الإنسان والحياة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-05

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد.
 
الدين الإسلامي دين حياة، وفقه حياة، ومنهج حياة، وأسلوب حياة، وليس فقط دين الواجبات والشعائر الدينية، ولأنّ الإنسان هو المحور وقطب الرحى التي تدور حوله هذه الحياة، كان لا بد من الوقوف عند هذا الإنسان قليلاً من أجل فهمه أكثر، وبناء تصوّر منطقي وصحيح حوله، يكون مقدّمة لتأسيس حياة إنسانية منسجمة مع تكوينه وهندسته الخلقية والوجودية. فمن غير المقبول أن نضع البرامج الإنسانية التي تهدف إلى تلبية حاجات هذا الإنسان على مختلف الصعدمن دون فهم هذا الإنسان ودراسته دراسة تحليليّة معمّقة وأصيلة.
 
وعندما نقول أصيلة لا محالة علينا الرجوع إلى جهة موثوقة غاية الوثوق، جهة يُمكنها أنْ تُلبّي كافّة احتياجات هذا الإنسان الفكرية والعملية والسلوكية، لكونها على علم ودراية بخلقته وتكوينه، وعلى معرفة دقيقة بكلّ ما يُصلحه ويُصلح حياته. وهنا يأتي الكلام عن الدين وخصوصاً الدين الإسلامي الذي تصدّى لهذه المهمّة وجعل بناء وتأسيس حياة الإنسان من صلب أهدافه الكبرى. وعملية البناء هذه تحتاج إلى متخصّصين وأصحاب السبق والتقدّم في هذا المضمار، فكانت رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم أئمّة يهدون بأمره: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾1.



1 سورة الأنبياء، الآية73.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

1

المقدمة

 أئمّة أناروا لنا درب الإنسانية بعلومهم وأخلاقهم وتقواهم وورعهم، فكانوا بحقّ أمل هذه البشرية لنيل فرصة الفوز بحياة إنسانية كريمة. فلم يتركوا شاردة ولا واردة تحقّق لنا هذا الهدف العظيم إلا وذكروها. فتصدّوا بكلّ قوّة ليشرحوا لنا من هو الإنسان الحقيقي، وكيف يصنع صناعة حقيقية، صناعة يُحافظ معها على هويّته الإنسانية، فلا يغدو كالأنعام بل وأضلّ سبيلاً: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾1، وليقولوا لنا ببضع كلمات نورانية: إنّ الإنسان متقوّم بأمرين أساسيين من دونهما لن يكون إنساناً، وبالتّالي سوف يفقد فرصة الفوز بالحياة الإنسانية الكريمة، الأول هو إحياء العقل، من خلال التفكّر والتعلّم التدبّر في الله تعالى وآياته، والثاني هو إماتة النفس، بالمجاهدة والتهذيب الخلقي للنفس. عن الإمام علي عليه السلام في وصف حال السالك الطريق إلى الله : "قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ‏ وَأَمَاتَ‏ نَفْسَهُ،‏ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ‏ وَلَطُفَ غَلِيظُهُ‏ وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ وَتَدَافَعَتْهُ‏ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَدَارِ الْإِقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِالْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَأَرْضَى رَبَّهُ‏ "2. ومع الالتزام بهذين الركنين تُصبح البشرية على جادّة الصراط المستقيم، للإنسانية المستقيمة في سيرها نحو كمالها وحياتها الكريمة.

 
يتضمّن هذا الكتاب سلسلة من البحوث والدراسات لبعض أعلام الفكر الإسلامي الأصيل، حول الحياة والإنسان، والوظائف والأدوار الدنيوية للناس في هذه الحياة، التي تبدأ بالعلم والفكر والعقيدة الصحيحة، ولا يكتفي بتزكية النفس، بل يُهيّء النفس والروح للارتقاء بطمأنينة إلى الباري عزّ وجلّ.
 
 
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة 



1 سورة الفرقان، الآية، 44.
2  نهج البلاغة، ص 338،الخطبة 222.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

2

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم1

 
موضوعنا هو الإسلام والعلم. وبعبارة أُخرى، هو البحث في نظرة الإسلام إلى العلم. كما كان بحثنا السابق يدور حول نظرة الإسلام إلى الدنيا والحياة والنزعات الطبيعية. فهل الدّين والعلم يتّفقان أم يختلفان، كيف ينظر الدّين إلى العلم؟ كيف ينظر العلم إلى الدّين؟ إنّه لبحث طويل كُتبت فيه كتب قيّمة عديدة.
 
هناك طبقتان من الناس تسعيان إلى إظهار أنّ الدّين والعلم متخالفان:
الأولى: هي الطبقة المتظاهرة بالتديّن ولكنّها تتميّز بالجهل، تعيش على الجهل المتفشّي في الناس وتستفيد منه. إنّ هذه الطبقة، لكي تُبقي الناس في الجهالة، وتسدل باسم الدّين ستاراً على مثالبها هي، وتُحارب بسلاح الدّين العلماء لتخرجهم من ميدان المنافسة، كانت تُخيف الناس من العلم بحجّة أنّه يتنافى مع الدّين.
 
والثانية: هي الطبقة المثقّفة المتعلّمة، ولكنّها ضربت بالمبادىء الإنسانية والأخلاقية عرض الحائط. وهذه الطبقة، لكي تُبرِّر لا مبالاتها وأعمالها المنكرة، تتذرّع بالعلم وتدّعي أنّه لا يأتلف مع الدّين.
 
وهنالك طبعاً الطبقة الثالثة - وهي دائماً موجودة - لها حظٌّ من كلٍّ من العلم والدّين، ولم يُخالجها قطّ إحساس بأيّ تناقض أو تنافٍ بينهما، ولقد سعت هذه



1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن، ص534، دار الارشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009م.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

3

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 الطبقة إلى إزالة الظلم والغبار الذي أثارته الطبقتان المذكورتان لدقّ إسفين بين هذين الناموسين المقدّسين.


إنّ بحثنا في الإسلام والدّين يُمكن أن يجري من جانبين اثنين، الجانب الاجتماعي، والجانب الدِّيني. فمن حيث الجانب الاجتماعي علينا أن نبحث فيما إذا كان العلم والدّين ينسجمان معاً أو لا ينسجمان. هل يستطيع الناس أن يكونوا مسلمين بالمعنى الحقيقي، أي أن يؤمنوا بأُصول الإسلام ومبادئه ويعملوا وفق تعاليمه وأن يكونوا علماء في الوقت نفسه؟ أم هل عليهم أن يختاروا واحداً منهما؟ فإذا بحث الأمر على هذا النحو، أفلا نكون متسائلين عن رأي الإسلام في العلم، وعن رأي العلم في الإسلام؟ وكيف هو الإسلام كدين؟ هل يستطيع، اجتماعياً، احتواء الاثنين؟ أم أنّه يجب أن يتغاضى عن أحدهما؟

الجانب الآخر هو أن نتعرّف إلى نظرة الإسلام إلى العلم. ونظرة العلم إلى الإسلام. وهذا، بالبداهة، ينقسم إلى قسمين: الأول هو معرفة وصايا الإسلام وتعاليمه بشأن العلم. هل يقول إنّ علينا أن نتجنّب العلم جهد طاقتنا؟ وهل يرى في العلم خطراً ومنافساً له في وجوده؟ أم أنّه على العكس من ذلك يُرحّب بالعلم بكلّ اطمئنان وشجاعة ويوصي به ويحثّ عليه؟ ثم علينا أن نعرف رأي العلم في الإسلام. لقد مضى على ظهور الإسلام ونزول القرآن أربعة عشر قرناً، وخلال هذه القرون الأربعة عشر كان العلم يتطوّر ويتقدّم ويتكامل، وعلى الأخصّ في القرون الأربعة الأخيرة، إذ كان تقدُّم العلم بصورة قفزات واسعة. والآن فلنرَ هذا العلم بعد كلّ تطوّره ونجاحه واضطراد تكامله، ما رأيه في العقائد والمعارف الإسلامية، وفي تعاليم الإسلام الاجتماعية والأخلاقية العملية؟ ترى هل يعترف بهذه أم لا يعترف؟ وهل رفع من شأنها أم أنزله؟

إنّ كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة سيكون موضوع بحث، إلّا أنّ بحثنا هذا سيتناول قسماً واحداً منها وهو ما يتعلّق بنظرة الإسلام إلى العلم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

4

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 الإسلام يوصي بالعلم

ليس هناك أدنى شكٍّ في كون الإسلام يؤكّد على العلم ويوصي به، بحيث إنّنا قد لا نجد موضوعاً أوصى به الإسلام وأكّده أكثر من طلب العلم.
 
في أقدم الكتب الإسلامية المدوّنة نجد أنّ الحثّ على طلب العلم يأتي كفريضة، مثل الفرائض الأُخرى كالصلاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
ثم، إضافة إلى الآيات القرآنية الكريمة، نجد أنّ أهمّ وصية يوصي بها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل العلم هو الخبر الثابتة صحّته لدى جميع المسلمين، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم"1 فطلب العلم واجب على جميع المسلمين، ولا يختصّ بطبقة دون أُخرى، ولا بجنس دون آخر. كلّ من كان مسلماً عليه أن يواصل طلب العلم.
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً "اطلُبوا العِلم ولَو بالصِّين"2 أي إنّ العلم لا يختصّ بمكان معيّن، فحيثما يوجد علم عليك بالسفر في طلبه.
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "كَلِمة الحِكْمة ضالةُ المؤمن فحيث وجدَها فهو أحقُّ بها"3 أي إنّ المؤمن لا يهتمّ بمن يتلقّى عنه العلم، أهو مسلم أم كافر كمثل الذي يجد ماله المفقود عند أحدهم، فلا يسأل عمَّن يكون، بل يأخذ منه ماله دون تردُّد، كذلك المؤمن، فهو يعتبر العلم ملكه، فيأخذه حيثما وجده. والإمام علي عليه السلام يوضح هذا



1 الكليني،الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، ج7، ص30، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، مطبعة الحيدري، 1365هـ /ش/، ط2، ح1.
2  فتال النيشابوري، محمد بن أحمد، روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، نشر منشورات الرضي، إيران، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ، ج1، ص11.
3 الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، منية المريد، تحقيق وتصحيح رضا مختاري، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1409هـ، ص173.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

5

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 الأمر بقوله: "الحِكمةُ ضالَّة المؤمن فاطلُبوها ولو عندَ المُشركِ تكونوا أحقّ بها وأهلَهَا"1.

 
فطلب العلم فريضة لا يقف في وجهه متعلِّم ولا معلِّم ولا زمان ولا مكان أبداً. وهذا أرفع توصية يُمكن أن يوصي بها وأسماها.
 
أيّ علم؟
إلّا أنّ هنالك كلمة لا بدّ أن تُقال وهي: ما العلم الذي يقصده الإسلام؟ فقد يقول قائل إنّ المقصود من كلّ هذا الكلام عن العلم هو علم الدّين نفسه، أي إنّ الناس مطلوب منهم أن يطلبوا معرفة دينهم. فإذا كان العلم عند الإسلام هو علم الدّين، فإنّه يكون قد أوصى بنفسه، ولم يقل شيئاً عن العلم الذي هو الاطلاع على حقائق الكائنات ومعرفة أُمور العالم، وبذلك تبقى المشكلة كما هي، وذلك لأنّ أيّ مذهب من المذاهب، مهما يكن عداؤه للعلم والمعرفة، ويقف معارضاً كلّ اطّلاع وتقدّم فكري، فإنّه لا يُمكن أن يُخالف الاطلاع على ذاته، بل يقول: تعرّفوا عليّ ولا تتعرّفوا إلى غيري. وعليه إذا كان مقصد الإسلام بالعلم هو العلم بالدّين فحسب، عندئذٍ يكون توجّه الإسلام نحو العلم صفراً، وتكون نظرته إلى العلم سلبية.
 
إنّ العارف بالإسلام ومنطقه لا يُمكن أن يقول إنّ نظرة الإسلام إلى العلم تنحصر بالعلوم الدينية فقط. إنّ هذا الاحتمال قد ينسجم مع أسلوب عمل المسلمين في القرون المتأخّرة، حيث ضيّقوا من دائرة العلم والمعرفة وحدَّدوها. وإلّا فإنّ قوله: العلم ضالّة المؤمن، عليه أن يأخذه حيثما وجده ولو عند المشرك، يُصبح لا معنى له إذا كان المقصود بالعلم هو الدّين، فأيّ دين هذا الذي يأخذه المؤمن من المشرك؟ وكذلك الحديث "اطلبوا العلم ولو بالصين" فقد جيء بالصين على اعتبار أنّها أبعد مكان معروف في العالم يومئذٍ، أو على اعتبار أنّها كانت معروفة بأنّها مركز من



1 الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، نشر دار الثقافة، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص675.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

6

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 مراكز العلم والصناعة في العالم، ولكن الصين لم تكن قديماً ولا حديثاً مركزاً من مراكز العلوم الدينية.


بصرف النظر عن كلّ هذه فإنّ أحاديث الرسول الكريم تُحدِّد المقصود بالعلم وتُفسِّره، ولكن ليس بالتخصيص والنصّ على العلم الفلاني والفلاني، وإنّما بعنوان العلم النافع، العلم الذي معرفته تنفع وعدم المعرفة به تضرّ. فكلّ علم يتضمّن فائدة وأثراً يقبل بهما الإسلام ويعتبرهما مفيدين ونافعين، يكون ذلك العلم مقبولاً عند الإسلام ويكون طلبه فريضة.

إذن ليس صعباً أن نتحقّق من الأمر. علينا أن نرى ما الذي يراه الإسلام نفعاً، وما الذي يراه ضرراً. إنّ كلّ علم يؤيّد منظوراً فردياً أو اجتماعياً إسلامياً، وعدم الأخذ به يُسبّب انكسار ذلك المنظور، فذلك علم يوصي به الإسلام. وكلّ علم لا يؤثّر في المنظورات الإسلامية، لا يكون للإسلام نظر خاصّ فيه. وكلّ علم يؤثّر تأثيراً سيّئاً، يُخالفه الإسلام.

سيرة أئمّة الدّين
إنّنا من الشيعة، ونعترف بأنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ سيرهم وأقوالهم سنّة لنا.

من المعلوم أنّ المسلمين في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري قد تعرّفوا إلى علوم الدّنيا عن طريق ترجمتها عن اليونانية والهندية والفارسية، ونعلم من ناحية أُخرى، أنّ الأئمّة لم يتوانوا في توجيه النقد إلى أفعال الخلفاء، إذ أنّ كتبنا مليئة بهذه الانتقادات. فلو كانت نظرة الإسلام إلى العلوم نظرة سلبية معارضة، ولو كان الإسلام يرى في العلوم وسائل لتخريب الدّين وهدمه، لما توانى الأئمّة الأطهار في انتقاد عمل الخلفاء الذين أوصوا بترجمة تلك العلوم: وأنشؤوا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

7

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 لذلك الدواوين وعيّنوا المترجمين والناقلين والناسخين، لترجمة أنواع الكتب في الفلك والمنطق والفلسفة والطب والحيوان والأدب والتاريخ. لقد سبق لهم أن انتقدوا كثيراً من أعمال الخلفاء، فلو لم يرتضوا عملهم هذا لكان أجدر بالانتقاد لأنّه أعظم تأثيراً وأبعد أثراً، ولقالوا: "حسبنا كتاب الله" ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، ولم نعثر طوال المائة والستين سنة التي مضت على ذلك أيّ أثر لانتقاده.

 
منطق القرآن
ثم إنّ منطق القرآن بشأن العلم منطق عام لا تخصيص فيه، فالقرآن يصف العلم بأنّه نور، والجهل بأنّه ظلام، وهو يرى النّور خيراً من الظلام.
 
ولكنّ القرآن يطرح عدداً من المواضيع ويطلب صراحة من الناس التأمُّل فيها. وما هذه المواضيع سوى تلك العلوم التي نُطلق عليها اليوم أسماء العلوم الطبيعية والرياضية والحياتية والتاريخية وغيرها. فالآية 164 من سورة البقرة تقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي إنّ لكلّ هذه الظواهر قوانين وأنظمة تُقرّبكم معرفتها إلى وحدانية الله.
 
فالقرآن يوصي الناس صراحة بدراسة هذه الأمور، لأنّ دراسة هذه الأمور تؤدّي إلى دراسة الفلك والنجوم، الأرض والبحار، والكائنات الجوية، والحيوان وغيرها. وهذا واضح في الآية الثانية من سورة الجاثية، والآية 25 من سورة فاطر، وآيات أُخر.
 
إنّ القرآن كتاب بدأ أول نزوله بالكلام على (القراءة) و(العلم) و(الكتابة)، فكان مبدأ وحيه توجيه إلى هذه الأمور: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾1.



1 سورة العلق، الآيات 1 - 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

8

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 التوحيد والعلم

الإسلام دين يبدأ بالتوحيد، والتوحيد قضيّة عقلانية لا يجوز فيها التقليد والتسليم التعبّدي، بل لا بدّ فيه من التعقّل والاستدلال والتفلسف.

ولو كان الإسلام قد ابتدأ بالثنائية أو التثليث لما استطاع إطلاق الحرّية في هذا البحث، وما كان له إلّا أن يُعلن عنه كمنطقة محرّمة ممنوعة. ولكنّه إذ بدأ بالتوحيد، فقد أعلنه منطقة مفتوحة، بل واجبه الارتياد، ومدخل المنطقة، في نظر القرآن، هو الكائنات برمّتها، وبطاقة الدخول هي العلم والتعلّم، ووسيلة التنقّل في هذه المنطقة هي قوّة الفكر والاستدلال المنطقي. هذه هي المواضيع التي يوصي القرآن بدراستها. أمّا كون المسلمين لم يولوها اهتماماً بقدر اهتمامهم بمواضيع أُخرى لم يوص القرآن بها، فذلك أمر آخر، وله أسبابه التي لا مجال هنا لبحثها.

كلّ هذه قرائن تدلّ جميعها على أنّ نظرة الإسلام لا تنحصر بالعلوم الدينية. لقد دار نقاش طويل قديماً حول ما يقصده الإسلام بالعلم الذي يرى التزوّد به واجباً وفريضة. وراحت كلّ مجموعة تُحاول تطبيق ذلك على ذلك الفرع من العلوم الذي تُمثّله هي. فكان علماء الكلام يقولون: إنّ المقصود هو علم الكلام، وقال المفسّرون: إنّه يقصد علم التفسير، والمحدّثون قالوا: إنّه علم الحديث. وقال الفقهاء: إنّه الفقه وأنّ على كلّ امرىء إمّا أن يكون فقيهاً أو مقلّداً لفقيه. وقال الأخلاقيّون: إنّه علم الأخلاق والاطلاع على المنجيات والمهلكات. وقال الصوفيّون: المقصود هو علم السَّير والسلوك والتوحيد العملي، وينقل الغزالي بهذا الشأن عشرين قولاً غير أنّ المحقّقين يقولون: إنّ المقصود ليس أيّاً من هذه العلوم على وجه التخصيص، إذ لو كان المقصود علماً معيّناً لذكره رسول الله وعيّنه بالاسم. إنّما المقصود هو كلّ علم نافع يُفيد الناس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

9

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 هل العلم وسيلة أم غاية؟

إنّ الالتفات إلى نقطة معيّنة تحلّ لنا المسألة بحيث نستطيع أن نُدرك منظور الإسلام، وذلك بمعرفة ما إذا كان الإسلام ينظر إلى العلم كهدف أو كوسيلة.

لا شكّ أنّ بعض العلوم هدف بذاته. كالمعارف الربوبية، ومعرفة الله وما يتعلّق بذلك، كمعرفة النفس والمعاد. فإذا تجاوزنا هذه، تكون العلوم الأُخرى وسائل لا أهدافاً. أي إنّ ضرورة علم ما وفائدته لا تتحدّد بمقدار أهمّيته كوسيلة لتحقيق عمل أو وظيفة، فكلّ العلوم الدينية، باستثناء المعارف الإلهيّة، كعلم الأخلاق، والفقه والحديث، تدخل في ذلك المعنى، أي إنّها كلّها وسائل، وليست أهدافاً، ناهيك عن العلوم الأدبية والمنطق التي تُدرس في المدارس الدينية كمقدّمات.

ولهذا يرى الفقهاء في اصطلاحهم أنّ وجوب العلم وجوب مقدّمي، أي أنّ وجوبه متأت من كونه يُعدّ المرء ويُهيّؤه للقيام بعمل ما متّفق مع منظور الإسلام، حتى إنّ تعلّم المسائل العلمية في الأحكام ومسائل الصلاة والصوم والخمس والزكاة والحج والطهارة، ممّا هو مذكور في الرسائل العملية، ليس إلّا لكي يكون الإنسان متهيّئاً لأداء وظيفة أُخرى أداءً صحيحاً. فالمستطيع الذي ينوي الحج يجب أن يتعلّم ما يتعلّق بأحكامه لكي يكون مستعدّاً لأداء مناسك الحج على وجهها الصحيح.

وبعد أن نُدرك هذا علينا أن نُدرك أمراً آخر، وهو: أيّ دين هو الإسلام؟ ما أهدافه؟ ما المجتمع الذي يُريده؟ ما مدى اتساع المنظورات الإسلامية؟ هل اكتفى الإسلام بهذا العدد من المسائل العبادية والأخلاقية؟ أم إنّ تعاليم هذا الدّين قد اتّسعت لتشمل كلّ شؤون حياة البشر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإنّ له في ذلك أهدافاً يبغي تحقيقها؟ هل الإسلام يُريد المجتمع مستقلّاً، أم لا يعنيه إنْ كان 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

10

الدرس الأوّل: الإسلام ونظرته إلى العلم

 مستعمَراً محكوماً؟ ما من شكٍّ في أنّ الإسلام يُريد مجتمعاً مستقلّاً، حرّاً، عزيزاً شامخ الرأس، مستغنياً عن الآخرين.


وثمّة أمر ثالث لا بدّ من معرفته والاطّلاع عليه، وهو أنّ العالَم اليوم يدور على العلم، وإنّ مفتاح كلّ شيء هو العلم والمعرفة الفنّية، وإنّنا بغير العلم لا نستطيع خلق مجتمع غني، ومستقل، وقوي، وحرّ، وعزيز. وهذا يؤدّي بنا إلى الاستنتاج بأنّ من الواجب والمفروض على المسلمين في كلّ زمان، وعلى الأخصّ في زماننا هذا، أن يتعلّموا ويُتقنوا كلّ علم من العلوم التي تكون وسيلة للوصول إلى الأهداف السامية المذكورة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع اعتبار جميع العلوم النافعة علوماً دينية، كما نستطيع أن نعرف أيّ العلوم من الواجبات الكفائية وأيّ العلوم من الواجبات العينيّة، وكذلك نستطيع أن نعرف أنّ علماً من العلوم يُمكن أن يكون في وقت ما من أوجب الواجبات، ولا يكون كذلك في وقت آخر. وهذا بالطبع يتعلّق بميزان ذكاء الأشخاص الذين يكونون من المجتهدين في كلّ زمان ويستنبطون الأحكام لذلك الزمان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

11

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

  الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي1

 
 
مقدّمة
إنّ ما يقرأه القارىء المحترم في هذه المقالة ينبغي أن يؤخذ على أنّه مقدّمة للنظرة الإلهية والنظرة المادّية للعالَم. أمّا البحث المسهب في هاتين النظرتين فيستوجب كتاباً ضخماً. إلّا أنّنا نسعى في هذه المقالة أن تكون إطاراً للخطوط العريضة ممّا يُمكن أن يقتضيه بحث هذا الموضوع.
 
تعريف
قبل أن ندخل في الحديث عن هذين المنظورين للعالَم، يلزمنا أن نعرف ماذا يعني مفهوم (النظرة إلى العالَم).
 
من البديهي أنّنا ينبغي ألّا نأخذ تعبير (النظر) على أنّه يُرادف (الإحساس بالعالَم) فالنظرة إلى العالَم تعني معرفة العالَم، لا الإحساس به، لأنّها ترتبط بمعرفة العالَم وإدراك كنهه، وهي لهذا من خصائص الإنسان وتتعلّق بقدرة الإنسان على التفكير في الوجود كلّه وتقديره، بخلاف الإحساس بالعالَم الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان.



1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم، ص499، دار الارشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009م.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

12

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 إنّ الكثير من الحيوانات متقدّمة على الإنسان من حيث الإحساس بالعالَم، سواء أكان ذلك بسبب امتلاكها لحواسٍ يفتقر إليها الإنسان، أم بسبب أنّها تفوق الإنسان في حساسية حواسها التي تشترك فيها مع الإنسان.


الإحساس بالشيء غير معرفته، فقد نحسّ شيئاً من دون أن نعرفه، وقد نعرف شيئاً بغير أن نحسّه، بل قد نحسّ آثاره وخصائصه.

إنّ اختلاف الإنسان عن الأحياء الأخرى هو أنّ عالم هذه هو ما نحسّه فقط. أمّا الإنسان فإنّه فضلاً عن إحساسه بالعالَم فإنّه يعرفه ويُفسّره، أو في الأقل، يستطيع أن يعرفه ويُفسّره.

إنّ آلافاً من الناس قد يُشاهدون مسرحية أو حادثة اجتماعية ويحسّون بها إحساساً متساوياً، إلّا أنّ القليلين منهم يُفسّرونها ويُحلّلونها ويشرحونها، وقد يختلفون في التفسير والتحليل والشرح.

إذن فمعرفة العالَم تعني تفسير العالَم وتحليله ورسم ملامح الوجود، وبتعبير الفلاسفة: معرفة العالَم هي (صيرورة الإنسان عالَماً عقلياً يُضاهي العالَم العيني) وبتعبير بسيط، معرفة العالَم هي الانطباع العام عن عالم الوجود برمّته.

فهل يُمكن معرفة العالَم؟ هل يُمكن تفسير الوجود بكلّيته وكشف ما يجري وفقه من نظام؟ وهل وهب الإنسان وسيلة تُمكّنه من هذا العمل المهم؟ ما هي تلك الوسيلة؟ إنّ معرفة العالم أمر غير ممكن بالمرّة، وإنّ الإنسان لم يمنح وسيلة ما لذلك، وإنّ ما قيل وسمع بهذا الشأن ليس سوى حلم وخيال، (على رأي اللاأدريين) كما جاء في هذه الرباعية من رباعيات (الخيام):
إنَّ الذين أمسوا محيطاً من الفضل والأدب          وبـاتوا في جمع العلوم شمعة للأصحاب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

13

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 لم يصلوا من طريق هذا اللَّيل الحالك إلى نهار     إنَّما حكوا أسطورة وأخلدوا إلى النوم

 
تلك هي مسائل سوف نبحثها بإيجاز، ولكن الذي لا ريب فيه هو أنّ الإنسان يجد نفسه محتاجاً إلى تفسير الوجود وتحليله، وذلك لأنّ الإنسان كائن مفكّر يعي نفسه و(يختار) مسيرته في الحياة، وهذا ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالانطباع العام الذي يحمله عن الوجود والعالَم والحياة والمبدأ والمنتهى. إنّ الإنسان لا يهتم بمعرفة الأمور الجزئية التي تُحيط به ويتعامل معها في حياته اليومية، بقدر اهتمامه بمعرفة تفسير عام للوجود، وإنْ يكن بمستوى العامّة.
 
جميع الأديان والمبادىء والمذاهب والفلسفات الاجتماعية لا بدّ أن تتّكىء على نوع من نظرة إلى العالم، إذ إنّ النظرة إلى الوجود تُعتبر المظلّة الفكرية التي يستظلّ بها أيّ مذهب من المذاهب والسلوك الذي يسلكه. إنّ الأهداف التي يعرفها مذهب ما ويدعو لها ويُعيّن سبل تحقيقها، والأمور اللازمة وغير اللازمة التي يوردها والمسؤوليات التي يُقرّرها، والقيم التي يقول بها، كلّها تنشأ بالضرورة من المنظور الذي يحمله عن الوجود، ومن العقائد والآراء التي يؤمن بها.
 
أنواع معرفة العالَم
إنّ الناس من حيث نظرتهم إلى العالَم، مختلفون. فثمّة أفراد لم يرتفعوا عن مستوى الحيوانات، فليست لديهم وجهة نظر عن العالَم، فهم، كما يقول القرآن، لم  ﴿يَنظُرُواْ﴾ إلى العالَم، ولم  ﴿يَتَفَكَّرُواْ﴾ فيه. أمّا الذين لديهم بعض وجهة نظر، فهم يختلفون من حيث النظرة. وتكون هذه الاختلافات على نوعين: نوع ينطوي تحت اختلاف المنظور إلى العالَم، ونوع لا ينطوي تحت هذا الاختلاف، وذلك لأنّ بعض الاختلافات (كمِّي) وبعضها (كيفيّ).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

14

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 والاختلاف الكمّي يعني أنّ فرداً يعرف موجودات أكثر، وآخر أقل. فهذا يعرف مثلاً، الكائنات غير الحيّة فقط، وغيره يعرف الكائنات الحيّة وغير الحيّة. هذا يعرف أحوال النّجوم، أو خواص الأشياء الفيزياوية والكيمياوية أكثر، وغيره يعرفها أقل. إنّ هذه الاختلافات لا تأثير لها في ما يدعى (وجهة نظر). أي لا يُمكن القول بأنّ الشخص الذي اجتاز مرحلة أعلى في علم من العلوم يحمل (وجهة نظر) أفضل وأكمل من ذاك الذي ما زال في مرحلة أدنى من ذلك العلم نفسه. لأنّ هذا النوع من المعرفة بالعالَم - وإن ارتبط بـ(الإدراك) في مقابل (الإحساس) - لا علاقة له بنظرة الإنسان إلى العالَم، أي بتحليل عالَم الوجود وتفسيره اللذين هما أساس عمل الإنسان.


فالقول بأنّ عدد النجوم يبلغ كذا ألفاً، أو مليوناً أو بليوناً، أو القول بأنّ عدد العناصر أربعة أو مائة لا يُغيّر شيئاً من نظرة المرء الكلّية إلى العالَم، وإنْ غيَّر معرفته بجزء منه. وهذا يُشبه قولنا بأنّ معلوماتنا عن شخص ما إن كان في الأربعين أو في الستّين، وإن كانت له خمسة أصابع أو ستة في كفّه وقدميه، أو إنْ كان كثير النوم أو قليله، أو إنْ كانت فصيلة دمه (O) أو (B)، أو إنْ كان ضغطه معتدلاً أو مرتفعاً أو منخفضاً. لا يُمكن أن تُغيّر شيئاً من نظرتنا إلى هذا الشخص وانطباعاتنا عنه بالمرّة.

أمّا الاختلاف الكيفيّ، الذي صحّ أن نُسمّيه اختلاف الماهية، فيتعلّق بهيئة العالَم الكلّية. أي إنّ اختلاف شخصين في معرفتهما للعالَم لا علاقة له بالكمّ، كأن يعرف أحدهما من ظواهر العالَم أكثر ممّا يعرفه الآخر، بل إنّ علاقته بالكيف والماهية أقرب. أي إنّ منظور العالم والوجود في نظر شخص يختلف عمّا هو في نظر شخص آخر. فمثلاً هذا يرى العالم مجموعة أجزاء متناثرة غير مترابطة، وآخر يراه كالآلة التي تترابط كل أجزائها فيما بينها، وثالث يراه كائناً حياً تتصل أجزاؤه اتصالاً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

15

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 عضوياً بعضها مع بعض، هذا يرى حوادث العالَم سلسلة من المصادفات، ويراها الآخر ناشئة عن نظام العلّة والمعلول. هذا يرى نظام العالَم حكيماً، والآخر يراه عبثاً فارغاً. هذا يراه نظاماً ثابتاً، ويراه غيره نظاماً متحرّكاً جارياً. هذا يراه على وتيرة واحدة، والآخر يراه متكاملاً. هذا يراه ناقصاً معيباً، ويراه الآخر خير نظام وأتقنه، وليس في الإمكان أبدع ممّا كان، وغيره يرى إمكان وجود نظام أحسن. يراه أحدهم خيراً محضاً، ويعتبره الآخر شرّاً محضاً، وثالث يراه مزيجاً من الاثنين. هذا يرى العالَم حيّاً وشاعراً، ويراه الآخر ميتاً لا يشعر. هذا يراه متناهياً، وهذا يراه غير متناهٍ. هذا يرى للعالَم أبعاداً ثلاثة، ويرى فيه الآخر أبعاداً أربعة. هذه وأمثالها هي الأمور التي تُبدّل منظورنا إلى العالَم، وهي وأمثالها التي تؤلّف أركان نظرتنا إلى العالَم والوجود.


كذلك الأمر بخصوص معرفتنا شخصاً ما: هل هو محبّ للخير أم أنّه معقّد حسود؟ هل هو ذكي يُدرك النكتة أم أنّه أحمق أبله؟ ما هي نظرته إلى العالَم والحياة؟ ما هو أسلوبه وطريقته؟ إنّ أمثال هذه الأسئلة التي ترتبط (بشخصيّته) لا بشخصه هي التي تؤثّر في نوع نظرتنا إليه. أي كونه محبّاً للخير وذكياً وحاذقاً، يرسم له صورة معيّنة في نظرنا، ويكون مردود هذا في استجابتنا له مختلفاً عمّا لو تلقّيناه في صورة المعقّد الحقود أو الأحمق الأبله، بخلاف معرفة ضغط دمه أو صنفه أو إن كان قلبه في الجهة اليسرى المألوفة من صدره أم أنّه في الجهة اليمنى بصورة شاذة، أم أنّ له قلباً واحداً أو قلبين، فذلك كلّه لا تأثير له في صورة شخصيّته في نظرتنا، ولا في انعكاسات أفعالنا تجاهه.

هذه هي طريقة العلم فبمعرفة العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات، فبالاختبار العملي يكتشف العلّة أو الأثر، ومن ثم يسعى للوصول إلى علّة تلك العلّة أو معلولها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

16

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

  

وبما أنّ العلم يستند إلى التجربة العملية، فإنّ له مميّزاته ونواقصه. إنّ أهمّ مميّزات المعرفة العلمية كونها دقيقة وواضحة تتناول الأجزاء. إنّ العلم، بدراسته وفرضيّاته وتجاربه واختباراته قادر على إعطاء الإنسان آلاف المعلومات عن أصغر ظاهرة من الظواهر الطبيعية. إنّه من ورقة نبات صغيرة يصنع كرّاسة من المعرفة. ثم إنّه باكتشافه القوانين المتحكِّمة في أيّ كائن، يكشف للإنسان طرق الهيمنة والتسلّط على ذلك الكائن، ويكون بهذا قد أعلى دعائم الصناعة والتكنولوجيا.

ولكن العلم، على الرغم من أنّه دقيق، وواضح، ويمنح الإنسان القدرة والقوّة فإنّ دائرته ضيّقة، ولا يتجاوز حدود موضوعه الخاص. فهو يتقدّم في مجال معرفة العلل والأسباب، أو المعلولات والآثار، ثم يصل إلى حيث يقول (لا أدري). والسبب واضح. فنحن نُريد، مثلاً أن نعرف الحادث (أ) بالطريق العلمي فنبحث عن علّته، أو معلوله، أو ما يربطه بمحيطه، أو تاريخه والتحوّلات التي طرأت عليه ونعرفها، ثم نفتّش عن علّة العلّة ومعلول المعلول، وعن محيط أوسع وتاريخ أبعد، ولنفرض أنّنا قد بلغنا بكلّ ذلك، بالبحث والافتراض والاختبار، إلى مرحلة وضع القوانين العلمية، ولكنّنا مع ذلك سنواجه في نهاية المطاف سلسلة لا نهاية لها من العلل والمعلولات اللامتناهية وعبر الزمان اللامتناهي في حجم بحار من المجهولات، تتجسّد كلّها أمامنا. إنّ المعرفة العلمية أشبه بالكاشف القوي في ليلة ظلماء، يُضيء دائرة محدودة إضاءة جيّدة، بحيث إنّنا نعثر على إبرتنا الضائعة في تلك الدائرة من الضوء الساطع. إلّا أنّ ما يُضاء أمامنا لا يتعدّى تلك الدائرة المحدودة، وكلّما تقدّمنا وأضأنا الظلمات المتتالية، وجدنا أمامنا فضاء من المجهول المظلم الذي لا ينتهي.

إنّ العالَم، في المنظور العلمي، مثل كتاب قديم سقط أوّله وآخره، فلا أوّل له معروف ولا آخر له معروف، ولا يعرف مؤلِّفه، ولا يُدرى هدفه والغرض منه. فالمنظور
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

17

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 العلمي للعالَم منظور جزئي، لا كلّي، وبديهي ألا تُحيط النظرة الجزئية إلى العالَم بالمنظور الكلّي للعالَم.


وبما أنّ المنظور العلمي منظور جزئي، لا كلّي، فإنّه غير قادر على توضيح ملامح العالَم كلّها. أمّا محاولة معرفة ملامح العالَم ككل استناداً إلى القياس على الجزء فتُذكِّرنا بالمحاولة الشعبية للتعرّف إلى الفيل حيث كانوا يتلمّسونه في الظلام الدامس، محاولين تصوّر ماهيّته وشكله ممّا تلمسه أيديهم من جسمه. فالذي لمست يده أذن الفيل قال إنّ الفيل يُشبه المروحة، والذي لمس رجله قال إنّه يشبه العمود، والذي لمس خرطومه قال إنّه أشبه بالميزاب، والذي بلغت يده ظهره قال إنّه أشبه بسرير النوم.

إنّ الإنسان بحاجة إلى معرفة أكثر من المعرفة التي يمنحها العلم، بالمعنى الدقيق للعلم. من ذلك الإجابة على أسئلة مثل: من أين جاء العالَم وإلى أين يذهب؟ ما وضعنا نحن من العالَم؟ هل تُسيّر العالم قوانين ثابتة لا تتغيّر؟ هل الموجود مآله العدم، والمعدوم ممكن الوجود؟ (بالمفهوم الفلسفي للوجود والعدم). وهل يُمكن إعادة المعدوم إلى الوجود، أم أنّ ذلك مستحيل؟ هل السيادة حقّاً للوحدة أم للكثرة؟ هل ينقسم العالَم إلى ماديّ وغير ماديّ؟ هل يسير العالَم على هدى أم أنّه أعمى ولا هدف له؟ هل علاقة العالم بالإنسان علاقة أخذ وعطاء، يجزى الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة، أم أنّ ذلك لا يعنيه في شيء؟ هل الحياة الآخرة بعد هذه فانية أم خالدة؟ وأمثال هذه المسائل ممّا سبق أن ذكرنا بعضاً آخر منها، وهي مسائل ليست لها ماهية علمية، أي إنّ العلم لا يملك جواباً عنها بل يصل إلى حيث يقول (لا أعلم). مع أنّ هذه المسائل هي التي تمنح العالَم قيافته وملامحه.

من مساوىء المنظور العلمي الأُخرى، وهي ناتجة ممّا سبق ذكره، هي أنّه لا يؤثّر في توجيهنا توجيهاً مناسباً. إنّ المنظور العلمي لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك المناسب الذي يجب أن نختاره. وكذا لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك الذي (يجب) أن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

18

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 نختاره في حياتنا. أي إنّ العلم يُطلعنا إلى حدٍّ ما، على ما هو موجود، دون أن يوحي إلينا بما (ينبغي).


يقول (برتراند راسل) في كتابه عن المنظور العلمي: "في معرض بحثنا في تأثير العلم في حياة الإنسان يجب أن تُدرس ثلاثة مواضيع دراسة مستقلّة ومنفصلة بعضها عن بعض إلى حدٍّ ما: الأوّل ماهية المعرفة العلمية وحدودها، والثاني القدرة المتزايدة على التصرّف في الطبيعة الناشئة عن تطوّر العلم، والتكنولوجيا، والثالث التطوّرات والتقاليد الاجتماعية التي أوجدتها بالضرورة المؤسّسات العلمية الجديدة. لا شكّ أنّ العلم، بصفته معرفة، يُعتبر أساساً لموضوعين آخرين أيضاً، وذلك لأنّ جميع تأثيرات العلم ناشئة عن المعرفة العلمية. إنّ الإنسان، بسبب جهله بالأساليب والوسائل اللازمة، قد فشل في تحقيق آماله، وكلّما اقترب هذا الجهل من الزوال، ازداد الإنسان قرباً من دائرة التكيّف مع محيطه الماديّ ومحيطه الاجتماعي وفق المثال الذي وضعه لنفسه?. و"إنّ قدرة العلم الجديدة هذه بالنسبة إلى تعميق إدراك الإنسان، مفيدة له، وبالنسبة إلى جهله مضرّة به. وعليه، إذا أُريد للتمدّن العلمي أن يكون تمدُّناً نافعاً، فلا بدّ من ازدياد الحكمة مع ازدياد العلم".

"إنّ قصدي من الحكمة هو إدراك أهداف الحياة الحقّة، وهذا بذاته لا يأتي به العلم. وبناءً على ذلك، فإنّه على الرغم من أنّ التقدّم العلمي واحد من العناصر اللازمة للتقدّم البشري، إلّا أنّ هذا لا يضمن إيجاد تقدّم حقيقي أبداً".

خلاصة رأي (راسل) هو أنّ العلم يزيد من هيمنة الإنسان على المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي بحيث إنّه يستطيع أن يصوغهما كيفما يشاء، إلّا أنّ العلم لن يقدر أن يُلهم الإنسان هدفه الذي يُناسبه وكيف يطلبه. في الحقيقة، إنّ معرفة العالَم العلمية لا يُمكن أن تكون (منظوراً للعالَم) بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح، أي إنّها لا يُمكن أن تُعيّن للإنسان وظيفته في العالَم، وأن تكون سبباً لخيره وصلاحه، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

19

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 وبعبارة أُخرى، إنّ ما يُطلق عليه اسم النظرة العلمية للعالَم، ليس بمقدوره أن يُصبح متّكأ عقائدياً إنسانياً واقعيّاً.


إنّ من مساوىء المعرفة العلمية الأخرى هي أنّ قيمة المعرفة العلمية أقرب إلى القيمة العلمية منها إلى القيمة النظرية، في حين إنّ ما يُمكن أن يكون صانعاً للمطامح، ومولداً للإيمان، ومتّكأً عقائدياً ليس سوى القيمة النظرية. فالقيمة النظرية تعني قدرة العلم على كشف حقيقة الوجود كما هي، والقيمة العلمية تعني قدرة العلم على إعانة الإنسان على التسلّط على الطبيعة والتصرّف فيها وتغييرها على وفق مراده.

إنّ الفصل بين هذين الأمرين يبدو مستحيلاً لأوّل وهلة. فأن يكون للعلم أو للفلسفة قيمة نظرية دون أن تكون لهما قيمة علمية لا يبدو عجيباً بقدر عجبنا في أن تكون لهما قيمة علمية دون قيمة نظرية.

إنّ من العجائب في عالَم اليوم هو أنّه بقدر ازدياد قيمة العلم العلمية يوماً بعد يوم تنخفض قيمته النظرية. إنّ الذين يتدفؤون بنار العلم من بعيد يظنّون أنّ تقدّم العلم ناشىء من استنارة الضمير الإنساني ومن الإيمان والاطمئنان بأنّ الواقع هو هذا الذي تنطبع صورته في مرآة العلم وتقدّمه الذي لا يُمكن إنكاره. غير أنّ الأمر على العكس من ذلك.

يقول (برتراند راسل) في كتابه الآنف الذكر، بعد أن يشرح نماذج من الأساليب العلمية في البحث وخصائصها، والحدود التي يدور فيها بحث علمي حول ما وراء الطبيعة: (أرى أنّ العالَم مجموعة من منطلقات تفتقر إلى وحدة لا ثباتَ لها ولا نظام ولا ترتيب، وتخلو من أيّ محتوى آخر يودّي إلى علاقة حبٍّ وتعلّق. في الواقع لو تغاضينا عن التعصّب والعادات، فمن النادر أن نستطيع الدفاع حتى عن وجود العالَم نفسه. وهذا بالطبع يشمل نظريّات الفيزيائيّين الأخيرة... فكيف ينبغي أن نُفكّر في الشمس اليوم؟ لقد كانت الشمس فيما مضى مصباح السماء النيِّر، وآلهة الأفلاك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

20

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 ذات الشعر الذهبي، ولكنّها اليوم ليست سوى أمواج من الاحتمالات. فإذا سألتم: ما هي هذه التي تدعونها احتمالات أو في أيّ محيط تسير هذه الأمواج؟ لأجابك الفيزيائي كالمجنون: لقد سمعنا كثيراً من هذا الكلام. لنفرض أنّنا أخذنا المسألة مأخذاً آخر، فماذا حينئذٍ؟ مع ذلك، إذا كنتم تُصرّون، سوف يُجيبكم قائلاً: إنّ الأمواج موجودة في معادلته والمعادلة في فكره).


ثم يقول أيضاً: "إنّه لأمر يدعو إلى العجب، ففي الوقت الذي نجد أكثر العلوم واقعية، الفيزياء، قد تخلّى عن المنطق العلمي، وبدلاً من أن يضع الإنسان في عالم صلد نيوتني، يجعله في قبال عالم خيالي وغير واقعي، لقد أصبح العلم أوفر ثمراً وأقوى من أيّ عصر مضى لكي يُقدّم للحياة الإنسانية نتائج أفضل".

إنّ انفصال العلم عن الفلسفة هو الذي جاء بخسائر لا يّمكن تلافيها. وهكذا نجد أنّ (الفلسفة العلمية) تلك الفلسفة التي تستند إلى بحوث جزئية وفرضيات واختبارات، يصل بها الأمر في النهاية إلى الاعتماد كلّياً على الحواس. فما مصير فلسفة كهذه؟ ليس هنا مجال تفصيل هذا الموضوع.

من نواقص المعرفة العلمية الأخرى هي أنّها من حيث وجهة نظرها الواقعية، وفي تلك الحدود التي تظهرها فيها، تبدو في مركز متزلزل غير ثابت. إنّ ملامح العالَم تتغيّر يوماً بعد يوم من حيث المنظور العلمي، وذلك لأنّ العلم يقوم على البحوث والفرضيات والاختبار، لا على البديهيات الأولية العقلية والأصول الثابتة التي لا تتغيّر. إنّ القوانين التي تستند على الفرضية والاختبار ذات قيمة مؤقّتة. وهي دائماً عرضة لظهور قوانين تنسخها. وبما أنّ المنظور العلمي للعالَم غير ثابت، فهو لا يصلح لأن يكون مرتكزاً عقائدياً. فالعقائد لا تكون عقائد حقّاً إلّا إذا استمسك بها الأفراد استمساكاً هو الإيمان المنظّم. والإيمان يتطلّب مرتكزاً ثابتاً لا يتزحزح، مرتكزاً يصطبغ بصبغة الخلود، ولذلك فإنّ المنظور العلمي لا يُمكن أن يكون هذا المرتكز بالنظر لمكانته المؤقّتة غير الثابتة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

21

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 منذ (هيـكل) طرحت فرضية تكامل الحقيقة. وهي فرضية ذات مفهوم خاص في الفلسفة الهيكلية، تعتمد صحّتها أو عدم صحّتها على صحّة الفلسفة الهيكلية أو عدم صحّتها بكلّيتها. وهذا ما لا نُريد الخوض فيه.


إنّ الذين لا يؤمنون بالفلسفة الهيكلية يسعون إلى التوسّل بفرضية تكامل الحقيقة لتعليل نواسخ الفرضيات العلمية. لقد سبق لي أنْ بحثت أُصول الفلسفة الواقعية في مقالة سابقة، وأثبتّ متى يكون مفهوم تكامل الحقيقة صحيحاً ومتى لا يكون.

لقد ظهر ممّا قُلناه أنّ النظرة إلى العالَم، إذا أُريد لها أن تزجر بالمطامح وأن تبني الإيمان ولكي تكون مرتكزاً للأيديولوجية، عليها أولاً أن تتجرّد من التحديدات التي تلازم المعرفة العلمية، وأن تُجيب على المسائل الخاصّة التي تطرحها المعرفة والتي تتعلّق بالعالَم كلّه من حيث الهيئة والماهية. وعليها ثانياً أن تتبنّى معرفة خالدة يعتمد عليها، لا معرفة مؤقّتة وسريعة الزوال. وثالثاً أن تكون لها قيمة نظرية ذات منظور واقعي، لا أن تكون عملية وفنّية فحسب. كما ظهر أيضاً أنّ المعرفة العلمية تفتقر إلى كلّ هذه المزايا، على الرغم من مزاياها المتعلّقة بجوانب أُخرى. وعليه، فإنّ المعرفة العلمية لا تستطيع أن تمنح الإنسان معرفة بالعالَم بالمفهوم الخاص، وتُجيب على تساؤلات الإنسان الذي يُريد تفسيراً عامّاً للوجود وتحليلاً شاملاً له.

إنّ جميع الذين تحدّثوا عن معرفة العالَم العلمية، أو أطلقوا على فلسفتهم اسم (الفلسفة العلمية)، تراهم، بعد التمحيص، قد ولجوا أماكن لا يضع العلم قدمه فيها. إنّهم استغلّوا أوجه شبه سطحية بين بعض فرضيّاتهم وبعض المعطيات العلمية، فأطلقوا على فلسفتهم خطأً اسم الفلسفة العلمية، وسمّوا نظرتهم إلى العالَم نظرة علمية. وهنا ينبغي ألّا ننسى التأثير الإعلامي لهذه التسميات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

22

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 المنظور الفلسفي

على الرغم من أنّ معرفة العالَم معرفة فلسفية لا تملك دقّة المعرفة العلمية، فإنّها من جهة أُخرى، تستند إلى (أُصول)، هي أولاً أُصول بديهية وذات قيمة نظرية مطلقة، وهي، ثانياً، عامّة وشاملة، وهي ثالثة ثابتة وغير قابلة للتغيير. وبالطبع فإنّ المنظور الفلسفي للعالَم مقنع، وثابت، شامل، وغير محدود.

وبخلاف المنظور الفلسفي للعالَم يُجيب على كلّ تلك المسائل التي تضمّ العالَم في كلّياتها، وتُميّز هيئته وملامحه، وتُقيم أُسس الأيديولوجية الإنسانية. أو أنّها تُقوّضها من جذورها.

إنّ كلا المنظورين العلمي والفلسفي مقدّمتان للعمل، ولكن بصورتين مختلفتين. فالمنظور العلمي مقدّمة عمل من حيث كونه يمنح الإنسان القوّة والقدرة على التصرّف في الطبيعة واستخدامها حسبما يشاء، أمّا المنظور الفلسفي فهو مقدّمة عمل من حيث كونه يُعطي نظرة الإنسان إلى الوجود شكلاً خاصّاً، ويمنحه المثال، أو يسلبه مثاله، ويؤثّر في طراز مواجهة الإنسان للعالَم وفي ردّ فعله إزاءه، ويُعيّن موضعه فيه وفي المجتمع، ويُسبغ على حياته معنىً خاصّاً، أو أنّه يُجرّد حياته من كلّ معنى، ويجرّ الإنسان نفسه إلى العبثيّة والعدم.

أمّا المسائل الأخرى من قبيل: هل ثمّة فلسفة مستقلّة عن العلم؟ ما الأُسس التي تستند عليها؟ وما هي معايير الصحيح وغير الصحيح منها؟ فهذه مسائل سبق أن تكلّمنا عنها في مناسبات سابقة.

المنظور الديني
إذا اعتبرنا كلّ وجهة نظر عامّة حول العالَم والوجود، أي في المسائل التي تدور حول ماهية الوجود ككل وشكله وصورته، ناشئة من المنظور الفلسفي، بصرف النظر عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

23

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

  

مبدأ هذا المنظور، أهو يستند إلى القياس والبرهان والاستدلال، أم أنّه يتلقّى الوحي من عالم الغيب، فلا بدّ لنا أن نعتبر المنظور الديني ضرباً من ضروب المنظورات الفلسفية، فكلا المنظورين الفلسفي والدّيني لهما حدود متشابهة، مهما اختلفت محتوياتها.

ولكن إذا أخذنا مبدأ المعرفة بنظر الاعتبار، على أنّ أحد مبادىء المعرفة هو العقل والمقولات العقلية، والمبدأ الآخر هو الوحي والإلهام، فلا يبقى ثمّة شكّ في أنّ المنظورين الفلسفي والديني منظوران مختلفان، كلّ ما في الأمر هو وجود جوانب في المنظور الفلسفي تختلف كلّ الاختلاف عمّا هي عليه في المنظور الدّيني، كما أنّ فيهما جوانب أُخرى يقترب بعضها من البعض الآخر.

في بعض الأديان، كما في الإسلام، يصطبغ المنظور الدّيني بصبغة فلسفية عقلية استدلالية. فالقرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والأئمّة الأطهار عليهم السلام تستند استناداً كبيراً إلى العقل وقواعد المنطق والبرهان في المسائل الفكرية والعقائدية، كمسألتي المبدأ والمعاد. وعليه فإنّ المنظور الإسلامي، في الوقت الذي لا يخرج عن كونه منظوراً دينياً، لا يبعد كثيراً عن كونه منظوراً فلسفياً عقلانياً.

إنّ من مزايا المنظور الدّيني، التي يفتقر إليها المنظور العلمي والمنظور الفلسفي المحض، هي أنّه فضلاً عن ميزة الخلود والشمول، فإنّه يُضفي القداسة على القواعد الفكرية التي ينتظم العالَم من خلالها، فإذا علمنا أنّه لا بدّ للأيديولوجية من أن تكون على شيء من حرارة الإيمان والانتساب إلى مذهب ذي حرمة وقداسة بين المذاهب يتبيّن عندئذٍ أنّ النظرة إلى العالَم تُصبح قاعدة تستند إليها الأيديولوجية التي تصطبغ بالصبغة الدّينية.

يتّضح ممّا تقدّم أنّ أيّ منظور إلى العالَم لا يُمكن أن يكون قاعدة متينة ومتماسكة لأيّ أيديولوجية إذا لم يكن يمتاز بالسعة، وقوّة الفكر، والفلسفة وتقديس القيم الدينية واحترامها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

24

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 النظرة الإلهية والنظرة الماديّة

أين يكمن اختلاف النظرية الإلهية عن النظرية الماديّة؟ ماذا يقول الإلهي وماذا يقول المادّي؟ ما الموضوع الذي يدور حوله بحثُ هاتين النظريتين عند كلٍّ منهما؟

إنّ جواب هذا التساؤل بسيط جدّاً. إنّ البحث يدور حول الوجود وواقعه. يرى المادّي أنّ الواقع في المادّة، في كلّ ما هو جسم وله طول وعرض وعمق، في كلّ ما يُمكن الإحساس به، في كلّ ما هو مكاني وزماني، في كلّ ما هو متغيّر، وما هو فانٍ، وما هو محدود ونسبي. وهو لا يعترف بأيّ واقع وراء هذه. أمّا الإلهيّ فلا يرى الواقع محصوراً في هذه الأمور، بل يؤمن بوجود واقع آخر غير مادّي وغير محسوس مجرّد عن الزمان والمكان، واقع ثابت وخالد ومطلق أيضاً.

يرى المفكر المادّي أنّ القوى والنظم التي تحكم الواقع هي الروابط والطاقات المادّية، وفي نظر المفكِّر الإلهي، فإنّه يقع أيضاً إضافة إلى تلك، تحت حكم أنظمة وقوى غير مادّية.

وعليه، فإنّ المذهب المادّي مذهب انحصاري، سواء من حيث الواقع أو من حيث النظر والقوى التي تتحكّم فيه. أمّا المذهب الإلهي فيُعارض الانحصار في كليهما.

