المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وبعد.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "من أُعْطِيَ الدعاء, أُعْطِيَ الإجابة... ثمّ قال عليه السلام: أتلوتَ كتابَ الله عزّ وجلّ:... وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[1]"[2].
حقيقة الاستجابة تكمن في الإقبال على الله تعالى بالدعاء بلسان القلب والفطرة، بحيث لا يخيب معها سائل. قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[3].
وأمّا علّة مطلوبية الدعاء, فلأنّ الدعاء مَظْهَرُ فقر الإنسان إلى الله تعالى واحتياجه إليه. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[4]. ومن المعلوم أنّ الفقر صفة دائمة في الإنسان (لأنّه صفة مشبّهة), يعني: كما أنّ الممكن في حدوثه يحتاج إلى المؤثّر, فكذلك في بقائه, فكلّ شأن من شؤون الممكن يحتاج
1
المقدمة
إلى مدبّر غني، وما هو إلّا الله تعالى.
ومن هذا المنطلق، ينبغي المواظبة على قراءة الأدعية المأثورة عن المعصومين عليهم السلام، وأن نتدبّر مليّاً في مضامينها وحقائقها النورانيّة، حتى تنعكس كمالات ومظاهر جمالية في نفوسنا، وأن نتعلّم منها آداب الكلام مع الله تعالى، وكيف ندعوه، وماذا نطلب منه.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "إنّ لحظات الدعاء، ومناجاة الله، والتضرّع لخالق هذا الكون والجمال والمُطَمْئِن الوحيد للقلوب والأرواح وقاضي الحاجات، هي أفضل وأنجع وأجمل وأنفع لحظات حياة الإنساني"[1].
وإنّ المؤمنين يطلبون الأنس بالله تبارك وتعالى ومناجاته عشقاً، ويعتبرون ذلك من مستلزمات وجودهم المحتاج والتابع والغارق في الفقر. مع أنّ للدعاء والمناجاة فوائد عظيمة وباقية، إلّا أنّ التقرّب إلى ذات الحقّ تعالى وطلب رضاه، وتبييض صفحة الأعمال الملوّثة بالذنب والغفلة، أو لوث الحياة المادّية، يبقى أفضل ما يحصل عليه المرء بالدعاء.
والدعاء مفتاح الخزائن الإلهيّة، سلاح المؤمن، وأفضل عبادة, يدفع البلاء ويجلب النعمة والرحمة الإلهيّة. وإنّ ثمار الدعاء الوفيرة جعلته مخّ العبادة وأفضلها، ومن يعش دون هذا السلاح، تكن حياته ضياعاً وعجزاً ويبقى بلا مأوى. جاء في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه: "ألا أدلّكم على سلاحٍ ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: تدعون ربّكم بالليل والنّهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"[2]. فمن أراد السعي، عليه أن يحمل سلاح الدعاء، ومن وقع في سجال مع عدوّ أو في حادثة أو بليّة، فعليه بسلاح الدعاء.
2
المقدمة
"وإنّ صلة الدعاء، هي علاقة قلبكم مع الله، فالدعاء يعني الطلب، ومناداة الله, والطلب يعني الأمل. وما لم تشعروا بالأمل فإنّكم لن تطلبوا من الله شيئاً. فالدعاء إذاً هو الأمل, أي إنّه المترافق مع الأمل بالإجابة، وهو ما يُشعل القلوب ويبقيها مستنيرة. إنّها بركة الدعاء التي تعطي المجتمع الحيويّة والنشاط"[1].
"وإنّ الروحانيّة، المناجاة مع الله، اتّصال القلوب بالله المتعال، اتّخاذ الله هدفاً، عدم الانخداع بالمظاهر، وترك التعلّق بالمال وزينة الدنيا وزخارفه, هذه العناصر كلّها هي التي تصنع فئةً مؤمنة, وعندها تتحقّق: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾[2], حتّى وإن كنتم قلّة، عندما تكونون مسلّحين بذلك البعد المعنوي، فإنّكم ستلحقون الهزيمة بالفئة الكثيرة رغماً عنهم...."[3].
ونظراً لأهمّية الدعاء في الإسلام نجد بأنّ أئمتنا عليهم السلام قد حرصوا على تعليم أصحابهم وشيعتهم الأدعية المرتبطة بالزمان والمكان والمناسبات الدينية...، وما ذلك إلا ليبقى الإنسان على صلة يومية ودائمة مع الدعاء، ما يعزّز البنية الإيمانية والوجدانية في النفس، ويقوّي الروح والإرادة في مختلف مراحل الحياة ومتطلّباتها.
لهذا كلّه عمد مركز نون للتأليف والترجمة إلى تخصيص متن تعليمي جديد ومتفرّد في موضوعه ودروسه يتناول في مضامينه الدعاء والزيارة في الإسلام، وذلك بأسلوب ولغة تعليمية تعين المعلّم والمتعلّم على معرفة أبواب خزائن وأسرار أدعية أهل البيت عليهم السلام وزياراتهم.
مركز نون للتأليف والترجمة
3
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
الفصل الأوّل
الأبعاد العقائدية والتربوية
للدعاء والزيارة
الكفايات
1- يحدّد المعنى المفاهيمي للدعاء في القرآن الكريم والروايات الشريفة.
2- يفهم خصوصية الدعاء المأثور والدعاء في الصلاة.
3- يفهم الأبعاد العقائدية والتربوية والمعنوية للشفاعة والتوسّل ويجيب عن الإشكالات الواردة على بعضها.
4- يؤدّي الدعاء والزيارة بخشوع.
19
4
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
الدرس الأول: الدّعاء في القرآن الكريم
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الدُّعاء في اللغة والاصطلاح القرآني.
2- يعرف عناصر الرؤية القرآنية للدعاء.
3- يطلّع على نماذج من أدعية الأنبياء ويحلِّلها.
21
5
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
أوّلاً: معنى الدُّعاء
1- الدُّعاء في اللغة:
قد يظهر من كلام بعض المحقّقين أنَّ "الدُّعاء بمعنى النداء، وأنَّ النِّداء هو الأصل"[1]، ثمّ يجري على معانٍ عدَّة ومنها الدُّعاء، والذي يستخدم بدوره في معانٍ أُخر: "كالاستغاثة، الاستحضار، الابتهال، الرَّغبة، وأمثالها"[2].
وبالتَّالي، يكون التعريف الأنسب للفظ الدُّعاء هو "أن تَميل الشيءَ إليك بصوتٍ
[1] المصطفوي، حسن: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج3، ص217، طهران، مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي، 1417 هـ، ط1.
- وكذلك قاله الراغب في المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد: المفردات في غريب القرآن، ص169، قم، دفتر نشر الكتاب، 1404 هـ، ط2.
[2] م.ن، ص218. ويقول أبو هلال العسكري:" الفرق بين الدُّعاء والنداء: الأول قد يكون بعلامة من غير صوت ولا كلام، ولكن بإشارة تنبئ عن معنى: تعال، ولا يكون النداء إلا برفع الصوت، وامتداده": العسكري، أبو هلال: الفروق اللغوية، ص535، مؤسسة النشر الإسلامي (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1412هـ، ط1.
- وهذا ما قاله الطبرسي في مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج2، ص424، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1995 م، ط1.
22
6
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
وكلام يكون منك"[1]، مع الالتفات إلى أنَّ الدُّعاء الذي يطلبُ به الدَّاعي إمالةَ المدعوّ إليه، قد يكون بغير الصّوت، كأن يكون بإشارةٍ ما، كحركة العين أو اليدين وغير ذلك. وتستطيع أن تلاحظ أنَّ هذا التَّعريف مطلقٌ، لا يحدِّدُ أطرافَ العلاقة في الدُّعاء، ولا يساعد على توضيح المعنى المراد من الدُّعاء.
2- الدُّعاء في الاصطلاح:
ونقصد بالاصطلاح هنا، هو معنى "الدُّعاء" كلفظ أريد به معنىً محدّداً في القرآن الكريم، وقد يوافق هذا المعنى المعنى اللغوي أو يفرق عنه، ومعرفة المراد من المصطلح تعيننا على تحديد الأبعاد المختلفة التي أرادها الإسلام من وراء وضع هذا المصطلح.
فما هو المقصود من لفظ "الدُّعاء" إذاً؟
يعرِّف العلّامة الطّباطبائي الدُّعاء في سياق شرحه لآية: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾[2]، فيقول: "الدُّعاء والدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الدَّاعي، ويتأتَّى غالباً بلفظٍ أو إشارة. والاستجابة والإجابة إقبال المدعوّ على الدَّاعي عن دعائه"[3]، والجهة التي ينبغي أن يتوجّه إليها الدُّعاء هو الله سبحانه وتعالى، كما في
[1] ابن فارس، أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة، ج2، ص279. عبد السلام هارون (تحقيق)، مكتبة الإعلام الاسلامي، 1404 هـ، ط1.
- لاحظ التعريف الذي اعتمده السيد الطباطبائي قدس سره: "ولكن الرأي الأصح هو أنَّ الدُّعاء أعمّ من النّداء، فإنّ النّداء يختص بباب اللفظ والصَّوت، والدُّعاء يكون باللفظ والإشارة وغيرهما، والنِّداء إنَّما يكون بالجهر، ولا يقيِّد الدُّعاء".
- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص38، قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ط2.
[2] سورة الرعد، الآية 14.
7
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
سياق الآية (له)، وتقديم ما حقُّه التَّأخير (له) هنا يفيد اختصاص الدُّعاء به تعالى دون غيره من الجهات.
ثانياً: الدُّعاء في الرّؤية القرآنية
نقف هنا على مسألةٍ مهمَّة، وهي أنَّ تحديد مفهوم الدُّعاء وحقيقته وأبعاده ينبغي أن يؤخذَ من خلال القرآن الكريم، كونه المصْدر الأول للتَّشريع الإسلامي، ولأنّه أيضاً يطفح بالشَّواهد العديدة التي ورد فيها ذِكرُ الدُّعاء وحقيقته والشُّروط التي توجب تحقُّق الاستجابة له. والذي يدفعنا إلى التوجُّه للقرآن الكريم للبحث عن نظرة الإسلام للدّعاء، كون الدُّعاء مسألةً من أهمّ المسائل التي تظهر فيها العلاقة القويَّة بين العبد والله تعالى، وبالتّالي, ولخصوصيّة أمر العلاقة بين الله وعباده، فإنَّه ينبغي أن يكون الحديث عن الدُّعاء جارياً تحت نظر القرآن الكريم.
ولو اعتمدنا على التَّعريف المتقدِّم للدُّعاء، لوجدنا عدة أركانٍ يتقوّم بها الدُّعاء هي:
1- "المدعوّ: وهو الله تعالى.
2- والداعي: وهو العبد.
3- والدُّعاء: وهو طلب العبد من الله تعالى.
4- والمدعوّ له: وهو الحاجة الّتي يرفعها العبد بالدُّعاء إلى الله تعالى"[1].
ولكي نحدّد الرّابط الذي يجمع هذه الأركان الأربعة للدّعاء، لا بدّ لنا من أن نقوم بالبحث عن جوهر الدُّعاء وروحه.
[1] الآصفي، محمد مهدي: الدُّعاء عند أهل البيت، ص5، النجف الأشرف، مطبعة مجمع أهل البيت عليهم السلام النجف الأشرف، 2009م، ط1.
24
8
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
ولو عُدنا إلى القرآن الكريم، وجدنا أنَّ جوهر الدُّعاء هو "قيام الدَّاعي بنصب نفسه في مقام العبودية والمملكوية، والاتّصال بمولاه بالتَّبعية والذلّ، ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه"[1].
إذاً، نحن أمام عددٍ من المقدِّمات التي تشكل عناصر الرؤية القرآنية للدُّعاء:
المقدّمة الأولى: الإنسان مملوكٌ لله تعالى
لا شيء في هذا الوجود خارجٌ عن ملك الله تعالى، ولا يملك أحدٌ شيئاً إلا بإذنه، مهما كان هذا الشَّيء حقيراً أو خطيراً، يقول تعالى:﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾[2]. والإنسان هو أحد الموجودات التي يقع عليها هذا "الملك"، فالإنسان بنفسه مملوك لله تعالى، وكلّ يملكه فإنَّما يملكه على نحو الادِّعاء لا الجدّ، فالله تعالى "يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون دونه في أنفسهم، ولا ما يتبع أنفسهم من الصِّفات والأفعال"[3]. وهذا يعني أنَّ الإنسان يعيش مملوكيةً كاملةً لله تعالى.
المقدّمة الثانية: المملوكية تعني الفقر
إنّ هذا الموجود الذي يعيش المملوكية المطلقة لله تعالى، ولا يستطيع أن يتصرَّفَ أو يقومَ بأيٍّ من الأفعال على نحو الاستقلال، يفتقر دائماً إلى من يوجده في البدء، ويديم عليه النِّعم بعد إيجاده، ويصرف عنه أنواع النقص والحاجة، بل الإنسان ما دام إنساناً فإنَّه يحمل في جبلّته الفقر الذَّاتي إلى الله تعالى، وهو معنى العبودية الحقيقية لله تعالى[4]، و"معنى العبودية أنّ العبد لا يملك مع سيده شيئاً"[5].
9
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
ويقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[1].
ومن هنا كان الإنسان، وأمام كلّ موقف يستشعر فيه الضعف والنقص والحاجة والفقر، يبحث -بدافع من جبلَّته- عن مصدرٍ غني مترفِّع دائماً عن النّقص، وهو الله تعالى.
المقدّمة الثالثة: الدُّعاء أقرب الطّرق لنفي الفقر
فإذا قلنا بأنّ الإنسان مملوكٌ لله، وأنَّه عبدٌ له يعيش النقص، وأنّه إذا أراد أن يجبر نقصه عليه أن يتوجّه إلى مصدر الغنى الذي لا ينفد، فأيُّ الوسائل يستخدم؟
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[2]. ومفهوم القرب مفهوم قرآنيّ يشمل كلّ أنواع النِّسب، فلو كانت نسبة الشيء إلى الإنسان حقيقيةً كنسبة النَّفس والبدن والسَّمع والبصر إليه، أو نسبةً اعتبارية كالزَّوجة والولد والدَّار والمال، فإنَّ الله تعالى وحده يملك الإذن في استقرار النِّسبة بينه وبين ما يملك، وبالتالي يكون الله تعالى هو الحائل بين الإنسان ونفسه، والحائل بينه وبين ما يملك، وهو ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[3]، وقد قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[4].
إذاً، ملك الله تعالى لعباده ملكٌ حقيقي، وكونهم عبادَه موجبٌ لكونه تعالى قريباً منهم، وهذا "الملك الموجب لجواز كلّ تصرف، شاء كيفما شاء، من غير دافع ولا مانع, يقضي أنَّ لله سبحانه أنْ يُجيب أيّ دعاءٍ دعا به أحدٌ من خلقه، ويرفع بالإعطاء والتصرُّفِ حاجتَه التي سأله فيها"[5].
10
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
المقدمة الرابعة: إجابة الدُّعاء مشروطةٌ
قد يحصل وهمٌ ما عند بعض الناس نتيجة الكلام السّابق، فيتوهّم أنّ إجابة الله تعالى للدعاء ينبغي أن تتحقَّق دائماً، فالإنسان دائماً هو مملوك لله، وهو مفتقر إليه حتماً، والله قريب منه دائماً، فمتى ما دعاه أجابه؟
يؤكّد القرآن الكريم على "شرط صدق الدُّعاء"، فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[1]، يشتمل على إجابة الدُّعاء، ولكنّه أيضاً يوضح علَّة الإجابة بقوله: "إِذَا دَعَانِ".
فالاستجابة للدعاء، إذاً، مبنيَّةٌ على مقدِّمات: أن يكون الدَّاعي عبداً لله تعالى، وكونه عبداً يعني أنَّه قريبٌ من الله تعالى، والقرب منه هو الموجب للإجابة. فكلُّ قريبٍ عابدٌ لله داعٍ له، دعوتُه مستجابة. وكلُّ عبدٍ لا يكون قريباً لله فإنَّ دعوتَه غيرُ مستجابة.
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: "وعد الإجابة المطلقة، إنَّما هو إذا كان الدَّاعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي، مواطئاً لسانُه قلبَه، فإنَّ حقيقةَ الدُّعاء والسُّؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أُديرَ صدقاً أو كذباً، جدّاً أو هزلاً، حقيقةً أو مجازاً"[2].
المقدّمة الخامسة: الدُّعاء عبادَةٌ
يؤكّد القرآن الكريم على أنّ الدُّعاء في حقيقته هو أجلى صور العبادة، وأنقى أسلوب يعتمل به كيان الإنسان في إبراز العبودية لله تعالى. وهذا الأمر - أي الدُّعاء - يعدُّ ميزاناً حقيقياً لقياس عبودية الإنسان لله تعالى، فالإنسان الذي يأتي بالدُّعاء على وجهه وشروطه وتتحقّق له الاستجابة هو إنسانٌ بلغ في العبودية مداها الأوسع.
11
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[1]، نلاحظ أنّ الآية الكريمة قد دعت إلى الدُّعاء بالمعنى الذي تقدَّمَ شرحُه، ثمَّ جعلت الذين يرفضون هذا الدُّعاء خارجين عن معنى العبودية لله تعالى، فالدُّعاء هنا هو العبادة، والعبادة هي الدُّعاء[2]. وهذه الآية تؤكّد التّرابط الشّديد الذي بيّناه حول العلاقة بين العبوديّة والمملوكيّة والفقر والقرب، وأثر ذلك في تحقيق التَّواصُل الأسمى بين الله وعباده.
ولا يخفى أنَّ غايةَ الإنسان في وجوده هي تحقيق العبادة لله تعالى، وذلك مؤدَّى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[3]، فالدُّعاء بمعناه المتقدّم, هو المحرِّك الأساس في حركة العبوديَّة اتّجاه الله جلّ وعلا.
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الدُّعاء هو العبادة التي قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[4]".
ثالثاً: الدُّعاء في حركة الأنبياء عليهم السلام
يفرد لنا القرآن الكريم شواهدَ كثيرةً من حياة الأنبياء العظام عليه السلام، تنبئنا عن أهميّة الدُّعاء في حياتهم الرّسالية والشّخصية، ومن هذه النّماذج:
1- آدم عليه السلام وحواء عليها السلام:
إنّ قصّة آدم وحواء عليها السلام التي انتهت بخروجهما من جنتهما، قد بيّنها القرآن الكريم وأوضح لنا حجم الأسى الذي ركب قلبيهما لارتكابهما مخالفة الأمر الإلهي
12
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
"الإرشادي"[1]، إذ قالا: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[2]. وهذه الآية من آيات الأدعية التي دعا بها الأنبياء عليهم السلام.
نلاحظ في هذا الدُّعاء أموراً:
- وقف النّبي آدم عليه السلام وزوجه موقفَ الالتجاء إلى الله تعالى، ولم ييئسا من زوال النعمة، بل بادرا إلى التعلّق به تعلّق العبد بالمالك، والفقير بالغني المطلق.
- الدُّعاء يبدأ بنداء الله تعالى بصفة الرَّبوبية[3], لأنَّ صفة الرُّبوبية تشتمل على كلّ ما يدفع به الشرُّ ويُـجْلب به الخير.
- ويذكر الدُّعاء أنَّ السَّبب الذي دفعهما إلى الدُّعاء والالتجاء إلى الله تعالى، هو أنَّهما استشعرا الخسران الوشيك الذي أطلّ برأسه عليهما. وهذه الحالة من الشّعور بالخسارة ناجمةٌ عن الشّعور بالنَّقص والفقر الشّديد الذي لا يمكن أن يجبرَه أحدٌ سوى الله تعالى.
- والواضح أنَّ النَّبي آدم عليه السلام وحواء يُظهران أدَباً كبيراً مع الله في توبتهما وطلبهما العفو والغفران منه تعالى, فلم يقولا "ربّنا اغفر لنا"، بل قالا: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾، وكأنَّهُ طلبٌ غيرُ مباشرٍ للمغفرة، فيه الكثيرُ من الحياءِ والخجل.
- لم يبقَ بعد الإقرار بالذَّنب، والفقرِ والنَّقص، والإذعان بالربوبيَّة لله والعبوديَّة، إلا طلب المغفرة من الذَّنب الحاصل، وكذلك الرَّحمة الجابرة لما فاتَ والتي تفتح لهما بوَّابة القرب الإلهي مجدَّداً[4].
13
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
والذي يدّقق في هذا الدُّعاء المختصر، يجد أنَّه يتضمَّن كلّ العناصر التي سبق أنْ قدَّمناها في الرُّؤية القرآنية، والتي حقَّقت الإجابة الإلهية لدعائهما، إذ قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[1].
2- دعاء النبي إبراهيم عليه السلام:
يقول تعالى حكاية عن النبي إبراهيم عليه السلام: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾[2].
يعدُّ هذا الدُّعاء من الأدعية الجميلة التي نقلت عن الأنبياء عليهم السلام، وبالخصوص عن أبيهم إبراهيم عليه السلام، والذي جاء القرآن بدعائه لنا من أجل أن نتعلَّم من أدب إبراهيم عليه السلام في مخاطبة الله ودعائه.
- أوّل ما نلاحظه في هذا الدُّعاء هو الأسلوب الذي بدأ به إبراهيم عليه السلام في الدُّعاء، إذ بدأ بثناء جامع أدرج فيه عناية ربّه به، من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربّه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلّها، ولم يذكر لربّه إلا الغنى والجود المحض.
- ومن جملة ذلك الأدب أنَّه راعى في بيانه نسبةَ المرض إلى نفسه في قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ فنسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربّه، بدعوى أنَّه لا يصدر منه إلا الجميل.
14
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
- صُدِّر الدُّعاء بالإذعان بالربوبية، وهو مفتاح نجاح كلّ دعاء كما رأينا، ثمَّ يطلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى أنْ يعطيه (الحكم)، والذي هو عبارة عن "الحكمة" المقترنة بالاستعداد للتنفيذ والعمل. ولا شكّ أنّ إبراهيم عليه السلام كان يتمتَّع بمقام "الحكم"، لكنّه كان يطلب المزيد, لأنَّه ليس للحكمة حدٌّ معيّن. وقد يفهم من الآية أنّ إبراهيم عليه السلام يعلم أنّ "الحكم" نعمةٌ قد يسلبها الله في أيّ وقت, ولذلك هو يؤكّد على دوامها من الله تعالى.
- ثمّ لنلاحظ ما اختاره لنفسه من الطّلبات، "إذ اختار ما هو أعظم وأفخم، فسأل الحكم وهو الشَّريعة واللحوق بالصَّالحين، وسأل لسان صدق في الآخرين، وهو أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته، ويروّج شريعته، وهو في الحقيقة سؤالٌ أنْ يخصّه بشريعةٍ باقيةٍ إلى يوم القيامة، ثم سأل وراثة الجنّة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم القيامة"[1].
- ثمّ لنلاحظ كلمة (تخزني)، وهي مأخوذة من مادّة (خزي) والذي "معناه الذلّ والانكسار الروحي الذي يظهر على
وجه الإنسان من الحياء المفرط"[2]، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه. وهذا التعبير من إبراهيم عليه السلام، بالإضافة إلى أنَّه درسٌ للآخرين، هو دليلٌ على منتهى الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على لطف الله العظيم[3].
15
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
مفاهيم رئيسة
1- يعرَّف الدُّعاء في اللغة بكون الدَّاعي على حالةِ "أن تَميل الشيءَ إليك بصوتٍ وكلام يكون منك".
2- يعرّف الدُّعاء في الاصطلاح بأنّه عبارة عن توجيه نظر المدعوّ إلى الدَّاعي، ويتأتَّى غالباً بلفظٍ أو إشارة.
3- تتلخّص النظرة القرآنية للدعاء بأنّه عبارة عن: "قيام الدَّاعي بنصب نفسه في مقام العبودية والمملكوية، والاتّصال بمولاه بالتَّبعية والذلّ، ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه".
4- تتشكّل الرؤية القرآنية للدعاء بعدد من المقدّمات أهمّها:
- يعيش الإنسان مملوكيةً كاملةً لله تعالى، فالإنسان ما دام إنساناً فإنَّه يحمل في جبلّته الفقر الذَّاتي إلى الله تعالى، وهو معنى العبودية الحقيقية لله تعالى.
