المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين, وصلّى الله على سيِّدنا محمّدٍ وآلِ بيته الطاهرين الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجسَ وطهَّرهم تطهيراً.
إنّ إحياءَ أمرِ أهلِ البيتِ عليهم السلام الذي أمرَ به الإمامُ الصادقُ عليه السلام - فيما رُوي عنه أنّه قال لفضيلِ بنِ يَسار: تجلسون وتحدّثون؟ قال: نعم جُعلتُ فداك، قال عليه السلام: "إنّ تلك المجالسَ أُحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيلُ، فرحم الله مَنْ أحيا أمرنا.."1- لا يقتصر كما هو واضح على إمام دون إمام, ولا أمر من أمورهم دون أمر آخر, بل إنّ ما أُصيب به سائر الأئمّة عليهم السلام يُعدُّ التذكيرُ به والاعتناءُ بشأنه مصداقاً من مصاديق هذا الإحياء, وتلك المجالس التي يحبّها الإمام عليه السلام , وتُحقّق شكلاً من أشكال التولّي والارتباط بأئمّة أهل البيت عليهم السلام.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختارَ لنا شيعة يَنصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا, ويبذلون أموالَهم وأنفسَهم فينا، أولئك منّا
1- المجلسي: بحار الأنوار ج 71 ص 351.
5
1
المقدمة
وإلينا"1. ومن هنا ورد في الروايات الأجرُ العظيمُ والثواب الكبير, لمن تأثّر قلبه على مصيبة من مصائبهم أو جرت دموعه لرزيّة من رزاياهم, فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "نفس المهموم لِظلمنا تسبيح، وهمُّه لنا عبادة.."2. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: أيُّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّه بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيُّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّيه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله منزلَ صدق، وأيُّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة أو أذى فينا, صرف الله من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النّار3.
ومن هنا فمن اللازم على المحبّين والموالين أن يجعلوا من أيّام شهادات الأئمّة عليهم السلام ووفَيَاتِهم أيّامَ حزن وحداد, وتحويلُ تلك الأيّام إلى مناسبات للتذكير بحقّهم وفضلهم, وبيانُ ما نالوه من الظلم في حياتهم, وربطُ الناس بهم وبسيرتهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم, عسى أن يكون في ذلك بعضٌ من الوفاء لهم, والأداء لحقّ المودّة, الواجب على هذه الأمّة بنصّ التنزيل: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾4
1- المجلسي: بحار الأنوار ج 44 ص 287.
2- المجلسي: بحار الأنوار ج 2 ص 64.
3- الصدوق: ثواب الأعمال ص 83.
4- سورة الشورى الآية 23.
6
2
المقدمة
ومن الواضح أنّ لخطباء المنبر الحسينيّ الدورَ الأساسيَّ على هذا الصعيد, حيث يتحمّلون هذه المسؤوليّةَ الكبيرةَ والمهمّةَ, ويشكّلون النواةَ الأولى لمجالس العزاءِ التي تُقام إحياءً لأمرهم.
هذا الكتاب:
وفي هذا السياق قمنا في معهد سيّد الشهداء عليه السلام بإعداد هذا الكتاب: "مجالس الأئمّة المعصومين عليهم السلام " في إصداره الثاني, ليكون عوناً ومساعداً للاخوة القرّاء في إحياء هذه المناسبات الأليمة.
وقد راعينا في هذا الإصدار الأمورَ الآتية:
• اقتصرنا على ذكر مجلس واحد لكلّ إمام من الأئمّة عليهم السلام.
• لم نقم بذكر محاضرة أو كلمة ضمن المجلس, بل اكتفينا ببعض الروايات لأجل الربط أو التخلّص للمصيبة فقط.
• أدرجنا بعضَ الأبيات الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.
وفي الختام نسأله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه, ويرزقنا شفاعة محمّدٍ وآلِ بيته الطيّبين الطاهرين, إنّه سميع مجيب.
معهد سيّد الشهداء عليه السلام
للمنبر الحسينيّ
7
3
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
قُمْ نَاشِدِ الإسْلَامَ عن مُصَابِهْ أُصِيْبَ بِالنَّبِيِّ أَمْ كَتَابِهْ
أَمْ أَنَّ رَكْبَ الموتِ فيهِ قد سَرَى بالروحِ محمولاً على رِكابِهْ
بَلَىْ قَضَى نَفْسُ النبيِّ المرتضَى وَأُدْرِجَ الليلةَ في أثوابِهْ
مَضَى على اهتضامِهِ بغُصَّةٍ غَصَّ بها الدهرُ مَدَى أحْقابِهْ
عاشَ غريباً بينَها وقد قضَى بسَيْفِ أشقاها على اغترابِهْ
لقد أراقوا ليلةَ القَدْرِ دماً دماؤها انْصَبَبْنَ بانصبابِهْ
تنزَّلُ الروحُ فوافى روحَهُ صاعدةً شوقاً إلى ثوابِهْ
فَضَجَّ والأملاكُ فيها ضجّةً منها اقشعرَّ الكونُ في إهابِهْ
وانقلبَ الإسلامُ للفجرِ بها للحَشْرِ إعوالاً على مُصابِهْ
للهِ نَفْسُ أحمدٍ مَنْ قد غدَا مِنْ نَفْسِ كُلِّ مؤمنٍ أَوْلَى بِهْ
غادرَهُ ابنُ مَلْجَمٍ ووجهُهُ مخضّبٌ بالدَّمِ في محرابِهْ
فَلْيَبْكِ جبريلُ لهُ ولْينتحِبْ في المَلَأ الأعلى على مُصابِهْ1
1- القصيدة للسيّد حيدر الحلّي رحمه الله.
11
4
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
شعبي:
الله يالناعي افجعت قلبي او مردته
يا ريت صوتك لا عليّ مرّ اوسمعته
كن عودي ما تمم ابمحرابه سجدته
الله يالناعي افجعتنه ابهذا المصاب
گلها يويلي راح ابوك او هلّي العين
صابه المرادي ابسيفه او طبّر اسه نصين
من سمعته صاحت يخويه حسن واحسين
گوموا لبونه اتلاحگوا بالمسجد انصاب
أبوذْية:
أركان الهدى من صاح هدّام
اومن راسك يحامي الجار هدّام
او عليك الحزن طول الدهر هدّام
او ما ننساك يا حامي الحمية
12
5
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
عن أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّها قالت: لمّا كانت ليلةَ تسعَ عشرةَ من شهر رمضانَ قدّمتُ إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعةً فيها لبن وملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: يا بنيّة, ما ظننت أن بنتاً تسوء أباها كما قد أسأت أنت إليّ، قالت: وماذا يا أباه؟ قال: يا بنيّة, أتقدّمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدَيِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟! أنا أريد أن أتبعَ أخي وابنَ عمّي رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما قُدِّمَ إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنيّة, ما مِنْ رجُلٍ طاب مطعمُه ومشربُه وملبسُه إلّا طال وقوفُه بين يدَيِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة، يا بنيّة, إنّ الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب..
يا بنيّة, والله لا آكل شيئاً حتّى ترفعي أحد الإدامين، فلمّا رفعته تقدّم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثمّ حمد الله وأثنى عليه, ثمّ قام إلى صلاته فصلّى ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء.., ثمّ رقدَ هنيئة وانتبه.. ونهضَ قائماً على قدميه وهو يقول: "اللهمّ بارك لنا في لقائك" ويكثر من قول: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم", ثمّ صلّى حتّى ذهب بعضُ الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه وهو جالس، ثمّ انتبه من نومته..
13
6
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
.. ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذَّبتُ ولا كُذِّبت، وإنّها الليلة التي وُعِدتُ بها، ثمّ يعود إلى مصلّاه ويقول: اللهمّ بارك لي في الموت، ويكثر من قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم" ويصلّي على النبيّ وآله، ويستغفر الله كثيراً.
ولَمّا قرب الفجر أسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثمّ نزل إلى الدار وكان في الدار إوزّ قد أُهدي إلى الحسين عليه السلام ، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصِحْنَ في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن، فقال عليه السلام: لا إله إلّا الله صوارخ تتبعها نوائح، وفي غداة غدٍ يظهر القضاء..
ولمّا وصل إلى الباب عالجه ليفتحه فتعلّق الباب بمئزره فانحلَّ مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدَّه وهو يقول:
(أُشْدُدْ) حيازيمك لِلْمَوْتِ فَإنَّ المَوْتَ لَاقِيْكَا
وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حَلَّ بِنَادِيْكَا
وَلَا تَغْتَرَّ بِالْدَّهْرِ وَإِنْ كَانَ يُوَاتِيْكَا
كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ كَذَاكَ الْدَّهْرُ يُبْكِيْكَا
ثمّ قال: اللهمّ بارك لنا في الموت، اللهمّ بارك لي في لقائك. قالت أم ّكلثوم: وكنت أمشي خلفه، فلمّا سمعته يقول ذلك، قلت: وا غوثاه يا أبتاه، أراك تَنْعَىْ نفسك منذ الليلة. قال: يا بنيّة، ما هو
14
7
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت تتبع بعضها بعضاً، فأمسكي عن الجواب، ثمّ فتح الباب وخرج.
وسار أمير المؤمنين عليه السلام حتّى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلّى في المسجد وِرده وعقَّب ساعة، ثمّ إنّه قام وصلّى ركعتين، ثمّ علا المئذنة ووضع سبّابتيه في أذنيه وتنحنح، ثمّ أذّن: (الله أكبر، الله أكبر) وكان عليه السلام إذا أذّن لم يبق في بلدة الكوفة بيت إلّا اخترقه صوته..
فلمّا أذّن عليه السلام ونزل من المئذنة جعل يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. قال الراوي: وكان من كرم أخلاقه عليه السلام أنّه يتفقّد النائمين في المسجد، ويقول للنائم: الصلاة يرحمك الله الصلاة، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك، ثمّ يتلو عليه السلام: "إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد، حتّى إذا بلغ إلى الملعون ابن ملجم فرآه نائماً على وجهه، قال له: يا هذا، قم من نومك هذا فإنّها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النّار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء، أو على يسارك فإنّها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنّها نومة الأنبياء.
فتحرّك الملعون كأنّه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لقد هممت بشيء تكاد
15
8
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك، ثمّ تركه وعدل عنه إلى محرابه، وقام قائماً يصلّي، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضراً قلبه، فلمّا أحسّ به نهض الملعون مسرعاً وأقبل يمشي حتّى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام عليه السلام يصلّي عليها..
كبّر الإمام تكبيرة الإحرام: الله أكبر..
قرأ الحمد والسورة، ركع: سبحان ربّي العظيم وبحمده..سمع الله لمن حَمِدَهْ..
سجد السجدة الأولى: سبحان ربّي الأعلى وبحمده..
فعند ذلك أخذ اللعين السيف وهزّه، ثمّ ضربه على رأسه الشريف..
وأخذت إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمّا أحسّ الامام بالضرب لم يتأوّه وصبر واحتسب، ووقع على وجهه قائلاً: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله،فزت وربّ الكعبة..
قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهوديّة وربِّ الكعبة، أيّها الناس لا يفوتنّكم ابن ملجم..
وثار إليه كلّ من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة، ثمّ أحاطوا بأمير
16
9
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
المؤمنين عليه السلام وهو يشدّ رأسه بمئزره، والدم يجري على وجهه ولحيته، وقد خُضِّبَتْ بدمائه وهو يقول: هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
قال الراوي: فاصطفقت أبواب الجامع، وضجّت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ: "تهدّمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عمّ محمّد المصطفى، قُتل الوصيّ المجتبى، قُتل عليّ المرتضى، قُتل والله سيّد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء".
جبريل نادى بالسما ركن الهدى طاح
انقتل ابن عم النبي وثاني الأشباح
انضرب راسه وسال بالمحراب دمه
والسيف مسموم سرى في الجسد سمّه
يا حيف ما خلوه لصيامه يتمّه
اتكوّر بمحرابه وفزت يا هالخلق صاح
ولمّا سمعت أمّ كلثوم نعي جبرئيل.. صاحت: وا أبتاه وا عليّاه وا محمّداه وا سيّداه، ثمّ أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين وقالت لهما: لقد قتل أبوكما..
17
10
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
تگللهم يخوتي راح ابوكم
عگب عينه يخوتي اشلون بيكم
عزكم راح يا ويلي عليكم
كهف هاي الأرامل والمساكين
فخرج الحسنان إلى المسجد وهما يناديان: وا أبتاه واعليّاه ليت الموت أعدمنا الحياة، فحُمِلَ الإمام وجاؤوا به إلى منزله..ساعد الله قلب زينب وأمّ كلثوم وباقي العلويّات اللواتي كنّ واقفات على باب الدار ينتظرنه، فلمّا رأينه بتلك الحالة بكين وقلن: وا أبتاه، وا مصيبتاه..
ونّت او نادت يالمقبلين
هالشايلينه اوياكم امنين
اسمع ندب واصياح صوبين
خوفي انگتل عودي يطيبين
لمن سمعها الحسن وحسين
صاحوا يزينب زيدي الونين
ابوك انطبر والراس نصين
صاحت او هلّت دمعة العين
يا عيد الأقبل عالمسلمين
عگبك يبويه او جوهنه وين
18
11
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
وأحضروا له الطبيب، ولمّا كشف عن جرحه استعبر وبكى وقال: إعهد عهدك يا أمير المؤمنين، فإنّ الضربة وصلت إلى الدماغ..
وفي ليلة وفاته اجتمع أهله وعياله فنظر إليهم فرآهم تكاد أنفسهم تزهق من النوح والبكاء، فجرت دموعه، وقال للحسن والحسين عليهما السلام: أتبكيانِ عليَّ؟..أمّا أنت يا أبا محمّد فستُقتل مظلوماً مسموماً مضطهداً، وأمّا أنت يا أبا عبد الله فشهيد هذه الأمّة وسوف تذبح ذبح الشاة..
وأقبلت إليه أم ّ كلثوم وزينب عليهما السلام وهما تندبانه وتقولان:
من للصغير حتّى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه، حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا تبرح ولا ترقأ. فضجّ من كان حاضراً بالبكاء وفاضت دموع أمير المؤمنين عليه السلام على خدّيه، وهو يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته..
هالليله ابونه امسى ابشده
او جرحه الذي ابراسه مضهده
والسم لعد جسمه تعده
وابروحه اشوفه ايلوج وحده
وبعد أن تزايد ولوج الدم في جسده الشريف، واحمرّت قدماه، وكانت شفتاه تختلجان بذكر الله تعالى، وعرض عليه الأكل والشرب فأبى، وجعل جبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه، فقال له ولده محمّد ابن الحنفيّة: أراك تمسح جبينك؟! فقال: يا بنيّ، إنّي سمعت رسول
19
12
مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينُه..ثمّ نادى أولاده كلّهم بأسمائهم، صغيراً وكبيراً واحداً بعد واحد، وجعل يودّعهم ويقول: الله خليفتي عليكم، أستودعكم الله. وهم يبكون..
أحسن الله لكم العزاء، ألا وإنّي منصرف عنكم في ليلتي هذه، ولاحق بحبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وعدني، ثمّ غُشي عليه، ولمّا أفاق قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كلّهم يقولون: عجّل قدومك علينا، فإنّا إليك مشتاقون.
ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، وقال: أستودعكم الله جميعاً، سدّدكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً، الله خليفتي عليكم، وكفى بالله خليفة، ثمّ قال: وعليكم السلام يا رُسُلَ ربّي، لمثل هذا فليعمل العاملون،?إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ?، وعرق جبينه، وما زال يذكر الله كثيراً، آجركم الله، ثمّ غمّض عينيه ومدّ يديه ورجليه، وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله..ثمّ قضى نحبه..
رحم الله من نادى: وا إماماه..وا عليّاه..وا شهيداه..وا مظلوماه..
لَا كَانَ يَوْمُكَ يَا عَلِيُّ فَإِنَّهُ يَوْمٌ بِهِ الْدِيْنُ الْحَنِيْفُ مُضَعْضَعُ
أَصْمَىْ مُصَابُكَ قَلْبَ كُلِّ مُوَحِّد وَأَصَمَّ نَعْيُكَ كُلَّ أُذْنٍ تَسْمَعُ
* * *
20
13
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
يَا دَمْعُ سُحَّ بِوَبْلِكَ الْهَتِنِ لِتَحُولَ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْوَسَنِ
كَيْفَ الْعَزَاءُ وَلَيْسَ وَجْدِيَ مِنْ فَقْدِ الْأَنِيْسِ وَوَحْشَةِ الْدِّمَنِ
أَوَ مَا نَظَرْتَ إِلَىْ صَفِيِّ بَنِيْ مُضَرَ الْكِرَامِ وَخَيْرِ مُؤْتَمَنِ
شِبْلُ الْوَصِيِّ وَفَرْخِ فَاطِمَةٍ وَابْنِ الْنَّبِيِّ وَسِبْطِهِ الْحَسَنِ
كَمْ نَالَ بَعْدَ أَبِيْهِ مِنْ غُصَصٍ يَطْوِي الْضُّلُوْعَ بِهَا عَلَىْ شَجَنٍ
لَهْفِيْ لَهُ مِنْ وَاجِدٍ كَمِدٍ مُسْتَضْعَفٍ فِيْ الْأَرْضِ مُمْتَهَنِ
مَا أَبْصَرَتْ عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْ أُذْنٌ بِمَنْ سَاوَاهُ فِيْ الْمِحَنِ
يَرعَىْ عِدَاهُ بِعَيْنِهِ وَيَعِي شَتْمَ الْوَصِيِّ أَبِيْهِ فِيْ أُذُنِ
وَقَدِ ارْتَدَىْ بِالْصَّبْرِ مُشْتَمِلاً بِالْحِلْمِ مُحْتَفِظاً عَلَىْ الْسُّنَنِ
حَتَّىْ سَقَوْهُ الْسُّمَّ فَاقْتَطَعُوْا مِنْ دَوْحِ أَحْمَدَ أَيَّمَا غُصُنِ!
