العفة والحياء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

الفهرس

5

المقدمة

7

الفصل الأول: العفة والحياء ودورهما في بناء الشخصية

9

الحياء

11

العفّة

13

منشأ العفة والحياء

14

العلاقة بين العفة والحياء

16

الفرق بين الحياء المذموم والحياء الممدوح

17

الفرق بين الحياء والخجل

20

الفصل الثاني: مكانة العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصية

23

دور الأخلاق في بناء الشخصية

25

أصول وأمّهات الأخلاق

30

مرتكزات بناء الشخصية

32

العلاقة بين الإيمان والحياء

33

العلاقة بين العقل والحياء

35

العلاقة بين العقل والإيمان

36

العفّة ومكانتها في بناء الشخصية

37

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

معاني هذه الفضائل

39

معاني الرذائل

41

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

43

الحياء من الناس

45

الحياء من الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام

47

العلاقة بين الحياء من النفس والحياء من الله تعالى

47

كسر شهوتي البطن والفرج

49

كيفية التحرُّر من أسر شهوة البطن

50

كيفية التحرُّر من شهوة الفرج

56

كيفية تَكسر شهوة الفرج وتروِّضها

57

موارد العفّة

66

الخاتمة

71

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

المقدمة

 المقدّمة


يسود العالمَ اليوم تحلُّلٌ للقيم الأخلاقيّة، وسط هجمة ثقافيّة مستورَدة في محاولة لإسقاط الفرد وهدم شخصيّته، بتبديل قيم سامية بأخرى فاسدة مبتذلة باتّباع وسائل شتّى وأساليب متعدِّدة، تحت شعارات عدّة بعضها مؤطّر بأطر إسلاميّة إلّا أنّها فارغة المضمون والجوهر، بل تستبطن السمّ القاتل للروح والعقل معاً.
وثقافة التعرّي والتحلُّل والتمثُّل بشخصيّات غربيّة من فنّانين وغيرهم، إنّما تُعتبر في الواقع سلاحاً حادّاً يهدف إلى تمزيق لباس العفّة والحياء عن الإنسان المسلم وبالأخصّ الفتاة. فإذا ما تخلّى الفرد عنهما فعل من القبائح ما شاء وباع قسطاً من عقله وإيمانه بثمن بخس.

ولهذا نرى الإسلام العزيز قد ركَّز على مجموعة صفات أخلاقيّة تؤسِّس لبناء المجتمع العفيف من خلال الفرد العفيف، وما صفتا العفّة والحياء إلّا جزءٌ مهمٌّ من تلك الشخصيّة الإسلاميّة المتخلِّقة بالخلُق الحسن، وقد 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 دعا الإسلام إلى التمسُّك بهما ونشرهما، بل قد جعلهما معياراً للعقل والإيمان كما في كثير من الروايات.

وما هذا الكتاب إلّا محاولة متواضعة لتعريف كلٍّ من صفتي العفّة والحياء والتفريق بينهما، وأثر ودور كلٍّ منهما في بناء شخصيّة الفرد ذكراً كان أم أنثى، من خلال مجموعة من الصفات الأخلاقيّة، والّتي أوصلها علماء الأخلاق إلى ما يُقارب 35 صفة أخلاقيّة، وكذا يُشير الكتاب إلى كيفيّة بناء مجتمع عفيف من خلال بناء الفرد العفيف عبر مجموعة من تعاليم أهل البيت عليهم السلام وذكر الآداب الخاصّة بذلك.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الكتاب سفراً قيماً في المكتبة الإسلاميّة، ومؤثّراً في الساحة الثقافيّة ومقبولاً عند ربّ العزّة عزّ وجلّ، إنّه نِعم المولى ونِعم المجيب.

  
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 الحياء

 
يُمثِّل الحياء صفة يرغب بها الناس ويمتدحونها ويذمّون نقيضها، لما تستبطنه من ردع عن المعاصي والقبائح، ولما تؤدّي إلى الورع عن المعاصي، عرّفها بعضٌ بـ: "انقباض النفس عن القبيح وتركه. لذلك يُقال حييّ فهو حي واستحيا فهو مستحي"1. وهذا الحياء خاصٌّ بالإنسان وهو يختلف عن حياء الله تعالى، فقد ورد عن الصادق عليه السلام: "إنّ الله يستحيي من أبناء الثمانين أن يُعذّبهم"2 ، فليس يُراد به هنا انقباض النفس، إذ هو تعالى منزَّه عن الوصف بذلك، وإنّما يُراد به ترك تعذيبهم، وعلى هذا روي: "إنّ الله حييّ" 3 أي: "تارك للقبائح فاعل للمحاسن"4. وهو "التوبة والحشمة، وقد حيى منه حياء واستحيا أو استحى"5.
 
 
 

1- الأصفهاني، الراغب، تحقيق صفوان عدنان داوودي: مفردات ألفاظ القرآن، ط1، دار القلم،دمشق، ودار الشامية، بيروت، 1996، ص 270.
2-الصدوق، ثواب الأعمال، ط2، مطبعة أمير، قمّ، ص 189.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983 م، ج91،ص 296.
4- مفردات ألفاظ القرآن، ص 270.
5- ابن منظور، محمّد بن مكرم: لسان العرب، ط2، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1992، ج3، ص 429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "الحياء شعبة من الإيمان"، وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنّة"1.

وقد يتساءل بعضُ الناس كيف جُعل الحياء وهو غريزة عند الإنسان، شعبةً من الإيمان الّذي هو اكتسابٌ. والجواب: هو أنّ الشخص المستحي ينقطع بواسطة الحياء عن المعاصي، وإن لم تكن له تقيّة (تقوى) داخليّة، فصار كالإيمان الّذي يقطع عن المعاصي ويحول بين المؤمن وبينها، فقد جاء عن ابن الأثير قوله: "وإنّما جُعل الحياء بعض الإيمان لأنّ الإيمان ينقسم إلى إيمان بما أمر الله به، وانتهاء عمّا نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء عن القبائح بالحياء كان بعض الإيمان 2. ومنه الحديث: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"3، والمراد أنّه إذا لم يستحِ الإنسان صنع ما شاء، لأنّه لا يكون له حينها حياءٌ يحجزه عن المعاصي والفواحش.
 
 
 

1- الكليني، محمّد بن يعقوب،أصول الكافي: ط1، دار الأضواء، بيروت، 1992، ج2، ص112.
2- ابن الأثير، مجد الدين الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1367 هـ ش، ط 4، ج1، ص 470 (بتصرّف).
3-الري شهري، محمّدي، ميزان الحكمة: الدار الإسلامية، بيروت، 1985، ج12، ص567.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

6

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 العفّة

 
أمّا لغة: فقد ورد عن ابن منظور أنّها "الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنية يعِفُّ عِفّة وعفا وعفافاً فهو عفيف، وعفّ أي كفّ"1.
أمّا اصطلاحاً: فقد عرّفها النراقي "انقياد القوّة الشهويّة للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتّى تكتسب الحريّة وتتخلّص عن أسر عبوديّة الهوى"2.
وقد عرّفها أيضاً في مكان آخر بأنّها: "عبارة عن ملكة انقياد القوّة الشهويّة للعقل حتّى يكون تصرّفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عمّا يتضمّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه"3.
 
وهي من الصفات الممدوحة لدى الناس، فقد عُرِّفت بأنّها الكفّ عمّا لا يحلّ القيام به من الأفعال القبيحة والشنيعة 4، وهي: "حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفِّف هو المتعاطي لذلك، بضربٍ من الممارسة والقهر، وأصله الاقتصار على
 
 
 

1- لسان العرب، ج9، ص 253.
2- النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات: ط 7، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 2002م، ج1، ص 70.
3- م.ن، ج1، ص 87.
4-الفراهيدي،الخليل: العين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص654.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة والعفّة أي: البقيّة من الشيء"1. وأغلب الأخبار والروايات تُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات لكونهما أشقّهما على النفس، وملازمة النفس لهذه المشتهيات منذ الصغر حتّى صارت جزءاً منه ولهذا يشقّ عليه مجاهدة نفسه، وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"2.

 
منشأ العفّة والحياء
 
إنّ للعفّة والحياء منشأين
 
الأوّل: منشأ فطريّ: وقد حفلت الروايات بذلك، وأشارت إلى أنّهما من الأمور الفطريّة، ومن لوازم الفطرة لدى الإنسان، وهما من جنود العقل أيضاً... فالعفّة والحياء والخجل من لوازم الفطرة البشريّة، كما أنّ التهتُّك والفحش وعدم الحياء على خلاف ذلك 3. وهي تظهر على الإنسان وحركاته بشكل جليٍّ وواضح، إذ بمجرّد تعرُّضه لحادث أو أمر حرج فإنّ العفّة
 
 
 

1- مفردات ألفاظ القرآن، ص 573.
2- انظر: أصول الكافي، ج2، ص 84.
3-انظر: الخميني، روح الله, جنود العقل والجهل، ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 2001، ص274.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

والحياء يظهران عليه تلقائيّاً من دون حاجة إلى التعلُّم والاكتساب.
 
الثاني: منشأ بيولوجيّ: وقد أشارت الدراسات إلى أنّ للحياء منشأًً بيولوجيّاً يحصل إثر "نشاط الغدد التناسليّة على الصفات الجنسيّة للذكر والأنثى، وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين أساسيّة وثانويّة. وتتمثّل الصفات الأساسيّة في شكل ووظيفة الأعضاء التناسليّة، وفي قدرة الشخص على التناسل، أمّا الصفات الثانويّة فتتمثّل في تمييز الرجل بضخامة تكوينه وقوّة عضلاته والجرأة والغلظة، وفي تمييز المرأة بنمو صدرها وتركُّز الدهن في أماكن خاصّة من جسمها وبالاستحياء والرقّة"1.
فالحديث عن وجود وبروز الاستحياء لدى الفتاة أثناء نشاط الغدد التناسليّة وتغيير جسدها، إشارة إلى عامل الإثارة والإغراء الّذي يصدر عن الفتاة أمام الرجال، ولذا كان الاستحياء حاجزاً ومانعاً وحصناً لها من الوقوع في الفساد وحفظ نفسها من ذلك.
 
