - م/1 - ص18.
3- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص19.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

51

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون... أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع البشر، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي... وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة، إذ الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شؤون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي1. ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم... ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل. وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية2.

 
 
 

1- المقصود هنا العالم النموذجي في الرفعة والسمو.
2- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص21-22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

52

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 9- ويشير الشيخ حسن قاطرجي1 إلى خطورة المشاركة السياسية مع الأنظمة الوضعية، ويتحدث عن المثال اللبناني، ويبيّن المنكرات التي يمكن أن تحدث من خلال مشاركة الإسلاميين في هذا النظام فيقول: بالإضافة إلى المنكر الكبير الذي يترتب على المشاركة في المؤسسة التشريعية للأنظمة الجاهلية، يوجد العديد من المنكرات المرافقة لهذه المشاركة تؤكد حرمتها وتبيّن أن بعض المصالح التي يتطلع إليها المشاركون المتدينون تغمرها مفاسد كثيرة، منها:

 
أولاً: أن مجالس النواب في الدول المجاورة للكيان الصهيوني -ومنها لبنان- ستجبر على الاعتراف به وتطبيع العلاقات معه مما سيشكل أخطر تحدٍّ لحياة الأمة في مجالاتها العقدية والخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فما هي مصلحة الحركة الإسلامية في أن تكون شاهدة زور في قلب السلطات الحاكمة على أخطر صك خيانة؟!.
 
ثانياً: أن النظام الاقتصادي في لبنان نظام رأسمالي يعتبر الربا ضرورة من ضرورات الاقتصاد الحر، وبالتالي فإن الربا تدخَّل في معاملات الدولة ومشاريعها وأنشطتها الاقتصادية. ومجلس النواب هو الذي يقرّ الاعتمادات اللازمة، كما أنه هو
 
 

1- رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي في بيروت.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

53

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الذي يقرّ مشاريع القوانين المتعلقة بفتح الاعتمادات وموازنة النفقات والواردات فضلاً عن مشروع قانون الموازنة المتضمن بشكل صريح وواضح للربا المحرم حرمة قطعية.


ثالثاً: الحضور والمشاركة في كثير من المنكرات والمخالفات الشرعية التي يرتكبها النواب غير المتدينين، فضلاً عن غير المسلمين... ولن يتمكن المسلم الغيور من إلغائها ولا حتى إنكارها نظراً لغلبة الفساد وانتشار المجون والسفور والاختلاط والسُّكر والرِّشا والسرقات والدعارة في أوساطهم.

رابعاً: أن مجلس النواب هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية وهو حسب العرف اللبناني الساري إلى الآن نصراني ماروني، ومعلومة حُرمة تولية كافر على المسلمين. والنائب المسلم جُلّ ما يقع تحت اختياره أن لا ينتخب أو أن ينتظر حتى ينتخب رئيساً مسلماً فيما لو ألغيت الطائفية السياسية في لبنان وهو مطلب تعارضه أغلب التيارات والقوى السياسية المسيحية لأنه يسحب منها امتيازاتها واحتكاراتها ومواقع نفوذها في الدولة ومؤسساتها، وتعارضة أكثر وأكثر بالنسبة لرئيس الجمهورية.

خامساً: المشاركة في منح الثقة المتعاقبة والتي يعتبر الدستور اللبناني أخصّ وظائفها تطبيق سياسات الدولة وتنفيذ القوانين التي يقرّها مجلس النواب. ولا يخفى على أي شخص
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

54

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ما هي الحكومات التي يُسمح بوصولها؟ ومن هم الوزراء؟ وما هي خلفياتهم العلمانية والماسونية؟ وما هي السياسات المفروض عليهم انتهاجها؟.

 
سادساً: تمييع سبيل المجرمين بالمشاركة معهم في الموقع نفسه مع أن أحد أعظم غايات القرآن الكريم في هداية الناس وتعميق ولائهم العقدي للإسلام: تأكيده على بيان سبيل المجرمين، فقد قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾1 أي لتتضح وتظهر2.
 
10- ويقول عميد كلية الحقوق بجامعة أسيوط الدكتور عبد الناصر العطار عن الديمقراطية: "إن الديمقراطية عندما تجعل الحكم للشعب لا تجعل التشريع مستقراً على مبادئ راسخة ثابتة، فتارة تسود الأفكار الرأسمالية، وتارة تسود الأفكار الاشتراكية، وتارة ينادى بالانفتاح وأخرى بالانغلاق أو التقييد، بينما العمل بالنظام الإسلامي يعني العمل بمبادئ مستقرة في القرآن والسنة، مما يقي المجتمع الأهواء والنزوات والتقلبات. كذلك عندما تجعل الديمقراطية حكم الشعب بالشعب، تأتي بعناصر منتخبة
 
 

1- الأنعام: 55.
2- الشيخ حسن قاطرجي - دراسة علمية في بيان الموقف الإسلامي من المشاركة في الانتخابات في لبنان- ص3-4.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

55

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 قد تكون غير مؤهلة لوضع التشريع. وهو قواعد تحكم سلوك الأمة، كما يعني صدور القرار دائماً بالأغلبية دون اعتداد بمصالح الأقليات، بينما النظام الإسلامي يجعل الاجتهاد في أيدي عناصر منتخبة أو معينة ولكنها مؤهلة لاستنباط الحكم من القرآن والسنة، تسمى بأهل الحل والعقد، وهم علماء الأمة وخبراؤها، فتسير الأمور على علم وهدى مع الاعتداد كذلك بآراء طوائف الشعب المختلفة عن طريق التعرف عليها بواسطة من سماهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعرفاء، أي مندوبون تنتخبهم طوائف الشعب ويتعرفون على متطلباته، ويعرِّفون بها ولاة الأمور وأهل الحل والعقد"1.

 
11- ويواجه الإمام الخميني أعتى حكم ظالم مرتبط بالغرب، من خلال المفاصلة السياسية في الموقف، والسعي إلى فضح النظام الذي يعيث في الأرض الفساد، والدعوة إلى عدم التعاون معه، والعمل على مواجهته وإسقاطه، ويتضح ذلك من خلال أقواله التالية:
 
أولاً: أمن أجل القروض الأميركية -التي تؤخذ عليها الفوائد الفاحشة- بعتم استقلال إيران وكرامتها لتصبح في مصاف
 
 
 

1- مجلة منبر الإسلام - القاهرة - السنة 53 - العدد 6 - تشرين الثاني 1994 - ص49.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

56

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الدول المستعبدة وأشدها تخلفاً؟!! ماذا نعمل أمام هذه الكارثة؟ ماذا على العلماء أن يفعلوا؟! لمن نشكو حالتنا المأساوية هذه؟! إن الرأي العام العالمي يظن أن شعب إيران هو الذي انحط إلى هذا الدرك، ولا يعلم بأن الحكومة والمجلس -اللذين فقدا ارتباطهما بالشعب نهائياً- هما اللذان صدّقا على هذه الاتفاقية دون علم من الشعب تماماً... فهولاء النواب لم يرشحهم ولم ينتخبهم الشعب بل حملتهم الأجهزة القمعية إلى المجلس!، لأن علماء الدين والمراجع قاطعوا الانتخابات، وقد عمل الشعب بمشورتهم فلم يشترك في التصويت أيضاً... لقد أدركوا بأنه ما دام لعلماء الإسلام هذا النفوذ الشعبي الواسع فلن يستطيعوا استعباد هذا الشعب وبيعه للإنكليز يوماً وللأميركان يوماً آخر. ولن يستطيعوا تسخير الاقتصاد الإيراني لإسرائيل... ولن يستطيعوا تحميل الشعب تبعات القروض الاستعمارية الثقيلة... ولن يستطيعوا العبث بأموال الشعب على هواهم.. ولن يقدروا على أن يعملوا ما يشاؤون وفق رغباتهم وشهواتهم الشخصية... ولن يكون بإمكانهم تزوير الانتخابات وإرسال عملائهم إلى المجلس تحت ظلال الحراب1.

 
ثانياً: وأعلق الآمال الكبيرة على هذا الوعي والتحرك الشامل
 
 
 

1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص106-107.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

57

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 اللذين وجدا في البلدان الإسلامية عامة وفي إيران خاصة، وعلى هذه النقمة العامة والتذمر الشامل من الأجهزة الظالمة الاستعمارية البربرية. إن هذا الوعي العام والنقمة العامة والتذمر الشامل ليست مؤقتة وعابرة بل إنها ستدوم حتى القضاء على أنظمة الجبارين وإنهاء ظلم الظالمين. وإن الانفجار الشعبي العارم الذي يعقب ظلم الأنظمة الفاحش وحرمان الشعوب المضطهدة المتزايد سوف يدك عروش السلطات العميلة التي ما وضعت إلا من أجل تكبيل الشعوب ونهب ثرواتها، وسينتقم الله من الظالمين... وعلى التجمعات المخلصة والملتزمة بالإسلام بصورة كاملة أن تستفيد من هذه الفرصة "القصيرة" لتوحد صفوفها بذكاء وحنكة وأن لا تسمح للانتهازيين الذين لم يخطوا خطوة واحدة ولم يقولوا كلمة واحدة خدمة للإسلام وللشعب... أين كان هؤلاء عندما كان الشعب المسلم بأسره وبجميع فئاته، من عالم الدين إلى الجامعي، ومن المهندس والدكتور إلى التاجر والعامل والفلاح، يسحق تحت أقدام عملاء الأجانب، وعندما حدثت "مجزرة 15 خرداد" الخامس من حزيران 1963م، ونهبت المدارس الدينية على يد عملاء الاستعمار حيث كانت يومها السجون تعج بالمدافعين عن الإسلام وبالأحرار الشرفاء، وعندما بدلوا تاريخ الإسلام المشرق (التاريخ الهجري) الذي

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

58

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 يعبر عن إشراقة العدل والحرية والتكامل الفردي والاجتماعي والسياسي بتاريخ المجوسية الشاهنشاهية الرجعية؟.. يجب على الشعب وجميع الفئات الدينية أن يأخذوا زمام المبادرة بيقظة تامة... ويجب أن يعرف الشاه وعصابته الخائبة أن الشعب يرفضهم سواء جددوا البيعة لكارتر وثبتوا موقفهم اللاشرعي، عند لقائهم به، أم لا. وإن الأمة الإيرانية ترفضه وسوف لن تكف عن النضال حتى تأخذ الثأر لشبابها المضرَّجين بدمائهم الزكية وتنجي الإسلام وأحكامه من هذه السلالة المجرمة.. أطلب من الله تعالى إصلاح حال المسلمين وتحرير البلدان الإسلامية من تسلط الأجانب يمينهم ويسارهم1.

 
12- ويؤيد الشيخ نعيم قاسم مسألة دخول حزب الله في الانتخابات، لأن التمثيل في مجلس النواب للحزب يخدم الناس وجماهير الحزب، ولكنه يتردد في قبوله دخول الحكومة حيث يقول: "إن تعقيدات الدخول إلى الحكومة تختلف عن المشاركة في المجلس النيابي، فالحكومة عمل تنفيذي يرتبط بسياسات عامة اقتصادية واجتماعية وسياسية، ويتحمل أفرادها مسؤولية تطبيقها والدفاع عنها حتى مع
 
 
 

1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص226-228.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

59

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 مخالفتها... وهذا ما يجعل الموافقة على العمل من داخل الحكومة يتطلب توفر الشروط المناسبة والمنسجمة مع ما يؤمن به حزب الله"1...

 
ثم يستعرض أقوال أنصار الدخول إلى الحكومة بقوله:
 
أ- إن المسار السياسي الذي يؤدي إلى المشاركة في الانتخابات النيابية يقتضي متابعة الطريق في الدخول إلى الحكومة، وإلا كان الأداء ناقصاً ومعه يخسر الحزب استثمار جهوده المبذولة.
 
ب- إن تركيبة النظام السياسي في لبنان تتحمل الدخول في الحكومات مهما كان اتجاهها وأداؤها، لأنها عبارة عن توافق مبني على تقاطع مصالح...
 
ج- تعطي المشاركة في الحكومة نموذجاً تطبيقياً مميزاً لوزراء الحزب، ما يجعلهم مثالاً يحتذى...
 
د- يحقق الوزير خدمات مناطقية وفردية تساعد في تشكيل رافعة إضافية للحزب في الحياة الاجتماعية العامة2...
 
 

1- الشيخ نعيم قاسم - حزب الله المنهج؛ التجربة: المستقبل - بيروت - دار الهادي - 2008م - ص289.
2- المرجع نفسه - ص290.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

60

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ثم يعرض الشيخ نعيم آراء المعارضين للدخول إلى الحكومة بالتالي:

 
أ- لم ينطلق الحزب في رؤيته الجهادية السياسية وبرنامج عمله في اعتبار هدفه النهائي في الوصول إلى سدة الحكم... إنما وضع جملة من الأهداف يريد تحقيقها أبرزها: مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لتحرير الأرض، وتقديم تجربة إسلامية نموذجية في العمل السياسي تواكب الضوابط الشرعية الإسلامية...
 
ب- مهما ميز الحزب نفسه داخل الحكومة فإنه يتحمل وزر أعمالها، فإذا اتجهت الحكومة للتفاوض مع إسرائيل ضمن إطار التسوية في المنطقة، لا يمكن للحزب أن يوافق أو يشارك فيما يعتبره خلافاً رئيسياً في مواجهة المشروع الإسرائيلي...
 
ج- أما التغيير من الداخل أو فرادة السلوك في مقابل الآخرين ففيهما نقاش، إذ تنعدم إمكانية التغيير في بعض الحالات، خاصة عندما تتألف الحكومة من عشرين أو ثلاثين وزيراً ويكون للحزب وزير أو وزيران، فالنسبة لا تشكل قدرة كافية للتأثير، ومع وجود نظام المحاصصة بين الرؤساء الثلاثة... إن ما تقدم يرقى بالأصل إلى عدم المشاركة في الحكومة، بحيث تكون المشاركة هي الاستثناء فيما لو توفرت الإجابات المقنعة على التساؤلات المطروحة1.
 
 
 

1- الشيخ نعيم - حزب الله المنهج، التجربة، المستقبل - م. س. - ص291-293.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

61

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 طروحات المؤيدين للمشاركة السياسية


وقد حدد المؤيدون للمشاركة السياسية مع الأنظمة الوضعية أدلتهم الشرعية والسياسية بالتالي:

1- سئل الإمام ابن تيمية عن رجل متولٍ ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولّى غيره فإن الظلم لا يُترك منه شيء، بل يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكن إسقاطه... فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عُرفت نيته واجتهاده... فأجاب: "الحمد لله. نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما ذُكر، فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك واجباً عليه إذا لم يقم به غيره قادراً عليه. فنشر العدل، بحسب الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان -فرض على
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

62

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الكفاية- يقوم كل إنسان بما قدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم"1.

 
2- يقول أبو الأعلى المودودي في مجال الوصول إلى قيام الدولة الإسلامية: "فإن كنا نريد اليوم أن نصرف نظام الحياة في بلادنا عن طريق الضلال والفساد والفسق والعصيان إلى طريق الإسلام المستقيم، فلا مندوحة لنا من أن نبذل سعينا بطريق مباشر في إزاحة الفساد عن منصة القيادة والسلطة وإحلال الصلاح مكانه... أما كيف يتأتى هذا التغيير، فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي إلا السعي في الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد وننشر الوعي السياسي الصحيح فيها ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم في المجالس النيابية، ونصلح طرق الانتخاب ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين يحبون ويقدرون أن ينهضوا بصرح نظام البلاد على أسس الإسلام وهدي الكتاب والسنة"2.
 
 
 

1- الإمام أحمد بن تيمية - مجموع الفتاوي - ج/3 - ص356-360.
2- أبو الأعلى المودودي - نحو ثورة سلمية - ص105.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

63

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 3- ويشير الشيخ حسن البنا إلى أهمية وصول الدعوة الإسلامية إلى منبر البرلمان من خلال الانتخابات "ليس منبر البرلمان وقفاً على أصوات دعاة السياسة الحزبية على اختلاف ألوانها ولكنه منبر الأمة تُسمع من فوقه كل فكرة صالحة ويصدر عنه كل توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب أو يؤدي إلى توجيهه توجيهاً صالحاً نافعاً... وعن الحرج من القسم على احترام الدستور يقول... ويوجه بعض المتسائلين سؤالاً جميلاً فيقولون وماذا تصنعون في اليمين الدستورية -إذا نجحتم- وفيها النص على احترام الدستور، وأنتم معشر الإخوان تهتفون من كل قلوبكم: القرآن دستورنا؟ والجواب عن ذلك واضح مستبين، فالدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى وتقرير سلطة الأمة وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام"1.

 
4- وسئل الشيخ محمد أبو زهرة عن ترشيح الإخوان أنفسهم لكراسي النيابة فقال: "إن ترشيح بعض الإخوان المسلمين الذين يستمسكون بالعروة الوثقى، وللدين الاعتبار الأول في
 
 
 

1- مجلة الإخوان المسلمون - القاهرة - 4/11/1944، ومجلة الدعوة - لندن - 6/10/1994، ومجلة المجتمع - الكويت - 21/11/1995.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 نفوسهم أمر واجب جدّ واجب، لأنه يحمي جماعة الإخوان وينشر دعوتهم ويفيد الحياة النيابية في مصر"1.

 
5- وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول مجلس الشعب ليس للتشريع وإنما لمطالبة الحاكم بتطبيق شرع الله، وحكم استخراج بطاقة الانتخاب فقال: "إنه لا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إليه. كما إنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله"2.
 
6- ويقول المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ مصطفى مشهور عن دور الإخوان في مجلس الشعب: "نحب أن نوضح أننا حينما نسعى لتطبيق شريعة الله، لا يعني أننا نقرّ أخذ رأي أعضاء مجلس الشعب على شريعة الله وعلى مدى صلاحيتها للتطبيق، ولا يجوز أن يدور ذلك بخلد أحد من الناس، إذ لا يجوز في حق الله أن نأخذ رأي خلقه في شرعه على الإطلاق، لأننا نعتقد أن شريعة الله جاءت
 
 
 

1- مجلة الدعوة - لندن - العدد 29 - 6/10/1994.
2- مجلة الدعوة - المرجع نفسه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 لتطبق، والحاكم عليه أن يلتزم بها، وأهل الرأي أو الشورى يحاسبون الحاكم على تطبيقها على الوجه الصحيح، وإذا كان ثمة حوار أو رأي فيكون حول طريقة التطبيق وما يستلزمه من إجراءات أو مؤسسات. كما إننا لا نقرّ من حق مجلس الشعب أن يقرر قوانين تخالف الأصول الشرعية أو أن يشرع بجانب تشريع الله، ولا يعني أيضاً دخولنا مجلس الشعب موافقتنا على كل مواد الدستور وعلى كل القوانين القائمة ولكننا نرفض كل مادة في الدستور تخالف شرع الله ولا نقرّ أي قانون مخالف لشريعة الله ونسعى لإلغاء كل هذه المواد والقوانين المخالفة لتحلّ الشريعة كاملة محلها"1.
 
7- ويقول الدكتور حسن الترابي عن مبررات المشاركة السياسية مع النظام الحاكم: "وأياً ما كانت التفسيرات والتبريرات التي كانت تسوقها الجماعة لمشاركتها في نظام حكم غير شرعي ولا مَرضي، فإنما دخلت في الحقيقة إلى تلك المشاركة مهتدية بإستراتيجية خاصة لا تعول على التحول الإسلامي للنظام بل ولا على الأمل في إصلاحه بقدر ما تبتغي اغتنام فرصة حرية بفضل الموادعة، وتتوخى فرصة
 
 
 


1- المجلة العربية - الرياض - العدد 132 - آب 1988.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 سانحة بفضل المشاركة لبناء صفها وتطوير حركتها الإسلامية التي هي معقد الآمال في الإصلاح الإسلامي الشافي. وذلك أن العلاقة بالنظام أسست على شروط مهما اقتضت كبت اسم الجماعة ووجهها المباشر، تطلق لها فرص التعبير والعمل بصور كثيرة كيفيتها وهي تناسب الوضع السياسي وتحقق أهداف إستراتيجيتها مهما كلفها ذلك من تكاليف سياسية"1.

 
8- ويقول الدكتور فتحي يكن رحمه الله عن المشاركة السياسية، إنما هي مشاركة المسلمين وليست مشاركة الإسلام في الحكم مع الآخرين "إن المشاركة لا تعني مشاركة الإسلام للنظم الوضعية في الحكم، كما إنها ليست البديل عن (الحكم الإسلامي) أو تفرد الإسلام في الحكم. فهذا أمر لا يجوز الاجتهاد فيه، لأنه لا اجتهاد في معرض النص... إنما المراد من المشاركة وطروحاتها رفع الظلم عن المسلمين... استنقاذ حقوقهم... وقف التآمر الذي يهدف إلى استئصالهم... تدعيم مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليكونوا أقدر على التحدي وعلى الصمود في وجه محاولات التذويب والتغريب"2.
 
 

1- د. حسن الترابي - الحركة الإسلامية في السودان - ص199.
2- د. فتحي يكن - أبجديات التصور الإسلامي الحركي - ص165.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 9- أما الدكتور يوسف القرضاوي، فقد سُئل عن الحكم الشرعي في اشتراك حزب الرفاه الإسلامي في تركيا في حكم علماني ديمقراطي، وفي جوابه نرى أنه يكاد يروج للديمقراطية، تحت عنوان فقه الموازنات!، فيقول: "إن الحكم هنا يجب أن يبنى على فقه الموازنات، فإذا وُجد أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي الاشتراك جاز ذلك... والغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح... فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب والتي وصلت إليها الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء، وسقطت ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا العربية والمسلمة... هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر -كما يردد بعض السطحيين المتعجلين؟؟... الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"1.

 
 

1- مجلة الأمان - بيروت - العدد 240 - 17/1/1997. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

68

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 10- ويؤيد الأستاذ راشد الغنوشي مسألة المشاركة السياسية مع الأنظمة، بقوله "فإذا تحقق لنا نظام يعترف بالحريات، فينبغي على الحركة الإسلامية أن تمارس حقها كطرف سياسي معترفة بغيرها من الأطراف السياسية الأخرى مقدمة اختياراتها للنموذج الاجتماعي الذي تريد. فتخوض المعارك الانتخابية وتضع مواطئ أقدام لها في البرلمان ومؤسسات المجتمع كالبلديات وتشارك في الحكم ولو جزئياً لتدريب أفرادها على إدارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الإسلامية. إذ المجتمع الإسلامي لم ينزل من السماء مكتملاً ولا سقط في يوم إنما بني حجراً حجراً وسقط حجراً حجراً، هكذا إعادة البناء. وفي هذه الحالة إذ تعترف الحركة الإسلامية بالشرعية القانونية للدولة على أساس أنها مختارة من الشعب، فإنها ما دامت هذه الدولة لا تحكم بالإسلام لا نعترف لها بالشرعية الدينية حتى يكون الدين هو قاعدة المجتمع والتشريع وهنا ينبغي الحذر من أن يظن الشعب أن السلطة غدت إسلامية لمجرد مشاركة بعض الإسلاميين في أجهزتها"1.

 
 

1- راشد الغنوشي - محاور إسلامية - ص41.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

69

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 11- ويرى السيد محمد حسين فضل الله إمكانية تغيير النظام الحاكم باتجاه الإسلام، من خلال المشاركة السياسية، فضلاً عن تحقيق عدة أهداف، من مواجهة التش-ريعات الباطلة، ومواجهة المش-اريع الظالمة، ويظهر هذا، من خلال أقواله التالية:


أولاً: أما في طريقة الحكم في العصور الحديثة، فإنها لا ترتكز على الشخص من حيث المبدأ، بل ترتكز على المؤسسات الديمقراطية، التي قد يملك فيها الإنسان، فرداً كان أو جهة، إمكانات الدخول إلى داخلها، والحصول على حرية الحركة فيها، من خلال الحصول على أكبر قدر ممكن من المقاعد في المجالس النيابية، أو من المواقع السياسية والاقتصادية، التي تفسح المجال للوصول إلى الضغط على الحكم وإضعافه، أو السيطرة عليه، في عملية احتواء له، كما يحدث -في بعض الحالات- من انتقال الحكم من حزب إلى حزب، من المؤسسات الحزبية المتحركة في داخل اللعبة، مما يمكن حدوثه لدى المؤسسات، التي تتحرك في مفاهيمها وتطلعاتها خارج نطاق اللعبة السياسية.

ثانياً: وفي ضوء ذلك، فإننا لا نجد أي مانع من اعتماد هذا الأسلوب من ناحية المبدأ، كأحد الأساليب الواقعية، في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

70

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الوصول إلى النتيجة المطلوبة، في الوصول إلى مواقع الحكم، أو الاقتراب منه، أو التقدم في بعض الخطوات في حركة التغيير، وذلك بالتأكيد على صفة المعارضة، التي تعلن عن منهجها وأسلوبها في العمل، وتطلعاتها للتغيير، وتركيزها على إظهار سلبيات الحكم، ومواطن الضعف فيه، في محاولة دائمة لتحويل الأنظار عنه إلى الإسلام، في إيجابياته، من خلال مواطن القوة فيه، والعمل على اعتبار المؤسسات الديمقراطية موقعاً متقدماً من مواقع الإعلام والتحرك لمصلحة الإسلام في مواقعه التشريعية والسياسية على أكثر من صعيد.


ثالثاً: إن من الممكن للإسلاميين أن يعبّروا في داخل الندوة النيابية عن موقفهم الإسلامي في مجالات التشريع، بالعمل على منع التشريعات المضادة للتشريع الإسلامي، ومواجهة المشاريع الظالمة والطاغية، التي يراد من خلالها استعباد الأمة، واستغلالها واستعمارها، وتحويلها إلى أمة ضعيفة مستسلمة ذليلة، فيما يخطط له ممثلو الحكم الفاسد والاستكبار الغاشم ويعبرون - في الوقت نفسه - عن معارضتهم للتشريع كمبدأ، فيما لا يملكون أمر الخوض فيه، ويمكن لهم في الوقت نفسه أن يفسحوا في المجال للتشريعات الإسلامية أن تفرض نفسها على الساحة من خلال التحرك العملي، من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

71

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 أجل إقرارها في القانون، بطريقة وبأخرى، ويؤكد وجودها كحركة ضد الانحراف، عندما توحي بأن شرعية وجودها في الداخل منطلقة من المواقع الشرعية فيه... إن هذه الوسيلة قد تكون في بعض المراحل الوسيلة الأقرب، للوصول إلى المواقع المتقدمة للاتجاه الإسلامي في الساحة1.

 
تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية
 
بعد عرض الأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين والمؤيدين للمشاركة السياسية في الحكم مع الأنظمة الوضعية... أسعى إلى مناقشة المؤيدين من خلال الأدلة الشرعية والسياسية التالية:
 
أولاً: في مسألة فتوى الإمام ابن تيمية في إجازته تولي منصب سياسي في دولة ظالمة، ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه الدولة هي دولة تُطبق فيها شريعة الإسلام وأن حاكمها مسلم وإن تلبّس في الظلم في حين من الأحيان، وبالتالي فإن تولّي هذا المنصب أو تلك الوظيفة في هذه الدولة بهدف تخفيف المظالم على الناس يصبح من الواجب الشرعي، وهذا ما أكدته فتوى الإمام ابن تيمية رحمه الله... ولكن هذا الأمر لا يمكن أن ينسحب على دولة غير إسلامية وحاكمها ليس بمسلم، لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ
 
 

1- السيد محمد حسين فضل الله - الحركة الإسلامية هموم وقضايا - ص46-49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

72

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾1.

 
ثانياً: لقد اجتهد أبو الأعلى المودودي وحدد أن الوصول إلى دولة الإسلام ممكن من خلال النظام الديمقراطي والانتخابات، وجرَّب الرجل مع الجماعة الإسلامية في باكستان هذا الطريق، فلم يصل إلى ما يريد، ولهذا وبعد معاناة شديدة وعَنَت كبير في هذا السبيل، فقد غيَّر الرجل رؤيته للأمور بعد حين من الزمن، فيقول في ذلك "كذلك الدولة، الدولة الإسلامية فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة، بل لا بد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولاً حركة شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام وتوائم طبيعته... ثم تأخذ هذه الحركة في النمو صُعداً، مع ما لها من السيادة الفكرية والعقلية في مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع الإنساني، لأنه في مثل هذا الكفاح والمقاومة يُمتحن القائمون بالدعوة وحاملو لوائها بأنواع من المصائب والشدائد، فيقاسون الآلام والأهوال ضرباً وقتلاً، وإجلاءً عن الوطن، ويبذلون
 
 
 

1- المائدة: 51.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

73

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 مهجهم وأرواحهم بكل صبر وجلد وإخلاص وعزم قوي.. فكذلك شأن الانقلاب الإسلامي فإنه لا تثمر شجرته ولا تؤتي أُكلها إلا إذا قامت حركة شعبية على أساس الأحكام القرآنية ودعامة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الطاهرة، تقوم هذه الحركة الشعبية وتنهض وتقوى حتى تغيِّر بجهادها المستمر العنيف أُسس الجاهلية"1.
 
ثالثاً: بيَّن الشيخ حسن البنا أهمية دخول الدعوة إلى البرلمان، لأن فيه نخبة الأمة، ولا بد من إسماع صوت الإسلام لها، وأنه لا حرج على المسلم في ذلك، لأن الدستور المصري ينصّ على أن دين الدولة هو الإسلام... أقول نعم، بل إن دساتير2 معظم بلاد المسلمين تنصّ كذلك على أن دين هذه البلاد الإسلام3... ولكن أين الإسلام الذي يُطبق في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والخلقية، وقد بات من المؤكد أن هذه الأنظمة تعتمد الديمقراطية سياسياً والرأسمالية من الناحية الاقتصادية؟ ولقد سعى الشيخ حسن البنا ومنذ أربعينات القرن الماضي إلى أسلمة النظام المصري، واستخدم من أجل ذلك كل
 
 
 

1- أبو الأعلى المودودي - منهاج الانقلاب الإسلامي - ص21-24.
2- انظر نبيل الصائغ - الأحكام الدستورية للبلاد العربية.
3- من أجل تأمين غطاء ديني للنظام الحاكم ليس إلا، حيث إن هذه الأنظمة ليس لها علاقة بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

74

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الأساليب السلمية، القمينة بالوصول إلى هذا الهدف الكبير، إلا أنها لم تجدِ نفعاً، واستشهد البنا وعدد لا يستهان به من إخوانه على هذا الطريق، ولوحِقت قيادات وعناصر الإخوان، وزج بهم في السجون والمعتقلات، وعومِلوا من قبل الحكام بكل شدة وإرهاب وعنف، ولا يزالون، على رغم أنهم لم يرفعوا السيف، حتى الآن، في وجه الحاكم!.


رابعاً: لقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة الظلم النازل بالإخوان المسلمين، من قبل النظام الحاكم، ولهذا رأيناه وتحت ضغط الواقع، يفتي ويشجع الإخوان على دخول البرلمان، من أجل حماية أنفسهم أولاً، وإدخال الدعوة الإسلامية إليه ثانياً، وإغناء الحياة السياسية في مصر ثالثاً، إلا أن النظام الحاكم كان يأبى ذلك، لعوامل داخلية وخارجية "إن عبد الناصر كان يريد أن يرفع الشعار الإسلامي للسيطرة على جماعة الإخوان المسلمين، والاستيلاء على القواعد الجماهيرية التي قامت عليها شعبية الجماعة، وصارت مصدر قوتها، ويظهر أن فشله في ذلك هو الذي جعله يحاول القضاء عليها، وقد شجعه على ذلك أن السياسة الأمريكية نفسها كانت منزعجة من نمو نفوذها، وأنه تم الاتفاق بينه وبين المخابرات الأمريكية في أوائل 1952م قبل تنفيذ الانقلاب،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

75

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 على أن من أهداف الانقلاب العسكري "استبعاد الثورة الشعبية" التي كان يسعى لها بجد الإخوان المسلمون. أما أن السياسة الأمريكية كانت منزعجة من نمو حركة الإخوان المسلمين، فذلك راجع إلى أن هذه الجماعة رغم ما أصابها من ضربات من قبل، في عام 1948م/1949م انتهت بمقتل مؤسسها، إلا أنها عادت وسيطرت على الموقف الداخلي في مصر سيطرة كاملة في أواخر عام 1951م بسبب تزعمها للحركة الفدائية ضد القوات الإنكليزية في القنال، حتى خشيت الدوائر الغربية أن تتحول هذه الحركة الفدائية إلى ثورة شعبية ضد المصالح الغربية عامة، وضد إسرائيل بصفة خاصة1.

 
خامساً: يشير الشيخ ابن باز إلى أن وصول رجال صالحين إلى البرلمان يعملون على دعم الحق وأهله من الأهمية بمكان، ولكنه لم يحدد كيف يمكن أن تتم هذه العملية داخل البرلمان، حيث إنه بات من المعروف أن النظام الديمقراطي يعتمد أكثرية الأصوات في فرض قراراته، وبالمحصّلة أقول أنّى للإسلاميين أن يكون لهم أكثرية الأصوات في نظام ديمقراطي؟!
 
 
 

1- د. محمد صادق - الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية - ص290.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

76

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 سادساً: أما الأستاذ مصطفى مشهور، فيرى أن وجود الإخوان في مجلس الشعب هو من أجل التصدي لقرارات الباطل وإلغاء مواد الدستور البعيدة عن الإسلام... أقول إن النظام الحاكم في مصر وبتعاقب حكوماته منذ أربعينات القرن الماضي، يعمل على استئصال حركة الإخوان تحت عناوين سياسية شتّى، فهل نتوقع من هذا النظام أن يغيّر توجهاته السياسية، ويسمح للإخوان بأن يدخلوا الحياة السياسية في مصر من أبوابها العريضة!.

 
سابعاً: يوضح الدكتور حسن الترابي قناعته بأنه لا يرجو إمكانية تحول النظام الحاكم إلى الإسلام، ويعتبره غير شرعي وغير مرضي1، ويبيّن أن مشاركته هذه إنما كانت من أجل اغتنام فرصة هنا أو فرصة هناك، من أجل القيام بالتغيير الجذري2.
 
ثامناً: ويرى الدكتور فتحي يكن رحمه الله أن مبررات وجود الإسلاميين في مجلس النواب، هي رفع الظلم والغبن عن المسلمين، وتحصيل حقوقهم، وتدعيم مواقعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويوضح أن مشاركة المسلمين بالحكم لا تعني مشاركة الإسلام!... ونردّ على قوله بالتالي:
 
1- لقد دخل البرلمان، وعاش التجربة البرلمانية بكل مفرادتها
 
 
 

1- المقصود أن هذا النظام لا يرضى عنه الشعب المسلم في السودان.
2- وقد جاءت الفرصة بانقلاب جبهة الإنقاذ الوطني على الحكم في السودان عام (1989)، والتي كان الدكتور الترابي من أركانها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

77

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 وتفاصيلها1، وكان له جولات وصولات في تقديم المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والخلقية، يدعو إلى الإصلاح في جوانب الحياة السياسية، ويطالب بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين2... فماذا كانت النتيجة والمحصّلة العملية في تحقيق الأهداف المرجوة؟!.

 
2- إن المسلمين يعرفون حقيقة الإسلام من خلال تطبيقه في واقع الحياة، وإن مشاركة رموز الحركات الإسلامية وذوبانهم في مؤسسات النظام الوضعي يعطي انطباعاً لدى المسلمين بأن هذا النظام شرعي، ولكن يحتاج إلى بعض الإصلاحات، ومن أجل ذلك فإن هذه الرموز تشارك وتقوم بدورها في تحقيق هذه الإصلاحات، وينتج عن ذلك عدم الوضوح في الرؤية الشرعية والسياسية لدى المسلمين، في حقيقة المشروع الإسلامي، في إقامة الحكم الإسلامي، وبالتالي لا يمكن الفصل في وعي عامة المسلمين -لا خاصتهم- بين ما يرونه من عمل سياسي للرموز الإسلامية، وبين مشروع إقامة الحكم الإسلامي، فيتميّع المشروع الإسلامي في أذهان العامة، لما يرونه أمامهم من ذوبانه في مشاريع الآخرين.
 
 
 

1- كان يمثل مع نائبين من إخوانه (د. زهير العبيدي والأستاذ خالد الضاهر) الجماعة الإسلامية في مجلس النواب اللبناني.
2- انظر فتحي يكن - أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان - ج/1 - ص235-330.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

78

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 تاسعاً: أما فيما يتعلق بعرض الدكتور يوسف القرضاوي بشأن الديمقراطية التي ناضلت من أجلها الشعوب وضحَّت حتى وصلت إليها!... فأقول للدكتور الفاضل الأمور التالية:

 
1- ما دام الله قد أغنانا بالشريعة الشاملة التي تنظم حياتنا العقدية والتعبدية والتشريعية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾1 - ونعرف أن لدينا نظاماً سياسياً قد طبقته الأمة، وعاشت في كنف عدالته مدة 1354 سنة، ونعلم كذلك أن في هذا النظام من الصفات والمزايا ما لم تعرفه البشرية ونظمها السياسية عبر تجاربها المتعثرة في مجال تنظيم حياة الإنسان ورعايته سياسياً، - أمام هذه الثروة الهائلة من التشريع السياسي، وأمام التطبيقات السياسية الواسعة، الممتدة في الزمان والمكان، عبر هذه المدة الطويلة من تاريخ الأمة - فإننا لسنا بحاجة إلى ديمقراطيتهم في الوصول إلى تأمين الأمن والعدل والعدالة والسعادة للإنسان، لأن الذي بين أيدينا يغنينا عن الركام الذي بيدهم ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾2.
 
 

1- المائدة: 3.
2- المائدة: 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

79

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 2- ولما كان لسان الحال أبلغ في البيان من لسان المقال، أقول إن الديمقراطية التي فُتِن بها وطبقها بعض أبناء جلدتنا قد جلبت إلينا المآسي والكوارث في المجالات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية.


ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال التشريعي، أدت إلى الأمور التالية:

أ- أن يكون مصدر السيادة هو الشعب، وهذه مخالفة شرعية، لأن مصدر السيادة في الإسلام هو الله تبارك وتعالى.

ب- أن يكون مصدر التشريع هو البرلمان، وهذه مخالفة شرعية، لأن مصدر التشريع في الإسلام هو الله عز وجل.

ج - أن يزوِّر من اعتمد نظام الديمقراطية "إرادة الشعب" في اختياره لأعضاء البرلمان من خلال شراء الذمم.

د- إعطاء حرية عامة ليس فيها ضوابط، ويمكن أن تؤدي بالإنسان إلى تدمير نفسه وأسرته وشعبه وأمته.

هـ- تشريع صناعة الخمر بكل أنواعه، وبيعه وتعاطيه من قبل المسلمين!.

و- تشريع الزنى تحت عنوان الزواج المدني. 

ز- تشريع كل أنواع الفساد، تحت لافتة التنمية السياحية ودعم الاقتصاد الوطني والقومي!.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

80

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ح- تشريع المكوس، تحت عنوان الجمارك والضرائب المنظورة وغير المنظورة.

 
ط- تشريع نشر المبادئ والأفكار الهدامة، تحت حجة الحرية الفكرية، وتدريس النظريات المضلِّلة لأبناء المسلمين في الجامعات.
 
ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال الاقتصادي، أدت إلى الأمور التالية:
 
أ- سرقة أموال البلاد والعباد، تحت غطاء القانون والقرارات الحكومية!.
 
ب- اقتراض الأموال الطائلة من الغرب، تحت عنوان تنمية الاقتصاد، فيتم رهن مداخيل البلاد والعباد لسنوات طوال، من أجل سداد فوائد هذه الديون!1
 
ج- السيطرة على أموال الأمة وإنفاقها، من قبل الحكام والملوك والأمراء، على ملذاتهم وشهواتهم، إلى مستوى أن أحد أبناء الملوك العرب قد قدم لخدم الفندق الذي ينزل فيه ستة عشر مليون دولار!، وأن الآخر أعطى لحديقة الحيوانات في لندن عشرة ملايين دولار!، في الوقت الذي لا يجد الكثير من المسلمين كفاف يومهم!.
 
 
 

1- تحت عنوان خدمة الدَّين!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

81

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 د- فتح آبار بترول الأمة الإسلامية لتسيل باتجاه الغرب وبأسعار زهيدة، وفي الوقت نفسه يغلق الغرب آبار بتروله ويبقيه احتياطاً لمستقبله.


هـ- جعل بلاد المسلمين سوقاً استهلاكياً للصناعات والمنتوجات الغربية بكل أنواعها.

و- عرض أسهم الشركات الاقتصادية تحت عنوان "عولمة الاقتصاد" في البورصة العالمية، حيث يتم شراء هذه الأسهم من قبل الغرب واليهود، ومن خلال ذلك تتم السيطرة الاقتصادية على بلاد المسلمين.

ز- السعي إلى إدخال إسرائيل في النسيج الاقتصادي للأمة الإسلامية، من خلال مؤتمرات اقتصادية تعقد من أجل هذا الهدف.

ح- التحضير لمد إسرائيل بشريان الحياة الاقتصادية من البترول والغاز الطبيعي!.

ط- الاستعداد لمد إسرائيل بشريان الحياة من المياه العذبة!.

ي- انتشار الرشا والصفقات المشبوهة في دوائر ومؤسسات بلاد المسلمين!.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

82

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال الخلقي، أدت إلى الأمور التالية:


أ- تستخدم وسائل الإعلام المتنوعة من أجل نشر الفساد الخلقي بكل أنواعه.

ب- تفتح بلاد المسلمين للأجانب تحت عنوان السياحة، وما أدى إليه ذلك من انتشار الفساد والإباحية وانتهاك الحرمات، وما نشرته من أمراض فتاكة بين المسلمين.

ج- استقبال المؤتمرات الغربية التي تدعو إلى ممارسة الجنس قبل الزواج، وتعَلُّم سبل ووسائل الوقاية من الحمل!.

د- استقبال المؤتمرات الغربية التي تدعو إلى الإجهاض وإلى ممارسة الرجل والمرأة للجنس بدون عقد زواج، تحت عنوان الحرية الشخصية!.

هـ- عرض البرامج والأفلام الغربية على أجيال المسلمين، بكل ما فيها من فضائح وعُري وجنس وقتل وإدمان ومخدرات!.

و- فتح فضاء بلاد المسلمين لاستقبال القصف الإباحي الذي يعرضه الغرب، من خلال الأقمار الصناعية، والهدف من ذلك تدمير أخلاق العنصر الحيوي في الأمة، من الشبان والشابات!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

83

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ز- إلهاء الأمة بشتى أنواع الملاهي والمسابقات والمباريات.


ح- عرض مفاتن جسد المرأة، تحت عنوان عروض الأزياء.

ط- حماية الفاسقات والمنحرفات، اللواتي يعرضن أجسادهن في المراقص والمسابح.

ي- إقامة مسابقات ملكات الجمال، وما يتخللها من عُهر وعروض للعُري الفاضح.

ك- التشجيع على الاختلاط في الثانويات والجامعات وما يؤدي إليه من انحرافات خلقية.

ل- التشجيع على نشر كتيبات الحب والغرام وقصص والفاسقات!.

م- العمل على نشر المجلات التي تعرض المرأة في ثياب النوم أو الرياضة أو السباحة!.

ن- عرض أجساد النساء على التلفاز في أوضاع شاذة، تحت عنوان الرياضة الصباحية.

عاشراً: وفي معرض مناقشتي للأستاذ راشد الغنوشي، الذي يرى إمكانية الدخول في المعارك الانتخابية لحركة النهضة الإسلامية للدخول في البرلمان وبعض مؤسسات وأجهزة الدولة... أقول: لقد أثبتت التجارب السياسية مع الأنظمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

84

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الحاكمة، بشكل عام، فشل إمكانية تحصيل مكاسب سياسية للحركة الإسلامية، لأن هذه الأنظمة تسير بسياسة استيعاب الحركة الإسلامية، فإن لم تستطع ذلك، فإن البديل لديها هو الاستئصال السياسي والدعوي والمادي. ولقد مرت حركة النهضة الإسلامية في هذه المراحل، وهي الآن تعيش مرحلة الاستئصال المادي، وهذا ما يؤكده الأستاذ الغنوشي بقوله "ولقد فشلت والحمد لله خطة استئصالنا وتجريمنا في نظر شعبنا والعالم، وآية ذلك تحويلهم البلاد إلى سجن رهيب وثكنة بوليس، واستمرار حالة التعبئة العامة ومصادرة الحريات العامة والخاصة... مؤمماً المساجد وكل مؤسسات المجتمع المدني، ممارساً قمعاً رهيباً على قيم الهوية الإسلامية العربية، مبدداً للأرزاق، محولاً البلاد الى نادٍ ليلي وسوق للدعارة والاتجار بالمخدرات"1.

 
حادي عشر: ويرى السيد محمد حسين فضل الله أن النظام الديمقراطي يتيح للإسلاميين إمكانية إلغاء تشريعات الباطل، ومواجهة السياسات الظالمة، وإمكانية تغيير النظام باتجاه الإسلام... وفي معرض محاورتي للسيد الفاضل، أود أن أشير إلى الأمور التالية:
 
 
 

1- مجلة الأمان - بيروت - العدد 228 - 25/10/1996 - ص7. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

85

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 1- إن أكثر التشريعات والقوانين التي يبت بها في مجلس النواب، هي منافية للشريعة والتوجهات الإسلامية، إن من الناحية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الخلقية.وبما أن إقرارها، أو عدمه، يعتمد على كثرة الأصوات في المجلس، ولهذا فإن النتيجة معروفة سلفاً، لأن أكثر التوجهات النيابية السياسية في لبنان، هي عَلمانية. وحتى عندما كانت الكتلة النيابية الإسلامية في البرلمان الأردني هي الأقوى، فإنها لم تستطع مواجهة قرار الاعتراف بإسرائيل، رغم أن أكثر النواب في الأردن مسلمون، ويتعاطفون مع طروحات الكتلة الإسلامية، إلا أنه، عندما تأتيهم التوجهات العليا للسلطة الحاكمة، نراهم يميلون حيث تميل رياح مصالحهم السياسية والاقتصادية.


2- إن التجارب الإسلامية في مجال المشاركة السياسية، ليست جديدة في ساحة العالم الإسلامي، لا على المستوى البرلماني ولا على المستوى الوزاري، وهذه التجارب ماثلة أمامنا بكل حصادها المر (باكستان، مصر، تونس، الكويت، الجزائر وتركيا)، وحيث إن مؤشر هذه السياسة التي اعتمدها الإسلاميون، طيلة سبعين سنة، يتجه نزولاً لا صعوداً، في سلّم تحقيق الأهداف الإسلامية المرحلية، ناهيك عن الأهداف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

86

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 الإسلامية العامة، أرى أن هذه التجارب ينبغي أن تُدرس بالعمق، حتى نتوقف عند محطاتها الرئيسة، لكي نخرج بالعبر الفكرية والسياسية الجديدة، وعلى أضوائها نعيد الحسابات في خطتنا العامة أو المرحلية، في كيفية التعاطي مع الواقع السياسي الداخلي والخارجي، فنصوِّب مسيرتنا الإسلامية، نحو إقامة دولة الإسلام، وإعادة وحدة وعزة ومجد أمتنا الإسلامية.


3- إذا عدنا إلى تجربة أمتنا الإسلامية في إيران، نجد أن الإمام الخميني قد استفاد من حصيلة دراسته للسنّة النبوية المطهرة وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومواقفه تجاه الطاغوت القُرشي، وأنه استقرأ التجارب السياسية الإسلامية السابقة، في مجال التعاطي مع الساحة السياسية الداخلية والخارجية، لواقع الأمة، ولهذا نراه قد أصّل من الناحية الشرعية مسألة المفاصلة السياسية، تجاه الطاغوت في الداخل والخارج، ولذلك فقد اعتمد في حركته الشرعية والسياسية والجهادية، في مواجهة أعتى نظام طاغوتي في هذا العصر، على ثوابت ثلاثة:

أ- أيقظ الإمام الخميني الشعب المسلم في إيران من سباته العميق، وأشركه في تحمل مسؤولياته الشرعية والسياسية والجهادية، حيث إن الجميع قد عرفوا (فقهاء وعلماء ودعاة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

87

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 وسياسيين وتجاراً ومهندسين وأطباء وأساتذة وطلبة وعمالاً وفلاحين ورجالاً ونساء) أنهم سيقفون أمام الله عز وجل وسيُسألون عن أمانة حملهم للإسلام والشريعة والدعوة إلى الله تعالى... "أعدوا أنفسكم للقتل... وللذهاب إلى السجون... أعدوا أنفسكم لتحمل المآسي التي ستحل بكم في طريق الدفاع عن الإسلام والاستقلال... واستقيموا "1...﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾"2.

 
ب- ركّز الإمام الخميني، في خطابه الشرعي والسياسي، على كشف دور الغرب الصليبي، في إلغاء دور الإسلام وإبعاده عن واقع الحياة، والعمل على تذويب شخصية الأمة الإسلامية، والسعي إلى إلحاقها بالغرب ثقافياً وسياسياً وحضارياً، وأبرز دور النظام الحاكم الطاغوتي لشاه إيران، في تنفيذ هذه السياسة الغربية، وما نتج عنها من خراب ودمار ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وخلقي... "لا يمكنكم تغيير أحكام الله وليس لكم الحق في ذلك... ولا يحق لأحد أياً كان أن يتدخل في مثل هذه الأحكام... فالأحكام الإلهية جاء بها الأنبياء من عند الله للناس، وإن العلماء الأعلام
 
 
 

1- صاحب حسين الصادق - الثورة والقائد - ص70.
2- فصّلت: 30.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

88

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 على مرّ العصور حافظوا عليها وبينوها للشعب وهذا هو واجبهم المقدس... ولسنا بحاجة إلى توجيهات الحكام الظلمة... لأنهم كالشياطين ولا ينفذون سوى أحكام وأوامر أسيادهم المستعمرين... ونحن لا يخفى علينا أمرهم أبداً، بل نعرف بالتفصيل ماذا يبيتون من مؤامرات ضد القرآن الكريم وتعاليمه القيمة وكيف أنهم يريدون إزاحته عن سدّة القيادة والحكم والاستعاضة عنه بالكتب والأنظمة الضالة... لقد سمعنا صوتهم القبيح من الإذاعة وعلى شاشة التلفزيون، ذلك الصوت الحانق الحقود، صوت الجاهلية والردة، سمعناهم يقولونها بكل وقاحة "نحن لا نريد الإسلام! الإسلام للعرب فليطبلوا وليزمروا!! نحن رفضنا أحكام الله! فماذا تريدون؟!"... نعم، هذا هو صوت الطغمة الحاكمة البغيض المليء بالكفر والمروق عن شرعة الإسلام الخالدة. نحن لا نستغرب صدور هذا الكلام المفضوح عنهم، لأننا نعرفهم حق المعرفة: عملاء للاستعمار وأذناباً له في بلادنا. وقد اكتوى الشعب بنار إجرامهم منذ أمد بعيد، ولكننا إنما نقولها هنا، فذلك من أجل إيقاظ جماهير الشعب وأبناء أمتنا العزيزة ونطلعهم على هذه الحقائق الأليمة. لنكون قد بلَّغنا الرسالة وأتممنا الحجة وأدينا الواجب"1.

 
 
 

1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص33-34.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

89

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 ج- استطاع الإمام الخميني أن يكسب العلماء العاملين في حركة الجهاد السياسية ضد الطاغوت، لأنه كان في مقدمة الناس في مجال المواجهة والمكابدة والمعاناة، الأمر الذي جعل الشعب المسلم في إيران يندفع ويتجاوب معه في كل حركاته وسكناته، حيث اعتبر أن أوامره هي أوامر شرعية واجبة التنفيذ "إن إطلاق سراحي جاء بعد أن وجد رجال السلطة أنهم عاجزون عن تحمل أعباء الضغط المتزايد عليهم من جميع الأقطار الإسلامية... وشعروا بوطأة موجة الاستنكار والسخط وتعالي صيحات الاعتراض التي تصاعدت ضدهم... نعم عندما شعروا بتلبد الأجواء الخارجية والداخلية ضدهم وبعد تلك الفضائح بدأت ترتعد فرائصهم بسبب نظرة الشعوب الأجنبية المريبة إزاءهم، لا سيما حلول موسمي الحج ومحرم الحرام وجهلهم بتطورات الأحداث خلال هذين الموسمين والشعور بقرب فقدانهم حتى مواطئ أقدامهم لدى الشعوب، ولدى تلك الدول، لذلك أطلقوا سراحي"1...

 
لقد تجاوب المسلمون في إيران مع قيادتهم، وهم يعلمون أنهم يسيرون ويجاهدون من أجل إسقاط الطاغوت وإقامة دولة الإسلام...
 
 


1- الإمام الخميني - المرجع نفسه - ص62.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

90

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 وكان نصر الله المبين، بسبب وجود القائد الواعي القدوة، ووجود الأعوان من العلماء المخلصين، ووجود الشعب المضحي في سبيل الله.


الخلاصة الشرعية والسياسية العامة

هذا ما جنته الأنظمة الديمقراطية على أمتنا من دمار وخراب، تشريعي وفكري واقتصادي واجتماعي وخلقي، وبكلام آخر، أقول إن الأنظمة الديمقراطية في بلاد المسلمين هي المعول الذي يسعى الغرب من خلاله لاستئصال الإسلام في أبعاده العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخلقية.

بعد عرض الآراء والأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين للمشاركة السياسية في الحكم ومناقشة المؤيدين للمشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، من خلال الأدلة الشرعية والفكرية والسياسية، أخلص إلى نتيجة شرعية مفادها: أنه لا تجوز المشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: إن الأنظمة الحاكمة، التي تعتمد الديمقراطية في حياتها التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا تحتكم إلى شريعة الله عز وجل، وتحتكم إلى شرع البشر.

ثانياً: من خلال عرض الوقائع التشريعية والاقتصادية والاجتماعية لواقع الأنظمة الحاكمة نعلم أنها تسعى بشكل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

91

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 دؤوب إلى تغريب الأمة الإسلامية وإبعادها عن دينها وتاريخها وأخلاقها وحضارتها.


ثالثاً: إن المشاركة السياسية للإسلاميين مع الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى تمييع المشروع الإسلامي في أذهان المسلمين.

رابعاً: إن المشاركة السياسية تؤدي إلى دعم النظم الحاكمة، بعناصر وكفاءات الإسلاميين، وتساعد على بقائها واستمرارها.

خامساً: إن المشاركة السياسية من قبل الإسلاميين تعطي غطاءً شرعياً للأنظمة الحاكمة، وكان من الواجب أن يتم تعريتها أمام المسلمين.

سادساً: إن هذه المشاركة تلغي "عملياً" المشروع الإسلامي، في إقامة دولة الإسلام، من خلال ذوبان الإسلاميين في دوائر ومؤسسات الأنظمة الحاكمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

92

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 المراجع


الكتب
- القرآن الكريم.
1- أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي - د. فتحي يكن - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1981.
2- الأحكام الدستورية للبلاد العربية - نبيل الصائغ - بيروت - دار الجامعة - لا ت.
3- أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان - د. فتحي يكن - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1996.
4- البداية والنهاية - عماد الدين إسماعيل بن كثير - بيروت - دار الفكر - 1978.
5- التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - عبد القادر عودة - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1986.
6- الثورة والقائد - صاحب حسين الصادق - الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وزارة الإرشاد - 1979.
7- جند الله ثقافة وأخلاقاً - سعيد حوى - لا م - لا ت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

93

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 8- الحركة الإسلامية هموم وقضايا - السيد محمد حسين فضل الله - بيروت - دار الملاك - 1990.

9- حزب الله المنهج، التجربة، المستقبل – الشيخ نعيم قاسم - بيروت - دار الهادي - 2008.
10- الدبلوماسية والميكيافيلية في العلاقات العربية الأميركية - د. محمد صادق - بيروت - 1971.
11- دراسة علمية في بيان الموقف الإسلامي من المشاركة في الانتخابات في لبنان - حسن قاطرجي - بيروت - لا ت.
12- دروس في الجهاد والرفض - الإمام الخميني - طهران - لا ت.
13- الديمقراطية نظام كفر - عبد القديم زلوم - منشورات حزب التحرير - 1990.
14- العقيدة وأثرها في بناء الجيل - د. عبد الله عزام - بيروت - دار ابن حزم - 1992.
15- الفتاوى الكبرى - الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - بيروت - دار القلم - 1987.
16- في ظلال القرآن - سيد قطب - بيروت - دار الشروق - 1992.
17- لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة - محمد قطب - دار الشروق - 1993.
18- محاور إسلامية - راشد الغنوشي - القاهرة - بيت المعرفة - 1989.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

94

الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم

 19- منهاج الانقلاب الإسلامي - أبو الأعلى المودودي - جدة - السعودية للنشر والتوزيع - 1988.