التهرّب من الصيغة الصحيحة
إنّ ما يُثير الحيرة والتساؤل بهذا الخصوص هو تهرّب المادّيين من طرح القضية بصيغتها الحقيقية الأصلية، فهم يحاولون دائماً تجنّب وضع المسألة بصورتها الأصلية، بل يخفون صورتها الأصلية ويعرضون المسألة بصورة بديلة ومغايرة.

إنّهم يعرضون المسألة عادةً على أنّ القضية الفلسفية الرئيسة هي: هل المادّة أقدم أم الفكر؟ هل الماهية أقدم أم الوجود؟ إنّ الذين يرون المادّة أقدم من الفكر والماهية أقدم من الوجود هم الفلاسفة المادّيون أمّا الذين يُقدّمون الفكر على المادّة ويرون أنّ الفكر هو الذي سبق الوجود، فهم الإلهيون والميتافيزيقيّون.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

25

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 يقول (إنجلز): "إنّ المسألة الكبرى في الفلسفة، وبخاصّة الفلسفة المعاصرة، فيما يتعلّق بالفكر والوجود، هي المادّة. وإنّ الفلاسفة الذين يُجيبون عن هذه المسألة ينقسمون إلى مجموعتين كبيرتين. مجموعة ترى أنّ الروح أسبق من الطبيعة، وعليه فإنّهم يتقبّلون فكرة خلق الكون بشكل ما، ويُمثّلون المعسكر المثالي، أمّا الذين وضعوا الطبيعة قبل الروح، فينتمون إلى المعسكر المادّي".


إنّ ما يقوله (إنجلز) هنا يتكرّر في كتب المادّيين. يقول (أفانا سيف) في أُصول الفلسفة الماركسية:
"إذا دقّقنا النظر في العالَم الذي يُحيط بنا، لرأينا أنّ كلّ موجوداته ومظاهره إمّا أن تكون مادّية، أو معنوية وروحية وفكرية. والمظاهر المادّية هي تلك الأشياء العينية، أي التي لها وجود خارجي بمعزل عن فكرة الإنسان وإدراكه. أمّا ما هو موجود في فكر الإنسان فمشمول بالنشاط النفسي ويرتبط بالجانب المعنوي والفكري. والآن فلننظر ما الرابط الذي يربط بين المادّي والمعنوي. هل يظهر المعنوي والفكري من المادّي أو بالعكس؟ إنّ قضية ماهية هذا الارتباط، أعني ما يربط الفكر والروح بالوجود المادّي قضية رئيسة من قضايا الفلسفة.

إنّ لقضية الفلسفة الرئيسة جانبين: الجانب الأول يتناول البحث في أيّهما أقدم، المادّة أو الفكر، هل المادّة هي التي تخلق الروح، أو العكس هو الصحيح؟ أمّا الجانب الآخر فيدور حول السؤال: هل يُمكن معرفة العالَم؟".

(بالغور) في محتوى قضية الفلسفة الرئيسة يُمكن أن نُدرك بسهولة أنّ هناك لحلّها وجهين متناقضين من حيث الأساس، وهما: إمّا القول بتقدّم المادّة، وإمّا القول بتقدّم الفكر. وهذا هو السبب في وجود وجهتي نظر قديمتين في الفلسفة: المادّية والمثالية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

26

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 إنّ الذين يُقدّمون المادّة ويؤخّرون الفكر على اعتبار أنّ هذا وليد المادّة فهم أصحاب المذهب المادّي، وهم يرون أنّ المادّة خالدة، ولم تُخلق، وليس هناك أيّ قوى خارقة للعادة خارج هذا العالَم، وأنّ الروح وليدة تكامل المادّة وهي من خصائص الجسم المادّي الفائق التطوّر كدماغ الإنسان.


أمّا الفلاسفة الذين يُقدّمون الروح، فهم من أتباع المثالية ويقولون إنّ الإدراك أقدم من المادّة وجوداً، وهو الذي خلق المادّة ووهبها الحياة. إنّ الإدراك هو أساس الوجود ومنبعه. أمّا أيّ إدراك هو الذي خلق العالَم، فإنّ آراء المثاليّين تختلف فيه. فالمثاليّون الفكريّون يرون أنّ العالَم من خَلَقَ إدراك الفرد الإنساني. أمّا المثاليّون العينيّون فيرون أنّ العالَم قد خلقه إدراك عيني (موجود خارج الإنسان). وهذا ما يُعرف عند الفلاسفة بالمثال المطلق، ويُسمّى أحياناً بالإرادة العالمية، وغير ذلك).

ترى لما يطرح المادّيون المسألة هكذا؟ لماذا يعتبرون نظرية إنكار التحقيق العيني للوجود ولا جدوائيّته (أي المثالية الفكرية على حدّ قول أفانا سيف)، وهي في موضع التقابل مع الفلسفة بالنظر لأنّ الواقعية هي التي تُشكّل أساس الفلسفة نظاماً فلسفياً؟ لماذا ينظرون إلى مجموعة من المسائل التي تتعلّق بقضايا المعرفة ولا تربطها رابطة بكون الأشياء عينية أو غير عينية، كذلك المسائل التي يطرحها (كنت) و(هيكل) في مسألة المعرفة، ينظرون إلى كلّ هذه الأمور على أنّها تنطوي تحت عنوان الواقعية وإنكار العالَم الخارجي؟ لماذا يُصرّون على استعمال كلمات مثل (الروح) و(الإدراك) ممّا يصدق على الإنسان فقط، فيُطلقونها على الله، فكان من أثر الخصوصية الإنسانية في هذه الكلمات أن امتنع الفلاسفة الإلهيّون من إطلاقها على الله، ترى ما هي أسباب هذه الأمور وأسرارها؟

إنّ السرّ في كلّ ذلك واحد، وهو تحريف الأفكار، والخوف من مواجهة الصورة الواقعية للمسألة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

27

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 هل سبق لكم أنْ سمعتم أنّ حكيماً أو متكلّماً أو نبيّاً قد جعل من مسألة تقدّم الفكر على الوجود أو الإدراك على المادّة، وسيلة للدفاع عن مذهبه؟ أثمّة تلازم بين النظرية الإلهيّة عن الوجود وتقدّم الإدراك على المادّة؟ هناك عدد من الفلاسفة الإلهيّين يقولون بأنّ الروح حصيلة الحركة الجوهرية في المادّة والطبيعة، كما أنّهم لا يرون تناقضاً بين تقدّم المادّة على الإدراك وأصالة الروح وخلودها وتجرّدها بمثل ما ليس هناك أيّ تلازم بين النظرية المادّية، أي إنكار الله وما وراء الطبيعة من جهة وتقدّم المادّة على الإدراك بالمفهوم الذي يذكره (إنجلز) وأتباعه. (برتراند راسل)، مع أنّه مادّي ينكر وجود الله وما وراء الطبيعة ولا يؤمن بالدّين، إلّا أنّه فيما يتعلّق بالعلاقة بين المادّة والإدراك يُدلي بآراء يُستفاد منها قوله بتقدّم الإدراك على المادّة، ويدّعي بأنّ الفيزياء الحديثة قد توصّلت في آخر نظريّة لها إلى هذه النقطة.


سبق أن أشرنا إلى رأيه بشأن العالَم، حيث قال: "إنّ العالم، في رأيه، ليس سوى مجموعة من النقاط والطفرات التي تفتقر إلى الوحدة، وإلى الدوام، وإلى النظام والترتيب، وإنّه خالٍ من أيّ محتوى يؤدّي إلى علاقة حبٍّ وتعلّق".

وعليه فإنّ ما نُدركه من العالَم من صور على شكل أبعاد، ووحدات واستمراريات، ونظم، ليست سوى أفكار لا علاقة لها بعالَم الواقع، حسب قول (راسل).

لقد قال أيضاً: "إذا تغاضينا عن التعصّب والعادات، فمن النادر أن نستطيع الدفاع عن وجود العالَم نفسه، إذ إنّ النظريّات الفيزيائية تضطّرهم إلى ملاحظة ما ذُكر?.

إذا لم تكن هذه هي المثالية، فما عساها تكون؟ يبدو أن ليس هناك ما يمنع من أن يكون المرء مثاليّاً، وينكر وجود الله وما وراء الطبيعة، في الوقت نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

28

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 لقد قال أيضاً: "إنّ الشمس، في نظر فيزيائي اليوم، ليست أكثر من أمواج من الاحتمالات. فإذا سألتم: ما هذه التي تدعونها احتمالات؟ أو في أيّ محيط تسير هذه الأمواج؟ لأجابك الفيزيائي كالمجنون: لقد سمعنا كثيراً من هذا الكلام. لنفرض أنّنا أخذنا المسألة مأخذاً آخر، فماذا حينئذٍ؟ مع ذلك، إذا كنتم تُصرّون، سوف يُجيبكم قائلاً: إنّ الأمواج موجودة في معادلته، والمعادلة في فكره".


فهل يختلف ما قاله (أفانا سيف) عن (المثالية الفكرية) بشيء عن هذا الذي يقوله هذا الفيزيائي والرياضي الذي يُنكر وجود الله وما وراء الطبيعة بمادّيته المنتمية إلى القرن العشرين؟

يتّضح إذن إمكان تقديم المادّة على الإدراك، أي اعتبار المادّة بمثابة الأم، والإدراك وليدها. والانتماء، في الوقت نفسه، إلى الفلسفة الإلهيّة، بل والقول بأصالة الوجود وبأسبقية الفكر، كما هي حال بعض الفلاسفة، مثل صدر المتألّهين.

كذلك يتّضح إمكان اعتبار الإدراك أصلاً، والشكّ في الوجود العيني لما وراء الإدراك، أو إنكاره وفي الوقت نفسه إنكار الله وما وراء الطبيعة، كما هي حال (راسل) وأمثاله.

يُمكن القول إذن إنّ المقياس الرئيس في الاختلاف بين المذهب الإلهي والمذهب المادّي هو (خلق العالَم). فالإلهي يرى العالَم مخلوقاً، والمادّي يراه غير مخلوق.

غير أنّ هذا المعيار ليس صحيحاً أيضاً. صحيح أنّ الإلهي يرى العالَم مخلوقاً، إلّا أنّه ليس من الضروري أن يعتبره المادّيون غير مخلوق، فالمادّية الجديدة، أي المادّية الجدلية، تدّعي، وفق المنطق الجدلي، أنّ العالَم (صيرورة) لا (كينونة)، وأنّ العالَم (جريان) وليس شيئاً ذا جريان، وأنّ هذه (الصيرورة) أو (الجريان) ناشئة عن التناقض الذّاتي في الأشياء. وعلى ذلك فإنّ العالَم، كما يقول ماركس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

29

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 (ذاتي الخلق)، يخلق نفسه بنفسه، وإنّه كما يقول (ماركس) أيضاً، (تناسلي ذاتي السير) أي إنّ العالَم في حالة تخلّق دائم، وفي حالة نموٍّ ذاتي.

 


إنّ الإلهيّين يدّعون أيضاً أنّ العالَم في حالة تخلّق مستمر، فالخلق ليس أمراً (آنياً) حدث في الماضي وانتهى، بل هو حدث تدريجي مستمر، أي أنّ العالَم في حالة (صيرورة) مستمرّة. إنّ العالم في حالة دائمة من الحدوث والفناء. إنّه حدوث دائم ومستمر، وبما أنّه في حالة حدوث دائم ومستمر، فإنّ أيّ مرحلة منه ليست في مرحلة سابقة ولا في مرحلة لاحقة، وعليه لا يكون العالَم (ذاتي الخلق) ولا في حالة من (التناسل الذّاتي السير) فلا يُمكن أن يكون العالَم علّة وجوده. إذن لا بدّ من وجوده علّة خالدة ذات إحاطة شاملة هي التي تحفظ استمرارية وديمومة وجود العالَم.

وعليه فالمعيار ليس كون العالَم إلهيّاً أو مادّياً، مخلوقاً أو غير مخلوق.

إنّ المادّيين، لكي يزيدوا من إخفاء وجه المسألة الحقيقي، يطرحون أسساً أُخرى غير ذلك الأساس الذي قالوا عنه إنّه (المسألة الفلسفية الأساس)، والذي يصطلح عليه أنّه يختصّ بالمنطق ويُبيّن ما بين المذهبين من اختلاف.

يقول (ستالين) في رسالة حول المادّية الجدلية: "إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، لا يعتبر الطبيعة مجموعة من المصادفات والمظاهر المفكّكة والمجزّأة التي لا يرتبط بعضها ببعض، بل على العكس، يرى الطبيعة مجموعة أشياء في وحدة تامّة ومظاهر يرتبط بعضها ببعضها الآخر ارتباطاً آلياً متسلسلاً...".

"إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا التي تعزو للطبيعة حالة من الركود والسكون وعدم التغيّر، يرى الطبيعة متحرّكة وفي حالات تحوّل متتالية وفي تكامل وتقدّم دائمين...".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

30

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 "إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، يرى أنّ سير التكامل يجري جرياناً بسيطاً في النشوء والارتقاء ولا تنتج تغيّراته الكمّية تحوّلات كيفية واضحة ومهمّة".


"إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، يرى أنّ في الأشياء والظواهر في الطبيعة تناقضاتها الداخلية، وذلك لأنّ لكلٍّ منها قطباً سالباً وآخر موجباً، لها ماضٍ ولها مستقبل.

إنّ الأسلوب الجدلي يعتقد أنّ جريان تكامل الدّاني إلى العالي ليس نتيجة لتكامل الظواهر واتساعها وانسجامها، بل على العكس من ذلك، يرى ذلك نتيجة التناقضات الكامنة في الأشياء والظواهر فيحدث ما يحث على أثر الصراع بين ميول المتناقضات على أساس التضاد الموجود بينها... ".

أما إذا أردنا أن نسمع عن المذهب الإلهي، أو المذهب الميافيزيقي، فيجب أن نتقبّل (تعبّدياً) كثيراً من الأشياء التي لا تعرف روحنا ولا روح أيّ إلهي آخر. علينا أن نقبل بأنّ الميتافيزيقيّين لا يعترفون بوجود عالَم عيني، أوّلاً، وأنّ أجزاء العالَم منفصلة لا رابط بينها، ثانياً، وأنّ العالَم ثابت لا حركة فيه وغير قابل للتغيير، ثالثاً، وأنّ التغيّرات التكاملية تسير على وتيرة واحدة ولن تبلغ حدّ الطفرة أبداً، رابعاً، وأن ليس في العالم تناقض، خامساً، وعلى فرض وجود تناقض، ما، فإنّه ليس تناقضاً ذاتياً بصورة صراع بين الجديد والقديم.

لا بدّ للميتافيزيقيّين أن يتقبّلوا بأنّ هذا طراز تفكيرهم، وأنّ هذه هي نظرتهم إلى العالَم، على الرغم من أنّهم لا يعلمون لحدّ الآن أنّهم يُفكّرون وينظرون إلى هذا العالَم وفق هذا المنحى من التفكير. فلو أراد هؤلاء أن يعرفوا كيف يرون العالَم، عليهم أن يستعيروا نظّاراتهم من أيدي المادّيين والديالكتيكيين، إذ إنّهم بنظّاراتهم لا يستطيعون أن يروا العالَم ميتافيزيقياً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

31

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 تحضرني الآن حكاية (قاضي بلخ)، وهي تدور حول رجل طال غيابه عن بلدته، فحكم القاضي بموته واتّفق أنْ ظهر الرجل بعد ذلك بأيام، فقبض عليه رجال القاضي وألقوه في التابوت بالقوّة وحملوه وساروا به إلى حيث يدفنونه، وكلّما رفع صوته بالصراخ بأنّه حيّ، إلى أين تذهبون بي؟ كانوا يردّون قائلين إنّك مخطىء. لقد قال القاضي إنّك قد مُتّ، فأنت ميت ويجب دفنك.


فالميتافيزيقيّون لا يحقّ لهم أن يقولوا: إنّنا واقعيّون، وأقدر منكم على إثبات أصالة الوجود، وإنّنا نحن وحدنا القادرون على إثبات ذلك. ولا يحقّ لهم كذلك أن يقولوا: إنّنا لم نقل إنّ أجزاء العالَم منفصلة بعضها عن بعض. بل إنّ، ظهور نظرية وحدة العالَم وترابط أجزائه ترابطاً آلياً مرجعه إلينا، لأنّنا نحن الذين قُلنا إنّ العالَم كائن حيْ، كالإنسان، وإنّ مذهبنا هو وحده الذي يحقّ له القول بوجود رابط آلي يربط جميع أجزاء العالَم.

والإلهي لا يحقّ له أن يقول إنّ أعلى النظريّات في حركة العالَم بل إنّ حركة العالَم نفسها قد ظهرت على يدي، وإنّ مذهبنا هو القادر على إثبات كون العالَم جرياناً وليس شيئاً جارياً.

ولا يحقّ له أيضاً أن يقول: إنّ ما تسمّونه تبديل التغيير الكمّي إلى تغيير كيفيّ، نحن سبقناكم إليه قبل سنوات، بل قرون، بصيغته الصحيحة، وهي (إنّ التغييرات الكيفية مقدّمات لتغييرات كمّية) أمّا ما يقوله علم الحياة بشأن تكامل الأحياء، فإنّه نظرية جديدة لا علاقة لكم بها.

ولا يحقّ له أن يقول: إنّنا نحن أول من اكتشف الدور الأساس الذي يُمثّله التناقض في العالَم. وإذا تغاضينا عن سلسلة الأخطاء التي وقعتم فيها بأنّكم اعتبرتم التناقض نفسه عاملاً حركياً، من دون الالتفات إلى عوامل التناقض، ومن دون الالتفات إلى أنّ دور التناقض دور ثانوي، ومن دون الالتفات إلى أنّ عوامل التناقض وقواه هي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

32

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 نفسها معلولات لحركة العالَم وتحوّلاته وتغيّراته. لذلك فالتناقض لا يُمكن أن يكون وجهاً للحركة. بل إنّ التحرّكات والتحوّلات هي التي تؤدّي إلى ظهور التناقض والقوى المتناقضة، وهذه بدورها تُصبح عاملاً من عوامل تسريع التحرّك.


نعم، لا يحقّ للميتافيزيقي أن يُردّد تلك الأقوال، لأنّه إذا ردّدها على لسانه، فما يكون من أمر هذه الاعتراضات (العلمية) الكثيرة التي ترد على أقواله؟.

ولا يحقّ للميتافيزيقي أن يسأل: كيف يُمكن لي، بعد إنكاري العالَم العيني، أن أصفه بأنّه على صورة أجزاء مفكّكة ومفصّلة؟ ولا يحقّ له أن يسأل: كيف، وأنا أُنكر وجود العالَم، أقول إنّه ثابت لا يتحرّك؟.

ولا يحقّ للميتافيزيقي أن يسأل: كيف يُمكن أن أعتبر العالَم ساكناً وراكداً وغير متغيّر، ثم أقول إنّ سير التكامل يجري جرياناً بسيطاً في النشوء والارتقاء، ولا تنتج تغيّراته الكمّية تحوّلات كيفيّة؟

نعم، لا يحقّ له الكلام على أيٍّ من هذه المسائل، لأنّ القاضي هذا حكم، ولا مردّ لحكم القاضي، ترى لماذا لا يملك المادّيون، وعلى الأخصّ المادّيون الجدليون، الجرأة على المواجهة المباشرة؟ لماذا لا ينقلون كلام الآخرين على حقيقته وينقدونه؟ لماذا (يقتلون القتيل ثم يبكون عليه) أي يحرفون الكلام ومن ثم يبدؤون بنقده؟ لماذا لا يثقون بأنفسهم وبأسلوبهم.

تعالوا نضع كلّ مذهب في قِبال الآخر بكلِّ صراحة وجرأة، ونُقيِّمه على وفق الأُصول العلمية والمنطقية.

هل المذهب الإلهي يعني إنكار الطبيعة؟ أم يعني إنكار قوانين الطبيعة؟ أم هو إنكار قانون العلّة والمعلول؟ أم إنكار قانون الحركة؟ أم ينكر تأثير أجزاء الطبيعة بعضها ببعض، أم أنّه لا يرى العالَم كلّاً لا يتجزّأ؟ أم أنّه ينفي التكامل؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

33

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

  

أو على العكس، إنّ الإلهي لا يرى الوجود منحصراً بالطبيعة، ولا يرى أنّ قوانين الفيزياء والكيمياء هي وحدها التي تحكم الوجود، ويرى أنّ العالَم كل مدرك، وأنّ له ماهية تبدأ (منه) وتنتهي (إليه).

إنّ الفرق بين الإلهي والمادّي كالفرق بين العالِم النفسي والمحلِّل النفساني. فقبل أن يكتشف المحلِّل النفساني حدود الوعي الباطن، لا تكون نفس الإنسان في نظر العالم النفسي سوى سلسلة من الإدراكات، والأحكام، والاستدلالات، والغرائز، والعواطف، والميول، والرغبات، والإرادات، وهي جميعاً ممّا يحسّ بها الإنسان. وبعد ظهور المحلّل النفساني، اكتُشفت مناطق أوسع أُطلق عليها اسم (اللاوعي أو اللاشعور). ودنيا اللاوعي هذه أوسع بكثير من دنيا الوعي والشعور وأعظم، وتُسيطر عليه. فالمحلِّل النفساني لم ينف منطقة علم النفس السابقة، بل إنّه أخرج واقع النفس الإنسانية من حدود منطقة الوعي، وهو كذلك لم ينف قوانين دنيا الوعي، ولكنّه توصّل إلى سلسلة من القوانين الأخرى الخاصّة باللاوعي والمسيطرة على قوانين دنيا الوعي.

طريق المعرفة
الشيء المهمّ هنا هو كيف يتعرّف الإلهي إلى عالَم يقع وراء العالَم المحسوس، نسبته إلى العالَم المحسوس كنسبة دنيا اللاوعي إلى دنيا الوعي، بل أكثر، كمثل (الشيء) إلى (الفيء) أو كنسبة العاكس إلى المعكوس، أو الشعاع إلى مصدر النّور؟ تُرى أثمّة طريق إلى تلك المعرفة؟ صحيح أنّنا إذا لم نعثر على طريق إلى المعرفة المطلوبة، يجب علينا أن نلتجىء إلى (اللاأدرية) وليس إلى المادّية التي تنفي وتجزم. ولكن هل من الصعب العثور على طريق لمعرفة عالم ما وراء الطبيعة، ولمعرفة قوانين أُخرى غير التي في المادّة وما تنتج منها؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

34

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 إنّ طرق معرفة العالَم الآخر متعدِّدة، ليس هنا مجال تبيانها وتوضيحها. إنّ واحداً من تلك الطرق يمرُّ عبر الطبيعة مباشرة: إنّه طريق تظهر فيه الطبيعة (مرآة) و(آية) و(دليلاً) على ما وراء الطبيعة. ثبت هذا الطريق أنّ ماهية الطبيعة (منه) و(إليه).


إنّ معرفة ما وراء الطبيعة بهذه الصورة - وهي معرفة بالآثار والدلائل - لا تختلف من حيث الماهية عن الأسلوب الذي نتّبعه لمعرفة معظم أُمور العالَم. أي إنّ معرفتنا بعددٍ من الأشياء معرفةً مباشرة مبنيّة على أساس الدرس والملاحظة من دون واسطة. إلّا أنّ معرفتنا بأمور أُخرى معرفة غير مباشرة، مبنيّة على دراسة آثارها ودلائلها.

فمثلاً، نحن نعرف آثار الحياة عن طريق الملاحظة مباشرة، ولكن الحياة في نفسها، باعتبارها عاملاً يكمن في الكائنات الحيّة، نتعرّف إليها ونُصدّق بها عن طرق آثارها ودلائلها، وبعبارة أُخرى إنّ معرفتنا بالحياة معرفة غير مباشرة نصل إليها عن طريق الاستنباط والاستدلال، وما يصطلح عليه باسم (البرهان الإنّي).

كذلك أمر معرفتنا بالنفس اللاواعية، فهي معرفة غير مباشرة عن طريق الآثار والعلائم و(البرهان الإنّي) بينما معرفتنا بالنفس الواعية معرفة مباشرة عن طريق الملاحظة الباطنية.

هل تعلمون أنّ معرفتنا بالوقائع والحوادث الماضية عن الأشخاص، مثل معرفتنا بـ(ابن سينا)، مثلاً، هي معرفة غير مباشرة، أي إنّها من النوع الاستبطاني الاستدلالي وبطريق (البرهان الإنِّي).

يحسب المرء لأوّل وهلة أنّ معلوماته عن الحوادث الماضية التي كانت حوادث ملموسة في حينها معلومات مباشرة، وعلى الأخصّ إذا كان قد (سمع) عن تلك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

35

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 الحوادث من أشخاص أو (قرأ) عنها في كتاب، مع أنّ ما سمعه لم يكن سوى مجموعة من الكلمات والأصوات تخرج من فم إنسان معاصر، وإنّ ما رآه لم يكن سوى الحبر على الورق في صورة خطوط ظهرت يوماً هناك وما زالت باقية. أمّا (ابن سينا) فليس أيّاً من تلك. إنّما الفكر يستدلّ بالبرهان العقلي على وجود شخص اسمه (ابن سينا) يتّصف بالصفات المذكورة، فيُذعن بوجوده إذعاناً يقينيّاً غير قابل للشكّ - على الرغم من أنّ (راسل) يقول إنّ هذا الإذعان عند الذين لا يملكون فكراً فلسفياً. يكون إذعاناً لا واعياً - وعليه فإنّ وجود (ابن سينا) في أذهان أبناء هذا العصر وجود استنباطي ومعقول، وليس وجوداً محسوساً.


فضلاً عن ذلك، إذا ما أمعنّا النظر جيّداً ومحّصنا إذعانات الفكر بشأن الموجودات التي نحسبها محسوسة، نجد أنّ معلوماتنا ومعرفتنا حتى عن أقرب الناس الذين نُعاشرهم يومياً واصلة إلينا عن طريق غير مباشر وهي من النوع الاستبطاني العقلاني، عن طريق (الآية) و(العلامة).

إنّ الكائن الوحيد الذي نعرفه مباشرة من دون وساطة الآثار والعلاقات هو نفسنا، وما عداها فنحن نصل إلى معلوماتنا عنه بالواسطة وبطريق غير مباشرة، بما في ذلك الوجود العيني للآيات والعلامات نفسها، فإنّنا نعرفها أيضاً عن طريق آياتها وعلاماتها. أمّا إذا عرفنا الله عن طريق التزكية وصفاء النفس، فتكون تلك معرفة مباشرة ومن دون وساطة.

فما أعجب أن نعلم، بعد التمحيص، أنّ معرفتنا بالعالَم الخارجي معرفة غير مباشرة، وأنّ المعرفة المباشرة تنحصر في معرفة النفس ومعرفة الله.

إنّنا لكي نوضح كيف أنّ معرفتنا حتى بوجود صديق نُعاشره كلّ يوم معرفة غير مباشرة نحصل عليها من طريق الاستنباط والاستدلال العقلي بالدلائل والإمارات، نذكر لكم ما يقوله فيلسوف ورياضي وفيزيائي مادّي يُنكر وجود الله. إنّه (راسل)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

36

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 نفسه. يقول في بحث له عن عدم صلاحيّة تعميم نتائج الحالات التي أُجريت فيها تجارب على الحالات التي لم تُجر فيها تجارب: "سبق القول بأنّ ما أُجريت عليه التجارب أقلّ بكثير ممّا يخطر ببال الإنسان. فمثلاً أنت تدّعي بأنّك ترى صديقك السيد (جونز) في حالة المشي، إلّا أنّ قولك هذا أكبر ممّا لك حقّ التصريح به. إنّ ما تراه ليس سوى نقاط متتالية ملوّنة تجري على أرضيّة ساكنة. إنّ هذه النقاط، وبطريقة (بافلوف) في الاقتران الشرطي، تُحيي في فكرك (جونز)، ومن ثم فإنّك تقول إنّك ترى جونز... إنّ قولك إنّك ترى جونز أشبه ما يكون بارتداد قذيفة عن جدار متّجهة إليك، فتقول إنّ الجدار قد ارتطم بك، حقّاً ما أقرب هذين المثلين من بعضهما. وعليه فإنّ الأشياء التي نتصوّر رؤيتها لا نراها أبداً. فهل من دليل على أنّ الشيء الذي نظنّ أنّنا نراه - وإن لم نره في الواقع - موجود؟ إنّ العلم طالما افتخر بكونه تجريبيّاً، وأنّه لا يؤمن إلا بما يُمكن التحقّق منه. والآن يُمكنك أن تُحقّق في ذهنك تلك الظواهر التي تُسمّيها (رؤية جونز)، ولكنّك لن تستطيع أن تُدرك جونز نفسه حقّاً. إنّك تسمع أصواتاً وتقول إنّ جونز يتحدّث إليك، وتحسّ أنّ يداً تُمسك فتقول إنّ جونزقد لمسك بيده، وإذا لم يكن قد استحمّ منذ أيام، فإنّك تشمئز من رائحته إذا اقترب منك وتعزو تلك الرائحة إلى جونز. والآن إذا كُنتَ قد وُضعت تحت تأثير هذا البحث، فلك أن تُخاطبه عبر التلفون، قائلاً: آلو، هل أنت هناك؟ فتسمعه يقول نعم، ألا تسمعني؟ ولكن إذا اعتبرت كلّ هذه شواهد على أنّه هناك، فإنّك لا تكون قد أدركت وجهة نظر هذا البحث... ".


يقصد (راسل) أن يقول إنّ وجود شخص مثل جونز بالنسبة إلى صديقه نوع من الاستنباط وليس مشاهدة مباشرة. ولكن بما أنّ راسل يقول بالمعرفة المنطقية، فإنّه يرى أنّ الشيء الذي تُراد معرفته يجب أن يوضع تحت الدرس مباشرة، أو أنّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

37

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 يقع، في الأقل، تحت التعميم، في حين أنّ وجود جونز لا هو من المشاهد المباشرة ولا هو نتيجة تعميم المشهود على غير المشهود، وعلى ذلك فإنّه يستنتج منطقياً أنّ وجود جونز مشكوك فيه، ولا يُمكن إثباته علميّاً.


إنّ هذا الاستنتاج الخاطىء ناشىء عن طريقة راسل المنطقية والفلسفية في المعرفة الخاطئة، والتي سوف نوضحها فيما بعد.

والنقطة الأخرى التي يجب التنويه بها هي أنّ الفكر الفلسفي هو وحده الذي يشكّ في وجود شخص مثل السيد جونز، أمّا الفكر البسيط العادي فلن يدع للشكّ طريقاً إلى نفسه. فلماذا؟ هل هذا من قبيل الشكّ في البديهيات؟ كلا أبداً.

عندما يقف الطفل أو الإنسان العادي أمام المرآة ويرى صورته فيها، هل يشكّ في أنّ صورته موجودة فعلاً في المرآة؟ إنّ الفكر الفلسفي لا يشكّ مطلقاً في عدم وجود أيّ صورة في المرآة.

الحقيقة هي أنّ الفكر غير الفلسفي لا يُدرِك أن ما يراه ليس الوجود العيني للأشياء، بل هي الصور المنعكسة عن الأشياء في الفكر؟ وعليه فإنّه لا يشكّ في وجود ما يراه، ما دامت التجربة لم تثبت خلاف ذلك. غير أنّ الفكر الفلسفي يرى الفرق بين الاثنين. إنّ انعكاس صور الأشياء في الذهن في نظر الفكر الفلسفي ليس سوى حكاية عن بعض الأفعال والانفعالات التي تصدر عن الأعصاب، وهي مجرّد دليل وإمارة على وجود واقع هو سبب تلك الآثار والتأثيرات، وعلى هذا فإنّ وجود السيد جونز للفكر غير المنطقي وجود محسوس ومشهود ومعرفة مباشرة، ولكنّه للفكر الفلسفي وجود غير محسوس وغير مشهور ومعرفة غير مباشرة، أي إنّه وجود استنباطي استدلالي معقول.

أما كون (راسل) يُريد من كلّ هذا - كالشكّ الفلسفي في وجود السيد جونز ووجود أيّ أمر آخر من هذا القبيل، وعلى الأخصّ وجود وقائع كانت في الزمن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

38

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 الماضي (مثل ابن سينا في المثال السابق) - أن يصل إلى نتيجة فناشئ من خطأ منطقه الفلسفي.


المعرفة السطحية والمعرفة المنطقية التعميمية والتجريبية
إنّ الإنسان، مثل أيّ حيوان آخر، يحسّ بالعالم لأوّل وهلة، ويختزن ما يحسُّ به في ذاكرته. إلّا أنّ الإنسان يمتاز بالقدرة على التفكير والتعقُّل، ولذلك فهو يقوم بنوع آخر من المعرفة، وفي هذه المرحلة من المعرفة يعمد الإنسان إلى عدد من الصور المشابهة فيصوغ منها مفهوماً كلّياً عامّاً، ثم يُصنّف هذه الكلّيات في مجموعات يضع لكلٍّ منها مقولة خاصّة: الكم، والكيف، والإضافة، والجوهر، وغير ذلك. ويجري سلسلة من التجارب فيطّلع على خواصّ الأشياء وآثارها، ويُعمّم ما يصل إليه من نتائج تجاربه على عدد من الأفراد، ويكتشف القوانين الكلّية.

إنّ مسألة تعميم القضايا التي اختُبرت على القضايا التي لم يُجر اختبارها تُعدّ من المسائل الفنّية. إنّ أصحاب المادّية الجدلية يمرّون بالمعركة كالعادة مروراً من دون أن يُجشّموا أنفسهم عناء التورّط فيها، ويُريحون أنفسهم ببضع جمل بسيطة، قائلين: "إنّ عدداً من الظواهر لا يُحصى في العالَم العيني الخارجي ينعكس عن طريق حواسنا الخمس في الدماغ ممّا يُعطي معرفة حسيّة في أول الأمر. وبتجمّع معطيات كافية من الإدراك الحسّي، تظهر (طفرة) وتتحوّل المعرفة الحسّية التعقّلية من نوع الطفرة وأنّها تجاوز الكم إلى الكيف، فلا تعدو هذه المعرفة عن أن تكون انعكاساً من انعكاسات العالَم، وذلك لأنّه في كلّ طفرة وتجاوز من الكمّ إلى الكيف يُغيّر الشيء ماهيّته ونوعيّته، ويتغيّر كلّياً ويُصبح شيئاً آخر. فإذا كان الإحساس انعكاساً للعالَم الخارجي ثم يُغيّر ماهيّته فيُصبح صورة تعقّلية، تكون رابطة التعقّل عندئذٍ، مقطوعة عن العالَم الخارجي، وهذا يعني المثالية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

39

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 الحقيقة هي أنّ جميع النظم الفلسفية الغربية تحار في توضيح ميكانيكية التعميم، وهذا (راسل) لا يُخفى حيرته بهذا الخصوص، كما رأينا.


ولمّا كان هذا النوع من المعرفة المنطقية مقبولاً من لدن الجميع، فلا نرى موجباً لبحث موضوع ميكانيكيّة التعميم من وجهة النظر الإسلامية.

إنّما الذي ينبغي أن نُشير إليه هنا هو أنّ المعرفة المنطقية لا تنحصر بالمعرفة التجريبية التعميمية. ففي المعرفة التجريبية يقوم الفكر أولاً باختبار بعض الأمور اختباراً عملياً، ومن ثم يسحب الحكم الناتج من هذه الأمور المجرّبة على الأمور المشابهة. وفي الواقع، إنّ عمل المعرفة الفكرية يتحرّك حركة أُفقية.

المعرفة المنطقية العمودية
غير أنّ للفكر نوعاً آخر من طرق المعرفة يُمكن أن نُطلق عليه اسم (المعرفة العمودية)، إذ إنّ الفكر في هذه الحركة يتّخذ من الأمور المجرّبة وسيلة وآلة للنفوذ إلى عمق ما وراءها.

إنّ ما سبق أن أشرنا إليه، أعني معرفة الطاقة والحياة من آثارها الخاصّة، ومعرفة اللاوعي عن طريق بعض النشاطات الواعية، ومعرفة الماضي البعيد بالآثار والعلائم الحاضرة، وحتى إدراك الفكر الفلسفي بالوجود العيني والواقعي للمحسوسات من العلائم والآثار الحسّية المباشرة التي تحدث في الحواس، كلّها من هذا النوع من المعرفة. وهذه هي المعرفة التي أطلقنا عليها اسم المعرفة بالاستنباط أو بالاستدلال، أو بحسب تعبير القرآن، المعرفة بالآية والعلامة.

إنّ المعرفة بتوسّط الآية والعلامة، بخلاف ما يتصوّره بعضهم، معرفة تعقّلية وفلسفية. صحيح أنّ ما أتخذ وسيلة وآية هو أمر محسوس ومشهود، إلّا أنّها معرفة فلسفية وتعقّلية خالصة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

40

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 من هنا يتّضح أنّ معرفة الله، وإنْ لم تبدُ معرفة تجريبية، أي إنّها لا تضع الله تحت التجربة، إلّا أنّ ماهية هذه المعرفة لا تختلف كثيراً عن ماهيّات مجموعة من معارفنا عن الطبيعة، كالحياة، والوعي الباطني أو اللاوعي، وغيرهما.

 
إنّما الاختلاف هو في كون الاستدلال جزئياً وكلّياً. فمثلاً، لا يرى عالم الأحياء سوى آثار الحياة، أمّا الحياة نفسها فإنّه (يستنبطها) استنباطاً.
 
إنّ محلّلاً نفسانياً يُلاحظ عدداً من الآثار والعلائم على السطح الخارجي للنفس الواعية، ثم (يستدلّ) على وجود اللاوعي، أو الوعي الباطني.
 
إلّا أنّ نبيّاً، أو موحّداً على غرار إبراهيم، يُطلق نظرة في الكائنات جميعها، فيرى فيها آثار (المربوبية) و(المقهورية) و(عدم الاستقلال) وأنّها (قائمة بغيرها). لقد لاحظ إبراهيم علائم (المربوبية) و(المقهورية) في نفسه أوّل الأمر، فراح يبحث عن (ربّه) فظنّه كوكباً فقمراً فشمساً، ولكنّه سرعان ما لاحظ فيها جميعاً أمارات التغيّر والتحرّك والمحكومية، فأشاح بوجهه عنها واستطاع أن ينفذ عميقاً إلى ما وراء العالَم المتغيّر المتحرّك، إلى عالم ثابت غير متغيّر كامل، وقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1.
 
العالَم الذي يراه الإلهي
إنّ العالَم الذي يراه الإلهي الحقيقي العارف بالدِّين يتميّز بأنّه (منه) أي إنّ حقيقة العالَم تساوي كونه (منه)، ولا يعني هذا أنّ للعالَم حقيقة يُمكن أن تُنسب أو تُضاف (إليه) مثل حقيقة انتساب الابن لأبيه، ولا كإضافة أيّ شخص إلى آخر، ولا انتساب حقيقة اختراع ما إلى مخترعه وصانعه، بل إنّ حقيقة العالَم وماهيّته هي (هو) نفسه، وهي الصدور نفسه (عنه)، والتعلّق والارتباط نفساهما (به)،



1  سورة الأنعام، الآية 79.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

 


41

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 والإضافة نفسها (إليه). وهذا هو معنى (الخلق) ومفهومه، ومعنى أن يكون العالَم كلّه (مخلوقاً) من مخلوقات الله.

 
وبالإضافة إلى كون العالم الذي يراه الإلهي ذا ماهية تتّصف بأنّها (منه) فإنّها تتّصف كذلك بأنّها (إليه)، بل إنّ هاتين الصفتين متلازمتان لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى. إنّ الوجود يسير من النقطة التي بدأ منها في قوس نزولاً ليعود ثانية في قوس صعوداً إلى النقطة نفسها. وفي هذا يقول مولوي:
تتّجه الأجزاء نحو الكلّ             فالبلابل تعشق وجه الورد
ما يأتي من البحر إليه يعود          فمن حيثما جاء إليه يعود
من المبدأ سيول جارفة              ومن جسدنا روح يُسَيّرها العشق
 
وهذا هو المعاد الذي أكثر الأنبياء ذكره والحثّ على الإيمان به.
 
إنّ العالم الإلهي عالم خير وجود ووحدة وانسجام، ويتبع ذلك الشر والبخل والتفرق والتضاد. غير أنّ لهذه الحالات التبعية دوراً أساسياً في جريان الخير والجود، وفي ظهور الوحدة والانسجام.
 
هذا العالم عالم شاعر، فبالإضافة إلى قوانين المادة الجامدة الصلبة ثمّة قوانين أُخرى تحكمه أيضاً. فكما أنّ الإنسان مثلاً، من حيث أجهزته الجسمية، تتحكّم فيه قواعد وضوابط، وقد تمرض هذه الأجهزة البدنية وقد تشفى بدواء مادّي، فإنّه في الوقت نفسه، من حيث روحه التي فيه، وفكره، وعقله واستعداده للتلقّي، يقع تحت سيطرة الروح ويجري فيه حكمه وقوانينه، والعلّة الروحية تُسبّب المرض الجسمي كما أنّ المرض الجسمي قد يشفي الروحية.
 
العالم كلّه كذلك أيضاً هنالك في العالَم مجموعة من العلل من الأفعال وردودها، تتحكّم في قوانين المادة الجامدة الصلبة، وهي قوانين وليدة روح العالَم وقواه المدبّرة له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

42

الدرس الثاني: العالَم في المنظور الإلهي والمنظور المادّي

 ولهذا فإنّ العالم يعني بخير الإنسان وشرّه، يحمي الأخيار وطلّاب الحق والمدافعين عنه، ويقضي على دعاة الباطل. إنّ سرّ الدُّعاء والاستجابة كامن في هذه الصفة من صفات الدّنيا.

 
إنّ العالَم الذي يعرفه الإلهي عالَم متكامل موجّه، إنّ كلّ كائن في أيّ موقع كان يتمتّع بمقدار من الهداية - أو الوحي كما يُسمّيه القرآن - يتناسب مع وجوده. ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾1.
 
إنّ المجتمع البشري لا يستهين من الهداية. ومن هنا أصل النبوة أيضاً.
 
وهذه الدنيا دنيا لا يضيع فيها شيء ويبقى الإنسان قرين عمله وما أن تحين الساعة حتى يحضر الناس جميعاً إلى معرض الأعمال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾2.
 
إنّ العالَم الذي يظهر في المنظور الإلهي، كلّ لا يقبل التجزئة، أجزاؤه وأعضاؤه تُشبه أجزاء الجسد وأعضاؤه كلّها مترابطة وتؤلّف بمجموعها (وحدة) واحدة.
 
وعلى ضوء هذه النظرة إلى العالَم، فقد خلق الله بإرادته وبقضائه وقدره العالَم في نطاق من النظم والقوانين والسُّنن. إنّ القضاء والقدر الإلهي يقضي أن تجري الأمور بعللها وأسبابها المعينة لها، ليس غير.
 
والإنسان، في هذا المنظور، ولكونه يتمتّع بجوهر روحي غيبي، فإنّه يتمتّع لذلك بإرادة حرّة يستطيع بها أن يتحرّر من قيود المحيط وقيود المجتمع وقيود الطبيعة الحيوانية إلى حدٍّ كبير، وهو لهذا مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه.



1 سورة الأعلى، الآيتان 2 - 3.
2 سورة الزلزلة، الآيات 6 - 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

43

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل1

 
 
الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله (عزّ وجلّ)
إنّ الدليل العلمي هو: كلّ دليل يعتمد على الحسّ والتجربة ويتبع منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.
 
وعلى هذا فالمنهج الذي نتّبعه في الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات2 ومن أجل ذلك نُعبّر عن الدليل العلمي لإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي، وكلّ هذا ما نوضحه فيما يلي:
عرفنا أنّ الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى يتّخذ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، ونُريد قبل أن نبدأ باستعراض هذا الدليل أن نشرح هذا المنهج وبعد ذلك نُقيّمه، لكي نتعرّف على مدى إمكان الوثوق بهذا المنهج والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرّف على الأشياء.
 
ومنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات له صيغ معقدّة وبدرجة عالية من الدقّة وتقييمه الشامل الدقيق يتمّ من خلال دراسة تحليلية كاملة للأسس



1 السيد محمد باقر الصدر قدس سره، الأسس المنطقية للإستقراء.
2 منهج الدليل، غير الدليل نفسه، فأنت قد تستدلّ على الشمس أكبر من القمر، بأنّ العلماء يقولون ذلك، والمنهج هنا هو اتخاذ قرارات العلماء دليلاً على الحقيقة. وقد تستدلّ على أنّ فلاناً سيموت بسرعة، بأنّك رأيت حلماً، ورأيت في ذلك الحلم أنّه مات، والمنهج هنا هو اتخاذ الأحلام دليلاً على الحقيقة، وقد تستدلّ على أنّ الأرض مزدوج مغناطيسي كبير، ولها قطبان سالب وموجب، بأن الإبرة المغناطيسية الموضوعة في مستوى أفقي، تتّجه دائماً بأحد طرفيها إلى الشمال وبالآخر إلى الجنوب، والمنهج هنا هو اتخاذ التجربة دليلاً، وصحّة كلّ استدلال، ترتبط ارتباطاً أساسياً، بصحة المنهج الذي يعتمد عليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

44

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 المنطقية للاستقراء ونظرية الاحتمال1 ونحن نحرص هنا على تفادي الصعوبات والابتعاد عن أيّ صيغ معقّدة أو تحليل عسير الفهم.

 
ولهذا سنقوم فيما يلي بأمرين:
1- تحديد المنهج الذي سنتّبعه في الاستدلال وتوضيح خطواته بصورة مبسّطة وموجزة.
2- تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به لا عن طريق تحليله منطقياً واكتشاف الأسس المنطقية والرياضية التي يقوم عليها، لأنّ هذا يضطّرنا إلى الدخول في أشياء معقّدة وأفكار على جانب كبير من الدّقة، بل نُقيّم المنهج الذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم في ضوء تطبيقاته الأخرى العملية المعترف بها عموماً لكلّ إنسان سويّ، فنوضح أنّ المنهج الذي يعتمده الدليل على وجود الصانع الحكيم هو نفس المنهج الذي نعتمده في استدلالاتنا التي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليومية الاعتيادية أو في البحوث العلمية التجريبية على السواء.
 
إنّ ما يأتي سيوضح بدرجة كافية أنّ منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروريّ أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً.
 
فأنت في حياتك الاعتيادية حين تتسلّم رسالة بالبريد فتتعرّف بمجرّد قراءتها على أنّها من أخيك.



1 راجع: السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للأستقراء، القسم الثالث، ص133 ـ 410.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

45

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وحين تجد أنّ طبيباً ينجح في علاج حالات مرضية كثيرة فتثق به وتتعرّف على أنّه طبيب حاذق.


وحين تستعمل إبرة بنسلين في عشر حالات مرضية وتُصاب فور استعمالها في كلّ مرّة بأعراض معيّنة متشابهة فتستنتج من ذلك أنّ في جسمك حساسية خاصّة تجاه مادّة البنسلين.

أنت في كلّ هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

والعالِم الطبيعي في بحثه العلمي حينما لاحظ خصائص معيّنة في المجموعة الشمسية فيتعرّف في ضوئها على أنّها كانت أجزاء من الشمس وانفصلت عنها.

وحينما استدلّ على وجود (نبتون) أحد أعضاء هذه المجموعة واستخلص ذلك من ضبط مسارات حركات الكواكب قبل أن يكتشف نيوتن بالحسّ.

وحينما استدلّ في ضوء ظواهر معيّنة على وجود الإلكترون قبل التوصّل إلى المجهر الذرّي.

إنّ العالِم الطبيعي في كلّ هذه الحالات ونظائرها يستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

وهذا المنهج نفسه هو منهج الدليل الذي نجده: فيما يأتي لإثبات الصانع الحكيم، وهذا ما سنراه بكل وضوح عند استعراض ذلك الدليل.

1ـ تحديد المنهج و خطواته
إنّ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يُمكن تلخيصه إذا توخّينا البساطة والوضوح ـ في الخطوات الخمس التالية:
أولا: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

46

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر، أنّها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلاً.

 
ثالثاً: نُلاحظ أنّ هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدّاً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحّة فرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدّاً كواحد في المائة أو واحد في الألف وهكذا.
 
رابعاً: نستلخص من ذلك أنّ الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
 
خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها1 على افتراض كذب الفرضية، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضية2.
 
وفي الحقيقة هناك مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال تقوم على أساس نظرية الاحتمال. وفي الحالات الاعتيادية يُطبّق الإنسان بصورة فطرية تلك المقاييس والضوابط تطبيقاً قريباً من الصواب بدرجة كبيرة، ولهذا سنكتفي هنا بالاعتماد على التقييم الفطري لقيمة الاحتمال دون أن ندخل في تفاصيل معقّدة عن الأسس المنطقية والرياضية لهذا التقييم.
 
هذه هي الخطوات التي نتّبعها عادة في كلّ استدلال استقرائي يقوم على أساس 



1 نقصد باحتمال عدمها، احتمال عدمها، أو عدم واحد منها على الأقل.
2 وفقاً للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي، لاحظ الأسس المنطقية للاستقراء، ص355 - 410.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

47

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 حساب الاحتمال، سواءاً في مجال الحياة الاعتيادية أو على صعيد البحث العلمي أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.


2- تقييم المنهج
ولنُقيم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا سابقاً، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية أولاً.
قُلنا آنفاً إنّك حين تتسلّم رسالة بالبريد وتقرأها فتتعرّف على أنّها من أخيك‍لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، تُمارس بذلك استدلالاً استقرائياً قائماً على حساب الاحتمال. ومهما كانت هذه القضية (وهي أنّ الرسالة من قِبَل أخيك) واضحة في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقاً للمنهج المتقدّم.

فالخطوة الأولى تواجه فيها ظواهر عديدة من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كتبت فيها الحروف جميعاً بنفس الطريقة التي يكتب بها أخوك الألف والباء والجيم والدال والراء إلى آخر الحروف، وقد نسّقت الكلمات والفوارق بينها بنفس الطريقة التي اعتادها أخوك، وأسلوب التعبير ودرجة متانته وما يشتمل عليه من نقاط‍قوّة أو ضعف يتلائم مع ما تألفه من أساليب التعبير لدى أخيك، وطريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية المتواجدة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي اعتادها أخوك في كتابته، والمعلومات التي تتحدّث عنها الرسالة هي معلومات يعرفها أخوك عادة، والرسالة تطلب منك أشياء وتُعلن عن آراء تتوافق تماماً مع حاجات أخيك وآرائه التي تعرفها عنه، هذه هي الظواهر.

وفي الخطوة الثانية تتساءل هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61
 

48

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وهنا تجد أنّ لديك فرضيّة صالحة لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر وهي أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعي أن تتوافر كل تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الأولى.


وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التّالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي بل كانت من شخص آخر فما هي فرصة أن تتواجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الأولى؟ إنّ هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات، لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن تفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويُشابه أخاك تماماً في طريقة رسم كلّ الحروف من الألف والباء والجيم والدال وغيرها وتنسيق الكلمات ويُشابهه أيضاً في أسلوب التعبير وفي مستوى الثقافة اللغوية والإملائية، وفي عدد من المعلومات والحاجات وفي كثير من الظروف والملابسات. وهذه مجموعة من الصدف يُعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلاً جداً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف التي لا بدّ من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.

والأسس المنطقية للاستقراء تُعلّمنا كيف تقيس الاحتمال وتُفسر لنا كيف يتضاءل هذه الاحتمال، ولماذا يتضاءل تبعاً لازدياد عدد الصدف التي يفترضها، ولكن ليس من الضروري أن ندخل في تفاصيل ذلك، لأنّها معقّدة وصعبة الفهم على القارئ الاعتيادي، ومن حسن الحظ إنّ ضآلة الاحتمال لا تتوقّف على فهم تلك التفاصيل كما لا يتوقّف سقوط الإنسان من أعلى إلى الأرض على فهمه لقوّة الجذب واطلاعه على المعادلة العلمية لقانون الجاذبية، فلست بحاجة إلى شيء لكي تحسّ بأنّ احتمال أن يتواجد شخص يُشابه أخاك في كلّ تلك الظروف والحالات بعيد جداً، وليس البنك بحاجة إلى استيعاب الأسس المنطقية للاستقراء لكي يعرف أنّ درجة احتمال أن يسحب كلّ زبائنه ودائعهم في وقت واحد ضئيل جداً بينما احتمال أن يسحب واحد أو اثنان ليس كذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

49

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وفي الخطوة الرابعة تقول ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جدّاً على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلاً أن تكون الرسالة من أخيك.


وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قرّرته في الخطوة الرابعة (ومؤدّاه أنّ الرسالة قد أُرسلت من أخيك) وبين ضآلة الاحتمال التي قررتها في الخطوة الثالثة (وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك) ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أنّ درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسياً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجة كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً. وإذا لم تكن هناك قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة أنّ الرسالة من أخيك.

هذا مثال من الحياة اليومية لكلّ إنسان.

ولنأخذ مثالاً آخر للمنهج من طرائق العلماء في الاستدلال على النظرية العلمية وإثباته، وليكن هذا المثال نظرية نشوء الكواكب السيارة ونصّها: "إنّ الكواكب السيارة التسع أصلها من الشمس حيث انفصلت عنها كقطع ملتهبة قبل ملايين السنين"، والعلماء يتّفقون على العموم في أصل النظرية ويختلفون في سبب انفصال تلك القطع عن الشمس.

والاستدلال على أصل النظرية التي يتّفقون عليها يتمّ ضمن الخطوات التالية:
الخطوة الأولى:
لاحظ فيها العلماء عدّة ظواهر أدركوها بوسائل الحسّ والتجربة:
1- منها: إنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها كلّ منها من غرب لشرق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

50

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 2- ومنها: إنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها أي من غرب لشرق.


3- ومنها: إنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس بحيث تكون الشمس كقطب والأرض نقطة واقعة على الرحى.

4- ومنها: إنّ نفس العناصر التي تتألّف منها الأرض موجودة في الشمس تقريباً.

5- ومنها: إنّ هناك توافقاً بين نسب العناصر من ناحية الحكم بين الشمس والأرض، فالهيدروجين مثلاً هو العنصر السائد فيهما معاً.

6- ومنها: إنّ هناك انسجاماً بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها.

7- ومنها: إنّ هناك انسجاماً بين عمري الأرض والشمس حسب تقدير العلم لعمر كلٍّ منهما.

8- ومنها: إنّ باطن الأرض ساخن وهذا يُثبت أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّة جدّاً.

هذه بعض الظواهر التي لاحظها العلماء في الخطوة الأولى بوسائل الحسّ والتجربة.

الخطوة الثانية:
وجد العلماء أنّ هناك فرضية يُمكن أن تُفسّر بها كلّ تلك الظواهر التي لوحظت في الخطوة الأولى، بمعنى أنّها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن هذه الظواهر جميعاً وتُبرّرها وهذه الفرضية هي: "أنّ الأرض كانت جزءاً من الشمس وانفصلت عنها لسبب من الأسباب"، فإنّه على هذا التقدير يُتاح لنا أن نُفسّر على أساس ذلك الظواهر المتقدّمة.

أمّا الظاهرة الأولى (وهي أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

51

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الشمس حول نفسها لأنّ كلاً منهما من غرب لشرق) فلأنّ سبب هذا التوافق في الحركة يُصبح واضحاً على تقدير صحّة تلك الفرضية، لأنّ أيّ جسم يدور إذا انفصلت منه قطعة وبقيت منشدّة إليه بخيط أو غيره فإنّها تدور بنفس اتجاه الأصل بمقتضى قانون الاستمرارية.


