المقدمة
المقدمة
تكثر الدراسات التي تتناول الحراك الفكري والثقافي لدى الإسلاميين على امتداد العالم الإسلامي. وقد انصبت هذه الدراسات على تناول بعض الأبعاد المتصلة بهذا الحراك وما يتلازم معه من سلوكات عملية تتعلق بكيفية التعامل مع الذات ومع الآخر المغاير سواء في الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا، أو لناحية الدعوة إلى التجديد الديني وتكييف أحكام هذا الدين مع الواقع المفتوح على مقتضيات التطورات الحديثة في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وسائر ميادين المعرفة وما يرتبط بها من تبدلات في أنماط التفكير والسلوك. غير أن هناك من بين هذه الدراسات التي لا زالت تحظى باهتمام الباحثين إشكالية علاقة الدين بالدولة وهي فكرة لا تزال تجد تحدياتها جرّاء تطور الأشكال الحديثة للدولة لاسيما مع نشوء فكرة المواطنية التي أتاحت للدولة توفير حقل عمومي للأفراد وتأطيرهم بإطار الولاء الكلي عبر النظر إليهم بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعات متغايرة بفعل العقيدة أو الانتماءات ذات الطابع التاريخي التقليدي.
لقد طُرحت دولة المواطنة كبديل للدولة التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوروبا قبل بروز فكرة فصل الدين عن الدولة. وقد وجدت هذه الفكرة حاضناً لها لدى العديد من المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي،
11
7
المقدمة
علماً أن الدولة في العديد من أقطار هذا العالم ما زالت تستند إلى الولادات التقليدية كالقبيلة والطائفة وسائر الأطر التي لعبت ولا تزال دوراً وازناً في الحقل السياسي.
وعلى ضوء هذا الواقع المتلازم مع الإخفاق في برامج التنمية والحرية التي وعدت بها الدولة الناشئة بعد عهود الاستعمار، برزت إتجاهات في الفكر الإسلامي بمواجهة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين ومدى ملاءمته للتطورات الحديثة في حقل السلطة والتشريع، وتلازمه مع مقتضيات العدالة والتنمية والتأطير العام خصوصاً في المجتمعات المتنوعة ومنها لبنان الذي يشكل أحد خصوصيات هذا الواقع بتعقيداته الاجتماعية والثقافيّة.
ففيما مضى كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو نفسه. وبعد وفاته طرحت الإشكالية حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي في كيفيّة انبنائه، وآليات تشكله.
حتى ذلك الحين لم تكن موضوعة الفصل بين الديني والزمني مطروحة بشكل حثيث على الفكر الإسلامي وإنما جلَّ ما كان مطروحاً هو ما كان حول الآلية التي يتم من خلالها تشكل السلطة، وبالتالي تكون مشروعية الحاكم هي المطروحة وليست مشروعية أحكام الدين باعتبارها أحكاماً فردية وأحكاماً اجتماعية تستوجب وجود سلطة لضمان تنفيذها وتشييد المجتمع الإسلامي على قواعد العدالة المفترضة بحسب التعاليم الدينية، فضلاً عن مشروعية التزام الحاكم بتعاليم الدين وضرورة طاعته أو عدمها.
غير أنه وبعد مرور قرون من الزمن، لا سيما مع دخول الاستعمار الغربي إلى العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ومن ثم نشوء الكيانات القطرية
12
8
المقدمة
في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية التي كانت تمثل بنظر الكثير من المسلمين امتداداً لنظام الخلافة الإسلاميّة، أدى نشوء هذه الكيانات إلى بروز حركة شديدة الاعتراض حول الواقع الجديد خصوصاً لدى الحركات الإسلامية.
استناداً إلى هذا الأمر، وفي ظل تنامي الدعوة إلى أسلمة النظام السياسي من جهة وإلى الفهم الديني المقترن بقدرة الدين وأحكامه على التعاطي مع تعقيدات الواقع، كانت هذه المقاربة التي انطلقت من هاجس معرفة اتجاهات الفكر الإسلامي في مقاربته لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة مسنودة إلى الحقل السياسي المفتوح على واقع التنوع في مصادر السلطة فضلاً عن تنوعه المجتمعي. وبالاستناد إلى هذه الإشكالية حاولت المقاربة الرد على بعض التساؤلات المتفرعة عنها من قبيل التسويغات التي يقدمها المفكرون الإسلاميون حول المشاركة في الحقل السياسي العمومي أو نزعها عنه، وقد تراوحت هذه المقاربة بين شقين أحدهما عام يتناول إشكالية السلطة ببعدها العام، والآخر ذو طابع خاص اتخذ من التجربة اللبنانية ميداناً له.
أخيراً لا يفوتنا القول إن أهمية هذه المقاربات تجد دعامتها من راهنيتها التي ما زالت ميداناً للبحث وموئلاً لميادين شتى في المعرفة لدى المهتمين.
كما وأننا إذ نأمل لهذا الكتاب أن يشكل مورداً إضافياً للرصيد الفكري وللمهتمّين من المثقفين، نشكر الفريق الإداري الذي اضطلع بتنسيق جهود الباحثين والذي توِّج جهده في إخراج هذا الكتاب إلى النور.
منتدى الفكر اللبناني_الشيخ خليل رزق
13
9
القسم الأول
القسم الأول :
الإسلاميون بين مشروعية المشاركة والمواطنة
1.نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
آية الله السيد محمد حسين فضل الله
2.الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الشيخ الدكتور عبد الله حلاق
3.مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية-صحيفة المدينة المنورة نموزجا
المحامي الدكتور علي نديم الحمصي
4.المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
الدكتور زكي جمعة
15
10
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
آية الله السيد محمد حسين فضل الله
إن للإسلام أسلوبه الخاص في صنع الحضارة وفي حل مشكلة الإنسان. وقد يختلف في مفهومه عن الحضارة والمدنية عن مفاهيم أخرى، تماماً كما تختلف الماركسية عن الرأسمالية أو الاشتراكية عن الرأسمالية في طبيعة أسلوب الحياة التي تريدها للناس.
لذلك فنحن نؤكد أن الإسلام قادر بمفاهيمه وتشريعاته على أن يحقق السعادة للناس ولكن على طريقته الخاصة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نفرض على الإسلام صورة المدنية أو الحضارة على الطريقة الغربيّة، فنحن لا نعتبر أن الطريقة الغربية في الحياة المدنية هي الطريقة الفضلى. وهنا نسأل هل يستطيع الإسلام أن يكفل حياة مدنية للإنسان على الطريقة الغربية، أو بالطريقة غير الغربية، كما أن للاشتراكية مفهومها الخاص حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الرأسمالية؟ إن للإسلام مفهومه حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الاشتراكية والرأسمالية معاً، ولكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يحقق للإنسان التقدم في كل مجالات الحياة، وفي كل المجالات الإنسانية العامة.
17
11
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ونحن هنا لسنا في صدد التعمق أكثر، ولكن نؤكد أن الإسلام استطاع في مدى مئة سنة منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، أن يصنع حضارة علمية وفكرية وإنسانية عالمية اعتُبرت كما يقول رئيس وزراء الهند السابق الراحل، جوهر لال نهرو "أم الحضارات الحديثة".
وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يصنع حضارة متقدمة أغنت الحضارة الغربية، وأعطتها قوة دفع وانطلاق، فإنه قادرٌ على صناعة هذه الحضارة في شكل أفضل بعد التقدم الإنساني، الذي لا يتنكر له الإسلام، بحال من الأحوال.
الحرية في الإسلام
من جهة أخرى، إن الإسلام يؤكد الحرية في دائرة الالتزام كما تؤكده كل الأنظمة الأخرى، فنحن نرى أن كل الأنظمة لا تدعو إلى الحرية الفوضوية، وإنما إلى الحرية المنظمة الملتزمة في دائرة التشريعات التي تفرضها الدولة. ونحن نؤكد حرية الإنسان داخل النظام الإسلامي ضمن الدائرة الأخلاقية التي يخضع لها التشريع الإسلامي في تنظيمه لحياة الإنسان، كما أننا لا نحرك الإسلام على أسسٍ ديكتاتورية، بل نعتبر أن للناس دورهم في هذا المجال.
إننا لا نتنكر للناس وللأمة فيما يراد أن يتخذه النظام الإسلامي من مواقف سياسية أو اقتصادية أو ما إلى ذلك. إن النظام الإسلامي لا يمثل الحكم الإلهي المطلق كما كان في القرون الوسطى حيث يعتبر رئيس الدولة نفسه ظل الله على الأرض، وأن كلمته - التي قد تنشأ عن
18
12
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
مزاجه - نافذة على كل الناس، بل إن رئيس الدولة هو إنسان يتقيد بالقانون في قراراته، كما يتقيد أصغر إنسان بالقانون، وللأمة أن تحاسبه على أخطائه، ولها أن تعزله إذا انحرف.
لذلك، نعتقد أن النظام الإسلامي عندما يتحرك في الدائرة الإنسانية العامة قد يختلف مع بعض الأنظمة الأخرى في نظرته إلى الحرية، أو في نظرته إلى تفاصيل الديمقراطية، ولكن لن تكون تلك الأنظمة أفضل منه في التعامل مع إنسانية الإنسان.
الديمقراطية
هذا، وعندما نريد أن ندرس الديمقراطية من خلال قاعدتها الفكرية، فإننا نجد أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام، لأن المفهوم الذي تختزنه الديمقراطية في مضمونها الفكري هو أنّ شرعية أي قرار ينطلق من تصويت الأكثرية عليه وليست هناك أية شرعية لأي عنوان آخر في هذه الدائرة.
وفي ضوء هذا يستمد الإسلام شرعيته في حركة الواقع، من خلال اختيار الناس له لا من خلال كونه وحياً يحمل في ذاتيته معنى الشرعية، بل أعلى أنواع الشرعية، وانطلاقاً من هذا، فلو أنّ الناس رفضوا الإسلام لفقد شرعيته في حركة الواقع وفي الوعي السياسي العام. إنّ المسألة قد لا تكون لها انعكاسات عملية بالمعنى السياسي، لأنّ بعضهم قد يقول: ما همك إذا استطعت أن تحكم إسلامياً باسم الديمقراطية، بين أن يفكر بعض الناس بأنّ شرعيتك منطلقة من
19
13
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
اختيار الأكثرية أو أن شرعيتك منطلقة من الله سبحانه وتعالى؟ ولكن على الرغم من أن حركة الواقع تفرض الإسلام، إلاّ أنّنا نلاحظ أنّه عندما يختار الإسلاميون عنوان الديمقراطية لحركتهم السياسية فإن معنى ذلك أنهم يلتزمون كل مضامينها وإيحاءاتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطوط الثقافة الإسلامية في وعي الأمة، كما ينعكس على التزامات الإسلاميين بالنتائج السلبية أو الإيجابية للنهج الديمقراطي في مواجهتهم للنادي السياسي الذي يتحركون فيه. لذلك فإننا نتصور أن المسألة تحمل سلبية في الجانب الفكري والإيحائي ثم تتطور بعد ذلك، لتستطيع أن تطرح إمكانية تغيير هذا الحكم أو ذاك. لكننا إذا أردنا أن ننطلق من واقع الديمقراطية، بعيداً عن العنوان الفكري أو العنوان السياسي الذي يكون واجهة لحركتنا السياسية، فإنّ من الممكن عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي أن نستفيد من هذا المجتمع، وأن ننطلق لنشارك في العمل على الدخول إلى كل مواقعه من خلال الفرصة العامة التي يفرضها اختيار الأكثرية عندما نؤمن بأننا نملك الأكثرية أو حتى عندما لا نملك الأكثرية، فإنّ التحرك في هذه الدائرة للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات يمنحنا حضوراً سياسياً في الواقع السياسي العام، الأمر الذي يؤدي إلى إيجابيات كبيرة.
إذاً نحن نستطيع أن نستفيد من الديمقراطية في المجتمع المتنوع - كما يستفيد غيرنا أيضاً - من دون أن نتبنّاها كخط فكري، وفي هذا الجانب لا بد لنا من أن نحرك خطابنا السياسي عندما ننجح أو عندما
20
14
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
نخسر بأسلوب ومنهجية لا يجعلان حركتنا السياسية - في وعي الناس الآخرين - حركة الإتجاه الذي يمنع الآخرين حرياتهم، كما لاحظنا في تجربة بعض البلدان الإسلامية التي استطاعت أن تحصل على قدر كبير من الاختيار الشعبي. إننا لاحظنا أنّ الخطاب السياسي، الذي تحرك في هذه الدائرة، أوجد إرباكاً في الجو السياسي والإعلامي لمصلحة خصوم الإسلام، ما جعلهم يهاجمون نتائج التجربة الشعبية من خلال طبيعة مفردات الخطاب السياسي الذي لم يكن مدروساً سواءً على مستوى خطوطه أو على مستوى توقيته.
هذا العرض الذي تحدّثنا عنه يتصل بالديمقراطية في شكل عام، ولكننا قد نستطيع أن نسأل في هذا المجال أننا عندما نعيش في مجتمع إسلامي هل يمكن أن نتبنى الديمقراطية؟ من الطبيعي أننا لن نستطيع أن نضعها في الوعي السياسي كمنهج فكري إذا أردنا أن نتحرك سياسياً في إطارها الشكلي، ولكننا نستطيع أن نحصنها بأن نطلق مسألة خيار الشعب بعد أن نضع الحدود للممارسة الديمقراطية من حيث الشروط التي لا بد من أن يتميز بها المرشح بما ينسجم مع الخطوط الإسلامية أو طبيعة الظروف الموضوعية للمسألة الإسلامية وشروطها الشرعية. وبذلك نستطيع أن نجمع بين أصالة الخط الإسلامي، لنكفل له عدم الانحراف في اتجاه آخر ونكفل مشاركة الأمة في القرارات التي تتحرك في حياة مجتمعاتها أو أفرادها من أجل إعطاء المسألة بعداً تلتزم فيه الأمة بخطوطها الشرعية في التزامها بالأشخاص والتزامها بالنظام،
21
15
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
بحيث يمكن أن يحقق للدولة الإسلامية العمق السياسي الذي يطل على العالم، بالطريقة التي تقول إنّ الإسلام لا يلغي الأمّة عندما يتحرك في كل إدارته لشؤونها التفصيلية ولكنه يجمع بين الإسلام الذي هو خيار الأمة، باعتباره دينها، وبين رأي الأمة في المصالح والتفاصيل. إننا بذلك يمكن أن نحصل على مشاركة الأمة في كل القرارات السياسية التي لم يجعل الإسلام لها خطوطاً تشريعية تعبدية حاسمة في ما شرّعه الله، سبحانه وتعالى، أو في ما بيّنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك يمكن أن نجمع بين الأمرين.
ولعلنا في هذه المسألة نستوحي تشريع البيعة. إننا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله، سبحانه وتعالى، رسولاً للناس لتكون شرعيته من خلال إرسال الله له لا من خلال الناس، إننا نلاحظ أنّ البيعة التي تحدّث عنها القرآن في بيعة النساء والرجال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعطي معنى الحاجة إلى أن يلتزم الناس العقيدة على مستوى الإيمان، من خلال أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله، وأن يلتزموا السير في الواقع العملي لحركة العقيدة والشريعة في تفاصيلها في الالتزام بولي الأمر وبالخطوط التفصيلية للإسلام، على أساس أن يكون خيارهم من خلال إيمانهم والتزامهم. ربما كانت البيعة إشارة إلى ضرورة التزام الأمة القيادة والتعبير عن رأيها فيها حتى تلك التي تمثل قيادة معيّنة من الله، سبحانه وتعالى، ولن يكون رأي الأمة في القيادة هو الذي يعطيها شرعيتها ولكن ليعمق التزامها به وواقعية الحركة في هذا الاتجاه.
22
16
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ومن هنا يمكننا أن نستوحي نهجاً يشبه النهج الديمقراطي في النتائج وهو أن يكون للأمة عملية الاختيار في سياستها بالتعاون مع النظام السياسي الحاكم، الذي قد يأخذ شرعيته من نظرية ولاية الفقيه أو من الشورى أو من أي شيء آخر.
هذا عندما نتحدث عن الديمقراطية كخط سياسي، فإذا أردنا أن نتحدث عن الديمقراطية من خلال إيحاءاتها الأخلاقية، عندما يُقال فلان إنسان ديمقراطي أو هذه طريقة ديمقراطية أو روحية ديمقراطية لتكون نفياً للديكتاتورية وللاستبداد، فإنّ الإسلام ديمقراطي بكل ما للكلمة من المعنى الإيحائي والسلوكي للديمقراطية بعيداً عما هو المنهج الفكري الذي أشرنا إليه.
الإسلاميون ونظام الحكم
وحول النظام السياسي المتصل بالعقيدة والشريعة نود أن نوضح أن المنظومة الإسلامية تنطلق من مفهومين: مفهوم يتصل بالعقيدة وآخر يتحرك في الشريعة. أما المفهوم الذي يتصل بالعقيدة فهو أن الملك لله ولذلك فإن الحكم لله من موقع أنه خالق؛ فهو الذي يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وهو الذي يهيمن على الأمر كله وفي كل وجودنا وهو الذي يعلم من نفوسنا ويعلم كل ما يصلحنا وما يُفسدنا ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾( الملك: 14)
وعلى هذا الأساس، فإن الحكم عندما يكون حركة في تسيير المحكوم بكل مواقعه، فإن من الطبيعي أن يكون الله هو المهيمن على ذلك كله،
23
17
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
لأنه إلهنا وربنا ونحن عباده، ولا يملك العبد، فيما هو مفهوم العبودية الحقة، أيّ موقف أمام سيده، فكيف إذا كان ذلك السيد هو الله؟
لذلك فإن الحاكمية بالمعنى التكويني الذي يعني خضوع وجودنا لإرادة الله، وبالمعنى الحركي الذي يقتضي انفتاح تحركنا على إرادة الله سبحانه وتعالى فيما يريدنا من ذلك، توحي بمفهوم الحاكمية لله من خلال العقيدة، وهذا هو الذي يرتبط بمعنى التوحيد ونفي الشرك. فلا يملك أحد غير الله أن يتصرف في وجودنا ومن ثم في شؤؤننا.
أما المفهوم الذي يتحرك في خط الشريعة فإنه ينطلق من الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ ( الأحزاب: 36) وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65 )وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾( الجاثية: 18) إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدث عن أن الحكم لله وعن الكفر والفسق والظلم، كصفات حركية في الجانب السلبي لمن لا يحكم بما أنزل الله.
إن ذلك يعني أن الله أرادنا أن نتحرك في خط شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبودية في الحياة أمامه. لأن الله يريد للحياة الإنسانية أن تنسجم مع الحياة الكونية، لتتحرك تلك بإرادة الله في التكوين وتتحرك هذه بإرادة الله في التشريع، ليكون هناك تكامل بين
24
18
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
الإنسان الذي يطيع الله في أوامره ونواهيه وبين الكون الذي يعيش الإنسان في داخله ويخضع في وجوده التكويني لقوانينه، ليطيع الله في حركة السنن الكونية. فليس لأحد أن يشرّع في مقابل شريعة الله وليس لأحد أن يتجاوز الخطوط التي وضعها الله، تعالى، في مسألة الحكم والحاكم وفي تفاصيل القانون الذي ثبت أنه وحي من الله.
ولكن ليس معنى ذلك أن لا حكم للإنسان أو أن الإنسان لا يستطيع، في الدائرة الواسعة التي أوكل الله أمرها إليه ضمن ضوابط معينة أو التي أباح الله له أمر التحرك فيها وتحديد تفاصيلها، ليس معنى ذلك أن الإنسان يتجمد وأننا نطلق كلمة الحاكمية لله، لنظل نحدّق في البعيد من دون أن ننطلق في حياتنا من خلال أصولها العملية التي تمثل التفاصيل الحياتية للإنسان. إن الله تعالى يحكم من خلال الإنسان، فقد حكم الله من خلال أنبيائه وأوليائه ومن خلال كل الناس الذي ينسجمون مع الخط العريض للإسلام. ولذلك فإنه لا بد للناس من أن يحكمهم الناس. ولكن القضية هي أن الناس الذين يحكمون أو الذين يحكّمهم الناس في أنفسهم وفي الواقع لا بد من أن تكون لهم الصفات التي يرضاها الله سبحانه وتعالى للذين يتولّون مسؤولية الحياة، ومسؤولية الناس.
ومن هنا، فإننا عندما ندرس نظرية الحكم في الإسلام، سواء كان ذلك على مستوى نظرية الإمامة أو نظرية الخلافة أو نظرية الشورى التي ربما تتحرك في إطار أوسع من شروط الإمامة والخلافة، بحسب الضوابط الموجودة لدى الفقهاء أو المفكرين المسلمين، عندما ندرس
25
19
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ذلك نجد أن مسألة حاكمية الله لا تعني أن الحكم في الحياة يكون إلهياً، بمعنى أن يكون الحاكم ظل الله في الأرض من دون أية ضوابط وحدود؛ بحيث تكون المسألة هي ذاتية الحاكم في موقعه، لا موضوعية الخط الذي جعله الله له في حركته.
إننا نجد أن الله حدّد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو النموذج الأعلى للإنسان الذي جعله الله نبياً وخليفةً للناس، حدد له الحدود وقنّن له القوانين؛ فلا يستطيع النبي أن يحكم بمزاجه وإن كنا نفترض أن مزاجه لا ينفصل عن إرادة الله فيما أودعه الله في نفسه من القداسة ومن العصمة ومن الانفتاح على كل مواقع رضاه، ولكن الله لم يجعل ذلك منطلقاً من الذات بل من الخط. ومن هنا رأينا الله يتحدث معه كما يتحدث مع أي مسلم، ويتحدث مع الأنبياء كما يتحدث مع أي إنسان. ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( الزُّمر: 65.) و ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ﴾( الحاقَّة: 44-45).
ومن هنا، فإن مسألة الحكم ليست إلهية، بالمعنى الذي يفهم بعض الناس منه الحكم الإلهي، أي الإنسان الذي لا يسمح لأحد أن يناقش أو يسأل، والإنسان الذي يتحرك بمزاجه وبإرادته الذاتية، بعيداً عن الضوابط التي تحمي الناس منه أو تحميه من نفسه. ولذلك فإن الله أمر نبيه أن يشاور الناس مع أن النبي مرتبط بالوحي، فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159). لذلك إن الحكم في الإسلام ينطلق من حالة موضوعية، تتحرك فيها الذات القائدة
26
20
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
بالضوابط التي يمكن للناس أن يرصدوا من خلالها حركة الحكم في انسجامها مع هذه الضوابط أو عدم انسجامها. فهو ليس الحكم الإلهي المطلق، ولكنه الحكم الإنساني الذي يستمد شرعيته من الخطوط التي جعلها الله تعالى للحكم ولحركته.
ولهذا لاحظنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو المعصوم من قبل الله في التبليغ وفي حركته في الواقع، ولذلك نرى أن السنّة هي قوله وفعله وتقريره. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف، فيما ترويه كتب السيرة، أمام المسلمين في آخر لحظات حياته، ليقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء وإنني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرم القرآن"، وفي رواية "إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرمت إلا ما حرم الله". كأنه يريد أن يقول لهم ادرسوا كل تاريخي معكم في حركة الدعوة والممارسة والحكم واعرضوا ذلك على شريعة الله التي بلَّغتكم إياها، لتجدوا أن أقوالي وأفعالي وعلاقاتي منسجمة مع هذا الخط، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الأنبياء ﴿وَمَا أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه﴾ أو ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.
إننا نفهم من ذلك أن الحكم في الإسلام هو حكم إنساني، يستمد شرعيته من الله في حدود الضوابط التي جعلها الله للحكم وللحاكم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، عندما تُطلُّ على بعض جوانب المعنى الإلهي في الدولة. فهي دولة مدنية لأن للحاكم فيها ضوابط معينة يستمر فيها ما استمر مع هذه الضوابط
27
21
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ويبتعد عنها ما ابتعد عن هذه الضوابط، بحيث إن الأمة إذا رأت أن هذا الحاكم فقد الضوابط الشرعية التي تجعله في موقع الشرعية للحكم فإن عليها أن تبتعد عنه. وهكذا نجد أن لهذه الدولة قانوناً شاملاً لكل المجالات العملية التي يعيشها الإنسان بحيث تستطيع الأمة أن تواجه الحاكم بالقانون، كما يستطيع الحاكم أن يواجه الأمة في أعماله أو في ما يريده منها من خلال القانون.
وعلى هذا الأساس، فإن الدولة ليست دولة الحاكم المطلق الذي يحكم باسم الله من خلال مزاجه أو أفكاره الذاتية الخاصة ولكنها الدولة التي يحكم فيها الحاكم باسم شريعة الله؛ فإذا كان معصوماً فإنه ينطلق من خط العصمة في ما تبلّغه وفي حكمه ولكن بالمستوى الذي يسمح فيه للآخرين بأن يثيروا أمامه علامة الاستفهام حول طبيعة حركته في الموقع. ولذلك لاحظنا مثلاً أن الإمام علياً كان يواجه الناس، ليطلب منهم أن ينقدوه وكان يقول لهم "فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق يُقال لي أو لعدل يُعرض عليّ فإن مَن استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطىء".
إن الحاكم هنا، الذي يعتقد فريق من المسلمين بعصمته في هذا المجال، يغري الناس بنقده وبمراقبة كل أفعاله، وبأن يقولوا له كلمة الحق ولو كانت قاسية وأن يشاوروه بكلمة العدل، مهما كانت طبيعتها
28
22
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ويغريهم بذلك على أساس أن يقول لهم "إني لست بفوق أن أخطىء". إن معنى ذلك أن الحاكم الإسلامي هو حاكم مدني مسؤول يغري الناس بأن ينقدوه بدل أن يعظموه أو يمدحوه أو يرفعوه إلى الدرجات الذاتية العليا. إنه كان يقول لهم: "ليس أمري وأمركم واحد، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".
إننا عندما ندرس شخصية الحاكم الإسلامي في شخصية النبي عندما يحكم، وفي شخصية كل الخلفاء والأئمة الذين يمثلون الشرعية عند المسلمين، نجد أن الحاكم كان يحدث الناس عن الشريعة وعن كتاب الله وعن أسس الحكم، ولهذا فإننا نستطيع أن نقول: إنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة مدنية تتحرك في الخط الإلهي، أي الوحي الذي يحدد للحاكم شرعية الحكم وشرعية وقوفه في موقع الحكم، ليحدد له شرعية كل التفاصيل في نطاق القانون الشرعي أي الشريعة.
أما الحديث عن النموذج الغربي للديمقراطية باعتباره الأنسب والأصلح للواقع العربي فإنني لا أعتقد أن عملية إسقاط هكذا نموذج، نتج من ذهنية تعيش في أجواء محددة، يمكن أن تنجح بشكل آلي في مجتمعاتنا العربية. وأكاد أقول إن مجتمعاتنا تعيش الذهنية الشرعية، ذهنية "البطل" ولا تنسجم مع عقلية المؤسسة إلا من خلال المؤسس؛ الأمر الذي يجعل تأثير البطل في الواقع الشرعي أكثر من تأثير أية مسألة أخرى، ولهذا نجد هذا الالتزام الديني بالأشخاص في كل الأديان الشرقية يتقدم على الالتزام بالدين نفسه، ولذلك فإن التطور الديني
29
23
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
الشعوري يحوّل مسألة الالتزام بالأشخاص إلى نوع من العبادة وإلى حالة تقرب من الحالة الوثنية فتستغرق في الشخص أكثر من الاستغراق في قيمه ومفاهيمه.
نحن نتصور أن الديمقراطية الغربية ليست هي النموذج الأمثل للمرحلة العربية من خلال طبيعة التركيبة الذهنية. ونحن لا نعارض وجود فئات تعيش قلق الحرية ومعنى التعددية في تفكيرها، ولكن هذه الفئات بالذات، إذا نزلت إلى الأرض واستطاعت أن تمسك بزمام الحكم، فإنّ أصحابها يتخلّون عنها بسهولة، ولعل أفضل دليل على ذلك هو ديمقراطية الجزائر فقد لاحظنا أن الأسلوب الديمقراطي الذي ساهم في نجاح جبهة الإنقاذ (في الجزائر) قد انتفض عليه وعلى نتائجه بدعوى أن الديمقراطية لا يمكن أن تحتضن غير الديمقراطيين.
الموقف من الأقليات الدينية
أما عن الإسلام والأقليات الدينيّة، فقد انطلق التشريع حول هذه المسألة في خطين عريضين:
الخط الأول: هو خط أهل الكتاب الذين ينتمون في صفتهم الدينية إلى كتاب منزلٍ كاليهود والنصارى والمجوس - في قول مشهور - والصابئة، فهؤلاء تنتهي مسألة القتال بين المسلمين وبينهم بالإسلام أو بدفع الجزية التي يفرضها وليّ الأمر الذي يتغلب عليهم، لتكون الجزية في مقابل الحماية الإسلامية
.
30
24
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
لهم من دون أن يلتزموا أي التزام عسكري في حماية ثغور المسلمين، هذا إضافة إلى حقوقهم الدينية في عباداتهم وطقوسهم وتقاليدهم في نطاق النظام العام للدولة من دون انتقاص إنسانيتهم، وذلك على أساس عقد الجزية الذي يخضع فيه الطرفان للالتزامات المتبادلة في المفاوضات في هذا الميثاق، وهذا هو الذي يطلق عليه عنوان "عقد الذمة" باعتبار أن هؤلاء يدخلون في ذمام المسلمين وفي مسؤوليتهم الأمنية والسياسية.
وإذا كان بعض الناس يثير هذه المسألة بطريقة سلبية على أساس أنها تنتقص عن حقوقهم الإنسانية، فإننا ندعوهم إلى دراسة المسألة في شكل دقيق بعيداً من الأساليب الاستهلاكية السياسية، ليروا أنها كانت تمثل أسلوباً حضارياً يحمي الأقليات ويمنحها حقوقها الدينية والاجتماعية والسياسية في نطاق النظام العام، ويبعدها عن الإحراج في إدخالها في الحرب التي قد تشنّها الدولة الإسلامية ضد الفئات التي تلتقي مع هذه الأقليات في انتمائها الديني، أو الحرب التي تتحرك للدفاع عن الإسلام الذي لا يؤمن به أتباع الأقليات ولا يرون مبرراً للتضحية بأنفسهم في سبيله.
إننا لا نريد الدخول في تفاصيل "عقد الذمة" أو عقد "الجزية" الذي يمثل حالة إنهاء الحرب مع أهل الكتاب، لأن البحث لا يستهدف الدخول
31
25
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
في التفاصيل، فلذلك مجال آخر، بل يستهدف إعطاء الأفكار العامة في نظرة الإسلام إلى الأقليات.
الإسلام وغير أهل الكتاب
الخط الثاني: هو خط غير أهل الكتاب، كالملاحدة والمشركين والأديان الأخرى غير السماوية، كالبوذية ونحوها.
ويرى الفقهاء المسلمون - من خلال الكتاب والسنّة في الاجتهاد المعروف فيما بينهم - أنه يُقبل منهم الإسلام حتى في صورته الشكلية التي لا تنطلق من قناعة ذاتية، لأن المطلوب - في هذه الحالة - إخضاعهم للسلطة الإسلامية، وإخراجهم من أجواء العداوة للإسلام والمسلمين، وإدخالهم في المجتمع الإسلامي كما لو كانوا جزءاً منه، لأن ذلك هو السبيل الأقرب لاندماجهم في الجو الإسلامي وانفتاحهم على حقائق الإسلام من خلال الوضع المنفتح على الحقيقة الإسلامية بهدوءٍ بعيداً عن حال التشنج العدواني الذي كانوا يعيشون فيه سابقاً.
وربما كان الأساس في ذلك هو أن الإسلام لا يعتبر الإلحاد والشرك فكراً محترماً يفرض احترام انتماء الناس إليه، بل يراه نهجاً منحرفاً عن طبيعة الأشياء منطلقاً من الجهل والتخلف والعصبية، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الكافرين والمشركين بأنهم ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ للإيحاء بأنهم كفروا من موقع جهل، لا من موقع فكرٍ مضاد.
وإذا كانت المسألة تتحرك في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن لا
32
26
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
يحترم الإسلام الجهل في طبيعته ونتائجه، فيضغط على الذين يختارونه لينتقلوا منه إلى المواقع التي تتيح لهم إمكانات المعرفة المنفتحة على حقائق الغيب في آفاق الإيمان بالله.
سُبل العيش بين المسلمين وغيرهم
وليس هذا هو السبيل الوحيد للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب والكافرين والمشركين، فهناك سبيل آخر يمكّن للأقليات الدينية وغير الدينية - من الفئات المضادة للدين - من أن تتعايش مع المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، أو في بلدانها الخاصة المستقلة، من خلال الدخول في المعاهدة أو المهادنة أو المعاقدة مع المسلمين حسب الشروط التي تتفق عليها مع أولياء الأمر من المسلمين، تبعاً للمصلحة الإسلامية العليا التي تفرض على المسلمين إنهاء الحرب مع الآخرين أو تجميدها، والدخول إلى مواقع السلام مع الشعوب الأخرى التي لا تدين بالإسلام، سواء كان السبب في ذلك قوة الكافرين في عددهم وعدّتهم ومواقعهم السياسية أو الاقتصادية، بحيث لا يملك المسلمون الدخول معهم في حرب متعادلةٍ، ما قد يدفع المسلمين إلى طلب الدخول في محادثات سلام أو معاهدة معهم أو إلى قبول ذلك إذا قدّم الكافرون الطلب بمبادرة منهم، أو كان السبب وجود مصلحة عليا للمسلمين للتعايش مع الآخرين في سلام عادل متوازن من خلال طبيعة الأجواء الدولية التي تربط كل دول العالم في ميثاق شامل للصداقة أو عدم الاعتداء
33
27
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
على طريقة ميثاق الأمم المتحدة، ما يجعل المسلمين في عهد شامل مع كل دول العالم، إلا الدول التي تنقض العهد وتعلن الحرب عليهم، أو الدول التي لا تملك أية شرعية سياسية لدى المسلمين، كإسرائيل.
وهذا الخط -خط المعاهدة- يختلف عن الخطين الآخرين، وهو الذي يمكن أن يزيل الكثير من السلبيات التي قد يثيرها بعضهم حول المنهج الإسلامي في نظرته إلى الآخرين ليكون السيف هو كل شيء في المسألة، ليفرض الإسلام أو الجزية أو القتل، مما يبتعد به المسلمون عن إمكان التعايش مع الشعوب الأخرى التي تختلف عنهم في الانتماء الديني أو عن إمكان التعامل بإنسانية وعدالة مع الأقليات الدينية الأخرى التي لا تريد الدخول في الإسلام ولا تحب دفع الجزية، ولا تعرّض نفسها للحرب الدائمة.
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نتصور أن المجتمع الإسلامي في نطاق الدولة الإسلامية يحتوي على المواطنين الذين يتنوّعون في أديانهم مع مساواتهم في الحقوق المدنية أو السياسية العامة التي لا تتنافى مع الخصوصيات الذاتية للإسلام.