20- نحو ثورة سلمية - أبو الأعلى المودودي - بيروت - دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع - 1968.

المجلات والدوريات والصحف
 
21- مجلة الإخوان المسلمين - القاهرة - 4/11/1944.
22- مجلة الأمان - بيروت - العدد 228 - 25/10/1996.
23- مجلة الأمان - بيروت - العدد 240 - 17/1/1997.
24- مجلة الدعوة - لندن - العدد 29 - 6/10/1994.
25- مجلة العالم - لندن - العدد 355 - 1/12/1990.
26- المجلة العربية - الرياض - العدد 132 - آب 1988.
27- مجلة المجتمع - الكويت - العدد 1177 - 29/11/1995
28- مجلة منبر الإسلام - القاهرة - العدد 6 - تشرين الثاني 1994.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102
 

95

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 
المحامي الدكتور علي نديم الحمصي1  2
 
مقدمة 
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
 
إن مفهوم المواطنة لدى الشعوب والدول بات في حالة غموض وتخبط نتيجة التحولات الجذرية التي تشهدها مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي في المجتمعات المحلية والدولية كافة.
 
فمن يتابع الواقع السياسي والاجتماعي لكل دولة، يجد أن كثيراً من الدول ومواطنيها، تتعدد لديهم مفاهيم المواطنة تبعاً للتيارات السياسية النافذة فيها، سواء تلك التي بيدها مقاليد الحكم أو المعارضة لها، حتى أصبحت المواطنة بالنسبة لبعضهم هي الانتماء للطائفة أو المذهب أو الانتماء للحزب الفلاني أو التيار السياسي الفلاني وهكذا... وما عدا ذلك يكون خارج مفهوم المواطنة، بل وأكثر من ذلك، يصبح ممنوعاً من حقوقٍ جمّة لتصبح حكراً على مدعي المواطنة ممن لا يمتّ إليها بصلة.
 
 
 

1- أستاذ الدراسات العليا في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية. بيروت - لبنان.
2- أستاذ مادة فقه المعاملات والقانون التجاري في كلية إدارة الأعمال الإسلامية. بيروت - لبنان.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

96

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 وإن الشريعة الإسلامية الغرّاء بصلاحيتها لكل زمان ومكان وبمعالجتها كافة القضايا في مختلف المجالات، جاءت لتقرر مفهوم المواطنة الذي يعيش تحت سقفه الجميع من كل الملل والنِحل، وتؤكد أن الإسلام دين للعالمين جميعاً، يمكن تحت ظل دولته أن يعيش الناس في مواطنة يعتزون بها، أساسها العدل والأمن والاحترام المتبادل بين جميع المواطنين.


وخير نموذج لهذه الدولة، هو ذلك المجتمع الإسلامي الذي نشأ في المدينة المنورة فور قدوم الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إليها عندما هاجر من مكة المكرمة وكتب دستوراً لهذه الدولة عُرف بصحيفة المدينة المنورة، نص فيه على مجموعة قواعد ومبادئ يلتزمها جميع من يعيش على أرض المدينة أي على أرض الدولة سواء كان من المسلمين أو غير المسلمين.

وتأتي هذه الدراسة لتبيّن مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية من خلال تسليط الضوء على صحيفة المدينة المنورة كنموذج يحتذي به كل مجتمع ينشد دولة أساسها العدل وسِمتها الأمان وشعبها ينعم بالاستقرار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

97

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 خطة البحث:


لقد قسمت هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث كما يلي:

المبحث الأول: مفهوم المواطنة

أولاً: تعريف المواطنة.

ثانياً: مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته.

المبحث الثاني: صحيفة المدينة المنورة.

أولاً: مضمون الصحيفة.

ثانياً: مدى القيمة الدستورية والاجتماعية لصحيفة المدينة تجاه المجتمع الاسلامي ودولته.

المبحث الثالث: المبادئ التي كرستها صحيفة المدينة المنورة في مفهوم المواطنة:

أولاً: الدلالات الهامة للصحيفة المتعلقة بالأحكام التنظيمية للمجتمع الاسلامي.

ثانياً: أهم الأحكام الشرعية التي كرستها الصحيفة ومدى تأثيرها على مفهوم المواطنة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

98

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المبحث الأول: مفهوم المواطنة

 

 
أولاً: تعريف المواطنة
 
جاء التعريف اللغوي يتحدث عن الوطن باعتباره محل وجود الإنسان المواطِن1، وأنه مولد الإنسان والبلد الذي هو فيها2، دون التطرق إلى المواطنة كمفهوم يحمل المعنى الاجتماعي أو السياسي للكلمة. لذلك فقد خلت قواميس اللغة عن تعريف المواطنة ككلمة ذات معنى لغوي. 
 
أما بالنسبة للتعريف الاصطلاحي، فلقد تعددت تعريفات المواطنة من حيث كونها الانتماء إلى وطن ما، وحمل جنسية الدولة التي ينتسب إليها الإنسان والتعايش بين الناس في مجتمع واحد...
 
فمنهم من عرفها بأنها الرابطة الاجتماعية والقانونية بين الأفراد ومجتمعهم3.
 
ومنهم رأى أن المواطنة أساسها الموطن، وهي بذلك تختلف عن كلمة المواطنية التي أساسها الوطن، فالموطن هو مكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أما الوطن فهو المكان الذي ينتمي إليه
 
 
 

1- جمال الدين محمد بن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، 15مجلد، مجلد 13ص 451. 
2- الشريف علي الجرجاني: التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ط1، ص 253. 
3- د. عثمان صالح العامر: المواطنة في الفكر العربي المعاصر " دراسة نقدية من منظور إسلامي" - حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 378.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

99

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 الفرد من خلال انتمائه لجماعة هذا الوطن، وعلى الرغم من أن الفرد في كلتا الحالتين يعتبر مواطناً ومشاركاً ومنتمياً من الناحية الاجتماعية والجغرافية إلا أن مشاركته وانتمائه في الوطن تكون من ناحية اجتماعية سياسية، وبالتأكيد أن الانتماء للوطن أعمق1.

 
ويرى بعضهم أن مصطلح مفهوم المواطنة في الموسوعة يعني الانتماء إلى أمة أو وطن بينما كان مصطلح مفهوم المواطنة في علم الاجتماع علاقة اجتماعية بين طرفين يلتزم الأول بالولاء والآخر بالحماية وهما المواطن والدولة2
 
أو هي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (أي جغرافية محددة). مع الاعتبار أنها لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لأن العلاقة الدينية تع-زز الروابط الزمنية أيضاً، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة3
 
ثانياً: مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته
 
تحتل قضية حقوق المواطنة محوراً رئيسياً في النظرية والممارسة
 
 
 

1- أ. ليث زيدان: مفهوم المواطنة في النظام الديمقراطي، دنيا الرأي، 7/12/2005، الموقع الالكتروني www.alwatanvoice.com
2- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة اقامها مكتب الانماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com
3- أ.علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour. net

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

100

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 الديمقراطية الحديثة1، إذ إن مكونات المواطنة هي الانتماء الذي هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس للارتقاء بوطنه والحقوق والواجبات التي يجب أن يؤديها ويحصل عليها إضافة إلى المشاركة المجتمعية التطوعية التي هي أبرز سمات المواطنة مبينة أن مؤسسات تربية المواطنة هي الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني، وأهم مؤسسة هي الأسرة التي يجب أن تلتزم تعزيز ثقافة المواطنة وتعمل على إدراك الطفل للرمز السياسي الوطني إضافة الى تعويده على احترام القانون وغرس حب الوطن والدفاع عنه بداخله2.

 
فالمواطنية ترتبط عملياً بالذهنية المسيطرة على المجتمع، وبالتالي قد يكون المجتمع قومياً أو إسلامياً أو طائفياً أو حتى عشائرياً، فتكون المواطنية متأثرة بهذه الذهنية3.
 
لقد صارت رابطة "المواطنة" منافع وحقوقاً مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم وبالتالي تهبط المواطنة من الحقوق العامة السياسية إلى تفاصيل المنافع المادية المباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني
 
 
 

1- أ. عبد الوهاب الأفندي، إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام، مسلم أم مواطن ؟ مركز دراسات الوحدة العربية، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، ط1، 2001، ص 65.
2- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة اقامها مكتب الانماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com 
3- أ. ايليا حريق: المواطنية والقيم المدنية، الهوية الوطنية وتعدد الولاءات مع إشارة خاصة إلى لبنان، بناء المواطنية في لبنان، إشراف د. وليد مبارك ود. أنطوان مسرّة ود. سعاد جوزف، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية، 1999، ص 55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

101

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 مزيداً من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الإتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم -المادية والمعنوية - وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلاً في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance) عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما. وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسساً على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي1.

 
استناداً لما سبق، أصبحت المواطنة هي الآلية للحد من الصراعات العرقية، والاجتماعية، وغيرها... على قاعدة مبدأي عدم التمييز والمساواة. والمساواة تعد من الكلمات التي استهوت المجتمعات والأفراد، إذ استعملها الزعماء والقادة المصلحون لتحريك المشاعر على كافة الأصعدة. ومما لا ريب فيه أنه لا توجد مساواة طبيعية، لأن الناس خُلقوا متفاوتين خَلقاً وخُلقاً، فهم مختلفون، في التكوين، والشكل واللون، والعقل والذكاء، وهم مختلفون متمايزون في القوة والجمال والصحة والعمر والأخلاق والميول والطبائع. فإذاً لا مساواة بين الناس في عرف الطبيعة، إلا من حيث بعض التكوين الأساسي والغرائز الفطرية2.
 
 
 

1- د.هبة رؤوف:المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية1/3/2009 www.islamonline.net
2- علي وتوت:في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/ 2009 www.e – joussour.net
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

102

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 وكذلك لا توجد المساواة الاجتماعية فيما بين الناس. فعلى الرغم من أن الأديان والشرائع السماوية قد دعت إلى المساواة، مثلما أن المصلحين والحكماء والفلاسفة دعوا إليها أيضاً، فإن الناس يترتبون في فئات ودرجات في الغنى والجاه، والحسب والنسب، كما أنهم مختلفون في أنواع العمل وطرق الكسب والمعيشة، ويتمايزون في حياتهم العائلية والزوجية، وفي مجتمعاتهم، وملذاتهم وآلامهم ومعاملاتهم وعباداتهم.


إذن لا مساواة بين الناس في أعراف الحياة الاجتماعية وتقاليدها. فما هي المساواة التي أرادها الفلاسفة والحكماء والمصلحون والمشرعون والسياسيون عندما نادوا بها كحق من حقوق الإنسان الأساسية؟

إن المساواة المقصودة هي المساواة القانونية، أي مساواة الناس جميعاً أمام القانون من ناحية الحقوق والواجبات والحماية القانونية. هذه المساواة التي أقرتها الدساتير والشرائع الداخلية والدولية.

وأصبح من غير الغريب أن تجد مجتمعاً متعدد الأعراق والأصول كفئة موحدة وفق منظومة من البنى القانونية، والمفاهيم الاجتماعية والقيمية التي تشترط عدم التميز والمساواة في الحقوق والواجبات.

وقد أدى هذا إلى إنهاء مفهوم العنصرية الذي أصبح مفهوماً مثيراً لاشمئزاز الإنسان، وتعزز ذلك عبر كفاح الشعوب ضد أنظمة الاستعمار من أجل إزالة نظام التمييز العنصري كما حصل في كفاح شعب جنوب إفريقيا، وكذلك عبر حركة الحقوق المدنية والتي عبر عنها مارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الحركة التي أفضت إلى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

103

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 إلغاء كل القوانين العنصرية بحق السود الذين كان يتم التعامل معهم بوصفهم كائنات إنسانية من الدرجة الثانية أو الثالثة.

وتتمثل أهم حقوق المواطنة، فضلاً عن المساواة القانونية، بمجموعة الحقوق الآتية:
 
1- الحق في السلامة الجسدية.
2- الحق في العمل.
3- الحق في السكن.
4- حق التعليم.
5- الحق في دعم ورعاية الدولة.
6- الحق في الخدمات الصحية.
7- حق اللجوء إلى القضاء.
8- الحق في التصرف.
9- الحق في الخصوصية.
10- الحق في رفض ذكر القومية أو الدين في الوثائق.
11- الحق في الإدارة الذاتية.
12- حق الحماية والتعويض.
13- حق الإرث والشهادة والاختيار.
14- الحقوق الاجرائية.
15- حق المتهم أو الموقوف14.
 
 


1- أ. علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour.net
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

104

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 وتعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة خاصة ومشاريع الإصلاح والتطوير بصفة عامة1. ولقد احتلت هذه القضية مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية. وتعددت أبعاد المواطنة في علاقاتها الممتدة عبر قضايا تتمحور في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من خلال أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات، ومبينة مواصفات المواطن وأبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة ومرجعية نظرياتها السياسية2.

 
وبذلك يتبين أن مفهوم المواطنة لا يمكن فصله عن حقوق الإنسان وواجباته تجاه الوطن الذي ينتمي إليه أياً كانت أفكاره ومعتقداته...
 
 
 

1- عثمان بن صالح العامر: أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي، دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث. www.minshawi.com
2- عثمان بن صالح العامر: أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي، دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث. www.minshawi.com
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

105

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المبحث الثاني: صحيفة المدينة المنورة 


أولاً: مضمون الصحيفة:

إن صحيفة المدينة المنورة هي الوثيقة التي نص عليها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون دستوراً بين المسلمين وغيرهم في المدينة المنورة.

وسيتم عرضها في هذا البحث كما هي بالرغم من أنها حَوَت الكثير من القواعد والمبادئ والتعليمات التي تخرج عن إطار موضوع البحث الحاضر، وذلك حرصاً على تعريف القارئ بمحتوى هذه الصحيفة وشموليتها لكثير من مستلزمات الكيان الاجتماعي والسياسي المتماسك.

وهذا نصها بالكامل:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

106

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النَّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقل.

 
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة1 ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يُبيء2 بعضهم
 
 
 

1- الدسيعة: العظيمة.
2- يُبيء: يُعين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

107

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 على بعض ما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى أقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه مؤمن، وإنه من اعتبط1 مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قَوَد به إلا أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ2 إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون
 
 

1- اعتبط: قَتَلَ بلا جناية.
2- يوتغ: يُهلك.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

108

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

 
وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1
 
ثانياً: مدى القيمة الدستورية والاجتماعية لصحيفة المدينة تجاه المجتمع الإسلامي ودولته:
 
إن أهم ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالقيمة
 
 
 

1- الإمام محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية، المكتبة العصرية، 4 مجلدات، ط 3، 1995، ج 2، ص 126 إلى 129.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

109

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 الدستورية للدولة الجديدة التي أنشأها في المدينة المنورة هو كتابة الصحيفة، والتي تعتبر دستوراً للمسلمين وغيرهم. حيث كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم1

 
ولقد أرسى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الصحيفة قواعد مجتمع واحد متضامن يضمن العدل والحماية لأفراده. وإن المحور الرئيسي في الوثيقة هو أنها جاءت ضماناً لعدم الظلم أو البغي، كما تناولت التحالف الوثيق بين أهلها ضد العدوان الخارجي، فالتحالف ذو طبيعة وقائية أو دفاعية ولا تعكس حالة عدوانية، بل حالة سلم وأمان. كما أن من أهداف الصحيفة التصدي للظلم والعدوان ونشر الأمن والتشجيع على التكافل الاجتماعي2.
 
فبذلك تكون القيمة الدستورية والاجتماعية للصحيفة متمثلة بوجود نص ملزم ومنشور يعرف به جميع المعنيين به، ويتناول أصول التعامل فيما بينهم في كل ما ذكرته الصحيفة من بنود تشمل كافة المسائل التي تهم الدولة والمجتمع.
 
 
 

1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة – دار الفكر – بيروت – 1980 – ص 203. 
2- أ.د. كمال الشريف، حقوق الإنسان في صحيفة المدينة، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 68 إلى 70.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

110

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المبحث الثالث: المبادئ التي كرستها صحيفة المدينة المنورة في مفهوم المواطنة


أولاً: الدلالات الهامة للصحيفة المتعلقة بالأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي:

لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي. ونلخصها فيما يلي:

1- إن كلمة " الدستور" هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور، فإن هذا الدستور شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يُعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج، أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.

وحسبنا هذا الدستور - الذي وضعه رسول الله عليه الصلاة والسلام بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت منذ بزوغ فجرها على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

111

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 وظاهر هذه المقومات، أساس لا بد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. إذ هي في مجموعها إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى. ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستوري الذي أوجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أنه في الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها1.

 
- " إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود. ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة. فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة"2.
 
ثانيا: أهم الأحكام الشرعية التي كرستها الصحيفة ومدى تأثيرها على مفهوم المواطنة:
 
لقد دلت صحيفة المدينة على أحكام شرعية عدة نذكر منها:
 
1-   لقد جاء في متن الصحيفة: " المسلمون من قريش ويثرب
 
 
 

1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة - ص 207.
2- المرجع نفسه: ص 207.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

112

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 ومن تبعهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس".

 
هذا البند يدل على أن الإسلام هو الذي يؤلف وحدة المسلمين لا غيره، وهو الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق فيما بينهم تذوب ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة. 
 
2- جاء في متن الصحيفة: "هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين".
 
وكذلك: "إن المؤمنين لا يتركون مُفرَحاً بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل".
 
إن ما ورد في هذين البندين يدل على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين في كل أشكاله. فهم جميعاً مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم. وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس المسؤولية التكافلية1.
 
3- جاء في متن الصحيفة: "ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس".
 
إن هذا البند يدل على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين وأن ذمة المسلم محترمة، أياً كان لونه وجنسه ومقامه بين الناس، وجواره
 
 
 
 

1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة - ص 208
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

113

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه. فمن أدخل من المسلمين أحداً في جواره، فليس لغيره أياًَ كانت سلطته أن ينتهك حرمة هذا الجوار1.

 
4- جاء في متن الصحيفة: "كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله".
 
هذا البند يدل على أن المرجع لحل أي خلاف هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
هذه الأحكام الأربعة تتعلق بالمسلمين فيما بينهم. 
 
أما بالنسبة للأحكام التي يمكن اعتمادها بين المسلمين وغيرهم فيمكن أن تستمد من تجربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المطبقة في بنود الصحيفة التالية:
 
1- (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)
2- (وإن عليهم النصر على من دهم يثرب)
3-(وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)
 
إن تجربة النبي السياسية أسست مجتمعاً فريداً في إطار زمانه ومكانه، فلقد جمعت في طياته بين الجماعة الدينية والجماعة السياسية على أسس الحقوق والواجبات المشتركة مع مراعاة الخصوصيات الدينية لكل فئة من فئات مجتمع المدينة، فكانت هذه الحقوق والواجبات
 
 
 
 

1- المرجع نفسه: ص 209.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

114

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المشتركة تقوم على مناط الاعتراف بالغير كقيمة إنسانية، وتلتقي في مسارات عدة، كاحترام النظام، والمشاركة في الدفاع عن الوطن (وإن عليهم النصر على من دهم يثرب)، واحترام الدستور (وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)، والإنفاق من أجل حماية المجتمع وتطويره (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) أي أنه إذا حدثت الحرب وشارك فيها اليهود، فهم ملزمون بدفع ما يحتاج إليه المجتمع من نفقات. 

 
وبالضرورة يترتب على هذه الرؤية الانتصار والدفاع وحماية الذين يشاركوننا في الانتماء إلى الدولة العادلة وإن كانوا على غير ديننا. وفي مقابل ذلك لم يكن للمسلمين الذين اختاروا العيش خارج نطاق الدولة وأرض الإسلام هذا الحق، حتى وإن استنصرونا في الدين على قوم كافرين بينهم وبين أرض الإسلام عهد وميثاق كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌُ﴾1.
 
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة الدين الإسلامي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية، ولكن هناك رابطة العقيدة، وهذه لا ترتب - وحدها – على
 
 
 

1- الأنفال: 72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

115

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المجتمع الإسلامي تبعات تجاه هؤلاء الأفراد، اللهم إلا أن يُعتدى عليهم في دينهم، فيُفتنوا مثلاً في عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا الأمر، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها، ولو كان المجتمع هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم، ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم أولاً وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الأولوية، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في المجتمع الإسلامي1.

 
وهذه الرؤية التجديدية لمفهوم المواطنة وقضية الانتماء للدولة العادلة التي تقوم على قواعد إصلاحية للإنسان والبنيان هي التي تؤسس لوجود مجتمع متعدد الأديان والطوائف والمذاهب قابل للانسجام والعيش المشترك.
 
 
 

1- الأستاذ سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، 1992، ط17، 6 مجلدات، المجلد 3، ج10، ص 1559.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

116

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 الخاتمة: نتائج الدراسة


يتبين من خلال هذا البحث أن مفهوم المواطنة في الشريعة الاسلامية يعني التعايش بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من الناس في الكيان الاجتماعي والسياسي الواحد. 

فصحيفة المدينة المنورة التي جعلها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دستوراً للمسلمين وغيرهم في المدينة، هي مثال يُحتذى به في المجتمعات المتعددة الديانات، ويمكن القول إنه لا غموض ولا التباس ولا إشكالية في أن يحافظ المرء على معتقداته الدينية في ظل تعددية دينية أو غيرها طالما كان الإطار الذي يجمع هذا التعدد أساسه العدل والأمن.

فلنحرص على إرساء قواعد العدل والأمن في أي مجتمع نعيش فيه حتى تستقيم الحياة بين الناس جميعاً.

والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

117

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 المصادر والمراجع


القرآن الكريم
1- جمال الدين محمد بن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط1، 1997.
2- الشريف علي الجرجاني: التعريفات، دار الفكر، بيروت، ط1، 1997.
3- محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية، المكتبة العصرية، 4 مجلدات، ط3 1995.
4- أ. ايليا حريق: المواطنية والقيم المدنية، الهوية الوطنية وتعدد الولاءات مع إشارة خاصة إلى لبنان، بناء المواطنية في لبنان، إشراف د. وليد مبارك ود. أنطوان مسرّة ود. سعاد جوزف، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية، 1999.
5- الأستاذ سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، 1992، ط17، 6 مجلدات، المجلد 3، ج10، ص 1559.
6- أ. عبد الوهاب الأفندي، إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعةالسياسية في الإسلام، مسلم أم مواطن ؟ مركز دراسات الوحدة العربية، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، ط1، 2001.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

118

مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً

 7- د.عثمان صالح العامر:المواطنة في الفكر العربي المعاصر "دراسة نقدية من منظور إسلامي" - حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج1.

8- أ.علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour. Net
9- أ.د. كمال الشريف، حقوق الإنسان في صحيفة المدينة، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 68 إلى 70.
10- أ. ليث زيدان: مفهوم المواطنة في النظام الديمقراطي، دنيا الرأي، 7/12/2005، الموقع الالكتروني www.alwatanvoice.com 
11- د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، بيروت،
12- 1980.
13- د. هبة رؤوف: المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية 1/3/2009 www.islamonline.net 
14- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة أقامها مكتب الإنماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

119

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

  المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 
الدكتور زكي جمعة1
 
معنى المواطنة
 
الثابت في المعرفة الاجتماعية أن الفكر والعمل وكل نتاج انساني يغدو ظاهرة اجتماعية، تاريخية معقولة في تاريخ، منذ أن يجري إرسالها أو القيام بها في مكان. هذا تأسيس للحياة الثقافية واللغة، وإنتاج لها، وفتح وانفتاح على حضارات وثقافات متكونة وقائمة في أماكن وأزمنة أخرى.
 
ويثور السؤال، هل ينفصل الفكر والعمل وإنتاج الظاهرة الاجتماعية المتضمنة السياسي والاقتصادي، والعلمي والتربوي... إلخ؛ عن المكان ومحل الفعل؟ بمعنى ألا تتشارك أفعال الإنسان وأماكن استقراره؟ وفي هذا التشارك توطّن نفسه وتستقر.
 
هذه المسألة تلحظ وتنبه إلى تشابك الإنسان مع المكان وتماهيه إلى درجة تجعله شاهداً على قضاياه. وهنا الارتباط ؛ المعاش، المحكي والمكتوب يجري توضيبه وتوظيفه في جغرافيا حضارية.
 
 

1- أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

120

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 إلى ذلك، يألف الإنسان المكان، ويأوي إليه ويأطنه أي يتخذه وطناً. وأوطنت الأرض ووطنتها توطيناً واستوطنتها أي اتخذتها وطناً. ووطن المكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطناً. يقال أوطن فلانٌ أرض كذا وكذا، أي اتخذها محلاً ومَسكناً يقيم فيه1. والوطن منزل الإنسان الذي يقيم فيه، وهو محل عيشه الذي يتمكن من خلاله، وبه وفيه، من تحقيق ذاته، فردياً وجماعياً.

 
إن المواطنة معناها، بل معنى معناها، يدعونا إلى إعادة النظر في مسألة التوصيف والتوظيف، تمهيداً لولادة مواطنة ينتجها الإنسان الوطني، العقلي، الأرضي.
 
يُعمل في عصرنا على جعل الإنسان، الذي ينتمي إلى قبيلة أو جماعة بشرية أحادية المجال والبعد، إنساناً منتمياً إلى قبيلة تقنية متنوعة المجالات والأبعاد، لا يعنيه المكان وما فيه، وبالتالي ينفك ارتباطه بالمضامين القائمة قانونياً وسياسياً واجتماعياً.
 
إذاً، البحث في مسألة المواطنة ينبغي أن يرتقي إلى البحث في المسائل التي تحاول قلب وظيفة المكان (الوطن) الذي يحتضن المعاش، بدءاً من إعادة توصيفه وتعيينه إلى قلب نظامه وتغيير ثقافته ولغته ولهجاته... الخ.
 
إذا كان الإنسان الفرد المرتبط بأرضه ووطنه هو مواطن، فإن
 
 

1- ابن منظور، لسان العرب، مصطلح وطن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

121

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 مواطنته هذه تقوم على تعلقه بالأرض وانصهاره في سبل العيش فيها ومساهمته في إنتاج دورة حياتها الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية والسياسية. وفي حال كان وعيه المسائل يقوم على قبوله بإعادة التوصيف والتوظيف لكل الأمور المرتبطة بمساره الفردي، حينئذ يلوذ ويستعيذ بما يقدمه له العالم التقني الآن من معايير تسوقه خارج ميدانه الثقافي والاجتماعي والسياسي والحقوقي. وبذلك يتفلت من مواطنيته التي يفترض أن تقوم على التفاعل مع الأرض والعلاقة مع المجتمع والانتظام في الإطار القانوني والثقافي والسياسي... الخ.

 
لا ريب أن النظام العالمي الجديد (العالم التقني أو نظام العولمة وما بعد العولمة) قوة ولدت ونمت وطورت عقلاً اعتراضياً انتقادياً تفكيكياً يقارع الثقافات باعتقادية تعتمد قوة الإعلام وآلة الحرب.
 
رفض سقراط (415-399 ق.م) تاريخياً الهرب من السجن، وآثر الحكم بالإعدام على الإخلال بالتزاماته تجاه مدينته أثينا. بعده وعى أرسطو (384-322 ق.م) جوهر الدولة، فوجده في القانون والنظام. وعليه فالإنسان الصالح لدولته، التي هي المدينة، هو المواطن الصالح1.
 
تطورت الفكرة عند الرومان ليصبح على المواطن القيام بواجبات أساسية مثل الخدمة العسكرية وتسديد الضرائب وله حقوق أيضاً كحق الزواج من رومانية وحق التجارة...
 
 

1- مقلد، ربيع – موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، ج1، الكويت، 1993-1994، ص320.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

122

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 وظلت فكرة المواطنة في أوروبا مع المسيحية تحت ظلال الدين. وعادت إلى داخل حدود المدينة دون أن تتجاوزها، بعدما كانت قد خرجت منها مع الرومان إلى حدود الدولة أو الإمبراطورية.

 
حينما جاء الإسلام، جُعلت مسألة الحقوق أولوية في الدولة الإسلامية. ووضعت موضع التنفيذ حقوق أهل الكتاب التي يشار إليها بحقوق أهل الذمة. وهي حقوق تصف معنى المواطنة وحق المواطن:
 
1- لم يمنع الإسلام مخالطة غير المسلمين في مجتمع واحد، وأهل الكتاب كانوا في منزلة المسلمين بالنسبة إلى رد العدوان الخارجي.
 
2- أهل الكتاب في موقع الحماية من أي ظلم داخلي يطال أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
 
3- إنفاق بيت مال المسلمين على الفقراء والمساكين لا يقتصر على المسلمين وحدهم.
 
4- يتولى أهل الذمة وظائف عامة شريطة ألا تكون وظائف لها علاقة بالعقيدة الإسلامية من حيث المسؤولية والإدارة.
 
5- حرية المعتقد مصانة في إطار احترام الكرامة الإنسانية.
 
إن دراسة المركز القانوني لأهل الذمة قياساً على التزامات حق الجنسية في عصرنا تفيد إلى حد بعيد أنهم كانوا يتمتعون بهذا الحق1.
 
 
 

1- السيد حسين، عدنان، تطور مفهوم المواطنة، مجلة الغدير، العدد 43، صيف 2008، مركز الدراسات والتوثيق، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لبنان، ص13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

123

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 المواطنة في المحصلة، فعل إنساني حيوي، يتراخى حقله أو يتمادى، يضيق أو يتسع، تارة تكون جغرافيا القبيلة هي حقله، وتارة تكون جغرافيا قبائل عديدة، أمة ومملكة ودولة... وهذه الجغرافيا متماسة وجغرافيات بشرية أخرى، قانونها التغالب والتنافس والتحارب، واستثناؤها التسالم والتعاطف والتحالف! المواطنة حاجة لدى كل فرد وجماعة، وهي في الوقت ذاته ممانعة ومقاومة لمشروع خارجي أو عدواني.


المواطنة ولبنان

إن مفهوم المواطنة الذي يجري توصيفه بلا تعمق وتوظيفه بلا تمعن في الحقل اللبناني، هو في حقيقته العلمية مفهوم توليفي، يجري دائماً تفكيكه إما لتوصيف فكري وإما لتوظيف طائفي، أو سياسي، أو شعائري غالباً. برزت فكرة الجمهورية سنة 1858م، مع طانيوس شاهين (باسم الجمهورية، نعلنها جمهورية). كانت الفكرة فردية ولم تبصر النور، ولقد أعلن المندوب السامي الفرنسي عام 1920قيام دولة لبنان الكبير.

وفي عام 1943 أعلن استقلال الكيان الذي قام على التغالب الطائفي، حتى سار المسار السياسي متنافياً مع إمكانيات الانصهار الاجتماعي.

فمنذ ثورة طانيوس شاهين 1858م، مروراً بكل أشكال الكيانية وصولاً إلى الجمهورية وحتى ما بعد اتفاق الطائف، نلاحظ أن الفرد في المناطق المحتسبة من أراضي الدولة اللبنانية بقدر ما كانت تجري لبننته كان يجري دفعه غرباً للتماهي مع الغريب، وكان يوضع باستمرار بين خطاب دولته التي يفترض بها أن تخاطبه بوصفه كلاًّ، وعلى أساس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

124

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

  أنه مواطن عام يتمتع بحقوقه، وبين خطاب الطائفة التي تُصادره باعتباره جزءاً منها، منفصلاً عن مجالاته الاجتماعية الأخرى، حتى التبس عليه معنى انتمائه.

 
إذاً، كيف يمكن أن يكون لبنان وطناً وأبناؤه منفصلون في المجالات الاجتماعية والجغرافيا على أساس طائفي ومذهبي، والدولة لا تبوح بعدد السكان المواطنين ولا بعدد الأجانب، ولا بعدد العاملين والعاطلين عن العمل، ولا بعدد الشبان ولا بعدد الأميين... الخ؟
 
كيف يشعر اللبناني أنه مواطن وهو يعيش في دولة بلا أعداد، لا نعرف كيف نقيس ترديها أو تقدمها الاجتماعي، ولا يمكن التأشير بعلم على معياريتها السياسية؟
 
الواضح أننا نعيش في دولة طائفية أنتجت مواطناً طائفياً، لبنانياً من طائفة سياسية، يعرف مسبقاً بحكم الولادة أنه غير مرشح لأية مساواة عضوية وظيفية في المجتمع، الدولة.
 
الإمام الصدر ورؤيته الوطن والإنسان
 
أ- الإمام والمشروع الوطني
 
وصل الإمام السيد موسى الصدر إلى لبنان قادماً من قم في أواخر العام 1959 تلبية لدعوة من أبناء المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين الذي كان قد توفي قبل أقل من عامين1.
 
 

1- توفي السيد شرف الدين في صور جنوبي لبنان، في 31/12/1957.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

125

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 م يكتف الإمام الصدر بالأعمال التقليدية لمعظم علماء الدين في ذلك الوقت والقيام بالوعظ والإرشاد وعقد القران والطلاق والصلاة على الميت، وإنما تجاوز ذلك إلى الربط بين الوعظ الديني وبين العمل الاجتماعي والسياسي.


أثار هذا الربط حفيظة مجموعة المتريسين الدينيين والسياسيين في لبنان وخصوصاً الشيعة منهم. كان بذلك يضع حجر الأساس لمشروع المشاركة في بناء الوطن، وكسر الاحتكار السياسي العائلي والإقطاعي.

تنقل الإمام بين قرى جبل عامل ومنطقة بعلبك – الهرمل، وعكار وجبل لبنان، وتعرف بشكل مباشر إلى مستوى الحرمان والبؤس الذي تعيشه. فجعل إزالة الحرمان أحد أهمّ أهدافه، وإلى جانب المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، نبذ التفرقة وإلغاء الطائفية السياسية.

أخذ ببناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية وشارك في تأسيس عشرات المشاريع الاجتماعية والجمعيات الخيرية، بين 1960 و1969م، وأنشأ مؤسسات لإيواء الأيتام وتعليمهم، منها مهنية جبل عامل في البرج الشمالي قرب مدينة صور إلى جانب مدرسة فنية للتمريض، ومدرسة داخلية خاصة بالفتيات، ومعهد للدراسات الإسلامية... وصولاً إلى حصوله عام 1967 على قرار من مجلس النواب اللبناني بتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لتنظيم شؤون
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

126

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 الطائفة الشيعية6.أسوة بباقي الطوائف في لبنان، وانتخب عام 1969م رئيس له7.

 
هكذا أصبح المشروع الوطني للإمام الصدر يتمظهر شيئاً فشيئاً. وكان البيان الذي أصدره بعيد انتخابه رئيساً للمجلس الشيعي قد كشف البعد الشمولي لمشروعه، وقد ركز فيه على الأمور الآتية:
 
تنظيم شؤون الطائفة وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
 
القيام بدور إسلامي كامل، فكراً وعملاً وجهاداً.
 
عدم التفرقة بين المسلمين، والسعي للتوحيد الكامل.
 
التعاون مع الطوائف اللبنانية كافة وحفظ وحدة لبنان.
 
ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
 
محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الخلقي.
 
دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة.
 
أحدث الإمام، فيما دعا إليه ومارسه، هزة كبيرة زعزعت المفاهيم الثابتة والتقليدية في الفكر السياسي والثقافي اللبناني، كما أنه في فكره
 
 
 

1- راجع الجريدة الرسمية عدد 103 تاريخ 25/12/1967.
2- راجع مسيرة الإمام السيد موسى الصدر، يوميات ووثائق 1969- 1970 م. المجلد الثاني، بيروت، 2000، ص19

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

127

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 وبفكره كان حجة للفكر الإسلامي المعاصر. وهو فيما عمله وتوصل إليه مثّل خلاصة تجارب انطلق منها في التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي أيضاً.


أقام الإمام في اجتهاده وجهاده توازناً نوعياً مع الحاجة التاريخية لمجتمعنا المعاصر، في الوطنية والقومية والإنسانية، في مرحلة تعد من أشد المراحل صعوبة في لبنان، مدركاً تبعات موقف التوازن الذي يقفه الفقيه بين الشريعة والواقع الاجتماعي المعاصر. وقامت رؤيته على شرط اعتبار أن الإيمان بالإنسان هو البعد الأرضي للإيمان بالله، وهذا يعني حضوراً ساخناً للإنسان في المشروع الوطني العام إلى جانب مشروعه الديني.

يظهر هذا الأمر جلياً في كلام الإمام في كنيسة الكبوشيين في بيروت عام 1975 بقوله: "بقدر ما صُنا طاقات الإنسان ونميناه بقدر ما كرمناه وخلدناه" تلك هي النقطة الأساس التي يرتكز عليها مشروع الإمام ونظرته. وإذا ما رجعنا إلى منطلقاته الفكرية وإلى الأبعاد الاجتماعية لهذه المنطلقات، وطنياً وإنسانياً، نستطيع أن نستشرف منطقة الضوء التي تنبعث منها اجتهاداته نحو عالمنا المعاصر، أي نحو التعامل مع حاجات الناس في عصرنا.

"كان الإمام الصدر يحاضر في جماعة كثيرها مسيحي. كان يخاطب الإنسان. ولا أذكر أنه استشهد بآية قرآنية آنذاك. ولم أكن قد سمعت أو قرأت شيئاً من هذا عند علماء المسلمين... ثم سمعته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

128

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 مرة يقول: ما أقوله في المسجد أستطيع ترداده في كل مكان، أي أنه كان واعياً لوحدة الكلام البشري بسبب من وحدة الناطق وصدقه".


يبتعد الإمام موسى الصدر في كلامه وتجربته عن الذين حبسوا الزمن في قصورهم ليؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان، مرحلة تأسيسية ثالثة، مرحلة اجتماعية اقتصادية، تعمل لتحرر الوطنية من الطائفية.

في حركته أتاح الإمام لجمهور الناس أن يعبروا عن احتياجاتهم بعيداً عن لعبة التوازن والتفاوت الطائفي والمناطقي. كشف لهم آفاق الإيمان والثقافة والاجتماع والسياسة، مندفعاً باتجاه تحريرهم من جملة ما يعانونه من استلاب وتهميش وحرمان عن طريق تأصيل أدوارهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... "المرض في لبنان يتلخص في أربعة هي:
غياب العدالة في حقل التنمية والفرص.
تأجيل القضايا الوطنية الكبرى، وعدم البحث في حلها أو عدم اتفاق المواطنين على الحد الأدنى من الإتفاق حولها.
أسلوب العمل السياسي في لبنان.
ابتلاؤنا بعدو يشن حروباً متنوعة ضد لبنان أهمها الحرب النفسية.

على هذا الأساس بإمكاننا القول إن الدواء واضح، فإذا بدأنا بتحقيق العدالة، وليس إنجازها، ضمن مخطط واضح يطمئن إليه المواطن، وإذا حاولنا من خلال ما يسمى بالمصالحة والمصارحة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

129

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 الوطنية، حيث تجتمع الفئات وتطرح القضايا الأساسية، وتتفق على الأسس وتضع اتفاقاً جديداً حول الحياة في لبنان".


هنا يضع الإمام الصدر الخطاب الإيماني مقابل الخطاب الطائفي. الإيمان بالإنسان وبقدراته مهما كان دينه مسلماً أم مسيحياً ومهما كان مذهبه وفي أي منطقة من لبنان سكن. عنده أن اللبنانيين جميعاً ينبغي أن يشعروا بالانتماء إلى الوطن، إلى لبنان، إلى الدولة الحق التي تؤمن لهم العدالة، والتي تشعرهم بوجودهم الإنساني الوطني لا الطائفي.

في الوقت الذي كان فيه لبنان يعيش في الطور الثاني من تاريخه، طور الطائفية السياسية ومرحلة الاستقلال القائم على الصيغة والنظام الطائفيين، كان الإمام الصدر يسير باللبنانيين نحو شكل من أشكال الديمقراطية وتأسيس طور جديد في الحياة اللبنانية، طور الإيمان بالوطن والإنسان بصفته الإنسانية.

"الإيمان، ثم طموح الشعب اللبناني،... طموح لبنان وطموح أبنائه يفوق أحياناً التصور... إننا نؤمن بالوعي والنضوج عند أفراد الشعب...".

ينظر الإمام إلى اللبناني بوصفه طموحاً واعياً وناضجاً اجتماعياً وسياسياً، وبهذا الوعي والنضوج يستطيع أن يمارس وجوده وطموحه بل وأيضاً يستطيع أن يفهم معنى وجوده ضمن المكون الثقافي والديني المتنوع في لبنان أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

130

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 من المؤكد أن وجود الطوائف في المجتمع اللبناني لا يتنافى مع قيام الدولة، وهذا ما كان يشير إليه الإمام ويتحدث عنه بقوله إن "الطوائف في لبنان نعمة والطائفية نقمة" وإن وجود الطوائف لا يؤثر ولا يضر بوجود الدولة، وإنما ما يؤثر بهذا الوجود وما هدد الدولة سابقاً، ويمكن أن يهددها اليوم وغداً، هو الممارسة الخاطئة للسلطة والإدارة. وعلى هذا كان سعي الإمام الدائم لإقامة الحوار بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني لتحقيق العيش المشترك وتأمين استمراره، باعتباره ضمانة استمرار لبنان الوطن الجامع، واعتبار أن المواطن اللبناني مسؤول عن صيانة وطنه وأن "مسؤولية المواطن هي مسؤولية تاريخية". يرمي هذا الكلام للإمام موسى الصدر، إلى إحياء القضية الوطنية والانتماء الوطني، مقابل الصراع والصدام والعنف، ويُظهر بالتالي إشكالية الوطن والمواطن ودور كل منهما حيال الآخر.


إلى جانب ذلك فإن المشروع الوطني للإمام الصدر كان يرى في وجود إسرائيل وجوداً للشر المطلق. وكان يلحظ خطر هذا الكيان على لبنان والمنطقة بأسرها. واعتبره التحدي الأكبر على الصعيدين الوطني والقومي، وأن هذا الخطر يتمثل إضافة إلى الأبعاد السياسية والعسكرية، يتمثل في الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بمعنى أنه يتمثل في البعد الحضاري، وبات يشكل عائقاً أمام عمليات التطور والتقدم والنمو في البلدان العربية، ويشكل خطراً داهماً ومستمراً ومباشراً على لبنان ومجتمعه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

131

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 ضمّن الإمام الصدر مشروعه كيفية مواجهة هذا الخطر على المستوى اللبناني الخاص وعلى المستوى العربي العام، فدعا إلى توسيع المشاركة في القتال ضد إسرائيل وعدم اقتصارها على الفلسطينيين وإلى تربية الأجيال على هذا القتال، فنادى بإنشاء مخيمات التدريب للبنانيين وإلى تسليح أهل الجنوب وإلى مشاركة الجميع في القتال ضد إسرائيل. وأعلن في المهرجان الشعبي في بعلبك بتاريخ 17/3/1974 "أن المعركة لم تنته، نريد أن نستعد، نريد أن نربي جيلاً يتمكن من حمل السلاح... نحن بحاجة ملحة إلى التدريب العسكري... نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم كي نحفظ كرامة بيوتنا... ونؤدي دورنا في صيانة الوطن"1.

 
لم يكن الصراع مع إسرائيل بنظره محدوداً لا في المكان ولا في الزمان. كان صراعاً مفتوحاً على المدار الحضاري والتاريخي. وبرأيه المعركة مع إسرائيل "ذات وجوه كثيرة، فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل، معركة المصير، وهذا يعني أن المطلوب منا الاستعداد لعشرات السنين وعلى جميع الجهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات"2.
 
مواجهة الخطر الإسرائيلي برأيه يعني ليس فقط رد عدوان عسكري
 
 
 

1- راجع الصحف اللبنانية بتاريخ 18/3/1974.
2- مؤتمر صحفي للإمام نشرته الصحف في 20/11/1969.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

132

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 وإنما الحفاظ على لبنان الوطن ووحدته. وكان يكرر دائماً "إن دعمنا للمقاومة... ينطلق من المبدأ نفسه الذي ينطلق منه السعي للحفاظ على الوطن والدفاع عنه"1.

 
ركز الإمام الصدر على الوحدة الوطنية في مواجهة العدو الإسرائيلي ومخاطره وأطماعه، وعدم ترك الجنوب وحيداً في هذه المواجهة، ولذلك أطلق وبنتيجة علاقاته القوية والمميزة مع رؤوساء الطوائف الروحيين في لبنان ما عرف، "بهيئة نصر الجنوب"، والتي ضمت النسيج الوطني اللبناني، لأنه كان يعتبر أن الدفاع عن الجنوب دفاع عن لبنان وأن هذا الأمر واجب كل مواطن لبناني وعربي. تشكلت الهيئة من: "المطران أنطونيوس خريش، المطران باسيلوس خوري، المطران يوسف الخوري، المطران جورجيوس حداد، المطران أثناسيوس الشاعر، المطران بولس الخوري، القس إبراهيم داغر، الشيخ محمد سليم حمود، الشيخ أحمد الزين، الشيخ رؤوف القادري، الشيخ نجيب قيس، الشيخ سليم جلال الدين، الشيخ علي الفقيه، الشيخ عبد الأمير قبلان". أصدرت هذه الهيئة بياناً لها بتاريخ 20/5/1970 تلاه الإمام الصدر ومما جاء فيه: "لا يخالنَّ خائل إذا سقط الجنوب أن سياجاً من السحر يسوء لبنان... انهضوا لنصرة الجنوب، ونصرة لبنان،... إن ساعة النفير تدق، لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانيات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب
 
 

1- المصدر نفسه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

133

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 ويهدد كل لبنان"1.

 
لقد حدد الإمام الصدر الأخطار التي تهدد وجود لبنان بخطرين أساسيين: الأول الخطر الداخلي وهو الأساسي بالنسبة إليه، وهو خطر الميوعة، خطر الذوبان، خطر الفساد، والثاني هو الخطر الخارجي المتمثل بإسرائيل. واعتبر حركته، ومن يؤيده ويناصره، قوة مواطنية تقف في مواجهة هذه الأخطار.
 
عمل الإمام لمواجهة هذين الخطرين ضمن المستويين السياسي والاجتماعي، إذ كان يرى أن تحسين الأوضاع الاجتماعية وسبل العيش وتأمين العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وإصلاح النظام والانتقال من مرحلة الطائفية السياسية إلى مرحلة الدولة العادلة هي وسائل أساسية لمواجهة أي خطر يتعرض له لبنان، سواء أكان خطراً داخلياً أم خطراً خارجياً. 
 
في إطار حركته الاجتماعية والسياسية تلك يمكن أن نلحظ مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي منذ وصوله إلى لبنان عام 1959 وحتى عام 1970 بعدما نزحت المقاومة الفلسطينية إلى الأردن إثر معاركها مع الجيش الأردني إلى لبنان، واستقرت في جنوبه، والمرحلة الثانية هي من 1970 (تاريخ زيارة التحولات الإقليمية التي جعلت الجنوب أكثر سخونة) إلى آب 1978 وتغييبه في ليبيا أثناء زيارة رسمية كان يقوم بها تلبية لدعوة تلقاها من القذافي.
 
 
 

1- الصحف اللبنانية، 20/5/1970.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

134

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 في المرحلة الأولى تركز عمل الإمام وخطابه التعبوي على المطالبة والدفع من أجل رفع الحرمان عن المناطق اللبنانية، ورفع الغبن السياسي والاجتماعي والتربوي والصحي والإداري "... ووضع أهدافاً كان يقول إنها تتعدى نطاق الطائفة الشيعية والمناطق التي يسكنها الشيعة، مثل مكافحة الأمية، مكافحة التشرد، تحسين الأماكن والأوضاع، محاربة الفساد، تحسين الوضع الاجتماعي ورفع الحرمان، محاربة المرض وتأمين الصحة للمناطق، الاستفادة من طاقات الشباب..."1. قام خطابه في تلك المرحلة على ثنائية التعبئة والمطالبة، فهو يتوجه إلى جمهور الناس يعبئهم ضد الظلم الاجتماعي والسياسي اللاحق بهم، لكي يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم وينهضوا للمطالبة بحقوقهم، وفي الوقت عينه يتوجه إلى الدولة ومسؤوليها وأركان السلطة، مطالباً بتحسين أوضاع اللبنانيين والمناطق والاستعداد للدفاع عن لبنان، بالتجنيد الإلزامي وتسليح الجيش وإرساله إلى الجنوب.

 
وكانت ثنائية أخرى تطبع هذا الخطاب، الجانب الاجتماعي – السياسي، والجانب المقاوم. فقد رأى أن خطر الحرمان لا يقل أهمية عن الخطر الإسرائيلي، وكلاهما يهدد وجود لبنان، فكان مطلبه رفع الحرمان وتصحيح النظام والعمل السياسي، والاستعداد للمواجهة، والدفاع عن لبنان انطلاقاً من الجنوب. برأيه الدفاع عن الجنوب، هو
 
 

1- راجع حواره مع عادل مالك في برنامج "سجل مفتوح" على تلفزيون لبنان، 20/6/1969. راجع جريدة "الجريدة" بتاريخ 21/6/1969 "نص الحوار".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

135

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 دفاع عن الوطن و"الدفاع عن الوطن، عن الإنسان، وعن كرامة الإنسان، عن حرية الإنسان، دفاع عن الله"1.

 
في المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد 1970. وقد تميزت بالنشاط السياسي الذي يركز على دعم المقاومة الفلسطينية والاستفادة من علاقات الإمام الخارجية والداخلية لذلك، انطلاقاً من رؤيته لمخاطر الاحتلال الإسرائيلي.
 
عمل الإمام الصدر على دعم المقاومة الفلسطينية في قتالها ضد إسرائيل، ودافع عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
 
ورأى أن التأييد للمقاومة الفلسطينية يتلازم مع إعداد مقاومة لبنانية مهمتها مواجهة الأخطار المحدقة بلبنان.
 
شكل هذا الأمر أولوية قصوى في المشروع الوطني للإمام وعنونه بشعارين كبيرين (إسرائيل شر مطلق، والتعامل مع إسرائيل حرام). بهذين الشعارين لم يحصر الإمام مسألة المواجهة والصراع مع إسرائيل بالأرض والحدود، فالخطر الإسرائيلي يهدد الإنسان أكثر من الأرض، ويهدد الفكر والثقافة والدين والتاريخ إلى جانب الجغرافيا.
 
هكذا نجدنا مع الإمام الصدر نقف وجهاً لوجه أمام إشكالية الصراع مع إسرائيل، هل يمكن التوصل إلى تسوية مع الكيان الغاصب لفلسطين والطامع بأراضٍ عربية أخرى؟ أم أن الصراع أبعد من أن ينتهي بالمفاوضات
 
 
 

1- مؤتمر صحفي للإمام الصدر في مكتب الجامعة العربية في بون – ألمانيا، بتاريخ 10/8/1970.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

136

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 والاتفاقيات؟ ذهب الإمام إلى أن هذا الصراع حضاري، وهو مسألة عقائدية مبدئية، وتالياً فهو لا ينتهي إلا بزوال إسرائيل ونهاية وجودها.


بين الحقل الجغرافي والحقل الحضاري، ينتصب عقل الاعتقاد لإبراز معاني الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسوريا وغير منطقة عربية. لقد ظهرت مع الأحداث والمواجهات اليومية في فلسطين وما كان يحصل في لبنان أثناء الاحتلال، الوقائع التي تؤكد صدقية رؤية الإمام الصدر لإسرائيل.

في حديث صحافي للإمام الصدر مع الصحافي من جريدة الأنوار اللبنانية يشرح فيه دوافعه لتأسيس حركة المحرومين، وموقفه من الإقطاع، يتحدث الإمام الصدر عن التهديد الإسرائيلي للجنوب، وللبنان عامة، ويقترح الإمام خطة دفاعية عن لبنان هي.

"أولاً: يجب الشروع فوراً بحملة دبلوماسية إعلامية مركزة وتشمل العالم كله لعرض الأوضاع والأخطار من خلال الاعتداءات المتواصلة، ومن خلال التهديدات الإسرائيلية المتكررة.

ثانياً: تجنيد طاقات الشعب اللبناني في الداخل وفي بلاد الاغتراب، والاستعانة بعلاقاتهم الشخصية وبنفوذهم الواسع في العالم، تلك الطاقات التي ما استثمرت حتى الآن لخدمة الوطن، ولا أدري لماذا جمدت ولأي يوم آخر ادخرت أو وفرت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

137

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 ثالثاً: العمل العسكري الذي لا بديل عنه على صعيد شعبي، وذلك بتدريب الشبيبة في الجنوب أولاً في المناطق الأخرى للراغبين والمتطوعين، وفي الدرجات اللاحقة للآخرين، تدريبهم وتسليحهم، وتحضيرهم لحرب الشوارع والدفاع عن قراهم ومدنهم.

 
رابعاً: تكليف الجيش الانتقال إلى الجنوب، ضمن خطة عسكرية سليمة، وفي مواقع معينة والدفاع المستميت عن الوطن.
 
كما أن الاستعانة بالأسلحة التي تقدم إلى الجيش اللبناني من أي مصدر كان، ضرورة حتمية ومشروعة في ساعات الدفاع. أما الاستعانة بالجيوش العربية، فإنني رغم قناعتي بأن حق الدفاع عن النفس وعن الوطن يفرضها، فإنني أترك التقدير للقيادة العسكرية والسياسية للبلد، لاختيار وقتها وتفاصيلها ومراعاة ملابساتها وردود فعلها"1.
 
يُعتبر الإمام الصدر أول من أطلق المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي فكراً وعملاً، انطلاقاً من جنوب لبنان. وينسجم هذا العمل مع ما يختزنه جبل عامل من تراث عقائدي وسياسي وتاريخ حافل بالتمرد على الظلم والاستبداد.
 
أعلن الإمام الصدر عن ولادة هذه المقاومة في صيف 1975 بعد
 
 

1- جريدة الأنوار، 22/1/1975.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

138

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 حادث الانفجار في معسكر التدريب في عين البنية في منطقة بعلبك، نافياً أي دور لها في الصراع الداخلي. بتاريخ 4/7/1975 حصل الانفجار في حقل التدريب وأدى إلى استشهاد 26 شاباً وجرح 47 آخرين من مجموع 101 شاب كانوا يتدربون على لغم ضد الدبابات بإشراف مدرب خبير من المقاومة الفلسطينية. وبتاريخ 6/7/1975 عقد الإمام الصدر مؤتمراً صحفياً أعلن فيه ولادة حركة "أمل" وهي اختصار لـ "أفواج المقاومة اللبنانية".

 
في هذا المؤتمر قال الإمام: "هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبوا نداء الوطن الجريح الذي تستمر إسرائيل في الاعتداء عليه من كل جانب وبكل وسيلة... إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحاً ومكاسب ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته... إنهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها... أناشد الشباب اللبنانيين من كل منطقة وفي كل طائفة، ولا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعاً أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية"1.
 
يبدو أن الإمام لم يكن يريد الإعلان عن حركة أمل جناحاً عسكرياً لحركة المحرومين التي كان الإمام قد أعلن عن إنشائها في العام 1974
 
 
 

1- راجع النص في جريدة النهار 7/7/1975.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

139

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 حركة مطلبية إصلاحية، والتي ضمت قيادات ونُخباً سياسية وشعبية من كافة الطوائف. لكن ما حصل في عين البنية من انفجار واستشهاد المقاومين هو الذي دفع إلى الإعلان عن الحركة المقاومة والتي كان يعمل للبقاء سرية.

 
يمكن القول إن الإمام زاوجَ بين مشروع الإصلاح الداخلي ومشروع المقاومة، خاصة وأن الفساد والحرمان والاحتلال برأيه تهدد وجود الوطن.
 
بتاريخ 28 تموز 1976م. شرح الإمام الصدر أهداف حركة أمل في مقالة له (لماذا نقاتل؟) قال فيها:
 
"نقاتل في سبيل الله...
 
نقاتل في سبيل الإنسان: الوطن هو إنسان الجماعة، نقاتل لحمايته من الاعتداء، الوطن، وهو الجنوب، الحق الذي يتعرض لتجاوزات إسرائيل وهي الباطل بعينه.
 