- إنّ ملك الله تعالى لعباده ملكٌ حقيقي، وكونهم عبادَه موجبٌ لكونه تعالى قريباً منهم، وهذا يقضي أنَّ لله سبحانه أنْ يُجيب أيّ دعاءٍ دعا به أحدٌ من خلقه.
- الدُّعاء مشروط بأن يكون الدَّاعي صادقاً صدقاً قلبيا ولفظيا.
- الدُّعاء هو العبادة، والعبادة هي الدُّعاء، وبالتالي يعد الدُّعاء ميزاناً حقيقياً لقياس عبودية الإنسان لله تعالى، فالإنسان الذي يأتي بالدُّعاء على وجهه وشروطه وتتحقّق له الاستجابة هو إنسانٌ بلغ في العبودية مداها الأوسع.
5- نجد في القرآن الكريم نماذج جميلة من أدعية الأنبياء، كالدعاء الذي دعا به النبي آدم عليه السلام وحواء عليه السلام بعد إخراجهما من جنّتهما، ودعاء ابراهيم عليه السلام.
32
16
الفصل الأول: الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
للمطالعة
الدعاء، طلب عون الخالق في العمل والبناء
لا يظنّنّ أحد أنْ لا دور للدعاء والمناجاة في حياة الشعب الذي يعيش نهضة إعمار! على العكس، إنّ شعباً يختار طريقاً صعباً، ويريد أن ينجز عملاً جبّاراً، عليه أن يفتح ـ إلى جانب العمل والجهد والسعي ـ باباً واسعاً للدعاء والإقبال على الله وطلب العون منه. عندما تنظرون إلى تاريخ الإسلام، ترون أنّ المعصومين عليهم السلام، ومنهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء والتوسّل في ساحات الحرب، وفي الشدائد وعظائم الأمور. لا يحقّ لأحد أن يقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في صدر الإسلام لم يعملوا أو يكدّوا، فليس هناك جهد أكبر ممّا بذلوه. لقد كانت تلك السنوات العشر التي كان الرسول فيها حاكماً للمجتمع الإسلامي، سنواتٍ ملؤها العمل والكدّ، ولكن في الوقت نفسه، إلى جانب العمل والكدّ، كان لدعاء ربّ العالمين والتضرّع والإنابة إليه واستغفاره والطلب منه والسؤال مكانة خاصّة. إذا أراد شعبٌ أن يكون موفّقاً في الطريق الذي يسلكه، فعليه إصلاح علاقته مع الله، وإذا أراد إنجاز أعمالٍ عظيمة، يجب أن يطلب المدد من الله. وإذا أراد الإنسان إزالة خوف الأعداء من قلبه، فعليه التخلّص من خوفه من القوى العظمى, فإنّ سبب تعاسة الشعوب خوفها من الأقوياء والمتعنّتين والسفّاحين الدوليّين...
إذا أراد الإنسان أن لا يخاف من القوى العظمى، فعليه أن يخاف الله. إنّ قلباً تملؤه مخافة الله ومحبّته، ويملؤه الإقبال على ربّه، سوف لن يخاف من أيّ قوة, ففائدة الدعاء هي هذه. إنّ السرّ الأكبر لنجاح إمامنا الخمينيّ العظيم ـ الذي كان كما رأيتم، واقفاً ثابتاً كالجبل ـ هو صموده تحديداً, وهو ما حصل عليه من خلال علاقته بالله تعالى, هذه هي فائدة العلاقة مع الله[1].
17
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
يتعرّف إلى معالم الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام.
يفهم العلاقة بين الدُّعاء والقدر.
يفهم كيف يستجيب الله الدعاء ولا يرّده.
35
18
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
تمهيد:
الدُّعاء هو روح العبادة وحقيقتها، وقد مرّ معنا في الدرس السابق شرح حقيقة الدُّعاء في القرآن الكريم، ونجد هذه الحقيقة الساطعة أيضاً عند أهل البيت عليهم السلام، الذين يشكّلون الدعامة الثانية التي يقوم عليها الطريق إلى الله تعالى، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"[1]. وبالتالي سيكون هدفنا في هذا الدرس هو عرض أهمّ معالم الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام.
معالم الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
1- الدُّعاء ضرورة
يعيش الإنسان في هذه الدُّنيا وهو معرَّضٌ لأنواع من النّقص، والضرر المادية منها والمعنوية. وإذا كان دفع الضَّرر ورفع النّقص متيسِّراً له، فإنّ العقل وكذلك السنّة يحكمان بضرورة دفع الضرر، وجبر النقص. والدُّعاء, من الوسائل التي ثبت
[1] العاملي، الشيخ الحرّ: وسائل الشيعة، ج27، ص34، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث (تحقيق)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414 هـ، ط2.
36
19
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
في الشَّرع الشّريف أنّها تستطيع أن تدفع الضرر عن الإنسان, لأنّها تربطه بمسبّب الأسباب النَّافع الضّارّ عزَّ وعلا، فلا بدّ للإنسان من أن يعتمد على الدُّعاء في كلّ ما فيه ضرر ويشوبه نقص.
وأمّا الضّرورات فإنَّها مختلفة بحسب اختلاف النَّاس، ومواقعهم في سلّم السير والسلوك إلى الله تعالى، فضرورات العوام غالباً لا تخرج عن كونها من ضرورات المطعم والمشرب والملبس وغير ذلك، وضرورات أهل المعرفة تكون من باب طلب المعارف، وضرورات أهل المحبّة هي لقاء المحبوب ومعرفة شؤونه. ولا يرفع ضررَ كلّ طائفةٍ بحسبها شيءٌ مثل الدُّعاء.
فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّه قال: "ما من أحد ابتُلي، وإن عظمت بلواه، أحقّ بالدُّعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء"[1]، يقول الشيخ الجليل ابن فهد الحلي في التعليق على هذه الرواية: "ظهر من هذا الحديث احتياج كلّ أحد إلى الدُّعاء، معافى ومبتلى. وفائدته رفع البلاء الحاصل ودفع السوء النازل، أو جلب نفع مقصود، أو تقرير خير موجود ودوامه ومنعه من الزوال"[2].
وقد قال الله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾[3]، فالدُّعاء أمرٌ مطلوب في كلّ أحوال الإنسان الذي لا تخرج أحواله عن حالتي الخوف والرجاء، فالدُّعاء ضرورةٌ حثّ عليها أهل البيت عليهم السلام في موارد كثيرة.
2- الدُّعاء والمعرفة
إنَّ حاجة الإنسان الدائمة إلى سدِّ النَّقص فيه ودفع الضَّرر عنه، تجعله يبحث عمّن يستطيع أن يؤمّن له هذه الحاجة في كلّ زمان ومكان، وهذا ما نسمّيه بدافع
20
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
المعرفة. فلا يمكن للإنسان أن يرفع حاجاته وعناوين نقصانه إلى جهة مجهولة غير معلومة إطلاقاً أو جزئياً، بل مقتضى العقل أن يبحث الإنسان عن أفضل من يقدر على ملء فراغ احتياجه وإرواء ظمأ نقصه. والله سبحانه وتعالى هو الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تؤمِّن لكلّ الناس، باختلاف مواقعهم، احتياجاتِهم المتنوّعة. ومعرفته تعالى على أنَّه هو السَّبب الأساس والعلّة الرَّئيسة في تقدير كلّ الأمور، معرفة لا بدّ منها لكي يوجَّه الإنسان بها دعاءه.
عن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لأبي ذر رضوان الله عليه: "احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله, فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه"[1]، فالرّواية الشَّريفة هذه تبيِّن لنا حصريَّة النفع والإعانة والحفظ بالله تعالى. وموضع الشاهد هنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم "تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة" فعلى الإنسان أن يدعو الله في الرَّخاء ولا ينساه، فإذا جاء وقت الشدّة استجاب دعاءه ولم ينسه. وذلك أنَّ نسيان الله في الرَّخاء يعني أنَّ الإنسان يذعن بأنَّه لا حاجة لله تعالى في الرَّخاء، وأنّه يتّكل على الأسباب دون الله تعالى. ثمّ لو دعا ربّه في الشدّة، فإنّ معنى ذلك أنَّه يُذعن بالرّبوبية في حال الشدّة فقط، وعلى هذا التقدير، يكون الإنسان متوجِّهاً إلى ربٍّ ينفع وقت الشدَّة دون وقت الرَّخاء "وليس تعالى على هذه الصِّفة، بل هو ربّ في كلّ حال وعلى جميع التَّقادير, فهو لم يدْعُ ربَّه"[2].
21
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
3- الدُّعاء يقوِّي المعرفة
عندما يتَّجه الإنسان إلى الله تعالى فإنَّه سوف يبدأ بالتَّفكير بأنَّ الله قادرٌ وعالم بما خفي عنَّا وبما ظهر وبأنَّه محيطٌ بجميع الأسرار، وهذا ما سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان، بخاصّةٍ إذا كانت الأدعية المقروءة من الصّحيفة السّجادية أو المناجاة الشَّعبانية أو الصَّباح أو كميل أو النُّدبة، التي تضمّ أرقى الدُّروس المعرفيّة والإلهيّة. وعلى هذا، فالدُّعاء يوقد نورُ المعرفة في قَلْبِ الإنسان.
وقد يأتي سؤال مشروع حول عبارة الدُّعاء في شهر رجب: "يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه"[1]، فكيف يعطي الله من لم يعرفه؟ فما فائدة المعرفة والدُّعاء؟
"الجواب: إنّ لفيض الله وبركاته أقساماً وأنواعاً:
- قسم يمنحه الله لجميع البشر، مثل الغيث، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه.
- وقسم من البركات تُمنح للعارفين والمؤمنين ولا تشمل غيرهم.
- وقسم من البركات والفيضِ يُمنح للداعين فقط دون غيرهم"[2].
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله بعضهم عن سبب عدم استجابة الدُّعاء أنَّه أجابهم: "لأنّكم تدعون من لا تعرفونه"، فالمعرفة مرتبطةٌ بحقيقة الدُّعاء وجوهره ارتباطاً جذرياً.
4- الدُّعاء والعبادة
إنَّ النقطتين السّابقتين يوصلانا إلى نتيجةِ أنّ حقيقةَ الدُّعاء هي دفع الإنسان نحو إلهٍ واحدٍ تنحصرُ به جهة المساعدة ودفع الضرر، ونفي أيِّ قدرةٍ لغيره تعالى
22
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
في أن يقوم بهذه الدّور. فالدُّعاء بهذا المعنى ظلُّ العبادة، بل هو نفسها, لأنَّ الدَّاعي حقيقةً لا يمكن له أن يتوجَّه إلى غير الله تعالى، والعبادة أيضاً تحصرُ جهةَ العبودية به تعالى، فكلُّ دعاءٍ عبادةٌ، وكلُّ عبادةٍ دعاءٌ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "الدُّعاء مخّ العبادة"[1].
ولذلك كثرت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام التي تجعل الدُّعاء بموازاة العبادة، فلا يجوز أن يدّعي إنسان العبودية لله ثم يترفَّع عن الدُّعاء, لأنّ الترفُّع عن الدُّعاء يُخفي في حقيقته استقلال الإنسان بحاجته عن الله، والله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾[2].
والقرآن الكريم صريح وواضح في أنَّ العبادة هي الغاية من خلق الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[3]. وقد أوضحت آية أخرى حقيقة العبادة الدُّعاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[4]، فالآية "تجعل مطلق العبادة دعاء، حيث إنّها تشتمل الوعيد على ترك الدُّعاء بالنار, والوعيد بالنار إنَّما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض، فأصلُ العبادة دعاء"[5].
5- الدُّعاء أقوى من القدر
من المعالم البارزة للدعاء في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، حقيقة أنّ الله تعالى جعل الدُّعاء حاكماً على القدر، بل هو من القدر إلا أنَّه أعلى مرتبة من غيره من
23
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
التقديرات. فإذا كان أمرٌ ما مقدَّر الحصول، بل كان وشيكَ الوقوع مُبرَماً، لما ردَّه وبدّل مساره إلا الدُّعاء لله تعالى، فقد روي عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال لزرارة: "ألا أدلّك على شيء لم يستثن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بلى، قال: الدُّعاء يرد القضاء وقد أُبرم إبراماً - وضم أصابعه -"[1].
وعن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "عليكم بالدُّعاء, فإنَّ الدُّعاء والطلب إلى الله عزّ وجلّ يردّ البلاء، وقد قدّر وقضى، فلم يبقَ إلّا إمضاؤه فإذا دُعي الله وسُئل، صرَفَ البلاء صرفاً"[2]. وهذه الروايات وغيرها تؤكّد حقيقةً راسخةً, وهي أنّ الله سبحانه وتعالى قد فتح أبواب رحمته إلى حدود واسعة، ولم يبقَ على الإنسان إلا أن يلتفت إلى ضرّه وفاقته، ويبادر نفسَه بالدُّعاء قبل وقوع القضاء ونزول القدر.
إشكال وردّ
قد يُشكل بعض الناس حول علاقة الدُّعاء بالقدر، إذ قد يقول بأنّ الحاجة المدعوّ لها إذا كانت مقدّرةً فهي واجبة الحصول، وإن لم تكن مقدّرة فلا يمكن أن تحصل، فما فائدة الدُّعاء؟
ويجيب السيّد الطباطبائي قدس سره على ذلك بقوله: "إنَّ فرض تقدير وجود الشَّيء لا يُوجب استغناءه عن أسباب وجوده، والدُّعاء من أسباب وجود الشَّيء, فمع الدُّعاء يتحقّق سببٌ من أسباب الوجود فيتحقَّق المسبَّبُ عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إنّ الدُّعاء من القدر"[3].
فرتبة الدُّعاء في مقام حصول الأشياء وعدمها إن لم تكن في رتبةِ الأسبابِ الأُخرى نفسها، فهي مقدَّمةٌ عليها كما ظهر في النُّصوص المتقدِّمة، وبالتالي فإنّ
24
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
الدُّعاء متى ما وقع كان سبباً مستقلّاً لحصول الحاجة المدعوّ لها، ويتغيَّر لذلك مجرى القدر إلى قدرٍ جديد، ولذلك كان "الدُّعاء من القدر".
6- الدُّعاء لسان الفقر ونفي الأنا
يعتبر وعي الفقر الذاتي الذي جُبل عليه الإنسان من الأمور المهمَّة التي يستثيرها الدُّعاء، وذلك أنّ من طبيعة الحياة الدُّنيا أنَّ الإنسان فيها يعاني من مرضٍ شرسٍ وهو مرضُ الغفلة، يقول تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[1]، والغفلة تولِّدُ مرضاً آخر، واسمه مرض حبّ النفس وتوهُّم استقلالها في النّفع والضّرر. يثيرُ الدُّعاء في الإنسان حقيقةَ الفقر الكامل الذي ينبغي أن يقف عنده في هذه الدُّنيا، وأن يتوجَّه إلى الغنيّ الذي لا تنفد خزائنه.
يقول الله تعالى: ﴿اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[2]، فالله هو القيوم على هذا العالم، ويعني هذا أنَّ عالم الوجود مرتبط به سبحانه.
"وإدراك هذا الغنى واجبٌ، كما أنّ إدراك فقر الإنسان واجب أيضاً. إذا أدرك الإنسان "الفقر" فلن تأتي "الأنانية" إلى الوجود. والروح الفرعونية موجودةٌ في الجميع. وإذا تهيَّأت الأرضيّة المناسبة فإنّ أكثر الناس تقول: "أنا ربّكم الأعلى" إلا من استطاع كسر أنانيته"[3].
إنّ الدُّعاء والمناجاة مع الله يقلع جذور هذه الأنانية من الإنسان، فيرى نفسه ضئيلاً أمام الله، وفي الوقت نفسه، الذي يطلب فيه شيئاً من الله فإنَّه يثبت الغنى المطلق لله تعالى والفقر المطلق لنفسه عملياً.
نستطيع من خلال وعي الحاجة والفقر أن نكتشف علاقة الدُّعاء بالاستجابة،
25
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
ونفهم كيف يكون الدُّعاء مفتاحاً لرحمة الله، وكيف يستنزل الدُّعاء رحمة الله تعالى. يجسّد كلّ دعاءٍ درجةً من وعي الفقر، ويعبِّر عن مرتبةٍ من مراتب وعي الحاجة إلى الله. وبقدر ما يكون وعي العبد لحاجته إلى الله أكثر يكون دعاؤه أقرب إلى الاستجابة، وتكون رحمة الله أقرب إليه. فليس مِن شحٍّ ولا بُخلٍ في رحمة الله تعالى، وإنَّما يختلف حظُّ النّاس من رحمة الله لاختلاف أواني نفوسهم و أوعيتها. وعي الحاجة والفقر هو وعاء الإنسان الذي ينال به رحمة الله، وكلّما يكون وعيه لفقره إلى الله أكثر، يكون وعاؤه الذي ينال به رحمة الله أكبر.
"والله تعالى يعطي كلّاً بقدر وعائه, وكلّ ينال من رحمة الله بقدر ما يتَّسع له وعاؤه، وكلَّما كان وعاؤه أكبر كان حظُّه من رحمةِ الله أعظم"[1]. ويمكننا في هذا السِّياق أن نختصر علاقة الدُّعاء بالفقر في ثلاث كلمات:
أ- "الفقر إلى الله.
ب- الوعي لافتقاره إلى الله.
ج- رفع الفقر ونشره وبثّه بين يدي الله"[2].
والفقر غير وعي الفقر، فقد يكون الإنسان، وهو الفقير إلى الله في كلّ شيءٍ، غيرَ واعٍ لفقره إلى الله، وقد يكون واعياً لفقره إلى الله، ولكنّه لا يحسن أنْ يرفع فقرَه إلى الله وينشره ويبثُّه بين يديه، ولا يُحسن السُّؤال والطَّلب والدُّعاء من الله، وعندما تجتمع هذه الكلمات الثَّلاث يتحقَّق الدُّعاء. إذاً، الحاجة والفقر من منازل رحمة الله تعالى، وحيثُ يكون الفقرُ وتكونُ الحاجة تجدُ رحمةَ الله تعالى.
وهذا المعنى من الفقر، والوعي له، ونشره بين يدي الغني المطلق، تجده في مناجاةٍ بليغةٍ ومؤثرةٍ للإمام السجاد عليه السلام، يقول فيها:
26
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
"مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ المَوْلى وَأَنا العَبْدُ، وَهَلْ يَرْحَمُ العَبْدُ إِلاّ المَوْلى؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ المالِكُ وَأَنا المَمْلُوكُ، وهَلْ يَرْحَمُ المَمْلُوكَ إِلاّ المالِكُ؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ العَزِيزُ وَأَنا الذَّلِيلَ، وَهَلْ يَرْحَمُ الذَّلِيلَ إِلاّ العَزِيزُ. مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ الخالِقُ وَأَنا المَخْلُوقُ، وَهَلْ يَرْحَمُ المَخْلُوقَ إِلاّ الخالِقُ؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ العَظِيمُ وَأَنا الحَقِيرُ، وهَلْ يَرْحَمُ الحَقِيرُ إِلاّ العَظِيمُ؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ القَوِيُّ وَأَنا الضَّعِيفُ، وَهَلْ يَرْحَمُ الضَّعِيفَ إِلاّ القَوِيُّ؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ الغَنِيُّ وَأَنا الفَقِيرُ، وَهَلْ يَرْحَمُ الفَقِيرَ إِلاّ الغَنِيُّ؟ مَوْلايَ يا مَوْلايَ، أَنْتَ المُعْطِي وَأَنا السَّائِلُ، وَهَلْ يَرْحَمُ السَّائِلُ إِلاّ المُعْطِي"[1].
7- الدعوة والاستجابة
يَظهر من روايات أهل البيت عليهم السلام أنّ دعاء الله سبحانه دائماً ما يكون له حظٌّ من الاستجابة. وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أنْ يرُدّ دعاء عبدٍ يطلب منه حاجةً, لأنّ ردّ الله للدعاء فيه يستطبن إنكار شّيء من ربوبيته عزّ وعلا، والله يأبى أن تنتزع الربوبية منه وتعطى لغيره، وبالتّالي كان لا بدّ له تعالى أنْ يستجيب لدعاء الدَّاعي طالما أنَّه يدعو لحاجات مشروعة. من الممكن أن لا تكون الاستجابة حالّةً، أو أنْ تكونَ على طبق المدعوّ له، ومن الممكن أن تكون كذلك أيضاً، والمعيار في نوعية الاستجابة يذكره سيّد المتّقين الإمام علي عليه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة، في وصية لابنه الإمام الحسين عليه السلام: "ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِه، بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيه مِنْ مَسْأَلَتِه، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعاء أَبْوَابَ نِعْمَتِه، واسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِه، فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِه، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ، وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ، ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاه، وأُوتِيتَ خَيْراً
[1] الإمام علي بن الحسين عليهما السلام, الصحيفة السجادية، ص387، السيد محمد باقر الموحد الأبطحي الأصفهاني (تحقيق)، قم، نمونه، 1411هـ، ط1.
44
27
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
مِنْه عَاجِلاً أَوْ آجِلاً، أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَه فِيه هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَه، فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُه، ويُنْفَى عَنْكَ وَبَالُه"[1].
وموضع الشاهد هنا قوله عليه السلام "فإنّ العطيّة على قدر النيّة", لأنّها تعني أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة، "فما سأله السّائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقةَ ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللفظ ربّما لا يُطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة كما مرَّ بيانه، فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة والإجابة"[2].
وفي الرّواية الشَّريفة إشارات لطيفة لموارد عدّة قد يظهر للدّاعي فيها عدم استجابة الدُّعاء، ولكنّه تخلّفٌ ظاهريٌّ لا غير، وحقيقةُ الأمر أنَّ الله تعالى له تدبيرٌ حكيمٌ في كيفيَّة الاستجابة وتوقيتها.
فالقاعدة إذاً، تقتضي أنّ الدُّعاء الموافق للشُّروط، دعاءٌ يعود على صاحبه بالنَّفع يقيناً، فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "مَا أَبْرَزَ عَبْدٌ يَدَه إِلَى الله الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ إِلَّا اسْتَحْيَا الله عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرُدَّهَا صِفْراً حَتَّى يَجْعَلَ فِيهَا مِنْ فَضْلِ رَحْمَتِه مَا يَشَاءُ, فَإِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَرُدَّ يَدَه حَتَّى يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِه ورَأْسِه"[3].
28
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
مفاهيم رئيسة
يقوم الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام على دعائم أساسية عدة، لا بد للداعي وأن يتلفت إليها في مقام الدُّعاء، خاصة أن الالتزام بإرشادات أهل البيت عليهم السلام هو من دواعي الهداية.
كون الإنسان يعيش في عالم النقص ويتعرض فيه للضرر، فلا بد له من دفع الضرر، والدعاء هو من الوسائل الشَّريفة التي جعلها الله تعال رافعة للضرر ومتممة للنقص.
حاجة الإنسان وسد النقص، تدفعه للبحث عن الجهة التي بمقدورها أن تسد هذا النقص وترفعه، وبالتالي لا يمكن أن يتوجه الإنسان بالدعاء إلى جهة مجهولة، بل لا بد له أن يتعرف عليها، وكلما ازدادت معرفته بها، كلما تمّ دعاؤه.
إنّ حقيقةَ الدُّعاء هي دفع الإنسان نحو إلهٍ واحدٍ تنحصرُ به جهة المساعدة ودفع الضرر، ونفي أيِّ قدرةٍ لغيره تعالى في أن يقوم بهذه الدّور. فالدُّعاء بهذا المعنى ظلُّ العبادة بل هو نفسها، لأنَّ الدَّاعي حقيقةً لا يمكن له أن يتوجَّه إلى غير الله تعالى.
لقد جعل الله تعالى الدُّعاء حاكماً على القدر، بل هو من القدر إلا أنَّه أعلى مرتبة من غيره من التقديرات. فإذا كان أمرٌ ما مقدَّر الحصول، بل كان وشيكَ الوقوع مُبرَماً، لما ردَّه وبدّل مساره إلا الدُّعاء لله تعالى.