أقول إننا بحاجة إلى تطوير في الشكل لا في العمق، لأن الفكر الإسلامي الذي عاش تجربة طويلة متنوعة في طبيعته المنفتحة على حاجات الإنسان في كل مرحلة من المراحل، يوحي بأن النظام الإسلامي ليس مجرد عنوان فكري نحاول البحث عن أرض يمكن أن يتحرك فيها،
34
28
نظام الحكم في الإسلام: قراءة في المفهوم والتجربة
ولكنه يمثل كياناً قانونياً فكرياً فلسفياً على مستوى القواعد الفكرية النظرية والعملية. ومشكلتنا الآن هي: كيف يمكن إخراج هذا النظام الإسلامي إلى الواقع بطريقة عصرية جديدة؟
35
29
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الشيخ الدكتور عبد الله حلاق1
طروحات المعارضين للمشاركة السياسية
طروحات المؤيدين للمشاركة السياسية
تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية
المقدّمة
اختلفت الآراء وتعددت المواقف لدى حركات وأحزاب ومفكري الصحوة الإسلامية تجاه مسألة مشاركة الإسلاميين في الحكم مع الأنظمة الوضعية (ملكية، ديمقراطية، ديكتاتورية)، على أساس التعددية السياسية في نظام الحكم، فمنهم من أيّد المشاركة وبيّن مصلحة المسلمين في ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية، ومنهم من رفض المشاركة السياسية وبيّن الضرر الذي يصيب المسلمين والمسيرة الإسلامية من ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية.
1- مدير مركز دراسات الوحدة الاسلامية.
37
30
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
طروحات المعارضين للمشاركة السياسية
طرح الذين لا يجيزون المشاركة السياسية أدلتهم الشرعية والفكرية والسياسية المحددة بالتالي:
1- يفتي الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير بكفر مَن يتحاكم من المسلمين إلى كتاب أو شرعة وضعية، فيقول: "في ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (إلياسا)1 وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين2... قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾3.
2- ويرى سيد قطب أن المشاركة السياسية تأتي في صالح الجاهلية وأنظمتها الوضعية، لا في صالح الإسلام والدعوة الإسلامية، وأنه لا يمكن الالتقاء مع الجاهلية في منتصف الطريق، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الصحابة الكرام، قد تحملوا
1- هي شرعة جنكيز خان التي كان يطبقها على البلاد التي يحتلها، وفيها الكثير من الظلم والاعتداء على الناس.
2- الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير - البداية والنهاية - م/7 - ج/13 - ص119.
3- النساء: 65.
38
31
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
من إيذاء وعنت الجاهلية الأولى، أكثر مما تفعله الجاهلية الحديثة بالمسلمين، ومع ذلك لم يلتقِ معها، ولم يستجب لعروضها المغرية في المشاركة السياسية للأسباب التالية:
أولاً: لقد قال الرجل العربي -بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "هذا أمر تكرهه الملوك"، وقال رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته "إذاً تحاربك العرب والعجم". لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جذبتها في حس هؤلاء العرب... إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة. إنها الخروج من الأرض... إنها ذهاب السلطان... إنها إبطال شرعية الحكم... أو محاولة قلب نظام الحكم!... بالتعبير العصري الحديث1.
ثانياً: إن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج من الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال
1- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/3 - ص1348.
39
32
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام... إنه ليس هناك أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق ولا إصلاح عيوب ولا ترقيع مناهج1.
ثالثاً: إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله... إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد أن قسم الله له الخير وكشف له الطريق وهداه إلى الحق وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه، شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت!، أو مؤداها -على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود وشرعية في السلطان وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله...
وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ولم يرفع راية الإسلام، بشهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة!2.
1- سيد قطب - المرجع نفسه - م/6 - ص3992.
2- سيد قطب - المرجع نفسه - م/3 - ص1319.
40
33
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
رابعاً: ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي أن لا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال، وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين، والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم، وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم... فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه، عاملون في تشكيلاته... وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله وهم واعون مقدرون1.
خامساً: لقد كمل هذا الدين وتمت به نعمة الله على المسلمين. ورضيه الله لهم منهج حياة وللناس أجمعين. ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى... وأي تعديل في هذا المنهج -دعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة... وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين... وإن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء
1- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/4 - ص2101-2103.
41
34
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
يه في بعض الملابسات والظروف. فحذر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات... ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾1. وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة لغرض من الأغراض في ظرف من الظروف ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾2. ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحّي شريعة الله عن حكم الحياة؟ ما الذي يستطيع أن يقوله وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟ الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ ألم يكن هذا كله في علم الله وهو يأمر المسلمين بأن يقيموا بينهم شريعته وأن يسيروا على منهجه وأن لا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟3
3- ويبيّن محمد قطب للذين يسعون إلى المشاركة السياسية مع الأنظمة الديمقراطية!... يبيّن لهم حقيقة الديمقراطية بقوله "أما الديمقراطية فهي الفتنة الكبرى! فتنة يقع فيها كثير من الدعاة اليوم كما وقع بعضهم في فتنة الاشتراكية
1- المائدة: 49.
2- المائدة: 50.
3- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/2 - ص903-905.
42
35
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
من قبل1... وما عندي شك في إخلاص هؤلاء الدعاة... ولكنهم مع ذلك مخدوعون في هذه الديمقراطية يحسبونها تخدم الإسلام... ويلتبس عليهم الأمر بسبب الشبه الظاهر بينها وبين الشورى التي ألزم الله بها الأمة الإسلامية، فيحسبون الإسلام والديمقراطية شيئاً واحداً، أو شيئين متجانسين يمكن مزجهما في عجينة واحدة! وأحسب أن الذي يجذبهم إلى الديمقراطية حتى ليحسبونها هي الصورة التطبيقية لروح الإسلام، هو رقابة الأمة على الحاكم في النظام الديمقراطي ومحاسبتها له، والضمانات التي تكفلها الديمقراطية للفرد إزاء الدولة"... فإذا نظر أولئك الدعاة إلى أنفسهم في وسط النظم الاستبدادية التي تشردهم وتعذبهم وتقتلهم قالوا: يا ليت لنا نظاماً ديمقراطياً يحمي الدعوة ورجالها من العسف والاستبداد!... نعم! ولكن هذا لا يبرر الخديعة بالديمقراطية. إن هناك قضية كبرى في حياة المسلم، تنطلق من عقيدته، وتسري في فكره وفي سلوكه العملي... تلك هي قضية (من المعبود)؟ الله أم آلهة أخرى معه، أو من دونه؟ ويتفرع عنها قضية أخرى لا تقل خطراً عنها... تلك هي قضية (من المشرِّع)؟
1- يقصد بذلك الدكتور مصطفى السباعي عندما ألف كتابه اشتراكيتنا فاختلط لديه الأمر بين الاشتراكية والإسلام.
43
36
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
فأما قضية (من المعبود؟) فيكفي لبيانها في الديمقراطيات أن (حق) الإلحاد مكفول في دساتير تلك الأمم تحت عنوان (حرية العبادة)!... وأما قضية (من المشرِّع؟) فالواضح في الديمقراطيات أن حق التحليل والتحريم هو (للأمة) مصدر السلطات، والبرلمان الذي يمثلها، نظرياً على الأقل، بصرف النظر عن كون أصحاب رؤوس الأموال، هم الثقل الحقيقي وهم أصحاب السلطان من وراء (المسرحية) الجميلة، مسرحية التمثيل النيابي وحرية الاختيار وحرية التعبير!، ولكن إذا أخذنا بالنظرية فالبرلمان هو الهيئة التشريعية العليا، ولا معقب لحكمه ولو أباح الفاحشة - وقد أباحها - ولو أباح الفاحشة الشاذة - وقد أباحها - ولو أباح أي شيء وكل شيء...! إنني أقول للدعاة الذين ينادون بالديمقراطية - مخلصاً- إن الديمقراطية بصورتها الموجودة عليها اليوم في الأرض لن توصلهم إلى الإسلام، لأنها تعارض معارضة أساسية مبدأ الالتزام المسبق بأي شيء ولو كان من عند الله... بل إن أول شيء نبذته هذه الديمقراطية هو الالتزام بما جاء من عند الله!... ثم أقول لهم مخلصاً: إنها لن توصلهم إلى الإسلام من جانب آخر. لأن المشرفين على (اللعبة) الديمقراطية يفتحون الأبواب لكل عابث ولكل مفسد، ولكنهم لا يفتحونها للإسلام!، وقضية الجزائر ما زالت حيّة لم تغب عن الذاكرة... من حق أي فريق من البشر أن يحصل على أغلبية في البرلمان... إلا الإسلاميين!1
1- محمد قطب - لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة - ص150-152.
44
37
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
4- ويفند الأستاذ عبد القديم زلوم1 جانباً آخر من جوانب النظام الديمقراطي، والمحدد بالحريات العامة التي ليس فيها ضوابط معتبرة، وهي تناقض الإسلام، في منطلقاتها وأهدافها، وهي التالية:
أولاً: إن حرية الاعتقاد تعني أن الإنسان يحق له أن يعتقد العقيدة التي يريدها، وأن يعتنق الدين الذي يود، دون ضغط أو إكراه، كما يحق له أن يترك عقيدته ودينه وأن يتحول إلى عقيدة جديدة، ودين جديد، أو أن يتحول إلى غير دين... بينما الإسلام يحرم على المسلم أن يترك عقيدة الإسلام، وأن يرتد إلى اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية2.
ثانياً: أما حرية الرأي في النظام الديمقراطي فإنها تعني أن الفرد له أن يحمل أي رأي وأي فكر، مهما كان هذا الرأي وهذا الفكر، وله أن يقول أي فكر وأي رأي، وأن يدعو إلى أي فكر وأي رأي، بمنتهى الحرية دون قيد أو حدٍ، وله أن يعبر عن ذلك بأي أسلوب من الأساليب المتاحة له... أما الإسلام فالأمر فيه مختلف، فالمسلم فيه مقيد في جميع أفعاله وأقواله بما جاءت به النصوص الشرعية، فلا يجوز له أن يعمل عملاً أو أن يقول
1- أحد أمراء حزب التحرير.
2- عبد القديم زلوم - الديمقراطية نظام كفر - ص55.
45
38
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
قولاً إلا إذا جاءت الأدلة الشرعية بجوازه... كما أن الإسلام أوجب على المسلمين مجابهة الحكام بالرأي ومحاسبتهم على أعمالهم1.
ثالثاً: أما حرية التملك -وهي التي أنتجت النظام الرأسمالي في الاقتصاد، وبالتالي أوجدت فكرة استعمار الشعوب، ونهب خيراتها، وسلب ثرواتها- فإنها تعني إباحة أن يتملك الإنسان المال ابتداء، وأن ينميه بأية وسيلة، وبأية كيفية كانت، فله أن يملك المال، وأن ينميه بأسلوب الاستعمار، ونهب الثروات وسرقة خيرات الشعوب المستعمرة، وبالاحتكار والمضاربة، وبالربا، وبالتدليس والغش والخداع والغبن الفاحش، وبالقمار والزنا واللواطة واستخدام أنوثة المرأة، وبصناعة الخمر وبيعها وبالرشوة وبغير ذلك من الأساليب... أما الإسلام فإنه نقيض هذه الحرية في أحكام تملك المال، فهو يحارب فكرة استعمار الشعوب، وفكرة نهب خيراتها، والاستيلاء على ثرواتها، كما يحارب فكرة الربا سواء أكان بفوائد مركبة أم بفوائد بسيطة، فالربا كله ممنوع. وقد حدد الإسلام أسباب تملك المال، وأسباب تنميته، وكيفية التصرف فيه، وحرم ما عداها... وبهذا يظهر أنه لا توجد حرية تملك للمال
1- عبد القديم زلوم - المرجع نفسه - ص56-57.
.
46
39
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
في الإسلام، بل المسلم مقيد في تملكه للمال وفي تصرفه بالمال بالأحكام الشرعية التي جاء الشرع بها، ولا يجوز له أن يتعداها1.
رابعاً: أما الحرية الشخصية، فهي حرية الانفلات من كل قيد، حرية التحلل من كل القيم الروحية والخلقية والإنسانية، حرية تحطيم الأسرة، وإفقادها كيانها وتماسكها. الحرية التي ترتكب باسمها جميع الموبقات، وتستباح كل المحرمات. وهي الحرية التي أوصلت المجتمعات الغربية إلى مجتمعات بهيمية يندى لها جبين الإنسان، وأوصلت أهلها إلى مستوى أحط من مستوى البهائم والحيوان. هذه الحرية قررت أن من حق الإنسان أن يتصرف في سلوكه الشخصي، وفي حياته الشخصية بالشكل الذي يروق له، بمنتهى الحرية، دون أن تملك الدولة أو غيرها حق الحيلولة بينه وبين القيام بما يريد أن يقوم به من تصرف أو سلوك. وأباحت له الزنا واللواطة والسحاق والخمر والعُرْيَ، ومزاولة أي عمل مهما كان خسيساً بمنتهى الحرية دون قيد أو حد، بدون ضغط أو إكراه... إن أحكام الإسلام تناقض هذه الحرية الشخصية مناقضة تامة. فلا حرية شخصية في الإسلام، والمسلم مقيد بأوامر الله
1- عبد القديم زلوم - الديمقراطية نظام كفر - ص58-59.
47
40
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ونواهيه في جميع أفعاله وتصرفاته، ويحرم عليه أن يقوم بفعل حرَّمه الله... والإسلام حرّم الزنا واللواط والسحاق والخمر والعري وغيرها من الموبقات، وجعل لكل منها عقوبة زاجرة، وأمر بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، وجعل المجتمع الإسلامي مجتمع الطهر والعفاف، ومجتمع القيم الرفيعة1.
5- ويرى سعيد حوى، أن على الإسلاميين أن لا يسعوا إلى تطبيق جزء من الإسلام تحت عنوان التعاون مع الآخرين، لأن هذا يعتبر مساومة على دين الله، ويؤدي إلى الذلة والخسران، ويشير إلى الفساد والمفسدين في العالم الإسلامي، ويحمل الحكام مسؤولية ذلك، بقوله:
أولاً: إن حزب الله يرفض فكرة تبعيض الإسلام أياً كان مظهر هذا التبعيض، لأن التبعيض سبب من أسباب الذلة والخسران في الدنيا والآخرة، ولا يستمد حزب الله قوته إلا من الله الذي لا يعطي القوة لمن يتخلى عن جزء من دينه بل يذيقه ضعف الحياة وضعف الممات... إن تبعيض الإسلام سواء ظهر بشكل إسلام بلا سياسة أو ظهر بفكرة العهد المكي ثم المدني، أو ظهر بفكرة التعاون مع الآخرين على أساس اسم الإسلام
1- عبد القديم زلوم - المرجع نفسه - ص59-60.
48
41
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
لا حقيقته أو ربع الإسلام أو خمسه كل ذلك مرفوض... إن حزب الله مكلف بإنهاء الردة والمرتدين مهما كان نوع الردة والمرتدين. هذا شأنه لا يمكن أن يضع يده بيدهم مهما كان نوع المصلحة التي يتوهمها الناس الآخرون في ذلك... وحزب الله لن يدخل في صراع مع الإسلاميين1 بل سيخدمهم ولكنه لا يعتبر إسلامياً إلا من آمن بشمول الإسلام وحرر ولاءه لأهله وعمل للإسلام2.
ثانياً: إن أكثر أقطار الإسلام اليوم قد سيطر عليه الكافرون والمرتدون والزنادقة والملحدون والمنافقون والفاسدون على شكل أفراد أو هيئات أو منظمات، أو أحزاب... وقامت حكومات أقطار العالم الإسلامي على هذا المزيج الكافر، وساعد هذه الحكومات أجهزة مهمة رجالها تثبيت الفساد... وأمام هذا كله فقد أصبح واجباً على المسلمين أن ينظموا عملية تطهير واسعة في كل قطر من أقطارهم يستأصلون بها من ذكرناهم في باب الشدة على الكافرين، ويستأصلون بها الفساد، ويستلمون زمام الحكم في كل قطر ويعيدون الأمر إلى نصابه... (ويقول عن الحكام)... فالكافر ليس إمام حق، والمبتدع ليس إمام حق، والداعي إلى الضلال ليس إمام حق،
1- أي الذين يشاركون في الحكم مع الأنظمة الوضعية.
2- سعيد حوى - جند الله ثقافة وأخلاقاً - ص44-45.
49
42
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
والذي لا يصلي ولا يلتزم أحكام الإسلام في ذاته ليس إمام حق، والذي يلغي أحكام الله، ويعطل شريعته، ويريد أن ينشر الفسوق والإباحية ليس إمام حق، والذي يريد أن يفرق بين المسلمين بالعصبية القومية والوطنية ليس إمام حق1.
6- ويبيِّن الشيخ عمر عبد الرحمن عدم جدوى دخول الإسلاميين إلى البرلمان، لأن فيه ضياع المبادئ الإسلامية، وفيه التضليل والحيرة للمسلمين، ويظهر ذلك من خلال أقواله التالية:
أولاً: إن ما نراه هو أن دخول هذه المجالس فيه فساد كثير، وفيه ضياع لمبادئ الإسلام، لأن هذه المجالس تصدر قوانين مخالفة للإسلام. والرئيس السابق للمجلس2 "محجوب" قال في جلسة من الجلسات: إن الربا من "المصالح المرسلة" وسكت الناس في مجلس الشعب، حتى الإسلاميون منهم. انظر الربا الذي حُرِّم بالكتاب جعله من المصالح المرسلة.
ثانياً: إن الناس حينما يرون الإسلاميين قد دخلوا هذه المجالس يقعون في حيرة. لو كان نظام الحكومة حقاً فلماذا يعيبون على هذا النظام؟ ولو كان نظام الحكومة باطلاً، فلماذا يدخل الإسلاميون في هذه المجالس؟ لذلك يقعون في حيرة شديدة
1- سعيد حوى - المرجع نفسه - ص386.
2- مجلس الشعب المصري الذي كان يترأسه مصطفى محجوب.
50
43
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
من دخول الإسلاميين ومشاركتهم في هذه المجالس، فإذا كان النظام على حق فلماذا يطالبون بتغييره؟ وإذا كان على باطل فلماذا يشاركون فيه؟.
ثالثاً: إن الديمقراطية كما عرّفوها، حكم الشعب للشعب بالشعب، والإسلام يقول (لا حكم إلا لله) فكيف يكون ذلك؟ فالله هو الذي يحكم بين عباده ويصدر التشريعات لهم ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾1. فالحكم لله وحده. والشرع من عند الله. وليس للشعب ولا لفرد ولا لجماعة ولا لحزب ولا لمجلس ولا لهيئة ولا لفريق أن يشرعوا. الله هو الذي جعلنا على شريعة وهو الذي يحكم بيننا، الحكم له وحده، فلا يصح أن يكون للشعب، فالديمقراطية أمر لا يوافق عليه الإسلام من حيث إعطاء الحكم للشعب، لكن الحكم لله وتوجد المشورة في حدود مبادئ الإسلام وما بيّنه الإسلام من منهج.
رابعاً: مهما تكن النسبة العددية للإسلاميين في هذه المجالس البرلمانية فإنهم لن يحققوا شيئاً، ولك أن تسأل عن: ماذا حقق هؤلاء الإسلاميون بنسبهم العالية لدينهم فضلاً عن دنياهم؟ إنه نظام مرسوم، والحكام الذين يشرفون عليه لن
1- الجاثية: 18.
51
44
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
يقبلوا بتطبيق الإسلام ولا يريدون اليوم أن يطبق فيه. ولن ينجح الإسلاميون بتحصيل شيء من هذه التجربة. وإذا كانوا يعتقدون أنهم سوف يحققون الإسلام بهذه الطريقة وحصل لهم ذلك فهو خير. لكنني أود أن أنبه إلى أن ما أُخِذَ بسهولة يُنزع بسهولة. وما أُخذ بالانتخاب يُنزع بالانتخاب، فإذا وصلوا إلى الحكم فإن هذا يُنزع عنهم بالسهولة نفسها التي وصلوا بها. فإذا تكالبت عليهم قوى الشر وأهل الأحزاب الأخرى وكانوا أكثر نزعوا منهم. ولكن إذا كان الوصول إلى الحكم عن طريق قول الحق والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله فإن أحداً لا يستطيع نزعه عنهم أبد1.
7- ويبيّن الدكتور عبد الله عزام موقفه من القانون الوضعي، ومن مسألة التحاكم إلى الطاغوت والرضى به، وخطورة إبعاد الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة، من خلال تفسير قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾2. ويظهر ذلك من خلال التالي:
أولاً: هذه الآية الكريمة تمثل القاعدة الكبرى في هذا الدين،
1- مجلة العالم - لندن - العدد 355 - 1/12/1990.
2- النساء: 65.
52
45
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
هذه القاعدة التي لا يكون بدونها إيمان، ولا إسلام، وهي قضية المسلم الكبرى يوم أن تنزَّل هذا القرآن. وهي قضيته الأساسية والكبرى كذلك في كل زمان، وهي قضية العصر الراهنة التي يجب أن تشغل اهتمام كل مسلم. إن التحاكم إلى الكتاب والسنّة هو الإسلام فحسب. ولذا فقد جاءت هذه الآية بهذا القسم المزلزل الذي ترتعش حياله الأوصال، وترتجف عند سماعه الأعضاء. وهذه بديهية من المفروض ألا تغيب عن بال بشر، وذلك لأننا عبيد لله، نعيش في ملك الله ونحن خلق من خلقه. ولذا يجب أن ينفذ فينا شرعه، ويطبق علينا حكمه، وإلا فهو تمرد على خالق الأرض والإنسان، وهو تصرف بغير إذن المالك بل مناوأة للسيد في ملكه وحكمه وعبيده، ومن ثم تصبح القضية خروجاً وفسوقاً وكفراً بمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾1. فدين الله هو: أوامره ونواهيه، وهي في جوانب العقيدة. كما أنها تتمثل في إقامة الشعائر -بالعبادات وغيرها- وأخيراً فهي تكون في جانب الشرائع والقوانين. وهذه الجوانب كلها متكاملة إذا غاب أي جزء من هذه الأجزاء فقد تخلف هذا الدين عن الوجود، لأن الإسلام كالجهاز المتناسق
1- الأنبياء: 23.
53
46
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الذي يتوقف إذا رُفع منه أي جزء، أو أُضيفَ إليه جزء غريب عن كيانه1.
ثانياً: وعلى هذا فكل من رضي بالقوانين الأرضية وبالشرائع القانونية التي شرعوها بغير إذن الله، بل هي مصادمة للنصوص القرآنية والنبوية، أقول: كل من رضي بها أو تحاكم إليها غير مكره، أو تدخل في تقنينها أو إقرارها أو تنفيذها راضياً فهو ممن ينسحب عليهم حكم الآية ويخرج بهذا العمل من دائرة الإيمان، لا سيما وأن البخاري يروي أنها نزلت في رجل من الأنصار، وهو قطعاً يقيم الشعائر ويعلن إسلامه، ومع ذلك فقد كان القسم رهيباً وجازماً في أن الذي لا يتحاكم إلى شرع الله ورسوله ليس مؤمناً2.
ثالثاً: ومن ناحية أخرى، فلقد جازت الحيلة على المسلمين البسطاء وأصبح الدين الجديد -القانون الوضعي- الذي حل محل دين الله في الأرض قانوناً يدرسه أبناؤنا وأقيمت الجامعات والمعاهد، وتتصدر هذه الجامعات الكلية التي تدرّس "الدين الجديد" وهي كلية الحقوق، ودخلها الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين يدرسون هذا الدين، ويتخصصون
1- الدكتور عبد الله عزام - العقيدة وأثرها في بناء الجيل - ص 68.
2- الدكتور عبد الله عزام - العقيدة وأثرها في بناء الجيل - ص 80.
54
47
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
فيه ويصبحون هم بالتالي سدنته وكهنته وحماته، وبتخطيط عجيب يتسلم هؤلاء إدارة المحاكم وزمام الدولة، وقيادة الأمة والمؤسسات الحيوية في كل بلد كان في يوم ما داراً للإسلام... وبإمكاننا أن نقول: كل من رفض التحاكم إلى شريعة الله أو فضّل أي تشريع على تشريع الله، أو أشرك مع شرع الله شرائع أخرى من وضع البشر وأهوائهم، وكل من رضي أن يستبدل بشرع الله قانوناً آخر، فقد خرج من حوزة هذا الدين وألقى ربقة الإسلام عن عنقه، (و) رضي لنفسه أن يخرج من هذه الملة كافراً1.
8- ويشير الأستاذ عبد القادر عودة إلى فشل النظام الديمقراطي الوضعي، ويوضح فساد النظام الديكتاتوري وما أدى إليه من كوارث، ويصل بالنتيجة إلى أن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية هي الحل لكل معضلات المسلمين، وكل مشاكل البشرية... فيقول في ذلك:
أولاً: وإذا كان فشل البلاد الديمقراطية في تطبيق مبدأ الشورى يرجع في الأصل إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديمقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح
1- الدكتور عبد الله عزام - المرجع نفسه - ص83-84.
55
48
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى المبدأ ذاته، واعتنق الكثير من البلاد الديمقراطية مبدأ الديكتاتورية1 وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجاً لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب. ولكن التجارب أثبتت أن الديكتاتورية انتهت بفشل أفظع من فشل الديمقراطية، لأنها تؤدي إلى كم الأفواه وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختيار وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر2.
ثانياً: أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق. وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديمقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه بريء من العيوب التي تنسب للديمقراطية والديكتاتورية معاً. ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية،
1- مثل ألمانية وإيطاليا والاتحاد السوفياتي في الثلاثينات من القرن الماضي.
2- عبد القادر عودة - التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - م/1 - ص40.
56
49
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي، فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في آخر القرن الثامن عشر، وعلى إثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأتِ بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي1.
ثم يوضح أنه لا يصح مقارنة الشريعة الإسلامية بالقانون الوضعي الذي خطه البشر للأسباب التالية:
1- أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلا الشريعة والقانون تتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة، أو وجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن
1- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص41.
57
50
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
وصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان. أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال، حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾1، لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان2.
2- أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شؤونها وسد حاجاتها. فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غداً... أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شؤون الجماعة3.
3- أن الجماعة هي التي تضع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها - والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شؤون الجماعة ولا يوضع لتوجيه الجماعة- ومن ثم كان القانون متأخراً عن الجماعة وتابعاً لتطورها، وكان القانون من صنع
1- يونس: 64.
2- عبد القادر عودة - التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - م/1 - ص18.
3- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص19.
58
51
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون... أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع البشر، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي... وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة، إذ الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شؤون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي1. ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم... ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل. وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية2.
1- المقصود هنا العالم النموذجي في الرفعة والسمو.
2- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص21-22.
59
52
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
9- ويشير الشيخ حسن قاطرجي1 إلى خطورة المشاركة السياسية مع الأنظمة الوضعية، ويتحدث عن المثال اللبناني، ويبيّن المنكرات التي يمكن أن تحدث من خلال مشاركة الإسلاميين في هذا النظام فيقول: بالإضافة إلى المنكر الكبير الذي يترتب على المشاركة في المؤسسة التشريعية للأنظمة الجاهلية، يوجد العديد من المنكرات المرافقة لهذه المشاركة تؤكد حرمتها وتبيّن أن بعض المصالح التي يتطلع إليها المشاركون المتدينون تغمرها مفاسد كثيرة، منها:
أولاً: أن مجالس النواب في الدول المجاورة للكيان الصهيوني -ومنها لبنان- ستجبر على الاعتراف به وتطبيع العلاقات معه مما سيشكل أخطر تحدٍّ لحياة الأمة في مجالاتها العقدية والخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فما هي مصلحة الحركة الإسلامية في أن تكون شاهدة زور في قلب السلطات الحاكمة على أخطر صك خيانة؟!.
ثانياً: أن النظام الاقتصادي في لبنان نظام رأسمالي يعتبر الربا ضرورة من ضرورات الاقتصاد الحر، وبالتالي فإن الربا تدخَّل في معاملات الدولة ومشاريعها وأنشطتها الاقتصادية. ومجلس النواب هو الذي يقرّ الاعتمادات اللازمة، كما أنه هو
1- رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي في بيروت.
60
53
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الذي يقرّ مشاريع القوانين المتعلقة بفتح الاعتمادات وموازنة النفقات والواردات فضلاً عن مشروع قانون الموازنة المتضمن بشكل صريح وواضح للربا المحرم حرمة قطعية.
ثالثاً: الحضور والمشاركة في كثير من المنكرات والمخالفات الشرعية التي يرتكبها النواب غير المتدينين، فضلاً عن غير المسلمين... ولن يتمكن المسلم الغيور من إلغائها ولا حتى إنكارها نظراً لغلبة الفساد وانتشار المجون والسفور والاختلاط والسُّكر والرِّشا والسرقات والدعارة في أوساطهم.
رابعاً: أن مجلس النواب هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية وهو حسب العرف اللبناني الساري إلى الآن نصراني ماروني، ومعلومة حُرمة تولية كافر على المسلمين. والنائب المسلم جُلّ ما يقع تحت اختياره أن لا ينتخب أو أن ينتظر حتى ينتخب رئيساً مسلماً فيما لو ألغيت الطائفية السياسية في لبنان وهو مطلب تعارضه أغلب التيارات والقوى السياسية المسيحية لأنه يسحب منها امتيازاتها واحتكاراتها ومواقع نفوذها في الدولة ومؤسساتها، وتعارضة أكثر وأكثر بالنسبة لرئيس الجمهورية.
خامساً: المشاركة في منح الثقة المتعاقبة والتي يعتبر الدستور اللبناني أخصّ وظائفها تطبيق سياسات الدولة وتنفيذ القوانين التي يقرّها مجلس النواب. ولا يخفى على أي شخص
61
54
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ما هي الحكومات التي يُسمح بوصولها؟ ومن هم الوزراء؟ وما هي خلفياتهم العلمانية والماسونية؟ وما هي السياسات المفروض عليهم انتهاجها؟.
سادساً: تمييع سبيل المجرمين بالمشاركة معهم في الموقع نفسه مع أن أحد أعظم غايات القرآن الكريم في هداية الناس وتعميق ولائهم العقدي للإسلام: تأكيده على بيان سبيل المجرمين، فقد قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾1 أي لتتضح وتظهر2.
10- ويقول عميد كلية الحقوق بجامعة أسيوط الدكتور عبد الناصر العطار عن الديمقراطية: "إن الديمقراطية عندما تجعل الحكم للشعب لا تجعل التشريع مستقراً على مبادئ راسخة ثابتة، فتارة تسود الأفكار الرأسمالية، وتارة تسود الأفكار الاشتراكية، وتارة ينادى بالانفتاح وأخرى بالانغلاق أو التقييد، بينما العمل بالنظام الإسلامي يعني العمل بمبادئ مستقرة في القرآن والسنة، مما يقي المجتمع الأهواء والنزوات والتقلبات. كذلك عندما تجعل الديمقراطية حكم الشعب بالشعب، تأتي بعناصر منتخبة
1- الأنعام: 55.
2- الشيخ حسن قاطرجي - دراسة علمية في بيان الموقف الإسلامي من المشاركة في الانتخابات في لبنان- ص3-4.
62
55
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
قد تكون غير مؤهلة لوضع التشريع. وهو قواعد تحكم سلوك الأمة، كما يعني صدور القرار دائماً بالأغلبية دون اعتداد بمصالح الأقليات، بينما النظام الإسلامي يجعل الاجتهاد في أيدي عناصر منتخبة أو معينة ولكنها مؤهلة لاستنباط الحكم من القرآن والسنة، تسمى بأهل الحل والعقد، وهم علماء الأمة وخبراؤها، فتسير الأمور على علم وهدى مع الاعتداد كذلك بآراء طوائف الشعب المختلفة عن طريق التعرف عليها بواسطة من سماهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعرفاء، أي مندوبون تنتخبهم طوائف الشعب ويتعرفون على متطلباته، ويعرِّفون بها ولاة الأمور وأهل الحل والعقد"1.
11- ويواجه الإمام الخميني أعتى حكم ظالم مرتبط بالغرب، من خلال المفاصلة السياسية في الموقف، والسعي إلى فضح النظام الذي يعيث في الأرض الفساد، والدعوة إلى عدم التعاون معه، والعمل على مواجهته وإسقاطه، ويتضح ذلك من خلال أقواله التالية:
أولاً: أمن أجل القروض الأميركية -التي تؤخذ عليها الفوائد الفاحشة- بعتم استقلال إيران وكرامتها لتصبح في مصاف
1- مجلة منبر الإسلام - القاهرة - السنة 53 - العدد 6 - تشرين الثاني 1994 - ص49.
63
56
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الدول المستعبدة وأشدها تخلفاً؟!! ماذا نعمل أمام هذه الكارثة؟ ماذا على العلماء أن يفعلوا؟! لمن نشكو حالتنا المأساوية هذه؟! إن الرأي العام العالمي يظن أن شعب إيران هو الذي انحط إلى هذا الدرك، ولا يعلم بأن الحكومة والمجلس -اللذين فقدا ارتباطهما بالشعب نهائياً- هما اللذان صدّقا على هذه الاتفاقية دون علم من الشعب تماماً... فهولاء النواب لم يرشحهم ولم ينتخبهم الشعب بل حملتهم الأجهزة القمعية إلى المجلس!، لأن علماء الدين والمراجع قاطعوا الانتخابات، وقد عمل الشعب بمشورتهم فلم يشترك في التصويت أيضاً... لقد أدركوا بأنه ما دام لعلماء الإسلام هذا النفوذ الشعبي الواسع فلن يستطيعوا استعباد هذا الشعب وبيعه للإنكليز يوماً وللأميركان يوماً آخر. ولن يستطيعوا تسخير الاقتصاد الإيراني لإسرائيل... ولن يستطيعوا تحميل الشعب تبعات القروض الاستعمارية الثقيلة... ولن يستطيعوا العبث بأموال الشعب على هواهم.. ولن يقدروا على أن يعملوا ما يشاؤون وفق رغباتهم وشهواتهم الشخصية... ولن يكون بإمكانهم تزوير الانتخابات وإرسال عملائهم إلى المجلس تحت ظلال الحراب1.
ثانياً: وأعلق الآمال الكبيرة على هذا الوعي والتحرك الشامل
1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص106-107.
64
57
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
اللذين وجدا في البلدان الإسلامية عامة وفي إيران خاصة، وعلى هذه النقمة العامة والتذمر الشامل من الأجهزة الظالمة الاستعمارية البربرية. إن هذا الوعي العام والنقمة العامة والتذمر الشامل ليست مؤقتة وعابرة بل إنها ستدوم حتى القضاء على أنظمة الجبارين وإنهاء ظلم الظالمين. وإن الانفجار الشعبي العارم الذي يعقب ظلم الأنظمة الفاحش وحرمان الشعوب المضطهدة المتزايد سوف يدك عروش السلطات العميلة التي ما وضعت إلا من أجل تكبيل الشعوب ونهب ثرواتها، وسينتقم الله من الظالمين... وعلى التجمعات المخلصة والملتزمة بالإسلام بصورة كاملة أن تستفيد من هذه الفرصة "القصيرة" لتوحد صفوفها بذكاء وحنكة وأن لا تسمح للانتهازيين الذين لم يخطوا خطوة واحدة ولم يقولوا كلمة واحدة خدمة للإسلام وللشعب... أين كان هؤلاء عندما كان الشعب المسلم بأسره وبجميع فئاته، من عالم الدين إلى الجامعي، ومن المهندس والدكتور إلى التاجر والعامل والفلاح، يسحق تحت أقدام عملاء الأجانب، وعندما حدثت "مجزرة 15 خرداد" الخامس من حزيران 1963م، ونهبت المدارس الدينية على يد عملاء الاستعمار حيث كانت يومها السجون تعج بالمدافعين عن الإسلام وبالأحرار الشرفاء، وعندما بدلوا تاريخ الإسلام المشرق (التاريخ الهجري) الذي
65
58
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
يعبر عن إشراقة العدل والحرية والتكامل الفردي والاجتماعي والسياسي بتاريخ المجوسية الشاهنشاهية الرجعية؟.. يجب على الشعب وجميع الفئات الدينية أن يأخذوا زمام المبادرة بيقظة تامة... ويجب أن يعرف الشاه وعصابته الخائبة أن الشعب يرفضهم سواء جددوا البيعة لكارتر وثبتوا موقفهم اللاشرعي، عند لقائهم به، أم لا. وإن الأمة الإيرانية ترفضه وسوف لن تكف عن النضال حتى تأخذ الثأر لشبابها المضرَّجين بدمائهم الزكية وتنجي الإسلام وأحكامه من هذه السلالة المجرمة.. أطلب من الله تعالى إصلاح حال المسلمين وتحرير البلدان الإسلامية من تسلط الأجانب يمينهم ويسارهم1.