نقاتل من أجل الوطن ودفاعاً عنه وعن إنسانه... ومن أجل وحدة لبنان، من أجل منع قيام إسرائيل أخرى، أو إسرائيليات تدعم إسرائيل الأم.
 
نقاتل لكي نمنع تصنيف الإنسان وتحقيره وتشويهه تحت كابوس الفكر الإسرائيلي... ولأجل الحفاظ على الشعلة الإنسانية الحقة والعادلة ولأجل المقاومة الفلسطينية ضد الشر المطلق إسرائيل"1.
 
 
 

1- مجلة أمل ورسالة، 27/7/1976م.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

140

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 إن مضمون المسألة هنا يتجلى في سعيه لصيانة الوطن وحفظه ووضعه خطة ونهجاً دفاعياً مقاوماً في مواجهة الشر المطلق الذي يتهدد الإنسان تاريخاً وحضارة وجغرافيا.


ب- المواطنة في مشروع الإمام

لا تنحصر مسألة المواطنة في نص محدد للإمام، فالالتزام بالوطن ليس نصاً مكتوباً أو محكياً، بل هو أكثر من ذلك: إنه عمل، عطاء وإيثار. هنا يبدو العقل الوطني، عقل إيمان وجهد أنضج عالماً كثيفاً من الرؤى والمواقف الكاشفة للأبعاد الوطنية، وإمكانية تجاوز السدود التي تعيق تشارك اللبنانيين في صناعة تاريخ لبنان.

لقد واجه الإمام الصدر بجرأة نادرة عدداً من المشكلات ذات الحساسية المفرطة في الحياة اللبنانية، وأعلن إيمانه بأن "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وأن الطائفية نقمة والطوائف نعمة، وأن التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها".

لقد أوجد الإمام أملاً مشتركاً يجمع بين اللبنانيين، يلعب دوراً أساسياً وإلى أبعد الحدود في تجديد حياتهم، أوجد لهم بداية تكشف القيمة الحقيقية لأفعالهم وانتمائهم.

لقد أراد الإمام إجراء قفزة انتقالية بالفكر اللبناني من الأسطوري إلى العقلي، من التخيلي والوهمي إلى الواقعي، قفزة تولد المعنى، تفصل بين الوهم والحقيقة، تجدد الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

141

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 والاقتصادي. على أن ذلك لا يعني إلغاء التاريخ ورفض الماضي، وإنما إعادة تقويم لثقافة الماضي والحاضر وما تتضمنه، إعادة تقويم للسلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، إعادة النظر في الخطاب السياسي اللبناني بعيداً عن التوظيفات الفكرويّة التي تحاول اختصار الأصول وماهيتها في معانٍ محددة.

 
"أعتقد أن الوحدة الوطنية لها معنى أعمق من توحيد المصالح أو واجب احترام الميثاق الوطني والإيمان بالعيش المشترك، الوحدة الوطنية في الحقيقة هي وحدة الأفكار والقلوب. إنها وحدة الأهداف ووحدة كل المواطنين في الأهداف والمعايير العامة لوجود الإنسان"1.
 
قام الإمام الصدر بتحليل الواقع السياسي اللبناني وواقع الحياة اللبنانية، فقدم مشروعه الذي ينظر في الواقع ويفهمه، بمعزل عن لعبة المصالح والتسويات والمحاصصة، والاعتقادات، والتوظيف السلطوي للحقلين الاجتماعي والديني، لقد وضع وبدقة مفهوماً للوطنية من منظار الإيمان بالوطن والإنسان. حوّل الإنسان اللامعياري في لبنان إلى معيار لكل المسالك الاجتماعية والسياسية والفكرية الوطنية. بكلام آخر رفع الإنسان من عزلته الطائفية ومن داخل شرنقة الخوف الطائفي من الآخر، وتسامى به فوق واقع التشرذم والخلاف، ويعود ذلك إلى
 
 

1- راجع حوار الإمام مع عادل مالك – تلفزيون لبنان، ونص جريدة "الجريدة" 21/6/1969، مرجع سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

142

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 قوة الإيمان بهذا الإنسان وقدراته. "يجب على المواطنين أن يحترموا بعضهم (بعضاً) ويحترم كل منهم وجود ورأي وماضي ومعتقدات الآخرين... يجب على كل مواطن أن يقتنع أنه من أجل تحقيق الوحدة الوطنية يجب عليه أن يكون صادقاً، أولاً مع نفسه، وفيما بعد مع الآخرين... هكذا نخلق جواً مناسباً للتفاهم وننطلق نحو الوحدة الوطنية الحقيقية"1.

 
استطاع الإمام الكشف عن وضعية الانشطار السياسي والثقافي الاجتماعي اللبناني كشفاً حقيقياً، فأصبح بإمكانه تقديم الأطروحة التي تستطيع أن تؤسس للبنان جديد يمتلك التاريخ ولا يمتلكه التاريخ، لبنان طوائفي لا طائفي، لبنان الانتماء لا اللجوء والتوازن، لبنان الوطن. الواضح أنه عند الإمام هناك فرد تاريخي. ووطن تاريخي، لا طائفي، آمن به وتصرف معه على هذا الأساس. لقد أعطى للإنسان وللوطن علاقة فريدة ومميزة في واقعهم وحاضرهم.
 
"الشعور بمعنى الأرض والوطن موجود، يحتاج إلى تنمية وإبراز، وهذا يحصل عن طريق العدالة الاجتماعية وإشعار المواطن بأنه يتمتع بوطنه عزيز في أرضه... إن المواطن اللبناني لا يطلب من المسؤولين إبداع المعجزات... لكنه يرفض التمييز بين المناطق والفئات والمواطنين، فإذا تأمن له ذلك،... فقد صنعنا مواطناً يستأهل
 
 
 

1- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

143

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

  أن يكون بلده لبنان، وطن الجمال والجلال، بلد السيف والعلم".

 
حاول المشروع الوطني للإمام، والمتسم بما وصفناه سابقاً، أن يقرب المواطن من الوطن، هذا يعني أن المواطنية، الانتماء للوطن في علاقة إيمانية لطيفة، يصعب وصفها على غير شاهدها ومعانيها، وسيتواصل تفتحها بقدر تفتح الجماعة البشرية المنضوية بثقافتها في علاقة المواطنة.
 
كل إيمان وطني ينطلق من إطار اجتماعي للمعرفة ويولد في مدار حضاري ولادة تاريخية عقلية. والإيمان الوطني بكل تلاوينه وتطبيقاته، شكل معرفي يعبر عن مستوى وعي تاريخي معين.
 
يذهب الإمام الصدر إلى تقديم الإيمان بالوطن على أنه واجب وحق "ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وإن الحق دون واجب صفة للمزرعة، وإن الواجب دون حق استعمار محض وكلا الأمرين مرفوض"1.
 
ينبه الإمام إلى أن اختلال العدالة وازدياد الفروق، وتقنن الظلم، وانحياز الموازنة والوظائف والنشاطات والمشاريع والقوانين، وممارسة الحكام للتوازن الطائفي جعل الوطن كله جامداً خائفاً"2.
 
ويضيف "إن المأساة المعاشة يومياً والتي تقضي على مستقبل لبنان وتقلب كل طموح إلى التقهقر بل تقضي على مجرد وجود لبنان
 
 
 

1- راجع العدد الخاص لصحيفة النهار لسنة 1974، صدر في نهاية السنة، تضمن لقاءً صحفياً مع الإمام الصدر.
2- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

144

المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر

 وتؤكد فشل التجربة الحضارية في مرحلة بناء الوطن.. وأخطر من هذا فإن النظام الطائفي الممارس بهذا الشكل قد ابتلع العلاج أيضاً... والحل في حركة وطنية متآلفة دافئة تتخطى الحواجز المصطنعة بين أبناء هذا الوطن، حركة تكون قوية، أبوية، موثوقة، مضحية، موضوعية، حركة تعتمد على جذور عميقة من الإيمان بالله، وبالوطن وبالإنسان... والعلاج في تكوين دولة الحق وتحمل مسؤولياتها الكاملة، حتى يشعر المواطن بأن الانتماء إلى الوطن هو البديل الكافي عن الانتماءات الأخرى لحمايته، ولصيانة حريته وقوته وكرامته"1.

 
ويربط الإمام بين تحرك المواطنين وقيام الدولة موضحاً بذلك مسار التحول في المعرفة الوطنية، فالمواطنة لا تكتمل إلا بطلبها والعمل بها. وهي تحرس الوطن وهو يحرسها. 
 
ويبدو أن مفهوم المواطنة عند الإمام يتصل بالسعي له من قبل جمهور الناس لإخراجه من الظلمة إلى النور، ومن قبل الدولة بالعدالة الاجتماعية، وبقدر ما يستند عند بعض الناس إلى مصادرات اعتقادية، في التاريخ وما بعده، يدور عند الإمام داخل التاريخ المعاش، حول نواة المفاهيم المركزية التي تشكل غلافاً فكرياً لفضاء الحكم. من تلك المفاهيم العدالة الاجتماعية، المساواة بين المناطق والمواطنين، صيانة الوطن وحفظه.
 
 
 

1- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

145

القسم الثاني

 القسم الثاني


ولاية الفقيه وواقع التنوع في لبنان


1.حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
                                                               سماحة الشيخ نعيم قاسم

2.ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله
                                                                    الدكتور غسان طه
3.ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم
                                                                  الأستاذ حسن محمود شعبان

4.المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد (لبنان نموذجاً)
                                                                           الدكتور بلال نعيم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

146

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 
سماحة الشيخ نعيم قاسم1
 
تعريف الوطن 
 
الوطن حيِّزٌ جغرافي له حدود، تكونت من خلال مسار وتطورات تاريخية، ينتمي إليه من وُلد فيه، ما يُكسبه حقوق المواطنة، ولا يملك أحد حق نزع هذه الصفة عنه. فالوطن لجميع أبنائه الذين ولدوا فيه. 
 
الولاء للوطن: تعبيرٌ ملتبس، حيث تختلط فيه الجغرافيا بالسياسة، فإذا ما كان المقصود هو الارتباط الجغرافي، فكل فرد مواطن ما لم يتخلَّ عن جنسيته ليختار جنسية أخرى في بلدٍ آخر. وإذا ما كان المقصود الموقف السياسي، فسيأتي الحديث عن قواعد الولاء وتطبيقاتها، لنعرف كيفية ارتباط المواطن بوطنه.
 
تعريف الإسلام: الإسلام هو آخر رسالة سماوية أتى بها سيد الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تحمل منهجاً كاملاً للحياة، ففيها العقيدة والشريعة، وهي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية
 
 

1- نائب الأمين العام لحزب الله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

147

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 واقتصادية كاملة صالحة للفرد والجماعة، ولنظام حكم الدولة طبق تعاليمها، وهي دعوة إلهية تحث الناس على أن يلتزموها، فلا تقتصر على علاقة الإنسان بربه وبنفسه، وإنما تشمل تنظيم علاقات الناس كافة، إذا ما اختاروا تطبيقها في حياتهم ودولتهم.

 
ولي أمر المسلمين: قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾1، فهو الآمر الناهي للمؤمنين، وقد أمرهم بالطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأولي الأمر الذين يتولون شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾2 والواضح أن السلطة من الموقع الديني لأولي الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن للمؤمن أن تبرأ ذمته أمام الله تعالى إلاَّ إذا التزم أوامر وتوجيهات الولي، وهذه مسألة إيمانية عقيدية، ولكن من هو الولي؟ وما هي حدود سلطته على المؤمنين؟ وما تأثير ذلك في وطن لا يتبنى نظامه السياسي الحكم الإسلامي على أساس قيادة "ولاية الأمر"؟ هذا ما سيتضح إن شاء الله تعالى في طيات هذا البحث.
 
 
 

1- البقرة: 257.
2- النساء: 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

148

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 حزب الله: انطلق حزب الله على أساس التزامه بالإسلام عقيدة وشريعة، ويضم في صفوفه من يؤمن بالإسلام كمنهج حياة. وهو يلتزم قيادة الولي الفقيه انسجاماً مع إيمانه بولاية الأمر، كركنٍ أساس لهذا الإيمان، ويتحرك في الساحة كحزب لبناني له تطلعاته وآراؤه ومساهماته في حماية الوطن وإدارته. وقد برز بمقاومته لإسرائيل المحتلَّة في مفصل تاريخي واكب نشأته وقناعاته، وله رؤيته المتكاملة كحزب جهادي سياسي من كل القضايا المطروحة على الساحة، والتي يترجمها عملياً من خلال المواقف التي يتخذها، ومنها ما سنبينه في النظرة إلى الوطن وولاية الفقيه.


المبدأ واتجاهاته

يحتاج الإنسان إلى مبدأ أو رؤية أو منهج يؤمن به في حياته، ليرسم معالمه على أساسه، ما يؤمِّن له ترابط خطواته انطلاقاً من هذا المبدأ. والقاعدة الأمثل أن يختار الإنسان مبدأه بقناعة عقلية بعيداً عن المؤثرات المجتمعية الضاغطة. لكنَّ المجتمع بعاداته وموروثاته يؤثر غالباً في تشويش الصورة. لكنَّها مسؤولية الإنسان في بحثه عن خياره، وهو الأمر الاعتقادي الذي تتأثر به كل حياته فكرياً وسياسياً واجتماعياً... فالمنطلق قبل كل شيء يبدأ من عقيدة الإنسان، ما يعتقده ويؤمن به ويعتبره مبدأ له ومنهاجاً، والذي ينعكس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

149

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 على حياته وسلوكه على جميع الأصعدة في المجتمع، فإذا ما اختار الشريعة المنسجمة مع هذه العقيدة حقَّق الترابط الأفضل في إطار المبدأ الذي آمن به. 


اختلفت عقائد الناس عبر التاريخ، فانقسموا إلى اتجاهين كبيرين متباينين:

1- الاتجاه الإلهي: بإتباع الأنبياء والرسل وتعاليمهم بحذافيرها.

2- الاتجاه المادي: بتحديد تعاليم ابتدعها الناس من خلال مفكريهم وقياداتهم وزعمائهم، مبنية على رؤيتهم المادية للحياة..

ثم اختلطت الأمور اختلاطاً كبيراً، فتمايز الاتجاهان مع مرور الزمان بخلافٍ حاد بينهما، وفي الوقت نفسه صاحبهما اتجاهات كثيرة مزجت وحذفت وعدَّلت بين الاتجاهين، فنشأت اتجاهات جديدة مختلفة تماماً عنهما، لها خصوصياتها ومعالمها البارزة.

برز الإسلام كاتجاه إلهي يحمل منظومة متكاملة منذ ألف وأربعمائة سنة ونيِّف، في حياة المؤمنين به من ناحية، وفي موقع الحكم والسلطة من ناحية أخرى. ولكنَّ الكثير من ممارسات الحكام والدول شوَّهت وأساءت وراكمت سلبياتٍ لا علاقة لها بالإسلام، أضرَّت كثيراً بهذه التجربة، ومنها بدعة وراثة الحكم، والنزاعات الدموية على السلطة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

150

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وقهر المواطنين على إتباع مذهب السلطان... وإنْ بقيت الشريعة من خلال الأحكام الشرعية في المعاملات محفوظة بالإجمال، والعهدة على سلامة التطبيق ومداه.


كما تمَّت صياغة وتطبيق أنظمة حكم مادية عبر التاريخ، كان أبرزها كصيغ مترابطة ما اشتهر في القرنين الأخيرين من خلال الاتجاهين الشيوعي والرأسمالي. وقد طغى على الشيوعي الجانب العقيدي فبرز بوضوح أنه موجِّه للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن هذا الطغيان موجوداً في الاتجاه الرأسمالي الذي آثر في عقيدته حرية الفرد بما فيها حرية الاعتقاد، متجاوزاً إلى رسم معالم المنظومة الاقتصادية المجتمعية على أساس آراء المفكرين الذين صاغوا المبدأ الرأسمالي.

ومع نشوء الدول وانقسامها، كما هي موزعة اليوم، أصبحنا أمام اتجاهات سياسية حاكمة كثيرة التنوع، وإن كانت المعالم الأساسية في أنظمة حكم العالم بشكل عام هي الأنظمة المادية، التي استفادت من بعضٍ من التشريعات الإلهية، واستقلت ببعضٍ آخر، وتفاوتت فيما بينها.

العقيدة والشريعة: يحتاج الإنسان إلى مبدأ، وهو ما نعبِّر عنه بأمرين متلازمين: العقيدة التي يؤمن بها وهي التي تتعلق بالنظرة إلى الخالق وطبيعة الحياة ودور الإنسان فيها،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

151

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 والشريعة أو "طريقة الحياة" التي تنظم الحياة والعلاقات بين الناس، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...


تنعكس العقيدة على حياة الفرد الشخصية، فإذا ما كان مؤمناً بالله تعالى التزم بالعبادات، وامتنع عن المحرمات، وذلك بحسب ما تمليه عقيدته الإيمانية، وإذا ما كان ملحداً، انعكس إلحاده على ما يفعله وما يرفضه في حياته الشخصية بحرية تامة تعود إلى تقديره فيما يناسب أو لا يناسب، وكذلك إذا لم يكن مؤمناً ولا كافراً بحدودٍ واضحة، وإنما في حالة اعتقاد انتقائية، يعود الأمر إلى تقديره للخير والشر، وللعادات التي نما عليها واقتنع بها. فبذلك تكون العقيدة مؤثرة على السلوك الفردي، وعلى العلاقات مع الناس بتطبيق ما في الشريعة في هذا المجال، وهو إطار محدود وضيِّق، لأنَّ الإطار الأرحب في العلاقات بين الناس يتمثَّل في نظام الحكم.

أمَّا الشريعة فهي المدى الأوسع الذي تشمل معاملات الناس كلها، ومنها ما يرتبط بنظام الحكم، وبذلك يمكن أن تكون الشريعة قاعدة لنظام الحكم السائد في البلد، فيطبقها الأفراد كقوانين، أو أن لا تُطبَّق كنظام للحكم فيختار الأفراد من الشريعة ما يستطيعونه في علاقاتهم اليومية في التعامل الاجتماعي والاقتصادي بما لا يتصادم مع النظام العام، أو بما يدخل في المعاملات الفردية. فالشريعة تؤدي إلى نظام الحكم في الدولة، فإنْ لم يتحقق هذا الأمر، فهي تطبيقات محدودة في حياة الأفراد بحسب إيمانهم وبما يتاح لهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

152

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 بما أنَّ خيارات الناس مختلفة ومتنوعة جداً، فسنكون أمام حالات عدة، في الحالة الفردية وحالة الجماعة.


1- على المستوى الفردي: إمَّا أن يحمل الفرد على مستوى العقيدة والشريعة أو "طريقة الحياة" رؤية متجانسة، بارتباط الشريعة بالعقيدة، وإمَّا ان تكون رؤيته غير متجانسة بعدم ارتباطهما، فتكون العقيدة من اتجاه، والشريعة أو "طريقة الحياة" من اتجاهٍ آخر. فيطبِّق من الشريعة أو "طريقة الحياة" في حياته الفردية، بحسب ما يحمله طابع التكليف الفردي ومستوى إيمان هذا الفرد، ويسعى لتُطبِّق الجماعة في حياتها ما يؤمن به.

2– على مستوى الجماعة: بما أن المجتمعات اليوم محكومة في إطار دول لها حدود جغرافية، فإنَّ الانتظام العام لاستمرارية أي دولة واستقرارها، أن تختار نظام الحكم فيها، وأن يكون لها قوانين وأنظمة تنسجم مع خياراتها، وتتضمن آليات التغيير والتعديل فيها، وبالتالي فلا يمكن لجماعة واحدة داخل الدولة الواحدة أن تنفرد بما تريد، ولا تستطيع أن تفرض ما تريد، وبالتالي فإنَّ ترويج كل جماعة لأفكارها وقناعاتها والدفاع عنها، جزء لا يتجزأ من محاولة تكوين الرأي العام في الدولة، الذي ينتج عنه التوافق أو الأرجحية، ثم يتكون نظام الدولة. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

153

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أمَّا رغبة تغيير نظام الحكم أو تثبيته، والتعبير عن الرضا به أو عدمه، فهو أمر يعود للأفراد أو الجماعات في كيفية تظهير قناعاتهم، وعندها يكون تقييم كل حزب أو حركة أو جماعة من خلال طروحاتهم، وما يتخذه مواطنو الدولة من موقف بتأييد أو رفض هذه الطروحات. فالشريعة أو "طريقة الحياة" للجماعة تتجلَّى بنظام الحكم الذي لا يُطبَّق في دولةٍ ما لمجرد إيمان أفراد أو جماعةٍ ما به، بل هو مسارٌ معقَّد لتثبيت اختيار نظام الحكم تتداخل فيه عوامل كثيرة. فإذا ما كانت الشريعة مختلفة عما يؤمن به الفرد أو الجماعة، فهذا لا يمنعهم من التعبير النظري عن إيمانهم، وتطبيق ما أمكن من الشريعة في حياتهم الخاصة، وهو حق مشروع لجميع الناس في التعبير عن الموقف، من دون إكراه أو فرضٍ بالقوة.


الحزب الإسلامي

يؤمن حزب الله بالإسلام عقيدة وشريعة من الموقع المبدئي، ويرى أن عمله السياسي في الساحة، وأداءه المقاوم لتحرير الأرض والدفاع عنها، وحمل مطالب الناس الاجتماعية والاقتصادية، وسلوكه الحزبي الذي يؤدي إلى الإنتماء إليه، ووجود المناصرين حوله، كل ذلك انعكاسٌ لرؤيته المبدئية.

فالحزب الذي عُرف منذ النشأة بجهاده ومقاومته للاحتلال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

154

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الصهيوني، يحمل الرؤية المتكاملة للإسلام، ويعمل على أساسها في كل الميادين السياسية والاجتماعية وغيرها في بلده، من ضمن تحديده لمتطلبات الساحة وأولوياتها. فإذا ما برز بمقاومته لإسرائيل إلى درجة اعتباره حزب المقاومة، فلأنَّ هذه المرحلة المثقلة بالاحتلال تتطلب أولوية الاهتمام بطرد المحتل، وتحرير الأرض، وحشد كل الطاقات والإمكانات لذلك. وقد تحقَّق انجاز التحرير عام 2000 الذي انعكس على كل الواقع اللبناني، وجعل العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحمل هموم وقضايا الناس أموراً نافعة ومؤثرة. تبقى المقاومة أولوية بوتيرة تنسجم مع طبيعة كل مرحلة، وترتبط باستمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من ناحية، ووجود اسرائيل كمحتلٍ للأرض الفلسطينية يمثِّل خطراً حقيقياً وتهديداً دائماً بالحرب والقتل ومحاولة فرض الحلول السياسية للسيطرة على المنطقة من جهة أخرى.


أخطأت الدوائر الغربية بسعيها لعرض مقايضةٍ على الحزب، بالتخلي عن المقاومة مقابل إعطائه دوراً سياسياً فاعلاً في الحياة اللبنانية، لأنَّ الحزب بإيمانه مقاومٌ وسياسي، وله مشروع متكامل، ويعمل كما تعمل الأحزاب في ساحاتها، ويعتبر مقاومته جزءاً من أهدافه وبرامجه، وهو لا يبحث عن دور سياسي ممنوح، فدوره يتشكَّل من خلال نشاطاته وقناعة الناس بأهليته لقيادتها. وعندما لا يستثمر نجاحه المقاوم في تحقيق إنجازات سياسية داخلية، فلأنَّه مقتنع بأنَّ مسار المقاومة له مستلزماته ونتائجه، ومسار العمل السياسي له مستلزماته ونتائجه،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

155

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ولا يصح استخدام قوة المقاومة لفرض شروط سياسية في الداخل.فمن وجهة نظر الحزب يجب احترام آليات العمل السياسي وخياراته السلمية بعيداً عن السلاح والقوة والفرض. وعندما يضحي الحزب ببعض المكتسبات السياسية لمصلحة العمل المقاوم، فلا يرتبط الأمر بالمقايضة، وإنما بأولوية المقاومة لديه، لإيمانه بأنَّ نتائج عملها أوسع وأشمل وأكثر فائدة وانعكاساً لمصلحة رؤيته ومصلحة البلد بشكل عام. ومع ذلك فإنَّ حضوره السياسي والشعبي يزداد بشكل كبير، ويترك بصماته بوضوح على الحياة السياسية والعامة في لبنان.

 
حزب الله ليس تنظيماً للطائفة التي ينتمي إليها الغالبية الساحقة من أفراده والمؤيدين المباشرين لخطِّه ومنهجه، بل مشروعٌ مبدئي يلتزم الإسلام. إنَّه حزبٌ إسلامي، انضم إليه من يؤمن بمشروعه، ومن الطبيعي أن يكون الأغلب الأعم من طائفة محدَّدة، لأنَّ خيارات الناس في الأفكار المبدئية تتأثر بشكل كبير بالبيئة التي نشأوا فيها وترعرعوا عليها، وعادة ما تكون التحولات في أي بيئة مغايرة بطيئة وطويلة الأمد.
 
وبما أن الحرية متاحة لكل فرد في المجتمع أن يؤمن بالمبدأ الذي يراه، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بعدم إكراه أحد على الالتزام بالدين، أو اختيار المنهج الذي يريده، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

156

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 َ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1، فقد دعا الحزب الراغبين المؤمنين بمبدئه للانتماء إليه ونصرته، ولا علاقة له بالخيارات الأخرى لدى بعض الناس، والتي تُترجَمُ أحزاباً وحركاتٍ وتجمعات، تطرح قناعاتها ومشاريعها لجذب الناس إليها، فحرية الاختيار حقٌّ مشروع للجميع من دون استثناء وفي كل الاتجاهات.

 
إنَّ الدعوة الى الإسلام جزء لا يتجزأ من رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا وضَّح القرآن الكريم دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الدعوة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾2، وأمر المؤمنين بالسير على خطاه، على أن يلتزموا في دعوتهم الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾3، انسجاماً مع سياق عدم الإكراه، وعرض المشروع الإلهي على الناس ليتبيَّنوا ويفكروا ويختاروا، وهكذا اختار حزب الله أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ دعوته، بالأسلوب الأمثل، بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى جانب جهاده في سبيل الله تعالى.
 
 

1- البقرة: 256.
2- الأحزاب: 45- 48.
3- النحل: 125.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

157

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وعندما نتحدث عن حزب الله كحزب إسلامي، فهذا لا يعني وجود صورةٍ واحدة في العالم عن الحزب الإسلامي لتنطبق عليه. فقد تفاوتت الأحزاب الإسلامية كثيراً، ماضياً وحاضراً، في مشروعها السياسي، وآليات عملها، وأولوياتها في بلدانها، وتعاطيها مع الأمة الإسلامية على امتداد العالم، ونظرتها إلى أوطانها، وأساليب تعبيرها... فأصبح لا يجمعها إلاَّ عنوان الإسلام، بينما تفرِّقها المضامين والطروحات التي تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.


فمن الأحزاب الإسلامية من يرى وجوب فرض الحكم الإسلامي بالقوة العسكرية، وقتل المخالفين القريبين قبل الأعداء، وأن حزبهم يمثل الفرقة الناجية، أمَّا الباقون فهم كفارٌ أصليون أو مرتدون عن الإسلام، وأنَّ فريضة الجهاد مسؤوليتهم لإقامة الحكم الإسلامي بالقوة في مواجهة مخالفيهم وأعدائهم.

ومنها من يرى وجوب النأي عن العمل السياسي، وترك الأمر للحكام، والاكتفاء بالدعوة الثقافية التربوية إلى الإسلام، وتكثير المؤمنين، والمحافظة على التزامهم الديني بعيداً عن الحكم والسياسة.

ومنها من يرى وجوب الجهاد لمواجهة الأعداء والمحتلين، على أن يكون العمل الدعوي والسياسي في بلدانهم بطريقة الإقناع والعمل الهادئ البنَّاء، فلا قتال لفرض الدين أو الحكم الإسلامي.

ومنها من لا يرى ضيراً في أن يكون في كنف الاستكبار العالمي ليصل إلى مبتغاه، على قاعدة أنَّ الغاية الشريفة تبرر أي وسيلة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

158

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وأن خدمة الدين تتم بكل الوسائل والأساليب المتاحة.


ومنها من يحمل آراء أخرى لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، كي لا نخرج عن سياق بحثنا. لكنَّ الواضح هو عدم وجود تصور واحد للحزب الإسلامي. ولذا يصبح الحديث عن حزب الله بخصوصيته أجدى للتعريف عنه وعن رؤيته، بدل الإسقاطات الفكرية أو السياسية التي تتم استعارتها من هنا وهناك، والتي تعطي عنه صورة غير واقعية.

تعددت المذاهب الإسلامية بسبب الاختلاف في تفسير أصول الدين وفروعه. ومع أن المشتركات بينها كثيرة جداً، إلاَّ أن اعتبار كل مذهب تفسيره هو الأصح، والمبرئ للذمة أمام الله تعالى، والمنسجم مع ما أمر الله تعالى ونهى، جعل المذاهب حالة واقعية متجذِّرة، فيما يعتبر دعاة كل مذهب - بحسب علمائه ومؤيديه - أنَّه الطريق الأسلم للالتزام الدقيق بالمنهج الإلهي وهو الإسلام.

يلتزم حزب الله كحزب إسلامي المذهب الشيعي "الإثني عشري" كطريق لتطبيق تعاليم الإسلام، متقيداً بمبانيه وأحكامه في أصول الدين وفروعه، أي في العقيدة والشريعة. وكما ذكرنا سابقاً، فإنَّ من العقيدة الإيمان بالله تعالى، الذي أرسل رسله إلى الناس ليؤمنوا برسالاته، وآخرهم سيد الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أتى برسالة الإسلام، وهذا ما يؤسِّس لتبني الشريعة الإسلامية التي فيها العبادات والمعاملات، وتتضمن قواعد وأحكام النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على مستوى الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

159

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 مرجع التقليد


إنَّ مهمة العلماء الفقهاء تحديد وتبيان أحكام الشريعة، من خلال إطلاعهم ودراستهم وبحثهم في كتاب الله تعالى القرآن الكريم، والسنة الشريفة بما فيها من قول وفعل وتقرير، للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة المعصومين عليهم السلام. فهم الذين يجتهدون لتفصيل الأحكام الشرعية بأقسامها الخمسة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح، ليكون المكلَّف، رجلاً أو امرأة، عارفاً بالحلال والحرام، مدركاً مسؤوليته تجاه الأعمال والوقائع المختلفة. وبما أنَّ عدداً من الفقهاء قادرٌ على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فهؤلاء مجتهدون، ومن أجل مركزة الآراء الاجتهادية بما يحقق الاطمئنان لدقة وسلامة الاجتهاد، فقد أجمع الفقهاء تقريباً على أن يتصدَّى أعلم المجتهدين، ليكون المرجع الذي يعود الناس إليه فيقلدونه، ويأخذون منه الفتاوى والأحكام الشرعية. ولذا أصبح مصطلح "المرجع الأعلى" أو "مرجع التقليد" يرمز إلى أعلى الفقهاء رتبة علمية تجعله مرجعاً للمكلفين، "مُقلَّداً" منهم، يعودون إليه لمعرفة تكليفهم بحسب الأحكام الشرعية. وعندما يختلف العلماء في تحديد الأعلم المتصدي لشؤون المرجعية، يتعدد المراجع، وكذا عندما لا يقول بعضهم بتصدي الأعلم، فيتصدى غير الأعلم، يتعدد "المقلَّدون".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

160

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وبما أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع وأكملها، أتمَّ الله تعالى النعمة بها، ورضيها للناس، وجعلها خالدة باقية ما بقيت الحياة، محفوظة عن التحريف، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1، وهي التي تعالج ثوابت الفطرة الإنسانية، وتضع القواعد والحلول المرنة للمتغيرات، ما يجعل الحاجة إليها مستمرة في كل زمان ومكان.

 
وبما أنَّ تغير الزمان والظروف سيُنشئ متطلبات جديدة في حياة الناس، وأسئلة مستحدثة حول الأحكام الشرعية، كما أنَّ تطور الفهم البشري سيؤدي إلى استيعاب أفضل لمضمون الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن المعصومين، فضلاً عن تراكم الخبرة واتساع المعرفة في تسليط الضوء على جوانب جديدة أو فهمٍ أفضل لحدود بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ الحاجة إلى " مرجع التقليد" الحي في كل زمان تصبح ضرورية، كي لا يجمَّد التشريع مقتصراً على حقبة زمنية بخصوصياتها من دون غيرها. لذا بقي باب الاجتهاد مفتوحاً، ورجَّح الفقهاء ضرورة عودة المكلفين في كل زمان إلى مرجع زمانهم الأعلم لتقليده، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلِّدوه"2.
 
تحديد المرجع في زمانه مرتبطٌ بعلمه وتصدِّيه للمرجعية، فعلمه
 
 

1- الحجر: 9.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص: 131.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

161

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 بالشريعة وتقواه يؤهلانه لأن يلتزم المؤمنون باجتهاده في "المسائل العملية" التي يحتاجها المكلَّف، على امتداد الكرة الأرضية، ولا توجد أي أهمية لمكان ولادة المرجع أو جنسيته، فهو يبيِّن الأحكام الشرعية للمكلفين، ولا يقدم لهم قوانين وأنظمة بلد معين، ولا ينظم شؤونهم في منظومة حزبية أو هيكلية تنظيمية مرتبطة به، وإنما يرتبطون به بما يعرِّفهم تكليفهم، ليديروا شؤونهم في بلدانهم ومواقعهم المختلفة، داخل العائلة أو العمل أو الحياة العامة، وعلى مسؤوليتهم، وبمعنى آخر: المرجع يبيِّن لهم طريق الحلال والحرام المفصَّلة بالأحكام الشرعية، والمكلَّف ينفِّذ على مسؤوليته في هذا الإطار. فالمرجع في زمانه مرجعٌ لأهل الزمان في كل البلدان، وذلك لمن اختار مرجعيته وآمن بها.

 
دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وامتداد الولاية: الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيٌّ معصوم، بلَّغ رسالة الله تعالى إلى البشرية وهي الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾1، وهو القدوة التي علينا الاحتذاء بها، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾2. وقد عمل من موقعة كداعية إلى الله تعالى، وكقائد للأمة في شتى المجالات. فعلَّم المؤمنين وربَّاهم على رسالة الإسلام، وعرَّفهم الأحكام الشرعية في عباداتهم ومعاملاتهم، وطلب منهم أن يلتزموا ما التزمه، فقال لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"3،
 
 
 

1- الحشر: 7.
2- الأحزاب: 21.
3- صحيح البخاري، ج1، ص: 155.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

162

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "خذوا عني مناسككم"1، وهذَّب أخلاقهم، وبشَّرهم بالجنة، وأنذرهم من النار، كل ذلك في إطار دعوتهم إلى الله تعالى. كما قادهم في بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فكان رئيساً لأول دولة إسلامية، وقادهم في الغزوات والحروب والدفاع في وجه المعتدين على الدولة الناشئة، كل ذلك في مشهد متكامل ومترابط، ومنسجم مع الإسلام الذي لا يفصل بين العبادة والسياسة، بين الحياة الخاصة والعامة، ما يشمل مناحي الحياة البشرية في جوانبها كافة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم داعيةٌ وقائد.

 
يؤمن المسلم بأنَّ الولاية لله جلَّ وعلا، أيَّ أنَّ الآمرية والنهي له، قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾2، وأنَّ الله يرعى المؤمنين برحمته، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾3.
 
الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متصلة بالولاية لله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليُّ الذين آمنوا، وهو المُرسَل من الله تعالى إليهم، ويبلِّغهم عنه جلَّ وعلا، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه في أمورهم وقضاياهم ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
 
 

1- شرح مسلم للنووي، ج8، ص: 220.
2- البقرة: 257.
3- النساء: 59.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

163

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 يعتقد الشيعة بالإمامة بعد النبوة، وأنَّ الإمام معصوم كعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنَّ الوحي مختصٌّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فما يقوله الإمام أو يفعله من موقعه ودوره كمعصوم لا يأتيه عن طريق الوحي، وإنَّما مما علَّمه وبيَّنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليه السلام، وعلَّمه الإمام للذي يليه، ومن إلهام الله تعالى وهدايته التي تصل إلى عقله وقلبه بإرادة الله تعالى، فقوله وفعله وتقريره نصوصٌ وأحكام شرعية، توضِّح وتفصِّل وتبيِّن ما يحتاج إلى المكلفون في العقيدة والشريعة..

 
تجسَّدت الإمامة بسيد الأئمة وأولهم ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ونزل في إمامته قرآن كريم، كالآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾1، وقصتها أنَّ الإمام علياً عليه السلام كان راكعاً أثناء الصلاة في المسجد، فدخل فقير يطلب صدقة، فأشار الإمام إليه بإصبعه أثناء الركوع ليأخذ خاتمه، ونزلت الآية الكريمة بهذه المناسبة تتحدث عن الولاية لله تعالى، والولاية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والولاية للذين آمنوا، والمقصود من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذه الآية الكريمة، بحسب حادثة نزولها، هو الإمام علي عليه السلام، فتكون الولاية لعلي عليه السلام، من ضمن منظومة تربط المؤمنين بالولاية بخطٍّ يمثلهم
 
 
 

1- المائدة: 55-56.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

164

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ويجمعهم هو حزب الله، على قاعدة الولاية لله ولرسوله وللأئمة المعصومين.

 
وفي آخر حج للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت الله الحرام قبل وفاته، "حجة الوداع"، وبعد انتهاء مناسك الحج، دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى الاجتماع قبل أن يتفرقوا للعودة إلى ديارهم في مكان اسمه "غدير خم"، وخطب فيهم بإعلانٍ صريحٍ لولاية علي عليه السلام على المسلمين من بعده. وقد ورد في مسند أحمد، عن البراء بن عازب، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا، الصلاةُ الجامعة، وكُسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي عليه السلام، 
 
فقال: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ 
قالوا: بلى. 
قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ 
قالوا: بلى. 
قال: فأخذ بيد علي عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعليُّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
قال: فلقيه عمر بعد ذلك،فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة"1.
 
وفي رواية أخرى: "اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من
 
 

1- الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج4، ص: 281.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

165

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب"1

 
الولاية للإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللإمام الذي يليه من بعده. أمَّا مجموع الأئمة عليهم السلام فهم اثنا عشر إماماً، ففي صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم صلى الله عليه وآله وسلم بكلمةٍ خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: كلهم من قريش"2.
 
وعن سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال:"دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا بالحسين عليه السلام على فخذه، وهو يقبِّل عينيه ويلثم فاه ويقول: أنت سيد ابن سيد، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمة، أنت حجة الله وابن حجته، وأبو حجج تسعة، من صلبك تاسعهم قائمهم"3. وقد نص كل إمام على الذي يليه من بعده، ليتسلم الإمامة، ويكون ولياً للمسلمين في زمانه:
 
1- أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام.
2- الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
3- الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
4- علي بن الحسين عليه السلام (زين العابدين).
5- محمد بن علي عليه السلام (الباقر).
 
 

1- الشيخ الأميني، الغدير، ج1، ص:11.
2- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، ج6، ص: 3.
3- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص: 262.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

166

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 6- جعفر بن محمد عليه السلام (الصادق).

7- موسى بن جعفر عليه السلام (الكاظم).
8- علي بن موسى عليه السلام (الرضا).
9- محمد بن علي عليه السلام (الجواد).
10- علي بن محمد عليه السلام (الهادي).
11- الحسن بن علي عليه السلام (العسكري).
12- محمد بن الحسن عليه السلام (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ).
 
أول الأئمة عليهم السلام علي عليه السلام، ثم ولداه الحسن فالحسين، ثم الأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين عليه السلام يتسلم كل إمام عن أبيه، إلى خاتم الأئمة الثاني عشر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي غاب عن الأنظار في سنة 329 هـ، ثم يظهر في يوم من الأيام في آخر الزمان ليكون الولي القائد للأمة، وبذلك تكون الساحة قد فرغت من قيادتها المعصومة الظاهرة منذ سنة 329هـ. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً، تكون له غيبةٌ وحيرة، تضلُّ فيها الأمم، ثمَّ يُقبل كالشهاب الثاقب، يملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً"1.
 
انسجاماً مع دور الولاية في التشريع الإسلامي، ومع غياب الإمام المعصوم، تنتقل الولاية إلى الفقيه، فلا بدَّ من وجود وليٍّ يقود الأمة
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص: 286.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

167

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ويوجهها كجماعة وأفراد. يترتَّب على هذا الإيمان: أنَّ الولاية لله تعالى أولاً، ثم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم للإمام عليه السلام، ثم للفقيه العالم الكفوء العادل العارف بالزمان، والقادر على الإدارة، والمتصدي لشؤون الأمة.

الولاية الخاصة والولاية العامة

حصل خلاف حول دور الفقيه سعة وضيقاً، فمن الفقهاء من قال بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية المحدودة تنفيذياً وإدارياً في الأمور التي لا يرضى الشارع المقدس باهمالها وتركها، ولا بدَّ من القيام بها رعاية لشؤون المسلمين ومصالحهم، كالولاية على أموال اليتيم، وأموال الغائب، والأوقاف والوصايا التي لا وصي عليها، وكل ما من شأنه أن يحتاج إلى متابعة ورعاية وإجراء لعدم وجود الولي المباشر كالأب والوصي، وتسمى هذه الأمور بـ "الأمور الحسبية" التي يحتسب فيها الفقيه أجره على الله تعالى، ولا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها، فيقوم بها حفظاً للانتظام العام. فعلى هذا المبنى، ولايةُ الفقيه الخاصة ولايةٌ ضيقة ومحدودة تنفيذياً، وإن كان الفقيه معنياً بتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، وهذا ما قام به مراجع التقليد من بداية عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكتبوا "الرسائل العملية" التي تحدد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وأصدروا الفتاوى في المسائل الخاصة أو المستحدثة، واستلموا أموال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

168

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الخمس والزكاة والكفارات، وصرفوا الأموال الشرعية على الفقراء والمساكين والحوزات الدينية والتبليغ والأعمال الاجتماعية والثقافية والخيرية العامة، وأشرفوا على الأمور الحسبية.

 
ومن الفقهاء من قال بولاية الفقيه العامة، وهي الولاية المطلقة تنفيذياً وإدارياً، والتي تتضمن كل ما ذكرناه عن الولاية الخاصة وتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، يُضاف إليها إدارة شؤون المسلمين على مستوى كل الأمة في السياسات العامة، وتحديد المصالح والأولويات والواجبات، والأمر بالجهاد أو عدمه، وكيفية تعاطي جماعة المسلمين مع أحكام الإسلام في بلدانهم، على ضوء الواقع المحلي والدولي.
 
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "المراد بالولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط هو أنَّ الدين الإسلامي الحنيف - الذي هو خاتم الأديان السماوية، والباقي إلى يوم القيامة - هو دين الحكم، وإدارة شؤون المجتمع، فلا بد أن يكون للمجتمع الإسلامي بكل طبقاته ولي أمر، وحاكم شرع، وقائد ليحفظ الأمة من أعداء الإسلام والمسلمين، وليحفظ نظامهم، وليقوم بإقامة العدل فيهم، وبمنع تعدي القوي على الضعيف، وبتأمين وسائل التقدم والتطور الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والازدهار لهم"211.
 
 

1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:24.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

169

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني قدس سره وكأنَّها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأنَّ علماء كباراً في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الكلبايكاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنَّ الظروف التاريخية للعلماء والمؤمنين لم تكن سانحة في السابق للتعبير عنها عملياً وبشكل واسع، وحتى في الأطر الأضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإِعْمال ولايتهم، فالأمر لا يقتصر على وجود المؤهَّل لولاية الأمر أو القناعة بها، بل يستلزم وجود المؤمنين الموالين الذين يستطيعون تطبيق أوامر ونواهي ولي الأمر في حياتهم العامة. 


والذي أدَّى الى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني قدس سره، سببان رئيسان:

الأول: مستوى الاهتمام بها من قِبَله، وتفصيلها في مجموعة من المحاضرات التي ألقاها أثناء نفيه في النجف الأشرف، والتي بيَّن فيها رؤيته عن ولاية الفقيه، وقد جُمعت في كتاب "الحكومة الإسلامية".

الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

170

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الإسلامية في إيران، وكتابةُ دستورٍ مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.

 
إنَّ تصدي الإمام الخميني قدس سره لولاية الأمر لم يسبقه مثيل منذ زمن الأئمة عليهم السلام. وقد حاز على الموقع بأهليته وجدارته الفقهية والسياسية. وليس كل من تصدى بعنوان الولاية أو الخلافة أو الإمارة يستحق هذا الموقع بمجرد تصديه، وليس الولي على الشريعة من يحكم المسلمين كيفما كان براً أو فاجراً، فالأمر منوط- بحسب هذا المنهج- بمن يملك التقوى والكفاءة العلمية والقيادية.
 
صلاحيات الولي الفقيه: يُبيِّن الإمام الخميني قدس سره رؤيته في ولاية الفقيه، فيقول: "فتوهُّم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهُّم خاطئ وباطل. نعم إنَّ فضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد أعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعيِّن شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالِم العادل"1.
 
 

1- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص:86.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

171

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 إنَّ صلاحية الولي الفقيه هي كصلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلاحية الإمام عليه السلام، انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته في قيادة الأمة، وهو موقع تنفيذي، له صلاحية الإدارة والآمرية الكاملتين، ولا يوجد ربط بين هذه الصلاحية والوحي، فالوحي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، والإلهام للإمام عليه السلام، والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة للفقيه في تحديد الأحكام الشرعية. إذاً الصلاحية ملازمة للقيادة، أمَّا المكانة والفضائل فيتمايز بها البشر، وهي مسألة أخرى لا علاقة لها بصلاحية قيادة الأمة.

 
وبما أنَّ الاجتهاد المؤدي إلى تحديد الأحكام الشرعية الفردية لا يكفي لإدارة شؤون الأمة، يقول الإمام الخميني قدس سره : "لا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار، فإن مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية، ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"1. فالاكتفاء بمرجع التقليد لا يملأ الفراغ في إدارة شؤون الأمة، لذا تكون الحاجة قائمة للولي الفقيه الذي حصل على درجة الاجتهاد، وتصدَّى لإدارة هذه الشؤون،
 
 
 

1- منهجية الثورة الإسلامية، ص: 163.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

172

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 سواءً أكان مرجع التقليد نفسه الذي يجمع بين المرجعية والولاية، أو كان مرجع التقليد شخصاً آخر، في تمايزٍ واضح بين المهمتين، مع أنَّ الجمع أفضل عند توفره في شخص الفقيه الواحد، هذا ما حصل مع الإمام الخميني قدس سره، وما هو حاصلٌ اليوم مع الإمام الخامنئي دام ظله، لمن آمن بولاية الفقيه العامة والتزم بها.


ينطلق الولي الفقيه من رؤيته الإسلامية لرسم السياسات العامة للأمة، ووضع الحلول المناسبة لقضاياها ومشاكلها، بما يحفظ قوتها واستقرارها وحريتها وازدهارها، وهو الحكيم الذي يعطي أحكاماً تتناسب مع متطلبات الواقع ولا تكون تجريدية، وهو العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويتصرف بما يواكب الفطرة الإنسانية، وهو المنصف الذي يراعي متطلبات الانتظام الإنساني في ظل الخلافات العقائدية والفكرية بين الناس، وهو الحصيف الذي يتخذ الموقف السليم على ضوء الظروف الموضوعية التي تعيشها الجماعة الملتزمة ولايته في أي بلد من بلدان العالم، وهو الذي لا يأمر المكلفين بما لا يستطيعونه بحسب قدرتهم وخصوصية ظروفهم. فالولي الفقيه قائدٌ، عاقلٌ، حكيمٌ، عادلٌ، منصفٌ، حصيفٌ، موضوعي، يقود بناء لضوابط إيمانه وتقواه وكفاءته وخوفه من الله تعالى ورعايته لمصالح المكلفين.

يقرِّر الولي الفقيه التوجهات العامة، والسياسات الإجمالية الكبرى، ويرسم حدود وضوابط الجهاد في حماية الأمة من أعدائها والدفاع عن أوطانها، ويعيِّن ضوابط المشاركة السياسية المشروعة وحدودها، ويحث
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

173

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 على الدعوة والتبليغ لنشر الإسلام، ويحكم بكل ما من شأنه أن يكون قاعدةً أو موقفاً عاماً شاملاً وذلك بتحديد معالمه الكبرى والأساسية، ما يشكل أهدافاً ومساراً للمؤمنين بولاية الفقيه. لكنَّه لا يتدخل في الجزئيات والتفاصيل، ولا يتدخل بالإدارة المباشرة، ولا يتجاوز خصوصيات المؤمنين في بلدانهم، فقراراته أسس وقواعد، ولكل جماعة قيادتها الميدانية، وآليات عملها، وتعبيرها عن آرائها وقناعاتها، وكيفية نشاطها السياسي، وإعدادها العدة لمواجهة العدو والمحتل، وهيكليتها التنظيمية والإدارية، ومتابعة قراراتها والتزاماتها، وكيفية المشاركة بعد الحكم بمشروعيتها وفي حدودها، في تركيبة النظام السياسي القائم... فالسياسات العامة التي يرسمها الولي الفقيه إطارٌ للمشروعية الدينية لعمل حزب الله، أمَّا الأداء والتحرك السياسي والجهادي والاجتماعي وكل حركة الحزب فمسؤولية قيادة حزب الله المنتخبة من كوادره، وهي الشورى التي يرأسها الأمين العام، ضمن آليات العمل الحزبية في توزيع المهام والصلاحيات.


الإيمان بولاية الفقيه

ما هو موقع من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة من الفقهاء والمسلمين؟

يقول الإمام الخامنئي دام ظله : "ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق الاثني عشري، ولها جذور في أصل الإمامة، ومن أوصله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

174

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الاستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف"1.

 
ويقول: "عدم الاعتقاد اجتهاداً أو تقليداً بولاية الفقيه المطلقة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا فداه)، لا يوجب الإرتداد والخروج عن الإسلام"2.
 
فمن آمن بولاية الفقيه التزمها، ومن لم يؤمن بولاية الفقيه معذور اجتهاداً إذا كان فقيهاً، وتقليداً إذا كان مكلفاً مقلِّداً، ولكنَّه مسؤول شرعاً كفقيه أو مقلِّد في إطاعة أوامر الولي الفقيه في قضايا المسلمين العامة، ذلك أنَّ الولي الفقيه هو المتصدي، ولا محل لرأي فقيه آخر يعارضه في التصدي لبعض الشؤون العامة طالما أنه ليس المتصدي الأول والقائد المسؤول، ولا يملك صلاحية الرفض أو المواجهة أو توجيه مقلديه في مرجعيته إلى مخالفة الولي الفقيه المتصدي لشؤون الأمة، فهو ليس مسؤولاً عنها بحسب موقعه، ولا يملك الصلاحية لذلك، فإذا تدخَّل مخالفاً اختلَّ النظام العام مع المخالفة، وتبعثرت قدرة الأمة، وضاعت في تحديد مسؤولياتها وأولوياتها تجاه القضايا العامة المختلفة.
 
وفي تفصيل وتوضيح صورة وجوب التزام الفقهاء وعموم المقلِّدين طاعة الولي الفقيه، يبيِّن الإمام الخامنئي دام ظله هذا الأمر في عدة نصوص نذكرها للفائدة:
 
 

1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:23.
2- المصدر نفسه، ص:22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

175

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 1- "طبقاً للفقه الشيعي، يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً للفصل عن الالتزام بالاسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام "1.

 
2- "يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين"2.
 
3- "اتِّباع حكم ولي أمر المسلمين واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالِفة أن تعارضه"3.
 
4- "رأيُ ولي أمر المسلمين هو المتَّبَع في المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلف يمكنه اتباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة"4.
 
توجد نظريات إسلامية أخرى مختلفة عن نظرية ولاية الفقيه في إدارة شؤون الأمة، فبعضهم يعتبر الحاكم باسم الإسلام ولياً للأمر
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص:23.
2- المصدر نفسه، ص:21.
3- المصدر نفسه، ص:21.
4- المصدر نفسه، ص:20.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

176

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ولو لم يكن مجتهداً، وذلك بمجرد تنصيبه وإعلانه الالتزام بالأحكام الإسلامية في شؤون الدولة، وهو غير الفقيه في الدولة. وبعض الآخر يدعو إلى نظام الخلافة على أن تكون البيعة لولي الأمر من خلال "أهل الحل والعقد". وبعض ثالث يدافع عن الوراثة التي نشأت في التاريخ الإسلامي لاهتمامه بعنوان الحكم الإسلامي بصرف النظر عن شخص الولي الحاكم. وتوجد آراء أخرى في هذا المجال، لا إمكانية لعرضها ومناقشتها في هذه الدراسة المختصرة، كي لا نخرج عن هدفنا في الإكتفاء بعرض رؤيتنا عن دور الولي الفقيه.

 
معنى الأمة
 
استُعملت كلمة "الأمَّة" في معانٍ كثيرة، ولعلَّ أبرزها أحد استعمالات القرآن الكريم، التي عبَّر عنها بجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام بصرف النظر عن مكان ولادتهم أو إقامتهم أو لغتهم، فهم يشكلون "الأمة الإسلامة"، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾1. وقال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾2. فالجامع للأمة الإسلامية هو إيمانها بالإسلام.
 
ويمكن إطلاق كلمة "أمة" على قواسم مشتركة أخرى، كأن تُطلق على قوم يتحدثون لغة واحدة فنقول:"الأمة العربية"، ونقصد بها من يتحدث اللغة العربية، أو نُطلقها على سكان بلد ما، فنقول "الأمة الفرنسية"،
 
 
 

1- الأنبياء: 92.
2- المؤمنون: 52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

177

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ونقصد بها من يعيشون في داخل الوطن الفرنسي، وهكذا نستفيد من لفظة الأمة بحسب القيد الذي يحدد معناها، وعليه فعندما نقول "الأمة الإسلامية" فإننا نقصد أولئك الذين يؤمنون بالإسلام.


لم تكن الحاجة موجودة سابقاً للتفريق بين مصطلح "الأمة الإسلامية" و "الوطن الإسلامي"، بسبب حكم الإسلام على امتداد العالم الإسلامي، فكان المصطلحان يؤديان معنىً واحداً، ولكن مع تفكك الدولة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بانتهاء الخلافة العثمانية، ثم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول متعددة، واختيار هذه الدول لأنظمة حكم غير إسلامية، أكانت رأسمالية أو شيوعية أو خليطاً إستنسابياً من هنا وهناك، أصبحنا أمام واقع جديد وهو انتشار المسلمين في بلدان مختلفة، ووجود أنظمة حكم متباينة، ووجود خلاف بين المسلمين حول العودة إلى الإسلام أو القبول بنظام الحكم القائم في البلد أو الإيمان بأنظمة أخرى، كما تمايزت البلدان بين كون سكانها من مذهبٍ واحد أو طائفة واحدة أو مذاهب وطوائف متعددة.

أصبحنا أمام أوطان لها حدود جغرافية، يقطنها مواطنوها، وتحكمها دساتير وقوانين تم تثبيتها بظروف خاصة بكل بلد، فلكل وطن نظام يحكمه، والمواطنون في داخله لهم حقوق وواجبات على أساس هذا النظام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

178

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 نظرتنا الى الوطن

 
الوطن تعبير عن دولة يعيش فيها شعب ضمن حدود جغرافية، وتتبنى نظام حكمٍ له دستور وقوانين، بصرف النظر عن كيفية تثبيت هذا النظام في بداية تَشَكُّل الدولة أو في مراحلها المختلفة، بحيث يعيش الناس تحت سقف هذا النظام، سواء وافقوه أو اعترضوا عليه، ولكن لا يملك أحد صلاحية أن ينكر مواطنية من وُلِد في هذا الوطن، فهو حقُّ قهري لا يمكن انتزاعه، والوطن لأبنائه.
 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حب الوطن من الإيمان"1. فالوطن أرضٌ حضنت ولادتنا، وفيها ذكريات وتضحيات الآباء والأجداد، ومنها الخيرات، وفيها السكن وتربية الأولاد، فهي المستقر الدنيوي مع الأهل والأحبة وتمضية الحياة، وهذا ما يولِّد علاقة عاطفية مشروعة، وبالتالي فإن الفطرة الإنسانية تدفع لحب الوطن والدفاع عنه. والإسلام يحثنا على ذلك، فلا تعارض بين حب الوطن والإيمان بالإسلام، ولا تنافر بين الوطن والعلاقة مع الأمة. فإذا ما اعتدى الأعداء على وطننا أو أرادوا أن يخرجونا منه ليحتلوه، فإنَّ علينا واجب الدفاع عنه لمنعهم وطردهم، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ
 
 
 

1- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3566.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

179

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌَ﴾1، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله عزَّ وجل يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يقاتل"2، فالقتال والتضحية بالنفس دفاعاً عن الأرض دفاعٌ مشروع عن الحق، ويندرج تحت عنوان "سبيل الله تعالى".