 
 

1-أبو النيل، محمود السيد، سوقي، انشراح: علم النفس الفارق دراسات عربية وعالمية, دار النهضة، بيروت، 1986م، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 العلاقة بين العفّة والحياء

 
رغم أنّ العفّة تُشكِّل إحدى الفضائل الأخلاقيّة وتُعدّ واحدة من أمّهات الفضائل الأربع (العفّة، الشجاعة، الحكمة، والعدالة) 1، ويُمثِّل الحياء فرعاً من فروع العفّة، فإنّ العلاقة بينهما وثيقة جدّاً تكاد تخفى على بعضهم لدرجة أنّه يظنّ أنّهما بمعنى واحد، لكن يظهر للمتمعِّن أنّ الحياء، وإن كان فرعاً من فروع العفّة، إلّا أنّ له دوراً كبيراً في ثبات العفّة وشدّتها لدى الإنسان، إذ كلّما اشتدّ حياء المرء كلّما زادت عفّته، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "على قدر الحياء تكون العفّة"2، وذلك لأنّ الحياء هو ترك القبيح 3، كما جاء في الروايات، ويصدّ عن الفعل القبيح ، وكلّما اشتدّ وازداد حياء المرء، كلّما ابتعد عن القبيح والمعاصي، فهو كفّ وابتعاد عنها، وهذا هو معنى العفّة. ولا يعني ذلك غياباً لاستعمال إرادة الإنسان، بل للإرادة دور مهمٌّ من أجل الوصول إلى حالة تمتنع بها النفس وتتحصّن من غلبة غريزة الشهوة والوقوع في الملذّات والشهوات غير المشروعة، فقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "سبب العفّة الحياء"4. صحيح 
 
 
 

1- انظر: تفسير الميزان، ج1، ص 371.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص564.
3- م. ن، ص 564.
4- م.ن، ج2، ص 564.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 أنّ حياء الإنسان من فعل القبيح ينبغي أن يكون نابعاً من ذاته، لكن أحياناً قد يحصل الحياء ويكون حياءً من الناس، حتّى إذا ما اختلى بنفسه قام بما يُريده،إلّا أنّ للحياء هنا درجات ومراتب، وكلّ مرتبة تُمهِّد للأخرى.

 
ولهذا فإنّ الحياء من الناس، وترك القبيح استحياءً منهم، وإن لم يكن مندرجاً تحت عنوان الفعل الأخلاقيّ إلّا أنّ الاستمرار به ومداومة القيام به يؤدّي شيئاً فشيئاً إلى الانتقال للمراتب العليا للحياء، ليصل به إلى مرتبة أعلى وهي الحياء من النفس، ثمّ بعدها الحياء من الله تعالى، وهذا هو الإيمان. فقد ورد عن الإمام العسكريّ عليه السلام: "من لم يتقّ وجوه الناس لم يتقّ الله"1. ولهذا اعتبرت العفّة إحدى ثمرات الحياء، ولهذا أشار الإمام عليّ عليه السلام: "أصل المروءة الحياء وثمرته العفّة"2.
 
الفرق بين الحياء المذموم والحياء الممدوح
 
ينقسم الحياء إلى قسمين: ممدوح ومذموم، وكونه صفة أخلاقيّة لا يعني كونه ممدوحاً بالمطلق، فهو كأيّ صفة أخلاقيّة لها حدّا إفراط وتفريط وحدّ وسط، والإنسان بنفسه يُمكنه أن يحوِّله إلى مذموم أو ممدوح، تبعاً لعمله وكيفيّة الاستفادة منه، لذا فما كان من العقل
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج71، ص336.
2-ميزان الحكمة، ج2، ص564.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 والدِّين فهو ممدوح، وما كان من الحمق والجهل فهو مذموم، واليه أشار الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقوله: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل العلم وحياء الحمق الجهل"1.

 
الحياء المذموم: هو الحياء المنبثق من عدم الثقة بالنفس، والخوف من مواجهة الناس على صعيد محادثة أو مقابلة، وإظهار الحقّ وما ينبغي إظهاره، وهذا ما يُسبِّب الجمود والانطواء للشخص ويضعف من شخصيّتة، ويقيّد طاقاتها ويعيق تقدُّمها وتطوّرها، فهذا من قسم الحياء المذموم وهو سلبيّ، وقد نهى الإسلام عنه لأنّه يمنع من التعلُّم والتفقُّه في الدِّين ويمنع الرزق، ويحدّ الشخصيّة، ويُعطِّل قدراتها، ويَحرم المرء من الكثير من الأمور الّتي تواجهه. وبتعبير الرواية هو حرمان، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "قُرن الحياء بالحرمان" 2 لأنّه يحرم الإنسان من الكثير، فهذا الحياء هو المذموم، وكلّ ما من شأنه أن يحرم الإنسان ويُقتّر عليه في عيشه وعلمه ويحدّ من علاقاته الاجتماعيّة وتفكيره فهو مذموم، وجاء أيضاً: "الحياء يمنع الرزق"3.
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج2، ص566.
2- م. ن، ص 565.
3- م. ن، ج2، ص 565.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 الحياء الإيجابي أو الممدوح: هو ذلك الّذي يجعل المرء يستحي من مخالفة الله وارتكاب نواهيه، والتجاوز لحدوده الشرعيّة، فهو حياء ينبثق من الخوف منه تعالى، و يعني الدقّة والحذر الشديدين في أيِّ أمر، فهو حياء إيمانيّ إلهيّ. فكلُّ ما من شأنه أن يدفع بالإنسان إلى التعلُّم والتفقُّه في الدِّين وكسب العيش وإظهار الحقّ وغيرها، فلا داعي للحياء فيه، ولهذا جاء النهي عن الحياء في الدِّين.

وإنّ من أهمِّ ما يُفرّق بين الحياءين، هو أنّ الحياء السلبيّ لا يُمثِّل حصانة قويّة للإنسان،لأنّه حياء معرّض للزوال والذوبان، بينما الحياء الإيجابيّ هو حياء راسخ وعميق، لأنّه ينبثق من أسس إيمانيّة وخوف من مخالفة الله تعالى وعصيانه. ثمّ إنّ هذا الاختلاف بين الحياءين هو ثمرة العفّة والاحتشام، الّذي ينشأ من شجرة الحياء الإيماني وليس الحياء الطبيعيّ، إذ إنّ الحياء الناشئ من الطبع والعادة لا ينتج بالضرورة حبّ الاحتشام والعفّة1
والمراد من الحياء الطبيعيّ هنا هو الّذي لا يكون له منشأ إيمانيّ.
 
 


1- انظر: النوري، سعيد الميرزا, ثقافة الحجاب، ط1، دار المحجة، بيروت، 2001، ص27(بتصرف).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

13

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 الفرق بين الحياء والخجل

 
قد مرّ تعريف الحياء وأنّه قسمان ممدوح ومذموم، أمّا الخجل فإنّه يفترق عن الحياء من حيث موقعه، فقد ذُكِرَ أنّه من الذلّ والدهشة وهو استرخاء، يُقال "رجل خجل وبه خجلة أي حياء، والخجل: التحيُّر والدهشة من الاستحياء وخجل الرجل خجلاً: فعل فعلاً فاستحى منه ودهش وتحيّر"1.
 
فقد يقع الخجل من الإنسان موقع الذلّ والحيرة والدهشة، ويمنعه من اتّخاذ الموقف المناسب إزاءه. وهذا من الصنف المذموم، ويتلاقى مع الحياء المذموم الّذي هو من الحمق والجهل.
 
ويذكر الغزالي 2 الفرق بينهما فيُشير إلى أنّ كلّاً من الحياء والخجل من متفرِّعات العفّة، إلّا أنّ الحياء هو وسط بين الوقاحة والخنوثة ويُستعمل في الانقباض والامتناع عن القبيح، وعمّا يظنّه المستحيي قبيحاً، وقيل هو ألمٌ يعرض للنفس عند الفزع من النقيصة والذمّ والتصغير، وقيل إنّه تقصير يقع فيه الإنسان أمام من هو أفضل منه، وقيل إنّه رقّة الوجه عند إتيان 
 
 
 
 

1- لسان العرب, ج4، ص30.
2- انظر: الغزالي، أبو حامد، ميزان العمل، ط 1، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995، ص 113 (بتصرّف).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 القبائح وتحفّظ النفس عن مذمومة يتوجّه عليها الحقّ فيها. وهذا ما يحصل عادة لدى الصبيان والنساء دون الرجال.

 
وأمّا الخجل فهو فترة من النفس لفرط الحياء، وإنّما يستحيي الإنسان ممّن يكبر ويعظم في نفسه، فأمّا من يستحيي من الناس، فنفسه أخسّ عنده من غيره، ومن لا يستحيي من الله فلعدم معرفته به تعالى. ولذلك قال الإمام عليّ عليه السلام: "استحيوا من الله حقّ الحياء"1
 
وقوله تعالى:﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾2، إشارة إلى أنّه كلّما أحسّ في نفسه أنّ الله يراه فيستحيي لا محالة منه إن كان متديّناً معظِّماً له تعالى، كما قال عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"3، لأنّ الحياء لدى الإنسان يُمثِّل أوّل إمارات العقل، والإيمان آخر مراتب العقل، وكيف ينال المرتبة الأخيرة من لم يُجاوز الأولى؟
إذن، ضعف النفس وعدم ثقتها اتّجاه موقف ما يُسبِّب خجلاً فيمنع الإنسان من القيام به أو الانتهاء عنه وهو
 
 
 

1-ميزان الحكمة، ج 2، ص568.
2- العلق،: 14.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص563.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

الفصل الأوّل: العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

 مذموم، بينما إذا كان صادراً عن رقّة الوجه ومنعها عن إتيان القبائح فهو من الممدوح عقلاً و شرعاً وهو من الإيمان، وأوّل درجاته، وأمارة من أمارات العقل، كما جاء عن الأمير عليه السلام: "أعقل الناس أحياهم"1.