وأمّا الظاهرة الثانية (وهي أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها أي من غرب لشرق) فالفرضية المذكورة تكفي لتفسيرها أيضاً لأنّ الجسم المنفصل من جسم يدور من غرب لشرق يأخذ نفس حركته بمقتضى قانون الاستمرارية.

وكذلك الأمر في الظاهرة الثالثة أيضاً.

وأمّا الظاهرة الرابعة والخامسة اللتان تُعبّران عن توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها فهما مفهومتان بوضوح على أساس أنّ الأرض جزء من الشمس لأنّ عناصر الجزء نفس عناصر الكل.

وأمّا الظاهرة السادسة (وهي الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها) فقد عرفنا أنّ فرضية انفصال الأرض من الشمس تعني أنْ حركتي الأرض ناشئتان من حركة الشمس وهذا يُفسّر لنا الانسجام المذكور ويُحدّد سببه.

وأمّا الظاهرة السابعة (وهي الانسجام بين عمري الأرض والشمس) فمن الواضح تفسيرها على أساس نظرية الانفصال، وكذلك الأمر في الظاهرة الثامنة التي يبدو منها أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّة جدّاً، فإنّ فرضية انفصالها عن الشمس تستبطن ذلك.

الخطوة الثالثة:
يُلاحظ أنّه على افتراض أنّ نظرية انفصال الأرض من الشمس ليست صحيحة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

52

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 فمن البعيد أن تتواجد كلّ تلك الظواهر وتتجمّع لأنّها تكون مجموعة من الصدف التي ليس بينها ترابط مفهوم فاحتمال تواجدها جميعاً على تقدير عدم صحّة النظرية المذكورة ضئيل جدّاً، لأنّ هذا الاحتمال يتطلّب منّا مجموعة كبيرة من الافتراضات لكي نُفسّر تلك الظواهر جميعاً.


فبالنسبة إلى انسجام حركة الأرض حول الشمس مع حركة الشمس حول نفسها في أنّها من غرب لشرق لا بدّ أن نفترض أنّ الأرض كانت جرماً بعيداً عن الشمس سواءً خُلقت وحدها أو كانت جزءً من شمس أخرى انفصلت عنها ثم اقتربت من الشمس، ونفترض أيضاً أنّ الأرض المنطلقة حيا دخلت في مدارها حول الشمس دخلت في نقطة تقع في غرب الشمس فتدور حينئذٍ من غرب لشرق، أي مع اتجاه حركة الشمس حول نفسها، إذ لو كانت قد دخلت في مدار الشمس في نقطة تقع في شرق الشمس لكانت تدور من شرق لغرب.

وبالنسبة إلى التوافق بين حركة الأرض حول نفسها ودوران الشمس حول نفسها في أنّ الاتجاه من غرب لشرق نفترض مثلاً أنّ الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض افتراضاً كانت تدور من غرب لشرق.

وبالنسبة إلى دوران الأرض حول الشمس في مدار يوازي خط استواء الشمس نفترض مثلاً أنّ الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض كانت واقعة في نقطة عمودية على خطّ الاستواء للشمس.

وبالنسبة إلى توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها لا بدّ أن نفترض أنّ الأرض أو الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض قد كانت تشتمل على نفس عناصر هذه الشمس وبنسب متشابهة.

وبالنسبة إلى الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

53

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 سرعة دوران الشمس حول نفسها نفترض مثلاً أنّ الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض انفجرت بنحو أعطت للأرض المنفصلة نفس السرعة التي تتناسب مع حركة شمسنا.


وبالنسبة إلى الانسجام بين عمري الأرض والشمس وحرارة الأرض في بداية نشوئها، نفترض مثلاً أنّ الأرض كانت قد انفصلت من شمس أخرى لها نفس عمر شمسنا، وأنّها انفصلت على نحو أدّى إلى حرارتها بدرجة كبيرة جداً.

وهكذا نُلاحظ: أنّ تواجد جميع تلك الظواهر على تقدير عدم صحّة فرضية الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف التي يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلاً جداً، بينما فرضية الانفصال وحدها كافية لتفسير كلّ تلك الظواهر والربط بينها.

الخطوة الرابعة:
نقول: ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر الملحوظة في الأرض أمراً غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جداً على افتراض أنّ الأرض ليست منفصلة عن هذه الشمس، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلاً أن تكون الأرض منفصلة عن الشمس.

الخطوة الخامسة:
في الخطوة الخامسة نربط بين ترجيح فرضية انفصال الأرض عن هذه الشمس كما تقرّر في الخطوة الرابعة وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الأرض بدون أن تكون منفصلة عن هذه الشمس كما تقرر في الخطوة الثالثة ـ ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال الموضحة في الخطوة الثالثة أشدّ كان الترجيح الموضّح في الخطوة الرابعة أكبر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

54

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وعلى هذا الأساس نستدلّ على نظرية انفصال الأرض والشمس وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك.


كيف نُطبّق المنهج لإثبات الصانع؟
بعد أن عرفنا المنهج العام للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات. وبعد أن قيّمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدّمة نُمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم وذلك باتباع نفس الخطوات السابقة.

الخطوة الأولى:
نُلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الإنسان ككائن حيّ وتيسير الحياة له على نحو نجد أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها.

وفيما يلي نذكر عدداً من تلك الظواهر كأمثلة:
تتلقّى الأرض من الشمس كمّية من الحرارة تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحي إلى الحرارة لا أكثر ولا أقل: وقد لوحظ‍علمياً أنّ المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملاً مع كمّية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن لما وجدت حرارة بالشكل الذي يُتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تُطيقها حياة.

ونُلاحظ أنّ قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركّبات ـ‍الجزء الأعظم من الأوكسجين حتى أنّه يُكوّن ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالَم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدّة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيماوية للاندماج على هذا النحو فقد ظلّ جزء محدود منه طليقاً يُساهم في تكوين الهواء. وهذا الجزء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

55

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 يُحقّق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة، لأنّ الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفّس، ولو قُدّر له أن يحتجز كلّه ضمن مركّبات لما أمكن للحياة أن توجد.


وقد لوحظ أنّ نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21% من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرّضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذّرت الحياة أو أصبحت صعبة ولما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهمّاتها.

ونُلاحظ ظاهرة طبيعية تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن تُنتج الحفاظ على قدر معيّن من الأوكسجين باستمرار، وهي أنّ الإنسان ـ‍والحيوان عموماً ـ حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقّاه الدم ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويُباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلّل إلى الرئتين ثم يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرط ضروري لحياة كلّ نبات. والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمّية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائياً، إنّ هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمّعت حتى أنتجت هذه الظاهرة التي تتوافق، صورة كاملة مع متطلّبات الحياة.

ونُلاحظ أنّ النتروجين بوصفه غازاً ثقيلاً أقرب إلى الجمود يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

56

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 ويُلاحظ هنا أنّ كمّية الأوكسجين التي ظلّت ضيّقة في الفضاء وكمّية النتروجين التي ظلّت كذلك منسجمتان تماماً، بمعنى أنّ الكمّية الأولى هي التي يُمكن للكمّية الثانية أن تُخفّفها فلو زاد الأوكسجين أو قلّ النتروجين لما تمّت عملية التخفيف المطلوبة.


ونُلاحِظ أنّ الهواء كمّية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمّية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت، فإنّ زيادتها تعني فسح المجال للشهب التي تترى في كلّ يوم لإهلاك من على الأرض واختراقها بسهولة.

ونُلاحظ أنّ قشرة الأرض التي كانت تمتصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محدّدة على نحو لا يُتيح لها أن تمتصّ كلّ هذا الغاز، ولو كانت أكثر سمكاً لامتصته ولهلك النبات والحيوان والإنسان. ونُلاحظ أنّ القمر يبعد عن الأرض مسافة محدّدة وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان يبعد عنّا مسافة قصيرة نسبياً لتضاعف المدّ الذي يُحدثه وأصبح من القوّة على نحو يزيح الجبال من مواضعها.

ونُلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحيّة المتنوّعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر، فما تُعبّر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً، بل يُعتبر ظاهرة قابلة للملاحظة العلمية تماماً. وهذا السلوك الغريزي في آلاف الغرائز التي تعرّف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية أو في بحوثه العلمية يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وإنّه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان، وحينما نُقسّم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أنّ كلّ وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يُمثّل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية وكلّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

57

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 ظاهرة في تكوينها ودورها الفسبولوجي وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها. فمثلاً نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمّة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة. إنّ عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكوّن مع تسع طبقات وتحتوي الطبقة الأخيرة منها على ملايين الأعواد والمخروطات قد رُتّبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمّة الإبصار، من حيث علاقات بعضها بالبعض الآخر وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً وهو أنّ الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنّه استثناء موقّت فإنّ الإبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحس بالأشياء وهي مقلوبة بل أُعيد تنظيم الصورة في ملايين أخرى من خويطات الأعصاب المؤدّية إلى المخ حتى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتم عملية الإبصار وتكون عندئذ متوافقة بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

 
حتى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية تجد أنّها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمّة تيسير الحياة ويؤدّي دوراً في ذلك ، فالأزهار التي تُرك تلقيحها للحشرات لوحظ أنّها قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتّفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتميّز الأزهار التي يحمل الهواء أو لقاحها عادة بعناصر الإغراء وظاهرة الزوجية على العموم، والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لأنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة.
 
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
 
هذه هي الخطوة الأولى.



1 سورة النحل، الآية 18.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

58

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الخطوة الثانية: نجد أنّ هذا التوافق المستمر بين الظاهرة الطبيعية ومهمّة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يُمكن أن يُفسّر في جميع هذه المواقع بفرضية واحدة، وهي أنْ تفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة وتيسير مهمّتها فإنّ هذه الفرضية تستبطن كلّ هذه التوافقات.


الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتة في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كلّ تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود، ومن الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المرسلة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك ولكنّه يُشابهه في كلّ الصفات بعيداً جداً، لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكلّ ما تضمّه من صنع مادة غير هادفة ولكنّها تُشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات.

الخطوة الرابعة: نُرجّح بدرجة لا يشوبها الشك أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة، أي أنّ هناك صانعاً حكيماً.

الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلّما ازداد عدد الصدف التي لا بدّ من افتراضها فيه ـ كما عرفنا سابقاً ـ فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلاً بدرجة لا تُماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علمي، لأنّ عدد الصدف التي لا بدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أي احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

59

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 فمن الضروري أن يزول1.




1 بقيت مشكلتان لا بد من تذليلهما: إحداهما: إنّه قد يُلاحظ أنّ البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم، تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي. هو أن تكون كل ظاهرة من الظواهر المتوافقة، مع مهمة تيسير الحياة، ناتجة عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها، وبحكم تناقضاتها الداخلية، وفاعليتها الذاتية، هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الاستقرائي تفضيل فرضية الصانع الحكيم، على البديل المحتمل، لأن تلك لا تستبطن إلا إفتراضاً واحداً وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة، بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون احتمال البديل، احتمال لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضائل حتى يفنى، غير أنّ هذا إنّما يتم، إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنة لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع أنّه قد يبدو أنّها مستبطنة لذلك، لأن الصانع الحكيم الذي يُفسّر كلّ تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستنبطه هذه الفرضية، من هذه العلوم والقدرات، بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء فأين التفضيل؟ الجواب: إن التفصيل ينشأ من أن هذه الضرورات العمياء، غير مترابطة. بمعنى أن افتراض أي واحدة منها يعتبر حيادياً، تجاه افتراض الضرورة الأخرى وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال، أنها حوادث مستقلة، وأن احتمالاتها مستقلة، وأما العلوم والقدرات التي يتطلبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر، موضوعة البحث، فهي ليس مستقلة لأن ما يتطلّبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلّبه صنع بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات، ليس حيادياً تجاه افتراض الآخر، بل يستبطنه، أو يرجحه بدرجة كبيرة, وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أنّ احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات، مشروطة، أي إنّ احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر، كبيراً جداً وكثيراً ما يكون يقيناً.وحينما نريد أن نقيم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات، واحتمال مجموعة تلك الضرورات، ونوازن بين قيمتي الاحتمالين، يجب أن نتبع قاعدة ضرب الاحتمال المقررة في حساب الاحتمال، بأن نضرب قيمة احتمال كل عضو في المجموعة، بقيمة احتمال عضو آخر فيها، وهكذا، والضرب كما نعلم، يؤدي إلى تضاءل الاحتمال، وكلما كانت عوامل الضرب أقل عدداً، كان التضاءل أقل، وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلة تبرهن رياضياً على أن في الاحتمالات المشروطة، يجب أن نضرب قيمة احتمال عضو، بقيمة احتمال عضو آخر، على افتراض وجود العضو الأول، وهو كثيراً ما يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، فلا يؤدي الضرب إلى تقليل الاحتمال إطلاقاً، أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جداً، خلافاً للاحتمالات المستقلة، التي يكون كل واحد منها حيادياً تجاه الاحتمال الآخر، فإنّ الضرب هناك يؤدي إلى تناقص القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل أحد الافتراضين على الآخر (من أجل توضيح قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والمستقلة راجع كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ص153 - 154 ).
والمشكلة الأخرى: هي المشكلة التي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي، للقضية المستدلّة استقرائياً، ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أنّ الرسالة التي تسلّمتها بالبريد هي من أخيك ويُقال بصدد هذه المقارنة، أن سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأنّ الرسالة قد أرسلها أخوه، تتأثّر بدرجة هذه القضية، قبل أن يفضّ الرسالة ويقرأها - وهو ما نسميه بالاحتمال القبلي للقضية - فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة، يحتمل بدرجة خمسين في المائة مثلاً، أن أخاه يبعث إليه برسالة، فسوف يكون اعتقاده بأن الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعاً، بينما إذا كان مسبقاً، لا يحتمل أن يتلقّى رسالة من أخيه بدرجة معتدّ بها، إذ يغلب على ظنّه مثلاً بدرجة عالية من الاحتمال أنه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بأن الرسالة من أخيه، ما لم يحصل على قرائن مؤكدة، فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟
والحقيقة أنّ قضية الصانع الحكيم، سبحانه، ليست محتملة، وإنّما هي مؤكّدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا أنّها قضية محتملة، نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي فيمكن أن نقدر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:
نأخذ كل ظاهرة من الظواهر، موضوعة البحث بصورة مستقلة، فنجد أنّ هناك افتراضين، يمكن أن نُفسّرها بأي واحد منهما: أحدهما افتراض صانع حكيم، والآخر افتراض ضرورة عمياء في المادة، وما دمنا أمام افتراضين، ولا نملك أي مبرر مسبق لترجيح أحدهما على الآخر، فيجب أن نقسم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون كل واحد منهما خمسين في المائة، ولما كانت الاحتمالات التي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطة ومشروطة، والاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلة وغير مشروطة، فالضرب يؤدي باستمرار إلى تضاءل شديد، في احتمال فرضية الضرورة العيماء، وتصاعد مستمر في احتمال فرضية الصانع الحكيم.
والذي لاحظته بعد تتبّع وجهد، أنّ السبب الذي جعل الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لا يلقى قبولاً عاماً على صعيد الفكر الأوروبي وينكره فلاسفة من أمثال رسل، هو عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التغلب على هاتين النقطتين اللتين، أشرنا هنا إلى الطريقة، التي يتم التغلب بها عليهما.
ومن أجل التوسّع في كيفية تطبيق مناهج الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع مع التغلب على هاتين النقطتين، يمكن أن يراجع كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، ص441 - 451.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

60

الدرس الثالث: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وهكذا تصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتساق والتدبير.

 
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1.
 
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2.
 
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾3.



1 سورة فصلت، الآية 53.
2 سورة البقرة، الآية 164.
3 سورة الملك، الآيتان 3 - 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

61

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 الدرس الرابع: العدل في الإسلام1

 
 
علّة انحراف المسلمين عن العدل الإسلامي
عندما يُطرح السؤال: لماذا لم تُطبّق العدالة، على الرغم من تشديد الإسلام على هذا الأصل من أصول الدين، بل لم تمض فترة حتى ابتُلي المجتمع الإسلامي بأقسى حالات الظلم وفقدان العدالة والتمييز؟ عندما يُطرح هذا السؤال يتبادر إلى الذهن، أول ما يُتبادر، أنّ المسؤولية في ذلك تقع على عدد من المسؤولين الذين حالوا دون تنفيذ هذا الدستور الإسلامي، وذلك لأنّ تطبيق هذا المبدأ يبدأ من زعماء المسلمين، حيث لم يكن بعضهم جديرين بذاك المقام الكبير، فوقفوا في وجه تنفيذ العدالة، فكانت النتيجة أن أُصيب المجتمع الإسلامي بأنواع من الظلم والإجحاف والتمييز بين الناس.
 
إنّ هذا الجواب صحيح، إنّ أحد الأسباب هو أنّ المسؤولين عن تطبيق العدالة لم يُطبّقوه، بل فعلوا النقيض، وتاريخ الخلفاء الأمويّين والعباسيّين خير دليل على ذلك.
 
سوء تفسير العدالة
إلّا أنّ ذاك لم يكن العلّة كلّها، فثمّة علّة كبيرة أخرى، إذا لم تكن أشدّ تأثيراً فهي لا تقلّ عن الأولى أثراً، وهذا ما أُريد بحثه في هذا الموضوع. وهذه العلّة الكبرى هي: أنّ عدداً من علماء الإسلام أساؤوا تفسير العدل في الإسلام، وعلى الرغم من أنّ عدداً آخر من العلماء قاوموا ووقفوا في وجه أولئك، إلّا أنّهم غُلبوا على أمرهم.



1 الشيخ مطهري قدس سره، الشهيد، مرتضى، محمد وعلي النبي والإمام، ص405، دار الارشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

62

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 إنّ قانوناً رفيعاً كالعدل يجب أوّلاً أن يُفسّر تفسيراً جيداً، ويجب ثانياً أن يوضع التنفيذ بصورة جيّدة أيضاً، وذلك لأنّه إن لم يُفسّر تفسيراً جيداً، فإنّ الذين يريدون إجراءه إجراء جيداً لا يستطيعون تحقيق ذلك، لأنّ تحقيقه يعتمد على تفسيره، وإذا لم يكونوا يريدون حسب نيّات المنفّذين السيّئة، فإنّهم يكونون قد أعانوا أولئك وخدموهم وجنّبوهم وجع الرأس الحاصل من الاصطدام بالناس، سواء أكان قصد المفسّرين سيّئاً من التفسير بهدف خيانة الناس، أم لم يقصدوا شيئاً من ذلك، وإنّما فسّروا القانون بحسب فهمهم المعوج.


وهذا ما حصل في تفسير أصل العدل، إنّ أغلب الذين أنكروا أن يكون العدل من أصول الإسلام، أو لعلّهم جميعاً، لم يكونوا يحملون نيّة سيّئة في تفسيرهم الذي سأذكره، إنّما النظرة السطحية والتعبديّة التي كانوا يحملونها هي التي ألقت بالمسلمين في هذه الحالة، فأوجدت للإسلام مصيبتين:
الأولى: سوء النيّة في الإجراء والتنفيذ، وذلك لأنّ الخلافة منذ البدء لم توضع على المحور الصحيح، وجرى تفضيل العرب على غير العرب، وتفضيل قريش على القبائل الأخرى، وإطلاق يد بعضهم في الحقوق والأموال، وحرمان البعض الآخر من ذلك، حتى قام الإمام عليعليه السلام بالخلافة بهدف محاربة هذا الانحراف، الأمر الذي انتهى باستشهاده، ثمّ تفاقم الأمر على يد معاوية والذين جاؤوا من بعده من الخلفاء.

أمّا المصيبة الثانية: فقد جاءتنا على يد العلماء السطحيّين التعبديّين، الذين تمسّكوا بمجموعة من الأفكار الجافّة، فراحوا يشرحون ويُفسّرون العدالة تفسيراً معوجاً، ممّا بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر.

الجذر الكلامي
لهذا الأصل الاجتماعي جذر يرجع إلى علم الكلام، لقد ظهر علم الكلام في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري، حيث أخذ بعضهم يجري بحوثه في أصول
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

63

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 الدين وما يرتبط بالتوحيد، وصفات الله، والتكليف، والمعاد، فأطلق على هؤلاء اسم المتكلّمين.


أما السبب في إطلاق هذه التسمية عليهم، فثمّة أقوال لعدد من المؤرّخين بهذا الخصوص، قال البعض: إنّ السبب يعود إلى أنّ المسألة المهمّة التي ظلّت تشغل بال هؤلاء زمناً طويلاً هي البحث في الحدوث وقدم القرآن المجيد، كلام الله. ويقول البعض: إنّ هؤلاء هم الذين أطلقوا على فنّهم اسم الكلام في مقابل المنطق الذي كان حديث الظهور، فكانوا يريدون اسماً يرادف المنطق في المعنى وهو يعني النطق، فاختاروا لفظة الكلام التي تعني القول، وقال البعض الآخر منهم: إنّهم لمّا كانوا يكثرون من الجدل والبحث والكلام، فقد وصفوا بالمتكلّمين. على كلِّ حال، ظهرت جماعة تحت هذا الاسم.

العدل الإلهي
من المسائل التي جرى فيها البحث عند المتكلّمين هي مسألة العدل الإلهي. وهل إنّ الله عادل أم لا، وكانت هذه المسألة على جانب كبير من الأهميّة، بحيث تشعّبت وظهرت لها فروع كثيرة، حتى وصل الأمر في النهاية إلى مبدأ العدل الاجتماعي الذي هو موضوعنا، وقد طغت أهميّة هذه المسألة على مسألة كون القرآن حادثاً أم قديماً والتي أثارت الكثير من الفتن، أريق فيها الكثير من الدماء. ثم انقسم المتكلّمون في موضوع نفي العدل وإثباته قسمين اثنين: العدليون وغير العدليين، أو الذين يؤيّدون أصل العدل الإلهي، والذين يُنكرون ذلك.

إنّ متكلّمي الشيعة من العدليين على وجه العموم، ولهذا عرف منذ القديم، أنّ الشيعة يقولون بخمسة أصول للدين هي: التوحيد، والعدل، والنبوّة، والإمامة، والمعاد، أي إنّ الشيعة، من حيث معرفة الإسلام، هم الذين يرون للإسلام أصولاً خمسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

64

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 وفي موضوع العدل الإلهي جرى البحث في قسمين: الأول: هل إنّ تكوين العالم، من سماء وأرض، وجماد، ونبات، وحيوان، ودنيا وآخرة، قد جرى وفق موازين العدالة، وإنّ أيّاً من الموجودات لا يُصيبه الظلم في الخلق؟ وهل إنّ هذا العالم قائم على العدالة؟ "أبالعدلِ قامت السماواتُ والأرضُ"? أو إنّ الله الذي مشيئته مطلقة، وإنّه لا تتحدّد إرادته بشيء، وأنّه فعّال لما يشاء، ويفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فإنّ الله يخلق وفق قانون وميزان وقاعدة. إنّ ما يفعله الله هو العدل، لا إنّ الله يفعل ما يقتضيه العدل.


ولهذا، ففي الجواب على ما إذا كان الله يوم القيامة هل يُرسل هذا إلى الجنّة وذاك إلى النار، بحسب موازين العدالة وقوانين العدل. أم لا؟ يقول هؤلاء: إنّ الأمر ليس كذلك، إذ ما من قانون يُمكن أن يحكم فعل الله، بل إنّ كلّ قانون إنّما هو تابع لفعله وأوامره، بما في ذلك العدل والظلم. فإذا أدخل المطيع الجنّة، والعاصي النار، فهذا عدل لأنّ الله هو الفاعل. إنّ إرادته وفعله ليسا تابعين لميزان، ولا خاضعين لقانون، كلّ القوانين والموازين تابعة لإرادته.

كان هذا القسم يتعلّق بأصل العدل في الخلقة والموجودات ونظام العالم، وهل كان كلُّ ذلك على وفق العدل أم لا؟

أمّا القسم الثاني: فيتعلّق بنظام التشريع، بالدساتير الدينية، بالدستور الإلهي الذي أتى به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأطلق عليه اسم الشريعة الإسلامية، كيف يكون أمرها؟

هل إنّ نظام التشريع تابع لميزان العدل أم لا؟ هل روعيت العدالة في وضعه، وهل كلُّ حكم نابع في حقيقته من مصلحة أو مفسدة واقعية، أم لا؟

عندما ننظر إلى قوانين الشريعة الإسلامية نجد أنّ مجموعة من الأشياء جائزة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

65

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 بل واجبة، ومجموعة أخرى على العكس من الأولى قد حرمت ومنعت. فالصدق والأمانة من الواجبات، والكذب والخيانة والظلم من المنهي عنها.

 
لا مندوحة عن القول: إنّ ما أمر به حسن، وإنّ ما نهي عنه قبيح، ولكن هل لأنّ الحسن حسن والقبيح قبيح أمر الإسلام بالأوّل ونهى عن الآخر؟ أم لأنّ الحسن لم يُصبح حسناً إلّا لأنّ الإسلام قد أمر به، وإن القبيح قبيح لأنّ الإسلام قد نهى عنه؟ فلو كان العكس، أي إذا أمر بالكذب والخيانة والظلم لغدت هذه حسنة، وإذا نهى عن الصدق والأمانة والعدالة لأضحت هذه قبيحة؟
 
يقول شرع الإسلام: إنّ البيع حلال والربا حرام، ولا شكّ الآن في أنّ البيع حسن والربا قبيح، ولكن هل إنّ البيع بذاته حسن، ينفع الناس، ولكونه كذلك أحلّه الإسلام، وإنّ الرِّبا قبيح بذاته، يضرُّ الناس والمجتمع، ولكونه كذلك حرّمه الإسلام وقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾1 أم إنّ الأمر على العكس من ذلك، وإنّ البيع حسن لأنّ الإسلام قال: إنّه حلال، وإنّ الربا قبيح لأنّ الإسلام حرّمه.
 
الحسن والقبح العقليّان
ظهرت على أثر ذلك جماعتان من بين علماء المسلمين، فالتزمت الجماعة الأولى جانب الحسن والقبح العقليين، وقالت: إنّ أوامر المشرّع تعتمد على الحسن والقبح والصلاح والفساد الحقيقي للأشياء، وأنكرت الجماعة الأخرى الحسن والقبح العقليّين للأشياء، وقالت: إنّ حسن الشيء أو قبحه يكون تابعاً لأوامر الشريعة.
 
وفيما يتعلّق بالعدل والظلم، المرتبطين بحقوق الناس وحدودهم، واللذين يعتبران من الموضوعات الاجتماعية، برز النقاش فيه. وبحسب رأي (العدليين) 



1 سورة البقرة، الآية 275.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

66

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 فهناك في الحقيقة والواقع حقّ وذو حقّ، وأن يكون المرء ذا حقّ وأن لا يكون هو بحدّ ذاته حقيقة، وقبل أن يصلنا أمر الإسلام كان هناك حقّ وكان هناك ذو حقّ، وكان هناك من ينال حقّه الطبيعي، ومن لا يناله ويحرم منه. ثم جاء الإسلام ونظّم شرائعه بحيث يصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه. أي إنّ الإسلام قد وضع دساتيره وفق الحقّ والعدالة، فالعدالة تعني "إعطاء كلِّ ذي حقّ حقّه". فالحقّ والعدالة من الأمور الواقعية الموجودة التي لو لم يأمر بها الإسلام لما تأثّرت واقعيّتها بذلك.


وبحسب رأي الجماعة الثانية فإنّ الحقّ، وأن تكون ذا حقّ أو لا تكون، والظلم والعدل، لا حقيقة لهما، إنّما أوامر المشرِّع هي التي تسنّ القانون.

يعتقد هؤلاء أنّه كما أنّ نظام التكوين فعل حقّ ووليد إرادة الله ومشيئته المطلقة، ولا يخضع لأي قانون أو قاعدة، فإنّ نظام التشريع أيضاً لا يخضع لأيّ أصل من الأصول ولا يتبع أيّ قانون، فكلُّ قانون يضعه الإسلام هو الحقّ، أي يُصبح هو الحقّ، فالعدالة هي ما يُقرّره الله.

فلو شاء الإسلام أن يُقرّر أنّ من يعلم ويتعب ويقوم بالإنتاج لا حقّ له فيما ينتج، وأنّ الحقّ يكون للذي لم يفعل شيئاً ولم يتعب ولم يتعذّب، عندئذ يكون الأمر كذلك، أي إنّ الحقّ هو هذا وليس الذي كدّ وتعب.

الأثر العملي والاجتماعي للحسن والقبح
قد يتساءل البعض: ما النتائج العملية لبحث قضية الحسن والقبح؟ على كلّ حال، كلتا الجماعتين تعتقدان أنّ القوانين الإسلامية الموجودة صالحة ومتّفقة مع الحقّ والعدل، وكلّ ما في الأمر هو أنّ جماعة تعتقد: أنّ الحسن والقبح والصلاح والفساد والحقّ وغير الحقّ كانت موجودة من قبل، ثم جاء المشرع الإسلامي ووضع قوانينه بموجبها، وجماعة أُخرى تعتقد: أنّ هذه كلّها لم تكن موجودة من قبل إنّما 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

67

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 وجدت بوجود التشريعات الدينية، فالبعض يقول: إنّ الحسن والقبح والحقّ وغير الحقّ والعدل والظلم هي المقياس للدساتير الدينية، والبعض يقول: إنّ الدين هو المقياس لها. والآن سواء أكانت هذه أم تلك، فالنتيجة واحدة، ولهذا فإنّ علماء كلتا الجماعتين عندما يُعالجون مسائل الفقه والأصول، يبحثون في موضوع المصلحة في الأحكام، وفي تقديم مصلحة على أخرى.

 
في الردّ على هذا القول: لا، ليس الأمر هكذا، إذ إنّ لذلك أثراً عملياً مهمّاً، وهو تدخّل العقل والعلم في استنباط الأحكام الإسلامية، فلو قَبِلنا بالنظرية الأولى التي تقول بوجود الحقّ والعدالة والحسن والقبح، وأنّ المشرّع الإسلامي أخذ ذلك بنظر الاعتبار، عندئذ عندما نصطدم بحكم العقل والعلم الصريح في ما هو الحقّ وما هو العدل، ما الصلاح وما الفساد، لا بدّ لنا من التوقّف والقبول بالعقل هادياً حيثما أمكنه التمييز بين الصلاح والفساد، والتسليم بقاعدة العدليين التي تقول: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع" أو "الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقلية" حتى إنّ كان ظاهر أحد الأدلّة النقلية خلاف ذلك، وذلك لأنّنا بناءً على ذلك، نعترف بوجود روح وغرض وهدف في الأحكام الإسلامية، ونعتقد أنّ للإسلام هدفاً، وأنّه لن ينحرف عن هدفه مطلقاً، فنسير نحن مع ذلك الهدف، ولا نتبع الشكل والصورة في القضايا، فما أنْ نعرف أنّ الربا حرام، وأنّه لم يحرم دون سبب، نُدرك بأنّه مهما حاول أن يتنكّر في الشكل والصورة، فإنّ حرمته لا تزول، فماهية الربا هي الربا، وماهية الظلم هي الظلم، وماهية السرقة هي السرقة، وماهية الاستجداء هي الاستجداء، سواء أكانت صورة كلَّ ذلك هي صورة الربا والظلم والسرقة والاستجداء، أم كانت في صورة مختلفة ومتلبّسة بلباس الحقّ والعدالة.
 
أمّا في النظرية الثانية: فإنّ العقل لا يُمكن أن يكون هادياً. فإنّ الروح التي تنظم القوانين الإسلامية والمعاني التي فيها ليست واحدة يُمكن أن نجعلها أصلاً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

68

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 من الأصول. كلّ الموجود هو هذا الشكل وهذه الصورة، وكلّ شيء يتغيّر بتغيّر الشكل والصورة، صحيح أنّه بموجب هذه النظرية يجري الحديث عن الحقّ والعدل والمصلحة، وتقديم مصلحة على أخرى، ولكن ليس لذلك أي مفهوم حقيقي، فقد أطلق على ذلك الشكل وتلك الصورة اسم العدل والحقّ وأمثالهما.

 
وعليه فإنّنا، من حيث النظرية الأولى، ننظر إلى الحقّ والعدل والمصلحة نظرة واقعية، وننظر إليها، من حيث النظرية الثانية، نظرة خيالية.
 
إنّ أحد أسباب ضلال أهل الجاهلية كان أنّهم سُلبت منهم ملكة التمييز بين الخير والشر، فكانوا يتقبّلون كلّ قبيح وشرّ باسم الدين، فيسمّونه بأسماء دينية وشرعيّة. وهذا ممّا ينتقدهم عليه القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾1. كان عليهم أن يُدركوا أنّ القبيح قبيح بذاته، فلا يمكن أن يُجيز الله القبيح فيأمر به، إنّ مجرّد قبح أمر ما يكفي أن يدلّ على أنّ الله لا يمكن أن يأمر به، فالفحشاء لا تكون عفافاً، والعفاف لا يكون فحشاً، لأنّهما حقيقتان واقعيتان فلا تنقلب الفحشاء عفّة، ولا العفّة فحشاء بأمر الله ونهيه، ثمّ إنّه لا يُمكن أن يأمر بالفحشاء ويُقرّها. إنّ الله يأمر بالعدل والاعتدال. وهذا ما ينبغي أن تُدركوه بأنفسكم وتُشخّصوه وتجعلوه مقياساً تعرفون به ما يُجيزه الله ويأمر به وما لا يُجيزه ولا يأمر به.
 
الأدلّة الأربعة
واستناداً إلى ذلك قال العدليّون: إنّ الأدلّة الشرعيّة أربعة: القرآن، السنّة، الإجماع (أي اتفاق علماء الإسلام وفق شروط معيّنة)، والرابع: العقل، أمّا من وجهة 



1 سورة الأعراف، الآيتان 28 - 29.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

69

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 نظر غير العدليّين فلا معنى في أن يُعدّ العقل من الأدلّة الشرعيّة، وأن يُعتبر أساساً من أسس الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، فهم يرون أنّ التعبُّد هو الذي يجب أن يسود.


إنّ ما يدعو إلى العجب أن يسمع أحد أنّه ظهرت في الإسلام جماعة كانوا مسلمين حقّاً، بل كانوا يرون أنفسهم أشدّ إسلاماً من الآخرين وأتقى، وأكثر تعبّداً، وإنّهم كانوا يتّبعون سنّة الرسول الكريم مئة بالمئة ولكنّهم أنفسهم، لكي يُثبتوا أقوالهم في إنكار العدالة الإلهية، سواء في التكوين أم في التشريع، يعمدون إلى الاستدلال. فمن جهة يذكرون ما يحسبونه، في ظنّهم، نماذج لانعدام العدالة في الخلق، ممّا يدعو إلى الخجل، إنّهم يضربون مثلاً بالأمراض والآلام، ويستدلّون بخلق الشيطان، ويقولون: لو كان العالم يجري مجرى عادلاً لكان من العدل ألا يُقتل علي بن أبي طالب لكيلا يأخذ مكانه زياد بن أبيه والحجّاج بن يوسف، وغير ذلك كثير بخصوص الخلق ونظامه.

أمّا بخصوص التشريع ونظامه، فهم لكي يُثبتوا أنّ القوانين الإسلامية لا تتبع أية قاعدة أو قانون في الصلاح والفساد والحسن والقبح، قالوا: إنّ الشرع مبنيّ على جمع المتفرّقات وتفريق المجتمعات، ولهذا كان التناقض الموجود في الدساتير الدينية، ففي حالات مختلفة كثيرة نجد أنّ الشارع يُصدر حكماً واحداً برغم ذلك الاختلاف، وفي حالات أخرى يكون العكس، ففي قضيّتين متشابهتين تمام التشابه ممّا يقتضي حكماً متشابهاً، نجد حكمين مختلفين. قالوا: لماذا قال الإسلام بالفرق بين الرجل والمرأة، وأجاز للرجل أن يتزوّج حتى أربع نساء، ولم يُجز للمرأة سوى زوج واحد؟ لماذا قال في السارق أن تُقطع يده التي هي آلة الجرم، ولم يأمر بقطع لسان الكذّاب باعتباره آلة الجرم أيضاً؟ وهكذا الزنا وغير ذلك.

إنّه لمن المخجل أن يقرأ الإنسان في التاريخ عن ظهور عدد من الناس كانوا يرون 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

70

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 أنّهم يتّبعون القرآن، الذي طالما تحدّث عن العدل الإلهي، عن نظام التكوين وعن نظام التشريع، إلّا أنّ هؤلاء تحدّثوا عن إنكار الحكمة والعدالة في نظام الخلق، وعن انعدام الحكمة في قوانين الإسلام.


انتصار منكري العدل
والأدهى من ذلك إنّه بعد قرن من الجدل والنقاش والمباحثة والفتن وإراقة الدماء، انتصر هؤلاء وفازوا بسبب السياسة التي سادت ذلك العصر.

ولقد تحقّق ذلك على يد المتوكّل العباسي، الذي أيّد تلك الفكرة، إمّا لكونها كانت تتّفق ورغبته، وإمّا لأنّه لم يفهمها. يقول المسعودي في (مروج الذهب): "لمّا أفضت الخلافة إلى المتوكّل، أمر بترك النظر والمباحثة والجدال والترك لما كان عليه الناس في أيّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر الشيوخ والمحدّثين بالتحديث وإظهار السنّة والجماعة".

كما أنّه منع الفلسفة التي كانت قد شاعت بين الناس، بحجّة أنّها من المباحث العقلية غير الجائزة.

ممالاءَة العامّة
كان العامّة من الناس يستحسنون رأي غير العدليّين، لأنّه كان مبنيّاً على التسليم والتعبُّد والتبعية المحض. ولمّا كانت العامّة لا يُفكّرون، كان يرون التفكير والتعقُّل خطراً عليهم يخافونه، فمن حيث وجهة نظر العامّة إذا قُلنا: إنّ حكم الشرع لا يتبع قانون العقل، يكون ذلك نوعاً من العظمة والأهميّة يُسبغان على الدين. ولهذا فقد استحسن العامّة من الناس قيام المتوكّل بالحَجْر على حريّة الفكر، واعتبروه حماية للدين وللسنّة النبوّة، ومع أنّ المتوكّل كان فاسقاً وشرّيراً وظالماً، فإنّ الكثير منهم قد مالوا إليه وأحبّوه، حتى قيلت في مدحه القصائد يشكرونه فيها على هذا العمل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

71

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 الذي رأوا فيه نصرة لدين الله، واحتفل الناس فرحين في ذلك اليوم الذي كان في الحقيقة يوم فاجعة علمية وفكرية كبرى نزلت بالإسلام، ومصيبة حلّت على حياة العقل الإسلامي.


قال أحد الشعراء يمدح المتوكّل بما مضمونه: "اليوم غدت سنّة الرسول عزيزة محترمة بعد أن كانت ذليلة.
اليوم تتباهي سنّة الرسول وتزهو وتتجلّى، وتُرمى أصنام الباطل والزور على الأرض. لقد ظاهر أهل البدعة (يعني العدليين) وذهبوا إلى جهنم بلا عودة، لقد أخذ الله على يد المتوكّل، السائر على سنّة الرسول والمتمسّك بها، رسول الله، وخير بني العباس. هو الذي نصر الدين وأنقذه من التفرقة، أطال الله عمره، وأدام ظلّه علينا وأسبغ عليه الصحّة، وأناله على نصرته العظيمة للدين ثواب الجنّة وجعله جليس الأنبياء".

كان هذا موجزاً لتاريخ هذه القضية، قضية البحث في العدل الإلهي وانتصار مفكّري العدل الإلهي. وعلى أثر سريان أفكار غير العدليين في أفكار العدليين، أُصيب أصل العدل الاجتماعي في الإسلام أيضاً وحاق به سوء المصير، ولقد دفع الإسلام ثمناً باهظاً عن هذا التشويش والاضطراب الفكري في عالم الإسلام.

الأشعرية الإسلامية والسفسطة اليونانية
إنّ هذه الفكرة التي وجدت في الإسلام، حول ما إذا كان العدل مقياساً للدين، أو إنّ الدين مقياس للعدل، تُشبه إلى حدٍّ كبير ما ظهر بين الفلاسفة في قديم الأيام، حول الحقيقة هل هي موجودة فعلاً، وهل إنّ أفكارنا وإدراكاتنا تتبع الحقيقة والواقع، أم إنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما الحقيقة هي التي تتبع الفكر والعقل. وبعبارة أخرى، إنّنا في أفكارنا العلمية والفلسفية نقول: إنّ القضية الفلانية كذا، أو كذاك، فهل هناك في القضية حقيقة فعلاً، سواء أدركناها أم لا؟ ولما كان عقلنا يُدركها كما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

72

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 هي، فهل إدراك عقلنا إدراك حقيقي؟ أم إنّ الأمر معكوس وإنّ الحقيقة هي التي تتبع العقل؟ وإنّ ما نُدركه هو الحقيقة، ولمّا كان الأشخاص المختلفون يختلفون في الجوانب التي يُدركونها من قضية واحدة، فإنّ الحقيقة بالنسبة إلى كلّ واحد منهم يختلف عن الحقيقة التي يُدركها الآخر، إذن فالحقيقة نسبية.


لقد ظهر في اليونان قديماً جماعات اعتبروا فكر الإنسان هو المقياس لفهم الحقيقة، وليست الحقيقة هي مقياس الفكر. قالوا: مقياس كلّ شيء هو الإنسان. وقد أُطلق على هؤلاء في تاريخ الفلسفة اسم (السفسطائيين).

وهؤلاء متقدّمون على المتكلّمين المسلمين من حيث الزمان، وقد أوردوا عدداً من البراهين على مزاعمهم، مثل الأدلّة التي جاء بها منكرو العدالة في الإسلام. لقد ظنّ منكرو العدالة أنّهم وجدوا في الدساتير الإسلامية متناقضات كالجمع بين المتباينات والتفريق بين المتشابهات، وقالوا: إنّه بالنظر لوجود هذه المتناقضات لا يُمكن اعتبار الصلاح أو الفساد الواقعي مقياسها للشرائع الدينية، بل يجب اعتبار الشرائع الإسلامية مقياساً للحسن والقبح والصلاح والفساد. كذلك قال السفسطائيون: إنّه لوجود التناقض والأخطاء بين المدركات العقلية والحسيّة، لا يُمكن أن تكون الحقيقة هي مقياس العقل، بل العقل هو مقياس الحقيقة.

إنّ الردود التي ردّ بها الفلاسفة على الشكّاكين اليونانيين، وغير اليونانيين الذين ظهروا حتى في العصور المتأخّرة، قريبة الشبه بالردود التي ردّ بها العلماء العدليون على الجماعة الأخرى التي يحسن أن نطلق عليها اسم الشكّاكين والسفسطائيين الدينيين، ولسنا في مجال الدخول في هذا البحث.

الحرب بين الجمود الفكري والتنوّر
لاحظنا أنّ ما جرى بين العدليين وغير العدليين كان حرباً بين الجمود والركود
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

73

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 الفكري من جهة والتنّور والتفتّح العقلي من جهة أُخرى.

 
وممّا يؤسف له أنّ الجمود الفكري والرؤية المظلمة قد انتصروا، وبهذا كانت خسائر العالم الإسلامي كبيرة جدّاً، لا الخسائر الماديّة بل المعنوية.
 
في الإنسان ثمّة شعور يحمله أحياناً على الخضوع المتناهي أمام الأمور الدينية، وفي تلك الحالة يكون خضوعه على خلاف ما يقضي به الدين نفسه، أي: إنّه حين يُطفئ سراج العقل، تكون النتيجة أنّه يتيه حتى عن محجَّة الدين.
 
روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "قصم ظهري رجُلانِ جاهلٌ متنسِّك وعالمٌ متهتِّك"1. أو قال: "قطع ظهري اثنان جاهلٌ متنسِّك وعالمٌ متهتِّك"2.
 
وفي الحديث أيضاً: "إنّ لله حجّتين: حجَّة الباطن وحجّة الظاهر. حجَّة الباطن العقل وحجَّة الظاهر الأنبياء"3.
 
عليٌّ ضحيّة الجمود
إنّ حكاية استشهاد الإمام علي عليه السلام من هذا المنظور، أقصد من منظور انفكاك العقل عن الدين، حكاية ذات دروس وعبر.
 
عندما كان علي في المسجد يُقيم الصلاة، أو يتهيّأ ليُقيمها، أصابته الضربة، واستشهد بسببها، صحيح إنّه "قُتل في محرابه لشدّة عدله? فإنّ صلابته التي لا تلين وتنحرف في أمر العدالة أوجدت له الأعداء، وأثارت له حربي الجمل وصفّين، ولكن الحقيقة هي أنّ يد الجهالة والركود الفكري ظهرت من أكمام أناس أُطلق عليهم اسم الخوارج وألحقت علياً بركب الشهداء.



1 الكراجكي، محمد بن علي، معدن الجواهر ورياضة الخواطر، تحقيق وتصحيح، أحمد الحسني، نشر المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1394هـ، ص26.
2 راجع: الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص69، عن أمير المؤمنينعليه السلام قريب منه.
3 راجع الكليني، الكافي، ج1، ص35.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

74

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 الخوارج

في حرب صفّين ظهرت قضيّة التحكيم، فخرج بعض من أصحاب علي وأتباعه عن طاعته، فكانوا الخوارج، والسيف الذي شقَّ رأس علي كان بيد أحد أولئك الخوارج، وهؤلاء فرقة من الإسلام، وهم بموجب عقيدتنا كفّار، ولكنّهم اعتقدوا أنّهم كانوا مسلمين، بل كانوا يرون أنّهم هم وحدهم المسلمون، وأنّ الآخرين خارجون عن الدين. إنّ أحداً لم يقل إنّ الخوارج لا يؤمنون بالإسلام بل يعترف الجميع أنّهم شديدو التمسّك بالدين إلى حدّ التعصّب المسرف. إنّ السمة التي يتّسمون بها هي أنّهم مؤمنون ولكنّهم جهلة سطحيّون، كانوا يتعبّدون، ويُقيمون الليل، ويقرؤون القرآن، ولكنّهم كانوا جهلة، خفيفي العقل، بل كانوا في الدين يُخالفون العقل والفكر.
 
لقد قال لهم علي عليه السلام لإتمام الحجَّة عليهم: "وقد كُنتُ نهيتكُم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين حتى صرف رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفَّاء الهام، سفهاءُ الأحلام"1.
 
إنّكم اليوم تعترضون في أمر التحكيم وتقولون إنّه كان خطأ وإنّنا تُبنا، فتُب أنت أيضاً والغ الاتفاق. ولكنّني قُلتُ لكم منذ البدء: ألّا نستسلم للتحكيم، ولكنّكم وقفتم بصلابة وشهرتم سيوفكم وقُلتُم: إنّنا نُحارب في سبيل القرآن، وهؤلاء توسّلوا بالقرآن، حتى اضطررت على كره وإجبار أن أرضخ وأعقد اتفاقاً. وأنتم الآن تقولون كان ذلك خطأ، وتُطالبونني بنقضه. كيف أنقضه وقد جاء في القرآن: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾2. لم ينقض الرسول عهداً عقده مع المشركين، إذ لم يكن يُجيز الغدر



1 السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، نشر دار الهجرة، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص80.
2 سورة المائدة، الآية 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

75

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 والمكر بخلاف شروط العقد، أيّاً كان الطرف الآخر، حتى ولو كان مشركاً ومن عبدة الأصنام. فكيف تُطالبونني بنقض ما أبرمت؟


لقد ذكر لهم علي عليه السلام هذه الأمور في موارد مختلفة، وعلى الأخصّ تلك العبارة التي تضع الأصبع على جرحهم: "وأنتم معاشر أخفَّاء الهام، سفهاء الأحلام" إنّكم خفاف العقل، قليلو التبّصر، جهلاء. وهذا موطن ضعفكم، فمرّة تؤيّدون التحكيم بأشدّ ما يكون التأييد، ومرّة تقولون بالشدّة نفسها. إنّ ذلك كان كفراً وارتداداً.

إنّ تاريخ الخوارج عجيب وذو عبر، يكشف عمّا تؤول إليه الحال إذا امتزج الإيمان بالجهل والتعصّب الجاف.

عندما ذهب ابن عباس، بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام، ليُحادثهم رأى منهم عجباً. يقول: "رأيت منهم جباهاً قرحة لطول السجود، وأيدياً كثفنات الإبل، عليهم قمص مرخصة وهم مشمّرون".

يقول المؤرّخون: إنّ الخوارج كانوا حريصين على تجنّب آثام كالكذب، فلم يكونوا يخفون مذهبهم حتى أمام أعتى الجبّارين مثل (زياد)، كانوا على خلاف مع العاصين، وكان بعضهم قائم الليل، صائم النهار، ولكنّهم من ناحية أخرى كانت عقائدهم سطحية. ففي قضية الخلافة لم يكونوا يرون ضرورة لوجود خليفة، وأنّ القرآن يكفي أن يتبعه الناس.

يقول ابن أبي الحديد: وإذ وجدوا أنّهم لا يقدرون بغير زعيم ورئيس، عدلوا عن هذا المعتقد، وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي الذي كان منهم. كانوا ضيّقي الفكر في كثير من عقائدهم كما هي حال خفاف العقل. كان أكثرهم يرى أنّ سائر الفرق الإسلامية كافرة، فلم يكونوا يُصلّون معهم، ولا يأكلون ذبائحهم، ولا يتزاوجون معهم. كانوا يرون العمل جزءاً من الإيمان، وهذا هو الذي ضيّق من تفكيرهم وعقائدهم، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

76

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 ولهذا كانوا يُكفّرون كلّ من ارتكب إحدى الكبائر. كانوا يقولون: إنّنا نحن الناجون وسائر الناس كلّهم كفرة ومصيرهم نار جهنّم.

 
كان الخوارج يقولون إنّهم قاموا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد أن يئسوا من استمالة علي عليه السلام إلى جانبهم، عقدوا أول اجتماع لهم في إحدى دور الكوفة، حيث وقف أحدهم خطيباً وقال: "أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحقّ، وإن من وضر فإنّه من يمنّ ويضرّ في هذه الدنيا فإنّ ثوابه يوم القيامة رضوان الله والخلود في جناته، فاخرجوا إخواننامن هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلَّة".
 
شروط الأمر بالمعروف
للأمر بالمعروف شروط ذكرها فقهاء الشيعة وفقهاء السنّة، وهم لا يُجيزون التعرُّض للناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخصوصاً إذا جاء ذلك التعرُّض عن طريق العنف والضرب وإراقة الدماء، إذ إنّ لذلك شروطاً كثيرة، منها شرطان من الشروط الأوليّة يلزم توافرهما في جميع حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلّا أنّهما لم يكونا متوافرين في الخوارج، بل كانوا يُنكرون أحدهما. وهذان الشرطان هما: البصيرة في الدين، والبصيرة في العمل. البصيرة في الدين تعني المعرفة الصحيحة والكافية بأمور الدين، التمييز بين الحلال والحرام، والواجب وغير الواجب. وهذا ما كان الخوارج يفتقرون إليه، لذلك استندوا إلى الآية: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾1 وجعلوا شعارهم "لا حكم إلّا لله" على الرغم من أنّ هذه الآية لا علاقة لها بأمثال هذه الموضوعات.



1 سورة الأنعام، الآية 57.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

77

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 أمّا البصيرة في العمل، فثمّة شرط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُطلق عليه تعبير "احتمال الأثر" ويذكرون شرطاً بعنوان "عدم ترتّب مفسدة". أي إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبان لكي يشيع المعروف ويزول المنكر. وعلى ذلك يجب القيام بذلك إذا أمّنا عدم ترتّب مفسدة أكبر. وهذان الشرطان يستوجبان البصيرة في العمل. فإذا لم يتبصّر المرء في العمل الذي ينوي القيام به، لا يكون قادراً على التنبّؤ بما إذا ترتّب أيّ أثر على عمله، وبما إذا لم تترتّب عليه أيّ مفسدة أكبر. وهكذا نجد أنّ قيام الجاهل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتسبّب، كما جاء في الحديث، في الإفساد أكثر ممّا يتسبّب في الإصلاح.


إنّ شيئاً من هذا لم يرد بشأن أداء الفرائض الأخرى. فلا يشترط فيك أن تعلم أو تحتمل الفائدة في فعلك، فإذا احتملت فافعل وإلّا فلا، على الرغم من أنّ في كلّ فريضة، كما قُلنا من قبل، مصلحة وفائدة. وذلك لأنّ معرفة تلك المصلحة أو الفائدة لم توضع على عواتق الناس. ففي الصلاة لم يشترط في أدائك لها أو احتمالك بوجود فائدة لك فيها، وإنّك لا تؤدّيها في غير تلك الحالة، كذلك الأمر في الصوم، فهو لا يسقط عنك إذا لم تعلم أو لم تحتمل أي فائدة لك فيه. وهكذا الأمر في الحجّ والزكاة والجهاد، لا وجود لشرط من تلك الشروط، بخلاف الأمر بالمعروف، فقد اشترط عليك أن ترى احتمال الأثر أو ردّ الفعل الذي قد ينجم عنه، وهل فيه ما ينفع الإسلام والمسلمين أم لا؟ في أداء هذه الفريضة يجب على الفرد أن يستنجد بالمنطق والعقل والبصيرة في العمل واحتمال الفائدة، إنّ هذا الذي يُطلق عليه اسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس تعبديّاً محضاً.

رأي الخوارج في الأمر بالمعروف
إنّ القول بلزوم التبصّر في العمل في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

78

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 قول متّفق عليه عند جميع الفرق الإسلامية عدا الخوارج. فهم، بالنظر لجمودهم وتعصّبهم الفكري الجامد، كانوا يقولون إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبّد محض، وليس فيه أيّ شرط بخصوص احتمال الفائدة وعدم ترتّب مفسدة، وليس على المرء أن يحسب هذه الحسابات، إنّما هو فريضة يجب تنفيذها بعينين معصوبتين، ولهذا آثر الخوارج، على الرغم من معرفتهم أنّه ليس لثورتهم أيّ أثر مفيد، وأنّهم يهدرون دماءهم دون تحقيق مصلحة ولا تجنّب مفسدة، أنْ يرتكبوا حوادث الاغتيال، ويبقروا البطون، ولهذا لم يعوزهم التبصّر في العمل فحسب، بل إنّهم أنكروا لزوم ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانوا مصيبة كبرى على العالم الإسلامي.


مصيبة الخوارج على الإسلام
أي مصيبة أكبر وأفجع من اغتيال علي بن أبي طالب عليه السلام على يد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي المذهب؟! لم يكن بينهما، كما قال الإمام نفسه، أي عداء شخصي أو اختلاف، بل كان أمير المؤمنين عليه السلام قد أحسن إليه كثيراً من قبل، إلّا أن هذا الرجل الجاهل الجريء اعتقد، وفق مذهبه الخارجي، أنّ عليّاً كافر، وأنّه واحد من الثلاثة الذين أثاروا الفتنة بين المسلمين، ولذلك اجتمع في مكّة مع اثنين آخرين وتعاهدوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص في ليلة واحدة، واتّفقوا أن تكون ليلة التاسع عشر من شهر رمضان أو السابع عشر منه. فلماذا تعيين تلك الليلة؟

يقول ابن أبي الحديد: تعالَ واعجب من التعصّب في العقيدة إذا ما كان توأماً للجهل. ويقول: إنّهم اختاروا تلك الليلة لأنّها ليلة عزيزة ومباركة، ليلة العبادة. أرادوا أن يرتكبوا تلك الجريمة، التي كانوا يعتبرونها عبادة، في تلك الليلة المباركة.