سُمّاً يُقَطِّعُ قَلْبَ فَاطِمَةٍ وَجْداً عَلَىْ قَلْبِ ابْنِهَا الْحَسَنِ
وَهَوَىْ شَهِيْداً صَابِراً فَهَوَتْ حُزْناً عَلَيْهِ كَوَاكِبُ الْدَّجَنِ1
1- القصيدة للسيّد رضا الهنديّ رحمه الله.
23
14
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
شعبي:
كبد الحسن متقطعه ابسم المنية
أصبح يعالج واصبحت زينب شجية
دخلت عليه وعاينت له ايلوج وحده
عنده اخوه حسين دمعه فوق خده
آمر اخيّه ايشيل طشت البيه كبده
شيله يخويه لا تشوفه الهاشمية
شيل الطشت خاف الوديعة تشوف كبدي
يخوفي تحن ومن بكاها يزيد وجدي
هذي وديعة والدي حيدر وجدّي
مقدر اشوف ادموعها ابخدها جريّة
أبوذيّة:
الليلة ماتم المسموم ينصاب
او خل دمعك عليه ادموم ينصاب
مثل كبد الحسن ما شفت ينصاب
ابنبل يرموه نعش ابن الزكية
24
15
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
لمّا عزم معاوية على قتل الإمام الحسن عليه السلام ، أرسل إلى ملك الروم ليرسل إليه شربة من السمّ القتّال، ففعل.. وبعث معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال جسيم، وجعل يعدها بأن يعطيها مائة ألف درهم، ويزوّجها من ابنه يزيد، وحمل إليها ذلك السمّ لتسقيه الإمام الحسن عليه السلام..
وفي يوم من أيّام الصيف الحارّ، كان الإمام عليه السلام صائماً، ولمّا انصرف إلى منزله لتناول طعام الإفطار أخرجت له شربة من اللبن كانت قد ألقت فيه ذلك السمّ، ولمّا حان وقت الإفطار شرب الإمام ذلك اللبن المسموم، ولمّا أحسّ بحرارة السمّ قال: يا عدوّة الله! قَتَلْتِني قتلك الله...
وبقي الإمام على فراش المرض يعاني حرارة السمّ، يتقلّب يميناً وشمالاً، وهو يتقيّأ دماً ويخرج ما في أحشائه قطعة قطعة، يُوضع له طَسْتٌ ويُرفعُ آخَر..
وجاؤوا له بالطبيب ليتولّى معالجته، فلمّا نظر إلى حالته قال: هذا رجل قد قطَّع السمّ أمعاءه..
ودخل الحسين عليه السلام يوماً إلى الحسن عليه السلام ، فلمّا نظر إليه بكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما يصنع بك. فقال له الحسن عليه السلام: إنّ الذي يُؤتى إليّ سمٌّ يُدسُّ إليّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وينتحلون دين الإسلام،
25
16
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار..
يگله يا عضيدي يبو امحمّد
كبدك من نجيع السم تمرّد
يخويه اليوم طاغي الشام عيَّد
واعلى قلبي يخويه اتراكم الهم
ثمّ جعل يوصي أخاه الحسين عليه السلام: يا أخي إنّي مفارقك ولاحق بربّي عزَّ وجلَّ وقد سُقيتُ السمّ، ورَميتُ بكبدي في الطست، وإنّي لعارف بمن سقاني السمّ، ومن أين دهيتُ، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى..
فإذا قضيت فغمّضني وغسّلني وكفّنِّي واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجدّد به عهداً، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفنّي هناك. وستعلم يا ابن أمّ أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيجلبون في منعكم عن ذلك، وبالله أقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم..
ولمّا جرى السمّ في بدنه تغيّر لونه واخضرَّ واعتنقه الحسين عليه السلام طويلاً وبكيا..
قالوا: وبينما هما كذلك، وإذا بالعقيلة زينب وباقي الهاشميّات
26
17
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
جئن لعيادة الإمام عليه السلام ، فالتفت الحسن عليه السلام إلى أخيه الحسين قائلاً: أخي أبا عبد الله، نحِّ هذا الطَّشْتَ عنّي لئلّا تراه أختنا زينب.
يحسين شيل الطشت عني
خواتك يبو السجاد اجنّي
يردن يشبعن شوف مني
ويردن يخويه ايودعني
وينوحن عليّ ويندبني
ولمّا دنت وفاته، قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، فقال: أللهمّ إنّي أحتسب نفسي عندك، فإنّي لم أصب بمثلها.
قالوا: ولمّا حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين عليه السلام: أحضر لي أولادي وأهلي، فأحضرهم الحسين عليه السلام عنده فأدار عينيه فيهم، وجعل يوصيهم بالحسين عليه السلام وأنّه الإمام من بعده، ويقول: هذا الحسين إمام بعدي فلا إمام غيره..وهو خليفتي عليكم..ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام وإلى إخوته وحرمه وأولاده وقال: حفظكم الله، أستودعكم الله، الله خليفتي عليكم، وكفى به خليفة، وإنّي منصرف عنكم، ولاحق بجدّي وأبي وأمّي وأعمامي..
ووضع الحسين عليه السلام يده في يد أخيه الحسن عليه السلام ، فلمّا كان بعد ساعة غمز يده غمزاً خفيفاً.. ثمّ قال: عليكم السلام يا ملائكة
27
18
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
ربي ورحمة الله وبركاته، ثمّ سكن أنينه، وعرق جبينه، ومدَّ يديه ورجليه، وغمّض عينيه، وفارقت روحه الدنيا..
وا إماماه..وا سيّداه.. وا حسناه..
ونادى الحسين عليه السلام: وا أخاه وا حسناه وا قلّة ناصراه..
حن احسين أويلي وصفك بيده
او ونّ ونّات المفارگ عضيده
يگله العمر من بعدك ما ريده
يخويه اليوم عدوانك معيدين
وضجّ الناس ضجّة عظيمة.. وصار كيوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وارتجّت المدينة والناس تصيح من كلّ جانب فلا يلقى إلّا باكياً، وخرج أولاد الإمام وإخوته يبكون وينوحون، وخرج بنو هاشم رجالاً ونساءً يبكون عليه..
مات سبط المصطفى او صارت ابطيبة زلزلة
هذا يصرخ ذاك يلطم ذا دموعه سايله
او صوّت الناعي ابسككها مات سبط المصطفى
سمته جعدة اللعينة او غاب نوره وانطفى
أحزنت قلب الموالي والعدو قلبه اشتفى
ألف وسفه اعلى الزكي أظلم يويلي منزله
ثمّ قام الإمام الحسين عليه السلام بتغسيله وتكفينه كما أوصاه الإمام الحسن عليه السلام ، وصلّى عليه، وحملوه على سرير متّجهين
28
19
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
به إلى مثواه الأخير قرب جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لكنّ القوم وفيهم مروان بن الحكم وبنو أميّة، حملوا السلاح وتجمّعوا ومنعوا الإمام من أن يدفن إلى جوار جدّه..
ثمّ، عظّم الله لكم الأجر، رُميتْ جنازة الإمام بالنبال، قال الراوي: حتّى سُلَّ منها سبعون سهماً..
فرح ما شفت طول العمر بس هم
ولا جفّ الدمع بالعين بسهم
وسافه الحسن نعشه انضرب بسهم
او دفنه انمنع يم سيد البرية
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أميّة، فقال الحسين عليه السلام: والله لولا عهد الحسن إليّ بحقن الدماء، وأن لا أهريق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذُ سيوفُ الله منكم مأخذها!
فمضوا بالجنازة إلى البقيع ودفنوه بجوار قبر جدّته فاطمة بنت أسد رضوان الله عليها.
وهناك عند القبر لمّا وضع الإمام الحسن في لحده، وقف الإمام الحسين عليه السلام يرثي أخاه قائلاً:
أَأَدْهَنُ رَأْسِيْ أَمْ تَطِيْبُ مَجَالِسِيْ وَرَأْسُكَ مَعْفُوْرٌ وَأَنْتَ سَلِيْبُ؟
أَوْ اسْتَمْتِعُ الْدُنْيَا لِشَيْءٍ أُحِبُّهُ؟ أَلَا كُلُّ مَا أَدْنَىْ إِلَيْكَ حَبِيْبُ
29
20
مجلس شهادة الإمام الحسن عليه السلام
فَلَا زِلْتُ أَبْكِي مَا تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ عَلَيْكَ وَمَا هَبَّتْ صَبَاً وَجَنُوْبُ
وَمَا هَمَلَتْ عَيْنِيْ مِنَ الْدَّمْعِ قَطْرَةً وَمَا اخْضَرَّ فِيْ دَوْحِ الْحِجَازِ قَضِيْبُ
بُكَائِيْ طَوِيْلٌ وَالْدُّمُوْعُ غَزِيْرَةٌ وَأَنْتَ بَعِيْدٌ وَالْمَزَارُ قَرِيْبُ
غَرِيْبٌ وَأَطْرَافُ الْبُيُوْتِ تَحُوْطُهُ أَلَا كُلُّ مَنْ تَحْتَ الْتُّرَابِ غَرِيْبُ
وَلَا يَفْرَحُ الْبَاقِيْ خِلَافَ الَّذِيْ مَضَىْ وَكُلُّ فَتَىً لِلْمَوْتِ فِيْهِ نَصِيْبُ
فَلَيْسَ حَرِيْباً مَنْ أُصِيْبَ بِمَالِهِ وَلَكِنَّ مَنْ وَارَى أَخَاهُ حَرِيْبُ
نَسِيْبُكَ مَنْ أَمْسَىْ يُنَاجِيْكَ طَرْفُهُ وَلَيْسَ لِمَنْ تَحْتَ التُّرَابِ نَسِيْبُ
* * *
30
21
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
وَمُذْ أَيْقَنَ السِّبْطُ انْمَحَىْ دِيْنُ جَدِّهِ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْقَوْمِ فِيْ الْأَرْضِ مُسْلِمُ
فَدَىْ نَفْسَهُ فِيْ نُصْرَةِ الْدِّيْنِ خَائِضاً عَنِ الْمُسْلِمِيْنَ الْغَامِرَاتِ لِيَسْلَمُوْا
وَقَالَ: خُذِيْنِيْ يَا حُتُوْفُ وَهَاكِ يَا سُيُوْفُ فَأَوْصَالِيْ لَكِ الْيَوْمَ مَغْنَمُ
وَكَرَّ وَقَدْ ضَاقَ الْفَضَا وَجَرَى الْقَضَا وَسَالَ بِوَادِي الْكُفْرِ سَيْلٌ عَرَمْرَمُ
وَمُذْ خَرَّ بِالْتَّعْظِيْمِ لِلهِ سَاجِداً لَهُ كَبَّرُوْا بَيْنَ الْسُّيُوْفِ وَعَظَّمُوْا
وَجَاءَ إِلَيْهِ الْشِّمْرُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَقَامَ بِهِ عَنْهُ الْسِّنَانُ الْمُقَوَّمُ
تَزَلْزَلَ عَرْشُ الله وَانْحَطَّ نُوْرُهْ فَأَشْرَقَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَالْكَوْنُ مُظْلِمُ
وَلَهْفِيْ لَهُ فَرْدَاً عَلَيْهِ تَزَاحَمَتْ جُمُوْعُ الْعِدَىْ تَزْدَادُ جَهْلَاً فَيَحْلُمُ
وَلَهْفِيْ لَهُ ظَامٍ يَجُوْدُ وَحَوْلَهُ الْفُرَاتُ جَرَىْ طَامٍ عَلَيْهِ يُحَرَّمُ
وَلَهْفِيْ لَهُ مُلْقىً وَلِلْخَيْلِ حَافِرٌ يَجُوْلُ عَلَىْ تِلْكَ الضُّلُوْعِ وَيَنْسِمُ
وَلَهْفِيْ عَلَىْ أَعْضَاكَ يَا بْنَ مُحَمَّدٍ تُوَزَّعُ فِيْ أَسْيَافِهِمْ وَتُسَهَّمُ
فَجِسْمُكَ مَا بَيْنَ السُّيُوْفِ مُوَزَّعٌ وَرَحْلُكَ مَا بَيْنَ الْأَعَادِيْ مُقَسَّمُ1
1- القصيدة للحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قدّس سرّه.
33
22
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
شعبي:
يجدي گوم هذا احسين مذبوح
على الشاطي او على التربان مطروح
يجدي ما بگت له من الطعن روح
يجدي قلب اخويه احسين فطّر
يجدي مات محّد وقف دونه
ولا نغّار غمضله اعيونه
وحيد ايعالج او منخطف لونه
ولا واحد ابحلگه ماي گطّر
يجدي مات محّد مدّد ايديه
ولا واحد يجدي عدل رجليه
يعالج بالشمس محّد گرب ليه
يحطله اظلال يجدي من الحر
أبوذيّة:
يشيعه احسين صابه السهم ورداه
انذبح ما ذاق من الماي ورداه
تاجه انسلب يا كرار ورداه
وحريمه اتيسرت بالغاضرية
34
23
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
لمّا قتل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته ولم يبق معه أحد، نظر إلى أهله وصحبه مجزّرين كالأضاحي، وهو مع ذلك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال فنادى:
هل من ذابٍّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبكاء..
تنادي يخويه اومالك امعين
اوقومك على الرمضه مطاعين
أنه امنين أجيب المرتضى امنين
عن كربلا بويه غبت وين
فزعوا فرد فزعة على احسين
ثمّ وقف بباب خيمة النساء مودّعاً، ونادى: يا زينب، ويا أم ّكلثوم، ويا فاطمة، ويا سكينة، عليكنّ منّي السلام.. فأقبلن إليه ودرن حوله..
رد واعياله امن العطش يومن
اوصاح ابصوت للتوديع گومن
او مثل سرب القطا گامن يحومن
تطيح عليه وحدتهن او تعثر
والتفت الحسين عليه السلام إلى ابنته سكينة فرآها منحازة عن النساء وقد رفعت صوتها بالبكاء، فضمّها إلى صدره، وجعل يمسح دموعها بكمّه، وكان يحبّها حبّاً شديداً، وجعل يقول:
35
24
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
سَيَطُولُ بَعْدِي يَا سُكِينَةُ فَاعْلِمِي مِنْكِ البُكَاءُ إِذَا الحِمَامُ دَهَانِي
لّا تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً مَا دَامَ مِنِّي الرُّوحُ فِي جُثْمَانِي
فَإِذَا قُتِلْتُ فَأَنْتِ أَوْلَى بِالذِي تَأْتِينَهُ يَا خِيَرَةَ النِّسْوَانِ
يبويه انروح كل احنه فداياك
دخذنه للحرب يحسين وياك
أهي غيبه يبويه واگعد اتناك
وگولن سافر ويومين يسدر
يبويه گول لا تخفي عليّه
ذي روحتك يو بعد جيّه
يبويه ان كان رايح هاي هيّه
اخذني اوياك عنّك مكدر اصبر
وبعد أن ودّع عياله، تقدّم نحو القوم مصلتاً سيفه، ودعا الناس إلى البراز. فلم يزل يقتل كلّ من برز إليه حتّى قتل جمعاً كثيراً..
وحمل على الميمنة وهو يقول:
أَلْمَوْتُ أَوْلَىْ مِنْ رُكُوْبِ الْعَارِ وَالْعَارُ أَوْلَىْ مِنْ دُخُوْلِ النَّارِ
وحمل على الميسرة وهو يقول:
أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيّْ آلَيْتُ أَنْ لَا أَنْثَنِي
أَحْمِيْ عِيَالَاتِ أَبِيْ أَمْضِيْ عَلَىْ دِيْنِ النَّبِي
قَالَ الراوي: ما رأيت مكثوراً قطّ، قد قُتل ولده وأهل بيته
36
25
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
وصحبه، أربط جأشاً منه ولا أمضى جَناناً، ولا أجرأ مقدماً، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيهم، ولم يثبت له أحد..
وصاح عمر بن سعد: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، إحملوا عليه من كلّ جانب..فأتته النبال من كلّ جانب، وحيل بينه وبين رحله..
فصاح بهم: ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون، فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟ فقال: أقول: إنّي أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً، فقال شمر: لك ذلك يا ابن فاطمة، ثمّ صاح: إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري هو كفو كريم، فقصدوه..
وهكذا كان الإمام يحمل عليهم ويحملون عليه، فلا يلحق أحداً إلّا شقّه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحية، وهو يتّقيها بصدره ونحره، ويرجع إلى مركزه ويكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم..
إلى أن رماه أبو الحتوف الجعفيّ بسهم في جبهته، فنزعه وسالت الدماء على وجهه..فقال: أللهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، أللَّهمَّ أَحْصِهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تذَرْ
37
26
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً.
ولمّا ضعف عن القتال وقف يستريح فرماه رجل بحجر على جبهته فسال الدم على وجهه..فرفع رأسه ليمسح الدم عن عينيه، فرماه آخر بسهم محدّد له ثلاثُ شعب فوقع على جهة قلبه..
شال الثوب يمسح دم جبينه
اوشابح للحرب والخيم عينه
أتاري اعداه كبده امعينينه
رموه ابسهم لكن ناجع ابسم
فقال: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابنُ بنت نبيٍّ غيره.. ثمّ أخرج السهم فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده تحت الجرح فلمّا امتلأت دماً رمى به نحو السماء وقال: هوَّن ما نزل بي أنّه بعين الله.. فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض.. ثمّ وضعها ثانياً، فلمّا امتلأت لطّخ بها رأسه ووجهه ولحيته، وقال: هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنا مخضّب بدمي، وأقول: يا جدّي قتلني فلان وفلان.. السلام على الشَّيب الخضيب..
إلى أن أعياه نزف الدم والجراحات، وصار مطروحاً على ثرى كربلاء، وبقي كذلك مليّاً، ولو شاؤوا أن يقتلوه لقتلوه إلّا أنّ كلّ قبيلة تتّكل على غيرها، وتكره الإقدام..
فعندها صاح شمر بالناس: ويحكم، ما تنتظرون بالرجل، اقتلوه
38
27
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
ثكلتكم أمهاتكم.. فحملوا عليه من كلّ جانب..هذا يضربه على كتفه والآخر على عاتقه، وثالث طعنه بالرمح في ترقوته، ورابع رماه بسهم وقع في نحره، وخامس ضربه بالرمح في خاصرته، إلى أن غشي عليه..