 
 
 

1-ميزان الحكمة، ج2، ص 563.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

16

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 دور الأخلاق في بناء الشخصيّة

 
لا شكّ أنّ الإنسان ذو بعدين ماديّ وروحيّ، وأنّ لكلٍّ منهما طريقة وأسلوباً يعمل الإنسان على تربيته وتنميته، وبهما تتقوّم إنسانيّة الإنسان، كما وتتفاوت نسبةً لطريقة الإشباع، وعمليّة بناء الذات، وتزكية وتهذيب النفس، وبالأخلاق الحسنة يتقوّى إيمان الإنسان، وتقوى إرادته وتزيد حصانته لنفسه، وتزيد مقدرته على كسب القيم والكمالات؛ ولهذا فإنّ تنمية الأخلاق في النفس الإنسانيّة لها أهمّيّة بالغة في بنائها.
 
إذن، تتكوّن شخصيّة الإنسان ممّا يمتلكه من سمات وصفات أخلاقيّة. ولكلِّ إنسان "تميّزه عن غيره، ويُقال فلان ذو شخصيّة قويّة: ذو صفات متميّزة وإرادة وكيان مستقلّ"1. فكيان كلّ إنسان إنّما يتمثّل بما يمتلكه من صفات، ويُعرف كلّ إنسان بصفاته الّتي تُكوِّن شخصيّته.
 
أمّا تعريفها من حيث المصطلح، فقد أشار علم النفس
 
 
 
 

1-   معجم الوسيط، تحقيق مجمع اللغة العربية، ج1، ص 475.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

17

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 إلى أنّها: "نمط سلوكيّ مركّب، ثابت ودائم إلى حدٍّ كبير، يُميّز الفرد عن غيره من الناس، ويتكوّن من تنظيم فريد لمجموعة من الوظائف والسمات والأجهزة المتفاعلة معاً، والّتي تضمّ القدرات العقليّة، والوجدان أو الانفعال، والنزوع أو الإرادة، وتركيب الجسم، والوظائف الفيزيولوجيّة والّتي تُحدِّد طريقة الفرد الخاصّة في الاستجابة وأسلوبه الفريد في التوافق"1

 
وهنا يبرز دور الأخلاق من خلال دعوة الإنسان إلى تكوين الملكات الراسخة في النفس، فلكي يتّصف الفعل الإنساني بالفعل الأخلاقيّ لا بُدّ من أن يتوفّر فيه شرطان:
1- أن تكون النيّة لله تعالى.
2- أن يكون صادراً عن إرادة الإنسان.
 
فالملكات منها الطالح ومنها الصالح، ولهذا على الإنسان أن يُفكِّر فيها جيّداً ويُدقِّق بها من أجل اجتثاث الأولى(الرذيلة) والقضاء عليها، وتقوية جذور الثانية(الفضيلة) للاستزادة منها. ويُطلق على هذه العمليّة بالتخلية والتحلية، وكلّ ذلك يكون وفقاً لشاكلته: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾2. فإن كانت شاكلته وملكاته وباطنه
 
 
 

1-عبد الخالق، أحمد محمد, قياس الشخصية، دار المعرفة الجامعية، الاسكنرية، ص 64.
2- الإسراء: 84.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

18

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

  سيّئاً فإنّه لن يخرج إلّا نباتاً خبيثاً نكداً، وإذا كانت ملكاته طاهرة وطيّبة فإنّ نباته يخرج طيّباً وطاهراً كما عبّر تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾1 2 .

ويذكر الإمام الخميني  أنّ الإنسان إنّما تتكوّن شخصيّته من خلال ما يمتلكه من ملكات، خبيثة كانت أو طاهرة وحسنة، فإذا: "كانت خلقة الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانيّة، تكون الصورة الملكوتيّة له صورة إنسانيّة أيضاً، وأمّا إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانيّة فصورته - في عالم ما بعد الموت – تكون غير إنسانيّة أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة"3.
 
فالملكات الأخلاقيّة هي تلك الصفات الّتي يُمارسها ويقوم بها الإنسان، وتكون نابعة من داخله وباطنه بحيث تكاد تكون جزءاً من ذاته، فإذا كانت ملكاته الأخلاقيّة فاضلة وحسنة، فإنّها تؤثِّر على إنسانيّته وتعمل على بنائها داخليّاً وسلوكيّاً، وأمّا إذا كانت رذيلة وسيّئة، فإنّها
 
 
 


1-الأعراف: 58.
2-انظر: الحيدري، كمال: التربية الروحية، دار الكاتب العربي , ط1، بيروت،2002، ص214.
3-الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً, دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1991، ص 310.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

19

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 تؤثِّر على باطنه. وبسبب ما يقترفه ويمتلكه من ملكات رذيلة فإنّه سيكون له شكل يتناسب مع هذه الصفات، وقد تأخذ أشكالاً مركّبة حسب قوى النفس، فقد يكون خلقه على صورة إحدى البهائم، أو السباع أو غير ذلك، "ومن الممكن أحياناً أن تتركّب الصورة الملكوتيّة من ملكتين أو عدّة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أيٍّ من الحيوانات، بل تتشكّل له صورة غريبة، هذه الصورة المرعبة المدهشة والسيّئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالَم"1. يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّ بعض الناس يُحتجزون يوم القيامة على صوَر تكون أسوأ من صور القردة 2.

 
في الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله في منزل أبي أيوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ الآيات فقال: "يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر، ثمّ أرسل عينيه، ثمّ قال: يحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتاً قد ميّزهم الله تعالى من المسلمين وبدّل صورهم بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم
 
 
 

1- الأربعون حديثاً، ص 310.
2- انظر: م. ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

20

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 منكّسون أرجلهم من فوق، ووجوههم من تحت، ثمّ ّيسحبون عليها، وبعضهم عمى يتردّدون، وبعضهم صمّ وبكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون بألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً يتقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف، وبعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأمّا الّذين بصورة القردة فالقتات من الناس (النمّامون)، وأما الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأمّا المنكّسون على رؤوسهم فأكلة الربا، والعمي الجائرون في الحكم، والصمّ البكم المعجبون بأعمالهم، والّذين يمضغون ألسنتهم العلماء والقضاة الّذين خالفت أعمالهم أقوالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الّذين يؤذون الجيران، والمصلّبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، والّذين أشدّ نتناً من الجيف فالّذين يتمتّعون بالشهوات واللّذات، ويمنعون حقّ الله تعالى في أموالهم، والّذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء"1.

 
 

1-الحويزي، عبد علي، تفسير نور الثقلين، ط 1، مؤسّسة التاريخ العربي، 2001 م، ج8، ص 94، نقلاً عن مجمع ا لبيان، ج 10، ص 642.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

21

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 أصول وأمّهات الأخلاق

 
تعدّدت التعريفات حول علم الأخلاق إلّا أنّ الجميع يتّفق على أنّ علم الأخلاق يهدف إلى إيصال الإنسان إلى سعادته وكماله، ونذكر هنا تعريف العلّامة الطباطبائي حيث يقول:"هو الفنُّ الباحث عن الملكات الإنسانيّة المتعلِّقة بقواه النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة، وتميّز الفضائل منها عن الرذائل ليستكمل الإنسان بالتحلّي والاتّصاف بها سعادته العلميّة، فيصدر عنه الأفعال ما يجلب الحمد العامّ والثناء الجميل من المجتمع الإنسانيّ"1.
 
إذن، اتّصاف الإنسان بالملكات الإنسانيّة، يوصله إلى السعادة والكمال، وبها تستقيم إنسانيّته ويرتفع عن حيوانيّته. وبناءً عليه فإنّ في داخل الإنسان ثلاث قوى متصارعة، ولكلٍّ منها أهدافها وكمالها واستعمالاتها، ولكي يصل الإنسان إلى السعادة المطلوبة لا بُدّ من إحراز حدِّ الاعتدال فيها، فلا يخرج عنه إلى أحد حدّي الإفراط أو التفريط. ونتيجة لاعتدال هذه القوى واجتماع هذه الملكات ينتج عنها ملكة وقوّة رابعة تُسمّى بالعدالة، وبها تعتدل القوى الأخرى، ويُعطي لكلٍّ منها حقّها من الاعتدال.
 
 
 
 

1- تفسير الميزان، ج1، ص370.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

22

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

  وفيما يلي رسم يُبيّن قوى النفس وحدّ الوسط والإفراط والتفريط فيها 1:

القوى

التفريط

الاعتدال

الإفراط

العاقلة/ الفكريّة

البله

الحكمة

الجزبزة أو السفه(1)

الشهويّة

الخمود

العفّة

الشره

الغضبيّة

الجبن

الشجاعة

التهوّر

العدالة

الانظلام

العدالة

الظلم

 

 

فيصدر عن القوى أربع فضائل تُسمّى بأمّهات وأصول الأخلاق الفاضلة، ويتفرّع عنها العديد من الفضائل الأخلاقيّة، ويصدر عن كلّ واحدة من هذه الأمّهات رذيلتان فيُصبح المجموع ثمانية أصول للرذائل، ويتفرّع عن كلّ واحدة مجموعة رذائل أخرى 2.
 