 
شجَّعنا أمير المؤمنين علي عليه السلام على الاهتمام ببلدنا، فاعتبر خير البلاد بالنسبة إلينا ما حَمَلنا، قال عليه السلام: "ليس بلدٌ بأحق بك من بلد، خيرُ البلاد ما حَمَلك"3، وإنما تعمر البلاد بالحب، قال عليه السلام: "عمرت البلاد بحب الأوطان"4.
 
ومع أن العصبية مذمومة، لكنَّها تختلف عن حب المرء لقومه، فحب القوم ليس من العصبية بل المطلوب أن يحب المرء قومه. سئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن العصبية، فقال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن العصبية أن يُعين قومه على الظلم"5.
 
وفي توجيه أمير المؤمنين علي عليه السلام أثناء خلافته لواليه على مصر مالك الأشتر، أمره بأن يتعامل مع الناس على أساس وجودهم كرعيةٍ في
 
 
 

1- الحج: 39-40.
2- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3568.
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص: 208.
4- النمازي الشهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج10، ص: 375.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 309.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

180

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 بلد واحد، يشتركون في الحقوق والواجبات، ولا يحق له أن يعاملهم على أساس انتمائهم الديني، فقال: "وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخلق، يفرطُ منهم الزَّلل، وتعرضُ لهم العِلل، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاَّك"1.

 
ينظر حزب الله الى الوطن كأرضٍ للآباء والأجداد والأجيال الآتية، وأنَّ جميع أبنائه معنيون به، فهو لهم جميعاً، وهذا ما بيَّنه في وثيقته السياسية التي أعلنها الأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصر الله في مؤتمر صحفي، بمناسبة المؤتمر الثامن للحزب وانتخاب الشورى الجديدة: "إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.
 
ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة" الصريحة أو المقنَّعة. ونريده
 
 
 

1- نهج البلاغة، ص: 672.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

181

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ1.

 
الولاء للوطن: الولاء للوطن يعني التمسك به، وعدم التخلي عنه، والدفاع عنه في مواجهة الأعداء والمحتلين، فالولاء محبةٌ وارتباط، وليس آمرية وطاعة، فالجغرافيا لا تأمر وتنهى. أمَّا الإيمان وما يتفرع عنه فهو التزامٌ بمسار في الحياة فيه آمرية وطاعة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تعارض أو تضاد بين الولاء للوطن وبين الإيمان الإسلامي أو الولاء للدين أو الولاية للفقيه أو أي قناعة أخرى يحملها المواطن، لأننا أمام سنخيّتين يتم الجمع بينهما بسهولة على ضوء رؤيتنا وإيماننا، فولاية الفقيه جزءٌ من ايمانٍ بمنهج، وهي ليست مقابل الولاء للوطن.
 
ولكن ألا يمكن أن تصدر توجهات عامة عن الولي الفقيه تتعارض مع الولاء للوطن؟
 
نعود إلى تفسير الولاء للوطن، فمحوره هو التمسك به، وهذا جزء من الإيمان بوجوب الدفاع عن الأرض وحمايتها. لكن إذا وسَّعنا التفسير، لنتحدث عما يمكن أن يسميه بعضهم "مصلحة الوطن"، سنكون أمام مجموعة من الأسئلة تتوجه إلى جميع القوى:
 
 
 
 

1- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،لبنان، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

182

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 1- من يحدِّد مصلحة الوطن؟


2- وهل توجد مرجعية سياسية تحسم تحديد المصلحة والأولويات عند الاختلاف ؟

3- وما هي المقاييس الموحدة التي تحدِّد هذه المصلحة؟

الواضح أن تقدير المصلحة مرتبط بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فهي المقياس لتحديد الإتجاه. وهنا تتباين القوى السياسية في تحديد مصلحة الوطن انسجاماً مع مواقفها، فمن يدعو إلى المقاومة ويعمل لها يعتبرها مصلحة للوطن ولأبنائه، ويطرح مبرراته للدفاع عن موقفه، ومن يرفض وجود المقاومة ويدعو إلى العمل الدبلوماسي يعتبر ذلك مصلحة للوطن ولأبنائه. بعضهم يدعو إلى علاقة مميزة مع دولة ما لنا مصالح مشتركة معها وننتفع منها ويرى ذلك مصلحة للوطن، وبعضٌ آخر يشدِّد على تقييد هذه العلاقة ويتطلَّع إلى دولٍ أخرى معتبراً مصلحة الوطن في الاحتماء بهذه الدول مقابل هذه الدولة. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟ أو من يحسم هذا الاختلاف؟ وهل يمكن العودة إلى مقاييس محددة لحسم الموقف الذي يؤدي إلى مصلحة الوطن؟

فلنحصر الحديث عن مصلحة الوطن بشكل أضيَق ومحدَّد، فإنَّ مصلحة الوطن أن لا يُستخدم لمصلحة أو خدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية. وهنا أيضاً تتباين القوى السياسية في مواقفها، وتنظِّر لها على أساس أنها مصلحة للوطن، رافضة أي اتهام لها بأنَّها تعمل لخدمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

183

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أوطان أخرى أو جهات خارجية، وتسوِّق موقفها على أنَّه المصلحة الأكيدة لوطنها. 


اختلفت القوى بشكل حاد في لبنان بين موالاة ومعارضة، فرأت الموالاة أنَّ تدخُّل أمريكا في مفردات الوضع اللبناني، وعملها للهيمنة على القرار السياسي اللبناني، ونصرة فريق على آخر من الموقع الدولي، وصرف المال الخليجي دعماً لها، هو لمصلحة لبنان وليس لمصلحة المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، أو لجعل لبنان تحت الوصاية الأمريكية. كما رأت المعارضة أنَّ دعم إيران وسوريا لحق لبنان في المقاومة، ووقوفهما إلى جانبه، ليس تدخلاً في الشأن اللبناني، بل لو قدَّمت دولٌ أخرى هذا النموذج من الدعم لقبلته، لأنَّ لبنان هو المستفيد الحقيقي من تحرير أرضه ومنع الوصاية عليه، وهذه هي مصلحة لبنان. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟

بما أنَّ تقدير المصلحة مرتبطٌ بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فسيبقى التباين قائماً في تقديرها بين القوى السياسية المختلفة ما دامت المواقف مختلفة.

نحن نؤمن بأنَّ ما يُصدره الولي الفقيه من توجيهات عامة ومن موقعه الديني الشرعي يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم، وبالتالي لا محلَّ للسؤال إن كان التوجيه يتعارض مع مصلحة الوطن! بل السؤال المطروح على الآخرين: ما هي الضمانات كي لا تؤدي رؤيتكم أو مواقفكم إلى التعارض مع مصلحة الوطن؟ وعندما يعبِّر الحزب عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

184

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 مواقفه فهو يتصرف من منطلق رؤيته، وبناءً لتقديره للمصلحة، فإذا كان الأمر يتعارض مع توجهات ومواقف قوى أخرى فهو خلافٌ في تقدير المصلحة والموقف السياسي، وفي النهاية يعود الحكم للناس ليقبلوا أو يرفضوا أي موقف من المواقف.


المشترك بين الأوطان: يتجاوز الإيمان بالمبدأ أو المنهج الأوطان، إذ يشترك المؤمنون به بقناعاتهم ونظرتهم إلى الأمور بشكل متشابه، فترى في كثير من الأحيان موقفاً واحداً من القضايا ذات الاهتمام المشترك، يظهر في التعبير عنه نظرياً وعملياً. ولا تمنع الحدود الجغرافية للوطن من الاشتراك عبر الأوطان برؤية موحدة، فالمسألة مرتبطة بالفكر والقناعات، ومَنْ ذا الذي يقول إنَّ هذا الاشتراك ضد مصلحة الوطن؟ وبما أننا نختلف فكرياً في داخل الوطن الواحد، وتتغاير مواقفنا من بعض القضايا، فإنَّ المشكلة هي في التباين الحاد والتغاير الذي يؤدي إلى التناقض، وليست في الاشتراك الفكري مع الآخرين عبر الأوطان، فالأساس هو الموقف السياسي الذي يتخذه كل فريق، ومدى تأثير الاختلاف الداخلي على مسار الدولة وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم.

لا يوجد أي تعارض بين اشتراك المختلفين في المنهج في أرضٍ واحدة ووطنٍ واحد يعيشون فيه كمواطنين، وبين الاشتراك والاتفاق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

185

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 بين مواطنين من بلدان مختلفة في حمل المنهج الواحد، والتماهي في الإيمان المشترك بينهم، ومناصرة بعضهم بعضاً في قضاياهم العادلة، بحسب ظروفهم الموضوعية، وذلك في كثير من الأحيان وبسبب الظروف المتشابهة، من وجودٍ للاستكبار العالمي يريد قهرنا والسيطرة على بلداننا ومقدراتها، ووجود أزمات مشتركة تتشابه فيها بلداننا، بحيث تتلاقى متطلبات وطننا مع متطلبات أمتنا، ويستفيد الوطن والأمة من المشتركات، ويتضرر الوطن والأمة من الأخطار والعدوان، كما في حالة إسرائيل التي لم تُبقِ وطناً في المنطقة إلاَّ وتضرَّر منها، فأوجدت لنا أزمة مفتوحة على الأمة الإسلامية، والأمة العربية، والأوطان المنتشرة حولها.

تطبيقات ولاية الفقيه

تتَّسع ولاية الفقيه لتشمل نظام الحكم بإدارة الفقيه، ولكنَّ تطبيقها بهذه السعة والشمولية يستلزم موافقة الناس على تبنيها لتكون حاكمة في بلدٍ ما، وأمامنا تجربتان للمقارنة والتوضيح:

1- تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي اختارت الإسلام كنظام حكم لها، واختارت الولي الفقيه كقائد أعلى، له صلاحيات واسعة في دستور الجمهورية الإسلامية لإدارة البلد وتحديد سياساتها وحربها وسلمها، ويتم انتخابه من مجلس الخبراء المنتخب من الشعب الإيراني. وبالتالي فإنَّ حاكمية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

186

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الولي الفقيه تحولت إلى قانون يلتزمه الشعب الإيراني، من دون فرق بين من آمن منهم بولاية الفقيه دينياً أو من لم يؤمن بها، فهذا هو دستورهم الذي صوتوا عليه واختاروه ناظماً لشؤونهم. أمَّا المؤمن بولاية الفقيه فقد حقَّق مراده وانسجم مع إيمانه ويطيع من موقع التزامه وعبادته، وأمَّا غير المؤمن بها، فهو يلتزم بها في إطار القانون، وقد يكون له رأي مخالف لها، لكن القوانين المرعية الإجراء تبقى حاكمة بسبب النظام العام، ولها آلياتها في التعبير والتغيير أو الثبات. فالولي الفقيه بالنسبة لإيران، قيادة شرعية وقيادة دستورية.


2- تجربة حزب الله - لبنان، الذي اختار الإسلام عقيدة وشريعة، وآمن بالولي الفقيه قائداً، والتزم بقيادة الولي الفقيه الذي رآه متصدياً لشؤون الأمة، والذي توفرت فيه الكفاءة والأهلية لهذا الموقع. جاء ذلك تلبية لإيمان الحزب بوجوب الالتزام الديني بالولي الفقيه، ليحصل على مشروعية عمله، وليعرف الأحكام الشرعية التي تُبرئ ذمة المرتبطين به بقيامهم بتكليفهم الشرعي. فالحزب بحاجة لمعرفة الواجبات والمحرمات في القضايا العامة التي تتطلب حكماً أو فتوىً أو أمراً من الولي الفقيه، ليكون منسجماً مع إيمانه.

التزم حزب الله بولاية الإمام الخميني قدس سره، ومن بعده بالولي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

187

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله، كحلقة من سلسلة الولاية التي تبدأ من الولاية لله تعالى، ثم الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الولاية للإمام عليه السلام، ثم الولاية للفقيه العالم العادل، وهو اختيار يحمِّل الحزب مسؤولية التزام أوامره من موقع الإيمان الديني. وبالتالي فالحزب لا يلتزم قيادة دستورية خاصة بإيران، بل يلتزم قيادة شرعية لا تحدها الأوطان، اتخذت نمطاً للإدارة والحكم، ولها نمط آخر في لبنان له علاقة بتبني حزب الله لقيادة الفقيه الشرعية. فالولي الفقيه بالنسبة إلى حزب الله قيادة شرعية. أمَّا ارتباط الآخرين من المؤمنين بولاية الفقيه في البلدان الأخرى، فعائدٌ إلى درجة إيمانهم بها وظروفهم، وإذا ما كانوا أفراداً أو علماء أو جماعات أو أحزاباً، كل ذلك في إطار تبرئة المكلفين لذمتهم الشرعية.

 
يؤمن حزب الله بولاية الفقيه، ولا يُلزم بها غيره، ولا أولئك المؤمنين بالإسلام والذين لا يؤمنون بولاية الفقيه، والأولى أن لا يُلزم بها من لا يؤمن بمشروع الإسلام، وهذا منسجم تماماً مع إيمانه بأنَّ الله تعالى لم يُكرِه أحداً على الإيمان: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾1، إذ يقتصر تكليفنا على دعوة الناس إلى ما نؤمن به، وهم أحرار في خياراتهم، وعلينا أن نتعامل معهم في الوطن الواحد على أساس أنَّنا مختلفون في الرؤية والمنهج بشكل
 
 
 

1- يونس: 99.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

188

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 عام، لكنَّنا نعيش في بلد واحد، وعلينا البحث عن القواسم المشتركة التي تمكِّننا من الاستمرار معاً، في إطار الشراكة والمسؤولية المشتركة في إدارة البلد وحمايته من الأعداء، وبما لا يتعارض مع ما نؤمن به، وفق منظومة تعاقدية، تتجسد في نظام الحكم القائم على الرضا بين أبناء الوطن الواحد، ولو كان بعنوان الحد الأدنى المشترك، وذلك لينتظم الاجتماع العام في لبنان مع وجود الاختلافات في الرؤية والمنهج.


لبنان ليس دولة إسلامية، وولاية الفقيه ليست جزءاً من دستورها. لبنان بلدٌ متعدد الطوائف، وله دستور وقوانين ناظمة لحكمه، والأصل أن يساهم حزب الله وجمهوره في بناء وإدارة هذا الوطن مع جميع أبنائه. وقد حكم الولي الفقيه بمشروعية عمل حزب الله ضمن واقع النظام القائم في لبنان، فالمشاركة في الانتخابات مشروعة وهي تعبِّر عن تمثيل الناس في البرلمان لحمل قضاياهم والدفاع عن حقوقهم وإقرار القوانين التي تحفظ مصالحهم، والمشاركة في الحكومة بشكل مؤثر مشروعة خاصة عندما تكون طريقاً للقرارات المصيرية والكبرى وما فيه مصلحة البلد، وللمشاريع والقوانين والقرارات والمراسيم التي تتعلق ببناء البلد والانتظام العام ومصالح الناس.

وافق حزب الله على العمل في إطار تنفيذ اتفاق الطائف الذي تحوَّل دستوراً، والذي شكَّل المخرج من الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت خمسة عشر عاماً من سنة 1975 إلى سنة 1990، ورأى أنَّ الملاحظات عليه يمكن متابعتها بحسب الآليات القانونية المعتمدة في الدستور، فهي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

189

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 لا تتطلب ولا تتحمل انقلاباً جذرياً عليها، وهذا لا يعني أنَّه الحل الأمثل، بل هو الحل الممكن في ظل تعقيدات الواقع اللبناني الداخلية والمؤثرات الإقليمية والدولية عليه، وحرصاً على الاستقرار السياسي والأمني الذي يتطلب قاعدة ارتكاز يُجمع عليها اللبنانيون. لكنَّ هذا لا يمنعنا من الدعوة إلى الأفضل، والاستفادة من الشريعة الإسلامية السمحاء، في إطار توافق مكونات المجتمع، بما يحافظ على الاستقرار وعدم العودة إلى الحرب الأهلية.

 
استقلالية لبنان: الوطن جامع لأبنائه، وكلهم مواطنوه، لكنَّ القناعات متفاوتة. وهذا حقٌّ مشروع في إطار حرية الإيمان والاعتقاد اللتين كفلهما الدستور، الذي ورد في مقدمته، الفقرة ط: "أرضُ لبنان أرضٌ واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها، والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماءٍ كان، ولا تجزئة، ولا تقسيم، ولا توطين"1.
 
وجاء في المادة التاسعة: "حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلالٌ في النظام العام،
 
 
 

1- الدستور اللبناني، ص: 8.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

190

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية"1.

 
وفي المادة الثالثة عشرة: "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، كلها مكفولة ضمن دائرة القانون"2.
 
المهم أن لا يتحول الخلاف العقائدي أو السياسي إلى تقاتل داخلي، لأنَّه يؤدي إلى خسارة الجميع. ولكن لا يوجد في الوطن من يمنح شهادة للآخرين في المواطنة الصالحة أو الوطنية، فالأعمال هي التي تدل على نفسها وعلى أصحابها. ولا يوجد في الوطن من يُعتبر مرجعاً لتحديد سلامة الرؤية أو التفكير المنسجم مع الولاء للوطن، طالما أن الآراء مرتبطة بالرؤى التي يختلف الناس عليها. تبقى قاعدة واحدة تساعد على ضبط الإطار الوطني العام، وهي الاحتكام إلى الدستور والقوانين لحل الخلافات وتحصيل الحقوق، وعدم اللجوء إلى القوة لتغليب رؤية جماعة على أخرى.
 
تشكَّل لبنان في إطار تقسيم الدولة الإسلامية الكبرى في القرن العشرين، حيث تشكَّلت دولٌ عديدة في المنطقة بحدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. وهو بالتالي دولةٌ مستقلة لجميع أبنائها كباقي الدول، وليس مطروحاً أن تنضمَّ إلى بلدٍ مجاور أو غير مجاور، ولها أن
 
 



1- المصدر نفسه، ص: 11.
2- المصدر نفسه، ص: 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

191

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 تختار مدى التنسيق والتعاون مع البلدان الأخرى، وكذلك أن تكون أو لا تكون جزءاً من اتحادٍ له قواعده مع دول أخرى كما هو حال الاتحاد الأوروبي مثلاً، وأن تتماهى أو لا تتماهى مع أنظمة سياسية لها قضايا مشتركة مع لبنان.


يختلف لبنان بخصوصية تعدُّد طوائفه ونظامه السياسي عن محيطه، ولا بدَّ أن تؤخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار لطمأنة أبنائه. وهو يشترك مع سوريا في حدود جغرافية طويلة (325كلم)، ومصالح سياسية واقتصادية مشتركة، ويواجه عدواً إسرائيلياً توسعياً يحتلُّ من البلدين أجزاءً منهما، وله أطماع كثيرة فيهما، ما يستدعي علاقات مميَّزة مع سوريا، لا تلغي خصوصية واستقلال كل منهما، ولا تُعطي الغلبة بالانقياد لأحدهما في ركب الآخر، وإنما بترجمة هذه العلاقات المميزة بخطط وإجراءات عملية تنفع البلدين. ونحن نوافق بالكامل على ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) حول العلاقات اللبنانية السورية: "إنَّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما، وفي شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما. استناداً إلى ذلك، ولأن تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

192

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. عليه فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا. وإنَّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته"1. نحن ندعو إلى الالتزام بهذا النص وترجمته عملياً.

 
قضية فلسطين: يشترك لبنان مع فلسطين بحدود طولها 72 كلم. وقد غصب الصهاينة القادمون من شتى أنحاء العالم أرض فلسطين، فاحتلوها بإشراف وتواطؤ دولي من خلال عصبة الأمم المتحدة، وبرعاية مباشرة من بريطانيا، فسيطروا في المرحلة الأولى عام 1948 على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين، ثم أكملوا احتلالهم لباقي فلسطين عام 1967، واحتلوا معها أراضيَ عربية أخرى من مصر وسوريا والأردن، ثم اجتاحوا جنوب لبنان عام 1978 فاحتلوا منه مساحة 500 كلم2 ضمَّت 61 مدينة وقرية، ثم اجتاحوا لبنان مجدداً عام 1982 وسيطروا على ثلث مساحته تقريباً، ثم ما لبثوا أن انسحبوا بفعل ضربات المقاومة إلى مساحة احتلال بلغت في العام 1985 نصف محافظتي الجنوب والنبطية بما
 
 
 

1- وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، مجلس النواب، ص: 17 و 18.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

193

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 يعادل 1100كلم2 أي حوالى 11% من مساحة لبنان شملت 168 مدينة وقرية. ولم تنسحب إسرائيل من لبنان في العام 2000 بعد 22 سنة من الاحتلال إلاَّ بجهاد المقاومة، التي كان لحزب الله الدور الأبرز فيها، وبقيت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا محتلة. 


إسرائيل عدو محتلٌّ لفلسطين وجزءٍ من لبنان وأراضٍ عربية أخرى. فهي بالميزان الديني معتدية ومحتلة وظالمة لشعب فلسطيني مجاورٍ لنا، يشترك معنا في قضايا كثيرة، فضلاً عن احتلالها لأرضنا في لبنان. وبالميزان الوطني فإسرائيل تحتل أرضنا اللبنانية، وتشكل خطراً يومياً علينا، كما انعكس احتلالها لفلسطين تهجيراً للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. ولها أطماع سياسية واقتصادية توسعية في لبنان والمنطقة تجعل منها أزمة حقيقية تواجه لبنان وفلسطين وبلدان المنطقة.

أن نؤمن بتحرير فلسطين فهذا مرتبط بإيماننا وقناعتنا بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وعدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي ولو دعمته دول العالم في إطار لعبة المصالح. وأن نرى وجوب تحرير فلسطين فلأنها أرض مقدسة للمسلمين والمسيحيين، ومهدٌ للأنبياء والمرسلين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وأول قبلة للمسلمين في صلاتهم، وفيها شعبٌ نشترك معه بالجوار وأمور كثيرة، يجعل لهم علينا حق الأخوة في دعم مشروعهم للتحرير. ومن الطبيعي أن يكون أصحاب الأرض طليعة الذين يعملون لتحرير أرضهم، وليس مطروحاً ولا ممكناً أن ينوب شعبٌ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

194

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 في أرض أخرى عن أصحاب الأرض في تحريرها من الاحتلال. وقد سجّل التاريخ المعاصر ملاحم البطولة والفداء للشعب الفلسطيني المجاهد في مقاومته التي لم تتوقف، بل هي في تصاعد مستمر رغم الضغوطات والمؤامرات الدولية والإقليمية وجرائم إسرائيل وعدوانها. ولكنَّ النصرة لهذا الشعب مطلوبة، بحسب الإمكانات المتاحة والظروف الملائمة، التي يعود تقديرها للمؤمنين بالنصرة، وهذا أقل الإيمان. وبما أنَّ العالم اليوم قرية كونية واحدة، وتتداخل مصالح الدول والقوى المختلفة، وتتشكَّل التحالفات التي تتعارض مع خصوصيات ومشاريع دول وجهات مستقلة، فمن السذاجة والخطأ أن ننأى بأنفسنا عن دعم القضايا المحقَّة في منطقتنا ومحيطنا بما يمسنا بنتائجه في نهاية المطاف. ففي الدعم للقضية الفلسطينية نصرةٌ لها، وتعطيلٌ لمشاريع التوسع العدواني الإسرائيلي، وتأديةٌ للواجب، في مقابل الدعم المطلق دولياً للإجرام والاحتلال الإسرائيلي. ومن الموقع الوطني اللبناني يشكل هذا الدعم إرباكاً للعدو في ساحة احتلاله، وإضعافاً لتأثيره في ساحتنا، ولا تعارض بين دفاعنا عن بلدنا ومناصرة إخواننا في دفاعهم عن بلدهم، بل يكمِّل كل منهما الآخر في تحقيق الحد الأدنى من حماية بلدنا من الشر الإسرائيلي المزروع في هذه المنطقة.


نجاحات حزب الله: يرى حزب الله وجوب الجهاد وقتال إسرائيل لإنهاء احتلالها وعودة الأراضي المحتلة إلى أهلها. ويرى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

195

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 وجوب تحرير فلسطين والقدس، كما يرى وجوب تحرير الأرض اللبنانية المحتلة. ولأن الجهاد يستلزم الشهادة والجَرح وسقوط الدماء، فلا بدَّ من الحصول على إذنٍ بشرعية الجهاد ضد إسرائيل، كي لا يكون القتال عبثياً أو رمياً بالنفس إلى التهلكة، فسقوط الدم وإزهاق الروح مسؤولية لا يملك الفرد التفريط فيها. ومع الإجازة الشرعية من الولي الفقيه يكون المقتول شهيداً عند الله تعالى وله أجر الشهداء، وتبرأ ذمة المكلف مهما كانت نتائج هذا العمل. أمَّا ضوابط الإعداد والتنظيم والتسلح والتخطيط والقيام بالعمليات وكل ما يحيط بمواجهة إسرائيل، فهي من مختصات قيادة حزب الله، في المكان والزمان والكيفية والأولوية، بما يتناسب مع القدرة وتقدير المصلحة والظروف الموضوعية.


بدأ حزب الله مقاومته للاحتلال الإسرائيلي في لبنان مع نشأته عام 1982، وجعل أولويته قتال العدو الإسرائيلي المحتل، في مناطق ومواقع احتلاله في لبنان. ولم يربط عملياته العسكرية بأي تحرك سياسي أو دبلوماسي لقناعته بعقمه وعدم جدواه، في ظل واقع دولي يدعم إسرائيل بالكامل، ويهيئ لها مقومات ترسيخ احتلالها واستثماره. ثم تبيَّن صحة الرهان على المقاومة، فقد طال زمن الاحتلال 22 سنة إلى التحرير المشرِّف في 25 أيار من العام 2000، من دون أن تتقدم الحلول السياسية خطوة واحدة، ومن دون تنفيذ القرار الدولي 425 القاضي بوجوب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

196

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 انسحاب إسرائيل من لبنان. وأنجزت المقاومة الإسلامية في هذا التاريخ بدعم شعب لبنان وجيشه وسوريا وإيران وكل المؤمنين بالمقاومة كخيار، تحريراً مشرفاً عزيزاً من دون أي ثمن سياسي، لقد كان تحريراً نظيفاً ومضيئاً. وفي الوقت نفسه، سقط خيار فريق من اللبنانيين من الذين تعاملوا مع إسرائيل سقوطاً مدوياً، وهم الذين اعتبروا العمالة والتبعية لإسرائيل وطنية، وخدموا المشروع الإسرائيلي لترسيخ احتلاله في لبنان ضد أهلهم وشعبهم، ووقفوا أكياس رمل ليدافعوا عنه عسكرياً وسياسياً بحجة مصلحة لبنان، إلاَّ أنَّ الاحتلال لا يملك أي صفة وطنية فضلاً عن منحها، والعمالة للعدو تخرِّب الوطن وتضيِّعه وتُفقده استقلاله. وقد حمى الله تعالى لبنان من رؤيتهم الضَّالة وعملهم المنكر، ببركة وعي الشعب اللبناني والتفافه حول مقاومته ضد الاحتلال.


حقَّق حزب الله هدفاً كبيراً بتحرير لبنان، وتماهى في ذلك مع رؤية كل مواطن يريد بلده محرَّراً ومستقلاً. لم تكن مقاومته نيابةً عن أحد، بل هي جزء من إيمانه وقناعته، ولم يفتح جبهةً مغلقة كرمى لعيون أحد، فالاحتلال الصهيوني أتى إلينا واحتل أرضنا، وكان القتال ضد مواقع الاحتلال، ولم يغامر فيما أنشأه وطوَّره من العمل المقاوم، إذ لا تتوقع أي مقاومة أن تحصد نتائج عملها سريعاً، وهي مصحوبةٌ عادةً بالتضحيات والآلام التي تُعتبر أقل من كلفة الاحتلال، لكنَّها تأمل بالفوز والتحرير، وهذا ما حصل في إنجاز التحرير المدوي، وبفترة زمنية قياسية، مع قلة العدد والعدة، في مواجهة التآمر الدولي، وتفوُّق قدرة العدو العسكرية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

197

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 حدَّد حزب الله نظرته للمقاومة ودورها في وثيقته السياسية كالتالي: "تَحقَّقَ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيٍّ وجيش وطني، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصارٍ عظيم أسَّس لمرحلةٍ جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة. 


إنَّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو - الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلـى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة - فإنَّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومةٍ شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيشٍ وطني يحمي الوطن ويثبِّت أمنه واستقراره، في عملية تكاملٍ أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحقَّقت انتصاراتٍ للبنان ووفرت سبل الحماية له.

هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

198

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للإستقلال الحقيقي"1

 
سيستفيد من نجاح خيار المقاومة كل من يؤمن بها ويدعمها، وسيتضرر وينزعج كل من أيَّد إسرائيل واحتلالها. ربحت المقاومة الفلسطينية من كسر شوكة إسرائيل في لبنان، واستفادت من تجربة مقاومة حزب الله بعد أن استفاد الحزب من تجربتها، وانطلقت مجدداً انتفاضة المسجد الأقصى المسلحة بعد تحرير العام 2000، بأملٍ يحدوها في أن يتكرر ما حصل في لبنان. وربحت سوريا من إضعاف عدونا المشترك إسرائيل، الذي فشل في استثمار احتلاله في لبنان، ولم يتمكن من ابتزاز سوريا من خاصرتها الرخوة. وربحت إيران عندما فشلت إسرائيل في استمرار احتلالها للبنان، وهذا ما ينسجم مع رؤيتها في كون إسرائيل غدة سرطانية خطرة على المنطقة. واستأنس كل عربي ومسلم وحر، وكل جهة إقليمية أو دولية تؤمن برفع المظلومية والاحتلال عن لبنان. لا تُنقص هذه الأرباح شيئاً من ربح لبنان، بل لا يمكن أن يتحقق لأيّ منها هذا الربحُ لولا ربح لبنان ومقاومته، فالكسب أولاً لمشروع تحرير لبنان، ولكل من أطلقه وضحى لأجله.
 
خسرت أمريكا في لبنان لأنها لم تستطع إلزامه بخياراتها الشرق
 
 
 

1- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،المقاومة، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

 


199

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أوسطية، ولم تنجح مؤامراتها المتتالية لإنهاء المقاومة في لبنان، وانكسرت ذراعها الإسرائيلية بالتحرير عام 2000 وبهزيمة الصهاينة في تموز 2006، ولم يتمكن مؤيدو سياساتها في لبنان من تحقيقها، وخسر مناصرو التسوية السياسية في لبنان والمنطقة لأنَّ فشل إسرائيل في لبنان سيعطِّل فرض شروطها السياسية، وسيكون لبنان حجر عثرة حقيقية بوجه التوطين الناتج عن التسوية المزعومة، وبالتالي خسرت كل الدول والاتجاهات التي أرادت لبنان معبراً لتثبيت الكيان الإسرائيلي كدولة مستقرة في المنطقة.


انعكس نجاح مقاومة حزب الله في طرد إسرائيل بتألُّقه على الساحة السياسية في لبنان، والالتفاف الجماهيري الواسع حوله، ومناصرة قوى سياسية فاعلة ووازنة للمشروع المقاوم. وقد اكتسب حزب الله هذا الموقع والدور من الأولوية التي أعطاها للمقاومة على ما عداها، فقوي بها وقويت به، وأصبح قوة سياسية فاعلة ومؤثرة في لبنان.

هذا النجاح مدينٌ للرؤية، والعمل الدؤوب بتضحية وصبر، والاستفادة من الظروف السياسية والموضوعية التي أحاطت بهذه المرحلة. وقد ملأ الحزب فراغ تعثر الدولة اللبنانية بأجهزتها وقدراتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وحرص على التمييز بين أدائه المقاوم وموقعه في النظام السياسي في لبنان، فلم يستثمر مقاومته لتحقيق المكاسب ضمن مشروع الدولة، بل عمل كجهة سياسية كالجهات الأخرى، يشارك في الحكم وبناء الدولة، ويعتمد آليات العمل السياسي المعروفة، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

200

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 كالمشاركة في الانتخابات، ويقبل بنتائجها، ويساهم في جلسات الحوار للاتفاق على القضايا الكبرى الرئيسة في البلد، ويشارك في حكومة الوحدة الوطنية كمكوِّن رئيس مع المعارضة الفاعلة الموجودة في لبنان، ويحمل مطالب الناس وقضاياهم لمعالجتها، ضمن أطر الدولة وأجهزتها، وكذلك أبقى حزب الله على اهتمامه بالمقاومة من أجل التحرير ومواجهة الخطر الإسرائيلي.


الحضور القوي للحزب: تنامى دور حزب الله في لبنان، وتقدَّم على كل الأصعدة، بسبب أهدافه وبرامجه لتحقيق هذه الأهداف. فقد أعطى نموذجاً مميزاً للمقاومة والمقاومين، واهتم بالشؤون الاجتماعية للناس، وأولى رعايته لمؤسسات المجتمع المدني، والتزم إعمار ما هدَّمه العدوان الإسرائيلي فيما لم تتبنّه الدولة، وصدَقَ مع الناس في مدى قدرته على معالجة قضاياهم من ضمن واقع الدولة المربك والمتخلِّف، ووفَّر من جانبه كل عناصر المساهمة في تدعيم السلم الأهلي، ورفض الانجرار إلى الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وبذل جهداً كبيراً وتضحيات كثيرة لتعطيل مشاريع الفتنة، ونسج علاقات سياسية واضحة وفاعلة في خدمة لبنان، مع قوى وازنة، كالتيار الوطني الحر، من خلال وثيقة تفاهم أكَّدت على البعد الوطني في المشتركات السياسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

201

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أزعج هذا التنامي قوىً سياسية مخالفة لرؤية حزب الله في استمرار دوره وموقعه المقاوم، وقوىً تراجعت شعبيتها وحضورها ولا زالت تعيش أمجاد التاريخ، فعملت على طرح رؤيتها مطالبةً بتجريد الحزب من قوته المقاومة، اعتقاداً منها بأنَّها تتوازن معه بعد ذلك، وتُقلِّص الفارق بينها وبين الحضور القوي لحزب الله، ولكن كيف نحرِّر باقي الأرض؟ وكيف ندفع خطر المشروع الإسرائيلي الذي يهددنا بالاجتياح والاحتلال والقتل والتوطين؟ وهل تستطيع الدولة اللبنانية بواقعها الحالي وقدراتها الفعلية أن تتصدى للاحتلال وأن تحمي لبنان من دون وجود المقاومة؟


يرى حزب الله أنَّ قدرة المقاومة وإنجازاتها مصلحة كبرى للبنان، ومن لديه قوة لا يفرِّط بها ليقف ضعيفاً ومكشوفاً أمام إسرائيل ويمكن نقاش مستقبل المقاومة ودورها في إطار إستراتيجية دفاعية جدِّية وواقعية، ولكن لا يصح إسقاط القواعد السياسية المجرَّدة على واقعنا بما يؤدي إلى إضعاف لبنان. فلا يصح شعار حق الدولة وجيشها فقط في مواجهة إسرائيل، على أن تنسحب المقاومة من الميدان مهما كانت النتائج! كل الدول التي ترزح تحت الاحتلال تفتش عن شعبها ليرفدها بالمقاومة، فكيف نتخلى عنها ونحن بأمسِّ الحاجة إليها، وقد أثبتت جدواها وأثمرت نتائجها؟! فلبنان ما زال في دائرة الخطر المحدق الذي يتهدده من إسرائيل.

الدولة في لبنان ضعيفة، ينتشر فيها الفساد والمحاصصة والهدر، وتتعزر فيها سلطة المَزَارع على حساب الدولة القوية، وترزح تحت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

202

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 مديونية تتجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي، وتتداخل السلطات فيها إلى درجة التسييس والتطييف لكل شيء، ولم تنطلق الحكومات المتعاقبة بخطوات جدِّية وعملية للإصلاح والتغيير والمحاسبة، وهي ضعيفة بسبب إدارتها وأداء الجهات السياسية المختلفة فيها. إنَّ الانتقال من الضعف إلى القوة، ومن الفساد إلى الإصلاح، ومن المزرعة إلى الدولة، يحتاج إلى تظافر جهود الجميع وتضحياتهم.


إنَّ حضور حزب الله القوي سياسياً وجهادياً لا يتعارض مع وجود الدولة القوية التي لا تشكِّل منافساً له، بل يريحه وجودها لتأمين مصالح الناس بعدالة وتوازن واستقامة. ولم يكن حضور حزب الله القوي على حساب الدولة وبنيتها، بل من رصيد تضحياته وأولوياته، فهو لم يشارك الكثيرين ممن غرفوا من المال العام ومراكز الإدارة. وإذا ما بقيت الدولة على حالتها الحاضرة فلن تكون قوية، حتى ولو لم يكن حزب الله موجوداً، فخلل الدولة بنيوي وعملي.

لم يَسْعَ حزب الله ليحل محل الدولة في أبسط الأمور، حتى في المرحلة التي انتشرت فيها الإدارة المدنية لبعض الأحزاب أثناء الحرب الأهلية. عندما تتقاضى الدولة الرسوم والضرائب، وتعتقل المخلين بالأمن والاجتماع العام والجواسيس، وتقضي بين الناس، وتقرر القوانين، وتصدر المراسيم والقرارات، وتشرف على الانتخابات، وتسير وفق الدستور، فهذا ما يعني أنها تقوم بدورها ولا أحد ينافسها على ذلك، بصرف النظر عن حسن التطبيق أو سوئه. لم يتصدَّ حزب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

203

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 الله لأيٍ من هذه الأمور، وعندما اتهمه بعضهم بأنَّه دولة داخل الدولة، فلأنَّه هالهم أن يكون قوياً في حضوره بين الناس وخدمته لهم وتحريره للأرض، فضاقوا ذرعاً بهذا النموذج، واعتقدوا أن بإمكانهم إرباكه باتهامهم له. لكنَّ هذا الاتهام لا يغيِّر الوقائع. فلكي تكون الدولة قوية تحتاج إلى مسار يعزِّز قوتها. وإذا كانت القوى السياسية قوية فيها فهذه قوةٌ للدولة، وليس إضعافاً لها، طالما أنَّ دور الدولة محفوظ ولا يقترب منه أحد. الدولة القوية هي التي تسلح جيشها وقواها الأمنية بما يتناسب مع حاجاتها الدفاعية والأمنية، وهي التي تعدل بين الناس في الحقوق والواجبات، وتهيئ فرص العمل، وتهتم بالزراعة والصناعة والتجارة وحاجات الناس، وتلبي متطلبات المجتمع... وليست قوتها من ضعف الآخرين.


كل الجهات السياسية موضع تقييم بحسب رؤيتها السياسية. فلا توجد جهة محدَّدة تملك زمام التقييم، وإنما الجميع تحت غرباله، وعلى كلّ منهم إقناع الآخرين بصوابية طروحاته. وإنَّ وجود قوى سياسية متعددة دليلٌ على وجود تمايز بينها، حتى لو كان هذا التمايز محدوداً مع بعضها. وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الحياة السياسية. وهنا يجب أن يكون البحث عن المشتركات للتعاون، كي لا يبقى الخلاف السياسي مؤثراً ومعطلاً لقدرة الدولة.

عندما تثبت التجربة أنَّ حزب الله، الذي طرح رؤيته وأهدافه وبرامجه على الشعب اللبناني، استطاع أن يكون الحزب الأكثر انتشاراً وفعالية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

204

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ومقبولية، ونسج تحالفات واسعة مع قوى سياسية متعددة، واتخذ موقعه التمثيلي للشعب بجدارة، واعترف العالم بحضوره وتأثيره في الساحة، فهذا يعني أنَّه ركن أساس في استقلال وحضور لبنان.


البحث عن المشروعية: كل جماعة في لبنان تبحث عن مشروعية عملها بالاستناد إلى ما تؤمن به. فمنهم من يرى مشروعية عمله من قيادته المحلية بالكامل، فيحمل رؤيتها للعمل في لبنان سياسياً واجتماعياً، ويفصل بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية الفردية، فيأخذ مشروعيته الدينية العبادية من مصدر آخر كالفاتيكان أو بطريركية إنطاكية أو من الأزهر أو من السعودية أو من النجف الأشرف... ومنهم من يدَّعي التزام المشروعية السياسية المحلية، لكنَّه يلتزم ضوابط التوجيه السياسي الإقليمي والدولي، وهو يبرِّر ذلك بالصداقة أو الدعم. وهذا خيار يختلط فيه البحث عن المشروعية السياسية بالتبعية للآخر، ومع ذلك فهو خيار موجود عند بعض الجهات في لبنان. ومنهم من يؤمن بضرورة تغيير النظام في لبنان، ويرفض التعايش معه، ويرى منهجاً آخر لإدارة شؤون البلد، لكنه يلتزم العمل السلمي للتغيير، ومنهم غير ذلك.

إذاً، نحن أمام رؤى متفاوتة في دفاع الجهات المختلفة عن رؤاها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

205

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 لكن الجميع -تقريباً- قد تسالم على التزام الدستور والقوانين الناظمة لعلاقات الناس مع بعضهم، والتعبير عن رؤاهم في إطار هذه القوانين.


عندما انطلق حزب الله في العام 1982، على أساس إيمانه برسالة الإسلام، وحدَّد أهدافه التي يريد تحقيقها في ساحة عمله في لبنان، كان المؤسسون بحاجة إلى التأكد من شرعية عملهم وانسجامه مع إيمانهم وتكليفهم، فحصلوا على الشرعية بامضاء الولي الفقيه الإمام الخميني قدس سره لمشروعهم كحزب إسلامي يريد العمل في ساحته لبنان. وهكذا انطلق "حزب الله" منسجماً مع ما قدمناه من وجوب الطاعة للقيادة الشرعية من الموقع الديني الإسلامي، ثم تحمَّلت قيادته المتمثلة بالشورى المنتخبة من كوادر الحزب مسؤولية تحقيق الأهداف والبرامج والدفاع عنها.

اقتصر الحزب في حركته خلال السنوات العشر الأولى لانطلاقته على العمل الجهادي والسياسي خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وقد كان البلد منقسماً خلال تلك الفترة بين منطقتين وحكومتين، ثم واجه في العام 1992 قضية رئيسة تُعتبر مفصلية في العمل السياسي وهي المشاركة في الانتخابات النيابية.

جرى نقاشٌ موسَّع داخل الأطر القيادية للحزب حول مشروعية المشاركة في الانتخابات النيابية وآثارها العملية، "وتمحورت النقاشات حول الأسئلة التالية:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

206

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 1- ما مدى مشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبِّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟

 
2- إذا حُلت أزمة المشروعية، فهل تعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يرتب مسؤولية في الدفاع عنه وتبنِّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلامية؟
 
3- ما هي حجم المصالح والمفاسد التي تترتَّب على هذه المشاركة أو عدمها؟ وهل يوجد ما يُغلِّب أحدهما على قاعدة المصالح الأكيدة والواضحة؟
 
4- هل تؤدِّي المشاركة إلى تعديل في الأولويات، بحيث يتم التخلِّي عن المقاومة لمصلحة الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية؟"1.
 
إنَّ المشاركة في نظام غير إسلامي تتطلب موافقة الولي الفقيه. وهو نقاش مفتوح بين الفقهاء تاريخياً بين من يرى حرمة المشاركة في نظام غير إسلامي على قاعدة وجوب السعي لإقامة الحكم الإسلامي في كل مكان، وبين من يفتح الباب للمشاركة شرط رعاية الضوابط الشرعية بعدم الموافقة على المحرمات وتقريب القوانين من الأحكام الإسلامية وضوابطها.
 
 

1- المؤلف، حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل، ص: 333-335.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

207

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 أعطى الولي الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله موافقته على المشاركة في الانتخابات، وهي جزء من المشاركة في تركيبة النظام اللبناني، شرط رعاية الضوابط الشرعية.


الولي الفقيه سبيلُ الحزب إلى الاطمئنان على مشروعية الرؤية الإيمانية السياسية التي يتم رسم أهدافه وبرامجه على أساسها. وهذا أمر تأسيسي يعني الحزب في تكوينه وحضوره واستمراريته، ولا علاقة للآخرين في كيفية حصوله على مشروعية رؤيته، إنما لهم أن يناقشوا أهدافه وسياساته وبرامجه ويقيِّموها، قبولاً أو رفضاً، ويسائلوه على مستوى النتائج، ولهم أيضاً أن يناقشوا في إيمانه المبدئي من موقع الحوار والحجة، وأن يختلفوا معه، ولكن ليس من حقهم أن يسيئوا لحكم شرعي مبني على الإيمان بولاية الفقيه بالتوهين أو الإهانة.

ما هو مهمٌّ في نظرتنا لأي جهة سياسية هو رؤيتها، التي تعرض من خلالها أهدافها وبرنامجها، فنناقشها لتحديد صوابية أو خطأ هذه الرؤية، ونحلل أبعادها ونتائجها، ونقيِّمها إذا ما كانت تبني الوطن أو تهدمه، وإذا ما كانت تساهم في تعزيز المشتركات بين القوى السياسية أم تباعد بينها. فالرؤية تُقيَّم على المستوى الوطني بأهدافها وبرامجها ونتائجها، ولا تقيَّم بكيفية تشكُّلها وقناعة القيمين عليها.

ولكل جهة أن تبحث عن مشروعية عملها بالطريقة التي تطمئن بها. ولا يملك أحد حصرية تحديد طريقٍ معيَّن للمشروعية، بل هو أمر اعتقادي عقلي يتشكَّل عند كل جهة بحسب تفكير قياداتها ومؤسسيها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

208

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 فالذين اعتبروا أنفسهم مصدر المشروعية، وأن لا قيادة فوقهم، وصلوا إلى هذه القناعة باعتقاد وتفكير، كما أن الذين لجأوا إلى قيادة أعلى منهم داخل أو خارج بلدهم، أو رؤية ليست مطروحة في وطنهم، استفادوا منها بهذا التبادل الإنساني العالمي، ووصلوا إلى قناعتهم هذه باعتقاد وتفكير أيضاً.


النقاش في المشروعية نقاش عقلي نظري. فمن يؤمن بولاية الفقيه، ينطلق من الإيمان بالإسلام كمنهج للحياة، ويتبنى الأهداف والبرامج التي يمضيها ولي الأمر، الفقيه القائد، واجب الطاعة، الذي يعطي المشروعية للعمل. ومن يؤمن بقيادة شخص أو زعيم من موقع التزام العلمانية، ينطلق من القواعد العلمانية التي رسمها مفكرون في العالم، ويتبنى الأهداف والبرامج التي تنسجم معها، ويتبنى إمضاء هذا الزعيم الذي يعطيها المشروعية التي يحتاج إليها من يؤمن بآرائه وقناعاته ومشروعية دوره. هنا يكون النقاش في المشروعية جزءاً من النقاش في المبدأ والمنطلقات.

لا مجال للعودة إلى قاعدة أو مقياس معترفٍ به بين البشر لحسم الجدل حول المبدأ والمنطلقات الأصوب، فكلّ فريق يدَّعي الأصوب بما أرشدته إليه عقولهم، فإذا ما حصل نقاشٌ مبدئي بين مختلفين، فإمَّا أن يُقنع أحدهما الآخر فيتفقان، وإمَّا أن يتمسك كل واحد منهما برأيه فيختلفان، وإمَّا أن يضيِّقا من مساحة اختلافهما لكنهما يبقيان أيضاً في إطار قناعتين مختلفتين، وهذا هو ديدن البشرية عبر التاريخ، فهذا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

209

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ما خلقه الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينََ﴾1.

 
نحن أمام رؤىً لكل منها طريقٌ لمشروعيتها. فمن أراد الحوار أو الجدال أو الاقناع أو تثبيت الاختلاف فعليه النقاش في الرؤية، لأنَّه لا ينتفع ولا يعنيه كيفية تحصيل المشروعية لهذه الرؤية. فمن اختلف مع حزب الله يمكنه مناقشته في رؤيته الإسلامية، لكنه لن ينتفع بإثارة طريقه للمشروعية بإيمانه بولاية الفقيه، لأنها حكمٌ شرعي ديني يعني المؤمنين بها، وهي جزء من الرؤية المتكاملة. وهذا لا يعني سد باب النقاش، وإنما منع التراشق السياسي في مسألة إيمانية. كما لا يستفيد حزب الله من مناقشة تحصيل المشروعية عند القوى الأخرى، فالمهم هو رؤيتهم وانعكاسها أهدافاً وبرامج على الواقع في لبنان.
 
إذاً نحن أمام رؤية فكرية سياسية ومشروعية دينية أو فكرية أو سياسية لطمأنة أصحاب الرؤية حول سلامتها. فالمشروعية طريق إلى الرؤية، التي تتضمن المنطلق والأهداف ويتفرع عنها البرامج والسياسات والمواقف. وإنما يتواجه المختلفون بالرؤية، بينما تندرج المشروعية في داخلها وتكون من خصائصها ومستلزماتها الذاتية، والعبرة بإثبات أحقية الرؤية.
 
ترجمة الولاء للوطن: إذاً كيف يكون تقييم الولاء للوطن مع اختلاف المبادئ والقناعات؟
 
 

1-هود: 118.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

210

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 يترجَمُ الولاء للوطن من خلال الأهداف والبرامج التي تنعكس أداءً ونتائج تؤشر إلى حقيقة الموقف.


وقد كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً وصريحاً عندما حدَّد رؤية الحزب في نظرته إلى الحكم في لبنان، وتقدير المصلحة في ذلك، وضرورة تكاتف جميع أبنائه لبنائه، فقال في كلمة له في ذكرى التحرير والانتصار في 26/5/2008: "نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا، ولا نريد السيطرة على لبنان، ولا نريد أن نحكم لبنان، ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني، لأنَّنا نؤمن بأنَّ لبنان بلدٌ خاص ومتنوع ومتعدد... لا قيامة لهذا البلد إلاَّ بمشاركة الجميع، وتعاون الجميع، وتكاتف الجميع، وهذا ما كنا نطالب به...ثم قال: إنَّ ولاية الفقيه تقول لنا: إنَّ لبنان المتنوع المتعدد يجب أن تحافظوا عليه".

يعتبرُ حزب الله لبنان وطناً لجميع أبنائه، ولا يقبلُ تصنيف المواطنين وفق درجات متفاوتة على أساس انتماءاتهم الدينية والسياسية، بل يجب أن يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات، ويقبل بخيارات الناس لممثليهم في التعبير عن قضاياهم، ويدعو إلى مشاركة جميع القوى للنهوض والاعمار والإصلاح وحماية البلد، ويعارض الاستئثار والإقصاء الفئوي أو المناطقي أو الطائفي أو المذهبي، ويقبل دستور الطائف سياسياً وتنفيذياً كنظام تعاقد عليه اللبنانيون واتفقوا عليه لإدارة شؤونهم، وهو الذي يشكل الحد الأدنى للاستقرار السياسي الضروري،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

211

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 ويؤكد على إبقاء الفرصة متاحة لتطوير النظام السياسي في لبنان نحو الأفضل، ويدعو إلى معالجة القضايا المختلفة في إطار المؤسسات الدستورية، ويؤكد على حفظ وحماية وتدعيم السلم الأهلي، ويرفض تشكيل الميليشيات المسلَّحة أو استخدام العنف والإرهاب لتحقيق الغلبة السياسية أو الاجتماعية، ويؤمن بالدفاع عن لبنان بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة المسلحة لتحرير أرضه وحمايته من أخطار الاعتداء والاحتلال والتهديد، ويرفض الوصاية الأجنبية على لبنان أو جعله ملحقاً بأي جهة إقليمية أو دولية، ولا يقبل توطين الفلسطينيين في لبنان إيماناً منه بحقهم في العودة إلى أرضهم الفلسطينية وتحريرها من المحتل الإسرائيلي، ويولي اهتماماً كبيراً لمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون سياسات الدولة إنسانية في تأمين حاجات مواطنيها، وأنه يجب أن يكون لدينا جيش قوي، وقضاء مستقل غير مسيَّس، وأن تتم محاسبة المرتكبين والمجرمين والعملاء والخونة لحماية الساحة.


لا يكون الولاء للوطن بالخطب الرنَّانة، ولا بالشعارات المخادعة، ولا بالعمالة لإسرائيل، ولا بقبول الاحتلال أو التغاضي عنه، ولا باستقدام الأجنبي والاستنصار به على الآخرين، ولا بالتحريض الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولا بالبهتان وبث الإشاعات والأكاذيب لتضليل الرأي العام، ولا بالمواقف المستندة إلى مقدمات ومعطيات خاطئة تؤدي إلى التصادم والتوتير.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

212

حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن

 لولاء للوطن سلوك تعكسه المبادئ والقناعات من خلال الأهداف والبرامج عند تطبيقها عملياً. وهنا يكون النقاش في السلوك. وهل هناك وطني أشرف ممن يقاتل لتحرير أرضه مقدماً دمه وماله من أجل قضيته؟ هذا هو المعيار الأساس الذي نجح فيه من قاتل أو أيَّد أو نصر أو دعا أو آزر أو دافع... فوطنيته عَلَمٌ وولاؤه ساطع. أمَّا من برَّر للعدو أو تعامل معه أو وضع العراقيل أو ثبَّط العزائم والهمم... فقد ارتكب خيانة للوطن، تتطلب توبة عنها لمن أراد أن يكون وطنياً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

221


213

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 
الدكتور غسان طه1
 
الفصل الأول
 ولاية الفقيه في مبادئها ومرتكزاتها
 
تمهيد 
 
ساد الكثير من النقاشات بين العلماء المسلمين، وخصوصاً الشيعة، حول وجوب قيام الحكومة الإسلامية. فذهبت جماعة منهم إلى القول بعدم وجوبها، بل بعدم جواز إقامتها في عصر غياب الإمام، إذ كل سلطة هي اغتصاب لحق الإمام المهدي. وشرعت في تبيان حدود صلاحيات الفقيه الذي يعود له الشيعة في معرفة الأحكام الدينية والتزامهم بتطبيقها، فحصرها بعضهم بالأمور العبادية كالصلاة والوضوء والحج وغيرها، وفي بعض الأمور الحسبية كولاية الحاكم على أموال اليتامى والقصر، والسفهاء... إلا أنها لم ترق لدى هؤلاء إلى تشكيل حكومة إسلامية يحظى فيها الفقيه بصلاحيات واسعة تنسجم مع ما كان يتمتع به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
 
 
 

1-     أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

214

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 2-  وتوسع بعض في مسألة تشكيل هذه الحكومة، أو الدولة الإسلامية، فحصرها بتطبيق الشريعة الإسلامية بغض النظر عن الحاكم سواء أكان فقيهاً أو مواطناً، لأن المراد النهائي للنظام وفق الشريعة الإسلامية هؤلاء هو إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولم يشرط وجود الفقيه على رأسها، بل شرط وجوب إدراك الحاكم للعدالة بجميع جهاتها1. وبين هذين الحدين ثمة آراء كثيرة لعلماء الشيعة وفقهائهم في مسألة قيام الحكومة الإسلامية.

 
غير أن قيام حكومة إسلامية معقودة اللواء للحاكم الفقيه الذي يقودها وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية كانت قد شكلت إحدى الرؤى لحاكمية الشريعة. وقد ذهب إلى القول بهذا الرأي عدد آخر من فقهاء الشيعة. وليس مرادنا في هذا المجال طرح هذه الآراء بتنوعاتها ومبانيها الفقهية والعقلية، بقدر ما نود معالجة الحكومة على أساس ولاية الفقيه التي لاقت شهرة واسعة مع خروجها إلى حيز التطبيق على يد الإمام الخميني قدس سره الراحل بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران.
 