12- ويؤيد الشيخ نعيم قاسم مسألة دخول حزب الله في الانتخابات، لأن التمثيل في مجلس النواب للحزب يخدم الناس وجماهير الحزب، ولكنه يتردد في قبوله دخول الحكومة حيث يقول: "إن تعقيدات الدخول إلى الحكومة تختلف عن المشاركة في المجلس النيابي، فالحكومة عمل تنفيذي يرتبط بسياسات عامة اقتصادية واجتماعية وسياسية، ويتحمل أفرادها مسؤولية تطبيقها والدفاع عنها حتى مع
1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص226-228.
66
59
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
مخالفتها... وهذا ما يجعل الموافقة على العمل من داخل الحكومة يتطلب توفر الشروط المناسبة والمنسجمة مع ما يؤمن به حزب الله"1...
ثم يستعرض أقوال أنصار الدخول إلى الحكومة بقوله:
أ- إن المسار السياسي الذي يؤدي إلى المشاركة في الانتخابات النيابية يقتضي متابعة الطريق في الدخول إلى الحكومة، وإلا كان الأداء ناقصاً ومعه يخسر الحزب استثمار جهوده المبذولة.
ب- إن تركيبة النظام السياسي في لبنان تتحمل الدخول في الحكومات مهما كان اتجاهها وأداؤها، لأنها عبارة عن توافق مبني على تقاطع مصالح...
ج- تعطي المشاركة في الحكومة نموذجاً تطبيقياً مميزاً لوزراء الحزب، ما يجعلهم مثالاً يحتذى...
د- يحقق الوزير خدمات مناطقية وفردية تساعد في تشكيل رافعة إضافية للحزب في الحياة الاجتماعية العامة2...
1- الشيخ نعيم قاسم - حزب الله المنهج؛ التجربة: المستقبل - بيروت - دار الهادي - 2008م - ص289.
2- المرجع نفسه - ص290.
67
60
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ثم يعرض الشيخ نعيم آراء المعارضين للدخول إلى الحكومة بالتالي:
أ- لم ينطلق الحزب في رؤيته الجهادية السياسية وبرنامج عمله في اعتبار هدفه النهائي في الوصول إلى سدة الحكم... إنما وضع جملة من الأهداف يريد تحقيقها أبرزها: مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لتحرير الأرض، وتقديم تجربة إسلامية نموذجية في العمل السياسي تواكب الضوابط الشرعية الإسلامية...
ب- مهما ميز الحزب نفسه داخل الحكومة فإنه يتحمل وزر أعمالها، فإذا اتجهت الحكومة للتفاوض مع إسرائيل ضمن إطار التسوية في المنطقة، لا يمكن للحزب أن يوافق أو يشارك فيما يعتبره خلافاً رئيسياً في مواجهة المشروع الإسرائيلي...
ج- أما التغيير من الداخل أو فرادة السلوك في مقابل الآخرين ففيهما نقاش، إذ تنعدم إمكانية التغيير في بعض الحالات، خاصة عندما تتألف الحكومة من عشرين أو ثلاثين وزيراً ويكون للحزب وزير أو وزيران، فالنسبة لا تشكل قدرة كافية للتأثير، ومع وجود نظام المحاصصة بين الرؤساء الثلاثة... إن ما تقدم يرقى بالأصل إلى عدم المشاركة في الحكومة، بحيث تكون المشاركة هي الاستثناء فيما لو توفرت الإجابات المقنعة على التساؤلات المطروحة1.
1- الشيخ نعيم - حزب الله المنهج، التجربة، المستقبل - م. س. - ص291-293.
68
61
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
طروحات المؤيدين للمشاركة السياسية
وقد حدد المؤيدون للمشاركة السياسية مع الأنظمة الوضعية أدلتهم الشرعية والسياسية بالتالي:
1- سئل الإمام ابن تيمية عن رجل متولٍ ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولّى غيره فإن الظلم لا يُترك منه شيء، بل يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكن إسقاطه... فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عُرفت نيته واجتهاده... فأجاب: "الحمد لله. نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما ذُكر، فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك واجباً عليه إذا لم يقم به غيره قادراً عليه. فنشر العدل، بحسب الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان -فرض على
69
62
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الكفاية- يقوم كل إنسان بما قدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم"1.
2- يقول أبو الأعلى المودودي في مجال الوصول إلى قيام الدولة الإسلامية: "فإن كنا نريد اليوم أن نصرف نظام الحياة في بلادنا عن طريق الضلال والفساد والفسق والعصيان إلى طريق الإسلام المستقيم، فلا مندوحة لنا من أن نبذل سعينا بطريق مباشر في إزاحة الفساد عن منصة القيادة والسلطة وإحلال الصلاح مكانه... أما كيف يتأتى هذا التغيير، فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي إلا السعي في الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد وننشر الوعي السياسي الصحيح فيها ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم في المجالس النيابية، ونصلح طرق الانتخاب ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين يحبون ويقدرون أن ينهضوا بصرح نظام البلاد على أسس الإسلام وهدي الكتاب والسنة"2.
1- الإمام أحمد بن تيمية - مجموع الفتاوي - ج/3 - ص356-360.
2- أبو الأعلى المودودي - نحو ثورة سلمية - ص105.
70
63
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
3- ويشير الشيخ حسن البنا إلى أهمية وصول الدعوة الإسلامية إلى منبر البرلمان من خلال الانتخابات "ليس منبر البرلمان وقفاً على أصوات دعاة السياسة الحزبية على اختلاف ألوانها ولكنه منبر الأمة تُسمع من فوقه كل فكرة صالحة ويصدر عنه كل توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب أو يؤدي إلى توجيهه توجيهاً صالحاً نافعاً... وعن الحرج من القسم على احترام الدستور يقول... ويوجه بعض المتسائلين سؤالاً جميلاً فيقولون وماذا تصنعون في اليمين الدستورية -إذا نجحتم- وفيها النص على احترام الدستور، وأنتم معشر الإخوان تهتفون من كل قلوبكم: القرآن دستورنا؟ والجواب عن ذلك واضح مستبين، فالدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى وتقرير سلطة الأمة وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام"1.
4- وسئل الشيخ محمد أبو زهرة عن ترشيح الإخوان أنفسهم لكراسي النيابة فقال: "إن ترشيح بعض الإخوان المسلمين الذين يستمسكون بالعروة الوثقى، وللدين الاعتبار الأول في
1- مجلة الإخوان المسلمون - القاهرة - 4/11/1944، ومجلة الدعوة - لندن - 6/10/1994، ومجلة المجتمع - الكويت - 21/11/1995.
71
64
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
نفوسهم أمر واجب جدّ واجب، لأنه يحمي جماعة الإخوان وينشر دعوتهم ويفيد الحياة النيابية في مصر"1.
5- وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول مجلس الشعب ليس للتشريع وإنما لمطالبة الحاكم بتطبيق شرع الله، وحكم استخراج بطاقة الانتخاب فقال: "إنه لا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إليه. كما إنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله"2.
6- ويقول المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ مصطفى مشهور عن دور الإخوان في مجلس الشعب: "نحب أن نوضح أننا حينما نسعى لتطبيق شريعة الله، لا يعني أننا نقرّ أخذ رأي أعضاء مجلس الشعب على شريعة الله وعلى مدى صلاحيتها للتطبيق، ولا يجوز أن يدور ذلك بخلد أحد من الناس، إذ لا يجوز في حق الله أن نأخذ رأي خلقه في شرعه على الإطلاق، لأننا نعتقد أن شريعة الله جاءت
1- مجلة الدعوة - لندن - العدد 29 - 6/10/1994.
2- مجلة الدعوة - المرجع نفسه.
72
65
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
لتطبق، والحاكم عليه أن يلتزم بها، وأهل الرأي أو الشورى يحاسبون الحاكم على تطبيقها على الوجه الصحيح، وإذا كان ثمة حوار أو رأي فيكون حول طريقة التطبيق وما يستلزمه من إجراءات أو مؤسسات. كما إننا لا نقرّ من حق مجلس الشعب أن يقرر قوانين تخالف الأصول الشرعية أو أن يشرع بجانب تشريع الله، ولا يعني أيضاً دخولنا مجلس الشعب موافقتنا على كل مواد الدستور وعلى كل القوانين القائمة ولكننا نرفض كل مادة في الدستور تخالف شرع الله ولا نقرّ أي قانون مخالف لشريعة الله ونسعى لإلغاء كل هذه المواد والقوانين المخالفة لتحلّ الشريعة كاملة محلها"1.
7- ويقول الدكتور حسن الترابي عن مبررات المشاركة السياسية مع النظام الحاكم: "وأياً ما كانت التفسيرات والتبريرات التي كانت تسوقها الجماعة لمشاركتها في نظام حكم غير شرعي ولا مَرضي، فإنما دخلت في الحقيقة إلى تلك المشاركة مهتدية بإستراتيجية خاصة لا تعول على التحول الإسلامي للنظام بل ولا على الأمل في إصلاحه بقدر ما تبتغي اغتنام فرصة حرية بفضل الموادعة، وتتوخى فرصة
1- المجلة العربية - الرياض - العدد 132 - آب 1988.
73
66
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
سانحة بفضل المشاركة لبناء صفها وتطوير حركتها الإسلامية التي هي معقد الآمال في الإصلاح الإسلامي الشافي. وذلك أن العلاقة بالنظام أسست على شروط مهما اقتضت كبت اسم الجماعة ووجهها المباشر، تطلق لها فرص التعبير والعمل بصور كثيرة كيفيتها وهي تناسب الوضع السياسي وتحقق أهداف إستراتيجيتها مهما كلفها ذلك من تكاليف سياسية"1.
8- ويقول الدكتور فتحي يكن رحمه الله عن المشاركة السياسية، إنما هي مشاركة المسلمين وليست مشاركة الإسلام في الحكم مع الآخرين "إن المشاركة لا تعني مشاركة الإسلام للنظم الوضعية في الحكم، كما إنها ليست البديل عن (الحكم الإسلامي) أو تفرد الإسلام في الحكم. فهذا أمر لا يجوز الاجتهاد فيه، لأنه لا اجتهاد في معرض النص... إنما المراد من المشاركة وطروحاتها رفع الظلم عن المسلمين... استنقاذ حقوقهم... وقف التآمر الذي يهدف إلى استئصالهم... تدعيم مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليكونوا أقدر على التحدي وعلى الصمود في وجه محاولات التذويب والتغريب"2.
1- د. حسن الترابي - الحركة الإسلامية في السودان - ص199.
2- د. فتحي يكن - أبجديات التصور الإسلامي الحركي - ص165.
74
67
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
9- أما الدكتور يوسف القرضاوي، فقد سُئل عن الحكم الشرعي في اشتراك حزب الرفاه الإسلامي في تركيا في حكم علماني ديمقراطي، وفي جوابه نرى أنه يكاد يروج للديمقراطية، تحت عنوان فقه الموازنات!، فيقول: "إن الحكم هنا يجب أن يبنى على فقه الموازنات، فإذا وُجد أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي الاشتراك جاز ذلك... والغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح... فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب والتي وصلت إليها الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء، وسقطت ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا العربية والمسلمة... هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر -كما يردد بعض السطحيين المتعجلين؟؟... الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"1.
1- مجلة الأمان - بيروت - العدد 240 - 17/1/1997.
75
68
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
10- ويؤيد الأستاذ راشد الغنوشي مسألة المشاركة السياسية مع الأنظمة، بقوله "فإذا تحقق لنا نظام يعترف بالحريات، فينبغي على الحركة الإسلامية أن تمارس حقها كطرف سياسي معترفة بغيرها من الأطراف السياسية الأخرى مقدمة اختياراتها للنموذج الاجتماعي الذي تريد. فتخوض المعارك الانتخابية وتضع مواطئ أقدام لها في البرلمان ومؤسسات المجتمع كالبلديات وتشارك في الحكم ولو جزئياً لتدريب أفرادها على إدارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الإسلامية. إذ المجتمع الإسلامي لم ينزل من السماء مكتملاً ولا سقط في يوم إنما بني حجراً حجراً وسقط حجراً حجراً، هكذا إعادة البناء. وفي هذه الحالة إذ تعترف الحركة الإسلامية بالشرعية القانونية للدولة على أساس أنها مختارة من الشعب، فإنها ما دامت هذه الدولة لا تحكم بالإسلام لا نعترف لها بالشرعية الدينية حتى يكون الدين هو قاعدة المجتمع والتشريع وهنا ينبغي الحذر من أن يظن الشعب أن السلطة غدت إسلامية لمجرد مشاركة بعض الإسلاميين في أجهزتها"1.
1- راشد الغنوشي - محاور إسلامية - ص41.
76
69
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
11- ويرى السيد محمد حسين فضل الله إمكانية تغيير النظام الحاكم باتجاه الإسلام، من خلال المشاركة السياسية، فضلاً عن تحقيق عدة أهداف، من مواجهة التش-ريعات الباطلة، ومواجهة المش-اريع الظالمة، ويظهر هذا، من خلال أقواله التالية:
أولاً: أما في طريقة الحكم في العصور الحديثة، فإنها لا ترتكز على الشخص من حيث المبدأ، بل ترتكز على المؤسسات الديمقراطية، التي قد يملك فيها الإنسان، فرداً كان أو جهة، إمكانات الدخول إلى داخلها، والحصول على حرية الحركة فيها، من خلال الحصول على أكبر قدر ممكن من المقاعد في المجالس النيابية، أو من المواقع السياسية والاقتصادية، التي تفسح المجال للوصول إلى الضغط على الحكم وإضعافه، أو السيطرة عليه، في عملية احتواء له، كما يحدث -في بعض الحالات- من انتقال الحكم من حزب إلى حزب، من المؤسسات الحزبية المتحركة في داخل اللعبة، مما يمكن حدوثه لدى المؤسسات، التي تتحرك في مفاهيمها وتطلعاتها خارج نطاق اللعبة السياسية.
ثانياً: وفي ضوء ذلك، فإننا لا نجد أي مانع من اعتماد هذا الأسلوب من ناحية المبدأ، كأحد الأساليب الواقعية، في
77
70
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الوصول إلى النتيجة المطلوبة، في الوصول إلى مواقع الحكم، أو الاقتراب منه، أو التقدم في بعض الخطوات في حركة التغيير، وذلك بالتأكيد على صفة المعارضة، التي تعلن عن منهجها وأسلوبها في العمل، وتطلعاتها للتغيير، وتركيزها على إظهار سلبيات الحكم، ومواطن الضعف فيه، في محاولة دائمة لتحويل الأنظار عنه إلى الإسلام، في إيجابياته، من خلال مواطن القوة فيه، والعمل على اعتبار المؤسسات الديمقراطية موقعاً متقدماً من مواقع الإعلام والتحرك لمصلحة الإسلام في مواقعه التشريعية والسياسية على أكثر من صعيد.
ثالثاً: إن من الممكن للإسلاميين أن يعبّروا في داخل الندوة النيابية عن موقفهم الإسلامي في مجالات التشريع، بالعمل على منع التشريعات المضادة للتشريع الإسلامي، ومواجهة المشاريع الظالمة والطاغية، التي يراد من خلالها استعباد الأمة، واستغلالها واستعمارها، وتحويلها إلى أمة ضعيفة مستسلمة ذليلة، فيما يخطط له ممثلو الحكم الفاسد والاستكبار الغاشم ويعبرون - في الوقت نفسه - عن معارضتهم للتشريع كمبدأ، فيما لا يملكون أمر الخوض فيه، ويمكن لهم في الوقت نفسه أن يفسحوا في المجال للتشريعات الإسلامية أن تفرض نفسها على الساحة من خلال التحرك العملي، من
78
71
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
أجل إقرارها في القانون، بطريقة وبأخرى، ويؤكد وجودها كحركة ضد الانحراف، عندما توحي بأن شرعية وجودها في الداخل منطلقة من المواقع الشرعية فيه... إن هذه الوسيلة قد تكون في بعض المراحل الوسيلة الأقرب، للوصول إلى المواقع المتقدمة للاتجاه الإسلامي في الساحة1.
تقويم الطروحات في ضوء الأدلة الشرعية
بعد عرض الأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين والمؤيدين للمشاركة السياسية في الحكم مع الأنظمة الوضعية... أسعى إلى مناقشة المؤيدين من خلال الأدلة الشرعية والسياسية التالية:
أولاً: في مسألة فتوى الإمام ابن تيمية في إجازته تولي منصب سياسي في دولة ظالمة، ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه الدولة هي دولة تُطبق فيها شريعة الإسلام وأن حاكمها مسلم وإن تلبّس في الظلم في حين من الأحيان، وبالتالي فإن تولّي هذا المنصب أو تلك الوظيفة في هذه الدولة بهدف تخفيف المظالم على الناس يصبح من الواجب الشرعي، وهذا ما أكدته فتوى الإمام ابن تيمية رحمه الله... ولكن هذا الأمر لا يمكن أن ينسحب على دولة غير إسلامية وحاكمها ليس بمسلم، لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ
1- السيد محمد حسين فضل الله - الحركة الإسلامية هموم وقضايا - ص46-49.
79
72
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾1.
ثانياً: لقد اجتهد أبو الأعلى المودودي وحدد أن الوصول إلى دولة الإسلام ممكن من خلال النظام الديمقراطي والانتخابات، وجرَّب الرجل مع الجماعة الإسلامية في باكستان هذا الطريق، فلم يصل إلى ما يريد، ولهذا وبعد معاناة شديدة وعَنَت كبير في هذا السبيل، فقد غيَّر الرجل رؤيته للأمور بعد حين من الزمن، فيقول في ذلك "كذلك الدولة، الدولة الإسلامية فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة، بل لا بد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولاً حركة شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام وتوائم طبيعته... ثم تأخذ هذه الحركة في النمو صُعداً، مع ما لها من السيادة الفكرية والعقلية في مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع الإنساني، لأنه في مثل هذا الكفاح والمقاومة يُمتحن القائمون بالدعوة وحاملو لوائها بأنواع من المصائب والشدائد، فيقاسون الآلام والأهوال ضرباً وقتلاً، وإجلاءً عن الوطن، ويبذلون
1- المائدة: 51.
80
73
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
مهجهم وأرواحهم بكل صبر وجلد وإخلاص وعزم قوي.. فكذلك شأن الانقلاب الإسلامي فإنه لا تثمر شجرته ولا تؤتي أُكلها إلا إذا قامت حركة شعبية على أساس الأحكام القرآنية ودعامة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الطاهرة، تقوم هذه الحركة الشعبية وتنهض وتقوى حتى تغيِّر بجهادها المستمر العنيف أُسس الجاهلية"1.
ثالثاً: بيَّن الشيخ حسن البنا أهمية دخول الدعوة إلى البرلمان، لأن فيه نخبة الأمة، ولا بد من إسماع صوت الإسلام لها، وأنه لا حرج على المسلم في ذلك، لأن الدستور المصري ينصّ على أن دين الدولة هو الإسلام... أقول نعم، بل إن دساتير2 معظم بلاد المسلمين تنصّ كذلك على أن دين هذه البلاد الإسلام3... ولكن أين الإسلام الذي يُطبق في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والخلقية، وقد بات من المؤكد أن هذه الأنظمة تعتمد الديمقراطية سياسياً والرأسمالية من الناحية الاقتصادية؟ ولقد سعى الشيخ حسن البنا ومنذ أربعينات القرن الماضي إلى أسلمة النظام المصري، واستخدم من أجل ذلك كل
1- أبو الأعلى المودودي - منهاج الانقلاب الإسلامي - ص21-24.
2- انظر نبيل الصائغ - الأحكام الدستورية للبلاد العربية.
3- من أجل تأمين غطاء ديني للنظام الحاكم ليس إلا، حيث إن هذه الأنظمة ليس لها علاقة بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.
81
74
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الأساليب السلمية، القمينة بالوصول إلى هذا الهدف الكبير، إلا أنها لم تجدِ نفعاً، واستشهد البنا وعدد لا يستهان به من إخوانه على هذا الطريق، ولوحِقت قيادات وعناصر الإخوان، وزج بهم في السجون والمعتقلات، وعومِلوا من قبل الحكام بكل شدة وإرهاب وعنف، ولا يزالون، على رغم أنهم لم يرفعوا السيف، حتى الآن، في وجه الحاكم!.
رابعاً: لقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة الظلم النازل بالإخوان المسلمين، من قبل النظام الحاكم، ولهذا رأيناه وتحت ضغط الواقع، يفتي ويشجع الإخوان على دخول البرلمان، من أجل حماية أنفسهم أولاً، وإدخال الدعوة الإسلامية إليه ثانياً، وإغناء الحياة السياسية في مصر ثالثاً، إلا أن النظام الحاكم كان يأبى ذلك، لعوامل داخلية وخارجية "إن عبد الناصر كان يريد أن يرفع الشعار الإسلامي للسيطرة على جماعة الإخوان المسلمين، والاستيلاء على القواعد الجماهيرية التي قامت عليها شعبية الجماعة، وصارت مصدر قوتها، ويظهر أن فشله في ذلك هو الذي جعله يحاول القضاء عليها، وقد شجعه على ذلك أن السياسة الأمريكية نفسها كانت منزعجة من نمو نفوذها، وأنه تم الاتفاق بينه وبين المخابرات الأمريكية في أوائل 1952م قبل تنفيذ الانقلاب،
82
75
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
على أن من أهداف الانقلاب العسكري "استبعاد الثورة الشعبية" التي كان يسعى لها بجد الإخوان المسلمون. أما أن السياسة الأمريكية كانت منزعجة من نمو حركة الإخوان المسلمين، فذلك راجع إلى أن هذه الجماعة رغم ما أصابها من ضربات من قبل، في عام 1948م/1949م انتهت بمقتل مؤسسها، إلا أنها عادت وسيطرت على الموقف الداخلي في مصر سيطرة كاملة في أواخر عام 1951م بسبب تزعمها للحركة الفدائية ضد القوات الإنكليزية في القنال، حتى خشيت الدوائر الغربية أن تتحول هذه الحركة الفدائية إلى ثورة شعبية ضد المصالح الغربية عامة، وضد إسرائيل بصفة خاصة1.
خامساً: يشير الشيخ ابن باز إلى أن وصول رجال صالحين إلى البرلمان يعملون على دعم الحق وأهله من الأهمية بمكان، ولكنه لم يحدد كيف يمكن أن تتم هذه العملية داخل البرلمان، حيث إنه بات من المعروف أن النظام الديمقراطي يعتمد أكثرية الأصوات في فرض قراراته، وبالمحصّلة أقول أنّى للإسلاميين أن يكون لهم أكثرية الأصوات في نظام ديمقراطي؟!
1- د. محمد صادق - الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية - ص290.
83
76
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
سادساً: أما الأستاذ مصطفى مشهور، فيرى أن وجود الإخوان في مجلس الشعب هو من أجل التصدي لقرارات الباطل وإلغاء مواد الدستور البعيدة عن الإسلام... أقول إن النظام الحاكم في مصر وبتعاقب حكوماته منذ أربعينات القرن الماضي، يعمل على استئصال حركة الإخوان تحت عناوين سياسية شتّى، فهل نتوقع من هذا النظام أن يغيّر توجهاته السياسية، ويسمح للإخوان بأن يدخلوا الحياة السياسية في مصر من أبوابها العريضة!.
سابعاً: يوضح الدكتور حسن الترابي قناعته بأنه لا يرجو إمكانية تحول النظام الحاكم إلى الإسلام، ويعتبره غير شرعي وغير مرضي1، ويبيّن أن مشاركته هذه إنما كانت من أجل اغتنام فرصة هنا أو فرصة هناك، من أجل القيام بالتغيير الجذري2.
ثامناً: ويرى الدكتور فتحي يكن رحمه الله أن مبررات وجود الإسلاميين في مجلس النواب، هي رفع الظلم والغبن عن المسلمين، وتحصيل حقوقهم، وتدعيم مواقعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويوضح أن مشاركة المسلمين بالحكم لا تعني مشاركة الإسلام!... ونردّ على قوله بالتالي:
1- لقد دخل البرلمان، وعاش التجربة البرلمانية بكل مفرادتها
1- المقصود أن هذا النظام لا يرضى عنه الشعب المسلم في السودان.
2- وقد جاءت الفرصة بانقلاب جبهة الإنقاذ الوطني على الحكم في السودان عام (1989)، والتي كان الدكتور الترابي من أركانها.
84
77
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
وتفاصيلها1، وكان له جولات وصولات في تقديم المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والخلقية، يدعو إلى الإصلاح في جوانب الحياة السياسية، ويطالب بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين2... فماذا كانت النتيجة والمحصّلة العملية في تحقيق الأهداف المرجوة؟!.
2- إن المسلمين يعرفون حقيقة الإسلام من خلال تطبيقه في واقع الحياة، وإن مشاركة رموز الحركات الإسلامية وذوبانهم في مؤسسات النظام الوضعي يعطي انطباعاً لدى المسلمين بأن هذا النظام شرعي، ولكن يحتاج إلى بعض الإصلاحات، ومن أجل ذلك فإن هذه الرموز تشارك وتقوم بدورها في تحقيق هذه الإصلاحات، وينتج عن ذلك عدم الوضوح في الرؤية الشرعية والسياسية لدى المسلمين، في حقيقة المشروع الإسلامي، في إقامة الحكم الإسلامي، وبالتالي لا يمكن الفصل في وعي عامة المسلمين -لا خاصتهم- بين ما يرونه من عمل سياسي للرموز الإسلامية، وبين مشروع إقامة الحكم الإسلامي، فيتميّع المشروع الإسلامي في أذهان العامة، لما يرونه أمامهم من ذوبانه في مشاريع الآخرين.
1- كان يمثل مع نائبين من إخوانه (د. زهير العبيدي والأستاذ خالد الضاهر) الجماعة الإسلامية في مجلس النواب اللبناني.
2- انظر فتحي يكن - أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان - ج/1 - ص235-330.
85
78
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
تاسعاً: أما فيما يتعلق بعرض الدكتور يوسف القرضاوي بشأن الديمقراطية التي ناضلت من أجلها الشعوب وضحَّت حتى وصلت إليها!... فأقول للدكتور الفاضل الأمور التالية:
1- ما دام الله قد أغنانا بالشريعة الشاملة التي تنظم حياتنا العقدية والتعبدية والتشريعية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾1 - ونعرف أن لدينا نظاماً سياسياً قد طبقته الأمة، وعاشت في كنف عدالته مدة 1354 سنة، ونعلم كذلك أن في هذا النظام من الصفات والمزايا ما لم تعرفه البشرية ونظمها السياسية عبر تجاربها المتعثرة في مجال تنظيم حياة الإنسان ورعايته سياسياً، - أمام هذه الثروة الهائلة من التشريع السياسي، وأمام التطبيقات السياسية الواسعة، الممتدة في الزمان والمكان، عبر هذه المدة الطويلة من تاريخ الأمة - فإننا لسنا بحاجة إلى ديمقراطيتهم في الوصول إلى تأمين الأمن والعدل والعدالة والسعادة للإنسان، لأن الذي بين أيدينا يغنينا عن الركام الذي بيدهم ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾2.
1- المائدة: 3.
2- المائدة: 50.
86
79
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
2- ولما كان لسان الحال أبلغ في البيان من لسان المقال، أقول إن الديمقراطية التي فُتِن بها وطبقها بعض أبناء جلدتنا قد جلبت إلينا المآسي والكوارث في المجالات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية.
ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال التشريعي، أدت إلى الأمور التالية:
أ- أن يكون مصدر السيادة هو الشعب، وهذه مخالفة شرعية، لأن مصدر السيادة في الإسلام هو الله تبارك وتعالى.
ب- أن يكون مصدر التشريع هو البرلمان، وهذه مخالفة شرعية، لأن مصدر التشريع في الإسلام هو الله عز وجل.
ج - أن يزوِّر من اعتمد نظام الديمقراطية "إرادة الشعب" في اختياره لأعضاء البرلمان من خلال شراء الذمم.
د- إعطاء حرية عامة ليس فيها ضوابط، ويمكن أن تؤدي بالإنسان إلى تدمير نفسه وأسرته وشعبه وأمته.
هـ- تشريع صناعة الخمر بكل أنواعه، وبيعه وتعاطيه من قبل المسلمين!.
و- تشريع الزنى تحت عنوان الزواج المدني.
ز- تشريع كل أنواع الفساد، تحت لافتة التنمية السياحية ودعم الاقتصاد الوطني والقومي!.
87
80
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ح- تشريع المكوس، تحت عنوان الجمارك والضرائب المنظورة وغير المنظورة.
ط- تشريع نشر المبادئ والأفكار الهدامة، تحت حجة الحرية الفكرية، وتدريس النظريات المضلِّلة لأبناء المسلمين في الجامعات.
ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال الاقتصادي، أدت إلى الأمور التالية:
أ- سرقة أموال البلاد والعباد، تحت غطاء القانون والقرارات الحكومية!.
ب- اقتراض الأموال الطائلة من الغرب، تحت عنوان تنمية الاقتصاد، فيتم رهن مداخيل البلاد والعباد لسنوات طوال، من أجل سداد فوائد هذه الديون!1
ج- السيطرة على أموال الأمة وإنفاقها، من قبل الحكام والملوك والأمراء، على ملذاتهم وشهواتهم، إلى مستوى أن أحد أبناء الملوك العرب قد قدم لخدم الفندق الذي ينزل فيه ستة عشر مليون دولار!، وأن الآخر أعطى لحديقة الحيوانات في لندن عشرة ملايين دولار!، في الوقت الذي لا يجد الكثير من المسلمين كفاف يومهم!.
1- تحت عنوان خدمة الدَّين!
88
81
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
د- فتح آبار بترول الأمة الإسلامية لتسيل باتجاه الغرب وبأسعار زهيدة، وفي الوقت نفسه يغلق الغرب آبار بتروله ويبقيه احتياطاً لمستقبله.
هـ- جعل بلاد المسلمين سوقاً استهلاكياً للصناعات والمنتوجات الغربية بكل أنواعها.
و- عرض أسهم الشركات الاقتصادية تحت عنوان "عولمة الاقتصاد" في البورصة العالمية، حيث يتم شراء هذه الأسهم من قبل الغرب واليهود، ومن خلال ذلك تتم السيطرة الاقتصادية على بلاد المسلمين.
ز- السعي إلى إدخال إسرائيل في النسيج الاقتصادي للأمة الإسلامية، من خلال مؤتمرات اقتصادية تعقد من أجل هذا الهدف.
ح- التحضير لمد إسرائيل بشريان الحياة الاقتصادية من البترول والغاز الطبيعي!.
ط- الاستعداد لمد إسرائيل بشريان الحياة من المياه العذبة!.
ي- انتشار الرشا والصفقات المشبوهة في دوائر ومؤسسات بلاد المسلمين!.
89
82
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ممارسات الأنظمة الديمقراطية، في المجال الخلقي، أدت إلى الأمور التالية:
أ- تستخدم وسائل الإعلام المتنوعة من أجل نشر الفساد الخلقي بكل أنواعه.
ب- تفتح بلاد المسلمين للأجانب تحت عنوان السياحة، وما أدى إليه ذلك من انتشار الفساد والإباحية وانتهاك الحرمات، وما نشرته من أمراض فتاكة بين المسلمين.
ج- استقبال المؤتمرات الغربية التي تدعو إلى ممارسة الجنس قبل الزواج، وتعَلُّم سبل ووسائل الوقاية من الحمل!.
د- استقبال المؤتمرات الغربية التي تدعو إلى الإجهاض وإلى ممارسة الرجل والمرأة للجنس بدون عقد زواج، تحت عنوان الحرية الشخصية!.
هـ- عرض البرامج والأفلام الغربية على أجيال المسلمين، بكل ما فيها من فضائح وعُري وجنس وقتل وإدمان ومخدرات!.
و- فتح فضاء بلاد المسلمين لاستقبال القصف الإباحي الذي يعرضه الغرب، من خلال الأقمار الصناعية، والهدف من ذلك تدمير أخلاق العنصر الحيوي في الأمة، من الشبان والشابات!
90
83
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ز- إلهاء الأمة بشتى أنواع الملاهي والمسابقات والمباريات.
ح- عرض مفاتن جسد المرأة، تحت عنوان عروض الأزياء.
ط- حماية الفاسقات والمنحرفات، اللواتي يعرضن أجسادهن في المراقص والمسابح.
ي- إقامة مسابقات ملكات الجمال، وما يتخللها من عُهر وعروض للعُري الفاضح.
ك- التشجيع على الاختلاط في الثانويات والجامعات وما يؤدي إليه من انحرافات خلقية.
ل- التشجيع على نشر كتيبات الحب والغرام وقصص والفاسقات!.
م- العمل على نشر المجلات التي تعرض المرأة في ثياب النوم أو الرياضة أو السباحة!.
ن- عرض أجساد النساء على التلفاز في أوضاع شاذة، تحت عنوان الرياضة الصباحية.
عاشراً: وفي معرض مناقشتي للأستاذ راشد الغنوشي، الذي يرى إمكانية الدخول في المعارك الانتخابية لحركة النهضة الإسلامية للدخول في البرلمان وبعض مؤسسات وأجهزة الدولة... أقول: لقد أثبتت التجارب السياسية مع الأنظمة
91
84
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الحاكمة، بشكل عام، فشل إمكانية تحصيل مكاسب سياسية للحركة الإسلامية، لأن هذه الأنظمة تسير بسياسة استيعاب الحركة الإسلامية، فإن لم تستطع ذلك، فإن البديل لديها هو الاستئصال السياسي والدعوي والمادي. ولقد مرت حركة النهضة الإسلامية في هذه المراحل، وهي الآن تعيش مرحلة الاستئصال المادي، وهذا ما يؤكده الأستاذ الغنوشي بقوله "ولقد فشلت والحمد لله خطة استئصالنا وتجريمنا في نظر شعبنا والعالم، وآية ذلك تحويلهم البلاد إلى سجن رهيب وثكنة بوليس، واستمرار حالة التعبئة العامة ومصادرة الحريات العامة والخاصة... مؤمماً المساجد وكل مؤسسات المجتمع المدني، ممارساً قمعاً رهيباً على قيم الهوية الإسلامية العربية، مبدداً للأرزاق، محولاً البلاد الى نادٍ ليلي وسوق للدعارة والاتجار بالمخدرات"1.
حادي عشر: ويرى السيد محمد حسين فضل الله أن النظام الديمقراطي يتيح للإسلاميين إمكانية إلغاء تشريعات الباطل، ومواجهة السياسات الظالمة، وإمكانية تغيير النظام باتجاه الإسلام... وفي معرض محاورتي للسيد الفاضل، أود أن أشير إلى الأمور التالية:
1- مجلة الأمان - بيروت - العدد 228 - 25/10/1996 - ص7.