"فحدّ الاعتدال في القوّة الشهويّة – وهي استعمالها على ما ينبغي كمّاً وكيفاً – يُسمّى عفّة، والجانبان الخمود والشره، وحدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة هو الشجاعة والجانبان التهوّر والجبن، وحدّ
 
 
 

1-انظر: ميزان العمل، أبو حامد الغزالي، دار الهلال, ط1، بيروت، 1995، ص99 (بتصرف).
2-السفه: ويعنون به استعمال القوّة العقليّة فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي، وسمّاه القوم الجربزة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

23

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 الاعتدال في القوّة الفكريّة يُسمّى حكمة، والجانبان هما الجربزة والبلادة. وتحصل في النفس, نتيجة اجتماع هذه الملكات، ملكة رابعة هي كالمزاج وهي الّتي تُسمّى عدالة، وهي إعطاء كلّ ذي حقّ من القوى حقّه ووضعه في موضعه الّذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام"1.

 
إذن, تُمثِّل العفّة الأساس لمجموعة من الفضائل الّتي تتفرّع عنها، والّتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانيّة الفاضلة.
 
مرتكزات بناء الشخصيّة 
(الإيمان والعقل والحياء)
تتقوّم شخصيّة الإنسان بعناصر ثلاثة: الإيمان والعقل والحياء. ويُمثِّل العقل القوام الأساس الّذي عليه ترتكز سائر العناصر، وقد أشارت الروايات إلى هذا الموضوع.
فقد روى الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "هبط جبرائيل على آدم عليه السلام فقال له: يا آدم إنّي أُمرت أن أُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال:
 
 
 

1-تفسير الميزان، ج1، ص 371.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

24

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 العقل والحياء والدِّين، فقال آدم:إنّي اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدِّين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال فشأنكما وعرج "1.

 
إذن، بالعقل يُكتسب الدِّين والحياء وبه يُطاع الله تعالى، فعن الرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "ألا، وإنّ أعقل الناس عبد عرف ربّه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه، وعرف إقامته فأصلحها، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها"2. كما أنّه السبيل لكلّ خير، ولا يُدرك الخير إلّا به. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك بقوله: "الخير كلّه بالعقل ولا دين لمن لا عقل له"3. والحياء صفة تعمل على بناء إنسانيّة الإنسان ذكراً كان أم أنثى، وقد وردت روايات عديدة تصف الرسول والأئمّة عليهم السلام بأنّهم كانوا أشدّ الناس حياء. 
 
العلاقة بين الإيمان والحياء
أكّدت الروايات على وجود علاقة بين الإيمان والحياء، وأنّ الحياء هو أساس له، فقد ورد عن الإمام
 
 
 

1-الكافي، ج1، ص 58.
2-ميزان الحكمة، ج6، ص423.
3-م. ن، ص411.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

25

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 الصادق عليه السلام قوله: "لا إيمان لمن لا حياء له"1، وأيضاً عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "الحياء هو الدِّين كلّه"2. وكلّما زاد إيمان الإنسان كلّما ازداد حياءً، وكذا العكس كلّما نقص حياؤه فهو دليل على نقص إيمانه، وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى هذه الحقيقة: "كثرة حياء الرجل دليل على إيمانه"3.

 
تُبيّن الرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام: "الحياء من الإيمان" 4، أنّ من يملك حياءً يملك ديناً وإيماناً، ومن لا حياء له لا دين له. كما أنّه إذا نقص الحياء فإنّ الإيمان ينقص بمقداره، والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء. ويُشير الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى كون الحياء والإيمان مقرونين في "قرن واحد فإذا سُلب أحدهما تبعه الآخر" 5، بمعنى أنّه من لم يكفّه الحياء عن القبيح فيما بينه وبين الناس، فلا يكفّه عن القبيح فيما بينه وبين ربِّه تعالى، ومن لم يستحي من الله عزّ وجلّ وجاهره بالقبيح فلا دين له.
 
 
 

1-ميزان الحكمة، ج2، ص565.
2- م. ن.
3-م. ن، ج2، ص 565.
4-م. ن, نقلاً عن أمالي الطوسي , ج1 , ص193.
5-الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ط2، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قمّ، ج12، ص 169.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

26

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 العلاقة بين العقل والحياء

بما أنّ الحياء هو ترك القبيح، والقبيح هو مذموم عقلاً ومنهيٌّ عنه شرعاً، فإنَّ هذا يوحي إلى وجود علاقة بين الحياء والعقل، إذ كلّما ازداد حياء الإنسان ازداد عقله، والعكس صحيح أيضاً، فكلّما نقص من حيائه نقص من عقله بهذا المقدار، ومن لا حياء له فلا عقل له. جاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "أعقل الناس أحياهم" 1 وهو كذلك مفتاح كلّ خير 2، وسبب إلى كلّ جميل 3، وكلّ ذلك من العقل.
 
إذن, العلاقة بين العقل والحياء واضحة، لأنّ العقل يدعو إلى الطاعة والخير والحياء، وأن الحياء هو خُلُق حسن، وأن من يتّصف به يُعدّ مالكاً له. وقد عُدّ حُسن الخلق دليلاً على العقل، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم: "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً"4. وأيضاً عن الإمام عليّ عليه السلام: "أكملكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً"5
فالعلاقة إذن ثلاثيّة، إذ إنّ كلّ واحد منها يؤثِّر ويتأثّر بالآخر ويُكمله، كما إنّ نقصانه أو ضعفه يؤدّي إلى نفي
 
 
 

1-انظر: ميزان الحكمة, ج2، ص 563.
2-م. ن, ص 562.
3-م. ن.
4-الكافي، ج1، ص71.
5-م. ن، ج1، ص 312.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

27

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 أو نقص الآخر، فالعقل سبب لزيادة الحياء والإيمان، والإيمان سبب للحياء، والحياء مجلبة للدِّين.

 
العلاقة بين العقل والإيمان
 
كما أنّ العقل يُعتبر القوام الأساس للإنسان، وبناء عليه تُلحظ فيه سائر الصفات والأخلاقيّات، كذلك فإنّ الإيمان والدِّين الّذي هو عبارة عن مجموعة تكاليف وسلوكيّات، لا يكتمل ولا يستقيم إلا بالعقل. فمن لا عقل له حتماً لا دين له، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له"1. بل جعلت كمّيّة العبادة ومقدارها حسب عقل المرء، فعنه صلى الله عليه واله وسلم : "لكلّ شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربِّه"2. وقد وصفت الروايات العاقل: بـأنّه "لا يُفارقه الحياء"3.
وهو الذي يتجنّب ما يُسخط الله تعالى ويُبعده عن ساحة رضاه، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العاقل من تورّع عن الذنوب وتنزّه عن العيوب"4
فالعقل أحد مرتكزات الإيمان وكماله، فعن
 
 
 
 

1-الكافي، ج6، ص397.
2-م. ن، ص401.
3-م. ن، ص 416.
4-الكافي،ج6، ص419.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

28

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 المعصوم عليه السلام: "ثلاث من كنّ فيه كمل إيمانه: العقل والحلم والعلم"1.

 
العفّة ومكانتها في بناء الشخصيّة
 
بما أنّ العفّة تُمثّل إحدى أمّهات الفضائل الأخلاقيّة الأربع الناتجة عن اعتدالٍ في قوى النفس، وأنّها جميعاً تُساهم في بناء إنسانيّة الإنسان من خلال اكتساب الملكات الفاضلة، فالعفّة تُساهم مساهمة فعّالة في بناء شخصيّة الإنسان من خلال ما يتفرّع عنها من صفات أخلاقيّة، وقد عدّها العلّامة الطباطبائي إلى ثماني عشرة فضيلة 2، وكلّ مجموعة من هذه الفضائل تعمل على تهذيب جانب من شخصيّة المرء وتربيته، بحيث يؤدّي افتقاد بعضها إلى خلل واضح فيها، وقد أشار إلى ذلك العديد من الروايات الّتي ذكرناها في هذا الكتاب وغيرها.
 
وبما أنّ العفّة تصدر عن القوّة الشهويّة ولها حالتا إفراط وتفريط وهما الشره والخمود، فإنّه يصعب انقيادها للقوّة العاقلة فلا تأتمر بأوامر العقل ونواهيه، وإنّما بإمكان القوّة الغضبيّة قهرها وزجرها. فكان للصفات الأخلاقيّة الصادرة عنها، فضائل كانت أم رذائل، دور مهمّ وخطير في بناء أو هدم شخصيّة
 
 
 

1-الكافي، ج1، ص319.
2-راجع: تفسير الميزان، ج1، ص 372.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

29

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 الإنسان، فهو سرعان ما يقع فريسة لملذّاته وشهواته ويستجيب للإغراءات الدنيويّة. فإذا تبع شهوته كما جاء في الرواية أصبح أخسّ من الحيوان، والقرآن الكريم شبّه متّبعي الشهوات بالأنعام: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾1.

 
ولهذا عُدّت مجاهدة النفس عن الصفات الرذيلة وتحويلها إلى ملكات حسنة راسخة في النفس الجهادَ الأكبر. وهو أمر يحتاج إلى معرفة ومِران وممارسة، لا أثناء تحصيل الملكات فحسب، بل بعدها من خلال المواظبة على حفظها ومراقبتها من التزلزل والتبدُّل. وهذه الملكات الأربع الصادرة عن قوى النفس، وما يتفرّع عنها من ملكات، تستدعيها الطبيعة الفرديّة المجهّزة بأدواتها: "وهي كلّها حسنة لأنّ معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد"2.
 
وقد ذكر علماء الأخلاق الفضائل المتفرِّعة عن العفّة وأوصلوها إلى ستٍّ وعشرين فضيلة، وممّا ذُكر من فضائل العفّة: "الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة،
 
 
 

1- الأعراف: 179.
2-تفسير الميزان، ج1، ص 379.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

30

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والسخط، والظرف"1.