وقد لاقت أطروحة ولاية الفقيه كما طرحها الإمام الخميني قدس سره نقاشات عديدة في الأوساط الفقهية والمجامع العلمية وحتى بين المثقفين المتأثرين بفكرة فصل الدين عن الدولة أو لدى بعض علماء الدين ممن يقولون بولاية الفقيه المقيدة، والتي لا ترقى إلى مستوى الحاكمية بالمعنى
 
 
 

1- مسعود بو فرد، الديمقراطية الدينية، معهد المعارف الحكمية، ص192.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

215

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإطلاقي. لم يخرج هذا النقاش عما كان سائداً في عصور مضت بين الفقهاء والمرجعيات الدينية حولها. ولكنه توسع إلى طرح تعقيدات الواقع وخصوصاً بعدما توزعت الأمة الإسلامية في أقطار عديدة وصار لها حدودٌ جغرافية واكتسبت هويات وطنية. بل أصبح المسلمون في بعض المجتمعات متشاركين مع هويات أقوامية ودينية متنوعة ومنها لبنان على سبيل المثال لا الحصر. وهذه الإشكالية سنتركها على أهميتها إلى مقاربة تفصيلية سوف تبدو في السطور اللاحقة خلال عرضنا لها. على أنه قبل الولوج في مقاربتها، نقف عند رأي الإمام الخميني قدس سره في استدلالاته على وجوب قيام حكومة إسلامية بالمعنى الذي ذهب إليه دون تفصيلات كثيرة لأن غاية المقاربة ليست محصورة بها على وجه التحديد، بل للوقوف على مسوغاتها كضرورة موضوعية لسياقات البحث، ومقابل ما هو مطروح حول الولاية المقيدة غير المطلقة.

 
فولاية الفقيه بحسب الإمام الخميني قدس سره هي فكرة علمية واضحة لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرف الإسلام، أحكاماً وعقائد، يرى بداهتها1. وقد أورد الإمام في كتاب الحكومة الإسلامية مجموعة من الأسانيد الشرعية والعقلية التي تؤكد ثبوت ما كان ضرورياً أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام في العصر الراهن. ومن بين هذه الأسانيد وجود الأحكام المالية وأحكام العقوبات والدفاع وغيرها في القرآن الكريم، ومن ثم الآيات التي تتصل بتمامية الدين وشموليته، وعدم جواز تعطيل
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، الحكومة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، إيران، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

216

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الأحكام كعدم إجراء الحدود، وترك القصاص، وتوقيف الجباية المالية، وترك الدفاع اعتقاداً أن الإسلام جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود، في حين أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة كما في المأثور من الأحاديث الشريفة1. كما أن اقتضاء أن يعيش الناس بالعدل يفترض قيام حكومة تراعي مقتضيات هذا العدل، كي لا يسود الهرج والمرج2 ويسود الظلم ويعم الفساد وتهضم حقوق الفقراء والمستضعفين. إن مراعاة مقتضيات العدل بحسب الإمام الخميني قدس سره إنما تكون بوجود الحكومة الإسلامية، حيث يعيش الناس بالعدل وفق الحدود التي حددها الله لهم. وهذه الحكمة الإلهية هي حكمة مستمرة، لأن الفساد في الأرض وهضم حقوق الضعفاء، والتعدي على حدود الله ليس محدوداً بزمان أو مكان3.

 
1- مرتكزات حكومة الولي الفقيه
 
ثمة مجموعة من المرتكزات التي تقوم عليها حكومة الولي الفقيه ومن هذه المرتكزات:
 
1-1-     الاستناد إلى الأحكام وفق الشريعة الإسلامية: بمعنى أن مصادر التشريع هي القرآن الكريم والسنة النبوية وأحاديث الأئمة عليهم السلام.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص46.
2- المصدر نفسه، ص47.
3- المصدر نفسه، ص60.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

217

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 2-1- وجود سلطة تنفيذية: تستوجب القوانين بنظر الإمام الخميني قدس سره وجود سلطة وجهاز تنفيذ وإدارة. إذ لا يكفي وجود مجموعة القوانين لإصلاح المجتمع وإسعاد البشر، ولا يكفي تبليغ الأحكام وتبيينها من قبل الرسول والخلفاء، بل لا بد أن تعقب سلطة التشريع سلطة تنفيذية1 تعنى بإدارة المجتمع.

 
3- 1- قيادة الولي الفقيه: يقف الولي الفقيه على رأس هذه السلطات. وينبغي أن يتحلى بشرطين مهمين وهما العلم بالقانون الإسلامي، والعدالة. هذا الحاكم يملك من أمر الإدارة والرعاية السياسية للناس ما كان يملكه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين علي من أمر الحكم والقضاء، والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد2.
 
2- حكومة الفقيه والواقع
 
يعبر الواقع عن متعينات ماثلة في الاجتماع البشري المتمايز في خصوصية الهوية، وتفاعلات العلاقات الاجتماعية، ووجود الأنماط الثقافية، ودوام التغير المستند إلى ظروف جغرافية وحضارية متفاعلة مع الأزمنة والأمكنة. والحكومة الإسلامية وفق أطروحة ولاية الفقيه إنما
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص45.
2- المصدر نفسه، ص72.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

218

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 تستمد مبرراتها العقلية والشرعية من الاقتناع بتمامية الدين الإسلامي وعدم فصل الدين عن الدولة، ودوام هذه التمامية عبر الزمان باعتباره خاتم الأديان وأتمها، فضلاً عن الاقتناع بضرورة سيادة العدل في المجتمع كي لا يسود الظلم ويعم الفساد.

 
ولما كان الإمام الخميني قدس سره استند في نظريته إلى النص القرآني والنصوص المنقولة عن الأئمة، ولما كان أيضاً قد استند إلى تجربة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجربة الإمام علي في الحكم، فإن السؤال المطروح يدور حول تفاعلات هذه التجربة مع الواقع، بمعنى هل المطلوب هو إسقاط التجربة التاريخية على الواقع، دون الأخذ بمستلزمات الزمان والمكان، فتعلو هذه التجربة عليه وتكيفه بحسب مقتضياتها، أم أنه من المحتم لهذه التجربة أن تتكيف مع الواقع دون الخروج عن حدودها الشرعية؟ وبمطالعة تجربة قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فضلاً عن الاستناد الى آراء الإمام الخميني قدس سره، نجد أن هذا الواقع يبقى حاضراً بشدة سواء ما قبل قيام التجربة أو ما بعدها، وهو حاضر أيضاً بخصوصياته المكانية والزمانية، وأما مظاهر هذا الحضور فتتجلى كالآتي:
 
1-2- تولي الفقيه سدة القيادة
 
سبق تبيان قول الإمام الخميني قدس سره حول استمرارية قيادة المجتمع الإسلامي من خلال الفقيه المتصدي لقيادة الحكومة الإسلامية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

219

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

فولايته هي جزء من الاعتقاد بالإمامة والولي الفقيه ينوب عن الإمام المهدي الغائب وله ما للإمام من صلاحيات. غير أن أطروحة ولاية الفقيه كان لا بد لها من التعاطي مع الواقع باعتبار أن ثبوت إمامة الإمام المعصوم إنما تكون بالنص وبالتعيين أي بالتنصيب الإلهي كخليفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن إمامته تنتقل إلى إمام آخر معصوم بعد وفاته. إذ ليس ثمة محددات زمنية لإمامته سوى الوفاة. في حين أن الولي الفقيه إنما تثبت ولايته وقيادته للمجتمع الإسلامي من خلال شروط ذاتية تراعي مقتضيات الشرع والعقل وهي الفقاهة والعدالة كما تبين سابقاً، وأن ولايته مقيدة أيضاً بشروط "فإذا خالف الفقيه أحكام الشرع، فإنه يعزل تلقائياً، لانعدام عنصر الأمانة فيه". فالمعصوم لا يمكنه مخالفة الشرع بل لا يطرأ عليه عارض يدفع به إلى هذا الأمر عمداً أو سهواً لأن مقتضيات عصمة الأنبياء والأئمة بحسب الفهم الشيعي تمنع ذلك. في حين أن الإنسان حتى ولو كان فقيهاً مرجعاً أو حاكماً، فإن هامش مخالفة الشرع حتى ولو كان متعذراً لكنه لا يرتفع، باعتبار عدم وجود العصمة، ولذلك لاحظ الخميني قدس سره هذا الأمر ولم يرفع الفقيه إلى مقام المعصوم.

2-2- الانتخاب أو الشورى

لم يكن مفهوم الشورى، كأحد آليات تسيير المجتمع الإسلامي وإدارته، قد اتخذ إطاراً مؤسساً في التجربة الإسلامية الأولى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما زال مورد نقاش بين المسلمين أنفسهم من حيث
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

220

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 وظائف الشورى وآلياتها وحدود ممارستها سواء من قبل الحاكم أو من قبل الأمة. وبغض النظر عن الظروف التاريخية والموضوعية التي أحاطت بهذا المبدأ فإنه مع تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران سوف تتضح معالمه، وتتوسع دائرته إلى عموم أفراد الشعب وإلى الإطارات المؤسساتية الأخرى. فلناحية اتساع دائرة الشورى فقد ارتبط هذا المبدأ بالرأي العام الذي سيحدد شكل النظام الذي استبدل النظام الملكي بحكومة إسلامية. فالإمام الخميني قدس سره بعد وضعه للخطوط العريضة للحكومة الإسلامية، وبعد نجاح الثورة بإطاحة الشاه، أجاب حين سُئِل عن النظام البديل بالقول: "إننا سوف نعرض الأمر على الرأي العام، ولأن إيران جميعها مسلمة فسوف يعطون رأيهم في هذه المسألة، وسوف يتم تشكيل حكومة الجمهورية الإسلامية بعد تصويتهم"1. وسوف يبرز هذا الأمر في تشكيل الإطارات المؤسساتية الأخرى كمجلس الشورى (البرلمان) ورئاسة الجمهورية، ومجلس الخبراء الذي سيتعين عليه انتخاب الولي الفقيه بعد الكشف عن الشخص المؤهل للقيادة استناداً إلى مؤهلاته الذاتية وهي الاجتهاد والعلم بالقانون والعدالة. وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني قدس سره "إن الجماهير في جميع أنحاء البلاد (إيران) أحرار في انتخاب مرشحيهم، ولا يحق لأحد أن يفرض نفسه، ولا يحق لأي مسؤول أو أي شخص أن يهين

 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار الإمام الخميني قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، إيران، ص369.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

221

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الآخرين الذين يخالفونه في الرأي، بل لا يحق لأية منطقة انتخابية أن تعين مرشحين لمنطقة انتخابية أخرى. فالتدخل في انتخابات كل منطقة هو شأن نفس تلك المنطقة"1. ولا يسري هذا الأمر على النواب وممثلي الإدارات المحلية بل يسري على السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية). وبالجملة فإن الحكومة بحسب الإمام الخميني قدس سره هي "حكومة الإسلام والشعب، والمجلس هو من الشعب، ولا أحد تحت أمر مقام ما أو مقامات ما"2.

 
وبهذا المعنى يجدر القول إن التجربة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن تواجه إشكالية بدائل بين حكم إسلامي أو إمبراطوري كسروي أو ملكي على غرار ما كان مطروحاً في زمن الإمام الخميني قدس سره من تجربة ملكية شاهنشاهية أو تجارب أنظمة اشتراكية أو رأسمالية كانت نخب المجتمع الإيراني قد عايشتها أو اطلعت عليها، وهو أمر متيسر في العصر الحديث. كذلك الأمر فإن الإطارات المؤسساتية من تنفيذية وتشريعية وقضائية وما تضطلع به من وظائف بعد تشكيلها عبر الانتخاب، لم تكن على هذا المنوال بتمام التحديد في التجربة الإسلامية وإن كانت قد مورست بإشكال أخرى.
 
ربما يحضر إشكال وهو أن الإمام الخميني قدس سره قد استند في كتابه الحكومة الإسلامية إلى استدلالات تخالف هذا الأمر من قبيل قوله
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص372.
2- المصدر نفسه، ص372.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

222

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

  "فوّض الله الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة، نفس ما فوضه إلى النبي وأمير المؤمنين علي من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات وتعيين الولاة والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد، وإذا نهض بأمر تشكيلها فقيه عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا"1. ربما يتبادر إلى الذهن أن مبدأ الانتخاب يخالف ما كان معمولاً به في زمن النبي، من تعيينه للولاة، وجباية الضرائب، والقضاء وغيرها...

 
فالفارق يكمن بين تفويض النبي أو الإمام لأشخاص سوف يضطلعون بأدوار إدارية وتنفيذية وقضائية وبين الانتخاب من قبل الشعب. فالإمام بإيراده لتجربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام إنما كان بمعرض الرد على الآراء القائلة أن الدين الإسلامي لم يأت بمشروع إقامة دولة أو حكم وإنما هو دين هداية وتبيان للتشريع فحسب، وكذلك بمعرض الرد على الآراء القائلة بمحدودية دور الفقيه، في الأمور الحسبية، في حين أن الوظائف والأدوار التي اضطلع بها النبي هي نفسها سوف تبقى ماثلة في تجربة الحكومة الإسلامية، وهي وظائف ليست للفقيه وحده. فحين يقول الإمام إن التفويض في زمن الغيبة هو للحكومة الإسلامية، فإنه يشير إلى المزج بين شؤون الدين والدولة، وهي وظائف ممنوحة كلها للحكومة الإسلامية
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

 


223

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 معاً. أما الفقيه فيمارس دوره بحكم موقعيته في الحكومة الإسلامية وهو سوف يتحدد لاحقاً في دستور الجمهورية الإسلامية الذي سيلحظ سائر صلاحيات السلطات وصلاحيات الولي الفقيه، وهي بلا شك لا تقتصر على الأمور الحسبية، وهذا ما يميز أطروحة ولاية الفقيه.

 
إن مشروعية العمل بمبدأ الشورى - والأخذ بنتائجها الملزمة - سبق أن عُمل بها في تجربة الإمام علي عليه السلام. فإمامة المعصوم بحسب الاعتقاد الشيعي ثابتة بالتعيين الإلهي سواء قام الإمام بالإمرة أي الحاكمية أو قعد عنها لظروف خارجية قاهرة. رغم ذاك فحين تولى الإمام علي سدّة حاكمية وإدارة المجتمع الإسلامي إنما قبل بها مع توفر شروطها وهي وجوب اضطلاع الإمام بتحقيق مقتضيات الدين، ومنها إقامة العدل ونصرة المظلومين، ووجود الفرصة السانحة للأخذ بزمام الأمور. ففي نهج البلاغة قال الإمام علي عليه السلام: فلولا وجود الحاضر (أي الذين حضروا إليه وبايعوه على الإمرة) وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظه ظالم ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (أي الخلافة أو الإمرة) وسقيت آخرها بكأس أولها...)1.
 
غير أن الناس مكلفون بإعانة الحاكم على القيام بدوره في إقامة العدل وحفظ المسلمين لأنهم مأمورون بعدم التحاكم إلى الطاغوت
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

224

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 المقصود بالآية التي تحث على هذا الأمر ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهَِ﴾1 أي كل سلطة تعمل في الناس بالجور والإثم والعدوان2. فتكليف المسلمين هو تمكين الحاكم العادل بسط سلطته لإقامة العدل ومحاربة الظلم وفقاً للآية الكريمة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلَِ﴾3.

 
فإن أصحاب الأمانة بحسب استناد الإمام الخميني قدس سره إلى بعض التفاسير هم الأئمة. والحكومة العادلة هي من مفردات الأمانة التي يجب تسليمها إلى أهلها لتعمل بموجب أحكام الدين دون أن تتعداها أو تتجاوزها. ويستفاد من هذا الشرح أهمية دور الناس في عملية التمكين. ويبرز هذا الدور بصورة أكبر مع الفقهاء باعتبار أن الإمام مشخص بالتعيين ولكن الفقهاء مشخصون بالصفات. وإذا نهض أحد الفقهاء بإقامة الحكومة الإسلامية وجبت طاعته كولي للأمر ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمَْ﴾ ويستدلّ من ذلك الإمام الخميني قدس سره - باستناده إلى شرح الإمام الباقر عليه السلام - أن الولاية هي الإمرة، وهي بعد الأئمة لعلماء الدين. استناداً إلى الحديث النبوي4 "العلماء أمناء الرسل". وإذا كانت طاعة النبي تقوم على أساس الآية ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمَْ﴾
 
 
 

1- النساء: 63.
2- الإمام الخميني قدس سره، الحكومة الإسلامية، مصدر سابق، ص115.
3- النساء: 58.
4- الإمام الخميني قدس سره، الحكومة الإسلامية، المصدر السابق، ص111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

225

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 وإذا كان للفقهاء ما للنبي وللإمام، فهل الفقهاء أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ وهل هذه الولاية تعني أن لا ولاية للبشر على أنفسهم. وبالتالي يتعطل دورهم في الشورى أو الانتخاب؟ في معرض الإجابة وعلى ضوء التجارب الحديثة لأنظمة الحكم وخصوصاً الديمقراطية، فإن الإمرة أو السلطة حين تنعقد - حتى بالانتخاب - يصبح صاحب السلطة متمتعاً بصلاحيات الإمرة في حدود موصوفة بموجب تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم تحقيقاً للمصلحة العامة. وكذلك الأمر في الحكومة الإسلامية، فوفق مقتضيات تسيير الحكم لا بد من الانصياع لصاحب الإمرة في إدارة شؤون المجتمع باعتبار أن الفقيه ليس متعالياً عن الناس وأن حكومته هي حكومة دستورية، وتعمل وفق مصالح المسلمين في إقامة العدل ومنع الظلم، وتحقيق الرفاه. فالمصلحة العامة قد تقتضي تجاوز بعض مصالح الأفراد، وإقامة المحاكمات بحسب الشرع، وينبغي الانصياع لها إذ لو ترك تشخيص الأمر للأفراد بحسب مصالحهم الشخصية لما استقر الأمر. فإطاعة الولي بموجب سلطته إنما هي سلطة للأفراد مجتمعين وهي لهم في تحقيق مصالحهم وليست عليهم، وهم مشاركون في تمكين الولي الفقيه لأنهم يرجون مصالحهم واستقرارهم وحفظ اعتقاداتهم، وانطلاقاً من مشاركتهم، فيجب عليهم الوفاء لمن اختاروه والتزموا قيادته ما لم يتجاوز حدود الشريعة ومقاصدها. وبحسب أطروحة ولاية الفقيه الشعب مكلف بالإشراف على الأمور ليس فقط في التصويت والانتخاب بل في المراقبة والتصويب والتوجيه. يقول

 

 

 

 

 

 

 

 

235


226

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإمام "جميع أبناء الشعب مكلفون بالإشراف على الأمور. يجب على الشعب أن يوجهني، ولينتبه الجميع إلى هذه المسألة حتى إذا قلت أنا (الولي الفقيه) كلمة مخالفة للإسلام، فليعترضوا عليّ وليكتبوا ذلك ويقولوه"1.

 
 
3-2- الأمة والشعب
 
كثيراً ما يستخدم علماء الإسلام تعبير أمة بدل الشعب كدلالة على الهوية التي تتخذ لها بعداً دينياً. وموضع هذا التفضيل هو ورودها في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرّة في دلالات متنوعة. وهي بحسب استخداماتها تحمل معنى وجودياً لهوية مشتركة بين الأفراد المرتبطين برابط العقيدة، بغض النظر عن اللغة والعرق والجنسية. والهوية كمفهوم، متعددة الجوانب في السوسيولوجيا، ويمكن مقاربتها من زوايا متعددة. فالهوية بشكل عام تتعلق بفهم الناس وتصورهم لأنفسهم، ولما يعتقدون أنه مهم في حياتهم. ويتشكل هذا الفهم انطلاقاً من خصائص محددة، تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة. ومن مصادر الهوية هذه، الطائفة، والدين، والاثنية، والطبقة الاجتماعية، والجنسية2.
 
إن تعبير الأمة الإسلامية كهوية مستندة إلى الدين يعبر عن ثبات
 
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص364.
2- د. علي وتوت وآخرون، المواطنة والهوية الوطنية، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت 2008، ص22.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

227

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 مفهومي حين يحيل إلى الانتماء، وهو ليس موضوع إشكال، فالفرد المسلم أياً كانت لغته وجنسيته، يشعر برابطة الانتماء إلى غيره من المسلمين في أي مكان، ولكن حيث تفرض الظروف مواجهة واقع الاختلاف يبرز التنوع فتتخذ الهوية أبعاداً أخرى لمرتكزاتها كأن تبرز اللغة مع الدين، أو الجنسية وغيرهما... إن مواجهة واقع الاختلاف ناتج عن تنوع المصالح بين الجماعات وتضاربها بل أيضاً عن المعطيات المتغيرة بفعل عوامل حضارية وثقافية وتاريخية وبينها قيام الدول، وسيادتها على شعوبها وأراضيها، فتصبح الأمة أو الهوية متحددة بالدولة وبالجنسية ولها طابعها القانوني والدستوري الذي يحظى باعتراف الأمم.


شاع في تجربة الإمام الخميني قدس سره استخدام مفهوم الأمة في خطبه وبياناته، كما شاع أيضاً استخدام مفهوم الشعب. وقد كثر استخدام مفهوم الأمة عنده حين يتحدث عن العالم الإسلامي في تحدياته وظروفه وتطلعاته. في حين يكثر الحديث لديه عن الشعب حين الولوج إلى تجربة الجمهورية، وهو ما يمكن أن يشير إلى طابع الخصوصية الناشئة من واقع التجربة مع عدم إهمال التأكيد على هوية الأمة في امتداداتها المكانية والزمانية باعتبار ثبات منظومة الغايات والقيم المشتركة.

إن طابع الخصوصية لا يعبر عن الانزواء، ولا يعبر عن الركون الضيق والحاد إلى هذه الخصوصية، بقدر ما يعبر عن تكيف التجربة مع الواقع ما دام هذا الواقع لا يخالف المرتكزات الأساسية لمقتضيات الشريعة، كما يعبر عن منظومة من الدلالات التي ترتبط بأبعاد وآليات تحقيق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

228

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 التجربة وحدود المسؤوليات التي تنهض بها، والمسؤوليات المترتبة عليها لجهة علاقاتها التفاعلية في الداخل والخارج.

 
أما ركائز الخصوصية في تعبير الشعب، فبالعودة إلى كلمات الإمام الخميني قدس سره في مناسبات متنوعة، تستند هذه الخصوصية إلى عناصر ثلاثة هي الاعتقاد الديني والأرض والتطلعات المشتركة.
 
فلناحية الاعتقاد الديني، الإسلام يشكل رابطة الأخوّة في العقيدة ويعطي الهوية المشتركة للمجتمع الإيراني، ولكن لما كانت العقيدة عابرة للأوطان وللأمكنة فإن الأرض والتطلعات المشتركة تشكلان رافداً أساسياً لإضفاء معنى على الخصوصية، وهي تتواءم مع المعطيات الحديثة لفكرة السيادة للسلطة المكونة بإرادة الشعب ولرسم حدود الواجبات والحقوق لأفراد المجتمع، مع الاعتراف بسيادة الآخرين على أرضهم. فحين شن النظام العراقي حربه على إيران وجدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مسوغات دفاعها ضد الاعتداء أنه اعتداء ليس على الشعب وحده وإنما على أرض تشكل مجالاً لسيادة الشعب على أرضه. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد "هم البادئين بالحرب، ولو كنا نحن البادئون لكنا سيطرنا على قراهم ثم جاءوا وأخرجونا منها". "إن الذين يهاجمون حدودنا حتى لو كانوا مسلمين فإن الدفاع واجب. إن الدفاع عن أعراض المسلمين وأرواحهم وبلادهم يعدُّ من الواجبات"1. و" الإسلام الذي ننادي به لا يسمح لنا بالاعتداء على دولة ما"2.
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص485.
2- المصدر نفسه، ص486.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

229

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 أما لناحية التطلعات المشتركة، فهي تمثل الرافد الآخر لتعيين الخصوصية جراء ممارسة الشعب لحقوقه سواء في تشكيل نظامه السياسي أو في إدارته والحفاظ على سيادته. والإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد يعدُّ أن من الحقوق الأولية لأي شعب أن يمتلك حق تقرير المصير، وتعيين شكل ونوع الحكومة التي يريدها1. وهو بعد تشكيل النظام السياسي مكلف بحسب رؤية الإمام الخميني قدس سره الإشراف على جميع أمور البلاد، إلى جانب الحكومة التي سيتعين عليها عدم الانفصال عن الجماهير2.

 
3- خصوصية التجربة في مدرجات الدستور الإيراني
 
بعد مقاربتنا لأطروحة ولاية الفقيه في طبيعة مسوغاتها وخصائصها وحدود صلاحيات الولي الفقيه استناداً لرؤية الإمام الخميني قدس سره نفسه، سنحاول في مقاربتنا لتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تبيان دلالاتها من خلال مراجعتنا لبنود الدستور الإيراني لما يمثله هذا الدستور من أهمية في معرفة طبيعة عمل السلطة وحدودها واستشراف ما يمكن أن تختزنه هذه البنود من قدرة على تعميم نموذجها وإسقاطه على مجتمعات أخرى قائمة على التنوع في الانتماءات الاجتماعية والثقافية والدينية كلبنان مثلاً، أو استنتاج أن هذه البنود إنما هي مرهونة بخصوصية المجتمع الإيراني في واقعه الاجتماعي والثقافي وفي
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص362.
2- المصدر نفسه، ص363.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

230

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 طبيعة علاقته بالمرجعية الدينية، الأمر الذي يعني أن هذه الخصوصية رغم أنها تبقى رهينة دائرتها الخاصة، إلا أن الالتباس سوف يبقى ماثلاً باعتبار استنادها إلى المرجعية الدينية، وهي عند عموم الشيعة ليست محصورة بدائرة جغرافية معينة. غير أنه قبل محاولة تفكيك هذه الإشكالية لا بد من الولوج في بنود الدستور لمعرفة ما تختزنه من دلالات يمكن أن تعيننا على إبداء وجهة النظر بهذا الشأن.

 
1-3- الخصوصية في أبعادها الثقافية
 
تنطوي مقدمة الدستور في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أهمية بالغة في التعبير عن خصوصية تجربة نجاح الثورة الإسلامية من خلال استخدام الدستور مفردات تعكس هذه الخصوصية من قبيل الشعب، عقائدية الثورية، الركائز الثقافية والاجتماعية وتاريخية النهضة.
 
فحين توضح المقدمة أن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية "يعبر عن الركائز الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني"1 يعني أسبقية المجتمع الإيراني بأبعاده المتنوعة على الدستور وعلى نظام الحكم، واعتباره بمثابة البنية التحتية التي تشكل الشروط الضرورية لقيام الدستور الذي تتحدد من خلاله طبيعة السلطة وآليات عملها، إذ لا يمكن لهذا الدستور أن يشكل مزاجاً غريباً عن طبيعة المجتمع، فالسلطة الناشئة من خلال محدداتها الدستورية
 
 
 

1- انظر مقدمة الدستور الإيراني.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

231

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 إذا لم تكن متوائمة مع هذا المزاج، فلا بد، والحال كذلك، من اتصافها بالقهرية وافتقادها لمقومات العدالة ومنطق التوافق العقلي والنفسي مع مقتضيات الواقع، الأمر الذي يجعلها مفتوحة على العديد من الاختلالات الناشئة عن سوء التوافق ويؤذن بعدم استمراريتها وديمومة بقائها.

 
تفصح المقدمة عن أن "ميزة الثورة بالنسبة إلى سائر النهضات التي قامت في إيران خلال القرن الأخير إنما هي عقائدية الثورة وإسلاميتها" وأن تحققها كان بفعل "الضمير اليقظ للشعب بقيادة المرجع الديني الكبير حضرة آية الله العظمى الإمام الخميني قدس سره"1. وبطبيعة الحال إن إسلامية الثورة تقف بمقابل الثورات التي تحمل عناوين أخرى قد تكون غير إسلامية كالاشتراكية أو الرأسمالية أو تلك الممزوجة بين الاشتراكية والإسلام وغيرها من الثورات. في حين أن عقائديتها تحيل إلى خصوصية شيعية لجهة الاقتناع بدور المرجعية الدينية في قيادة المجتمع وفي الاضطلاع بدور سياسي أساسي في قيادة الدولة.
 
وبهذا المعنى تشير مقدمة الدستور بوضوح إلى إسلامية الثورة وعقائديتها التي أمنت لها شروط النجاح مع الإشارة أيضاً إلى "عدم نجاح الثورات السابقة في إيران جراء عدم عقائديتها" ما يعني أن الاعتقاد بمبدأ ولاية الفقيه كخط فكري إسلامي كان الأساس في نجاح
 
 

1- انظر مقدمة الدستور الإيراني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

232

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 هذه التجربة، بمعنى آخر أن هذا الاشتراط هو أساس نجاح التجربة وأن عدم مطابق لعدم قيام تجربة مماثلة. ولما كان هذا الاقتناع قد وصل إلى حد الانسياب العام بين مكونات المجتمع تحققت الدولة الإسلامية بنموذجها القائم على أساس مبدأ ولاية الفقيه.


وعليه فإن تطبيق نموذج الثورة وقيام الدولة وفق مبدأ ولاية الفقيه قد انحكم إلى مسار تاريخي وتواصلية تربوية وإعدادية أوصلت الشعب بغالبيته الساحقة إلى الاقتناع بهذا النموذج، فكانت الثورة وكانت الدولة. فالعقيدة وفق هذه الحال سابقة للدولة وليس العكس. والعقائدية هي من مكونات الشعب وليست من مكونات فئة من فئاته. وبذلك يصبح الاستنتاج أن ولاية الفقيه لا تسقط نموذجها على الشعب، وإنما تطرح خطها الفكري أولاً لتكون المبادرة إلى قيام الدولة مشروطة بشعبيتها، وهو ما يعود إلى الاستنتاج أيضاً أن الطرح الفكري لولاية الفقيه سواء في الدائرة الإسلامية أو الدائرة الشيعية أو المجتمع المتنوع في انتماءاته الدينية كلبنان لا يثير الكثير من الهواجس باعتبار وجوب تحقق الشروط الأخرى وهي اقتناع الشعب بهذا الطرح وليس فئة من فئاته.

وثمة دلالة بارزة في مقدمة الدستور بل وفي سائر بنوده التي جرى فيها استخدام مفردة "الشعب" على أن الدستور حين استخدامه لهذه المفردة إنما يشير إلى خصوصية الشعب الإيراني وهي خصوصية ثقافية، فالدستور هو دستور دولة إسلامية وليس دستور دولة علمانية، والشعب وفق المنطق القرآني يشير إلى خصوصية ثقافية كما تشير إليه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

233

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾1.

 
وبالتأمل في المادة الأولى من الدستور نجد ما يشير إلى رسم ملامح الشعب الإيراني في مميزاته الثقافية التي يتشارك فيها مع عموم المسلمين ويتمايز بدائرته الخاصة المتحكمة إلى طبيعة اعتقاده بقيادة المرجعية الدينية. تقول هذه المادة "نظام الحكم في إيران هو الجمهورية الإسلامية التي صوت عليها الشعب الإيراني بالإيجاب بأكثرية 98.2% ممن كان لهم حق التصويت... ولقد شارك هذا الشعب في الاستفتاء العام انطلاقاً من إيمانه بحكومة القرآن العادلة الحقة، وذلك بعد ثورته الإسلامية المظفرة بقيادة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الإمام الخميني قدس سره"2.
 
2-3- علاقة الفقيه بالدستور
 
تنوعت آراء فقهاء الشيعة حول سلطة وحدود صلاحيات الولي الفقيه. فهناك جماعة من الفقهاء تضمنت آراؤها تحديدات يمكن وصفها بالولاية المحدودة والمقيدة بصلاحية القضاء وفصل الخصومات بين الناس، والإفتاء، والتصرف في أموال القاصرين واليتامى وغيرها ونموذجها الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي، والشيخ مرتضى الأنصاري وكاظم
 
 
 

1- الحجرات: 13.
2- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة الأولى.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

234

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الحائري وعدد من الفقهاء الآخرين1. في حين يعتبر الإمام الخميني قدس سره هذه الصلاحيات مطلقة وأن ولاية الولي الفقيه هي الولاية نفسها التي أعطاها الله إلى النبي محمد والأئمة المعصومين، فللولي الفقيه استنباط الأحكام العامة غير المحصورة بالأمور الحسبية (أموال اليتامى والقصّر) وتنفيذ الأحكام الشرعية وتشكيل الحكومة، وهو ما يطرح التساؤل حول حدود سلطة الولي الفقيه في دائرة الدولة الإسلامية وخارجها. لأن ذلك يفيد في معرفة ما إذا كانت تعني الولاية المطلقة نفياً لاعتبارات الوجود المؤسساتي للدولة الإسلامية ولاعتبارات الزمان والمكان، ولإمكان وجود حدود لصلاحيات أخرى في عرض صلاحية الولي الفقيه.
 
فحكومة الولي الفقيه بحسب الإمام الخميني قدس سره هي حكومة دستورية بمعنى أنها رغم إطلاقيتها فهي مقيدة بقيود دستورية في تشكلها وآليات تعيين الفقيه وحدود صلاحياته وحتى زوال هذه الصلاحيات.
 
أ- في تعيين الولي الفقيه
 
الولي الفقيه بحسب الإمام الخميني قدس سره في ولايته المطلقة له ما للإمام المعصوم، ولكن الفقيه بنظر الإمام ليس معصوماً وليس منصباً بالتعيين كما هو حال الأئمة المعصومين بحسب آراء الشيعة الإمامية، لأن الفقيه حين يضطلع بمنصب إدارة وقيادة الحكومة الإسلامية إنما يتبوأ هذا المنصب انطلاقاً من شروط ذاتية وأخرى موضوعية لاضطلاعه بهذا الشأن.
 
 
 

1- محمد مصطفوي، نظريات الحكم والدولة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، د-ت، ص236.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

235

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الشروط الذاتية هي بمثابة الاستعدادات والممكنات اللازمة شرطاً للولي الفقيه، كالكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه، والعدالة والتقوى، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والقدرة على القيادة والرؤية السياسية الصحيحة. وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة يفضّل منهم من كان حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره1. في حين أن الشروط الموضوعية تتضح في نصوص الدستور من خلال الاعتراف الشعبي، أو التعيين من مثل الخبراء الذين أوكل لهم الدستور في الجمهورية الإسلامية الإيرانية مهمة تعيين الولي الفقيه بعد الاطلاع على الشروط الذاتية. تقول المادة السابعة بعد المئة: بعد المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة الإمام الخميني قدس سره، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين، ويقوم هؤلاء بدراسة حال كل الفقهاء الجامعين للشرائط... ينتخبون أحد هؤلاء ويعلنونه قائداً. ويتمتع هذا القائد بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك. ويتساوى القائد مع كل أفراد البلاد أمام القانون2.

 
وبهذا المعنى فإن الدستور يفصح بوضوح عن دور الشروط الموضوعية وهي التعيين المباشر للإمام الخميني قدس سره في قيادة الجمهورية
 
 
 

1- انظر المادة 109 من الدستور الإيراني.
2- أنظر الدستور الإيراني.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

236

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإسلامية بشكل مباشر من قبل الشعب وحدد آليات انتقال هذه القيادة لغيره من قبل الخبراء بشكل غير مباشر من الشعب بوصفهم منتخبين من قبله، ما يعني أن للشعب دوراً بارزاً في تعيين من تتوفر فيه صفات القيادة لإدارة البلاد وبالتالي صلاحية عزله "عند عجز القائد عن إدارة وظائفه أو فقدانه لأحد الشروط المذكورة في المادة التاسعة بعد المئة"1.

 
ب- حدود صلاحيات الولي الفقيه
 
في معرض بيان صلاحيات الولي الفقيه يصرّح الإمام الخميني قدس سره في كتابه الحكومة الإسلامية بأن الحاكم الفقيه "يملك من الإدارة والرعاية السياسية للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين علي..."2. هذه الصلاحيات إنما هي في معرض التنظير لولاية الفقيه المطلقة مقابل العلماء الشيعة القائلين بمحدوديتها وعدم مطاولتها الشؤون الإدارية والسياسية. وليس من المعتقد أن الإمام الخميني قدس سره عنى بذلك شمولية سلطته في تفاصيل كثيرة هي من مهمات الأمة، ويتضح هذا الأمر من خلال كلام الإمام الخميني قدس سره في صحيفة النور، فإذ يجد الإمام ضرورة التزام الفقيه بالقانون الذي يسري على الفقيه كما عامة الشعب يعود إلى تحديد صلاحيات هذا الفقيه حين إقامة الحكومة الإسلامية فهو يقول "إن الفقيه ليس حاكماً بل هو مراقب
 
 
 

1- المصدر نفسه.
2- الحكومة الإسلامية، مرجع سابق، ص


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

237

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ومشرف على حسن سير السلطة ومدى التزامها بالقانون"1. ولكن إذا ما طالعنا نصوص الدستور سنجد تحديداً لهذه الصلاحيات التي ربما أرستها ضرورة العبور نحو الدولة وما يفرضه قيامها من تعقيدات تستوجب تدخل الولي الفقيه. غير أن هذه التحديدات لا تختلف عما رسمه الدستور من صلاحيات لمؤسسات سياسية أخرى داخل نظام الحكم الإسلامي على غرار السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهي تحديدات تعبر عن التمايز الوظيفي لكل مواقع قيادة وإدارة البلاد. وموقع القيادة للولي الفقيه هو واحد من هذه المواقع، ويتمايز عنها بتمايز السلطات عن بعضها عن بعض في حدود صلاحياتها والقواعد التي تحكمها في نطاق عملها الذي لا يتجاوز هذه الحدود المرسّمة في الدستور.
 
وبالعودة إلى صلاحيات القائد الولي الفقيه نجدأن الدستور قد حددها في إحدى عشرة وظيفة بينها:
 
"تعيين السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص المصلحة"، بمعنى أن السياسات العامة لا ينفرد بها القائد الولي الفقيه وحده، "الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام" وهذه السياسات لم يقررها الولي الفقيه وحده.
 
"إصدار الأمر بالاستفتاء العام" ما يعني أن هناك سلطة للرأي العام
 
 
 

1- مسعود بو فرد، الديمقراطية الدينية، مصدر سابق، ص232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

238

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 لا بد من الأخذ بنتائجها. وقد سبق العمل بهذا الاستفتاء حين قيام الجمهورية الإسلامية التي صوت الشعب لقيامها.

 
"القيادة العامة للقوات المسلحة" وقد تحددت وظيفة السلطات المسلحة بالدفاع عن البلاد وحماية الثورة، و"إعلان الحرب والسلام والنفير العام". وللإمام الخميني قدس سره رأي فقهي في الحرب التي يعلنها الولي الفقيه وهي حرب دفاعية إذ ليس للولي الفقيه صلاحية إعلان الجهاد الابتدائي وهو متروك بحسب رأيه للإمام المعصوم1، "حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلّها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام" و "إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه، وعزله مع ملاحظة مصالح البلاد بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى بعدم كفاءته السياسية"2.
 
والمتأمل في هذه الصلاحيات المحددة في الدستور للولي الفقيه كقائد للنظام الإسلامي يجدها لا تختلف عن الكثير من صلاحيات رؤساء الدول في العالم المتقدم في النظم العريقة في الديمقراطية، بل تقل عما في العديد من دول العالم الثالث.
 
 
 

1- راجع كتاب تحرير الوسيلة للإمام الخميني قدس سره، باب الجهاد.
2- راجع الدستور الإيراني، البنود المتصلة بصلاحيات الولي الفقيه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
248

239

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ج- صلاحيات الولي الفقيه خارج البلاد


إن البحث في حدود صلاحيات الولي الفقيه خارج البلاد نابعة من طبيعة العلاقة بين الفقيه المجتهد وأتباعه المقلدين بغض النظر عن جنسياتهم. في التصور الشيعي الإمامي هناك الفقيه المجتهد العادل وهناك الأتباع المقلِّدون. والفقيه ليس واحداً بل قد تتعدد المرجعيات الفقهية بين المقلدين. وبحال كان الولي الفقيه الذي يقود الحكومة الإسلامية مرجعية فقهية فإن فتواه تسري على المقلدين خارج البلاد، وهي وظيفة فقهية على غرار سائر المرجعيات الدينية، في حين أن تعاطي الحكومة الإسلامية خارج البلاد مسنودة إلى الحكومة عبر مؤسساتها التي تناط بها وظيفة التعاطي مع الشؤون الخارجية للبلاد.

لما كان الولي الفقيه القائد للنظام الإسلامي ملتزماً بالقوانين ومراعياً لها أولاً كفرد بين سائر أفراد الشعب، ومن ثم ملتزماً بعمل المؤسسات الحكومية في النظام، إنما يكون ذلك أيضاً من خلال القوانين والصلاحيات الناتجة عن الجهات والمؤسسات الحكومية في رسمها لسياساتها الداخلية والخارجية وبما تضطلع به من آليات تنفيذية لتطبيق هذه السياسات والتي لا بد لها من مراعاة القانون الدولي في علاقة الجمهورية الإسلامية بغيرها من الدول عبر الدبلوماسيات المعتمدة بحسب العرف والقانون الدولي. وتأكيداً على دور الحكومة في رسم السياسات وخصوصاً الخارجية منها، يرى الإمام الخميني قدس سره في رسالة قد أرسلها إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، أن على أعضاء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

240

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 مجلس صيانة الدستور أن يفكروا في مصلحة النظام، والأخذ بعين الاعتبار فاعلية الزمان والمكان ودورهما في الاجتهاد واتخاذ القرارات ثم يؤكد أن الحكومة الإسلامية هي التي تعين الفلسفة العملية للتعامل مع الشرك والكفر ومع التعقيدات الداخلية والخارجية1.

 
فالرسالة تشير إلى دور هذه المؤسسات. فالحكومة تعمل أولاً عبر وزارة الداخلية والخارجية على رسم هذه السياسة ومن ثم عبر مؤسستي تشخيص المصلحة، ومجلس صيانة الدستور اللتين تنظران في قرارات مجلس الشورى إذا ما خالفت موازين الشريعة أو الدستور"2.
 
أما في العلاقات الخارجية فقد حدد الدستور مبادئ السياسة الخارجية على أساس "عدم الانحياز تجاه القوى التسلطية وتبادل العلاقات السلمية مع الدول غير المحاربة"3 و"دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى"4.
 
وإذ يوضح الدستور احترام السيادة الداخلية للدول الأخرى، فالشعوب هي التي تقرر مصائرها في سائر الميادين وليس للجمهورية الإسلامية التدخل بشؤونها. أما دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين سواء في العالم الإسلامي أو في غيره فلا يعني تجاوز
 
 
 

1- مسعود بو فرد، الديمقراطية الدينية، مرجع سابق، ص232.
2- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة 110.
3- المرجع نفسه، المادة 152.
4- المرجع نفسه، المادة 154.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
250

241

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ما هو معمول به لا سيما إذا أدى التدخل إلى المساس في شؤون الدول الأخرى. فالدعم هو دعم معنوي، وليس عسكرياً، باعتبار أن القوات المسلحة، الجيش والحرس الثوري، مناط بها "الدفاع عن استقلال البلاد ووحدة أراضيها، والدفاع عن نظام الجمهورية الإسلامية"1.

 
د- طبيعة الأحكام
 
إن إقامة الحكومة الإسلامية هي من المتعينات الواجبة وعلى المسلمين إقامتها لتطبيق شريعة الإسلام.
 
إن تعبير الإمام الخميني قدس سره إذا ما أُخذ على أنه بمثابة الفتوى التي ينبغي على المقلدين الالتزامها سواء داخل النظام الإسلامي أو خارجه.ليس جامداً إذا ما أُخذت هذه المصاديق مع اقترانها بالزمان والمكان والمصالح المرتبطة بحال المسلمين والتي ينبغي فيها للفقيه معرفة الواقع. ومن هنا ثمة فوارق بين الأحكام الصادرة عن الفقيه كأحكام أولية وتلك الصادرة كأحكام ثانوية. الأحكام الأولية هي أحكام كلية غير مطبقة على مصاديقها الخارجية كقول الفقيه الصلاة واجبة أو الحج واجب في حين أن الأحكام الثانوية هي أحكام شرعية وضعت للعناوين الطارئة2.
 
فإذا كان وجوب إقامة الحكومة الإسلامية يعد من الأحكام الأولية الأساسية، بمعنى أن وجوب إقامة الحكومة الإسلامية هو كالقول
 
 
 

1- المرجع نفسه، المادة 143.
2- محمد علي التسخيري، حول الدستور الإيراني، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، إيران 2005، ص183.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

242

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 بوجوب الصلاة، غير أن حيثيات إقامتها قد ترتبط بعناوين فرعية أخرى تستوجب أحكاماً من النوع الثانوي خصوصاً مع تزاحم الواجبات كالواجب الذي يقتضي إنقاذ الغريق أو إقامة الصلاة في وقتها، أو البدائل حين لا يوجد ماء للوضوء، أو أكل لحم الميتة وغيرهما.

 
وهو ما ينطبق على حال وجوب التزام المسلمين بإقامة الحكومة الإسلامية بالعنوان الأولي. ولكن هذا الوجوب سيكون محكوماً للعناوين الثانوية مع متغيرات المكان والزمان، على غرار وجود عدد قليل من المسلمين في الصين أو في بعض البلدان الأوروبية، أو في غيرها، إذ تصبح إقامة الحكومة الإسلامية بحاجة إلى الأحكام الثانوية كونها من العناوين الطارئة.
 
والحالات الطارئة هي من قبيل الضرر، والعسر، والحرج، والإكراه والخوف1. ولذلك نجد الحكم الثانوي يعبر عن مرونة تشريعية تستجيب للحالة الضاغطة بمقدار ما تحمله من ضغط والأحكام الثانوية كالأحكام الأولية لها مصاديقها في القرآن الكريم ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2 و﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾3. كذلك جاءت الروايات لتتحدث عن عناوين أخرى، فعن
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص180.
2- البقرة: 173.
3- الحج: 78.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

243

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والتفكر في الوسوسة في الخلق وما لم ينطق بشفة". وهو ما ذكر في كتاب وسائل الشيعة وذكرته الصحاح1.

 
4- تصدير الثورة خارج إيران
 
راجت مقولة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الخارج منذ نجاح الثورة بتثبيت دعائمها. وما زالت هذه المقولة سائدة حتى وقتنا الحاضر بعد مضي عقود من الزمن على قيام الثورة الإسلامية هذه.
 
وقد عمد الغرب إلى الاستفادة من شعارات الثورة عبر التضخيم والتمويه والتحريض وزرع الخوف لدى الأنظمة وبث الذعر بين الشعوب من أهداف توسعية مزعومة لإيران. وقد حقق نجاحاً ملحوظاً في إقناع العديد من دول المنطقة بأن رياح الثورة قد تهب عليها ما لم تبادر إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية نفسها بالمزيد من الالتصاق بالغرب.
 
تبياناً لحقيقة هذا الشعار لا بد من العودة إلى أقوال مؤسس الثورة للوقوف على الدلالات الحقيقية لهذا الشعار وحيثيات تطبيقه خارج إيران بحسب قائدها ومؤسس دولتها الإسلامية. ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن شعار التصدير يستمد قوته ودافعيته من طبيعة الإسلام نفسه كدعوة توحيد عالمية باعتباره خاتم الديانات، ومن
 
 
 

1- محمد علي التسخيري، حول الدستور الإيراني، مرجع سابق، ص182.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

244

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 التجربة التاريخية لتطبيق الإسلام نفسه كدين ودولة بعد وفاة النبي، حيث لم تكن هذه الدولة قد ارتكزت على مبدأ الأرض بالمفهوم الحديث أو على مبدأ تعدد الخلافة.


دون الولوج إلى طبيعة الأحكام الفقهية في مبانيها ومصادرها وتكيفها مع واقع الحال فإن مقاربة تجربة الجمهورية الإسلامية في علاقاتها الدولية وطموحاتها المستقبلية تكشف عن طبيعة فهم الثورة لتطبيق الإسلام كدين عالمي.

1-4 معنى تصدير الثورة

الثورة الإيرانية هي إسلامية في منطلقاتها وتطبيقاتها، وهي استناداً إلى ذلك وبلا ريب تنطلق من أن الدين الإسلامي عالمي وهو للناس كافة. وانطلاقاً من ذلك يحضر السؤال حول ما إذا كانت الثورة بمنطلقاتها هذه تسعى إلى أسلمة الأنظمة والمجتمعات وجعلها نموذجاً مطابقاً للنموذج المعمول به في إيران بعد الثورة بمعنى أنها تريد نقل هذه التجربة إلى الآخرين عبر الإخضاع والجبر، أو أنها تسعى لتصدير الإسلام كدعوة توحيد.

بالعودة إلى تصريحات الإمام الخميني قدس سره لا نعثر على ما يدل على أن الثورة تسعى لتغيير الأنظمة على قاعدة جعلها مرتبطة بالولي الفقيه لأن معنى التصدير هو بحسب الإمام الخميني قدس سره "التعريف بالإسلام في كل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
254

245

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 أنحاء العالم"1 إذاً هي دعوة توحيد ودعوة لمعرفة الإسلام. والدعوة مشتقة من الداعي الذي يخاطب الآخر عبر الحوار والإقناع.

 
والمعنى الآخر هو دعوة إلى اليقظة، وليس دعوة لفتح البلدان وإخضاعها. وهذه اليقظة هي يقظة الشعوب والحكومات جراء أمر ما. وهذا الأمر هو انعدام فرص العدالة عبر التسلط ونهب خيرات الشعوب. يقول الإمام الخميني قدس سره في معنى تصدير الثورة "لا تفسروا خطأً معنى قولنا إننا عازمون على تصدير الثورة إلى كل مكان بأننا نريد فتح البلدان. إننا نعتبر جميع البلدان الإسلامية كبلدنا، ويجب أن تبقى هذه البلدان على حالها، ولكن نريد لهذه اليقظة التي تحققت في إيران في إبعاد القوى العظمى وقطع أياديها عن ثرواتنا، أن تحصل لدى كل الشعوب"2. لا نجد في هذا الكلام عن معنى تصدير الثورة أنه دعوة جهادية أو دعوة إلى تغيير الأنظمة في نوع الحكومات السائدة لديها أو في اعتناق وإتباع شعوبها. لمذاهب معينة وإنما هي دعوة إرشادية للمزيد من الحرية والاستقلال عن التبعية للقوى العظمى الناهبة لخيرات شعوبها، وهي دعوة إلى المزيد من الحرية داخل البلدان نفسها، وإلى المزيد من الالتصاق بين الشعوب والحكومات عبر الابتعاد عن الظلم ومراعاة مبدأ العدالة. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد "إننا نريد تحقيق المصالحة بين الشعوب والحكومات،
 
 
 

1- الإمام الخميني قدس سره، منهجية الثورة الإسلامية، مصدر سابق، ص443.
2- المصدر نفسه، ص447.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

246

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 لا نريد أن تبقى الحكومة ظالمة، ونريد أن لا يبقى الشعب معادياً للحكومة"1.

 
2-4- وسائل تصدير الثورة
 
بعد تحديدنا لمعنى تصدير الثورة، بحسب قائدها ومؤسسها الإمام الخميني قدس سره، والتي وجدنا أن معناها يقف عند حدود الدعوة. إلى تصدير معاني الثورة وقيمها، أي رسالة التوحيد، كمبدأ إيماني، والعدالة والحرية كقيم اجتماعية، لا بد من الوصول إلى تبيان الوسائل التي يتعين على الثورة اعتمادها، وهي بلا شك تضيف بعداً آخر في فهم معاني تصدير الثورة. وهذه الكيفية تتجلى من خلال تحديد هذه الوسائل استناداً إلى فهم السياسات المعتمدة من قبلها والتي جرى تحديدها عبر كلمات الإمام الخميني قدس سره نفسه حيث رسم حدودها وآلياتها، وهذه الوسائل هي:
 
أ- الدعوة السلمية
 
أن تكون الدعوة سلمية يعني غياب مبدأ الجهاد والقتال في نشر الدعوة والنظر إلى الشعوب أيضاً على أنها ليست معادية. يستلهم الإمام الخميني قدس سره ذلك من طبيعة الإسلام ومنطلقاته، يقول في هذا الصدد: "إن الأحكام الإسلامية هي أحكام سلمية، ونريد أن تكون جميع الفئات مسالمة، بما إن محتوى الثورة الإسلامية الإيرانية يقوم على العدل الإسلامي الذي تلتزم به فلا يمكنها الظلم والاعتداء على حرمة الآخرين"2.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص449.
2- المصدر نفسه، ص438.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

247

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 بهذه العبارة نجد أن لا مجال لإكراه الآخرين على القبول بما يطرح عليهم مع الالتفات إلى الكلمتين الأخيرتين في هذه العبارة "حرمة الآخرين"، الآخر هو المختلف في الثقافة والدين، هو كينونة بحد ذاته يكشف عن هوية مغايرة، وهذه المغايرة هي محترمة بحسب دلالات العبارة بل يصل احترامها إلى حد الحرمة أي المنع والامتناع عن التعرض لها بموجب الأحكام الإسلامية. فهذا حكم إلهي وليس إدارياً أو ظرفياً، وحرمة الآخرين تعني ما يعتقد به الآخر أنه خاص عنده، سواء في أرضه أو معتقده. والدعوة السلمية كأسلوب ينبغي إتباعه، وسيلته الإعلام وليس السلاح. وتأكيداً لذلك يصرح الإمام الخميني قدس سره بقوله: "عندما نقول بأننا نريد تصدير الثورة فهذا لا يعني أننا نريد أن نستقل الطائرات ونهاجم البلدان الأخرى، فهذا ما لم نقله نحن، ولا يمكننا قوله، لكننا قادرون من خلال الأجهزة التي نملكها كالإذاعة والتلفزيون والصحافة والجماعات التي تسافر إلى الخارج أن نعرّف الإسلام كما هو، وهذا الواجب يشمل جميع المسلمين وليس الشعب الإيراني وحده. من خلال الإرشاد يدخل الإسلام قلوب الناس، وهذا الفن يأتي من أحكام الإسلام، لا من خلال المدفع والدبابة"1.

 
ب- تقديم النموذج العملي في الخارج
 
الدعوة السلمية من خلال وسائل الإعلام قد تقتصر على البعد
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص447.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

248

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 التنظيري الذي يحتاج إلى التدعيم في أبعاد أخرى عملية تعبر عن صدقية التزام هذا المبدأ، وتعزز من إمكانات تحقيق هذا الهدف. وهذا البعد يتجلى في ميادين شتى، في العلاقات التي ستقوم عليها السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، وفي أداء النخبة من المثقفين والدبلوماسيين ورجالات الدولة في الداخل والخارج والذين سيتعين عليهم بحسب الإمام الخميني قدس سره أداء دورهم وفق هذا المنوال. ففي معرض السياسة الخارجية التي تعبر عن احترام سيادة الدول، وخيارات الشعوب يؤكد الإمام الخميني قدس سره أن سياسة الدولة الإسلامية هي حفظ الاستقلال، وحرية الشعب والحكومة، ولا فرق في ذلك بين القوى العظمى... حتى أمريكا "لو تعاملت مع إيران من خلال الاحترام فسوف نلتزم بالاحترام المتبادل ونتعامل معها بشكل عادل فلا نظلمها ولا تظلمنا"1، وكذلك روسيا وغيرها من دول العالم ودول المنطقة. فالمعيار هو السلام كأساس، وهو يقوم أيضاً على مبدأ العدالة وعدم الظلم. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد "نأمل أن يقوم السلام العالمي على أساس استقلال الشعوب وعدم التدخل في أمور بعضهم البعض، ومراعاة مبدأ السيادة الكاملة لدول المنطقة. وإن أي اعتداء على دول العالم الثالث والبلدان الإسلامية، يعدُّ خلافاً للموازين التي يجب أن تكون أساساً للسلام بين الشعوب"2.

 
وعلى أساس هذا الاعتبار للاحترام المتبادل للسيادة والاستقلال
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص440.
2- المصدر نفسه، ص440.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

249

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 واللذين ينطلقان من أساسات السلام والعدل وانتفاء الظلم يتجسد النموذج العملي الذي ستسلكه الثورة في علاقاتها الخارجية. ففي الوقت الذي تصون فيه سيادتها واستقلالها، تحافظ على عدم المسّ بسيادة واستقلال الآخرين، ولكن دون أن يعني ذلك الانغلاق والانزواء. فتصدير الثورة يبقى ماثلاً في بعده السلمي وفي تقديم التجربة في منظورها القيمي. فالعلاقات الحسنة والمرتكزة على مبدأ العدالة إنما تكون إحدى النماذج التي تقدمها الثورة في مقابل الدول العظمى في سعيها للهيمنة على استقلال الدول والشعوب الأخرى، والتي أدارت ظهرها لقيمها الحضارية وهي الحرية والديمقراطية التي نشأت عليها.