جعلوا شعارهم "لا حكم إلّا الله"، ولكن الإمام علي عليه السلام لعلمه بسوء حظّهم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

79

الدرس الرابع: العدل في الإسلام

 وأنّهم مساكين تاهوا في طريق الضلال، لم يكن يقسو عليهم، على الرغم من استمرار إزعاجهم له. حتى إنّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّفأخطأهُ كمن طلب الباطل فأدركه"1 فهؤلاء يختلفون عن معاوية وأصحابه، لأنّهم يريدون الحقّ والدين، ولكنّهم لجهلهم وعدم إدراكهم وقعوا في الخطأ، أمّا معاوية وعمرو بن العاص وأتباعهما فقد كانوا منذ البدء يطلبون الدنيا ويُتابعونها.

 
وعلى الرغم من أنّ الخوارج كفّروا عليّاً علانيةً، إلّا أنّه لم يقطع عنهم حصصهم من بيت المال، لأنّه اعتبرهم جهلاء. كانوا يحضرون إلى المسجد وينتحون جانباً منه يتحلّقون فيه. وعندما كان الإمام يخطب، كانوا يقطعون عليه خطابه وينادون "لا حكم إلّا لله" أو "الحكم لله لا لك يا علي".
 
وفي يوم من الأيام كان علي عليه السلام يُصلّي جماعة، وكان أحد الخوارج حاضراً في المسجد، وعندما بدأ الإمام بالقراءة، قرأ الرجل هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾2، كناية عن أنّك قد كفرت وأشركت. ولكن لما كان من آداب الاستماع إلى القرآن الصمت عند قراءته، فقد صمت علي عليه السلام ولم يُقاطعه حتى انتهى الرجل من قراءة الآية، فشرع الإمام بالقراءة ثانية، إلّا أنّ الرجل عاد فتلا الآية نفسها مرّة ثانية، فصمت الإمام عليه السلام احتراماً للقرآن، حتى انتهى الرجل، فهمّ بالقراءة، وإذا بالرجل يُكرّر تلاوة الآية للمرّة الثالثة، ومرّة أُخرى سكت الإمام عليه السلام احتراماً للقرآن. وعندما انتهى الرجل من تلاوة الآية، تلا الإمام عليه السلام الآية التالية: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾3، فسكت الرجل ولم يعد.
 
 
لقد أثار هؤلاء بتهوّرهم واندفاعهم رهبة عجيبة بين الناس، وكانت عبارة "لا حكم إلّا لله" تُثير الخوف في النفوس. وجاء عبد الرحمن بن ملجم إلى الكوفة، واتصل باثنين آخرين من الخوارج وأمضوا الليلة الموعودة في المسجد وفي اللحظة التي أصاب فيها السيف مفرق علي عليه السلام سمعت صرخة والتمع ما يشبه البرق في ظلمة الليل. كانت الصرخة ابن ملجم وهو يقول: "لا حكم إلا لله"، وكان البرق التماعة السيف على مفرق علي عليه السلام.



1 السيد الرضي، نهج البلاغة، ص 94.
2 سورة الزمر، الآية 65.
3 سورة الروم، الآية 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

80

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد1 صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 
 
قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾2.
 
من المواضيع الأساسية جدّاً في رحاب متطلّبات العصر، موضوع النسخ والخاتمية، وهنا نقطتان: الأولى: كيف يتمّ نسخ أحكام الله تعالى؟
 
إنّ النسخ يعني تبديل حكم مكان حكم آخر، وهذا شائع بين من يضع القوانين من الناس من حيث يكثر الناسخ والمنسوخ في هذه القوانين. ولا مانع في ذلك ما دام يحدث في الوسط البشري، لأنّ الإنسان قد يضع قانوناً في فترة معيّنة، ويظهر له خطأ ذلك القانون بعد تلك الفترة فيقوم بإصلاحه أو تبديله.
 
لكن كيف يصدق هذا على قانون شرّعه الله تعالى؟ وكيف يتحقّق النسخ في أمثال هذا القانون الإلهي؟ فلا يُمكن أن يتصوّر الإنسان أنّ قانوناً إلهياً قد وضع على لسان الأنبياء، ويبدل أو يصلح بعد فترة لثبوت خطئه مثلاً لأنّه يتعارض مع علم الله وإحاطته بكلّ شيء، بل مع المفهوم الإلهيّ الربّاني الذي يستلزم العلم بكلّ شيء كان أم لم يكن أم سيكون، في حين أنّ طبيعة النسخ تعكس جهل المشرّع، والله منزّه عن ذلك، إذن لا بدّ أن نلتمس سبب النسخ في مجال آخر يتبيّن من خلاله أنّه لا يدلّ على الجهل أو القصور، وليس هو كذلك قطعاً، لكن من جهة أخرى نرى أنّ النسخ موجود في القوانين الإلهيّة من خلال تعدّد النبوّات حيث يأتي نبيّ من الأنبياء



1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر، ص 285، ترجمة علي هاشم, دار الأمير، بيروت لبنان، ط. أولى 1992.
2 سورة الأحزاب، الآية 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

81

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 بشريعة لفترة معيّنة، وبعد مدّة يأتي نبيّ آخر فينسخ شريعة النبيّ الذي سبقه، وهذا ما نُلاحظه في شريعة نوح التي نسخت شريعة آدم، وشريعة إبراهيم التي نسخت شريعة نوح، وكذا شريعة موسى التي نسخت شريعة إبراهيم، وشريعة عيسى التي نسخت شريعة موسى، علماً أنّه ليس لقوانين عيسى عليه السلام شريعة تقريباً، لكن لا نقاش في أنّها ناسخة إجمالاً. ثم بعد ذلك جاء الإسلام فنسخ جميع الشرائع التي سبقته. فالنسخ - إذن - موجود في القانون الإلهي لكنّه ليس من جنس النسخ الحاصل في القوانين البشريّة كما أنّ سببه غير السبب الموجود فيها، وهو النقص أو الخطأ في القانون نفسه، فالنسخ يصدق على العلوم البشرية الناقصة ولا يصدق على العلم الإلهيّ، فما هو سبب النسخ - إذن - في القوانين الإلهيّة؟ وكيف يتحقّق؟ وما هي مبرّراته؟ من الأشياء المهمّة التي يجب أن نلتفت إليها حسب رؤية متطلّبات العصر هي أنّ الشرائع التي سبقت الإسلام كانت محدودة لعصر معيّن منذ بدايتها، ولم يكتب الله لها الخلود والأبديّة والدوام، فكلّ شريعة. كانت تنسخ ما قبلها، وذلك لأنّها كانت مناسبة لعصرها فقط. وربّ سائل يسأل: أنّه لماذا لم يُشرّع الله شريعة واحدة خالدة تبقى ما دامت الحياة باقية؟ والجواب هو: لم يفعل الله ذلك مراعاة للظروف الزمنية، لأنّ لكلّ عصر متطلّباته الخاصّة به، فشريعة نوح، أو شريعة إبراهيم عليهما السلام كانتا مناسبتين لعصريهما فقط، أما العصور الآتية فتتطلّب شرائع أخرى تبعاً لظروفها وأوضاعها.


ويُثار هنا سؤال وإشكال مهمّ حول هذا الموضوع وهو: أنّه إذا كانت الشرائع تنسخ تبعاً للتبدّلات الحاصلة في كلّ عصر، فلا ينبغي أن تكون هناك شريعة يُطلق عليها: "الشريعة الخاتمة" بل يجب أن تستمر النبوّات، ويتعاقب الأنبياء جيلاً بعد جيل، وينسخ اللّاحق شريعة السابق، وذلك لأنّ عجلة الزمن لا تتوقّف عند حدٍّ لا سيّما وأنّ علّة النسخ - على رأي - لا ترتبط بنقص الشريعة اللاحقة أو عدم استيعابها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

82

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 لمتطلّبات المرحلة وتطوّراتها، بل ترتبط بعنصر الزمن، والزمن لا يتوقّف عند نقطة من النقاط. وفي ضوء هذه القاعدة تكون شريعة كلّ نبيّ محدودة لعصرها فقط، وإذا ما انقضى ذلك العصر فلا بدّ من نبيّ جديد وشريعة جديدة.

 
هذا ملخّص السؤال المثار والإشكال الموجّه ضدّ علاقة النبوّة الصميمية بعنصر الزمن، ويُثيره كثيرون منهم: البهائيّون الذين يُركّزون عليه باستمرار، لا، لكي يكون دليلاً يدعم توجّهاتهم المنحرفة، بل ليكون هزّة تضعضع من مفهوم الخاتمية في الشريعة الإسلامية تحقيقاً لمآرب تتلاءم وتعليماتهم..
 
والآن نُريد أن نتعرّف على الكيفيّة التي يتسنّى للشريعة من خلالها أن تقف عند حدّ لا تتجاوزه، ولا تسمح لشريعة أخرى بالمجيء ونسخ تعاليمها، وبعبارة أخرى: كيف تكون الشريعة شريعة خاتمة؟ وهذا ما يتعلّق بالإسلام، لأنّه الشريعة الخاتمة فقط.
 
إنّ مفهوم الخاتميّة في الإسلام من ضروريّات الدّين، ولو أنكرها أحد فإنّه يُصبح منكراً للإسلام نفسه، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعرف بالنبيّ الخاتم منذ الأيّام الأولى لبعثته، وأوّل من آمن به، لم يؤمن به كنبيّ فقط بل آمن به كنبيّ خاتم. وهذا ما أجمع عليه المسلمون منذ الصدر الأول حيث كانوا يعرفونه بهذا العنوان. وقد تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا نبيّ بعدي" عندما خاطب عليّاً عليه السلام في غزوة تبوك وقد خلّفه على المدينة، بعد أن أعرب عن شوقه للجهاد في ركاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رجل الحرب والجهاد، فقال له: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي"1 وهذا حديث متّفق عليه بين المسلمين، وقد نقله الخاصّة والعامّة، علماً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محتاجاً حقيقة الأمر إلى قائد عسكري باسل كأمير المؤمنين عليه السلام وإلّا لما استغنى عنه وهو بطل الحروب والغزوات جميعها، وذلك



1 الكليني، الكافي، ج 1، ص107.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

83

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 لأنّ تبوك كانت مناورة عسكرية على حدود الجزيرة العربية لترويع الروم وتخويفهم، فلم تكن هناك ضرورة لالتحاق الإمام بها، وهذا هو الذي دعا النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرع الأسماع بها ليتناقلها أرباب الحديث والتاريخ والسيرة، ويُسجّلونها فضيلة من فضائل الإمام، ومنقبة من مناقبه التي جلّت عن الإحصاء والتعداد. وقد خصّص المرحوم العلّامة مير حامد حسين الهنديّ المتوفى سنة 1306هـ جزءاً من كتابه "عبقات الأنوار" للروايات المتعدّدة التي ذكرها أبناء العامّة حول هذا الحديث.


على أيّ حال فإنّ الخاتمية من ضروريّات الدين الإسلامي.. وأودّ أن أذكر هنا بأنّ اليهود يُنكرون النسخ، ولا يرون إمكانية نسخ أيّة شريعة.. وادّعاؤهم هذا غير صحيح لأنّه لو لم يكن نسخ الشريعة ممكناً، فما بال شريعة موسى عليه السلام التي نسخت ما قبلها من الشرائع، وهم يؤمنون بها؟ وبناءً على قولهم فلا حاجة حتى إلى شريعة موسى نفسه، ويجب أن تكون فقط تلك الشريعة التي نزلت في بداية عمر الدنيا، وتبقى هي نفسها حتى الأبد. وهذا غير ممكن طبعاً.

يجب علينا هنا أن نناقش موضوع الخاتمية من جوانبه المختلفة، فقبل كل شيء، أنّ الحاجة إلى نبيّ جديد ليست من أجل التشريع فقط، لأنّ النبيّ - بالدرجة الأولى - يأتي معه بمعارف إلهيّة، وينقل حقائق عن عالم الغيب مثل: معرفة الله، صفاته الألوهيّة، معرفة المعاد، وكلّ ما يرتبط بسير الإنسان نحو الآخرة، فإضافة إلى القوانين والمقرّرات والأحكام التي يأتي بها النبيّ، هناك المعارف التي ينقلها إلى الناس، ولو أخذنا بنظر الاعتبار قضيّة الخاتمية من وحي تلك المعارف المنقولة إلى الناس، فستكون كالآتي:

لكلّ نبيّ من الأنبياء قابلية محدودة، ومنزلة خاصّة به، ويطرح المعارف الإلهيّة على الناس متناسبة مع درجة سيره وسلوكه أو مع مقدار عروجه في عالم الملكوت. وبعبارة أخرى: يُبيّن كلّ نبيّ من الأنبياء ذلك المقدار من المعارف الإلهيّة، الذي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

84

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 استطاع كشفه أو الذي بلغته مكاشفته - على حدّ تعبير العرفاء-، ولا يستطيع أن يُبيّن أكثر من ذلك لمحدوديّة نفسيّته وقابليّته. ولكن لو جاء بعده مكاشف آخر وهو أعلى منه درجة فستكون مهمّته أكبر إذ يتولّى تفصيل المعارف والحقائق التي يتلقّاها.. وفي ضوء هذا يُمكن أن تكون مكاشفة تلك المعارف ناقصة، ويُمكن أن تكون كاملة، ويُمكن أن تكون أكمل، وهكذا فهي درجات، أعلاها وآخرها هو ما يصطلح عليه "بالختام" وهو الحدّ النهائي في المكاشفة حيث يحصل فيه ذلك الإنسان المرشّح وهو الإنسان الكامل طبعاً على أكبر مقدار من المعارف الإلهيّة بالشكل الذي يُمكنه من كشف ما يُمكن كشفه منها بحيث لا يترك أيّ مجال لإنسان بعده أن يحظى بما حظي به من مكاشفة ومعارف تامّة. فهو قد بلغ الحدّ الأعلى من المعارف، ونال الشرف الأسمى باتصاله الكامل باللوح المحفوظ، وله درجة لم ولن يصلها أحد أبداً ولو فرضنا مجيء شخص بعده، فإمّا أن يكون في درجته، أو أكثر أو أقل منه، فإن كان أقل منه فلا يعبأ به كما لا تكون له تلك المنزلة العلميّة والاجتماعية وذلك لنقصه. وإن كان في درجته أو أكثر منه على سبيل الفرض، فليس هناك من شيء وراء تلك الأشياء كي يتسنّى له كشفه، كما أنّه سيُكرّر نفس ما قاله الأوّل فيما لو صحّ بلوغه درجته.


ويكون مثل ذلك مثل من يريد أن يعرف ماذا يجري على سطح القمر، فيُرسل صاروخاً، ويقوم هذا بالتصوير ونقل الأخبار، ويزوّد من أرسله بمقدار من المعلومات، ثم يُرسل صاروخاً آخر فيأتي بمعلومات أكثر، وهكذا يواصل إرساله للصواريخ حتى يصل حدّاً لم تبق فيه أيّة معلومات تكشفها تلك الصواريخ، ويقف عند نقطةٍ فوق قابليّاته وإمكانيّاته، ولو بقي هناك شيء فهو فوق طاقته.

لكن لو أراد استئناف إرساله للصواريخ أو روّاد الفضاء، فلا يأتون بجديد، بل سيُكرّرون نفس المعلومات السابقة.. وهكذا فالخاتميّة تعني الختام والفصل الكامل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

85

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 من وجهة نظر المعارف الإلهيّة، وعندما يتّخذ الفصل الكامل شكله الحقيقي فلا معنى لوجود فصل آخر مغاير له.. ولو فرضنا نبيّ آخر في درجة النبيّ الخاتم فسيُكرّر نفس ما قاله ولا يأتي بجديد.


وأنا أتحدّث عن موضوع النسخ والخاتمية، أرى من الضروري التعرّض إلى نكتة لها علاقة بالموضوع، وهي: هل أنّ كلّ نبيّ أفضل من غير النبيّ؟ لا، إذ هناك من هم غير أنبياء لكنّهم أفضل ويمكن أن يكون هناك نبيّ وله شريعة، وهناك شخص تابع لنبيّ آخر، لكنّه أفضل من ذلك النبيّ صاحب الشريعة، فمثلاً نوح أو إبراهيم أو موسى وهم من الأنبياء ولهم شرائع، لكنّهم أقلُّ درجة من عليّ بن أبي طالب عليه السلامأو الصدّيقة الكبرى فاطمة عليها السلام أو سائر الأئمة عليهم السلام، في حين هؤلاء ليسوا أنبياء وليسوا أصحاب شرائع. ولهم إحاطة بالمعارف الإلهية دونها إحاطة نوح وإبراهيم عليهما السلام، لكن بما أنّهم عاشوا في ظلال النبوّة الخاتمة، لذلك لم يكونوا من الأنبياء.

إنّ ما بيّنه النبي إبراهيم عليه السلام كان جديداً، ولقد كشف عن أشياء لم تكن مكشوفة من قبله، لذلك فهو نبيّ من الأنبياء. أمّا علي بن أبي طالب عليه السلام، فلأنّه جاء بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فلا يُمكن أن يكون نبيّاً، ولو فرضنا أنّه بلغ درجة لم يبلغها إبراهيم عليه السلام لكنّه أيضاً لا يُمكن أن يكون نبيّاً بحكم مجيئه بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا لو كان أفضل من نوح وإبراهيم عليهما السلام مائة ألف درجة، وطوى المراحل العليا في العلم والمعرفة، والسلوك الأعلى في العرفان فلا يُمكنه أن يكون نبيّاً أبداً.. ولو فرضنا أنّه كان في عصر النبي عيسى عليه السلام، أو بعد عصره أو قبل عصر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لكان نبيّاً، ومن المستحيل أن لا يكون نبيّاً، ولكن بما أنّه جاء بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فلا يُمكن أن يكون نبيّاً... وهذا المفهوم هو ما يوضّحه الحديث المتواتر المشهور "أنتمنّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي" 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

86

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 حيث يُبيّن أنّ كل ما كان لهارون من موسى عليهما السلام كان لعليّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا النبوّة، فلا نبيّ بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم إلّا النبوّة، فلا نبيّ بعد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، وكان قال الشاعر: "لقد كشف كلّ ما كان وراء الحجاب".


هذا من ناحية المعارف، أمّا من ناحية القوانين فإنّ موضوع متطلّبات العصر يرتبط بالقوانين لا بالمعارف. وكما ذكرت فإنّ الشرائع تتبدّل بحكم تطوّر متطلّبات العصر.. ولا بدّ لي أن أوضّح هذا الموضوع: فإذا كان القصد من متطلّبات العصر هو ما يُسمّونه اليوم بالمدنيّة، أو المدنيّة المتطوّرة فإنّ الحاجة إلى دين جديد مستمرّة على الدوام، وذلك لأنّ هذه المدنيّة، المرتبطة بالحياة الاجتماعية، والتي يكون مآلها إلى الوسائل الماديّة من علم وصناعة، تتفاوت من عصر لآخر. فما كان منها في عصر نوح لم يكن نفسه في عصر النبي إبراهيم عليه السلام.. وكانت للبشرية في عصر النبي إبراهيم عليه السلام مدنية أكثر رقيّاً وتطوّراً من ذي قبل، وكذلك في عصر النبيين موسى وعيسى عليهما السلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عصر ما بعد النبوّة حيث وصلت المدنية الإسلامية أوجها في القرنين الرابع والخامس.. وفي عصرنا الحاضر حيث القرن العشرين فإنّ له مدنيّة أرقى وأعظم من القرن الرابع الهجري فضلاً عن عصر النبوّة الخاتمة..

فهذه المدنيّة في تبدّل وتطوّر.. ولكن تلك المتطلّبات التي نستوجب تجدّد الشرائع هي ليست التطوّرات المدنية الملحوظة، وليس تطوّر المدنيّة بالمعنى المذكور سلفاً بل له معنى آخر.

للإنسان بحكم فطرته وحكم ما ذكره أئمّة الدين حجّتان، أحدهما باطن وهو العقل. والثاني ظاهر وهو النبيّ الحقيقي. ويحتاج هذا الإنسان إلى الهداية، وشعوره هذا هو نفسه نبوّة له وحجّة عليه، وهو وسيلة اقتضاها اللطف الإلهيّ حتى يُبصر طريقه، ولكن طيّ ذلك الطريق الذي يجب على الإنسان أن يعثر عليه يحتاج
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

87

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 إلى وسيلة.. فالأهواء والغرائز تحكم وجود الإنسان، وتوجد كثير من الممارسات والأعمال لا بدّ للإنسان من ممارستها وإنجازها بحكم غريزته، علماً أنّ حقيقة الغريزة لم تكشف بعد.. وفي هذا الإنسان جهاز أوتوماتيكي عجيب يسّر وجوده. ومثلاً في حنجرة الإنسان تقاطع، طريقان فيه من الخارج، وآخران من الداخل وهذه الطرق مجتمعة تُشكّل ذلك المفرق في آخر الحنجرة، وتتفرّع هذه الطرق من الأنف والفم والرئة والمعدة، ولا يعلم الإنسان بوجود هذا المفرق الذي يكون فرعان منه مفتوحين في الظروف الاعتيادية وهما فرعا الأنف والرئة حيث يتنفّس الإنسان بحريّة وطلاقة. كذلك لا يعلم أنه عندما يضع اللقمة في فمه ويمضغها، وبعد مضغها تخرج عن قدرته إذ تنزل إلى المريء دون اختياره، لا يلم أنه فور نزول اللقمة تنغلق ثلاثة فروع من ذلك المفرق أوتوماتيكياً، ويبقى فرع واحد مفتوحاً لاستقبال اللقمة، وهذه الفروع هي الفرع الذي تدخل اللقمة من خلاله، والثاني فرع الأنف حيث إذا ظلّ مفتوحاً فإنّه يُسبّب إزعاجاً للإنسان، والثالث الذي يتصل بالرئة، وهذا أيضاً إذا ظلّ مفتوحاً فإنّه يُعرّض حياة الإنسان للخطر، ولا يبقى إذاً إلا طريق المريء والمعدة حيث تصل اللقمة هناك. يقوم هذا الجهاز بعمله آليّاً ويؤدّي وظيفته بكلّ معرفة، وهذا لون من ألوان الهداية، فلا بدّ أخيراً من أن تصل اللقمة إلى المعدة، وهي لا تدري طبعاً أين ستكون وماذا تفعل، ولكن الجهاز الموجّه لها يعلم ذلك. فهو هاد لها ولكلّ عمل من أعمال البدن.. أمّا الهادي الآخر الذي يحكم وجود الإنسان فهو العقل.


حيث يكتشف الإنسان - من خلاله - كثيراً من المسائل ويُدرك مصالحه ومنافعه عن طريقه. فمثلاً عندما يعرض عليه عملان، فإنّه يُفكّر بانتخاب أحدهما، والعقل هو الذي يقوم بهذا الدور. أمّا المجانين فإنّ غريزتهم المودعة بديل عن العقل الذي حرموه، وتؤدّي هذه الغريزة دورها كما يؤدّي العقل دوره عند أهله، فهم لا ينعمون بنعمة هذا الموجّه، علماً أنّ لكلّ موجّه دوراً مختلفاً عن دور الموجّه الآخر فالمساحة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

88

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 التي تؤدّي الغريزة فيها دورها محدودة، وهي غير مساحة الفكر، والحسن له مساحة أخرى، ومساحة العقل تختلف عنه أيضاً.


وهناك هاد آخر للإنسان، وهو الوحي.. ولا تعني هداية الوحي أنّها موجودة في كلّ إنسان بشكل تام، بل هي موجودة بشكل ناقص جزئيّ على شكل إلهامات محدودة.. ولا يليق لهداية الوحي التامّة إلّا لمن يصطفيهم الله من أنبيائه حيث يبعثهم إلى الناس بعد أن يُنزل عليهم وحيه ليُبيّن لهم جملةً من الحقائق، ويدلّهم على طريق خيرهم وسعادتهم التي يحتاجون إليها، وهذه الحقائق والطرق ممّا لا سبيل للغريزة والحسّ والعقل لتبيينها والإرشاد إليها. وليس إلّا الوحي الذي يسعف الإنسان ويوجّهه... ولذلك فإنّنا عندما نقول إنّ الإنسان يحتاج إلى النبيّ فإنّنا نقصد أنّه يحتاج إلى مسائل وأمور لا يُحقّقها له إلّا الوحي والدين، وتعجز الوسائل الأخرى عن تحقيق ذلك.

وقضيّة الوحي لا تختلف باختلاف العصور، ولكن تختلف باختلاف الاستعدادات والقابليات.. أعني: أنّها لا تختلف وفق تطوّر المدنيّة.. إذ يما أنّ المدنيّة تتبدّل وتتجدّد فلا بدّ أن يتبدّل القانون.. كلّا.. فلا تتأثّر قضيّة الوحي بالمدنيّة وتطوّرها وليست لها أيّة علاقة بالمدنيّة، لأنّ الوحي يتبدّل من فترة إلى أخرى بحكم الاستعدادات الموجودة لدى الناس لتقبّل القوانين الإلهيّة وتعلّمها، فتجدّده تابع للتبدّلات الحاصلة في النوع الإنساني. فالمجتمع البشري كالفرد يمرّ بمرحلة الطفولة، فالنموّ، فالمراهقة، فالبلوغ. وحالة البشرية في بدايتها تُشبه حالة الطفل في ضعف درجة تقبّلها، وكلّما تقدّمت خطوة إلى الأمام وازداد نموّها، كبر استعدادها.. ووضعها كوضع التوجيهات الصادرة لطفل من الأطفال، فهي ثابتة لكن الطفل غير مستعدّ لتنفيذها كلّها، وإذا ما نمت قابليّته، يصدر له قسم من تلك التوجيهات، ويبقى قسم قد يُنجزه الكبار أنفسهم، حتى إذا وصل مرحلة البلوغ والنضج فإنّه يتقبّل كلّ ما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

89

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 يصدر له من توجيهات وتعليمات بعد إرشاده إلى كافّة الأسس والمبادئ اللازمة، ويظلّ على هذا الوضع، يعني وضع العمل بالتوجيهات والتعليمات، حتى آخر حياته.


إنّ المبادئ والقوانين العامّة النابعة من الوحي والتي تحتاجها البشرية محدودة، وإنّ سبب عدم نزولها على البشريّة في مراحلها الأولى هو لأنّها كانت في مرحلة الطفولة، علماً أنّ القوانين العامّة في جميع الأزمنة والعصور واحدة ولكن البشرية غير مستعدّة لتلقّي جميع الأحكام دفعة واحدة، ولو نزلت دفعة واحدة ما كانت تستطيع تطبيقها أبداً، فحجم الأحكام يتناسب مع استعداد البشرية في كلّ عصر، ولا بدّ لها من مشرف موجّه يُعلّم الناس كيفيّة التطبيق.

وعندما تصل البشرية مرحلة البلوغ والعقل الكامل، رحلة النضج وتفتّق الطاقات والقابليّات إذ تُصبح قادرة على تقبّل القوانين التي هي أسس ومبادئ نظامها الاجتماعي والفردي، فلا بدّ من إبلاغها وتعليمها وتوجيهها. ويُقال لها - عندئذٍ - إنّ هذا هو الوحي التامّ الكامل الذي لا بدّ له من هداية الناس وتعليمهم.. وذلك أنّها قد بلغت تلك المرحلة التي تشعر فيها أن كلّ ما تحتاجه عن طريق الوحي، وكلّ ما ينبغي أن يُقال لها وتُطبّقه، أُبلغت به، وما عليها إلّا المحافظة عليه وتكييف حياتها معه.

إنّ مرحلة الخاتمية لا تعني أنّها مرحلة من مراحل التمدّن البشري، كما أنّ هذه المراحل ليست ملاكاً ومعياراً لها. إنّها تعني تلك المرحلة التي وصلت فيها البشرية حدّاً تستطيع معه استيعاب ووعي ما يعرض عليها من قوانين وأحكام، والاستفادة منها وتطبيقها إلى الأبد عن طريق قوّة العقل المودعة فيها.

ويُمكننا تشبيه البشرية في معاصرتها للنبوّات المختلفة بالطفل الذي من شأنه تمزيق الكتب وعدم المحافظة عليها، ففي القديم كان الأطفال يُمزّقون سبع أو ثماني نسخ من جزء عمّ حتى يحفظوه والآن أيضاً يُمزّقون كتبهم المدرسيّة رغم كلّ العناية والإشراف والاهتمام من لدن آبائهم أو أمّهاتهم.. فالطفل لا يملك القدرة على أن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

90

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 يُحافظ على كتبه.. وكذلك البشريّة في المراحل السابقة، كانت غير قادرة على حفظ الكتب السماوية، بل مزّقتها وأتلفتها وضيّعتها. أين صحف إبراهيم عليه السلام؟ وأين توراة موسى عليه السلام؟ وأين إنجيل عيسى عليه السلام؟ ولو كان زرادشت نبيّاً، فأين كتاب "الابستا"1؟ فهذا يدلّ على أنّ البشرية كانت غير ناضجة في تلك المراحل والإعصار، ولو كان القرآن نازلاً في تلك العصور، لكان حظّه حظّ غيره من الكتب سالفة الذكر، لكنّه نزل في وقتٍ بلغت البشريّة فيه نضجها، ولقد لاحظنا حقّاً أنّها وصلت مرحلة من الوعي حافظت فيها على القرآن... وولّت تلك المراحل التي كانت تُمزّق فيها أمثاله من الكتب. والقرآن - بحمد الله - محفوظ، وحفظه يعكس الوعي والنضج اللّذين تتحلّى بهما البشرية.

 
فالوحي يلعب دوراً في إكمال النقص الذي يتّسم به العقل، بل هو مكمّل ومتمّم له، فعندما يعجز العقل عن أداء وظيفته، يأتي الوحي ليُجبر هذا النقص. وعندما تصل البشرية ذلك المستوى الذي تكون في مؤهّلة لتلقّي الوحي، ووعي تعليماته، والمحافظة على المبادئ الثابتة النابعة منه، ورعايتها، وعندما تكون صالحة للتطبيق والاجتهاد الذي يعني استنباط الأحكام التفصيلية لكلّ ما استجدّ من وقائع وأحداث من المصادر التشريعيّة المجملة.. عندما يكون ذلك كلّه، تكون الخاتميّة، فهي غير مرتبطة - إذن - بالتمدّن ومراحله ودرجاته حتى يقول القائلون: كيف يُمكن أن يأتي بعد نوح، إبراهيم، وبعد إبراهيم، موسى، وبعد موسى عيسى، وبعد عيسى، محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتنتهي النبوّات؟ فهل تتوقّف عجلة الزمن بعد خاتم الأنبياء حتى لا تأتي أيّة شريعة؟ لا، فالزمن لا يتوقّف عند حدّ بل هو في سير دائب، وإنّ ما حدث من تطوّرات منذ عصر النبوّة الخاتمة حتى يومنا هذا أضعاف ما حدث منذ نبوّة نوح عليه السلام حتى النبوّة الخاتمة. فلا ترتبط النبوّات بأيّ لون من ألوان المدنيّة.



1 ويطلق عليه المؤرّخون العرب أيضاً "أبستاق " و"بستاه " ويسمّيه الفرس "أوستا ". (المترجم).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

 


91

الدرس الخامس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

 ولم جاء الأنبياء؟ وما هو مغزى احتياج الإنسان للوحي؟ فالنبيّ لم يأتِ ليكون بديلاً عن الفكر والعقل، كما لم يأت ليُعطّل القوى المودعة في الإنسان، ويقول له: لا تُفكّر! لا تستدلّ! لا تجتهد! فأنا أُنجز جميع الأعمال نيابة عنك.. كلّا، فهذا خلاف النظم الذي تقتضيه النواميس الطبيعية، لأنّ منطق الأنبياء يستلزم أن يُنجز الإنسان أعماله في حدود استطاعته وفكره وعقله، وأمّا الأعمال الخارجة عن قدراته، فيُساعده الوحي فيها ويُعينه عليها، ومثله في ذلك مثل الطفل الذي يُرافق أباه، فإنْ استطاع المشي وحده، يتركه أبوه وشأنه، وإن لم يستطع يرفعه ويحتضنه.. وهكذا الوحي بالنسبة إلى الإنسان، علماً أنّ الأشياء التي يشعر الإنسان فيها باحتياجه للوحي محدودة منذ بداية الخليقة حتى فنائها، ومنذ عصر آدم حتى عصر خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ولكن رغم هذه المحدوديّة، فلم تفوّض إليه الأمور، ويترك وشأنه، لذلك كان يتعاقب الأنبياء بين فترة وأخرى إلى أن بلغ مرحلة تأهّل فيها لتفويض الأمور إليه، وأصبح زمامها بيده، ودور الآخرين هو دور المراقبة والإشراف.. وهذا نفسه يُلاحظ في عمل الأطبّاء حيث يتعاملون مع مرضاهم بأسلوبين، أحدهما مع البسطاء منهم حيث لا يكتفون بإعطائهم الوصفة فقط، بل يشفعون ذلك بالمراقبة والرعاية. والثاني مع المثقّفين، حيث يسهل أمرهم بسماع كلام قليل، ويقنعون ببيانٍ مجمل.


إلى هنا نكون قد عالجنا مسألة الخاتميّة، وظهر لنا بطلان من يقول: إذا كان لا بدّ من نسخ الأديان تبعاً لاختلاف الأزمنة والعصور، ينتفي مفهوم الخاتميّة إذن، وإذا كانت لا تنسخ شريعة شريعة سبقتها.. فموضوع الخاتميّة موضوع آخر...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

92

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم1 -2-
 
 
قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾2.
 
كنّا نحوم حول الخاتميّة وذلك لمناسبتها لموضوع متطلّبات العصر، فذكرنا أنّ الخاتميّة - أساساً - مسألة مرتبطة بعامل الزمن، وأنّ مجيء شريعة بدل شريعة أخرى منسوخة مسألة تتعلّق بعنصر الزمن فقط، ولا تفسير آخر لها. ويتّفق العلماء كافّة على أنّ تعاقب الشرائع في فترات معيّنة يتّصل اتصالاً وثيقاً بالتطوّرات الحاصلة في كلّ فترة أو بما يُسمّى "متطلّبات العصر".
 
ويُثار هنا سؤال وهو: إذا كانت الشرائع بهذا الشكل، فلماذا تكون هناك شريعة خاتمة، ولماذا تقف النبوّة عند حدّ معيّن مع القفزات التي يقفزها عنصر الزمن؟ وأجبنا عليه بأنّ الذين يثيرون هذا السؤال يخلطون بين شيئين، فيتصوّرون أنّ تطوّرات العصور تعني تبدّل المدنيّات، ولذلك يجب أن يبعث في كل فترة نبيٌّ يتناسب والمدنيّة الموجودة، وبعبارة أخرى تتناسب توجّهاته مع التقدّم العلمي والثقافي الحاصل.. والحال هي ليست كذلك، لأنّ تبدّل المدنيّات لا يؤدّي إلى تبدّل القوانين. والسبب الرئيسي لنسخ الشرائع هو عدم استعداد الناس لوعي واستيعاب جميع حقائق هذه الشريعة أو تلك، وقصورهم عن فهم ووعي واستيعاب جميع حقائق هذه الشريعة أو تلك، وقصورهم عن فهم تعليماتها. وإذا ما نما وعيهم تدريجياً 



1 للشهيد مطهري قدس سره، مرتضى, الإسلام ومتطلبات العصر (م. س).
2 سورة الأحزاب، الآية 40.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

93

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 تنزل عليهم شريعة أكمل من سابقتها، وإذا تقدّموا أكثر تنزل عليهم شريعة أكمل من التي قبلها، وهكذا يستمرّ نزول الشرائع تبعاً لاستعدادات الناس حتى يصلوا مستوىً يستغنون به عن الوحي، ولا يبقى هناك شيء يحتاجون فيه إلى الوحي، أي: إنّ احتياجهم إليه محدود، وإنّ هناك قضايا ومسائل سواء في دائرة المعارف الإلهيّة أو في دائرة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية، خارجة عن حدود العقل والتجربة والعلم، أي إنّ الإنسان لا يستطيع الظفر بها عن طريق العلم. وبما أنّ العلم والعقل قاصران عن ذلك، يأتي الوحي ليقوم بدوره في رفد الناس وإغاثتهم. وليس من الضروري أن يستمرّ الوحي بصورة مباشرة في إلقاء ما عنده على البشرية إلى ما لا نهاية. وكحدّ أعلى يكون الإلقاء لذلك المقدار الذي يحتاجه الإنسان في وقت يكون مؤهّلاً لتقبّله أوّلاً، ومحافظاً عليه ثانياً.


فاستعدادات الناس وقابليّاتهم تبعث على نسخ الشرائع، وهناك مسألة أخرى يجب أن تطرح بعد هذه المسألة وهي أنّ قسماً من حقائق الشريعة السابقة قد ناله التحريف على أيدي الناس، وظهر في قالب آخر، وهذا باعث آخر على تجدّد الشرائع والنبوّات.

فالتحريف الذي طال بعض الشرائع سبب من أسباب تعاقب الأنبياء علماً أنّ أحد الأعمال التي يقوم بها كلّ نبيّ إحياء تعاليم النبيّ السابق، وبعبارةٍ أخرى فإنّ قسماً من تعاليم كلّ نبي تُشبه تعاليم النبيّ الذي كان قبله، ولا يخفى فإنّ هذه التعاليم لم تبق على حالها كما كانت في أوّل نزولها إذ تلاقفتها أيدي الناس فتلاعبت بها.. وهذه من طبيعة الإنسان حيث يُضيف ويحذف من كلّ تعليم يتلقّاه من معلّمه، وبعبارة أخرى يُحرّفه. وهذه من المسائل التي أقرّ بها القرآن الكريم، ودلّت على صحّتها التجارب البشرية. فنجد القرآن مثلاً أقرّ بعض تعاليم التوراة والإنجيل رغم أنّه نسخهما، ولمّا تلاقفتهما الأيدي وتلاعبت بهما أعلن عن رفضه لهما بكلّ صراحة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

94

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 ونادى بتركهما، وأخبر الناس أنّهما غير التوراة والإنجيل الحقيقيين.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ملّة إبراهيم عليه السلام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. قد استغلّتها قريش إذ تعتبر نفسها تابعة لملّة إبراهيم عليه السلام في حيث لم يبق من تعاليم خليل الرحمن عليه السلام شيء يُذكر، حيث قامت بتحريفها وتبديلها بتعاليم من عنديّاتها، فاندرست تلك التعاليم الأصلية الحقيقية.. وفي القرآن مثلٌ على هذا التلاعب والتحريف الذي يحصل، إذ يقول: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً﴾1 فقد أوجب إبراهيم عليه السلام الصلاة.. ولكن أيّة صلاة؟ إنّها الصلاة الحقيقية التي تعكس المعنى الواقعي للعبادة، والتي تُمثّل العبادة بعينها، وما العبادة؟ إنّها الخضوع لربّ العالمين، والتسبيح والتنزيه والتحميد، وإذا كانت صلاة إبراهيم عليه السلام قد اختلفت في ظاهرها عن صلاتنا بعض الشيء، فليس مهمّاً لأنّها تظلّ تلك الصلاة التي أرادها الله تعالى من حيث نوع أذكارها، وحمدها، وتمجيدها، وثنائها وخضوعها، وتقديسها، وإظهار الذلّة والمسكنة فيها، ولكن جاءت قريش التي تدّعي أنّها على ملّة إبراهيم عليه السلام فغيّرتها وبدّلتها إلى ما عبّر عنه القرآن الكريم بالصفير والتصفيق ففقدت الصلاة بذلك معناها ومحتواها.

 
ذكرت قبل قليل أنّ أحد الأعمال التي يقوم بها أيّ نبيّ من الأنبياء إحياء تعاليم الأنبياء السابقين التي لم ينلها التحريف.. وهذه حقيقة نلمسها في القرآن الكريم حيث يقول جلّ من قائل: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ﴾2 وهذه الآية تدلّ على أنّ الدين واحد لكن الأهواء هي التي أوجدت الاختلاف بين الأديان.. ولو حذفت منها تحريفات الناس وتصرّفاتهم فيها لظهرت



1 سورة الأنفال، الآية 35.
2 سورة الشورى، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

95

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 لنا جميعها أنّها دين واحد، وماهية واحدة وطريقة واحدة.. وفي صدد إبراهيم الخليل عليه السلام يقول القرآن: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1 فاليهود كانوا يدّعون أنّ ما عندهم من تعاليم هي نفسها تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام، وكذلك النصارى كان لهم نفس الادّعاء، وأضافوا إليه أنّ تعاليمهم أكمل من تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام بل هي ناسخةٌ لها.

 
المهم أنّ إحياء أصل الدين مهمّة من مهمّات الأنبياء، وهو واحد منذ آدم عليه السلام حتى نبيّنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ولا اختلاف إلّا في الفروع.. وكل نبيّ من الأنبياء عندما يأتي فإنّ أحد الأعمال التي يقوم بها تشخيص الإضافات والتحريفات التي طالت رسالة النبيّ الذي كان قبله. ويُثار هنا سؤال هو: هل أنّ هذا التحريف يخصّ مرحلة ما قبل النبوّة الخاتمة، أو أنّه يشمل مرحلة ما بعدها أيضاً بحيث يتمّ التلاعب في الدين، وتدخله الخرافات والأباطيل؟ والجواب هو: أنّه لا يخصُّ مرحلة دون أخرى، فكما كان قبل النبوّة الخاتمة كذلك يكون بعدها لأنّ طبيعة الإنسان واحدة لم تتغيّر. وهناك شعر معروف ينسب إلى الشاعر "نظامي"، وهو ليس له، يتحّدث فيه الشاعر عن التحريف الحاصل في الدين فيقول: "يتلاعبون بدينك أيّها الإنسان ويُحرّفون فيه، وقد أضافوا إليه من ألوان التزييف ما يجعلك عاجزاً عن معرفته".
 
فالتحريف أمر طبيعي وهو موجود في كلّ مرحلة، ولو لم يكن كذلك، فمن أين جاء هذا الاختلاف والتفاوت الذي نُلاحظه في ديننا؟ فظهور البدع في الدين الخاتم أمر ممكن.. ونحن الإمامية نعتقد أنّ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حينما يظهر "يأتي بدين جديد" وذلك لكثرة ما طال الدين من تزييف وتحريف وتلاعب. فيأتي سلام الله عليه بدين جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يستغربه الناس لأنّه غير الدين الذي ألفوه، في حين أنّ الدين الحقيقي هو الدين الذي يأتي به الإمام عليه السلام، وقد ورد في الأخبار والروايات 



1 سورة آل عمران، الآية 67.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

96

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 أنّه عندما يظهر، يُدمّر بيوتاً ومساجد، ويقوم بأعمال تجعل الناس يتصوّرون أنّه دين جديد حقّاً.

 
فيظلّ احتياج البشرية إلى الإنسان المصلح قائماً في ضوء ما تقدّم، وما ذكرنا من أنّ كلّ نبيّ يقوم بإصلاح دين النبيّ الذي سبقه. ويُثار هنا سؤال وهو: إذا كانت الحاجة إلى إنسان مصلح قائمة، فكيف نُبرّر الخاتميّة؟ وكيف نُفسّرها في ضوء الحاجة إلى مصلح وفي ضوء استعداد البشرية لتقبّل حقائق الوحي تقبّلاً تامّاً؟
 
أقول: إنّ هنا موضوعين، الأول: لا نقاش في أنّ الحاجة إلى المصلح والإصلاح موجودة في كلّ عصر وزمان، وهي موجودة في الدين الخاتم أيضاً.. وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا إمارتان من إمارات الإصلاح، وقد أُثر عن الأئمّة عليهم السلام: "وإنّ لنا في كل خلف عدولاً ينفون عنّا تحريف الغالين وانتحال المبطلين"1 فلا نقاش في أنّ الحاجة إلى الإصلاح والمصلح قائمة، ولكن من هو هذا المصلح؟ ومتى يكون وقت مجيئه؟ وهل هو موجود في كلّ مرحلة أو في بعض المراحل؟ وما هي الظروف التي تعيش فيها هذا المصلح؟ هذه الأسئلة بمجموعها تُشكّل الموضوع الثاني الذي يتفرّع من الجواب..
 
وأُكرّر هنا ما ذكرته سلفاً من أنّ الحاجة إلى مصلح موجودة دائماً وأبداً، وهي من المسائل المتّفق عليها، ولكن الاختلاف في ظروف ظهور هذا المصلح، ففي عصور الشرائع السابقة لم يكن الناس من الكفاءة في مستوى ينهض من بينهم فيه من يضع حدّاً للتلاعب والتزييف، فلا بدّ لهم من نبيّ يأتي بمهمّة سماوية ليقوم بهذا العمل.. أمّا في عصر النبوّة الخاتمة، فإنّ وجود الإصلاح والمصلحين سمة مميّزة لهذا العصر، بل من مختصّاته، وكذلك فالظروف مؤاتية له بحكم منطق الشريعة الخاتمة التي أكّدت على ظهور المصلحين وضرورة وجودهم، وإضافة إلى



1 راجع: الكليني، الكافي، ج 6، ص 33.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

97

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 ذلك فنحن الإمامية نعتقد بوجود ذخيرة للإصلاح وهو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, وهذا ما ينسجم وتوجّهات النبوّة الخاتمة. كما أنّ الإصلاح بعد النبوّة الخاتمة لا يحتاج أن يكون المصلح نبيّاً.. والإمام عندما يظهر فإنّه يظهر بصفته كإمام لا كنبيّ.. والإمام هو ذلك الإنسان الذي يعلم ما في الإسلام علماً وراثياً عن طريق آبائه وأجداده الذين علّم أحدهم الآخر دون أن يتتلمذوا على يد أستاذ، لأنّ أستاذهم الأوّل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث علّم أمير المؤمنين علي عليه السلام جميع علومه، وتلقّى الإمام عليه السلام الإسلام خالصاً نقيّاً، ثم انتقل إلى الأئمة عليهم السلام من بعده، فتوارثوه أباً عن جد صار بيد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.. فلا حاجة إلى وحي جديد لأنه يُبيّن للناس ما جاء عن طريق الوحي الذي نزل على جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.


وأنا أتحدّث عن هذه المفاهيم لا بدّ لي أن أتطرّق إلى موضوع يتعلّق بها، وهو موضوع إحياء الدين، الموضوع الذي دارت حوله الخرافات والأباطيل.. ووفّقت مرّةً أنْ أُلقي محاضرة حوله بعنوان "إحياء الفكر الديني" وذلك في جلسة دينية كانت تُعقد شهرياً، وذكرت هناك أنّ الدين - كأيّ حقيقة من الحقائق - يُصاب بأعراض.. إنّ الدين كالماء الذي ينبع من العين الصافية بَيدَ أنّه يتلوّث بمجرد جريانه في الأنهار، ويجب تطهيره وتعقيمه من هذه الملوّثات، لكن من المؤسف له هو ظهور أفكار منحرفة غريبة لوّثت هذا الدين العظيم، ومن حسن الحظ أنّ من مميّزات الدين الخاتم هو أنّه ذاته مقياس بأيدينا لتشخيص تلك الأفكار المنحرفة والتعرّف عليها.

لقد ظهرت فكرة إحياء الدين بين المسلمين أبّان القرنين الثاني والثالث الهجريين (علماً أنّها ظهرت في البداية بين عامّة المسلمين، ثم سرت إلى الإمامية) لقد أظهرت هذه الفكرة شعوراً بضرورة التجديد والإصلاح في الدين حيث تظهر فيه البدع، ويتعرّض إلى البلى والاندثار على مرّ التأريخ. فلا بدّ من التجديد فيه،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

98

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 ومثله في ذلك مثل السيارة المعطوبة، ثمّ تصلح، أو البيت الذي يُنظّف تنظيفاً تامّاً أو يصبغ في كلّ سنة.. وهكذا، فتعاقب الأزمنة والعصور يُبلي الدين ويفقده رونقهُ. لذلك قال أصحاب هذا الاتّجاه، بأنّ الله يبعث في كلّ مئة شخصاً يُجدّد للأمّة دينها، وذلك لإصابته بالبلى، وتلوّثه بغبار السنين المتوالية، فهو يحتاج إلى من يُنظّفه ويُطهّره.. لقد رأيت هذا في عدد من الكتب التي طالعتها، ورأيت أنّ عدداً من علمائنا يُطلق عليهم لقب "المجدّدين" مثل الميرزا الشيرازي حيث يُعبّرون عنه أنّه مجدّد الدين في أوّل القرن الرابع عشر، والمرحوم الوحيد البهبهاني مجدّده في أوّل القرن الثالث عشر، والعلّامة المجلسي مجدّده في أوّل القرن الثاني عشر، والمحقّق الكركي مجدّده في أوّل القرن الحادي عشر وهكذا حتى يصل إلى القرن الثاني الهجري فيقولون إنّ الإمام الباقر عليه السلام مجدّده في هذا القرن، والإمام الرضا عليه السلام مجدّده في أوّل القرن الثالث، والكليني مجدّده في أوّل القرن الرابع، والطبرسي في أوّل القرن الخامس... وهلمّ جرّا..

 
وقد نقل العلماء ذلك في كتبهم كالميرزا حسين النوري في ذكره لأحوال العلماء أو محمّد باقر الخوانساري في كتابه "روضات الجنّات". وقد خطر في بالي أن أبحث عن الدليل الذي يعتمد عليه دعاة التجديد للفكر الديني. فحينما بحثت ونقّبت لم أر في أخبارنا ورواياتنا شيئاً من هذا القبيل، ولا أدري فما هو المصدر الذي يطمئن إليه في أمثال هذه الأفكار والمفاهيم؟ وبحثت كذلك في كتب إخواننا من عامّة المسلمين، فلم أعثر إلّا على حديث واحد في سنن أبي داود فقط، وقد روي عن أبي هريرة ونصّه: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدّد لها دينها"1 ولم ينقله من محدّثي العامّة غير أبي داود.. ولا أدري كيف يقبله الإماميّة ويقرّون به؟ إنّه من الأحاديث المحظوظة حقّاً، وقد انفرد في نقله العامّة دون الإمامية. وراحوا



1 راجع: الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، الخاتمة، ج3، ص 273.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

99

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 يوردونه في كتبهم، ويُكثرون من التطرّق إليه وبحثه. ويُثيرون حوله الأسئلة الكثيرة ويُجيبون عليها هم أنفسهم، فمثلاً يقولون: هل يُجدّد هذا الشخص المقصود جميع الدين أو جزءاً منه؟ وهل هذا الشخص من العلماء أو من الخلفاء والسلاطين؟ وهل يتخصّص في جميع حقول الدين، أو يأتي شخص لكلّ حقل؟ فمثلاً يأتي أحد العلماء ليُجدّد في الحقل العلمي، ويأتي أحد الخلفاء أو السلاطين ليُجدّد الدين كلّه، علماً أنّه قد أقحم هؤلاء في الحديث من قبل الوضّاع الذين تلاعبوا به إرضاءً للخلفاء والحكام وتزلّفاً لهم بسبب مصالحهم الخاصّة، إذ كيف يطلق لقب المجدّد على أحد العلماء ولا يطلق على أحد الخلفاء!؟ فقالوا: يظهر في كلّ قرن خليفة يصلح للأمّة دينها، فمثلاً ظهر عمر بن عبد العزيز في أوّل القرن الثاني، وهارون الرشيد في أوّل القرن الثالث... وهكذا..


وعندما تفرّقوا إلى أربعة مذاهب اعتباراً من القرن السابع، قالوا: هل يأتي مجدّد لكلّ مذهب، أو يأتي مجدّد واحد للمذاهب الأربعة؟ بعد ذلك قالوا: لكلّ مذهب من المذاهب مجدّد يُجدّد فيه على رأس كلّ قرن، فمجدّد مستقل لمذهب أبي حنيفة، وآخر لمذهب الشافعي، وثالث للمذهب الحنبلي وهكذا.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المذاهب الأخرى فقالوا بظهور المجدّد في مذهب أهل البيت باعتباره من المذاهب الإسلاميّة، وأيضاً في مذهب الخوارج الذين يزعمون أنّهم من المذاهب الإسلاميّة.

فأطالوا البحث في هذا الموضوع دون طائل، واسترسلوا وأسهبوا فيه من خلال لصقه بكلّ مذهب من المذاهب، حتى تسرّب إلى الإمامية، وفي رأيي أنّ أول من نقله إلى الإمامية هو الشيخ البهائي - أعلى الله مقامه - لا بصفته حديثاً صحيحاً حقيقياً، بل الرجل كتب رسالة صغيرة في أحوال الرجال، ومن ضمن الذين تطرّق إليهم من الرجال هو: الشيخ الكليني، فقال عنه: ما أعظم هذا الرجل الذي اعتبره علماء السنّة من مجدّدي المذهب الإمامي!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

100

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 والشيخ البهائي عالم متبحّر وله اطلاع على كلام أهل السُنّة، وإنّ ما أراده هو أن يثبت فضيلة من فضائل الشيخ الكليني، لا ليقرّ بصحّة الحديث ويقطع به.. لكن جاء بعده من كتبوا في علم الرجال فنقلوا كلامه، إلى أن صار من المسلّمات عندهم، واعتقدوا أنّه من الأحاديث الصحيحة. وظلّ على هذه الحال يتداوله الخلف عن السلف، وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر (اللّذين اعتقد أنّهما من أتعس الفترات التي مرّ بها الفكر الإمامي، ولو أردنا أن نُحدّد الفترة التي تعرّض فيها للانحطاط، وانخفض مستواه لكانت: هذين القرنين) صوّر القصّاصون أنّ هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة دون أن يفهموا جذوره، وتفنّنوا فاصطنعوا له تتمّة من عنديّاتهم، حيث إنّ العامّة وصلوا في تعداد المجدّدين حتى الشيخ الكليني، أمّا هؤلاء فقد واصلوا الشوط حتى أوّل القرن الرابع عشر، وانتخبوا الميرزا الشيرازي مجدّداً لمذهب أهل البيت فيه، ولا أدري ما هو دليلهم؟


والمضحك أكثر أنّ الحاج مير ملا هاشم الخراساني قد نقل هذا الموضوع في كتابه "منتخب التواريخ" وذكر مجدّدي المذهب الإمامي قرناً بعد قرن، لكنّه نفسه يرى عدم انسجام هذا الموضوع مع بعض مصاديقه، ويقف عند عظماء عباقرة لم يُحسبوا في عداد المجدّدين مع خدماتهم الجليلة التي قدّموها للدّين والأمّة، وذنبهم أنّهم لم يكونوا على رأس المائة سنة، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي الذي قلّ أن يكون عالم مثله في خدماته الكبيرة التي قدّمها للإمامية، لكنّه لم يُذكر في عداد المجدّدين، وذنبه الوحيد أنّه لم يكن على رأس قرن، في حين أنّ هناك من هم أقلّ منه، لكنّهم ذكروا في عداد المجدّين.