 
معاني هذه الفضائل 2
 
السخاء: هو وسط بين التبذير والتقتير، وهو سهولة الإنفاق وتجنُّب اكتساب الشيء من غير وجه ومبرّر.
حسن التقدير: هو اعتدال في النفقات احترازاً عن طرفي التقتير والتبذير.
الدماثة: حسن هيئة النفس الشهوانيّة في نحو انجذابها واشتياقها إلى اللّذّات والمشتهيات.
الانتظام: مناسبة الشيء للشيء الآخر.
حسن الهيئة: محبّة الزينة الواجبة الّتي تميل إليها النفس.
القناعة: حسن تدبير المعاش من غير خداع ولا طمع. 
الهدوء: سكون النفس ممّا تناله من اللّذات الجميلة.
الورع: تزيين النفس بالأعمال الصالحة الفاضلة طلباً لكمال النفس وتقرّباً إلى الله من دون رياء.
الطلاقة: المزاح بالأدب من غير فحش وافتراء.
 
 
 
 

1- انظر: ميزان العمل، ص113-115.
2- انظر: م.ن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 الظرف: أن يعرف الإنسان طبقات الجلساء ويحفظ أوقات الأنس ويُعطي كلاماً لمن هو أهله من المباسطة في الوقت معه.

المسامحة: ترك الخلاف والإنكار على المعاشرين في الأمور الاعتياديّة إيثاراً للحفاظ على لذّة المخالطة والعشرة.
التسخّط: عدم الاغتمام بالخيرات الواصلة إلى من لم يستحقّها وبالشرور الّتي تلحق من لا يستحقّها.
 
قد أضاف العلّامة الطباطبائي صفات أخرى وهي: الدعة، الوقار، الحرّيّة، المسالمة، حسن الكرم، الإيثار، المسامحة، النبل، المواساة 1
وأما الحياء فرغم أنّه متفرِّع عن العفّة إلّا أنّه أصل لتسع فضائل، وجاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم :"أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّين، والرأفة، والمراقبة لله في السرِّ والعلانية، والسلامة، واجتناب الشرّ، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته 2
وأمّا الرذائل المندرجة تحت حدّي العفّة الإفراطي
 
 
 
 

1- انظر: تفسير الميزان، ج 1، ص 373.
2- بحار الأنوار، ج1، ص 118.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

32

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 والتفريطي، وهما الشره وخمود الشهوة، فهي:الوقاحة، التخنُّث، والتبذير والتقتير، والرياء، والهتكة، والكزازة، والمجانة، والعبث والتحاشي، والشكاسة، والملق، والحسد، والشماتة". 
 
معاني الرذائل 1
 
- الوقاحة: هي لجاج النفس في تعاطي القبيح من غير احتراز من الذمّ.
- التخنُّث: حال يعتري النفس من إفراط الحياء يقبض النفس عن الانبساط قولاً وفعلاً.
- التبذير: إفناء المال فيما لا يجب وفي الوقت الّذي لا يجب وأكثر ممّا يجب.
-التقتير: الامتناع عن إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشحّ واللؤم.
-الرياء: التشبُّه بذوي الأعمال الفاضلة طلباً للسمعة والمفاخرة.
-الهتكة: الإعراض عن تزيين النفس بالأعمال الفاضلة والمجاهرة بأضدادها.
-الكزازة: الإفراط في الجدّ.
-المجانة: الإفراط في الهزل.
 
 
 

1- انظر: ميزان العمل، ص 115.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

33

الفصل الثاني: مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

 -العبث: الإفراط في العبث.

-التحاشي: إفراط في التبرُّم بالجليس.
-الشكاسة: مخالفة المعاشرين في شرائط الأنس.
-الملق: التحبُّب إلى المعاشرين مع التغافل عمّا يلحقه من عار الاستخفاف.
-الحسد: الاغتمام بالخير الواصل إلى المستحقّ الّذي يعرفه الحاسد.
-الشماتة: الفرح بالشرّ الواصل إلى غير المستحقّ ممّن يعرفه الشامت.

إذن، تُمثّل العفّة إحدى الفضائل الأربع والّتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانيّة الفاضلة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

34

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 للحياء مراتب:الحياء من الله تعالى، الحياء من النفس، والحياء من الناس.

 
الحياء من الناس
 
يُمثِّل الحياء من الناس ركيزة أساساً للحياء من النفس والحياء من الله تعالى , فإذا ما استحى الإنسان من الآخرين امتنع عن فعل القبيح وإتيان النواهي واقتراف الرذائل. وهذا مدخل ومقدّمة للوصول إلى استقباح الفعل لدى النفس فيستحي منها , وإذا ما تحوّل هذا السلوك إلى عادة متأصِّلة وممدوحة لديه وتحوّلت إلى ملكة اتّجهت نحو الفضيلة واكتست ثوب الإيمان، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "حياء الرجل من نفسه ثمرة الإيمان"1 ، وينتج عندها حياءٌ من الله تعالى وهو من الإيمان. 
 
ثمّ إنّه تختلف درجات الحياء لدى الإنسان حسب المرتبة والمنزلة الّتي يمتلكها، والصفات الخلقيّة الّتي
 
 
 

1- ميزان الحكمة, ج2, ص 563.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

35

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 يتحلّى بها، فقد يكون الحياء من الآخر تبعاً لمنزلته العلميّة أو مرتبته لدى الناس، كما لو كان عالماً أو مسؤولاً أو ما شابه. فقد يفعل الإنسان القبيح في خلوته لعدم وجود من يراه، لكن يتجنّبها أمام العالِم أو الرئيس الفلانيّ، ويُحاول أن يُظهر نفسه على أجمل صورة وأفضل صفات، وهذا عائد إلى مقدرة الآخر على لومه، لعلمه بأنّ الآخر هو الأكمل منه في الصفات فيفهم مساوىء وقبح الفعل، عندها يكون اللوم أشدّ وآلم، وبالتالي انحطاط منزلته عنده، وهذا ما يُخالف الطبع والميل البشريّ.

ولهذا فإنّ الإنسان يستحيي من الناس ولا يُحبّ أن ينتقصه أحد، ولهذا جاءت الروايات لتؤكِّد ضرورة الحياء من الله تعالى كما يستحيي الشخص من الرجل الصالح من قومه، فعن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك فإنّ فيها زيادة اليقين"2. وقد يصل المرء من خلال سوء فعله إلى درجة لا يستحيي عندها حتّى من الناس في العلانية، وعندها قد يفعل أيّ قبيح ولا يتورّع عن أيّ ذنب، عندها يصحّ فيه القول: إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت2.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "من لم يستحيِ من الناس
 
 
 

1-ميزان الحكمة، ج2، ص 568.
2-م. ن، ج2، ص 567.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

36

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 لم يستحيِ من الله تعالى" 1، لأنّ الحياء من الناس هو الشكل العلنيّ، والحياء من الله هو الشكل السريّ. وجاء التأكيد من الرسول صلى الله عليه واله وسلم على أهمّيّة الحياء في العلن لأنّه يجرّ إلى الحياء في السرّ: "من لم يستحيِ من الله في العلانية، لم يستحيِ من الله في السرّ"2.

 
الحياء من الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام 
هذا النوع من الحياء ينبع من الأخلاق العالية الّتي يمتلكها الإنسان حيث يرى أنّ أعماله تُعرض على الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام كلّ يوم أو كلّ يوم اثنين ويوم خميس، وأنّه يسوؤهم القبيح الصادر عن شيعتهم كما وتُسعدهم الأعمال الحسنة الصادرة عنهم أيضاً. فمن لم ير الله تعالى عليه رقيباً وشاهداً فلا يُمكنه أن يرقى إلى رقابة الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام.
 
العلاقة بين الحياء من النفس والحياء من الله تعالى
 
قد يكون الحياء من النفس في العلانية، كما قد يكون في الخلوة والسرّ، لأنّها حالة انزجار داخليّة تحثّ المرء على ترك القبيح لكونه قبيحاً، يستقبحه العقل الإنسانيّ
 
 
 

1-ميزان الحكمة، ج2، ص 566.
2- م. ن، ج2، ص566.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

37

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 ويتنافى مع سلوكه، ولذا فهو يُخالف مروءة الإنسان، وصاحب المروءة والعاقل لا ينحاز عن قواعد العقل، ولذلك فهو يترك كلّ فعل يمسُّ بها، ومن هذه الجهة لا يكون الفعل ناتجاً عن الإيمان بالله تعالى أو الإحساس بالرقابة الإلهيّة. نعم هو مقدّمة ودافع إليه، وهو حسنٌ على كلّ حال واليه أشار الرسول بقوله: "الحياء خير كلّه"1.

 
فالحياء من الله يحتاج إلى برنامج تدريبيّ يبدأ من الحياء من النفس، إذ كلّما استطاع الإنسان أن يفوز بالحياء من نفسه، وهو حياء في السرّ والخلوة، نجح حتماً في الحياء من الله الّذي هو حياءٌ في السرّ أيضاً. ويحتاج الأمر إلى مراقبة شديدة للنفس ومحاسبتها، كي لا تقع في المعاصي والأفعال القبيحة الّتي تتنافى مع العقل والشرع. ومن هنا كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. وقد أشارت الروايات إلى أنّ هذا النوع من الحياء يمحو الخطايا والذنوب، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا، وأيضاً هو أفضل الحياء"2
 
فملاحظة وشعور الإنسان بكون الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، وأنّه يقهر العباد بقدرته، حيٌّ قيّوم لا
 
 
 

1- بحار الأنوار, ج 71, ص 335.
2- انظر: ميزان الحكمة، ج2، ص 568.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

38

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وغيرها من الآيات والمطالب الّتي تصف الله تعالى بأنّه حاضر غير غائب، كلّ هذا مساعد على إيجاد ملكة لدى الإنسان تُنمّي لديه الشعور برقابة الله تعالى، فما يكون منه إلّا الحياء منه تعالى في السرّ كما يستحيي منه ويخافه في العلن.

 
الحثُّ على عفّة البطن والفرج ومصاديقهما
كسر شهوتي البطن والفرج:تُعتبر عفّة البطن والفرج والسيطرة عليهما من أفضل العبادات، فقد جاء عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"1، بل لم يُعبد الله بأفضل من هذه العفّة، كما جاء عنه عليه السلام: "ما من عبادة أفضل عند الله من عفّة بطن وفرج"2.
 