92
85
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
1- إن أكثر التشريعات والقوانين التي يبت بها في مجلس النواب، هي منافية للشريعة والتوجهات الإسلامية، إن من الناحية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الخلقية.وبما أن إقرارها، أو عدمه، يعتمد على كثرة الأصوات في المجلس، ولهذا فإن النتيجة معروفة سلفاً، لأن أكثر التوجهات النيابية السياسية في لبنان، هي عَلمانية. وحتى عندما كانت الكتلة النيابية الإسلامية في البرلمان الأردني هي الأقوى، فإنها لم تستطع مواجهة قرار الاعتراف بإسرائيل، رغم أن أكثر النواب في الأردن مسلمون، ويتعاطفون مع طروحات الكتلة الإسلامية، إلا أنه، عندما تأتيهم التوجهات العليا للسلطة الحاكمة، نراهم يميلون حيث تميل رياح مصالحهم السياسية والاقتصادية.
2- إن التجارب الإسلامية في مجال المشاركة السياسية، ليست جديدة في ساحة العالم الإسلامي، لا على المستوى البرلماني ولا على المستوى الوزاري، وهذه التجارب ماثلة أمامنا بكل حصادها المر (باكستان، مصر، تونس، الكويت، الجزائر وتركيا)، وحيث إن مؤشر هذه السياسة التي اعتمدها الإسلاميون، طيلة سبعين سنة، يتجه نزولاً لا صعوداً، في سلّم تحقيق الأهداف الإسلامية المرحلية، ناهيك عن الأهداف
93
86
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
الإسلامية العامة، أرى أن هذه التجارب ينبغي أن تُدرس بالعمق، حتى نتوقف عند محطاتها الرئيسة، لكي نخرج بالعبر الفكرية والسياسية الجديدة، وعلى أضوائها نعيد الحسابات في خطتنا العامة أو المرحلية، في كيفية التعاطي مع الواقع السياسي الداخلي والخارجي، فنصوِّب مسيرتنا الإسلامية، نحو إقامة دولة الإسلام، وإعادة وحدة وعزة ومجد أمتنا الإسلامية.
3- إذا عدنا إلى تجربة أمتنا الإسلامية في إيران، نجد أن الإمام الخميني قد استفاد من حصيلة دراسته للسنّة النبوية المطهرة وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومواقفه تجاه الطاغوت القُرشي، وأنه استقرأ التجارب السياسية الإسلامية السابقة، في مجال التعاطي مع الساحة السياسية الداخلية والخارجية، لواقع الأمة، ولهذا نراه قد أصّل من الناحية الشرعية مسألة المفاصلة السياسية، تجاه الطاغوت في الداخل والخارج، ولذلك فقد اعتمد في حركته الشرعية والسياسية والجهادية، في مواجهة أعتى نظام طاغوتي في هذا العصر، على ثوابت ثلاثة:
أ- أيقظ الإمام الخميني الشعب المسلم في إيران من سباته العميق، وأشركه في تحمل مسؤولياته الشرعية والسياسية والجهادية، حيث إن الجميع قد عرفوا (فقهاء وعلماء ودعاة
94
87
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
وسياسيين وتجاراً ومهندسين وأطباء وأساتذة وطلبة وعمالاً وفلاحين ورجالاً ونساء) أنهم سيقفون أمام الله عز وجل وسيُسألون عن أمانة حملهم للإسلام والشريعة والدعوة إلى الله تعالى... "أعدوا أنفسكم للقتل... وللذهاب إلى السجون... أعدوا أنفسكم لتحمل المآسي التي ستحل بكم في طريق الدفاع عن الإسلام والاستقلال... واستقيموا "1...﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾"2.
ب- ركّز الإمام الخميني، في خطابه الشرعي والسياسي، على كشف دور الغرب الصليبي، في إلغاء دور الإسلام وإبعاده عن واقع الحياة، والعمل على تذويب شخصية الأمة الإسلامية، والسعي إلى إلحاقها بالغرب ثقافياً وسياسياً وحضارياً، وأبرز دور النظام الحاكم الطاغوتي لشاه إيران، في تنفيذ هذه السياسة الغربية، وما نتج عنها من خراب ودمار ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وخلقي... "لا يمكنكم تغيير أحكام الله وليس لكم الحق في ذلك... ولا يحق لأحد أياً كان أن يتدخل في مثل هذه الأحكام... فالأحكام الإلهية جاء بها الأنبياء من عند الله للناس، وإن العلماء الأعلام
1- صاحب حسين الصادق - الثورة والقائد - ص70.
2- فصّلت: 30.
95
88
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
على مرّ العصور حافظوا عليها وبينوها للشعب وهذا هو واجبهم المقدس... ولسنا بحاجة إلى توجيهات الحكام الظلمة... لأنهم كالشياطين ولا ينفذون سوى أحكام وأوامر أسيادهم المستعمرين... ونحن لا يخفى علينا أمرهم أبداً، بل نعرف بالتفصيل ماذا يبيتون من مؤامرات ضد القرآن الكريم وتعاليمه القيمة وكيف أنهم يريدون إزاحته عن سدّة القيادة والحكم والاستعاضة عنه بالكتب والأنظمة الضالة... لقد سمعنا صوتهم القبيح من الإذاعة وعلى شاشة التلفزيون، ذلك الصوت الحانق الحقود، صوت الجاهلية والردة، سمعناهم يقولونها بكل وقاحة "نحن لا نريد الإسلام! الإسلام للعرب فليطبلوا وليزمروا!! نحن رفضنا أحكام الله! فماذا تريدون؟!"... نعم، هذا هو صوت الطغمة الحاكمة البغيض المليء بالكفر والمروق عن شرعة الإسلام الخالدة. نحن لا نستغرب صدور هذا الكلام المفضوح عنهم، لأننا نعرفهم حق المعرفة: عملاء للاستعمار وأذناباً له في بلادنا. وقد اكتوى الشعب بنار إجرامهم منذ أمد بعيد، ولكننا إنما نقولها هنا، فذلك من أجل إيقاظ جماهير الشعب وأبناء أمتنا العزيزة ونطلعهم على هذه الحقائق الأليمة. لنكون قد بلَّغنا الرسالة وأتممنا الحجة وأدينا الواجب"1.
1- الإمام الخميني - دروس في الجهاد والرفض - ص33-34.
96
89
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
ج- استطاع الإمام الخميني أن يكسب العلماء العاملين في حركة الجهاد السياسية ضد الطاغوت، لأنه كان في مقدمة الناس في مجال المواجهة والمكابدة والمعاناة، الأمر الذي جعل الشعب المسلم في إيران يندفع ويتجاوب معه في كل حركاته وسكناته، حيث اعتبر أن أوامره هي أوامر شرعية واجبة التنفيذ "إن إطلاق سراحي جاء بعد أن وجد رجال السلطة أنهم عاجزون عن تحمل أعباء الضغط المتزايد عليهم من جميع الأقطار الإسلامية... وشعروا بوطأة موجة الاستنكار والسخط وتعالي صيحات الاعتراض التي تصاعدت ضدهم... نعم عندما شعروا بتلبد الأجواء الخارجية والداخلية ضدهم وبعد تلك الفضائح بدأت ترتعد فرائصهم بسبب نظرة الشعوب الأجنبية المريبة إزاءهم، لا سيما حلول موسمي الحج ومحرم الحرام وجهلهم بتطورات الأحداث خلال هذين الموسمين والشعور بقرب فقدانهم حتى مواطئ أقدامهم لدى الشعوب، ولدى تلك الدول، لذلك أطلقوا سراحي"1...
لقد تجاوب المسلمون في إيران مع قيادتهم، وهم يعلمون أنهم يسيرون ويجاهدون من أجل إسقاط الطاغوت وإقامة دولة الإسلام...
1- الإمام الخميني - المرجع نفسه - ص62.
97
90
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
وكان نصر الله المبين، بسبب وجود القائد الواعي القدوة، ووجود الأعوان من العلماء المخلصين، ووجود الشعب المضحي في سبيل الله.
الخلاصة الشرعية والسياسية العامة
هذا ما جنته الأنظمة الديمقراطية على أمتنا من دمار وخراب، تشريعي وفكري واقتصادي واجتماعي وخلقي، وبكلام آخر، أقول إن الأنظمة الديمقراطية في بلاد المسلمين هي المعول الذي يسعى الغرب من خلاله لاستئصال الإسلام في أبعاده العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخلقية.
بعد عرض الآراء والأدلة الشرعية والسياسية للمعارضين للمشاركة السياسية في الحكم ومناقشة المؤيدين للمشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، من خلال الأدلة الشرعية والفكرية والسياسية، أخلص إلى نتيجة شرعية مفادها: أنه لا تجوز المشاركة السياسية مع الأنظمة الحاكمة، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الأنظمة الحاكمة، التي تعتمد الديمقراطية في حياتها التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا تحتكم إلى شريعة الله عز وجل، وتحتكم إلى شرع البشر.
ثانياً: من خلال عرض الوقائع التشريعية والاقتصادية والاجتماعية لواقع الأنظمة الحاكمة نعلم أنها تسعى بشكل
98
91
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
دؤوب إلى تغريب الأمة الإسلامية وإبعادها عن دينها وتاريخها وأخلاقها وحضارتها.
ثالثاً: إن المشاركة السياسية للإسلاميين مع الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى تمييع المشروع الإسلامي في أذهان المسلمين.
رابعاً: إن المشاركة السياسية تؤدي إلى دعم النظم الحاكمة، بعناصر وكفاءات الإسلاميين، وتساعد على بقائها واستمرارها.
خامساً: إن المشاركة السياسية من قبل الإسلاميين تعطي غطاءً شرعياً للأنظمة الحاكمة، وكان من الواجب أن يتم تعريتها أمام المسلمين.
سادساً: إن هذه المشاركة تلغي "عملياً" المشروع الإسلامي، في إقامة دولة الإسلام، من خلال ذوبان الإسلاميين في دوائر ومؤسسات الأنظمة الحاكمة.
99
92
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
المراجع
الكتب
- القرآن الكريم.
1- أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي - د. فتحي يكن - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1981.
2- الأحكام الدستورية للبلاد العربية - نبيل الصائغ - بيروت - دار الجامعة - لا ت.
3- أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان - د. فتحي يكن - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1996.
4- البداية والنهاية - عماد الدين إسماعيل بن كثير - بيروت - دار الفكر - 1978.
5- التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي - عبد القادر عودة - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1986.
6- الثورة والقائد - صاحب حسين الصادق - الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وزارة الإرشاد - 1979.
7- جند الله ثقافة وأخلاقاً - سعيد حوى - لا م - لا ت.
100
93
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
8- الحركة الإسلامية هموم وقضايا - السيد محمد حسين فضل الله - بيروت - دار الملاك - 1990.
9- حزب الله المنهج، التجربة، المستقبل – الشيخ نعيم قاسم - بيروت - دار الهادي - 2008.
10- الدبلوماسية والميكيافيلية في العلاقات العربية الأميركية - د. محمد صادق - بيروت - 1971.
11- دراسة علمية في بيان الموقف الإسلامي من المشاركة في الانتخابات في لبنان - حسن قاطرجي - بيروت - لا ت.
12- دروس في الجهاد والرفض - الإمام الخميني - طهران - لا ت.
13- الديمقراطية نظام كفر - عبد القديم زلوم - منشورات حزب التحرير - 1990.
14- العقيدة وأثرها في بناء الجيل - د. عبد الله عزام - بيروت - دار ابن حزم - 1992.
15- الفتاوى الكبرى - الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - بيروت - دار القلم - 1987.
16- في ظلال القرآن - سيد قطب - بيروت - دار الشروق - 1992.
17- لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة - محمد قطب - دار الشروق - 1993.
18- محاور إسلامية - راشد الغنوشي - القاهرة - بيت المعرفة - 1989.
101
94
الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم
19- منهاج الانقلاب الإسلامي - أبو الأعلى المودودي - جدة - السعودية للنشر والتوزيع - 1988.
20- نحو ثورة سلمية - أبو الأعلى المودودي - بيروت - دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع - 1968.
المجلات والدوريات والصحف
21- مجلة الإخوان المسلمين - القاهرة - 4/11/1944.
22- مجلة الأمان - بيروت - العدد 228 - 25/10/1996.
23- مجلة الأمان - بيروت - العدد 240 - 17/1/1997.
24- مجلة الدعوة - لندن - العدد 29 - 6/10/1994.
25- مجلة العالم - لندن - العدد 355 - 1/12/1990.
26- المجلة العربية - الرياض - العدد 132 - آب 1988.
27- مجلة المجتمع - الكويت - العدد 1177 - 29/11/1995
28- مجلة منبر الإسلام - القاهرة - العدد 6 - تشرين الثاني 1994.
102
95
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المحامي الدكتور علي نديم الحمصي1 2
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
إن مفهوم المواطنة لدى الشعوب والدول بات في حالة غموض وتخبط نتيجة التحولات الجذرية التي تشهدها مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي في المجتمعات المحلية والدولية كافة.
فمن يتابع الواقع السياسي والاجتماعي لكل دولة، يجد أن كثيراً من الدول ومواطنيها، تتعدد لديهم مفاهيم المواطنة تبعاً للتيارات السياسية النافذة فيها، سواء تلك التي بيدها مقاليد الحكم أو المعارضة لها، حتى أصبحت المواطنة بالنسبة لبعضهم هي الانتماء للطائفة أو المذهب أو الانتماء للحزب الفلاني أو التيار السياسي الفلاني وهكذا... وما عدا ذلك يكون خارج مفهوم المواطنة، بل وأكثر من ذلك، يصبح ممنوعاً من حقوقٍ جمّة لتصبح حكراً على مدعي المواطنة ممن لا يمتّ إليها بصلة.
1- أستاذ الدراسات العليا في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية. بيروت - لبنان.
2- أستاذ مادة فقه المعاملات والقانون التجاري في كلية إدارة الأعمال الإسلامية. بيروت - لبنان.
103
96
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
وإن الشريعة الإسلامية الغرّاء بصلاحيتها لكل زمان ومكان وبمعالجتها كافة القضايا في مختلف المجالات، جاءت لتقرر مفهوم المواطنة الذي يعيش تحت سقفه الجميع من كل الملل والنِحل، وتؤكد أن الإسلام دين للعالمين جميعاً، يمكن تحت ظل دولته أن يعيش الناس في مواطنة يعتزون بها، أساسها العدل والأمن والاحترام المتبادل بين جميع المواطنين.
وخير نموذج لهذه الدولة، هو ذلك المجتمع الإسلامي الذي نشأ في المدينة المنورة فور قدوم الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إليها عندما هاجر من مكة المكرمة وكتب دستوراً لهذه الدولة عُرف بصحيفة المدينة المنورة، نص فيه على مجموعة قواعد ومبادئ يلتزمها جميع من يعيش على أرض المدينة أي على أرض الدولة سواء كان من المسلمين أو غير المسلمين.
وتأتي هذه الدراسة لتبيّن مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية من خلال تسليط الضوء على صحيفة المدينة المنورة كنموذج يحتذي به كل مجتمع ينشد دولة أساسها العدل وسِمتها الأمان وشعبها ينعم بالاستقرار.
104
97
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
خطة البحث:
لقد قسمت هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث كما يلي:
المبحث الأول: مفهوم المواطنة
أولاً: تعريف المواطنة.
ثانياً: مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته.
المبحث الثاني: صحيفة المدينة المنورة.
أولاً: مضمون الصحيفة.
ثانياً: مدى القيمة الدستورية والاجتماعية لصحيفة المدينة تجاه المجتمع الاسلامي ودولته.
المبحث الثالث: المبادئ التي كرستها صحيفة المدينة المنورة في مفهوم المواطنة:
أولاً: الدلالات الهامة للصحيفة المتعلقة بالأحكام التنظيمية للمجتمع الاسلامي.
ثانياً: أهم الأحكام الشرعية التي كرستها الصحيفة ومدى تأثيرها على مفهوم المواطنة.
105
98
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المبحث الأول: مفهوم المواطنة
أولاً: تعريف المواطنة
جاء التعريف اللغوي يتحدث عن الوطن باعتباره محل وجود الإنسان المواطِن1، وأنه مولد الإنسان والبلد الذي هو فيها2، دون التطرق إلى المواطنة كمفهوم يحمل المعنى الاجتماعي أو السياسي للكلمة. لذلك فقد خلت قواميس اللغة عن تعريف المواطنة ككلمة ذات معنى لغوي.
أما بالنسبة للتعريف الاصطلاحي، فلقد تعددت تعريفات المواطنة من حيث كونها الانتماء إلى وطن ما، وحمل جنسية الدولة التي ينتسب إليها الإنسان والتعايش بين الناس في مجتمع واحد...
فمنهم من عرفها بأنها الرابطة الاجتماعية والقانونية بين الأفراد ومجتمعهم3.
ومنهم رأى أن المواطنة أساسها الموطن، وهي بذلك تختلف عن كلمة المواطنية التي أساسها الوطن، فالموطن هو مكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أما الوطن فهو المكان الذي ينتمي إليه
1- جمال الدين محمد بن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، 15مجلد، مجلد 13ص 451.
2- الشريف علي الجرجاني: التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ط1، ص 253.
3- د. عثمان صالح العامر: المواطنة في الفكر العربي المعاصر " دراسة نقدية من منظور إسلامي" - حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 378.
106
99
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
الفرد من خلال انتمائه لجماعة هذا الوطن، وعلى الرغم من أن الفرد في كلتا الحالتين يعتبر مواطناً ومشاركاً ومنتمياً من الناحية الاجتماعية والجغرافية إلا أن مشاركته وانتمائه في الوطن تكون من ناحية اجتماعية سياسية، وبالتأكيد أن الانتماء للوطن أعمق1.
ويرى بعضهم أن مصطلح مفهوم المواطنة في الموسوعة يعني الانتماء إلى أمة أو وطن بينما كان مصطلح مفهوم المواطنة في علم الاجتماع علاقة اجتماعية بين طرفين يلتزم الأول بالولاء والآخر بالحماية وهما المواطن والدولة2.
أو هي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (أي جغرافية محددة). مع الاعتبار أنها لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لأن العلاقة الدينية تع-زز الروابط الزمنية أيضاً، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة3.
ثانياً: مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته
تحتل قضية حقوق المواطنة محوراً رئيسياً في النظرية والممارسة
1- أ. ليث زيدان: مفهوم المواطنة في النظام الديمقراطي، دنيا الرأي، 7/12/2005، الموقع الالكتروني www.alwatanvoice.com
2- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة اقامها مكتب الانماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com
3- أ.علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour. net
107
100
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
الديمقراطية الحديثة1، إذ إن مكونات المواطنة هي الانتماء الذي هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس للارتقاء بوطنه والحقوق والواجبات التي يجب أن يؤديها ويحصل عليها إضافة إلى المشاركة المجتمعية التطوعية التي هي أبرز سمات المواطنة مبينة أن مؤسسات تربية المواطنة هي الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني، وأهم مؤسسة هي الأسرة التي يجب أن تلتزم تعزيز ثقافة المواطنة وتعمل على إدراك الطفل للرمز السياسي الوطني إضافة الى تعويده على احترام القانون وغرس حب الوطن والدفاع عنه بداخله2.
فالمواطنية ترتبط عملياً بالذهنية المسيطرة على المجتمع، وبالتالي قد يكون المجتمع قومياً أو إسلامياً أو طائفياً أو حتى عشائرياً، فتكون المواطنية متأثرة بهذه الذهنية3.
لقد صارت رابطة "المواطنة" منافع وحقوقاً مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم وبالتالي تهبط المواطنة من الحقوق العامة السياسية إلى تفاصيل المنافع المادية المباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني
1- أ. عبد الوهاب الأفندي، إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام، مسلم أم مواطن ؟ مركز دراسات الوحدة العربية، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، ط1، 2001، ص 65.
2- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة اقامها مكتب الانماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com
3- أ. ايليا حريق: المواطنية والقيم المدنية، الهوية الوطنية وتعدد الولاءات مع إشارة خاصة إلى لبنان، بناء المواطنية في لبنان، إشراف د. وليد مبارك ود. أنطوان مسرّة ود. سعاد جوزف، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية، 1999، ص 55.
108
101
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
مزيداً من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الإتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم -المادية والمعنوية - وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلاً في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance) عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما. وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسساً على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي1.
استناداً لما سبق، أصبحت المواطنة هي الآلية للحد من الصراعات العرقية، والاجتماعية، وغيرها... على قاعدة مبدأي عدم التمييز والمساواة. والمساواة تعد من الكلمات التي استهوت المجتمعات والأفراد، إذ استعملها الزعماء والقادة المصلحون لتحريك المشاعر على كافة الأصعدة. ومما لا ريب فيه أنه لا توجد مساواة طبيعية، لأن الناس خُلقوا متفاوتين خَلقاً وخُلقاً، فهم مختلفون، في التكوين، والشكل واللون، والعقل والذكاء، وهم مختلفون متمايزون في القوة والجمال والصحة والعمر والأخلاق والميول والطبائع. فإذاً لا مساواة بين الناس في عرف الطبيعة، إلا من حيث بعض التكوين الأساسي والغرائز الفطرية2.
1- د.هبة رؤوف:المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية1/3/2009 www.islamonline.net
2- علي وتوت:في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/ 2009 www.e – joussour.net
109
102
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
وكذلك لا توجد المساواة الاجتماعية فيما بين الناس. فعلى الرغم من أن الأديان والشرائع السماوية قد دعت إلى المساواة، مثلما أن المصلحين والحكماء والفلاسفة دعوا إليها أيضاً، فإن الناس يترتبون في فئات ودرجات في الغنى والجاه، والحسب والنسب، كما أنهم مختلفون في أنواع العمل وطرق الكسب والمعيشة، ويتمايزون في حياتهم العائلية والزوجية، وفي مجتمعاتهم، وملذاتهم وآلامهم ومعاملاتهم وعباداتهم.
إذن لا مساواة بين الناس في أعراف الحياة الاجتماعية وتقاليدها. فما هي المساواة التي أرادها الفلاسفة والحكماء والمصلحون والمشرعون والسياسيون عندما نادوا بها كحق من حقوق الإنسان الأساسية؟
إن المساواة المقصودة هي المساواة القانونية، أي مساواة الناس جميعاً أمام القانون من ناحية الحقوق والواجبات والحماية القانونية. هذه المساواة التي أقرتها الدساتير والشرائع الداخلية والدولية.
وأصبح من غير الغريب أن تجد مجتمعاً متعدد الأعراق والأصول كفئة موحدة وفق منظومة من البنى القانونية، والمفاهيم الاجتماعية والقيمية التي تشترط عدم التميز والمساواة في الحقوق والواجبات.
وقد أدى هذا إلى إنهاء مفهوم العنصرية الذي أصبح مفهوماً مثيراً لاشمئزاز الإنسان، وتعزز ذلك عبر كفاح الشعوب ضد أنظمة الاستعمار من أجل إزالة نظام التمييز العنصري كما حصل في كفاح شعب جنوب إفريقيا، وكذلك عبر حركة الحقوق المدنية والتي عبر عنها مارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الحركة التي أفضت إلى
110
103
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
إلغاء كل القوانين العنصرية بحق السود الذين كان يتم التعامل معهم بوصفهم كائنات إنسانية من الدرجة الثانية أو الثالثة.
وتتمثل أهم حقوق المواطنة، فضلاً عن المساواة القانونية، بمجموعة الحقوق الآتية:
1- الحق في السلامة الجسدية.
2- الحق في العمل.
3- الحق في السكن.
4- حق التعليم.
5- الحق في دعم ورعاية الدولة.
6- الحق في الخدمات الصحية.
7- حق اللجوء إلى القضاء.
8- الحق في التصرف.
9- الحق في الخصوصية.
10- الحق في رفض ذكر القومية أو الدين في الوثائق.
11- الحق في الإدارة الذاتية.
12- حق الحماية والتعويض.
13- حق الإرث والشهادة والاختيار.
14- الحقوق الاجرائية.
15- حق المتهم أو الموقوف14.
1- أ. علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour.net
111
104
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
وتعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة خاصة ومشاريع الإصلاح والتطوير بصفة عامة1. ولقد احتلت هذه القضية مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية. وتعددت أبعاد المواطنة في علاقاتها الممتدة عبر قضايا تتمحور في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من خلال أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات، ومبينة مواصفات المواطن وأبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة ومرجعية نظرياتها السياسية2.
وبذلك يتبين أن مفهوم المواطنة لا يمكن فصله عن حقوق الإنسان وواجباته تجاه الوطن الذي ينتمي إليه أياً كانت أفكاره ومعتقداته...
1- عثمان بن صالح العامر: أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي، دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث. www.minshawi.com
2- عثمان بن صالح العامر: أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي، دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث. www.minshawi.com
112
105
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المبحث الثاني: صحيفة المدينة المنورة
أولاً: مضمون الصحيفة:
إن صحيفة المدينة المنورة هي الوثيقة التي نص عليها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون دستوراً بين المسلمين وغيرهم في المدينة المنورة.
وسيتم عرضها في هذا البحث كما هي بالرغم من أنها حَوَت الكثير من القواعد والمبادئ والتعليمات التي تخرج عن إطار موضوع البحث الحاضر، وذلك حرصاً على تعريف القارئ بمحتوى هذه الصحيفة وشموليتها لكثير من مستلزمات الكيان الاجتماعي والسياسي المتماسك.
وهذا نصها بالكامل:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط
113
106
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النَّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقل.
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة1 ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يُبيء2 بعضهم
1- الدسيعة: العظيمة.
2- يُبيء: يُعين.
114
107
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
على بعض ما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى أقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه مؤمن، وإنه من اعتبط1 مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قَوَد به إلا أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ2 إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون
1- اعتبط: قَتَلَ بلا جناية.
2- يوتغ: يُهلك.
115
108
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم1.
ثانياً: مدى القيمة الدستورية والاجتماعية لصحيفة المدينة تجاه المجتمع الإسلامي ودولته:
إن أهم ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالقيمة
1- الإمام محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية، المكتبة العصرية، 4 مجلدات، ط 3، 1995، ج 2، ص 126 إلى 129.
116
109
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
الدستورية للدولة الجديدة التي أنشأها في المدينة المنورة هو كتابة الصحيفة، والتي تعتبر دستوراً للمسلمين وغيرهم. حيث كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم1.
ولقد أرسى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الصحيفة قواعد مجتمع واحد متضامن يضمن العدل والحماية لأفراده. وإن المحور الرئيسي في الوثيقة هو أنها جاءت ضماناً لعدم الظلم أو البغي، كما تناولت التحالف الوثيق بين أهلها ضد العدوان الخارجي، فالتحالف ذو طبيعة وقائية أو دفاعية ولا تعكس حالة عدوانية، بل حالة سلم وأمان. كما أن من أهداف الصحيفة التصدي للظلم والعدوان ونشر الأمن والتشجيع على التكافل الاجتماعي2.
فبذلك تكون القيمة الدستورية والاجتماعية للصحيفة متمثلة بوجود نص ملزم ومنشور يعرف به جميع المعنيين به، ويتناول أصول التعامل فيما بينهم في كل ما ذكرته الصحيفة من بنود تشمل كافة المسائل التي تهم الدولة والمجتمع.
1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة – دار الفكر – بيروت – 1980 – ص 203.
2- أ.د. كمال الشريف، حقوق الإنسان في صحيفة المدينة، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 68 إلى 70.
117
110
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المبحث الثالث: المبادئ التي كرستها صحيفة المدينة المنورة في مفهوم المواطنة
أولاً: الدلالات الهامة للصحيفة المتعلقة بالأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي:
لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي. ونلخصها فيما يلي:
1- إن كلمة " الدستور" هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور، فإن هذا الدستور شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يُعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج، أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.
وحسبنا هذا الدستور - الذي وضعه رسول الله عليه الصلاة والسلام بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت منذ بزوغ فجرها على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.
118
111
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
وظاهر هذه المقومات، أساس لا بد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. إذ هي في مجموعها إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى. ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستوري الذي أوجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أنه في الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها1.
- " إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود. ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة. فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة"2.
ثانيا: أهم الأحكام الشرعية التي كرستها الصحيفة ومدى تأثيرها على مفهوم المواطنة:
لقد دلت صحيفة المدينة على أحكام شرعية عدة نذكر منها:
1- لقد جاء في متن الصحيفة: " المسلمون من قريش ويثرب
1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة - ص 207.
2- المرجع نفسه: ص 207.
119
112
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
ومن تبعهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس".
هذا البند يدل على أن الإسلام هو الذي يؤلف وحدة المسلمين لا غيره، وهو الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق فيما بينهم تذوب ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة.
2- جاء في متن الصحيفة: "هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين".
وكذلك: "إن المؤمنين لا يتركون مُفرَحاً بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل".
إن ما ورد في هذين البندين يدل على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين في كل أشكاله. فهم جميعاً مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم. وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس المسؤولية التكافلية1.
3- جاء في متن الصحيفة: "ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس".
إن هذا البند يدل على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين وأن ذمة المسلم محترمة، أياً كان لونه وجنسه ومقامه بين الناس، وجواره
1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة - ص 208
120
113
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه. فمن أدخل من المسلمين أحداً في جواره، فليس لغيره أياًَ كانت سلطته أن ينتهك حرمة هذا الجوار1.
4- جاء في متن الصحيفة: "كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله".
هذا البند يدل على أن المرجع لحل أي خلاف هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه الأحكام الأربعة تتعلق بالمسلمين فيما بينهم.
أما بالنسبة للأحكام التي يمكن اعتمادها بين المسلمين وغيرهم فيمكن أن تستمد من تجربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المطبقة في بنود الصحيفة التالية:
1- (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)
2- (وإن عليهم النصر على من دهم يثرب)
3-(وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)
إن تجربة النبي السياسية أسست مجتمعاً فريداً في إطار زمانه ومكانه، فلقد جمعت في طياته بين الجماعة الدينية والجماعة السياسية على أسس الحقوق والواجبات المشتركة مع مراعاة الخصوصيات الدينية لكل فئة من فئات مجتمع المدينة، فكانت هذه الحقوق والواجبات
1- المرجع نفسه: ص 209.
121
114
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المشتركة تقوم على مناط الاعتراف بالغير كقيمة إنسانية، وتلتقي في مسارات عدة، كاحترام النظام، والمشاركة في الدفاع عن الوطن (وإن عليهم النصر على من دهم يثرب)، واحترام الدستور (وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)، والإنفاق من أجل حماية المجتمع وتطويره (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) أي أنه إذا حدثت الحرب وشارك فيها اليهود، فهم ملزمون بدفع ما يحتاج إليه المجتمع من نفقات.
وبالضرورة يترتب على هذه الرؤية الانتصار والدفاع وحماية الذين يشاركوننا في الانتماء إلى الدولة العادلة وإن كانوا على غير ديننا. وفي مقابل ذلك لم يكن للمسلمين الذين اختاروا العيش خارج نطاق الدولة وأرض الإسلام هذا الحق، حتى وإن استنصرونا في الدين على قوم كافرين بينهم وبين أرض الإسلام عهد وميثاق كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌُ﴾1.
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة الدين الإسلامي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية، ولكن هناك رابطة العقيدة، وهذه لا ترتب - وحدها – على
1- الأنفال: 72.
122
115
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المجتمع الإسلامي تبعات تجاه هؤلاء الأفراد، اللهم إلا أن يُعتدى عليهم في دينهم، فيُفتنوا مثلاً في عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا الأمر، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها، ولو كان المجتمع هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم، ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم أولاً وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الأولوية، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في المجتمع الإسلامي1.
وهذه الرؤية التجديدية لمفهوم المواطنة وقضية الانتماء للدولة العادلة التي تقوم على قواعد إصلاحية للإنسان والبنيان هي التي تؤسس لوجود مجتمع متعدد الأديان والطوائف والمذاهب قابل للانسجام والعيش المشترك.
1- الأستاذ سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، 1992، ط17، 6 مجلدات، المجلد 3، ج10، ص 1559.
123
116
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
الخاتمة: نتائج الدراسة
يتبين من خلال هذا البحث أن مفهوم المواطنة في الشريعة الاسلامية يعني التعايش بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من الناس في الكيان الاجتماعي والسياسي الواحد.
فصحيفة المدينة المنورة التي جعلها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دستوراً للمسلمين وغيرهم في المدينة، هي مثال يُحتذى به في المجتمعات المتعددة الديانات، ويمكن القول إنه لا غموض ولا التباس ولا إشكالية في أن يحافظ المرء على معتقداته الدينية في ظل تعددية دينية أو غيرها طالما كان الإطار الذي يجمع هذا التعدد أساسه العدل والأمن.
فلنحرص على إرساء قواعد العدل والأمن في أي مجتمع نعيش فيه حتى تستقيم الحياة بين الناس جميعاً.
والحمد لله رب العالمين
124
117
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
1- جمال الدين محمد بن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط1، 1997.
2- الشريف علي الجرجاني: التعريفات، دار الفكر، بيروت، ط1، 1997.
3- محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية، المكتبة العصرية، 4 مجلدات، ط3 1995.
4- أ. ايليا حريق: المواطنية والقيم المدنية، الهوية الوطنية وتعدد الولاءات مع إشارة خاصة إلى لبنان، بناء المواطنية في لبنان، إشراف د. وليد مبارك ود. أنطوان مسرّة ود. سعاد جوزف، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية، 1999.
5- الأستاذ سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، 1992، ط17، 6 مجلدات، المجلد 3، ج10، ص 1559.
6- أ. عبد الوهاب الأفندي، إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعةالسياسية في الإسلام، مسلم أم مواطن ؟ مركز دراسات الوحدة العربية، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، ط1، 2001.
125
118
مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية صحيفة المدينة المنورة نموذجاً
7- د.عثمان صالح العامر:المواطنة في الفكر العربي المعاصر "دراسة نقدية من منظور إسلامي" - حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج1.
8- أ.علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009 w w w. e – joussour. Net
9- أ.د. كمال الشريف، حقوق الإنسان في صحيفة المدينة، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2001 ج 1 ص 68 إلى 70.
10- أ. ليث زيدان: مفهوم المواطنة في النظام الديمقراطي، دنيا الرأي، 7/12/2005، الموقع الالكتروني www.alwatanvoice.com
11- د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، بيروت،
12- 1980.
13- د. هبة رؤوف: المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية 1/3/2009 www.islamonline.net
14- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة دعم للمواطنة الصالحة، ندوة أقامها مكتب الإنماء الاجتماعي التابع لديوان سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي، 25/10/2009، جريدة الحرية، منشور على الموقع الالكتروني www.alhoriah.com
126
119
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
الدكتور زكي جمعة1
معنى المواطنة
الثابت في المعرفة الاجتماعية أن الفكر والعمل وكل نتاج انساني يغدو ظاهرة اجتماعية، تاريخية معقولة في تاريخ، منذ أن يجري إرسالها أو القيام بها في مكان. هذا تأسيس للحياة الثقافية واللغة، وإنتاج لها، وفتح وانفتاح على حضارات وثقافات متكونة وقائمة في أماكن وأزمنة أخرى.
ويثور السؤال، هل ينفصل الفكر والعمل وإنتاج الظاهرة الاجتماعية المتضمنة السياسي والاقتصادي، والعلمي والتربوي... إلخ؛ عن المكان ومحل الفعل؟ بمعنى ألا تتشارك أفعال الإنسان وأماكن استقراره؟ وفي هذا التشارك توطّن نفسه وتستقر.
هذه المسألة تلحظ وتنبه إلى تشابك الإنسان مع المكان وتماهيه إلى درجة تجعله شاهداً على قضاياه. وهنا الارتباط ؛ المعاش، المحكي والمكتوب يجري توضيبه وتوظيفه في جغرافيا حضارية.
1- أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.
127
120
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
إلى ذلك، يألف الإنسان المكان، ويأوي إليه ويأطنه أي يتخذه وطناً. وأوطنت الأرض ووطنتها توطيناً واستوطنتها أي اتخذتها وطناً. ووطن المكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطناً. يقال أوطن فلانٌ أرض كذا وكذا، أي اتخذها محلاً ومَسكناً يقيم فيه1. والوطن منزل الإنسان الذي يقيم فيه، وهو محل عيشه الذي يتمكن من خلاله، وبه وفيه، من تحقيق ذاته، فردياً وجماعياً.
إن المواطنة معناها، بل معنى معناها، يدعونا إلى إعادة النظر في مسألة التوصيف والتوظيف، تمهيداً لولادة مواطنة ينتجها الإنسان الوطني، العقلي، الأرضي.
يُعمل في عصرنا على جعل الإنسان، الذي ينتمي إلى قبيلة أو جماعة بشرية أحادية المجال والبعد، إنساناً منتمياً إلى قبيلة تقنية متنوعة المجالات والأبعاد، لا يعنيه المكان وما فيه، وبالتالي ينفك ارتباطه بالمضامين القائمة قانونياً وسياسياً واجتماعياً.
إذاً، البحث في مسألة المواطنة ينبغي أن يرتقي إلى البحث في المسائل التي تحاول قلب وظيفة المكان (الوطن) الذي يحتضن المعاش، بدءاً من إعادة توصيفه وتعيينه إلى قلب نظامه وتغيير ثقافته ولغته ولهجاته... الخ.
إذا كان الإنسان الفرد المرتبط بأرضه ووطنه هو مواطن، فإن
1- ابن منظور، لسان العرب، مصطلح وطن.
128
121
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
مواطنته هذه تقوم على تعلقه بالأرض وانصهاره في سبل العيش فيها ومساهمته في إنتاج دورة حياتها الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية والسياسية. وفي حال كان وعيه المسائل يقوم على قبوله بإعادة التوصيف والتوظيف لكل الأمور المرتبطة بمساره الفردي، حينئذ يلوذ ويستعيذ بما يقدمه له العالم التقني الآن من معايير تسوقه خارج ميدانه الثقافي والاجتماعي والسياسي والحقوقي. وبذلك يتفلت من مواطنيته التي يفترض أن تقوم على التفاعل مع الأرض والعلاقة مع المجتمع والانتظام في الإطار القانوني والثقافي والسياسي... الخ.
لا ريب أن النظام العالمي الجديد (العالم التقني أو نظام العولمة وما بعد العولمة) قوة ولدت ونمت وطورت عقلاً اعتراضياً انتقادياً تفكيكياً يقارع الثقافات باعتقادية تعتمد قوة الإعلام وآلة الحرب.
رفض سقراط (415-399 ق.م) تاريخياً الهرب من السجن، وآثر الحكم بالإعدام على الإخلال بالتزاماته تجاه مدينته أثينا. بعده وعى أرسطو (384-322 ق.م) جوهر الدولة، فوجده في القانون والنظام. وعليه فالإنسان الصالح لدولته، التي هي المدينة، هو المواطن الصالح1.
تطورت الفكرة عند الرومان ليصبح على المواطن القيام بواجبات أساسية مثل الخدمة العسكرية وتسديد الضرائب وله حقوق أيضاً كحق الزواج من رومانية وحق التجارة...
1- مقلد، ربيع – موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، ج1، الكويت، 1993-1994، ص320.
129
122
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
وظلت فكرة المواطنة في أوروبا مع المسيحية تحت ظلال الدين. وعادت إلى داخل حدود المدينة دون أن تتجاوزها، بعدما كانت قد خرجت منها مع الرومان إلى حدود الدولة أو الإمبراطورية.
حينما جاء الإسلام، جُعلت مسألة الحقوق أولوية في الدولة الإسلامية. ووضعت موضع التنفيذ حقوق أهل الكتاب التي يشار إليها بحقوق أهل الذمة. وهي حقوق تصف معنى المواطنة وحق المواطن:
1- لم يمنع الإسلام مخالطة غير المسلمين في مجتمع واحد، وأهل الكتاب كانوا في منزلة المسلمين بالنسبة إلى رد العدوان الخارجي.
2- أهل الكتاب في موقع الحماية من أي ظلم داخلي يطال أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
3- إنفاق بيت مال المسلمين على الفقراء والمساكين لا يقتصر على المسلمين وحدهم.
4- يتولى أهل الذمة وظائف عامة شريطة ألا تكون وظائف لها علاقة بالعقيدة الإسلامية من حيث المسؤولية والإدارة.
5- حرية المعتقد مصانة في إطار احترام الكرامة الإنسانية.
إن دراسة المركز القانوني لأهل الذمة قياساً على التزامات حق الجنسية في عصرنا تفيد إلى حد بعيد أنهم كانوا يتمتعون بهذا الحق1.
1- السيد حسين، عدنان، تطور مفهوم المواطنة، مجلة الغدير، العدد 43، صيف 2008، مركز الدراسات والتوثيق، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لبنان، ص13.
130
123
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
المواطنة في المحصلة، فعل إنساني حيوي، يتراخى حقله أو يتمادى، يضيق أو يتسع، تارة تكون جغرافيا القبيلة هي حقله، وتارة تكون جغرافيا قبائل عديدة، أمة ومملكة ودولة... وهذه الجغرافيا متماسة وجغرافيات بشرية أخرى، قانونها التغالب والتنافس والتحارب، واستثناؤها التسالم والتعاطف والتحالف! المواطنة حاجة لدى كل فرد وجماعة، وهي في الوقت ذاته ممانعة ومقاومة لمشروع خارجي أو عدواني.
المواطنة ولبنان
إن مفهوم المواطنة الذي يجري توصيفه بلا تعمق وتوظيفه بلا تمعن في الحقل اللبناني، هو في حقيقته العلمية مفهوم توليفي، يجري دائماً تفكيكه إما لتوصيف فكري وإما لتوظيف طائفي، أو سياسي، أو شعائري غالباً. برزت فكرة الجمهورية سنة 1858م، مع طانيوس شاهين (باسم الجمهورية، نعلنها جمهورية). كانت الفكرة فردية ولم تبصر النور، ولقد أعلن المندوب السامي الفرنسي عام 1920قيام دولة لبنان الكبير.
وفي عام 1943 أعلن استقلال الكيان الذي قام على التغالب الطائفي، حتى سار المسار السياسي متنافياً مع إمكانيات الانصهار الاجتماعي.
فمنذ ثورة طانيوس شاهين 1858م، مروراً بكل أشكال الكيانية وصولاً إلى الجمهورية وحتى ما بعد اتفاق الطائف، نلاحظ أن الفرد في المناطق المحتسبة من أراضي الدولة اللبنانية بقدر ما كانت تجري لبننته كان يجري دفعه غرباً للتماهي مع الغريب، وكان يوضع باستمرار بين خطاب دولته التي يفترض بها أن تخاطبه بوصفه كلاًّ، وعلى أساس
131
124
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
أنه مواطن عام يتمتع بحقوقه، وبين خطاب الطائفة التي تُصادره باعتباره جزءاً منها، منفصلاً عن مجالاته الاجتماعية الأخرى، حتى التبس عليه معنى انتمائه.
إذاً، كيف يمكن أن يكون لبنان وطناً وأبناؤه منفصلون في المجالات الاجتماعية والجغرافيا على أساس طائفي ومذهبي، والدولة لا تبوح بعدد السكان المواطنين ولا بعدد الأجانب، ولا بعدد العاملين والعاطلين عن العمل، ولا بعدد الشبان ولا بعدد الأميين... الخ؟
كيف يشعر اللبناني أنه مواطن وهو يعيش في دولة بلا أعداد، لا نعرف كيف نقيس ترديها أو تقدمها الاجتماعي، ولا يمكن التأشير بعلم على معياريتها السياسية؟
الواضح أننا نعيش في دولة طائفية أنتجت مواطناً طائفياً، لبنانياً من طائفة سياسية، يعرف مسبقاً بحكم الولادة أنه غير مرشح لأية مساواة عضوية وظيفية في المجتمع، الدولة.
الإمام الصدر ورؤيته الوطن والإنسان
أ- الإمام والمشروع الوطني
وصل الإمام السيد موسى الصدر إلى لبنان قادماً من قم في أواخر العام 1959 تلبية لدعوة من أبناء المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين الذي كان قد توفي قبل أقل من عامين1.
1- توفي السيد شرف الدين في صور جنوبي لبنان، في 31/12/1957.
132
125
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
م يكتف الإمام الصدر بالأعمال التقليدية لمعظم علماء الدين في ذلك الوقت والقيام بالوعظ والإرشاد وعقد القران والطلاق والصلاة على الميت، وإنما تجاوز ذلك إلى الربط بين الوعظ الديني وبين العمل الاجتماعي والسياسي.
أثار هذا الربط حفيظة مجموعة المتريسين الدينيين والسياسيين في لبنان وخصوصاً الشيعة منهم. كان بذلك يضع حجر الأساس لمشروع المشاركة في بناء الوطن، وكسر الاحتكار السياسي العائلي والإقطاعي.
تنقل الإمام بين قرى جبل عامل ومنطقة بعلبك – الهرمل، وعكار وجبل لبنان، وتعرف بشكل مباشر إلى مستوى الحرمان والبؤس الذي تعيشه. فجعل إزالة الحرمان أحد أهمّ أهدافه، وإلى جانب المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، نبذ التفرقة وإلغاء الطائفية السياسية.
أخذ ببناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية وشارك في تأسيس عشرات المشاريع الاجتماعية والجمعيات الخيرية، بين 1960 و1969م، وأنشأ مؤسسات لإيواء الأيتام وتعليمهم، منها مهنية جبل عامل في البرج الشمالي قرب مدينة صور إلى جانب مدرسة فنية للتمريض، ومدرسة داخلية خاصة بالفتيات، ومعهد للدراسات الإسلامية... وصولاً إلى حصوله عام 1967 على قرار من مجلس النواب اللبناني بتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لتنظيم شؤون
133
126
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
الطائفة الشيعية6.أسوة بباقي الطوائف في لبنان، وانتخب عام 1969م رئيس له7.
هكذا أصبح المشروع الوطني للإمام الصدر يتمظهر شيئاً فشيئاً. وكان البيان الذي أصدره بعيد انتخابه رئيساً للمجلس الشيعي قد كشف البعد الشمولي لمشروعه، وقد ركز فيه على الأمور الآتية:
تنظيم شؤون الطائفة وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
القيام بدور إسلامي كامل، فكراً وعملاً وجهاداً.
عدم التفرقة بين المسلمين، والسعي للتوحيد الكامل.
التعاون مع الطوائف اللبنانية كافة وحفظ وحدة لبنان.
ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على استقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
محاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي والفساد الخلقي.
دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة.
أحدث الإمام، فيما دعا إليه ومارسه، هزة كبيرة زعزعت المفاهيم الثابتة والتقليدية في الفكر السياسي والثقافي اللبناني، كما أنه في فكره
1- راجع الجريدة الرسمية عدد 103 تاريخ 25/12/1967.
2- راجع مسيرة الإمام السيد موسى الصدر، يوميات ووثائق 1969- 1970 م. المجلد الثاني، بيروت، 2000، ص19
134
127
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
وبفكره كان حجة للفكر الإسلامي المعاصر. وهو فيما عمله وتوصل إليه مثّل خلاصة تجارب انطلق منها في التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي أيضاً.
أقام الإمام في اجتهاده وجهاده توازناً نوعياً مع الحاجة التاريخية لمجتمعنا المعاصر، في الوطنية والقومية والإنسانية، في مرحلة تعد من أشد المراحل صعوبة في لبنان، مدركاً تبعات موقف التوازن الذي يقفه الفقيه بين الشريعة والواقع الاجتماعي المعاصر. وقامت رؤيته على شرط اعتبار أن الإيمان بالإنسان هو البعد الأرضي للإيمان بالله، وهذا يعني حضوراً ساخناً للإنسان في المشروع الوطني العام إلى جانب مشروعه الديني.
يظهر هذا الأمر جلياً في كلام الإمام في كنيسة الكبوشيين في بيروت عام 1975 بقوله: "بقدر ما صُنا طاقات الإنسان ونميناه بقدر ما كرمناه وخلدناه" تلك هي النقطة الأساس التي يرتكز عليها مشروع الإمام ونظرته. وإذا ما رجعنا إلى منطلقاته الفكرية وإلى الأبعاد الاجتماعية لهذه المنطلقات، وطنياً وإنسانياً، نستطيع أن نستشرف منطقة الضوء التي تنبعث منها اجتهاداته نحو عالمنا المعاصر، أي نحو التعامل مع حاجات الناس في عصرنا.
"كان الإمام الصدر يحاضر في جماعة كثيرها مسيحي. كان يخاطب الإنسان. ولا أذكر أنه استشهد بآية قرآنية آنذاك. ولم أكن قد سمعت أو قرأت شيئاً من هذا عند علماء المسلمين... ثم سمعته
135
128
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
مرة يقول: ما أقوله في المسجد أستطيع ترداده في كل مكان، أي أنه كان واعياً لوحدة الكلام البشري بسبب من وحدة الناطق وصدقه".
يبتعد الإمام موسى الصدر في كلامه وتجربته عن الذين حبسوا الزمن في قصورهم ليؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان، مرحلة تأسيسية ثالثة، مرحلة اجتماعية اقتصادية، تعمل لتحرر الوطنية من الطائفية.
في حركته أتاح الإمام لجمهور الناس أن يعبروا عن احتياجاتهم بعيداً عن لعبة التوازن والتفاوت الطائفي والمناطقي. كشف لهم آفاق الإيمان والثقافة والاجتماع والسياسة، مندفعاً باتجاه تحريرهم من جملة ما يعانونه من استلاب وتهميش وحرمان عن طريق تأصيل أدوارهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... "المرض في لبنان يتلخص في أربعة هي:
غياب العدالة في حقل التنمية والفرص.
تأجيل القضايا الوطنية الكبرى، وعدم البحث في حلها أو عدم اتفاق المواطنين على الحد الأدنى من الإتفاق حولها.
أسلوب العمل السياسي في لبنان.
ابتلاؤنا بعدو يشن حروباً متنوعة ضد لبنان أهمها الحرب النفسية.
على هذا الأساس بإمكاننا القول إن الدواء واضح، فإذا بدأنا بتحقيق العدالة، وليس إنجازها، ضمن مخطط واضح يطمئن إليه المواطن، وإذا حاولنا من خلال ما يسمى بالمصالحة والمصارحة
136
129
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
الوطنية، حيث تجتمع الفئات وتطرح القضايا الأساسية، وتتفق على الأسس وتضع اتفاقاً جديداً حول الحياة في لبنان".
هنا يضع الإمام الصدر الخطاب الإيماني مقابل الخطاب الطائفي. الإيمان بالإنسان وبقدراته مهما كان دينه مسلماً أم مسيحياً ومهما كان مذهبه وفي أي منطقة من لبنان سكن. عنده أن اللبنانيين جميعاً ينبغي أن يشعروا بالانتماء إلى الوطن، إلى لبنان، إلى الدولة الحق التي تؤمن لهم العدالة، والتي تشعرهم بوجودهم الإنساني الوطني لا الطائفي.
في الوقت الذي كان فيه لبنان يعيش في الطور الثاني من تاريخه، طور الطائفية السياسية ومرحلة الاستقلال القائم على الصيغة والنظام الطائفيين، كان الإمام الصدر يسير باللبنانيين نحو شكل من أشكال الديمقراطية وتأسيس طور جديد في الحياة اللبنانية، طور الإيمان بالوطن والإنسان بصفته الإنسانية.
"الإيمان، ثم طموح الشعب اللبناني،... طموح لبنان وطموح أبنائه يفوق أحياناً التصور... إننا نؤمن بالوعي والنضوج عند أفراد الشعب...".
ينظر الإمام إلى اللبناني بوصفه طموحاً واعياً وناضجاً اجتماعياً وسياسياً، وبهذا الوعي والنضوج يستطيع أن يمارس وجوده وطموحه بل وأيضاً يستطيع أن يفهم معنى وجوده ضمن المكون الثقافي والديني المتنوع في لبنان أيضاً.
137
130
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
من المؤكد أن وجود الطوائف في المجتمع اللبناني لا يتنافى مع قيام الدولة، وهذا ما كان يشير إليه الإمام ويتحدث عنه بقوله إن "الطوائف في لبنان نعمة والطائفية نقمة" وإن وجود الطوائف لا يؤثر ولا يضر بوجود الدولة، وإنما ما يؤثر بهذا الوجود وما هدد الدولة سابقاً، ويمكن أن يهددها اليوم وغداً، هو الممارسة الخاطئة للسلطة والإدارة. وعلى هذا كان سعي الإمام الدائم لإقامة الحوار بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني لتحقيق العيش المشترك وتأمين استمراره، باعتباره ضمانة استمرار لبنان الوطن الجامع، واعتبار أن المواطن اللبناني مسؤول عن صيانة وطنه وأن "مسؤولية المواطن هي مسؤولية تاريخية". يرمي هذا الكلام للإمام موسى الصدر، إلى إحياء القضية الوطنية والانتماء الوطني، مقابل الصراع والصدام والعنف، ويُظهر بالتالي إشكالية الوطن والمواطن ودور كل منهما حيال الآخر.
إلى جانب ذلك فإن المشروع الوطني للإمام الصدر كان يرى في وجود إسرائيل وجوداً للشر المطلق. وكان يلحظ خطر هذا الكيان على لبنان والمنطقة بأسرها. واعتبره التحدي الأكبر على الصعيدين الوطني والقومي، وأن هذا الخطر يتمثل إضافة إلى الأبعاد السياسية والعسكرية، يتمثل في الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بمعنى أنه يتمثل في البعد الحضاري، وبات يشكل عائقاً أمام عمليات التطور والتقدم والنمو في البلدان العربية، ويشكل خطراً داهماً ومستمراً ومباشراً على لبنان ومجتمعه.
138
131
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
ضمّن الإمام الصدر مشروعه كيفية مواجهة هذا الخطر على المستوى اللبناني الخاص وعلى المستوى العربي العام، فدعا إلى توسيع المشاركة في القتال ضد إسرائيل وعدم اقتصارها على الفلسطينيين وإلى تربية الأجيال على هذا القتال، فنادى بإنشاء مخيمات التدريب للبنانيين وإلى تسليح أهل الجنوب وإلى مشاركة الجميع في القتال ضد إسرائيل. وأعلن في المهرجان الشعبي في بعلبك بتاريخ 17/3/1974 "أن المعركة لم تنته، نريد أن نستعد، نريد أن نربي جيلاً يتمكن من حمل السلاح... نحن بحاجة ملحة إلى التدريب العسكري... نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم كي نحفظ كرامة بيوتنا... ونؤدي دورنا في صيانة الوطن"1.
لم يكن الصراع مع إسرائيل بنظره محدوداً لا في المكان ولا في الزمان. كان صراعاً مفتوحاً على المدار الحضاري والتاريخي. وبرأيه المعركة مع إسرائيل "ذات وجوه كثيرة، فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل، معركة المصير، وهذا يعني أن المطلوب منا الاستعداد لعشرات السنين وعلى جميع الجهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات"2.
مواجهة الخطر الإسرائيلي برأيه يعني ليس فقط رد عدوان عسكري
1- راجع الصحف اللبنانية بتاريخ 18/3/1974.
2- مؤتمر صحفي للإمام نشرته الصحف في 20/11/1969.
139
132
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
وإنما الحفاظ على لبنان الوطن ووحدته. وكان يكرر دائماً "إن دعمنا للمقاومة... ينطلق من المبدأ نفسه الذي ينطلق منه السعي للحفاظ على الوطن والدفاع عنه"1.
ركز الإمام الصدر على الوحدة الوطنية في مواجهة العدو الإسرائيلي ومخاطره وأطماعه، وعدم ترك الجنوب وحيداً في هذه المواجهة، ولذلك أطلق وبنتيجة علاقاته القوية والمميزة مع رؤوساء الطوائف الروحيين في لبنان ما عرف، "بهيئة نصر الجنوب"، والتي ضمت النسيج الوطني اللبناني، لأنه كان يعتبر أن الدفاع عن الجنوب دفاع عن لبنان وأن هذا الأمر واجب كل مواطن لبناني وعربي. تشكلت الهيئة من: "المطران أنطونيوس خريش، المطران باسيلوس خوري، المطران يوسف الخوري، المطران جورجيوس حداد، المطران أثناسيوس الشاعر، المطران بولس الخوري، القس إبراهيم داغر، الشيخ محمد سليم حمود، الشيخ أحمد الزين، الشيخ رؤوف القادري، الشيخ نجيب قيس، الشيخ سليم جلال الدين، الشيخ علي الفقيه، الشيخ عبد الأمير قبلان". أصدرت هذه الهيئة بياناً لها بتاريخ 20/5/1970 تلاه الإمام الصدر ومما جاء فيه: "لا يخالنَّ خائل إذا سقط الجنوب أن سياجاً من السحر يسوء لبنان... انهضوا لنصرة الجنوب، ونصرة لبنان،... إن ساعة النفير تدق، لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانيات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب
1- المصدر نفسه.
140
133
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
ويهدد كل لبنان"1.
لقد حدد الإمام الصدر الأخطار التي تهدد وجود لبنان بخطرين أساسيين: الأول الخطر الداخلي وهو الأساسي بالنسبة إليه، وهو خطر الميوعة، خطر الذوبان، خطر الفساد، والثاني هو الخطر الخارجي المتمثل بإسرائيل. واعتبر حركته، ومن يؤيده ويناصره، قوة مواطنية تقف في مواجهة هذه الأخطار.
عمل الإمام لمواجهة هذين الخطرين ضمن المستويين السياسي والاجتماعي، إذ كان يرى أن تحسين الأوضاع الاجتماعية وسبل العيش وتأمين العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وإصلاح النظام والانتقال من مرحلة الطائفية السياسية إلى مرحلة الدولة العادلة هي وسائل أساسية لمواجهة أي خطر يتعرض له لبنان، سواء أكان خطراً داخلياً أم خطراً خارجياً.
في إطار حركته الاجتماعية والسياسية تلك يمكن أن نلحظ مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي منذ وصوله إلى لبنان عام 1959 وحتى عام 1970 بعدما نزحت المقاومة الفلسطينية إلى الأردن إثر معاركها مع الجيش الأردني إلى لبنان، واستقرت في جنوبه، والمرحلة الثانية هي من 1970 (تاريخ زيارة التحولات الإقليمية التي جعلت الجنوب أكثر سخونة) إلى آب 1978 وتغييبه في ليبيا أثناء زيارة رسمية كان يقوم بها تلبية لدعوة تلقاها من القذافي.
1- الصحف اللبنانية، 20/5/1970.
141
134
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
في المرحلة الأولى تركز عمل الإمام وخطابه التعبوي على المطالبة والدفع من أجل رفع الحرمان عن المناطق اللبنانية، ورفع الغبن السياسي والاجتماعي والتربوي والصحي والإداري "... ووضع أهدافاً كان يقول إنها تتعدى نطاق الطائفة الشيعية والمناطق التي يسكنها الشيعة، مثل مكافحة الأمية، مكافحة التشرد، تحسين الأماكن والأوضاع، محاربة الفساد، تحسين الوضع الاجتماعي ورفع الحرمان، محاربة المرض وتأمين الصحة للمناطق، الاستفادة من طاقات الشباب..."1. قام خطابه في تلك المرحلة على ثنائية التعبئة والمطالبة، فهو يتوجه إلى جمهور الناس يعبئهم ضد الظلم الاجتماعي والسياسي اللاحق بهم، لكي يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم وينهضوا للمطالبة بحقوقهم، وفي الوقت عينه يتوجه إلى الدولة ومسؤوليها وأركان السلطة، مطالباً بتحسين أوضاع اللبنانيين والمناطق والاستعداد للدفاع عن لبنان، بالتجنيد الإلزامي وتسليح الجيش وإرساله إلى الجنوب.
وكانت ثنائية أخرى تطبع هذا الخطاب، الجانب الاجتماعي – السياسي، والجانب المقاوم. فقد رأى أن خطر الحرمان لا يقل أهمية عن الخطر الإسرائيلي، وكلاهما يهدد وجود لبنان، فكان مطلبه رفع الحرمان وتصحيح النظام والعمل السياسي، والاستعداد للمواجهة، والدفاع عن لبنان انطلاقاً من الجنوب. برأيه الدفاع عن الجنوب، هو
1- راجع حواره مع عادل مالك في برنامج "سجل مفتوح" على تلفزيون لبنان، 20/6/1969. راجع جريدة "الجريدة" بتاريخ 21/6/1969 "نص الحوار".
142
135
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
دفاع عن الوطن و"الدفاع عن الوطن، عن الإنسان، وعن كرامة الإنسان، عن حرية الإنسان، دفاع عن الله"1.
في المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد 1970. وقد تميزت بالنشاط السياسي الذي يركز على دعم المقاومة الفلسطينية والاستفادة من علاقات الإمام الخارجية والداخلية لذلك، انطلاقاً من رؤيته لمخاطر الاحتلال الإسرائيلي.
عمل الإمام الصدر على دعم المقاومة الفلسطينية في قتالها ضد إسرائيل، ودافع عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
ورأى أن التأييد للمقاومة الفلسطينية يتلازم مع إعداد مقاومة لبنانية مهمتها مواجهة الأخطار المحدقة بلبنان.
شكل هذا الأمر أولوية قصوى في المشروع الوطني للإمام وعنونه بشعارين كبيرين (إسرائيل شر مطلق، والتعامل مع إسرائيل حرام). بهذين الشعارين لم يحصر الإمام مسألة المواجهة والصراع مع إسرائيل بالأرض والحدود، فالخطر الإسرائيلي يهدد الإنسان أكثر من الأرض، ويهدد الفكر والثقافة والدين والتاريخ إلى جانب الجغرافيا.
هكذا نجدنا مع الإمام الصدر نقف وجهاً لوجه أمام إشكالية الصراع مع إسرائيل، هل يمكن التوصل إلى تسوية مع الكيان الغاصب لفلسطين والطامع بأراضٍ عربية أخرى؟ أم أن الصراع أبعد من أن ينتهي بالمفاوضات
1- مؤتمر صحفي للإمام الصدر في مكتب الجامعة العربية في بون – ألمانيا، بتاريخ 10/8/1970.
143
136
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
والاتفاقيات؟ ذهب الإمام إلى أن هذا الصراع حضاري، وهو مسألة عقائدية مبدئية، وتالياً فهو لا ينتهي إلا بزوال إسرائيل ونهاية وجودها.
بين الحقل الجغرافي والحقل الحضاري، ينتصب عقل الاعتقاد لإبراز معاني الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسوريا وغير منطقة عربية. لقد ظهرت مع الأحداث والمواجهات اليومية في فلسطين وما كان يحصل في لبنان أثناء الاحتلال، الوقائع التي تؤكد صدقية رؤية الإمام الصدر لإسرائيل.
في حديث صحافي للإمام الصدر مع الصحافي من جريدة الأنوار اللبنانية يشرح فيه دوافعه لتأسيس حركة المحرومين، وموقفه من الإقطاع، يتحدث الإمام الصدر عن التهديد الإسرائيلي للجنوب، وللبنان عامة، ويقترح الإمام خطة دفاعية عن لبنان هي.
"أولاً: يجب الشروع فوراً بحملة دبلوماسية إعلامية مركزة وتشمل العالم كله لعرض الأوضاع والأخطار من خلال الاعتداءات المتواصلة، ومن خلال التهديدات الإسرائيلية المتكررة.
ثانياً: تجنيد طاقات الشعب اللبناني في الداخل وفي بلاد الاغتراب، والاستعانة بعلاقاتهم الشخصية وبنفوذهم الواسع في العالم، تلك الطاقات التي ما استثمرت حتى الآن لخدمة الوطن، ولا أدري لماذا جمدت ولأي يوم آخر ادخرت أو وفرت.
144
137
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
ثالثاً: العمل العسكري الذي لا بديل عنه على صعيد شعبي، وذلك بتدريب الشبيبة في الجنوب أولاً في المناطق الأخرى للراغبين والمتطوعين، وفي الدرجات اللاحقة للآخرين، تدريبهم وتسليحهم، وتحضيرهم لحرب الشوارع والدفاع عن قراهم ومدنهم.
رابعاً: تكليف الجيش الانتقال إلى الجنوب، ضمن خطة عسكرية سليمة، وفي مواقع معينة والدفاع المستميت عن الوطن.
كما أن الاستعانة بالأسلحة التي تقدم إلى الجيش اللبناني من أي مصدر كان، ضرورة حتمية ومشروعة في ساعات الدفاع. أما الاستعانة بالجيوش العربية، فإنني رغم قناعتي بأن حق الدفاع عن النفس وعن الوطن يفرضها، فإنني أترك التقدير للقيادة العسكرية والسياسية للبلد، لاختيار وقتها وتفاصيلها ومراعاة ملابساتها وردود فعلها"1.
يُعتبر الإمام الصدر أول من أطلق المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي فكراً وعملاً، انطلاقاً من جنوب لبنان. وينسجم هذا العمل مع ما يختزنه جبل عامل من تراث عقائدي وسياسي وتاريخ حافل بالتمرد على الظلم والاستبداد.
أعلن الإمام الصدر عن ولادة هذه المقاومة في صيف 1975 بعد
1- جريدة الأنوار، 22/1/1975.
145
138
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
حادث الانفجار في معسكر التدريب في عين البنية في منطقة بعلبك، نافياً أي دور لها في الصراع الداخلي. بتاريخ 4/7/1975 حصل الانفجار في حقل التدريب وأدى إلى استشهاد 26 شاباً وجرح 47 آخرين من مجموع 101 شاب كانوا يتدربون على لغم ضد الدبابات بإشراف مدرب خبير من المقاومة الفلسطينية. وبتاريخ 6/7/1975 عقد الإمام الصدر مؤتمراً صحفياً أعلن فيه ولادة حركة "أمل" وهي اختصار لـ "أفواج المقاومة اللبنانية".
في هذا المؤتمر قال الإمام: "هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبوا نداء الوطن الجريح الذي تستمر إسرائيل في الاعتداء عليه من كل جانب وبكل وسيلة... إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحاً ومكاسب ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته... إنهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها... أناشد الشباب اللبنانيين من كل منطقة وفي كل طائفة، ولا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعاً أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية"1.
يبدو أن الإمام لم يكن يريد الإعلان عن حركة أمل جناحاً عسكرياً لحركة المحرومين التي كان الإمام قد أعلن عن إنشائها في العام 1974
1- راجع النص في جريدة النهار 7/7/1975.
146
139
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
حركة مطلبية إصلاحية، والتي ضمت قيادات ونُخباً سياسية وشعبية من كافة الطوائف. لكن ما حصل في عين البنية من انفجار واستشهاد المقاومين هو الذي دفع إلى الإعلان عن الحركة المقاومة والتي كان يعمل للبقاء سرية.
يمكن القول إن الإمام زاوجَ بين مشروع الإصلاح الداخلي ومشروع المقاومة، خاصة وأن الفساد والحرمان والاحتلال برأيه تهدد وجود الوطن.
بتاريخ 28 تموز 1976م. شرح الإمام الصدر أهداف حركة أمل في مقالة له (لماذا نقاتل؟) قال فيها:
"نقاتل في سبيل الله...
نقاتل في سبيل الإنسان: الوطن هو إنسان الجماعة، نقاتل لحمايته من الاعتداء، الوطن، وهو الجنوب، الحق الذي يتعرض لتجاوزات إسرائيل وهي الباطل بعينه.
نقاتل من أجل الوطن ودفاعاً عنه وعن إنسانه... ومن أجل وحدة لبنان، من أجل منع قيام إسرائيل أخرى، أو إسرائيليات تدعم إسرائيل الأم.
نقاتل لكي نمنع تصنيف الإنسان وتحقيره وتشويهه تحت كابوس الفكر الإسرائيلي... ولأجل الحفاظ على الشعلة الإنسانية الحقة والعادلة ولأجل المقاومة الفلسطينية ضد الشر المطلق إسرائيل"1.
1- مجلة أمل ورسالة، 27/7/1976م.
147
140
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
إن مضمون المسألة هنا يتجلى في سعيه لصيانة الوطن وحفظه ووضعه خطة ونهجاً دفاعياً مقاوماً في مواجهة الشر المطلق الذي يتهدد الإنسان تاريخاً وحضارة وجغرافيا.
ب- المواطنة في مشروع الإمام
لا تنحصر مسألة المواطنة في نص محدد للإمام، فالالتزام بالوطن ليس نصاً مكتوباً أو محكياً، بل هو أكثر من ذلك: إنه عمل، عطاء وإيثار. هنا يبدو العقل الوطني، عقل إيمان وجهد أنضج عالماً كثيفاً من الرؤى والمواقف الكاشفة للأبعاد الوطنية، وإمكانية تجاوز السدود التي تعيق تشارك اللبنانيين في صناعة تاريخ لبنان.
لقد واجه الإمام الصدر بجرأة نادرة عدداً من المشكلات ذات الحساسية المفرطة في الحياة اللبنانية، وأعلن إيمانه بأن "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وأن الطائفية نقمة والطوائف نعمة، وأن التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها".
لقد أوجد الإمام أملاً مشتركاً يجمع بين اللبنانيين، يلعب دوراً أساسياً وإلى أبعد الحدود في تجديد حياتهم، أوجد لهم بداية تكشف القيمة الحقيقية لأفعالهم وانتمائهم.
لقد أراد الإمام إجراء قفزة انتقالية بالفكر اللبناني من الأسطوري إلى العقلي، من التخيلي والوهمي إلى الواقعي، قفزة تولد المعنى، تفصل بين الوهم والحقيقة، تجدد الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي
148
141
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
والاقتصادي. على أن ذلك لا يعني إلغاء التاريخ ورفض الماضي، وإنما إعادة تقويم لثقافة الماضي والحاضر وما تتضمنه، إعادة تقويم للسلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، إعادة النظر في الخطاب السياسي اللبناني بعيداً عن التوظيفات الفكرويّة التي تحاول اختصار الأصول وماهيتها في معانٍ محددة.
"أعتقد أن الوحدة الوطنية لها معنى أعمق من توحيد المصالح أو واجب احترام الميثاق الوطني والإيمان بالعيش المشترك، الوحدة الوطنية في الحقيقة هي وحدة الأفكار والقلوب. إنها وحدة الأهداف ووحدة كل المواطنين في الأهداف والمعايير العامة لوجود الإنسان"1.
قام الإمام الصدر بتحليل الواقع السياسي اللبناني وواقع الحياة اللبنانية، فقدم مشروعه الذي ينظر في الواقع ويفهمه، بمعزل عن لعبة المصالح والتسويات والمحاصصة، والاعتقادات، والتوظيف السلطوي للحقلين الاجتماعي والديني، لقد وضع وبدقة مفهوماً للوطنية من منظار الإيمان بالوطن والإنسان. حوّل الإنسان اللامعياري في لبنان إلى معيار لكل المسالك الاجتماعية والسياسية والفكرية الوطنية. بكلام آخر رفع الإنسان من عزلته الطائفية ومن داخل شرنقة الخوف الطائفي من الآخر، وتسامى به فوق واقع التشرذم والخلاف، ويعود ذلك إلى
1- راجع حوار الإمام مع عادل مالك – تلفزيون لبنان، ونص جريدة "الجريدة" 21/6/1969، مرجع سابق.