إنّ الدُّعاء والمناجاة مع الله يقلع جذور هذه الأنانية من الإنسان، فيرى نفسه ضئيلاً أمام الله، وفي نفس الوقت الذي يطلب فيه شيئاً من الله فإنَّه يثبت الغنى المطلق لله تعالى والفقر المطلق لنفسه عملياً.
إن الله يستجيب الدُّعاء إذا كان دعاءً صحيحاً، لأن الله لا يمكنه أنَّه يرد الدُّعاء، لأنه إذا ردّه دفع بالإنسان إلى أن يبحث عن ربّ غيره، وهو محال.
46
29
الدرس الثاني: الدُّعاء عند أهل البيت عليهم السلام
للمطالعة
الدّعاء سلاح المؤمن، وأفضل عبادة
إنّ الدعاء مفتاح الخزائن الإلهيّة، سلاح المؤمن، وأفضل عبادة, يدفع البلاء ويجلب النعمة والرحمة الإلهيّة. إنّ ثمار الدعاء الوفيرة جعلته مخّ العبادة وأفضلها، ومن يعش دون هذا السلاح، تكن حياته ضياعاً وعجزاً يبقَ بلا مأوى.
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه: "ألا أدلّكم على سلاحٍ ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: تدعون ربّكم بالليل والنّهار, فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"[1].
فمن أراد السعي، عليه أن يحمل سلاح الدعاء، ومن وقع في سجال مع عدوّ أو في حادثة أو بليّة، فعليه بسلاح الدعاء.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: الدُّعاءُ يدْفَعُ الْبَلاءَ النّازِلَ وَما لَمْ ينْزِلْ"[2]. يعني إذا لم تدعوا، سيصيبكم البلاء.
فقد أعطى الله تعالى الإنسان وسيلةً، يستطيع من خلالها أن يحصل على ما يريد وهي الطلب من الله تعالى.
نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "...ثمّ جعل في يدِكَ مفاتيحَ خزائنه، بما أَذِنَ فيه من مسألته"[3]. فالإذنُ الذي أعطاهُ الله تعالى لك لتطلُبَ منه ما بدا لك، هو مفتاحُ جميع الخزائن الإلهيّة. فإذا استخدم الإنسان هذا المفتاح (أي الطلب من الله) على النحو الصحيح، فلا شكّ أنّ الله سيعطيه ما يطلبه. عن الإمام علي عليه السلام: "...فمتى شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب نعمته"[4].[5]
30
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمّ مميزات الدُّعاء المأثور، وأفضليّته على سائر الأدعية.
2- يفهم القواعد الأساسية للدعاء المأثور.
3- يحلِّل معنى المعصية والتوبة في الدُّعاء المأثور.
49
31
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
أولاً: ما هو الدُّعاء المأثور؟
الأَثْرُ في اللغة: "مصدر قولك أَثَرْتُ الحديث آثُرُه إِذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور, أي ينقله خلف عن سلف"[1]. وبالتالي، يكون الدُّعاء المأثور، هو الدُّعاء الذي وصل إلينا من السلف الصَّالح، وهو عبارة عن[2]:
1- الدُّعاء المأخوذ من القرآن الكريم: وهي كلّ الأدعية التي ذُكرت في القرآن الكريم: من قبيل قوله تعالى: ﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[3]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[4].
2- الدُّعاء المأخوذ من الحديث المنتهي إلى أهل البيت عليهم السلام: وذلك بأن يكون الدُّعاء من جملة آثارهم عليهم السلام، وهو ما لا حصر له، فلا تُطالع كتاباً حديثياً أو تفسيرياً إلا وتجد فيه الأدعية حاضرة بقوّة، فضلاً عن المصنفَّات الخاصّة بذلك.
32
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
فالدُّعاء المأثورُ إذاً هو كلّ دعاءٍ وصلَ إلينا من الأدعية التي وردت في القرآن الكريم، وعن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطَّاهرين عليهم السلام، حصراً.
ثانياً: لماذا التأكيد على الدُّعاء المأثور؟
لقد تقدَّم في الدروس الماضية الحديث عن أهمّية الدُّعاء من خلال القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة, في علاقة الإنسان بخالقه وفي كافّة مستويات السير والسلوك إلى الله تعالى. فهل للدُّعاء المأثور خصوصيَّة ما تفرق عن غيره من أصناف الدُّعاء؟ والحقّ، أنّ الدُّعاء المأثور يتمتّع بميّزات فريدة منها، أنَّ الدُّعاء المأثور:
1- مساحة لبيان العقائد: ونعني بذلك، أنّ الدُّعاء يقوم بمهمَّة وصفِ طيفٍ واسعٍ من المسائل العقائدية وعرضها كالتَّوحيد بأقسامه، وخصائص النبوة، وميّزات الإمامة والأئمّة عليهم السلام، ويوم القيامة وأحواله، وجملة أخرى من المسائل الهامّة التي توضح الإطار العقائدي الذي ينبغي أن يمارسه الفرد والأمّة. ودعاء المعصوم هو الأفضل في ميدانه في وصف تلك المعارف, لأنّ "الوصف فرع المعرفة، ومن الواضح بأنَّ المعصوم عليه السلام هو الأعظم معرفةً منَّا بالله تعالى"[1]. والعقائد ينبغي أن تكون يقينيَّة, لأنَّ الظنَّ في العقائد موجب للهلاك، فإنَّ ﴿الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾[2]، ويقول العلامة الحلي قدس سره في ذلك: "دعاء الإمام مفيدٌ لليقين، ولا شيء من دعاء غير المعصوم بمفيد لليقين، فلا شيء من الإمام بغير معصوم"[3].
2- يوافق الشَّريعة: فالأدعية المأثورة، هي أدعيةٌ خرجت من مكمن الوحي ومعدن الرّسالة، فلا يمكن أن تحتوي على ما يخالف الشّريعة، أو تحضَّ على أمرٍ يعارض
33
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
في روحه جوهرَ الشّريعة، ولا يضمن هذا الأمر، إلا نصٌّ وضعَهُ من له المعرفة التامّة بأحكام الله ودينه، ولا تجد ذلك إلا في دعاءٍ مأثورٍ من القرآن، وكذلك من السنَّة الشَّريفة.
3- مهذّب النُّفوس: الدُّعاء المأثور، قيِّمٌ على تهذيب النُّفوس بحسب الموازين الإلهيّة التي تضمن شفاء كلّ داءٍ معنويّ، وتتميم كلّ نقصٍ روحيّ، وغير خافٍ أنّ تهذيبَ النُّفوس وإشباعها بالأخلاق الربّانية والمعاني الإلهية - كلّ بحسبه - من المقاصد الأساسية الشَّريفة للدين الإسلامي. ويُشْعِر بذلك العديد من الآيات والروايات من قبيل: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[1]، إذ قدَّم التَّزكِيَةَ القلبيةَ على الحكمة العقليّة لعظيم خطر القلب. ولا نجد بعد القرآن الكريم ونصوص أهل البيت عليهم السلام -ومنها الدُّعاء المأثور- ما يضمن تحقيق هذا الهدف العظيم.
4- قدرته على تحقيق الأهداف: إنَّ الغاية من الدُّعاء هي: "تحقيقُ أهدافه بأقصر الطرق، وذلك من خلال الألفاظ المؤثِّرة المشحونة بالتواضع والعاطفة، التي تُثير شفقة ورحمة الباري سبحانه، ولتحقيق هذا الهدف لابدَّ من الأخذ بأدعية المعصوم عليه السلام، فهي الأوفر حظّاً فيما ذكرنا"9.
ثالثاً: قواعد أساسيّة في الدُّعاء المأثور
هناك علاماتٌ أساسيّةٌ تحيطُ بمفهوم الدُّعاء المأثور، وهي تخفي في داخلها طابعاً إشكالياً, ولذلك لا بدّ من عرضها لما فيها من فائدةٍ ودرءٍ للشبهات:
1- الأصل هو الدُّعاء بكلّ لسان: المراد من ذلك أنَّه لا دليل على وجوب كون الدُّعاء مقتصراً على الأدعية المأثورة، إذ يصحّ أن يكون الدُّعاء من تأليف الدَّاعي. والدليل على ذلك ما روي عن إسماعيل بن الفضل، قال: "سألت أبا عبد
34
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
الله عليه السلام عن القنوت، وما يقال فيه قال: "ما قضى الله على لسانك، ولا أعلم فيه شيئاً موقّتاً"[1]، والمروي عن زرارة، قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: علّمني دعاء، فقال: إنَّ أفضلَ الدُّعاء ما جرى على لسانك"[2]. فإذا جاء التَّرخيص في قنوت الصَّلاة، فهو في غيره أصرح. وبالتالي، يمكن أن يدعو الدَّاعي بأيّ كلام يخرج على لسانه, لأنّ المطلوب هو دفع المكلفين إلى إبداء الذلّة والمسكنة إلى الله تعالى، وقد يكون في تقييد الدُّعاء بالقيود - مثل لغة خاصّة أو نصّ معين - الكثير حرمان للكثير من الناس من فوائده.
2- أصالة تقديم الدُّعاء المأثور: تقدَّم قبل قليلٍ جوازُ الدُّعاء بكلِّ لسانٍ وأنَّه يمكن الدعاء بما يجري على اللسان، لكن ذلك لا يمنعُ من وجودِ أصلٍ للدعاء ينبغي مراعاته، وهو ينصُّ على الاستحباب المؤكّد للالتزام بالدُّعاء المأثور. روي عن عبد الرحيم القصير، قال: "دخلت، على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت: جعلت فداك، إنّي اخترعت دعاء، قال عليه السلام: دعني من اختراعك، إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: كيف أصنع؟ قال: تغتسل وتصلّي ركعتين تستفتح بهما افتتاح الفريضة، وتشهد تشهّد الفريضة، فإذا فرغت من التشهّد وسلّمت، قلت: اللهمّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام..."[3]. فقد أمر الصادق عليه السلام بترك الدُّعاء المخترع، وعلّم صاحبَه دعاءً بعينه. وقد تكرَّر هذا الأمر في عددٍ آخر من المواقف يظهر فيها تشديدُ أهل البيت عليهم السلام على ضرورة الالتزام بالدعاء المأثور، كما في هذه الرواية: عن عبد الله بن سنان، قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: "ستصيبكم شبهةٌ فتبقون بلا علمٍ يُرى ولا إمام هدى، ولا
[1] الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج2، ص45، السيد شهاب الدين النجفي المرعشي (تقديم)، الحاج آقا مجتبى العراقي(تحقيق)، قم، مطبعة سيد الشهداء، 1983م، ط1.
[2] العاملي، الشيخ الحرّ: هداية الأمّة إلى أحكام الأئمة عليهم السلام، ج3، ص126، قسم الحديث في مجمع البحوث الإسلامية (تحقيق)، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1412هـ، ط1.
[3] - الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص476.
53
35
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت: "يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك"، قال: "إنّ الله عز وجل مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك، يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"[1]. وبالتَّالي، فإنَّه لا بدَّ للدَّاعي - إذا أراد أن يقرأ الدُّعاء المأثور- بأن يدعو به كما جاء لفوائد مرَّت قبل قليل.
3- الدُّعاء بالمأثور سيِّد الأدعية: لقد ورد في الآيات الكريمة والروايات الشَّريفة الأمر باتّباع أهل الذّكر عليهم السلام كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2]، وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ﴾[3] والذّكر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾[4]. وقد ورد في الروايات الأمر بقراءة الأدعية المروية عنهم، وذكرت المثوبات الموعودة المترتّبة عليها المضبوطة في كتب الدعوات، مضافاً إلى ذكرهم ونقلهم الأدعية الواردة عن كلّ واحد، "ليقطع بأفضلية الدّعوات المأثورة عنهم على غيرها، مضافاً إلى أنّ شرف الكلام بقدر شرف المتكلّم, ولهذا قيل: إنَّ كلام الملوك ملوك الكلام. والحاصل أنَّ تقدُّمَ اختيار ما ورد عنهم من الأدعية على الدُّعاء الذي يؤلِّفه الشَّخص بسليقته ولسانه ممَّا لا ريب فيه ولا شبهةَ تعتريه"[5].
[1] الشيخ الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي الحسين بن بابويه القمي: كمال الدين وتمام النعمة، ص352، علي أكبر الغفاري (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، 1405م، ط1.
[2] سورة آل عمران، الآية 31.
[3] سورة الأنبياء، الآية 7.
[4] سورة الطلاق، الآيتان 10-11.
[5] الأصفهاني، ميرزا محمد تقي، مكيال المكارم: ج2، ص54، السيد علي عاشور(تحقيق)، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1421هـ، ط1.
54
36
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
4- حكم الزيادة في الدُّعاء المأثور: عرفنا أنَّ الأدعية المأثورة هي نصوصٌ مرويةٌ عن أهل البيت عليهم السلام والقرآن الكريم، وبالتالي فالزيادة فيها كما قد يفعل بعض الناس فيها وجهان:
الأول: إذا كانت الزّيادة بمعنى الورود والإضافة على نصّ المعصوم، فإنَّها ممّا لا يجوز.
الثَّاني: أن تكون الزيادة بمعنى كونها ذِكراً، فإنه لا حرمة فيه, لأنَّ "ذكر الله حسنٌ على كلّ حال"[1]، غاية الأمر أنَّه منهي عنه نهياً إرشادياً كما تقدَّم في رواية عبد الله بن سنان. فالأولى أن يتمسَّك الدَّاعي بالنَّص المأثور من دون الزّيادة عليه, لأنّه قد يُدخل في الدُّعاء ما لا داعي منه، أو ما قد يُفسده.
5- المحافظة على الترتيب في الأدعية المأثورة: الظَّاهر أنَّ الوجه في النَّهي - بمعنى الكراهة - عن الإخلال بتركيب الأدعية، ما قد يُقالُ بأنَّ لكلِّ دعاءٍ وذكرٍ أثراً خاصّاً: "كالأدوية والعقاقير، لكن لا يحصل الأثرُ المقصودُ منها إلا بالتَّرتيب والتَّركيب المأخوذ عن الطبيب الحاذق، وإن كان لها أثر أيضاً بغير ذلك الترتيب، فكذلك الدعوات والأذكار لا يحصل الأثر الخاصّ منها إلا بمراعاة الكيفية الخاصَّة المأثورة عن الأئمّة الطاهرين الذين هم أطبّاء النّفوس, ولذلك قال عليه السلام: "ولكن قل كما أقول لك"[2] وعلى هذا يكون الأمر إرشادياً فلا ينافي أدّلة الجواز، أو يحمل على الأفضل.
6- عدم اللحن في قراءة الدُّعاء المأثور: الأساس في الدُّعاء هو أن يخرج من قلبٍ محترقٍ معترفٍ بالحاجة والاستكانة لله تعالى، وأما سلامة ألفاظ الدُّعاء وخلوّها من الخلل في النّحو والتركيبات، فهو يأتي في المقام الثاني بعد نورانيَّة القلب،
37
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
إذ قد ينشغل الدَّاعي بالاهتمام بالألفاظ ولا يلتفت إلى المعاني فلا يحصل من الإجابة على شيء. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "تجد الرَّجل لا يخطئ بلام ولا واو، خطيباً مِصْقَعاً[1]، ولقلبه أشدّ ظلمةً من الليل المظلم"[2]. نعم، إنَّ إغفال جانب اللفظ وحسن التعبير في الدُّعاء يحطّه عن مرتبة الكمال اللازم في كلّ جوانب الدُّعاء من لفظه ومعناه، ولابدّ للدّاعي العارف المتمكِّن من ذلك، أن يتَّصف به، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرَّفيع المنشود، فالاهتمام باللفظ السّليم والصَّحيح، دليلٌ على اهتمام الدَّاعي بآداب الدُّعاء، وقد روي عن الإمام الجواد عليه السلام قوله: "ما استوى رجلان في حسبٍ ودينٍ قطّ إلا كان أفضلهما عند الله آدَبَهُمَا"[3].
رابعاً: شموليّة الدُّعاء المأثور
قد يطرأ على بال المرء أنّ الأبواب التي لم يرد فيها الدُّعاء المأثور كثيرة، وبالتالي يمكن له أن يلجأ إلى اختراع أدعية فيها. والصَّحيح، أنّ الاطلّاع الوافي على الأبواب التي جاء فيها الدُّعاء المأثور، يوقفنا على حقيقة أنَّ الشَّريعة جعلت لكلِّ بابٍ من أبواب الحوائج دعاءً خاصاً، فيكاد المرء لا يخطو خطوةً أو يقوم ويقعد أو يكون في حلّ أو ترحال، أو غير ذلك من أحوال، فرداً كان أم جماعة، إلا وهنالك أدعيةٌ مأثورةٌ. وعلى سبيل المثال نذكر النَّماذج الآتية من كتاب وسائل الشّيعة:
من الدُّعاء المأثور الدُّعاء: "عند النظر إلى الماء، وعند الاستنجاء والمضمضة والاستنشاق، وغسل الأعضاء، وفي الحمام، والاطلاء بالنّورة والغسل، وعند رؤية الجنازة وحملها، وعند زيارة القبور، وعند القيام إلى الصَّلاة، وعند القيام من النّوم، وعند سماع صوت الدّيك، وعند النّظر إلى السّماء، وعند الوضوء، وعند
38
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
القيام إلى صلاة الليل، وفي السّجود وبين السّجدتين، وعند النّوم، وإذا انقلب على جنبه، وفي المسير، ولمن سافر وحده، أو بات وحده، وعند الإشراف على المنزل، وعند النّزول، ولمن ركب البحر، وعند الحجر الأسود، وبعد ركعتي الطّواف، وقبل القتال[1]، وعند دخول السّوق، وقبل الأكل وبعده..."[2].
ويكفيك أن تراجع بعض كتب الدّعوات كمفاتيح الجنان، وغيره، لكي تجد طيفاً واسعاً من الدعوات لكلّ حالات الإنسان وأوضاعه الماديّة والمعنويّة المختلفة.
وفضلاً عن ذلك، قام أهل البيت عليهم السلام بوضع عددٍ كبيرٍ من الأدعية التي تشكّل بنفسها مدخلاً هاماً لطلب الحوائج من الله مهما كانت هذه الحوائج، كدعاء السّمات والمشلول وغيرهما على سبيل المثال.
وبالتالي، إذا أراد الإنسان، أنْ يدعوَ الله سبحانه وتعالى في أيّة حالة من حالاته التي ورد فيها دعاءٌ مأثورٌ، فإنَّ له في الأدعية المأثورة ما يغنيه. وإنْ أراد أنْ يطلب حاجةً بعينها، ولم يكن وردَ فيها دعاءٌ مأثور، فإنَّه سيجدُ عدداً وافياً من الأدعية المأثورة التي قيلت في سياق طلب الحوائج من الله سبحانه وتعالى، فعلى أيّ الأحوال يستطيع الإنسان أن يتّكل في دعائه على المأثور من الأدعية، طالما أنَّها مظنَّة الفلاح.
خامساً: الذنب والتوبة في الدُّعاء المأثور
قد يتساءلُ الإنسانُ عن سرِّ وجود ذلك الكمِّ الكبير من الأدعية التي لا تخلو من اعترافٍ بالذَّنب، والنَّدم على المعاصي، وارتكاب للسيئات، وغير ذلك من الأفعال
[1] ومنه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في دعاء الأمير عليه السلام:"لمّا توافق الناس يوم الجمل، خرج عليّ صلوات الله عليه حتى وقف بين الصفّين، ثمّ رفع يده نحو السماء، ثمّ قال: يا خير من أفضت إليه القلوب، ودُعي بالألسن، يا حسن البلايا، يا جزيل العطاء، احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الحاكمين". الميرزا النوري، ميرزا حسين: مستدرك الوسائل، ج11، ص108، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث (تحقيق)، بيروت، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1987م، ط1.
39
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
والمفردات المستلزمة لتوهّم الخدش في عصمة المعصوم الذي أُثرت عنه تلك الأدعية. فهل ذنوب الإمام كذنوبنا، فيها المخالفة لأوامر الله سبحانه، وفيها المعصية ومخالفة الشريعة؟! إنّ هذه الذّنوب هي أمور أخرى، وبلحاظٍ آخر يختلف عن ذنوب العوام؟!
من المسلّم به أنّ المعصوم حين يتوجّه بالدعاء ويدعو، يكون الدُّعاء منه حقيقياً وواقعياً, لأنّه لا مجاز في الدُّعاء، فكلّ ما يدعو به يكون على نحو الحقيقة والطَّلب الحقيقي، ولو كان الدُّعاء الصادر منهم فيه جنبةٌ تعليميَّة وتربويّة على طريقة "إياكِ أعني واسمعي يا جارة". فكيف نجيب عن ذلك؟
إنّ اعتقادنا الراسخ بوجوب العصمة في الأئمّة والأنبياء عليهم السلام وضرورتها لهم, لأنّهم يتحدّثون إلى الخلق عن الله سبحانه وتعالى، يدفعنا إلى القول بأنّ الأدعية التي وردت عن المعصوم عليه السلام والتي تضمنّت الاعتراف بالذنوب والخطايا، وتضمنّت الاستغفار وطلب التوبة والاستقالة منها، لا شكّ ولا ريب أنّها تعني معنىً غير الذي نفهمه ونعرفه من أنفسنا حين نغرق في الذّنوب والخطايا، وحين نطلب العفو والاستقالة منها. فالمعصوم عليه السلام ولشدّة كماله وانقطاعه إلى الله يرى أنَّه يجب أن تكون أوقاته مستغرقة ومتمحّضة دائماً وأبداً في خدمة الله وطاعة الله، ففي أيّة لحظة من لحظات وجوده وحياته، كان أيُّ انشغالٍ منهم - في مأكل أو مشرب أو أيّ عمل غير العبادة من الأمور المباحة والضرورية الحياتيّة - يعتبره ذنباً ويعدّه انشغالاً عن عبادة الله المحضة، وإنْ كانت الانشغالاتُ المتعلِّقةُ بأمور المعاش ومصاحبة العباد عبادةً وطاعةً من جهة أخرى كما لا يخفى. يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللَّهُمَّ إِنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إِلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ النَّادِمِينَ، وإِنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إِنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنِيبِينَ، وإِنْ يَكُنِ الِاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإِنِّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ. اللَّهُمَّ، فَكَمَا أَمَرْتَ بِالتَّوْبَةِ، وضَمِنْتَ الْقَبُولَ،
58
40
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
وحَثَثْتَ عَلَى الدُّعَاءِ، ووَعَدْتَ الإِجَابَةَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واقْبَلْ تَوْبَتِي، ولَا تَرْجِعْنِي مَرْجِعَ الْخَيْبَةِ مِنْ رَحْمَتِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، والرَّحِيمُ لِلْخَاطِئِينَ الْمُنِيبِينَ"[1].
فالذَّنب في فلسفة الكمال الإلهي يعني ترك الارتقاء في السلّم الكمالي والانحدار بلا توقُّف، وبذلك يكون تارك المندوب وفاعل المكروه مُنحدراً بلا توقُّف، وهذا الانحدار حاصل حتماً، سواء أكان الُمذنب متعمّداً أم مجبراً، فالمريض إذا ترك الدواء عمداً، أو سهواً كما لو انشغل عنه بانشغالات ما، أو اضطراراً فالنتيجة واحدة، وهي عدم التماثل للشفاء. و "إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ نظرة العبد للطاعة والمعصية سوف تختلف تماماً، بل سوف يحصل انقلاب في حركته التَّكامليّة، وعندئذٍ سوف نفهم بعمقٍ معنى ندم الإنسان في الدَّار الآخرة على كلّ نَفَسٍ تنفَّسَه بغير ذكرِ الله تعالى"[2].
ومن هنا كان الدّعاء كمالاً للداعي المعصوم، وزيادة في تعلّقه بالله تعالى، وتثبيتاً لنيّة التقرّب إلى الله تعالى في كلِّ انشغالٍ وعملٍ يقوم به. على ما في هذه الأدعية من فائدة جلى في تربية النَّاس على ضرورة العودة والأوبة إلى الله تعالى كلّما غرقوا في ذنبٍ ووقعوا في معصيةٍ، وفي كلِّ تراجعٍ لهم عن نيلِ كمالٍ أو زيادةٍ في اكتمال.