فقد اهتمّ الإسلام كثيراً بهذه المسألة، وجعل غيرة الرجل على عرضه علامة على شخصيّته المتّزنة والمؤمنة. وقد جُعلتا أفضل عبادة، لأنّ الذنوب تنشط عندما تكون البطن مليئة، فقد جاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم : "أكثر ما تلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج"3.
 
فشهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع
 
 
 

1- أصول الكافي, ج2 , ص84.
2- م.ن, ص 85.
3-ميزان الحكمة, ج6, ص361، نقلاً عن بحار الأنوار ج 71, ص 269.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

39

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 والمنظّم لتحصيل الغذاء ورعاية حقوق الآخرين، وتجعله حاضراً للقيام بأيِّ فعل حتّى اقتراف الخطايا والذنوب في سبيل إرضائها، أضف إلى أنّها مصدر وسبب للكثير من الأمراض الجسميّة والأخلاقيّة إلى درجة تُصبح معها معبوده فتتحكّم في جميع سلوكيّاته.

فقد جاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم : "من وقي شرّ بطنه ولسانه وفرجه فقد ُوقي من جميع البلايا"1، وتهذيب هاتين الشهوتين يوجب غفران الذنوب كما ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "أيُّما أمرىء اشتهى شهوة فردَّ شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له"2.
 
كيفيّة التحرُّر من أسر شهوة البطن
هناك مجموعة من الإرشادات تُساعد على التحرُّر من شهوة البطن نورد منها ما يلي: 
1-أن يكون الطعام حلالاً: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾3. يُقرن الله تعالى أكل الطيّبات بوجوب الشكر له تعالى.
ويذكر في آية أخرى عدم تحريم ما أحلّ الله للناس،
 



1- الأخلاق في القرآن, ج 2, ص299، نقلاً عن معراج السعادة, ص310.
2- الكاشاني , محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء, ط2, مؤسسة الاعلمي للمطبوعات, بيروت ,1983م, ج5, ص169.
3- البقرة: 172.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

40

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 للتأكيد على حلّيته للمؤمنين. ونهى تعالى عن الاعتداء وتجاوز حقوق الآخرين، بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾1

والمراد من الطعام الحلال هنا هو كلّ ما حاز على هذه الشروط:ما حصل من كدّ وكسب الإنسان وتعبه، فقد جاء في الرواية أنّ الكادَّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله.
أن يكون المال قد أُخرجت الحقوق منه، مثل الزكاة والخمس.
أن يكون الطعام حائزاً على الوجه الشرعيّ، كأن يكون مذبوحاً على الطريقة الشرعيّة ـ إذا كان لحماًـ.
أن يكون طاهراً من الخبث والنجاسات، وكلّ ذلك مذكور بشكل مفصّل في أبواب الفقه.
 
2- الأكل عند الجوع وعدم الإكثار منه: جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للحسن عليه السلام: "ألا أُعلمك أربع خصال تستغني بها عن الطبِّ؟ قال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلّا وأنت جائع، ولا
 
 
 
 

1-المائدة : 87.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

41

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 تقم عن الطعام إلّا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبِّ"1.

ينبغي للإنسان أن يتدرّب على الإقلال من الطعام شيئاً فشيئاً، وأن يكون تناوله لطعامه بما يرفع به جوعه وأن لا يأكل حتّى التخمة فإنّها من الشيطان.
والمراد من كسر شهوة البطن، هو اعتدالها، واليه أشار القران الكريم بقوله تعالى: ﴿... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ 2، وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "قلّة الأكل من العفاف وكثرته من الإسراف"3.
فإذا ما زال الجوع عن الإنسان، ولم يأكل حتّى الشبع، تيسّرت له العبادة والفكر والقدرة على العمل, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة"4.
 
3- التعوُّد على أخذ الحاجة من الطعام:جُعل الطعام من أجل رفع الجوع وإزالة التعب والضعف عن الإنسان، ولهذا من المهمّ جدّاً أن يتعوّد الإنسان على
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج24، ص 245.
2- الأعراف: 31.
3- منتخب ميزان الحكمة: ص 24، نقلاً عن مستدرك الوسائل، ج16، ص 213.
4- م.ن، ص 24، نقلاً عن مستدرك الوسائل، ج 16، ص 222. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

 


42

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 تناول الطعام عند حاجته إليه فقط، لا كلّما عرض له أو حصل عليه، وأن لا يتناوله إلّا عند الجوع، جاء في الوسائل عن عليّ بن حديد رفعه قال: "قام عيسى بن مريم خطيباً، فقال: يا بني اسرائيل! لا تأكلوا حتّى تجوعوا، وإذا جعتم فكلوا، ولا تشبعوا، فإنّكم إذا شبعتم غلظت رقابكم، وسمنت جنوبكم، ونسيتم ربَّكم"1. ولتكن السياسة والضابطة الّتي تحكم سلوك الفرد هي استخدام الطعام من أجل البقاء على قيد الحياة لا العكس: "كل لتعش ولا تعش لتأكل"، وعلى هذا النحو كانت سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، فقد جاء عن العيص بن القاسم قال: قُلت للصادق عليه السلام حديث يُروى عن أبيك عليه السلام أنّه قال: "ما شبع رسول الله من خبز برّ قطّ، أهو صحيح؟ فقال: لا، ما أكل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خبز برّ قطّ ولا شبع من خبز شعير قطّ"2.
 
4- الالتزام بوقت الأكل:حدّدت الروايات للأكل وقتين لا أكثر أي وجبتين في اليوم الواحد، واحدة في الصباح وأخرى في المساء (وجبتا الفطور والعشاء)، فقد روى أبو سعيد
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج24، ص 245.
2- م. ن، ج24، ص 244.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

43

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 الخدري: "أنّه كان صلى الله عليه واله وسلم إذا تغدّى1 لم يتعشَّ وإذا تعشّى لم يتغدَّ"2. وقد جاء في الكافي أنّ شهاب بن عبد ربّه قال: "شكوت إلى أبي عبد الله عليه السلام ما ألقى من الأوجاع والتخم فقال لي: "تغدَّ وتعشَّ ولا تأكل بينهما شيئاً فإنّ فيه فساد البدن. أما سمعت الله تعالى يقول: ﴿لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ "3  4.

 
كما أنّه يوجد تأكيد على عدم ترك العشاء ولو بشقّ تمرة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ترك العشاء مهرمة"5. وقد ورد عن بعض الأهوازيّين عن الإمام الرضا عليه السلام: "قال إنّ في الجسد عرقاً يُقال له العشاء لم يزل يدعو عليه ذلك العرق إلى أن يُصبح يقول: أجاعك الله كما أجعتني أظمأك الله كما أظمأتني فلا يدعن أحدكم العشاء ولو بلقمة من خبز أو شربة ماء"6. وتدلُّ الأخبار على استحباب تناول طعام العشاء لا سيّما للشيخ فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الشيخ لا يدع العشاء ولو بلقمة"7.
 
 
 

1- المراد من الغداء في الروايات هو الفطور الصباحي.
2- المحجة البيضاء، ج5، ص 166.
3-مريم: 62.
4- الكافي ,ج6 , 290.
5- م.ن، ص 288.
6- م.ن, ج6، ص 289.
7- م. ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

44

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 لكن يُكره أن ينام المرء على بطن مليئة بالطعام.

ورد في الأحاديث الشريفة كراهيّة الامتلاء من الطعام سواء كان ليلاً أم نهاراً.
فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله: "كثرة الأكل مكروه"1.
وكذا عنه عليه السلام: "ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء"2.
بل إنّ البطن المملوء يمنع الإنسان من الكمالات المعنويّة والدخول في ملكوت السماوات، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "لا يدخل ملكوت السماوات قلب من ملأ بطنه"3.
 
5- أن لا يكون الطعام أكبر همِّ الإنسان:أن لا يكون همّه الدائم أكل اللحم والطعام اللذيذ، فإنّ كثرة أكل اللحم تورث قساوة القلب. كما أنّ تركه أربعين يوماً يُسبِّب سوء الخلق4 لأنّه سيّد الطعام فلا ينبغي تركه. لكن من المهمّ أن يُنظِّم المرء طريقة أكله وأن يتخلّله طعامٌ غيره، لحاجة الجسم إلى هذا التنوُّع.
 
 
 

1- الكافي، ج6، ص 269.
2- م. ن، ص 270.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 89.
4-انظر: الكافي، ج6، ص312.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

45

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 كيفيّة التحرّر من شهوة الفرج 

 
إنّ شهوة الفرج هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، وتمتاز بأنّها قوّة عنيدة لا تهدأ بسرعة، بخلاف القوّة الغضبيّة الّتي تمتاز بشدّتها من ناحية وبأنّها سريعة الهدوء من ناحية أخرى.
"وما دامت القوّة العاقلة تعجز عن الوقوف بوجه القوّة الشهويّة العنيدة الطويلة الأثر، فنستعين بالقوّة الغضبيّة الشديدة كالنار المحرقة للوقوف بوجهها والحدّ من أثرها... غير أنّ هذا لا يتمّ إلّا بأن تكون الغضبيّة تحت إمرة القوّة العاقلة"1.
وإنّ أكثر الناس يمتنع عن فعل مقتضاها حياءاً وخشية إمّا لعجز أو خوف أو لحياء من الآخرين, أو للمحافظة على جسمه، ولا يُعدّ هذا ثواباً وأجراً، نعم من حيث كونها تدفع الزنا فإنّ إثمه يندفع عن الإنسان بأيِّ سبب كان تركه. وإنّما الفضل والثواب فيما لو تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة عليه، وارتفاع الموانع، وتيسير الأسباب لا سيّما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصدّيقين ولهذا قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "من عشق فعفّ فكتم فمات فهو
 
 
 

1- الحيدري، كمال: التربية الروحية بحوث في جهاد النفس، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 2002م، ص163.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

46

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 شهيد"33. كما أنّ ما حصل مع النبيّ يوسف عليه السلام وامتناعه عن زليخا مع القدرة ورغبتها الجامحة، هو من أحسن الورع والعفّة حيث نال بذلك ثناء الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾1.