واتّبع المؤلّف الخراساني أسلوب أهل السنّة عندما فرّق بين العلماء والخلفاء، أي أنّه اعتبر المجدّدين من كلا الطرفين لكنّه فصل بينهما.. وعندما كان الخلفاء والملوك من غير الإماميّة، ذكر خلفاء أهل السنّة وملوكهم كعمر بن عبد العزيز 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

101

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 والمأمون، وأمثالهم.. وذكر من الإماميّة: عضد الدولة البويهي وأمثاله حتى وصل إلى نادرشاه أحد ملوك إيران، والعجب كلّ العجب أن يعدّ هذا السفّاك الجزّار في عداد مجدّدي المذهب الإمامي! وهو الذي أراق الدماء، وحصد رؤوس الناس ليشيد بها المنائر.. ويذكر المؤلّف أنّ عظمة نادرشاه تكمن في أنه كان قائداً عسكرياً محنّكاً شجاعاً لا يعرف الخوف.


أقول: أحسَنَ نادرشاه في تعامله مع أعداء إيران آنذاك حيث طردهم منها، وقام بفتح الهند، ولكن ماذا فعل فيما بعد؟ إنّه ارتكب المجازر تلو المجازر، وأراق دماء الأبرياء، حتى نقل البعض أنّه ابتُلي بالجنون في آخر عمره، فكيف يعدّ هذا الملك المجنون مجدّداً للمذهب الإماميّ؟ ما أتعس حظّنا إذاً! وأين وصل بنا المطاف؟

انظروا كيف كانت طريقته في أخذ الضرائب. لقد وضع في نظام الضرائب اصطلاحات من عنده، فكان يقول مثلاً: اجلبوا لي ألفاً من المكان الفلاني.. ولم يُعيّن هذا الألف، من أيّ شيء؟ كان يقول ذلك دون حساب، ودون تخطيط، فهل الألف المقصود ألف تومان، مثلاً، أو ألف رأس إنسان أو ألف شيء آخر؟ مثلاً كان يقول: اجلبوا لي من مدينة ورامين ألفاً!؟ ولكن ألف ماذا!؟ ولا أدري هل في ورامين تلك الثروة المطلوبة أو لا؟ المهم، ليس هناك فترة أتعس من تلك الفترة التي كانت في أواخر حكومة هذا الجلّاد.

في ضوء ما تقدّم ينبغي الحيطة والحذر أكثر.. وأودّ أن استرعي انتباهكم إلى نقطة أخرى تتعلّق بهذا الحديث وأمثاله من المنقولات، وهي أنّه قد تكون له جذور من الأديان الأخرى، حيث جاء أتباعها وأقحموا معتقداتهم في ديننا، ولا يخفى فإنّ فكرة التجديد في الدين كانت موجودة قبل الإسلام حيث يرون ظهور مجدّد للدين في كلّ ألف سنة، فالفكرة ليست نابعة من الإسلام، بل هي وليدة مرحلة ما قبل الإسلام. ويقول الشاعر باب طاهر في هذا الصدد: "يظهر في كلّ ألف سنة عظيم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

102

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 من العظماء، وقد ظهرت أنا في الألف سنةٍ الجارية".

 
كانت فكرة التجديد موجودة في إيران القديمة، وهي تعود للزرادشتيين حيث كانوا يعتقدون بظهور مجدّد كلّ ألف سنة. وقد قرأت في كتابهم أنّهم يُلقّبون الشخص الذي يظهر كلّ ألف سنة "هوشيدر"، وقد ذكر الشاعر "بهار" ذلك في قصيدة ألقاها بمناسبة الذكرى الألفية للشاعر "فردوسي" قال فيها: "إنّ حُسنَ الفيتك أنك هوشيد" وكان هناك شخص روّج للزرادشتية في إيران كثيراً، وهو عدوٌّ من أعداء العرب وكلّ ما صدر عنهم، أي أنّه عدوّ الإسلام.. وقد ألّف كتاباً حول الزرادشتية في جزءين.. وتطرّق فيه إلى حياة يعقوب ليث الصفّاري، وادّعى فيه أنّه هو الذي أوجد فكرة التجديد في كلّ ألف سنة. وهذا كلام كاذب لا ينسجم مع روح الإسلام، لأنّ الفكرة دخيلة عن طريق الآخرين.
 
والآن تذكّرتُ أنّي كُنتُ أُطالع كتاب "الفرائد" لأبي الفضل الكلبايكاني، وهو من مبلّغي البهائيّة الماهرين، فرأيته قد ذكر حديثاً زعم أنّه نقله من الجزء الثالث عشر من بحار الأنوار، وهو مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومضمونه: "إن صلحت أمّتيفلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم" بعد ذلك يقول: إنّ اليوم المقصود هنا هو اليوم المذكور في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾1 فإذا كانت الأمّة صالحة تعيش ألف سنة، وإذا كانت فاسدة تعيش خمسمائة سنة. ثم يؤيّد هذا الحديث ويصفه أنه من الأحاديث الصحيحة، لحاجةٍ في نفسه حيث إنّه يعدّ محتالاً من الطراز الأوّل فيقول: إنّ هذه الأمّة التي فسقت، كانت صالحة ولم تُعمّر أكثر من ألف سنة، وذلك أنّ الأئمّة كانوا يُبيّنون للناس ما تعلّموه أباً عن جدّ عن طريق الوحي الذي نزل على جدّهم صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت تلك الفترة فترة اتّساع رقعة الإسلام وبسط نفوذه.. ويجب أن نقول إنّ عمر الأمّة بدأ بوفاة 



1 سورة الحج، الآية 47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

103

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 الإمام العسكري عليه السلام سنة (260هـ)، وهي سنة ولادة الأمّة، فإذا مضى عليها ألف سنة، فستحلّ سنة (1260هـ) وهي سنة ظهور "الباب".. وهذا تأييد لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أنّ الأمّة إذا كانت صالحة عاشت ألف سنة، وبعبارة أخرى يظهر شخص يأتي بدين جديد ينسخ دين المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كانت فاسقة عاشت خمسمائة سنة.


فما أراده هذا المفتري هو أن يدعم البابيّة المنحرفة بأحاديث مختلقة لا صحّة لها، وعندما قرأت هذا الحديث حاولت أن أعثر عليه في البحار، فبحثت عنه كثيراً، فلم أجده - ورأيت الميرزا أبا طالب قد خصّص صفحات من كتابه لهذا الحديث جواباً على ادّعاء الكلبايكاني المذكور ظنّاً منه أنّ هذا الحديث موجود وصحيح، إذ لم يُصدّق أنّ الكلبايكاني قد اخترعه من عنده.. وأنا كلّما بحثت عنه لم أجده.. ووجدتُ شيئاً آخر في البحار نقلاً عن كعب الأحبار لا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الذي رأيته يذكر أنّ الناس في عصر الإمام المهدي عليه السلام إذا كانوا صالحين، يُعمّرون ألف سنة، وإذا كانوا فاسقين، يُعمّرون خمسمائة سنة.

فلينظر ذوو الألباب والبصائر كيف افترى الكلبايكاني على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدّعياً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قاله، وليس كعب الأحبار، في حين أنّ الحق ينطق بأنّ القائل هو كعب الأحبار... فيا له من موضوع "يستفرغ العجب"، وكان مدهشاً إلى الحدّ الذي جعلني اتّصل بأحد الإخوة ممّن لهم اطلاع كثير حول البهائية، وأُخبره به، وبما قاله الكلبايكاني في كتابه، والميرزا أبو طالب في كتابه، وببحثي الطويل عنه وعدم عثوري عليه، فقال لي: إنّ الحقّ معك، إذ كلّ الأحاديث المذكورة في الكتاب موضوعة مختلقة ما عدا هذا الحديث المنسوب إلى كعب الأحبار.

وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أنّ التساهل في الدين أمر قبيح مذموم.. وماذا أحدث أبو هريرة من ضجّة بين عامّة المسلمين في حديثه الذي نقله أبو داود
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

104

الدرس السادس: خاتميِّة الأنبياء برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم -2-

 في سننه، وذكره علماء الإماميّة في كتبهم باهتمام بالغ إلى الحدّ الذي أصبح فيه نادرشاه من مجدّدي المذهب. ويأتي محتال آخر مثل الكلبايكاني فيضع حديثاً آخر يعوّل عليه الميرزا أبو طالب دون أن يتأكّد منه، هل هو موجود في البحار أو لا؟ ويطالع مئات الأشخاص كتابه مصدّقين بالحديث الذي أورده فيه في حين هو من الأحاديث الموضوعة.


لا، فإنّ في الإسلام مصلحاً لكن الإصلاح على قسمين: إصلاح عام يخصُّ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف - كمصلح عالمي حسب اعتقادنا نحن الإمامية - وهذا الإصلاح عالميّ عام، ولا علاقة له بموضوعنا، وهناك إصلاح خاص وهو محاربة البدع التي يفتريها المفترون.. وهذا الإصلاح مهمّة جميع أفراد الأمّة في كل زمان ومكان، ولا يقتصر على عصر معيّن، أو أفراد معيّنين إذ يمكن ظهور مصلحين (حسب المعنى المذكور) في جميع الأعصار. ولم يشترط الباري جلّ وعلا أن تكون المدّة كلّ مائة سنة، أو كلّ مائتي سنة، أو خمسمائة سنة، أو ألف سنة... كلّ وألف كلّا.. فلم تُحدّد المدّة أبداً.

وبالنسبة إلى الأديان الأخرى كان يجب أن يأتي نبيّ يُحيى دين النبيّ السابق، وهذا غير ممكن إلّا عن طريق النبوّة. أمّا بالنسبة إلى الدين الإسلامي العظيم، فإضافة إلى الاصطلاحات الجزئية، هناك إصلاح عالمي عام يجري على يد وصي النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا فصل عن الخاتميّة ذكرته استيفاءً للبحث الذي طرحته سابقاً والحمد لله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

105

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء1

 
 
ظاهرة الموت
التفكير في الموت وانتهاء الحياة من الهواجس التي أقضَّت مضاجع الإنسان طوال تأريخه، وجعلته يُسائل نفسه باستمرار: لماذا ولدنا لنموت؟ ما الهدف من هذا البناء ثم الهدم؟ أليس هذا هو العبث بعينه؟
 
وقد شكلّ هذا القلق المؤذي أحد الأسباب التي أدّت إلى ظهور التيّار التشاؤمي في الفلسفة، والفلاسفة المتشائمون يتوهّمون خلو الحياة والوجود من الغاية والحكم، وقد أوقعهم ويوقعهم هذا التوهّم في حالة من الإحباط والحيرة والتفكير بالانتحار, هؤلاء يقولون لأنفسهم: إذا كان قدرنا الموت والفناء فما كان ينبغي أن نُولد أساساً، وإذا كان مجيئنا إلى هذا العالم بغير اختيار منّا، فنحن قادرون - كحدٍّ أدنى - أن نضع حدّاً لهذا العبث، وإنهاء العبث هو - بحدّ ذاتِهِ - عملٌ حكيمٌ!!
 
القلق من الموت دليل الخلود
من الضروريّ أن ننتبه إلى قضية مهمّة قبل أن نُناقش هذا الإشكال الموجّه انطلاقاً من مسألة عدالة النظام الوجودي، وهذه القضية هي أنّ هاجس الخوف من الموت خاص بالإنسان، فباقي الحيوانات لا تُفكّر بالموت والموجود فيها غريزة الفرار من الخطر ونزعة حفظ حياتها، وهذه النزعة من لوازم الحياة عموماً، ولكن 



1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، العدل الإلهي، ص275، دار الحوراء، بيروت (لا.ط).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

106

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 وجودها في الإنسان مقرونٌ بالاهتمام بالمستقبل والبقاء فيه، أي يوجد فيه بعبارة أخرى الأمل بالخلود، وهذا الأمل من مختصّاته.


والأمل فرعٌ لتصوّر المستقبل، والأمل بالخلود فرع لتصوّر الأبدية، وهذا التصوّر هو من الأفكار الخاصّة بالإنسان، ولذلك شغل هاجس الخوف من الموت فكره باستمرار، وهذا الهاجس شيءٌ آخر غير غريزة الفرار من الخطر التي تتمظهر في كلّ حيوان بشكل ردّة فعل مؤقّتة وغير محسوبة تجاه الأخطار، وهذا ما يظهر أيضاً في الإنسان وهو طفل قبل أن تتبلور فيه نزعة الأمل بالبقاء كفكرة.

وهاجس الخوف من الموت، وليد الميل للخلود، وحيث لا يوجد في نظام عالم الطبيعة أي ميل لا يستند إلى قاعدة تسوغه، لذلك يمكن اعتبار وجود هذا الميل دليلاً على بقاء الإنسان بعد الموت، أي أنّ كون التفكير بالفناء يؤذينا هو - بحدّ ذاته - دليلٌ على أنّنا لا نفنى، ولو كانت حياتنا محدودة ومؤقّتة - كما هو حال الورود والنباتات - لما كان الأمل بالخلود نزعة متأصّلة وميلاً أصيلاً في وجودنا.

إنّ وجود العطش دليلٌ على وجود الماء، وكذلك الحال مع وجود أيّ ميل واستعداد أصيل، فهو يدلُّ على وجود كمال يتوجّه إليه ذلك الميل والاستعداد، وكأنّ كلّ استعداد وميل يُمثّل السابقة الذهنية والتذكرة التي تُذكّر بالكمال الذي يجب السعي إليه.

وانشغال ذهن الإنسان باستمرار بالأمل بالخلود وهواجس الخشية من عدم تحقّقه هو من تجليات فطرة رفض الفناء والعدم في الإنسان، فهو دليل على أنّه لا يفنى، وهذه الهواجس هي كالأحلام التي تُعبّر عن تجليات في المنام لملكات الإنسان ومشهوداته في عالم اليقظة، فما يظهر في عالم الرؤيا هو تجليات لأحوال طرأت على أرواحنا في عالم اليقظة أو ترسّخت فيها أحياناً، وما يتجلّى في أرواحنا في عالم اليقظة من نزوع وأمل بالخلود - وهو نزوع لا يتجانس أصلاً مع الحياة الدنيوية المؤقّتة - إنّما هو تعبير عن حقيقتنا الوجودية الخالدة التي ستُحرّر - شاءت أم أبت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

107

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 - من "وحشةِ سجن الإسكندر"1، و"ستجمع رحالها وستصل إلى ملك سليمان"2.

 
إنّ أمثال هذه التصوّرات والأفكار والآمال تُعبّر عن تلك الحقيقة التي يُسمّيها الفلاسفة والعرفاء "غربة" الإنسان أو "عدم تجانسه" مع هذا العالم الترابي.
 
الموت أمر نسبي لا يعني الفناء
لقد نشأ إشكال وجود الموت من توهّم أنّه يعني الفناء، في حين أنّ الموت لا يعني فناء الإنسان، بل هو تحوّل وتطوّر، وغروب لنشأةٍ وجودية وشروق لنشأةٍ وجودية أخرى، فهو - بعبارة أُخرى - فناءٌ، ولكنّه ليس مطلقاً بل هو فناءٌ نسبيٌّ، أي أنّه عدم لنشأةٍ ووجود لنشأةٍ أخرى3.
 
ليس موت الإنسان موتاً مطلقاً، بل هو فقدان لحالةٍ واكتساب لحالةٍ أخرى، فهو فناء نسبيٌّ كما هو الحال مع أيّ تغيّر وتحوّلٍ آخر. وموت التراب يتحقّق عندما يتحوّل إلى نبات، فهو إذن ليس موتاً مطلقاً، بل إنّ التراب فَقَدَ شكله وخواصه السابقة، وتجلّيه وظهوره القبلي بصورة الجماد، أي أنّه مات في حالٍ ووضع معيّن واكتسب حياةً أخرى في وضع جديد.
 
الدنيا رحم الروح الإنسانية
ثمّة أوجه للشبه وأخرى للتمايز بين انتقال الإنسان من هذا العالَم إلى عالَم آخر، وولادة الطفل من رحم أمّه، فأوجه التمايز بينهما تكمن في أنّ الاختلاف بين الدنيا والآخرة أعمق وأكثر جوهرية من الاختلاف بين عالم رحم الأم وخارجه. فعالَم



1 ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.
2 ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.
3 في علل الشرائع، أنّ رجلاً قال للإمام الصادق عليه السلام: إنّا خلقنا للعجب... خلقنا للفناء! فقال عليه السلام: "مه يا بن أخ! خلقنا للبقاء، وكيف تفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد؟ ولكن قل: إنما نتحوّل من دار إلى دار ". بحار الأنوار، ج5، ص 313.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

108

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 الرحم وخارجه كلاهما من عالم الطبيعة والحياة الدنيا، أمّا عالمي الدنيا والآخرة فهما نشأتان متمايزتان ونمطان مختلفان من أنماط الحياة بينهما فروق جوهرية.


أمّا أوجه الشبه بين هذه الولادة وذاك الانتقال فهي تكمن في بيان طبيعة اختلاف الأوضاع الحياتية، فالطفلُ يتغذّى بواسطة حبل المشيمة وهو جنينٌ في رحم أمّه، لكن هذا الحبل يُقطع عندما يولد لتُصبح تغذيته عن طريق الفم وقنوات الجهاز الهضمي، وتُخلقُ فيه الرئتان وهو في الرحم، لكنّه لا يستفيد منهما إلا بعد خروجه من الرحم، بل إنّ أبسط استفادة منهما وهو في الرحم تؤدّي إلى موته، ويستمرّ حاله على هذا المنوال إلى اللحظة الأخيرة من إقامته في الرحم، فإذا خرج منه بدأت الرئتان والجهاز التنفّسي بالعمل فوراً وبصورة متواصلة، لأنّ أبسط توقّف فيها يُعرّضه لخطر الموت!

أجل، فالتغيّر في النظام الحياتي للطفل يتغيّر بهذه الحدّة، فهو يعيش قبل الولادة بنظام حياتي متمايز بالكامل عن نظام حياته بعدها، والجهاز التنفسّي يُخلق فيه وهو مقيم في رحم أمّه، ولكن ليس من أجل أن يستفيد منه أثناء إقامته بالرحم، بل بهدف إعداده مسبقاً للحياة بعد مرحلة الرحم وهكذا الحال مع أجهزة البصر والسمع والذوق والشم، فهي تُخلقُ فيه بكلّ تعقيداتها أثناء مدّة إقامته في رحم أمّه، لكي يستفيد منها في المرحلة اللاحقة من حياته، لا أثناء مدّة إقامته في الرحم.

وهكذا هو حال الدنيا مقارنة بعالَم الآخر، فالدنيا هي بمثابة الرحم الذي يُقيم فيه الإنسان لإعداده الحياة الأخرى، لأنّ في هذه الدنيا تصنع الصورة والأجهزة المعنوية التي يستفيد منها الإنسان ويعيش بها في حياته الأخرى.

والأجهزة الإعدادية المعنوية للإنسان هي: البساطة والتجرّد ورفض التجزّؤ والتشتّت الذّاتي والثبات النسبي لـ "أنا" الإنسان وهويّته الإنسانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

109

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 إنّ آمال الإنسان العريضة غير المحدودة وأفكاره بآفاقها الواسعة التي لا حدّ لها، هي أدوات تناسبُ حياة أوسع نطاقاً من حياته الدنيا، بل هي حياة خالدة أبدية، وهذه الأدوات هي التي تجعل الإنسان "غريباً" عن هذا العالَم الترابي الفاني وغير متجانس معه، وهي التي جعلت حاله حال قصبة "الناي" التي قطعوها عن أخواتها ونقلوها بعيداً عن وطنها، فأخذت تئنّ في غربتها أنيناً مفجعاً يبكي النساء والرجال على حدٍّ سواء، وتبحث باستمرار عن صدر غريب مثلها تبثّ إليه شكوى الفراق وألم الاشتياق. وهذا هو السبب الذي جعل الإنسان يرى نفسه "ملك سدرة المنتهى والأفق المبين"1، ويرى العالم "سجن المحنة"2 بالنسبة إليه أو يرى نفسه "طائر روضة القدس"3 ويرى الدنيا "شبكة الحوادث"4.

 
يُخاطب الله تبارك وتعالى عباده الذين جهّزهم بهذه الأدوات، منبّهاً إلى الغاية من خلقهم وتجهيزهم بها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾5.
 
لقد خُلق الإنسانُ مجهّزاً بكلّ هذه الأدوات المناسبة لعالَمٍ أوسع أفقاً من عالَم الدنيا، ولو لم تكن له رجعة إلى هذا العالَم الأوسع، فإنّ حاله سيكون بالضبط كحال الجنين الذي لا يكون له عالمٌ أوسع من عالَم الرحم، وهذا يعني موت جميع الأجنّة فور انتهاء مدّة الإقامة في الرحم، فتكون النتيجة أنّ خلق جميع أجهزة البصر والسمع والشم والدماغ والأعصاب وأجهزة التنفّس والهضم وغيرها من الأجهزة التي لا يستفيد منها الجنين في رحم أمّه حيث تكون حياته فيه نباتية، هو خلق عبثي, لأنّ الجنين لن يستفيد منها أبداً!



1 تعابير ورموز مستخدمة في الشعر الحكمي الفارسي للتعبير عن المعنى الذي يتحدّث عنه المؤلّف.
2 م.ن.
3 م.ن.
4 م.ن.
5 سورة المؤمنون، الآية 115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

110

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 إذن، يتّضح أنّ الموت عبارة عن نهاية لمرحلةٍ من حياة الإنسان وبداية لمرحلة جديدة منها، فهو موت بالنسبة للحياة الدنيوية وولادة بالنسبة للحياة الأخروية، مثلما أنّ ولادة الطفل تعني موتاً لمرحلة حياته في الرحم، وولادة نسبة إلى مرحلة حياته في عالم الدنيا.

 
الدنيا مدرسة لإعداد الإنسان
تُعتبر الدنيا مرحلة الاستعداد والتكامل والتأهّل للحياة الآخرة، فهي بمثابة المدرسة والجامعة التي تعدّ الشاب لحياته المستقبلية، وهي حقّاً مدرسة ودار للتربية، روي في قسم الكلمات القصار (الحكم) من نهج البلاغة، أنّ الإمام علي عليه السلامسمع رجلاً يذمّ الدنيا ويذكر شرورها، فهي تخدع الإنسان وتفسده وتجني عليه، وكان هذا الرجل قد سمع الأكابر يذمّون الدنيا فتوهّم أنّ مرادهم ذمّ حقيقة هذا العالَم وأنّ العالَم بحدّ ذاته سيّء، وغفل أنّ الذمّ متوجّه إلى عبادة الدنيا وضيق الأفق والأماني الدنية التي لا تُناسب مكانة الإنسان ولا تُحقّق له سعادته. وهذا ما بيّنه له أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها... أتغترّ بالدنيا ثم تذمّها؟ أنت المتجرّم عليها، أم هي المتجرّمة عليك؟... إنّ الدنيا دار صدقٍلمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها... مسجد أحبّاء الله ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله... "1.
 
يقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾2.
 
وهذه الآية تُبيّن أنّ عالم الدنيا مركّب من الموت والحياة، فهو دار لاختبار صلاح الإنسان وحسن عمله، وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ معنى الاختبار الإلهي هو إظهار طاقات الإنسان واستعداداته، أي تنمية هذه الاستعدادات وإيصالها إلى مرتبة



1 نهج البلاغة، ص 575، في القصار من كلماته، رقم الحكمة 131.
2 سورة الملك، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

111

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 الكمال، وبعبارة أخرى فإنّ هدف الاختبار الإلهي هذا ليس كشف الأسرار الموجودة، بل نقل الاستعدادات الكامنة الخفية، كالأسرار من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل، فالمقصود بالكشف هنا هو "الإيجاد"، إذ إنّ الاختبار الإلهي ينقل الصفات الإنسانية من مخفي القوّة والاستعداد إلى ميدان الفعلية ومرتبة الكمال، أي إنّ الاختبار الإلهي لا يكشف عن وزنها وقيمتها بل يزيد وزنها وقيمتها.

 
وبهذا البيان يتّضح أنّ الآية المتقدّمة تُشير إلى حقيقة أنّ الدنيا محلّ تنمية الطاقات والاستعدادات، فهي "دار التربية".
 
جذور الاعتراض على وجود الموت
على ضوء التوضيح الذي عرضناه آنفاً لحقيقة الموت يتّضحُ عدم استناد الاعتراضات المثارة بشأنه إلى أيّ أساس قويم، وهذه الاعتراضات ناشئة في الواقع من الجهل بحقيقة الإنسان وحقيقة عالم الدنيا، أو أنّها ناشئة من معرفة بتراء وناقصة لحقيقة الكون والحياة1.
 
وحقيقٌ بالنزوع للحياة الخالدة أن يكون مؤلماً للغاية، وتكون صورة الموت مرعبة للغاية في رؤية الإنسان ذي النظرة الواضحة البعيدة، إذا كان الموت نهاية للحياة حقّاً، وهذا هو سرُّ توهّم بعض الأشخاص أنّ الحياة عبثٌ لا جدوى منه، فهم يجدون في أنفسهم نزوعاً وميلاً للحياة الخالدة، لكنّهم يتوهّمون استحالة تحقّق ما يميلون



1 في علل الشرائع عن الإمام الصادق عليه السلام قال - ضمن حديث -: "فهكذا الإنسان خُلقَ من شأن الدنيا وشأن الآخرة، فإذا جمع الله بينهما صارت حياته في الأرض لأنّه نزل من شأن السماء إلى الدنيا، فإذا فرّق الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت، ترد شأن الأخرى إلى السماء، فالحياة في الأرض، والموت في السماء وذلك إنه يُفرّق بين الأرواح والجسد، فردّت الروح والنور إلى القدس الأولي، وترك الجسد لأنه من شأن الدنيا، وإنّما فسد الجسد في الدنيا لأن الريح تنشف الماء فييبس، فيبقى الطين فيصير رفاتاً ويبلى، ويرجع كل إلى جوهره الأول، وتحرّكت الروح بالنفس حركتها من الريح، فما كان من نفس المؤمن فهو نور مؤيّد بالعقل، وما كان من نفس الكافر فهو نار مؤيّد بالنكر، فهذه صورة نار، وهذه صورة نور، والموتُ رحمة من الله لعباده المؤمنين ونقمة على الكافرين " بحار الأنوار، ج6، ص118. وفي الحديث الشريف إشارة دقيقة إلى معنى خلق الموت. (المترجم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

112

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 إليه بقوّة، ولولا وجود هذا الميل فيهم لما اعتبروا الحياة عبثاً لا طائل منه، فهم كانوا سيرونها فرصة محدودة للتمتّع بالنعم والسعادة وإن كانت ستنتهي إلى العدم المطلق، ولن يُفكّروا أبداً بأنّ العدم أفضل من وجود مثل هذه الحياة المحدودة، لأنّهم يفترضون أنّ عيبها هو في محدوديّتها وقصر أمدها وانتهائها إلى العدم، أي أنّ عيوبها ناشئة - حسب هذا الفرض - من العدم اللاحق لها وقصر أمدها؟ فكيف يكون العدم أفضل من هذا المقدار المحدود من الوجود؟!


ولكنّنا عندما نجد أملاً ونزوعاً وطلباً للخلود في نفوسنا، فهذا النزع والطلب والأمل فرع لتصوّر الخلود وإدراك جماله وجاذبيّته التي تبعثُ فينا الأمل الكبير بالخلود والفوز بالحياة الأبدية، أجل إذا هجمت علينا مجموعة من الأفكار المادّية التي تقول لنا: إنّ هذه الآمال لا مصداق لها، فلا وجود للحياة الخالدة، فمن الطبيعي - حينئذٍ - أن نقع في الاضطراب والأذى والعذاب الخانق الذي يدفعنا إلى تمنّي عدم المجيء إلى هذه الدنيا لكي لا نواجه كلّ هذا العذاب والأذى.

من هنا يتّضح أنّ تصوّر عبثية الوجود ناشئ عن عدم الانسجام بين غريزة ذاتية في الإنسان، وتلقينات اكتسابية، ولذلك لم يكن لمثل هذا التصوّر ليتولّد فينا لولا وجود تلك الغريزة الذاتية، وكذلك لولا هجوم تلك الأفكار المادّية الخاطئة.

لقد خُلق الإنسان بصورة غرست معها في فطرته هذه النزعة القوية للخلود، لكي تكون وسيلة لوصوله إلى الكمال اللائق به، والذي يتوفّر فيه الاستعداد اللازم لبلوغه، والاستعدادات الكامنة في فطرة الإنسان وتركيبته أوسع من أن تستوعبها الحياة الدنيا بأيّامه المعدودات، ولذلك فلو كانت حياته محدودة بهذه الحياة الدنيوية فإنّ خلق تلك الاستعدادات فيه هو أمر عبثيّ حقّاً. والذي لا يؤمنُ بالحياة الخالدة يجد حالة من عدم الانسجام بين تركيبته الوجودية من جهة، وأفكاره الإلحادية وآماله المحدودة من جهة أخرى ولذلك فهو يقول بلسان أفكاره الإلحادية: إنّ العدم هو 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

113

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 نهاية الوجود، وكلّ الطرق تنتهي إلى العدم، ولذلك فالحياة عبث لا طائل منه، لكنّه يقول بلسان استعداداته الفطرية - وهو اللسان البليغ ذو النظرة الجامعة -: لا محلّ للعدم. وأمامي طريق لا نهاية له، ولو كانت حياتي محدودة لما خُلق فيّ الاستعداد للخلود والنزوع إليه.


 
من هنا اعتبر القرآن الكريم - وكما لاحظنا سابقاً - إنكار المعاد مرادفاً للاعتقاد بعبثية الخلق: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾1.
 
أجل، إنّ من يعتقد أنّ الدنيا مدرسة ودار للتكامل ويؤمن بالحياة الأخرى ونشأة الآخرة، لا يُمكن أن تصدر منه اعتراضات من قبيل: ما كان ينبغي أن نُخلق في هذه الدنيا، وإذا خُلقنا فلا ينبغي أن يُكتب علينا الموت، فمثل هذا الاعتراض لا يختلف في درجة ابتعاده عن المعايير العقلية، عن القول: إمّا أن لا يدخل الطفل المدرسة، وإذا دخلها فلا ينبغي أن يُغادرها!!
 
ولقد أجاد الشاعر العالم بابا أفضل الكاشاني2 - وهو أُستاذ الخواجة نصير الدين الطوسي3 أو أُستاذ أستاذ - في بيان حكمة الموت، حيث شبّه جسم الإنسان بالصدف الذي يربي في داخله جوهر الروح الإنسانية الثمينة، ولا ينكسر هذا الصدف إلا بعد أن يتكامل وجود الجوهرة وتتأهّل بذلك لمغادرة محلّها الداني والعروج إلى مقامها السامي على رأس الإنسان. وهذا التشبيه يصدق على الموت، فبه ينتقل الإنسان من سجن عالم الطبيعة إلى رياض البهجة في الجنّة العالية التي 



1 سورة المؤمنون، الآية 115.
2 الحكيم فاضل بابا أفضل الكاشاني فيلسوف، أُستاذ نصير الدين الطوسي، حيث أخذ منه الأصول العلمية والفلسفية، ويحتمل غير ذلك، لأنّ نصير الدين كان له من العمر عشر سنوات عندما توفي خاله سنة (607/1209). انظر: الفيلسوف نصير الدين الطوسي، 27، 61.
3 حجة الفرقة الناجية الفيلسوف المحقِّق أُستاذ البشر، وأعلم أهل البدو والحضر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الجهرودي سلطان العلماء المحققين، وأفضل الحكماء والمتكلمين ولد في 11 جمادى الأولى سنة 597هـ ، بطوس، وتوفي في يوم الغدير سنة 672هـ. الكنى والألقاب 3، 250.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

114

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 عرضها عرض السموات والأرض، فيستقر في مقعد الصدق عند المليك المقتدر1 والربّ العظيم الذي يكتسب الإنسان بالتقرّب إليه كلّ كمال. وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾2.

 

 
الموت توسعة للحياة
كما ينبغي الانتباه - ضمن دراسة ظاهرة الموت - إلى حقيقة أنّ ظاهرتي الموت والحياة توجدان في عالم الوجود نظام التعاقب، بمعنى أنّ موت كلّ جماعة يُمهّد الحياة لجماعة أخرى فيه، فأجساد الحيوانات الميتة لا تذهب هدراً، بل إنّها تولد حيوانات نشطة جديدة أو نباتات طرية شابة، كما أن الصدف يقدم لعالم الوجود عندما ينغلق درّة مضيئة ثم يتولّد - من مادّة الصدف المنكسر نفسه - صدف جديد وشاب يُربّي في داخله جوهرة ثمينة أُخرى، وهكذا تتكرّر هذه العملية باستمرار، ويستمرّ فيض الحياة اللامتناهي وعلى مدى الزمان.
 
ولو لم يمت الذين عاشوا قبل ألف سنة لما حظي أهل هذا العصر بنعمة الحياة، كما أنّ بقاء أهل هذا العصر أحياء يسلب أجيال المستقبل فرصة الحياة، وإذا لم تقتطف ورود الموسم الزراعي السابق، فإنّ الورود الجديدة الطريّة لن تجد فرصة إظهار جمالها.
 
إنّ سعة المادّة لتقبّل الحياة المحدودة من جهة المكان، لكنّها غير محدودة من جهة الزمان، والطريف أنّ لمادّة العالَم سعة زمانية تتناسب مع سعتها المكانية، فكلّما ازدادت سعتها المكانية، ازدادت تبعاً لها سعتها الزمانية وبصورة لا نظير لها.



1 ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ *  فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾ (سورة القمر، الآيتان 54 - 55).
2 سورة البقرة، الآية 156.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

115

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 ومن المحتمل أن يعترض معترض بأن يقول: إنّ قدرة الله سبحانه مطلقة لا حدّ لها، فما المانع أن يبقى هؤلاء خالدين، ويوفّر الله للأجيال القادمة ما تحتاجه من مكان وطعام؟

 
لكن القائلين بهذا الاعتراض لا يعلمون أنّ كلّ ممكن الوجود قد أفاض الله ويفيض الوجود عليه، وغير الموجود هو الذي يفتقد لإمكانية الوجود. وحتى مع فرض إمكان وجود مكان آخر مناسب لحياة أقوام أخرى، فإنّ الإشكال يبقى على قوّته, لأنّ استمرار هؤلاء الأقوام في الحياة - حتى مع هذا الفرض - سيُشكّل مانعاً لوجود وحياة أجيال لاحقة في هذا المكان المفترض1.
 
وقد ذكرنا هذه الحقيقة كقضية تكميلية للجواب الذي عرضناه تحت عنوان "الموت أمر نسبي"، والنتيجة استفادة من الجمع بين هاتين الحقيقتين هي: أنّ مادّة الكون تُوجدُ - بسيرها الطبيعي وحركتها الجوهرية - الجواهر النقية المتألّقة للأرواح المجرّدة، ثم تترك الروح المجرّدة المادّة وتواصل حياتها في مرتبة حياتية أعلى وأقوى، لتفسح المجال للمادّة لكي تُربّي في أحضانها جوهرةً أخرى.
 
وبناءً على هذه النتيجة يتّضحُ أنّ الموجود في هذا النظام الكوني هو التكامل والرقي في مراتب الحياة ولا غير، وهذا التكامل والرقي يتحقّق من خلال عمليات النقل والانتقال.



1 يُضاف إلى ذلك أنّه حتى تغيّر المستوى الطبيعي المتعارف من مدّة الحياة يؤدّي إلى اختلال نظام الحياة كما يشير إلى ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في أماليه مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ قوماً أتوا نبيّاً لهم فقالوا: ادع لنا ربك (ربنا - خ) يرفع عنّا الموت، فدعا لهم، فرفع الله تبارك وتعالى منهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يُصبح فيحتاج أن يُطعم أباه وأمّه وجدّه وجدّ جدّه، ويوضيهم (يرضيهم - خ) ويتعاهدهم فشغلوا عن طلب المعاش، فأتوه فقالوا: سل ربّك أن يردّنا إلى آجالنا التي كنّا عليها، فسأل ربّه عزّ وجلّ فردّهم إلى آجالهم ". بحار الأنوار، ج6، ص116.
وعليه يتّضح أنّ مستوى الآجال المألوف للكائنات ينسجم مع خصوصيات النظام الخلقي الأحسن. (المترجِّم).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

116

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 ولا يُمكن أن يكون ثمّة محلٍّ لمثل هذه الاعتراض في فلسفة الذي يقول: "كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تُبعثون"1 كما ورد في الحديث النبوي، وصاحب هذه العقيدة لا يرهب الموت، بل يُقبل عليه بشوق ويرى فوزه فيه كما كان حال الإمام علي عليه السلام. يقول الفيلسوف الإلهي الجليل السيد الميرداماد2 ما مضمونه: لا تخش مرارة الموت، فمرارته تكمن في الخشية منه، ويُحدّد الفيلسوف الإلهي الإشراقي الشيخ السهروردي3 قاعدةً مؤدّاها: نحن لا نعدّ الحكيم حكيماً حتى يُصبح قادراً على خلع بدنه بمحض إرادته، أي يُصبح خلع البدن والتحرّر منه ملكة له وكأمر عادي وبسيط. وللسيد الميرداماد - وهو الحكيم المحقّق ومؤسّس حوزة أصفهان - كلام مماثل لكلام الشيخ السهروردي.

 
أجل، هذا هو منطق العارفين بقيمة الجوهرة الثمينة التي تتربّى في باطن الجسم الإنساني، أمّا الذي حبس نفسه في سجن الأفكار المادّية الخاطئة وذات الأفق الضيّق، فمن الطبيعي أن يخاف من الموت، لأنّه يراه معبراً إلى العدم ويُوذيه تصوّر أن يهدم الموت هذا الجسم الذي يتوهّم أنّه يُمثّل كلّ وجوده وهويّته وحقيقته، ولذلك فإنّ رؤيته هذه للموت تجعله ينظر بعين التشاؤم إلى الكون برمته.
 
وعلى مثل هذا الشخص أن يُعيد النظر في طبيعة فهمه للكون والحياة، وعليه أن يعرف أنّ اعتراضه على وجود قانون الموت ناتج من فهمه غير الصحيح للكون والحياة.



1 الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص261، في تفسير سورة الزمر، الآية 42، وروضة الواعظين، 53 باختلاف يسير، وعنه التفسير الأصفى، ج2، ص711، وص870.
2 محمد باقر بن محمد الحسيني، توفي سنة 1041هـ، الاسترأبادي الأصل، المعروف بالمير الدماد، فقيه، أصولي، حكيم، رياضي، شاعر له تصانيف عديدة منها: رسالة في حدوث العالم وغيره. أعلام الزركلي، ج6، ص272 ومعجم المؤلفين، ج6، ص156، رقم 12360.
3 أبو حفص شهاب الدين عمرو بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه البكري الشافعي الصوفي العارف الحكيم، له كتاب جذب القلوب إلى مواصلة المحبوب، وعوارف المعارف، توفي ببغداد سنة 632، الكنى والألقاب، ج2، ص325.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

117

الدرس السابع: حل إشكالية وجود الموت والفناء

 ويُذكّرني هذا الموضوع بقصّةِ رجل ساذج كان يبيع الكتب في المدرسة الفيضية في الأعوام التي كُنتُ أدرس فيها في قم، كان هذا الرجل يعرض كتبه ويشتري طلبة الحوزة ما يرغبون فيه منها، وكانت تصدر منه أفعال عجيبة وكلمات مضحكة يتناقلها الطلبة، وقد نقل أحدهم أنّه ذهب إليه لشراء كتاب منه، ولمّا سأله عن ثمنه أجابه: لا أبيع هذا الكتاب؟! فسأله: ولماذا؟ أجاب: إذا بعته وجب عليّ أن أشتري نسخة أخرى لأضعها في محلّه! فضحك الطالب من قوله: إذ لا يخفى أنّ بائع الكتب لا يكون بائعاً للكتب ولا يربح شيئاً إذا لم يكن يبيع ويشتري الكتب.


والخلق برمّته تجارة، والكون سوق للبيع وتهيئة البضائع والحصول على الربح، وهذه العملية تتكرّرُ فيه باستمرار. ونظام الموت والحياة نظام تبادلي ونظام ازدياد وتكامل، والذي ينتقده لم يعرف قوانين العالم وغايته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

118

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة1

 
 
حديث في كراهة الموت
عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
جاء رجل إلى أبي ذر فقال: "يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب، فقال: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أمّا المحسن منكم فكالغائب يُقدم على أهـله، وأمّاالمسيء منكم فكالآبق يُردّ على مولاه. قال فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إنّ الله يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *  وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾2. فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين"3.
 
درجات الناس في الخوف من الموت
إنّ الناس يختلفون كثيراً في كراهية الموت والخوف منه، كما أنّهم يختلفون في مناشئ هذه الكراهية. وما ذكره أبو ذر رضوان الله تعالى عليه في الرواية المذكورة مرتبط بالمتوسّطين من الناس، ونحن نذكر إجمالاً أيضاً حال الناقصين والكاملين.



1 الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً, مؤسسة تنظيم نشر تراث الإمام الخميني قدس سره، طهران، 2003 م، الحديث الثاني والعشرون، ص 381.
2 سورة الإنفطار، الآيتان 13 - 14.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص458.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

119

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 1- خوف الناقصين من الموت:

لا بدّ أن نعرف بأنّ كراهيّتنا للموت وخوفنا منه نحن الناقصين، هو لأجل أنّ الإنسان بحسب فطرته التي فطره الله عليها، وجبلّـته الأصيلة، يُحبّ البقاء والحياة، وينفر من الموت والفناء. وهذا يرتبط بالبقاء المطلق والحياة الدائمة السرمدية، أي البقاء الذي لا فناء فيه والحياة التي لا زوال فيها.

وإنّ بعض كبار العرفاء قد أثبتوا المعاد بواسطة هذه الفطرة، ببيان يوجب ذكره هنا الخروج عن المقصود. وحيث إنّ في فطرة الإنسان هذا الحبّ وذلك التنفّر، فإنّه يُحبّ ويعشق ما يرى فيه البقاء، ويُحبّ ويعشق العالَم الذي يرى فيه الحياة الخالدة، ويهرب من العالَم الذي يُقابله. وحيث إنّنا لا نؤمن بعالَم الآخرة، ولا تطمئنّ قلوبنا بالحياة الأزلية، والبقاء السرمدي لذلك العالَم، فإنّنا نُحبّ هذا العالَم، ونهرب من الموت بحسب تلك الفطرة والجبلّة.

الإدراك والإذعان العقلي يختلف عن الإيمان والاطمئنان القلبي، فنحن نُدرك بالعقل أو نُصدّق أحاديث الأنبياء بالتعبّد بأنّ الموت - الذي هو حالة انتقال من النشأة النازلة المظلمة الملكية إلى عالَم آخر هو عالَم الحياة النورانية الدائمة ونشأة البقاء الملكوتية - حقّ، ولكن قلوبنا لا تحظى بشيء من هذه المعرفة، ولا علم لها بذلك. بل إنّ قلوبنا قد أخلدت إلى أرض الطبيعة، النشأة الملكية، ونعتبر أنّ الحياة هي هذه الحياة النازلة الحيوانية الملكية، ولا نرى بقاء وحياة للعالَم الآخر وهو عالَم الآخرة ودار الحيوان.

ولذا نركن ونعتمد على هذا العالَم المادّي ونخاف ونهرب وننفر من ذلك العالَم. إنّ كلّ شقائنا هذا سببه النقص في الإيمان بيوم القيامة وعدم الاطمئنان بعالَم الآخرة. فلو أنّنا آمنّا بعالَم الآخرة والحياة الأبدية، عُشر إيماننا واطمئناننا بالحياة الدنيوية وبقائها، لتعلّقت قلوبنا بذلك العالَم أكثر ولعشقناه، ولسعينا قليلاً في إصلاح
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

120

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 الطريق وترميمه. ولكن من المؤسف أنّ إيماننا بالآخرة قد نضب من قلوبنا، وأنّ يقيننا متزلزل، فلا بدّ أن نخاف إذاً من الفناء والزوال. وعليه ينحصر العلاج الحاسم في إدخال الإيمان إلى القلب عبر التفكّر والذكر النافع والعلم والعمل الصالح.

 
2- خوف المتوسّطين من الموت:
وأمّا الخوف وكراهة المتوسّطين للموت، أي الذين لم يحصلوا على الإيمان المطلوب بعالَم الآخرة، فلأنّ قلوبهم قد انشدّت نحو تعمير الدنيا وغفلت عن تعمير الآخرة، لذا فهم لا يرغبون في الانتقال من مكان فيه عمران إلى مكان فيه الخراب، كما ذكر أبو ذر الغفاري رضي الله عنه. وهذا أيضاً سببه نقص الإيمان والاطمئنان. وأمّا لو كان إيمان الإنسان كاملاً، فلا يسمح لنفسه بأن يشتغل بأموره الدنيوية المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة. وملخّص الكلام أنّ كلّ هذه الوحشة والكراهية والخوف تكون نتيجة لبطلان أعمالنا، واعوجاج سلوكنا ومخالفتنا لمولانا، في حين أنّه لو كان نهجنا صحيحاً وكُنّا نقوم بمحاسبة أنفسنا لما استوحشنا من الحساب، لأنّ المحاسبة هناك عادلة، والمحاسِب عادل، فخوفنا من الحساب لأجل سوء أعمالنا وتزويرنا واحتيالنا وليس من أجل المحاسبة.
 
فعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال: "ليس منّا من لم يُحاسب نفسه في كلّ يوم، فإنّ عمل حسناً استزاد، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه"1.
 
فلو حاسبتَ نفسك لن تكون مبتئساً يوم الحساب ولن تُصاب بالخوف منه. وهكذا فإنّ جميع المهالك والمواقف في ذلك العالَم تكون نتيجة أعمالنا في هذا العالَم.
 
مثلاً: إذا انتهجت في هذا العالَم صراط النبوّة والطريق المستقيم للولاية ولم تنحرف عن جادّة ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، ولم تنزلق أقدامك، لما كان عليك بأس عند اجتيازك للصراط في يوم القيامة. لأنّ حقيقة الصراط هي الصورة 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص453.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

121

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 الباطنية للولاية. كما ورد في الأحاديث الشريفة: "أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط"1، وفي حديث أخر: "نحن الصراط المستقيم"2. وفي الزيارة المباركة الجامعة الكبيرة: "أنتم السبيل الأعظم والصراط الأقوم"3.

 
فمن كان مستقيماً في حركته على هذا الصراط، ولم يضطّرب قلبه، كانت أقدامه ثابتة على الصراط في الحياة الآخرة ولم تضطّرب، بل يجتازه كالبرق الخاطف. وهكذا إذا كانت أخلاقه طيّبة، وملكاته عادلة ونورانية، فإنّه سيكون في مأمن من ظلمة القبر ووحشته، وعالم البرزخ ومخاوفه، وعالم القيامة وأهواله، فلا يكون عليه خوف في تلك النشآت. وعليه يكون الداء منّا والدواء أيضاً، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في الأبيات المنسوبة إليه:
دواؤك فيك وما تشعر      وداؤك منك وما تُبصر4
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لرجل: "إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّـن لك الداء، وعُـرِّفت آية الصحّة، ودُلِلت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك"5.
 
أيّها الإنسان فيك أعمال وأخلاق وعقائد فاسدة، وعلامات الصحّة هي وصفات الأنبياء وأنوار الفطرة والعقل، ودواء إصلاح النفوس هو الإقدام على تصفيتها وتهذيبها، هذا هو حال المتوسّطين.



1 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الصراط المستقيم أمير المؤمين علي عليه السلام?. الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ج2، ص32.
2 عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "... نحن أبواب اللهِ ونحن الصّراطُ الْمستقيم ونحن عَيْبَةُ علمه ونحن تَرَاجِمَةُ وَحْيِهِ ونحن أركان تَوحِيده ونَحن موْضِعُ سِرِّه ". الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص35.
3 الزيارة الجامعة الكبيرة، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص372.
4 المبيدي، حسين بن معين الدين، ديوان أمير المؤمنين عليه السلام، ترجمة وتصحيح وتحقيق مصطفى زماني، نشر دار النداء الإسلام للنشر، قم، الطبعة الأولى، 1411هـ، ص 175.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص454.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

122

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 3- خوف المؤمنين الكمّل من الموت:

وأمّا الكمّـل والمؤمنون المطمئنّون، فإنّهم لا يكرهون الموت، ولكنّهم يستوحشونه ويخافونه، لأنّهم يخشون الحقّ تعالى، وجلال ذاته المقدّسة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فأين هول المطلع"?1. وكان أمير المؤمنين عليه السلام في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان في حالة عجيبة من الذهول والخوف مع أنّه يقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"2.
 
وملخّص الحديث أنّ خوف هؤلاء يكون من أمور أخرى، ولا يكون من نوع خوفنا نحن المصفـّدين بالآمال والأماني، والمحبّين للدنيا الفانية. وإنّ قلوب أولياء الله في منتهى الاختلاف فيما بينها، حتى أنّه لا يُمكن عدّ هذه المراتب وإحصاؤها. ونحن نُشير إلى بعضها بصورة مجملة فنقول:
 
إنّ قلوب الأولياء مختلفة فيما بينها في قبول تجلّيات الأسماء:
أ- بعض القلوب عشقية وشوقية، حيث إنّ الحقّ تعالى يتجلّى في تلك القلوب من خلال أسمائه الجمالية، وهذا التجلّي يبعث على الخوف والهيبة الممزوجة بالشوق، فالخوف عند هذه الفئة يكون من مضاعفات تجلّي عظمة الله سبحانه. فالقلب الواله العاشق في نفس الوقت الذي يكون فيه مضطّرباً حين اللقاء مع الحبيب، يكون مستوحشاً وخائفاً أيضاً. لكن هذا الخوف والوحشة يختلفان عن المخاوف العادية.
 
ب- وبعض القلوب خوفية وحزنية، والحقّ تعالى يتجلّى في تلك القلوب بواسطة الأسماء الجلالية والعظمة، فيحصل بهذا التجلّي الهيمان والحبّ المشوب بالخوف، والحيرة المشوبة بالحزن.



1 ابن شهرآشوب المازندراني، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالبعليه السلام، نشر علامة، قم، الطبعة الأولى، 1421هـ، ج1، ص 234.
2 نهج البلاغة، ص52.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

123

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 وفي الحديث أنّ النبيّ يحيى عليه السلام رأى يوماً النبي عيسى عليه السلام يضحك، فعاتبه قائلاً: "أتأمن مكر الله وعذابه، فأجاب عيسى عليه السلام: أأنت آيس من رحمة الله وفضله؟ فأوحى الله سبحانه إليهما يقول: من كان منكما يُحسن الظنّ بي أكثر، فهو عندي محبوب أكثر".


لأنّ الحق تعالى تجلّى في قلب يحيى عليه السلام من خلال الأسماء الجلالية، كان خائفاً، فعاتب النبي عيسىعليه السلام على هذا النحو. أمّا النبي عيسى عليه السلام فقد تجلّى الله تعالى على قلبه بالأسماء الجمالية فكان جوابه عليه السلام على حسب تلك التجلّيات.

الإنسان بأعماله يبني جنّته أو ناره!
إنّ ظاهر الحديث الذي ذكرناه عندما يقول: "عمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة" هو أنّ دار الآخرة والجنّة مشيدة وقائمة وإنّما تتهدّم بأعمالنا.

ومن الواضح أنّ المقصود - من قوله عمـرّتم الدنيا وأخربتم الآخرة - هو التشابه في التعبير، فإنّه لما عـبّر عن الدنيا بالتعمير عـبّر عن دار الآخرة بالتخريب.

وإنّ عالم الجنّة والنار وإن كانا مخلوقين، ولكن إعمار دار الجنّة وموادّ بناء جهنّم تابعة لأعمال أهلها، ففي رواية أنّ أرض الجنّة جرداء وموادّ بنائها هي أعمال بني الإنسان نفسها. وهذا يتطابق مع البرهان وكشف أهل المكاشفة.

كما يقول بعض العرفاء المحقّقين: "اعلم - عصمنا الله وإيّاك - أنّ جهنّم من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة. وإنّما سُمّيت بجهنّم لبعد قعرها حيث يُقال للبئر البعيد الغور والعميق بئر جهنّم. وهي تحتوي على حرارة وزمهرير (أي البرودة) وتكون برودتها من أقصى درجات البرودة وحرارتها من أقصى درجات الحرارة، وتُعتبر المسافة بين أعلاها وأسفلها مسيرة سبعمائة وخمسين عاماً. والناس اختلفوا في أنّ جهنّم مخلوقة أم غير مخلوقة. أمّا عندنا وعند أصحابنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

124

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 من أهل المكاشفة والمعرفة، فإنّ الجنّة وجهنّم مخلوقتان وغير مخلوقتين. أمّا أنّهما مخلوقتان فإنّ مثلهما مثل رجل بنى بيتاً وأقام الجدار الخارجي فصار يُقال له بيت. ولكن إذا دخلنا المنزل لم نجد شيئاً سوى سوره وحائطه الذي يصون البيت من الخارج، ولكن بعد ذلك يشيد البيت حسب طلب الساكنين من بناء الغرف والمرافق والملاجئ وحسب هدف صاحب المنزل وما ينبغي أن يكون فيه"1.

 
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا أُسري بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فرأيتُ فيها قيعان ورأيتُ فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة وربما أمسكوا فقلتُ لهم: ما بالكم قد أمسكتم. فقالوا: تجيئنا النفقة. فقلتُ: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا وإذا سكت أمسكنا"2.
 
وخلاصة الحديث: أنّ صورة الجنّة وجهنّم الجسمانيّتين هي صور الأعمال والأفعال الحسنة والسيّئة لبني آدم، حيث ترجع إليهم في ذلك العالَم. كما أشارت إلى ذلك الآية الشريفة في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾3. وقوله عليه السلام: "إنّما هيأعمالكم تردّ إليكم"4.
 
ومن الممكن أن يكون عالَم الجنّة وعالَم جهنّم نشأتين ودارين مستقلّين، يتحرّك إليهما بنو آدم بالحركة الجوهرية، والدوافع الملكوتية والحركات الإدارية العملية والخلقية، وإن كانت حظوظ كلّ واحد منهم نابعة من صور أعماله. وعلى أيّ حال فإنّ الجنّة هي عالم الملكوت الأعلى وهو عالَم مستقل تُساق إليه النفوس السعيدة، وجهنّم عالم الملكوت السفلي الذي تُساق إليه النفوس الشقيّة، وما يعود إلى الإنسان 



1 محي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج1، الفصل الأول، الباب 61.
2 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص292.
3 سورة الكهف، الآية 49.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

125

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 في كلتي النشأتين من الصور البهيّة الحسنة أو الصور المؤلمة المدهشة مردّه إلى أعمال الإنسان نفسه.

 
كيف يُصبح الاتكال على رحمة الله مانعاً عن العمل الصالح؟
لا يخفى أنّ حديث أبي ذر رضوان الله تعالى عليه حديث جامع وكلام متين، لا بدّ من المحافظة عليه، فإنّ أبا ذر لمّا قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب الكريم حيث يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾1 تمسّك الرجل بالرحمة قائلاً فأين رحمة الله؟ فقال أبو ذر: لا تكون رحمة الحقّ من دون قيد ولا شرط بل هي قريبة من المحسنين.
 
إنّ الشيطان الملعون، والنفس الأمّارة بالسوء، يُغرّران الإنسان عبر طرق كثيرة ويقودانه إلى الهلاك الأبدي الدائم، وآخر وسيلة يلتجآن إليها، هي تغرير الإنسان برحمة الحقّ سبحانه، ومنعه بذلك عن المضي في العمل الصالح، وهذا الاتكال على الرحمة من مكائد الشيطان وأساليب تضليله.
 