وهذا الجواب، هو من أهمّ الأجوبة التي أخذ بها علماؤنا وتلقّوها بالقبول والرضا، وهو من إفاضات العلامة الأربلي[3].
41
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
مفاهيم رئيسة
1- الدُّعاء المأثور هو الدُّعاء الذي وصل إلينا من السلف الصَّالح، ويؤخذ هذا الدعاء من مصدرين: القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشَّريفة، وتراث أهل البيت عليهم السلام.
2- يتمتّع الدُّعاء المأثور بميزات مهمّة، ومنها أنّ الدعاء: هو مساحة لبيان العقائد، وأنّه يوافق الشَّريعة، وأنّه يهذّب النُّفوس، وأنّ لديه القدرة على تحقيق الأهداف.
3- لا بدّ وأن نلتفت إلى عدد من المقدمات التي تعيننا في فهم موقعية الدعاء المأثور: أن القاعدة تقتضي الدُّعاء بكلّ لسان، ولكن حينما يكون هناك دعاء مأثورٌ فمن المستحسن الدعاء به, لأنّ الدُّعاء بالمأثور سيِّد الأدعية، وأنّه لا يجوز الزيادة فيه إن ترتّب عليه الزيادة العمدية أو النقصان في كلام المعصوم.
4- لقد وصلت إلينا مجموعة ضخمة من الأدعية المأثورة النافعة في أغلب - إن لم نقل كلّ - الموارد التي يحتاج إليه الإنسان.
5- لا بدَّ وأنّ فهم قضيَّة الذّنب الذي يستغفر منه المعصوم يكون بمعنى ترك الارتقاء في السلّم الكمالي، والذي هو انحدارٌ بلا توقُّف، سواء أكان المذنِبُ متعمِّداً أم مجبوراً.
60
42
الدرس الثالث: خصوصيّة الدُّعاء المأثور
للمطالعة
الدعاء عامل مناعة ضدّ كمائن الأعداء
إنّ كلّ عمل حسن تقومون به من إحسان، إطعام، مساعدة شخصٍ ما، سؤال شخص مستحقّ عن أحواله، القيام بشيء من أجل المحرومين، تقديم شيء للمجتمع الإسلاميّ، أو عمل شيء لتطوير حياة النّاس، يُعتبر عبادة.
لدينا العبادات الفرديّة، الاجتماعيّة، والسياسيّة. ولدينا عبادات أصيلة خالصة لآناء الليل، وما يختصّ بأوقات الدعاء والمناجاة وأوقات الكلام مع الله والتضرّع. ولكلٍّ من هذه العبادات درجة. كلّ واحدة من هذه تجعلكم أقوياء كالفولاذ المصقول، وتجعل هؤلاء الشباب أشدّاء، محمييّن من الخطأ، لا يضرّهم تسلّل الشيطان أو العدوّ أو عوامل الفساد، صامدين في وجه الغزو الثقافي. كما تجعلهم يقفون في وجه الخدع الثقافيّة ـ التي يستخدمها البعض لجذب قلوب بعض البسطاء ـ والمصائد التي يرمونها على طريق الشباب. كما إنّ هناك بعض الإغراءات التي لا تقوم بها إلا "النفس" بعينها! قد يكون المال، الشهوة، المنصب، أو قد تكون لذّة لا يرضاها الله تعالى, لا شيء يجبركم على هذه الأمور سوى النّفس، التي هي أعدى أعدائكم."أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"[1]، والدعاء يحميك من كلّ هذه الأمور, فلتدركوا قدر هذا الشهر ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾...
وهكذا يكون الحضور أمام الله. عندما تصلّي ستشعر بالطمأنينة، ستنجو من اضطراب وتلاطم أمواج الروح. عندما تناجي وتتضرّع لله ستُنقّي روحك وتُضفي عليها صفاءً، وتُبعد عنها الخبائث. عندما تصومون، فإنّكم تجعلون أنفسكم كالفولاذ أقوياء مصقولين، فإنّ ما يمكن أن نحصل عليه من خلال العبادات هو شيءٌ ثمينٌ للغاية"[2].
43
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الشَّفاعة وأركانها.
2- يبيّن علاقة الشَّفاعة والتوسُّل بالدعاء.
3- يعرف الشفعاء وشروط الشفاعة.
63
44
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
مدخل
التوسُّل والشَّفاعة من المفاهيم العقائدية التي درج على الاعتقاد بها جمهرة المسلمين[1]، وهي وإن لم تكن من أصول الدين التي يوجب عدم الاعتقاد بها الخروج من الإسلام، إلا أنّها من الأمور المهمّة في بناء العلاقة التوحيدية مع الله تعالى. ويلتقي الحديث على الدُّعاء مع التوسُّل والشَّفاعة، في أنّ الكثير من الأدعية والأذكار التي تقرأ في مناسبات مختلفة، وكذلك في أماكن مختلفة كالمساجد وقبور المسلمين، تتضمّن التوسُّل والشَّفاعة. وبالتَّالي، سنقوم في هذا الدرس بإضاءةٍ مركَّزة على حقيقة التوسُّل والشَّفاعة، وأهمِّيتهما في الدُّعاء إلى الله تعالى.
1- الشَّفاعة لغةً واصطلاحاً
الشَّفاعة في اللغة معناها: "الشيءُ صيّرَه شفعاً أي زوجاً" و"ضمُّ الشيء إلى مثله"[2]، يقال كان وتراً فشفّعهُ بآخر "أي قرنهُ به".
45
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
وأمّا التعريف الاصطلاحي فإنّه لم يخرج عن الدّلالة اللغوية كثيراً, إذ الشَّفاعة هي: "عبارة عن طلبه (الشفيع) من المشفوع إليه أمراً للمشفوع له، فشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره عبارة عن دعائه الله تعالى لأجل الغير وطلبه منه غفران الذَّنب وقضاء الحوائج، فالشَّفاعة نوع من الدُّعاء والرجاء"[1].
فالشَّفاعة هي انضمام فردٍ ناقص إلى فردٍ أتمّ منه، وغاية الفرد المستشفِع أن ينالَ من الشفيع تلك الوسيلة الناقصة التي تَجبُر ما لدى المستشفع من النَّقص والحاجة والضَّرر، فيتقوَّى بها. فالشَّفاعة، من الأمور التي نستعملها "لإنجاح المقاصد، ونستعينُ بها على حوائج الحياة، وجلُّ الموارد التي نستعملُها فيها: إمّا موردٌ يُقصد فيه جلب المنفعة والخير، وإمّا موردٌ يطلبُ فيه دفع المضرّة والشرّ"[2].
2- العناصر المكوّنة لمفهوم الشَّفاعة:
يتمحور مفهوم الشَّفاعة حول طلب الوسيلة من الشَّفيع من أجل جلب منفعةٍ أو دفع مضرّة، ولكن لا بدَّ من أن نقفَ عندَ عددٍ من العناصر التي يتألَّف منها هذا المفهوم:
أ- مورد الشَّفاعة:
تنفع الشَّفاعة في الموارد التي يريد فيها الإنسان أن يحصل على كمالٍ وخيرٍ مادّيّ أو معنوي، أو يدفع عنه ضرراً مادّياً أو معنوياً، ولكنّه لا يملك المؤهّلات والأسباب التي تسمح له بالحصول على الخير أو الأمن من الضَّرر، لتأتي الشَّفاعة وتحقِّقَ له ذلك.
46
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
ب- ضرورة وجود اللياقة لتلقّي الشَّفاعة:
إذا كان الإنسان طالباً خيراً أو كمالاً أو هارباً من ضررٍ أو شرّ، فهو يكون مورداً للشّفاعة، ولكن بشرط أن يتمتّع باللياقة المناسبة والشُّروط الذّاتية التي تؤهِّله للحصول على الشَّفاعة. فالأميّ - مثلاً - "الذي يريدُ تقلُّدَ مَقامٍ علمي، أو الجاحدُ الطَّاغي الذي لا يخضع لسيِّده أصلاً، لا تنفع عنده الشَّفاعة"[1].
ج- الشَّفاعة تتمِّم الناقص:
لا تكون الشفاعة من أجل إيجاد الخير والكمال من العدم، وعند من لا يملكها بالكلّية، وإنَّما تأتي الشَّفاعة لتتمِّم النَّاقص من الكمالات وأنواع الخير، أو لتكمّل ما نقصَ من أسباب دفع الشرّ "فالشَّفاعة متمِّمةٌ للسَّبب لا مستقلةٌ في التَّأثير"[2].
د- حكومة الشَّفاعة:
تنفعُ شفاعة الشَّفيع بعد أن يَخرجَ موضوعُ الشَّفاعة - من خيرٍ أو ضررٍ - من كونه مورداً للحكم الأوّل ويدخل في مورد الحكم الثاني، وهذا ما يسمى بالحكومة "ونعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه مورداً بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأوّل لعدم كونه من مصاديقه، لا أن يشملَه فيبطل حكمُه بعد الشمول"[3].
والذي يتحصَّلُ هنا، أنَّ الشَّفاعة إنَّما هي من تطبيقات قانون السَّببية, لأنَّها عبارةٌ عن إدخال سببٍ جديدٍ بين السَّبب الأصلي والمسبَّب الخاص به. ومن هنا يظهر أنَّ الشَّفاعة متى ما وقعت كان لها القدرة على التَّغيير في مجريات الأسباب ومسبّباتها، فهي من جنس الأسباب وليست من سنخ خوارق العادة.
47
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
هـ- الشَّفاعة لا تغيِّر في إرادة الله تعالى:
قد يفهم بعض الأشخاص أن الشفاعة هي عبارة عن حملِ الشافعِ المشفوعَ عنده على فعل أو ترك، فلا تتحقّق الشفاعة
إلا بترك الإرادة ونسخها لأجل الشفيع، والعادة تقضي أن يكون تغيّر الإرادة مترتّباً على تغيّر العلم بالمصلحة المستجدّة. والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه ذلك, لأنّ إرادته على حسب علمه، وعلمه أزليّ لا يتغيّر، وبالتالي فلا صحّة للقول بالشفاعة. والحقّ أنّ الشفاعة عنده ليست ناشئة من التغيّر في الإرادة والعلم، بل إنّما هو تغيُّرٌ في "المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أنّ الإنسان الفلاني ستحوّل عليه الحالات، فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصّة فيريد فيه بإرادة، ثمّ يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأوّل لاقتران أسباب وشرائط أُخر، فيريد فيه بإرادة أخرى، وكلّ يوم هو في شأن، وقد قال تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[1]"[2].
3- الدَّور التوحيدي للشَّفاعة:
تظهر فوائد الشَّفاعة في الدور التربوي الذي تمارسه عبر تطهيرِ النَّاس وإيقاظهِم ودفعهِم نحو الله تعالى، فضلاً عن تحقيق الحوائج من كسبِ كمالٍ أو دفعِ مضار، لأنَّ الشَّفاعة لا يمكن أن تحصلَ إذا لم يحصِّلْ المشفوع له المؤهّلات واللياقات اللازمة، وسيأتي معنا مجموعة من الشروط التي ينبغي أن يتحلَّى بها الفردُ لنيلِ الشَّفاعة. فالشَّفاعة بهذا المعنى، تمارس دوراً توحيدياً كاملاً في ربط المشفوع له بالله سبحانه وتعالى[3]، وتجلية اعتقاده من كلّ مؤثّر ومسبّب سواه، وإن كان للشّفعاء
48
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
من دورٍ في هذا الأمر فإنَّما هو دور الوساطة التي لا تنفع إلا بإذن الله تعالى، كما سوف يأتي.
4- أنواع الشَّفاعة
تنقسم الشَّفاعة باعتبار موضوعها إلى قسمين:
أ- الشَّفاعة التّكوينية: "وهي توسُّط الأسباب في التكوين"[1]، والذي يظهر من خلال القرآن الكريم وجود العديد من الأسباب والوسائط التي تمارس أفعالاً وتدبيراتٍ تكوينيةً، كإرسالِ الرياح، وبعث المطر، وتسيير الكواكب، والتدبير في الرزق، وقبض الأرواح، وغيرها، بل إنّ كلّ تأثير في العالم المادّي أوكله الله تعالى إلى غيره وبالخصوص الملائكة[2]، فهم "وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً على ما يعطيه القرآن الكريم، في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده. أمّا في العود أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه وإماتة الكلّ بنفخ الصور وإحيائهم بذلك والحشر، فوساطتهم فيها غنيّ عن البيان"[3]. وكلّ ذلك بإذن الله تعالى بالتصرف والتدبير، وإلا فهم فقراء إلى الله تعالى، والله هو الغني!
والشَّفاعة التكوينية تعد من خصوصيات أهل الشَّفاعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من موضع، كما في قوله جلّ وعلا: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[4]، والذين هم النَّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل محمد عليه السلام. فمن الطبيعي أن يكون التوجّه إليهم بالشَّفاعة من أجل الطلب من الله تعالى تقديم سببٍ تكوينيٍ على سببٍ آخر، والدُّعاء لطالب الشَّفاعة عند الله تعالى بتبديل
49
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
حال ضرّه إلى منفعته، ونقصه إلى كماله. وهذا المورد هو من موارد تفسير الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾[1] بأهل البيت عليهم السلام[2].
ب- الشَّفاعة التَّشريعيَّة: وهي عبارة عن "التوسُّط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنّة في يوم القيامة"[3]، والمقصود من ذلك أنَّه بعد أن أرسل الله سبحانه الكتب والأنبياء مبيناً للإنسان تكاليفه والشرائع التي ينبغي له أن يسير عليها، والأوامر والنواهي، والثواب والعقاب، فلو أخطأ الإنسان وخالف ما نهي عنه أو لم يقم بما أمر به، فهل يبقى هناك مجال لرفع تبعات المخالفة؟ بل هل من الممكن أن تزاد درجات الثواب لمن أُمر فأطاعَ ونُهي فانتهى؟ يثبت القرآن الكريم وجود الشَّفاعة التشريعية الرافعة للعقاب في العديد من الآيات، كمثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾[4]، وقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾[5]. والآيات تثبت الشَّفاعة بعد الإذن والارتضاء، وهو "تمليك ولله الملك وله الأمر فلهم أن يتمسّكوا برحمته وعفوه ومغفرته، وما أشبه ذلك من صفاته العليا، لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية، وشملته بليّة العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقاً للحكم الشامل، والجرم العامل"[6], أي يخرج هذا العبد المذنب - بعد قبول الشَّفاعة - من كونه مصداقاً للعقاب، إلى حُكمٍ جديدٍ قوامه العفو ببركة الشَّفاعة.
50
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
5- على من تجري الشَّفاعة؟
قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[1].
تظهر هذه الآيات الكريمة، معياراً لمن يمكن أن تناله الشَّفاعة. فالأنفس، كلّ نفسٍ، مرهونةٌ يوم القيامة بما كسبت من الذّنوب، إلا أصحاب اليمين الذين نالوا شرفَ الفكاك من الرهن فاستقرّوا في الجنان، وكان سبب ذلك أنَّهم نزّهوا أنفسهم عن الصِّفات التي اتَّصف بها غيرهم فكانوا مجرمين يستحقّون النار، وحُرموا الشَّفاعة، وهذه الصفات هي:
أ- كونهم من المصلين، والمراد من الصَّلاة هنا "التوجّه العبادي الخاصّ إلى الله سبحانه فلا يضرُّه اختلاف الصَّلاة كمّاً وكيفاً باختلاف الشَّرائع السَّماويَّة الحقَّة"[2]، وبالتالي فإنّ هؤلاء المستحقّين لسقر، كانوا يرفضون التوجّه بالعبادة إلى الله تعالى بكافّة أنواع التوجّهات، ومنها الصَّلاة والدعاء وغيرهما.
ب -إطعام المسكين، وهو عبارة عن مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله.
ج - والخوض هو الغور في ملاهي الحياة وزخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة.
د - ذكر الحساب يوم الدين.
51
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
وعدم التلبُّس بهذه الصفات الأربع، يهدم أركان الدين, لأنّها تستلزم الخلل في بقية الأركان كالتوحيد والنبوة وغيرها. يقول السيد الطباطبائي قدس سره مبيّناً الجهة التي تستفيد من الشَّفاعة التشريعية انطلاقاً من الآيات الكريمة المتقدِّمة: "أصحاب اليمين هم الفائزون بالشَّفاعة، وهم المرضيّون ديناً واعتقاداً سواء كانت أعمالهم مرضيّة غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيّون بالشَّفاعة، فالشَّفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، وقد قال تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾[1]، فمن كان له ذنب باقٍ إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفّراً عنه، فقد بان أنّ الشَّفاعة لأهل
الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل[2]"[3].
6- الشفعاء:
وسائط الشَّفاعة التي يصحّ التوجّه إليها أصناف عدّة، ومنها:
أ - العمل الصالح: قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[4].
ب - الأنبياء والرسل: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[5].
52
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
ج - الأنبياء والعلماء والشهداء: في الخصال: عن علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفّعون: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء"[1].
7- التوسُّل والشَّفاعة
التوسُّل من اتِّـخاذ الوسيلة، والتي هي عبارةٌ عن "ما يُتقرَّبُ به إلى الغير"[2]، وبالتالي يكون التوسُّل إلى جهةٍ معينة عبارةً عن اتِّخاذها وسيلةً للتقرُّب بها إلى جهةٍ أخرى أعلى، من أجل قضاء الحوائج على اختلاف أنواعها. ولذلك نجد أنَّ معنى التوسُّل قريبٌ جداً من معنى الشَّفاعة، وأما القول بأن الشَّفاعة مختَّصة بالعصاة[3]، يعارضه ما ذهب إليه السيد الطباطبائي قدس سره[4] من أن الشَّفاعة التكوينية وكذلك التشريعيَّة هما لله تعالى، ومن بعده للعديد من الجهات التي منها من لا يصدر منه الذَّنب كالأنبياء والأئمّة مثلاً. وبالتالي، فالتوسُّل هو من أفراد الشَّفاعة، وأحد التعبيرات المعبّرة عنها. فالتوسُّل يفيدُ فائدة الشَّفاعة في الأمور التكوينيَّة وكذلك التشريعيَّة، بالمعنى المتقدّم آنفاً.
8- الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
يكثر في الأدعية المرويّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام ذكر الشَّفاعة والتوسُّل، بل وفي الرِّوايات المرويَّة عنهم كذلك، ومن ذلك:
[1] الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه: الخصال، ص156، علي أكبر الغفاري(تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة،1403هـ، ط2.
[2] الجوهري، الصحاح، ج5، ص1841.
[3] كما يذهب إليه: العقائد الإسلامية، ج4، ص251، مركز المصطفى للدراسات الإسلامية (إعداد)، قم، مهر، 1419 هـ، ط1.
53
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ادعُ للحج في ليالي شهر رمضان بعد المغرب: اللهمّ بك أتوسَّل ومنك أطلب حاجتي، اللهمّ بذمة الإسلام أتوسّل إليك، وبحرمة القرآن أعتمد عليك، وبحبّي للنبي الأمي القرشي الهاشمي العربي التهامي المكّي المدني، صلواتك عليه وآله أرجو الزلفة لديك، فلا توحش استيناس إيماني، ولا تجعل ثوابي ثواب من عَبَدَ سواك"[1].
- ومن الأدعية المروية عن الإمام الصادق عليه السلام في أدعية يوم عرفة: "فبك أمتنع وأنتصر، وإليك ألجأ وبك أستتر، وبطاعة نبيّك والأئمّة عليهم السلام أفتخر، والى زيارة وليّك وأخي نبيِّك أبتدر، اللهمّ فبه وبأخيه وذريته أتوسَّل، وأسأل وأطلب في هذه العشية فكاكَ رقبتي من النار، والمقرَّ معهم في دار القرار، فإنَّ لك في هذه العشيّة رقاباً تعتقها من النَّار"[2].
- وفي زيارة الأربعين المروية عن صفوان بن مهران قال: "قال لي مولاي الصّادق عليه السلام في زيارة الأربعين: أنا يا مولاي عبد الله وزائرك جئتك مشتاقاً، فكن لي شفيعاً إلى الله، يا سيّدي، استشفع إلى الله بجدِّك سيّد النبيين، وبأبيك سيّد الوصيّين، وبأمّك سيّدة نساء العالمين، السَّلام عليك يا ابن رسول الله، السَّلام عليك يا ابن أمير المؤمنين سيّد الأوصياء"[3].
- وفي الدُّعاء ليلة النّصف من شعبان بعد أداء الركعتين: "اللهمّ صلّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ شجرةِ النُّبوَّة وموضع الرِّسالة ومختلفِ الملائكة ومعدنِ العلم وأهل بيت الوحي، وأعطني في هذه الَّليلة أمنيتي وتقبّل وسيلتي، فإنِّي بمحمَّد وعليٍّ وأوصيائهما إليك أتوسّل، وعليك أتوكّل، ولك أسأل"[4].
54
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
وأمّا الأخبار المروية عن السلف الصالح في استشفاعهم وتوسُّلهم بالله تعالى والأنبياء والأئمّة والصالحين، فكثيرةٌ، ويستشهد بها العديد من العلماء المسلمين على سيرة المتشرِّعة منذ زمن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وصولاً إلى يومنا هذا، ومن هذه الأخبار:
روى سعيد بن جبير، قال: "قال يزيد بن قعنب: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريقٍ من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد - أمّ أمير المؤمنين عليه السلام- وكانت حاملةً لتسعة أشهر، وقد أخذها الطَّلق، فقالت: ربِّ، إنِّي مؤمنةٌ بك، وبما جاء من عندك من رسلٍ وكتبٍ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السلام، وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت العتيق، وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسَّرت عليَّ ولادتي. قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت قد انفتح عن ظهره، ودخلتْ فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتصق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفلُ الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك أمرٌ من الله تعالى، ثم خرجَت بعد الرابع، وبيدها علي بن أبي طالب صلوات الله عليه"[1].
[1] ابن حمزة الطوسي، عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي: الثاقب في المناقب، ص198، نبيل علوان(تحقيق)، قم، الصدر(مطبعة)، مؤسسة أنصاريان(نشر)، 1411هـ، ط1.
74
55
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
مفاهيم رئيسة
1- للشَّفاعة معنىً لغويٌ مفادُه ضمُّ الشَّيء إلى مثله، فمن يشفّع شيئاً بآخر، يعني أنَّه يضمّه إليه ويقرنه به.
2- للشَّفاعة تعريفٌ اصطلاحي مفاده أنّ الشَّفاعة هي عبارة عن طلبٍ من المشفوع إليه أمراً للمشفوع له، وفي خُصوص دِيننا الإسلامي تكون الشَّفاعة نوعاً من الدُّعاء والرَّجاء.
3- هناك جملة من العناصر المكوّنة لمفهوم الشَّفاعة منها: أنّ للشَّفاعة مورداً قوامه إرادة الإنسان أن يحصل على كمالٍ وخيرٍ ماديّ أو معنوي، أو أن يدفع عنه ضرراً مادياً أو معنوياً.
وكذلك ضرورة وجود لياقة خاصّة لتلقِّي الشَّفاعة. ومنها أن الشَّفاعة لا تغيِّر القدَر، بمعنى أنّ الشَّفاعة إنَّما تتبعُ التغيير الذي يصيب حالة المشفوع له، والظروف والشروط والمؤهّلات التي تستجدّ عنده، فيمارس الشفيع دوره في التوسُّط في رفع المشفوع له إلى وضع أفضل.
- تنقسم الشَّفاعة باعتبار موضوعها قسمين: الشَّفاعة التّكوينية: "وهي توسُّط الأسباب في التكوين". والشَّفاعة التَّشريعيَّة: والتي هي عبارةٌ عن: "التوسُّط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنّة في يوم القيامة".
4- من الوسائط التي لها مرتبة الشَّفاعة: الأنبياء والرسل، والشهداء في سبيل الله.