 
كيف تَكسر شهوة الفرج وتروِّضها
 
1- الزواج 
جُعِل الزواج وسيلة لتهذيب وإشباع هذه الشهوة، وقد جُعِلت شهوة الجنس في الإنسان من أجل:
حفظ واستمرار النسل البشريّ، ولولا ذلك لما أقدم الإنسان على الزواج، ولما تحمّل العديد من المشاكل والصعوبات المترتّبة على وجود الولد والذريّة.
توفير هذا العمل من أجل تكامل الإنسان في الجوانب المرتبطة بإشباع الشهوة الجنسيّة، ونقصد بها هنا المسائل المتعلِّقة بالعفّة.
ولهذا حثّ الإسلام على الزواج وإليه أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
 
 
 

1- انظر: المحجّة البيضاء، ج5، ص185.
2- يوسف: 24.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

47

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1 ، ويُقصد بالأيامى هنا العزّاب أي من لا أزواج لهم. وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدِّين فليتقّ الله في النصف الباقي"2. وقد جُعِلت تحرُّكات المتزوِّج مورد رضا الله تعالى خلافاً لِغير المتزوِّج، وكذلك عبادته، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام "ركعتان يُصلِّيهما متزوِّج أفضل من سبعين ركعة يُصلِّيها غير متزوِّج"3. وجُعِل التزويج أحبّ بناء إلى الله تعالى كما ذكر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "ما بُني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ وأعزّ من التزويج"4.

 
2- غضُّ البصر
أولى الله تعالى غضّ البصر أهمّيّة خاصّة بغية إرساء وبناء قواعد متينة لتأسيس مجتمع عفيف، ولهذا نرى أنّه فصّل في الخطاب بين الذكر والأنثى عندما أمر بغضِّ البصر، للدلالة والإشارة إلى أهمّيّة الغضِّ ولما يتركه من آثار إيجابيّة على بناء النفس والمجتمع. والتكليف موجّه لكلٍّ من الرجل والمرأة على السواء، وقد بدأ توجيه الخطاب إلى الرجال قبل النساء تأكيداً منه على الدور والمسؤوليّة 
 
 
 

1- النور: 32.
2- منتخب ميزان الحكمة، ص 233.
3- م. ن، ص234.
4- م. ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

48

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 الواقعة على عاتقهم, وكأنّ بناء المجتمع العفيف يبدأ من غضِّ بصر الرجال أوّلاً.

 
يقول تعالى في خطابهم: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ 1. ثمّ أردف تعالى بعدها مباشرة الخطاب الخاصّ بالنساء مشيراً إلى نفس الحكم ومضيفاً إليه أموراً أخرى تتعلّق بالمرأة: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ 2.
 
"والغضُّ إطباق الجفن على الجفن، والأبصار جمع بصر، وهو العضو الناظر، ومن هنا يظهر أن "من" في "من أبصارهم" لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض..., والمعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من
 
 
 

1- النور: 30.
2- النور: 31.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

49

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 أبصارهم"1. وهو نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيّة. وأمّا المراد من "يحفظوا فروجهم" فهو سترها عن النظر، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية فهي من النظر"2. فإنّ النظر مبدأ الزنا، وحفظه مهمّ، وهو عسير من حيث قد يُستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفّات كلّها تنشأ منه، فالنظرة الأولى إذا لم يقصدها لا يؤاخذ عليها والمعاودة يؤاخذ بها، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "لك الأولى وعليك الثانية، أي النظرة"3.

 
3-اجتناب مثيرات الشهوة
 
وهي عديدة نذكر منها على سبيل المثال
 
أ- وسائل الإعلام:الّتي تبثّ البرامج غير المحتشمة والمُحِلَّة أخلاقيّاً سواء كانت على شاشة التلفاز أم الإنترنت، وكذا الفضائيّات السامّة الّتي غزت المنازل والنفوس وعشّشت في القلوب الشابّة. فعلى الإنسان اجتناب هذه الوسائل أو تنظيمها بحيث تكون تحت رقابة ممنهجة بغية الاستفادة من البرامج المفيدة منها.
 
 
 

1- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم المقدسة، جامعة المدرسين، لات، ج15، ص110.
2- انظر: تفسير الميزان، ج 15، ص111.
3- المحجّة البيضاء، ج5، ص187.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

50

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 وكذا الوسائل الأخرى كالصحف والمجلّات الخليعة والقصص الإباحيّة وغيرها.


ب - التفريق في المضاجع أثناء المبيت:إنّ لهذا الموضوع أثراً هامّاً على الحياة الجنسيّة لكلٍّ من الذكر والأنثى، حيث يعتبر ذهن الطفل بمثابة لاقط لكلِّ الصور والمشاهد الّتي تمرّ عليه في بداية عمره. وقد أمر الشرع المقدّس بالتفريق في المضاجع بين الذكور والإناث لأجل أن ينشؤوا نشأة عفيفة محتشمة بعيدة عن كلِّ موجبات الإثارة وتحريك الشهوات الباطنيّة.

ج-الأكل المتوازن:من المهمّ الالتفات إلى نوع الأكل الّذي يتناوله الإنسان نفسه، وأن يُحاول الالتزام بنظام غذائيّ محدّد ومنظّم، فإنّ بعض الأطعمة من شأنها تهييج القدرة الجنسيّة وتأجيجها فعليه تجنّب هذه الأطعمة ممّا هو مذكور في محلِّه.

د-التقيُّد بالالتزام بالحجاب (الستر) الشرعيّ وترك الزينة أمام الأجانب:ممّا لا شكّ فيه أن التعرّي والتزيّن من شأنهما تحريك الغريزة الجنسيّة، بحيث ينجرّ إليها الشباب، ولهذا جاء الأمر الإلهيّ بوجوب ستر المرأة لكامل بدنها وتركها للزينة بالخصوص كونها عنصر إثارة للرجل. إلّا أنّه لا يُراد من الحجاب هنا هو القماش الّذي تضعه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

51

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 المرأة وتُغطّي به جسدها الظاهريّ فحسب، فهو وإن كان مهمّاً وضروريّاً وأساساً إلّا أنّه ليس هو الواجب كلّه من الحجاب، بل هو مطلوب بالإضافة إلى الحجاب الباطنيّ والّذي يتمثّل بالعفاف الباطنيّ للمرأة وهو الأهمّ لها.

 

 
فالحجاب بالمفهوم القرآنيّ لا يكتمل إلّا بمجموعة مفردات يتشكّل منها الحجاب الكامل
- ستر كامل الجسد بالجلباب: وهو اللباس الفضفاض الواسع كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾1.
- إسدال الخمار: وهو المقنعة الّتي توضع على الرأس وتُغطّي الكتفين والرقبة والشقّ من الصدر: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾2.
- عدم إبداء الزينة: باستثناء الظاهريّة منها، وهي الكفّان والوجه، شرط أن لا يكون عليها زينة خارجيّة من مساحيق التجميل(طلاء الأظافر، ومكياج، حلي)، وغير ذلك.
 
وكذلك عدم إظهار الزينة الباطنيّة، وهي كلّ ما عدا الوجه والكفّين من الجسد للأجانب ما عدا طائفة من
 
 
 

1-الأحزاب: 59.
2- النور: 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

52

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 لناس وهم اثنا عشر صنفاً من المحارم وغيرهم، والّتي حدّدها وذكرها القرآن الكريم: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.

 
- غضُّ البصر: سواء كان النظر من الرجال إلى النساء وهو أساس أو العكس، إذ إنّ الحجاب لا يُمكن أن يتحقّق إلّا بغضِّ الطرف من الجنسين وعدم النظر بشهوة وريبة إلى بعضهما بعضاً، والرجل له دور في إرساء الحجاب لدى المرأة، وإيجاد العفّة. لأنّ النظر إلى الجنس الآخر يتنافى والحجاب الباطنيّ. يقول تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾2.
 
 
 

1-النور: 31.
2-النور: 30 و31.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

53

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 - عدم الضرب بالأرجل: ويكون ذلك عادةً بالخلخال الّذي يُخرج صوتاً يعلم منه الآخر بوجود زينة خفيّة لدى المرأة، ويُفهم من الآية أنّ النهي ليس وارداً على أصل الخلخال، بل إلى الخلخال مع هذه الصفة، فلو وُجد خلخال لا يترك صوتاً حين المشي فلا إشكال في لبسه طبعاً ما لم يظهر للأجنبيّ. وبذلك يدخل تحت هذا العنوان كلّ ما من شأنه أن يترك صوتاً ويجلب نظر الرجال وانتباههم للمرأة أمثال الحذاء الخاصّ بالمرأة ذي الكعب العالي(السكربينة).


-عدم اختلاط الرجل بالمرأة والعكس: لا شكّ في أنّ مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة لا يُمكنها الفصل التامّ بين الرجل والمرأة، لأنّ المرأة اليوم أخذت دوراً اجتماعيّاً وهي تُشارك الرجل في العمل. إلّا أنّه يُمكن الاتّقاء والاجتناب عن الموارد غير الضروريّة, وبهذا يُمكن للمجتمع أن يحصل على التقوى الجنسيّة وعلى العفّة الاجتماعيّة وطهارتها.

وإذا ما حصل الاختلاط بين الرجل والمرأة لضرورة ما، يجب أن يُقيَّد المجلس بمجموعة شروط: عدم الضحك والمزاح: الّذي يُزيل الحجاب والعفّة بينهما، وشيئاً فشيئاً تنكسر وتتمزّق الحشمة، وتقع المعصية بدرجاتها، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

54

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 "من فاكه امرأة لا يملكها حبسها الله بكلِّ كلمة في الدنيا ألف عام" 1، والمفاكهة هي الممازحة.