ولمّا اشتدّ به الحال رفع طرفه إلى السماء وقال: صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غِياث المستغيثين...
وأقبل فرس الحسين عليه السلام يدور حوله ويلطّخ عرفه وناصيته بدمه، ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً. وعن الإمام الباقر عليه السلام ، أنّه كان يقول في صهيله: الظليمة الظليمة، من أمّة قتلت ابن بنت نبيّها.
وتوجّه نحو الخيام بذلك الصهيل: فلمّا (رأتِ) النساء جوادك مخزيّاً، ونظرن سرجك عليه ملويّاً، برزن من الخدور.. على الخدود لاطمات.. وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذلَّلات، وإلى مصرعك مبادرات..
فَوَاحِدَةٌ تَحْنُوْ عَلَيْهِ تَضُمُّهُ وَأُخْرَىْ عَلَيْهِ بِالرِّدَاءِ تُظَلِّلُ
وَأُخْرَىْ بِفَيْضِ النَّحْرِ تَصْبَغُ وَجْهَهَا وَأُخْرَىْ تُفَدِّيْهِ وَأُخْرَىْ تُقَبِّلُ
وَأُخْرَىْ عَلَىْ خَوْفٍ تَلُوْذُ بِجَنْبِهِ وَأُخْرَىْ لِمَا قَدْ نَالَهَا لَيْسَ تَعْقِلُ
وخرجت زينب عليها السلام ومن خلفها النساء والأرامل واليتامى من الفسطاط إلى جهة المعركة، وهي تنادي: وا محمّداه، وا عليّاه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا سيّداه، هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت
39
28
مجلس شهادة الإمام الحسين عليه السلام
على السهل. وانتهت نحو الحسين عليه السلام ، وقد دنا منه عمر بن سعد، والحسين عليه السلام يجود بنفسه، فصاحت به: أي عمر، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فصرف بوجهه عنها، ودموعه تسيل على وجهه ولحيته.
فعند ذلك صاحت زينب بالقوم: ويحكم، أَمَا فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد..
نعم، أجابها عمر بن سعد، فصاح بالناس: إنزلوا إليه فأريحوه..
فنزل إليه الشمر، وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدّسة، فرمقه الحسين عليه السلام بطرفه، وقال: أتقتلني؟ أولا تعلم من أنا؟ فقال الشمر: أعرفك حقّ المعرفة: أمّك فاطمة الزهراء، وأبوك عليّ المرتضى، وجدك محمّد المصطفى، وأقتلك ولا أبالي..
فضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة.. واحتزّ رأسه الشريف..
وا حسيناه، وا إماماه، وا مذبوحاه، وا غريباه، وا عطشاناه، وا شهيداه..
فَلَوَ أَنَّ أَحْمَدَ قَدْ رَأَكَ عَلَىْ الثَّرَىْ لَفَرَشْنَ مِنْهُ لِجِسْمِكَ الْأَحْشَاءُ
أَوْ بِالطُّفُوْفِ رَأَتْ ظَمَاكَ سَقَتْكَ مِنْ مَاءِ الْمَدَامِعِ أُمُّكَ الزَّهْرَاءُ
يَا لَيْتَ لَا عَذُبَ الْفُرَاتُ لِوَارِدٍ وَقُلُوْبُ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ ظِمَاءُ
* * *
40
29
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
قَرِحَتْ جُفُونُكَ مِنْ قَذًى وَسُهَادِ إِنْ لَمْ تَفِضْ لِمُصِيْبَةِ السَّجَّادِ
فَأَسِلْ فُؤَادَكَ مِنْ جُفُوْنِكَ أَدْمُعاً وَاقْدَحْ حَشَاكَ مِنَ الْأَسَىْ بِزِنَادِ
وَانْدُبْ إِمَاماً طَاهِراً هُوَ سَيِّدٌ لِلسَّاجِدِيْنَ وَزِيْنَةُ الْعُبَّادِ
مَا أَبْقَتِ الْبَلْوَىْ ضَنىً مِنْ جِسْمِهِ وَهُوَ الْعَلِيْلُ سِوَىْ خَيَالٍ بَادِي
لَهْفِيْ عَلَيْهِ يَئِنُّ فِيْ أَغْلَالِهِ بَيْنَ الْعِدَىْ وَيُقَادُ بِالْأَصْفَادِ
مُضْنىً وَجَامِعَةُ الْحَدِيْدِ بِنَحْرِهِ غُلٌّ يُعَانِيْ مِنْهُ شَرَّ قِيَادِ
تَحْدُو بِهِ الْأَضْغَانُ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ وَتُسْلِمُهُ إِلَى الْأَحْقَادِ
وَالشَّامُ إِنَّ الشَّامَ أَفْنَىْ قَلْبَهُ أَلَماً وَآلَ بِصَبْرِهِ لِنَفَادِ
لَمْ يَلْقَ فِيْهِ سِوَىْ الْقَطِيْعَةِ وَالْعِدَى وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْحُسَّادِ
سَلْ عَنْهُ طِيْبَةَ هَلْ بِهَا طَابَتْ لَهُ بَعْدَ الْحُسَيْنِ نَوَاظِرٌ بِرُقَادِ؟
هَلْ ذَاقَ طَعْمَ الزَّادِ طُوْلَ حَيَاتِهِ إِلَّا وَيَمْزُجُ دَمْعَهُ بِالزَّادِ
حَتَّى قَضَى سَمًّا وَمِلءُ فُؤَادِهِ أَلَمٌ تَحُزُّ مُدَاهُ كُلَّ فُؤَادِ1
1- القصيدة للشيخ عبد المنعم الفرطوسيّ رحمه الله.
43
30
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
شعبي:
هم مصايب كربلا او هم علّته
وفقد إخوته او ذبح أبوه او غربته
وگطعوا بالسم يويلي كبدته
ليش ابن حامي الحمى يسمونه
اويلي على ابو الباقر كنز العلوم
عقب قيده وحديده وذيك الهموم
قضى نحبه وسافه عليه مسموم
مثل جده عليّ صابر ومظلوم
عليه صاحت الوادم فرد صيحه
وگام وغسله و حطه بضريحه
بس جثة السبط ظلت طريحه
وبالخيل الصدر منه تهشم
أبوذيّة:
المصايب بس على السجاد تنصاب
ابيوم الشدايد بالمرض تنصاب
المآتم إلك يا مولاي تنصاب
اشكم شدّه شفت واشكم رزيّه
44
31
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
لقد ابتلي هذا الإمام العظيم بابتلاءات كثيرة وامتحانات عظيمة، وشاهد بأمِّ عينه تلك المجزرة الرهيبة التي حلّت بإخوته وعمومته وأهل بيته في كربلاء، وشاءت الحكمة الإلهيّة أن يكون هذا الإمام مريضاً عليلاً في كربلاء ممّا منعه عن القتال، وأشرف بسببه على الموت لولا مشيئة الله أن يبقى هذا الإمام حيّاً حفظاً لتلك السلسلة الطيّبة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفضلاً عن ألم المرض وأوجاعه ومعاناته، فقد كانت محنة الإمام عظيمة وهو يسمع نداء أبيه الحسين عليه السلام ، واستغاثته وهو لا يقدر على تلبية هذا النداء، حتّى إنَّهم ذكروا أنّه عليه السلام ، كان يبكي في بعض الأحيان لذلك، أو يقوم لينصر أباه ولا يقدر!
فعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: سمعت أبي، في الليلة التي قتل في صبيحتها، يقول وهو يصلح سيفه:
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيْلِ
مِنْ صَاحِبٍ وَطَالبٍ قَتِيْلِ وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيْلِ
وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى الْجَلِيْلِ وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيْلِي
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ففهمتها، وعرفت ما أراد، وخنقتني العبرة ولزمت السكوت وعلمت أنّ البلاء قد نزل.
ولمّا قتل العبّاس التفت الحسين، عليه السلام ، فلم ير أحداً ينصره، ونظر إلى أهله وصحبه مجزّرين كالأضاحي، وهو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال، صاح بأعلى صوته: هل من ذابٍّ
45
32
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبكاء..
ونهض السجّاد عليه السلام يتوكّأ على عصاً ويجرّ سيفه، لأنّه كان مريضاً لا يستطيع الحركة، فصاح الحسين بأخته أمّ كلثوم: إحبسيه لئلّا تخلو الأرض من نسل آل محمّد. فأرجعته إلى فراشه.
وكانت أعظم هذه المحن على قلبه حينما نظر إلى جسد أبيه الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه وهم مضرّجون بالدماء..فصار الإمام يجود بنفسه..
يُروى عنه عليه السلام ، أنّه قال وهو يحدّث عن هذا الأمر:
لَمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا وقُتل أبي عليه السلام ، وقُتل من كان معه من وُلده وإخوته وسائر أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوْا، فعظم ذلك في صدري، واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيَّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت عليّ عليه السلام ، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وأخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيّدي وأخوتي وعمومتي ووُلد عمّي وأهلي مضرّجين بدمائهم، مرمّلين بالعرى، مسلّبين، لا يُكفّنون ولا يُوارَوْن، ولا يُعرِّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر..ثمّ أخذت عمّته زينب، عليها السلام ، تسكّنه..
ومن محنه عليه السلام أيضاً، أنّه لمّا أدخل الكوفة كان على بعيرٍ
46
33
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
بغير وطاء، وقد وضعت جامعة من حديد في عنقه، ويداه مغلولتان إليها، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:
يَا أُمَّةَ السُّوْءِ لَا سَقْياً لِرَبْعِكُمُ يَا أُمَّةً لَمْ تُرَاعِ جَدَّنا فِيْنَا
لَوْ أَنَّنَا وَرَسُوْلُ اللهِ يَجْمَعُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ تَقُوْلُوْنَا؟
تُسَيِّرُوْنَا عَلَى الْأَقْتَابَ عَارِيَةً كَأَنَّنَا لَمْ نُشَيِّدْ فِيْكُمُ دِيْنَا
وكان يسمع الشتم والسبّ بأذنه ويصبر، وأحياناً يكلّم بعض من يسمعه يدعو عليهم فيؤثّر فيهم تأثيراً عجيباً، فقد رُوي أنّهم لمّا وصلوا إلى الشام، وجاء شيخ ودنا من نساء الحسين عليه السلام ، وعياله، وهم في ذلك الموضع، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية: ﴿لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟ قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلك. فقال عليّ عليه السلام له: فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت في بني إسرائيل (وآت ذا القربى حقّه)؟ فقال الشيخ: قد قرأت، فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت هذه الآية: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾؟ قال: نعم، فقال له عليّ عليه السلام: فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال عليّ عليه السلام: فنحن أهل البيت
47
34
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
الذين خصّنا الله بآية الطهارة، يا شيخ. قال الراوي: فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به وقال: بالله إنّكم هم؟ فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: تالله إنّا لنحن هم من غير شكٍّ، وحقّ جدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبكى الشيخ ورمى عِمامته ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: أللهمّ إنّا نبرأ إليك من عدوّ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، من جنٍّ وإنس، ثمّ قال: هل لي توبة؟ فقال له: نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا، فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتل.
إلى أن عاد الإمام عليه السلام إلى المدينة والأحزان تملأ قلبه، ومشهد كربلاء لا يفارقه، ومصائبها ماثلة أمام ناظريه:
كَأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ كَرْبَلَاءُ لَدَىْ عَيْنِيْ وَكُلَّ زَمَانٍ يَوْمُ عَاشُوْرَا
ولم يزل الإمام حزيناً باكياً، حتّى عُرِف بالبكّاء وعُدَّ أحد بكّائي التاريخ، فكم بكى هذا الإمام؟ وكم بكى؟ وكيف كانت أحواله وحالاته حتّى عرفه الناس بذلك، فقد قيل: إنّه بكى حتّى خِيف على عينيه، وكان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى حتّى يملأَه دمعاً1، فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش؟!
وقيل له: إنّك لتبكي دهرك فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا، فقال عليه السلام: نفسي قتلتها وعليها أبكي.
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: بكى عليّ بن الحسين على
1- كناية عن غزارة الدمع وكثرة ما يتساقط منه في الإناء.
48
35
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
أبيه حسين بن عليّ عليهما السلام عشرين سنة- أو أربعين سنة- وما وضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك.
وأشرف مولى له عليه السلام ، وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك- أو ثكلتك أمّك- والله شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت حتّى قال: (يا أسفي على يوسف)، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يُذبحون حولي.
بعيني رأيت حسين بيده الطفل منحور
وأمه الرباب تعاينه ودموعها تفور
فت ابونينه قلوبنا وعيونه اتدور
ما خلت لنا كربلا شيخ ولا شاب
واعظم مصيبة زيّدت حزني عليّه
داست على جسم العزيز خيول أميّه
سلبوا عزنا وسيّروا زينب سبيّه
حسرى ومن كثر المصايب راسها شاب
ولم يغب ذلك المشهد الفظيع عن ناظريه، الذي أحرقت فيه خيام بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيُقال إنّه كان يقول: والله ما نظرت
49
36
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقني العبرة، وتذكّرت فرارهنَّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين.
وكان يذكِّر الناس بمصيبة أبيه الإمام عليه السلام ، يُقال: إنّه كان يخرج إلى السوق أحياناً فيرى جزّاراً يريد أن يذبح شاة فيدنو منه ويقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول: نعم، يا بن رسول الله، إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي عند ذلك ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله عطشانَ.
وهكذا كانت حالة الإمام في الحزن والبكاء على أبيه إلى أن دسَّ إليه الوليد بن عبد الملك، السمّ في أشياء أعدّها له، ولمّا تناولها الإمام وسرى السمّ في بدنه وتيقّن حلول أجله، أخذ يوصي ولده الإمام الباقر عليه السلام:
يا بنيّ، إنّ الوقت الذي وُعدته قد قرب، فأوصيك يا بنيّ في نفسك خيراً، واصبر على الحقّ وإن كان مرّاً، فإنّه لتحدّثني نفسي بسرعة الموت لقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾1.
يا بنيّ، إذا أنا متّ فغسّلني فإنّ الإمام لا يلي غسله إلّا إمام مثله..واعلم يا بنيّ، أنّي مفارقك عن قريب، فإنّ الموت قد قرب، وقد بلغ الوليد منّي مراده..
1- سورة الرعد الآية 41.
50
37
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
وضمّه إلى صدره، ثمّ قال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة...يا بنيّ، إيّاك وظلمَ من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله..
ثمّ غشي عليه وأفاق ثلاث مرّات، ثمّ فتح عينيه، وقرأ: ?إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ?، و ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا? وقال: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين!
ثمّ أشرق وجهه نوراً ونادى: يا أبا جعفر، عجّل، وفاضت نفسه الشريفة..رحم الله من نادى: وا إماماه.. وا سيّداه.. وا مظلوماه..
وضجّ الناس في المدينة ضجّة واحدة..وعلا الصراخ والنحيب لفقد الإمام عليه السلام من كلّ ناحية..
وقام الإمام الباقر عليه السلام بتجهيز أبيه عليه السلام...
ينقل السيّد الأمين، رحمه الله، عن جابر الجعفيّ، قال: لمّا جرَّدَ مولاي محمّد الباقر، مولاي عليّ بن الحسين ثيابَه ووضعه على المغتسل وكان قد ضرب دونه حجاباً، سمعته ينشج ويبكي حتّى أطال ذلك، فأمهلته عن السؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه، فأتيت إليه وسلّمت عليه وقلت له: جُعلت فداك، ممّ كان بكاؤك وأنت تغسّل أباك؟ ذلك حزناً عليه؟ قال: لا يا جابر، لكن لمّا جردت أبي ثيابه ووضعته على المغتسل رأيت آثار الجامعة في عنقه، وآثار جرح القيد في ساقيه وفخذيه فأخذتني الرقّة لذلك وبكيت.
51
38
مجلس شهادة الإمام السجّاد عليه السلام
قام الباقر وغسله بيده
وشاف الجامعه مأثرة بجيده
وشاف الساق بيه اشعمل قيده
گعد يبكي وعلى حاله تحسر
مَا لِي أَرَاكَ وَدَمْعُ عَيْنِكَ جَامِدٌ أَوَ مَا سَمِعْتَ بِمِحْنَةِ السَّجَّادِ
* * *
52
39
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
مِمَّ الْعَوَالِم نُكِّسَتْ أَعْلَامُهَا وَاسْوَدَّ مِنْ صِبْغِ الْأَسَىْ أَيَّامُهَا
ألْيَوْمَ بَاقِرُ عِلْمِ آلِ مُحَمَّدٍ مِنْهُ شَفَتْ غِلَّ الْقُلُوْبِ طَغَامُهَا
وَلَطَالَمَا قَاسَىْ الْأَذَىْ بِحَيَاتِهِ لَمَّا تَحَكَّمَ فِيْ الْكِرَامِ لِئَامُهَا
كَادُوْهُ مِنْ حَسَدٍ لِطَمْسِ ضِيَائِهِ وَعَنْ الْمَدِيْنَةِ أَزْعَجَتْهُ سَوَامُهَا
أللهُ أَكْبَرُ كَمْ لَهُ مِنْ حُرْمَةٍ فِيْ الشَّامِ قَدْ هَتَكَ النَّبِيَّ هِشَامُهَا
أَمْسَىْ بِهَا فِيْ السِّجْنِ طَوْراً لَيْتَهَا سَاخَتْ وَعُوْجِلَ بِالْبَلَا أَقْوَامُهَا
وَأُقِيْمَ طَوْراً فِيْ مَقَامِ الذُّلِّ مَا بَيْنَ الْجُفَاةِ وَقَدْ تَرَفَّعَ هَامُهَا
أَهْدَتْ لَهُ فِيْ السَّرْجِ سَمّاً قاتِلاً غَدْراً وَهَلْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَرَامُهَا؟
بِأَبِيْ وَبِيْ أَفْدِيْهِ إِذْ بَلَغَ الْعِدَى فِيْهِ الْمُنَى وَبِهِ أَضَرَّ سِمَامُهَا
فَغَدَا عَلَىْ فُرُشِ السَّقَامِ يُجَاذِبُ الْأَنْفَاسَ إِذْ أَوْهَتْ قِوَاهُ سِقَامُهَا
وَلَقَدْ شَجَا مَنْ فِيْ الْعَوَالِمِ فَقْدُهُ وَمِنْ الشَّرِيْعَةِ نُكِّسَتْ أَعْلَامُهَا1
1- القصيدة للشيخ عليّ الجشي.