5- التوسُّل هو عبارةٌ عن "ما يُتقرَّبُ به إلى الغير"، وهو من أفراد الشَّفاعة وأحد التعبيرات المعبّرة عنها. والتوسُّل يفيدُ
فائدة الشَّفاعة في الأمور التكوينيَّة وكذلك التشريعيَّة.
75
56
الدرس الرابع: الشَّفاعة والتوسُّل في الدُّعاء
للمطالعة
نوِّروا قلوبكم بذكر الله
أعزّائي، عليكم بتقوية علاقتكم بالله أكثر فأكثر! ولا سيّما في هذين الشهرين المباركين ـ شهري رجب وشعبان ـ الذين هما شهرا الدعاء والاستغاثة، شهرا إنشاء علاقة مع الله، وشهرا مناجاة المعشوق الحقيقي لكلّ إنسان. عليكم أن تُعدّوا أنفسكم فيهما للجلوس على مائدة الضيافة الإلهيّة في شهر رمضان.
اسعوا لتنوير قلوبكم أكثر فأكثر بذكر الله في كلّ أيّام وليالي شهر رمضان، لتتهيّؤوا للدخول إلى الساحة القدسيّة لليلة القدر, فـ ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾[1]، إنّها الليلة التي تصل فيها الملائكة السماء بالأرض، وتنير القلوب والمحيط الذي نعيش فيه بنور لطف الله وفضله. إنّها ليلة السلام والسلامة المعنويّة: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[2]، إنّها ليلة سلامة القلوب والأرواح، ليلة شفاء الأمراض الأخلاقيّة، والأمراض المعنويّة، والأمراض الماديّة، والأمراض العامّة والاجتماعيّة، التي ابتُليت بها اليوم ـ للأسف ـ كثير من شعوب العالم، ومن جملتها المسلمون! إنّ السلامة من جميع هذه الأمور ممكنة في ليلة القدر وميسّرة, بشرط أن تأتي علينا ليلة القدر، ونحن جاهزون.
إنّ دعاءكم أيّها الشباب الأعزّاء وإقبالكم وذكركم لله بقلوبكم الطاهرة النورانيّة يصنع المعجزات، فإنّ علاقتكم هذه مع الله تقوّي فيكم الصفاء والإخلاص، والصفاء والإخلاص هما مفتاح حلّ العقد في جميع الأمور"[3].
57
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
يعرف فضل القنوت وثوابه في الصلاة.
يعرف فضل التعقيبات وثوابها.
يحفظ أهم التعقيبات المأثورة.
77
58
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
الصَّلاة بوابة العبودية للّه تعالى
تعدّ الصَّلاة من أهمّ الفرائض التي جاء بها الإسلام، وخصّصها بذلك الكمّ الكبير من الأحكام والآداب والأسرار، وجعلها الطّريق الضَّروري لإظهار عبوديّة الإنسان لله تعالى واعترافه بذلّه ومسكنته وحاجته إليه تعالى, ولذلك كانت الصَّلاة أحبّ الأعمال لله تعالى، فعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصَّلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء"[1]، والله سبحانه وتعالى أكدَّ على هذه الفريضة في العديد من الآيات الكريمة، كما في قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾[2]، فالأمر في هذه الآية أتى بالحفاظ على الصَّلاة، وهو أمرٌ يعمّ الإتيان بها على أي وجهٍ، بل المقصود منها هو الحفاظ عليها في وقتها وحدودها وآدابها وغاياتها، والتي منها قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[3].
59
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
ومن المفاهيم الرئيسة التي تتمحور حولها فريضة الصَّلاة، والتي تعبِّر عن الحكمة من تشريع الصَّلاة وعلّته، كون الصَّلاة مجلىً حقيقياً للعبودية لله تعالى. فالصلاة بمظهرها الخارجي تحكي عن الاعتراف الكامل للإنسان بوجوب التوجّه إلى من فطر السموات والأرض في جميع حركات الإنسان وسكناته فيها، وبباطنها تحكي عن مسيرة الإنسان التوحيدية وسفره نحو الله تعالى[1]. والصلاة، لها درجاتها المتفاوتة بحسب الإقبال المعرفي للإنسان، وبالتالي تعكس الصَّلاة علاقة العبد بربّه على قدر ما يعرفه هذا العبد من المضامين التوحيدية, ولذلك روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام لما سُئِل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة، أجاب: "ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصَّلاة"[2].
وعن الإمام الرض عليه السلام في فلسفة الصَّلاة: "إنّها إقرار بالربوبية لله عزّ وجلّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبّار جلّ جلاله بالذلّ والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطّلب للإقالة من سالف الذُّنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يومٍ خمس مرّات إعظاماً لله عزّ وجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ ولا بطرٍ، ويكون خاشعاً متذلّلاً راغباً طالباً للزّيادة في الدّين والدّنيا، مع ما فيه من الانزجار والمداومة على ذكر الله عزّ وجلّ بالليل والنَّهار، لئلا ينسى العبد سيّدَه ومدبّرَه وخالقَه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً من أنواع الفساد"[3].
[1] لاحظ: الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني قدس سره، ص453، السيد أحمد الفهري (تعريب وشرح وتعليق)، بيروت، مؤسسة الأعلمي،1986هـ، ط2. وغيره من المواضع الكثيرة في هذا الكتاب، والتي تحكي عن حقيقة السفر التوحيدي في الصَّلاة بمراتبه المتعددة.
[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص694.
[3] الشيخ الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه: علل الشرائع، ج2، ص317، النجف، المكتبة الحيدرية، 1966م، ط1.
79
60
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
وهذا بعض من كلام كثير عن فضل الصَّلاة، وإذا كانت على هذه المرتبة من الأهمّية، فلا بدّ أن نعلم بأنَّ الدُّعاء في الصَّلاة، وهو الذي يُسمّى بالـ "القنوت" له المرتبة العالية بين أفعال الصَّلاة والأسرار اللطيفة بين أسرارها.
أولاً: فضل القنوتُ في الصَّلاة
القنوت، كما يعرّفه الإمام الخميني قدس سره، هو عبارةٌ عن: "رفع اليد حذاء الوجه، وبسط باطن الكفّين نحو السماء، والدعاء بالمأثور أو غير المأثور، ويجوز الدُّعاء بكلّ لسان، عربياً كان أم غير عربي، والعربي أحوط وأفضل"[1].
وقد جاءت روايات كثيرة في فضل القنوت، والتأكيد على لزوم الإتيان به في كلّ صلاة، إلى درجة تُشعر بوجوبه، وإن لم يفْتِ الأكثرُ[2] بوجوبه، إلا أنّ هذه الروايات الكثيرة الآمرة به، تدلُّ على شدة اهتمام الشارع بإتيان القنوت في الصَّلاة. وقد جاء عن مولانا الإمام الحسين عليه السلام أنَّه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاته كلَّها، وأنا يومئذٍ ابن ستّ سنين"[3]، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من ترك القنوت متعمّداً، فلا صلاة له"[4] بمعنى أنَّه "لا كمال لها"[5].
وبالتالي، إذا كانت الصَّلاة تهدي إلى النّظام التّكويني القائم على الطّاعة التَّامة لله تعالى[6] والهداية[7]، فإنّ الدُّعاء له وظيفةٌ هامّة في إظهار هذه المعاني السّامية والمقاصد العالية للصّلاة.
[1] الإمام الخميني قدس سره، الآداب المعنوية للصلاة، ص564.
[2] قال الشهيد الثاني: "ويستحب القنوت استحباباً مؤكّداً، بل قيل بوجوبه".(والقائل بالوجوب الشيخ الصدوق رحمه الله).
الشهيد الثاني، زين الدين الجبعي: الزبدة الفقهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج1، ص632، محمد كلانتر (تحقيق)، النجف الأشرف، منشورات جامعة النجف الدينية، 1398هـ، ط2.
[3] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي، ج2، ص219.
[4] الشيخ الصدوق، الهداية، ص127.
[5] آملي، الشيخ عبد الله جوادي أسرار الصَّلاة، ص73، بيروت، دار الصفوة، 2009م، ط1.
[6] يقول تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ سورة آل عمران، الآية 83.
[7] يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ سورة طه، الآية 50.
80
61
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
يقول الإمام الخميني قدس سره: "مع أنَّ الصَّلاة جميعها إظهار للعبودية وثناء على الله، فإنّ الذَّات المقدَّسة للحقّ جلّ وعلا فتحَ باب المناجاة والدّعاء للعبد بالخصوص في حال القنوت، وهو حالُ المناجاة والانقطاع إلى الحقّ، وشرّفه بهذا التشريف. إنّ القنوت هو قطع اليد عن غير الحقّ والإقبال التام على عزّ الربوبية، ومدّ يد السؤال خالية الكفّ إلى الغني المطلق"[1].
إذاً، وظيفة القنوت في الصَّلاة، أنَّه يُظهر أجلى معاني العبودية والانقطاع المطلق إلى الله تعالى، وكفّ اليد عن غيره، وهذا يعني إعلان القطع مع كلّ الأرباب ومدّعي الاستقلالية من دونه، وبالتالي تنفتح بوابة الإجابة لدعاء الدَّاعي في هذا المقام بما لا حدّ له، لخلوّ النفس إلا من الله تعالى والتوجّه إليه، وهذا هو مفتاح الإجابة[2].
ومن الأدعية الشَّريفة في القنوت والتي لها فضلٌ عظيمٌ، دعاء "يا من أظهر الجميل"[3]. وهو مشتملٌ على آداب مناجاة العبد لله تعالى، وهو "مشتمل على تعداد العطايا الكاملة الإلهية الذي يناسب حال القنوت، وهو حال المناجاة والانقطاع إلى الحقِّ مناسبةً تامةً، وهو من كنوز العرش وتحفةُ الحقّ تعالى لرسول الله، ولكلٍّ من فقراته فضائل وثواب كثير"[4].
[1] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص565.
[2] م.ن، ص566.
[3] "يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، يا عظيم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كلّ نجوى، ويا منتهى كلّ شكوى يا كريم الصفح، يا عظيم المن يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها يا ربنّا ويا سيّدنا ويا مولانا ويا غاية رغبتنا، أسألك يا الله أن لا تشوّه خلقي بالنار". الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه: التوحيد، ص222، السيد هاشم الحسيني الطهراني (تحقيق)، قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، ط1.
62
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
ثانياً: فضلُ التعقيبات
التَّعقيب بعد الصَّلاة من المستحبَّات المؤكَّدة، وقد وردت العديدُ من الأدعية والأذكار والأفعال التي تجري مجرى التَّعقيب للصَّلاة. فلا بدَّ للمصلّي وبعد فراغه من صلاته، أن يراعي آداب التَّعقيب، ويستفيد منه في التفكّر في نقصه وأحوال علاقته بالله سبحانه وغفلته عنه بعد انفتاله من الصَّلاة, لأنّ الصَّلاة في حقيقتها ذكر وحضور لله، فلا ينبغي للمصلي أنْ يرجع إلى الغفلة بعد صلاته. ومن هنا، فإنّ الله سبحانه وتعالى فتح للعبد بوّابة التقرّب منه، والاستجابة له بعد الفراغ من الصَّلاة.
وقد قال الله سبحانه ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[1], أي إذا فرغت من صلاتك فانصب نفسك لإدامة العبادة بتعقيبها، ولتكن رغبتك إليه تعالى دون ما عداه. وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قال في شرح
هذه الآية: "إذا قضيت الصَّلاة... فانصب في الدُّعاء"[2].
وحيث إنّ التَّعقيب كلفةٌ زائدةٌ على الصَّلاة الواجبة الَّتي هي بنفسها تكون كبيرةً إلَّا على الخاشعين، مع ما له من الأثر الهامّ في دوام العبادة، فقد ورد في حقّ التَّعقيب عن الإمام الصّادق عليه السلام: "ما عالج الناسُ شيئاً أشدّ من التَّعقيب"[3].
ومن هنا جاء التأكيد على أهمّية التَّعقيب في الروايات الشَّريفة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "من أدّى لله تعالى مكتوبة فله في أثرها دعوة مستجابة"[4].
وعن الإمام الصّادق عليه السلام: "ثلاثة أوقات لا يحجب فيها الدُّعاء عن الله
63
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
تعالى: في أثر المكتوبة، وعند نزول المطر، وظهور آية معجزة لله في أرضه"[1].
وقال عليه السلام أيضاً: "من صلَّى صلاة فريضة وعقّب إلى أخرى، فهو ضيف الله عزّ وجلّ، وحقّ على الله أن يكرم ضيفه"[2].
وأما ترك التَّعقيب، فهو منهي عنه, لأنّه قد يشي باستغناء العبد عن الله تعالى، إذ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا فرغ العبد من الصَّلاة ولم يسأل الله حاجته، يقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي، فقد أدّى فريضتي ولم يسأل حاجته منّي، كأنّه قد استغنى عنّي، خذوا صلاته فاضربوا بها وجهه"[3].
1- من آثار التَّعقيب:
أ- يزيد في الرزق: روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "التَّعقيب بعد الصَّلاة، أبلغ في طلب الرزق من الضرب في البلاد"[4].
ب- أن يكون في ضيافة الله: وعن أبي عبد الله عليه السلام: "من صلى صلاة فريضة وعقب إلى أخرى فهو ضيف الله، وحقٌّ على الله أن يكرم ضيفه"[5].
ج- الستر من النار: روي عن الإمام الحسن عليه السلام قال: "من صلّى فجلس في مصلاه إلى طلوع الشّمس كان له ستراً من النار"[6].
د- غفران الذّنوب: روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "من سبّح تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام قبل أن يثني رجليه من صلاة الفريضة غفر الله له"[7].
[1] الراوندي، قطب الدين أبو الحسن سعيد بن هبة الله: الدعوات، ص35، مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (تحقيق)، قم، أمير، ط1.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص341.
[3] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج5، ص29.
[4] الشيخ الصدوق، الهداية، ص168.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص341.
[6] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص458.
64
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
هـ- يُعطى أجر الشهيد: فقد روي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من قرأ آية الكرسيّ عقيب كلّ فريضة تولَّى الله - جلّ جلاله - قبض روحه، وكان كمن جاهد مع الأنبياء عليهم السلام حتّى استشهد"[1].
2- أهمّ التعقيبات:
أ- سجدة الشكر: وهما سجدتان بعد الانتهاء من الصَّلاة، ويتأكّد فيهما تعفير الجبينين بالتراب، وقد نقل في توقيع مولانا صاحب العصرعجل الله تعالى فرجه الشريف أنّ: "سجدة الشكر من ألزم السنن وأوجبها، ولم يقل: إنّ هذه السجدة بدعة إلَّا من أراد أن يحدث في دين الله بدعة". وفي الحديث عن سبب اصطفاء موسى الكليم عليه السلام هو توغَّله في التذلَّل لله، المتجلَّي ذلك بإلصاقه - عليه السلام - خدّه الأيمن والأيسر بالأرض بعد الصَّلاة، وحيث علم موسى عليه السلام أنّ الله اصطفاه لتذلله زاد في ذلَّته فخرّ ساجدا، وعفر خدّيه في التراب، فأوحى الله إليه: "ارفع رأسك يا موسى، وأمرّ يدك موضع سجودك، وامسح بها وجهك، وما نالته من بدنك فإنّه أمان من كلّ سقم وداء وآفة وعاهة"[2].
ب- التكبير ثلاثاً: روي عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: "إذا سلَّمت فارفع يديك بالتكبير ثلاثاً"[3].
ج- تسبيح السّيدة الزهراء عليها السلام: روي عن الإمام الصّادق عليه السلام أنَّه قال: "إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة"[4]. وهي على الترتيب الآتي: تكبير أربع وثلاثون مرة، والتحميد ثلاث وثلاثون مرّة، والتسبيح ثلاث وثلاثون مرّة.
65
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
د- قراءة آية الكرسي: عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام أنَّه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد هذا المنبر، وهو يقول: من قرأ آية الكرسيّ عقيب كلّ فريضة ما يمنعه من دخول الجنّة إلَّا الموت، ولا يواظب عليه إلَّا صدّيق أو عابد، ومن قرأها عند منامه آمنه الله في نفسه وبيته وبيوت من جواره"[1].
هـ- الدُّعاء بالمأثور: روى معاوية بن وهب البجليّ قال: "وجدت في ألواح أبي بخطَّ مولانا موسى بن جعفر عليهما السلام: أنّ من وجوب حقّنا على شيعتنا: أن لا يثنوا أرجلهم من صلاة الفريضة، أو يقولوا: اللَّهمّ ببرّك القديم ورأفتك ببريّتك اللطيفة، وشفقتك بصنعتك المحكمة، وقدرتك بسترك الجميل وعلمك صلِّ على محمّد وآل محمّد، وأحيي قلوبنا بذكرك، واجعل ذنوبنا مغفورة، وعيوبنا مستورة، وفرائضنا مشكورة، ونوافلنا مبرورة، وقلوبنا بذكرك معمورة، ونفوسنا بطاعتك مسرورة، وعقولنا على توحيدك مجبورة، وأرواحنا على دينك مفطورة، وجوارحنا على خدمتك مقهورة، وأسماءنا في خواصّك مشهورة، وحوائجنا لديك ميسورة، وأرزاقنا من خزائنك مدرورة، أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت، لقد فاز من والاك، وسعد من ناجاك، وعزّ من ناداك، وظفر من رجاك، وغنم من قصدك، وربح من تاجرك، وأنت على كلّ شيء قدير، اللَّهمّ وصلِّ على محمّد وآل محمّد، واسمع دعائي كما تعلم فقري إليك، إنّك على كلّ شيء قدير"[2].
3- من أسرار التعقيبات
للتّعقيبات أسرارٌ ذكرها أهل البيت عليهم السلام وبسطها العلماء رضوان الله تعالى عليهم، ومن ذلك سرُّ التأكيد على أهمية التَّعقيب بعد صلاة الصّبح. والسرّ أنّ
66
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
فترة الصّباح هي فترة النّشاط والعمل والإقبال على الدّنيا ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾[1]، وبالتالي يكون قلب الإنسان أكثر عرضةً لانشغاله بالدّنيا وشجونها عن الباري عزّ وجلّ، مع أنَّه تعالى هو الذي يريد من الإنسان أن يستفيد من فترة النهار بالعمل من أجل تحصيل معاشه، إلا أنَّه تعالى بالمقابل لا يترك الإنسانَ فريسةَ حبِّ الدُّنيا والغرق في بحرها المُظلم, لذلك خصّه بمجموعةٍ من التّعقيبات الهامّة التي يجد الإنسان في المواظبة عليها ثماراً في سعة الرزق. فوقت الصباح، وقت شريفٌ ينبغي أن لا تفوت الإنسانَ فرصة التّأسيس فيها لنهاره على أرض طاعة الله ومحبّته. فعن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: يا بن آدم، اذكرني بعد الفجر ساعة، واذكرني بعد العصر ساعة، أكفك ما أهمّك"[2].
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الصبح افتتاح الاشتغال بالكثرات والورود على الدنيا، والإنسان مواجه لمخاطرة الاشتغال بالخلق والغفلة عن الحقّ، فينبغي للإنسان السالك اليقظان (...) أن يتوسّل بعد صلاة الصبح للورود في هذا البحر المهلك الظلماني والمصيدة المهيبة الشيطانية بخُفَراء[3] ذلك اليوم، ويسأل الحقّ تعالى رفع شرَّ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء بشفاعتهم، فإنّهم مقرّبون لجناب القدس"[4].
[1] سورة النبأ، الآية 11.
[2] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص429.
[3] تذكر كتب الأدعية أنّ لكل يومٍ توسلاً بمعصوم بعينه "فيتعلّق يوم السبت بالوجود المبارك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويوم الأحد لأمير المؤمنين عليه السلام، ويوم الاثنين للإمامين الهمامين السبطين عليهما السلام، ويوم الثلاثاء للحضرات السجاد والباقر والصادق عليه السلام، ويوم الأربعاء للحضرات الكاظم والرضا والتقيّ والنقيّ عليه السلام، ويوم الخميس للعسكري عليه السلام، ويوم الجمعة لوليّ الأمر عجّل الله فرجـه الشريف". الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، ص569.
67
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
4- من سنن التَّعقيب
أ- التَّعقيب بعد الفريضة أفضل: عن محمد بن مسلم عن أحدهم عليه السلام قال: "الدُّعاء دبر المكتوبة أفضل من الدُّعاء دبر التطوعّ كفضل المكتوبة على التطوّع"[1].
ب- التَّعقيب بتسبيح الزهراء عليها السلام وتعجيله قبل أن يثني رجليه: قال أبو عبد الله عليه السلام "من سبّح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله من صلاة الفريضة غفر الله له، ويبدأ بالتكبير"[2].
ج- استحباب رفع اليدين فوق الرأس عند الفراغ من الصَّلاة والتكبير ثلاثاً والدعاء بالمأثور: عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - لما فتح مكّة - صلّى بأصحابه الظهر عند الحجر الأسود، فلمّا سلّم رفع يديه وكبر ثلاثاً، وقال: "لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وغلب الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير". ثمّ أقبل على أصحابه فقال: "لا تدعوا هذا التكبير وهذا القول في دبر كلّ صلاة مكتوبة، فإنّ من فعل ذلك بعد التسليم، وقال هذا القول، كان قد أدّى ما يجب عليه من شكر الله تعالى على تقوية الإسلام وجنده"[3].
د- استحباب البقاء على طهارة في حال التَّعقيب وفي حال الانصراف: عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن معقّب ما دام على وضوئه"[4].
68
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
هـ- استحباب الجلوس بعد الصبح حتى تطلع الشمس: عن الحسن بن علي عليه السلام أنَّه قال: "من صلّى فجلس في مصلاه إلى طلوع الشمس كان له ستراً من النار"[1].
و- استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمّة عليهم السلام بعد كلّ صلاة: عن محمد بن سليمان الديلمي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "قل في دبر كلّ صلاة فريضة: رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن كتابا، وبالكعبة قبلة، وبعلي وليا وإماما، وبالحسن والحسين والأئمّة عليهم السلام، اللهمّ إنّي رضيت بهم أئمّة فارضني لهم، إنّك على كلّ شيء قدير"[2].
ز- استحباب طلب الجنّة والتعوّذ من النار: عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "ثلاث أُعطين سمع الخلائق: الجنّة والنار والحور العين, فإذا صلّى العبد فقال: اللهمّ، أعتقني من النار وأدخلني الجنّة وزوجني من الحور العين قالت النار: يا ربّ إنّ عبدك قد سألك أن تعتقه منّي فأعتقه. قالت الجنّة: يا ربّ إنّ عبدك قد سألك إياي فأسكنه. وقالت الحور العين: يا ربّ، إنّ عبدك قد خطبنا إليك فزوّجه منّا، فإن هو انصرف من صلاته ولم يسأل الله شيئاً من هذا، قلن الحور العين: إنّ هذا العبد فينا لزاهد، وقالت الجنّة: إنّ هذا العبد فيّ لزاهد، وقالت النّار: إنّ هذا العبد بي لجاهل"[3].
69
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
مفاهيم رئيسة
1- الصَّلاة أحبّ عمل لله تعالى، وقد ورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصَّلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء".
2- القنوت بحسب تحديد الإمام الخميني قدس سره، هو عبارةٌ عن: "رفع اليد حذاء الوجه وبسط باطن الكفين نحو السماء والدعاء بالمأثور أو غير المأثور، ويجوز الدُّعاء بكل لسان، عربياً كان أم غير عربي، والعربي أحوط وأفضل".
3- يعدّ التَّعقيب بعد الصَّلاة من المستحبَّات المؤكَّدة، وقد وردت العديدُ من الأدعية والأذكار والأفعال التي تجري مجرى التَّعقيب للصَّلاة، ومنها ما روي عن الإمام الصّادق عليه السلام: "ما عالج الناسُ شيئاً أشدّ من التَّعقيب".
4- من الآثار التي جاء ذكرها في الروايات حول فضل تعقيب الصلاة: أنّه يزيد في الرزق، ويجعل المعقّب في ضيافة الله، وأنّه يستر من النار، وأنّه يسبب غفران الذّنوب، وأنّ المعقّب يُعطى أجر الشهيد...