 
لا يقتصر النموذج العملي على أداء الدولة في السياسة الخارجية وإنما يشمل مسلكية العاملين فيها وخصوصاً أعضاء السلك الخارجي الذين ينبغي لهم تقديم النموذج في الجانب المسلكي والأخلاقي. ففي توجيهاته لسفراء الجمهورية الإسلامية للخارج يحدد الإمام الخميني قدس سره رسالة ودور هؤلاء السفراء ويلفت انتباههم إلى أن تصدير الثورة إنما يكون من خلال التزامهم السلوك العملي وخاصة في المسائل الأخلاقية، ومن خلال التزام الآداب الإسلامية التي تستحوذ على أنظار الناس، والتي لا بد للآخرين من تقبلها بسحب فطرتهم الطبيعية والسليمة، وهذا الأمر ليس منوطاً بالسفراء بل بكل الإيرانيين الذين يسافرون إلى الخارج1.
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص450-451.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

250

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ج- العدالة الاجتماعية

 
العدالة الاجتماعية التي يشكل الاقتصاد أحد أبعادها تتخذ في الإسلام بعداً عادلاً يراد له أن يشق طريقه بين الناس. وعندما طرح الإمام الخميني قدس سره العدالة لتكون أحد ركائز النظام في الجمهورية الإسلامية فإنها طرحت لديه في مقابل الرؤى الاقتصادية العالمية بشقيها الاشتراكي والرأسمالي حيث راح كل منهما يقدم نموذجه للعالم على أنه النموذج الذي يجسد العدالة الاجتماعية. وبحسب فهم الإمام الخميني قدس سره فإن الإسلام لا يؤيد الرأسمالية الظالمة الجشعة التي تحرم الجماهير المظلومة، بل يرفضها رفضاً جاداً في الكتاب والسنة، ويعتبرها مخالفة للعدالة الاجتماعية، كذلك فليس في الإسلام نظام على غرار النظام الشيوعي، والماركسي اللينيني، لأن الإسلام نظام معتدل يعترف بالملكية ويحترمها ويضع حدوداً لظهورها والتصرف بها1. بهذا المعنى فإن العدالة التي ستتجسد في النظام الاقتصادي للثورة هي بمثابة النموذج الذي سيتعين على الثورة أن تقدمه للعالم كإطار رؤيوي يطرح في مناخات الحرية للاستفادة منه في سبيل خلاص البشرية الساعية إلى تجسيد مفهوم العدالة والإصلاح. وهو ما يتعين على المثقفين الإسلاميين جميعاً أن يسلكوا من خلال العلم والوعي الطريق لتغيير العالم الرأسمالي والشيوعي2، مع الالتفات إلى
 
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص449.
2- المصدر نفسه، ص442.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

251

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 عدم سلوك فتح البلاد بالجهاد والتعامل مع الناس بالعنف بل بالسلوك الحسن والدعوة قدر الإمكان، فالجميع أحرار ليختاروا ما يشاؤون، إلا عند الإحساس بالمؤامرة1 فيجب الدفاع وصدّ المهاجم.

 
 

1- المصدر نفسه، ص473.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

252

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الفصل الثاني الأبعاد الرؤيوية لتجربة حزب الله


تَمهيد

بعد مقاربتنا لأطروحة ولاية الفقيه كما طرحت لدى الإمام الخميني قدس سره لا بد من محاولة الولوج إلى تجربة حزب الله في معرض رؤيته السياسية لاستطلاع المباني الأساسية التي استند إليها الحزب في محاولة التوفيق بين منطلقاته وولائه لأطروحة ولاية الفقيه وبين الواقع اللبناني القائم على التنوع الشديد في تكويناته الاجتماعية القائمة على تعدد الطوائف. وسوف يتم الاستناد في هذا المجال إلى أدبياته المنشورة خصوصاً في مراحل التأسيس ومن ثم استكناه مضامين أطروحة ولاية الفقيه على أن تتم المعالجة في هذا الفصل من خلال عنوانين أساسيين هما هوية حزب الله ومن ثم رؤيته السياسية. وبما أن هذه العبارة الأخيرة تجد تسويغها من طبيعة المقارنة ذاتها إلا أن مقاربة الهوية نجدها من قبيل الضرورة المنهجية، ذلك أن هوية الحزب ومنطلقاته هي إسلامية بامتياز وتشكل رافداً أساسياً في بناء الرؤية السياسية لكونها تقوم على فهم الذات وفهم الآخر وهما مفهومان يشوبهما الكثير من التعقيد خصوصاً في واقعنا الراهن أي مع قيام المجتمعات السياسية التي باتت تستند إلى تسويغات قانونية ودستورية متجاوزة ما كانت عليه في عهود تاريخية سابقة حيث باتت الأمة تعيش في أكثر من دولة واحدة وفي بقاع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

253

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 جغرافية متنوعة، وبات الآخر منظوراً إليه وفق أسس ومرتكزات بالغة التنوع والتعقيد.

 
1- الهوية والخطاب
 
بداية يمكننا الاستناد إلى بعض التحديدات للارتكاز عليها على غرار مفهوم الهوية دفعاً للالتباسات التي قد تنشأ في هذا المجال قبل عرض هذه الآراء حول هوية لبنان. ذلك أنه من الضروري تحديد وجهة البحث ومركوزاته المفاهيمية احترازاً من الوقوع في التعميم الذي يغيِّب إمكانية القبض على زمام المشكلة. 
 
الهوية تعني اللغة، إن الشيء هو نفسه بوصفه متميزاً عن غيره أو مشتركاً مع شيء آخر بالصفات والخصائص عينها. وثمة تعريف للمفكر الفرنسي "ميكشيللي "1 ينطلق من معطيات نفسية واجتماعية ومعنوية، ما يعني أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة التي تجعل الشخص يتمايز عن سواه ويشعر بوحدته الذاتية. 
 
غير أن الهوية ليست فقط ما تشكله من عناصر فعلية مشتركة بين عناصرها، بل هي أيضاً تمثل ما يطمح إليه أعضاؤها، وما يعتقدون بوجوب بلوغه، ولذلك فهي تشكل دافعاً رئيسياً للعمل من أجل تحقيقها والدفاع عنها والاحتفاظ بها. 
 
 
 
 

1- الهوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم، دمشق 1993. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

254

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ما يمكن استخلاصه من التعريفات الواردة على سبيل المثال - لا الحصر - يبين أن ثمة وجهين للهوية الأول ما يتصل بحالة الكينونة التي تعيشها جماعة أو أمة أو شعب يشد أفرادها بعضهم إلى بعضهم صفات مشتركة تشعرهم بنوع من الوحدة الاندماجية التي تصير فيها الجماعة ذاتاً واحدة. والوجه الآخر يتصل بالصيرورة أو يتصل بغاية تسعى إليها الجماعة وهي بلوغ غاية الهوية بمعنى أن ثمة هوية تحظى بالوجود العيني ولكن هذا الوجود يحتاج إلى وعيه من قبل الأفراد أو إزالة ما يمكن أن يحصل من الالتباسات التي تثار حوله من ناحية التفكير النظري. 


1-1 معالم الذات الجماعية لأمة حزب الله 

لا بد لأي حركة أو تنظيم إرادي كان أو فطري، من وجود عناصر مشتركة ومتوالفة تؤدي إلى تكوين ذات جماعية تشد أفرادها بعضهم إلى بعض وترسم معالم التفارق عن الذوات الأخرى التي تشذ عنها، أو تكاد تقترب منها من خلال التشارك في بعض العناصر المشتركة لكن دون أن تضوي إليها أو تتدامج معها لتصبح ذاتاً واحدة. تلك هي الذات التي تعني الهوية مقابل الذوات المتغايرة التي تعني الآخر.

عناصر التشارك في الذات قد ترتكز على التراث أو اللغة أو العقيدة والأيديولوجيا أو المصلحة المسنودة إلى الواقع المعيشي، أو غيرها من عناصر التشارك التي تنسج وشائج ضامرة وبارزة لدى الأفراد في إطار من الوحدة النفسية والشعورية ووحدة التصور لأنفسهم أولاً،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

255

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ومن ثم للآخرين على أنهم ذوات متغايرة. فالهوية تعبر في آن معاً عن خصوصية وفرادة ومماثلة في إطار النحن الجماعية. 


فمن نحن ؟ 
ما هي أهدافنا؟ 
ماذا ننشد؟ 
وما هي منطلقاتنا؟ 

تجد جواباً لهذه الأسئلة في أي حركة منظمة أو انتظام حزبي بالاستناد إلى السلوكات الجماعية الهادفة أو من خلال الخطاب الذي يفصح بطريقة علنية عن هذه الذات تعريفاً بها لأفرادها وللآخرين. 

وبخصوص حزب الله تتحدد هذه الذات أو الهوية، انطلاقاً من العودة إلى الأدبيات المنشورة أو إلى الخطاب الخاص بتحديد الأهداف والمنطلقات. وهي بأي حال لا تشير إلى ندرة بادية بقدر ما تشير إلى دلالات عميقة الأثر في الإفصاح عن الهوية. علماً بأن خطاب حزب الله ما زال في طور الاكتمال التدريجي لكون حلقاته ما زالت ترتسم معالمها مع معطيات الواقع اللبناني المتغاير وغير المنسجم، في حركة تعبر عن سيرورة تواصلية، في مجتمع يحفل بالكثير من التناقضات المفتوحة على أطر التجاذبات الداخلية والخارجية والتي هي من سنخية المجتمع اللبناني المتعايش والمتنافر في آن معاً. 

على هذا النحو، يمكن الارتكاز على عينة من خطاب حزب الله وهي الرسالة المفتوحة التي وجهها إلى اللبنانيين والعالم، والتي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

256

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 تفصح عن هذه الذات أو عن الهوية، على أنها تشكل حقلاً تحليلياً لشبكة مفرداتها والحقل الدلالي لمعانيها مع الأخذ بعين الاعتبار كيفية تعاطي هذه الهوية مع الواقع الذي لا بد أن تتفاعل معه عبر آليات من العمل والسلوكات الهادفة، فضلاً عن استكشاف أبعاد الهوية المختزنة في منطويات المفردات أو الخطاب المكتوب. ففي الرسالة مفردات ركنت في صفحات قليلة على غرار أمة حزب الله، الأمة الإسلامية، المستضعفين، المستكبرين، الأصدقاء.... وولاية الفقيه، تشكل معاً توليفة بين العام والخاص. 


فالخاص يقع في مفردة وحيدة هي ولاية الفقيه فيما يسري العام على سائر المكونات المفهومية. الخاص هو بمثابة المحور الأساس في شبكة المفردات لكونه يرسم ملامح الذات المتغايرة مع الآخر من جهة ويحدد أطر العلاقة بين هذه الذات والآخر من جهة أخرى. 

أ- الدائرة الولائية

لا بد للذات الجماعية من الانطلاق نحو الفعل الذي يشكل أحد الحلقات التواصلية بين المنطلقات والغايات. 

فالذات الجماعية ليست جامدة بمعنى أنها ليست ذاتاً لذاتها، إنما هي ذات حركية، في حين أن حركتها لا تعبر عن سيرورة الذات نفسها في حركة تحيلها إلى ذات أخرى تتبدل بحسب ظروف الواقع، بقدر ما تعبر عن انطلاقها نحو غاياتها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

257

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 وانطلاقاً من حركة الفعل نحو تحقيق الأهداف، لا بد من ارتكاز الفعل على قاعدة وظيفية تؤدي بطبيعة الحال إلى تمحور الذات الجماعية في صنفين من الأفراد، ليس من منطلق الولاء وإنما من منطلق حركة الفعل. هذان الصنفان هما النخبة الولائية التي تنضوي إلى التنظيم الحزبي وجمهور الناس من الولائيين. 


يطلق على الصنف الأول النخبة (العلماء، أفراد المستويات التنظيمية المختلفة والتعبئة العامة) في حين أن أدراجها في إطار النخبة الحزبية ليس إدراجاً تراتبياً من الناحية الولائية وإنما لاستيفائها الشروط المحددة التي تسمح بهذا التوصيف وغالباً ما تحدد هذه الشروط بالسن، ودرجة الالتزام والاستعداد لتحمل الصعاب، والوعي العقدي. وهذه الشروط تعبر عن انتخاب ذوي المؤهلات التي تعينهم على الفعل والحركة، فهذه النخبة هي الأكثر تحملاً للصعاب ومشقات العمل، وهي الأكثر وعياً للمنطلقات والأهداف وأكثر إدراكاً للواقع في حركته وتناقضاته، وأفضلها قدرة على تمثل العقيدة واختلالات الحاضر، في نقلها إلى وعي الجمهور الولائي. 

تشكل قاعدة الالتزام بولاية الفقيه مرتكزاً أساسياً ومحدداً نوعياً يرسم هذه الهوية لا بمعنى الملامح، بل بمعنى الجوهر الذي لا تنفصل عراه عن الذات الجماعية، والذي يعمل على تعضيد الأفراد وتصليب الوشائج التضامنية بينهم، وهكذا فإن انتساب حزب الله إلى الولي الفقيه، والذي يفصح عن هويته الخاصة، كان حريصاً على الإحاطة بما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

258

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 يترتب عليها من إشكالات تطعن في كيفية التوفيق بين هويته الخاصة والهوية الوطنية. 

 
ويقدم الحزب أدلة على التزامه الوطني بالاستعداد للتضحية بالنفس وبمجاهدي المقاومة الإسلامية وشهدائها في سبيل تحرير الأرض الوطنية في مقابل تخلي الآخرين عن واجبهم الوطني في الدفاع عن الأرض والوطن. أما فيما يتصل بالشعور بالهوية كانتماء فيرى حزب الله أن هناك تشاركاً ثقافياً بين اللبنانيين بمختلف مكوناتهم وهذا الرابط لا يقوم على الجغرافيا فحسب وإنما على التاريخ واللغة وبهذا المعنى يقول الشيخ نعيم قاسم "إن حس القرابة الذي يشعر به التابع لحزب الله تجاه مواطنه لا يتأثر بانتمائه الديني".
 
وهكذا على الرغم من الرابط الفكري القوي بين الشيعي اللبناني والشيعي الإيراني أو الشيعي العراقي فإن التقاليد والأعراف والقواعد المشتركة بين الشيعي اللبناني والمسيحي اللبناني تجعله مختلفاً ثقافياً عن الشيعي الإيراني أو العراقي. ويلاحظ د. علي فياض أن الأمر نفسه يصحّ بالنسبة إلى إيران، فالحدود المعينة بينها وبين العراق تنم عن انتماءات شعبها وولاءاته القومية المتميزة1.
 
 
 

1- أمل سعد، حزب الله الدين والسياسة، م. س، ص 100.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
268

259

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 ب- الدائرة الانتمائية


الذات الانتمائية هي الذات التي تدخل في دائرة الهوية، غير أنها انتمائية وليست ولائية بالمطلق، للاختلاف الحاصل بين حالة الانتماء وحالة الولاء في بعض الجوانب. إذ ليس كل انتماء يعبر عن الولاء. فالانتماءات تبقى بطبيعة الحال منفتحة على دوائر عدة كانتماء الإنسان إلى أسرة أو عشيرة أو طائفة أو حزب أو جمعية أو لمكان العمل أو القرية أو المدينة أو الوطن في آن معاً. ولكن بحال حصول التجاذب في الموقف بين الانصياع لخدمة هدفين في دائرتي الانتماء فيكون الترجيح لأحدهما بمثابة حالة ولائية. على هذا النحو، فثمة دوائر انتماء تدخل ضمن مكونات الهوية ينطلق بمساحات تتسع وتضيق في آن معاً،ولكنها تمتلك إمكانية التحول إلى ذات ولائية مقرونة بالفعل الذي تتفاوت درجة حدوثه أو الاستعداد للقيام به، إلى التزام يزاوج بين الإيمان بمجمل الأهداف والإيمان ببعضها حيث يقتضي هذا الإيمان الانطلاق في حركة منسجمة نحو هذه الأهداف. 

فإحدى دوائر الانتماء تحيل في تشاركها مع الذات الجماعية من منظور التشارك في الانتماء للدين وللتراث الشيعي المستحضر دوماً في البنية الذهنية للأفراد. وهذه الدائرة تكون في العادة مستدمجة لأهداف الذات الولائية (مقاومة مشاركة سياسية) ولكنها لا تتحرك باتجاه التعبير عنها في الميدان العملي لنأيها بنفسها عن المشاركة في الحالات الجهادية أو العملية الأخرى وباقتصارها على إعلان الإيمان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

260

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 بالأهداف من الناحية النظرية بمعزل عن انبثاقها واستلهامها ودورانها في فلك ولاية الفقيه. وعندما تصل هذه الدائرة إلى حد تجاوز الانتماء إلى حالة ولائية، فإنما تتحرك بفعل طبيعة الأهداف نفسها دون الارتداد إلى منطلقاتها العائدة إلى الفهم الخاص لمبدأ الولي الفقيه. 


وقد تسبغ على هذه الأهداف طابعاً أخلاقياً أو دينياً نابعاً من التراث الشيعي نفسه. وليس إدراجه في هذا التصنيف، على أن الذات الإنتمائية هي بطبيعتها جمهور متلقٍّ أو قاصر عن الوعي ويشذ عنه، وإنما يملك تصوراً للأهداف وللمنطلقات، مع فارق عدم تمكنه من الاحتكاك اليومي بالواقع وإهمال أموره الحياتية لينضوي في إطار النخبة الولائية التي تقع في دائرة الصنف الأول. 

وعلى هذا النحو يغدو التصنيف مرتداً إلى الدور والوظيفة، وليس تصنيفاً يخرج الذات عن تمحورها وفق الهوية أو يجعل منها كياناً متراتباً بين ذات عليا وأخرى تهبط إلى ما دون العلو والرفعة. 

ج- الدائرة الانتمائية العامة

وهي الدائرة التي تعبر عن الوحدة الشعورية بين الأفراد على أساس العقيدة الدينية في خطوطها العامة، حيث يتشارك المسلمون الاعتقاد في وحدانية الله والنبوة والمعاد. ولكن اندراجها ضمن أمة حزب الله ينطلق من حركية أفراد هذه الدائرة باتجاه هموم العالم الإسلامي لرفعها عن كاهل الأمة. وقد جرى تشخيص تلك الهموم بالإشارة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
270

261

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الصريحة إلى زوال إسرائيل ومجاهدة الاستكبار العالمي، وغيرهما من العناوين العريضة المتضمنة في الرسالة المفتوحة لرفع الحيف والظلم عن الأمة. 


فلا بد لدائرة الانتماء الإسلامي العام من إبراز هذا الانتماء في حالة ولائية عامة تتحرك باتجاه أهداف تخدم عامة المسلمين من منطلقات إسلامية عامة دون الدخول في تفاصيل هذه المنطلقات، لأن التفاصيل تحيل إلى انفكاك الأمة إلى دوائر خاصة تنطلق في خصوصيات هذه الدوائر في تنوع فهمها لمبدأ الحاكمية، وفهم التراث، ولتباينات التفسير والتأويل. 

فحين يتوجه خطاب حزب الله للمسلمين، فهو يتحرك باتجاه الأبعاد الانتمائية العامة المتجسدة في واقع الحال، دون أن يهدف إلى استيعابها في الدائرة الولائية الخاصة التي تتحرك في إطار ولاية الفقيه، بل باتجاه حض المسلمين على إحباط المؤامرات الإمبريالية التي تسعى إلى زرع الشقاق في الأمة الإسلامية. ليس في دعوة حزب الله ما يشير إلى أسلمة الأنظمة وفق رؤية ولاية الفقيه بقدر ما يتطلع إلى تشكيل رابطة أخوة إسلامية ووحدة إسلامية بين السنة والشيعة وتكوين أمة حقيقية متآلفة فيما بينها ومتوحدة على قاعدة العداء لإسرائيل والغرب المهيمن. والأمة، بهذا المعنى، ليست مجتمع المؤمنين الذين يلتزمون القرآن ويؤدون الشعائر الدينية وإنما هي مجتمع سياسي من النشطاء الإسلاميين في مواجهة أعداء الأمة. 

إن الأمة وفق هذا الإدراك هادفة في جوهرها، في حين أن وحدتها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

262

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 هي المطرقة التي تحطم مؤامرات الظالمين، وعلى رأسهم إسرائيل التي ينبغي للمسلمين أن يتوحدوا لمقاتلتها صفاً واحداً لا كيانات إقليمية منفصلة، ويقوم هذا الحث على أن على المسلم واجباً شرعياً تجاه أخيه في الإيمان بصرف النظر عن موقعه الجغرافي. 

 
وفق هذا المعيار يبدي حزب الله الكثير من العطف على المسلمين1 الذين يعانون من الظلم في الفيليبين وبورما والبوسنة والصومال وآذربيجان والشيشان حيث تناضل الأقليات لرفع الظلم عنها. 
 
ورغم أن الإسلام رسالة كونية تشمل جميع الهويات القومية، ورغم تفوق الهوية الإسلامية في خطاب حزب الله فإنه لا يتجاوز وجود أمة عربية تتميز بخصوصية داخل الهوية الإسلامية دون أن تعلو عليها، ونجد ذلك في انكباب حزب الله على تصوير قضية القدس قضية إسلامية عربية بصفة خاصة، وبوصف القدس أرضاً إسلامية عربية، كان على جميع المسلمين والعرب تأكيد حقهم فيها بمن فيهم المسيحيون الفلسطينيون الذين لهم حق في الأرض من الناحيتين الوطنية والدينية. ولذلك يرى حزب الله الصراع مع إسرائيل صراعاً عربياً – إسرائيلياً، وصراعاً إسلامياً - إسرائيلياً. ويتعزز هذا التصنيف من واقع أن أراضي أخرى تحتلها إسرائيل كجنوب لبنان، ومرتفعات الجولان بالإضافة إلى فلسطين بكاملها هي أرض عربية. 
 
أما لناحية الفكرة القومية كانتماء وهوية ومدى تعارضها مع الهوية
 
 
 
 

1- انظر الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

263

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإسلامية فيرى حزب الله أنه لا يمكن اعتبار القومية - كتعبير عن هوية المرء الاجتماعية والسياسية - لا يمكن اعتبارها معارضة للإسلام، فهي لا تنافس انتماء المسلم الفكري إلى الإسلام إلا عندما تصبح هوية فكرية إلى حد يمكن اعتبارها معه عصبية، وبالتالي متناقضة مع الإسلام1

 
2-1 الآخر
 
بمقابل الهوية أو الذات الجماعية لأمة حزب الله، يقف الخطاب ليحدد الآخر كذوات جماعية مختلفة عن أمة الحزب. وقد تعددت دوائر الآخر وفق الخطاب وتنوعت لا بحسب انتمائها الجغرافي وإنما بحسب تبايناتها الثقافية ومنطلقاتها في التعاطي مع العالم الإسلامي. 
 
وتبعاً لهذه التبيانات فلم يدرجها الخطاب على أنها بمجملها ذوات تتخذ موقف العداء لأمة الحزب وإنما جرى تصنيفها وفق محدداتها البادية إلى ذوات غير معادية وأخرى معادية وهذه الذوات هي التالية: 
 
1- المستضعفون: لقد حدد الخطاب المستضعفين انطلاقاً من الدائرة الإنسانية العامة التي تجمع بين صنوف البشر بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والثقافية ولكنهم يرزحون تحت نير الظلم والاستضعاف والحرمان والاستغلال. وهؤلاء المستضعفون تجمعهم مع أمة الحزب رابطة أخلاقية عامة
 
 
 

1- أمل سعد، حزب الله الدين والسياسة، مرجع سابق، ص 101. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
273

264

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 تحيل إلى طبيعة بشرية ترفض من حيث المبدأ الظلم والاستضعاف1.

 
تشمل الانطواءات العامة للاستضعاف أمة أرضها تحت وطأة الاحتلال والقتال والتشريد اليومي وهيمنة الاستكبار العالمي، ولكنها حين تسري على الآخر فإنها تشمل مكونات وشرائح قد تكون مسلمة ولكنها تحمل مبادئ ومعتقدات علمانية وأخرى لا تدين بالإسلام ولكنها تقع في إطار الاستضعاف. 
 
وعلى هذا النحو فإن الآخر المتضمن في إطار الاستضعاف غير مستبعد عن الدعوة للاصطفاف في المشروع العام، ولا يصنف على أنه خارج من حظيرة الدين بحال كان مسلماً، وكذلك لا يصنف الآخر غير المسلم أنه معاد للإسلام ولأمة الحزب. 
 
وبناء على ذلك، فإن مفهوم الاستضعاف بناء على تحديد حزب الله يختلف عن تقسيم بعض المنظرين الإسلاميين العالم إلى دار إسلام ودار حرب الذي يضع المسلمين في مواجهة غير المسلمين. الاستضعاف بمفهوم حزب الله يكون حيث يسود الظلم سواء وقع على المسلمين أو غيرهم وهو مفهوم مستمد من القرآن الكريم وهو يقابل مفهوم المستكبرين الذين يمارسون الظلم سواء وقع على المسلمين أو غيرهم. وخطاب الاستضعاف والاستكبار لا ينطوي على دلالات تكفيرية،
 
 
 

1- الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

265

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 فالمستضعف هو مستضعف بغض النظر عن هويته الدينية، وكذلك الظالم والمستكبر ليس له بمفهوم حزب الله هوية دينية. وبناءً على هذا التحديد تجسد أمريكا وإسرائيل رمزاً للاستكبار، وكذلك فإن حزب الله يتعاطف مع زعماء علمانيين وحتى مع زعماء علمانيين ماركسيين في العالم أمثال نلسون مانديلا وفيديل كاسترو وهوغو تشافيز حيث تخضع دولهم لمحاولات هيمنة الغرب، وكذلك يقف إلى جانب الدول المناهضة لإسرائيل باعتبارها رافضة للظلم والاستكبار. 

 
2- الآخر العدائي: الأعداء هم الآخر المتباين مع الذات الجماعية لأمة الحزب تبايناً مقترناً بالحالة العدائية التي يتخذها الآخر إزاء الأمة الإسلامية. وقد تمت الإشارة الصريحة لهذا الآخر في الرسالة المفتوحة على أنه أمريكا وإسرائيل وحلف شمال الأطلسي. وقد حدد منهجية التعاطي مع الآخر العدائي وفق مستويات مختلفة تتراوح بين الجهاد الجذري والجهاد المرحلي. 
 
فالنوع الأول يدخل أمة حزب الله في صراع وجودي لا ينتهي إلا بتصفية وجودية لإسرائيل وفق مراحل تبدأ بإخراج المحتل الصهيوني من لبنان، وهو ما يقع على عاتق أمة الحزب في لبنان، ثم تنتهي باستنهاض سائر مكونات الأمة في وجودها المترامي الأطراف في معركة المواجهة المصيرية لتحرير القدس الشريف وإزالة الاحتلال عن كامل تراب فلسطين1.
 
 
 
 

1- الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

266

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 أما النوع الآخر فهو صراع مرحلي يبتعد عن دائرة الصراع الوجودي لاقترانه بشروط موضوعية ينتهي في دائرته العنفية حالما تنتهي هذه الشروط وقد تم تحديدها عبر أقرانها بمبدأ الاستعمار والهيمنة وخصوصاً في لبنان. 

 
فمع إقران حالة العداء المستوجب لسلوك جهادي، بالوجود الاستعماري في البلاد يصبح السؤال مطروحاً حول طبيعة السلوك أو تعاطي أمة الحزب مع الذوات الأخرى، فهل تبقى ذاتاً عدائية أو داراً للحرب يجب على أمة الحزب في دائرتها الموسعة خوض الجهاد ضدها حالما تسمح الظروف؟ 
 
الجواب الصريح يأتي من إغفال الرسالة لدار الحرب ودار الإسلام فيما تنطوي الإجابة في مكان آخر في منطويات هذه الرسالة، على أن المرحلة التي تعقب حالة الجهاد الدفاعي الهادف إلى تحرير البلاد هي مرحلة الصراع الحضاري الذي ستخوضه أمة الحزب والذي يرتكز على منطلقات إسلامية تدعو إلى التعرف غير الإكراهي على الدين وتعاليمه، والمقترن بعدم فرض قناعات الآخرين وأنظمتهم إلى أمة الحزب مما يعني أن هذه المرحلة هي مرحلة حوارية قوامها الحوار الحضاري الذي يتحرك في دائرة ممكنات الجمع عبر الاستناد إلى ما تزخر به الأمة في عقيدتها وتعاليمها وتراثها وتصورها للمستقبل المنشود وطرحها في سياقات تبتعد عن مناخات العنف وتوسله من أطراف الحوار1.
 
 

1- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

267

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 وإذ يسري الطابع الحواري أو الإقناعي على الذوات الأخرى خارج لبنان، فثمة دعوة للذوات المغايرة في لبنان.


رغم تصنيف هؤلاء في إطار الذات العدائية خارج أمة الحزب فلم تدع الرسالة سوى إلى محاسبتهم على جرائمهم المرتكبة بتشجيع من أمريكا وإسرائيل (علماً أن أمة الحزب في دائرتها الولائية لم تشترك في سياقات الحرب الأهلية التي كانت تدور رحاها في جنبات المجتمع اللبناني). 

وهؤلاء هم متضمنون في المرحلة الأخرى التي تنتفي فيها الحالة العدائية إلى الخروج من إسار الذوات الطائفية المتشاركة بنية نظام يعكس الاختلالات العلائقية بين هذه الذوات. 

3- الآخر غير العدائي: وهو الآخر الذي لم تشر إليه الرسالة ولم يدرج في إطار أمة الحزب أو الآخر العدائي، بل يمكن استكشافه من منطويات الخطاب على أنه لا تنطبق عليه مواصفات الآخر العدائي، أي أنه مغاير بذاته ولكنه ليس لديه موقف عدائي من أمة الحزب ولا هو مؤيد لأمة الحزب ولو في أدنى مستويات التأييد النظري الذي لا يستوجب الدخول في الذات الولائية أو الانتمائية. 

لا يحظى هذا الآخر بمساحات وافية في الخطاب على غرار غيره من الذوات المتمايزة. ولكن عندما يشير الخطاب إلى أن الدعوة غير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277

268

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإكراهية لمعرفة الإسلام هي دعوة للجميع لمعرفته فيمكن أن تشمل هذه الدعوة كافة المكونات الجمعية التي تستند في تكويناتها إلى أساس الدين أو الثقافة أو الأيديولوجيا أو غير ذلك. 

 
فهذه الذوات، التي يمكن أن تشكل شعوباً أو طوائف أو جماعات حزبية لم تشارك في الظلم أو العداء للمسلمين ولأمة الحزب وهي لا تؤيّده إنما لم تبادر إلى دفعه على غرار غيرها من الذوات الجماعية التي جرى تصنيفها كآخر مدرج بين أصدقاء أمة الحزب، مدعوة بطبيعة الحال إلى الحوار كغيرها من الذوات الأخرى، وقد اتجه الخطاب من حال التعميم إلى التخصيص عبر دعوة "أبناء الشعب اللبناني" إلى اختيار شكل نظام الحكم الذي يريدونه1.
 
كذلك فإن الإشارة بالخصوص إلى الشعب اللبناني تعبر عن دعوة مفتوحة لكافة الذوات المتوالفة والمتغايرة من بينها أمة الحزب والأعداء والمستأثرين بالحكم المرتكز على أسس طائفية، لاختيار نظام الحكم البديل وبطبيعة الحال فإن الذات غير المعادية وغير الصديقة متضمنة في منطويات الكلام الخطابي للرسالة. 
 
2- في أبعاد الرؤية السياسية مشروع الجمهورية الإسلامية
 
تحمل الرؤية السياسية لحزب أو لجماعة ما، هدفاً تغييرياً للواقع السياسي والاجتماعي، وبالتالي فهي ترتبط بغاية منشودة، وهي بمثابة
 
 
 
 

1- انظر الرسالة المفتوحة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278

269

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 مشروع استراتيجي يحفز على العمل وتوحيد الجهود من أجل الوصول إليه وهي تختلف عن البرنامج لكون البرنامج يتضمن عناوين تفصيلية ومحددة بإطار زمني، تسهيلاً لتنفيذه. وكما يحتاج البرنامج إلى وجود الرؤية منعاً للتخبط، وتوجيهاً لمسارات العمل كذلك تحتاج الرؤية إلى وجود منطلقات ترفد الرؤية بعناصر تكوينها وقد تكون هذه المنطلقات بمثابة مركوزات مفاهيمية تشكل الإطار النظري للرؤية أو تكون ناتجة عن قراءة للواقع بحيثياته التكوينية وما يضجُّ به من مفارقات وتناقضات واتجاهات في التفكير والسلوك والعلاقات التفاعلية بين أجزائه ومكوناته. 


وفي محاولة معرفة الرؤية السياسية لحزب الله وقبل التعرض لتحديدها نجد أن تشكل وتكوين هذه الرؤية ناتج من عاملين أساسيين: أولهما العامل النظري والثاني هو الواقع اللبناني. 

العامل الأول يرتكز على المنطلقات الإيمانية لحزب الله، ولهويته الخاصة المسنودة إلى الارتباط بالولي الفقيه. وهي النظرية التي تشكل أحد التصورات في الفكر والفقه الشيعي تجاه علاقة المجتمع بالسلطة، وبتكوينها ودورها، وهي ترتكز بشكل أساس على ضرورة إقامة الدولة بالاستناد إلى أحكام الإسلام، وقد سبق لهذه التجربة أن سلكت سبيلها إلى التطبيق مع الإمام الخميني قدس سره في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

270

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 إعلان حزب الله عن ارتباطه بالولي الفقيه ليس على نحو العلاقة التي تربط المؤمنين بالولي الفقيه وحسب، وإنما عبر إيمانه بمبدأ الحكومة الإسلامية الناتجة عن المباني الفكرية لهذه النظرية. ومن هنا يبرز التساؤل حول ما إذا كانت الرؤية السياسية لحزب الله متأثرة بهذه النظرية وبهذه التجربة كضرورة حتمية لكون حزب الله عبّر بالأساس عن انتمائه للولي الفقيه؟


وبالتالي يبرز التساؤل حول الأسباب التي تمنع حزب الله من المطالبة دوماً بإقامة الحكومة الإسلامية، في حين يطرح برامج أخرى للتغيير في الواقع السياسي كالعمل على إلغاء الطائفية السياسية أو إقامة الدولة العادلة وغيرهما، وهل هذه البرامج تشكل بعض المسارات من أجل تطبيق الرؤية وهي إقامة الحكومة الإسلامية؟

وللوصول إلى الإجابة لا بد من الركون إلى العامل الأول وهو المنطلقات التي يتبناها حزب الله أي إيمانه بولاية الفقيه ومن ثم الواقع الذي يشكل أحد الأبعاد التي ستتأسس عليها الرؤية السياسية لحزب الله.

وفي حال كان الواقع يشكل أحد مرتكزات الرؤية السياسية، فسوف يطرح التساؤل حول ممكنات تحقيق الحكومة الإسلامية المرتبطة بالولي الفقيه في واقع متنوع كلبنان. هل هذا الواقع يتجاوز إمكانية إسقاط رؤية سياسية هي في حيثياتها النظرية تطبق على واقع دون آخر؟ وبالتالي ومع وجود هذا الواقع كأحد الأبعاد التي تنطلق منها الرؤية السياسية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

271

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 لحزب الله فما هي التبريرات التي تتماشى مع فلسفة هويته وانتمائه في تبرير هذه الرؤية وتسويغها؟


للوصول إلى إجابات شافية في هذا المجال لا بد من الرجوع إلى خطاب حزب الله المقدم بهذا الشأن على امتداد أكثر من عقدين ونيف من الزمن. فبمراجعة هذا الخطاب قد يجد الباحث أن ثمة بعض العلامات التي تشير إلى أن رؤية حزب الله السياسية تشكلت بشكل تدريجي مع الزمن بحيث تنقلت بين طرح الجمهورية الإسلامية في منتصف الثمانينات مع تصديره للرسالة المفتوحة، وبين طرح إلغاء الطائفية السياسية كما في البرامج الانتخابية المتلاحقة، أو مع دولة التوافق والمشاركة، أو الدولة العادلة كما في بعض الخطب الصادرة عن قادة الحزب لا سيما أمينه العام السيد حسن نصر الله.

غير أنه ومن جهة أخرى، ففي محاولة القبض على حقيقة الرؤية السياسية لحزب الله وعما إذا كانت إقامة الجمهورية الإسلامية تعكس هذه الحقيقة، وبالتالي عما يصبح ما هو مطروح دونها برامج سياسية متدرجة للوصول إليها أم أن هذه البرامج تشكل رؤية نهائية ومحددة استناداً إلى حيثيات الواقع؟ يمكن القول، وبعد مراجعة الوثائق السياسية لحزب الله أنه بالفعل كانت الرؤية السياسية في بدايات تكوين الحزب تستند إلى طرح إقامة الحكومة الإسلامية وهي جاءت فيما بعد إزاء بروز طروحات سياسية أخرى للحزب غير أنها لم تذو أو تأفل، بل بقيت حاضرة في إجابات بعض قيادات الحزب ولكن مع ذلك لا يمكن خلال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

272

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الاستناد إلى الطروحات الأخرى على أنها تكتيكات يعمد إليها الحزب في سبيل الهدف الأساس.

 
ذلك أن هذه الرؤية من خلال العودة إلى الوثائق نفسها نجدها محكومة بعاملين أساسيين هما بمثابة قيم ثابتة تحكم الرؤية وهذان العاملين أولهما يرتبط إقامة العدالة والثاني يرتبط بقيمة الحرية. وهي سوف تتكرر في الخطاب السياسي لحزب الله حين يحيل النظام المنشود إلى اختيار الشعب اللبناني. 
 
ومن هنا فإن الرؤية السياسية عند ارتكازها إلى هاتين القيمتين الحاكمتين عليها، في موضوع تطبيقها، لا تجعلها تتصف بالغموض أو بالإكراه بل يسمو بها على مراتب أعلى تجعلها تختزن الكثير من الدينامية ومن فاعلية الحضور في حقل التداول المسنود إلى أطر ومبادئ فكرية وثقافية أكثر منها في حقل المماحكات السياسية الساعية نحو إخراج الخصم من حلبة الصراع السياسية على قاعدة انحرافاته الرؤيوية، واغترابه عن المزاج التكويني العام.
 
فحين يرتبط طرح الحكومة الإسلامية بقيمتي العدالة والحرية تتضح جملة من الأمور منها: 
 
- إن طرح الحكومة الإسلامية لا يمكن فرضه بالإكراه طالما هو متأسس على قيمة الحرية بمعنى أن إقامتها مرهونة بقبول اللبنانيين بها1.
 
 
 
 

1- الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
282

273

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 - كذلك انطلاقاً من ارتكازها على هذه القيمة فيمكن لهذا الطرح أن يتحرك في الهواء الطلق أسوةً بغيره من الطروحات. 

 
- إن طرح الحكومة الإسلامية ما لم يؤد إلى تحقيق العدالة التي هي غاية قصوى، فبالتالي يجعل منها محلّ إعمال رأي وسبيلاً للحوار بين رؤى سياسية مختلفة. 
 
- إن طرح الحكومة الإسلامية بحال لم يجد سبيله إلى التحقيق جراء ديناميته وارتباطه بمبدأ حرية الاختيار، فإن ارتباطه بقيمة أعلى هي العدالة فإن هذه القيمة تتحرك أيضاً من منطلقات وإنسانية عامة، وتشكل قاعدة لاستلهام رؤية سياسية تستبطن هذه القيمة.
 
وانطلاقاً منها يمكن القول إن حزب الله حين يطرح أمراً ما يغاير إقامة الجمهورية الإسلامية، فإن طرحه إذا اسند إلى تبرير ارتباطه بالعدالة وبالحرية لا يشكل برنامجاً بقدر ما يشكل رؤية سياسية تغييرية.
 
ولكون قيمتي العدالة والحرية تصنفان بين القيم الإنسانية العامة فإنهما بحاجة إلى تسويغ يكشف عن خصوصية اقتناع حزب الله بهما انطلاقاً من هويته الدينية، هذا التسويغ يجد أساساته بالعودة إلى نظرية ولاية الفقيه في علاقتها الجدلية بالواقع.
 
واستناداً إلى ما جاء في الرسالة المفتوحة من توصيف هوية حزب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

274

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الله الإسلامية عموماً وولاية الفقيه خصوصاً ثم ما ورد في هذه الرسالة من دعوة إلى إقامة جمهورية إسلامية، وما تلاها ابتداءً من مرحلة تطبيق دستور الطائف، وما رافقها من رفع شعارات تتصل بالدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية، كما ورد في البرامج الانتخابية للحزب أو الدعوة إلى الالتزام بدولة التوافق والمشاركة والدعوة إلى إقامة الدولة العادلة. 


إن كل ذلك دفع الكثير من المنظرين وخاصةً المحليين إلى وسم الحزب بالتراجع عن شعار إقامة الجمهورية الإسلامية تارةً وإلى إرجاء هذه الدعوة واعتماد تكتيكات سياسية مرحَّلة إلى حين الوصول إلى الدولة الإسلامية.

في الشق الأول يجد بعضهم أن حزب الله سحب شعار الجمهورية الإسلامية وسكت عنه وكأنه رفع خطأ أو سهواً، وحين كان في أوج حماسته لشعار الجمهورية الإسلامية كان لا يخفي غضبه من أي لمسة لبنانية أو وطنية، ويعتبر اللبنانية والوطنية مأخذاً وأحياناً دليل انحراف عقائدي وخروج فعلي من المشروع الإسلامي، ثم ليعمد فيما بعد إلى تغييب شعار الجمهورية الإسلامية وسحبه بعدما أخذت اللغة اللبنانية تتسرب من وإلى خطاب الحزب وأدبياته وإعلامه وحواراته، وأخذت حركته تنفتح على التحالف والصداقة وتأليف القلوب بالكلام وغيره، ليعود الحزب فيستكمل هذه الانعطافة في المجلس النيابي على نفس قواعد اللعبة اللبنانية في التحالفات والتواطؤات والبراغماتية، وانتهت أخيراً إلى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
284

275

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 رفع العلم اللبناني في المناسبات الحزبية والوطنية وإلى الإصرار على حضور ممثلي المؤسسات الرسمية في صدر هذه المناسبات، وبالتالي عزف النشيد الوطني، إلى الأدبيات اللبنانية الجميلة1

 
إن عملية الانتقال هذه قد تثير لدى المنظرين الاعتقاد بأن حزب الله لم يعمد إلى ذلك لولا درجة الحرفة في إدارة عمله السياسي وإلى نضجه السياسي الذي تجاوز فيه أحزاب اليمين واليسار أو أنه كان حذراً منذ البداية في هذا الطرح. ولكن من جهة أخرى يمكن الوصول إلى أسباب بروز الخطاب الملبنن لدى حزب الله انطلاقاً من عوامل ذاتية موضوعية وإلى أطروحة ولاية الفقيه نفسها في معرض تعاملها مع واقع شديد التنوع ويمكن عرض هذه العوامل على الشكل التالي: 
 
1-2 الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية
 
أ- الظروف الموضوعية
 
تشكل هذه الظروف مدخلاً أساسياً لطرح حزب الله بدائل سياسية جديدة. غير أن هذه الظروف ليست وحدها الحاكم على هذه الطروحات بقدر ما ترتبط بأساس رؤيته الفكرية المسنودة أساساً إلى حرية اللبنانيين في الاختيار. 
 
الظروف الموضوعية تتمثل باتفاق الطائف الذي فتح أفقاً في الحياة السياسية لا سيما وأنه حمل في العديد من بنوده ما كان يتطلع إليه وإن
 
 
 
 

1- هاني فحص، الشيعة والدولة في لبنان، دار الأندلس، بيروت، 1996، ص 129-130.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285

276

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 لم يكن بالحجم المطلوب ويمكن إدراجه بما يلي: 


- البند المتصل بالسعي نحو إلغاء الطائفية السياسية كمشروع يمكن أن يراعي بعض متطلبات العدالة وينزع الإحساس بالظلم وهو مشروع حواري يفتح أفق المشاركة لا سيما وأن الرسالة المفتوحة حملت بعض المفردات التي تشير بصراحة إلى دعوة اللبنانيين لاختيار شكل النظام وفق إرادتهم. 

- زوال تماهي السلطة مع الحزبية المارونية التي جسدها حزب الكتائب بعد التنازل عن بعض الصلاحيات وإرساء توازنات جديدة يمكن أن تخفض إلى حد ما الشعور بالتهديد الداخلي. بعدها صارت القرارات تتخذ بمشاركة المكونات التي تشكل أنصبة السلطة على غرار القرارات المتصلة بالقوات المسلحة، وبإصدار المراسيم والتشريعات. 

- اعتراف الدستور الجديد بالمقاومة وبأن إسرائيل عدو، بعدما كانت السلطة وبفعل التوازن المفقود قد سعت إلى التماهي مع العدو الإسرائيلي وتجسد هذه التماهي في مفاعيل اتفاق السابع عشر من أيار قبل إلغائه بفعل انتفاضة القوى الوطنية. 

لقد شكلت هذه الحيثيات عاملاً إضافياً لإعتماد خطاب جديد لحزب الله دون أن يغادر منطلقاته، وهو أي الحزب، وإن وجد في صيغة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
286

277

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الطائف ما يعيد إنتاج الطائفية السياسية، ولكنه في الوقت نفسه وجد أن باب العمل التدرجي من داخل النظام مفتوح للعبور نحو بناء الدولة وفق منطق العدالة والمشاركة. 


ب- العوامل الذاتية

إن المقاربة لحيثيات طرح شعار الجمهورية الإسلامية في منتصف الثمانينات ومن ثم طرح صيغ أخرى تصب بمجملها في إصلاح النظام السياسي تفصح عن أن طرح الجمهورية الإسلامية لم يكن ليعبر عن قصور في الرؤية السياسية بقدر ما كان يعبر عن واقع الالتزام الفكري بالإسلام أولاً ومن ثم مزاوجة هذا الطرح مع مبدأ الالتزام بمبدأ حرية الأفراد في اختيار نظام سياسي معين.

فشعار الجمهورية الإسلامية كما ورد في الرسالة المفتوحة لم يكن شعاراً جامداً وإنما طرح كأحد البدائل للحل وكدعوة تقوم على اختيار اللبنانيين وإلا فنظام الحكم الذي يريدون. 

وقد جاء في صريح العبارة في الرسالة المفتوحة تحت عنوان أهداف الحزب في لبنان ما يلي: 

- يتاح لجميع أبناء شعبنا أن يقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه، علماً بأننا لا نخفي التزامنا بحكم الإسلام، وندعو الجميع إلى اختيار النظام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
287

278

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع1.

 
وبهذا المعنى يتضح من العبارة أسبقية الدعوة إلى اختيار شكل الحكم الذي يريده اللبنانيون ومن ثم طرح النظام الإسلامي كبديل من بين البدائل. ويعني ذلك أن الطرح الإسلامي غير مسنود إلى القوة والإجبار والإكراه، بل على عكس ذلك فإن مضمون العبارة يحمل معنى إقرار حزب الله بشكل النظام شرط خضوعه لاختيار اللبنانيين بكامل حريتهم.
 
وبقدر ما يعبر التزم مبدأ الحرية كقيمة في خطاب حزب الله فهو يعبر أيضاً عن الإيمان بالتعددية وبالتنوع الموجود في المجتمع اللبناني وهذا التنوع هو تنوع إرادات بمعزل عن الالتزام الديني، وثانياً هو اعتراف بالتنوع الديني بحد ذاته. نجد دلالات هذا التنوع في العبارات التي وردت في الرسالة المفتوحة برسم المسيحيين، حيث فصلت العبارة بين رسالة السيد المسيح وأعمال الكتائبيين ومن خلال دعوتهم إلى الحوار الديني: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة... وهي دعوة مسبوعة بآية أخرى وردت في رسالة تقوم على قاعدة "لا إكراه في الدين" ومتنوعة بتفصيل التأكيد على الدعوة إلى الإسلام دون فرضه بالقوة2.
 
 
 
 

1- الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
2- المصدر نفسه.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
288

279

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 2-2 مختزنات أطروحة ولاية الفقيه

 
 
أ- ضرورة قيام الحكومة الإسلامية
 
استناداً الى ما تختزنه أطروحة ولاية الفقيه من آليات لتشكيل السلطة ولحدودها، وقد سبقت الاشارة اليها في الفصل الأول، لا بد من الوقوف على ما تقدمه هذه الاطروحة إزاء المجتمعات المتنوعة، فهل يجب إقامة الحكومة الاسلامية بمعزل عن الظروف والعومل المساعدة أم أن المؤمنيين بها هم مكلفون بحسب اقتدارهم وبحسب طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه؟
 
يعتقد الإمام الخميني قدس سره أن الإسلام شريعة صالحة للتطبيق في كل عصر وزمان، ولا يجوز تعطيل أحكام هذه الشريعة في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويجب على المسلمين السعي في سبيل تأسيس هذه الدولة وتأمين مقدماتها، حتى لو توقف ذلك على مقارعة الظالمين. ومن أبرز من يجب عليهم القيام بهذه المهمّة هم الفقهاء العدول، وعلى سائر الناس مساندتهم في هذا الأمر المهم وتأييدهم إياه1.
 
في تبريرنا لمقصود الإمام قدس سره من هذا القول نرى أنه إعادة تأكيد صلاحية الإسلام لكل عصر وزمان وهذا ليس محل خلاف من حيث المبدأ بين فقهاء المسلمين ولكنه يأتي في مقابل بعض الأفكار
 
 
 

1- مسعود بوفرد الديمقراطية الدينية، مرجع سابق، ص236.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
289

280

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 التي سادت لدى بعض الفقهاء عبر ربطهم قيام الحكومة بوجود الإمام المهدي صاحب العصر والزمان وهي أفكار بررت القعود عن تشكيل الحكومة الإسلامية لقرون مديدة. كما يأتي في مقابل الدعوة التي راجت جراء التأثر بالغرب انطلاقاً من مقولة فصل الدين عن الدولة.

 
وإذ يشكل فهم الإمام هذا دعوة لتولي الفقهاء مسؤولياتهم بمواجهة الحكام الظالمين والمفسدين، وعودة ليتبوأ الإسلام موقعه ورسالته الحضارية بين الأمم، كذلك يركز على وجوب مساندة المسلمين لهم في هذا الأمر وهو بالطبع يقصد المسلمين دون غيرهم وبالتالي فليس ثمة إلزام للمسيحيين بالعمل على تشكيل الحكومة الإسلامية.
 
ب- الولاية والتنوع
 
أما فيما يتصل بإشكالية العلاقة المعقّدة بين طرح حكومة الولي الفقيه وانطباقها على مجتمع متنوّع كلبنان، فقد كان أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً في عبارته هذه "إن ولاية الفقيه تقول لنا إن لبنان بلد متنوّع متعدد يجب أن تحافظوا عليه".
 
وهذا القول هو بمثابة الأحكام الإفتائية التي تُحمل على معنى الوجوب وليس الاستحباب، وهو بمثابة فتوى تقع ضمن الأحكام الولائية التي تأخذ متغيري الزمان والمكان بعين الاعتبار التي يقابلها الأحكام الأولية أو الثابتة التي لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة1.
 
 
 

1- دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني قدس سره، مجموعة من الباحثين، الغدير، بيروت 2002، ص174.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
290

281

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 وهذه الفتوى تقع أيضاً ضمن الأحكام الثانوية المستندة إلى أبعاد اجتماعية وحكومية أكثر منها فردية وهي وسائل ناجعة يمكن أن يستعين بها الحاكم الإسلامي في حل أغلب مشاكل المجتمعات الإسلامية. وحتى لا يُظن أن الأحكام الثانوية تقع في الدرجة الثانية يقول الإمام: "ليس هناك من فارق بين دور الأحكام الثانوية بعد تشخيص الموضوع بواسطة العرف وبين دور الأحكام الأوليّة، وذلك لأن كلا الحكمين من أحكام الله"1.

 
ج- الحقوق الفردية عند الإمام
 
يقول الإمام الخميني قدس سره في صحيفة النور:
 
لقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط والمقررات التي تحكم العلاقة بين الحاكم والدولة من جهة، والأمّة من جهة أخرى. وإذا تم الالتزام بهذه الضوابط والمقررات لا يمكن أن تكون جهة من الجهتين متسلّطة ومستبدّة على الجهة الأخرى، وإن لكل فرد من أفراد الأمّة الحق في مساءلة الحاكم وانتقاده، ويجب على الأخير أن يقدّم أجوبة مقنعة، وإذا لم يستطع الحاكم تبرير سلوكه وفق قواعد الشريعة فإنه يعزل من مقامه3.
 
يستفاد من حديث الإمام تلك العلاقة التلازمية بين الحاكم أو الولي الفقيه وبين الأمّة، والأمّة هذه هي الأمة الإسلامية دون غيرها. وملاك
 
 
 

1- المصدر نفسه، ص224.
2- مسعود بوفرد الديمقراطية الدينية، مرجع سابق، ص46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
291

282

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 الاستدلال في ذلك هو أن مساءلة الحاكم إنما تكون جرَّاء موافقة سلوكه أو عدمه لقواعد الشريعة، وبهذه الحال لا يمكن لغير المسلمين الذين لا يلتزمون إلا بشريعتهم ومعتقدهم مساءلة الحاكم وفق أصول مغايرة لمعتقدهم ومن هنا يقتضي القول إن حكومة الولي الفقيه مرتبطة بحيثية الوجود الاجتماعي لأفراد الأمّة الإسلامية.

 
د- علاقة الفقيه بالدستور
 
وإذ يؤكد الإمام الخميني قدس سره على ضرورة التزام الفقيه بالقانون حيث يقول: "إن الفقيه في الواقع ليس حاكماً بل هو مراقب ومشرف على حسن سير السلطة ومراقبة مدى التزامها بالقانون"1. يعتبر أن على الفقيه نفسه أن يكون مقيداً بمراعاة القوانين. فالإمام يرى أن القانون يسري حتى على الفقهاء فهو يقول: "فالقانون مجعول ومشرع ليلتزم به جميع الناس الفقهاء وغير الفقهاء، الخاصة والعامّة، ولم تسنّ القوانين للعامة وحدهم".
 
يستفاد من قول الإمام انطباق هذا الأمر على الجمهورية الإسلامية ما يعني أن التزام الفقيه القوانين ومراعاته لها إنما يكون ذلك في القوانين الناتجة عن رسم الجهات الحكومية لسياستها الداخلية والخارجية وعبر أجهزة الدولة التي لا بد لها من مراعاة القانون الدولي في علاقة الجمهورية الإسلامية بغيرها من الدول عبر الدبلوماسيات المعتمدة بحسب العرف والقانون الدولي.
 
 
 

1- المرجع نفسه، ص232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
292

283

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 إستنتاجات


يتبين لنا من خلال المقاربة لاشكالية العلاقة بين أطروحة ولاية الفقيه وأطروحة حزب الله حول الحكم جملة من الاستنتاجات يمكن ايرادها وفق الآتي:

في ولاية الفقيه:
- إن أطروحة ولاية الفقيه هي أطروحة في الحكم تستمد أصولها من مسوغات اعتقادية، وقوامها حاكمية الدين الإسلامي، وتشريعاته الاجتماعية والسياسية التي وردت في القرآن الكريم، وعالمية الدين، وخاتميته، ومن ثم الفهم الشيعي لاستمرارية تمامية التشريع من خلال الإمامة المعصومة ومرجعية التقليد للفقيه في زمن غيبة الإمام المهدي وهو الأمر الذي جعلها محل نقاش حول امكانية تعميمها في ظل سيادة رؤى مغايرة لمفهوم الدولة، والسيادة، والمواطنة الحاضنة للتنوع.

- إن هذا النقاش يبقى مشروعاً حين يخرج عن طبيعة الجدال والمساجلات السياسية إلى النقاش الفكري الهادئ، فحينذاك سوف نجد ومن خلال المقاربة البحثية للأطر النظرية لولاية الفقيه ولتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن ثمة كثيراً مما يرد حولها سوف تضيق دائرته إذا ما تبين لنا استناد هذه الأطروحة إلى الكثير من المفاهيم التي تجعلها تتمتع بمرونة كافية تؤذن بالتعاطي معها بموضوعية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
293

284

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 - إن اقترانها بمبدأ حرية الأفراد في اختيار الحاكم الجامع للشرائط ومن ثم اقصائه عن الحكم بحال ارتكابه ما يخالف الشروط يعني استنادها على حرية الشعب واختيار وعدم فرضها بما يشبه الاجبار.


- إن تخصيصها المسلمين بضرورة الالتفات إلى مبدأ حاكمية الدين يعني أنها تخص المسلمين كونهم يتعين عليهم الرجوع إلى أولي الأمر.

- إن اقترانها بمبدأ مرجعية التقليد التي يتعين عليها النظر وابداء الرأي بالحوادث الواقعة والمستجدة يعني انفتاحها على التعاطي بشؤون العصر وفق مقتضياته الثقافية والاجتماعية.