والدليل على ذلك أنّنا في قضايانا الدنيوية، لا نعتمد على رحمة الحقّ سبحانه، بل نرى العوامل الطبيعية والظاهرية، مستقلّة وفعـّالة وكأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الأسباب الظاهرية. ولكنّنا في الأمور الأخروية غالباً ما نتّكل وبحسب زعمنا على رحمة الحقّ سبحانه، ونغفل عن أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مدّعين أنّ الله تعالى لم يزوّدنا بالقدرة على العمل، ولم يُعـلّمنا طريق الصواب والخطأ.
 
وخلاصة الكلام إنّنا في شؤوننا الدنيوية نكون من أتباع مسلك التفويض، وفي شؤوننا الأخروية من الجبريّين، غافلين عن أنّ هذين المسلكين باطلان وفاسدان ومخالفان لأوامر وإرشادات الأنبياءعليهم السلام، ومنهج أئمة الهدى والأولياء المقرّبين.
 
وهم مع أنّهم كانوا جميعاً يؤمنون برحمة الحقّ، وكان إيمانهم أشدّ وأقوى من



1 سورة الإنفطار، الآيتان 13 - 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

126

الدرس الثامن: كراهة الموت والخوف من الآخرة

 الجميع، إلّا أنّهم لم يغفلوا لحظة واحدة عن أداء واجبهم ولم يتوقّفوا عن السعي وبذل الجهد دقيقة واحدة.

 
أخي ادرس صحائف أعمالهم: لاحظ أدعية ومناجاة سيّد الساجدين وزين العابدين عليه السلام، وتدبّر فيما كان يفعله في مقام العبودية، وكيف كان ينهض بوظيفة ودور العبودية أمام الله تعالى؟! ومع ذلك عندما يُلقي سيّد الساجدين نظرة على صحيفة مولى المتّقين وأمير المؤمنين علي عليه السلام، يُبدي أسفه، ويُظهر عجزه!1
 
فنحن إمّا نُكذّبهم - نعوذ بالله - فنقول بأنّهم لم يطمئنّوا برحمة الحقّ سبحانه مثلنا، أو نُكذّب أنفسنا، ونفهم بأنّ هذه الأقوال التي نتفوّه بها هي من مكائد الشيطان وإغراءات النفس حيث يُريدان تضليلنا عن الصراط المستقيم. نعوذ بالله من شرّهما.
 
نصيحة أخيرة
فيا أيّها العزيز كما قال أبو ذر للرجل: إنّ العلم كثير ولكن العلم النافع لأمثالنا هو أن لا نُسيئ إلى أنفسنا، وأن نعرف بأنّ أوامر الأنبياء والأولياء عليهم السلام تكشف عن حقائق نحن محجوبون عنها. إنّهم يعلمون بأنّ للأخلاق الذميمة والأعمال السيّئة، صوراً بشعة وثماراً فاسدة، وأنّ للأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة صوراً جميلة ملكوتية.
 
إنّهم حدّثونا عن كلّ شيء عن الدواء والعلاج وعن الداء والسقم. فإذا كُنتَ عطوفاً على نفسك، فلا بدّ وأن لا تتجاوز هذه الإرشادات بل تستفيد منها لتُداوي ألمك، وتُعالج مرضك. يعلم الله أنّه إذا انتقلنا مع ما نحن عليه الآن إلى ذلك العالَم، فبأيّ مصائب وآلام ومعاناة سوف نُبتلى؟! والحمد لله أولاً وأخراً.



1 الشيخ بهاء الدين الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، ص 85.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

127

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 الدرس التاسع: النظرية المهدوية1

 
الشّيعة وعقيدة المهدويّة
إنّ أصل المهدويّة هو محلّ اتّفاق جميع المسلمين. وفي عقائد الأديان الأخرى، يوجد أيضًا انتظار المنجي في نهاية الزّمان. فقد فهموا هذا المطلب أيضًا بنحوٍ صحيح في بُعدٍ من أبعاد القضيّة، ولكن في البُعد الأساسيّ المتعلّق بتحديد ومعرفة الشّخص المنجي، ابتُلوا بنقص المعرفة. والشّيعة يعرفون المنجي بالاسم والعلامة والخصائص وتاريخ الولادة، من خلال الأخبار المسلّمة والقطعيّة عندهم (20/09/2005)
 
إنّ خصوصية اعتقادنا نحن الشّيعة هي أنّنا قد بدّلنا هذه الحقيقة في مذهب التّشيّع من حالة الأُمنية والأمر الذهنيّ المحض، إلى حالة واقعيّة موجودة. الحقيقة هي أنّ الشّيعة عندما ينتظرون المهديّ الموعود فإنّهم ينتظرون اليد المنجية تلك، ولا يغرقون في عالم العقليّات بل يبحثون عن الواقعيّة وهي موجودة. وحجّة الله حيٌّ بين النّاس وموجودٌ ويعيش فيما بينهم ويرى النّاس وهو معهم، ويشعر بآلامهم وأسقامهم. وأصحاب السّعادة والاستعداد يزورونه في بعض الأحيان بصورة خفيّة. إنّه موجودٌ، هو إنسانٌ واقعيّ مشخّص باسمٍ معيّن، له أبٌ وأمّ محدّدان وهو بين النّاس ويعيش معهم.هذه هي خصوصيّة عقيدتنا نحن الشّيعة.



1 الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله، إنسان بعمر 250 سنة، مركز نون، بيروت، ط 2015م.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

128

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 أولئك الّذين لا يقبلون هذه العقيدة من المذاهب الأخرى، لم يتمكّنوا في أيّ وقتٍ من إقامة أيّ دليلٍ يقبل به العقل لردّ هذه الفكرة وهذه الواقعيّة.

 
فجميع الأدلّة الواضحة والراسخة، الّتي يُصدقّها الكثير من أهل السنّة أيضًا، تحكي بصورة قاطعة ويقينيّة عن وجود هذا الإنسان العظيم، فهو حجّة الله، وهو الحقيقة الواضحة والسّاطعة ــ بتلك الخصائص الّتي نعرفها، أنا وأنتم ــ وأنتم تُشاهدون هذه الأمور في العديد من المصادر غير الشيعيّة.
 
فتاريخ ولادة الابن المبارك والمطهّر للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام معروفٌ، وكذلك والداه وأصحابه ومعجزاته، وقد منحه الله عمرًا طويلًا، وما زال. وهو تجسيدٌ لتلك الأمنية الكبرى، لجميع أمم العالَم، وقبائله وأديانه وأعراقه عبر جميع العصور. هذه هي خصوصيّة مذهب الشّيعة بشأن هذه القضيّة المهمّة.
 
نكات حول العقيدة المهدوية
هناك نكاتٌ بشأن الاعتقاد بالمهدويّة أُشير إليها بالإجمال:
الأولى هي أنّ الوجود المقدّس لحضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، هو عبارة عن استمرار النبوّات والدّعوات الإلهيّة منذ بداية التّاريخ وإلى يومنا هذا، أي كما تقرؤون في دعاء النّدبة من: "فبعض أسكنته جنّتك"، الّذي هو آدم، وإلى: "أنانتهيت بالأمر"1، أي الوصول إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعدها قضيّة الوصيّة وأهل بيت هذا النبيّ العظيم إلى أن يصل الأمر إلى إمام الزمان، فالجميع عبارة عن سلسلة متّصلة ومرتبطة ببعضها في تاريخ البشريّة. وهذا بمعنى أنّ تلك الحركة العظيمة للنبوّات وتلك الدعوات الإلهيّة بواسطة الرّسل، لم تتوقّف في أيّ مقطعٍ من الزمان. فالبشريّة تحتاج إلى الأنبياء والدّعوات الإلهيّة، والدُعاة الإلهيّين، وهذا الاحتياج باقٍ 



1 ابن مشهدي، محمد بن جعفر، المزار الكبير، تحقيق وتصحيح جواد القيومي الأصفهاني، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1419هـ، ص574 - 575.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

129

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 إلى يومنا هذا، وكلّما مرّ الزمان فإنّ البشر يصبحون أقرب إلى تعاليم الأنبياء.

 
لقد أدرك المجتمع البشريّ اليوم من خلال التقدّم الفكريّ والمدنيّة والمعرفة، الكثير من تعاليم الأنبياء ــ والّتي لم تكن قابلة للإدراك من قِبَل البشر قبل عشرات القرون من هذا ــ فقضيّة العدالة هذه، وقضيّة الحريّة، وكرامة الإنسان، وهذه الألفاظ الرائجة في العالَم اليوم، هي كلماتُ الأنبياء. في ذلك الزّمن، لم يُدرك عامّة النّاس والرأي العام هذه المفاهيم. وبعد مجيء الأنبياء وانتشار دعوتهم، غُرست هذه الأفكار في أذهان النّاس وفي فطرتهم وفي قلوبهم جيلًا بعد جيل. فالدّعاة الإلهيّون لم تنقطع سلالتهم اليوم، والوجود المقدّس لبقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، هو استمرار سلالة الدّعاة الإلهيّين حيث تقرؤون في زيارة آل ياسين: "السّلام عليك يا داعي الله وربّانيّ آياته"1. أي إنّكم اليوم ترون تجسيدًا، لدعوة إبراهيم ودعوة موسى، ودعوة عيسى، ودعوة جميع الأنبياء والمصلحين الإلهيّين ودعوة النبيّ الخاتم في وجود حضرة بقيّة الله. فهذا الإنسان العظيم هو وارثهم جميعًا، وبيده دعوتهم ورايتهم جميعًا، وهو يدعو البشريّة ويعرض عليها تلك المعارف الّتي جاء بها الأنبياء عبر الزمان الممتدّ. هذه هي نقطةٌ مهمّة.
 
المعنى الحقيقيّ لانتظار الفرج
النقطة اللاحقة في باب المهدويّة، هي انتظار الفرج. فانتظار الفرج مفهومٌ واسعٌ جدًّا. وأحد أنواعه هو انتظار الفرج النهائيّ، أي إنّ النّاس عندما يرون طواغيت العالَم مشغولين بالنّهب والسّلب والإفساد والاعتداء على حقوق النّاس، لا ينبغي أن يتخيّلوا أنّ مصير العالَم هو هذا. لا ينبغي أن يُتصوّر أنّه في نهاية المطاف لا بدّ ولا مناص من القبول بهذا الوضع والإذعان له، بل ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الوضع هو



1 ابن مشهدي، المزار الكبير، ص569.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

130

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 وضعٌ عابر-"للباطل جولة"1 - وأمّا ما هو مرتبطٌ بهذا العالَم وطبيعته فهو عبارة عن استقرار حكومة العدل وهو سوف يأتي. إنّ انتظار الفرج والفتح في نهاية العصر الّذي نحن فيه، حيث تُعاني البشريّة من الظلم والعذابات هو مصداقٌ لانتظار الفرج، ولكن لانتظار الفرج مصاديق أخرى أيضًا.

 
فعندما يُقال لنا انتظار الفرج، فلا يعني انتظار الفرج النهائيّ، بل يعني أنّ كلّ طريقٍ مسدود قابلٌ للفتح. الفرج يعني هذا، الفرج يعني الشقّ والفتح. فالمسلم يتعلّم من خلال درس انتظار الفرج أنّه لا يوجد طريق مسدود في حياة البشر ممّا لا يُمكن أن يُفتح، وأنّه لا يجب عليه أن ييأس ويُحبط ويجلس ساكنًا ويقول لا يُمكن أن نفعل شيئً، كلا، فعندما يظهر في نهاية مطاف حياة البشر ومقابل كلّ هذه الحركات الظّالمة والجائرة، عندما تظهر شمس الفرج، فهذا يعني أنّه في كلّ هذه العقبات والسدود الموجودة في الحياة الآن، هناك فرجٌ متوقّع ومحلّ انتظار. هذا هو درس الأمل لكلّ البشريّة. وهذا هو درس الانتظار الواقعيّ لجميع النّاس.
 
لهذا، عُدّ انتظار الفرج من أفضل الأعمال، ويُعلم من ذلك أنّ الانتظار هو عملٌ لا بطالةٌ. فلا ينبغي الاشتباه والتصوّر أنّ الانتظار يعني أن نضع يداً فوق يد ونبقى منتظرين حتّى يحدث أمرٌ ما. الانتظار عملٌ وتهيّؤٌ وباعثٌ على الاندفاع والحماس في القلب والباطن، وهو نشاطٌ وتحرّكٌ وتجدّدٌ في كلّ المجالات. وهذا هو في الواقع تفسير هذه الآيات القرآنية الكريمة: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾2  أو ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾3 أي أنّه لا ينبغي أن تيأس الشعوب والأُمم من الفرج في أيّ وقتٍ من الأوقات.



1 تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 71.
2 سورة القصص، الآية 5.
3 سورة الأعراف، الآية 128.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

131

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 لهذا ينبغي انتظار الفرج النهائيّ، مثلما ينبغي انتظار الفرج في جميع مراحل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة. لا تسمحوا لليأس أن يسيطر على قلوبكم، فانتظروا الفرج واعلموا أنّ هذا الفرج سيتحقّق، وهو مشروطٌ في أن يكون انتظاركم انتظارًا واقعيًّا، وأن يكون فيه العمل والسّعي والاندفاع والتحرّك.


إنّنا اليوم ننتظر الفرج. أي إنّنا ننتظر مجيء يدٍ مقتدرةٍ تنشر العدل وهي هزيمة الظّلم والجور الّذي سيطر على كلّ البشريّة تقريبًا، فيتبدّل هذا الجوّ من الظّلم والجور وينبعث نسيم العدل في حياة البشر لكي يشعر النّاس بالعدالة. إنّ هذا هو حاجة أيّ إنسانٍ واعٍ بشكلٍ دائم، الإنسان الّذي لم يجعل رأسه في حجره ولم يستغرق في حياته الخاصّة. الإنسان الّذي ينظر إلى الحياة العامّة للبشر بنظرة كلّية فإنّه من الطبيعيّ أن يكون في حالة انتظار، هذا هو معنى الانتظار. فالانتظار يعني عدم الاقتناع والقبول بالوضع الموجود لحياة البشر، وهو السّعي من أجل الوصول إلى الوضع المطلوب، ومن المسلَّم به أنّ هذا الوضع المطلوب سوف يتحقّق على يد وليّ الله المقتدرة الحجّة بن الحسن المهديّ، صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

يجب أن نعدّ أنفسنا كجنودٍ مستعدّين لتلك الظروف والشّرائط، ونُجاهد في هذا المجال. إنّ انتظار الفرج لا يعني أن يجلس الإنسان ولا يفعل أيّ شيء، ولا ينهض لأيّ إصلاحٍ بل يُمنّي نفسه بأنّه منتظرٌ لإمام الزّمان عليه الصّلاة والسلام، فهذا ليس انتظارًا.

ما هو الانتظار؟ الانتظار يعني أنّه لا بدّ من مجيء يدٍ قادرةٍ مقتدرةٍ ملكوتيّةٍ إلهيّةٍ وتستعين بهؤلاء النّاس من أجل القضاء على سيطرة الظّلم، ومن أجل غلبة الحقّ وحاكمية العدل في حياة البشريّة ورفع راية التّوحيد, تجعل البشر عبادًا حقيقيّين لله. يجب الإعداد لهذا الأمر. فكلّ إقدامٍ على طريق استقرار العدالة يُمثّل خطوةً نحو ذلك الهدف الأسمى. الانتظار يعني هذه الأمور. الانتظار حركةٌ وليس سكونًا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

132

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 ليس الانتظار إهمالاً وقعوداً إلى أن تصلح الأمور بنفسها. الانتظار حركةٌ واستعدادٌ. هذا هو انتظار الفرج.


خصائص المجتمع المهدوي
إنّ المجتمع المهدويّ هو ذلك العالم الّذي يأتي فيه إمام الزّمان ليصلحه، وهو المجتمع نفسه الّذي ظهر من أجله جميع الأنبياء. أي أنّ كلّ الأنبياء كانوا مقدّمة لذلك المجتمع الإنسانيّ المثاليّ، والّذي سيتحقّق في نهاية الأمر بواسطة وليّ العصر والمهديّ الموعود. مثل بناءٍ شامخٍ، يأتي شخصٌ فيُسطّح الأرض ويزيل منها الأشواك والعوائق، ثمّ يأتي شخصٌ آخر من بعده ويصنع فيها الأسس، ثمّ يأتي شخصٌ آخر ليضع فيها الأعمدة والأركان، وهكذا شخصٌ بعد آخر، يأتون لعمارة الجدران حتّى يصل هذا القصر المرتفع، وهذا البنيان الرفيع إلى شكله النهائيّ. لقد جاء الأنبياء الإلهيّون، ومنذ بداية تاريخ البشريّة، واحدًا بعد آخر، من أجل أن يُقرّبوا المجتمع والبشريّة خطوةً خطوة نحو ذاك المجتمع المثاليّ وذاك الهدف النهائيّ. لقد نجح جميع الأنبياء ولم يفشل أيّ واحدٍ من رسل الله على هذا الطريق، وفي هذا المسير، لقد كان حملًا على عاتق هؤلاء المأمورين الشّامخين، وكلّ واحدٍ منهم تقدّم به خطوةً نحو المقصد والهدف النهائيّ وسعوا بكلّ جهدهم من أجل القيام بهذا العمل. وعندما كانوا يصلون إلى آخر حياتهم كان هناك من يأتي من بعدهم ليضع هذا الحمل على عاتقه ويتقدّم به مسافةً أخرى، مقتربًا بذلك من ذلك الهدف. ووليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، هو وارث جميع الأنبياء الإلهيّين، فعندما يأتي ستكون الخطوة الأخيرة على طريق إيجاد ذلك المجتمع الإلهيّ.

أتحدّث قليلًا حول صفات ذلك المجتمع. بالطّبع، لو أنّكم دقّقتم في الكتب الإسلاميّة وفي المصادر الإسلاميّة الأساسيّة للاحظتم جميع خصائص ذلك المجتمع. فدعاء النّدبة هذا الّذي تُوفّقون بإذن الله لقراءته أيّام الجمعة، يذكر خصائص ذلك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

133

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 المجتمع. فعندما يقول: "أين معزّ الأولياء ومذلّ الأعداء"1 مثلًا، فذلك المجتمع هو مجتمعٌ يكون فيه أولياء الله أعزّاء وأعداء الله أذلّاء، أي أنّ القيم والمعايير الحاكمة في ذلك المجتمع تكون هكذا. "أين المُعدّ لإقامة الحدود"، ففي هذا المجتمع تُطبّق الحدود الإلهيّة وتُراعى كلّ الحدود الّتي عيّنها الله تعالى والإسلام في مجتمع إمام الزمان. فعندما يظهر إمام الزمان يصنع مجتمعًا له باختصار مثل هذه الخصوصيّة، دقّقوا حولها في الآيات وفي الأدعية عندما تقرؤونها، فتتفتّح أذهانكم في هذا المجال، وتتّسع، فمجرّد قراءة دعاء النّدبة ليس كافيًا، فالمطلوب هو الفهم وأخذ الدّروس.

 
إنّ إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، يبني مجتمعه على هذه الأسس:
أوّلًا: على إزالة وقمع وقلع جذور الظّلم والطّغيان. فلا ينبغي أن يكون في هذا المجتمع الّذي يكون في زمان وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، أيّ ظلمٍ وجور، لا أنّ الأمر يكون في إيران على هذه الشّاكلة فحسب، ولا حتّى في المجتمعات الّتي يقطنها المسلمون، بل في كلّ العالم. فلن يكون أيّ ظلمٍ اقتصاديّ أو سياسيّ أو ثقافيّ أو أيّ نوعٍ آخر في ذلك المجتمع. فيجب اقتلاع كلّ الاختلافات الطبقيّة وكلّ أنواع التمييز وعدم المساواة والتسلّط والهيمنة. هذه هي الخصوصيّة الأولى.
 
ثانيًا: إنّ من خصائص المجتمع المثاليّ الّذي يصنعه إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، هو الارتقاء بمستوى الفكر البشريّ، سواء على المستوى العلميّ الإنسانيّ أو المعارف الإسلاميّة. ففي زمن وليّ العصر، لن تجدوا في كلّ العالم، أيّ أثرٍ للجهل والأميّة والفقر الفكريّ والثقافيّ. هناك يتمكّن النّاس من معرفة الدّين معرفة صحيحة، 



1 ابن مشهدي، المزار الكبير، داء الندبة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

134

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 وقد كان هذا، كما تعلمون جميعًا، من الأهداف الكبرى للأنبياء الّذي أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام، في خطبة نهج البلاغة الشريفة، "ويُثيروا لهم دفائن العقول..."1. لقد جاء في رواياتنا أنّه عندما يظهر وليّ العصر، فإنّ المرأة تجلس في بيتها وتفتح القرآن وتستخرج منه حقائق الدّين وتفهمها. فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أنّ مستوى الثّقافة الإسلاميّة والدّينيّة يرتقي إلى درجة أنّ جميع الأفراد، وكلّ أبناء المجتمع، والنّساء اللواتي لا يُشاركن في ميدان الاجتماع على سبيل الفرض ويبقين في بيوتهنّ، فإنّهنّ يتمكّنّ من أن يصبحن فقيهات وعارفات في الدّين، فيتمكّنّ من فتح القرآن وفهم حقائق الدّين بأنفسهنّ. انظروا إلى مجتمعٍ يكون فيه الجميع ــ نساءً ورجالًا ــ وعلى كافّة المستويات قادرين على فهم الدّين والاستنباط من الكتاب الإلهيّ، فكم سيكون هذا المجتمع نورانيًّا، ولن يبقى فيه أيّ نقطة ظلام وظلمانيّة. فكلّ هذه الاختلافات في وجهات النّظر والتحليل، لن يبقى لها أيّ أثرٍ في ذلك المجتمع.

 
ثالثاً: الخاصّيّة الثالثة لمجتمع إمام الزمان ــ المجتمع المهدويّ ــ هو أنّه في ذلك العصر ستكون جميع القوى الطّبيعيّة وكلّ الطّاقات البشريّة في حالة انبعاثٍ فلا يبقى أيّ شيءٍ في باطن الأرض ولا يستفيد منه البشر. فكلّ هذه الإمكانات الطّبيعيّة المعطّلة، وكلّ هذه الأراضي الّتي يمكن أن تُغذّي الإنسان، وكلّ هذه الطّاقات والقوى الّتي لم تُكشف بعد، كتلك الطّاقات الّتي بقيت عبر قرون التّاريخ. مثلًا، القدرة النوويّة والطّاقة الكهربائيّة كانت وعبر قرون عمر هذا العالم، في باطن الطّبيعة ولم يكن البشر يعرفونها، ثمّ بعد ذلك قاموا باستخراجها بالتّدريج. فكلّ الطّاقات والإمكانات اللامتناهية الموجودة في باطن الطّبيعة هي من هذا القبيل، وسوف تُستخرج في عصر إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 



1 نهج البلاغة، ج1، ص23. خطبته في صفة خلق آدم.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

135

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 جملةً أخرى وخصوصية أخرى، هي أنّ المحور في عصر إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف هو محور الفضيلة والأخلاق. فكلّ من كان صاحب فضيلة أخلاقيّة أكثر سيكون مقدّمًا وسبّاقًا.

 
وفي روايةٍ أخرى يقول: "القائم منّا منصورٌ بالرّعب مؤيّدٌ بالنّصر، تُطوى له الأرض وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب"1، ممّا يعني أنّ كلّ الحكومات الظّالمة والأجهزة الجائرة ستكون مرعوبةً منه. في ذلك الزّمن، سيكون هناك حالةٌ في زمان وليّ العصر أرواحنا فداه، من الشموليّة والعموميّة بحيث يُمكن أن تُحقّق الحكومة العالميّة. "مؤيّدٌ بالنصر"، فنصر الله يؤيّده. و"تُطوى له الأرض"، أي إنّها ستكون بيده وفي قبضة قدرته. وتظهر تلك الكنوز وتبلغ سلطته مشرق العالم ومغربه.
 
وبعد عدّة جملٍ يقول، "فلا يبقى خرابٌ إلّا قد عمّر"2، أي إنّ هذه السّلطة سوف تُنفق في عمارة الأرض، لا في السّيطرة على ثروات البشر وفي استضعافهم. وفي كلّ نقاط العالم لن يبقى أيّ نقطةٍ من الخراب إلّا وستُعمّر، سواءٌ كانت خرابات حصلت على أيدي البشر أو بسبب جهلهم. هناك رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه الصّلاة والسلام يقول فيها: "حتى إذا قام القائم جاءت المزايلة وأتى الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته فلا يمنعه"3، وهي إشارة إلى أخلاق المساواة بين البشر وإلى الإيثار. وتُبشّر هذه الرّواية بنجاة البشر من تسلّط البخل والحرص الّذي كان أكبر سببٍ لشقاء البشريّة. وهذا في الحقيقة علامةٌ على ذلك النّظام الإسلاميّ



1 الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، نشر الإسلامية، طهران، الطبعة الثانية، 1395هـ، ج 1، ص 331.
2 م. ن.
3 الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشّيعة، تحقيق وتصحيح ونشر مؤسسة آل البيتعليهم السلام، قم، الطبعة الأولى، 1409هـ، ج 5، ص 121.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

136

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 السالم أخلاقيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في ذلك الزّمان. فلا يوجد أيّ قهرٍ وإجبارٍ في البين، بل إنّ البشر أنفسهم ينجون من البخل الإنسانيّ والحرص البشريّ وستتحقّق مثل هذه الجنّة الإنسانيّة. يوجد في روايةٍ أخرى أيضًا: "إذا قام قائمنا اضمحلّت القطائع، فلا قطائع"1، فتلك القطائع الّتي تمنحها الحكومات المستكبرة في العالم لأتباعها وحلفائها، وذلك الكرم الحاتميّ الّذي يحصل من جيوب الشّعوب سوف يتوقّف تمامًا في العالم. وقد كانت القطائع في الماضي بشكلٍ وهي اليوم بشكل آخر. كانت في الماضي بحيث أنّ الخليفة أو السّلطان يمنح أرضًا أو صحراءً أو قريةً أو مدينةً أو حتّى ولايةً لشخصٍ ما، فيقول له اذهب هناك وافعل ما يحلو لك فيها، خذ من أهلها الجبايات والخراج واستعمل مزارعها واستفد منها وكلّ فائدة مادّية هي لك، وكان عليه طبعًا أن يُعطي السّلطان حظّه. واليوم، هي بصورة الاحتكارات النّفطيّة والتجاريّة والصّناعيّة والفنّية المختلفة، وكلّ هذه الصّناعات الكبرى وهذه الاحتكارات الّتي جعلت الشعوب مسكينةً هي في الواقع في حكم القطائع، الّتي أُشير إليها، وفيها كانت تُمارس كلّ أنواع الرّشاوة والمحاباة. إنّ هذا البساط الّذي يقتل البشر ويقضي على الفضيلة سوف يُطوى وسوف توضع أسباب الاستفادة والنّفع بيد جميع النّاس.

 
وفي روايةٍ أخرى ناظرة إلى الوضع الاقتصاديّ يقول: "ويسوّي بين النّاس حتّى لا ترى محتاجاً إلى الزكاة"2، ما يعني أنّه لن يبقى هناك أيّ فقير يحتاج إلى زكاة أموالكم، وبالطّبع سيكون لهذه الزّكاة مصرفها في الأمور العامّة لا للفقراء، لأنّه لن يبقى هناك أيّ فقير، ومثل هذه الرّوايات ترسم الجنّة الإسلاميّة والعالم الواقعيّ. وليس هذا الأمر مشابهًا لتلك المدن الفاضلة الّتي صنعها البعض في خيالاتهم 



1 جامع أحاديث الشّيعة، البروجردي، ج 23، ص 1012.
2 م.ن، ج 17، ص 222.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

137

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 وأوهامهم، كلّا. إنّ كلّ تلك الشّعارات الإسلاميّة الّتي هي جميعًا قابلة للتّطبيق، ونحن في الجمهورية الإسلاميّة نشعر أنّ هناك قدرة وقلب وفكر متّصل بالوحي والتأييد الإلهيّ ومعصومٌ يمكنه يقينًا أن يُحقّق مثل هذا الوضع، وسوف تُقبل البشريّة على ذلك حتمًا. هذه هي حالة ذلك العالم.


مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف
هنا إذا رجعتم إلى الآيات والرّوايات ــ وبالتّأكيد إنّ المحقّقين والمتتبّعين قد فعلوا ذلك ــ فسوف تجدون خصوصيّات أخرى. المجتمع الّذي لا يوجد فيه أيّة علامةٍ للظّلم والطّغيان والعدوان، المجتمع الّذي تصل فيه المعرفة الدّينيّة والمعرفة العلميّة للبشر إلى حدّها الأعلى، المجتمع الّذي تبرز فيه كلّ هذه البركات والنّعم والفضائل والجماليّات وتكون في يد الإنسان، وفي النّهاية المجتمع الّذي تكون فيه التّقوى والفضيلة والإيثار والأخوّة والعطف والانسجام أصلًا ومحورًا. فانظروا إلى مثل هذا المجتمع، فهو ذاك المجتمع الّذي سيُحقّقه مهدينا الموعود وإمام زماننا، ومحبوبنا التاريخيّ القديم، والّذي يعيش الآن تحت هذه السّماء وعلى هذه الأرض وبين النّاس. هذا هو اعتقادنا بإمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

حسنٌ، ماذا نفعل بعد هذا؟ فبعد هذا تكليفنا واضح. أوّلًا، يجب أن نعلم أنّ ظهور وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، مثلما أنّه بثورتنا هذه أصبح أقرب خطوةً، فبهذه الثّورة أيضًا يُمكن أن يقترب أكثر. أي إنّ نفس هذا الشّعب الّذي قام بهذه الثّورة، وقرّب نفسه خطوةً إضافية إلى إمام زمانه، يُمكنه أيضًا أن يتقدّم خطوةً ثمّ خطوةً ثمّ خطوة نحو إمام زمانه. 

فكيف (ذلك)؟
أوّلا: كلّما استطعتم أن توسّعوا من دائرة هذا المقدار من الإسلام الّذي لدينا نحن وأنتم في إيران ــ لا نُبالغ، الإسلام الكامل ليس متحقّقًا، ولكن قسمٌ من الإسلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

138

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 قد طبّقه هذا الشّعب في إيران ــ فهذا المقدار من الإسلام كلّما استطعتم أن تنشروه في الآفاق الأخرى للعالَم، وفي البلاد الأخرى، وفي المناطق المظلمة، فإنّه بنفس المقدار سيُساعد ويُقرّب من ظهور وليّ الأمر وحجّة العصر.


ثانيًا: إنّ الاقتراب من إمام الزمان ليس بمعنى الاقتراب المكانيّ ولا بمعنى الاقتراب الزّمانيّ. فأنتم الّذين تُريدون أن تقتربوا من ظهور إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّ الاقتراب من إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس له تاريخٌ محدّد كأن يُقال مثلًا، بعد مئة سنة أو خمسين سنة، حتّى نقول إنّنا عبرنا سنةً أو سنتين أو ثلاث سنوات، من هذه الخمسين أو المئة سنة، فيبقى عندئذٍ هذا المقدار من السّنوات، كلّا، وليس أيضًا بلحاظ المكان حتّى نقول إنّنا تحرّكنا من هنا باتّجاه الشّرق أو غرب العالم مثلًا، أو نحو الشّمال أو الجنوب، لنرَ أين هو وليّ العصر لنصل إليه. كلّا، إنّ اقترابنا من إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف هو اقترابٌ معنويّ، أي إنّكم في كلّ زمانٍ إذا استطعتم أن تزيدوا من حجم المجتمع الإسلاميّ كمًّا ونوعًا إلى خمس سنوات أو عشر سنوات أخرى، أو حتّى مئة سنة أخرى، فإنّ إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف سيظهر.

لو استطعتم أن تُحقّقوا في أنفسكم وفي غيركم، في داخل مجتمعكم ــ هذا المجتمع الثّوريّ ــ التّقوى والفضيلة والأخلاق والتّديّن والزّهد والقرب المعنويّ من الله، وجعلتم قاعدة ظهور وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أكثر رسوخًا وإحكامًا، وكلّما استطعتم أن تزيدوا باللحاظ الكمّي والمقدار، عدد المسلمين المؤمنين والمخلصين فإنّكم تكونون هنا أيضًا أقرب إلى إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وإلى زمن ظهور وليّ العصر. فنحن نستطيع أن نُقرّب مجتمعنا وزماننا وتاريخنا خطوةً بخطوة نحو تاريخ ظهور وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف, هذا واحدٌ.

النّقطة الثّانية هي أنّه لدينا في ثورتنا اليوم طرق ومناهج، فإلى أيّ جهةٍ ينبغي أن تتحرّك هذه المناهج؟ فهذه النقطة جديرة جدًّا بالتأمّل. فافرضوا أنّ لدينا طالبًا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

139

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 مجدًّا يريد أن يُصبح أستاذًا مثلًا في علم الرّياضيّات.


فكيف ينبغي أن نؤمّن مقدّمات هذا الأمر. فينبغي أن نوجّه دراساته باتّجاه الرّياضيات. فلا معنى أن نُعطيه دروسًا في الفقه مثلًا، إذا كُنّا نُريده أن يُصبح عالمًا رياضيًّا. أو أنّ من يريد أن يُصبح فقيهًا نُعطيه دروس الأحياء مثلًا، فينبغي أن تكون المقدّمات متناسبة مع النتيجة والغاية. الغاية هي المجتمع المثاليّ المهدويّ بتلك الخصائص الّتي ذكرتها. فيجب علينا إذًا أن نؤمّن المقدّمات بما يتناسب. يجب علينا أن نُبعد أنفسنا عن الظّلم ونتحرّك بحزمٍ ضدّه، أيّ ظلمٍ كان ومن أيّ شخص. يجب علينا أن نجعل توجّهاتنا نحو إقامة الحدود الإسلاميّة. وفي مجتمعنا، لا نُعطي أيّ مجالٍ لنشر الأفكار المخالفة للإسلام. نحن لا نقول إنّه علينا بالقهر والغلبة، لأنّنا نعلم أنّه لا يمكن مواجهة الفكر إلّا عن طريق الفكر، لكنّنا نقول إنّه علينا بالطّرق الصّحيحة والمنطقيّة والمعقولة أن ننشر الفكر الإسلاميّ.

يجب أن تُصبح كلّ قوانيننا ومقرّرات بلدنا وإداراتنا ومؤسّساتنا التنفيذيّة والكلّ إسلاميًّا بلحاظ الظّاهر والمحتوى، وأن نقترب نحو أسلمتها يومًا بعد يوم. هذه هي الجّهة الّتي تمنحنا وتمنح حركتنا معنى انتظار وليّ العصر. أنتم تقرؤون في دعاء النّدبة أنّ إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف يُقاتل الفسوق والعدوان والطّغيان والنّفاق ويُزيل كلّ ذلك ويقضي عليه. وعلينا اليوم أن نتحرّك في مجتمعنا بهذا الاتّجاه ونتقدّم. هذا هو الشّيء الّذي يُقرّبنا إلى إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف من النّاحية المعنويّة، ويُقرّب مجتمعنا نحو مجتمع وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ذلك المجتمع المهدويّ العلويّ التّوحيديّ ويزيده قربًا.

وهناك أثرٌ آخر ونتيجةٌ مختلفة لمستقبل هذا العالَم، حيث يزول اليأس والإحباط من قلوب الشّعوب، ونعلم حينها أنّ جهادنا مؤثّرٌ ومنتج. أحيانًا، هناك أفرادٌ ممّن ليس لديهم اطّلاع على هذا البعد من الفكر الإسلاميّ، يُصابون بالحيرة واليأس أمام هذه الحسابات والمعادلات المادّية الكبرى في العالَم، ويتساءلون فيما بينهم كيف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157
 

140

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 يُمكن لشعبٍ يريد أن يثور أن يقاوم مثل هذه القوى العظمى والتكنولوجيا المتطوّرة والأسلحة المدمّرة، ومثل هذه القنابل النوويّة الموجودة في العالَم؟ يشعرون أنّ الصمود مقابل ضغط قوى الظلم والاستكبار أمرٌ غير ممكن. لكنّ الاعتقاد بالمهديّ والإيمان بتحقّق عصر الحكومة الإسلاميّة والإلهيّة على يد ابن النبيّ وإمام الزّمان يُحقّق هذا الأمل في الإنسان ويقول له، كلّا، سنُجاهد لأنّ العاقبة لنا، ولأنّ عاقبة أمرنا هي أنّ هذا العالَم يجب أن يخضع ويسلّم وسوف يحصل هذا الأمر. وذلك لأنّ مسير التّاريخ يتّجه نحو ما قمنا اليوم بوضع أسسه وقد حقّقنا أنموذجًا عنه ولو كان ناقصًا1.

 
ومثل هذه الأمل لو وُجد في قلوب الشّعوب المناضلة ــ وخاصّةً الشّعوب الإسلاميّة ــ فسوف يمنحها حالةً من النّشاط المستمرّ بحيث لا يمكن لأيّ عاملٍ أن يخرجها من ميدان الجهاد والنّضال، أو أن يُصيبها بالهزيمة الداخليّة.
 
ويوجد نقطةٌ أخرى وهي أنّ الإعلام والأفكار المغلوطة قد انغرست في ذهن النّاس، وعبر كلّ هذه السّنين المتمادية، إلى تلك الدّرجة حيث اعتقدوا أنّ أيّ تحرّكٍ إصلاحيّ لن يكون مفيدًا ومثمرًا قبل قيام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ويستدلّون بأنّ الدنيا يجب أن تُملأ ظلمًا وجورًا حتّى يأتي الإمام المهديّ، وما لم تمتلئ بالظّلم والجور فإنّه لن يظهر. كانوا يقولون إنّ الإمام يظهر بعد أن تُصبح هذه الدنيا مليئةً بالظّلم والجور. والنّقطة الموجودة هنا هي أنّ في جميع الرّوايات الّتي وردت بشأن الإمام المهديّ، فإنّ الجملة هي هكذا: "يملأ الله به الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت ظلمًا وجورًا"2، أنا العبد لم أُشاهد موضعًا واحدًا ولا أظنّ أنّه يوجد "بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا". فبالالتفات إلى هذه النّقطة، رجعت إلى الرّوايات العديدة في الأبواب المختلفة ولم أجد في أيّ مكانٍ جملة، "بعدما مُلئت ظلمًا وجورا"، ففي كلّ الأماكن يوجد "كما مُلئت ظلمًا وجورا"، أي أنّ امتلاء الدنيا 



1 يقصد الجمهورية الإسلاميّة في ايران (المترجم).
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 341.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

141

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 بالعدل والقسط بواسطة الإمام المهدي لا يكون مباشرةً بعد أن تُملأ بالظّلم والجور، كلّا، بل إنّه كما حصل طوال التّاريخ، وليس في موضعٍ واحدٍ أو زمان واحد، بل في أزمنة مختلفة، كانت الدنيا تُملأ بالظّلم والجور، سواءٌ في عهد الفراعنة، أو في عصور الحكومات الطاغوتيّة أو في أيّام السّلطات الظّالمة الّتي جعلت كلّ هذه الدّنيا ترزح تحت وطأة ظلمها وفي ظلّ السّحب السّوداء للجور والعدوان بحيث أنّه لم نرَ فيها أيّ علامة على العدالة والحرّية، فكما أنّ الدنيا عاشت مثل هذا اليوم، فإنّها سترى يومًا يمتلئ العالم كلّه في جميع آفاقه بنور العدل، ولا يكون فيه أيّ مكانٍ لا يمتلئ بالقسط. وهناك لن يكون أيّ مكانٍ يحكمه الظّلم أو يكون فيه البشر تحت وطأة الظّلم وجور الحكومات وتسلّط المقتدرين، وآلام التمييز العنصريّ. أي إنّ هذا الوضع الّذي يُهيمن على العالم اليوم وقد كان يعمّ هذه الدّنيا في يومٍ من الأيّام، سوف يتبدّل إلى عموميّة العدل.


ليس إنّه بوجود الحكومة الإسلاميّة لن تتأخّر عاقبة الموعود فحسب، بل سيسرّع من ذلك، وهذا هو معنى الانتظار. انتظار الفرج يعني انتظار حاكميّة القرآن والإسلام. فأنتم لم تقنعوا بما هو موجودٌ الآن في العالَم، حتّى بهذا التقدّم الّذي حقّقتموه عبر الثورة الإسلاميّة تريدون أن تقتربوا أكثر إلى حاكمية القرآن والإسلام، هذا هو انتظار الفرج. انتظار الفرج يعني انتظار فرج أمر البشريّة.

واليوم، فإنّ حال البشريّة قد وصل إلى المضائق الشديدة والعقد الصّعبة. فاليوم إنّ الثقافة المادّية تُفرض على البشر بالقوّة وهذه معضلة. إنّ من يُعذّب البشر اليوم على مستوى العالَم هو التمييز، فهذه عقدةٌ كبرى. واليوم قد أوصلوا حال ذهنية النّاس الخاطئة إلى حيث تضيع صرخات طلب العدالة من قِبَل شعبٍ ثائرٍ وسط عربدة المتسلّطين والمهيمنين وسكرهم، وهذه عقدةٌ أخرى أيضًا. واليوم يُعاني مستضعفو أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، وملايين النّاس الجائعين في آسيا وآسيا القصوى، وملايين ذوي البشرة الملوّنة من ظلم التمييز العنصري، وقد تطلّعت 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

142

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 عيونهم بأملٍ نحو منجٍ ومنقذ، ولا تسمح القوى الكبرى لهذا النّداء المنجي بأن يصل إلى أسماعهم، هذه معضلة. فالفرج يعني فتح هذه المضائق وحلّ هذه المعضلات وفكّ هذه العُقد. فوسّعوا من رؤيتكم، ولا نحدّ أنفسنا في بيوتنا وحياتنا اليوميّة، فالعالَم كلّه يطلب الفرج ولكن لا يدري ما هو الطريق.

 
وأنتم أيّها الشعب الثوريّ المسلم يجب أن تقتربوا بحركتكم المنظّمة في مواصلة الثّورة الإسلاميّة إلى الفرج العالميّ للبشريّة، وأن تُقرّبوا أنفسكم من ظهور المهديّ الموعود والثّورة الإسلاميّة النهائيّة للبشريّة الّتي ستشمل العالَم كلّه وتحلّ كلّ هذه العقد خطوة خطوة، وأن تُقرّبوا البشريّة بذلك أيضًا، فهذا هو انتظار الفرج. وإنّ لطف الرّب المتعال، ودعاء وليّ العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف المُستجاب، سيكون دعامتنا في هذا الطّريق، ويجب علينا أن نتعرّف على هذا الإمام أكثر ونكون أكثر ذكرًا له. فلا ينبغي أن ننسى إمام الزّمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف. فاحفظوا ذكر وليّ الله الأعظم في قلوبكم، واقرؤوا "اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة"1 من أعماق قلوبكم وبالضراعة الكاملة. فلتكن أرواحكم في انتظار المهديّ وكذلك قواكم الجسمانيّة فلتتحرّك في هذا الطّريق. وإنّ كلّ خطوةٍ تخطونها على طريق تثبيت هذه الثّورة الإسلاميّة ستكون خطوة إضافية نحو ظهور المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
 
تقوية العلاقة الروحية بإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
لقد تحرّك أئمّتنا جميعًا في هذا الخطّ، من أجل أن تُسيطر الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة القانون الإلهيّ على المجتمعات. لقد بُذلت الكثير من الجهود والجهاد والآلام والمحن والسّجون والنّفي والاستشهاد المليء بالثّمار والعطاء. واليوم أنتم وجدتم هذه الفرصة مثلما أنّ بني إسرائيل وبعد قرونٍ قد وجدوا هذه الفرصة في زمان سليمان النبيّ وداوود عليهما السلام.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 424.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

143

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 إنّ الطريق الّذي سلكتموه يا أبناء شعب إيران العزيز، استمرّوا عليه وتحرّكوا وأكملوا هذا الطّريق، وهو الطّريق الّذي لحسن الحظّ نُشاهد اليوم الشّعوب المسلمة في مختلف أرجاء العالَم الإسلاميّ تتحرّك نحوه بالتدريج، وشيئًا فشيئًا. يقول الله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾1، فلو أنّنا جعلنا هذه التّقوى منهاج عملنا، فمن المسلّم أنّ عاقبة الأمر ستكون من نصيب الأمّة الإسلاميّة وإنّ هذا المستقبل لن يكون بعيدًا، إن شاء الله.

 
أذكر جملةً واحدة في الختام، فيما يتعلّق بضرورة الارتباط العاطفيّ والمعنويّ والرّوحيّ بإمامنا العظيم وليّ الله المعصوم، بالنسبة لكلّ واحدٍ منّا. القضيّة لا ينبغي أن تجعلوها محدودة في إطار التّحليل الفكريّ والاستنارة الفكريّة. فذاك المعصوم، الّذي هو صفيّ الله، يعيش اليوم بيننا نحن البشر في مكانٍ ما من هذا العالَم ونحن لا نعلمه. إنّه موجودٌ، ويدعو، ويقرأ القرآن، ويُبيّن المواقف الإلهيّة، إنّه يركع ويسجد ويعبد ويدعو ويظهر في المجامع ويُساعد البشر. فله وجودٌ خارجيّ ووجودٌ عينيّ، غاية الأمر أنّنا نحن لا نعرفه. إنّ هذا الإنسان الّذي اصطفاه الله، موجودٌ اليوم، ويجب أن نُقوّي علاقتنا به من الناحية الشّخصيّة والقلبيّة والروحيّة، بالإضافة إلى الجانب الاجتماعيّ والسّياسيّ والّذي بحمد الله صار نظامنا متوجّهًا نحو ما يريده هذا الإنسان العظيم إن شاء الله. فليجعل كلّ واحدٍ من أبناء مجتمعنا توسّله بوليّ العصر وارتباطه به، ومناجاته معه، وسلامه عليه، وتوجّهه إليه، تكليفًا وفريضةً وليدعو له كما لدينا في الروايات وهو الدعاء المعروف "اللهمّ كن لوليّك"2 الّذي يُعدّ من الأدعية الكثيرة الموجودة، ويوجد زياراتٌ في الكتب هي جميعًا بالإضافة إلى وجود البعد الفكريّ والوعي والمعرفة فيها، يوجد فيها أيضاً بعدٌ روحيّ وقلبيّ وعاطفيّ وشعوريّ وهو ما نحتاج إليه أيضًا. إنّ أطفالنا وشبابنا ومجاهدينا في 



1 سورة الأعراف، الآية 128.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 162.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

144

الدرس التاسع: النظرية المهدوية

 الجبهة يحصلون على الرّوحية والمعنويّات بالتوجّه والتوسّل بإمام الزمان ويفرحون ويتفاءلون. وببكاء الشّوق ودموعه المنهمرة يُقرّبون قلوبهم إليه، وهم بذلك يعطفون نظر الحقّ وعنايته إليهم، مثلما أنّ ذلك يتحقّق مع الإمام ويجب أن يكون موجودًا.

 
يا إمام الزّمان! أيّها المهديّ الموعود المحبوب عند هذا الشّعب! يا سلالة الأنبياء الأطهار! ويا وارث كلّ الثّورات التوحيديّة والعالميّة! إنّ شعبنا هذا قد انبعث بذكرك واسمك واختبر لطفك في حياته وفي وجوده. أيّها العبد الصالح لله! إنّنا اليوم بحاجة إلى دعائك الّذي ينبعث من قلبك الإلهيّ والربّانيّ الطّاهر ومن روحك القدسيّة من أجل انتصار هذا الشّعب وهذه الثّورة، ونحتاج إلى يد القدرة الإلهيّة الّتي جُعلت فيك لتُساعد هذا الشّعب وطريقه. "عزيزٌ عليّ أن أرى الخلق ولاتُرى"1، يا إمام الزّمان إنّه لصعبٌ جدًّا علينا أن نرى أعداء الله في هذا العالَم وفي هذه الطّبيعة المترامية الّتي هي لعباد الله الصّالحين، ونتلمّس آثار وجود أعداء الله ولكن لا نراك أنت ولا نُدرك فيض حضورك.
 
اللهمّ! بمحمّد وآل محمد نُقسم عليك أن تطرّي قلوبنا بذكر إمام الزّمان دائمًا.
 
اللهمّ! نوّر أعيننا بجمال وليّ العصر.
 
اللهمّ! اجعل هؤلاء الّذين يُجاهدون في سبيلك جنود إمام الزمان والمضحّين بين يديه.
 
اللهمّ! بمحمّد وآل محمّد، ارضِ القلب المقدّس لوليّك المعصوم عنّا. واجعلنا من المتوجّهين والمتوسّلين به.
 
اللهم! بحرمة محمّد وآل محمّد عجّل فرجه وعجّل قيام تلك الحكومة الإلهيّة.
 
اللهمّ! بمحمّد وآل محمّد، اجعلنا من أتباعه وشيعته في جميع أحوالنا وأمورنا.
 



1 العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 99، ص 108.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

145

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام1

 
 
التربية طريق الكمال
لو خُلّي الإنسان ونفسه، دون أن يكبح جماح هذه النفس، فإنّه سوف يُصبح أكثر افتراساً من الحيوانات، وما نُشاهده من جرائم ومجازر تُرتَكب بحقّ البشريّة من قِبل قِوىً عظمى تدّعي تحلّيها بالتربية، هو خير دليل على ذلك، فالحيوان المفترس يُطارد الفريسة، فإذا نال منها ما يُشبع جوعه، توقّفت عنده حالة الافتراس والهيمنة تجاه حيوان آخر، أمّا جرائم هذه الحكومات فإنّه لا حدّ لها ولا نهاية.
 
ولو أُعطي الإنسان دولةً كاملةً، فإنّ أهواءه النفسيّة غير المحدودة سوف تدفعه للتطلّع إلى دولة أخرى يبسط عليها نفوذه وهيمنته، فتطلّعاته لا حدّ لها، ويسعى دائماً نحو السيطرة والنفوذ. وإن تُرِك دون رادع، فإنّ آماله تكون في الشهوات اللامتناهية، وفي الغضب اللامحدود، وفي نوازع الهيمنة التي لا تنتهي...
 
مهما بلغ عِظم السيطرة ومكان نفوذها، يبقى الطمع حاكماً على النفوس البشريّة، فلو سيطر الإنسان على منظومة شمسيّة كاملة، فإنّه سيسعى لمنظومة أخرى، ولو سيطر على كوكبٍ ما، فإنّه سيتطلّع إلى كوكبٍ آخر، لقد خُلِق الإنسان على هذه الشاكلة، لا حدّ لغضبه، ولا لشهوته، ولا لأنانيّته!
 
فقط هي التربية التي تسدّ هذا النهم والجشع، فمن خلالها يصل الإنسان إلى الغاية التي يُريدها من الأشياء، من خلالها يصل إلى الكمال المطلق، الذي يبعث 



1 الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً, الحديث الأول، ص 19 (م. س).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

146

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 الطمأنينة في نفسه، فتهدأ. ولا سبيل إلى هذه الطمأنينة، طمأنينة القلوب إلا في الوصول إلى الله.

 
النفس دائماً تتطلّع إلى الكمال المطلق، والخطأ يقع في تشخيص هذا الكمال، فهناك من يرى أنّ الكمال في العلم، فيقتفي أثره، وآخر يراه في السلطة، فيلهث خلفها... فكلّ الساعين في الدنيا، إنّما يطلبون الكمال المطلق، وهو الله تبارك وتعالى، ولكن دون أن يلتفتوا.
 
فطمأنينة القلوب هي في الوصول إلى الله. وبغيره لا تهدأ القلوب مطلقاً. إنّ هذه النفس تتطلّع إلى الكمال المطلق، فيتيهون عن الكمال في نهاية المطاف. إنّ نفس الإنسان تُريد الوصول إلى الكمال المطلق. والخطأ يقع في تشخيص ما إذا كان هذا أو ذاك هو الكمال. يرى أحدهم الكمال في العلم فيقتفي أثر العلم. ويرى آخر الكمال في السلطة فيلهث خلفها. وكلّ هؤلاء الساعين في الدنيا إنّما يطلبون الكمال المطلق، وبعبارة أخرى الجميع يسعون للقاء الله، ولكنّهم غير ملتفتين1.
 
الأنبياء أرباب التربية والتعليم
العالم مدرسة، معلّموها الأنبياء والأوصياء، والله معلّمهم ومربّيهم، فقد اصطفاهم الله وعلّمهم وربّاهم لهذا الهدف، ألا وهو تربية الناس كافة وتعليمهم. فبعد أن تربُّوا وتعلَّموا الأحكام الإلهية أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.
 
جاء في القرآن الكريم، متحدّثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾2، فالدافع الأساس من وراء البعث في هذه الآية هو التربية والتعليم، فالله تعالى أرسله واجتباه من بين هؤلاء الأمّيين والجهلة، والذين لا عهد لهم بالتربية والتعليم الإلهيين، حتى يتلو آياته 



1 صحيفة الإمام، ج12،ص504.
2 سورة الجمعة، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

147

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 عليهم، ومن خلال ذلك، وبالتربية التي تلقّاها الرسول من الله تبارك وتعالى، يقوم بتربيتهم ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة.

 
وفي الآية نكات كثيرة حول أهمّية التربية والتعليم والتعلّم، ففي قوله ﴿هُوَ الَّذِي﴾ دلالة واضحة على مدى أهمّية هذا الأمر وعظمته، حيث نسبه إلى نفسه ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ﴾ رسولاً من بين الناس، وهم أمّيون، أمّيون رغم معرفتهم ظاهراً ببعض العلوم والصناعات، ولكنّ العالم أجمع أمّي في قِبال تلك التربية الإلهيّة، التي تتحقّق لهم على أيدي الأنبياء عليهم السلام1.
 
طريق الكمال
إنّ الطريق الوحيد للتربية والتعليم، هو الطريق الذي بيّنه الحقّ فقط وأوحى به، وهو التهذيب المقترن بالتربية الإلهيّة، والتي يُربّي الأنبياء الناس عليها. فهذا العلم الذي عرضه الأنبياء على البشر، هو وحده طريق الإنسان إلى الكمال المنشود، كما تُبيّن ذلك الآية القرآنية الكريمة: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾2.
 
فالناس قسمان، قسم تربّى على أيدي الأنبياء، فخرجوا من ظلماتهم وغيّهم ومشاكلهم، ودخلوا إلى النور والكمال المطلق، والآخر أولياؤهم الطاغوت. فالآية تضع ميزاناً وملاكاً للإيمان، وتُفصّل بين مدّعي الإيمان وبين المؤمنين، فالمؤمن هو الذي خرج من الظلمات إلى النور، ومن جميع النقائص، وتجاوز جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان، ولا يكون ذلك إلّا بالتربية الإلهيّة، التي يتلقّاها من الأنبياء الذين ربّاهم الله، فهذا هو المؤمن.



1 صحيفة الإمام، ج13، ص503.
2 سورة البقرة، الآية 257.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

148

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 أمّا مدّعو الإيمان، وهم كثيرون في قِبال المؤمنين، فوليّهم الطاغوت، يُخرجهم من النور ويوصلهم إلى الظلمات. فالمؤمن الحقيقي معلّمه ووليّه الله، وذلك عبر الواسطة، وهي الأنبياء، فالله خصّهم بتربيته، فإذا ما تربّينا على أيديهم، ونهلنا من معينهم وعلومهم، وعملنا بتعاليمهم، فإنّا سنسلك الصراط المستقيم، ونهتدي إلى النور، نهتدي إلى الله، الذي هو النور والكمال المطلق1.