5- من أهمّ التعقيبات الواردة: سجدة الشُّكر، التَّكبير ثلاثاً، تسبيح السّيدة الزهراء عليها السلام، قراءة آية الكرسي، الدُّعاء بالمأثور.
6- من سنن التَّعقيب: أن يكون التَّعقيب بعد الفريضة مباشرة، التَّعقيب بتسبيح الزهراء عليها السلام وتعجيله قبل أن يثني رجليه، استحباب رفع اليدين فوق الرأس عند الفراغ من الصَّلاة والتكبير ثلاثاً والدعاء بالمأثور، استحباب البقاء على طهارة في حال التَّعقيب وفي حال الانصراف، استحباب الجلوس بعد الصبح حتى تطلع الشمس، استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة عليهم السلام بعد كلّ صلاة، استحباب طلب الجنّة والتعوّذ من النار... .
89
70
الدرس الخامس: الدعاء في الصلاة (قنوت الصَّلاة وتعقيبها)
للمطالعة
عبادة الإمام الخميني قدس سره
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "أنا على يقين أنّ ذلك الرجل المسنّ النورانيّ المعنويّ، العالم الزاهد والعارف، الذي بنى هذه الثورة بيده القديرة، وبها كان غرسها وسقياها وقطاف ثمارها، لولا أنّه كان في شبابه له تلك المناجاة، وتلك العبادات، والتفكّر والتوسّل، لما حصل على ذلك القلب المؤمن النورانيّ، ولما أنجز هذه الأعمال العظيمة، إنّ المرحوم الحاج ميرزا جواد آغاي طهراني ـ وهو من العلماء أصحاب الإيمان القوي، ومن الزاهدين الخالصين، وكان يعرفه الكثيرون
في مشهد ـ قال لي قبل ما يقرب من ثلاثين سنة: "لقد ذهبتُ إلى قمّ أيّام الشباب للدراسة، ورأيتُ الإمام الخميني قدس سره في ذلك الزمان في الحرم المطهّر. لم أكن أعرف من هو. رأيت سيّداً طالب علم شابّاً نورانيّاً واقفاً في الحرم، قد تحنّك بعمامته، يصلّي ويذرف الدموع ويتضرّع". يقول الحاج ميرزا جواد آغاي طهراني: "مع أنّي لم أعرفه، إلّا إنّي أُخذتُ به، وسألتُ بعض الموجودين من هو هذا السيّد النورانيّ؟ فقالوا: هذا السيّد روح الله الخمينيّ". فإذا كان السيّد روح الله قد ذخر رأس المال هذا في شبابه، فإنّه سيصبح في سنّ الثمانين الإمام والمؤسّس لدولة الجمهوريّة الإسلاميّة.
عادةً ما يتقاعد المسنّون في عمر أقلّ من هذا, ولا يطيقون حتّى إدارة حياتهم الشخصيّة. أمّا الإمام، فإنّه في ذلك السنّ يبني بناءً عظيماً لا يوصف، ويقف في وجه العدوّ، بحيث يُصعَق الإنسان لما يراه من شجاعته وثباته في وجه الحوادث والمصائب[1].
[1] الإمام القائد الخامنئي دام ظله، لقاء مع رجال الدين وطلّاب العلم الإيرانييّن والأجانب في ساحة مدرسة الفيضيّة في قم،7/12/1995.
90
71
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الانتظار للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2- يفهم حقيقة الدُّعاء بتعجيل فرج الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وفوائده.
3- يعدِّد الأدعية الخاصة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ويحفظ ثلاثة منها.
91
72
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
معنى الانتظار للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
لقد تضافرت الروايات حول أهميّة انتظار الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف, فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي، وهو يأتمّ به في غيبته قبل قيامه، ويتولّى أولياءه، ويعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودتي، وأكرم أمّتي عليّ يوم القيامة"[1].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج"[2].
والانتظار عملٌ، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمّتي"[3] وهو لا يعني السَّلبية والامتناع عن أيّ عملٍ، بل الانتظار لكلِّ أمرٍ يستتبع استعداداً متناسباً مع ذلك الأمر المنتظر. فانتظار سفرٍ قصيرٍ يستتبعُ استعداداً معيّناً، يختلفُ عن الاستعداد الذي يستلزمه انتظارُ سفرٍ طويل. ومن الواضح أنّ المنتظِر للإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ينتظر قائداً إلهياً سيقود مسيرة تحفُّ بها الملائكة، وجمهورها الأساس أهل التَّقوى والعبادة، وسيخوض المعارك الحامية الوطيس والمتتالية.
73
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما تستعجلون بخروج القائم فوالله ما لباسه إلا الغليظ، وما طعامه إلا الشعير الجشب، وما هو إلا السيف، والموت تحت ظلّ السيف"[1].
فإذا كان المنتظِر له عجل الله تعالى فرجه الشريف لم يهتمّ بتهذيب نفسه وتزكيتها، فهل باستطاعته الانسجام مع مسيرة المنتظرين والممهِّدين؟ بل هل يمكنه تحقيق هذا الانسجام والتناسب، إذا لم يكن يحمل روح الجهاد متشوّقاً إلى الشّهادة في سبيل الله بما يستلزمه ذلك من إعدادٍ عسكري يمكّنه أن يجاهد بين يدي الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
فالاعتقادُ بوجود الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبيعتُه، وتجديد البيعة، أو الالتزام بقيادته عبر بيعة نائبه وطاعته، وانتظارُه، والمواظبة على آداب الغيبة، كلّ ذلك لا ينفع صاحبه شيئاً إذا لم يكن يسير كلّ ذلك تحت شعار "التقوى".
وممّا يرشدنا إلى الترابط بين الانتظار والتقوى ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع، ومحاسن الأخلاق وهو منتظرٌ، فإنْ ماتَ وقام القائم بعده، كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا"[2].
وبديهي أنّ التقوى واجبة في كلّ حال، إلا أنّ المقصود هو الإشارة إلى هذه العلاقة بينها وبين الانتظار، وفائدة ذلك أنْ يدرك من يغلب عليه الطابع الحركي العملي، ويحسب أنَّه من جنود المهدي دون شكّ! إلا أنّ هذا البعد وحده لا يكفي.
ولا شكّ أنّ الوقوف مع الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، أثناء غيبته إنَّما يتحقَّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله مع
74
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
نائبه الفقيه الجامع للشرائط، انطلاقاً من الاهتمام بأمور المسلمين، ومواجهة الطواغيت الذين يريدون ليطفئوا نور الله تعالى.
وبالتالي يكون الارتباط بالإمام الحجّة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس مجرّد ارتباط بفكرة عقيدية غيبية، بل بإنسان كامل حيٍّ جسداً وروحاً، ولولا وجود الإمام لساخت الأرض بأهلها، فهو أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، كما ورد في الأحاديث المأثورة عنهم عليهم السلام.
حقيقة الدُّعاء بتعجيل الفرج
لقد ورد في الدُّعاء المأثور حول الدُّعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف: "اللهمّ عرّفني نفسك، فإنّك إنْ لم تعرّفني نفسَك لمْ أعرف نبيّك، اللهمّ عرّفني رسولك، فإنّك إنْ لم تعرّفني رسولك لم أعرفْ حجّتك، اللهمّ عرّفني حجّتك، فإنّك إنْ لم تعرّفني حجّتك ضلَلتُ عن ديني"[1].
فمن أهمّ آداب عصر الغيبة والذي حثّ عليها أهل البيت عليهم السلام الدُّعاء للإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف، وقد وردت أدعية كثيرة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مثل دعاء النّدبة المستحب في الأعياد بما في ذلك كلّ يوم جمعة، ودعاء العهد، وفي دعاء الافتتاح المستحب في كلّ ليلة من شهر رمضان المبارك وردَ مقطعٌ خاصٌّ بالدّعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. وجاء في عدّة روايات الحثّ من الإمام للشِّيعة على الدُّعاء لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فقد ورد عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف نفسه في أهمّية الدُّعاء بتعجيل فرجه: "وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار السَّحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، فأغلقوا أبوابَ السُّؤال عمَّا لا يعنيكم ولا تتكلَّفوا علم ما قد كُفيتم وأكثروا الدُّعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ذلك فرجُكم"[2].
75
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
فوائد الدُّعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
إنَّ فوائد الدُّعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف كثيرةٌ وجليلةٌ، ومنها:
1- تأكيد المعرفة بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
لأنّ الدُّعاء للإمام يستبطن مقدمات عديدةً، أهمّها "معرفة الإمام"، لأنّ الدَّاعي لا بدّ وأن يكون على معرفة بشخص المدعو له، وصفاته وعلاماته، وأهمّية كونه الصلة بين الله تعالى وعباده ومظهراً تاماً لدين الله تعالى، ومن هنا نفهم شيئاً مهمّاً من الدُّعاء: "اللهمّ عرّفني حجّتك، فإنّك إنْ لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني"[1].
2- إظهار المحبة الباطنية:
فالحبّ وإن كان أمراً خفيّاً قلبياً، ولكن له آثار ظاهرة، وفروع متكاثرة، فهو "كشجرة أغصان، ولكلّ غصن من الورد أفنان، فبعض آثاره يظهر في اللسان، وبعضٌ في سائر جوارح الإنسان، فكما لا يمكن منع الشجر عن إبراز أزهاره، لا يمكن منع ذي الحبّ عن ظهور آثاره"[2]. ومن آثار الحبّ في اللسان ذكر المحبوب في كلّ مكان وزمان، والاهتمام في الدُّعاء بتعجيل فرج الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف إظهاراً للحبّ له باللسان المنبئ عن المحبّة الكامنة بالقلب.
3- استجابة الدُّعاء تنجي من الفتن:
والدليل على ذلك ما ورد عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، إذ قال: "دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام، وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال عليه السلام لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق، إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلِ الأرض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله على خلقه، به
76
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض. قال: فقلت له: يا بن رسول الله عليه السلام فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله عزّ وجلّ وعلى حججه، ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميّ رسول الله وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأمّة مثل الخضر، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنّ غيبة لا ينجو من الهلكة فيها إلا من ثبّته الله عزّ وجلّ على القول بإمامته ووفّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه"[1].
4- استحقاق دعاء الإمام له بالنصرة:
فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يدعو للداعي له بالفرج والنصر، ويدلّ على ذلك قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "واجعل من يتبعني لنصرة دينك مؤيّدين، وفي سبيلك مجاهدين وعلى من أرادني وأرادهم بسوءٍ منصورين"[2].
فمن يدعو للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنّه ينال من الإمام الدُّعاء بالتّأييد والنّصرة والمنعة والكرامة، وغير ذلك من أنواع التّوفيقات.
5- تعجيل الفرج:
إنّ الاهتمام والمداومة في طلب فرج مولانا صاحب الزمان عليه السلام من الله تعالى بشروطه الموجبة لقبول الطّلب والدّعاء، يصير سبباً لقرب وقوعه. ففي توقيع الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى إسحاق بن يعقوب: "وأكثروا الدّعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ في ذلك فرجكم"[3].
77
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
6- الأمن من العقوبات الأخروية:
ومن الفوائد أيضاً الأمن من العقوبات الأخروية، وأهوال يوم القيامة ويشهد لذلك آيات عديدة، منها: قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[1] بناءً على أن يكون المراد باليوم الآخر هو زمان دولة القائم عليه السلام.
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾[2] أنَّه قال: "معرفة أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام، ﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ قال: نزيده منها... ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ قال عليه السلام: ليس له في دولة الحقّ مع القائم عليه السلام نصيب"[3].
7- نيل الحظوة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فالدّعاء بتعجيل الفرج للإمام، والطَّلب من الله تعالى أن يكون من أنصاره والشاهدين على دولته والقيام بين يديه، ما يفرح قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بشّر صلى الله عليه وآله وسلم القوم الذين يدركون القائم بمبّشرات عدة، كالمروي عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي، وهو مقتدٍ به قبل قيامه يتولّى وليّه، ويتبرّأ من عدوّه ويتولَّى الأئمّة الهادية من قبله، أولئك رفقائي، وذوو ودِّي ومودَّتي، وأكرمُ أمّتي عليّ"[4].
78
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
نماذج من أدعية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
دعاء الغريق: عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم يُرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو إلا من دعا بدعاء الغريق. قلت: كيف دعاء الغريق، قال: يقول: يا الله يا رحمان يا رحيم، يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك. فقلت: يا الله يا رحمان يا رحيم، يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبِّت قلبي على دينك. قال: إنَّ الله عزَّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قُلْ كما أقول لك: يا مقلِّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"[1].
دعاء العهد: ورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، وإن مات أخرجه الله إليه من قبره، وأعطاه الله بكلّ كلمةٍ ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة"[2].
3- دعاء النُّدبة: وهو مذكور في مختلف كتب الأدعية، والمشهور من أوقات قراءته، أنَّه يُقرأ كلّ يوم جمعة، إلا أنّ المروي
هو استحباب قراءته في الأعياد الأربعة.
دعاء الحجّة: "اللهمّ كن لوليك الحجّة بن الحسنِ صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كلّ ساعة، ولياً وحافظاً..."[3].
5 - دعاء آخر: الإمام الحسن العسكري عليه السلام في دعائه له عجل الله تعالى فرجه الشريف: "اللهمّ أعذه من شرّ كلّ طاغٍ وباغٍ، ومن شرّ جميع خلقك، واحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، واحرسه وامنعه أنْ يصلَ إليه بسوء، واحفظ فيه رسولك وآل رسولك، وأظهر به العدل، وأيّده بالنّصر"[4].
79
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
6- زيارة آل ياسين: ولا سيما زيارة آل ياسين الواردة عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث يعلمنا فيها كيف نشعر بحضوره فنقول: "السّلام عليك حين تقوم، السّلام عليك حين تقعد، السّلام عليك حين تقرأ وتبيّن، السلام عليك حين تصلّي وتقنت، السّلام عليك حين تركع وتسجد..."[1].
7- التوسّل به: وقد ورد في بعض الرّوايات توسّلٌ بالإمام صاحب العصر، والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، منها: "اللهمّ إنّي أسألك بحقّ وليّك وحجّتك صاحب الزمان إلا أعنتني به على جميع أُموري، وكفيتني به مؤونة كلّ مؤذ وطاغ وباغ، وأعنتني به، فقد بلغ مجهودي وكفيتني كلّ عدوّ وهمّ وغمّ ودين، وولدي وجميع أهلي وإخواني ومن يعنيني أمره وخاصتي، آمين رب العالمين"[2].
8- الصَّلاة عليه: فقد ورد استحباب الصَّلاة عليه في أكثر من موردٍ كما في دعاء الافتتاح. وكالصّلاة الواردة عن الإمام العسكري عليه السلام: "اللهمّ صلّ على وليّك وابن أوليائك، وليّ الأمر المنتظر الحجّة بن الحسن، اللهمّ صل على وليّك وابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم"[3].
80
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
مفاهيم رئيسة
1- الانتظار هو عملٌ قوامه الاعتقادُ بوجود الإمام المهدي عليه السلام، وبيعتُه، وتجديد البيعة، أو الالتزام بقيادته عبر بيعة نائبه وطاعته، وانتظارُه، والمواظبة على آداب الغيبة.
2- من المهمّ أن يعرف المنتظِر للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أنّ الوقوف مع الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، أثناء غيبته إنَّما يتحقَّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله مع نائبه الفقيه الجامع للشرائط.
3- من أهمّ آداب عصر الغيبة هو الدُّعاء للإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف، وقد وردت أدعية كثيرة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مثل دعاء النّدبة المستحب في الأعياد بما في ذلك كلّ يوم جمعة، ودعاء العهد، وفي دعاء الافتتاح المستحب في كلّ ليلة من شهر رمضان المبارك وردَ مقطعٌ خاصٌّ بالدّعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
4- من فوائد الدُّعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف: هو تأكيد المعرفة بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإظهار المحبّة الباطنية له، وكذلك يؤدِّي التمسُّك به إلى النجاة من الفتن، أنّ الإمام يدعو له بالنصرة، وتعجيل الفرج، وكذلك الأمن من العقوبات الأخروية، ونيل الحظوة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
5- من نماذج الأدعية للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف التي وردت عن طريق أهل البيت عليهم السلام: دعاء الغريق، دعاء العهد، دعاء النُّدبة، دعاء الحجّة، دعاء التوسّل به، والصَّلاة عليه.
100
81
الدرس السادس: الدُّعاء لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
للمطالعة
لذّة الدعاء
لذّة الدعاء يعرفها من تذوّقها، وكثيراً ما تذوّق المجاهدون حلاوة ولذّة الدعاء في سنّي المقاومة والدفاع، ويبقى الأمل أن لا تفسد حلاوة الدنيا ولذّتها وغفلتها هذه اللذّةَ وتُضعِفَها.
إذا عبدتم الله، ودعوتم بخشوع، وأقمتم الصلاة بقلب حاضر، وأنفقتم المال للمستحقّ، ستعرفون ما هي اللذّة التي ستحصلون عليها. وهذه ليست كاللذّة التي يحصل عليها المرء بالأكل. إنّ الإنسان الذي تذوّق طعم العبوديّة لله ـ وهي حالات يشعر بها كلّ إنسان مؤمن في حياته قليلاً أو كثيراً ـ في لحظة الإقبال على الله تلك، عبادة الله، المناجاة، البكاء للّه وأمام الله، يشعر بلذّة معنوية يصبح معها على استعداد للتضحية. ولكنّ الماديّات تخرج الإنسان من هذه الحالة التي تحصل من وقت لآخر...
يريد الإسلام أن يرفعنا نحن البشر، وينوّر قلوبنا، وينتزع السيّئات من صدورنا ويرمي بها بعيداً، كي نشعر بهذه الحالة من اللذّة المعنويّة في كلّ لحظات حياتنا، وليس فقط في محراب العبادة، بل حتّى في مكان العمل، في الدراسة، في ساحة الحرب، في التعليم والتعلّم، وفي البناء. وهذا هو المقصود من القول "هنيئاً لأولئك الذين هم في حالةٍ دائمة من الصلاة", عندما يعملون ويتاجرون فهم مع الله، عندما يأكلون ويشربون فهم ذاكرون لله. هذا هو النوع من البشر الذين يبعثون النّور حيثما يعيشون، وفي العالم أيضاً. إذا استطاع العالم تربية هذا النوع من البشر فستُقتلع جذور هذه الحروب والمظالم، وانعدام المساواة والخبائث والأرجاس، هذه هي الحياة الطيّبة"[1].
82
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أدلّة مشروعية زيارة أهل البيت عليهم السلام من خلال القرآن والسنّة.
2- يتعرّف إلى فوائد الزيارة.
3- يعدِّد أنواع الزيارات الواردة.
103
83
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
تمهيد
تُعدُّ زيارة أولياء الله سبحانه وتعالى من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والصدّيقين والشهداء وأولي العلم والفضل، في حياتهم ومماتهم، وعن قرب وعن بعد، من الشعائر الإلهية التي درج عليها المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يومنا هذا. وقد أُسّس لمفهوم الزِّيارة وأدبها وحدودها في الإسلام بالعديد من الأدلّة النّقلية الثَّابتة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، وكذلك فيما روي عنهم عليهم السلام وعن المسلمين في صدر الإسلام وإلى يومنا هذا في زيارتهم للقبور وتبرُّكهم بساكنيها والاستشفاع بهم إلى الله تعالى. وهو ما سوف نتعرَّض له في درسنا بالعرض والتَّحليل بإذن الله تعالى.
أولاً: معنى الزِّيارة
الزِّيارة في اللغة: "من الزَّور، والزَّورُ: أعلى الصدر. وزرت فلاناً: تلقيته بِزَوري, أي بصدري. أو قصدتُ زَوره, أي صدره... وزار فلانٌ فلاناً: مال إليه"[1].
84
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
وأمّا المعنى الاصطلاحي للزيارة، فإنّه "لا يكاد يخرج عن المعنى العرفي"[1]، وإن كان المتبادر هو "زيارة القبور غالباً"[2], لأنّ الزِّيارة، عبارةٌ عن قيام شخصٍ بالتوجُّه نحو المَزور الميِّت، إمّا بقطع المسافة إلى قبره فتسمّى "بالزّيارة عن قرب"، وإمَّا بالتّوجُّه إلى شخص المزور من دون قطع المسافة، وتسمّى "بالزيارة عن بعد".
ثانياً: الأدلّة على مشروعيّة الزِّيارة
إنَّ استحبابَ زيارة القُبور من الأمور التي أجمعت الأمّة الإسلامية عليها، بلا فرق بين مذاهبها المختلفة اللهم إلا من شذَّ وندر، ومارس ذلك كبيرهم وصغيرهم، وسيأتي في الرّوايات ما يكفي للقطع بذلك، وإنَّما نذكرها من باب التأكيد على ذلك وترسيخه في النفوس.
1- أصل الحياة بعد الموت:
إنَّ أحد الأمور الأساس التي أقرَّها الإسلام بالعقل والنَّقل، هو وجودُ الحياة بعد الموت، وأنَّ الأرواحَ تعيشُ في عالمٍ برزخيٍّ بين الدُّنيا والآخرة[3]، فيه النِّعم وفيه العذاب. فعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الموتى تزورهم؟ قال: نعم، قلت: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ فقال: إي والله، إنّهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم، ويستأنسون إليكم"[4]. فدلّ ذلك على أنّ هناك باباً مفتوحاً بين الأحياء والأموات، وقد أرشدت الشّريعةُ النّاس إلى طَرْقِه، لغاياتٍ وأهدافٍ نبيلةٍ وشريفةٍ.
[1] عبد المنعم، محمود عبد الرحمن: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، ج2، ص220، القاهرة، دار الفضيلة، ط1.
[2] عبد الحميد، صائب: الزِّيارة والتوسل، ص15، قم، مركز الرسالة، 1421هـ، ط1.
[3] يقول تعالى: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. سورة المؤمنون، الآية 100
85
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
2- الزِّيارة وعلاقتها بالتَّوحيد:
إنَّ التوجُّه بالزِّيارة لقبور أولياء الله تعالى، كقبر الرَّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم السلام، إنَّما هو توجُّهٌ لوجودهم المبارك في التوسُّلِ بهم والاستشفاع بهم إلى الله تعالى، إذ أثبتنا في الدرس الماضي حقيقة الشَّفاعة التشريعيّة والتكوينيّة، وأنّ هناك وسائط بين الله والخلق أعطاهم فضيلة الشَّفاعة لمن هو أهل لها. وبما أنّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حيٌّ في عالم الآخرة ويسمع الدُّعاء والسَّلام، ويحيط بأعمال أمته، فإن التوجّه إليه بالزيارة
للسلام عليه والتبرّك به والتشفّع لديه وطلب الاستغفار، أمر محبوب حثّ عليه القرآن بقوله ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[1]، وصدّقه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من زارني بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة"[2]. ومن كلّ ما ذكرناه، نجد أنّ روح التوحيد ونفي عبادة غير الله تعالى، بل والتوجّه إلى الشفعاء يعزّز من مفهوم الارتباط بالله من حيث أمر الله. إذاً، ففي زيارة القبور المشرَّفة سببٌ قويٌّ في تقوية العلاقة بالله تعالى، من باب التَّوبة أولاً، ومن باب محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو واسطة الشَّفاعة ثانياً، ويثبت بذلك أنَّ الزِّيارة من الشّعائر الربّانية التي تقوّي أصلَ الاعتقاد بوحدانيَّة الله تعالى وترفَعُ من مقامِ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمَّة عليهم السلام.
3- الأدلّة على مشروعيّة الزِّيارة من القرآن الكريم:
أ- الوقوف على قبور المؤمنين: من الأدلة القرآنية التي يُستدلّ بها على مشروعيّة زيارة القبور قوله تعالى:
86
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾[1]. فالمراد بالصَّلاة هنا هو خصوص الصَّلاة على الميت، وموضع الاستدلال لدينا على المطلوب هو قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾ إذ ذهب كثيرٌ من المفسِّرين[2] إلى أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الأوقات. ويستفاد من الآية المذكورة جواز الوقوف على قبور المؤمنين والدعاء لهم والترحّم عليهم, لأنّ النَّهي الوارد في الآية مختصٌّ بالمنافقين، وعلى هذا فإنَّ الآية تعني بمفهومها جوازَ زيارة قبور المؤمنين, أي الوقوف على قبورهم والدعاء لهم. فالآية تدلُّ على: "مشروعيّة الوقوف على قبور الموتى من المؤمنين والترحّم عليهم وزيارة قبورهم والتردّد إليها"[3].