149
142
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
قوة الإيمان بهذا الإنسان وقدراته. "يجب على المواطنين أن يحترموا بعضهم (بعضاً) ويحترم كل منهم وجود ورأي وماضي ومعتقدات الآخرين... يجب على كل مواطن أن يقتنع أنه من أجل تحقيق الوحدة الوطنية يجب عليه أن يكون صادقاً، أولاً مع نفسه، وفيما بعد مع الآخرين... هكذا نخلق جواً مناسباً للتفاهم وننطلق نحو الوحدة الوطنية الحقيقية"1.
استطاع الإمام الكشف عن وضعية الانشطار السياسي والثقافي الاجتماعي اللبناني كشفاً حقيقياً، فأصبح بإمكانه تقديم الأطروحة التي تستطيع أن تؤسس للبنان جديد يمتلك التاريخ ولا يمتلكه التاريخ، لبنان طوائفي لا طائفي، لبنان الانتماء لا اللجوء والتوازن، لبنان الوطن. الواضح أنه عند الإمام هناك فرد تاريخي. ووطن تاريخي، لا طائفي، آمن به وتصرف معه على هذا الأساس. لقد أعطى للإنسان وللوطن علاقة فريدة ومميزة في واقعهم وحاضرهم.
"الشعور بمعنى الأرض والوطن موجود، يحتاج إلى تنمية وإبراز، وهذا يحصل عن طريق العدالة الاجتماعية وإشعار المواطن بأنه يتمتع بوطنه عزيز في أرضه... إن المواطن اللبناني لا يطلب من المسؤولين إبداع المعجزات... لكنه يرفض التمييز بين المناطق والفئات والمواطنين، فإذا تأمن له ذلك،... فقد صنعنا مواطناً يستأهل
1- المصدر نفسه.
150
143
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
أن يكون بلده لبنان، وطن الجمال والجلال، بلد السيف والعلم".
حاول المشروع الوطني للإمام، والمتسم بما وصفناه سابقاً، أن يقرب المواطن من الوطن، هذا يعني أن المواطنية، الانتماء للوطن في علاقة إيمانية لطيفة، يصعب وصفها على غير شاهدها ومعانيها، وسيتواصل تفتحها بقدر تفتح الجماعة البشرية المنضوية بثقافتها في علاقة المواطنة.
كل إيمان وطني ينطلق من إطار اجتماعي للمعرفة ويولد في مدار حضاري ولادة تاريخية عقلية. والإيمان الوطني بكل تلاوينه وتطبيقاته، شكل معرفي يعبر عن مستوى وعي تاريخي معين.
يذهب الإمام الصدر إلى تقديم الإيمان بالوطن على أنه واجب وحق "ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وإن الحق دون واجب صفة للمزرعة، وإن الواجب دون حق استعمار محض وكلا الأمرين مرفوض"1.
ينبه الإمام إلى أن اختلال العدالة وازدياد الفروق، وتقنن الظلم، وانحياز الموازنة والوظائف والنشاطات والمشاريع والقوانين، وممارسة الحكام للتوازن الطائفي جعل الوطن كله جامداً خائفاً"2.
ويضيف "إن المأساة المعاشة يومياً والتي تقضي على مستقبل لبنان وتقلب كل طموح إلى التقهقر بل تقضي على مجرد وجود لبنان
1- راجع العدد الخاص لصحيفة النهار لسنة 1974، صدر في نهاية السنة، تضمن لقاءً صحفياً مع الإمام الصدر.
2- المصدر نفسه.
151
144
المواطنة في فكر الإمام السيد موسى الصدر
وتؤكد فشل التجربة الحضارية في مرحلة بناء الوطن.. وأخطر من هذا فإن النظام الطائفي الممارس بهذا الشكل قد ابتلع العلاج أيضاً... والحل في حركة وطنية متآلفة دافئة تتخطى الحواجز المصطنعة بين أبناء هذا الوطن، حركة تكون قوية، أبوية، موثوقة، مضحية، موضوعية، حركة تعتمد على جذور عميقة من الإيمان بالله، وبالوطن وبالإنسان... والعلاج في تكوين دولة الحق وتحمل مسؤولياتها الكاملة، حتى يشعر المواطن بأن الانتماء إلى الوطن هو البديل الكافي عن الانتماءات الأخرى لحمايته، ولصيانة حريته وقوته وكرامته"1.
ويربط الإمام بين تحرك المواطنين وقيام الدولة موضحاً بذلك مسار التحول في المعرفة الوطنية، فالمواطنة لا تكتمل إلا بطلبها والعمل بها. وهي تحرس الوطن وهو يحرسها.
ويبدو أن مفهوم المواطنة عند الإمام يتصل بالسعي له من قبل جمهور الناس لإخراجه من الظلمة إلى النور، ومن قبل الدولة بالعدالة الاجتماعية، وبقدر ما يستند عند بعض الناس إلى مصادرات اعتقادية، في التاريخ وما بعده، يدور عند الإمام داخل التاريخ المعاش، حول نواة المفاهيم المركزية التي تشكل غلافاً فكرياً لفضاء الحكم. من تلك المفاهيم العدالة الاجتماعية، المساواة بين المناطق والمواطنين، صيانة الوطن وحفظه.
1- المصدر نفسه.
152
145
القسم الثاني
القسم الثاني
ولاية الفقيه وواقع التنوع في لبنان
1.حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
سماحة الشيخ نعيم قاسم
2.ولاية الفقيه بين تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتجربة حزب الله
الدكتور غسان طه
3.ولاية الفقيه والدولة في لبنان نفي التعارض عبر تأصيل المفاهيم
الأستاذ حسن محمود شعبان
4.المواطنية وولاية الفقيه في مجتمع متعدد (لبنان نموذجاً)
الدكتور بلال نعيم
153
146
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
سماحة الشيخ نعيم قاسم1
تعريف الوطن
الوطن حيِّزٌ جغرافي له حدود، تكونت من خلال مسار وتطورات تاريخية، ينتمي إليه من وُلد فيه، ما يُكسبه حقوق المواطنة، ولا يملك أحد حق نزع هذه الصفة عنه. فالوطن لجميع أبنائه الذين ولدوا فيه.
الولاء للوطن: تعبيرٌ ملتبس، حيث تختلط فيه الجغرافيا بالسياسة، فإذا ما كان المقصود هو الارتباط الجغرافي، فكل فرد مواطن ما لم يتخلَّ عن جنسيته ليختار جنسية أخرى في بلدٍ آخر. وإذا ما كان المقصود الموقف السياسي، فسيأتي الحديث عن قواعد الولاء وتطبيقاتها، لنعرف كيفية ارتباط المواطن بوطنه.
تعريف الإسلام: الإسلام هو آخر رسالة سماوية أتى بها سيد الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تحمل منهجاً كاملاً للحياة، ففيها العقيدة والشريعة، وهي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية
1- نائب الأمين العام لحزب الله
155
147
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
واقتصادية كاملة صالحة للفرد والجماعة، ولنظام حكم الدولة طبق تعاليمها، وهي دعوة إلهية تحث الناس على أن يلتزموها، فلا تقتصر على علاقة الإنسان بربه وبنفسه، وإنما تشمل تنظيم علاقات الناس كافة، إذا ما اختاروا تطبيقها في حياتهم ودولتهم.
ولي أمر المسلمين: قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾1، فهو الآمر الناهي للمؤمنين، وقد أمرهم بالطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأولي الأمر الذين يتولون شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾2 والواضح أن السلطة من الموقع الديني لأولي الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن للمؤمن أن تبرأ ذمته أمام الله تعالى إلاَّ إذا التزم أوامر وتوجيهات الولي، وهذه مسألة إيمانية عقيدية، ولكن من هو الولي؟ وما هي حدود سلطته على المؤمنين؟ وما تأثير ذلك في وطن لا يتبنى نظامه السياسي الحكم الإسلامي على أساس قيادة "ولاية الأمر"؟ هذا ما سيتضح إن شاء الله تعالى في طيات هذا البحث.
1- البقرة: 257.
2- النساء: 59.
156
148
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
حزب الله: انطلق حزب الله على أساس التزامه بالإسلام عقيدة وشريعة، ويضم في صفوفه من يؤمن بالإسلام كمنهج حياة. وهو يلتزم قيادة الولي الفقيه انسجاماً مع إيمانه بولاية الأمر، كركنٍ أساس لهذا الإيمان، ويتحرك في الساحة كحزب لبناني له تطلعاته وآراؤه ومساهماته في حماية الوطن وإدارته. وقد برز بمقاومته لإسرائيل المحتلَّة في مفصل تاريخي واكب نشأته وقناعاته، وله رؤيته المتكاملة كحزب جهادي سياسي من كل القضايا المطروحة على الساحة، والتي يترجمها عملياً من خلال المواقف التي يتخذها، ومنها ما سنبينه في النظرة إلى الوطن وولاية الفقيه.
المبدأ واتجاهاته
يحتاج الإنسان إلى مبدأ أو رؤية أو منهج يؤمن به في حياته، ليرسم معالمه على أساسه، ما يؤمِّن له ترابط خطواته انطلاقاً من هذا المبدأ. والقاعدة الأمثل أن يختار الإنسان مبدأه بقناعة عقلية بعيداً عن المؤثرات المجتمعية الضاغطة. لكنَّ المجتمع بعاداته وموروثاته يؤثر غالباً في تشويش الصورة. لكنَّها مسؤولية الإنسان في بحثه عن خياره، وهو الأمر الاعتقادي الذي تتأثر به كل حياته فكرياً وسياسياً واجتماعياً... فالمنطلق قبل كل شيء يبدأ من عقيدة الإنسان، ما يعتقده ويؤمن به ويعتبره مبدأ له ومنهاجاً، والذي ينعكس
157
149
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
على حياته وسلوكه على جميع الأصعدة في المجتمع، فإذا ما اختار الشريعة المنسجمة مع هذه العقيدة حقَّق الترابط الأفضل في إطار المبدأ الذي آمن به.
اختلفت عقائد الناس عبر التاريخ، فانقسموا إلى اتجاهين كبيرين متباينين:
1- الاتجاه الإلهي: بإتباع الأنبياء والرسل وتعاليمهم بحذافيرها.
2- الاتجاه المادي: بتحديد تعاليم ابتدعها الناس من خلال مفكريهم وقياداتهم وزعمائهم، مبنية على رؤيتهم المادية للحياة..
ثم اختلطت الأمور اختلاطاً كبيراً، فتمايز الاتجاهان مع مرور الزمان بخلافٍ حاد بينهما، وفي الوقت نفسه صاحبهما اتجاهات كثيرة مزجت وحذفت وعدَّلت بين الاتجاهين، فنشأت اتجاهات جديدة مختلفة تماماً عنهما، لها خصوصياتها ومعالمها البارزة.
برز الإسلام كاتجاه إلهي يحمل منظومة متكاملة منذ ألف وأربعمائة سنة ونيِّف، في حياة المؤمنين به من ناحية، وفي موقع الحكم والسلطة من ناحية أخرى. ولكنَّ الكثير من ممارسات الحكام والدول شوَّهت وأساءت وراكمت سلبياتٍ لا علاقة لها بالإسلام، أضرَّت كثيراً بهذه التجربة، ومنها بدعة وراثة الحكم، والنزاعات الدموية على السلطة،
158
150
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وقهر المواطنين على إتباع مذهب السلطان... وإنْ بقيت الشريعة من خلال الأحكام الشرعية في المعاملات محفوظة بالإجمال، والعهدة على سلامة التطبيق ومداه.
كما تمَّت صياغة وتطبيق أنظمة حكم مادية عبر التاريخ، كان أبرزها كصيغ مترابطة ما اشتهر في القرنين الأخيرين من خلال الاتجاهين الشيوعي والرأسمالي. وقد طغى على الشيوعي الجانب العقيدي فبرز بوضوح أنه موجِّه للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن هذا الطغيان موجوداً في الاتجاه الرأسمالي الذي آثر في عقيدته حرية الفرد بما فيها حرية الاعتقاد، متجاوزاً إلى رسم معالم المنظومة الاقتصادية المجتمعية على أساس آراء المفكرين الذين صاغوا المبدأ الرأسمالي.
ومع نشوء الدول وانقسامها، كما هي موزعة اليوم، أصبحنا أمام اتجاهات سياسية حاكمة كثيرة التنوع، وإن كانت المعالم الأساسية في أنظمة حكم العالم بشكل عام هي الأنظمة المادية، التي استفادت من بعضٍ من التشريعات الإلهية، واستقلت ببعضٍ آخر، وتفاوتت فيما بينها.
العقيدة والشريعة: يحتاج الإنسان إلى مبدأ، وهو ما نعبِّر عنه بأمرين متلازمين: العقيدة التي يؤمن بها وهي التي تتعلق بالنظرة إلى الخالق وطبيعة الحياة ودور الإنسان فيها،
159
151
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
والشريعة أو "طريقة الحياة" التي تنظم الحياة والعلاقات بين الناس، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...
تنعكس العقيدة على حياة الفرد الشخصية، فإذا ما كان مؤمناً بالله تعالى التزم بالعبادات، وامتنع عن المحرمات، وذلك بحسب ما تمليه عقيدته الإيمانية، وإذا ما كان ملحداً، انعكس إلحاده على ما يفعله وما يرفضه في حياته الشخصية بحرية تامة تعود إلى تقديره فيما يناسب أو لا يناسب، وكذلك إذا لم يكن مؤمناً ولا كافراً بحدودٍ واضحة، وإنما في حالة اعتقاد انتقائية، يعود الأمر إلى تقديره للخير والشر، وللعادات التي نما عليها واقتنع بها. فبذلك تكون العقيدة مؤثرة على السلوك الفردي، وعلى العلاقات مع الناس بتطبيق ما في الشريعة في هذا المجال، وهو إطار محدود وضيِّق، لأنَّ الإطار الأرحب في العلاقات بين الناس يتمثَّل في نظام الحكم.
أمَّا الشريعة فهي المدى الأوسع الذي تشمل معاملات الناس كلها، ومنها ما يرتبط بنظام الحكم، وبذلك يمكن أن تكون الشريعة قاعدة لنظام الحكم السائد في البلد، فيطبقها الأفراد كقوانين، أو أن لا تُطبَّق كنظام للحكم فيختار الأفراد من الشريعة ما يستطيعونه في علاقاتهم اليومية في التعامل الاجتماعي والاقتصادي بما لا يتصادم مع النظام العام، أو بما يدخل في المعاملات الفردية. فالشريعة تؤدي إلى نظام الحكم في الدولة، فإنْ لم يتحقق هذا الأمر، فهي تطبيقات محدودة في حياة الأفراد بحسب إيمانهم وبما يتاح لهم.
160
152
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
بما أنَّ خيارات الناس مختلفة ومتنوعة جداً، فسنكون أمام حالات عدة، في الحالة الفردية وحالة الجماعة.
1- على المستوى الفردي: إمَّا أن يحمل الفرد على مستوى العقيدة والشريعة أو "طريقة الحياة" رؤية متجانسة، بارتباط الشريعة بالعقيدة، وإمَّا ان تكون رؤيته غير متجانسة بعدم ارتباطهما، فتكون العقيدة من اتجاه، والشريعة أو "طريقة الحياة" من اتجاهٍ آخر. فيطبِّق من الشريعة أو "طريقة الحياة" في حياته الفردية، بحسب ما يحمله طابع التكليف الفردي ومستوى إيمان هذا الفرد، ويسعى لتُطبِّق الجماعة في حياتها ما يؤمن به.
2– على مستوى الجماعة: بما أن المجتمعات اليوم محكومة في إطار دول لها حدود جغرافية، فإنَّ الانتظام العام لاستمرارية أي دولة واستقرارها، أن تختار نظام الحكم فيها، وأن يكون لها قوانين وأنظمة تنسجم مع خياراتها، وتتضمن آليات التغيير والتعديل فيها، وبالتالي فلا يمكن لجماعة واحدة داخل الدولة الواحدة أن تنفرد بما تريد، ولا تستطيع أن تفرض ما تريد، وبالتالي فإنَّ ترويج كل جماعة لأفكارها وقناعاتها والدفاع عنها، جزء لا يتجزأ من محاولة تكوين الرأي العام في الدولة، الذي ينتج عنه التوافق أو الأرجحية، ثم يتكون نظام الدولة.
161
153
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أمَّا رغبة تغيير نظام الحكم أو تثبيته، والتعبير عن الرضا به أو عدمه، فهو أمر يعود للأفراد أو الجماعات في كيفية تظهير قناعاتهم، وعندها يكون تقييم كل حزب أو حركة أو جماعة من خلال طروحاتهم، وما يتخذه مواطنو الدولة من موقف بتأييد أو رفض هذه الطروحات. فالشريعة أو "طريقة الحياة" للجماعة تتجلَّى بنظام الحكم الذي لا يُطبَّق في دولةٍ ما لمجرد إيمان أفراد أو جماعةٍ ما به، بل هو مسارٌ معقَّد لتثبيت اختيار نظام الحكم تتداخل فيه عوامل كثيرة. فإذا ما كانت الشريعة مختلفة عما يؤمن به الفرد أو الجماعة، فهذا لا يمنعهم من التعبير النظري عن إيمانهم، وتطبيق ما أمكن من الشريعة في حياتهم الخاصة، وهو حق مشروع لجميع الناس في التعبير عن الموقف، من دون إكراه أو فرضٍ بالقوة.
الحزب الإسلامي
يؤمن حزب الله بالإسلام عقيدة وشريعة من الموقع المبدئي، ويرى أن عمله السياسي في الساحة، وأداءه المقاوم لتحرير الأرض والدفاع عنها، وحمل مطالب الناس الاجتماعية والاقتصادية، وسلوكه الحزبي الذي يؤدي إلى الإنتماء إليه، ووجود المناصرين حوله، كل ذلك انعكاسٌ لرؤيته المبدئية.
فالحزب الذي عُرف منذ النشأة بجهاده ومقاومته للاحتلال
162
154
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الصهيوني، يحمل الرؤية المتكاملة للإسلام، ويعمل على أساسها في كل الميادين السياسية والاجتماعية وغيرها في بلده، من ضمن تحديده لمتطلبات الساحة وأولوياتها. فإذا ما برز بمقاومته لإسرائيل إلى درجة اعتباره حزب المقاومة، فلأنَّ هذه المرحلة المثقلة بالاحتلال تتطلب أولوية الاهتمام بطرد المحتل، وتحرير الأرض، وحشد كل الطاقات والإمكانات لذلك. وقد تحقَّق انجاز التحرير عام 2000 الذي انعكس على كل الواقع اللبناني، وجعل العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحمل هموم وقضايا الناس أموراً نافعة ومؤثرة. تبقى المقاومة أولوية بوتيرة تنسجم مع طبيعة كل مرحلة، وترتبط باستمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من ناحية، ووجود اسرائيل كمحتلٍ للأرض الفلسطينية يمثِّل خطراً حقيقياً وتهديداً دائماً بالحرب والقتل ومحاولة فرض الحلول السياسية للسيطرة على المنطقة من جهة أخرى.
أخطأت الدوائر الغربية بسعيها لعرض مقايضةٍ على الحزب، بالتخلي عن المقاومة مقابل إعطائه دوراً سياسياً فاعلاً في الحياة اللبنانية، لأنَّ الحزب بإيمانه مقاومٌ وسياسي، وله مشروع متكامل، ويعمل كما تعمل الأحزاب في ساحاتها، ويعتبر مقاومته جزءاً من أهدافه وبرامجه، وهو لا يبحث عن دور سياسي ممنوح، فدوره يتشكَّل من خلال نشاطاته وقناعة الناس بأهليته لقيادتها. وعندما لا يستثمر نجاحه المقاوم في تحقيق إنجازات سياسية داخلية، فلأنَّه مقتنع بأنَّ مسار المقاومة له مستلزماته ونتائجه، ومسار العمل السياسي له مستلزماته ونتائجه،
163
155
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ولا يصح استخدام قوة المقاومة لفرض شروط سياسية في الداخل.فمن وجهة نظر الحزب يجب احترام آليات العمل السياسي وخياراته السلمية بعيداً عن السلاح والقوة والفرض. وعندما يضحي الحزب ببعض المكتسبات السياسية لمصلحة العمل المقاوم، فلا يرتبط الأمر بالمقايضة، وإنما بأولوية المقاومة لديه، لإيمانه بأنَّ نتائج عملها أوسع وأشمل وأكثر فائدة وانعكاساً لمصلحة رؤيته ومصلحة البلد بشكل عام. ومع ذلك فإنَّ حضوره السياسي والشعبي يزداد بشكل كبير، ويترك بصماته بوضوح على الحياة السياسية والعامة في لبنان.
حزب الله ليس تنظيماً للطائفة التي ينتمي إليها الغالبية الساحقة من أفراده والمؤيدين المباشرين لخطِّه ومنهجه، بل مشروعٌ مبدئي يلتزم الإسلام. إنَّه حزبٌ إسلامي، انضم إليه من يؤمن بمشروعه، ومن الطبيعي أن يكون الأغلب الأعم من طائفة محدَّدة، لأنَّ خيارات الناس في الأفكار المبدئية تتأثر بشكل كبير بالبيئة التي نشأوا فيها وترعرعوا عليها، وعادة ما تكون التحولات في أي بيئة مغايرة بطيئة وطويلة الأمد.
وبما أن الحرية متاحة لكل فرد في المجتمع أن يؤمن بالمبدأ الذي يراه، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بعدم إكراه أحد على الالتزام بالدين، أو اختيار المنهج الذي يريده، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
164
156
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
َ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1، فقد دعا الحزب الراغبين المؤمنين بمبدئه للانتماء إليه ونصرته، ولا علاقة له بالخيارات الأخرى لدى بعض الناس، والتي تُترجَمُ أحزاباً وحركاتٍ وتجمعات، تطرح قناعاتها ومشاريعها لجذب الناس إليها، فحرية الاختيار حقٌّ مشروع للجميع من دون استثناء وفي كل الاتجاهات.
إنَّ الدعوة الى الإسلام جزء لا يتجزأ من رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا وضَّح القرآن الكريم دور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الدعوة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾2، وأمر المؤمنين بالسير على خطاه، على أن يلتزموا في دعوتهم الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾3، انسجاماً مع سياق عدم الإكراه، وعرض المشروع الإلهي على الناس ليتبيَّنوا ويفكروا ويختاروا، وهكذا اختار حزب الله أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ دعوته، بالأسلوب الأمثل، بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى جانب جهاده في سبيل الله تعالى.
1- البقرة: 256.
2- الأحزاب: 45- 48.
3- النحل: 125.
165
157
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وعندما نتحدث عن حزب الله كحزب إسلامي، فهذا لا يعني وجود صورةٍ واحدة في العالم عن الحزب الإسلامي لتنطبق عليه. فقد تفاوتت الأحزاب الإسلامية كثيراً، ماضياً وحاضراً، في مشروعها السياسي، وآليات عملها، وأولوياتها في بلدانها، وتعاطيها مع الأمة الإسلامية على امتداد العالم، ونظرتها إلى أوطانها، وأساليب تعبيرها... فأصبح لا يجمعها إلاَّ عنوان الإسلام، بينما تفرِّقها المضامين والطروحات التي تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.
فمن الأحزاب الإسلامية من يرى وجوب فرض الحكم الإسلامي بالقوة العسكرية، وقتل المخالفين القريبين قبل الأعداء، وأن حزبهم يمثل الفرقة الناجية، أمَّا الباقون فهم كفارٌ أصليون أو مرتدون عن الإسلام، وأنَّ فريضة الجهاد مسؤوليتهم لإقامة الحكم الإسلامي بالقوة في مواجهة مخالفيهم وأعدائهم.
ومنها من يرى وجوب النأي عن العمل السياسي، وترك الأمر للحكام، والاكتفاء بالدعوة الثقافية التربوية إلى الإسلام، وتكثير المؤمنين، والمحافظة على التزامهم الديني بعيداً عن الحكم والسياسة.
ومنها من يرى وجوب الجهاد لمواجهة الأعداء والمحتلين، على أن يكون العمل الدعوي والسياسي في بلدانهم بطريقة الإقناع والعمل الهادئ البنَّاء، فلا قتال لفرض الدين أو الحكم الإسلامي.
ومنها من لا يرى ضيراً في أن يكون في كنف الاستكبار العالمي ليصل إلى مبتغاه، على قاعدة أنَّ الغاية الشريفة تبرر أي وسيلة،
166
158
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وأن خدمة الدين تتم بكل الوسائل والأساليب المتاحة.
ومنها من يحمل آراء أخرى لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، كي لا نخرج عن سياق بحثنا. لكنَّ الواضح هو عدم وجود تصور واحد للحزب الإسلامي. ولذا يصبح الحديث عن حزب الله بخصوصيته أجدى للتعريف عنه وعن رؤيته، بدل الإسقاطات الفكرية أو السياسية التي تتم استعارتها من هنا وهناك، والتي تعطي عنه صورة غير واقعية.
تعددت المذاهب الإسلامية بسبب الاختلاف في تفسير أصول الدين وفروعه. ومع أن المشتركات بينها كثيرة جداً، إلاَّ أن اعتبار كل مذهب تفسيره هو الأصح، والمبرئ للذمة أمام الله تعالى، والمنسجم مع ما أمر الله تعالى ونهى، جعل المذاهب حالة واقعية متجذِّرة، فيما يعتبر دعاة كل مذهب - بحسب علمائه ومؤيديه - أنَّه الطريق الأسلم للالتزام الدقيق بالمنهج الإلهي وهو الإسلام.
يلتزم حزب الله كحزب إسلامي المذهب الشيعي "الإثني عشري" كطريق لتطبيق تعاليم الإسلام، متقيداً بمبانيه وأحكامه في أصول الدين وفروعه، أي في العقيدة والشريعة. وكما ذكرنا سابقاً، فإنَّ من العقيدة الإيمان بالله تعالى، الذي أرسل رسله إلى الناس ليؤمنوا برسالاته، وآخرهم سيد الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أتى برسالة الإسلام، وهذا ما يؤسِّس لتبني الشريعة الإسلامية التي فيها العبادات والمعاملات، وتتضمن قواعد وأحكام النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على مستوى الحياة.
167
159
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
مرجع التقليد
إنَّ مهمة العلماء الفقهاء تحديد وتبيان أحكام الشريعة، من خلال إطلاعهم ودراستهم وبحثهم في كتاب الله تعالى القرآن الكريم، والسنة الشريفة بما فيها من قول وفعل وتقرير، للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة المعصومين عليهم السلام. فهم الذين يجتهدون لتفصيل الأحكام الشرعية بأقسامها الخمسة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح، ليكون المكلَّف، رجلاً أو امرأة، عارفاً بالحلال والحرام، مدركاً مسؤوليته تجاه الأعمال والوقائع المختلفة. وبما أنَّ عدداً من الفقهاء قادرٌ على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فهؤلاء مجتهدون، ومن أجل مركزة الآراء الاجتهادية بما يحقق الاطمئنان لدقة وسلامة الاجتهاد، فقد أجمع الفقهاء تقريباً على أن يتصدَّى أعلم المجتهدين، ليكون المرجع الذي يعود الناس إليه فيقلدونه، ويأخذون منه الفتاوى والأحكام الشرعية. ولذا أصبح مصطلح "المرجع الأعلى" أو "مرجع التقليد" يرمز إلى أعلى الفقهاء رتبة علمية تجعله مرجعاً للمكلفين، "مُقلَّداً" منهم، يعودون إليه لمعرفة تكليفهم بحسب الأحكام الشرعية. وعندما يختلف العلماء في تحديد الأعلم المتصدي لشؤون المرجعية، يتعدد المراجع، وكذا عندما لا يقول بعضهم بتصدي الأعلم، فيتصدى غير الأعلم، يتعدد "المقلَّدون".
168
160
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وبما أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع وأكملها، أتمَّ الله تعالى النعمة بها، ورضيها للناس، وجعلها خالدة باقية ما بقيت الحياة، محفوظة عن التحريف، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1، وهي التي تعالج ثوابت الفطرة الإنسانية، وتضع القواعد والحلول المرنة للمتغيرات، ما يجعل الحاجة إليها مستمرة في كل زمان ومكان.
وبما أنَّ تغير الزمان والظروف سيُنشئ متطلبات جديدة في حياة الناس، وأسئلة مستحدثة حول الأحكام الشرعية، كما أنَّ تطور الفهم البشري سيؤدي إلى استيعاب أفضل لمضمون الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن المعصومين، فضلاً عن تراكم الخبرة واتساع المعرفة في تسليط الضوء على جوانب جديدة أو فهمٍ أفضل لحدود بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ الحاجة إلى " مرجع التقليد" الحي في كل زمان تصبح ضرورية، كي لا يجمَّد التشريع مقتصراً على حقبة زمنية بخصوصياتها من دون غيرها. لذا بقي باب الاجتهاد مفتوحاً، ورجَّح الفقهاء ضرورة عودة المكلفين في كل زمان إلى مرجع زمانهم الأعلم لتقليده، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلِّدوه"2.
تحديد المرجع في زمانه مرتبطٌ بعلمه وتصدِّيه للمرجعية، فعلمه
1- الحجر: 9.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص: 131.
169
161
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
بالشريعة وتقواه يؤهلانه لأن يلتزم المؤمنون باجتهاده في "المسائل العملية" التي يحتاجها المكلَّف، على امتداد الكرة الأرضية، ولا توجد أي أهمية لمكان ولادة المرجع أو جنسيته، فهو يبيِّن الأحكام الشرعية للمكلفين، ولا يقدم لهم قوانين وأنظمة بلد معين، ولا ينظم شؤونهم في منظومة حزبية أو هيكلية تنظيمية مرتبطة به، وإنما يرتبطون به بما يعرِّفهم تكليفهم، ليديروا شؤونهم في بلدانهم ومواقعهم المختلفة، داخل العائلة أو العمل أو الحياة العامة، وعلى مسؤوليتهم، وبمعنى آخر: المرجع يبيِّن لهم طريق الحلال والحرام المفصَّلة بالأحكام الشرعية، والمكلَّف ينفِّذ على مسؤوليته في هذا الإطار. فالمرجع في زمانه مرجعٌ لأهل الزمان في كل البلدان، وذلك لمن اختار مرجعيته وآمن بها.
دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وامتداد الولاية: الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيٌّ معصوم، بلَّغ رسالة الله تعالى إلى البشرية وهي الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾1، وهو القدوة التي علينا الاحتذاء بها، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾2. وقد عمل من موقعة كداعية إلى الله تعالى، وكقائد للأمة في شتى المجالات. فعلَّم المؤمنين وربَّاهم على رسالة الإسلام، وعرَّفهم الأحكام الشرعية في عباداتهم ومعاملاتهم، وطلب منهم أن يلتزموا ما التزمه، فقال لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"3،
1- الحشر: 7.
2- الأحزاب: 21.
3- صحيح البخاري، ج1، ص: 155.
170
162
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "خذوا عني مناسككم"1، وهذَّب أخلاقهم، وبشَّرهم بالجنة، وأنذرهم من النار، كل ذلك في إطار دعوتهم إلى الله تعالى. كما قادهم في بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فكان رئيساً لأول دولة إسلامية، وقادهم في الغزوات والحروب والدفاع في وجه المعتدين على الدولة الناشئة، كل ذلك في مشهد متكامل ومترابط، ومنسجم مع الإسلام الذي لا يفصل بين العبادة والسياسة، بين الحياة الخاصة والعامة، ما يشمل مناحي الحياة البشرية في جوانبها كافة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم داعيةٌ وقائد.
يؤمن المسلم بأنَّ الولاية لله جلَّ وعلا، أيَّ أنَّ الآمرية والنهي له، قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾2، وأنَّ الله يرعى المؤمنين برحمته، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾3.
الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متصلة بالولاية لله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليُّ الذين آمنوا، وهو المُرسَل من الله تعالى إليهم، ويبلِّغهم عنه جلَّ وعلا، وعلى المؤمنين أن يطيعوه ويتولوه في أمورهم وقضاياهم ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
1- شرح مسلم للنووي، ج8، ص: 220.
2- البقرة: 257.
3- النساء: 59.
171
163
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
يعتقد الشيعة بالإمامة بعد النبوة، وأنَّ الإمام معصوم كعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنَّ الوحي مختصٌّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فما يقوله الإمام أو يفعله من موقعه ودوره كمعصوم لا يأتيه عن طريق الوحي، وإنَّما مما علَّمه وبيَّنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليه السلام، وعلَّمه الإمام للذي يليه، ومن إلهام الله تعالى وهدايته التي تصل إلى عقله وقلبه بإرادة الله تعالى، فقوله وفعله وتقريره نصوصٌ وأحكام شرعية، توضِّح وتفصِّل وتبيِّن ما يحتاج إلى المكلفون في العقيدة والشريعة..
تجسَّدت الإمامة بسيد الأئمة وأولهم ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ونزل في إمامته قرآن كريم، كالآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾1، وقصتها أنَّ الإمام علياً عليه السلام كان راكعاً أثناء الصلاة في المسجد، فدخل فقير يطلب صدقة، فأشار الإمام إليه بإصبعه أثناء الركوع ليأخذ خاتمه، ونزلت الآية الكريمة بهذه المناسبة تتحدث عن الولاية لله تعالى، والولاية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والولاية للذين آمنوا، والمقصود من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذه الآية الكريمة، بحسب حادثة نزولها، هو الإمام علي عليه السلام، فتكون الولاية لعلي عليه السلام، من ضمن منظومة تربط المؤمنين بالولاية بخطٍّ يمثلهم
1- المائدة: 55-56.
172
164
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ويجمعهم هو حزب الله، على قاعدة الولاية لله ولرسوله وللأئمة المعصومين.
وفي آخر حج للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت الله الحرام قبل وفاته، "حجة الوداع"، وبعد انتهاء مناسك الحج، دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى الاجتماع قبل أن يتفرقوا للعودة إلى ديارهم في مكان اسمه "غدير خم"، وخطب فيهم بإعلانٍ صريحٍ لولاية علي عليه السلام على المسلمين من بعده. وقد ورد في مسند أحمد، عن البراء بن عازب، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا، الصلاةُ الجامعة، وكُسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي عليه السلام،
فقال: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا: بلى.
قال: فأخذ بيد علي عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعليُّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
قال: فلقيه عمر بعد ذلك،فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة"1.
وفي رواية أخرى: "اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من
1- الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج4، ص: 281.
173
165
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب"1.
الولاية للإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللإمام الذي يليه من بعده. أمَّا مجموع الأئمة عليهم السلام فهم اثنا عشر إماماً، ففي صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم صلى الله عليه وآله وسلم بكلمةٍ خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: كلهم من قريش"2.
وعن سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال:"دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا بالحسين عليه السلام على فخذه، وهو يقبِّل عينيه ويلثم فاه ويقول: أنت سيد ابن سيد، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمة، أنت حجة الله وابن حجته، وأبو حجج تسعة، من صلبك تاسعهم قائمهم"3. وقد نص كل إمام على الذي يليه من بعده، ليتسلم الإمامة، ويكون ولياً للمسلمين في زمانه:
1- أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام.
2- الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
3- الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
4- علي بن الحسين عليه السلام (زين العابدين).
5- محمد بن علي عليه السلام (الباقر).
1- الشيخ الأميني، الغدير، ج1، ص:11.
2- مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، ج6، ص: 3.
3- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص: 262.
174
166
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
6- جعفر بن محمد عليه السلام (الصادق).
7- موسى بن جعفر عليه السلام (الكاظم).
8- علي بن موسى عليه السلام (الرضا).
9- محمد بن علي عليه السلام (الجواد).
10- علي بن محمد عليه السلام (الهادي).