55
40
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
شعبي:
بطّل ونينه وغمض الباقر العينين
وضجّت عليه أهل المدينة وزاد الحنين
شالوه القبره وگامت اتنوح النوايح
وكل البلاد ارتجّت بكثر الصوايح
وسِّده الصادق ما بقى على الترب طايح
مثل السبط جده وأهل بيته الميامين
وسّد الصادق والده الباقر ابلحده
ابيومه ونصب ماتم ابداره خلاف فقده
لكن انشدني عن أبو السجاد جدّه
يمته اندفن والماتم اعليه انّصَب وين
أبوذيّة:
على الباقر لقيم النوح ولون
انسم او صار مثل النيل ولون
يا شيال نعشه تريد ولون
ابعزه انشيله او لطم لابن الزكيّة
56
41
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
كان الإمام الباقر عليه السلام يعلم بدنوّ أجله، فقد رُوي عنه قوله: "قُتل عليّ عليه السلام وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات عليّ بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأنا اليوم ابن ثمانٍ وخمسين سنة".
ويُروى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: إنّ أبي مرض مرضاً شديداً حتّى خفنا عليه، فبكى بعض أهله فنظر إليه وقال: إنّي لست بميّت في وجهي هذا، قال عليه السلام: فبرىء ومكث ما شاء الله أن يمكث فينا وهو صحيح ليس به بأس، قال: يا بنيّ، إنّ اللذين أتياني في وجهي ذاك وأخبراني بأنّي لست بميّت، فأتياني اليوم وأخبراني أنّي ميّت يوم كذا وكذا..
مرّ على الإمام الباقر عليه السلام الكثير من الأحداث المؤلمة، ومن أعظمها فجيعة ما شاهده بأمّ عينيه من أحداث كربلاء، فقد رُوي عنه قوله: "قُتل جدّي الحسين عليه السلام ولي أربع سنين، وإنّي لأذكر مقتله وما نالنا في ذلك الوقت".
بعيني نظرت احسين جدي برض الطفوف
جثة بليا راس ومبضّع بالسيوف
مذبوح جدي بالعطش وعيوني اتشوف
وعاينت راسه اقبال عيني رافعينه
وكان مع ركب السبايا وأوقفهم يزيد ثلاثة أيّام على باب الشام حتّى أدخلوا عليه. يُروى عنه عليه السلام أنّه قال: دخلنا على يزيد ونحن
57
42
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
اثنا عشر غلاماً مغلّلين بالحديد..
ولم تمض الأيّام حتّى شاءت الأقدار أن يعود الإمام الباقر، عليه السلام ، إلى الشام، وذلك حينما استدعاه هشام بن عبد الملك، ومرّة أخرى أُوقف ثلاثة أيّام قبل أن يدخله عليه، وبقي هناك أيّاماً ثمّ أرجعه إلى المدينة..
وعندما أراد هشام أن يتخلّص من الإمام كتب إلى عامله في المدينة أن يحتال في اغتيال الإمام بأن يدسّ له سمّاً في طعام أو شراب، وبالفعل فقد قام ذلك اللعين بهذا الأمر، ودسّ للإمام سمّاً في طعامه أو في شرابه، وتناوله الإمام وسرى في بدنه الشريف..
وفي رواية أنّه دُسّ إليه السمّ في سرج فرس، فركبه الإمام ونزل عنه متورّماً..ولم يعش بعدها الإمام أكثر من ثلاثة أيّام..
وبقي الإمام طريح الفراش إلى أن دنت وفاته. عن إمامنا الصادق عليه السلام ، أنّه أتى أبا جعفر عليه السلام ، ليلة قُبض وهو يناجي، فأومأ بيده أن تأخّر، فتأخّر حتّى فرغ من مناجاته، ثمّ أتاه فقال: يا بنيّ، إنّ هذه الليلة التي أُقبض فيها، وهي الليلة التي قُبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
واستودع ولده الصادق عليه السلام مواريث الإمامة والسلاح، وأوصاه بوصاياه:
منها: تغسيله، وتكفينه بثلاثة أثواب، منها برده الذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأشياء في دفنه، وأمره أن يرشّ قبره بالماء..
58
43
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
ومنها: أنّه قال لولده: يا أبا عبد الله، الله الله في الشيعة، أوصيك بأصحابي خيراً، فقال أبو عبد الله عليه السلام: والله لا تركتهم يحتاجون إلى أحد..
ومنها: أنّه قال لولده: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى..
ونظر إليه الصادق عليه السلام ، فقال: يا أبتاه والله ما رأيت منذ اشتكيت أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت، قال: يا بنيّ، أَمَا سمعت عليّ بن الحسين عليهما السلام ، ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال عجِّل..
ولمّا دنا أجل الإمام الباقر، عليه السلام ، أدار وجهه في أهل بيته، وقال: حفظكم الله، سدّدكم الله، الله خليفتي عليكم وكفى به خليفة، أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله، ثمّ غمَّض عينيه، وقضى نحبه مسموماً شهيداً مظلوماً صابراً محتسباً..
وا إماماه.. وا سيّداه.. وا باقراه..
ثمّ قام الإمام الصادق عليه السلام بتجهيزه وتكفينه، ودفنه عند والده الإمام زين العابدين في البقيع..
عليه صاحت الوادم فرد صيحة
الصادق غسله وحطه بضريحه
بس جثة السبط ظلت طريحة
وبالخيل الصدر منه تهشم
59
44
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
ولمّا قبض أبو جعفر عليه السلام أمر أبو عبد الله عليه السلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه..
أيّها الموالي: لقد كان وجه الباقر يتلألأ نوراً وبهاءً ليلة وفاته، وهكذا كان حال الحسين عليه السلام ، ولكن كان مع ذلك مضمّخاً بدمائه. قال هلال بن نافع: وقفت على الحسين عليه السلام وإنّه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمائه أحسن منه وجهاً، ولا أنور منه، ولقد شغلني نور وجهه، وجمال هيئته عن الفكرة في قتله.
وَمُجَرَّحٍ مَا غَيَّرَتْ مِنْهُ الْقَنَا حُسْناً وَلَا غَيَّرْنَ مِنْهُ جَدِيْدَا
قَدْ كَانَ بَدْراً فَاغْتَدَى شَمْسَ الضُّحَى مُذْ أَلْبَسَتْهُ يَدُ الدِّمَاءِ لُبُوْدَا
أيّها الموالي: لقد قام الصادق عليه السلام ، بتغسيل أبيه وتكفينه ودفنه، ورشَّ على قبره الماء، كما أوصاه بذلك، لكن جدّه الحسين عليه السلام بقي بلا غسل ولاكفن، ولا ندري هل رشّ الإمام زين العابدين على قبره الماء، أو لا؟
بالله ارد انشدك ماي شربته يدفان
بخيت قلبه لو دفنت احسين عطشان
بالله يدفان ارد انشدك رد عليّه
عطشان اخوي لو شرب قطرة اميَّه
وحين الدفنته ريت بخيت المنيّه
خاطر ترد روحه تراه مات عطشان
60
45
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
أيّها الموالي: لقد أوصى الباقر ولده الصادق عليهما السلام ، بشيعته وأصحابه، وكذلك سمعت سكينة صوتاً من أبيها الحسين عليه السلام يحمل رسالة إلى شيعته. يقول الشيخ الكفعميّ إنّ سكينة، لمّا قُتل الحسين عليه السلام ، اعتنقته فأُغمي عليها فسمعته يقول:
شِيْعَتِيْ، مَا إِنْ شَرِبْتُمْ رَيَّ عَذْبٍ فَاذْكُرُوْنِيْ
أَوْ سَمِعْتُمْ بِغَرِيْبٍ أَوْ شَهِيْدٍ فَانْدُبُوْنِيْ
فقامت مرعوبة قد قرِحت مآقيها وهي تلطم على خدّيها..
يبويه من قطع راسك
ويا هو السلّب اثيابك
يبويه غطّى كل امصاب
امصاب الما جرى امصابك
قبل ما شوفك ابالحال
يريت انعمت عيناي
انعمت عيناي ولا شوفك
ذبيح ويجري دم نحرك
واصحابك واهل بيتك
ضحايا مطرّحة بصفّك
عساها تعثرت عالخيل
ولا داست على صدرك
61
46
مجلس شهادة الإمام الباقر عليه السلام
أيّها الموالي: لقد بقي الباقر عليه السلام ، مريضاً في فراشه ثلاثة أيّام، لكن لم يبق كجدِّه الحسين عليه السلام.. محزوز الراس من القفا، ملقىً في الثرى، ثلاثة أيّام بالعراء، تسفي عليه الرياح، وتغسله الجراح..
لَمْ يَبْقَ ثَاوٍ بِالْعَرَاءِ كَجَدِّهِ دَامٍ تُغْسِّلُهُ دِمَاءُ وَرِيْدِ
قَدْ بُدِّدَتْ أَوْصَالُهُ يَا لَلْهُدَى بِشَبَا الصِّفَاحِ أَيَّمَا تَبْدِيْدِ
وأخيراً أيّها الموالي: لقد أسرج الصادق عليه السلام ، لأبيه بعد وفاته، لكن الحسين عليه السلام لم يُشعل له تلك الليلة سراج، وإنّما أضرموا النّار في خيام نسائه وعياله وأطفاله..
أللهُ أَيُّ مُصِيْبَةٍ جَلَّتْ فَلَا يُلْقَىْ لَهَا فِيْ الْكَوْنِ بَعْضُ نَظَائِرِ
ذَهَبَتْ بِرُكْنِ الدِّيْنِ مِصْبَاحِ الْهُدَىْ غَوْثِ الْمُؤَمَّلِ وَالْإِمَامِ الْبَاقِرِ
* * *
62
47
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
َا قَلْبُ، ذُبْ كَمَداً وَيَا عَيْنُ اسْكُبِي دَمْعاً لِرُزْءِ بْنِ الرَّسُوْلِ الصَّادِقِ
ذَاكَ الَّذِيْ نَشَرَ الْعُلُوْمَ وَأَيَّدَ الدِّيْنَ الْحَنِيْفَ وَبَزَّ كُلَّ مُنَافِقِ
لَكِنَّهُ لَمْ يَلْقَ فِيْمَا عَاشَهُ مِنْ عُمْرِهِ مِنْ صَاحِبٍ وَمُرَافِقِ
إِلّا الْقَلِيْلَ وَفِي الْقَلِيْلِ كِفَايَةٌ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْكَثِيْرِ الْمَائِقِ
أَدَّى رِسَالَتَهُ بِأَكْمَلِ صُوْرَةٍ وَلَوَى أَكُفَّ مُنَاظِرِيْنَ زَنَادِقِ
أَدَّى بِنَفْسِيْ مَا عَلَيْهِ وَزُمْرَةُ الْإِلْحَادِ بَيْنَ مُتَابِعٍ وَمُلَاحِقِ
حَتَّىْ بِسُمِّهِمِ الزُّعَافِ قَضَىْ وَقَدْ هُدَّتْ بِهِ أَرْكَانُ مَجْدٍ شَاهِقِ
مَاذَا رَأَىْ الْمَنْصُوْرُ مِنْهُ فَسَمَّهُ ظُلْماً وَلَمْ يَعْبَأْ بِسُخْطِ الْخَالِقِ
أَبْكَىْ النَّبِيَّ الْمُصْطَفَىْ وَوَصِيَّهُ وَالطُّهْرَ فَاطِمَ للسَّلِيْلِ السَّابِقِ
فِيْ فَضْلِهِ، فِيْ عِلْمِهِ، فِيْ حِلْمِهِ فِيْ صَبْرِهِ طَلَباً لِنَيْلِ حَقَائِقِ1
1- القصيدة للشيخ محمّد سعيد المنصوريّ.
65
48
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
شعبي:
يجفن العين هل ادموعك ابدم
على الصادق المات اليوم بالسم
ما أدري الرجس كان اشيطلبه
ابسمّه آمر اولا خاف ربه
أويلي وانمرد كبده وقلبه
انفطر لمّن گرّب ليه المحتم
ارتجت بالبكا لجله المدينة
ولا ظل واحد الما بكت عينه
وابنه الكاظم اينادي ابونينه
الجرح فرگاك أبد ما يصح بلسم
أبوذيّة:
الما يعترف بسم الله وسمه
ابسقر طاح السعى ابقتله وسمه
اشلون اتجرّع الصادق وسمّه
او عليه تنعى اوتونّ الجعفريّه
66
49
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
"أللهمّ صلِّ على جعفر بن محمّد إمام المسلمين، ووال من والاه، وعاد من عاداه، وضاعف العذاب على من ظلمه".
بعد أن حاول المنصور قتل الإمام الصادق عليه السلام سبع مرّات كما يذكر بعضهم، فتارة يأمر رزام بن مسلم مولى أبي خالد أن يقتل الإمام وهو "سلام الله عليه" في الحِيرة. وأخرى يأمر باغتياله مع ابنه موسى بن جعفر. قال قيس بن الربيع: حدّثني أبي الربيع، قال: دعاني المنصور يوماً قال: أما ترى الذي يبلغني عن هذا الحسينيّ؟ قلت: ومن هو يا سيّدي؟! قال: جعفر بن محمّد، والله لأستأصلنّ شأفته. ثمّ دعا بقائد من قوّاده فقال: انطلق إلى المدينة في ألف رجل، فاهجم على جعفر بن محمّد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر في مسيرك..إلى غير ذلك من موارد.
وكان الإمام يدعو بدعاء جدّه الحسين عليه السلام فينجيه الله تعالى، كما أجاب حينما سئل عن سبب نجاته في إحدى المرّات، وهو هذا الدعاء: "أللهمّ يا عدّتي عند شدّتي، يا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ، فلا أهلك وأنت رجائي، أللهمّ إنّك أكبر وأجلّ وأقدر ممّا أخاف وأحذر، أللهمّ بك أدرأ في نحره، وأستعيذ بك من شرّه إنّك على كلّ شيء قدير".
ولمّا نزل أبو جعفر الدوانيقيّ في "الربذة" وكان الإمام الصادق عليه السلام بها، قال: من يعذرني من جعفر؟ والله لأقتلنّه!
67
50
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
وهكذا، كان دأبه إلى أن مضى الإمام الصادق عليه السلام مسموماً بسمّ دسّه إليه المنصور الدوانيقيّ على يد عامله على المدينة، وكان قد وضعه له في العنب، فتناوله الإمام عليه السلام..وأثّر فيه حتّى صار طريح الفراش، فأخذ يوصي بوصاياه:
عن أبي بصير قال: دخلت على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد الله الصادق عليه السلام ، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد، لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة. قالت: فلم نترك أحداً إلّا جمعناه. قالت: فنظر إليهم ثمّ قال: إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة..
وأوصى أن يُناح عليه سبعة مواسم، فأوقف لكلّ موسمٍ مالاً يُنفق.
وأوصى ولده الإمام الكاظم عليه السلام فقال: يا بنيّ، إذا أنا متّ فلا يغسّلني غيرك، فإنّ الإمام لا يغسّله إلّا إمام..
وفي رواية أنّه دخل عليه بعض أصحابه في مرضه الذي توفّي فيه، وقد ذبل، فلم يبق إلّا رأسه، فبكى، فقال: لأيّ شيء تبكي؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أراك على هذه الحال؟! قال: لا تفعل، فإنّ المؤمن تعرض (عليه) كل خير، إن تُقَطَّعَ أعضاؤه كان خيراً له، وإن ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له.
ثمّ عرق جبينه، وسكن أنينه، وقضى نحبه، مسموماً شهيداً..
وا إماماه..وا سيّداه..وا جعفراه..
68
51
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
على المسموم يا قلبي تفطر
او ذوب امن الهظم لاجله او تحسّر
تفطر يا قلب لمصاب جعفر
وانته يا جفن هل دمعتك دم
وقام الإمام الكاظم عليه السلام بتغسيله وتحنيطه وتكفينه، وعيناه تهملان بالدموع حزناً على فراق أبيه، ثمّ صلّى عليه، وشيّعه المسلمون تشييعاً مهيباً، وكان يوماً عظيماً على المسلمين.. ثمّ دفنه عند والده الإمام الباقر عليه السلام في البقيع..
ونظر إليه بعض أصحابه وقد حملوه على سريره إلى البقيع ليدفن هناك، فقال:
أَقُوْلُ وَقَدْ رَاحُوْا بِهِ يَحْمِلُوْنَهُ عَلَى كَاهِلٍ مِنْ حَامِلِيْهِ وَعَاتِقِ
أَتَدْرُوْنَ مَاذَا تَحْمِلُوْنَ عَلَى الثَّرَى ثَبِيْراً ثَوَى مِنْ رَأْسِ عَلْيَاءَ شَاهِقِ
غَدَاةَ حَثَا الْحَاثُوْنَ فَوْقَ ضَرِيْحِهِ تُرَاباً وَأَوْلَىْ كَانَ فَوْقَ الْمَفَارِقِ
وعاد الإمام الكاظم عليه السلام ، إلى بيت أبيه الإمام الصادق عليه السلام ، الذي كان يسكنه، وقام بإشعال السراج هناك..
ابلحده وسّده والقلب مكسور
اونيران الحزن كانونها ايفور
بس احسين جدّه بيوم عاشور
بعد القتل عاري على الترب تم
69
52
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
سيّدي يا جعفر بن محمّد..لقد تحمّلت من ظلم حكّام عصرك الكثير، فقد وجّه أبو جعفر المنصور إلى الحسن بن زيد- وهو واليه على الحرمين- أن أحرق على جعفر بن محمّد داره، فألقى النّار في دار أبي عبد الله عليه السلام ، فأخذت النّار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله عليه السلام يتخطّى النّار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام..