- وبالتالي فإن عدم وجود أحكام جهادية ابتدائية يعني أنها أطروحة غير تكفيرية وأن للآخر المغاير دينياً وثقافياً خصوصية نابعة من فهم ضروراته وحيثياته الزمانية والمكانية، وهو ما تبين بوضوح أثناء مقاربة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

في تجربة حزب الله

- تبين من خلال الوقوف على هذه التجربة أن منطلقات حزب الله مستمدة من طبيعة فهمه للإسلام ولأطروحة ولاية الفقيه وأن هذه المنطلقات حين ترجمتها في الواقع السياسي جاءت مراعية لهذا الواقع دون إدارة الظهر لهذه المنطلقات بل جعلته يتعاطى مع الواقع اللبناني دون اختزال أو إكراه.

- إن هوية حزب الله لا تتعارض مع نظرته للآخر حين رسم دوائر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
294

285

ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله

 للانتماء وللولاء بحسب تحديداتنا وتحليلنا للرسالة المفتوحة، وبالتالي فإن دوائر الانتماء بحسب الإيمان لدى عامة المسلمين هي غير متعارضة كذلك يفسح هذا الانتماء للآخر لأن يكون منضوياً على قاعدة الاستضعاف. أما الآخر العدائي فلا يتقوم بالإيمان أو عدمه وإنما بمعاداته للأمة وتسلطه على خيراتها وإرادة شعوبها.


- إن دعوة حزب الله لإقامة الدولة الإسلامية هي دعوة حوارية مفتوحة منسجمة مع طبيعة منطلقاته ومع طبيعة مختزنات أطروحة ولاية الفقيه التي تشرط حرية اختيار النظام المنشود.

- إن قبوله بنظام مغاير للنظام السياسي الإسلام ينطلق من طبيعة منطلقاته وخصوصية التقليد المنفتح على التعاطي مع قضايا الواقع ومع حيثياته الزمانية والمكانية، وهو ما تم تحديده في الأحكام الأولية والأحكام الثانوية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
295

286

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 
حسن محمود شعبان1
 
مدخل 
 
تثار حول علاقة حزب الله بولاية الفقيه إشكالات عديدة تختلف في مضامينها وصياغاتها، وإن كنا نعتقد أنها دائماً ما تتفق في منطلقاتها، حيث إنها جميعاً تنطلق من الزاوية السياسية البحتة، أي تلك الحيثية الراغبة في إسقاط مشروعية الحزب ومحاصرته والحد من قدرته على الفعل والتأثير مرة لأغراض لها صلة بالصراعات اللبنانية الداخلية وأخرى خدمة لأغراض تحاول تحجيم أثر الحزب في الصراع الوجودي الدائرة رحاه ضد العدو الصهيوني.
 
هذا التأسيس لا يعني مطلقاً أن علاقة الحزب بولاية الفقيه لا تقبل النقاش بل والاعتراض، ولا يعني أيضاً أنها علاقة يجب إخراجها من دائرة الطرح والطرح المضاد بالمعنى العلمي في مجالات الفقه والسياسة والاجتماع وغيرها.. بل يعني أن ما أثير ولا يزال يثار من اعتراضات وإشكالات حول هذه العلاقة لا يعدو كونه – وهذا من
 
 
 

1- باحث اسلامي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
297

287

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 باب توصيف الواقع – ضجيجاً إعلامياً سياسياً لا يرقى إلى مستوى المناقشات العلمية الجادة المنتجة. ومن ضمن ما يثار أن طبيعة علاقة حزب الله بولاية الفقيه تجعل من العسير إن لم يكن من المستحيل على الحزب أن ينتظم في "الدولة"، ولعل مرادهم "الدولة اللبنانية". وهذا إشكال مركب من مقولتين "ولاية الفقيه" وهي مقولة خارجة عن مجال بحثنا وتدخل في بحوث الفقه الاجتهادي ومقولة "الدولة" وتالياً "الدولة اللبنانية". وتحقيق البحث يفترض أننا سنركز على المقولة الثانية وفي هذا الإطار سنسأل عن أي دولة نتحدث؟ هل نتحدث عن دولة قائمة بالفعل أو عن دولة نرجو قيامها؟


وإذا كان الحديث عن الشق الثاني فيصبح النقاش سالباً لأننا نناقش واقعاً على أساس افتراض يُرتجى في يوم أن يكون واقعاً. وإن قيل إن زاوية النقاش هي أن هذه العلاقة تعوق قيام هذه الدولة المرتجاة قلنا إن الجواب سيرد في طي الكلام الآتي. ولكن وبشكل وجيز، نقول إن التنظيم الداخلي للكيانات المتجاورة في الاتحادات التشاركية يسهل قيام الدولة لاحقاً لا العكس.

أما إذا كان الكلام هو عن دولة قائمة بالفعل فتحقيق البحث يفترض التدرج في الإجابة عن أسئلة تترابط وتتشابع، فهل هذه الدولة المحكي عنها هي واقع قائم في الخارج ومتحقق بالفعل؟ وكيف يمكن إثبات أو نفي وجودها، وتالياً تحديد ماهيتها؟

الأجوبة دون شك سيعثر عليها الباحث إما في وقائع التاريخ وإما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
298

288

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 في نصوص الدستور. ونحن لن نعود إلى التاريخ للإجابة عن الأسئلة المطروحة إلاّ لماماً غير أننا سنركز كل جهدنا على الإجابة من خلال الدستور وذلك عبر تحليل مواده وبنوده وتفسير مكنوناته وفق فهمنا وعلى أساس من العلم...

 
وهذا الأمر طبعاً يفترض بداية أن نحدد طبيعة الموضوع الذي نبحث عنه وهو الدولة ثم نتدرج في الإجابة عن الأسئلة التي سبق وأثرناها...
 
أولاً: في الدولة حول المنهج و المفهوم
 
البحث في مفهوم الدولة بحث معقد خاضهُ عدد من المفكرين والباحثين ولم ينتهوا سوى إلى آراء تتعارض وتختلف بقدر تعارض واختلاف المناهج المعتمدة في تحقيق بحث الدولة. ومرجع الإشكالية الكبرى التي يثيرها مفهوم الدولة مضافاً إلى اختلاف منهجيات الباحثين وزوايا مقارباتهم أن "الدولة مفردة ذات بعد عام، كثيراً ما تبدو تجريدية وخصوصاً في المصاديق المتحققة عبر التنوع الذي يكاد لا يحصى فيما مضى من الزمن الغابر وكذلك حاضراً ومستقبلاً"1.
 
غير أن صعوبة أو استحالة تحقيق مفهوم الدولة لا ينفي إمكان موضعتها في إطار علم يبحث فيها كموضوعة للتحليل، وهذا ما أشار إليه هيغل عندما اعتبر أن هناك "علم الدولة" كما هناك علم الأحياء
 
 


1- فضل الله، محمد صادق: إرهاصات نقدية في إشكاليات الحوار والديمقراطية، ص18، دار الأمير، بيروت، ط1، 2004. العروي، عبد الله: مفهوم الدولة، يراجع خصوصاً الفصل الأول، ص11 وما بعدها، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
299

289

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وعلم الفيزياء، وعلم الكيمياء. كما لا ينفي إمكان استخلاص معنى كليٍّ للدولة "الواقعة" كمفهوم وكتحليل...

 
وهذا الإمكان نفسه يعيدنا إلى توصيف الدولة عند هيغل الذي اعتبر أن ليس من دولة "مثال" يجب أن تكون، بل إن الدولة القائمة يجب أن تفهم من ضمن إطار الفكر السياسي أو علم الدولة. وكل دولة "مثال" هي فكرة خيالية1.. وهذا التأسيس المنهجي هو فرع فهم هيغل عن الدولة.
 
لكن كيف يمكن تمييز الدولة ككيان قائم بالفعل ومحقق بالخارج وفرزه عن الأغيار؟ هنا يلجأ الباحثون لبيان أسس الدولة وخصائصها التي تميزها عن غيرها ما يمكنهم لاحقاً من بحث الدولة بصورة مجردة باعتبارها ظاهرة تبحث فيها النظرية السياسية من غير أن تقيم وزناً للمصاديق (الدول) العديدة المختلفة التي تحققت بالفعل في أدوار الزمان المختلفة...
 
وفي هذا الإطار لا يمكن إغفال ما للأصل اللغوي من أهمية في توجيه البحث وجهته المنتجة. فكلمة "دولة" هي في الأساس كلمة لاتينية "status" وتعني الحالة المستقرة، وقد دخلت هذه الكلمة لاحقاً إلى اللغات الأوروبية المختلفة. فهي في الألمانية "staat" وفي الانكليزية "state" وفي الفرنسية "état" ، ويفيدنا أن لا ننسى دلالة "الحالة
 
 
 

1- هيغل: أصول فلسفة الحق: ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ص417 وما بعدها، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996.
2- لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، ج1، ص368، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 2001.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
300

290

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 المستقرة" ونحن نحلل لاحقاً الشكل القانوني للكيان اللبناني.. حيث لا يصح أن نتمسك بالمفهوم البدائي المنتقد عن تكوين الدولة والذي يعتبر أنه كلما كان بالإمكان التفريق بين طبقة يعود لها سلطة الأمر وأخرى يفترض فيها واجب الطاعة سواء بالامتناع أو بالقسر فيمكن القول بوجود دولة بل ينبغي التشديد على ما أسسه "موريس هوريو" الذي اعتبر أن الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة لا توجد إلا منذ الفترة التي تنفصل فيها السلطة السياسية في مجتمع متحضر عن باقي العناصر القريبة عنها وبالأخص العناصر ذات الطابع الوراثي. هذه السلطة تأخذ مظهر السلطة السيدة التي تمارس على الناس الأحرار1. وبهذا المعنى ترتقي الدولة لتكون أرقى أنواع المجتمعات حيث يحل التضامن العضوي بديلاً تاماً للتضامن الآلي ويجتمع الأفراد حول مثل أعلى مشترك يوحد بينهم تحت مظلة الدفع والرقابة اللذين يمارسهما جهاز السلطة السياسية... واعتماداً على تحليل الخصائص - الذي جعلناه مفتاحاً للفهم - يمكن تعريف الدولة بأنها "مجموعة من الأفراد يحتلون منطقة معينة بصورة دائمية، ومستقلة شرعياً عن أية سيطرة خارجية ولهم حكومة منظمة تأخذ على عاتقها تشريح القانون وتطبيقه على جميع الأفراد والمجموعات الداخلة ضمن حدودها القانونية2.

 
 
 

1- الغزال، إسماعيل، القانون الدستوري والنظم السياسية، ص70، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، 1982.
2- كارنيلدكتيل، رايموند، العلوم السياسية، ترجمة فاضل زكي محمد، ج1، ص26، مكتبة النهضة بغداد، ط2، 1963.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
301

291

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وتحليل هذا التعريف يضعنا أمام أركان أساسية ثلاثة تقوم بها الدولة وهي:

 
أولاً مجموعة من الناس ويطلق عليها اصطلاح الشعب، وثانياً رقعة من الأرض يقيم عليها الشعب بصفة مستقرة وتعرف باسم الإقليم، وأخيراً سلطة سياسية يخضع لها أفراد الشعب...
 
الناس كما قال روسو هم الذين يصنعون الدولة1، والناس هم الشعب. ومصطلح الشعب له مدلولان مدلول اجتماعي وآخر سياسي2. والأول مفاده أن الشعب هو مجموع الأفراد المقيمين على أرض الدولة والمتمتعين بجنسيتها. وهؤلاء الأفراد يطلق عليهم مواطني الدولة أو رعاياها. ويقصد بالمدلول السياسي مجموع الأفراد المتمتعين بالحقوق السياسية ويحق لهم مباشرتها. ومعنى أن نطلق على الأفراد الذين يشكلون الشعب ويصنفون الدولة تسمية "المواطنين" أن هؤلاء المواطنين هم أعضاء في الدولة ويتمتعون بحقوق ناتجة من عضويتهم فيها كما يخضعون لسلطة الدولة وأوامرها. ومن هذا التحديد لمصطلحي "الشعب" و"المواطن" يتضح أن الدولة في قيامها مشروطة بوجود شعب يرتبط بها برابطة الائتمار بمعنى أن يضع كلُّ فرد شخصه وجميع قوته تحت إدارة الإرادة العامة التي تملك وحدها أن توجه قوى الدولة، وفي
 
 


1- روسو، جان جاك – العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر، ص90، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1995.
2- شيحا، إبراهيم، الوجيز في النظم السياسية والقانون الدستوري، ص31، الدار الجامعية، بدون تاريخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
302

292

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 المقابل يتمتع كل فرد من أفراد الشعب (كل مواطن) بحقوق نابعة من مواطنيته حصراً.

 
وهذا التحديد لا بد من التنبه إليه جيداً لأنه سيشكل مفتاح التحليل القادم للكيان السياسي اللبناني حيث سنبحث عن مدى تحقق هذا الشرط المقوم للدولة وجوداً وعدماً وذلك من خلال الميثاق التشاركي القائم بين الفئات المكونة للكيان اللبناني، أي الدستور. وعلى ذلك يكون وجود الشعب ظاهرة طبيعية وسياسية، يبرز الجانب الأول منها عبر تموضع الأفراد في حيز جغرافي محدد هو الإقليم، ويبرز الجانب الثاني منها عبر الخضوع لسلطة سياسية محددة. وقد تبرز إلى جانب هذه الظاهرة ظاهرة أخرى هي الظاهرة الاجتماعية ومغزاها أن يرتبط أفراد الشعب برباط معنوي يستند إلى مقومات مشتركة من الأصل والدين واللغة والتاريخ والعادات والذكريات والآمال المشتركة، تلك الروابط التي تولد لدى الأفراد الرغبة في العيش معاً1.
 
فإذا توفرت تلك الظاهرة الاجتماعية غدا هذا الشعب أمة. وفي هذه الحالة يصبح اصطلاح "الشعب" مرادفاً لاصطلاح "الأمة". وإذا كان مفهوم الشعب بما يتضمنه من معنى المواطنية غير متحقق في إطار الكيان السياسي اللبناني فالأولى أن لا يكون لمفهوم الأمة أي أثر في مقومات هذا الكيان كما سيظهر من تضاعيف هذه المقالة. كما
 
 

1- شيحا، إبراهيم، الوجيز، ص36، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
303

293

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 يبرز هذا التحديد لمفهوم الأمة مدى سخف وسطحية التمسك بمقولة ولاية الأمة على نفسها كطرح تقدمي مناقض لولاية الفقيه حيث مفهوم "الأمة" يعني في أضيق الفروض الشيعة وفي أوسعها المسلمين وهذا يجعل المنادين بالوطن والمواطنية والدولة المدنية يسقطون في فخ استثناء الآخر أي غير الشيعي أو غير المسلم تماماً عن دائرة الولاية وبالتالي الوطن والمواطنية!!!.

 
وسواء أكان المتوطن في الإقليم شعباً أو أمة فإن استقرار جماعة من الناس في إقليم بعينه لا يكفي لتشكيل الدولة بل لا بد من السلطة السياسية التي تخضع الناس طوعاً أو قهراً لتقوم هذه الدولة. ومن هذه النقطة يتشعب البحث ليطال مسألة الحكومة أو الجهاز المركزي للدولة ومسألة السيادة.
 
أما الحكومة فهي السلطة المركزية الحاكمة التي تستطيع الدولة بواسطتها تحقيق إرادتها وإدارة أعمالها. فالحكومة هي منظمة الدولة أو جهازها ودون وجود الحكومة يصبح السكان جماعة مفككة من الغوغاء، تسودهم الفوضى ولا يملكون أية وسيلة للعمل الجماعي1. لكن هل من الضروري أن يكوِّن السكان، الذين يحتلون إقليماً معيناً ولهم حكومة منظمة، دولة، والجواب: ليس من الضروري مطلقاً فالدولة مشروطة بالوحدة والتنظيم.
 
 

1- كارفيلد كتيل، رايموند، العلوم السياسية، ص32، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
304

294

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 والمقصود بالوحدة هنا هو أن الإقليم والسكان اللذين يؤلفان الدولة لا يخضعان لأية منظمة سياسية أوسع نطاقاً، وأن تلك الدولة لا يمكن أن تشتمل على أي إقليم أو سكان لا يخضعون لإرادتها.

 
وهذا الاتجاه يصل بنا إلى معنى السيادة التي تعد خاصية لازمة للحكومة يمثل تحققها شرطاً وجودياً به تتحقق فعلية الحكومة وبالتالي تتكون الدولة. ومقتضى السيادة أن تكون سلطة الدولة سلطة عليا فلا توجد سلطة أعلى منها أو موازية لها فهي تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها1 لأنها سلطة أصيلة لا تستمد أصلها من سلطة أخرى، وهي تجعل سلطة الدولة وحدة غير قابلة للتجزئة، وما دامت كذلك فهي تكون آمرة وتستطيع فرض إرادتها على الآخرين بأفعال تصدر عن طرفها وتكون قابلة للنفاذ دون اشتراط موافقة المحكومين.
 
وللسيادة مظهران أحدهما خارجي والآخر داخلي. أما الخارجي فيعني عدم خضوع الدولة لإرادات غيرها من الدول، أما الداخلي فيعني أن سلطة الدولة العليا يخضع لإرادتها جميع الأفراد والهيئات والكيانات الموجودة على إقليم الدولة. ومفهوم السيادة هذا قد أثار في دائرة فقه القانون الدستوري مجادلات كان أوسعها نطاقاً البحث عن "صاحب السلطة السيادية فعلياً". وقد نتجت عن هذه الجدالات نظريتان الأولى هي نظرية سيادة الأمة والثانية نظرية سيادة الشعب
 
 
 

1- شيحا، إبراهيم، الوجيز في النظم السياسية، ص41، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
305

295

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وسنتعرض لهما لاحقاً في معرض تحليلنا لبعض مواد الدستور اللبناني.

 
ومن الناحية القانونية يمكن أن نميز بين شكلين من أشكال الدولة وذلك بالاستناد إلى معيار البنية الداخلية للسلطة في الدولة وهما الدولة الموحدة والدولة المركبة، وفي إطار الدولة المركبة يمكن أن نميز بين الدولة الكونفدرالية والدولة الفدرالية. ويعنينا أن نتوسع قليلاً في بحث الفارق بين الكونفدرالية والفدرالية لأن الفوارق بينهما تمثل أداة تعيننا على فهمهما ونحن أحوج ما نكون لهذين المصطلحين في تحليلنا للكيان السياسي اللبناني.. أما الاتحاد الكونفدرالي فيتلخص بأنه اتحاد ينشأ بين عدة دول بمقتضى معاهدة أو وثيقة تحالف، بحيث تبقى كل منها محتفظة بشخصيتها الدولية ويكون لها مباشرة كافة مظاهر السيادة الخارجية فضلاً عن مظاهر السيادة الداخلية، وهذا النحو من الاتحاد "لا يعتبر دولة" ولا يقبل بأي نحو من أنحاء الحكومة المتفوقة ذاتاً أو اعتباراً على سائر الدول المتعاهدة. ويستمد هذا الاتحاد وجوده من تلك الوثيقة التي تبرم بين الدول المكونة له. ومن المميزات المهمة لهذا الإتحاد أن الهيئة المعبرة عن شخصية هذا الإتحاد سواء أكانت "مؤتمراً" أو "جمعية سياسية" فإنها تتألف من ممثلين عن الدول المنضوية في إطار هذا الاتحاد1. أما الاتحاد الفدرالي فهو اتحاد يقوم بين عدة دول تفقد كل منها الشخصية القانونية وتتشكل عبره شخصية دولة الإتحاد...
 
 

1- شيحا، إبراهيم، الوجيز، ص86، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
306

296

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 ويمكن قبل أن نختم هذا المدخل النظري أن نوضح طبيعة العلاقة بين الأنظمة السياسية والدولة عبر التمييز بين الأنظمة السياسية التي تعرّف مركزاً ودولة في آن معاً ونموذجها الأدق (فرنسا) وبين تلك التي تملك دولة بلا مركز ونموذجها (إيطاليا) أو مركزاً بلا دولة حقيقة كما في بريطانيا أو التي لا تملك مركزاً ولا دولة كاملة ومثالها (سويسرا) وفي بحثنا لبنان.

 
والتمييز هنا بين المركز والدولة يعود إلى التمييز بين المأسسة المحكمة التي تمارس ذاتها بقوة وهي الدولة، والأجهزة التي تمارس حصراً وظائف تنسيقية وهي المركز1. إن مقاربتنا العامة والنظرية للدولة كموضوع مبحوث تشكل مدخلاً إجبارياً ينبغي اجتيازه لبلوغ محل البحث أي "واقعية الدولة اللبنانية" التي يفترض بحثها الاستناد إلى وثائق مرجعية ذات دلالة وتعكس حقيقة النظام السياسي السائد في إطار الإقليم الجغرافي اللبناني. وهنا لن نجد سوى "الدستور" اللبناني كوثيقة مدونة تعبر عن واقع الحال وتدل على خلاصة الاتفاق السياسي المكون لهذا النظام السياسي الذي يهدف إلى التأكد من مدى تحقيق مفهوم الدولة فيه أو حتى مفهوم المركز...
 
 

1- راجع للتوسع حول هذا التمييز – بادي برتران، بيرنبوم بيار، سوسيولوجيا الدولة، ص99 وما بعدها، مركز الإنماء القومي، بيروت، ج1، بدون تاريخ.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
307

297

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 ثانياً: في الدستور اللبناني

 
الدستور هو نص قانوني متفوق على كل النصوص الأخرى التي تنساق منه، ومنه تستقي صحتها.
 
الأعمال الإدارية ليست صالحة إلا إذا امتثلت للقوانين. وهذه بدورها تفقد صحتها إذا لم تتطابق مع الدستور الذي يغدو هكذا الضابط الأساسي1... فالدستور كمفهوم يرتبط، وعلى درجات متفاوتة، بـ"الاتفاق" أو "العقد الاجتماعي" وعليه فهو شكل من أشكال الميثاق الاجتماعي ويعبر عن مجتمع مؤسس على إرادة البشر بدل المجتمع المبني على التاريخ والتقاليد. وفي هذا الميثاق يقرر المتفقون تكوين جماعة بينهم ويحددون المبادئ الجوهرية التي يجب أن تمتثل إليها هذه الجماعة، فالاتفاق أو الميثاق الاجتماعي هو قاعدة الدولة نفسها.
 
أما في لبنان فقد ولد الكيان في 1 أيلول 1920 ثم ولدت الجمهورية في 23 أيار 1926 مع صدور الدستور كنتيجة للتطور السياسي والإداري الذي قام في لبنان منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 بتعاون اللبنانيين مع سلطة الانتداب2 ونتيجة لمجموعة من العوامل المتشابكة المرتبطة بمجرى تطور الأحداث السياسية في سوريا، خاصة بعد اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 والتي كانت تهدف إلى وضع دستور ديمقراطي
 
 

1- دوفرجيه، موريس، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري، ترجمة جورج سعد، ص60 وما بعدها، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1992.
2- الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، ص20، دار النهار للنشر، ط6، 1985.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
308

298

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 لسوريا، فكان صدور الدستور اللبناني بمثابة منحة أو مكافأة أعطتها فرنسا للبنان بسبب عدم معارضته للسياسة الفرنسية أكثر منه نتيجة نضال خاضه الشعب اللبناني في سبيل الاستقلال1. وهذا الدستور كان متعذراً ميلاد مثيل له في سوريا مثلاً نظراً للموقف العدائي الذي اتخذه القادة الوطنيون هناك من الفرنسيين.

 
وبعيداً عن التاريخ السياسي للكيان اللبناني الذي لا يدخل ضمن نطاق عملنا، نلفت إلى أن المهم هو ملاحظة التدرج التاريخي لظهور المؤشرات ذات الدلالة في بحثنا وهي أن الدستور اللبناني قد نشأ بعد تشكل الكيان الذي تولد من ظروف سياسية اجتماعية بالغة التعقيد وكان متأخراً جداً عن تشكل الطوائف ككيانات ذات تنظيم داخلي محكم2. بل يمكن القول إن الكيان اللبناني هو مجموع كيانات الطوائف المكونة له وإن تاريخه ليس إلا تاريخها، فإذا حاولنا أن نكتب للكيان اللبناني تاريخاً معزولاً عن تاريخ طوائفه كانت المحصلة صفراً، لذا كان الكيان اللبناني منظومة للتوفيق بين التعارضات الطائفية، بإرادة خارجية. ولا أدل على هذا من سيرورة بروز الكيان الذي ظهر بإرادة المفوض السامي الفرنسي عام 1920 واكتسب نوعاً من الوجود بموجب صك الانتداب عام 1922. وملاحظة الإرادة الخارجية تكون من خلال متابعة
 
 

1- شكر، زهير، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، ص151، دار بلال للطباعة والنشر، ك2، 2001.
2- راجع مفصلاً الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، م.س.، ص11 حتى ص21، بيت بمنازل كثيرة، دار نوفل بيروت، ط2، 1991، ص13 حتى ص51.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
309

299

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 المصادر المكونة للدستور اللبناني، أما ملاحظة التشاركية الكيانية للطوائف فيمكن إبرازها عبر تحليل البنية الداخلية للدستور. 


ودون التوسع في مصادر الدستور أو في التدليل على الإرادة الخارجية المكونة للكيان اللبناني التي لا حاجة لإثباتها، نجد من الضروري أن نقف عند واحد من مصادر الدستور اللبناني، نظراً للأهمية الخاصة التي يتمتع بها من وجهة نظرنا حيث يساعد في إثبات ما نذهب إليه من أن الكيان اللبناني لا يشكل دولة ولا مركزاً بل نظاماً سياسياً بلا دولة أو مركز، وأنه نظام سياسي يقوم على فكرة الاتحاد التشاركي بين الطوائف التي تحتفظ كل واحدة منها بكيانيتها الخاصة وسلطتها الداخلية، وهذا المصدر هو الاستفتاء الذي قامت به لجنة القانون الأساسي في المجلس التمثيلي اللبناني والذي تلخصت نتائجه في التقرير الذي قدمته اللجنة في 19 أيار 1926 إلى المجلس التمثيلي، والذي أشار إلى أن الاستفتاء قد تضمن اثني عشر سؤالاً حول موضوعات أساسية تشكل مرتكزات أي دستور، وأن الأسئلة وجهت إلى شخصيات ذات حيثية في المجتمع ولآرائها وزن في التعبير عن الشعب اللبناني وتوجهاته وأن اللجنة تلقت 132 جواباً وأن 32 شخصاً رفضوا الإجابة لأنهم من مؤيدي الوحدة السورية ولا يريدون الاعتراف باستقلال لبنان الكبير. ومن جملة هذه الأسئلة يعنينا التوقف عند السؤال السادس الذي يطرح مسألة الطائفية وهل يجب اعتماد الطائفية في توزيع المقاعد في المجلس النيابي؟

الغالبية الساحقة من الإجابات (121 إجابة) رأت ضرورة اعتماد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
310

300

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 النظام الطائفي كأساس للتمثيل الطائفي وقد قدمت تبريرات لهذه الإجابات نقلها عن التقرير الدكتور زهير شكر في كتابه الوسيط في القانون الدستوري ص165 وما بعدها. ونحن سنذكر هذه الأسباب ونتوقف عندها عندما يستدعي ذلك التحليل في إطار استدلالنا على الفرضية موضوع البحث...


السبب الأول خلاصته أن الشعب يتألف من مجموعة من الطوائف، لكل منها معتقداتها الدينية وعقليتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة... وهذا السبب يؤسس لنفي الركن الأول من أركان الدولة وهو الشعب، فهنا لا شعب في أذهان المؤسسين للدستور، بل مجموعة طوائف تتعاهد معاً ليكون "الشعب"، نتيجة لهذا التعاهد. وما دمنا قد شرحنا أن الشعب هو مجموع الأفراد الذين يرتبطون برابط المواطنة ويأتمرون بأمر الإرادة العامة ويكتسبون الحقوق بحكم ارتباطهم كأفراد بدولة ما بعينها، ومن خلال الفهم المستخلص من السبب الأول نكون بصدد نحو من أنحاء الاتفاقيات التي تؤسس للاتحادات التشاركية الكونفدرالية لا بصدد دستور ناظم لدولة بالنحو الذي عرّفناه سابقاً...

فواضعو الدستور أكدوا أننا لسنا بصدد وضع دستور ينظم علاقة "شعب" بالسلطات التي ترعى شؤونه بل نحن بصدد كيانات منفصلة بل ومتباينة ويراد تأسيس شكل من أشكال العلاقة التشاركية بينها عبر اتفاق ميثاقي مكتوب. وهذا المنحى ظاهرٌ من كلماتهم التي وصفوا عبرها حقيقة الطوائف اللبنانية حيث اعتبروا أن لكل منها "معتقداتها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
311

301

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الدينية وعقليتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة". وكون الطوائف تتخذ في أذهانهم هذا المعنى فهذا معناه أن كل طائفة هي بنظرهم "أمة" منفصلة عن الأمم الأخرى التي فرضت المعطيات الجغرافية والسياسية أن تكوّن معاً كياناً سياسياً واحداً. وما دام الأمر إجبارياً ولا مناص منه إذاً لا بد من نص يحفظ الكيانات ويحميها ويمنع ذوبانها في أغيارها ويؤكد مصالحها مهما كان حجم هذه الكيانات أو حجم مصالحها.لذا قال المستفتون "إنّ إلغاء التمثيل الطائفي ينهي التوازن ويعطي بعض الطوائف امتيازات على حساب الطوائف الأخرى". وقد اتضح خلال معالجتنا النظرية لمفهوم الدستور ولركن الشعب عند تحديدنا لأركان الدولة أنّ الدساتير تحدد شكل الدولة وأنواع السلطات وأشكال تعاونها وتكون حصيلة لإرادة مجموعة من الأفراد تأسيس دولة تكون أسمى وأرقى من كل العناصر الغريبة عنها وبالأخص ذات الطابع الوراثي، فهي السلطة السيدة التي تُمارس على الناس الأحرار دون كيانات وسيطة.


أما النصوص التي وظيفتها حفظ التوازن بين الكيانات المنفصلة فهي المعاهدات أو الوثائق التي تتأسس بموجبها الاتحادات التشاركية... وعليه لم يكن في أذهان غالبية المستفتين معنى الدولة، بل يظهر بشكل قاطع أن ما كان في أذهانهم هو "الكونفدرالية التشاركية" المتولدة من حكم الضرورة السياسية - الجغرافية. فهم أكدوا في التعليل الثالث "إنّ روح الطائفية تسود البلاد، ولا يمكن بيوم إلغاء عقلية عمرها عدة قرون" وهذا يبين إدراكهم لحقيقة سبق وأشرنا إليها وهي أسبقية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
312

302

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الكيانات الطائفية على الكيان اللبناني وأنها في تاريخها تختصر تاريخه وفي وجودها تشكل وجوده أو تلغيه.

 
ومن الحقائق التي يبرزها هذا الاستفتاء ما أشار إليه المستفتون في التعليلين الخامس والسادس في جوابهم عن السؤال السادس تأييداً للتشاركية الطوائفية حيث أكدوا "ضعف روح التضامن بين مختلف الطوائف" وأن "الشعب اللبناني لم يعتد إعطاء الأولوية للتضامن الوطني على حساب التضامن الطائفي". وبالإحالة إلى ما ذكرناه سابقاً حول ركن الشعب نكون وبشكل واضح أمام كيان سياسي غير متشكل كدولة. وهذا التوصيف يدعم ما افترضناه من أن الأفراد ما كانوا يوماً العنصر المكون للكيان اللبناني. وما دام الأمر كذلك إذاً فلا مواطنة ولا أفراد يتمتعون بحقوق ناتجة من عضويتهم في دولة يشكلونها بإرادتهم بل الأفراد هم أعضاء في طوائف ينتمون إليها ويقدمون انتماءهم إليها على أي انتماء آخر ومن خلال عضويتهم فيها وبوساطة إرادة الطائفة تشكيل اتحاد الضرورة مع غيرها من الطوائف يصير هؤلاء الأفراد أعضاء في الكيان الأوسع، فهم لم يعتادوا إعطاء الأولوية لغير الانتماء الطائفي.
 
هذه الصورة التي استخلصناها من أجوبة السؤال السادس في الاستفتاء وتعليلاته1 تبين لنا الصورة الواقعية في لحظة التأسيس
 
 

1- إشارة إلى أن السؤال الثاني عشر حول وجوب اعتماد التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وخاصة في تأليف الحكومة قد أتى بنفس الإجابات وعلى أساس نفس التبريرات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
313

303

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الأولى للكيان. هذه الصورة التي حفظتها النصوص والممارسات وسجلها التاريخ وأثبتتها الأحداث لا يمكن أن تشكل "شكلاً من أشكال الحكومة"، وهذا كلام الإجابات الأربعة عشر التي اعترضت على اعتماد الطائفية كأساس في تشكيل السلطة ضمن الكيان. هذه الإجابات كانت مثالية تتحدث عن دولة يجب أن تكون، أمّا الإجابات الأكثرية فكانت واقعية بحيث شرحت واقعاً وسعت لإدارته وفق حقيقته فأكدت أن "لا شعب" وأن لا إمكانية لوضع دستور بل أقصى ما يمكن هو ميثاق تعايش وبالتالي "لا دولة".


وربما يقال إن هذه التعليلات تنفع في دراسة البنية الاجتماعية ولكنها لا تنفع دستورياً لأنها لم تدخل في نص الدستور. والجواب أن هذا غير صحيح فهذه التعليلات قد وردت بتمامها في نصوص الدستور ولا تزال تتأكد وتزداد تجذراً، ولا أدل على هذا من نص الفقرة "ياء" من مقدمة الدستور اللبناني (تعديل 1990) التي نصت على أن: لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

واللافت في هذه الفقرة استعمالها عبارة "ميثاق" وهي مفهوم مغاير كلياً لمفهوم "الدستور" وهذا ما كنا نؤسس لإثباته منذ بداية البحث. كما يستفاد من استعمال عبارة "العيش المشترك" أننا لا نتحدث عن دولة تفرض سيطرتها على المجتمع الذي يشكلها وتنفصل عنه ذاتاً ومفهوماً لتشكل حيزاً مغلقاً وآلة إدارية صالحة للسيطرة على جميع الأطراف، بحيث تشكل كدولة منظومة أدوارٍ ممأسسةٍ عاملة بصورة دائمة والمالك
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
314

304

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الشرعي الوحيد للسلطة والقائم على حفظ الإقليم وصيانته والأهم الآلة السياسية المستخدمة من قبل موظفين مختارين بطريقة موضوعية وفقاً لمعايير الجدارة، بل نتحدث عن مجموعات متجاورة محجوز بعضها عن بعض وتتشارك في العيش بحكم المجاورة الجغرافية وضرورات السياسة التي أملتها إرادات الاستعمار واتفاقيات التقسيم...


وما يؤكد تحليلنا عن انتفاء صفة الدولة عن الكيان السياسي اللبناني أن هذه الفقرة ذاتها تصرح بأن الميثاق التشاركي هو مصدر شرعية السلطات، وفي كل مرة ينقض فيها الميثاق التشاركي بنحو يؤدي إلى اختلال التوازن بين المتعاقدين تفقد السلطة شرعيتها أياً كانت السلطة وأياً كان شكلها. والفقرة (ياء) تؤسس لتفسير الفقرة (دال) التي اعتبرت "الشعب مصدر السلطات" وسنشرحها في طي الكلام الآتي...

يتضح من سياق ما ذكرناه أن الكيان اللبناني ليس دولة ولم يسع مؤسسوه لأن يكون كذلك بل أقصى ما سعوا إليه هو خلق إطار تتعايش داخله الكيانات الطائفية المستقلة مع حفظ استقلالياتها وتمكينها من متابعة العيش متجاورة في حيز جغرافي ضيق فكان لا بد من الاتفاق على نص ميثاقي تشاركي ينتج اتحاداً وتنسيقاً يؤمن الشروط المشار إليها أعلاه ونسميه تجوزاً "الدستور" ومن خلاله سنثبت أنه "ميثاق تشاركي" وأن الكيان اللبناني ليس دولة...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
315

305

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 ثالثاً: في تحليل النص الدستوري اللبناني

 
النظام الدستوري اللبناني من النظم التي يصعب تصنيفها ضمن الأطر التقليدية المتعارفة لتصنيف الدساتير. ومردُّ الصعوبة إلى الظروف التي تكوّن الدستور خلالها والتي برزت في مواده بشكل جلي، ما دفع بعض الباحثين إلى التصريح بأن: "الدستور اللبناني وإن أخذ بالمبادئ الدستورية الكلاسيكية، فإن هذه المبادئ لا تعطينا صورة حقيقية واضحة وموضوعية ومتكاملة عن طبيعة النظام الدستوري اللبناني"1.
 
لذا فمن غير المجدي أن ندرس النظام الدستوري اللبناني بحثاً عن حقيقته وطبيعته اعتماداً على المناهج الكلاسيكية وعبر تحليل المواد التقليدية كتلك التي تحدد علاقات السلطات بعضها ببعض او تشي بحقيقة كون النظام برلمانياً أو رئاسياً أو غير ذلك...
 
وإنما المجدي هو إعادة تركيب المواد الدستورية ذات الخصوصية اللبنانية والتي تعكس البنية السياسية - الاجتماعية التي أشرنا إليها في معرض بحثنا عن مصادر الدستور. وهذا التركيب يؤدي بنا إلى نتيجة قاطعة محددة هي أن لبنان قد اعتمد في دستوره القواعد التشاركية المعتمدة في النظم السياسية التي لا دولة ولا مركز لها مثل سويسرا وهولندا وبالتالي فنحن بصدد تنظيم ميثاقي لنظام سياسي تشاركي لا يراد تشكيله كدولة بالمعنى المتعارف للدولة كما في فرنسا مثلاً.
 
 

1- شكر، زهير، الوسيط، ص319 وما بعدها، م.س.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
316

306

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 ونحن في قراءتنا التحليلية سنرتكز على نصوص الدستور اللبناني بتعديلاته الجوهرية التي أقرت في 21/9/1990 مع الإشارة حين تدعو الحاجة إلى نصوص الدستور اللبناني للعام 1926 دون أن نهمل ما للواقع السياسي اللبناني من أثر في الكشف عن الماهية الحقيقة للمواد. وقبل أن نقارب المواد الدستورية ينبغي أن نؤكد على ما للاتفاق الطوائفي المسمى "الميثاق الوطني" من قيمة في إثبات ما نحن بصدد إثباته، من حيث كونه اتفاقاً بين الطائفتين الكبيرتين يشكل أساس ممارسة الحكم في لبنان لعقود من الزمن. وسنعالج المواد وفق تسلسل منهجي يعالج بداية الشكل العام للنظام السياسي ثم السلطة التشريعية وبعدها السلطة التنفيذية ثم سنحلل طبيعة العلاقة بين السلطات من خلال الدستور بعد التعرض لبعض ملامح إدارة الحكم في النظام اللبناني.


1- حول الشكل العام للنظام السياسي

في الأنظمة السياسية التي تتشكل من فئات متعددة، تسوى النزاعات عادة بالتراضي وتشتدُّ الحاجة إلى إطار ينظم الاختلافات ويحفظها، ويضمحل تماماً مبدأ الأكثرية. ولبنان من تلك النظم السياسية ذات الانقسامات الدينية والمذهبية العميقة والتي تعرف عدداً كبيراً من الفئات المتعارضة وفقاً لانشقاقات تتراكب كلها تقريباً، حتى ولو كانت مخروقةً من الطبقات الاجتماعية المعدومة التأثير داخل أو خارج الانشقاقات الأصلية ذات الأثر الفعلي...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
317

307

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وتاريخ الحروب الأهلية اللبنانية الطويل وما أكده من لا واقعية الصدام فضلاً عن عدم جدواه فرض الحاجة إلى إطار يسمح بالحفاظ على السلم الأهلي بين فئات ترى نفسها متميزة بقوة بعضها عن بعض، نظراً لكونها تعبر عن وجود عدة ثقافات وعقليات وعادات وتقاليد تتشابك وتتناقض في إطار اجتماعي مركب، كما ويؤمن تمثيلاً عادلاً ومتساوياً لمختلف الفئات. هذا النظر الدقيق هو الذي يسمح بالحفاظ على المجموعات المضطرة للتعايش بحكم الضرورة والحاجة السياسية، سواء منها الدولية أو الإقليمية، كما بحكم الضرورة الاقتصادية التي كانت أحد أسبب ولادة لبنان الكبير...


لهذه الأسباب جميعاً كان لا بد من الاستناد في تشكيل البنية الناظمة للكيان السياسي إلى مقولة "الحواجز الجيدة تحفظ الجيران". هذه الحواجز التي قد تكون حواجز داخلية تظهر في بنية الدستور وفي قلب النظام السياسي، وقد تكون خارجية تفرضها توازنات السياسات الدولية الإقليمية...

وفكرة وجود حواجز واضحة تستمر في فصل الفئات بعضها عن بعض بعد أن يبنى النظام السياسي تشير إلى أي مدى نحن أمام مجتمع متميز عن تلك المجتمعات التي عرفت معنى الدولة ومارست آليات الحكم من خلال الدولة كما في فرنسا، حيث لا يمكن أن نتصور - أياً كان حجم الاختلافات أو نوعها السماح - بوجود حواجز بين الفئات الاثنية أو الدينية أو اللغوية، ذلك أن فكرة الدولة تناقض وترفض بشكل قاطع فكرة التعددية المنظمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
318

308

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 هذه التعددية المنظمة تؤكد ذاتها في الفقرة (ياء) من مقدمة الدستور اللبناني حيث النص على أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". وقد أشرنا سابقاً إلى ما في هذا النص من دلالات على طبيعة النظام السياسي اللبناني لجهة أن الدستور والكيان لم ينطلقا من فكرة بل من حاجة، ولم ينطلقا من إرادة أفراد يشكلون معاً شعباً بل من إرادة كيانات اضطرت بحكم الضرورة للعيش معاً. هذه الحاجة وتلك الضرورة تفترضان حفظ الكيانات المتعاهدة في إطار ميثاق العيش المتجاوز غير المندمج والمتشارك غير المتحد، وتفترضان أيضاً أن تكون كل سلطة تؤدي إلى خلل في التوازن بحيث تطغى إحدى الطوائف على الأخريات أو بعضها على بعضها الآخر سلطة غير شرعية، وقلنا إن هذا النص يفسر الفقرة (دال) من مقدمة الدستور التي اعتبرت: "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية".

 
هذه الفقرة التي تعد نصاً كلاسيكياً في جميع الدساتير التي اعتمدت نظرية السيادة الشعبية في مقابل نظرية سيادة الأمة، هذه النظرية التي تعني أن تكون السيادة ملكاً للشعب أي جميع المواطنين الذين يتكون منهم الشعب1، كان يمكن لها أن تكون نصاً عادياً في أي بلد آخر، أما في لبنان الذي قدمنا العديد من الأدلة على غياب فكرة الشعب عن
 
 

1- الغزال، إسماعيل، القانون الدستوري، ص126، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
319

309

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 واقعه السياسي والتاريخي والدستوري فلا بد عند قراءة كلمة الشعب من التساؤل عن معناها، وهنا نعود للتذكير بالفقرة (ياء) من مقدمة الدستور والتي جعلت شرعية السلطة مشروطة بموافقة ميثاق العيش المشترك المتشكل بين الطوائف لا بين الأفراد كما أشرنا غير مرة، قبل أن نلفت إلى أن فهم الشعب بالمعنى المعروف تقليدياً يضعنا أمام حالة من التعارض المستقر بين الفقرة (دال) التي تعتبر الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وبين "ميثاق العيش المشترك الذي يمنح الشرعية للسلطات". أما إذا فهم الشعب كمصطلح يدل على الارادة المتكونة من مجموع الطوائف اللبنانية وأن المفردة هي من نتائج الترجمة، حيث نعلم أن الدستور اللبناني مترجم لا مؤلف، ومن نتاج ضرورات الواقع السياسي الخارجي الذي كان يريد مسمى الدولة وبالتالي لابد له من مسمى الشعب ولو نصاً، عندها ينحل التعارض...


ويؤكد هذا التحليل لمفهوم الشعب ما نصت عليه المادة (24) من الدستور التي وزعت المقاعد النيابية وفقاً للقاعدتين الآتيتين:

أ- بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب- نسبياً بين طوائف كل من الفئتين.

ومن العودة إلى قوانين الانتخاب المرعية الإجراء لا سيما قانون العام 1960 نجد نصاً على توزيع المقاعد النيابية على الشكل التالي: 45 من المسلمين و55 من المسيحيين فيما نص القانون الحالي يوزعها 64 للمسلمين و64 للمسيحيين وبعدها توزع نسبياً بين المذاهب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
320

310

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

  

إذاً الشعب هو الطوائف، فالدستور لم يوزع المقاعد على المناطق ويترك للمجموع حق الاختيار بل وزع المقاعد على الطوائف وترك للمجموع أن يختار ممثلين لهذه الطوائف التي تختصر المعنى الحقيقي للشعب في إطار النظام السياسي اللبناني... هذا النظام الذي تكون بإرادات الطوائف وكرس كيانيتها، وهذا ما تثبته مراجعة نصوص المواد (9، 10، 19) من الدستور. فقد أكدت المادة التاسعة أن النظام السياسي اللبناني يلتزم تأدية فروض الإجلال لله تعالى ويحترم جميع الأديان والمذاهب ويكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايته، والفقرة ذات الدلالة على الكيانية المستقلة هي التالية: "وتضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية".

وعبر هذا النص يتضح ما أسسناه عن الحواجز القائمة في قلب النظام والكيانات المتباينة حيث يصرح الميثاق التشاركي بأنه ضامن لأنظمة الأحوال الشخصية مع ما يعنيه هذا الضمان من حفظٍ لجوهر التباين حيث من الواضح أن أنظمة الأحوال الشخصية هي جوهر بنية الطوائف وترتبط ارتباطاً عضوياً بمعنى الانتماء.

وينفي وجودها بهذا النحو فكرة "الدولة" التي تحتكر حق إصدار القوانين كما تذيب تماماً جميع الكيانات وكل الإرادات. في فرنسا مثلاً ليس بوسع أية جهة سواء أكانت مدينة أو بلدة أو قرية أو مستشفى أو مصنعاً أو ديراً أو معهداً أن تكون له إرادة مستقلة في شؤونه الخاصة ولا أن يدير أمواله الخاصة حسب مشيئته، فالدولة هي الوصي على جميع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
321

311

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الفرنسيين. أما في لبنان فالطوائف لها كينونتها الخاصة وتشريعاتها الداخلية في أكثر المجالات حساسية وبالتالي فهي كيانات منفصلة. ويعضد تحليلنا هذا ذيل المادة التاسعة ومفاده ضمان "المصالح الدينية". هذه العبارة العامة المجملة، التي تحتمل مئات التفاسير، تكرس مفهوم المصالح الطوائفية المختلفة بل والمتعارضة وتجعل مصالح الطوائف مضمونة ومحمية دون تفسير أو تحديد لمعنى المصالح، ودون تحديد لموقع المصلحة العامة للدولة المفترضة من هذه المصالح المكرسة دستوريا، وهذا جوهر التشاركية المنافية لفكرة الدولة.


هذا المنهج في التعامل مع النص الدستوري والباحث عن إثبات التعددية الكيانية يعثر على دليل قيم في المادة (10) من الدستور التي تنص على أنه: "لا يمكن أن تمس حقوق الطوائف لجهة إنشاء مدارسها الخاصة"، كما تنص على أن التعليم حر ما لم "يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب". وهنا يتأكد ما للطوائف من كيانية، فبعد أن احتفظت لنفسها بقوانين الأحوال الشخصية عادت وأكدت على استقلالية نظامها التعليمي المضبوط بحدود عدم المس بكرامة الأديان الأخرى، وهل هناك تفسير آخر غير التعددية الكيانية وغير انتفاء مفهوم الدولة يمكن أن يقدم في مقابل ما أفادته المواد التي تعرضنا لها والتي جعلت الطوائف عبر ميثاقها التشاركي مصدر مشروعية السلطات ولها حقوق تتمثل باحترام مصالحها الخاصة ونظام أحوالها الشخصية ومدارسها الخاصة؟ أليس هذا نحواً من أنحاء الاستقلال وممارسة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
322

312

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

السيادة الداخلية التي لا مناص منها في إطار مجتمعات تنقسم عمودياً بهذه الحدة، حيث في كل مرة يكون أحد المجتمعات منقسماً بعمق انقسامات تزداد حدة كلما حاولنا إلغاءها من أعلى؟ في هذا المجال تصبح القدرة على التوفيق وحفظ إطار تعايشي عبر أطر اتفاقية المجال الوحيد لدفع الانفجار... هذه الحقوق ضمنها الدستور اللبناني عبر المادة (19) التي أعطت "رؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني" حق مراجعة المجلس الدستوري المختص بمراقبة دستورية القوانين.

 
إنّ تأكيد الدستور على هذه الكيانات المستقلة بهذه الكيفية يجعل القول بوجود "دولة" لبنانية مثار سخرية من أي فرد يدرك تماماً مفهوم السيادة الذي سبق أن أوضحناه مفصلاً، أو يدرك معنى الانتماء الديني سواء اتخذ الطابع الإيماني أو حتى الطابع الطائفي، لجهة أنه "مؤسسة اجتماعية متميزة بوجود إيلاف من الأفراد المتحدين عبر أداء بعض العبادات المنتظمة وباعتماد بعض الصيغ وبالاعتقاد في قيمة مطلقة لا يمكن وضع شيء آخر في كفة ميزانها وهو اعتقاد تهدف الجماعة إلى حفظه، وبتنسيب الفرد إلى قوة روحية أرفع من الإنسان وهذه ينظر إليها إما كقوة منتشرة وإما كثيرة وإما وحيدة وهي الله"1.
 
 
 

1- لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، ج3، ص1204، مادة دين، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
323

313

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 هذا الانتماء المحدد بهذه الطريقة يتضمن دائماً معنى "الأفضلية"، فأتباع الطوائف يدّعون لأنفسهم دائماً بأنهم أفضل من الآخرين ودائماً ما تدّعي أن أفكارها ومعتقداتها الدينية أقوم وأصحّ من الأفكار والمعتقدات الدينية للملل الأخرى...


وبهذا الفهم يصبح من غير الواقعي إدعاء الدولة، لأن الطوائف بهذا التعريف ما كانت في ظل الأجواء التي وصفها الاستفتاء لتقبل بدولة تلغيها أو تُحجّم مفاعيلها.

والدستور اللبناني أقر هذه الانقسامات الواقعية بما تنطوي عليه من معانٍ لذا صح عندنا أن ننفي عن لبنان صفة الدولة وأن نثبت له صفة النظام السياسي... الفاقد للدولة والمركز...

2- حول التشاركية الطوائفية في السلطة التشريعية ونفي الدولة

تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب. هذا ما نصت عليه المادة (16) من الدستور اللبناني. وقد نصت المادة (24) على أن يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم محدداً وفاقاً لقوانين الانتخاب المرعية الإجراء. وبعد أن يحدد النص الدستوري توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد التي سبق وأشرنا إليها وهي المناصفة بين المسلمين والمسيحيين والنسبية بين طوائف كل من الفتئين، يدع أمر التمثيل الانتخابي بتمامه في يد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
324

314

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 القوانين الانتخابية التي نفذّت مضمون القاعدة الدستورية، فارتكزت على قاعدة التمثيل الطائفي وهي القاعدة التي رافقت الكيان كإرث يعود إلى نظام القائمقاميتين حيث أنشأ إلى جانب القائمقام مجلس إدارة القائمقامية على أساس التمثيل الطائفي. ومجلس النواب اللبناني هو الوريث الشرعي للمجلس التمثيلي الذي استُحدث لتمثيل الطوائف اللبنانية وليس المواطنين اللبنانيين، وجاءت القوانين الانتخابية لتخدم هذه الحقيقة وتكرس الامتيازات التمثيلية للطوائف. وصحيح أن القانون الانتخابي قد اعتمد في مادته الرابعة مبدأ الهيئة الانتخابية الواحدة حيث نص على أن "جميع الناخبين في الدائرة الانتخابية على اختلاف طوائفهم يقترعون للمرشحين عن تلك الدائرة" مع مراعاة التحديدات الطائفية في عدد النواب لكل طائفة في الدائرة التي يقترع فيها الناخب، إلا أن هذا المبدأ يذوي وينعدم تأثيره من خلال التقسيمات القانونية للدوائر الانتخابية (كما في قانون 1960) حيث تعود الفاعلية الكلية لقاعدة المجلس التمثيلي للطوائف. هذه التقسيمات التي تتيح للطوائف دائماً أن تضمن لنفسها ناخبين متجانسين طائفياً، لذا نجد لبنان ومنذ تشكيله لا يزال محكوماً من قبل فئات سياسية تعبر دائماً وبشكل محدد بدقة عن توجهات طوائفها.


إن قانون الانتخاب في لبنان أياً كان شكله وتاريخه يرتكز على قاعدة "الاعتراف بشرعية الانتماء الطائفي السياسي" أو بعبارة أدق على قاعدة "ضمان مشاركة الكيانات المكونة للكيان، مشاركة فاعلة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
325

315

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وتمثيلها تمثيلاً صحيحاً وبذلك يكون المجلس النيابي مؤسسة تمثيلية تمكن الفئات المتشاركة من التعبير عن ذاتها ومصالحها، وتتم الإدارة السياسية من خلال المؤسسة التمثيلية عبر الاتفاقات والتسويات والمراضاة بين مختلف الطوائف فيستغني الجميع عن فكرة الدولة المهيمنة لصالح الاتحاد المنظم... إن مجلساً يتشكل بهذه الطريقة ولخدمة هذه الغاية يخضع في داخله لقواعد صارمة تحفظ له هذا الدور الكياني. ومن هنا كان اشتراط الأغلبية الموصوفة في كل الأمور الدقيقة ذات الحيثية الكيانية، كاتهام رئيس الجمهورية بالخيانة، أو نزع الثقة عن رئيس المجلس النيابي أو نائبه، أو حالة اتهام الوزراء بالخيانة العظمى، أو (وهذا هو الأهم) في حالة تعديل الدستور، وأخيراً انتخاب رئيس للجمهورية.


إن المجلس النيابي (التمثيلي) وفق هذا التحليل لا يعدو كونه مجلساً تمثيلياً تعبر بواسطته الطوائف عن ذاتها وهذا يناقض مفهوم الدولة حيث ينتخب المواطن المرشح وفق مبدأ المواطنية والتمثيل.

ولا يخفى أن لمجلس النواب دوراً إضافياً كونه يمثل المؤسسة التي يترأسها ممثل الطائفة الشيعية في الكيان وهي الطائفة التي شكلت قضية إشراكها في النظام السياسي الطائفي اللبناني بفاعلية توازي حجمها الكياني عنصر تفجير دائم للأزمات الكيانية بين الطوائف المتحدة... وقد انعكس حجم وجود هذه الطائفة عبر تقرير صلاحيات رئيس المجلس النيابي في الدستور وبالتالي موقعه، أي موقع طائفته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
326

316

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وذلك عبر تمديد ولايته من سنة قابلة للتجديد (قبل تعديل 1990) إلى أربع سنوات وهي المدة القانونية لعمر المجالس النيابية اللبنانية هذا إلى جانب منحه حق التقدير المطلق في تحديد مدى ملاءمة عرض القوانين المعجلة على الهيئة العامة والأهم تفعيل دوره في تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة حيث نصت الفقرة (2) من المادة (53) على أن رئيس الجمهورية يسمي بالتشاور مع رئيس مجلس النواب واستناداً إلى استشارات نيابية ملزمة رئيس الحكومة المكلف.


هذه الحقوق إضافة إلى حقه المكرس في المادة (19) بمراجعة المجلس الدستوري يعزز موقعه الناتج من كونه ممثلاً لطائفة بعينها. ولسنا هنا بصدد التدليل على أكثر من فكرة بسيطة مفادها أن تكوين السلطة المشترعة، وتقنين أصول انتخابها، وموقع رئيسها، بهذا الشكل هو أمر لا يمكن فهمه في (الدول) بل لا يمكن تصوره، نعم يمكن فهمه كنتاج لمعاهدة تحالف وتعاون متبادل بين كيانات تحاول أن تحفظ مواقعها وحدودها وأدوارها.