اجتناب الخلوة التامّة: كأن يكونا في مكان خاصٍّ لا ثالث معهما، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما"2. لذلك ينبغي أن يكون جلوس الرجل والمرأة بمرأى الآخرين، وأن تقتصر الجلسة على الأمور الضروريّة، وأن لا تطول مدّتها. وقد أشار الإمام الخمينيّ إلى حرمة الخلوة بقوله: "إذا اجتمع الرجل والمرأة في محلّ خلوة، بحيث لا يوجد أحد هناك ولا يتمكّن الغير من الدخول فإن كانا يخافان الوقوع في الحرام فيجب أن يتركا المكان"3.
 
ترك الزينة والتبرُّج والروائح العطرة: لأنّ كلّ ذلك من شأنه أن يُحرِّك ويُثير الطرف الآخر.
عدم اللّين في الكلام: فإنّ الخضوع في القول كما عبّر القرآن الكريم، وهو من نوع الميوعة والغنج الكلاميّ يحصل بطريقة خاصّة في الكلام، من
 
 
 

1-وسائل الشيعة،ج20،ص 198.
2- مستدرك الوسائل،ج14،ص265.
3- توضيح المسائل، مسألة 2445.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

55

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 شأنه أن يوقع الرجل في شرك المرأة. ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾1. وهذا النهي ليس موجّهاً إلى نساء النبيّ فقط، بل يعمّ ليشمل نساء المؤمنين، لأنّ القرآن كما أشار إلى ذلك الأئمّة عليهم السلام: أُنزل من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

 
موارد العفّة
العفّة المالية - عفّة البطن - عفّة الفرج - عفّة الحجاب
 
1-العفّة في المسائل المادّيّة:وتصدق على الفقير الّذي لا يملك مؤونة سنته وتمسّه الحاجة المادّيّة، فيُخفيها ولا يُظهرها للآخرين تعفُّفاً، ومن شدّة ضبطه لنفسه يحسبه الناس غنيّاً. وقد مدح الله تعالى هذه الطائفة من الناس بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ 
 
 
 

1-الأحزاب: 32.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

56

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 عَلِيمٌ﴾ 1.

 
تُشير الآية إلى نقطتين
الأولى: تتحدّث عن أفضل موارد الإنفاق، حيث يُطلب من المؤمنين أن ينفقوا على الفقراء الّذين هاجروا من بيوتهم وأوطانهم, ولم يستطيعوا تأمين نفقاتهم عن طريق الجهاد في سبيل الله أو السفر للتجارة والكسب ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً﴾...
الثانية: تُشير إلى خصوصيّة خاصّة بالفقراء وهي أنّهم لشدّة تعفُّفهم وضبطهم لأنفسهم عن إظهار حاجتهم المادّيّة وعدم الشكوى إلى الناس، يحسبهم الناس أغنياء ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾... 
 
ويتميّزون بصفة أخرى أيضاً، وهي امتناعهم عن سؤال الناس إلحافاً، أي مهما أمكنهم حتّى لو اشتدّ بهم الحال واضطرّوا إلى المسألة، فإنّهم يُفضِّلون اقتراض المال لقضاء حاجاتهم على السؤال من الناس. ويُشير الإمام عليّ عليه السلام إلى ذلك بأنّ: "العفاف زينة الفقراء"2. ومن المهمّ أن يتحلّى المرء بالقناعة بما لديه، ولا يطمع بما في أيدي الناس وبذلك تسهل عليه الأمور ويرتاح باله ونفسه، ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "ألا إنّ 
 
 
 
 
 

1- البقرة: 272.
2- ميزان الحكمة، ج6، ص359
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

57

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 القناعة وغلبة الشهوة من أكبر العفاف"1.

 
2- العفّة عن الشهوة: ويبرز هذا النوع من العفّة في مورد عفّة الفرج وتحصينه من الوقوع في الحرام. وذكر القرآن الكريم شخصيّات ضرب بهم المثل في العفّة والطهارة، والقدرة على ضبط النفس مقابل مغريات الشهوة والمثيرات الخارجيّة، وأبرز هذه الشخصيّات السيّدة مريم  من النساء، والنبيّ يوسف عليه السلام من الرجال.
وتحدّث عن طهارة مريم  وعفّتها بقوله تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾2. وهذا مدح لها بالعفّة والصيانة، وردٌّ لما اتّهمها به اليهود، والدليل قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾3
 
وأمّا النبيّ يوسف عليه السلام فإنّ القرآن الكريم يتحدّث عن عفّته وطهارته في أصعب وأشدّ الظروف، حيث توفّرت فيها جميع أسباب الوقوع بالإثم والمعصية. ولكنّه عليه السلام ثبت وحفظ نفسه أمام كلّ هذه المثيرات والتحدّيات، واستعاذ بالله تعالى وخرج منتصراً على
 
 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج6، ص364.
2-الأنبياء: 91.
3-مريم: 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

58

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 الشيطان. ويذكر القرآن الكريم قصّته مع امرأة العزيز زليخا، حيث أرادت به كيداً: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾1. ولقد سدّده الله تعالى بالبرهان الذي رآه ﴿لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾... وجعل عاقبة أمره ونتيجة نجاحه في هذا الامتحان الإلهيّ ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾2 ، والمُخلَص هو الشخص الّذي يعجز عنه الشيطان وليس له عليه سبيل، ﴿وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾3.

 
3-عفّة الحجاب والتشديد فيه:المقصود من الحجاب هو الستر الكامل لجسد المرأة. وقد مرّ أنّ مفهومه لا يتحدّد من خلال آية قرآنيّة واحدة، بل هو يتألّف من الستر الخارجيّ لجسد المرأة والحجاب الباطنيّ وهو إشارة إلى عفّتها. ويظهر هذان الحجابان في العديد من الآيات الشريفة، والّتي تُشير إلى أنّ الحجاب علامة خارجيّة على عفّة الفتاة. وقد أوجب الله الستر على المرأة دون الرجل لأنّها بطبعها تميل نحو التجمُّل وهذا خاصٌّ بها، فالرجل صيدٌ والمرأة
 
 
 

1- يوسف: 23.
2- يوسف: 24.
3-يوسف: 38 و39.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

59

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 صائد بلحاظ القلوب. ويتولّد فيها ميل نحو الظهور تبتغي بذلك إغواء الرجل وإيقاعه في شباكها.

ولكي تُمارس المرأة دورها في المجتمع لا بُدّ لها من الاستفادة من هذا الحجاب لوضع حدٍّ وحاجز بين المرأة نفسها والرجل ولكي تكون حركاتها متّصفة بالوقار والاتزان والعفّة، وأن تتحرّك على أساس إنسانيّتها لا أنوثتها.
 
ولهذا قد برز فرض وجوب الحجاب على المرأة، وظهر التشديد فيه من أجل الحدّ من الفساد والتحلُّل الأخلاقيّ الّذي يُصيب المجتمعات فيما لو ارتفع هذا الحجاب.
فالحجاب الّذي يُمثِّل مجموعة مفردات كما أشرنا سابقاً (الجلباب، الخمار، عدم إظهار الزينة الظاهريّة إلّا ما ظهر منها، وعدم إبداء الزينة الباطنيّة إلا للمحارم،عدم الضرب بالخلخال، غضّ البصر، عدم اللحن في القول...)، كلّها تدلّ على أنّ مجموع الحجاب الظاهريّ هو المؤلّف من اللباس والستر لكامل جسد المرأة، والحجاب الباطنيّ الّذي يُمثِّل لباس العفّة والتعفُّف.
وقد أظهر الإسلام اهتماماً بالغاً في الحجاب حتّى في الموارد المستثناة كما في القواعد أي العجازات من النساء: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

60

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1

 
مع أنّ القرآن الكريم أجاز لهنّ وضع الحجاب عن أنفسهنّ، ورفعه عن بعض مواضع الجسد إلّا أنّه أشار إلى أنّ التعفُّف والتشدُّد به هو خير لهنّ وأفضل.
 
الخاتمة
 
ما قُدّم يُعتبر غيضاً من فيض. وهو مسؤوليّة على عاتق كلّ فرد أن يُشارك في بناء النفس من أجل بناء المجتمع، والعمل بشكل دؤوب لتتأصّل تلك الصفات الأخلاقيّة في أنفسنا دون استثناء ذكراً كان أم أنثى، إذ إنّ الدعوة إلى الاتّصاف بالعفّة والحياء وبكلّ الصفات الأخلاقيّة الفاضلة هي دعوة للإنسان بشكل عامّ.
 
وقد تبيّن ممّا مرّ من هذا البحث بعض النتائج
 
1- أنّ هناك علاقة ثلاثيّة ومتبادلة أحياناً بين العقل والإيمان والحياء، وأنّ إيمان المرء وعقله يكملان أو ينقصان بمقدار ما يتّصف به من الحياء.
2- أنّ شخصيّة الإنسان تُبنى وتتكامل بالصفات والملكات الأخلاقيّة، وأنّ تفاوت إنسانيّة كلّ إنسان إنّما تكون على حسبها في الدنيا والآخرة.
 
 
 

1-النور: 60.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

61

الفصل الثالث: بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد

 3- أنّ الإسلام العزيز دعا الناس إلى بناء مجتمع عفيف من خلال الخطاب القرآني العام الموجّه تارة إلى المؤمنين وأخرى إلى الإنسان بشكل عامّ، ولا يتمّ هذا البناء إلّا ببناء الفرد العفيف الّذي يتّصف بتلك الصفات.

4- أنّ أهل البيت عليهم السلام رسموا لنا منهاجاً وطريقاً لكيفيّة بناء الفرد العفيف ضمن سلسلة من الآداب والسلوكيّات الخاصّة بشهوتي الفرج والبطن وتنظيمهما بما يرضاه الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

62
العفة والحياء