سيّدي يا أبا عبد الله..لقد أرادوا إحراق دارك عليك، وأضرمت النيران بباب دارك، ولكن لم يسلبوا لك عيالك وبناتك كما فعلوا بعيال جدّك الحسين عليه السلام ، فعندما أضرموا بخيامهنّ النّار فَرَّتْ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في البيداء بلا حامٍ ولا معين، وهنّ يصحن وا محمّداه، وا عليّاه..
يفترّن خوات احسين
من خيمة العند خيمه
ينادن وين راحوا
وما ظل بالعرب شيمه
كل خيمة تشب ابنار
فرّن ضربن الهيمه
والسجاد اجو سحبوه
ودمعه على الوجن ساله
70
53
مجلس شهادة الإمام الصادق عليه السلام
سيّدي يا جعفر بن محمّد..لقد كنت تذكر جدّك الحسين عليه السلام في كلّ أحوالك وتحزن لمصابه، وتعلّم الناس كيف يبكون عليه. فما ذُكر الحسين عليه السلام ، عندك في يوم قطّ ورآك أحد من الناس في ذلك اليوم مبتسماً، وكنت تقول: "الحسين عليه السلام عبرة كلّ مؤمن".
كنت تطلب الماء لتشرب فتستعبر عند شربه، وتغرورق عيناك بالدموع وتقول: "..لعن الله قاتل الحسين عليه السلام.."..
لقد كان يدخل عليك الشعراء فتأمرهم برثاء جدّك الحسين عليه السلام:
فلمّا استأذن عليه في إحدى المرّات السيّد الحميريّ رحمه الله، أقعد الإمام عليه السلام ، حرمه خلف ستر، ودخل السيّد فسلّم وجلس فاستنشده، فأنشد قوله:
أُمْرُرْ عَلَى جَدَثِ الْحُسَيْنِ فَقُلْ لِأَعْظُمِهِ الزَّكِيَّهْ
يَا أَعْظُماً لَا زِلْتِ مِنْ وَطْفَاء سَاكِبَةٍ رَوِيَّهْ
فَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَأَطِلْ بِهِ وَقْفَ الْمَطِيَّهْ
وَابْكِ الْمُطَهَّرَ لِلْمُطَـ ـهَّرِ وَالْمُطَهَّرَةِ النَّقِيَّهْ
كَبُكَاءِ مُعْوِلَةٍ أَتَتْ يَوْماً لِوَاحِدِهَا الْمَنِيَّهْ
قال الراوي: فرأيت دموع جعفر بن محمّد تتحدّر على خدّيه، وارتفع الصراخ والبكاء من داره، حتّى أمره بالإمساك فأمسك..
تَبْكِيْكَ عَيْنِيْ لَا لِأَجْلِ مَثُوْبَةٍ لَكِنَّمَا عَيْنِيْ لِأَجْلِكَ بَاكِيَهْ
تَبْتَلُّ مِنْكُمْ كَرْبَلَا بِدَمٍ وَلَا تَبْتَلُّ مِنِّيْ بِالدُّمُوْعِ الْجَارِيَهْ
* * *
71
54
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
يَا لَيْلَةَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَارَيْتِ خَيْرَ بُدُوْرِ التُّمِّ فِيْ الْحُجُبِ
قَدْ كَانَ نُوْراً تُجَلِّيْ الْكَرْبَ طَلْعَتُه حَتَّى إِذَا غَابَ غَصَّ الدَّهْرُ بِالْكُرَبِ
بَابُ الْحَوَائِجِ لَا تَهْفُوْ إِلَيْهِ يَدٌ إِلَّا وَعَادَتْ بِهِ مَقْضِيَّةَ الْأَرَبِ
مُوْسَىْ بْنُ جَعْفَرَ بَابُ اللهِ قُبَّتُهُ فِيْهَا يُجَابُ دُعَا الدَّاعِيْنَ فِيْ الرَّغَبِ
يَا كَاظِمَ الْغَيْظِ غَيْظِيْ كَيْفَ أَكْتُمُهُ وَقَدْ قَضَيْتَ شَهِيْدَ السُّمِّ فِيْ الرُّطَبِ
تَبَّتْ يَدَا الرِّجْسِ هَارُوْنَ الرَّشِيْدِ كَمَا تَبَّتْ يَدَا الْمُشْرِكِ الْعَاتِيْ أَبِيْ لَهَبِ
إغْتَالَهُ بِيَدِ السِّنْدِيِّ وَا أَسَفِيْ عَلَىْ الْإِمَامِ قَضَىْ بِالسِّجْنِ فِيْ رَجَبِ
أَمْثِلُ مُوْسَىْ وَلِيِّ اللهِ مُرْتَهَنٌ فِيْ السِّجْنِ يَقْضِي بِذُلِّ الْقَيْدِ وَالْكَرَبِ
مَا شَيَّعُوْهُ وَمَا شِيْلَتْ جَنَازَتُهُ إِلَّا بِذُلِّ النِّدَا مِنْ سَيِّئِ الْحَسَبِ
يَا لَيْتَ عَيْنَ عَلِيِّ بْنَ الْحُسَيْنِ رَأَتْ أَصْفَادَ مُوْسَىْ وَمَا عَانَاهُ عَنْ كَثَبِ
إِذاً لَأَجْرَىْ دُمُوْعَ الْعَيْنِ مِنْ أَلَمٍ وَقَالَ: مَا أَشْبَهَ الْحَالَيْنِ فِيْ الْخُطُبِ
أَنَا إِلَىْ الشَّامِ قَادُوْنِيْ بِجَامِعَةٍ لُفَّتْ عَلَىْ عُنُقِيْ وَالْقَيْدُ فِيْ الرُّكَبِ
وَذَاكَ قُيِّدَ بِالْأَصْفَادِ مُضْطَهَداً حَتَّى تَوَارَىْ مَعَ الْأَصْفَادِ فِيْ الْحُجُبِ1
1- من قصيدة للشيخ أحمد العسيليّ العامليّ.
75
55
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
شعبي:
يا عين سيلي الدمع غدران
او يا قلب ذوب ابنار الأحزان
الباب الحوايج سر الأكوان
وسافه اعلى موسى ما له اعوان
محبوس قضى العمر ما بان
من حبس ابن شاهك السجان
لمّن سمّه وكبده صار نيران
وخلّاه يلوج اوحيد نحلان
لمن قضى والكبد خلصان
أبوذيّة:
يسِمُّونك يبن جعفر علامه
القتل والسم صبح بيكم علامه
عليك ننشد عزا ونرفع علامه
ونشيّع اجنازتك يبن الزكيّه
76
56
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
"أللهمّ صلّ على محمّد وأهل بيته، وصلّ على موسى بن جعفر، وصيّ الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار، والحكم والآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر إلى السحر، بمواصلة الاستغفار، حليف السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتّصلة الجميلة، ومقرّ النهى والعدل، والخير والفضل، والندى والبذل، ومألف البلوى والصبر، والمضطهد بالظلم، والمقبور بالجور، والمعذّب في قعر السجون وظلم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف، والوارد على جدّه المصطفى وأبيه المرتضى وأمّه سيّدة النساء، بإرثٍ مغصوب، وولاءٍ مسلوب، وأمرٍ مغلوب، ودمٍ مطلوب، وسمٍّ مشروب".
لقد كان هناك من بين الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، من دخلوا السجن، فقد دخل نبيّ الله يوسف عليه السلام السجن، بعيداً عن أهله وأبيه وبلده، وقال: "ربّ السجن أحبّ إليَّ ممّا يدعونني إليه"1، ولكنّه لم يكن وحيداً فريداً بل كان معه آخرون، كما ينصّ القرآن الكريم على ذلك. وفي نهاية أمره خرج من السجن، وجمعه الله تعالى بأهله وأبيه وإخوته..
والإمام الكاظم عليه السلام دخل السجن، وبالرغم من أنّ بعض
1- سورة يوسف الآية 33.
77
57
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
الأئمّة عليهم السلام قد سُجن إلّا أنّ الإمام الكاظم عليه السلام كان أكثرهم مكوثاً فيه، في غربة، بعيداً عن أهله وعياله وأولاده، لم يدخل عليه أحد، لا زائر يزوره، ولا عائد يعوده، وكان في ظلام دامس، في طامورة تحت الأرض، وقد قيّد بحلق من الحديد حتّى أثرت بساقه ورضّت..حتّى قضى مسموماً في السجن ولم يشاهد عياله ولا أولاده..
كان الإمام الكاظم عليه السلام ، يعلم بأنّه لا يعود إلى أرض جدّه، وسوف يُدفن في بغداد، في أرض غربة، وقبل خروجه بأيّام قال لأخيه عليّ بن جعفر: "يا عليّ، لا بدّ من أن تمضي مقادير الله فيَّ، ولي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أسوة، وبأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين، عليهم السلام..
وفي بعض السنوات خرج الرشيد إلى الحجّ وبدأ بالمدينة وصار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد حبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بين أمّتك وسفك دمائها!!
فأمر بالقبض على الإمام عليه السلام وكان قائماً يصلّي عند رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقطع عليه صلاته، وحُمل وهو يبكي ويقول: إليك أشكو يا رسول الله.. وقُيّد، وجعله في قبّة على بغل، وبعث به إلى البصرة..
قَطَعَ الرَّشِيْدُ عَلَيْهِ فَرْضَ صَلَاتِهِ قَسْراً وَأَظْهَرَ كَامِنَ الْأَحْقَادِ
وعندما وصل إلى البصرة حبسه عيسى بن جعفر المنصور،
78
58
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
وسمعه بعضهم وهو في السجن كثيراً ما يقول في دعائه: "أللهمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسالك أن تفرّغني لعبادتك، أللهمّ وقد فعلت فلك الحمد".
وأرسل إليه الرشيد يأمره بسفك دمه، ولكنّه لم يفعل لِمَا رأى من صلاحه وعبادته، فصيّره الرشيد إلى بغداد مقيّداً تحفّ به الشرطة والحرّاس، فأُودع سجن الفضل بن الربيع..
امن البصرة السجن بغداد جابه
ابحديد وقيد ويدور اذهابه
ذبه ابسجن أظلم غلق بابه
او نهى السجان يمه الناس يصلون
وفي بعض المرّات ضاق صدر الإمام عليه السلام ، من السجن، فلمّا جنَّ عليه الليل قام عليه السلام فجدّد طهوره واستقبل بوجهه القبلة وصلَّى لله أربع ركعات، ثمّ دعا بهذه الدعوات:
"يا سيّدي، نجِّني من حبس هارون، وخلّصني من يديه، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص النّار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون".
واستجاب الله دعاء الإمام فأخرجه هارون من السجن لكن لم يسمح له بالعودة إلى المدينة، ولم يلبث أن أدخله السجن مرّة
79
59
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
أخرى، ولم يخرج بعدها منه، وصار ينقل من سجنٍ إلى سجن..
مَا زَالَ يُنْقَلُ فِيْ السُّجُوْنِ مُعَانِياً عَضَّ الْقُيُوْدَ وَمُثْقَلَ الْأَصْفَادِ
وكانت له عليه السلام في السجن سجدة بعد انقضاض الشمس إلى الزوال، فأشرف عليه هارون من على السطح، فقال للربيع: يا ربيع ما هذا الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر عليهما السلام ، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، فقال هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم..
وبقي الإمام عليه السلام على هذه الحالة من العبادة والصلاة والطاعة لله عزَّ وجلَّ ليله ونهاره، وهو يُنقل من سجنٍ إلى سجنٍ، ولمّا أبى الربيع قتله، لما رأى من صلاحه وعبادته أيضاً حوّله الرشيد، لعنه الله، بعد ذلك إلى حبس الفضل بن يحيى البرمكيّ، وأبى الفضل إلّا أن يكرمه أيضاً، فوسّع عليه وأكرمه..
فأخرجه الرشيد من عنده وصيّره عند السنديَّ بن شاهك، الذي شدّد عليه وضيّق عليه في المأكل والمشرب، ومنع الناس من الدخول عليه، وأقفل الباب في وجهه، فلم يأذن له في الخروج إلّا لتجديد طهوره، وقيّده بثلاثة قيود من الحديد وزنها ثلاثون رطلاً، فكتب الإمام عليه السلام للرشيد من الحبس: "إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون".
80
60
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
وكتب إلى أحد أصحابه وهو عليّ بن سويد كتاباً جاء فيه: "إنّ أوّل ما أُنهي إليك نفسي في لياليَّ هذه، غير جازع ولا نادم، ولا شاكٍّ فيما هو كائن ممّا قضى الله وقدّر وحتم".
وأمر اللعين هارون السنديَّ بن شاهك أن يدسّ السمّ في طعامٍ له، وفي بعض الروايات جعله له في رُطب، ولمّا أكله الإمام عليه السلام ، قال له السنديّ: تزداد؟ فقال له: حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه فيما أُمرت به. فأحسّ الإمام بالسمّ يسري في بدنه، فمرض وتوعّك ثلاثة أيّام..
فأحضر له السنديّ القضاة والعدول قبل وفاته ليشهدوا عند الناس بأنّه ليس به علّة ولا مرض ولا ضرر، فالتفت عليه السلام إليهم فقال لهم: "اشهدوا أنّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة أيّام، استشهدوا أنّي صحيح الظاهر ولكنّي مسموم وسأحمرّ في آخر هذا اليوم حمرة".. وفي رواية أخرى أنّه قال: "يا فلان ويا فلان، إنّي سقيت السمّ في يومي هذا، وفي غدٍ يصفرّ بدني، وبعد غدٍ يسودّ وأموت".
وأحضر له الطبيب فنظر في يده فرأى خضرة في بطن راحته، وكان السمّ قد اجتمع في ذلك الموضع، فانصرف الطبيب إليهم فقال: والله هو أعلم بما فعلتم به..
وبقي الإمام يعاني ألم السمّ وقد سرى في بدنه، يحمرّ تارة ويصفرّ أخرى ويسودّ ثالثة، حتّى حضر أجله واستقبل القبلة،
81
61
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
وعرق جبينه، وسكن أنينه، وفاضت روحه الطاهرة غريباً مظلوماً مسموماً..
رحم الله من نادى: وا كاظماه وا إماماه وا غريباه وا مسموماه..
وفي رواية أنّهم لفّوه في بساط وأُمر الفرّاشون أن يقعدوا عليه حتّى قضى..
ايلوج وحده بالحبس ويلي عليه
امن الخلق ما حد گرب وادنى اليه
غمض اعيونه اومد رجله وايديه
ومن الألم جسمه نحل والقلب ذاب
وقام الإمام الرضا عليه السلام بتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه من حيث يخفى على الناس ذلك، وأمر السنديّ بن شاهك أن يخرجوه على نعش ويضعوه على جسر الرصافة ببغداد، وينادوا عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه..
وأقام أربعة أشخاص أن ينادوا عليه- بعكس هذا النداء-: ألا من أراد أن ينظر إلى (الطيّب بن الطيّب) موسى بن جعفر فليخرج.. وفي رواية أنّه تُرك على الطريق ثلاثة أيّام يأتي من يأتي فينظر إليه..
ويح قلبي للذي أمسى وحيد
بالحبس لمن قضى ابسم الرشيد
82
62
مجلس شهادة الإمام الكاظم عليه السلام
اعلى الجسر جابوه وبرجله الحديد
بالعبا ملفوف مسلوب الثياب
بالحبس قضّى العمر لـمّن قضى
طاح ركن الدين واسودّ الفضا
يوم نادوا ذا إمام الرافضه
والعجب كل العجب منع العذاب
إلى أن خرج سليمان بن أبي جعفر عمّ الرشيد، وأخذ الجنازة منهم ووضعها على مفرق أربع طرق وأقام من ينادي عليها: من أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج، فجاء الناس وشيّعوه حتّى دفنوه في مقابر قريش ببغداد.. ودفنوه بقيوده كما أوصى بذلك..
وَقَبْرٍ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِيْ الْغُرُفَاتِ
* * *
83
63
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
يَا حُجَّةَ اللهِ قَدْ ضَاقَ الْخِنَاقِ بِنَا فَأَيُّ هَوْلٍ مِنَ الدُّنْيَا نُقَاسِيْهِ؟!
أَكُلَّ يَوْمٍ لَكُمْ يَا بْنَ الزَّكِيِّ دَمٌ يُطَلُّ هَدْراً وَمَا مِنْ ثَائِرٍ فِيْهِ؟
فَمِنْ صَرِيْعٍ قَضَىْ تَحْتَ الظُّبَا عَطَشاً وَفَوْقَ عُجْفِ الْمَطَا سِيْقَتْ ذَرَارِيْهِ
وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ صَبْراً بَعْدَمَا سُقِيَتْ بِالسُّمِّ أَحْشَاؤُهُ، وَيْلٌ لِسَاقَيْهِ!
أَفْدِي غَرِيْباً عَنِ الْأَوْطَانِ قَدْ شَحَطَتْ بِهِ النَّوَىْ عَنْ مَغَانِيْهِ وَأَهْلِيْهِ
الضَّامِنَ الْخُلْدَ فِيْ أَعْلَىْ الْجِنَانِ لِمَنْ يَزُوْرُ فِيْ طُوْسَ مَثْوَاهُ وَيَأْتِيْهِ
لَمْ أَنْسَ إِِذْ غَالَهُ الْمَأْمُوْنُ حَيْثُ غَدَا يُبْدِيْ لَهُ غَيْرَ مَا فِيْ الْقَلْبِ يُخْفِيْهِ
وَدَسَّ بِالْعِنَبِ السُّمَّ النَّقِيْعَ لَهُ فَبَاتَ مُضْطَهَداً مِمَّا يُعَانِيْهِ
حَتَّىْ إِذَا أَزِفَ الْمَقْدُوْرُ جَاءَ لَهُ الْجَوَادُ وَالدَّمْعُ يَجْرِيْ مِنْ مَآقِيْهِ
سُرْعَانَ مَا جَاءَهُ مِنْ طِيْبَةٍ فَغَدَا أَبُوْهُ يُدْنِيْهِ لِلنَّجْوَىْ وَيُوْصِيْهِ
لَكِنَّ جِسْمَ حُسَيْنٍ بِالطُّفُوْفِ ثَوَىْ عَارٍ ثَلَاثاً وَوَحْشُ الْقَفْرِ تَبْكِيْهِ
ظَمْآنُ لَمْ يَرْوِ عَذْبُ الْمَاءِ غُلَّتَهُ وَالسُّمْرُ تُرْوَى نَجِيْعاً مِنْ بَوَانِيْهِ
عَرْيَانُ بَاتَ بِلَا غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ وَمَا دَنَا أَحَدٌ مِنْهُ يُوَارِيْه1
1- القصيدة للخطيب الأستاذ الشيخ محمّد عليّ اليعقوبيّ.