3- حول علاقة التشاركية في السلطة التنفيذية ونفي الدولة

من العلاقات المميزة للأنظمة السياسية التي لا تشكل دولة ولا تكون مركزاً إناطة السلطة الإجرائية بهيئات جماعية (سويسرا مثلاً). وقد أخذ النص الميثاقي اللبناني بعد تعديل عام 1990 بهذه الطريقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
327

317

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 الجماعية في إدارة البلاد حيث نصت المادة 17 المعدلة على أن تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء الأمر الذي قررته حرفياً المادة 65. ودلالة هذا التعديل تبرز من ملاحظة الفقرة (ألف) من المادة 95 التي نصت على "أن تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة". فالممثل في الحكومة أي مجلس الوزراء ليست الأحزاب أو الكتل البرلمانية إنما الطوائف التي تمثل كما أكدنا قاعدة الحكم وهي الكيانات التي لا يصح إدارة شؤونها عبر مجالس لا تتمثل فيها بصورة عادلة وصحيحة وكون الحكومة تتشكل عبر الاستشارات النيابية والثقة في مجلس النواب فهذا يضمن للطوائف مراعاتها بشكل دائم. والطبيعة التشاركية للحكومة والنافية ذاتاً لفكرة الدولة تتأكد من خلال الفقرة (5) من المادة (65) التي اشترطت لانعقاد جلسات المجلس نصاب (أكثرية ثلثي أعضائه) على أن يتخذ قراراته "توافقياً". ولا بد من التشديد هنا على عبارة توافقياً حيث جعلت هذه المادة قاعدة الحكم ومرتكز الحكومة "التوافقية". ويستخدم مفهوم التوافقية للإشارة إلى عدد من الأنظمة السياسية حيث تسوى النزاعات بالتراضي، إذا خففت الفئات المتعددة خلافاتها بروح من التنازل والتسامح وليس من خلال تطبيق مبدأ الأكثرية. إنها مجتمعات ذات انقسامات دينية أو إثنية عميقة وتعرف بالتالي عدداً كبيراً من الفئات المتعارضة... ودوراً لمجلس كمجلس حكم جماعي يبرز عبر اشتراط الفقرة (5) من المادة (65) موافقة أكثرية ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها في المواضيع الأساسية التي ذكرت

 

 

 

 

 

 

 

 

328


318

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:


تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الإتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء...

ومن ملاحظة هذه النماذج وبقرينة (قوانين الأحوال الشخصية) بل وطبيعة الموضوعات المثارة، نقطع القول بأن هذه القضايا تشترط في القرارات التي تتصل بها موافقة أكثرية ثلثي الأعضاء الذين يشكلون الحكومة حسب العدد المحدد في مرسوم تشكيلها لأنها قضايا تمس أسس الاتحاد وتتعلق بقضايا جوهرية في التعاقد القائم بين الطوائف لذا لا يصح قطع الرأي فيها بمعزل عن أكثرية موصوفة، هذا مع تعذر الإجماع الذي أشار النص إليه كأصل تحت عنوان التوافق.

إن هذه الكيفية في إدارة مجالس الحكم غير معروفة في نظم غير النظم السياسية التشاركية حيث النظام السياسي لا ينجم عن الهيمنة التي تمارسها دولة على أعضائها أو أفرادها إنما عن اتحاد بين كيانات لكل منها شخصيته وكيانيته واستقلاله.

وفي السلطة الإجرائية تبرز كيانية رئيس مجلس الوزراء التي كرسها تعديل العام 1990 في نص المادة (64) بعد أن كان وزيراً أولاً في دستور
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
329

319

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

  (1926) وإن كان في حينها مختصاً بأعراف دستورية تمنحه نفس الصلاحيات المكرسة في نص المادة (64) الحالية. وكما كرس النص ومعه الأعراف موقعاً متميزاً لرئيس مجلس النواب نظراً لكونه ممثلاً فعلياً لطائفة فاعلة في الاتحاد كذلك فعل مع رئيس مجلس الوزراء. ويمكن تأييد هذا الطرح بالفقرة (4) من المادة (53) التي نصت على أن رئيس الجمهورية "يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم".


كما الفقرة (12) من نفس المادة حيث النص على حق رئيس الجمهورية في الدعوة إلى جلسات استثنائية لمجلس الوزراء كلما رأى ذلك ضرورياً "بالاتفاق مع رئيس الحكومة". والقاعدة الكبرى للتشاركية الطائفية تبينها المادة (54) تعديل العام 1990 حيث نصت على أن: "مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصون..." "أما مرسوم إصدار القوانين فيشترك معه في التوقيع عليه رئيس الحكومة".

هذا النحو من التعقيد القانوني يجعل أمر الإدارة والحكم على المستوى الإجرائي التنفيذي موزعاً بين رئيس الجمهورية الذي يمثل الطائفة المارونية ورئيس الحكومة السني ومجلس الوزراء المشكل من مجموع الطوائف مع صلاحيات فاعلة ومؤثرة لرئيس المجلس النيابي الشيعي من أجل التوازن العام في الإتحاد الطوائفي. وهنا ينبغي التأكيد على أن حق التوقيع هو بمثابة حق النقض (الفيتو)الممنوح للطوائف التي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
330

320

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 يشترط توقيع ممثليها على جميع ما أشرنا إليه أعلاه ويمكن لأي طائفة ان ترفض التوقيع وبالتالي تنقض عمل الإدارة وسيرورة حركتها.


إن الدول كما حددناها سابقاً لا تعرف هذا النحو من الإدارة، فالسيادة الشعبية في الدول كمفهوم لا تقبل التنازل عنها أو إحالتها أو توزيعها بين عدد من السلطات أو الهيئات مخافة أن يؤدي ذلك إلى تجزئتها وعدم فعاليتها وحتى زوالها. أما في الاتحادات التشاركية فالطبيعة الذاتية تقتضي التوزع في السلطة مع حفظ الشراكة في كل منها وهذا يتضح من مراجعة الصلاحيات التي نص عليها الدستور لرئيس الجمهورية في المواد من (51) حتى (59) على التوالي. هذه الصلاحيات منها ما هو خاص به حصراً كإصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة ومرسوم تعيين رئيس الحكومة ومنها ما يمارسه بالشراكة مع رئيس الحكومة أو الوزراء كما أشارت المادة (54) وبعض فقرات المادة (53). وهذه التداخلية والاشتراكية في الصلاحيات لا تفهم في الدول لكن تفهم تماماً في الأنظمة السياسية المشابهة للنظام السياسي اللبناني حيث لا دولة ولا مركز.

وقد ولَّدت هذه الطبيعة الخاصة للنظام السياسي اللبنانية مؤسسة قائمة عرفاً وغير مدونة ضمن النصوص وعلى درجة عالية من الفعالية أطلق عليها تسمية "ترويكا" حيث يشترك كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء في تقرير أمور الدولة قبل عرضها على أي مؤسسة دستورية مدونة.

وهذا أمر مشروع تماماً بحسب النظام القائم الذي لا يهتم بالمؤسسات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
331

321

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 أو الأجهزة، ولا بتدوينها أو عدمه، فما دامت شروط المشاركة التوافقية متحققة لجميع الطوائف فإن الحكم يكون شرعياً والقرارات تكون كذلك من حيث مشروعيتها الواقعية...



4- حول التكوين التشاركي للإدارة ونفي المركز

لن نتوسع في هذه الفقرة بل سنكتفي بالإشارة إلى جوهر النقطة المبحوث فيها. إن المركز الذي يتولى مهمة التنسيق بين أجهزة النظام السياسي يفترض أن ينفصل ولو جزئياً عن مكونات المجتمع المكون للنظام السياسي بحيث يتحقق نوع من الحياد في الإدارة المدنية ما يؤدي إلى قيام بيروقراطية مركزية مستقلة ومحترفة يتم اختيارها على أساس الكفاءة والجدارة. إن نص المادة (95) من الدستور اللبناني للعام 1926 ناقض هذا المبدأ حيث تضمن ما يلي: "بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة..." والفقرة (ب) من المادة (95) بتعديل (1990) رغم أنها جاهرت بالنص على "إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي" وعلى اعتماد "الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة" إلا أنها استثنت "وظائف الفئة الأولى وما يعادل الفئة الأولى" حيث "تكون الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة". هذا النص الذي يعد محاولة ناقصة لتحرير الإدارة والشروع في تشكيل المركز لم تبرز
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
332

322

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 له أية مفاعيل تطبيقية خلال الفترة الممتدة من عام 1990 إلى اليوم سوى في مداورة بعض وظائف الفئة الأولى مع استمرار تخصيص بعض الوظائف لفئات معينة كقيادة الجيش مثلاً. وعليه كان ولا يزال النص القديم للمادة (95) هو الواقع المعاش وذلك من أجل احترام التعددية ومراعاة للتوازن ومنعاً للانفجار وتحقيقاً للتمثيل المنصف.


ويبين هذا الواقع إلى أي مدى يحسب حساب الولاءات الطائفية ضمن البنية العامة للنظام السياسي. وهذا يدل وحده على استحالة وجود الدولة كما على استحالة وجود المركز بل أكثر من ذلك على استحالة قيامهما في أي وقت لاحق في المدى المنظور...

5- حول التشاركية في تعديل الميثاق التعاهدي

الدساتير لجهة تعديلها نوعان، مرنة وجامدة. والدساتير المرنة هي تلك التي تتبع في تعديلها نفس الأصول المتبعة في إقرار أو تعديل القوانين العادية كما تناط سلطة إقرار التعديلات بالسلطة التي يناط بها قانوناً وضع القوانين العادية وإقرارها. أما الدساتير الجامدة فهي التي تفترض لتعديلها شروطاً وإجراءات خاصة مغايرة لجهة شدة الصعوبة والتعقيد والاختلاف عن تلك المقررة لتعديل القانون العادي...

والدستور اللبناني هو من أكثر الدساتير جموداً فهو يفترض قيوداً مشددة كما يفترض التوافق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وضمناً رئيس الجمهورية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
333

323

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 هذا التشدد والتعقيد الظاهر من مواد الدستور (76، 77، 78، 79) يبرز الدور التعاهدي لميثاق الاتحاد الطوائفي ما يجعل المساس به أمراً يهدد الكينونة الكلية للكيان أي للنظام السياسي برمته، كما يحمل تهديداً مباشراً للكينونات المستقلة لكل طائفة بذاتها. هذا الحرص على أن تمارس كل طائفة حق النقض في أمر تعديل الدستور يثبت الطبيعة "اللادولتية" للكيان والطبيعة المتجاوزة للدستور وللنص الدستوري فاشتراط خطوات أو مراحل ثلاثاً لا بد من تخطيها تباعاً في تعديل الدستور هي:

1- اقتراح التعديل
2- وضع مشروع التعديل
3- إقرار التعديل

واشتراط صيغ خاصة لكل مرحلة مع اعتماد علاقة تكاملية اشتراطية بين المراحل الثلاث يثبت أن الطوائف تتشدد في الحفاظ على معاهدة التحالف والتعاون القائمة بينها بحيث لا يتمكن أحد الأطراف من تعديلها بمفرده مهما اختلت موازين القوة الواقعية.

فنجد أن اقتراح التعديل مثلاً ووفقاً للمادتين 76 و77 يمكن أن يعود إما إلى رئيس الجمهورية (م76) أو إلى عشرة من النواب (م77) على أن يوافق على اقتراحهم أكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً... بعد اقتراح التعديل سواء عبر الطريق الأول أو عبر الطريق الثاني يحال الاقتراح إلى الحكومة التي يجب أن توافق عليه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
334

324

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 بأكثرية الثلثين ثم تضع مشروع التعديل وتوافق عليه بنفس الأكثرية الموصوفة ثم تحيل المشروع المقترح كتعديل إلى الهيئة العامة لمجلس النواب لإقراره. ومهم أن نشير إلى أن للحكومة أن تعترض على اقتراح التعديل وأن تعيد الاقتراح إلى المجلس (م77) فإذا أصر المجلس بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذي يتألف منه قانوناً كان لرئيس الجمهورية الخيار بين إجابة المجلس إلى رغبته أو الطلب من مجلس الوزراء حله وإجراء انتخابات جديدة... هذا التشابك والتعقيد وحقوق النقض المفتوحة والأكثرية الموصوفة المشترطة عند كل خطوة تظهر أننا لا نتعامل مع "دستور" بالمعنى العادي في "الدول" بالمعنى السائد والمعرف من قبلنا مسبقاً. صحيح أن جميع الدول تشترط أصولاً خاصة لتعديل دساتيرها وقد تكون أصولاً متشددة لكن الدلالة في الدول غيرها من الاتحادات التشاركية نظراً لاختلاف ماهية النص موضوع التعديل.


رابعاً: حول ما يمكن ان يكون نتيجة

ننتهي مما بحثناه الى أنه "لا دولة" في لبنان بالمعنى الاندماجي الذي يلغي الحواجز بين الفئات، هناك بل اتحاد تشاركي يعزز الحواجز ويكرسها منعاً للانفجار. وعليه تكون علاقة الحزب بولاية الفقيه علاقة مألوفة في إطار نظام سياسي تشاركي يؤكد الهوية الذاتية للكيانات ويعززها، لا أنها عائق يحول دون اندماج الحزب في الدولة كما زعم بعض الناقدين، فأي عائق يحول بين المتحقق والمعدوم عن أن يندمجا؟؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
335

325

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 وزيادة في التحديد فنحن ندعي أن ولاية الفقيه بالمعنى المقرر في البحوث الاجتهادية ليست إلا ولاء طرفياً أو شكلاً من أشكال ممارسة "السلطة" الداخلية في إطار كيان – طوائفي مشارك في تشكيل الاتحاد العام للطوائف وفاعل في إدارته وهو يأتلف مع أشكال ممارسة السلطة الداخلية لسائر الأطر الكيانية – الطوائفية المجاورة والمتشاركة معه.

 
وهذا أمر مشروع ومفهوم تماماً، ففي كل مرة لا يكون فيها "المجتمع متجانساً على غرار المجتمع البريطاني ولا مميّزاً ومذرراً كما في الحالة الفرنسية حيث من المفترض أن يمنح المواطن ولاءه للدولة1، وفي كل مرة لا يكون هناك دولة كاملة ولا مركز تكون الولاءات الطرفية معترفاً بها تماماً ومعتبرة كولاءات مشروعة، ففي هذه الحالة ليس المجتمع هو الذي يؤمن تماسكه الخاص، ولا الدولة هي التي تسير المجتمع، بل ترجع هذه المهمة بالعكس إلى الفئات المتعددة التي تنجم عن الانقسامات المتراكبة، هذا التوصيف يفترض أيضاً وجود إجماع داخل كل فئة من الفئات التي تتبادل الاعتراف بنخبها وتترك لها أمر التوافق فيما بينها2. وهكذا لا تتماثل الفاعليات لا بالمجتمع
 
 
 

1- بادي برتران، بيار بيرنيوم، سوسيولوجيا الدولة، ص120، م.س.
2- Berry، Brain: "Political Accommodation and Compositional Democracy". British Journal of Political Science، October، 1975.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
336

326

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 بأسره ولا بالدولة ولا بالطبقات الاجتماعية، بل بخصوصيتها الطائفية حصراً.

 
هذا الواقع المطبق في سويسرا مثلاً والممارس في لبنان ليس نموذجاً مصداقه الحصري علاقة حزب الله بولاية الفقيه، إنما هو نموذج معمم لدى جميع الطوائف. ويمكن التدليل على ما نقول بالعشرات من الأدلة التاريخية والسياسية. ولإثبات المدعى نشير إلى أن الكنيسة المارونية بما هي ولاية دينية مارست عبر تاريخها وما تزال تمارس نموذجاً مطابقاً لولاية الفقيه. فتاريخياً أكدت الكنيسة المارونية ذاتها كسلطة دينية لكيانيةٍ مستقلةٍ لها عليها الولاية العامة المطلقة عبر سلسلة من الإجراءات وصفها الباحثون على الشكل التالي: "يؤكد متّى موسى أن إدراك الموارنة لأنفسهم كجماعة منفصلة وفريدة ضمن (لبنان) تشكل خلال أوائل القرن التاسع عشر وأصبحت الكنيسة تعكس الخليقة المارونية، فيما يمثّل البطريرك السلطتين الدينية والدنيوية"1... ويشير ألبرت حوراني في كتابه "أيديولوجيا الجبل" إلى أن الجانب الأصلي والدائم للوعي الذاتي الماروني كان "لطائفة مترابطة، والكنيسة المسيحية تعيش وحدها في ظل هيئتها الحاكمة الخاصة بها وتحمي نفسها..."2 هذه الأيديولوجيا التي يصفها
 
 
 
 

1- Maati Mossa، the maronites in History Syracuse: Syracuse university pre، 1986، p.284. نقلاً عن: أيزنبرغ، لورا، عدو عدوّي، الصلات الصهيونية اللبنانية، ترجمة، رضاي سلمان، ص56، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط2، 1997.
2- أيزنبرغ، لورا، عدو عدوي، ص56، م.س.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
337

327

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 "حوراني" ما لبثت أن تطورت وتدرجت نحو "مفهوم الأمة" أو "القومية المارونية" المرتبطة عضوياً بالحماية الغربية لا سيما بالحماية الفرنسية، فطوّر الموارنة وعياً تاريخياً لأنفسهم وإحساساً بالمصير المشترك، ناظرين إلى أنفسهم على أنهم شعب مستقل معتبرين أنفسهم "مجموعة قومية" إن لم يكن "أمة"1. وقد أدّى هذا الشعور الناشئ عبر الكنيسة وتحت مظلتها إلى أن رأى الموارنة في أنفسهم "جماعة مميزةً إتنياً ودينياً" ما أعطى عمقاً تاريخياً وفلسفياً للكيان السياسي الماروني الداخلي المنفصل والمستقل عملياً.

 
وهل يمكن أن تسمى هذه الممارسات باسم آخر غير السيادية الداخلية التي نرغب في إثباتها كنظيرٍ لولاية الفقيه التي يرى بعضهم أنها تعيق اندماج حزب الله ومن خلفه الشيعة في "الدولة المزعومة"؟
 
هذا النهج لا يزال نهج الطوائف والمذاهب التي تملك أشكالها السلطوية الداخلية الخاصة التي تميزها وتحفظ كيانيتها في مقابل الآخرين. إذاً علاقة الحزب بولاية الفقيه ليست علاقة غريبة أو جديدةً على الكيان السياسي اللبناني مع الإشارة إلى أن الحزب يؤكد دائماً أن ولاية الفقيه لا تتدخل في إدارة الشؤون التفصيلية أو ممارسة الأعمال السيادية لا بالأصالة ولا بالنيابة بل تقر المشروعية الدينية للأعمال فقط تبعاً لتشخيص أهل الخبرة.
 
 
 

1- شولتزه، كريستين، دبلوماسية إسرائيل السرية في لبنان، ص30 وما بعدها، شركة المطبوعات للنشر، بيروت، بدون تاريخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
338

328

ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم

 يمكن أن نقدم المئات من الأدلة على ما أكدناه من هيمنة الولاءات الطرفية ومشروعيتها الواقعية لدى جميع الطوائف لو أردنا ذلك، إلا أننا نعتقد أن ما ذكرناه فيه الكفاية لإثبات ما عرضناه في مقدمة هذا البحث.

 

 

 

 

 

 

 

 

339


329

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 
الدكتور بلال نعيم1
 
أ - مقاربة مفهوم الوطن
 
الوطن مكان ينتمي اليه الانسان ويُنسب اليه، إما لأنه موطن آبائه وأجداده السالفين، وإما لأنه ولد وعاش فيه، وإما لأنه سكنه الى حد يسمح بنسبته اليه. والوطن ليس مكاناً فحسب، بل هناك منظومة من التفاعلات العاطفية التي تجعل الانسان يحنّ الى المكان، ويطمئن فيه، ويتحيز لرموزه ويتعصّب له، ويسالم من سالمه ويعادي من عاداه.
 
وفي اللغة الوطن يستبطن الإقامة مع الاستقرار والطمأنينة. وقد أقر الشرع ما ذهب إليه العرف في مفهوم الوطن إلا أنه أضاف بعض المحددات بأن الوطن هو ما يحملك، ما يوفر لك أسباب العيش، المكان الذي تقدر فيه على التعبير عن رأيك وأن تحقق طموحاتك دون ظلم أو قيد أو معوقات.
 
ومن جملة النصوص التي يمكن الاستدلال بها:
 
"قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض، قال أوَلم تك أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" / الآية تفيد الدعوة للهجرة الى
 
 

1- باحث إسلامي. 
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
341

330

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 المكان حيث ينتفي الاستضعاف وتتاح للإنسان فرصة الاختيار والتعبير والتنمية (وهي من مقوّمات الوطن).


"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن" حديث للإمام علي عليه السلام. الفقر هو أحد أسباب عدم الاستقرار، فلو كان الإنسان فقيراً في وطنه فهو حالة غربة حقيقية لأن من مزايا الوطن أن تتوفر فيه أسباب العيش.

فالوطن إذاً ليس انتماءً بلا شرط، بل هو انتماء بشرط شيء أو أشياء ترتبط بحياة الإنسان وقدرته على توفير أسبابها ومقوماتها.
ب- بين الوطن الخاص والأرض الوطن

الاستخلاف الإلهي للإنسان كان في الارض، عموم الأرض، شرقها وغربها وجميع أبعادها واتجاهاتها، "هو الذي استخلفكم في الارض واستعمركم فيها". والمسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان تمتد لتغطي مساحة الأرض. وعملية الاصلاح الواجبة يجب أن تشمل مساحة الأرض كما أن خطورة الفساد تكمن في الحيّز الذي تشغله من الارض، من هنا كان الذّم لبني اسرائيل في إفسادهم في عموم الأرض (في الماضي وفي المستقبل).

والانتماء الى الأرض، إلى العالم، له ارتباط وثيق بطبيعة النهج الإلهي القائم على رحمة الله الشاملة للعباد جميعاً وللكائنات عموماً، والذي تجسد(أي النهج) في أن رسالات السماء عالمية حتى لو نزلت في أطر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
342

331

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 جغرافية محددة، وأن الرسالة الجامعة والمصدقة لها (أي الإسلام) نزلت للعالمين جميعاً وليظهر على الدين كله (أي على كل ما يدين به الإنسان من فلسفات وأفكار وتوجهات).


والانتماء الى الأرض، أي عالمية الانتماء، هو من خصوصيات الإسلام العظيم الذي يوجه أتباعه نحو فك قيود الأنفس والخروج من العصبيات ولوازمها ومد الارتباط وشبكة العلاقات مع الانتماءات البشرية المختلفة دون حواجز العرق واللون والجنس واللغة والأزمنة والأمكنة والخصوصيات (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

وإن الانتماء إلى الأرض أي العالمية لا يتنافى بأي حال من الأحوال مع الانتماء الأول إلى الأسرة، والثاني إلى المحيط القريب (البلدة / المنطقة) والثالث إلى الوطن والرابع إلى الإقليم والخامس إلى الأمة، بل إن عالمية الإنتماء تتفاعل إيجاباً مع تلك الانتماءات وهي الحاضنة لها والتي تصنع المناخ المؤاتي لحسن أداء الحقوق المترتبة على كل انتماء، وهكذا نصل الى نتيجة مؤداها: "الانسان عالمي الانتماء بحسب تكوينه الفطري ينزع تبعاً لنشأته التدريجية إلى انتماءات تفصيلية لا يفترض أن تتنافى أو تتضارب مع عالميته وإنسانيته".

ج- الوطنية والإسلامية

إن الوطن يعود إلى مقولة "الأين"، أي إلى المكان، والمكان وجوده كما كل الممكنات اعتباري وليس للمكان قيمة ذاتية وإنما بحسب نسبته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
343

332

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 وارتباطه بالانسان، والقيمة الحقيقية هي لأهم ممكن في الوجود أي الإنسان فكما أسلفنا في المقدمة فإن الوطن ما يقيم فيه الانسان على نحو الطمأنينة والثبات ويترعرع فيه وينمو بلا معوقات وتتوفر فيه مقومات الحياة، وليس هناك مكان في هذا العالم له قيمة تفوق قيمة الإنسان، بل إن أي مكان يأخذ قيمته بحسب نسبته إلى الإنسان، وكلما كان الإنسان عظيماً كان المكان الذي ينتمي إليه عظيماً.


وإن عظمة الانسان الحقيقية تكمن في انتمائه الى الحق، الذي هو المقدس ذاتاً وبلا أي لحاظ، وكلما كان الإنسان أكثر حقانية كان أكثر مقاماً وتعظيماً، والعكس كذلك، حيث الابتعاد عن الحق هو منشأ انعدام الكرامات، وإن وجود الإنسان بالحق، كما إن سلب وجوده لا يتم إلا بالحق (ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق).

وإن جدلية العلاقة بين الإنسان والرسالة منشؤها هذا الانتماء المشترك المفترض إلى الحق، فكون الرسالة هي موصلة الإنسان إلى الحق بمنهجها وأحكامها فإنها تأخذ قداستها من هذه الحيثية (أي إبلاغ الإنسان مأمله وهدفه وغايته) وعندما يدافع الإنسان عن الرسالة فإنه بذلك يدافع عن الحق ويدافع عن الانسان (عن نفسه) لأن الجنبة الأساسية الملحوظة في الرسالة هي في استمرارية السلوك الانساني إلى الحق فيترتب مما ذكر: أن قيمة المكان تؤخذ من الإنسان وأن قيمة الإنسان تكون بقربه من الحق وامتثاله له، فلو ربطنا مباشرة بين المكان وبين الحق نصل إلى أن شرافة أي مكان في مدى توفير الأسباب لانتشار
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
344

333

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 الحق ولتحققه، وبما أن الإسلام هو النموذج الحق (الهدى ودين الحق) الأمثل، فإنه يعلو على كل مكان وعلى نفس الإنسان مهما بلغ (إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي...)، لأن الإسلام هو المنهج الحق الموصل للإنسان الى غايته ولولاه لتعذر هذا الهدف ولانتفت الحكمة من وجود الإنسان (فالدفاع عن الاسلام هو دفاع عن نهج الحق المحقق لغاية الانسان فهو دفاع عن الانسان وعن الإنسانية).


وبالتالي فإن مشروع الإسلام في حقانيته هو المقدم وصاحب الاولوية المتصدرة كل أولوية وعليه يقاس المكان والزمان والإنسان وباقي المفردات.

وإن الانتماء إلى الإسلام لا يعني مجرد الانتماء إلى بلاد المسلمين، إنه الانتماء إلى أمة الإسلام باعتبارها الإطار الاجتماعي الحاضن للاسلام والحامل للوائه، وإن الانتماء الى أمة الإسلام هو انتماء إلى الأمة الوسط التي تقف في منتصف عالم الإنسان بلا تطرف ولا إفراط ولا تفريط لتعيش الحجية والشهادة مع كل البشر على اختلاف صنوفهم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً). وهذه الوسطية تقرب المسافات والأمكنة وتحتضن الخصوصيات ولا تتنافى معها، فلا مجال للقول بالتنافي بين الانتماء إلى الإسلام (كأمة) وإلى الوطن كجغرافيا وحتى كتاريخ.

وما يمكن أن يحصل عند التنافي لجهة الحكم لا لجهة الانتماء وهذا ما سيتضح في النقطة ما قبل الأخيرة حول الانتماء الى حزب الله (ولاية الفقيه) والى الوطن (التعارض والتلاقي).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
345

334

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 د- لبنان الوطن بمشخصاته الجغرافية


إذا كان المكان هو ما بالاعتبار فمن باب أولى أن ما يحدده المعتبرون أو المقسمون هو ما بالاعتبار أيضاً، لأن الحدود الجغرافية سواء الطبيعية منها أو السياسية إذا كانت مدعاة لنشوء الأوطان على نحو مستقل بفعل العوامل التاريخية، أو بفعل فاعل كما حصل بالنسبة لتقسيم الدولة العثمانية بعد سقوطها، فكلا الأمرين بالاعتبار لا بالحقيقة. فقبول أو رفض الجغرافيا التي حددت الوطن لا يكون بلحاظ أنها بفعل سايكس –بيكو ؛ فالذين قسموا الدولة العثمانية لا بد وأنهم لحظوا القدرة على السيطرة، وعزل الشعوب بعضها عن بعض وتحويل المصالح الضيقة إلى مصالح ذات أولوية ومقدسة، لكن في نفس الوقت قد يكون في جملة ما لحظوه أيضاً إمكانية التقسيم الفعلي، على خلاف ما يحصل اليوم لأن المقسّم هدفه التقسيم القسري الذي يحدث تشققات وبالتالي اضطرابات بما يسمح بالارتهان للمقسم من الأطراف كلها، لكن هل هذا ما حصل بالنسبة للتقسيم في بلاد الشام والذي نتجت عنه البلاد الثلاثة أو الأربعة المعروفة ؟!

وهنا لا بد من الاستنجاد بالتاريخ لفهم اللحاظات التي على أساسها كان التقسيم وهل أن الولايات التي كانت تتبع تارة لعكا وطوراً لدمشق كانت تبعيتها ذاتية وقائمة على معايير عقلائية ثابتة بحيث إنها في التقسيم الجديد يجب أن تلحق بما كانت تلحق به من ذي قبل وعليه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
346

335

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 يبقى لبنان الجبل مع بعض الساحل، أو أنه لا يبقى لأن مقومات نشوء الوطن الدولة لا تتوفر في هذه الجغرافيا المستحدثة؟ وإذا عدنا الى التاريخ أيضا فقد وردت تسمية لبنان في الزمن السحيق حتى قيل أن أحد الأحجار التي بني منها أساس الكعبة على يدي آدم عليه السلام كان من لبنان (رواية الطبري)، وإن لبنان كان مشهوراً عبر الأحقاب المتعاقبة بانه بر الشام، وقيل إنه جبل عامل الذي استوطنته تلك القبيلة اليمنية بعد سيل العرم الذي أصاب مملكة سبأ قبل الاسلام بعدة قرون من الزمن، مما يشير الى إمكانية وجود محددات لهذا الاسم (لبنان) قبل حصول الفرز النهائي الذي قد يكون قد أهمل أو أضاف أجزاءً خلال هذا الفرز.


وإذا كان لبنان الجغرافيا متمايزاً قبل حصول الفرز، وجاء الفرز ليحافظ إلى حد كبير على هذا التمايز فلا ضير من اعتماده مع بقائه على الاعتبارية (لكونه مكاناً على نحو عام، أو مكاناً تم تحديده وتسميته بلبنان).

هـ- الشيعة في لبنان

لقد تعاقب على لبنان في مرحلة ما قبل الاستقلال سلطات متعاقبة ودول وممالك، وكان لكل سلطة أو نظام علاقة مع مكونات الاجتماع المستوطن الأرض المسماة لبنان وهذه العلاقة بإيجابيتها وسلبيتها كانت تحكم الهجرات الداخلية والخارجية للتجمعات الطائفية. ومن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
347

336

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 الخصوصيات المشتركة للسلطات المتعاقبة أنها كانت تلحظ مواقع القوة الداعمة للطوائف فتأخذها بعين الاعتبار في سلوكياتها تجاه كل طائفة. وكان ديدن كل طائفة في لبنان أن تحتمي بقوة إقليمية أو عالمية من أجل أن تنأى بنفسها عن التجزير والتقتيل والتشريد إلا الطائفة الشيعية التي لم يكن لها داعم أقليمي أو دولي في الأزمنة الغابرة مما سبب لها كل صنوف القتل والتشريد والتهجير، وذلك إما على يد السلطة القائمة أو على يد قوة مدعومة من السلطة القائمة أو على يد قوة مدعومة من قوة نافذة ومؤثرة على السلطة القائمة.


بحيث إن الطائفة الشيعية تعرضت لصنوف الاضطهاد المتعاقب الذي لولا سنة الدفع والتدافع وسنة حماية الحق في أهله لكان الشيعة في معرض الانقراض أو التعديل في الانتماء المذهبي على نحو شامل(حصل على نحو متفرق) أو الهجرة شبه الكاملة من لبنان. 

وفي كل المراحل لم يتقوَّ الشيعة على شركائهم في الوطن بأي قوة خارجية، وحتى اللحظة الأخيرة، فحين أفاد الشيعة من الوجود السوري في لبنان ليس لأنهم سبب لوجود السوري في لبنان بل كان مما ترتب على هذا الوجود تقوية مواقع الشيعة.

وعلى العكس من مسألة التقوي بالخارج فإن الشيعة دفعوا ضريبتين: 

الأولى: التسلط والاستبداد والطغيان والاضطهاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
348

337

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 الثانية: المقاومة المباشرة أو غير المباشرة للإحتلال والاستعمار والانتداب.


وبقيت الطائفة الشيعية تدفع هاتين الضريبتين حتى زماننا الحاضر حيث تحول الاستبداد الى حرمان وإهمال وإغفال لمناطقهم وتجمعاتهم وتحول الاحتلال الى عدوان فعلي مباشر متواصل طالت آثاره كل الوطن لكن على نحو خاص المناطق ذات الاغلبية الشيعية فاستنهضهم دينهم وثقافتهم وكذا حبهم للوطن وتمسكهم بالأرض من أجل المقاومة للدفاع عن لبنان حتى حققوا الانجازات الكبرى لكل لبنان ولكل لبناني حتى بات لبنان يعرف بالبلد الذي قاوم الاحتلال وانتصر عليه.

فالشيعة عندما كانوا ضعفاء، مستضعفين، مشردين، كانوا يدافعون عن لبنان، والشيعة عندما كانوا متوسطي الحال والأوضاع دافعوا عن لبنان، ومن باب أولى بعد أن يدافعوا عن لبنان بعدما أصبحوا أقوياء وها هم في حرب تموز يدفعون ضريبة الدم العظيمة لصيانة البلد وحمايته.

اذاً لم ينتظر الشيعة من الوطن الذي انتموا اليه حق الانتماء أن يوفر أسباب الكرامة والعيش بل هم الذين انبروا لتحقيق الكرامة لهذا الوطن ولم يضرهم أن سلطاته وحكوماته المتعاقبة أهملتهم فإنهم عندما حققوا العزة لم يحجبوها عن مناوئيهم ومضطهديهم فكانوا بذلك أفضل مصداق للوطنيين وللإنتماء الحق الى الوطن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
349

338

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 و - هل للشيعة مشروعهم الخاص في لبنان


إن الشيعة وفي السياق التاريخي والأحداث والتطورات كانوا مناضلين من أجل الوصول الى حقوقهم كمواطنين، ومن كان حاله كذلك كيف يمكنه أن ينشىء المشروع الخاص ؟! 

كما ان التطورات التي عصفت بلبنان وتحديداً موضوع تهجير عدد كبير من الفلسطينين إليه ونشوء المقاومة الفلسطينية مع ما ترتب على ذلك من الناحيتين السياسية والأمنية على البلد عموماً وعلى الجنوب على نحو خاص رتب استحقاقات خاصة على الشيعة كمجتمع داخل الكيان اللبناني حيث باتت مناطقهم عرضة للاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ولنشاط المقاومة بفصائلها المتعددة والتي تتبع جهات ذات أهداف سياسية خاصة، كما أن مناطقهم في الأساس كانت تعاني من مشاكل الاهمال والحرمان، كل ذلك جعل الشيعة أمام تحديات مصيرية تطال البلد وتطالهم على وجه خاص، فنهضوا في المرحلة الأولى بقيادة الإمام موسى الصدر من أجل مهمتين كبيرتين: 

مقاومة الاحتلال 
مقاومة الإهمال 

وبعد قيام الثورة الاسلامية في إيران وفي لحظة تاريخية بالغة الحساسية تمثلت بالاجتياح الاسرائيلي للبنان والذي كان يهدف الى صهينة لبنان وإدخاله في المشروع الاميركو -اسرائيلي في المنطقة، في هذه اللحظة التاريخية واستكمالاً لمهمتي المقاومة ورفع الاهمال،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
350

339

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 ولكن مع تصدر لأولوية المقاومة العسكرية للاجتياح، كان نشوء حزب الله كمقاومة ثم كتنظيم ومؤسسات. وانتقل الشيعة بفعل هذا الناشىء الجديد الى مرحلة متطورة من الفعل والقوة والتأثير والتحكم. لكن المتأمل في كل ما حصل يجد أن الشيعة كانوا في موقع ردة الفعل الذي فرض عليهم قيامهم ونهوضهم ومقاومتهم ولم يصنعوا هم هذا الواقع بأنفسهم ولم يكونوا بصدد التخطيط لإنتاج مشروع خاص وكانت المقاومة هي الأداة لهذا المشروع بل إن هذه المقاومة كانت معلولاً للاحتلال، وكان تطور أدائها وقوتها وسلاحها بفعل المهمة الشاقة للمواجهة الشرسة مع العدو المتغطرس. من هنا فإن الحديث عن الدولة داخل الدولة هو محاولة للتهرب من المسؤوليات الملقاة على عاتق الدولة في المقاومة والتنمية، فالشيعة قاوموا لأن الدولة كانت عاجزة مفككة والشيعة أنشأوا مؤسساتهم المدنية (الاجتماعية، التربوية...) الخاصة لأن الدولة أهملتهم وغضت الطرف عن احتياجاتهم ومتطلبات حياتهم كمواطنين، فبات الشيعة ومن يمثلهم مجتمعاً مدنياً متفوقاً وناشطاً في ظل نظام ضعيف وقاصر. والسؤال يجب أن يتحول الى الجهات الطائفية الأخرى التي أنشأت مؤسساتها الخاصة بالرغم من إمساكها بمؤسسات الدولة وبالرغم من تجيير إمكانات الدولة لمصالحها فهذه الجهات هي الأكثر اتهاماً بالمشاريع الخاصة الفئوية. واذا عدنا الى المشروع الخاص، فيمكننا التحدث عن ذلك بدءاً من تحول الشيعة الى قوة قادرة على إنتاج المشروع الخاص، فما هو هذا المشروع ؟..

 

 

 

 

 

 

 

 

351


340

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 إن الشيعة في لبنان يشكلون مجتمعاً يغلب عليه الطابع الديني المنتمي الى نهج اسلامي عملي ينشطون في سبيل تجسيده وتظهير التزامهم به من خلال قيامهم بالواجبات الدينية الملقاة على عاتقهم، من هنا كانت مقاومتهم للاحتلال واجباً يمثل فريضة الجهاد التي هي أحد فروع دينهم وعقيدتهم، لكن هذا الجهاد يخدم في الدفاع عن الأمة في صراعها مع أعدائها ويخدم في حماية الوطن من العدو الطامع في أرضه ومياهه وخيراته. فعندما يقوم المجاهدون بواجبهم من منطلق إيمانهم بالله عز وجل لا يعني ذلك انفصالهم عن الصراع القومي ولا عن الدفاع الوطني بل إنهم تمثلوا في ذلك بأقدس ما ينتمون إليه وهو الحق فلا ضير من إطلاق تسمية المقاومة العربية أو المقاومة اللبنانية على الفعل الجهادي الذي أرتأى أهله تسميته بالمقاومة الاسلامية.


ولمشروع المقاومة مفاعيل ومترتبات وآثار تطال الثقافة والتراث والتربية والأمن والسياسة والاقتصاد وكل أبعاد الحياة. فبعد أن قدمت المقاومة نموذجها الجهادي الطليعي لا يمكن عزلها عن معلولاتها وآثارها وأي محاولة في ذلك تكون مؤامرة على المقاومة وعلى ناتج الحق الذي تمثله وعلى الوطن وسيادته واستقلاله الحقيقيين.

اذاً يمكن الحديث عن المشروع المتكوّن عبر الصيرورة والسياق التاريخي بدءاً من التحول نحو المقاومة التي نشأت ثم تصاعدت ثم انتصرت، لكن هذا المشروع وبعد التملي في النظر إليه يتضح أنه مشروع الحق في قبالة الباطل، وليس مشروعاً فئوياً خاصاً. وأكبر دليل على ذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
352

341

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 هو الاستقطاب والانفعال مع هذه المقاومة التي لم تنحصر في الشريحة الطائفية والمذهبية الخاصة بالمقاومة بل تعدتها إلى الأطر الانتمائية الأخرى داخل لبنان وفي المحيط العربي وفي الأمة وعلى امتداد العالم، وبما انه مشروع حق وبما أن الانتماء الى الوطن والدفاع عنه وحمايته من الواجبات التي فرضها الحق، فإن التقاطع يصبح واضحاً بين مشروع الشيعة ومشروع الدولة (الوطن) حيث يكون هو نفسه وليس أمراً خاصاً لخدمة فئة الشيعة في لبنان. فالدفاع عن الوطن حق والدفاع عن حقوق الأمة حق، والانتماءات إلى هذه العناوين في الصميم الفعلي لها هو انتماء الى الحق، لأن الإنسان في الأصل وبحسب الفطرة لا يمكنه أن يحصر نفسه في إطار زمان أو مكان ولا بدّ أن ينتمي الى الحق في سعته الوجودية ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.


ز -لبنان المتمايز وأهميته للمشروع الحق

للحق معاييره ومؤشراته ومحدداته، فمن جملة محدداته رفض الظلم والوقوف مع المظلوم ونشر العدالة، رفض الطغيان والاستكبار، نشر الامن والسلام والطمأنينة في الناس وغير ذلك. 

ومن الحقائق الملازمة للتاريخ الصراع بين الحق والباطل الساري في الزمن سريان الدم في عروق البشر بغض النظر عن حدة الصراع ورتابته.

ومن مشيئات القدر أن يكون لبنان من حيث الموقع الجيو - استراتيجي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
353

342

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 في المكان الذي يحتم عليه وعلى ساكنيه التصدي لأحد عناصر الباطل في المنطقة المتمثل بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين مما جعله في موقع المجابهة مع الباطل أي في خندق الحق. فإذا ما انبرى أهل الحق في لبنان للتصدي لهذه المسؤولية فإنهم قاموا بذلك لإيمانهم بواجب الجهاد من جهة ولأن الأرضية اللبنانية تسمح لهم بذلك، هذه الأرضية القائمة على التعدد وعلى المسافة القائمة بين النظام والمجتمع وعلى هامش الحريات المتاحة ولولا ذلك لم تكفِ المسؤولية ولا الاحساس بها وبواجبها من أجل القيام بها وأدائها، بل إن موقع لبنان وخصوصياته وتمايزه كلها عوامل ساعدت على نشوء المقاومة وفي استمراريتها وفي تصاعدها وفي تحقيقها للانجازات (والتجارب التاريخية في المحيط والأمة شواهد على ما نقول).


وهذا يعني أن لبنان يمثل وطناً ويمثل الأرض الصالحة للحق في مشروعه، وعندما شكل لبنان هذه الحيثية فلكونه على هذه الشاكلة وعلى هذا النموذج، فلو قدر لنا أن نعيد صياغة لبنان وتركيبه من جديد، فإن متطلبات الحق في الأمد المنظور ومشروعه القائم تفرض هذا النموذج وهذا التركيب القائم، وإن العبث بلبنان كحدود أو مكونات ديموغرافية يمكن أن يطيح بتلك الأرضية الصالحة لنشوء مشروع الحق وبالتالي بالمشروع كله. 

فإذا عدنا للحديث عن العلاقة بين قدسية الشيء ومدى ارتباطه بالانسان ومن ثم بالحق نجد أن لبنان الوطن، والجغرافيا، والنموذج
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
354

343

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 القائم والخصوصيات له من الشرافة والقداسة بمدى ملاءمته وتوفيره للمناخ المؤاتي للحق في نموذجيته وفي قيامه وانتشاره، وبما أن لبنان بحدوده القائمة وتركيبته الحالية موائم للمشروع الحق فيجب علينا أن نحافظ عليه في الخصوصيات القائمة. ويكون لانتماء المؤمن إلى لبنان الوطن بعدان: أحدهما ما هو بالاعتبار المحض كانتماء أي شخص إلى وطنه على امتداد من العالم والثاني ما هو بالاعتبار المشوب بالحقانية لما يمثله لبنان الخاص من أرضية صالحة للقيام بأداء الواجب الحق.


ح - المواءمة بين الانتماء الى ولاية الفقيه والانتماء الى الوطن لبنان

عندما أصبح الشيعة قوة فاعلة ومؤثرة في واقع المنطقة وفي الداخل اللبناني فإن العامل الأساسي هو امتثالهم نهج الامام الخميني قدس سره وإيمانهم والتزامهم ولاية الفقيه، تلك النظرية السياسية الحديثة لنظام حكم اسلامي معاصر والتي أسس الامام الخميني قدس سره وفق مبادئها جمهورية اسلامية حديثة ومعاصرة تعتمد الأصول الاسلامية وتلبي متطلبات العصرنة من احتضان العلم والعلماء والعمل من أجل التقدم والتطور والرفاه.

ومن خلال ولاية الفقيه أصبح للشيعة في لبنان ميزة إضافية، ليست انتماءً جديداً بل هي نفس انتمائهم الى الإسلام الأصيل، لكن الأمر الجديد هو التزام أحكام الولاية والذي قد يظهر منه أحياناً التباين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
355

344

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 والتنافي بين التزامين:


_ التزام الأحكام الصادرة عن ولاية الفقيه 
_ التزام المهام المترتبة عن الانتماء للوطن (اي المصالح الوطنية وامتثالها).

وبما أن ولاية الفقيه هي الممثلة للنهج ذي الأولوية بحسب ما تقدم، فإن المتبادر الى الذهن هو تقدم حكم الولي على المصلحة الوطنية إلا مع توافقهما لأن التقديم لا يحصل إلا في حالة التزاحم والتباين. هذا من جهة المقابلة بين الالتزامين، ثم تعدت الاشكالية هذه المقابلة لتصل الى قضية نقل الولاية وتصديرها وتعميمها كنظام حكم إسلامي مع الاستفادة من القوة المتراكمة بفعل إنجازات المقاومة لإقامة جمهورية إسلامية على شاكلة ولاية الفقيه في لبنان.

ويرد على النقطة الأولى (أي تقديم حكم الولي الفقيه على المصلحة الوطنية اللبنانية) عدة إشكالات:

أ - ان الولي الفقيه عندما يحكم يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الزمانية المكانية وهي من شروط كونه فقيهاً ولياً، ولا بد أن يلحظ في هذا السياق ما يرتبط بخصوصيات لبنان الوطن وبما يحيط به وما يرتبط بموقعه على الخارطة الجيواستراتيجية للمنطقة. (أي أن لبنان الوطن بمكوناته وخصوصياته داخل في تشخيص موضوع الحكم وفي توجيه الحكم)

ب- ان الولي الفقيه عندما يحكم فإن مناطات الأحكام ترتبط
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
356

345

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

  بمصلحة الإسلام وليس بمصلحة إيران، ومصلحة الإسلام يجب بحسب المبدأ أن لا تتناقض مع المصالح الوطنية لأن في الحقانية ويشتركان بها. فالمنطق يفرض التمييز بين الأحكام الولائية ذات الموضوعات العامة وبين تلك التي ترتبط بأقطار معينة، حيث تدخل خصوصيات القطر في طبيعة الحكم، وفي هذا الأمر يتساوى لبنان مع إيران ومع باقي الدول، ولا يجب الخلط بين حكم الولي الفقيه الذي يلحظ مصلحة الحق في كل الأحوال مع لحاظ الخصوصيات المكانية في الحكم وبين المصلحة الخاصة لإيران كدولة إسلامية تنتظم وفق نظام ولاية الفقيه.


ج- ان المصالح العليا أياً تكن طبيعتها ومناشئها يمكن تقديمها على أنها مصالح وطنية كما هو الحال بالنسبة للدولة الإسلامية ذاتها حيث قد يظهر على نحو سطحي وجود تباين بين مصلحة إيران كدولة ومصلحة النظام الإسلامي والإسلام في مسألة ما. والحقيقة أن كل المصالح الحقيقية غير الشكلية هي مصالح وطنية ولو كانت طبيعتها قومية أو دينية. وكذلك الأمر بالنسبة للبنان، فهناك مصالح حقيقية يجب التباني عليها وعلى ضوئها يمكن الحكم على الأفراد بمدى محافظتهم أو مخالفتهم للمصالح الوطنية لكن أن تقوم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
357

346

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 كل فئة بتحديد مصالح وفقاً لرؤيتها ثم الإعلان عنها على أنها هي المصالح الوطنية ثم على ضوئها تريد كل فئة أن تحكم على الفئات الأخرى تبعاً للمصالح التي حددتها بالمواطنة والوطنية سلباً أو إيجاباً فهذا لا يمكن البناء عليه، وفيما خص لبنان على وجه التحديد فإن التنوع في الطوائف والمذاهب يلازمه تنوع في الرؤى حول المصالح الوطنية، وإن الجهة المتسلطة والحاكمة والنافذة تحاول أن تفرض رؤيتها حول المصالح الوطنية وتقدمها على أنها هي الفعلية والحقيقية وعلى الآخرين تبنيها وامتثالها والتغني بها، ولأجل ذلك نجد تهافتات كثيرة حول مفهوم الوطنية والوطنيين فكلهم يدعيها وكلهم يسلبها عن الآخرين.

 


وعلى سبيل المثال: كل اللبنانيين أو معظمهم يجمع على اعتبار عدم توطين الفلسطينيين مصلحة وطنية للبنان، لكن إذا سألت هؤلاء أو أكثرهم كيف يمكن الوصول إلى هذه المصلحة تجدهم غير معنيين بذلك، فإذا قلت لهم إن المقاومة وسلاحها شرط وعامل هام في تحقيق هذه المصلحة فإذا كان أحدهم مؤيداً للمقاومة قَبِلَ ذلك وإذا كان غير مؤيد لا يوافق على هذه المقولة، لأن المصلحة الوطنية حتى مع الإجماع عليها فإن النظرة إليها تبقى متفاوتة بين جهة وأخرى.

ونحن اذ نتحدث عن المقاومة في لبنان، فإن هذه المقاومة حتى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
358

347

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 في صراعها مع الكيان الغاصب خارج النطاق الجغرافي اللبناني هي مصلحة للبنان، لأن هذه المقاومة تفرض ردعاً على الكيان وتجعله يحسب ألف حساب لأي عدوان، ولأن هذه المقاومة لا تريح العدو وتجعله قلقاً وكذلك مجتمعه وتقلص من اندفاعة المستوطنين والمهاجرين وفي حال استطاعت أن تحقق إنجاز تحرير جديد فإنها تساعد على تأكيد حق العودة وعلى عدم التوطين أي على تحقيق مصلحة وطنية عليا.


كما ترد على الأمر الثاني (مسألة تعميم تجربة ولاية الفقيه واقامة الحكم الاسلامي) في لبنان عدة اشكالات:

1- إن اقامة حكم إسلامي على شاكلة ولاية الفقيه لا يمكن أن يحصل بالإكراه بل لا بد أن يحصل برضا غالبية المجتمع لأن الولاية تقوم على العدالة ومن لوازمها الحرية والاختيار ومن مقتضياتها قبول الناس على نحو عام بنظام الولاية، فالإسلام يقوم على حرية اختيار المنهج فكيف يفرض نفسه على الناس بالقوة؟

2- ان غالبية المجتمع اللبناني وفق التركيبة الحالية لا تسمح بإقامة نظام حكم إسلامي وفق نظرية ولاية الفقيه لأن هذه النظرية يؤمن بها الشيعة المتدينون وهم جزء من الشيعة الذين هم جزء من المسلمين الذين هم جزء من الشعب اللبناني فكيف يمكن فرض منهج نظام حكم يتبناه جزء من جزء من الشعب اللبناني؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
359

348

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 3- ليس من الأهداف المحددة للحزب أو الشيعة إقامة حكم إسلامي على نمط ولاية الفقيه حتى يكون السعي لتهيئة الأسباب امراً واجباً ومنه السعي لتغيير الخارطة الديموغرافية في لبنان، وعندما نتحدث عن الأهداف فالحديث ليس فقط عن المعلن منها بل عن المضمر أيضاً.


4- ان فرض إقامة حكم إسلامي في لبنان يعني تغيير التركيبة، وهذه التركيبة ضرورية كأرضية لمشروع الحق المنطلق من هذا البلد، فعندما نأتي لنغير التركيبة لإقامة نظام حكم نعتقده الأصلح والأقرب للحق فإننا نضرب العامل الأساسي في قيام مشروع الحق في لبنان.

فإذاً هناك تعارض وتنافٍ بين الأمرين ومن حيث المبدأ هذا لا يمكن أن يحصل فيعني أن الفرضية غير صحيحة.

ومن جهة ثانية فإن تعميم ولاية الفقيه في حال إمكانه هو تعميم لنهج ولفكر النظام وليس نشراً أو ترويجاً للدولة ومكونات الدولة، فالدول والأوطان تبقى على حالها وعلى خصوصياتها حتى مع القدرة على إعادة الفك والتركيب من جديد، لأن الاوطان الناشئة بفعل العوامل التاريخية والقومية إذا كانت قائمة ومستقرة على حالها فلمَ السعي للعبث بأحوالها؟ واذا كان نشوؤها بفعل عوامل اصطناعية لم تسمح بالاستقرار فلا بد من إعادة النظر بحدودها وإعادة تركيبها من جديد على عوامل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
360

349

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 أكثر رسوخاً بما يسمح بالثبات والاستقرار والطمأنينة. فالانتماء الى الأمة الاسلامية أو إلى الإسلام الأصيل إلى ولاية الفقيه لا يمكن أن يكون انتماءً إلى الدولة أو إلى الكيان بل هو انتماء الى الفكر والى النظام القائم على اساسه مع الحفاظ على الأوطان والكيانات القائمة.


وفي ظل العولمة ومع التغير في مفهوم الدولة النظام وليس في مفهوم الوطن فإن التكتلات التي يجب أن تقوم لإنتاج عالمية مقابلة أو لمواجهة آثار العولمة القائمة هي تكتلات تقوم على تجاوز الحدود لا على ضربها بحيث لا يبقى انتماءات وهويات وإشارات دخول وغير ذلك. فالعولمة التي تفرض قيام التكتلات في ظل التغير في شمولية الدولة النظام وفي علاقته مع مكونات المجتمعات المدنية لم تتجاوز الأوطان كمفهوم قائم على عناصر تفاعلية ايجابية في الغالب وهكذا وحدة الأمة الاسلامية لا تعني ضرب الحدود وإلغاءها بل تعني التوجه المشترك والاقتصاد المشترك والدفاع المشترك وغير ذلك بما يحقق أهداف الأمة ويقوّي واقعها ويصونها ويدافع عن ثرواتها ومقدراتها.

وهكذا في كل انتماء الى قومية أو إلى محيط أو مجتمع أوسع، فتجاوز الحدود لإقامة المنظومة المشتركة في المبادئ أو في المصالح لا يعني بالضرورة كسر حدود الأوطان والتلاعب بها وعدم احترامها، فمع الحدود القائمة يمكن للإنسان في الوطن أن يتفاعل ويتصدى للقضايا الكبرى للمحيط العربي أو للأمة الإسلامية أو للمستضعفين على امتداد العالم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
361

350

المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد لبنان نموذجاً

 ط - الخلاصة والخاتمة 


يتحصل من مجموع ما تقدم أن لبنان بحدوده القائمة يشكل وطناً للشيعة ينتمون إليه ويدافعون عنه، ويتشاركون مع المكونات الطائفية والمذهبية الأخرى في العيش المشترك وفي صناعة التنمية وإنتاج أسباب الحياة الكريمة. ويشكل لبنان للشيعة الأرض الصالحة لقيامهم بواجبهم الديني بما لا يتنافى مع مصالحهم الوطنية على قاعدة عدم التباين بين الأمرين لاشتراكهما في الحق، وإن المزايا التي يختص بها هذا الوطن ويقوم عليها ضرورية جداً لمشروع الحق في المنطقة، وعلى مستوى العالم والمتمثل بالمقاومة والممانعة والمواجهة مع مشروع الاستكبار ومع رأس حربته(اسرائيل) وبالتالي فإن العبث بهذه المزايا قد يضر بالمشروع الحق، ومن جملة ذلك التعديل والتغيير في المكونات الديموغرافية زيادة أو نقصاناً. من هنا يجب رفض تقسيم لبنان كما يجب رفض التوطين فيه للحفاظ على مزاياه الصالحة لخدمة الحق وأهله في سعيهم لإقامة هذا الحق الذي يستبطن حكماً مصالح الانسان والاوطان.

ويتحصل أيضاً أن الانتماء إلى الوطن في قضاياه الحقة والانتماء الى ولاية الفقيه انتماءان غير متعارضين لأنهما يشتركان في الماهية الحقة لكليهما، وعند التعارض لا بد من أحد أمرين: إما أن هناك مغالطة في فهم المصالح الحقة للوطن وإما أن هناك مصالح عليا للحق تتعدى الجغرافيا والنطاقات والكيانات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
362

351
الإسلاميون والمشاركة في مجتمع متنوع