11- الحسن بن علي عليه السلام (العسكري).
12- محمد بن الحسن عليه السلام (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ).
أول الأئمة عليهم السلام علي عليه السلام، ثم ولداه الحسن فالحسين، ثم الأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين عليه السلام يتسلم كل إمام عن أبيه، إلى خاتم الأئمة الثاني عشر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي غاب عن الأنظار في سنة 329 هـ، ثم يظهر في يوم من الأيام في آخر الزمان ليكون الولي القائد للأمة، وبذلك تكون الساحة قد فرغت من قيادتها المعصومة الظاهرة منذ سنة 329هـ. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً، تكون له غيبةٌ وحيرة، تضلُّ فيها الأمم، ثمَّ يُقبل كالشهاب الثاقب، يملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً"1.
انسجاماً مع دور الولاية في التشريع الإسلامي، ومع غياب الإمام المعصوم، تنتقل الولاية إلى الفقيه، فلا بدَّ من وجود وليٍّ يقود الأمة
1- المصدر نفسه، ص: 286.
175
167
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ويوجهها كجماعة وأفراد. يترتَّب على هذا الإيمان: أنَّ الولاية لله تعالى أولاً، ثم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم للإمام عليه السلام، ثم للفقيه العالم الكفوء العادل العارف بالزمان، والقادر على الإدارة، والمتصدي لشؤون الأمة.
الولاية الخاصة والولاية العامة
حصل خلاف حول دور الفقيه سعة وضيقاً، فمن الفقهاء من قال بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية المحدودة تنفيذياً وإدارياً في الأمور التي لا يرضى الشارع المقدس باهمالها وتركها، ولا بدَّ من القيام بها رعاية لشؤون المسلمين ومصالحهم، كالولاية على أموال اليتيم، وأموال الغائب، والأوقاف والوصايا التي لا وصي عليها، وكل ما من شأنه أن يحتاج إلى متابعة ورعاية وإجراء لعدم وجود الولي المباشر كالأب والوصي، وتسمى هذه الأمور بـ "الأمور الحسبية" التي يحتسب فيها الفقيه أجره على الله تعالى، ولا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها، فيقوم بها حفظاً للانتظام العام. فعلى هذا المبنى، ولايةُ الفقيه الخاصة ولايةٌ ضيقة ومحدودة تنفيذياً، وإن كان الفقيه معنياً بتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، وهذا ما قام به مراجع التقليد من بداية عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكتبوا "الرسائل العملية" التي تحدد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وأصدروا الفتاوى في المسائل الخاصة أو المستحدثة، واستلموا أموال
176
168
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الخمس والزكاة والكفارات، وصرفوا الأموال الشرعية على الفقراء والمساكين والحوزات الدينية والتبليغ والأعمال الاجتماعية والثقافية والخيرية العامة، وأشرفوا على الأمور الحسبية.
ومن الفقهاء من قال بولاية الفقيه العامة، وهي الولاية المطلقة تنفيذياً وإدارياً، والتي تتضمن كل ما ذكرناه عن الولاية الخاصة وتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، يُضاف إليها إدارة شؤون المسلمين على مستوى كل الأمة في السياسات العامة، وتحديد المصالح والأولويات والواجبات، والأمر بالجهاد أو عدمه، وكيفية تعاطي جماعة المسلمين مع أحكام الإسلام في بلدانهم، على ضوء الواقع المحلي والدولي.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "المراد بالولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط هو أنَّ الدين الإسلامي الحنيف - الذي هو خاتم الأديان السماوية، والباقي إلى يوم القيامة - هو دين الحكم، وإدارة شؤون المجتمع، فلا بد أن يكون للمجتمع الإسلامي بكل طبقاته ولي أمر، وحاكم شرع، وقائد ليحفظ الأمة من أعداء الإسلام والمسلمين، وليحفظ نظامهم، وليقوم بإقامة العدل فيهم، وبمنع تعدي القوي على الضعيف، وبتأمين وسائل التقدم والتطور الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والازدهار لهم"211.
1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:24.
177
169
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني قدس سره وكأنَّها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأنَّ علماء كباراً في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الكلبايكاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنَّ الظروف التاريخية للعلماء والمؤمنين لم تكن سانحة في السابق للتعبير عنها عملياً وبشكل واسع، وحتى في الأطر الأضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإِعْمال ولايتهم، فالأمر لا يقتصر على وجود المؤهَّل لولاية الأمر أو القناعة بها، بل يستلزم وجود المؤمنين الموالين الذين يستطيعون تطبيق أوامر ونواهي ولي الأمر في حياتهم العامة.
والذي أدَّى الى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني قدس سره، سببان رئيسان:
الأول: مستوى الاهتمام بها من قِبَله، وتفصيلها في مجموعة من المحاضرات التي ألقاها أثناء نفيه في النجف الأشرف، والتي بيَّن فيها رؤيته عن ولاية الفقيه، وقد جُمعت في كتاب "الحكومة الإسلامية".
الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية
178
170
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الإسلامية في إيران، وكتابةُ دستورٍ مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.
إنَّ تصدي الإمام الخميني قدس سره لولاية الأمر لم يسبقه مثيل منذ زمن الأئمة عليهم السلام. وقد حاز على الموقع بأهليته وجدارته الفقهية والسياسية. وليس كل من تصدى بعنوان الولاية أو الخلافة أو الإمارة يستحق هذا الموقع بمجرد تصديه، وليس الولي على الشريعة من يحكم المسلمين كيفما كان براً أو فاجراً، فالأمر منوط- بحسب هذا المنهج- بمن يملك التقوى والكفاءة العلمية والقيادية.
صلاحيات الولي الفقيه: يُبيِّن الإمام الخميني قدس سره رؤيته في ولاية الفقيه، فيقول: "فتوهُّم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهُّم خاطئ وباطل. نعم إنَّ فضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد أعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعيِّن شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالِم العادل"1.
1- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص:86.
179
171
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
إنَّ صلاحية الولي الفقيه هي كصلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلاحية الإمام عليه السلام، انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته في قيادة الأمة، وهو موقع تنفيذي، له صلاحية الإدارة والآمرية الكاملتين، ولا يوجد ربط بين هذه الصلاحية والوحي، فالوحي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، والإلهام للإمام عليه السلام، والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة للفقيه في تحديد الأحكام الشرعية. إذاً الصلاحية ملازمة للقيادة، أمَّا المكانة والفضائل فيتمايز بها البشر، وهي مسألة أخرى لا علاقة لها بصلاحية قيادة الأمة.
وبما أنَّ الاجتهاد المؤدي إلى تحديد الأحكام الشرعية الفردية لا يكفي لإدارة شؤون الأمة، يقول الإمام الخميني قدس سره : "لا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار، فإن مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية، ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"1. فالاكتفاء بمرجع التقليد لا يملأ الفراغ في إدارة شؤون الأمة، لذا تكون الحاجة قائمة للولي الفقيه الذي حصل على درجة الاجتهاد، وتصدَّى لإدارة هذه الشؤون،
1- منهجية الثورة الإسلامية، ص: 163.
180
172
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
سواءً أكان مرجع التقليد نفسه الذي يجمع بين المرجعية والولاية، أو كان مرجع التقليد شخصاً آخر، في تمايزٍ واضح بين المهمتين، مع أنَّ الجمع أفضل عند توفره في شخص الفقيه الواحد، هذا ما حصل مع الإمام الخميني قدس سره، وما هو حاصلٌ اليوم مع الإمام الخامنئي دام ظله، لمن آمن بولاية الفقيه العامة والتزم بها.
ينطلق الولي الفقيه من رؤيته الإسلامية لرسم السياسات العامة للأمة، ووضع الحلول المناسبة لقضاياها ومشاكلها، بما يحفظ قوتها واستقرارها وحريتها وازدهارها، وهو الحكيم الذي يعطي أحكاماً تتناسب مع متطلبات الواقع ولا تكون تجريدية، وهو العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويتصرف بما يواكب الفطرة الإنسانية، وهو المنصف الذي يراعي متطلبات الانتظام الإنساني في ظل الخلافات العقائدية والفكرية بين الناس، وهو الحصيف الذي يتخذ الموقف السليم على ضوء الظروف الموضوعية التي تعيشها الجماعة الملتزمة ولايته في أي بلد من بلدان العالم، وهو الذي لا يأمر المكلفين بما لا يستطيعونه بحسب قدرتهم وخصوصية ظروفهم. فالولي الفقيه قائدٌ، عاقلٌ، حكيمٌ، عادلٌ، منصفٌ، حصيفٌ، موضوعي، يقود بناء لضوابط إيمانه وتقواه وكفاءته وخوفه من الله تعالى ورعايته لمصالح المكلفين.
يقرِّر الولي الفقيه التوجهات العامة، والسياسات الإجمالية الكبرى، ويرسم حدود وضوابط الجهاد في حماية الأمة من أعدائها والدفاع عن أوطانها، ويعيِّن ضوابط المشاركة السياسية المشروعة وحدودها، ويحث
181
173
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
على الدعوة والتبليغ لنشر الإسلام، ويحكم بكل ما من شأنه أن يكون قاعدةً أو موقفاً عاماً شاملاً وذلك بتحديد معالمه الكبرى والأساسية، ما يشكل أهدافاً ومساراً للمؤمنين بولاية الفقيه. لكنَّه لا يتدخل في الجزئيات والتفاصيل، ولا يتدخل بالإدارة المباشرة، ولا يتجاوز خصوصيات المؤمنين في بلدانهم، فقراراته أسس وقواعد، ولكل جماعة قيادتها الميدانية، وآليات عملها، وتعبيرها عن آرائها وقناعاتها، وكيفية نشاطها السياسي، وإعدادها العدة لمواجهة العدو والمحتل، وهيكليتها التنظيمية والإدارية، ومتابعة قراراتها والتزاماتها، وكيفية المشاركة بعد الحكم بمشروعيتها وفي حدودها، في تركيبة النظام السياسي القائم... فالسياسات العامة التي يرسمها الولي الفقيه إطارٌ للمشروعية الدينية لعمل حزب الله، أمَّا الأداء والتحرك السياسي والجهادي والاجتماعي وكل حركة الحزب فمسؤولية قيادة حزب الله المنتخبة من كوادره، وهي الشورى التي يرأسها الأمين العام، ضمن آليات العمل الحزبية في توزيع المهام والصلاحيات.
الإيمان بولاية الفقيه
ما هو موقع من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة من الفقهاء والمسلمين؟
يقول الإمام الخامنئي دام ظله : "ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق الاثني عشري، ولها جذور في أصل الإمامة، ومن أوصله
182
174
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الاستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف"1.
ويقول: "عدم الاعتقاد اجتهاداً أو تقليداً بولاية الفقيه المطلقة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا فداه)، لا يوجب الإرتداد والخروج عن الإسلام"2.
فمن آمن بولاية الفقيه التزمها، ومن لم يؤمن بولاية الفقيه معذور اجتهاداً إذا كان فقيهاً، وتقليداً إذا كان مكلفاً مقلِّداً، ولكنَّه مسؤول شرعاً كفقيه أو مقلِّد في إطاعة أوامر الولي الفقيه في قضايا المسلمين العامة، ذلك أنَّ الولي الفقيه هو المتصدي، ولا محل لرأي فقيه آخر يعارضه في التصدي لبعض الشؤون العامة طالما أنه ليس المتصدي الأول والقائد المسؤول، ولا يملك صلاحية الرفض أو المواجهة أو توجيه مقلديه في مرجعيته إلى مخالفة الولي الفقيه المتصدي لشؤون الأمة، فهو ليس مسؤولاً عنها بحسب موقعه، ولا يملك الصلاحية لذلك، فإذا تدخَّل مخالفاً اختلَّ النظام العام مع المخالفة، وتبعثرت قدرة الأمة، وضاعت في تحديد مسؤولياتها وأولوياتها تجاه القضايا العامة المختلفة.
وفي تفصيل وتوضيح صورة وجوب التزام الفقهاء وعموم المقلِّدين طاعة الولي الفقيه، يبيِّن الإمام الخامنئي دام ظله هذا الأمر في عدة نصوص نذكرها للفائدة:
1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:23.
2- المصدر نفسه، ص:22.
183
175
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
1- "طبقاً للفقه الشيعي، يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً للفصل عن الالتزام بالاسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام "1.
2- "يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين"2.
3- "اتِّباع حكم ولي أمر المسلمين واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالِفة أن تعارضه"3.
4- "رأيُ ولي أمر المسلمين هو المتَّبَع في المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلف يمكنه اتباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة"4.
توجد نظريات إسلامية أخرى مختلفة عن نظرية ولاية الفقيه في إدارة شؤون الأمة، فبعضهم يعتبر الحاكم باسم الإسلام ولياً للأمر
1- المصدر نفسه، ص:23.
2- المصدر نفسه، ص:21.
3- المصدر نفسه، ص:21.
4- المصدر نفسه، ص:20.
184
176
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ولو لم يكن مجتهداً، وذلك بمجرد تنصيبه وإعلانه الالتزام بالأحكام الإسلامية في شؤون الدولة، وهو غير الفقيه في الدولة. وبعض الآخر يدعو إلى نظام الخلافة على أن تكون البيعة لولي الأمر من خلال "أهل الحل والعقد". وبعض ثالث يدافع عن الوراثة التي نشأت في التاريخ الإسلامي لاهتمامه بعنوان الحكم الإسلامي بصرف النظر عن شخص الولي الحاكم. وتوجد آراء أخرى في هذا المجال، لا إمكانية لعرضها ومناقشتها في هذه الدراسة المختصرة، كي لا نخرج عن هدفنا في الإكتفاء بعرض رؤيتنا عن دور الولي الفقيه.
معنى الأمة
استُعملت كلمة "الأمَّة" في معانٍ كثيرة، ولعلَّ أبرزها أحد استعمالات القرآن الكريم، التي عبَّر عنها بجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام بصرف النظر عن مكان ولادتهم أو إقامتهم أو لغتهم، فهم يشكلون "الأمة الإسلامة"، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾1. وقال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾2. فالجامع للأمة الإسلامية هو إيمانها بالإسلام.
ويمكن إطلاق كلمة "أمة" على قواسم مشتركة أخرى، كأن تُطلق على قوم يتحدثون لغة واحدة فنقول:"الأمة العربية"، ونقصد بها من يتحدث اللغة العربية، أو نُطلقها على سكان بلد ما، فنقول "الأمة الفرنسية"،
1- الأنبياء: 92.
2- المؤمنون: 52.
185
177
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ونقصد بها من يعيشون في داخل الوطن الفرنسي، وهكذا نستفيد من لفظة الأمة بحسب القيد الذي يحدد معناها، وعليه فعندما نقول "الأمة الإسلامية" فإننا نقصد أولئك الذين يؤمنون بالإسلام.
لم تكن الحاجة موجودة سابقاً للتفريق بين مصطلح "الأمة الإسلامية" و "الوطن الإسلامي"، بسبب حكم الإسلام على امتداد العالم الإسلامي، فكان المصطلحان يؤديان معنىً واحداً، ولكن مع تفكك الدولة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بانتهاء الخلافة العثمانية، ثم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول متعددة، واختيار هذه الدول لأنظمة حكم غير إسلامية، أكانت رأسمالية أو شيوعية أو خليطاً إستنسابياً من هنا وهناك، أصبحنا أمام واقع جديد وهو انتشار المسلمين في بلدان مختلفة، ووجود أنظمة حكم متباينة، ووجود خلاف بين المسلمين حول العودة إلى الإسلام أو القبول بنظام الحكم القائم في البلد أو الإيمان بأنظمة أخرى، كما تمايزت البلدان بين كون سكانها من مذهبٍ واحد أو طائفة واحدة أو مذاهب وطوائف متعددة.
أصبحنا أمام أوطان لها حدود جغرافية، يقطنها مواطنوها، وتحكمها دساتير وقوانين تم تثبيتها بظروف خاصة بكل بلد، فلكل وطن نظام يحكمه، والمواطنون في داخله لهم حقوق وواجبات على أساس هذا النظام.
186
178
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
نظرتنا الى الوطن
الوطن تعبير عن دولة يعيش فيها شعب ضمن حدود جغرافية، وتتبنى نظام حكمٍ له دستور وقوانين، بصرف النظر عن كيفية تثبيت هذا النظام في بداية تَشَكُّل الدولة أو في مراحلها المختلفة، بحيث يعيش الناس تحت سقف هذا النظام، سواء وافقوه أو اعترضوا عليه، ولكن لا يملك أحد صلاحية أن ينكر مواطنية من وُلِد في هذا الوطن، فهو حقُّ قهري لا يمكن انتزاعه، والوطن لأبنائه.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حب الوطن من الإيمان"1. فالوطن أرضٌ حضنت ولادتنا، وفيها ذكريات وتضحيات الآباء والأجداد، ومنها الخيرات، وفيها السكن وتربية الأولاد، فهي المستقر الدنيوي مع الأهل والأحبة وتمضية الحياة، وهذا ما يولِّد علاقة عاطفية مشروعة، وبالتالي فإن الفطرة الإنسانية تدفع لحب الوطن والدفاع عنه. والإسلام يحثنا على ذلك، فلا تعارض بين حب الوطن والإيمان بالإسلام، ولا تنافر بين الوطن والعلاقة مع الأمة. فإذا ما اعتدى الأعداء على وطننا أو أرادوا أن يخرجونا منه ليحتلوه، فإنَّ علينا واجب الدفاع عنه لمنعهم وطردهم، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ
1- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3566.
187
179
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌَ﴾1، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله عزَّ وجل يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يقاتل"2، فالقتال والتضحية بالنفس دفاعاً عن الأرض دفاعٌ مشروع عن الحق، ويندرج تحت عنوان "سبيل الله تعالى".
شجَّعنا أمير المؤمنين علي عليه السلام على الاهتمام ببلدنا، فاعتبر خير البلاد بالنسبة إلينا ما حَمَلنا، قال عليه السلام: "ليس بلدٌ بأحق بك من بلد، خيرُ البلاد ما حَمَلك"3، وإنما تعمر البلاد بالحب، قال عليه السلام: "عمرت البلاد بحب الأوطان"4.
ومع أن العصبية مذمومة، لكنَّها تختلف عن حب المرء لقومه، فحب القوم ليس من العصبية بل المطلوب أن يحب المرء قومه. سئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن العصبية، فقال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن العصبية أن يُعين قومه على الظلم"5.
وفي توجيه أمير المؤمنين علي عليه السلام أثناء خلافته لواليه على مصر مالك الأشتر، أمره بأن يتعامل مع الناس على أساس وجودهم كرعيةٍ في
1- الحج: 39-40.
2- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 3568.
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص: 208.
4- النمازي الشهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج10، ص: 375.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 309.
188
180
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
بلد واحد، يشتركون في الحقوق والواجبات، ولا يحق له أن يعاملهم على أساس انتمائهم الديني، فقال: "وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخلق، يفرطُ منهم الزَّلل، وتعرضُ لهم العِلل، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاَّك"1.
ينظر حزب الله الى الوطن كأرضٍ للآباء والأجداد والأجيال الآتية، وأنَّ جميع أبنائه معنيون به، فهو لهم جميعاً، وهذا ما بيَّنه في وثيقته السياسية التي أعلنها الأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصر الله في مؤتمر صحفي، بمناسبة المؤتمر الثامن للحزب وانتخاب الشورى الجديدة: "إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.
ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة" الصريحة أو المقنَّعة. ونريده
1- نهج البلاغة، ص: 672.
189
181
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ1.
الولاء للوطن: الولاء للوطن يعني التمسك به، وعدم التخلي عنه، والدفاع عنه في مواجهة الأعداء والمحتلين، فالولاء محبةٌ وارتباط، وليس آمرية وطاعة، فالجغرافيا لا تأمر وتنهى. أمَّا الإيمان وما يتفرع عنه فهو التزامٌ بمسار في الحياة فيه آمرية وطاعة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تعارض أو تضاد بين الولاء للوطن وبين الإيمان الإسلامي أو الولاء للدين أو الولاية للفقيه أو أي قناعة أخرى يحملها المواطن، لأننا أمام سنخيّتين يتم الجمع بينهما بسهولة على ضوء رؤيتنا وإيماننا، فولاية الفقيه جزءٌ من ايمانٍ بمنهج، وهي ليست مقابل الولاء للوطن.
ولكن ألا يمكن أن تصدر توجهات عامة عن الولي الفقيه تتعارض مع الولاء للوطن؟
نعود إلى تفسير الولاء للوطن، فمحوره هو التمسك به، وهذا جزء من الإيمان بوجوب الدفاع عن الأرض وحمايتها. لكن إذا وسَّعنا التفسير، لنتحدث عما يمكن أن يسميه بعضهم "مصلحة الوطن"، سنكون أمام مجموعة من الأسئلة تتوجه إلى جميع القوى:
1- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،لبنان، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.
190
182
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
1- من يحدِّد مصلحة الوطن؟
2- وهل توجد مرجعية سياسية تحسم تحديد المصلحة والأولويات عند الاختلاف ؟
3- وما هي المقاييس الموحدة التي تحدِّد هذه المصلحة؟
الواضح أن تقدير المصلحة مرتبط بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فهي المقياس لتحديد الإتجاه. وهنا تتباين القوى السياسية في تحديد مصلحة الوطن انسجاماً مع مواقفها، فمن يدعو إلى المقاومة ويعمل لها يعتبرها مصلحة للوطن ولأبنائه، ويطرح مبرراته للدفاع عن موقفه، ومن يرفض وجود المقاومة ويدعو إلى العمل الدبلوماسي يعتبر ذلك مصلحة للوطن ولأبنائه. بعضهم يدعو إلى علاقة مميزة مع دولة ما لنا مصالح مشتركة معها وننتفع منها ويرى ذلك مصلحة للوطن، وبعضٌ آخر يشدِّد على تقييد هذه العلاقة ويتطلَّع إلى دولٍ أخرى معتبراً مصلحة الوطن في الاحتماء بهذه الدول مقابل هذه الدولة. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟ أو من يحسم هذا الاختلاف؟ وهل يمكن العودة إلى مقاييس محددة لحسم الموقف الذي يؤدي إلى مصلحة الوطن؟
فلنحصر الحديث عن مصلحة الوطن بشكل أضيَق ومحدَّد، فإنَّ مصلحة الوطن أن لا يُستخدم لمصلحة أو خدمة أوطان أخرى أو جهات خارجية. وهنا أيضاً تتباين القوى السياسية في مواقفها، وتنظِّر لها على أساس أنها مصلحة للوطن، رافضة أي اتهام لها بأنَّها تعمل لخدمة
191
183
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أوطان أخرى أو جهات خارجية، وتسوِّق موقفها على أنَّه المصلحة الأكيدة لوطنها.
اختلفت القوى بشكل حاد في لبنان بين موالاة ومعارضة، فرأت الموالاة أنَّ تدخُّل أمريكا في مفردات الوضع اللبناني، وعملها للهيمنة على القرار السياسي اللبناني، ونصرة فريق على آخر من الموقع الدولي، وصرف المال الخليجي دعماً لها، هو لمصلحة لبنان وليس لمصلحة المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، أو لجعل لبنان تحت الوصاية الأمريكية. كما رأت المعارضة أنَّ دعم إيران وسوريا لحق لبنان في المقاومة، ووقوفهما إلى جانبه، ليس تدخلاً في الشأن اللبناني، بل لو قدَّمت دولٌ أخرى هذا النموذج من الدعم لقبلته، لأنَّ لبنان هو المستفيد الحقيقي من تحرير أرضه ومنع الوصاية عليه، وهذه هي مصلحة لبنان. من منهما يحدد مصلحة الوطن؟
بما أنَّ تقدير المصلحة مرتبطٌ بالمواقف السياسية من القضايا المطروحة، فسيبقى التباين قائماً في تقديرها بين القوى السياسية المختلفة ما دامت المواقف مختلفة.
نحن نؤمن بأنَّ ما يُصدره الولي الفقيه من توجيهات عامة ومن موقعه الديني الشرعي يشكل مصلحة أكيدة للمؤمنين في أوطانهم وقضاياهم، وبالتالي لا محلَّ للسؤال إن كان التوجيه يتعارض مع مصلحة الوطن! بل السؤال المطروح على الآخرين: ما هي الضمانات كي لا تؤدي رؤيتكم أو مواقفكم إلى التعارض مع مصلحة الوطن؟ وعندما يعبِّر الحزب عن
192
184
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
مواقفه فهو يتصرف من منطلق رؤيته، وبناءً لتقديره للمصلحة، فإذا كان الأمر يتعارض مع توجهات ومواقف قوى أخرى فهو خلافٌ في تقدير المصلحة والموقف السياسي، وفي النهاية يعود الحكم للناس ليقبلوا أو يرفضوا أي موقف من المواقف.
المشترك بين الأوطان: يتجاوز الإيمان بالمبدأ أو المنهج الأوطان، إذ يشترك المؤمنون به بقناعاتهم ونظرتهم إلى الأمور بشكل متشابه، فترى في كثير من الأحيان موقفاً واحداً من القضايا ذات الاهتمام المشترك، يظهر في التعبير عنه نظرياً وعملياً. ولا تمنع الحدود الجغرافية للوطن من الاشتراك عبر الأوطان برؤية موحدة، فالمسألة مرتبطة بالفكر والقناعات، ومَنْ ذا الذي يقول إنَّ هذا الاشتراك ضد مصلحة الوطن؟ وبما أننا نختلف فكرياً في داخل الوطن الواحد، وتتغاير مواقفنا من بعض القضايا، فإنَّ المشكلة هي في التباين الحاد والتغاير الذي يؤدي إلى التناقض، وليست في الاشتراك الفكري مع الآخرين عبر الأوطان، فالأساس هو الموقف السياسي الذي يتخذه كل فريق، ومدى تأثير الاختلاف الداخلي على مسار الدولة وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم.
لا يوجد أي تعارض بين اشتراك المختلفين في المنهج في أرضٍ واحدة ووطنٍ واحد يعيشون فيه كمواطنين، وبين الاشتراك والاتفاق
193
185
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
بين مواطنين من بلدان مختلفة في حمل المنهج الواحد، والتماهي في الإيمان المشترك بينهم، ومناصرة بعضهم بعضاً في قضاياهم العادلة، بحسب ظروفهم الموضوعية، وذلك في كثير من الأحيان وبسبب الظروف المتشابهة، من وجودٍ للاستكبار العالمي يريد قهرنا والسيطرة على بلداننا ومقدراتها، ووجود أزمات مشتركة تتشابه فيها بلداننا، بحيث تتلاقى متطلبات وطننا مع متطلبات أمتنا، ويستفيد الوطن والأمة من المشتركات، ويتضرر الوطن والأمة من الأخطار والعدوان، كما في حالة إسرائيل التي لم تُبقِ وطناً في المنطقة إلاَّ وتضرَّر منها، فأوجدت لنا أزمة مفتوحة على الأمة الإسلامية، والأمة العربية، والأوطان المنتشرة حولها.
تطبيقات ولاية الفقيه
تتَّسع ولاية الفقيه لتشمل نظام الحكم بإدارة الفقيه، ولكنَّ تطبيقها بهذه السعة والشمولية يستلزم موافقة الناس على تبنيها لتكون حاكمة في بلدٍ ما، وأمامنا تجربتان للمقارنة والتوضيح:
1- تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي اختارت الإسلام كنظام حكم لها، واختارت الولي الفقيه كقائد أعلى، له صلاحيات واسعة في دستور الجمهورية الإسلامية لإدارة البلد وتحديد سياساتها وحربها وسلمها، ويتم انتخابه من مجلس الخبراء المنتخب من الشعب الإيراني. وبالتالي فإنَّ حاكمية
194
186
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الولي الفقيه تحولت إلى قانون يلتزمه الشعب الإيراني، من دون فرق بين من آمن منهم بولاية الفقيه دينياً أو من لم يؤمن بها، فهذا هو دستورهم الذي صوتوا عليه واختاروه ناظماً لشؤونهم. أمَّا المؤمن بولاية الفقيه فقد حقَّق مراده وانسجم مع إيمانه ويطيع من موقع التزامه وعبادته، وأمَّا غير المؤمن بها، فهو يلتزم بها في إطار القانون، وقد يكون له رأي مخالف لها، لكن القوانين المرعية الإجراء تبقى حاكمة بسبب النظام العام، ولها آلياتها في التعبير والتغيير أو الثبات. فالولي الفقيه بالنسبة لإيران، قيادة شرعية وقيادة دستورية.
2- تجربة حزب الله - لبنان، الذي اختار الإسلام عقيدة وشريعة، وآمن بالولي الفقيه قائداً، والتزم بقيادة الولي الفقيه الذي رآه متصدياً لشؤون الأمة، والذي توفرت فيه الكفاءة والأهلية لهذا الموقع. جاء ذلك تلبية لإيمان الحزب بوجوب الالتزام الديني بالولي الفقيه، ليحصل على مشروعية عمله، وليعرف الأحكام الشرعية التي تُبرئ ذمة المرتبطين به بقيامهم بتكليفهم الشرعي. فالحزب بحاجة لمعرفة الواجبات والمحرمات في القضايا العامة التي تتطلب حكماً أو فتوىً أو أمراً من الولي الفقيه، ليكون منسجماً مع إيمانه.
التزم حزب الله بولاية الإمام الخميني قدس سره، ومن بعده بالولي
195
187
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله، كحلقة من سلسلة الولاية التي تبدأ من الولاية لله تعالى، ثم الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الولاية للإمام عليه السلام، ثم الولاية للفقيه العالم العادل، وهو اختيار يحمِّل الحزب مسؤولية التزام أوامره من موقع الإيمان الديني. وبالتالي فالحزب لا يلتزم قيادة دستورية خاصة بإيران، بل يلتزم قيادة شرعية لا تحدها الأوطان، اتخذت نمطاً للإدارة والحكم، ولها نمط آخر في لبنان له علاقة بتبني حزب الله لقيادة الفقيه الشرعية. فالولي الفقيه بالنسبة إلى حزب الله قيادة شرعية. أمَّا ارتباط الآخرين من المؤمنين بولاية الفقيه في البلدان الأخرى، فعائدٌ إلى درجة إيمانهم بها وظروفهم، وإذا ما كانوا أفراداً أو علماء أو جماعات أو أحزاباً، كل ذلك في إطار تبرئة المكلفين لذمتهم الشرعية.
يؤمن حزب الله بولاية الفقيه، ولا يُلزم بها غيره، ولا أولئك المؤمنين بالإسلام والذين لا يؤمنون بولاية الفقيه، والأولى أن لا يُلزم بها من لا يؤمن بمشروع الإسلام، وهذا منسجم تماماً مع إيمانه بأنَّ الله تعالى لم يُكرِه أحداً على الإيمان: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾1، إذ يقتصر تكليفنا على دعوة الناس إلى ما نؤمن به، وهم أحرار في خياراتهم، وعلينا أن نتعامل معهم في الوطن الواحد على أساس أنَّنا مختلفون في الرؤية والمنهج بشكل
1- يونس: 99.
196
188
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
عام، لكنَّنا نعيش في بلد واحد، وعلينا البحث عن القواسم المشتركة التي تمكِّننا من الاستمرار معاً، في إطار الشراكة والمسؤولية المشتركة في إدارة البلد وحمايته من الأعداء، وبما لا يتعارض مع ما نؤمن به، وفق منظومة تعاقدية، تتجسد في نظام الحكم القائم على الرضا بين أبناء الوطن الواحد، ولو كان بعنوان الحد الأدنى المشترك، وذلك لينتظم الاجتماع العام في لبنان مع وجود الاختلافات في الرؤية والمنهج.
لبنان ليس دولة إسلامية، وولاية الفقيه ليست جزءاً من دستورها. لبنان بلدٌ متعدد الطوائف، وله دستور وقوانين ناظمة لحكمه، والأصل أن يساهم حزب الله وجمهوره في بناء وإدارة هذا الوطن مع جميع أبنائه. وقد حكم الولي الفقيه بمشروعية عمل حزب الله ضمن واقع النظام القائم في لبنان، فالمشاركة في الانتخابات مشروعة وهي تعبِّر عن تمثيل الناس في البرلمان لحمل قضاياهم والدفاع عن حقوقهم وإقرار القوانين التي تحفظ مصالحهم، والمشاركة في الحكومة بشكل مؤثر مشروعة خاصة عندما تكون طريقاً للقرارات المصيرية والكبرى وما فيه مصلحة البلد، وللمشاريع والقوانين والقرارات والمراسيم التي تتعلق ببناء البلد والانتظام العام ومصالح الناس.
وافق حزب الله على العمل في إطار تنفيذ اتفاق الطائف الذي تحوَّل دستوراً، والذي شكَّل المخرج من الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت خمسة عشر عاماً من سنة 1975 إلى سنة 1990، ورأى أنَّ الملاحظات عليه يمكن متابعتها بحسب الآليات القانونية المعتمدة في الدستور، فهي
197
189
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
لا تتطلب ولا تتحمل انقلاباً جذرياً عليها، وهذا لا يعني أنَّه الحل الأمثل، بل هو الحل الممكن في ظل تعقيدات الواقع اللبناني الداخلية والمؤثرات الإقليمية والدولية عليه، وحرصاً على الاستقرار السياسي والأمني الذي يتطلب قاعدة ارتكاز يُجمع عليها اللبنانيون. لكنَّ هذا لا يمنعنا من الدعوة إلى الأفضل، والاستفادة من الشريعة الإسلامية السمحاء، في إطار توافق مكونات المجتمع، بما يحافظ على الاستقرار وعدم العودة إلى الحرب الأهلية.
استقلالية لبنان: الوطن جامع لأبنائه، وكلهم مواطنوه، لكنَّ القناعات متفاوتة. وهذا حقٌّ مشروع في إطار حرية الإيمان والاعتقاد اللتين كفلهما الدستور، الذي ورد في مقدمته، الفقرة ط: "أرضُ لبنان أرضٌ واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها، والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماءٍ كان، ولا تجزئة، ولا تقسيم، ولا توطين"1.
وجاء في المادة التاسعة: "حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلالٌ في النظام العام،
1- الدستور اللبناني، ص: 8.
198
190
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية"1.
وفي المادة الثالثة عشرة: "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، كلها مكفولة ضمن دائرة القانون"2.
المهم أن لا يتحول الخلاف العقائدي أو السياسي إلى تقاتل داخلي، لأنَّه يؤدي إلى خسارة الجميع. ولكن لا يوجد في الوطن من يمنح شهادة للآخرين في المواطنة الصالحة أو الوطنية، فالأعمال هي التي تدل على نفسها وعلى أصحابها. ولا يوجد في الوطن من يُعتبر مرجعاً لتحديد سلامة الرؤية أو التفكير المنسجم مع الولاء للوطن، طالما أن الآراء مرتبطة بالرؤى التي يختلف الناس عليها. تبقى قاعدة واحدة تساعد على ضبط الإطار الوطني العام، وهي الاحتكام إلى الدستور والقوانين لحل الخلافات وتحصيل الحقوق، وعدم اللجوء إلى القوة لتغليب رؤية جماعة على أخرى.
تشكَّل لبنان في إطار تقسيم الدولة الإسلامية الكبرى في القرن العشرين، حيث تشكَّلت دولٌ عديدة في المنطقة بحدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. وهو بالتالي دولةٌ مستقلة لجميع أبنائها كباقي الدول، وليس مطروحاً أن تنضمَّ إلى بلدٍ مجاور أو غير مجاور، ولها أن
1- المصدر نفسه، ص: 11.
2- المصدر نفسه، ص: 13.