ب- أهل الكهف: قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾[4]. تعدّ هذه الآية من الآيات القرآنية الواضحة في أنّ بناء القبور واتّخاذها مزارات ومساجد بمعنى كونها مكاناً لعبادة الله وتذكّر اليوم الآخر، كان أمراً جرى عليه المؤمنون منذ القدم. ولعل الآيات التي تحدّثت عن أهل الكهف أتت لتفيد معنى احترام الأولياء في حياتهم، وكذلك بعد مماتهم,
[1] سورة التوبة، الآية 84.
[2] المحقق الأردبيلي، أحمد بن محمد: زبدة البيان في أحكام القرآن، ص118، محمد الباقر البهبودي (تحقيق)، المكتبة المرتضوية (نشر)، ط1.
و: الشيخ الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن: تفسير جوامع الجوامع، ج2، ص85، مؤسسة النشر الإسلامي (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم المشرفة، 1418هـ، ط1. وغيرهما كذلك.
[3] المقداد السيوري، جمال الدين المقداد بن عبد الله: كنز العرفان في فقه القرآن، ج1، ص181، الشيخ محمد باقر شريف زاده (تعليق)، محمد باقر البهبودي (تصحيح)، طهران، المكتبة المرتضوية، 1384هـ، ط1. وكذلك: الشيرازي الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج6، ص155.
[4] سورة الكهف، الآية 21.
107
87
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
لما في ذلك من فوائد معنوية بالغة. "ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرّماً لتعرَّض عند نقل قولهم بالرّد والنقد لئلّا يضلّ الجاهل"[1].
ج- زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[2]. وقد قال الإمام السبكي: "دلّت الآية على الحثّ على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيماً له"[3]. وقد روي من طرق الخاصّة، كما في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في آداب دخول المدينة المنورة وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمّ فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك (...) على محمد عبدك ورسولك ونبيّك (...) اللهمّ إنّك قلت: ﴿أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ وإنّي أتيت نبيّك مستغفراً تائبا من ذنوبي، وإنّي أتوجّه بك إلى الله ربّي وربّك ليغفر لي ذنوبي"[4]، فالآية تدلّ على جواز المجيء إلى قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجل الاستغفار، وطلب التّوبة عند جنابه الشَّريف[5].
[1] السبحاني، الشيخ جعفر: التوحيد والشرك في القرآن، ص202، بيروت، دار الولاء، 2004م، ط1.
[2] سورة النساء، الآية 64.
[3] الإمام السبكي، علي بن عبد الكافي: شفاء السقام، ص181، السيد محمد رضا الحسيني الجلالي (تحقيق)، 1419هـ، ط4.
[4] الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص551.
[5] راجع: الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص700.
وكذلك: السبحاني، الشيخ جعفر: في ظلال التوحيد، ص264، معاونية شؤون التعليم والبحوث الإسلامية في الحج، 1412هـ، ط1.
108
88
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
4- الأدلّة على المشروعيّة من السنّة الشريفة:
في النّصوص النّبوية الشَّريفة والرّوايات المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام تأكيدٌ واضحٌ على أهميَّة زيارة القبور والدُّعاء عندها، والنُّصوص كثيرةٌ وقطعيَّةُ الدَّلالة، نذكر منها:
أ- الإجازةُ النَّبوية في زيارةِ القبور: وهذا الحديثُ من الأحاديث المشهورة بين الفريقين، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا ما يسخط الرب"[1].
ب- الأمر بزيارة الوالدين الميّتين: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "زوروا موتاكم، فإنَّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلبْ أحدُكم حاجتَه عند قبر أبيه وعند قبر أمِّه بما يدعو لهما"[2].
ج- استحباب زيارة قبور المؤمنين: عن الإمام الرِّض عليه السلام: "ما من عبدٍ زارَ قبرَ مؤمنٍ" فقرأَ عندَه "إنَّا أنزلناه في ليلة القدر" سبع مرات إلا غفر الله له ولصاحب القبر"[3].
د- الدُّعاء والاستغفار للميت عند قبره: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الميّت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له كما يفرح الحيّ بالهديّة تُهدى إليه"[4].
هـ- معرفة الميت بزواره: عن الإمام أبي الحسن عليه السلام قال: "قلت له: المؤمن يعلم من يزور قبره؟ قال: نعم، لا يزال مستأنساً به ما زال عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره، دخله من انصرافه عن قبره وحشة"[5].
89
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
و- زيارة الميت من حقوق الأخوة: عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "من حقّ المؤمن على المؤمن المودّة له في صدره" إلى أن قال: "وإذا مات فالزيارة له إلى قبره"[1].
ثالثاً: الزيارات المخصوصة
نستطيع أن نقول ممّا سبق، أنَّ الشريعة رخّصت في زيارة القبور، بل جعلت ذلك سنّة متّبعة، وفي عرض ذلك خصَّصت الشَّريعة بعض القبور دونَ غيرها باستحبابٍ مؤكَّدٍ وندبٍ شديدٍ. وفيما يأتي نماذج من الذين حثّت الروايات على زيارتهم، بل وصرّحت بعض الروايات بزيارة قبورهم، وجعل التوجّه إليها شعيرةً من شعائر الله سبحانه.
1- زيارة قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من زار قبري بعد موتي، (كان) كمن هاجر إليّ في حياتي"[2].
2- زيارة السيدة فاطمة عليها السلام: روي عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: "إذا صرت إلى قبر جدّتك، فقل: يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك به صابرة..."[3].
3- زيارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: تستحبّ زيارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، لقول الصادق عليه السلام: "زيارة أبي - علي عليه السلام - تعدل حجّتين وعمرتين"[4].
4- زيارة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من زارني حيّاً أو ميّتاً، أو زار أباك حيّاً أو ميّتاً، أو زار أخاك حيّاً أو ميّتاً، أو زارك حيّاً أو ميّتاً، كان حقّاً عليَّ أنْ أستنقذه يوم القيامة"[5].
90
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
5- زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام: فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام, فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مواقع السوء، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ (له) بالإمامة من الله"[1].
6- زيارة الإمام الصادق عليه السلام: وقد روي عنه أنَّه قال: "من زارني غُفرت له ذنوبه، ولم يمت فقيراً"[2].
7- زيارة الإمام الرّض عليه السلام: فقد روي عن الإمام الرِّض عليه السلام: "من زارني على بعد داري ومزاري، أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتَّى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصِّراط، والميزان"[3].
وقد روي استحباب زيارة أبي الفضل العباس عليه السلام و "زيارة سلمان الفارسي وله زيارة منقولة، وزيارة أبواب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كعثمان بن سعيد والسمري"[4]، فضلاً عن الشُّهداء في سبيل الله وأعاظم صحابة الرسول عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام كرشيد الهجري، وحجر بن عدي الكندي، وعمار بن ياسر، وغير أولئك كثير. هذا بالإضافة إلى زيارة أبناء الأئمّة عليهم السلام، حيث ورد لبعضهم زيارات مخصوصة، ومنها: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد، عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام أنّه قال: "يا سعد، عندكم لنا قبر؟ قلت له: جعلت فداك، قبر فاطمة بنت موسى عليه السلام، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقّها فله الجنة، فإذا أتيت القبر عند رأسها مستقبلاً القبلة، وكبّر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد الله ثلاثا وثلاثين تحميدة، ثمّ قل (الزِّيارة)"[5].
[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج14، ص413.
[2] الشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان: المقنعة، ص474، مؤسسة النشر الإسلامي (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1410هـ، ط2.
[3] م.ن، المقنعة، ص479.
[4] العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر: تذكرة الفقهاء، ج8، ص456، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث (تحقيق)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414هـ، ط1.
91
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
رابعاً: أنواع الزِّيارة
إنّ زيارة قبور الأولياء عليهم السلام عن قرب من المستحبّات الأكيدة، وقد جاءت الروايات الكثيرة في فضل الزِّيارة عن قرب، وفي الآداب الواجب اتّباعها قبل الدخول إلى المراقد المشرّفة وأثناء ذلك وحين الخروج منها. ولكن، حثّت الروايات على المداومة على زيارة الأولياء عليهم السلام، ولو كان عن بعد، في حال عدم القدرة على السفر أو وجودها، إذ إنّ التواني عن الزِّيارة بقسميها من علامات الجفاء.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "مَن زارَ قَبري بَعدَ مَوتي، كانَ كَمَن هاجَرَ إلَيَّ في حَياتي، فَإِن لَم تَستَطيعوا، فَابعَثوا إلَيَّ بِالسَّلامِ فَإِنَّهُ يَبلُغُني"[1].
وقد قال الكفعمي رحمه الله: "يستحب زيارة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في كلّ مكان وزمان، والدعاء بتعجيل فرجه صلوات الله عليه (...) ويستحبّ زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كلّ جمعة، ولو من البعد"[2].
وروي كذلك عن الباقر عليه السلام قال: "من زار الحسين بن عليّ عليه السلام في يوم عاشوراء من المحرّم، يظلّ عنده باكياً، لقى الله عزّ وجلّ يوم يلقاه بثواب ألفي حجّة وألفي عُمرة وألفي غزوة كثواب من حجّ واعتمر وغزا مع رسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع الأئمّة الرّاشدين، قال: قلت:جعلت فداك، فما لمن كان في بعيد البلاد وأقاصيها، ولم يمكنه المسير إليه في ذلك اليوم؟ قال: إذا كان كذلك، برز إلى الصّحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره، وأومأ إليه بالسّلام، واجتهد في الدُّعاء على قاتليه، وصلّى من بعد ركعتين، وليكن ذلك في صدر النّهار قبل أن تزُول الشّمس، ثمّ ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر من في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه، ويقم في داره المُصيبة بإظهار الجزع عليه، وليعزِّ فيها بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام"[3].
92
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
خامساً: فوائد الزِّيارة
إنّ كلّ الأهداف المتعلّقة بالزيارة هي مستفادة بشكل مباشر من السنّة النبوية المطهّرة، ومن ذلك يمكن أن نجمل هذه الأهداف بما يأتي:
1- الخشوع وتذكّر الموت والآخرة: لا شكّ في أن الوقوف بين القبور بتأمّل، أو عند قبر خاصّ، له أكبر الأثر في القلوب. فقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذر، أوصيك فاحفظ، لعلّ الله ينفعك به: جاور القبور تذكر بها الآخرة، وزرها أحياناً بالنّهار، ولا تزرها بالليل"[1].
2- الدُّعاء للميت: وهو سلوك أخلاقي رفيع، يحفظ كرامة المسلم في مجتمعه حتى بعد موته، ويربّي في المسلمين روح الإخاء والحبّ والمودّة وأداء حقوق الآخرين، التي لا تنقطع برحيلهم من الدنيا، لهو واحد من الجوانب التربوية والاجتماعية الراقية التي تميّز بها نظام الأخلاق في الإسلام. ينقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّه إذا دخل المقبرة قال: "السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات... اللّهمّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنّا وعنهم..."[2].
3- أداء حقوق الموتى: وهذا ما نلحظه بوضوح في فحوى الخطاب في الحديث النبوي الشريف: "ألا فزوروا إخوانكم، وسلّموا عليهم"[3]، ففيه إشارة في غاية الوضوح إلى أنّ لإخواننا الموتى حقوقاً علينا، ينبغي علينا أداؤها بزيارتهم والتسليم عليهم. وهذا ما أكّده حديث أهل البيت عليهم السلام في هذا الشأن: فعن الإمام الرض عليه السلام قوله: "إنّ لكلِّ إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء، زيارة قبورهم"[4].
93
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
4- اكتساب الأجر ورضا أهل البيت عليهم السلام: فعن داود الصرمي قال: "قلت له (يعني أبا الحسن العسكري عليه السلام): إنّي زرت أباك، وجعلت ذلك لكم، فقال "لك من الله أجر وثواب عظيم، ومنّا المحمدة"[1].
5- الحفاظ على الأضرحة وعمارتها: وهو من الأمور المهمّة في أداء واجب المحبّة والولاية لله تعالى وللرسول وأهل بيته عليهم السلام والمؤمنين، ومن ذلك ما رواه عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز، قال: أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمدLفقلت له: يا ابن رسول الله، ما لمن زار قبر أمير المؤمنين وعمَّر تربته؟ قال: "يا أبا عامر، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه الحسين بن علي عليهما السلام: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: والله، لتقتلنّ بأرض العراق وتدفن بها، فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إنّ الله جعل قبرك وقبر وُلدِك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وانّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله، مودّةً منهم لرسوله، أولئك ـ يا علي ـ المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة"[2].
6- غفران الذّنوب: فعن الإمام الرض عليه السلام: "ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عنده "إنّا أنزلناه في ليلة القدر" سبع مرات إلا غفر الله له ولصاحب القبر"[3]. وروي كذلك عن الإمام الباقر عليه السلام: "من زار قبر أخيه المؤمن فجلس عند قبره واستقبل القبلة، ووضع يده على القبر، فقرأ "إنا أنزلناه في ليلة القدر" سبع مرات أمن من الفزع الأكبر"[4].
94
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
7- نيل الشَّفاعة: يوم القيامة، إذ روي عن الباقر عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من زارني حيّاً وميّتاً، كنت له شفيعاً يوم القيامة"[1].
8- تخفيف العذاب عن الموتى: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من دخل المقابر وقرأ سورة "يس" خفّف الله عنهم يومئذٍ العذاب، ورفعه"[2].
9- إسعاد الموتى: روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سُئِل: "يا رسول الله، إنّا نتصدّق عن موتانا، ونحجّ عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ فقال: "نعم، لَيَصِل ذلك إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه"[3].
[1] الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي: ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص83، السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان (تقديم)، قم، منشورات الشريف الرضي، 1368هـ.ش، ط2.
[2] الشاهرودي، الشيخ علي النمازي: مستدرك سفينة البحار، ج9، ص465، الشيخ حسن بن علي النمازي (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1418هـ، ط1.
[3] نقله: الأميني، عبد الحسين أحمد النجفي: الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج5، ص177، بيروت، دار الكتاب العربي، 1977م، ط4.
115
95
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
مفاهيم رئيسة
1- الزِّيارة هي عبارةٌ عن قيام شخصٍ بالتوجُّه نحو المَزور الميِّت، إمّا بقطع المسافة إلى قبره فتسمّى "بالزّيارة عن قرب"، وإمَّا بالتّوجُّه إلى شخص المزور من دون قطع المسافة وتسمّى "بالزيارة عن بعد".
2- هناك أدلّة عديدة على مشروعيّة الزِّيارة، ومنها الأدلّة من القرآن الكريم:
- قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾.
- قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾.
3- الأدلّة على المشروعيّة من السنّة:
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا ما يسخط الرب".
- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "زوروا موتاكم، فإنَّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلبْ أحدُكم حاجتَه عند قبر أبيه وعند قبر أمِّه بما يدعو لهما".
4- هناك زيارات مخصوصة أكّد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام على أهمّية زيارتها، ومنها: زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، زيارة السيدة فاطمة عليها السلام، زيارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، زيارة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، زيارة الإمام الحسين عليه السلام.
5- الزِّيارة قد تكون عن قرب لمن يستطيع، وعن بعد لمن بعدت عليه، أو أراد الزِّيارة طلباً للاستحباب.
6- للزيارة فوائد عدة، منها: الخشوع وتذكّر الموت والآخرة، الدُّعاء للميت، أداء حقوق الموتى، اكتساب الأجر ورضا أهل البيت عليهم السلام، غفران الذّنوب، نيل الشَّفاعة، تخفيف العذاب على الموتى، إسعاد الموتى.
116
96
الدّرس السابع: الزِّيارة من شعائر الله
للمطالعة
الدعاء ليس خصم الوسائل الماديّة
"إذا كان للدعاء هذا الدور الشبيه بالمعجزة، فعلامَ هذه الوسائل الدنيويّة وهذه التقنيّات والعلم والصناعة وغيرها؟ والجواب: إنّ الدعاء لا يعارض الوسائل الماديّة, فإذا أراد الإنسان أن يسافر، فليس مخيّراً بين أن يركب السيّارة والقطار والطائرة، وبين أن يذهب بالدعاء! الدعاء يعني أن تطلب من الله أن يهيّئ لك هذه الوسائل. عندها، ستأخذ كلّ واحدة من العلل الماديّة مكانها، هكذا يُستجاب الدعاء. عندما تدعون لكي تقضى إحدى حاجاتكم ويستجيب الله لكم، يكون الله تعالى قد يسّر الوسائل الماديّة والعاديّة لهذه الحاجة.
جميع الوسائل في العالم من هذا القبيل. وعليه، فالدعاء لا يستوجب تكاسل أحد. ولا يعني أن يغسل الإنسان يديه من العلم والأسباب الماديّة والمعلول الطبيعي. كلا، ليس الدعاء في مقابل هذه الأمور, ولكنّه في سلسلتها.
طبعاً، غالباً ما يكون الأمر كذلك، ولكن في بعض الأحيان، يُظهر الله المعجزة، وهذا موضوع آخر. فالمعجزة تحدث في الظروف الاستثنائيّة, وفي غير هذه الظروف، يتيسّر بالدعاء المجرى الطبيعي للأمور. عندما تطلبون من الله أن يُحدث شيئاً ما تحتاجونه، عليكم أن تستغلّوا قدراتكم أيضاً إلى جانب الدعاء. فإذا شعرتم بالكسل مثلاً، ودعوتم الله تعالى أن يكشف عنكم هذا الشعور، عليكم أن تتحلّوا بالإرادة والهمّة إلى جانب الدعاء. إذاً، فهنا توجد أيضاً وسيلة ماديّة ووسيلة طبيعيّة أخرى، وهي شدّ الهمّة. لا يتصوّرنّ أحد، أنّ الله سيقضي حاجتنا إذا جلسنا في المنزل، ولم نسعَ أو نُقدم على شيء، ولم نتحلّ بالإرادة حتّى، بل اشتغلنا بالدعاء فقط. كلا، لا يمكن أن يحصل شيءٌ كهذا! فالدعاء إذاً يُرافق العمل، وهو معه. أحياناً، لا يُوصل الكثير من السعي إلى نتيجة، ولكن حين تدعون، ستصلون إلى نتيجة"[1].
97
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى فضل زيارة أهل البيت عليهم السلام عن قرب.
2- يتعرّف إلى أهمّ الزّيارات وبيان ثوابها: (زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الإمام علي عليه السلام، الإمام الحسين عليه السلام...).
3- يعدِّد أحكام الزيارة وآدابها.
119
98
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
أوّلاً: أهمّية زيارة آل البيت عليهم السلام
لقد تعرّفنا على مشروعيّة زيارة القبور، وخصوصاً أفضلها, أي زيارة المشاهد المشرّفة للأنبياء العظام عليهم السلام والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطاهرين عليهم السلام. وبقي أن نشير إلى أهمّية هذه الزيارات من جهات عدّة ومنها أنّها:
1- تمثِّلُ العلاقة الرُّوحية مع المعصوم: فالزيارة تمثّل تجسيداً عملياً وروحياً للرابطة بين الإنسان المؤمن والمعصومين عليهم السلام، حيث يعتقد الزائر أنَّه يرد على بيت الإمام الذي هو من بيوت الله التي ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾[1], وأنّه يتحدّث في هذه الزِّيارة مع الإمام الذي يسمع كلامه ويفهمه ويردّ جوابه. ونجد في الاستئذان للدخول إلى مشاهدهم ما يعبّر عن هذه الحقيقة: "اللّهمّ، إنّي وقفت على باب من أبواب بيوت نبيّك صلواتك عليه وآله... اللّهمّ، إنّي أعتقدُ حرمةَ صاحب هذا المشهد الشريف في غيبته، كما أعتقدها في حضرته، وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك عليه السلام أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي، وأنّك حجبت عن سمعي كلامهم، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم"[2].
99
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
2- تتضمّن أبعاداً عقائدية وتوحيدية: فالزيارات المنقولة تشتمل على مضامين مشتركة لها أبعاد عقائدية توحيدية إسلاميّة وروحية، مثل التكبير مئة مرة، والشهادتين، وكذلك السلام على الأئمّة الأطهار عليهم السلام وعدّهم واحداً بعد آخر، وغير ذلك من مراسيم الشكر للّه تعالى على التوفيق والحمد والتقديس. وهي تمثّل دروساً عقائديّة وأخلاقيّة وروحيّة مباشرة. وعلى سبيل المثال، ما رواه يونس الكناسي عن الإمام الصَّادق عليه السلام في زيارة الإمام الحسين عليه السلام: "إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام فأتِ الفرات، واغتسل بحيال قبره وتوجّه إليه وعليك السكينة والوقار حتّى تدخل إلى القبر من الجانب الشرقي، وقل حين تدخله: "السلام على ملائكة الله المنزلين، السلام على ملائكة الله المردفين، السلام على ملائكة الله المسومين، السلام على ملائكة الله الذين هم في هذا الحرم مقيمون" فإذا استقبلت قبر الحسين عليه السلام، فقل: "السلام على رسول الله، السلام على أمين الله على رسله وعزائم أمره والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته" ثمّ تقول: "اللهمّ، صلّ على أمير المؤمنين، عبدك وأخي رسولك الذي انتجبته بعلمك وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل على من بعثته برسالاتك، وديّان الدين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته... اللهمّ، صلّ على الحسن بن علي عبدك وابن الذي انتجبته بعلمك، وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل على من بعثته برسالاتك، وديّان الدين بعدلك وفصل قضائك بين خلقك والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته". ثمّ تصلّي على الحسين وسائر الأئمّة عليهم السلام كما صلّيت وسلّمت على الحسن عليه السلام ثمّ تأتي قبر الحسين عليه السلام فتقول: "السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين، صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّك قد بلّغت عن
121
100
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
الله عزّ وجلّ ما أمرت به، ولم تخشَ أحداً غيره، وجاهدت في سبيله، وعبدته صادقاً حتى أتاك اليقين..."[1].
3- إحياء لذكرهم: وهو من الأمور الثابتة في اعتقادنا, لأنّ في إحياء ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام إحياء لشعائر الدين وعقائده، وبه تسمو الروح لارتباطه بتلك القمم الشامخة في عالم السير والسلوك، فهم القدوة والأسوة، حيث يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[2]. وعن الباقر عليه السلام: "أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا"[3].
ثانياً: فضل زيارة أهل البيت عليهم السلام
إنَّ الزِّيارة لأهل البيت عليهم السلام نوعان: زيارة عن قرب، وزيارة عن بعد. والنوع الأول - أي عن قرب - له الفضلُ الأكبر، لأنّ في الزِّيارة عن قرب دلالة أكبر على تعلّق المؤمن وشوقه وإرادته وبذله الجهد والمال وقطع المسافات لزيارة المعصوم عن قرب. وفيما يلي نورد أهمّ الميزات والفضائل الخاصة بالزِّيارة عن قرب، (والتي يظهر أنَّه تصح للزائر عن بعد أيضاً في بعض الحالات):
1- فضل زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
عن زيد الشحام قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما لمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: كمن زار الله عزّ وجلّ فوق عرشه، قال: قلت فما لمن زار أحداً منكم؟ قال: كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[4].
101
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
2- فضل زيارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من زار علياً بعد وفاته، فله الجنة"[1]. وعنه عليه السلام أيضاً: "إنّ أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزّائر لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فلا تكن عن الخير نوّاما"[2].
3- فضل زيارة الإمام الحسن بن علي عليه السلام:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه أنّهم قالوا: "بينا الحسن ذات يوم في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه، فقال: يا أبت، ما لمن زارك بعد موتك؟ قال: يا بنيّ، من أتاني زائراً بعد موتي، فله الجنة، (...) ومن أتاك زائرا بعد موتك، فله الجنة"[3].