 
هدف الأنبياء صناعة الإنسان وتهذيبه
إنّ البعثة هي بعثة إلهيّة، ودافعها هو هداية جميع الخلق، فعلينا التوجّه إلى هذه الغاية، والتنبّه إلى الدافع وراءها، والذي بيّنه الله بقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾2، وعلينا الالتفات إلى عواقب مخالفة هذا الدافع.
 
إنّ الدافع وراء البعثة هو تزكية النفوس، وهذه التزكية إنّما تكون بانتفاء الأنانيّة، وانتهاء الإنّيّة ولحاظ النفس، والقضاء على طلب الرئاسة، وزوال حبّ الدنيا، ليحلّ الله تبارك وتعالى وحبّه مكان الجميع. إنّ الغاية من البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشريّة.
 
ما من موجود يفتن ويعيث فساداً بقدر ما يفعل هذا الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين، وما من حيوان يحتاج إلى التربية بمقدار ما يحتاج إليها. والأنبياء بأسرهم، من آدم عليه السلام حتى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، جاؤوا لتبديل هذا الحيوان إلى إنسان، هذا هو غرضهم، وهذا هو الهدف. جميع الكتب السماويّة، وأعظمها القرآن، أُنزلت لهذه الغاية، وهي إنقاذ هذا الإنسان الذي وقع في الظلمات، وغرق في بحر الدنيا، الإنسان الأنانيّ الذي لا يهمّه سوى نفسه وملذّاتها، ولا يرى سواه موجوداً، 



1 صحيفة الإمام، ج13، ص503.
2 سورة آل عمران، الآية 164.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

149

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 إنّهم الأنبياء يريدون نجاة هذا الإنسان من الظلمات، وإيصاله إلى النور.

 
لا يتصوّرنّ أحدٌ أنّ الذي كان يمتلك نفساً فرعونيّة هو شخص واحد، أو عدّة أشخاص، بل إنّ في باطن كلّ إنسان نفس فرعونية، ما لم يخضع للتربية الإسلاميّة، أو تربية المدارس التوحيديّة، وهذه النفس بدون التربية سوف تبقى في باطنه، مضافاً إلى الشيطنة والأنانيّة.
 
إنّ شرط تلبية الدعوة الإلهية إلى الضيافة هو انسلاخ هذه القلوب عن الدنيا، وهذا ما اهتمّ به أولياء الله، تهذيب النفس وانتزاع القلب ممّا سوى الله، والتوجّه الخالص إليه سبحانه. فكلّ المفاسد في العالم هي وليدة التوجّه إلى النفس في قِبال التوجّه إلى الله. وإنّ كلّ الكمالات التي تحقّقت للأنبياء والأولياء إنّما كانت نتيجة انسلاخ قلوبهم عمّا سواه تعالى، والارتباط به، وتتجلّى علامات هذه الأمور في أعمالنا وسلوكنا1.
 
قوى النفس لا حدود لها
لو فكّرنا بصورة صحيحة، ولاحظنا أحوال الإنسان، نجد أنّه مهما كان قويّاً، ومهما حقّق من آماله وأمانيه، فإنّه لا يحصل حتى على واحد من ألف من هذه الآمال. بل إنّ تحقّقها بشكل كامل هو أمر مستحيل في هذا العالَم، فإنّ هذا العالَم هو دار التزاحم، وإنّ موادّه تتمرّد على الإرادة، كما إنّ ميولنا وأمنياتنا لا يحدّها حدّ، مثلاً، إنّ القوّة الشهوية في الإنسان تدفعه إلى التوجّه نحو النساء حتى ولو كانت بيده نساء مدينة كاملة، وإذا أصبحت بلاد بأكملها من نصيبه لسعى نحو بلاد أخرى، ودائماً تراه يطلب ما لا يملك، فمِرجَلُ الشهوة يبقى مشتعلاً، ولا يصل الإنسان إلى أمنيته.




1 صحيفة الإمام، ج17، ص493.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

150

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 وكذا الأمر بالنسبة إلى القوّة الغضبيّة، فإنّها قد خُلقت في الإنسان بصورة لو أنّه أصبح يملك الرقاب بشكل مطلق في مملكة ما، لذهب إلى مملكة أخرى لم يسيطر عليها بعد، بل إنّ كلّ ما يحصل عليه يزيد من هذه القوّة فيه.


وعلى كلّ منكر لهذه الحقيقة، أن يراجع حاله وحال أهل هذا العالَم، كالسلاطين وأصحاب المال والقوّة والجاه، وحينها سيرى صدق هذا الكلام.

إذاً، فالإنسان عاشق لما لا يملك، ولما ليس في يده، وهذه الفطرة أثبتها المشايخ العظام وحكماء الإسلام الكبار، وأثبتوا فيها الكثير من المعارف الإلهية.

مدّة الاستفادة من القوى الجسمانيّة
لو فرضنا أنّ هذا الإنسان قد وصل إلى أهدافه، وحقّق آماله وأمانيه، فكم يدوم استمتاعه بها واستفادته منها؟ وإلى متى تبقى قوى شبابه؟

عندما ينقضي ربيع العمر، ويأتي خريفه، تبدأ القوّة بالتلاشي من الأعضاء، فتتدنّى حاسّة الذوق، ويضعف البصر والسمع، وكذا حاسّة اللمس وباقي الحواس، وتُصبح اللذّات ناقصة بشكل عام، وبعضها يفنى، وتهجم الأمراض المختلفة، فلا تستطيع أجهزة الهضم والجذب والدفع والتنفّس تأدية عملها بشكل سليم وصحيح، ولا يبقى للإنسان سوى أنّات التأوّه الباردة، والقلب المملوء بالألم والحسرة والندم.

فمدّة استفادة الإنسان من هذه القوى الجسمانيّة، لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين عاماً بالنسبة إلى أقوياء البنية والسالمين، وهي فترة ما بعد فهم الإنسان، وتمييزه الحسن من القبيح، إلى زمن تعطيل القوى أو نقصانها، هذا إن لم يصطدم بالأمراض والمشاكل الأخرى التي نراها يوميّاً، ونحن عنها غافلون.

وهنا، أفترض صورة خياليّة، أفترض عمراً معيّناً، مئة وخمسون عاماً مثلاً مع توافر جميع أسباب الشهوة والغضب والشيطنة، بحيث لا يعترض هذا الإنسان شيء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

151

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 غير مرغوب به، ولا يحدث ما يُخالف هدفه، مع هذه الفرضيّة، ماذا ستكون عاقبته بعد انقضاء هذه المدّة القصيرة، والتي تمرّ مرّ الرياح؟!


فماذا ادّخرتم من تلك اللذّات لحياتكم الدائمة؟ ليوم عجزكم وفقركم ووحدتكم؟ لأجل برزخكم وقيامتكم؟ لأجل لقائكم بملائكة الله وأوليائه وأنبيائه؟ هل ادّخرتم سوى الأعمال القبيحة المنكرة؟ والتي ستُقدّم لكم صورها في البرزخ والقيامة، وهي الصورة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تبارك وتعالى!

ينبغي المسارعة لتهذيب النفس
إنّ الوهم والغضب والشهوة، من الممكن أن تكون من الجنود الرحمانيّة، وأن تؤدّي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه، إذا سلّمتها للعقل السليم والأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانيّة إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم كي يتحكّم في القوّتين الأخريين، الغضب والشهوة.

ولم يقل أحد من الأنبياء العظام عليهم السلام برفض الشهوة والغضب والوهم بصورة مطلقة، ولا يوجد داعٍ إلى الله يقول بأنّ الشهوة يُمكن أن تُقتل بصورة عامّة، وأن يخمد نار أوار الغضب بصورة كاملة، وأن يُترك تدبير الوهم. بل قالوا بوجوب السيطرة والتحكّم بها كي تؤدّي واجبها في ظلّ ميزان العقل والدستور الإلهي، لأنّ كلّ واحدة من هذه القوى تُريد أن تُنجز عملها وتنال غايتها، ولو استلزم ذلك الفساد والفوضى.

فمثلاً، النفس البهيميّة المنغمسة في الشهوة الجامحة التي مزّقت عنان هذه النفس، تريد أن تُحقّق هدفها ومقصودها، ولو تمّ ذلك من خلال الزنا بالمحصنات، وفي الكعبة، والعياذ بالله!

والنفس الغضوب، تُريد أن تُنجز ما تُريد حتى لو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

152

الدرس العاشر: مكانة جهاد النفس في الإسلام

 والنفس ذات الوهم الشيطاني تُريد أن تؤدّي عملها، ولو استلزم ذلك فساد الأرض بما فيها.


لقد جاء الأنبياء وأتوا بقوانين وكتب سماويّة، من أجل الحيلولة دون الإطلاق والإفراط في الطبائع، ومن أجل إخضاع النفس الإنسانيّة لقانون العقل والشرع، وترويضها وتأديبها. فإن كيّفت النفس ملكاتها وفق القوانين الإلهيّة والمعايير العقليّة، فهي سعيدة آمنة، ومن أهل النجاة، وإلا فليستعذ الإنسان بالله من ذلك الشقاء وسوء التوفيق، ومن الظلمات والشدائد المقبلة، ومنها تلك الصور المرعبة والمذهلة التي تُصاحب الإنسان في البرزخ والقيامة وجهنّم، والتي كانت نتيجة الملكات والأخلاق الفاسدة التي لازمته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

153

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس1

 
 
حديث في جهاد النفس
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة2 فلمّا رجعوا قال: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر". فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "جهاد النفس"3.
 
حقيقة النفس الإنسانية ومراتبها
الإنسان أعجوبة وله نشأتان وعالمان:
1- نشأة ظاهرية ملكية دنيوية، وهي بدنه.
2- ونشأة باطنية غيبية ملكوتية، وهي من عالم آخر.
 
ولنفس الإنسان - وهي من عالم الغيب والملكوت - مقامات ودرجات، قسَّموها بصورة عامة إلى سبعة أقسام حيناً، وإلى أربعة أقسام حيناً آخر، وحيناً إلى ثلاثة أقسام، وحيناً إلى قسمين.
 
ولكلٍّ من المقامات والدرجات جنود رحمانية وعقلانية تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوها إلى السعادة.



1 الإمام الخميني قدس سره.
2 السريّة: قطعة من الجيش، ويقال خير السرايا أربعمائة رجل.
3 الشيخ الكليني، الكافي: ج5، ص 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

154

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 وجنود شيطانية وجهلانية تجذب النفس نحو الملكوت السفلي وتدعوها للشقاء.


ودائماً هناك جدال ونزاع بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربها.

فإذا تغلّبت جنود الرحمن كان الإنسان من أهل الصلاة والرحمة وانخرط في سلك الملائكة وحُشِر في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين.

وأمّا إذا تغلّب جند الشيطان ومعسكر الجهل، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب، وحشر في زمرة الشياطين والكفّار والمحرومين.

جهاد النفس في مرتبة الظاهر
إنّ مقام النفس الأول ومنزلها الأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمها. وفي هذا المقام تتألّق الأشعة والأنوار الغيبية في هذا الجسد المادّي والهيكل الظاهري، وتمنحه الحياة العرضية، وتُجهّز فيه الجيوش، فيكون ميدان المعركة هو نفس هذا الجسد، وجنوده هي القوى الظاهرية التي وجدت في الأقاليم السبعة وهي:
1- الأذن.
2- العين.
3- اللسان.
4- البطن.
5- الفرج.
6- اليد.
7- الرجل.
وجميع هذه القوى المتوزّعة في تلك الأقاليم السبعة هي تحت تصرّف النفس في مقام الوهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

155

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 فالوهم سلطان جميع القوى الظاهرية والباطنية للنفس. فإذا تحكّم الوهم على تلك القوى سواء بذاته أو بتدخّل الشيطان، جعلها جنوداً للشيطان.


وبذلك تُصبح هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتضمحلّ عندها جنود الرحمن والعقل، وتنهزم وتخرج من نشأة الملك وعالم الإنسان وتُهاجر عنه، وتغدو هذه المملكة خاصة بالشيطان.

وأمّا إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيّدة بالنظام والعقل والشرع، فستكون هذه المملكة روحانية وعقلانية، ولن تجد الشيطان وجنوده محطّ قدم لهم فيها.

إذاً فجهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر الذي يعلو على القتل في سبيل الله، هو في هذا المقام، عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها تأتمر بأمر الخالق، وتطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.

جهاد النفس في مرتبة الباطن
إنّ للنفس الإنسانية عالماً ومقاماً آخر، هي مملكتها الباطنية ونشأتها الملكوتية، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهمّ ممّا في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والانتصار فيها أشدّ وأهمّ، بل إنّ كلّ ما في مملكة الظاهر قد تنزّل من الباطن وظهر في عالم المُلك.

وإذا تغلّب أيٌّ من الجند الرحماني أو الشيطاني في مملكة الباطن، تغلّب أيضاً في هذه المملكة الظاهرية.

وجهاد النفس في هذا المقام مهمٌّ للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويُمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

156

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 القوى الباطنية للنفس وصورها

إنّ الله تبارك وتعالى قد خلق بيد قدرته وحكمته في عالم الغيب وباطن النفس قوىً لها منافع لا تُحصى. ومورد بحثنا هنا هو ما يتعلّق بهذه القوى الثلاث وهي:
1- القوّة الوهمية.
2- القوّة الغضبية.
3- القوّة الشهوانية.

ولكلّ واحدة من هذه القوى منافع كثيرة، لأجل الحفاظ على الإنسانية وأعمال الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك العلماء.

والذي يلزم أن أُنبّه عليه في هذا المقام هو أنّ هذه القوى الثلاث هي منبع جميع الملكات الحسنة والسيئة، وأصل جميع الصور الغيبية الملكوتية.

وتفصيل هذا الإجمال، هو أنّ الإنسان كما أنّ له في هذه الدنيا صورة ملكية دنيوية، خلقها الله تبارك وتعالى على كمال الحُسن والجمال والتركيب البديع، والمتحيّرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، والتي لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرّف على حالها بصورة صحيحة، وقد ميّز الله تعالى هذا الإنسان عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة جمال المنظر، كذلك فإنّ للإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتياً غيبياً، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخلقة الباطنية.

استقامة الباطن في الدنيا شرط للاستقامة في الآخرة
وفي عالم ما بعد الموت - سواء في البرزخ أو القيامة - إذا كانت خلقة الإنسان في الباطن والسريرة إنسانية، كانت الصورة الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

157

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 وأمّا إذا لم تكن ملكاته1 ملكات إنسانية، فصورته في عالم ما بعد الموت تكون غير إنسانية أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة.

 
فمثلاً: إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمية، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق.
 
وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكماً سبعياً، كانت صورته الغيبية الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم أيضاً.
 
وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما الملكة، وأصبح للباطن والسريرة ملكات شيطانية، كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، صارت صورته الغيبية الملكوتية على صورة أحد الشياطين بما يتناسب وتلك الصورة.
 
ومن الممكن أحياناً أن تتركّب الصور الملكوتية من ملكتين أو عدّة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أيٍّ من الحيوانات، بل تتشكّل له صورة غريبة، هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيّئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالَم.
 
يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ بعض الناس يُحشرون يوم القيامة على صورة تكون أسوأ من صور القردة، بل وقد تكون لشخص واحد عدّة صور في ذلك العالم، لأنّ ذلك العالَم ليس كهذا العالَم، حيث لا يُمكن لأيّ شيء أن يتقبّل أكثر من صورة واحدة له، وهذا الأمر يُطابق البرهان وثابت في محلّه أيضاً.
 
واعلم أنّ المعيار لهذه الصور المختلفة، هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآخرة, الذي أوّله في البرزخ عند خروج



1 الملكات: الصفات أو الأخلاق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

158

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 الروح من الجسد، فبأيّة ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكّل على ضوئها صورته الأخروية. وتراه العين الملكوتية في البرزخ، وهو نفسه أيضاً عندما يفتح عينيه في برزخه، ينظر إلى نفسه بالصورة التي هو عليها، هذا إذا كان لديه بصر.

 
وليس من المحتّم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا.
 
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان بعض: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾1.
 
فيأتيه الجواب من الله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾2.
 
نصيحة
فيا أيّها المسكين قد كانت لديك عين ملكية ظاهرة وهي البصر، ولكنّك في باطنك وملكوتك كُنتَ أعمى، وقد أدركتَ الآن هذا الأمر، وإلاّ فإنّك كُنتَ أعمى منذ البداية، حيث لم تكن لديك عين البصيرة الباطنية التي ترى بها آيات الله.
 
أيّها المسكين! أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب الملكي (الظاهري). ولكن معيار الملكوت والباطن غير هذا. عليك أن تُحرز الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة في يوم القيامة.
 
يجب أن تكون روحك روحاً إنسانية كي تكون صورتك في عالم البرزخ صورة إنسانية..
 
أنت تظنّ أنّ عالم الغيب والباطن، وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات، مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يُمكن أن يقع الخلط والاشتباه...



1 سورة طه، الآية 125.
2 سورة طه، الآية 126.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

159

الدرس الحادي عشر: مراتب جهاد النفس

 إنّ عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك جميعها، ستشهد عليك بما فعلتَ، بألسنة ملكوتية، بل وبعضها بصورة ملكوتية.


أيّها العزيز! افتح سمع قلبك، وشدّ حزام الهمّة على وسطك، وارحم حال مسكنتك لعلّك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالَم بصورة آدمية، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة.

وحذارِ من أن تتصوّر أنّ كلّ ما تقدّم هو موعظة وخطابة. فهذا كلّه نتاج أدلّة فلسفية توصّل إليه الحكماء العظام. وكشف انكشف لأصحاب الرياضيات، وإخبار عن الصادقين والمعصومين عليهم السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

160

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس1

 
 
النار والعذاب الأليم
يجب على الإنسان الالتفات إلى نفسه كثيراً في هذه الجهاد. فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانية في مملكة الباطن وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين من جنود الشيطان، إلى الهلاك الدائم للإنسان بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة، ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضاً بعين الغضب والسخط، نعوذ بالله من ذلك. بل ويُصبح شفعاؤه خصماءه، وويلٌ لمن كان شفيعه خصمه.
 
ويعلم الله أيّ عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي الغضب الإلهي، وتعقب معاداة أولياء الله حيث تكون كلّ نيران جهنّم وكلّ الزقّوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام هزيمة جنود الرحمان من قبل جنود الشيطان، التي تترتّب عليه عقوبات تفوق جميع نيران جهنّم والزقّوم والأفاعي. والعياذ بالله من أن يُصبّ على رؤوسنا نحن الضعفاء والمساكين ذلك العذاب الذي يُخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك.
 
فإنّ جميع أشكال العذاب التي تتصوّرونها، يسيرة وسهلة في مقابله. وجميع النيران التي سمعتم بها، جنّة ورحمة في قباله، وبالنسبة إلى ذلك العذاب. إنّ وصف النار والجنّة الوارد في كتاب الله وأحاديث الأنبياء والأولياء، يتعلّق غالباً بنار الأعمال وجنّتها اللتين أُعدّتا للأعمال السيّئة والصالحة.



1 الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً، الحديث الأول، ص 19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

161

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 وهناك إشارة خفيّة أيضاً إلى جنّة الأخلاق ونارها، وأهمّيتها أكبر، وأحياناً يُشار إلى جنّة اللقاء ونار الفراق، وهذا أهمّ من الجميع، ولكنّها إشارات محجوبة عنّا ولها أهلها، وأنا وأنت لسنا من أهلها، ولكن من الأجدر بنا أن لا نكون منكرين لها. وليكن لدينا إيمان بكلّ ما قاله الله تعالى وأولياؤه. إذ أنّ في هذا الإيمان الإجمالي نفعاً لنا. ومن الممكن أن يكون للإنكار والرفض، الصادرين عن غير علم وفهم، أضرار كبيرة جداً علينا.

 
وهذه الدنيا ليست بعالم الالتفات لتلك الأضرار. فمثلاً: عند سماعك الحكيم الفلاني أو العارف الفلاني أو المرتاض الفلاني، يقول شيئاً لا يتلاءم وذوقك الخاص، فلا تحكم عليه فوراً بالبطلان والوهم، فقد يكون لذلك القول أصل في الكتاب والسنّة ولكن عقلك لم يطلّع عليه بعد. فما قالوه بشأن جنّة الأخلاق والملكات، وجهنّم الأخلاق والدركات مصيبة لا يطيق العقل حتى سماعها.
 
جهنّم الأعمال السيّئة
إنّ جميع نيران جهنّم وعذاب القبر والقيامة وغيرها ممّا سمعت به، هي جهنّم أعمالك التي تراها هناك كما يقول الله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾1.
 
لقد أكلت مال اليتيم وتلذّذت بذلك ولكنّ الله وحده يعلم ما هي صورة هذا العمل في ذلك العالم والتي ستراها في جهنّم، وما هي الذلّة التي ستكون من نصيبك هناك؟ الله يعلم أيّ عذاب شديد ينتظرك بسبب تعاملك السيّء مع الناس وظلمك لهم في ذلك العالَم! ستفهم أيّ عذاب قد أعددت لنفسك بنفسك، عندما اغتبت!
 
فإنّ الصورة الملكوتية لهذا العمل قد أُعدّت لك وسترد عليك وتحشر معها، وستذوق عذابها، وهذه هي جهنّم الأعمال. 
 
وهي سهلة ويسيرة بالمقارنة مع جهنّم الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة.



1 سورة الكهف، الآية: 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

162

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 جهنّم الأخلاق الفاسدة

أمّا الذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرذيلة السيّئة الباطلة، كالطمع والحرص والجدال والشرَه وحبّ المال والجاه والدنيا وباقي الملكات، فلهم جهنّم لا يُمكن تصوّرها، ولا يُمكن أن تخطر صورتها على قلبي وقلبك، فالنار تظهر من باطن النفس ذاتها، وأهل جهنّم أنفسهم يفرّون رعباً من عذاب أولئك.
 
وفي بعض الروايات الموثوقة أنّ هناك في جهنّم وادياً للمتكبّرين يُقال له "سقر" وقد شكا الوادي إلى الله تعالى من شدّة الحرارة وطلب منه سبحانه أن يأذن له بالتنفّس، وبعد أن أذن له تنفّس فأحرق سقر جهنّم1.
 
وأحياناً تُصبح هذه الملكات سبباً في أن يخلد الإنسان في جهنّم لأنّها تسلبه الإيمان، كالحسد الذي ورد في رواياتنا، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب"2.
 
وكحبّ الدنيا والجاه والمال الذي ورد في الروايات الصحيحة أنّها أكثر إهلاكاً لدين المؤمن من ذئبين أُطلقا على قطيع بلا راع، فوقف أحدهما في أول القطيع والثاني في آخره...
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رُعاؤها أحدهما في أوّلها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حبّ المال والشرف في دين المسلم"3.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 310.
2 م.ن، ص 306.
3 م.ن، ص 315.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

163

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 جهنّم العقائد الباطلة

نسأل الله أن لا تؤول عاقبة المعاصي إلى الملكات والأخلاق الظلمانية القبيحة، والتي تؤول إلى فقدان الإيمان وموت الإنسان كافراً، لأنّ جهنّم الكافر وجهنّم العقائد الباطلة أشدّ بدرجات وأكثر إحراقاً وظلمة من ذينك الجهنّمين, جهنّم الأعمال وجهنّم الملكات الفاسدة.
 
أيّها العزيز.. لقد ثبت في العلوم العالية1 أنّ درجات الشدّة غير محدودة، فمهما تصوّرت ومهما تصورت العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ أمر ممكن أيضاً، وأنت إذا لم ترَ برهان الحكماء، ولم تُصدّق كشف أهل الرياضات، ولكنّك بحمد الله مؤمن تُصدّق الأنبياء عليهم السلام، وتُقرّ بصحة الأخبار الواردة عنهم في الكتب المعتبرة التي يقبلها جميع علماء الإمامية، وتُقرّ بصحة الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.
 
أنت الذي رأيت مناجاة مولى المتّقين أمير المؤمنينعليه السلام، ورأيت مناجاة سيد الساجدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي.
 
فتأمّل قليلاً في مضمونها، وفكّر قليلاً في محتواها، وتمعّن قليلاً في فقراتها، فليس ضرورياً أن تقرأ دعاء طويلاً دفعة واحدة وبسرعة دون تفكّر في معانيه.
 
أنا وأنت ليس لدينا حال سيّد الساجدين عليه السلام كي نقرأ تلك الأدعية المفصّلة بشوق وإقبال، اقرأ في الليلة ربع ذلك أو ثلثه وفكِّر في فقراته، لعلّك تُصبح صاحب شوق وإقبال وتوجّه.
 
وفوق ذلك كلّه فكّر قليلاً في القرآن، وانظر أيّ عذاب وعد به الحق تعالى، بحيث إنّ أهل جهنّم يطلبون من الملك الموكّل بجهنّم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات فلا مجال للموت.



1 لقد بيّن هذه الحقيقة صدر المتألّهين وغيره من الحكماء في كتبهم العلمية، الأسفار، ج 1، ص 45، 65، 69.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

164

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 انظر إلى قوله تعالى: ﴿... يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾1.

 
فأيّة حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك العظمة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمرّ عليها دون تأمّل.
 
وتدبّر أيضاً في آية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾2.
 
حقّاً فكّر يا عزيزي! القرآن ليس بكتاب قصّة، ولا بممازح لأحد، انظر ما يقول.. أيّ عذاب هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى وهو العظيم الذي لا حدّ ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزّته وسلطانه، فيقول بأنّه شديد وعظيم.. فماذا وكيف سيكون؟!
 
الله وحده هو العالِم, لأنّ عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوّره. ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أنّ قضية عذاب ذلك العالَم، هي غير أنواع العذاب التي فكّرت فيها، وقياس عذاب ذلك العالَم بعذاب هذا العالَم، قياس باطل وخاطئ.
 
وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً لكي تعرف ماهية الأمر وعظمة المصيبة مع أنّ هذا الحديث يتعلّق بجهنّم الأعمال، وهي أخفّ من جميع النيران؛ عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال:
 
"بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قاعداً إذ أتاه جبرائيل وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟



1 سورة الزمر، الآية 56.
2 سورة الحج، الآية 2.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

165

الدرس الثاني عشر: العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

 فقال: يا محمد فكيف لا أكون كذلك وإنّما وضعت منافخُ جهنّم اليوم.

 
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافخ جهنّم يا جبرائيل؟
 
فقال: إنّ الله تعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضّت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودّت وهي سوداء مظلمة.
 
فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا، لذابت الدنيا من حرِّها، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لماتوا من نتنها.
 
قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرائيل فبعث الله إليهما ملكاً، فقال: "إنّ ربّكما يُقرئكما السلام" ويقول: "إنّي أمّنتكما من أن تُذنبا ذنباً أُعذِّبكما عليه"1.
 



1 القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، تحقيق وتصحيح الموسوي الجزائري، نشر دار الكتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1404هـ، ج 2، ص 81.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

166

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس1

 
 
اليقظة من الغفلة
إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك. ولكنّكم ما زلتم تغطّون في نوم عميق. فلو لم تكن الأفئدة ملوّثة بنوم الغفلة، والقلوب اسودّت وصدئت نتيجة الذنوب، لما كنتم هكذا غير مبالين وغير مهتمّين، تواصلون الأعمال والأقوال الشنيعة. فلو فكّرتم قليلاً بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماماً كبيراً للمسؤوليات الجسام الملقاة على عواتقكم.
 
إنّ وراءكم حساباً. كما أنّ أمامكم معاداً وقيامة، ولستم كسائر الكائنات التي لا معاد لها ولا حساب.
 
فلماذا لا تتّعظون؟ لماذا لا تفيقون؟ لماذا تخوضون مطمئنّين في الاغتياب والإساءة إلى إخوتكم المسلمين أو تستمعون إلى ذلك؟ هل تعلمون أنّ هذه الألسن التي تمتدّ لاستغابة الآخرين، سوف تُداس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟
 
هل تعلمون أنّ الغيبة إدام كلاب النار. هل فكّرتم أصلاً في العواقب الوخيمة السيّئة لهذه الاختلافات والعداوات الحسد وإساءة الظن والأنانية والغرور والتكبّر و..؟!
 
هل تعلمون أنّه من الممكن أن تكون جهنّم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرّمة، وتقود إلى الخلود في نار جهنّم؟



1 الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً، الحديث الأول، ص 19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

167

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 الأمراض النفسية لا تظهر آلامها مباشرة

لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسان بأمراض لا تظهر آلامها. إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأنّ يُفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى. بيد أنّ المرض الذي لا يُرافقه الألم ولا يشعر الإنسان بتبعاته مرض خطير لأنّه عندما يتنبّه إليه الإنسان يكون قد فات الأوان واستحال العلاج.

والأمراض النفسية هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل إذا كانت هذه الأمراض لا يُحسّ بآلامها رغم خطورتها؟

إنّ مرض الغرور والأنانية، من الأمراض التي لا تظهر آلامها وهي ليس فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتّسم بظاهر يبعث على التلذّذ. إذ أنّ مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محبّبة!

فالإنسان يشعر مع حبّ النفس وحبّ الدنيا وهما مصدر جميع الذنوب، بلذّة ونشوة. فإذا ما ابتُلي الإنسان بحبّ الدنيا واتباع الهوى، واستحوذ حبّ الدنيا على قلبه، فإنّه يتألّم من كلّ شيء عدا الأمور الدنيوية، ويُعادي - والعياذ بالله- الله وعباده والأنبياء والأولياء وملائكة الله، ويحسّ بالحقد والبغضاء تجاههم.

وحينما يأتي أجله وتأتي ملائكة الله لتتوفّاه يشعر بالاستياء الشديد وينفر منهم، لأنّهم يريدون أن يُبعدوه عن محبوبته (الدنيا والأمور الدنيوية). ولذلك يُبغضهم وينفر منهم، وربما يخرج من هذه الدنيا وهو عدوّ لله تعالى.

حدّثَ أحد الأكابر من أهالي قزوين رحمه الله فقال: "إنّه كان جالساً عند رأس شخص يحتضر فسمعه يقول: إنّ الظلم الذي ظلمني إيّاه الله تعالى لم يظلمني أحد مثله، فلقد بذلت مهجتي في تربية أولادي، وها هو يريد أن يُبعدني عنهم! فهل هناك ظلم أشدّ من هذا وأعظم؟".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

168

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 اتقوا الله.. اخشوا عاقبة الأمور... أفيقوا من غفلتكم... إنّكم لم تفيقوا بعد ولم تخطوا الخطوة الأولى. إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك.

 
الحذر من استفحال حبّ النفس والدنيا
إذا لم يُهذّب الإنسان نفسه، ولم يُعرض عن الدنيا ويُخرج حبّها من قلبه، فيُخشى عليه أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وأوليائه وأن يواجه مثل هذا المصير المشؤوم.
 
هل حقّاً إنّ هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشرّ المخلوقات؟ يقول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1.
 
إنّ المستثنى في هذه السورة هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات فحسب، و "العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح.
 
ولكن كثيراً من أعمال الإنسان كما ترون تنسجم مع الجسم دون أن يوجد من النواحي المذكورة في السورة المباركة عين أو أثر.
 
فإذا كان الأساس أن يُسيطرعليكم حبّ الدنيا وحبّ النفس ويحول دون إدراككم للحقائق والواقعيات، ودون أن يكون عملكم خالصاً لوجه الله تعالى، ويمنعكم عن التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، ويسدّ طريق الهداية أمامكم؛ فإذا كان هذا الأساس فستبوؤون بالخسران المبين وتكونون ممّن خسر الدنيا والآخرة. لأنّكم أضعتم شبابكم وحُرمتم من نعم الجنّة ونعيم الآخرة، وأضعتم دنياكم وآخرتكم.
 
احذروا أن يستفحل لا سمح الله حبّ الدنيا وحبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان من سلب إيمانكم؛ إذ يُقال إنّ كلّ جهود 



1 سورة العصر، الآيات 1 - 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

169

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 الشيطان تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه.


إنّ كلّ جهود إبليس ومساعيه مكرّسة لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يُقدّم لكم أحد تعهّداً أو مستنداً ببقاء إيمانكم. فما أدراكم لعلّه إيمان مستودع يتمكّن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه.. عُمْرٌ قضيتموه تتنعّمون بالنعم الإلهية وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان(عج) وفي النهاية تُفارقون الحياة عديمي الإيمان، والعياذ بالله، وتُعادون ولي نعمتكم.

وعليه فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق. إنّ هذه الدنيا بكلّ زخارفها وبهارجها، أحقر من أن تستحقّ المحبّة، فكيف إذا ما كان الإنسان محروماً حتى من هذه المظاهر. فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتى تنشدّ قلوبكم إليها؟...

وإذا افترضنا أنّ لكم من الدنيا ما للمرفّهين والمترفين، فإنّكم ستقضون عمركم باللذائذ ثم ترون عند انتهاء العمر أنّ كلّ ذلك ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضى، بَيْدَ أنّ تبعاته ومسؤوليّاته سوف تبقى تلاحقكم وتأخذ بخناقكم دوماً.

معرفة حقيقة الدنيا
فما قيمة هذه الحياة السريعة الفناء الحلوة الظاهر - هذا إذا انقضت دونما غصص - في مقابل العذاب الدائم؟!

إنّ عذاب أهل الدنيا يكون أحياناً غير متناهٍ؛ هذا فضلاً عن أنّ أهل الدنيا يتصوّرون أنّهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلّا أنّهم مخطؤون وغافلون. إنّ كل واحد ينظر إلى الدنيا من نافذة محيطه وبيئته، ويتصوّر أنّ الدنيا هي كما يرى.

بَيْدَ أنّ هذا العالَم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوّره ويتمكّن من اكتشافه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

170

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 وسبر أغواره. وقد ورد في الحديث الشريف عن هذه الدنيا، بأنّ الله تبارك وتعالى: (ما نظر إليها نظرة رحمة)1.

 
وعليه ينبغي لنا أن نتعرّف على حقيقة ذلك العالَم الذي ما نظر إليه الله تعالى نظرة رحمة.. وما هو "معدن العظمة"2 الذي دُعي إليه الإنسان؟ وما هي حقيقته؟ إنّ الإنسان أصغر من أن يُدرك حقيقة "معدن العظمة".
 
إنّكم إذا أخلصتم نواياكم وأصلحتم أعمالكم وأخرجتم من قلوبكم حبّ النفس وحبّ الجاه، فإنّ الدرجات الرفيعة والمقامات العالية قد أُعدّت لكم وهي في انتظاركم.. وعليه إذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق.
 
إنّ الدنيا وما فيها بكلّ بهارجها وزخارفها لا تُساوي ذرّة من المقام الذي أُعدّ لعباد الله الصالحين. فجدّوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية.
 
وإذا ما استطعتم فابنوا أنفسكم واسموا بها إلى درجة لا تعبؤون معها حتى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة. لا تعبدوا الله تعالى من أجل نيل هذه الأمور، بل اعبدوه لأنّه أهل للعبادة، اسجدوا لله وعفِّروا جباهكم بالتراب، حينها تخترقون حجب النور وتصلون إلى معدن العظمة.
 
فهل بمقدوركم أن تُحقّقوا هذه المكانة والمنزلة من خلال أعمالكم هذه وهذا الطريق الذي تسلكونه؟
 
هل تتصوّرون أنّ النجاة من عقاب الله تعالى واجتياز العقبات المهولة والتخلّص من نار جهنّم، يتحقّق بهذه السهولة؟



1 معنى الحديث الشريف في بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي، ج70، ص110.
2 من المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة.. ".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

171

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 هل تتصوّرون أنّ بكاء الأئمة الأطهار ونحيب الإمام السجّاد عليه السلام هو من أجل تعليمنا؟


إنّهم رغم منزلتهم العظيمة السامية ومقامهم الذي لا يُضاهى، كانوا يبكون من خشية الله تعالى، لأنّهم يعلمون مدى خطورة الطريق الذي سيجتازونه. كانوا مطّلعين على المشاكل والصعوبات التي تعترض اجتياز الصراط. هذا الصراط الذي يُمثّل أحد طرفيه الدنيا وطرفه الآخر الآخرة.

كانوا مطّلعين على عوالم القبر والبرزخ والقيامة وعقباتها الكأداء؛ لذلك لم يكن يقرّ لهم قرار، وكانوا دائماً يلجؤون إلى الله ويدعونه للنجاة من هول يوم القيامة.

فماذا أعددتم أنتم لهذه العقبات الكأداء والعقوبات التي لا تُطاق، وأيّ طريق نجاة اخترتم؟

متى تريدون أن تهتمّوا بأنفسكم وتعملوا على تهذيبها وإصلاحها؟

اغتنام فرصة الشباب
إنّكم الآن في ريعان الشباب، وقادرين على التحكّم بقواكم ولم يدبّ الضعف بعد إلى أبدانكم، فإذا لم تُفكّروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم فكيف ستتمكّنون من ذلك غداً عندما يتغلّب الضعف عليكم ويُسيطر الوهن، وتفقدون العزم وتضمحل فيكم الإرادة، فيكون ثقل الذنوب قد زاد من ظلمة القلب، عندها كيف يتسنّى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟

إنّ كلّ نَفَسٍ تتنفّسونه، وكلّ خطوة تخطونها، وكلّ لحظة تنصرم من أعماركم، تزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربّما زاد أيضاً من ظلمة القلب والتباهي والغرور.

فكلّما تقدّم العمر بالإنسان ازدادت هذه الأمور التي تتعارض مع سعادة الإنسان،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

172

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 وضعفت القدرة على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة فمن الصعب أن تُوفّقوا لاكتساب الفضيلة والتقوى.

 
ليس بمقدوركم أن تتوبوا، لأنّ التوبة لا تتحقّق بمجرّد لفظة أتوب إلى الله، بل تتوقّف على الندم والعزم على ترك الذنوب.
 
وإنّ الندم والعزم على ترك الذنوب لن يحصلا للذين أمضوا عمراً في الغيبة والكذب وابيضّت لحاهم على المعصية والذنوب. فمثل هؤلاء يظلّون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.
 
فليتحرّك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب. لقد بلغنا هذه المرحلة ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها.. إنّكم ما دمتم في مرحلة الشباب تستطيعون أن تفعلوا كلّ شيء.
 
فما دمتم تملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلّصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانية.
 
ولكن إذا لم تُبادروا إلى ذلك، ولم تُفكروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضرباً من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم.. فكِّروا بأنفسكم ما دمتم شباباً ولا تنتظروا إلى أن تُصبحوا شيبة ضعافاً عاجزين.
 
إنّ قلب الشباب رقيق وملكوتي، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن كلّما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية إلى أن يُصبح استئصالها من القلب أمراً مستحيلاً. كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفرعليه السلام أنه قال: "ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يُغطّي البيضاء، فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"1.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص273.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

173

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 إنّ إنساناً من هذا النوع قد لا يمرّ عليه يوم أو ليلة دون أن يعصي الله تعالى، وحينها يكون من الصعب أن يرجع قلبه في سنّ الشيخوخة إلى حالته الأولى.


فإذا لم تُصلحوا أنفسكم - لا سمح الله - وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء وعيون وآذان وألسنة ملوّثة بالذنوب، فكيف ستُقابلون الله تعالى؟ كيف ستردّون هذه الأمانات الإلهية التي استودعكم الله إيّاها بمنتهى الطهارة والبراءة، مدنّسة بالقذارة والرذالة؟

هذه العين وهذه الأذن اللتان هما تحت تصرّفكم، وهذه اليد وهذا اللسان اللذان تحت سلطتكم. وهذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون معها، كلّها أمانات الله سبحانه وتعالى، وقد منحكم الله إيّاها في غاية السلامة والطهارة. فإذا ابتُليَتْ بالمعاصي فسوف تتلوّث، وإذا تلوّثت بالمحرّمات فسوف تجد طريقها إلى الرذالة.

وآنذاك عندما تُريدون إعادة هذه الأمانة فقد تُسألون: أهكذا تُحفظ الأمانة؟! أهكذا كان القلب عندما أُعطي إليكم؟! العين التي استودعناكم إيّاها أهكذا كانت؟! وسائر الأعضاء والجوارح التي جعلناها تحت تصرّفكم، هل كانت هكذا ملوّثة وقذرة؟! بماذا ستُجيبون على هذه الأسئلة؟ وكيف ستواجهون الله الذي خنتم أماناته إلى هذا الحدّ من الخيانة؟

إنّكم الآن شباب، وقد قرّرتم أن تفنوا شبابكم في هذا الطريق الذي لن ينفعكم دنيوياً بما يستحقّ الذكر. فإذا أمضيتم أوقاتكم الثمينة هذه وقضيتم ربيع شبابكم في طريق الله ومن أجل هدف مقدّس، فإنّكم ليس فقط لم تخسروا شيئاً بل ستربحون الدنيا والآخرة.

ولكن إذا ما استمرّت أوضاعكم على هذا المنوال التي هي عليه الآن، فإنّكم تُتلفون شبابكم وتهدرون خيرة سنوات عمركم، وستكونون مسؤولين أعظم مسؤولية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

 


174

الدرس الثالث عشر: الخطوة الأولى نحو جهاد النفس

 عند الله تعالى في العالَم الآخرة.

 
علماً أنّ جزاء أعمالكم الفاسدة والمفسدة هذه لا ينحصر بالعالَم الآخر، بل إنّكم سترون أنفسكم في هذه الدنيا وقد أحاط بكم البلاء من كلّ جانب، وسُدّت عليكم الآفاق وضُيِّق الخناق.
 
ففكّروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم.. فكّروا وانتبهوا وتحرّكوا...
 
ففي المرحلة الأولى اهتمّوا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم. خذوا بوسائل العصر.. نظّموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط..
 
هذّبوا أنفسكم، وتجهّزوا واستعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يُمكن أن تعترضكم1.



1 مقتبس من كتاب جهاد النفس: الإمام الخميني، ص6، مؤسسة نشر تراث الإمام الخميني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

175

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس1

 
 
التفكُّر
إنّ أول شروط مجاهدة النفس والسير باتجاه الحقّ تعالى، هو التفكّر. والتفكّر في هذا المقام أن يُفكّر الإنسان بعض الوقت كيف أنّ مولاه خلقه في هذه الدنيا، وهيّأ له كلّ أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً وقوى سالمة، لكلّ واحدة منها منافع تُحيّر الألباب، ورعاه وهيّأ له كلّ هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة.
 
ومن جهة أخرى، أرسل له جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب والرسالات، وأرشد ودعا إلى الهدى... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟!
 
هل أنّ وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات، أم هناك هدفاً وغاية أخرى؟
 
هل أنّ الأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء الأمّة الذين يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع ويُحذّرونهم من الشهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداءٌ ضدّ الناس أم أنهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!
 
إنّ الإنسان إذا فكّر للحظة واحدة، عرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأنّ الغاية من هذا الخلق، أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدّ ذاتها، وأنّ على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه، وأن يترحّم على حاله ونفسه المسكينة، ويُخاطبها:



1 الإمام الخميني قدس سره جهاد النفس، ص6، مؤسسة نشر تراث الإمام الخميني قدس سره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

176

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 أيّتها النفس الشقيّة التي قضيت سني عمرك الطويلة في الشهوات ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، واستحي من مالك الملوك، وسيري قليلاً في طريق الهدف الأساس المؤدّي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيّام قليلة فانية، والتي لا تتحصّل حتى مع الصعوبات المضنية الشاقّة.


فكّري قليلاً في أحوال الدنيا، والسابقين، وتأمّلي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر بكثير من هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأيّ شخص.

إنّ ذلك الذي يكون على صورة إنسان ولكنّه من جنود الشيطان وأعوانه، والذي يدعوك إلى الشهوات، ويقول: يجب ضمان الحياة المادّية، تأمّل قليلاً في حاله واستنطقه، انظر هل هو راضٍ عن ظروفه، أم أنّه مبتلىً ويُريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!

وعلى أيّ حال؛ فادعُ ربّك بعجز وتضرّع أن يُعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يهديك هذا التفكير المقترن بنيّة مجاهدة الشيطان والنفس الأمّارة، إلى طريق آخر، وتوفّق للترقّي إلى منزلة أخرى من منازل المجاهدة. 
 
العزم
وهناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاهد بعد التفكّر، وهو مقام العزم. يقول أحد مشايخنا أطال الله عمره: "إنّ العزم هو جوهرة الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وإنّ اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".

والعزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطّن الإنسان نفسه ويتّخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيّام حياته، وبالتّالي أن يعمل على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل - بحسب الظاهر - بأنّ هذا الشخص إنسان. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

177

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 والإنسان الشرعي هو الذي يُنظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتدي بالنبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر ممكن، لأنّ جعل الظاهر مثل ظاهر هذا القائد أمرٌ مقدور لأيّ فرد من عباد الله.

 
واعلم... أنّ طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهية، لا يُمكن إلاّ بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يُمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة ولن تنكشف له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة.
 
وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمر في تأدّبه بالآداب الشرعية الظاهرية. ومن هنا بطلان دعوى من يقول: إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك الظاهر. أو أنّه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهرية. وهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية.
 
أيّها العزيز.. اجتهد لتُصبح ذا عزم وإرادة، فإنّك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقّق فيك العزم على ترك المحرّمات فأنت إنسان صوريّ، بلا لبّ، ولن تُحشر في ذلك العالَم على هيئة إنسان، لأنّ ذلك العالَم هو محلّ كشف الباطن وظهور السريرة.
 
وإنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف. يقول الأستاذ المعظّم دام ظله1: "إنّ أكثر ما يبعث على فقد الإنسان للعزم والإرادة هو الاستماع للغناء".



1 الأستاذ المعظّم: هو أستاذ الإمام الخميني في العرفان واسمه الشاه أبادي.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

178

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 إذاً تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانياً، وادخل في سلك أرباب الشرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات أن يكون معك في الطريق إلى هذا الهدف، واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته حتى يفيض عليك ربّك التوفيق، ويُمسك بيدك في المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيّام حياته، ومن الممكن في لحظة واحدة أن يسقط هذا الإنسان في مزلق مهلك، يعجز بعدها عن إنقاذ نفسه، بل قد لا يهتمّ بذلك، وربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين نعوذ بالله منها.

 
المشارطة والمراقبة والمحاسبة
ومن الأمور الضرورية للمجاهد: "المشارطة والمراقبة والمحاسبة".
 
1- المشارطة:
فالمشارطة هو الذي يُشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يُخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.
 
وواضح أنّ ترك ما يُخالف أوامر الله، ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويُمكن للإنسان أن يلتزم به بيُسر. فاعزم وشارط وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير. ومن الممكن أن يُصوّر لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير. فاعلم عندها أنّ هذه من تسويلات هذا اللعين، فالعنه قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرّب ليوم واحد، فعند ذلك ستُصدّق هذا الأمر.
 
2- المراقبة:
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى المراقبة، وكيفيتها أن تنتبه طوال مدّة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت.
 
وإذا حصل لا سمح الله حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

179

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 أنّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرِج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: إنّني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم - وهو يوم واحد - بأيّ عمل يُخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحّة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا. وآمل إن شاء الله تعالى، أن ينصرف الشيطان عنك ويبتعد، وتنتصر جنود الرحمن. 


والمراقبة لا تتعارض مع أيٍّ من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل، ريثما يحين وقت المحاسبة.

3- المحاسبة:
أمّا المحاسبة فهي أن تُحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئية.

فإذا كُنتَ قد وفّيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق. وإن شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى ملكة فيك بحيث يُصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذّة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالَم بالذّات، في حين أنّ هذا العالَم ليس هو عالم الجزاء لكن الجزاء الإلهي يؤثّر ويجعلك مستمتعاً وملتذّاً بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية.

واعلم أنّ الله لم يُكلّفك ما يشقّ عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكن الشيطان وجنده يُصوّرون لك الأمر وكأنّه شاقّ وصعب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

180

الدرس الرابع عشر: شروط مجاهدة النفس

 وإذا حدث لا سمح الله في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكُنْ على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

181

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس1

 
 
التذكّر
ومن الأمور التي تُعين الإنسان وبصورة كاملة في مجاهدته للنفس والشيطان، والتي ينبغي للإنسان السالك المجاهد الانتباه إليها جيّداً هو التذكّر. والتذكّر في هذا المقام، هو عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطفّ بها على الإنسان.
 
واعلم أنّ احترام المنعمِ وتعظيمه، من الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليه والتي تحكم الفطرة بضرورتها، وإذا تأمّل أيّ شخص في كتاب ذاته، لوجده مسطوراً فيه أنّه يجب تعظيم من أنعم نعمة على الإنسان.
 
وواضح أنّه كلّما كانت النعمة أكبر وكان المنعِم أقلّ غرضاً، كان تعظيمه أوجب وأكثر، حسب ما تحكم به الفطرة. فهناك مثلاً فرق واضح في الاحترام والتقدير بين شخص يُعطيك حصاناً تُلاحقه عيناه ويرمي من ورائه شيئاً، وبين الذي يهبك مزرعة كاملة ولا يمنّ عليك بها. أو مثلاً إذا أنقذك طبيب من العمى، فستُقدّره وتحترمه بصورة فطرية، وإذا أنقذك من الموت كان تقديرك واحترامك له أكثر.
 
لاحظ الآن أنّ النعم الظاهرة والباطنة التي تفضّل بها علينا مالك الملوك جلَّ شأنه لو اجتمع الجنّ والإنس لكي يُعطونا واحدة منها لما استطاعوا. وهذه حقيقة نحن غافلون عنها، فمثلاً هذا الهواء الذي ننتفع به ليلاً ونهاراً، وحياتنا وحياة جميع الموجودات مرهونة به، بحيث لو فُقِد مدة ربع ساعة لما بقي هناك حيوان على قيد



1 الإمام الخميني قدس سره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

182

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 الحياة، هذا الهواء كم هو نعمة عظيمة، يعجز الجن والإنس جميعاً عن مَنحِنا مثيلاً له لو أرادوا أن يمنحونا ذلك!


وعلى هذا فقِس وتذكّر قليلاً كافّة النعم الإلهية مثل سلامة البدن والقوى الظاهرية من قبيل البصر والسمع والتذوّق، والقوى الباطنية مثل التخيّل والواهمة والعقل وغير ذلك، حيث يكون لكلّ واحدة من هذه النعم منافع خاصة لا حدّ لها، وجميع هذه النعم وهبنا مالك الملوك إيّاها دون أن نطلب منه أن يمنّ علينا. ولم يكتفِ بهذه النعم بل أرسل الأنبياء والرسل والكتب وأوضح لنا طريق السعادة والشقاء والجنّة والنار، ووهبنا كلّ ما نحتاجه في الدنيا والآخرة، دون أن يكون فقيراً ومحتاجاً إلى طاعتنا وعبادتنا. فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضرّه المعصية، وطاعتنا ومعصيتنا بالنسبة له على حدٍّ سواء، بل من أجل خيرنا ومنفعتنا نحن يأمر وينهى.

وبعد تذكّر هذه النعم والكثير الكثير من النعم الأخرى التي يعجز حقّاً جميع البشر عن إحصاء الكلّيات منها فكيف بعدّها واحدة واحدة! بعد ذلك يُطرح السؤال التّالي: ألا تحكم فطرتك بوجوب تعظيم منعم كهذا، وما هو حكم العقل تجاه خيانة وليّ نعمة كهذا؟!

ومن الأمور الأخرى التي تُقرّه الفطرة، احترام الشخص الكبير العظيم، ويرجع كلّ هذا الاحترام والتقدير الذي يُبديه الناس تجاه أهل الدنيا والجاه والثروة والسلاطين والأعيان، يرجع إلى أنّهم يرون أولئك كباراً وعظماء، فأيّ عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلق هذه الدنيا الحقيرة والوضيعة والتي تُعتبر من أصغر العوالم وأضيق النشآت، رغم كلّ ذلك لم يتوصّل عقل أيّ موجود إلى إدراك كنهها وسرّها حتى الآن، بل ولم يطّلع كبار المكتشفين في العالَم بعد على أسرار منظومتنا الشمسية، وهي أصغر المنظومات ولا تعدّ شيئاً قياساً إلى باقي المنظومات، أفلا يجب احترام وتعظيم هذا العظيم، الذي خلق هذه العوالم وآلاف 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

183

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 الآلاف من العوالم الغيبية الإيمانية؟!


ويجب أيضاً بالفطرة احترام من يكون حاضراً، ولهذا ترى بأنّ الإنسان إذا تحدّث لا سمح الله عن شخص بسوء في غيبته، ثم حضر في أثناء حديث ذلك الشخص، اختار المتحدّث حسب فطرته الصمت، وأبدى له الاحترام.

ومن المعلوم أنّ الله تبارك وتعالى حاضر في كلّ مكان وتحت إشرافه تعالى تُدار جميع ممالك الوجود، بل إنّ نفس الحضور والعالَم أجمع هو محضر الربوبية.

فتذكّري يا نفسي الخبيثة أيّ ظلم فظيع، وأيّ ذنب عظيم تقترفين إذا عصيت مثل هذا العظيم في حضرته المقدّسة وبواسطة القوى التي هي نعمه الممنوحة لك؟ ألا ينبغي أن تذوبي من الخجل وتغوري في الأرض لو كان لديك ذرّة من الحياء؟

إذاً: فيا أيّها العزيز، كن ذاكراً لعظمة ربّك، وتذكّر نعمه وألطافه، وتذكّر أنّك في حضرته وهو شاهد عليك فدع التمرّد عليه.

وفي هذه المعركة الكبرى تغلّب على جنود الشيطان واجعل مملكتك رحمانية وحقّانية، وأحلل فيها عسكر الحقّ تعالى محلّ جنود الشيطان، كي يوفّقك الله تبارك وتعالى في مقام مجاهدة أخرى، وفي ميدان معركة أكبر تنتظرك وهي الجهاد مع النفس في العالَم الباطن، وفي المقام الثاني للنفس.

وأُكرّر التذكير بأنّه في جميع الأحوال لا تُعلّق على نفسك الآمال لأنّه لا ينهض أحد بعمل غير الله تعالى. فاطلب من الحقّ تعالى نفسه بتضرّع وخشوع، كي يُعينك في هذه المجاهدة لعلّك تنتصر. إنّه وليّ التوفيق.

السيطرة على الخيال
إنّ أول شرط للمجاهد في المقام الثاني وهو مقام الباطن، والذي يُمكن أن يكون أساس الغلبة على الشيطان وجنوده، هو حفظ طائر الخيال، لأنّ هذا الخيال 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

184

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 طائر محلّق يحطّ في كلّ آن على غصن، ويجلب الكثير من الشقاء. وهو أحد وسائل الشيطان التي تجعل الإنسان مسكيناً عاجزاً وتدفع به نحو الشقاء.


وعلى الإنسان المجاهد الذي نهض لإصلاح نفسه، وأراد أن يُصفّي باطنه، ويُفرِّغه من جنود إبليس، عليه أن يُمسك بزمام خياله فلا يسمح له بأن يطير حيثما شاء، وعليه أن يمنع من اعتراضه للخيالات الفاسدة والباطنة، كخيالات المعاصي والشيطنة، وأن يوجّه خياله دائماً نحو الأمور الشريفة، هذا الأمر لو أنّه قد يبدو في البداية صعباً بعض الشيء، ويصوّره الشيطان وجنوده لنا كأنّه أمر عظيم، ولكنّه مع قليل من المراقبة والمواظبة يُصبح أمراً سهلاً ويسيراً.