199
191
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
تختار مدى التنسيق والتعاون مع البلدان الأخرى، وكذلك أن تكون أو لا تكون جزءاً من اتحادٍ له قواعده مع دول أخرى كما هو حال الاتحاد الأوروبي مثلاً، وأن تتماهى أو لا تتماهى مع أنظمة سياسية لها قضايا مشتركة مع لبنان.
يختلف لبنان بخصوصية تعدُّد طوائفه ونظامه السياسي عن محيطه، ولا بدَّ أن تؤخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار لطمأنة أبنائه. وهو يشترك مع سوريا في حدود جغرافية طويلة (325كلم)، ومصالح سياسية واقتصادية مشتركة، ويواجه عدواً إسرائيلياً توسعياً يحتلُّ من البلدين أجزاءً منهما، وله أطماع كثيرة فيهما، ما يستدعي علاقات مميَّزة مع سوريا، لا تلغي خصوصية واستقلال كل منهما، ولا تُعطي الغلبة بالانقياد لأحدهما في ركب الآخر، وإنما بترجمة هذه العلاقات المميزة بخطط وإجراءات عملية تنفع البلدين. ونحن نوافق بالكامل على ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) حول العلاقات اللبنانية السورية: "إنَّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما، وفي شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما. استناداً إلى ذلك، ولأن تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب
200
192
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. عليه فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا. وإنَّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته"1. نحن ندعو إلى الالتزام بهذا النص وترجمته عملياً.
قضية فلسطين: يشترك لبنان مع فلسطين بحدود طولها 72 كلم. وقد غصب الصهاينة القادمون من شتى أنحاء العالم أرض فلسطين، فاحتلوها بإشراف وتواطؤ دولي من خلال عصبة الأمم المتحدة، وبرعاية مباشرة من بريطانيا، فسيطروا في المرحلة الأولى عام 1948 على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين، ثم أكملوا احتلالهم لباقي فلسطين عام 1967، واحتلوا معها أراضيَ عربية أخرى من مصر وسوريا والأردن، ثم اجتاحوا جنوب لبنان عام 1978 فاحتلوا منه مساحة 500 كلم2 ضمَّت 61 مدينة وقرية، ثم اجتاحوا لبنان مجدداً عام 1982 وسيطروا على ثلث مساحته تقريباً، ثم ما لبثوا أن انسحبوا بفعل ضربات المقاومة إلى مساحة احتلال بلغت في العام 1985 نصف محافظتي الجنوب والنبطية بما
1- وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، مجلس النواب، ص: 17 و 18.
201
193
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
يعادل 1100كلم2 أي حوالى 11% من مساحة لبنان شملت 168 مدينة وقرية. ولم تنسحب إسرائيل من لبنان في العام 2000 بعد 22 سنة من الاحتلال إلاَّ بجهاد المقاومة، التي كان لحزب الله الدور الأبرز فيها، وبقيت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا محتلة.
إسرائيل عدو محتلٌّ لفلسطين وجزءٍ من لبنان وأراضٍ عربية أخرى. فهي بالميزان الديني معتدية ومحتلة وظالمة لشعب فلسطيني مجاورٍ لنا، يشترك معنا في قضايا كثيرة، فضلاً عن احتلالها لأرضنا في لبنان. وبالميزان الوطني فإسرائيل تحتل أرضنا اللبنانية، وتشكل خطراً يومياً علينا، كما انعكس احتلالها لفلسطين تهجيراً للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. ولها أطماع سياسية واقتصادية توسعية في لبنان والمنطقة تجعل منها أزمة حقيقية تواجه لبنان وفلسطين وبلدان المنطقة.
أن نؤمن بتحرير فلسطين فهذا مرتبط بإيماننا وقناعتنا بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وعدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي ولو دعمته دول العالم في إطار لعبة المصالح. وأن نرى وجوب تحرير فلسطين فلأنها أرض مقدسة للمسلمين والمسيحيين، ومهدٌ للأنبياء والمرسلين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وأول قبلة للمسلمين في صلاتهم، وفيها شعبٌ نشترك معه بالجوار وأمور كثيرة، يجعل لهم علينا حق الأخوة في دعم مشروعهم للتحرير. ومن الطبيعي أن يكون أصحاب الأرض طليعة الذين يعملون لتحرير أرضهم، وليس مطروحاً ولا ممكناً أن ينوب شعبٌ
202
194
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
في أرض أخرى عن أصحاب الأرض في تحريرها من الاحتلال. وقد سجّل التاريخ المعاصر ملاحم البطولة والفداء للشعب الفلسطيني المجاهد في مقاومته التي لم تتوقف، بل هي في تصاعد مستمر رغم الضغوطات والمؤامرات الدولية والإقليمية وجرائم إسرائيل وعدوانها. ولكنَّ النصرة لهذا الشعب مطلوبة، بحسب الإمكانات المتاحة والظروف الملائمة، التي يعود تقديرها للمؤمنين بالنصرة، وهذا أقل الإيمان. وبما أنَّ العالم اليوم قرية كونية واحدة، وتتداخل مصالح الدول والقوى المختلفة، وتتشكَّل التحالفات التي تتعارض مع خصوصيات ومشاريع دول وجهات مستقلة، فمن السذاجة والخطأ أن ننأى بأنفسنا عن دعم القضايا المحقَّة في منطقتنا ومحيطنا بما يمسنا بنتائجه في نهاية المطاف. ففي الدعم للقضية الفلسطينية نصرةٌ لها، وتعطيلٌ لمشاريع التوسع العدواني الإسرائيلي، وتأديةٌ للواجب، في مقابل الدعم المطلق دولياً للإجرام والاحتلال الإسرائيلي. ومن الموقع الوطني اللبناني يشكل هذا الدعم إرباكاً للعدو في ساحة احتلاله، وإضعافاً لتأثيره في ساحتنا، ولا تعارض بين دفاعنا عن بلدنا ومناصرة إخواننا في دفاعهم عن بلدهم، بل يكمِّل كل منهما الآخر في تحقيق الحد الأدنى من حماية بلدنا من الشر الإسرائيلي المزروع في هذه المنطقة.
نجاحات حزب الله: يرى حزب الله وجوب الجهاد وقتال إسرائيل لإنهاء احتلالها وعودة الأراضي المحتلة إلى أهلها. ويرى
203
195
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
وجوب تحرير فلسطين والقدس، كما يرى وجوب تحرير الأرض اللبنانية المحتلة. ولأن الجهاد يستلزم الشهادة والجَرح وسقوط الدماء، فلا بدَّ من الحصول على إذنٍ بشرعية الجهاد ضد إسرائيل، كي لا يكون القتال عبثياً أو رمياً بالنفس إلى التهلكة، فسقوط الدم وإزهاق الروح مسؤولية لا يملك الفرد التفريط فيها. ومع الإجازة الشرعية من الولي الفقيه يكون المقتول شهيداً عند الله تعالى وله أجر الشهداء، وتبرأ ذمة المكلف مهما كانت نتائج هذا العمل. أمَّا ضوابط الإعداد والتنظيم والتسلح والتخطيط والقيام بالعمليات وكل ما يحيط بمواجهة إسرائيل، فهي من مختصات قيادة حزب الله، في المكان والزمان والكيفية والأولوية، بما يتناسب مع القدرة وتقدير المصلحة والظروف الموضوعية.
بدأ حزب الله مقاومته للاحتلال الإسرائيلي في لبنان مع نشأته عام 1982، وجعل أولويته قتال العدو الإسرائيلي المحتل، في مناطق ومواقع احتلاله في لبنان. ولم يربط عملياته العسكرية بأي تحرك سياسي أو دبلوماسي لقناعته بعقمه وعدم جدواه، في ظل واقع دولي يدعم إسرائيل بالكامل، ويهيئ لها مقومات ترسيخ احتلالها واستثماره. ثم تبيَّن صحة الرهان على المقاومة، فقد طال زمن الاحتلال 22 سنة إلى التحرير المشرِّف في 25 أيار من العام 2000، من دون أن تتقدم الحلول السياسية خطوة واحدة، ومن دون تنفيذ القرار الدولي 425 القاضي بوجوب
204
196
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
انسحاب إسرائيل من لبنان. وأنجزت المقاومة الإسلامية في هذا التاريخ بدعم شعب لبنان وجيشه وسوريا وإيران وكل المؤمنين بالمقاومة كخيار، تحريراً مشرفاً عزيزاً من دون أي ثمن سياسي، لقد كان تحريراً نظيفاً ومضيئاً. وفي الوقت نفسه، سقط خيار فريق من اللبنانيين من الذين تعاملوا مع إسرائيل سقوطاً مدوياً، وهم الذين اعتبروا العمالة والتبعية لإسرائيل وطنية، وخدموا المشروع الإسرائيلي لترسيخ احتلاله في لبنان ضد أهلهم وشعبهم، ووقفوا أكياس رمل ليدافعوا عنه عسكرياً وسياسياً بحجة مصلحة لبنان، إلاَّ أنَّ الاحتلال لا يملك أي صفة وطنية فضلاً عن منحها، والعمالة للعدو تخرِّب الوطن وتضيِّعه وتُفقده استقلاله. وقد حمى الله تعالى لبنان من رؤيتهم الضَّالة وعملهم المنكر، ببركة وعي الشعب اللبناني والتفافه حول مقاومته ضد الاحتلال.
حقَّق حزب الله هدفاً كبيراً بتحرير لبنان، وتماهى في ذلك مع رؤية كل مواطن يريد بلده محرَّراً ومستقلاً. لم تكن مقاومته نيابةً عن أحد، بل هي جزء من إيمانه وقناعته، ولم يفتح جبهةً مغلقة كرمى لعيون أحد، فالاحتلال الصهيوني أتى إلينا واحتل أرضنا، وكان القتال ضد مواقع الاحتلال، ولم يغامر فيما أنشأه وطوَّره من العمل المقاوم، إذ لا تتوقع أي مقاومة أن تحصد نتائج عملها سريعاً، وهي مصحوبةٌ عادةً بالتضحيات والآلام التي تُعتبر أقل من كلفة الاحتلال، لكنَّها تأمل بالفوز والتحرير، وهذا ما حصل في إنجاز التحرير المدوي، وبفترة زمنية قياسية، مع قلة العدد والعدة، في مواجهة التآمر الدولي، وتفوُّق قدرة العدو العسكرية.
205
197
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
حدَّد حزب الله نظرته للمقاومة ودورها في وثيقته السياسية كالتالي: "تَحقَّقَ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيٍّ وجيش وطني، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصارٍ عظيم أسَّس لمرحلةٍ جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة.
إنَّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو - الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلـى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة - فإنَّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومةٍ شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيشٍ وطني يحمي الوطن ويثبِّت أمنه واستقراره، في عملية تكاملٍ أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحقَّقت انتصاراتٍ للبنان ووفرت سبل الحماية له.
هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى،
206
198
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للإستقلال الحقيقي"1.
سيستفيد من نجاح خيار المقاومة كل من يؤمن بها ويدعمها، وسيتضرر وينزعج كل من أيَّد إسرائيل واحتلالها. ربحت المقاومة الفلسطينية من كسر شوكة إسرائيل في لبنان، واستفادت من تجربة مقاومة حزب الله بعد أن استفاد الحزب من تجربتها، وانطلقت مجدداً انتفاضة المسجد الأقصى المسلحة بعد تحرير العام 2000، بأملٍ يحدوها في أن يتكرر ما حصل في لبنان. وربحت سوريا من إضعاف عدونا المشترك إسرائيل، الذي فشل في استثمار احتلاله في لبنان، ولم يتمكن من ابتزاز سوريا من خاصرتها الرخوة. وربحت إيران عندما فشلت إسرائيل في استمرار احتلالها للبنان، وهذا ما ينسجم مع رؤيتها في كون إسرائيل غدة سرطانية خطرة على المنطقة. واستأنس كل عربي ومسلم وحر، وكل جهة إقليمية أو دولية تؤمن برفع المظلومية والاحتلال عن لبنان. لا تُنقص هذه الأرباح شيئاً من ربح لبنان، بل لا يمكن أن يتحقق لأيّ منها هذا الربحُ لولا ربح لبنان ومقاومته، فالكسب أولاً لمشروع تحرير لبنان، ولكل من أطلقه وضحى لأجله.
خسرت أمريكا في لبنان لأنها لم تستطع إلزامه بخياراتها الشرق
1- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،المقاومة، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.
207
199
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أوسطية، ولم تنجح مؤامراتها المتتالية لإنهاء المقاومة في لبنان، وانكسرت ذراعها الإسرائيلية بالتحرير عام 2000 وبهزيمة الصهاينة في تموز 2006، ولم يتمكن مؤيدو سياساتها في لبنان من تحقيقها، وخسر مناصرو التسوية السياسية في لبنان والمنطقة لأنَّ فشل إسرائيل في لبنان سيعطِّل فرض شروطها السياسية، وسيكون لبنان حجر عثرة حقيقية بوجه التوطين الناتج عن التسوية المزعومة، وبالتالي خسرت كل الدول والاتجاهات التي أرادت لبنان معبراً لتثبيت الكيان الإسرائيلي كدولة مستقرة في المنطقة.
انعكس نجاح مقاومة حزب الله في طرد إسرائيل بتألُّقه على الساحة السياسية في لبنان، والالتفاف الجماهيري الواسع حوله، ومناصرة قوى سياسية فاعلة ووازنة للمشروع المقاوم. وقد اكتسب حزب الله هذا الموقع والدور من الأولوية التي أعطاها للمقاومة على ما عداها، فقوي بها وقويت به، وأصبح قوة سياسية فاعلة ومؤثرة في لبنان.
هذا النجاح مدينٌ للرؤية، والعمل الدؤوب بتضحية وصبر، والاستفادة من الظروف السياسية والموضوعية التي أحاطت بهذه المرحلة. وقد ملأ الحزب فراغ تعثر الدولة اللبنانية بأجهزتها وقدراتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وحرص على التمييز بين أدائه المقاوم وموقعه في النظام السياسي في لبنان، فلم يستثمر مقاومته لتحقيق المكاسب ضمن مشروع الدولة، بل عمل كجهة سياسية كالجهات الأخرى، يشارك في الحكم وبناء الدولة، ويعتمد آليات العمل السياسي المعروفة،
208
200
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
كالمشاركة في الانتخابات، ويقبل بنتائجها، ويساهم في جلسات الحوار للاتفاق على القضايا الكبرى الرئيسة في البلد، ويشارك في حكومة الوحدة الوطنية كمكوِّن رئيس مع المعارضة الفاعلة الموجودة في لبنان، ويحمل مطالب الناس وقضاياهم لمعالجتها، ضمن أطر الدولة وأجهزتها، وكذلك أبقى حزب الله على اهتمامه بالمقاومة من أجل التحرير ومواجهة الخطر الإسرائيلي.
الحضور القوي للحزب: تنامى دور حزب الله في لبنان، وتقدَّم على كل الأصعدة، بسبب أهدافه وبرامجه لتحقيق هذه الأهداف. فقد أعطى نموذجاً مميزاً للمقاومة والمقاومين، واهتم بالشؤون الاجتماعية للناس، وأولى رعايته لمؤسسات المجتمع المدني، والتزم إعمار ما هدَّمه العدوان الإسرائيلي فيما لم تتبنّه الدولة، وصدَقَ مع الناس في مدى قدرته على معالجة قضاياهم من ضمن واقع الدولة المربك والمتخلِّف، ووفَّر من جانبه كل عناصر المساهمة في تدعيم السلم الأهلي، ورفض الانجرار إلى الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وبذل جهداً كبيراً وتضحيات كثيرة لتعطيل مشاريع الفتنة، ونسج علاقات سياسية واضحة وفاعلة في خدمة لبنان، مع قوى وازنة، كالتيار الوطني الحر، من خلال وثيقة تفاهم أكَّدت على البعد الوطني في المشتركات السياسية.
209
201
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أزعج هذا التنامي قوىً سياسية مخالفة لرؤية حزب الله في استمرار دوره وموقعه المقاوم، وقوىً تراجعت شعبيتها وحضورها ولا زالت تعيش أمجاد التاريخ، فعملت على طرح رؤيتها مطالبةً بتجريد الحزب من قوته المقاومة، اعتقاداً منها بأنَّها تتوازن معه بعد ذلك، وتُقلِّص الفارق بينها وبين الحضور القوي لحزب الله، ولكن كيف نحرِّر باقي الأرض؟ وكيف ندفع خطر المشروع الإسرائيلي الذي يهددنا بالاجتياح والاحتلال والقتل والتوطين؟ وهل تستطيع الدولة اللبنانية بواقعها الحالي وقدراتها الفعلية أن تتصدى للاحتلال وأن تحمي لبنان من دون وجود المقاومة؟
يرى حزب الله أنَّ قدرة المقاومة وإنجازاتها مصلحة كبرى للبنان، ومن لديه قوة لا يفرِّط بها ليقف ضعيفاً ومكشوفاً أمام إسرائيل ويمكن نقاش مستقبل المقاومة ودورها في إطار إستراتيجية دفاعية جدِّية وواقعية، ولكن لا يصح إسقاط القواعد السياسية المجرَّدة على واقعنا بما يؤدي إلى إضعاف لبنان. فلا يصح شعار حق الدولة وجيشها فقط في مواجهة إسرائيل، على أن تنسحب المقاومة من الميدان مهما كانت النتائج! كل الدول التي ترزح تحت الاحتلال تفتش عن شعبها ليرفدها بالمقاومة، فكيف نتخلى عنها ونحن بأمسِّ الحاجة إليها، وقد أثبتت جدواها وأثمرت نتائجها؟! فلبنان ما زال في دائرة الخطر المحدق الذي يتهدده من إسرائيل.
الدولة في لبنان ضعيفة، ينتشر فيها الفساد والمحاصصة والهدر، وتتعزر فيها سلطة المَزَارع على حساب الدولة القوية، وترزح تحت
210
202
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
مديونية تتجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي، وتتداخل السلطات فيها إلى درجة التسييس والتطييف لكل شيء، ولم تنطلق الحكومات المتعاقبة بخطوات جدِّية وعملية للإصلاح والتغيير والمحاسبة، وهي ضعيفة بسبب إدارتها وأداء الجهات السياسية المختلفة فيها. إنَّ الانتقال من الضعف إلى القوة، ومن الفساد إلى الإصلاح، ومن المزرعة إلى الدولة، يحتاج إلى تظافر جهود الجميع وتضحياتهم.
إنَّ حضور حزب الله القوي سياسياً وجهادياً لا يتعارض مع وجود الدولة القوية التي لا تشكِّل منافساً له، بل يريحه وجودها لتأمين مصالح الناس بعدالة وتوازن واستقامة. ولم يكن حضور حزب الله القوي على حساب الدولة وبنيتها، بل من رصيد تضحياته وأولوياته، فهو لم يشارك الكثيرين ممن غرفوا من المال العام ومراكز الإدارة. وإذا ما بقيت الدولة على حالتها الحاضرة فلن تكون قوية، حتى ولو لم يكن حزب الله موجوداً، فخلل الدولة بنيوي وعملي.
لم يَسْعَ حزب الله ليحل محل الدولة في أبسط الأمور، حتى في المرحلة التي انتشرت فيها الإدارة المدنية لبعض الأحزاب أثناء الحرب الأهلية. عندما تتقاضى الدولة الرسوم والضرائب، وتعتقل المخلين بالأمن والاجتماع العام والجواسيس، وتقضي بين الناس، وتقرر القوانين، وتصدر المراسيم والقرارات، وتشرف على الانتخابات، وتسير وفق الدستور، فهذا ما يعني أنها تقوم بدورها ولا أحد ينافسها على ذلك، بصرف النظر عن حسن التطبيق أو سوئه. لم يتصدَّ حزب
211
203
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
الله لأيٍ من هذه الأمور، وعندما اتهمه بعضهم بأنَّه دولة داخل الدولة، فلأنَّه هالهم أن يكون قوياً في حضوره بين الناس وخدمته لهم وتحريره للأرض، فضاقوا ذرعاً بهذا النموذج، واعتقدوا أن بإمكانهم إرباكه باتهامهم له. لكنَّ هذا الاتهام لا يغيِّر الوقائع. فلكي تكون الدولة قوية تحتاج إلى مسار يعزِّز قوتها. وإذا كانت القوى السياسية قوية فيها فهذه قوةٌ للدولة، وليس إضعافاً لها، طالما أنَّ دور الدولة محفوظ ولا يقترب منه أحد. الدولة القوية هي التي تسلح جيشها وقواها الأمنية بما يتناسب مع حاجاتها الدفاعية والأمنية، وهي التي تعدل بين الناس في الحقوق والواجبات، وتهيئ فرص العمل، وتهتم بالزراعة والصناعة والتجارة وحاجات الناس، وتلبي متطلبات المجتمع... وليست قوتها من ضعف الآخرين.
كل الجهات السياسية موضع تقييم بحسب رؤيتها السياسية. فلا توجد جهة محدَّدة تملك زمام التقييم، وإنما الجميع تحت غرباله، وعلى كلّ منهم إقناع الآخرين بصوابية طروحاته. وإنَّ وجود قوى سياسية متعددة دليلٌ على وجود تمايز بينها، حتى لو كان هذا التمايز محدوداً مع بعضها. وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الحياة السياسية. وهنا يجب أن يكون البحث عن المشتركات للتعاون، كي لا يبقى الخلاف السياسي مؤثراً ومعطلاً لقدرة الدولة.
عندما تثبت التجربة أنَّ حزب الله، الذي طرح رؤيته وأهدافه وبرامجه على الشعب اللبناني، استطاع أن يكون الحزب الأكثر انتشاراً وفعالية
212
204
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ومقبولية، ونسج تحالفات واسعة مع قوى سياسية متعددة، واتخذ موقعه التمثيلي للشعب بجدارة، واعترف العالم بحضوره وتأثيره في الساحة، فهذا يعني أنَّه ركن أساس في استقلال وحضور لبنان.
البحث عن المشروعية: كل جماعة في لبنان تبحث عن مشروعية عملها بالاستناد إلى ما تؤمن به. فمنهم من يرى مشروعية عمله من قيادته المحلية بالكامل، فيحمل رؤيتها للعمل في لبنان سياسياً واجتماعياً، ويفصل بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية الفردية، فيأخذ مشروعيته الدينية العبادية من مصدر آخر كالفاتيكان أو بطريركية إنطاكية أو من الأزهر أو من السعودية أو من النجف الأشرف... ومنهم من يدَّعي التزام المشروعية السياسية المحلية، لكنَّه يلتزم ضوابط التوجيه السياسي الإقليمي والدولي، وهو يبرِّر ذلك بالصداقة أو الدعم. وهذا خيار يختلط فيه البحث عن المشروعية السياسية بالتبعية للآخر، ومع ذلك فهو خيار موجود عند بعض الجهات في لبنان. ومنهم من يؤمن بضرورة تغيير النظام في لبنان، ويرفض التعايش معه، ويرى منهجاً آخر لإدارة شؤون البلد، لكنه يلتزم العمل السلمي للتغيير، ومنهم غير ذلك.
إذاً، نحن أمام رؤى متفاوتة في دفاع الجهات المختلفة عن رؤاها.
213
205
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
لكن الجميع -تقريباً- قد تسالم على التزام الدستور والقوانين الناظمة لعلاقات الناس مع بعضهم، والتعبير عن رؤاهم في إطار هذه القوانين.
عندما انطلق حزب الله في العام 1982، على أساس إيمانه برسالة الإسلام، وحدَّد أهدافه التي يريد تحقيقها في ساحة عمله في لبنان، كان المؤسسون بحاجة إلى التأكد من شرعية عملهم وانسجامه مع إيمانهم وتكليفهم، فحصلوا على الشرعية بامضاء الولي الفقيه الإمام الخميني قدس سره لمشروعهم كحزب إسلامي يريد العمل في ساحته لبنان. وهكذا انطلق "حزب الله" منسجماً مع ما قدمناه من وجوب الطاعة للقيادة الشرعية من الموقع الديني الإسلامي، ثم تحمَّلت قيادته المتمثلة بالشورى المنتخبة من كوادر الحزب مسؤولية تحقيق الأهداف والبرامج والدفاع عنها.
اقتصر الحزب في حركته خلال السنوات العشر الأولى لانطلاقته على العمل الجهادي والسياسي خارج إطار الدولة ومؤسساتها. وقد كان البلد منقسماً خلال تلك الفترة بين منطقتين وحكومتين، ثم واجه في العام 1992 قضية رئيسة تُعتبر مفصلية في العمل السياسي وهي المشاركة في الانتخابات النيابية.
جرى نقاشٌ موسَّع داخل الأطر القيادية للحزب حول مشروعية المشاركة في الانتخابات النيابية وآثارها العملية، "وتمحورت النقاشات حول الأسئلة التالية:
214
206
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
1- ما مدى مشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبِّر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح؟
2- إذا حُلت أزمة المشروعية، فهل تعتبر المشاركة موافقة على واقع النظام السياسي، ما يرتب مسؤولية في الدفاع عنه وتبنِّيه، وتنازل عن الرؤية الإسلامية؟
3- ما هي حجم المصالح والمفاسد التي تترتَّب على هذه المشاركة أو عدمها؟ وهل يوجد ما يُغلِّب أحدهما على قاعدة المصالح الأكيدة والواضحة؟
4- هل تؤدِّي المشاركة إلى تعديل في الأولويات، بحيث يتم التخلِّي عن المقاومة لمصلحة الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية؟"1.
إنَّ المشاركة في نظام غير إسلامي تتطلب موافقة الولي الفقيه. وهو نقاش مفتوح بين الفقهاء تاريخياً بين من يرى حرمة المشاركة في نظام غير إسلامي على قاعدة وجوب السعي لإقامة الحكم الإسلامي في كل مكان، وبين من يفتح الباب للمشاركة شرط رعاية الضوابط الشرعية بعدم الموافقة على المحرمات وتقريب القوانين من الأحكام الإسلامية وضوابطها.
1- المؤلف، حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل، ص: 333-335.
215
207
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
أعطى الولي الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله موافقته على المشاركة في الانتخابات، وهي جزء من المشاركة في تركيبة النظام اللبناني، شرط رعاية الضوابط الشرعية.
الولي الفقيه سبيلُ الحزب إلى الاطمئنان على مشروعية الرؤية الإيمانية السياسية التي يتم رسم أهدافه وبرامجه على أساسها. وهذا أمر تأسيسي يعني الحزب في تكوينه وحضوره واستمراريته، ولا علاقة للآخرين في كيفية حصوله على مشروعية رؤيته، إنما لهم أن يناقشوا أهدافه وسياساته وبرامجه ويقيِّموها، قبولاً أو رفضاً، ويسائلوه على مستوى النتائج، ولهم أيضاً أن يناقشوا في إيمانه المبدئي من موقع الحوار والحجة، وأن يختلفوا معه، ولكن ليس من حقهم أن يسيئوا لحكم شرعي مبني على الإيمان بولاية الفقيه بالتوهين أو الإهانة.
ما هو مهمٌّ في نظرتنا لأي جهة سياسية هو رؤيتها، التي تعرض من خلالها أهدافها وبرنامجها، فنناقشها لتحديد صوابية أو خطأ هذه الرؤية، ونحلل أبعادها ونتائجها، ونقيِّمها إذا ما كانت تبني الوطن أو تهدمه، وإذا ما كانت تساهم في تعزيز المشتركات بين القوى السياسية أم تباعد بينها. فالرؤية تُقيَّم على المستوى الوطني بأهدافها وبرامجها ونتائجها، ولا تقيَّم بكيفية تشكُّلها وقناعة القيمين عليها.
ولكل جهة أن تبحث عن مشروعية عملها بالطريقة التي تطمئن بها. ولا يملك أحد حصرية تحديد طريقٍ معيَّن للمشروعية، بل هو أمر اعتقادي عقلي يتشكَّل عند كل جهة بحسب تفكير قياداتها ومؤسسيها.
216
208
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
فالذين اعتبروا أنفسهم مصدر المشروعية، وأن لا قيادة فوقهم، وصلوا إلى هذه القناعة باعتقاد وتفكير، كما أن الذين لجأوا إلى قيادة أعلى منهم داخل أو خارج بلدهم، أو رؤية ليست مطروحة في وطنهم، استفادوا منها بهذا التبادل الإنساني العالمي، ووصلوا إلى قناعتهم هذه باعتقاد وتفكير أيضاً.
النقاش في المشروعية نقاش عقلي نظري. فمن يؤمن بولاية الفقيه، ينطلق من الإيمان بالإسلام كمنهج للحياة، ويتبنى الأهداف والبرامج التي يمضيها ولي الأمر، الفقيه القائد، واجب الطاعة، الذي يعطي المشروعية للعمل. ومن يؤمن بقيادة شخص أو زعيم من موقع التزام العلمانية، ينطلق من القواعد العلمانية التي رسمها مفكرون في العالم، ويتبنى الأهداف والبرامج التي تنسجم معها، ويتبنى إمضاء هذا الزعيم الذي يعطيها المشروعية التي يحتاج إليها من يؤمن بآرائه وقناعاته ومشروعية دوره. هنا يكون النقاش في المشروعية جزءاً من النقاش في المبدأ والمنطلقات.
لا مجال للعودة إلى قاعدة أو مقياس معترفٍ به بين البشر لحسم الجدل حول المبدأ والمنطلقات الأصوب، فكلّ فريق يدَّعي الأصوب بما أرشدته إليه عقولهم، فإذا ما حصل نقاشٌ مبدئي بين مختلفين، فإمَّا أن يُقنع أحدهما الآخر فيتفقان، وإمَّا أن يتمسك كل واحد منهما برأيه فيختلفان، وإمَّا أن يضيِّقا من مساحة اختلافهما لكنهما يبقيان أيضاً في إطار قناعتين مختلفتين، وهذا هو ديدن البشرية عبر التاريخ، فهذا
217
209
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ما خلقه الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينََ﴾1.
نحن أمام رؤىً لكل منها طريقٌ لمشروعيتها. فمن أراد الحوار أو الجدال أو الاقناع أو تثبيت الاختلاف فعليه النقاش في الرؤية، لأنَّه لا ينتفع ولا يعنيه كيفية تحصيل المشروعية لهذه الرؤية. فمن اختلف مع حزب الله يمكنه مناقشته في رؤيته الإسلامية، لكنه لن ينتفع بإثارة طريقه للمشروعية بإيمانه بولاية الفقيه، لأنها حكمٌ شرعي ديني يعني المؤمنين بها، وهي جزء من الرؤية المتكاملة. وهذا لا يعني سد باب النقاش، وإنما منع التراشق السياسي في مسألة إيمانية. كما لا يستفيد حزب الله من مناقشة تحصيل المشروعية عند القوى الأخرى، فالمهم هو رؤيتهم وانعكاسها أهدافاً وبرامج على الواقع في لبنان.
إذاً نحن أمام رؤية فكرية سياسية ومشروعية دينية أو فكرية أو سياسية لطمأنة أصحاب الرؤية حول سلامتها. فالمشروعية طريق إلى الرؤية، التي تتضمن المنطلق والأهداف ويتفرع عنها البرامج والسياسات والمواقف. وإنما يتواجه المختلفون بالرؤية، بينما تندرج المشروعية في داخلها وتكون من خصائصها ومستلزماتها الذاتية، والعبرة بإثبات أحقية الرؤية.
ترجمة الولاء للوطن: إذاً كيف يكون تقييم الولاء للوطن مع اختلاف المبادئ والقناعات؟
1-هود: 118.
218
210
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
يترجَمُ الولاء للوطن من خلال الأهداف والبرامج التي تنعكس أداءً ونتائج تؤشر إلى حقيقة الموقف.
وقد كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً وصريحاً عندما حدَّد رؤية الحزب في نظرته إلى الحكم في لبنان، وتقدير المصلحة في ذلك، وضرورة تكاتف جميع أبنائه لبنائه، فقال في كلمة له في ذكرى التحرير والانتصار في 26/5/2008: "نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا، ولا نريد السيطرة على لبنان، ولا نريد أن نحكم لبنان، ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني، لأنَّنا نؤمن بأنَّ لبنان بلدٌ خاص ومتنوع ومتعدد... لا قيامة لهذا البلد إلاَّ بمشاركة الجميع، وتعاون الجميع، وتكاتف الجميع، وهذا ما كنا نطالب به...ثم قال: إنَّ ولاية الفقيه تقول لنا: إنَّ لبنان المتنوع المتعدد يجب أن تحافظوا عليه".
يعتبرُ حزب الله لبنان وطناً لجميع أبنائه، ولا يقبلُ تصنيف المواطنين وفق درجات متفاوتة على أساس انتماءاتهم الدينية والسياسية، بل يجب أن يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات، ويقبل بخيارات الناس لممثليهم في التعبير عن قضاياهم، ويدعو إلى مشاركة جميع القوى للنهوض والاعمار والإصلاح وحماية البلد، ويعارض الاستئثار والإقصاء الفئوي أو المناطقي أو الطائفي أو المذهبي، ويقبل دستور الطائف سياسياً وتنفيذياً كنظام تعاقد عليه اللبنانيون واتفقوا عليه لإدارة شؤونهم، وهو الذي يشكل الحد الأدنى للاستقرار السياسي الضروري،
219
211
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
ويؤكد على إبقاء الفرصة متاحة لتطوير النظام السياسي في لبنان نحو الأفضل، ويدعو إلى معالجة القضايا المختلفة في إطار المؤسسات الدستورية، ويؤكد على حفظ وحماية وتدعيم السلم الأهلي، ويرفض تشكيل الميليشيات المسلَّحة أو استخدام العنف والإرهاب لتحقيق الغلبة السياسية أو الاجتماعية، ويؤمن بالدفاع عن لبنان بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها المقاومة المسلحة لتحرير أرضه وحمايته من أخطار الاعتداء والاحتلال والتهديد، ويرفض الوصاية الأجنبية على لبنان أو جعله ملحقاً بأي جهة إقليمية أو دولية، ولا يقبل توطين الفلسطينيين في لبنان إيماناً منه بحقهم في العودة إلى أرضهم الفلسطينية وتحريرها من المحتل الإسرائيلي، ويولي اهتماماً كبيراً لمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون سياسات الدولة إنسانية في تأمين حاجات مواطنيها، وأنه يجب أن يكون لدينا جيش قوي، وقضاء مستقل غير مسيَّس، وأن تتم محاسبة المرتكبين والمجرمين والعملاء والخونة لحماية الساحة.
لا يكون الولاء للوطن بالخطب الرنَّانة، ولا بالشعارات المخادعة، ولا بالعمالة لإسرائيل، ولا بقبول الاحتلال أو التغاضي عنه، ولا باستقدام الأجنبي والاستنصار به على الآخرين، ولا بالتحريض الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولا بالبهتان وبث الإشاعات والأكاذيب لتضليل الرأي العام، ولا بالمواقف المستندة إلى مقدمات ومعطيات خاطئة تؤدي إلى التصادم والتوتير.
220
212
حزب الله بين ولاية الفقيه والولاء للوطن
لولاء للوطن سلوك تعكسه المبادئ والقناعات من خلال الأهداف والبرامج عند تطبيقها عملياً. وهنا يكون النقاش في السلوك. وهل هناك وطني أشرف ممن يقاتل لتحرير أرضه مقدماً دمه وماله من أجل قضيته؟ هذا هو المعيار الأساس الذي نجح فيه من قاتل أو أيَّد أو نصر أو دعا أو آزر أو دافع... فوطنيته عَلَمٌ وولاؤه ساطع. أمَّا من برَّر للعدو أو تعامل معه أو وضع العراقيل أو ثبَّط العزائم والهمم... فقد ارتكب خيانة للوطن، تتطلب توبة عنها لمن أراد أن يكون وطنياً.
221
213