4- فضل زيارة الإمام الحسين بن علي عليه السلام:
عن الإمام الباقر عليه السلام: أنَّه قال: "مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام, فإنّ إتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين عليه السلام بالإمامة من الله"[4].
وعن بشير الدهان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "ربما فاتني الحجّ، فأعرف عند قبر الحسين عليه السلام؟ فقال: أحسنت يا بشير، أيّما مؤمن أتى قبر الحسين عليه السلام عارفاً بحقّه في غير يوم عيد، كتب الله له عشرين حجّة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، وعشرين حجّة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مئة حجّة ومئة عمرة ومئة غزوة مع نبيّ مرسل أو إمام عدل"[5].
102
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
5- فضل زيارة أئمة البقيع عليهم السلام:
روى الشيخ المفيد في (المقنعة) روايات عدّة في زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام: فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من زار إماماً من الأئمّة، وصلّى عنده أربع ركعات، كتبت له حجّة وعمرة"[1].
وقيل للصادق عليه السلام: "ما حكم من زار أحدكم؟ قال: يكون كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[2]، وقد حمل الشيخ المفيد رحمه الله هذين الحديثين على كونهما في خصوص أئمّة البقيع عليهم السلام.
6- فضل زيارة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام:
عن الحسين بن محمد القمي، قال: "قال الرض عليه السلام من زار قبر أبي ببغداد، كمن زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبر أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنّ لرسول الله ولأمير المؤمنين صلوات الله عليهما فضلهما"[3].
7- فضل زيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام:
روي عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: "من زار قبر أبي بطوس، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال: فحججت بعد الزِّيارة فلقيت أيّوب بن نوح، فقال لي: قال أبو جعفر الثاني عليه السلام: من زار قبر أبي بطوس غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وبنى الله له منبراً في حذاء منبر محمد وعلي عليه السلام حتى يفرغ الله من حساب الخلائق. فرأيته وقد زار، فقال: جئت أطلب المنبر"[4].
103
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
وعن الإمام الرض عليه السلام قال: "من زارني على بعد داري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن، حتى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يمينا وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان"[1].
8- فضل زيارة الأئمة عليهم السلام أجمعين:
روى أبو علي الأشعري، عن عبد الله بن موسى، عن الحسن بن علي الوشاء قال: سمعت الرض عليه السلام يقول: "إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبور هم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة"[2].
9- فضل زيارة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام:
تستحبّ زيارة قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر عليه السلام بقم، فقد سئل الرض عليه السلام عن زيارتها، فقال: "من زارها، فله الجنّة"[3].
ثالثاً: من أحكام الزِّيارة
في الأحكام العامّة للزيارات، وهي ثمانية[4]:
1- يتأكَّد استحباب زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام. فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثمّ يأتونا، فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم"[5]. وعنه عليه السلام أيضاً: "تمام الحجّ لقاء الإمام"[6].
[1] الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه: الأمالي، ص183، قسم الدراسات الاسلامية في مؤسسة البعثة، قم، مؤسسة البعثة، 1417هـ، ط1.
[2] الشيخ المفيد، المقنعة، ص474.
[3] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج14، ص576.
[4] تمام هذه الروايات قد استفيدت من كتاب: هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة عليهم السلام، ج5، ص453 -457.
[5] الحرّ العاملي، هداية الأمة إلى أحكام الأئمّة عليهم السلام، ج5، ص453.
104
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
2- تستحبّ عمارة مشاهد الأئمّة عليهم السلام، وكثرة زيارتها: فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله تعالى، ومودّة منهم لرسوله، أولئك يا - عليّ - المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة. يا عليّ، من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنَّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم، عدل ذلك له ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام"[1].
3- يستحبّ زيارة كلّ واحد منهم عليه السلام بالزيارة المأثورة الخاصّة أو الجامعة (وسوف يأتي ذكر بعضها).
4- لا يجوز السجود للمعصوم ولا على قبره: فقد روي عن صاحب الزمان عليه السلام: "أمّا سجود على القبر فلا يجوز في فريضة ولا نافلة ولا زيارة، ولكن يضع خدّه الأيمن على القبر"[2].
5- يستحبّ التبرّك بمشاهدهم عليه السلام.
6- لا ينبغي السفر إلى زيارة شيء من القبور غير قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام. فعن الإمام الرض عليه السلام: "لا تشدّ الرحال إلى شيء من القبور إلَّا إلى قبورنا"[3].
يستحبّ زيارتهم عليه السلام من بعد عند تعذّرها من قرب: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا تعذّرت لأحدكم، ونأت به الدار. فليصعد أعلى منزله وليصلِّ ركعتين، وليؤمّ بالسلام إلى قبورنا، فإنّ ذلك يصل إلينا"[4].
105
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
7- يكره ترك زيارتهم: فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام حتّى يموت، كان منتقص الإيمان منتقص الدين، إنّ أُدخل الجنّة كان دون المؤمنين فيها"[1].
8- يستحبّ زيارة النساء للأئمّة عليهم السلام: ولو من سفر بعيد لما مرّ من العموم، وللروايات الخاصة، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال لامرأة أرادت زيارة قبور الشهداء: "ما أعجبكم يا أهل العراق تأتون الشهداء من سفر بعيد وتتركون سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عليه السلام، قالت: إنّي امرأة، قال: لا بأس بمن كان مثلك أن تذهب إليه وتزوره، قالت: أيّ شيء لنا في زيارته؟ قال: كعدل حجّة وعمرة، واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامها، وخير منهما"[2].
رابعاً: آداب الزِّيارة
لقد وردت عن آل البيت عليهم السلام جملة من الآداب التي يُستحسن للزَّائر أن يتحلَّى بها، إذ إنَّ التَّحلِّي بها يعكِسُ إرادةً جدّيةً عند الزائر في إظهار ارتباطه الحقيقي بالمزور وعلاقته المعنوية به، ومن هذه الآداب:
1- الصَّلاة عنده: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من زار إماماً من الأئمّة، وصلّى عنده أربع ركعات كتبت له حجّة وعمرة"[3].
2- اختيار الأوقات الشَّريفة: حيث جاء في الروايات تحديد أوقات عديدة لزيارة الأئمّة عليهم السلام، إذ ورد استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام على سبيل المثال ليلة عرفة ويوم عرفة ويوم العيد (الأضحى)، وأوّل رجب ونصفه، وفي نصف
106
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
شعبان، ليلة القدر، وفي شهر رمضان خصوصاً أوّل ليلة وآخر ليلة وليلة النصف، وفي ليلة الفطر والأضحى ويوم عاشوراء وليلته، وغير ذلك من الأوقات الشَّريفة التي أكّدت عليها الروايات، وفي خصوص زيارة الإمام الحسين ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "زوروه في كلّ وقت، وفي كلّ حين"[1].
3- زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام بعد إتمام الحجّ: فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "أتمّوا بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجّكم، فإنّ تركه بعد الحجّ جفاء. وبذلك أمرتم بالقبور التي ألزمكم الله عزَّ وجلَّ حقّها وزيارتها"[2].
4- استحباب المشي في زيارته ذاهباً وعائداً، إذ روي عن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "من زار جدّي عارفاً بحقّه، كتب الله له بكلّ خطوة حجّة مقبولة وعمرة مبرورة. واللَّه، ما تطعم النار قدماً تغيّرت في زيارة قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ماشياً كان، أو راكباً"[3].
5- استحباب وضع الطيب ولبس ثوبين طاهرين: فعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إذا أردت ذلك، فاغتسل والبس ثوبيك طاهرين غسيلين أو جديدين، ونل شيئاً من الطيب، فإن لم تنل، أجزأك"[4].
6- الاغتسال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أتيت مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فاغتسل غسل الزِّيارة"[5].
107
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
7- المشي بالسكينة والوقار: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "والبس أنظف ثيابك، وشمّ شيئا من الطيب، وامشِ وعليك السكينة والوقار"[1]. وروي أيضاً: "أنَّه يتحفّى، ويقصّر خطاه، ويلقي ذقنه إلى الأرض"[2].
8- زيارته بهيئة حزينة: فقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا أردت زيارة الحسين عليه السلام فزره وأنت حزين مكروب، شعث مغبر، جائع عطشان، وسله الحوائج وانصرف عنه ولا تتّخذه وطنا"[3].
9- استحباب الانفاق في السفر إليه والإقامة عنده: فقد قيل للصادق عليه السلام: "هل يزار والدك؟ قال: نعم، ويصلَّى عنده، وقال: يصلَّى خلفه ولا يتقدّم عليه، قيل: فما لمن أقام عنده؟ قال: كلّ يوم بألف شهر، قيل: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده؟ قال: كلّ درهم بألف درهم، قيل: فما لمن تجهّز إليه ولم يخرج لعلَّة تصيبه؟ قال: يعطيه الله بكلّ درهم ينفقه مثل أحد من الحسنات، ويخلف عليه أضعاف ما أنفق"[4].
10- الاستئذان للدخول في الروضات الشَّريفة: حيث يستحب أن يستئذن في الدخول إلى الروضات الشَّريفة، ومما روي من الاستئذان: "اللّهُمَّ إِنِّي وَقَفْتُ عَلى بابٍ مِنْ أَبْوابِ بُيُوتِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَقَدْ مَنَعْتَ النَّاسَ أَنْ يَدْخُلُوا إِلاّ بِإِذْنِهِ، فَقُلْتَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾، اللّهُمَّ، إِنِّي أَعْتَقِدُ حُرْمَةَ صاحِبِ هذا المَشْهَدِ الشَّرِيفِ فِي غَيْبَتِهِ كَما أَعْتَقِدُها فِي حَضْرَتِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفائَكَ عليه السلام أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ، يَرَوْنَ مَقامِي وَيَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَرُدُّونَ سَلامِي، وَأَنَّكَ حَجَبْتَ عَنْ سَمْعِي كَلامَهُمْ
108
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
وَفَتَحْتَ بابَ فَهْمِي بِلَذِيذِ مُناجاتِهِمْ، وَإِنِّي أَسْتأْذِنُكَ يا رَبِّ أَوَّلاً، وَأَسْتَأْذِنُ رَسُولِكَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ ثانِياً، وَأَسْتَأْذِنُ خَلِيفَتَكَ الإمام المُفْرُوضَ عَلَيَّ طاعَتُهُ "فُلانَ بْنِ فُلانٍ". واذكر اسم الإمام الذي تزوره واسم أبيه[1].
11- استحباب قراءة القرآن عنده: فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ثمّ صلّ أربع ركعات صلاة الزِّيارة بسلامين، واقرأ فيها ما شئت من السور، فإذا فرغت فسبح تسبيّح الزهراء عليها السلام"[2].
109
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
مفاهيم رئيسة
1- تمثِّل زيارة المعصومين عليهم السلام التجسيد العملي والروحي للرابطة بين الإنسان المؤمن والمعصومين عليهم السلام, لأنّ الزائر يعتقد أنّه حينما يزور أنَّه يرد على بيت الإمام وروحه ووجوده.
2- تتضمَّن الزِّيارة أبعاداً عقائديّة وتوحيديّة، من حيث إنّها من شعائر الله تعالى ومظهر للارتباط به من خلال إظهار التعلّق بحبل الولاية.
3- تشكّل زيارة المعصومين عليهم السلام فرصةً لإحياء لذكرهم، كأحد أنواع الإحياء التي أمر بها أهل البيت عليهم السلام.
4- لقد ذكرت الروايات الشريفة عن آل البيت عليهم السلام فضل زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام علي عليه السلام، والإمام الحسن عليه السلام، والإمام الحسين عليه السلام، وسائر الأئمّة من ولد الإمام الحسين عليه السلام.
5- هناك طيف واسعٌ من الأحكام المتعلّقة بزيارة المراقد الشريفة، ومنها:
- يتأكَّد استحباب زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام.
- يستحبّ زيارة كلّ واحد منهم عليهم السلام بالزيارة المأثورة الخاصّة.
- يستحبّ زيارتهم عليهم السلام من بعد عند تعذّرها من قرب.
6- من آداب زيارة المعصوم عليه السلام: الصَّلاة عنده، واختيار الأوقات الشَّريفة، ومن الأدب زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام بعد إتمام الحجّ، والمشي في زيارته ذاهباً وعائدا، والغسل، ووضع الطيب، ولبس ثوبين طاهرين، والمشي بالسكينة والوقار، وزيارته بهيئة حزينة، والانفاق في السفر إليه، والإقامة عنده، والاستئذان للدخول في الروضات الشَّريفة، وقراءة القرآن عنده.
131
110
الدرس الثامن: فضل الزِّيارة وآدابها
للمطالعة
اطلبوا الحاجات الأكبر من الله
هناك أمرٌ مهم في الدعاء، وهو أنّه بالنسبة لقضاء الحاجات، ليس هناك حاجة كبيرة، بحيث نقول: هذه حاجة لا يمكن طلبها من الله, لأنّها كبيرة جداً. كلا، إذا لم تكن الحاجة على خلاف الطبيعة وسنّة الخلق، ولم تكن مستحيلة، فلا مشكلة, اطلبوها من الله مهما كبرت. إنّكم تقولون في كلّ يوم من شهر رمضان بعد الصلاة، على ما هو مأثور: "اَللّـهُمَّ اَدْخِلْ عَلى أَهْلِ الْقُبُورِ السُّرُورَ، اَللّـهُمَّ أَغْنِ كُلَّ فَقير"[1]، فأنتم تطلبون من الله أن يغني كل فقير, أي كلّ فقراء الإسلام، وما المانع من أن نطلب؟! إذا رفعت الموانع عن طريق اغتناء الفقراء فما الذي يمنع تحقّق هذا الأمر؟! فالفقر ليس بأمرٍ ذاتيٍّ للمجتمع!
كذلك تقولون في هذا الدعاء: "اَللّـهُمَّ اَشْبِعْ كُلَّ جائِع، اَللّـهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيان"[2]، يستطيع الإنسان أن يطلب حاجة عظيمة كهذه من الله! في دعاء سحر يوم الجمعة، وهو دعاء مستحبّ، قصير، ولكن ممتاز. إذا وُفّقتم، فمن الضروري أن تقرؤوا هذا الدعاء. في الدعاء، تطلب بعض الحاجات من الله, ثم تأتي هذه العبارة: "طُمُوحُ الآمالِ قَدْ خابَتْ إِلاّ لَدَيْكَ وَمَعاكِفُ الهِمَمِ قَدْ تَعَطَّلَتْ إِلاّ عَلَيْكَ"[3]. إلهي قافلة حوائجنا لن تتحرّك، إلّا إذا دخَلَت في كنف بيتك. فالله لا يخاف من حاجة الإنسان الكبيرة! فلتطلبوا من الله حوائجكم مهما كبرت. وليحذر الإنسان أن يقول في يوم من الأيّام: "حسناً, لو أنّي أردت هذا الشيء لنفسي فقط لكان ممكناً، أمّا أن أطلب العافية لجميع النّاس، فهذا كبيرٌ جداً. فكيف أطلب هذا من الله؟!" اطلبوا, اطلبوا هذا للبشر, اطلبوا هذا الشيء لكلّ إنسان, هناك بعض الأشياء التي يجب أن تطلبوها للمسلمين. فالعبارة: "اللّهُمَّ أَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ"[4]، تختصّ بالمسلمين"[5].
111
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الآثار الدّنيوية والأخروية للزيارة.
2- يتعرّف إلى أهمّ نماذج الزِّيارة عن قرب لأهل البيت عليهم السلام.
3- يفهم أدلة مشروعية الزِّيارة عن بعد لأهل البيت عليهم السلام.
133
112
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
أولاً: الآثار الدنيوية والأخروية لزيارة آل البيت عليهم السلام
1- من الآثار الدّنيوية:
ورد في الأخبار العديد من الآثار الدنيوية للزيارة، منها:
أ- عدم الابتلاء عند الموت: روي عن العسكري عليه السلام أنَّه قال: "من زار جعفراً وأباه لم يشتكِ عينه، ولم يصبه سقمٌ، ولم يمُتْ مبتلى"[1].
ب- لطلب الرّزق: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "أموا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرجتم إلى بيت الله الحرام، فإنَّ تركه جفاءٌ وبذلك أمرتم، وألمّوا بالقبور التي ألزمكم الله حقّها وزيارتها، واطلبوا الرزق عندها"[2].
ج - الأمن من الفقر والفاقة: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من زارني، غُفرت ذنوبه ولم يمت فقيراً"[3].
113
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
2- من الآثار الأخروية:
أ- عناية الملائكة به: عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين عليه السلام، شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودّعه مودع إلّا شيّعوه، ولا يمرض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلّوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته"[1].
ب- المغفرة: فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا كان النصف من شعبان نادى منادٍ من الأفق الأعلى: ألا زائري قبر الحسين، ارجعوا مغفوراً لكم، وثوابكم على ربّكم ومحمد نبّيكم"[2].
ج- الثواب الجزيل: عن صالح النيلي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "من أتى قبر الحسين عليه السلام عارفاً بحقّه، كتب الله له أجر من أعتق ألف نسمة، وكمن حمل على ألف فرس مسرجة ملجمة في سبيل الله"[3].
د- أفضل من الحجّ والعمرة المندوبين: عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "زيارة قبر الحسين عليه السلام تعدل عشرين حجّة، وأفضل من عشرين عمرة وحجّة"[4].
هـ- الشَّفاعة يوم القيامة: عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من زارني حيّاً أو ميّتاً، كنت له شفيعاً يوم القيامة"[5].
114
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
و- الأجر الجزيل: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من زار قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عارفاً بحقّه، غير متجبّر ولا متكبّر، كتب الله له أجر مئة ألف شهيد، وغفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"[1].
ثانياً: زيارات الأئمة عليهم السلام من قرب[2]
لقد ورد العديد من الروايات التي ذَكَرت نصوص وآداب زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام عن قرب، منها:
1- زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "قف عند قبره عليه السلام، واجعل وجهك تلقاء وجهه - والقبلة بين كتفيك - وقل: السلام عليك يا رسول الله،لسلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا أمين الله، أشهد أنّك قد نصحت لأمّتك، وجاهدت في سبيل ربّك، وعبدته مخلصاً حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيّاً عن أمّته. اللهمّ، صلِّ على محمد وآل محمد أفضل ما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّك حميد مجيد!"[3].
2- زيارة السيدة الزهراء عليها السلام: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أردت زيارتها، فتوجّه إلى القبلة في الروضة، وقل: السلام عليك يا رسول الله، السلام على ابنتك الصدّيقة الطاهرة، السلام عليكِ يا فاطمة بنت رسول الله، السلام عليكِ أيّتها البتول الشهيدة الطاهرة (...) صلّى الله عليكِ يا بنت رسول الله، وعلى أبيك، وبعلك، وولدك الأئمّة الراشدين، عليكِ و عليه السلام ورحمة الله وبركاته"[4].
115
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
3- زيارة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: فقد روي عن الإمام عليه السلام: "تجعل القبلة بين كتفيك، وتقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا حجّة الله، السلام عليك يا سيّد الوصيين، السلام عليك يا خليفة رسول ربّ العالمين، أشهد أنّك قد بلّغت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حمّلك، وحفظت ما استودعك، وحلّلت حلال الله، وحرّمت حرام الله، وتلوت كتاب الله، وصبرت على الأذى في جنب الله محتسباً، حتّى أتاك اليقين، لعن الله من خالفك، ولعن الله من قتلك، ولعن الله من بلغه ذلك فرضي به، أنا إلى الله منهم براء"[1].
4- زيارة الإمام الحسن عليه السلام: تقول: "السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا بقيّة المؤمنين وابن أوّل المسلمين، أشهد أنّك سبيل الهدى، وحليف التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذّتك يد الرحمة، وتربّيت في حجر الإسلام، ورضعت من ثدي الإيمان، فطبت حيّاً وميّتا، صلّى الله عليك، أشهد أنّك أدّيت صادقاً، ومضيت على يقين (..) أتيتك زائراً، عارفاً بحقّك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، فاشفع لي عند ربك"[2].
5- زيارة الإمام الحسين عليه السلام: فقد جاء في زيارته: "أنَّه إذا أتيت مشهده عليه السلام فاغتسل قبل أن تدخله، والبس أطهر ثيابك، وقف على القبر، واستقبله بوجهك، واجعل القبلة بين كتفيك، وقل: "السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين، السلام عليك يا بن الصدّيقة الطاهرة، سيّدة نساء العالمين، السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته (..) أشهد أنّ الذين خالفوك، وأنّ الذين حاربوك، وأنّ الذين خذلوك، والذين قتلوك ملعونون على لسان النبيّ الأمّي... أتيتك يا مولاي يا ابن رسول الله زائرا،
116
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
عارفاً بحقّك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، مستبصراً بالهدى الذي أنت عليه، عارفاً بضلالة من خالفك، فاشفع لي عند ربك. ثمّ انكبّ على القبر وقبّله، وضع خدّك عليه"[1].
6- زيارة جامعة لكل الأئمة عليهم السلام في زيارتهم من قرب: فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنَّه قال: "يجزيك في الزِّيارة لكل إمام أن تقول: السلام على أولياء الله وأصفيائه، السلام على أمناء الله وأحبّائه، السلام على أنصار الله وخلفائه، السلام على محالّ معرفة الله، السلام على معادن حكمة الله، السلام على مساكن ذكر الله، السلام على عباد الله المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، السلام على مظاهر أمر الله ونهيه، السلام على الأدلّاء على الله، السلام على المستقرّين في مرضات الله، السلام على الممحّصين في طاعة الله، السلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، أشهد الله أنّني حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم، مؤمن بما آمنتم به، كافر بما كفرتم به، محقّق بما حقّقتم، ومبطل ما أبطلتم، مؤمن بسرّكم وعلانيتكم، مفوّض في ذلك كلّه إليكم، والحمد لله رب العالمين، لعن الله عدوّكم من الجنّ والإنس، وضاعف عليهم العذاب الأليم ثمّ تصلّي صلاة الزِّيارة، وتدعو بعدها بما شئت. وقد تمّت زيارتك إن شاء الله"[2].
ثالثاً: مشروعية الزِّيارة من بعد وكيفيتها
إنّ الزِّيارة من بعد من الأمور التي أوصى بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام محبّيهم ممّن لا يستطيع الزِّيارة من قرب، وقد وردت العديد من الروايات عنهم سلام الله عليهم في ذلك، ومنها:
117
الدرس التاسع: الزِّيارة عن قرب وعن بعد
1- السلام من بعد: روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من زارني بعد موتي كان كمن هاجر إليّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليّ بالسلام، فإنّه يبلغني"[1].
وروى يونس بن ظبيان فقال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين عليه السلام, فأيّ شيء أقول؟ قال: قل: "صلّى الله عليك يا أبا عبد الله"، تعيد ذلك ثلاثا, فإنّ التسليم يصل إلينا من قريب ومن بعيد"[2].
2- عند عدم القدرة أو بُعد الدار: فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "إذا بعدت بأحدكم الشقة، ونأت به الدار، فليعلُ أعلى منزله، ويصلّي ركعتين، وليؤمّ بالسلام إلى قبورنا, فإنّ ذلك يصل إلينا"[3].
3- زيارة القائم عليه السلام: إذ إنّ القائم عليه السلام ممّن مدّ الله تعالى في عمره، فلا قبر له لكي يزار فيه، وإنَّما "يستحب زيارته في كلّ مكان وزمان"[4].
4- زيارة الإمام الحسين عليه السلام: في زيارة عاشوراء المشهورة، حيث ورد استحباب قراءتها ولو من بُعد، فقد روي عن علقمة أنَّه قال: "قال أبو جعفر عليه السلام: إن استطعت أن تزوره في كلّ يوم بهذه الزِّيارة من دارك فافعل، ولك ثواب جميع ذلك"[5].
كيفية الزِّيارة من بعد
روي عن الإمام الرض عليه السلام: "من زارني على بعد داري، أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتّى أخلَّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان"[6].