87
64
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
شعبي:
اويلي اعلى الرضا من عدل رجليه
تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه
روحه خلصت او ما ظل نفس بيه
أتاري مات اويلي اوفرّگ البين
نهض عنه الجواد او جذب ونّه
حزين او عقب أبوه النوح فنّه
بعد ما جفنه او من فرغ منّه
اجوه أهل البلد كلهم محزنين
يويلي اشلون ضجه صارت ابطوس
اجت الناس بس تلطم على الروس
الله اوياك آيا شمس الشموس
رحت واحنه بعد نورك مظلمين
نگول من العزه انگلبت خريسان
لفت له بالگبر بثياب الأحزان
بس احسين ظل مطروح عريان
ظل ابكربله واهله مظعنين
88
65
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
أبوذيّة:
زمانك يالرضا بآهات عمَّك
وصبح عام الحزن والنوح عمَّك
رحت مسموم مثل الحسن عمَّك
وغربتك من غريب الغاضرية
"أللهمّ صلّ على عليّ بن موسى الرضا المرتضى، الإمام التقيّ النقيّ، وحجّتك على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، الصدّيق الشهيد، صلاة كثيرة تامّة زاكية متواصلة مترادفة، كأفضل ما صلّيت على أحدٍ من أوليائك".
كان الإمام الرضا عليه السلام ، يعلم بما يصير إليه أمره، وما يجري عليه على يد المأمون العبّاسيّ، ويحدّث بعض أصحابه بذلك، ولهذا لمّا أراد المأمون حمله إلى خراسان، أخذ الإمام يودّع المدينة، مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّه يعلم أنّه لا يعود إليها أبداً، وسيدفن غريباً عنها بعد أن يقضي مسموماً شهيداً.
فعن مخول السجستانيّ قال: لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودِّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فودَّعه مراراً كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه وسلّمت عليه فردَّ السلام، وهنَّأته، فقال: "زرني، فإنّي أخرج من جوار جدّي صلى الله عليه وآله وسلم فأموت في غربة، وأُدفن في جنب هارون"، قال: فخرجت متَّبعاً لطريقه حتّى مات بطوس ودفن إلى جنب هارون.
89
66
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
وعن الإمام الرضا عليه السلام ، أنّه قال: "إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتّى أسمع، ثمّ فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثمّ قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً".
وبعد أن أشخصه المأمون إلى خراسان ووصل إلى سناباد، دخل إلى دار حميد بن قحطبة الطائيّ والقبّة التي فيها قبر هارون الرشيد، ثمّ خطّ بيده إلى جانبه، ثمّ قال: "هذه تربتي، وفيها أدفن، وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي وأهل محبّتي، والله ما يزورني منهم زائر، ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم، إلّا وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت".
ولمّا دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ على مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في خراسان وأنشده قصيدته المعروفة:
مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ
وانتهى إلى قوله:
وَقَبْرٍ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِيْ الْغُرُفَاتِ
قال له الرضا عليه السلام: "أفلا أُلحق لك بهذا الموضع بيتين، بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا بن رسول الله، فقال عليه السلام:
وَقَبْرٍ بِطُوْسٍ يَا لَهَا مِنْ مُصِيْبَةٍ أَلَحَّتْ عَلَىْ الْأَحْشَاءِ بِالْحُرُقَاتِ
إِلَىْ الْحَشْرِ حَتَّىْ يَبْعَثَ اللهُ قَائِماً يُفَرِّجُ عَنَّا الهَمَّ وَالْكَرَبَاتِ
90
67
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
فقال دعبل: يا بن رسول الله، هذا القبر الذي بطوس، قبر من هو؟ فقال الرضا عليه السلام: "قبري! ولا تنقضي الأيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له".
نعم، وهكذا كان، فبعد أن باءت كلّ مخطّطات المأمون من التنازل عن الخلافة وولاية العهد بالفشل ولم تحقّق أهدافها، قام بتشديد الخناق عليه..
ولم يزل الإمام عليه السلام مغموماً مكروباً إلى أن قُبض صلوات الله عليه، حتّى إنّه كان يدعو الله تعالى أحياناً: "أللّهمّ، إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت، فعجِّل لي الساعة".
ورأى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض لياليه، فقال لمسافر- أحد أصحابه-: أما إنّي رأيت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ، البارحة، وهو يقول: يا عليّ، ما عندنا خير لك.
وأعيا المأمونَ أمرُ الإمام عليه السلام ، فعزم على قتله واغتياله بالسمّ.. فعن شخص يُقال له هرثمة أنّه قال له الرضا عليه السلام: إسمع وَعِهْ، يا هرثمة، هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدّي وآبائي عليهم السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط بالعنب، وأمّا الرمّان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمّان بيده ليتلطّخ حَبَّه ذلك السمّ، وإنّه
91
68
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
سيدعوني في اليوم المقبل ويقرِّب إليَّ الرمّان والعنب، ويسألني أكلها فآكلها، ثمّ ينفذ الحكم ويحضر القضاء..
وعن أبي الصلت الهرويّ أنّه قال له: يا أبا الصلت، غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن أنا خرجت مكشوف الرأس فتكلَّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني، قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه، وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام ومشى وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه. فلمّا أبصر الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وقبَّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا بن رسول الله، ما رأيت عنباً أحسن من هذا، فقال له الرضا عليه السلام: ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة، فقال له: كل منه، فقال له الرضا عليه السلام: تعفيني عنه، فقال: لا والله فإنّك تسرّني إذا أكلت منه، لا بدّ من ذلك، وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء؟! (فاستعفاه ثلاث مرّات، وهو يسأله بمحمّد وعليّ أن يأكل منه)، فتناول العنقود فأكل منه، ثمّ ناوله فأكل منه الرضا عليه السلام ، ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام، فقال المأمون: إلى أين؟ فقال عليه السلام: إلى حيث وجّهتني. وخرج مغطّى الرأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فَأُغْلِقَ، ثمّ نام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً.
92
69
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا عليه السلام فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت، هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: أنا حجّة الله عليك، يا أبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ. ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام ، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره، وقبَّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً في فراشه وأكبَّ عليه محمّد بن عليّ عليهما السلام يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه.
يقول أبو الصلت:..ثمّ امتدّ الرضا عليه السلام ، على المقعد، وغطّاه محمّد بالرداء وصار إلى وسط الدار، وقال: يا أبا الصلت، فقلت: لبّيك يا بن رسول الله، فقال: عظّم الله أجرك في الرضا فقد مضى!
وا إماماه، واسيّداه، واغريباه..
فَاغْتَالَهُ بِالْعِنَبِ الْمَسْمُوْمِ وَيْلٌ لِذَاكَ الظَّالِمِ الْغَشُوْمِ
وَمَادَتِ الْأَرْضُ بِلَابِثِيْهَا وَسَاخَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ عَلَيْهَا
قَضَىْ شَهِيْداً صَابِراً مُحْتَسِبَا وَهُوَ غَرِيْبٌ بَلْ غَرِيْبُ الْغُرَبَا
تَقَطَّعَتْ أَمْعَاؤُهُ بِالسُّمِّ فِدَاهُ نَفْسِيْ وَأَبِيْ وَأُمِّيْ
وضجّت طوس ضجّة واحدة، وعلا الصياح، وأسرع الناس من
93
70
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
كلّ حدب وصوب ليستعلموا الخبر..وهم يقولون: هذا قتله واغتاله- يَعْنُوْنَ المأمون- قُتل ابن رسول الله..
يا عين على الرضا صبي الدمع دم
عزيز الروح بفراش المرض تم
خلص قلبه بونينه وفتته السم
سقط من ساعته ومدّد الرجلين
وقام ولده الإمام الجواد عليه السلام ، بتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه من حيث يخفى على الناس أمره..
سيّدي يا أبا محمّد الجواد، عندما جئت إلى أبيك وجدته على فراشه، ضمّك إلى صدره وقبّلك وناجاك، ثمّ فارقت روحه الدنيا..
ولكن ما حال جدّك زين العابدين عليه السلام ، مع أبيه الحسين عليه السلام ؟! لم يتمكّن أن يكون إلى جانبه في لحظاته الأخيرة، ولكنّه نظر إليه، بعد ذلك، من بعيد..ولكن كيف كانت حالته عندها؟!
يُروى عنه عليه السلام أنّه قال: "..لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا وقُتل أبي عليه السلام ، وقُتل من كان معه من وُلْده وإخوته وسائر أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوْا، فعظم ذلك في صدري واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبري بنت عليّ عليه السلام ، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وأخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى
94
71
مجلس شهادة الإمام الرضا عليه السلام
سيّدي وأخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مضرّجين بدمائهم، مرمّلين بالعرى، مسلّبين، لا يكفّنون ولا يوارَوْن، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!
إِنْ يَبْقَ مُلْقىً بِلَا دَفْنٍ فَإِنَّ لَهُ قَبْراً بِقَلْبِ الَّذِي وَالَاهُ مَحْفُوْرَا
* * *
95
72
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ يَوْمَ الْمَعَادِ جُدْ بِدَمْعٍ عَلَىْ الْإِمَامِ الْجَوَادِ
لَسْتُ أَنْسَاهُ حِيْنَ أَشْخَصَهُ المَأْ مُوْنُ مِنْ يَثْرِبٍ إِلَىْ بَغْدَادِ
قَدْ قَضَىْ فِيْ بَغْدَادَ وَهُوَ غَرِيْبٌ بِفُؤَادٍ مِنْ شُعْلَةَ السُّمِّ صَادِ
وَالَّتِيْ قَدَّمَتْ لَهُ السُّمَّ أُمُّ الْـ ـفَضْلِ بُغْضاً مِنْهَا لِأُمِّ الْهَادِيْ
تَرَكُوْا نَعْشَهُ بِقَنْطَرَةِ الْبُرْ دَانِ مُلْقىً آلُ الشَّقَا وَالْعِنَادِ
فَاسْتَمَاتَتْ أَشْيَاعُهُ نَحْوَ حَمْلِ الـ ـنَّعْشِ كَيْ لَا يَبْقَىْ رَهِيْنَ الْوِهَادِ
وَسَرَىْ فِيْهِمُ الْحَمَاسُ إِلَىْ أَنْ حَمَلُوْهُ رَفْعاً عَلَىْ الْأَجْيَادِ
مَا بَقَى مِثْلَ جَدِّهِ السِّبْطِ عَارِيْ الْـ ـجِسْمِ تَعْدُوْ عَلَىْ قِرَاهُ الْعَوَادِيْ
تَرَكُوْا جِسْمَهُ ثَلَاثاً وَعَلَّوْا رَأْسَهُ فِيْ رُؤُوْسِ سُمْرِ الصِّعَادِ
وَسَرَوْا فِيْ نِسَائِهِ حَاسِرَاتٍ يَا لَقَوْمِيْ بَيْنَ الرِّجَالِ بَوَادِ
وَتَرَاهَا يَا خِيْرَةَ اللهِ فِيْ السَّبْـ ـيِ وَسَتْرِ الْوُجُوْهِ مِنْهَا الْأَيَادِي1
1- القصيدة للسيد مهدي الأعرجي.
99
73
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
شعبي:
مات الجواد اليوم مسموم
عقب الهظيمة او كل الهموم
والهادي يبكي ابقلب مالوم
وايصيح بويه اهنا يمحروم
شنهو السبب سمتك هالقوم
والشيعة تبكي دمه ابهليوم
لجل الجواد الراح مظلوم
أبوذيّة:
روحي لحزن أبو الهادي بهداي
أظل ألطم على امصابه بهيداي
يا شيَّال النعش إمشي بهيداي
سره ابجسمه العطش والسم سويّه
100
74
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
"السلام على الباب الأقصد، والطريق الأرشد، والعالم المؤيَّد، ينبوع الحِكَم، ومصباح الظُّلَم، سيّد العرب والعجم، الهادي إلى الرشاد، الموفَّق بالتأييد والسَّداد، مولاي أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد، أشهد يا وليّ الله أنّك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وجاهدت في سبيل الله حقّ جهاده، وعبدت الله مخلصاً حتّى أتاك اليقين، فعشت سعيداً ومضيت شهيداً، يا ليتني كنت معكم فأفوزَ فوزاً عظيماً، ورحمة الله وبركاته".
عن أبي يحيى الصنعانيّ، قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام ، فجيء بابنه أبي جعفر عليه السلام ، وهو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه.
وفي رواية أخرى أنّه لمّا وُلد أبو جعفر عليه السلام ، قال الرضا عليه السلام لأصحابه: قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قُدِّست أُمٌّ ولدته قد خُلِقت طاهرة مطهّرة. وكان طول ليلته يناغيه في مهده.
ويُروى أنّه قال لبَنَان بن نافع: يا بن نافع! سلِّم، وأذعن له بالطاعة، فروحه روحي، وروحي روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلّم..
لقد ابتُلي هذا الإمام العظيم بابتلاءات عديدة:
منها: اليتم، فقد فارقه الإمام الرضا عليه السلام وهو صغير حينما أشخصه المأمون إلى خراسان، وقد آلم هذا الموقف قلب إمامنا
101
75
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
الجواد عليه السلام فكان يبكي لفراق أبيه..
ومنها: الغربة حيث أُخرج من مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وأُبعد عنها، فقد ودّع الإمام أهله وولده وترك حرم جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وذهب إلى بغداد بقلبٍ حزين. ويُروى أنّه لمّا خرج من المدينة في المرّة الأخيرة، قال: "ما أطيبك، يا طيبة! فلست بعائد إليك".
ومنها: السجن، إذ سجنه المعتصم، ولم يأذن لأحد بالدخول عليه.
ومنها: السمّ، فقد كان المعتصم يتربّص بالإمام ويعمل الحيلة في الفتك به، إلى أن سنحت له الفرصة فدسّ إليه السمّ، وقد اختلفت الرواية في كيفيّة سمّه له:
فمن قائل: أمر فلاناً (من كتّاب وزرائه) بأن يدعو الإمام إلى منزل الوزير، فدعاه، فأبى أن يجيبه، وقال: "قد علمت أنّي لا أحضر مجالسكم"، فقال: إنّي إنّما أدعوك إلى الطعام، وأحبّ أن تطأ ثيابي، وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك، فقد أحبّ فلان بن فلان (من وزراء المعتصم) لقاءك. فصار إليه، فلمّا طَعِمَ منه أحسّ بالسمّ، فدعا بدابّته، فسأله ربّ المنزل أن يقيم، قال: "خروجي من دارك خير لك". فلم يزل يومه ذلك وليله في خِلفَةٍ2 يتقيّأ ذلك السمّ ويعاني آلامه في بطنه، حتّى قُبض عليه السلام.
وقائل: إنّه أنفذ إليه شراب حماض الأترج- شبيه بالليموناضة- وأصرّ على ذلك، فشربها عليه السلام عالماً بفعلهم.
1- أي الهيضة، وهي انطلاق البطن والقيء.
102
76
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
وقال آخرون: إنّ التي سمّته زوجته أمّ الفضل بنت المأمون لمّا قدمت معه من المدينة إلى المعتصم:
فلمّا انصرف أبو جعفر الجواد عليه السلام إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبِّرانِ ويعملانِ الحيلة في قتله، فقال جعفر لأخته أمّ الفضل- وكانت لأمّه وأبيه- في ذلك، لأنّه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أمّ أبي الحسن ابنه عليها مع شدّة محبّتها له، ولأنّها لم تُرزق منه بولد، فأجابت أخاها جعفراً، فرُوي أنّها وضعت السمّ في منديل وأعطته إيّاه فمسح به، ورُوي أنّهم جعلوا سمّاً في شيء من عنب رازقيّ وكان يعجبه العنب الرازقيّ، وقدّمته له، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي. فقال لها: "ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر"، فبُليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، صارت ناصوراً1 ينتقض في كلّ وقت فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتّى احتاجت إلى رِفْد الناس. وتردّى جعفر في بئر فأخرج ميتاً وكان سكرانَ.
ورُوي عن الإمام الرضا عليه السلام ، أنّه قال في حقّ ولده الإمام الجواد عليه السلام: يُقتل غصباً فيبكي له وعليه أهل السماء، ويغضب الله على عدوّه وظالمه فلا يلبث إلّا يسيراً حتّى يعجّل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد..
1- الناصور: علّة تحدث في البدن، بمادة خبيثة ضيّقة الفم يعسر برؤها.
103
77
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
وعلى أيّ حال فقد جرى السمّ في بدن الإمام عليه السلام ، وبقي يتقلّب في فراشه، يعاني حرارة السمّ في يومه وليلته، يتقيّأ ذلك السمّ ويشكو آلام بطنه، حتّى دنا أجله..
يقول الحجّة الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ، قدّس سرّه، في أرجوزته الشهيرة:
هُوَ الْجَوَادُ لَا جَوَادَ غَيْرُهُ لَا خَيْرَ فِيْ الْجَوَادِ إِلَّا خَيْرُهُ
جَادَ بِنَفْسِهِ سَمِيْماً ظَامِيَا نَالَ مِنَ الْجُوْدِ مَقَاماً سَامِيَا
وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَىْ الَّتِيْ لَا تَنْفَصِمُ تَقَطَّعَتْ ظُلْماً بِسُمِّ الْمُعْتَصِمِ
قَضَىْ شَهِيْداً وَهْوَ فِيْ شَبَابِهِ دُسَّ إِلَيْهِ السُّمَّ فِيْ شَرَابِهِ
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ بِالْبُكَاءِ عَلَىْ عِمَادِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ
قَضَىْ بَعِيْدَ الدَّارِ عَنْ بِلَادِهِ وَعَنْ عِيَالِهِ وَعَنْ أَوْلَادِهِ
تَعْساً وَبُؤْساً لِابْنَةِ الْمَأْمُوْنِ مِنْ غَدْرِهَا لِحِقْدِهَا الْمَكْنُوْنِ!