إنّ من الممكن لك من باب التجربة أن تُسيطر على جزء من خيالك، وتنتبه له جيّداً. فمتى ما أراد أن يتوجّه إلى أمر وضيع، فاصرفه نحو أمور أخرى كالمباحات أو الأمور الراجحة الشريفة.

فإذا رأيت أنّك حصلت على نتيجة فاشكر الله تعالى على هذا التوفيق، وتابع سعيك، لعلّ ربّك برحمته يفتح لك طريقاً إلى الملكوت ويهديك إلى صراط الإنسانية المستقيم، ويُسهّل عليك مهمّة السلوك إليه سبحانه وتعالى.

وانتبه إلى أنّ الخيالات الفاسدة القبيحة والتصوّرات الباطلة هي من إلقاءات الشيطان، الذي يُريد أن يوطّن جنوده في مملكة باطنك. فعليك أيّها المجاهد ضدّ الشيطان وجنوده، وأنت تُريد أن تجعل من صفحة نفسك مملكة إلهية رحمانية، عليك أن تحذر كيد هذا اللعين، وأن تُبعد عنك هذه الأوهام المخالفة لرضا الله تعالى، حتى تنتزع إن شاء الله هذا الخندق المهمّ جدّاً من يد الشيطان وجنوده في هذه المعركة الداخلية. فهذا الخندق بمنزلة الحدّ الفاصل، فإذا تغلّبت هنا فتأمّل خيراً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

185

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 الموازنة

ومن الأمور التي تُعين الإنسان في هذا السلوك، والتي يجب عليه الانتباه لها: الموازنة.

والموازنة هي أن يُقارن الإنسان العاقل بين منافع ومضار كلّ واحدة من الأخلاق الفاسدة والملكات الرذيلة التي تنشأ عن الشهوة والغضب والوهم، عندما تكون حرّة وتحت تصرّف الشيطان، وبين منافع ومضار كلّ واحدة من الأخلاق الحسنة والفضائل النفسية - والتي هي وليدة تلك القوى الثلاث - عندما تكون تحت تصرّف العقل والشرع. ليرى على أيّ واحدة منها يصحّ الإقدام وبأيّها يحسُن العمل؟!

فمثلاً إنّ النفس ذات الشهوة المطلقة العنان والتي ترسّخت فيها، وأصبحت ملكة ثابتة لها، وتولّدت منها ملكات كثيرة في أزمنة متطاولة، هذه النفس لا تتورّع عن أيّ فجور تصل يدها إليه، ولا تعرض عن أيّ مال يأتيها، ومن أيّ طريق كان، وترتكب كلّ ما يوافق رغبتها وهواها مهما كان، ولو استلزم ذلك أيّ أمر فاسد.

ومنافع الغضب الذي أصبح ملكة للنفس، وتولّدت منه ملكات ورذائل أخرى، منافعه هي أنّه يظلم بالقهر والغلبة كلّ من تصل إليه يده، ويفعل ما يقدر عليه ضدّ كلّ شخص يُبدي أدنى مقاومة، ويُثير الحرب بأقلّ معارضة له، ويُبعد المضرات وما لا يُلائمه، بأيّة وسيلة مهما كانت، ولو أدّى ذلك إلى وقوع الفساد في العالَم.

وعلى هذا النحو تكون منافع النفس لصاحب الواهمة الشيطانية الذي ترسّخت فيه هذه الملكة. فهو يُنفّذ عمل الغضب والشهوة بأيّة شيطنة وخدعة كانت، ويُسيطر على عباد الله بأيّة خطّة باطلة كانت، سواء بتحطيم عائلة ما، أو بإبادة مدينة أو بلاد ما.

هذه هي منافع تلك القوى عندما تكون تحت تصرّف الشيطان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

186

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 الطريق العملي لجهاد النفس

أيّها العزيز، انهض من نومك وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقية، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك بعد الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج واعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب...

وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلّبه منك تلك الملكة الرذيلة.

وعلى أيّ حال، اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ هذا الخُلق القبيح، سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان من هذا الخندق، وتحلّ محلّهم الجنود الرحمانية.

فمثلاً من الأخلاق الذميمة التي تُسبّب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتُعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة.

فإذا كان الإنسان المجاهد يُفكّر في السموّ والترفّع، عليه عندما يعترضه أمر غير مرغوب فيه حيث تتوهّج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيّء من القول، عليه أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكّر سوء عاقبة هذا الخُلق ونتيجته القبيحة، ويُراعي في المقابل حسن الخلق ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

187

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 إنّي أتعهّد لك بأنّك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإنّ الخُلق السيّء سيتغيّر كلّياً وسيحلّ الخُلق الحسن في مملكتك الباطنية، أمّا إذا عملت وفق هوى النفس، فمن الممكن أن يقضي عليك في هذا العالَم. وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي يُهلك الإنسان في آن واحد في كلا الدارين، فقد يؤدّي ذلك الغضب لا سمح الله إلى قتل النفس.


ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة الغضب على النواميس الإلهية، كما رأينا أنّ بعض الناس قد أصبحوا من جرّاء الغضب مرتدّين. وقد قال الحكماء: "إنّ السفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب".

أو إذا لا سمح الله كُنتَ من أهل الجدل والمراء في المناقشات العلمية كبعضنا نحن الطلبة، المبتلين بهذه السريرة القبيحة، فاعمل فترة بخلاف النفس، فإذا دخلت في نقاش مع أحد الأشخاص في مجلس ما، ورأيت أنّه يقول الحقّ فاعترف بخطئك وصدِّق القول المقابل، والمأمول أن تزول هذه الرذيلة في زمن قصير.

ولا سمح الله أن ينطبق علينا قول بعض أهل العلم ومدّعي المكاشفة، حيث يقول: "لقد كُشف لي خلال إحدى المكاشفات أن تخاصم أهل النار الذي يُخبر عنه الله تعالى، هو الجدل بين أهل العلم والحديث". والإنسان إذا احتمل صحّة هذا الأمر فعليه أن يسعى كثيراً من أجل إزالة هذه الخصلة.

روي عن عدّة من الأصحاب أنّهم قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم قال: "إنّما هلك من كان قبلكم بهذا. ذروا المراء فإنّ المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإنّ المماري قد تمَّت خسارته، ذروا المراء فإنّ المماري لا أشفع له يوم القيامة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

188

الدرس الخامس عشر: الطريق العملي لجهاد النفس

 ذروا المراء فأنا زعيمٌ بثلاث أبياتٍ في الجنّة، في رياضها وأوسطها وأعلاهالمن ترك المِراءَ وهو صادق، ذروا المِراء فإنّ أوّل ما نهاني عنه ربّي بعد عبادة الأوثان المِراء"1.

 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقّاً"2.
 
والأحاديث في هذا الباب كثيرة. فما أقبح أن يُحرم الإنسان شفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة مُغالبة جزئية ليس فيها أيّ ثمر ولا أثر، وما أقبح أن تتحوّل مذاكرة العلم وهي أفضل العبادات والطاعات إذا كانت بنيّة صحيحة، إلى أعظم المعاصي بفعل المراء وتتلو مرتبة عبادة الأوثان.
 
وعلى أيّ حال ينبغي للإنسان أن يأخذ بنظر الاعتبار الأخلاق القبيحة الفاسدة، ويُخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندما يخرج الغاصب، يأتي صاحب الدار نفسه، فلا يحتاج حينذاك إلى مشقّة أخرى أو إلى طلب العودة منه.
 
وعندما يكتمل جهاد النفس في هذا المقام، ويوفّق الإنسان لإخراج جنود إبليس من هذه المملكة، وتُصبح مملكته مسكناً لملائكة الله ومعبداً لعباده الصالحين، فحينذاك يُصبح السلوك إلى الله يسيراً، ويتّضح طريق الإنسانية المستقيم، وتُفتح أمام الإنسان أبواب البركات والجنّات، وتُغلق أمامه أبواب جهنّم والدركات، وينظر الله تبارك وتعالى إليه بعين اللطف والرحمة، وينخرط في سلك أهل الإيمان، ويُصبح من أهل السعادة وأصحاب اليمين، ويُفتح له طريقاً إلى باب المعارف الإلهية، وهي غاية خلق الجنّ والإنس، ويأخذ الله تعالى بيده في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص138.
2 م. ن، ص 139.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

189

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 الدرس السادس عشر: حب الدنيا1

 
 
حديث في حبّ الدنيا
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره"2.
 
ما هي حقيقة الدنيا المذمومة؟
للدنيا والآخرة إطلاقات حسب آراء أرباب العلوم ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم، ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلمية بمهمّة، فإنّ بذل الجهد في فهم الاصطلاحات، والردّ والقبول، والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد. وإنّما المهمّ في هذا الباب هو فهم الدنيا المذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرّز منها، وما يُعين الإنسان على النجاة.
 
يقول المحقّق الخبير والمحدّث المنقطع النظير مولانا المجلسي رحمة الله عليه: اعلم أنّ الذي يظهر من مجموع الآيات والأخبار على ما نفهمه، أنّ الدنيا المذمومة مركّبة من مجموع أمور تمنع الإنسان من طاعة الله وحبّه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان متقابلتان. فكلّ ما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا، كالتجارات والصناعات والزراعات التي



1 الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً، الحديث السادس، ص 141.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 359.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

190

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به، ولصرفها في وجوه البرّ، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإنّ كلّ هذه الأمور تُعدّ من أعمال الآخرة وإن كان عامّة الخلق يعدّونها من الدنيا. والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كانت مع الزهد والمشقّة فإنّها من الدنيا، لأنّها ممّا يُبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه، مثل أعمال الكفّار والمخالفين1.

 
ونقل المجلسي رحمة الله عليه عن أحد المحقّقين: "دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يُسمّى الدنيا وهي كلّ ما قبل الموت، والمتأخّر يُسمّى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكلّ ما لك فيه حظّ وغرضونصيب وشهوة ولذّة قبل الموت، فهي الدنيا في حقّك... "2.
 
"دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يُسمّى الدنيا وهي كلّ ما قبل الموت، والمتأخّر يُسمّى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكلّ ما لك فيه حظّ وغرضونصيب وشهوالدنيا أحياناً تُطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تُطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه والتي هي دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحقّقتان لكلّ نفس من النفوس وشخص من الأشخاص.
 
وعلى العموم إنّ لكلّ موجود مقام ظهور وملك وشهود، وهو تلك المرتبة الدنيوية النازلة، والمقام الباطني والملكوت الغيبي هو النشأة الأخروية الصاعدة. والنشأة الدنيوية النازلة وإن كانت ناقصة بذاتها ومن آخر مراتب الوجود، إلّا أنّها لمّا كانت مهد تربية النفوس القدسية ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنّها غدت من أحسن مشاهد الوجود وأعزّ النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك الآخرة.
 
فلو لم تكن هذه الأمور الملكية والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 63.
2 م.ن، ص 25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

191

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 والإرادية موجودة، ولو لم يُسلّط الله تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّفات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حدّ كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلّي في الملك والملكوت. لذا فإنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا لا يعود في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبّتها.

 
وعليه يتبيّن أنّ أمام الإنسان دنياوين: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة - وهي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة - على المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، وهي أمور لا يُمكن الحصول عليها دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى الموحّدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردّاً على من ذمّ الدنيا حيث قال: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة... "1.
 
وقال الله تعالى : ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾2 وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام.
 
وعليه فإنّ عالَم الملك، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجّه إليها والتعلّق بها وحبّها، وهذا هو منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"3.



1 نهج البلاغة، الحكمة رقم 131، صبحي الصالح.
2 سورة النحل، الآية 30.
3 الشيخ الكيني، الكافي، ج 2، ص 315.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

192

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع هذا في أوّلها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"1.

 
فتعلّق القلب بالدنيا وحبّها، هو الدنيا المذمومة. وكلّما كان التعلّق بها أشدّ كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحقّ سبحانه أسمك وأغلظ. وإنّ ما جاء في الأحاديث الشريفة من أنّ لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، فيُمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه، الميول والتعلّقات القلبية بالدنيا. فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلّما كان الحبّ لها أشدّ، كانت الحجب أغلظ واختراقها أصعب.
 
هل حبّ الدنيا أمر فطري وطبيعي؟
لمّا كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمّه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإنّ حبّ الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموّه، وكلّما كبر في العمر، كبُر هذا الحبّ في قلبه ونما. وبما وهبه الله من القوى الشهوانية ووسائل التلذّذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية، يزداد حبّه ويقوى تعلّقه بها، حتى يظنّ أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذّات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذّات، وحتى لو كان يعرف من أدلّة الحكماء أو أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم أنّ هناك عالماً أخرويّاً فإنّ قلبه يبقى غافلاً عن كيفية هذا العالَم الآخر وحالاته وكمالاته ولا يتقبّله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلّقه بهذه الدنيا.
 
وبما أنّ حبّ البقاء فطري في الإنسان، وهو يكره الزوال والفناء، ويظن أنّ الموت فناء، فإنّه حتى ولو كان مؤمناً بعقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأنّ العالَم الآخر عالم بقاء سرمدي يبقى الأساس هو الإيمان بالقلب، بل بمرتبة كماله الذي



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 315.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

193

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 هو الاطمئنان، كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحقّ تعالى هذا الاطمئنان فأنعم به عليه. إذاً إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة مثل قلوبنا، وإن كنّا نُصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإمّا أنّها لا اطمئنان فيها، فيكون حبّ البقاء في هذا العالَم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالَم موجوداً في القلب.

 
ولو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنّها دار الهلاك ودار النقص وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا.
 
ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالَم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى الصورة الباطنية لهذا العالَم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالَم - عالَم الآخرة - والتعلّق به، لأصبح هذا العالَم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه، ولنفر منه، واشتاق للتخلّص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغيّر. كما جاء في كثير من كلام الأولياء. فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال : "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"1.
 
ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثّر على مجاورة رحمة الحقّ المتعال شيئاً أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إنّ الوقوع في الكثرة ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبيرات الملكية بل حتى التأييدات الملكوتية، يُعدّ كلّ ذلك بالنسبة للمحبّين والمنجذبين، ألماً وعذاباً ليس بمقدورنا أن نتصوّرهما.
 
إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنّه لا يحجبهم أيّ حجاب



1 نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الخطبة 15، صبحي الصالح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

194

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 هو الاطمئنان، كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحقّ تعالى هذا الاطمئنان فأنعم به عليه. إذاً إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة مثل قلوبنا، وإن كنّا نُصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإمّا أنّها لا اطمئنان فيها، فيكون حبّ البقاء في هذا العالَم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالَم موجوداً في القلب.

 
ولو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنّها دار الهلاك ودار النقص وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا.
 
ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالَم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى الصورة الباطنية لهذا العالَم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالَم - عالَم الآخرة - والتعلّق به، لأصبح هذا العالَم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه، ولنفر منه، واشتاق للتخلّص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغيّر. كما جاء في كثير من كلام الأولياء. فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال : "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"1.
 
ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثّر على مجاورة رحمة الحقّ المتعال شيئاً أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إنّ الوقوع في الكثرة ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبيرات الملكية بل حتى التأييدات الملكوتية، يُعدّ كلّ ذلك بالنسبة للمحبّين والمنجذبين، ألماً وعذاباً ليس بمقدورنا أن نتصوّرهما.
 
إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنّه لا يحجبهم أيّ حجاب


1 نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الخطبة 15، صبحي الصالح.
ملكي أو ملكوتي. فقد اجتازوا جحيم الطبيعية الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلّق بالدنيا وتطهّرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. ولكن النزول إلى عالم الطبيعة هو بحدّ ذاته حظّ طبيعي، وإنّ الالتذاذ القهري الذي يحصل في عالم الملك، يكون بالنسبة لهم حجاباً ولو كان قليلاً جداً. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة"1.
 
ولعلّ خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجّه القهري نحو تدبير الملك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور الطبيعية، وهذه تُعتبر خطيئة بالنسبة إلى أولياء الله المنجذبين إليه. ولو بقي آدم عليه السلام في ذلك الانجذاب الإلهي، ولم يرد إلى عالم الملك، لما بسطت كلّ هذه الرحمة في الدنيا والآخرة.
 
الإنسان بحسب فطرته يعشق الكمال المطلق لا غير
خلق الله الإنسان في هذا العالَم وخلق معه فطرة عشق الكمال والبحث عنه. فكلّ إنسان يُحبّ الكمال بحسب فطرته وخلقته الأولى، ويسعى للوصول إليه والتحقّق به. بل إنّ أصل كلّ حركة وتصرّف عند الإنسان هو لأجل بلوغ الكمال المنشود. والفطرة الإنسانية لا تريد أيّ كمال، بل تبحث عن الكمال المطلق الذي لا حدّ له ولا منتهى. وهنا اختلف الناس وتفرّق الجمع أثناء سعيهم وبحثهم، فكلٌّ يرى الكمال في شيء. فأهل الدنيا توهّموا أن ما تصبو إليه فطرتهم من كمال موجود في هذه الدنيا، فانكبّوا لتحصيلها وتعميرها. ولكن العاقل البصير يعرف جيّداً أنّ هذه الدنيا ما هي إلا كمال محدود وفان، وإذا انشغل المرء فيها لم تزده إلا حاجة وفقراً، حتى يتشتّت أمره ويضطّرب حاله، ويستولي عليه الغمّ والحسرة واليأس خوفاً من فقدها وأملاً ببقائها. أمّا أهل الآخرة فقد توجّهوا بقلوبهم وكلّ وجودهم نحو الكمال الحقيقي والمحبوب 



1 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 55، ص 325، كتاب الصلاة، أبواب الذكر، الباب 22، ح 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

195

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 الواقعي، نحو عالم الآخرة، دار لقاء الله ومشاهدته، لأنّهم أدركوا أنّ مرادهم هو أسمى بكثير من كمالات هذه الدنيا الفانية وزخارفها المحدودة وسعادتها الزائلة.

 
لا يخفي على كلّ ذي وجدان أنّ الإنسان بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذّاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وبهذا الحبّ للكمال، تتوفّر إدارة الملك والملكوت وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الكمال المطلق إلى معشوقهم. غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله سبحانه فيقولون: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾1، ويقولون: "لي مع الله حال"2.
 
وأهل الدنيا عندما رأوا أنّ الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن لمّا كان التوجّه الفطري والعشق الذّاتي قد تعلّقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق.
 
إنّ الإنسان كلّما كثر ملكه وملكوته، وكلّما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية، أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه، ونار عشقه التهاباً.
 
فصاحب الشهوة كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنّها سيطرت على الكرة الأرضية برّمتها، لرغبت في التحليق 



1 سورة الأنعام، الآية 79.
2 إشارة للحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ?لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل "، العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 360.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

196

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 نحو الكواكب الأخرى للاستيلاء عليها.

 
إلا أنّ هذه النفس المسكينة لا تدري بأنّ الفطرة إنّما تتطلّع إلى شيء أخر. إنّ العشق الفطري يتّجه نحو المحبوب المطلق، إنّ جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجّهات القلبية والميول النفسية تتوجّه نحو جمال الجميل المطلق ولكنّهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحبّ والعشق والشوق - التي هي معراج وأجنحة الوصول - إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيُحدّدوها ويُقيّدوها من دون أيّة فائدة.
 
إذاً فالمقصود أنّ الإنسان لمّا كان متوجّهاً قلبياً إلى الكمال المطلّق، فإنّه مهما جمع من زخرف الحياة فإنّ قلبه سيزداد تعلّقاً بها، فإذا اعتقد أنّ الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد حرصه عليها وتعلّقه بها واشتدّت حاجته إليها وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجّههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها.
 
كما أنّ أهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، متحرّرون من كلتا النشأتين وكلّ احتياجهم فقط إلى الغني المطلق، فيغدو قلبهم متجلياً بمظهر الغنى بالذّات، فهنيئاً لهم.
 
ومضمون الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما قد شرحناه الآن حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه جعل اللهالغنى في قلبه وجمع له أمره"1.
 
ومن المعلوم أنّ من يتّجه بقلبه نحو الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 309.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

197

الدرس السادس عشر: حب الدنيا

 حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة ومتغيّرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم وسرور، فتخفّ حاجاته ويقلّ افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة إليها، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغنى الذّاتي والقلبي.

 
إذاً كلّما نظرت إلى هذه الدنيا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبك بها، إزدادت حاجتك إليها بحسب درجات حبّك لها، وبان الفقر في باطنك وظاهرك، وتشتّتت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهمّ، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنّياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغمّ والتحسّر، ويتمكّن اليأس والحيرة من قلبك، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث الشريف. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشدّ لحسرته عند فراقها"1.
 
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "من تعلّق بالدنيا تعلّق قلبه بثلاث خصال، همٌّ لا يفنى وأمل لا يُدرك ورجاء لا يُنال"2.
 
أمّا أهل الآخرة، فإنّهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها، ولولا أنّ الله قد عيّن لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة.
 
فهم كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "نزلت أنفسهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب"3.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 325.
2 م.ن.
3 نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الخطبة 193، صبحي الصالح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

198

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا1

 
 
 
مفاسد حبّ الدنيا
اعلم أنّ ما تناله النفس من حظّ في هذه الدنيا يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير عالم الملك والطبيعة وهو السبب أيضاً في تعلّقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثّر القلب وتعلّقه بها وحبّه لها، إلى أن يتّجه القلب كلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا ما يبعث على الكثير من المفاسد.
 
إنّ جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيّئات سببها هو هذا الحبّ للدنيا والتعلّق بها، كما ورد في الحديث: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"2.
 
ومن المفاسد التي تنجم عن تعلّق القلب بالدنيا:
1- الاحتجاب عن الله:
إنّ الرغبة في الدنيا سبب للاحتجاب عن الحقّ تعالى، وللحرمان من السلوك إلى الله. والمقصود بالدنيا كلّ ما يُشغل الإنسان عن الحقّ تعالى. ولأنّ هذا المعنى يتحقّق أكثر في عالَم الملك، لذا فهذا العالَم أحقّ بهذا الاسم - الدنيا - من غيره. وهذا ما يُشير إليه حديث مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام عندما يُعرِّف الزهد. قال: "الزّهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النّار وهو ترك كلّ شي‏ء يَشغَلُكَ‏ عن‏ الله‏ تعالى من غير تأَسُّفٍ على فَوْتِهَا"3.



1 الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً، الحديث السادس، ص 141.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 315.
3 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 315.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

199

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 ولقد فسّر أهل المعرفة الحجب النورانية والحجب الظلمانية، التي ورد ذكرها في الحديث الشريف: "إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور، وسبعين ألف حجاب من ظلمة ... "1، بأنّها تتمثّل في وجود الأشياء والعوالم وتعيّناتها ، فالانشغالبأيٍّ منها يحرم الإنسان ويحجبه عن وجه جمال الجميل...

 
وعلى أيّ حال، فإنّ التعلّق القلبي بكلّ ما سوى الحقّ تعالى عقبة في طريق السلوك إلى الله، وعلى السالك إلى الله والطالب للقائه - جلّ وعلا - وللعروج في معارج المعارف الإلهية، أن يُزيل هذه العقبة عن طريقه بالرياضات الشرعية، فلا يُمكن العروج إلى الكمالات الروحانية ومشاهدة جمال الجميل المطلق مع وجود هذا التعلّق القلبي بغير الحقّ تعالى، ومع اتباع شهوات البطن والفرج2.
 
2- السخط على وليّ النعمة:
إنّ من المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا - كما يقول شيخنا العارف روحي فداه - 3 هو، أنّه إذا انطبع حبّ الدنيا على صفحة قلب الإنسان واشتدّ الأنس بها، انكشف له عند الموت أنّ الحقّ تعالى يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرق بينه وبين مطلوبه، فيُغادر الدنيا مغتاظاً ساخطاً على وليّ نعمته.
 
إنّ هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان للحفاظ على قلبه، فالعياذ بالله من إنسان يسخط على وليّ نعمته ومالك الملوك الحقيقي، إذ لا أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء غير الله تعالى. ويقول شيخنا العظيم أيضاً - دام ظله - نقلاً عن أبيه المعظم، إنّه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبّة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنّه بعد الانهماك في الرياضات تخلّص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه.



1 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 55، ص 45.
2 راجع، الإمام الخميني، جنود العقل والجهل، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2001، ص299.
3 المرحوم آية الله الشاه آبادي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

200

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 قال الإمام الصادق عليه السلام: "مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله"1.

 
إنّ حبّ الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنية والظاهرية وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الدرهم والدينار أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم"2.
 
وعلى فرض أنّ الإنسان لم يرتكب معاصي أخرى - على الرغم من أنّ هذا الفرض بعيد أو من المستحيل عادة - فإنّ التعلّق بالدنيا نفسه معصية، بل إنّ مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ هو أمثال هذه التعلّقات. فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقل كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض الروايات: إنّ عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيّام، وإنّما كان هذا لأجل التعلّق الطبيعي والعلاقة الجبلية لأولياء الله بهذا العالَم.
 
3- الخوف من الموت:
وإنّ من مفاسد حبّ الدنيا والتعلّق بها هو أنّه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف الناشئ من حبّ الدنيا والتعلّق القلبي بها مذموم جداً وهو غير الخوف من المرجع والآخرة - مآل الإنسان بعد الموت - المعدود من ضمن صفات المؤمنين.
 
إنّ أبلغ صعوبة في الموت هي ضغوطات رفع هذه العلائق، والخوف من الموت نفسه. يقول المحقّق والمدقّق الإسلامي البارع، السيد العظيم الشأن، الداماد كرّم الله وجهه في كتابه "القبسات? الذي يُعدّ من الكتب النادرة: "لا يُخيفنك الموت، فإنّ مرارته في خوفه"3.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 136.
2 م.ن، ص 316.
3 الميرداماد، القبسات، ص 479.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

201

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 4- ضعف العزيمة والإرادة:

ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا أنّه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويقوّي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعلها تعصي وتتمرّد، ويوهن عزم الإنسان وإرادته، مع أنّ الأسرار العظمى للعبادات والرياضات الشرعية، هي صيرورة البدن وقواه الطبيعية والبعد الملكي فيه، تابعاً ومنقاداً للروح، وتُصبح إرادة النفس سارية فيه (البدن)، ويغلب ملكوت النفس على الملك ويكون للروح سلطنة وقدرة ونفوذ بحيث تجبر البدن على أيّ عمل تُريده. ويُصبح ملك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت، بحيث إنّه يقوم بما يُريد من دون مشقّة ولا عناء.
 
إنّ من الفضائل والأسرار الشاقّة والصعبة للعبادات تحقّق هذا الهدف - أي تسخير ملك الجسم للملكوت - أكثر، حيث يصير بذلك الإنسان ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتدّ، أصبح حال الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مثل ملائكة الله الذين لا يعصون الله وإنّما يُطيعونه في كلّ ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يُعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقّة.
 
كذلك إذا أصبحت قوى الإنسان مسخّرة للروح، زال كلّ تكلّف وتعب، وتحوّل إلى الراحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة1 للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له.
 
فاعلم يا عزيزي أنّ العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان ولهما فعالية. إنّ ميزان أحد مراتب الجنّة والتي هي أفضل الجنّات هو الإرادة والعزم. فما لم يحصل الإنسان على مثل هذه الإرادة النافذة والعزم القوي، لن ينال تلك الجنّة والمقام العالي.



1 أقاليم الملك: العين، اللسان، البطن، الفرج، اليد، الرجل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

202

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 جاء في الحديث، أنّ أهل الجنّة عندما يستقرّون فيها، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّـت عظمته بهذا المضمون: "هذه رسالة من الحيّ الثابت الخالد إلى الحيّ الثابت الخالد. أنا أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاًفي مستوىً إذا أمرت الشيء وقلت له كن، فيكون"1.

 
فلاحظ أيّ مقام وسلطان هذا؟ وأيّة قدرة إلهية هذه التي تجعل إرادة الإنسان مظهراً لإرادة الله! فيلبس المعدومات لباس الوجود! هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كلّ النعم الجسمانية، وبديهي أنّ تلك الرسالة لم تُكتب عبثاً وجزافاً.
 
إنّ من كانت إرادته تابعة للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميّتة خامدة لا يصل إلى هذا المقام. إنّ أعمال الله منزّهة عن العبث، فكما أنّ هذا العالَم قائم على أساس ترتيب الأسباب والمسبّبات، كذلك هو الحال في العالَم الآخر. بل إنّ كلّ نظام عالَم الآخرة قائم على الأسباب والمسبّبات، وإنّ نفوذ الإرادة يجب أن يتهيّأ من هذا العالَم، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وهذا العالَم مادّة لكلّ نعم الجنّة ونقم النار.
 
إذاً كلّ عبادة من العبادات وكلّ منسك من المناسك الشرعية، فضلاً عن أنّ لها صورة أخروية وملكوتية، بها يتمّ عمارة الجنّة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور - طبقاً للبراهين والأحاديث - فإنّ لكلّ عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في النفس، ممّا يقوي إرادة النفس شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حدّ الكمال. لذا كلّما كانت العبادات أشقّ كانت مرغوبة أكثر: "أفضل الأعمال أحمزها"2 فالتنازل عن النوم اللذيذ في الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ تعالى، يزيد من قوّة الروح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة.



1 راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 1561.
2 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 191.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

203

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 وإذا كان هذا في أول الأمر على شيء من المشقّة والعناء، فإنّ ذلك يخفّ تدريجياً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. لذا فإنّنا نُلاحظ أنّ أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقّة وتكلّف. أمّا نحن فشعورنا بالكسل والمشقّة ناشئ من أنّنا لا نُقدم على العمل. فلو أننا بدأنا بالعمل وكرّرناه لعدّة مرّات، لتبدّلت المشقّة إلى راحة، بل إنّ أهلها يلتذّون بها أكثر ممّا نلتذّ نحن بمشتهيات الدنيا. إذاً بواسطة الإقدام والعمل تُصبح الأمور عادية، ويقع الخير عادة.


ولهذه العبادة ثمرات عديدة منها:
1- أنّ صورة العمل نفسه تُصبح على قدر من الجمال في ذلك العالَم بحيث إنّه لا يكون له نظير في هذا العالَم، ونكون عاجزين عن تصوّر مثلها.

2- أنّ النفس تُصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة منها.

3- أنّها تجعل الإنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فيتوجّه القلب إلى مالك الملوك، وتحصل المحبّة لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلّق القلب وحبّه للدنيا والآخرة. وإذا حصلت الجذبة الإلهية، أمكن عندها إدراك حقيقة العبادة والسرّ الحقيقي للتذكّر والتفكّر، ولسقط كلا العالمين - الدنيا والآخرة - من نظره، ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينية من القلب، ولا يعرف أحد سوى الله الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟!

وكما أنّ عزم الإنسان يقوى بواسطة الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك المشتهيات، فإنّه بواسطة المعاصي تتغلّب الطبيعة لديه وتضعف إرادته وعزمه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

204

الدرس السابع عشر: آثار حبّ الدنيا

 نصيحة أخيرة

إذاً يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلّق والحبّ، وأدركت أنّ ذلك يُفضي بالإنسان إلى الهلاك، ويُجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطّربتين، فشمّر عن ساعد الهمّة والجدّ، وقلّل بحسب قدرتك من تعلّق القلب بهذه الدنيا، واقتلع جذور حبّها، واحتقر هذه الأيّام القليلة التي تقضيها في هذه الحياة، وازهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من الله أن يُعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك آنساً بدار كرامته عزّ وجلّ: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾1.



1 سورة الشورى، الآية 36.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

205

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا1

 
 
موضوع البحث هو الدنيا في نظر الدين. وبالطبع إنّنا نبحث الموضوع من حيث وجهة النظر الإسلامية، وخصوصاً من حيث المنطلق المنطقي الذي ينطلق منه القرآن، وهو منطق ينبغي توضيحه، لأنّ أول موضوع في الموعظة والنصيحة يجري على لسان الدين هو ذاك الذي يتناول الدنيا بالذمّ وبالابتعاد عنها، وتركها وعدم التمسّك بها.
 
إنّ من يريد أن يُصبح واعظاً يعظ الناس، فأول موضوع يتبادر إلى ذهنه هو أن يحفظ شيئاً من الشعر أو النثر في ذم الدنيا والزهد فيها، بحيث أنّ ما طرق سمع الناس من المواعظ لا يصل إلى المقدار الذي سمعه حول هذه الموعظة.
 
إنّ هذا الموضوع يرتبط بتربية الناس وأخلاقهم ونوع توجّهاتهم نحو القضايا الحياتية، ولذلك فهو موضوع على جانب كبير من الأهمّية. فإذا أمكن تفسيره تفسيراً معقولاً وجيداً، لكان له تأثير في تهذيب الأخلاق، وعزّة النفس، وبعد النظر، والسعادة الفردية، وحسن الروابط الاجتماعية، أما إذا كان تفسيره سيّئاً، فإنه سيكون مدعاة لتخدير الأعصاب، واللامبالاة، ومنشأ كلّ تعاسة فردية وشقاء اجتماعي.



1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم، ص223 (م. س).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

206

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 الخطأ في تفسير الزهد وترك الدنيا

إنّه من باب المصادفة أنْ أصبح التفسير الثاني هو الأكثر رواجاً، وأنّ الشعر أو النثر الذي ظهر في هذا الباب كان في الأغلب من هذا النوع الذي يُخدِّر الإحساس. إنّ لهذا سببين اثنين:
الأول: هو نفوذ بعض الأفكار والفلسفات التي كانت موجودة قبل الإسلام، والمبنيّة على سوء الظنّ بالوجود وبالدنيا والأيّام، وأنّ كلّ شيء في هذا العالم مبني على الشرّ. وهي أفكار انتشرت بين المسلمين بعد اختلاطهم بالأقوام الأخرى.
 
والثاني: هو الحوادث التاريخيّة المرّة، والحوادث الاجتماعيّة الخاصّة التي وقعت خلال الأربعة عشر قرناً في المحيط الإسلامي، فكانت سبباً في خلق سوء الظنّ وانفصام الوشائج، وشيوع فلسفات مبنيّة على الشكّ وسوء الظنّ.
 
علينا الآن أن نرى ما هو منطق القرآن بهذا الشأن؟ هل يُمكن استخراج هذه الفلسفة السيّئة الظنّ من القرآن؟ أم أنّ القرآن يخلو من هذه الأفكار؟
 
الزهد في القرآن
في الوقت الذي يتحدّث فيه القرآن عن الدنيا على أنّها حياة فانية لا تستحقّ أن يعتبرها الإنسان هدفاً نهائيّاً له، يقول أيضاً: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾1.

 
وفي الوقت الذي لا يرى القرآن الدنيا جديرة بأن تكون غاية آمال البشر، كذلك لا يرى المخلوقات والموجودات من سماء وأرض وجبال ومحيطات وصحاري ونبات وحيوان وإنسان، وما هنالك من أنظمة وحركة ودوران كلّها باطلة وقبيحة وخطأ بل على العكس من ذلك يرى هذا كلّه نظاماً حقّاً، ويقول: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ



1 سورة الكهف، الآية 46.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

207

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾1 إنّ القرآن يقسم بالموجودات وبالمخلوقات ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾2 و ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾3 و ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾4 و ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾5 ويقول سبحانه: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾6.

 
في الواقع إنّ سوء الظنّ بالخلق وبدوران العالَم وبنظامه لا يتّفق مع الفلسفة الإسلاميّة، أي النواة المركزيّة للفلسفة الإسلاميّة، وهي التوحيد، فتلك النظريات إمّا أن تكون مبنية على أساس مادّي يُنكر وجود إله حق حكيم وعادل، وإمّا أن تكون قائمة على الثنائية أو الازدواجية في الوجود، كما هي الحال في بعض الفلسفات التي تقول: إنّ هناك أصلين أو مبدأين للوجود، أحدهما للخير، والآخر للشرّ.
 
إلّا أنّ ديناً بُني على التوحيد، وعلى الاعتقاد بإله رحمن رحيم عليم حكيم، لا مكان فيه لأمثال هذه الأفكار، كما ورد في الكثير من آيات القرآن.
 
إنّ ما قيل عن فناء الدنيا وزوالها، تشبيهاً بالنبات الذي يخرج من الأرض على أثر مطر، فينمو ويخضرّ، ثم يصفرّ ويجف ويتلاشى تدريجياً، إنّما قد قيل لرفع قيمة الإنسان الذي ينبغي ألّا يجعل غايته وهمّه ومنتهى آماله أموراً مادية، فما من أمر دنيوي جدير بأن يكون هدفاً أعلى. وليس في هذا ما يحملنا على القول: إنّ الدنيا، بحدّ ذاتها شرّ وقبح.



1 سورة الدخان، الآية 38.
2 سورة الشمس، الآيتان 1 - 2.
3 سورة التين، الآيات 1 - 3.
4 سورة العاديات، الآيتان 1 - 2.
5 سورة الشمس، الآيتان 7 - 8.
6 سورة الملك، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

208

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 ولذلك ما سمعنا أنّ أحداً من علماء الإسلام قد حمل تلك المجموعة من الآيات على محمل سوء الظنّ بالكون ودوران الزمان والأيّام.


هل التعلُّق بالدنيا مذموم
جاء في بعض التفاسير التي فُسّرت بها تلك الآيات أنّ مضمون هذه الآيات ليس ذمّاً للدنيا نفسها، لأنّ الدنيا ما هي إلّا هذه الأشياء العينيّة التي نراها في الأرض والسماء، وليس في أيّ من هذه شيّء سيء، بل إنّها جميعاً دلائل على قدرة الله وحكمته، فلا يُمكن أن تكون سيّئة، ولكن السيّء والمذموم في الموضوع هو التعلُّق بهذه الأمور في الدنيا، لا الدنيا ذاتها، لقد قيل الكثير من الشعر والنثر في ذمّ حبّ الدنيا بحيث يخرج عن العدّ والإحصاء.

هذا تفسير كثير الشيوع، إذ لو سألت شخصاً عن معنى كون الدنيا مذمومة، لقال لك: إنّ معنى ذلك هو: إنّ حبّ الدنيا هو المذموم، لا الدنيا ذاتها، إذ لو كانت هي المذمومة لما خلقها الله.

لو أنّنا أمعنّا النظر في هذا التفسير - على الرغم من شهرته وأخذه مأخذ الأمور المسلّم بها - لرأينا أنّه لا يخلو من بعض التحفّظ، بل قد يكون على شيء من التباين مع القرآن نفسه.

من ذلك، مثلاً علينا أن نعرف إن كانت علاقة الإنسان بالدنيا علاقة فطريّة وطبيعيّة، أي هل إنّ هذه العلاقة كامنة في غريزة البشر وجبلّته؟ أم إنّها مكتسبة فيه فيما بعد بسبب عوامل وظروف خاصّة، كالعادة، أو التلقين، أو أي عامل آخر؟ فالوالدان متعلّقان بأبنائهما، والأبناء بوالديهم، والذكر والأنثى يتعلّق بعضهما ببعض. وكلُّ الناس يُحبّون المال والثروة، والجاه والاحترام، وكثيراً من الأمور الأخرى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

209

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 فهل هذه العلاقات طبيعيّة وفطريّة، أم أنّها مكتسبة من أثر سوء التربية؟.

لا شكّ أنّها علاقات طبيعيّة فطريّة، فكيف يمكن أن تكون مذمومة، وأن يكون على الإنسان أن يتجنّبها ويُزيلها عن نفسه؟ فكما أنّنا لا يمكن أن نقول: إنّ المخلوقات والموجودات، الخارجة عن وجود الإنسان شرّ ولا حكمة فيها، وكما أنّ أيّ عضو من أعضاء الإنسان وجوارحه لا يكون خلواً من الحكمة، حتى الشعيرة الدمويّة والعضو الصغير، وحتى الشعرة الواحدة لا يمكن أن نقول: إنّها زائدة وعبث، كذلك الأمر في القوى والغرائز وأجهزة الإنسان الروحيّة، في الميول والرغبات، فما من رغبة أو ميل فطري في الإنسان إلّا ولوجوده حكمة وهدف أو قصد، إنّ لكلّ هذه الأمور حكمتها: العلاقة بالأولاد، بالأبوين، بالزوج، بالمال، بالثروة، بالجاه والرفعة، بالتقدّم على الآخرين. إنّ لكلّ من هذه حكمته الكبيرة، إذ لولاها لانهار أساس حياة البشر.
 
ثم إنّ القرآن نفسه يذكر هذه الألوان من العلاقة والحبّ على أنّها من دلائل حكمة الله تعالى، من ذلك مثلاً في سورة (الروم)، حيث يُشير إلى خلق البشر، والنوم، وأمور أخرى، ثمّ يردفها بقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1. لو كان حبّ الزوج سيِّئاً، لما ورد ذكره في هذه الآية على أنّه من آيات الله ومن تدابيره الحكيمة.
 
فلا شكّ إذن في أنّ هذه العلاقة كامنة في طبيعة الناس، ومن الواضح أنّ هذه العلاقة مقدّمة ووسيلة ليبقى سير الدنيا ونظام دورانها محفوظاً، إذ لولا هذه العلاقة، لما استدام تواتر الأجيال، ولما تقدّمت حياة البشر وحضارتهم، ولما نشطت حركة العمل والتكسّب، بل لما بقي إنسان على وجه الأرض.



1 سورة الروم، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

210

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 طرق الحلّ

هذان تفسيران للنظر إلى الدنيا، أحدهما نظرة الذين يرون الدنيا بلذّاتها عالم شرّ وفساد وخراب، والآخر نظرة الذين لا يرون الدنيا مذمومة، بل إنّ حبّها هو المذموم.
 
أمّا الذين ينظرون إلى الدنيا والوجود كلِّه نظرة سوء ظنّ، ويرون الحياة والوجود شرّاً كلَّه وفساداً، دون أن يكون عندهم طريق لنجاة البشر من التعاسة غير البوهيمية والانتحار، فإنّ حديثهم لأسخف حديث، وإن حظّهم لأتعس حظّ، إن مثلهم، كما يقول: (ويليام جيمز) مثل الجرذ في المصيدة، عليه أن يئنّ ويتوجّع. أمّا الذين قالوا: إنّ الدنيا ليست مذمومة بذاتها، وإنّما التعلّق بها هو المذموم، فإنّهم يقولون أيضاً: ليس الحال أن نشقى ونتعذَّب أبداً، وإنّما الطريق إلى سعادة الإنسان وخلاصه من التعاسة هو مكافحة هذه العلائق واقتلاعها من جذورها، وعندئذ يتحرّر الإنسان من مخالب الشرّ ويحتضن السعادة بين ذراعيه.
 
في الردّ على هذه الجماعة ينبغي أن نقول: إنّه، فضلاً عن أنّ هذه الغرائز والطبائع الفطريّة الكامنة في النفس غير قابلة للاقتلاع والقمع - وهذا ما يؤيّده علماء النفس والفلاسفة المحدثون - وإنّ أكثر ما يستطاع هو ترويضها وكبتها ودفعها بعيداً إلى أغوار العقل الباطني، ولكنّها سوف تظهر مرّة أخرى بصورة أخطر عن طريق مجرى آخر، مسبّبة أمراضاً نفسيّة وعصبيّة. أقول، بصرف النظر عن كلِّ هذه، فإنّ لاقتلاع جذور هذه الغرائز من الضرر أضعافاً مضاعفة، إنّه كما لو قطعت يداً أو رجلاً أو جدعت أنفاً أو أيّ عضو من أعضاء الجسم.
 
إنّ لكلِّ غريزة أو اتجاه فطري قوّة في كيان الإنسان، غرزت فيه للقيام بعمل أو بحركة، ليس في خلقة الإنسان عبث.
 
فما ذريعتنا للقضاء على مركز هذه القوّة وتدميره؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

211

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 منطق القرآن
يُستفاد من القرآن الكريم أنّ أيّ تعلّق أو حبّ بالكائنات أمر مذموم، إلّا أنّه لا يقول: إنّ طريق علاج ذلك هو كبح ذلك وقمعه، فهذا أمر آخر وله طريق آخر للعلاج.
 
إنّ ما يذمّه القرآن هو التعلُّق، أو الارتباط، أو الولع، أو الرضا بالأمور الماديّة الدنيويّة، فيقول: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾1. أي صحيح أنّ الثروة والأولاد من مباهج الحياة، إلّا أنّ الأعمال الصالحة الباقية أفضل عند الله ثواباً، لأنّها هي هدف الإنسان والمثل الذي يصبو إليه، فالكلام إذن على الغاية، والنموذج المثالي المطلوب.
 
يصف القرآن أهل الدنيا هكذا: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾2. الكلام في هذه الآية يتناول مذموميّة الرضا بالماديات والاكتفاء بها والركون إليها، هذا هو الوصف المذموم لأهل الدنيا.
 
أو يقول: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾3. أي لا تلتفت إلى الذين لا يلتفتون إلى القرآن، ولا يريدون شيئاً غير الدنيا، لأنّ إدراكهم سطحي قشري. ومرّة أخرى يكون الحديث هنا عن الذين لا يبغون غير الدنيا، ولا هدف لهم سواها، فلا يتجاوز تفكيرهم مستوى الماديّات.
 
أو يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾4.



1 سورة الكهف، الآية 46.
2 سورة يونس، الآية 7.
3 سورة النجم، الآيتان 29 - 30.
4 سورة آل عمران، الآية 14.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

212

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 هاهنا الكلام أيضاً لا يتناول الرغبات الطبيعيّة الصرف، بل يتناول جانباً أدقّ من حيث إضفاء الناس أهميّة أكبر وجمالاً أحلى على بعض الشهوات بما لا تستحقّه، فانشغل بها الفرد وافتتن حتى حسبها هي المطلوب الأسمى.

 
أو يقول: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾1، أكلَّ هذه الآيات تنقد القناعة والرضا والاكتفاء بالعلائق الدنيوية.
 
هنالك فرق بين أن يُحبّ المرء المال والأولاد وسائر شؤون الدنيا، وأن يكتفي بها ويرتضيها ويجعلها غاية آماله وأقصى ما يستهدفه. عندما تكون نقطة الهدف هي الحيلولة دون حصر البشر وتحديدهم بالعلائق والروابط الماديّة، لا يكون طريق الوصول إلى ذلك هو كبح العلائق الطبيعيّة في الإنسان، وقمعها وإخفات صوتها وطاقتها، بل الطريق الأمثل هو تحرير مجموعة أخرى من العلائق، ومنحها حريّة الحريّة، وهي تلك المجموعة التي تأتي بعد العلائق الجسديّة الماديّة، وهي تستوجب التحريك والإحياء.
 
وعليه فإنّ حقيقة الأمر هي أنّ التعاليم الدينيّة تعمل على إيجاد مشاعر أسمى في الإنسان، وهي مشاعر موجودة في فطرة الإنسان وغرائزه، ولمّا كانت هذه أسمى وأرفع مقاماً، وتستقي من مكانة الإنسان الرفيعة، فإنّها أحوج إلى الإيقاظ والتحريك والإحياء، إنّها مشاعر تتعلّق بالمعنويات.
 
كلّ علاقة من العلائق عين تنبع من روح الإنسان، وتنبجس ويجري ماؤها. ليس هدف الدين أنْ يطمر العيون الماديّة، بل هدفه فتح عيون أخرى، عيون المعنويات. أو بعبارة أخرى، ليس الهدف تحديد مجرى العيون الماديّة وتضييقها إلى أدنى من الحدّ الذي قدّره لها الخالق في بدء الخليقة بحسب حكمته وتقديره، وإنّما الهدف هو إطلاق الحريّة لمجموعة من القوى المعنويّة التي تتطلّب التحرّر، وإليك مثلاً توضيحيّاً للأمر.



1 سورة التوبة، الآية 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

213

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 هذا رجل له ولد يبعث به إلى المدرسة، فإذا رأى أنّ ابنه لا همّ لو سوى اللعب والأكل والنوم، حزن وقلق، ووبّخه ووسمه باللعوب الأكول، وبصفات مذمومة أخرى، لأنّه يودّ لو أنّ ابنه أظهر تعلّقاً أكبر بالدرس والاجتهاد والسعي. لا شكّ أنّ هذا التعلُّق المطلوب أبطأ ظهوراً في الصبي من علاقته باللعب والأكل، ثمّ إنّها تستوجب حبَّ الإثارة والتحريك والتشويق. إنّ غريزة حبِّ التعلّم موجودة في كلّ البشر، إنّما هي في سبات وينبغي إيقاظها.


ولا يعني هذا أنّ الأب يريد حقّاً اقتلاع حبّ اللعب والأكل من طبيعة ابنه اقتلاعاً نهائيّاً، بل إنّه ليشتدّ قلقه على ابنه إن رآه فَقَدَ رغبته في اللعب أو في الطعام، ويحسب ذلك عارضاً من أعراض المرض، فيعرضه على الطبيب لمعالجته، لأنّه يعلم أنّ الطفل السليم الذي يُحبّ الدرس والمدرسة ينبغي ألّا يصرفه ذلك عن الرغبة في اللعب والطعام، عليه أن يكون نشيطاً، فيلعب وقت اللعب، ويأكل وقت الأكل، وعليه، عندما يصف الأب ابنه بأنّه لعوب وأكول، لا يريد أن يقول: إنّه يشكو من هذا في ابنه، بل من أنّ ذلك ربّما يكون قد تجاوز حدوده.

أصل هذا المنطق في نظرة الإسلام إلى الدنيا
إنّ اهتمام القرآن بموضوع الدنيا، ومنع حصر العلائق بالدنيا وبالماديّات، ناشىء من نظرة القرآن الخاصّة إلى العالَم وإلى الإنسان.

فنظرة القرآن إلى نشأة العالَم لا تقتصر على جانبها المادّي الدنيوي. فمع القول بعظمة الدنيا بأيّ درجة كانت، يقول بنشأة أخرى أعظم وأوسع وأرحب، لا تكون نشأة الدنيا بإزائها شيئاً يُذكر. ومن حيث نظرته إلى الإنسان يقول: إنّ الحياة ليست منحصرة بالحياة الدنيا، ففي الآخرة حياة أخرى، فعلى الرغم من أنّ القرآن يرى أنّ الإنسان ثمرة شجرة هذه الدنيا. فإنّ حياته ووجوده يمتدّان إلى ما وراء الحياة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

214

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 الدنيا، وعليه فإنّ هذا الإنسان الذي يحظى بهذا القدر من العناية والأهميّة، ينبغي ألّا يجعل الدنيا وما فيها من الأمور الماديّة هدفه النهائي، وألا يبيع نفسه للدنيا، يقول الإمام علي عليه السلام: "ولَبِئْسَ المَتْجَرُ أنْ تَرى الدُّنيا لِنَفسِكَ ثَمناً"1.

 
وعلى ذلك، فإنّ فصلاً من فصول النظرة إلى العالَم والفلسفة القرآنيّة، أعني فصل التوحيد، كما قُلنا منذ البدء، لا يسمح لنا أن ننظر إلى الدنيا والعالم المحسوس نظرة سيّئة. وثمّة فصل آخر من فصول الفلسفة القرآنية ونظرتها إلى الدنيا، يوجب أن يكون هدف الإنسان وغايته القصوى أرفع من مستوى الدنيا، وماديّاتها. ذلك هو فصل المعاد والإنسان.
 
الأخلاق والحبّ
وفضلاً عن أنّ هناك فصلاً آخر في الإسلام يوجب كذلك الإقلال من الاهتمام بالماديّات، وهو فصل التربية والأخلاق، فإنّ سائر المدارس التربويّة تقول أيضاً: إنّ التربية الاجتماعيّة، ولغرض إعداد البشر لحياة اجتماعيّة، ينبغي العمل على أن تكون للأفراد أهداف معنويّة يتوجّهون إليها بأكثر ممّا يتوجّهون نحو الماديّات، إذ إنّ نار الحرص والطمع إذا اشتدّ لهيبها فهي فضلاً عن كونها لا تستطيع أن تكون سبباً في العمران الاجتماعي، فإنّها، على العكس من ذلك تُسبّب الفساد الاجتماعي وخرابه.
 
ومن حيث بلوغ السعادة، على الفرد ألا يكون مفرطاً، كما هي حال بعض الفلاسفة فيقول: إنّ السعادة والهناء في الزهد في كلّ شيء وتركه، بالرغم من أنّ طبيعة الاستغناء وعدم الاهتمام واحدة من الشروط الأولى للسعادة.
 
هنا ترانا بحاجة إلى توضيح آخر، لعلّ الذي ذكرناه عن الحيلولة دون حصر العلائق البشريّة بالماديّات، يحمل بعض الناس على الظنّ الواهم بأنّ علينا أن نُحبّ



1 نهج البلاغة، ص 75.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

215

الدرس الثامن عشر: نظرة الدين إلى الدنيا

 الله وأن نُحبّ الدّنيا، أن نجعل المادّة هي المطلوب الأكمل وكذلك المعنى، وهذا ضرب من الشرك، كلّا، ليس هذا هو المقصود، المقصود هو أنّ الإنسان يملك عدداً من الميول والنزعات الطبيعيّة نحو بعض الأشياء، وهي ما أوجده الله بحكمته في الإنسان قاطبة بما فيهم الأنبياء والأولياء الذين كانوا يشكرون الله ويحمدونه عليها، وهي ما لا يُمكن إزالتها، وحتى لو أمكن أن تُزال، فليس ذلك من صلاح البشر.

 
إنّ للإنسان تطلّعاً آخر وراء هذا الميول والعواطف، إنّه يتطلّع إلى الكمال وإلى المثال، غير أنّ الدنيا والماديّات ينبغي ألّا تظهر بصورة المثال والكمال المطلوب. فالحبّ المذموم هو هذا الحبّ، إنّ الميول والعواطف إنْ هي إلّا لون من ألوان الاستعداد في البشر، وهي له بمنزلة وسائل للعيش. أمّا الاستعداد لبلوغ الكمال المطلوب فهو استعداد خاص ينبع من العمق الإنساني وجوهره ويختصّ بالإنسان. لم يأت الرسل لإزالة الميول والعواطف ولردم منابعها، بل جاؤوا ليُزيلوا عن الدنيا والماديّات صورة الكمال المطلوب، وليُظهروا الله والآخرة في صورة الكمال المطلوب.
 
يريد الأنبياء أن يحولوا دون الدنيا والماديّات، والخروج من مكانتها الطبيعي، أي منع هذه الميول والعواطف - وهي نوع من رابط طبيعي بين الإنسان والأشياء - من أن تُغيّر مكانها لتنتقل إلى ذلك المكان المقدّس، القلب، مركز وجود الإنسان وكيانه، وموضع انجذابه نحو اللامتناهي، بحيث تمنعه من التحليق نحو الكمال اللامتناهي.
 
إنّ قول القرآن الكريم: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾1 ليوحي إلى أنّ المرء إمّا أن يتعلّق بالله، أو بغير الله من زوج وبنين ومال وغير ذلك، إنّ على الناس أن يكون لهم هدف أعلى واحد. إنّ الهدفين اللذين لا يُمكن الجمع بينهما هما الله والماديّات الدنيويّة، وإلّا فإنّ التعلُّق الصرف بعدد الأمور في وقت واحد أمر متيسّر وواقع.



1 سورة الأحزاب، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

216
الإنسان والحياة