وَيْلٌ لَهَا مِمَّا جَنَتْ يَدَاهَا وَفِيْ شَقَاهَا تَبِعَتْ أَبَاهَا
ورُوي عنه عليه السلام ، أنّه قال في العشيّة التي توفّي فيها: "إنّي ميّت الليلة"، ثمّ قال: "نحن معشر إذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نَقَلَنا إليه".
ويقال إنّ الإمام لمّا تناول السمّ تقطّعت أمعاؤه وأخذ يتقلّب على الأرض يميناً وشمالاً من شدّة الألم، ويجود بنفسه والتهب قلبه عطشاً- فقد كان الوقت شديد الحرّ والسمّ يغلي في جوف الإنسان- فطلب جرعة من الماء، والتفت إلى تلك اللعينة قائلاً: ويلك إذا قتلتِني فاسقيني شربة من الماء، فكان جوابها له أن أغلقت الباب
104
78
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
ثمّ خرجت من الدار، فبقي الإمام يوماً وليلة يعالج ألم السمّ.. ولا يجد أحداً يسقيه شربة من الماء..
ماحّد حضر عنده يا زهرة من الاحباب
وحده يلوج ابحجرته مغلوقة الباب
والجسم متورم من السم والقلب ذاب
ماحّد حضر عنده اوسقاه قطرة اميّه
ولمّا بلغت روحه التراقي صعد سطح الدار، ورمق السماء بطرفه، وتشهّد الشهادتين، وغمّض عينيه، وأسبل يديه ورجليه، وعرق جبينه، وسكن أنينه، وفارقت روحه الدنيا..
وا إماماه.. وا سيّداه.. واجواداه.. وا غريباه.. وا مظلوماه.. وا مسموماه..
قالوا: وبقي جسد الإمام ثلاثة أيّام على سطح الدار..
ظل ثلت تيام مرمي ولا
قرابة الحضر عنده
ايغسله اوجسمه يشيله
وبيده ايواريه ابلحده
بالشمس مطروح جسمه
مثل ابو السجاد جده
ولمّا علم الشيعة بقتله، قامت الواعية في داره، وعلا الضجيج والبكاء والعويل وصاروا ينادون: وا إماماه، وا سيّداه، وا محمّداه،
105
79
مجلس شهادة الإمام الجواد عليه السلام
وا كفيل اليتامى والمساكين..
ثمّ جاء الإمام الهادي من حيث يخفى على الناس أمره فغسّل أباه وكفّنه وصلّى عليه. ويقال إنّه رثاه قائلاً: وا أبتاه، آه، وا وحدتاه، وا قلّة ناصراه، وا انقطاع ظهراه، ليتني كنت لك الفداء، يا أبتاه من بعدك وا وحشتاه، فراقك قد أعمى عيني، وهيّج حزني، وقطّع نياط قلبي، يا أبتاه اقرأ آباءك عنّي السلام، وأخبرهم بما نحن فيه من الهوان..
ثمّ حملوا الإمام وشيّعوه ودفنوه عند جدّه الإمام الكاظم عليه السلام..
أيّها الموالي: رغم عظم تلك المصيبة على إمامنا الجواد عليه السلام ، لكن بقي جسده سالماً، رأسه على جسده، لم يرفع على رأس الرمح، لم تطأ جسده الخيل بحوافرها.. وقد غُسِّل وشُيِّع ودُفن بعد ذلك..
لكن أسفي على غريب كربلاء..أسفي عليك أبا عبد الله..
لَهَفِيْ عَلَىْ الصَّدْرِ الْمُعَظَّمِ يَشْتَكِيْ مِنْ بَعْدِ رَشْقِ النَّبْلِ، رَضَّ جِيَادِ
لَهَفِيْ لِرَأْسِكَ وَهْوَ يُرْفَعُ مُشْرِقاً كَالْبَدْرِ فَوْقَ الذَّابِلِ الْمَيَّادِ
* * *
106
80
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
طُوْلَ الْمَدَىْ لَا يَنْقَضِيْ تَعْدَادِيْ وَالدَّمْعُ فِيْ الْخَدَّيْنِ مِنِّيْ بَادِيْ
وَجْدِيْ يَزِيْدُ وَمُهْجَتِيْ مَسْعُوْرَةٌ وَتَشُبُّ نِيْرَانُ الْجَوَىْ بِفُؤَادِيْ
وَاللَّيْلُ قَدْ أَمْسَىْ مَسَاهُ تَرَاكَمَتْ سُحْبُ الْهُمُوْمِ عَلَيَّ كَالْأَطْوَادِ
وَأَنَا مِنَ الْوَجْدِ الْمُلِحِّ مُنَغَّصٌ أَبْكِيْ كَمَا يَبْكِيْ الْحَمَامُ الشَّادِي
وَمُرِيْعَةٍ هَجَمَتْ عَلَيَّ بِلَوْمِهَا بِاللَّوْمِ تَلْحُوْنِيْ هُجُوْمَ عَوَادِي
تَدْعُوْ أَلَا خَفِّضْ عَلَيْكَ فَمَا الَّذِيْ يَدْعُوْكَ لِلْأَحْزَانِ وَالْإِنْشَادِ
هَلْ أَنْتَ تَبْكِيْ مِنْ دِيَارٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَتَصَرَّحَتْ كَالْوَادِي؟
أَوْ أَنْتَ تَبْكِيْ لِلْأَحِبَّةِ إِذْ هُمُ شَطَّ الْمَزَارُ بِهِمْ عَلَىْ الْإِبْعَادِ؟
أَوْ لِلزَّمَانِ الْحُلْوِ قَدْ فَارَقْتَهُ وَبِهِ نَعِمْتَ الْعَيْشَ بِالْأَرْغَادِ؟
أَمْ لِلشَّبَابِ وَقَدْ تَوَلَّىْ وَانْثَنَىْ جَيْشُ الْمَشِيْبِ عَلَيْكَ قَهْراً عَادِي؟
فَأَجَبْتُهَا: كَلَّا فَمَا كُلُّ الَّذِيْ خِلْتِيْهِ يَحْدُوْنِيْ عَلَىْ التَّعْدَادِ
لَكِنْ شَجَا قَلْبِيْ وَأَجْرَىْ مَدْمَعِيْ مَا قَدْ أُصِيْبَ بِهِ عَلِيُّ الْهَادِي
مِنْ مِحْنَةٍ وَإِلَىْ أَشَدَّ، حَدَا بِهِ كَيْدُ الْعَدُوِّ وَنِقْمَةُ الْحُسَّادِ
جَلَبُوْهُ عَنْ أَكْنَافِ طِيْبَةَ قَسْرَةً فَبَقَىْ يُعَانِيْ حَسْرَةَ الْإِبْعَادِ
وَيُسَامُ مِنْهُمْ بِالْهَوَانِ عَدَاوَةً وَهْوَ التَّقِيُّ وَقُدْوَةُ الْأَمْجَادِ1
1- القصيدة للشيخ حسن القيسيّ البحرانيّ.
109
81
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
شعبي:
غمض اعيونه ومات بديار غريبه
والحسن هاجت حسرته وعالي نحيبه
وسجاه بالحجره وطلع مشقوق جيبه
وتجري ادموعه ويصفق اشماله ابيمينه
وبيده الطاهرة غسله والقلب صادي
وبالكفن لفه وبالنعش خلو الهادي
وضجت اعياله بالبكا وصاح المنادي
يالغرب قوموا شيعوا جنازة ولينه
أبوذيّة:
إلك بيت الحزن مولاي ينشاد
وعلى امصابك حمام النوح ينشاد
جرحك بالقلب ما أظن ينشاد
وقطع كبدتك سم المنية
110
82
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
"أللهمّ صلِّ على عليّ بن محمّد، إمام المسلمين، ووالِ من والاه، وعاد من عاداه، وضاعف العذاب على من ظلمه".
كان سبب شخوص أبي الحسن عليه السلام إلى سُرَّ من رأى: أنّ عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحرب والصلاة في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فسعى بأبي الحسن عليه السلام إلى المتوكّل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد ويكذّبه فيما سعى به، فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول..
فلمّا وصل الكتاب إلى أبي الحسن عليه السلام تجهّز للرحيل..
وعن يحيى بن هرثمة قال: وجّهني المتوكّل إلى المدينة لإشخاص عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عليه السلام لشيء بلغه عنه، فلمّا صرت إليها ضجّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله، فجعلت أسكّنهم وأحلف أنّي لم أؤمر فيه بمكروه، وفتّشت منزله، فلم أصب فيه إلّا مصاحف ودعاء وما أشبه ذلك، فأشخصته وتولّيت خدمته، وأحسنت عشرته.
.. وخرج معه يحيى بن هرثمة حتّى وصل إلى سرّ من رأى، فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكّل بأن يُحجب عنه في يومه، فنزل في خان يُعرف بخان الصعاليك..
عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام فقلت: جُعلت فداك في كلّ الأمور، أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتّى
111
83
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال: ها هنا أنت يا بن سعيد؟ ثمّ أومأ بيده (وكشف له عن بصره) فقال: انظر، فنظرت، فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهنّ خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللؤلؤ المكنون، وأطيار، وظباء، وأنهار تفور، فحار بصري والتمع وحسِرَتْ عيني، فقال: حيث كنّا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك!..
ثمّ تقدّم المتوكّل بإفراد دارٍ له فانتقل إليها..
وأقام أبو الحسن عليه السلام بسرّ من رأى مكرّماً في ظاهر حاله، يجتهد المتوكّل في إيقاع حيلة به، فلا يتمكّن من ذلك..
ففي إحدى المرّات سُعي إليه أنّ في منزل الإمام الهادي عليه السلام كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قمّ، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلقٍ عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن. فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل.
فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده فقال عليه السلام: والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال عليه السلام: إنّي قليل
112
84
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
الرواية للشعر، فقال: لا بدّ، فأنشده عليه السلام وهو جالس عنده:
بَاتُوْا عَلَىْ قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْقُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوْا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ وَأُسْكِنُوْا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوْا!
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمْ أَيْنَ الْأَسَاوِرُ وَالتِّيْجَانُ وَالْحُلَلُ؟
أَيْنَ الْوُجُوْهُ الَّتِيْ كَانَتْ مُنَعَّمَةً مِنْ دُوْنِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِيْنَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الْوُجُوْهُ عَلَيْهَا الدُّوْدُ تَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوْا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوْا وَأَصْبَحُوْا الْيَوْمَ بَعْدَ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوْا
قال: فبكى المتوكّل حتّى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، وقال: فضرب المتوكّل بالكأس الأرض وتنغّص عيشه في ذلك اليوم.. ثمّ ردّ الإمام عليه السلام إلى منزله مكرّماً.
وفي بعض الروايات أنّ المتوكّل كان يمنع الناس من الدخول إلى عليّ بن محمّد عليهما السلام ، وكان الشيعة يجلسون خلف داره ينتظرون انصرافه لينظروا إليه ويسلّموا عليه..
وروي: أنّه لمّا كان في يوم الفطر- في السنة التي قُتل فيها المتوكّل- أمر المتوكّل بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل أبو الحسن عليه السلام. فترجّل بنو هاشم، وترجّل أبو الحسن عليه السلام ، واتّكأ على رجل من مواليه، فأقبل عليه الهاشميّون، وقالوا: يا سيّدنا، ما في هذا العالم أحد يُستجاب دعاؤه ويكفينا الله به تَعَزُّزَ هذا؟! قال لهم أبو الحسن عليه السلام: في هذا العالم مَنْ قُلامةُ ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود، لمّا
113
85
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
عُقرت الناقة صاحَ الفصيل إلى الله تعالى، فقال الله سبحانه: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾1 فقتل المتوكّل يوم الثالث..
وبعد هلاك المتوكّل الذي جرّع الإمام الغصص طيلة أربعة عشر عاماً، عاش الإمام بقيّة عمره مع بقيّة الحكّام الظَّلَمة الآخرين غريباً عن مدينة جدّه، ملازماً بيته، كاظماً غيظه، صابراً على ما مسّه من الأذى، إلى أن دَسَّ إليه المعتزّ (وقيل المعتمد) السمّ، فاعتلّ منه الإمام عليه السلام علّة كانت فيها وفاته..
فأحضر ابنه أبا محمّد الحسن عليه السلام ، وأعطاه مواريث الأنبياء والسلاح، ونصّ عليه وأوصى إليه بمشهد ثقاتٍ من أصحابه.
وأرسل لرجلين من أصحابه في ليلته: أنا راحل إلى الله في هذه الليلة، فأقيما مكانكما حتّى يأتيكما أمر ابني أبي محمّد عليه السلام..
عن أبي الهاشم الجعفريّ أنّه قال فيه وقد اعتلّ:
مَادَتِ الْأَرْضُ بِيْ وَأَدَّتْ فُؤَادِيْ وَاعْتَرَتْنِيْ مَوَارِدُ الْعُرَوَاءِ
حِيْنَ قِيْلَ: الْإِمَامُ نِضْوٌ عَلِيْلٌ قُلْتُ: نَفْسِيْ فَدَتْهُ كُلَّ الْفِدَاءِ
مَرِضَ الدِّيْنُ لِاعْتِلَالِكَ وَاعْتَلَّ وَغَارَتْ لَهُ نُجُوْمُ السَّمَاءِ
عَجَباً إِنْ مُنِيْتَ بِالدَّاءِ وَالسُّقْمِ وَأَنْتَ الْإِمَامُ حَسْمُ الدَّاءِ
إلى أن دنا أجله، وعرق جبينه، وسكن أنينه، وفاضت روحه الطاهرة..
رحم الله من نادى: وا إماماه..وا غريباه.. وا مظلوماه..
1- سورة هود الآية 65.
114
86
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
سم البقلبك يا عزيزي فت قلبي
بعدك يوالينه عسى ما شوف دربي
ما ينقضي نوحي على مصابك ونحبي
تقضي بغربة وموحشة تبقى المدينه
غمّض عيونه ومات بديار غريبه
والحسن هاجت حسرته وعالي نحيبه
وسجّاه بحجره وطلع مشقوق جيبه
وتجري ادموعه ويصفق اشماله ابيمينه
ولمّا توفّي اجتمع في داره جملة بني هاشم من الطالبيّين والعبّاسيّين، واجتمع خلق كثير من الشيعة، ثمّ فتح من مصدر الرواق باب وخرج خادم أسود، ثمّ خرج بعده أبو محمّد الحسن العسكريّ حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب، وكان وجهه وجه أبيه لا يخطئ منه شيئاً..
سقاه السم يويلي اومرد كبده
اولا راقب الباري اوهاب جدّه
ظل ابنه الحسن يبكي اعلى فقده
شيفيد النوح لو يجري الدمع دم
وأُخرجت الجنازة وخرج يمشي حتّى خرج بها إلى الشارع وكان أبو محمّد العسكريّ قد صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس.. ثمّ دُفن في دار من دوره وصاحت سُرَّ مَنْ رأى يوم موته صيحة واحدة..
115
87
مجلس شهادة الإمام الهادي عليه السلام
َسُمع في جنازته جارية تقول: ماذا لقينا في يوم الاثنين قديماً وحديثاً..
أيّها الموالي، نعم يوم الاثنين هو يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الروايات، وقد حلّت بأهل البيت بوفاته ورحيله أعظم المصائب، وصاروا يذكرونه في مناسبات مختلفة، ولذا يروي السيّد ابن طاووس أنّهم لمّا مرّوا ببنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مصرع الحسين عليه السلام ، ونظرت النسوة إليه صحن وضربن وجوههن، وأخذت زينب عليها السلام تندب أخاها الحسين عليه السلام بصوت حزين وقلب كئيب: وفي بعض الروايات أنّها قالت: يا محمّداه، بناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي مَنْ عسكرُه في يوم الاثنين نهبٌ، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى، بأبي من لا هو غائب فيُرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء..
يجدي مات محّد وقف دونه
ولا نغَّار غمضله اعيونه
يعالج بالشمس منخطف لونه
ولا واحد بحلقه ماي قطّر
يَا لَيْتَ فِيْ الْأَحْيَاءِ شَخْصَكَ حَاضِرٌ وَحُسَيْنُ مَطْرُوْحٌ بِعَرْصَةِ كَرْبَلَا
عَرْيَانُ يَكْسُوْهُ الصَّعِيْدُ مَلَابِساً أَفْدِيْهِ مَسْلُوْبَ اللِّبَاسِ مُسَرْبَلَا
* * *
116
88
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
أَيَا صَفْوَةَ الْهَادِيْ وَيَا مُحْيِيَ الْهُدَىْ وَمُحْكِمَ دِيْنِ الْمُصْطَفَىْ وَهْوَ دَارِسُ
لَمَّا مَضَىْ الْهَادِيْ أَرَيْتَ مَعَاجِزاً بِهَا أُرْغِمَتْ مِنْ شَانِئِيْكَ الْمَعَاطِسُ
بِنَفْسِيَ مَنْ نَالَتْ بِهِ سُرَّ مَنْ رَأَى فَخَارَاً لَه تَعْنُو النُّجُوْمُ الكَوَانِسُ
بِنَفْسِيَ مَنْ أَبْكَىْ النَّبِيَّ مُصَابُهُ وَأَظْلَمَ فِيْهِ دِيْنُهُ وَهْوَ شَامِسُ
بِنَفْسِيَ مَحْبُوْساً عَلَىْ حَبْسِ حَقِّهِ مَضَىْ وَعَلَيْهِ الْمَكْرُمَاتُ حَبَائِسُ
بِنَفْسِيَ مَنْ فِيْ كُلِّ يَوْمٍ تَسُوْمُهُ هَوَاناً بَنُوْ الْعَبَّاسِ وَهْيَ عَوَابِسُ
بِنَفْسِيَ مَسْمُوْماً تَشَفَّتْ بِهِ الْعِدَىْ قَضَىْ وَبِهَا لَمْ تُشْفَ مِنْهُ النَّسَائِسُ
بِنَفْسِيَ مَكْرُوْباً قَضَىْ بَعْدَ سَمِّهِ بَكَاهُ الْمُوَالِيْ وَالْعَدُوُّ الْمُشَاكِسُ
فَلَا كَانَ يَوْمُ الْعَسْكَرِيِّ فَإِنَّهُ لَيَوْمٌ عَلَىْ الدِّيْنِ الْحَنِيْفِيِّ نَاحِسُ
حَكَىْ جَدَّهُ عُمْراً وسُمّاً وَغُرْبَةً وَمَارَسَ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا يُمَارِسُ1
1- القصيدة للسيّد صالح النجفيّ المعروف بالقزوينيّ رحمه الله.
119
89
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
شعبي:
على أبو محمّد يويلي تراكم الهم
عقب ما كبد أبوه انمرد بالسم
عليه المعتمد كل يوم يشتد
يويلي وظلّ يجور على أبو محمّد
سقاه السم لمن كبده تمرَّد
ولا راقب الباري ولا تندم
أبوذيّة:
وحق العسكري ووالده وسمهم
علامة بكل قلب يضوي وسمهم
حيف اتجاسر الظالم وسمهم
ابذاك السجن واندفنوا سويّه
120
90
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
لقد تعرّض هذا الإمام العظيم لمحنٍ كثيرة:
1- السجن:
وقد كان حاله فيه كحال جدّه الإمام الكاظم عليه السلام ، فعن عليّ بن عبد الغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد عليه السلام ، فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين.
وعن المحموديّ قال: رأيت خطّ أبي محمّد لمّا أخرج من حبس المعتمد: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾1.
2- محاولة القتل والاغتيال:
وقد وقع ذلك في مواضع عديدة:
منها: أنّه سلّم أبو محمّد عليه السلام إلى نحرير2 فكان يضيّق عليه ويؤذيه، قال: فقالت له امرأته: ويلك اتق الله، لا تدري
1- سورة الصف الآية 8.
2- هو خادم من خدم الخليفة وكان راعيَ سباع الخليفة وكلابه، ومن خواصّه، وكان شقيّاً من الأشقياء، والنحرير: الحاذق الفطن.
121
91
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
من في منزلك؟! وعرَّفته صلاحه وقالت: إنّي أخاف عليك منه، فقال: لأرمينّه بين السباع، ثمّ فعل ذلك به، فرُئي عليه السلام قائماً يصلّي وهي حوله.
ومنها: ما عن أحمد بن الحارث القزوينيّ قال: كنت مع أبي بسرّ من رأى، وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمّد، قال: وكان عند المستعين بغل لم يُرَ مثله حسناً وكبراً، وكان يمنع ظهره واللجام والسرج، وقد كان جمع عليه الراضة1، فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه، قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين، ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتّى يجيء، فإمّا أن يركبه، وإمّا أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمّد ومضى معه أبي، فقال أبي: لمّا دخل أبو محمّد الدار كنت معه، فنظر أبو محمّد إلى البغل واقفاً في صحن الدار. فعدل إليه فوضع بيده على كفله، قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتّى سال العرق منه، ثمّ صار إلى المستعين، فسلّم عليه فرحّب به وقرب، فقال: يا أبا محمّد ألجم هذا البغل، فقال أبو محمّد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع طيلسانه، ثمّ قام فألجمه، ثمّ رجع إلى مجلسه وقعد، فقال له: يا أبا محمّد أسرجه، فقال لأبي: يا غلام أسرجه، فقال: أسرجه أنت، فقام ثانية فأسرجه ورجع، فقال له: ترى أن تركبه؟ فقال: نعم، فركبه من غير أن يمتنع عليه ثمّ ركّضه في الدار، ثمّ حمله على الهملجة2 فمشى أحسن مشي يكون، ثمّ رجع
1- جمع رائض، أي الذي يتولّى تربية المواشي.
2- نوع من المشي.
122
92
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
ونزل، فقال له المستعين: يا أبا محمّد كيف رأيته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسناً وفراهةً وما يصلح أن يكون مثله إلّا لأمير المؤمنين، قال: فقال: يا أبا محمّد فإنّ أمير المؤمنين قد حملك عليه، فقال أبو محمّد لأبي: يا غلام خذه، فأخذه أبي فقاده.
ومنها: أنّه لمّا همّ المستعين في أمر أبي محمّد (العسكريّ) عليه السلام بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة، و أن يحدث عليه في الطريق حادثة انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم، وكان بعد مضيّ أبي الحسن (الهادي) عليه السلام بأقلّ من خمس سنين. فكتب إليه محمّد بن عبد الله والهيثم بن سيّابة: بَلَغنا -جَعَلَنا الله فداك- خبرٌ أقلقنا وغمّنا، وبلغ منّا، فوقَّع: بعد ثلاث يأتيكم الفرج، قال: فخُلع المستعين في اليوم الثالث، وقعد المعتزّ، وكان كما قال1.
3- الشهادة:
إلى أن جاء المعتمد العبّاسيّ، ودسّ للإمام عليه السلام السمّ، وصار الإمام جليس الدار وطريح الفراش.. ثمانية أيّام.. يعاني الآلام والأوجاع من أثر السمّ..
ولمّا اعتلّ بعثوا إلى الخليفة أنّ ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من دار الخلافة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته.. وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ عليهما السلام وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده
1- وروي مثله مع المعتزّ أيضاً والله العالم.
123
93
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
صباحاً ومساءً. فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب إليه بعض أصحاب الخليفة وأمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي عليه السلام..
قال إسماعيل بن عليّ: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد- وكان الخادم أسود نوبيّاً قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربيّ الحسن عليه السلام - فقال (له): يا عقيد إغل لي ماء بمصطكي1، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف عليه السلام. فلمّا صار القدح في يديه وهم بشربه فجعلت يده ترتعد حتّى ضرب القدح ثنايا الحسن عليه السلام ، فتركه من يده، وقال لعقيد: أدخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به. قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبيّ ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت: إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام.
قال أبو سهل: فلمّا مَثُلَ الصبيّ بين يديه سلّم، وإذا هو دُرّيّ اللون،
1- المصطكي: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ويستخرج منه صمغ يعلك، وهو دواء.
124
94
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمّا رآه الحسن عليه السلام بكى وقال: يا سيّد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصبيّ القدح المغليّ بالمصطكي بيده ثمّ حرّك شفتيه ثمّ سقاه، فلمّا شربه قال: هيّئوني للصلاة، فطُرح في حجره منديل فوضّأه الصبيّ واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه. فقال له أبو محمّد عليه السلام: أبشر يا بنيّ، فأنت صاحب الزمان، وأنت المهديّ، وأنت حجّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي وأنا ولدتك... ولَدَك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنت خاتم (الأوصياء) الأئمّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمَّاك وكنَّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت، ربّنا إنّه حميد مجيد.
قالوا: ثمّ أخذ ولده الحجّة|، وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ويبكي، ويوصيه بوصاياه وسلّمه ودائع الإمامة، ثمّ سكن أنينه، وعرق جبينه، وغمّض عينيه، ومدّ يديه ورجليه، وفاضت روحه الطاهرة..
رحم الله من نادى: وا إماماه.. وا سيّداه.. وا مظلوماه..
بعد ما ودّع ابنه ابقلب مجروح
تشاهد ويل قلبي وطلعت الروح
ثار صياح أهل بيته وعلا النوح
تنادي مات أويلي الحسن بالسم
وقام الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه بتجهيز أبيه الإمام العسكريّ عليه السلام ، ولمّا وضع الإمام في نعشه مكفّناً تقدّم جعفر بن
125
95
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
عليّ ليصلّي على أخيه، يقول الراوي: فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر، وقد أربدّ وجهه واصفرّ. فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودُفن إلى جانب قبر أبيه عليهما السلام..
ولمّا مضى الإمام عليه السلام صارت سُرَّ مَنْ رأى ضجّة واحدة- مات ابن الرضا- وبعث السلطان إلى داره من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حمل فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها "نحرير" الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس إلى جنازته عليه السلام ، فكانت سُرَّ مَنْ رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة..
اجت الناس تتراكض ابدهشه
لگوا دار العلوم اشلون وحشه
بكوا عالباب لمّن طلع نعشه
تلقوه ابلطم يدمي الخدين
وعن الرضا عليه السلام أنّه قال: لا بدّ من فتنة صمّاء صيلم يسقط فيها كلّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حرّى وحرّان، وكلّ حزين لهفان..
126
96
مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
سارت بالنعش تبكي حواليه
لما دفنوه ردوا للعزا اعليه
بس احسين ما واحد وصل ليه
ثلث تيام عاري ابغير تكفين
لهفي عليك سيّدي أبا عبد الله! من الذي غسّلك وكفّنك وشيّعك؟!
مَا غَسَّلُوْهُ وَلَا لَفُّوْهُ فِيْ كَفَنٍ يَوْمَ الطُّفُوْفِ وَلَا مَدُّوْا عَلَيْهِ رِدَا
* * *
127
97
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
أَللهَ يَا حَامِيْ الشَّرِيْعَهْ أَتَقَرُّ وَهْيَ كَذَا مَرُوْعَهْ
بِكَ تَسْتَغِيْثُ وَقَلْبُهَا لَكَ عَنْ جَوىً يَشْكُوْ صُدُوْعَهُ
مَاتَ التَّصَبُّرُ فِيْ انْتِظَا رِكَ أَيُّهَا الْمُحْيِي الشَّرِيْعَهْ
فَانْهَضْ فَمَا أَبْقَى التَّحَـ ـمُّلُ غَيْرَ أَحْشَاءٍ جَزُوْعَهْ
قَدْ مَزَّقَتْ ثَوْبَ الْأَسَى وَشَكَتْ لِوَاصِلِهَا الْقَطِيْعَهْ
كَمْ ذَا الْقُعُوْدُ وَدِيْنُكُمْ هُدِمَتْ قَوَاعِدُهُ الرَّفِيْعَهْ
تَنْعَىْ الْفُرُوْعُ أُصُوْلَهُ وُأُصُوْلُهُ تَنْعَىْ فُرُوْعَهْ
فَاشْحَذْ شَبَا عَزْمٍ لَهُ الْـ ـأَرْوَاحُ مُذْعِنُةٌ مُطِيْعَهْ
وَاطْلُبْ بِهِ بِدَمِ الْقَتِيْـ ـلِ بِكَرْبَلَا فِيْ خَيْرِ شِيْعَهْ
مَاذَا يَهِيْجُكَ إِنْ صَبَرْ تَ لِوَقْعَةِ الطَّفِّ الْفَظِيْعَهْ؟
أَتُرَىْ تَجِيْءُ فَجِيْعَةٌ بِأَمَضَّ مِنْ تِلْكَ الْفَجِيْعَهْ؟
حَيْثُ الْحُسَيْنُ عَلَىْ الثَّرَىْ خَيْلُ الْعِدَىْ طَحَنَتْ ضُلُوْعَهْ
قَتَلَتْهُ آلُ أُمَيَّةٍ ظَامٍ إَلَىْ جَنْبِ الشَّرِيْعَهْ
وَرَضِيْعُهُ بِدَمِ الْوَرِيْـ ـدِ مُخَضَّبٌ فَاطْلُبْ رَضِيْعَهْ1
1- القصيدة للسيّد حيدر الحلّي رحمه الله.
131
98
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
شعبي:
اشلون حالك من تصل وادي الطفوف
وللمصارع ذيك بعيونك تشوف
اوشفت عباس مقطوع الكفوف
اوحاله يالمهدي يذوّب مهجتك
عمك العباس يا راعي الشيم
على النهر مطروح وبعينه السهم
اكفوفه يمّه امقطعه او يمّه العلم
والعمود ابراس ابو فاضل فتك
هاي صورة اتشوفها او صورة بعد
أكثر او أكثر يبو صالح واشد
فوق صدر حسين طفل البالمهد
اتشوفه مذبوح او يزوّد ونتك
واليزيدك سيدي اهموم وقهر
من تشوف حسين مقطوع النحر
اوجالت الخيل اعلى صدره والظهر
هالمصيبة اعليها تسكب دمعتك
والمصيبة المنها يلتاع القلب
من مشت زينب أسيرة ويّه الغرب
ريت كون اتشوفها بذاك الدرب
ابولية العدوان راحت عمتك
132
99
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
أبوذيّة:
راعي الثار ما يظهر علامه
وينشر للدنا نوره علامه
درى بمتون عماته علامه
بضرب سياط زجر وجور اميّه
الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف ، هو الحامل لمصائب آبائه وأجداده، وخصوصاً مصيبة الإمام الحسين عليه السلام ، فهو المنتقم له والطالب بثاره.
ففي الكافي بسنده عن محمّد بن حمران قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لمّا كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان، ضجّت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت: يفعل هذا بالحسين صفيّك وابن نبيّك؟ قال: فأقام الله لهم ظلّ القائم عليه السلام وقال: بهذا أنتقم لهذا.
وعن الباقر عليه السلام في كيفيّة تعزية المؤمنين بعضهم لبعض بمصيبة الحسين عليه السلام ، أنّهم يقولون: "عظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام ، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثاره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي دعاء الندبة: أين الطالب بدم المقتول بكربلاء..
133
100
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
يبو صالح جزاك العتب واللوم
تظل صابر على أخذ الثار لليوم
يا هو المن هلك راح مظلوم
يو مذبوح يو مقتول بالسم
عجب كل العجب منك يمحجوب
ما تنهض تقيم اعليها الحروب
نسيت اللي سبوها اوقطعت ادروب
يو ناسي الضلع لمّن تهشّم
سيّدي يا صاحب الزمان، أنت المعزّى بجدّك الحسين عليه السلام ، والنادب له، والراثي لمصيبته.. استمع أيّها الموالي لإمام زمانك كيف يخاطب جدّه الحسين عليه السلام ، فيما يُروى عنه، في زيارة الناحية المقدّسة:
"..السلام على الشيب الخضيب، السلام على الخدّ التريب، السلام على البدن السليب، السلام على الثغر المقروع بالقضيب..".
"السلام عليك، سلام العارف بحرمتك، المخلص في ولايتك، المتقرّب إلى الله بمحبّتك، البريء من أعدائك، سلام من قلبه بمصابك مقروح، ودمعه عند ذكرك مسفوح، سلام المفجوع المحزون، الواله المستكين.
134
101
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
سلام من لو كان معك بالطفوف لوقاك بنفسه حدّ السيوف، وبذل حشاشته دونك للحتوف، وجاهد بين يديك، ونصرك على من بغى عليك، وفداك بروحه وجسده، وماله وولده، وروحه لروحك فداء، وأهله لأهلك وقاء.
فلئن أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكيّن عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتّى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتياب..".
ثمّ يصف ما جرى عليه ويقرأ مصيبته:
"..فلمّا رأوك ثابت الجأش، غير خائف ولا خاش، نصبوا لك غوائل مكرهم، وقاتلوك بكيدهم وشرّهم، وأمر اللعين جنوده، فمنعوك الماء ووروده، وناجزوك القتال، وعاجلوك النزال، ورشقوك بالسهام والنبال، وبسطوا إليك أكفّ الاصطلام، ولم يرعوا لك ذماماً، ولا راقبوا فيك آثاماً، في قتلهم أولياءك، ونهبهم رحالك، أنت مقدّم في الهبوات، ومُحتمِل للأذيّات، وقد عجبَتْ من صبرك ملائكة السماوات.
وأحدقوا بك من كلّ الجهات، وأثخنوك بالجراح، وحالوا بينك وبين الرَّواح، ولم يبق لك ناصر، وأنت محتسب صابر، تذبّ عن نسوتك وأولادك.
135
102
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
حتّى نكّسوك عن جوادك، فهويت إلى الأرض جريحاً، تطؤُك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينك، واختلفَتْ بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفاً خفيّاً إلى رحلك وبيتك، وقد شُغِلْتَ بنفسك عن وُلدك وأهلك، وأسرع فرسك شارداً، وإلى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً.
فلمّا (رأتِ) النساء جوادك مخزيّاً، ونظرن سرجك عليه ملويّاً، برزن من الخدور.. على الخدود لاطمات.. وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذلَّلات، وإلى مصرعك مبادرات، والشمر جالس على صدرك، مولغ سيفه على نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنده، قد سكنت حواسّك، وخفيت أنفاسك، ورُفِع على القنا رأسك..".
هذا حاله في غيبته..
وأمّا حاله عند ظهوره، فقد نُقِل أنّه: إذا ظهر القائم عجل الله فرجه الشريف ، قام بين الركن والمقام وينادي بنداءات خمسة:
الأوّل: ألا يا أهل العالم، أنا الإمام القائم..
الثاني: ألا يا أهل العالم، أنا الصمصام المنتقم..
الثالث: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام ، قتلوه عطشانَ..
الرابع: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام ، طرحوه عريانَ..
.
136
103
مجلس استنهاض الحجّة عجل الله فرجه الشريف
الخامس: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام ، سحقوه عدواناً..
نعم أيّها الموالي، نادى عمر بن سعد في ذلك اليوم: ألا من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره، فانتدب عشرة أفراس، وداسوا بحوافر خيولهم صدر الحسين الحسين عليه السلام وظهره، حتّى طحنوا أضلاعه وألصقوه بالأرض..
وا حسيناه.. وا إماماه..
نادى بن سعد يا خيلنا وين
من يركب يرض ضلوع لحسين
يرض صدره والظهر زين
ويرض الباقي لعظامه ويسدر
وَأَيُّ ذَبِيْحٍ دَاسَتِ الْخَيْلُ صَدْرَهُ وَفُرْسَانُهَا مِنْ ذِكْرِهِ تَتَجَمَّدُ!
أَلَمْ تَكُ تَدْرِيْ أَنَّ رُوْحَ مُحَمَّدٍ كَقُرْآنِهِ فِيْ سِبْطِهِ مُتَجَسِّدُ؟!
* * *
137
104