صادق العترة شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-06

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى عترته وأهل بيته المظلومين المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
 
هو الإمام الصادق عليه السلام، أحد أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وإليه ينتسب المذهب الإماميّ الاثني عشري، الذي عرف بالمذهب الجعفريّ الذي كان رئيسه.
 
يقول الإمام روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره الشريف في وصيّته السياسيّة الإلهيّة: "و(نحن) نفخر بأنّ مذهبنا جعفريّ وأنّ فقهنا- وهو البحر اللامتناهي- واحد من آثاره عليه السلام"1
 
لقد تسنّى للإمام الصادق عليه السلام في عصره ما لم تسمح به الفرصة لغيره من الأئمّة عليهم السلام، فقام بدور رائد وفريدٍ ومتميّز على جميع الأصعدة وفي مختلف الاتجاهات، ممّا يجعل عصره- بحقّ- عصر نهضة في تاريخ هذه الأمّة.
 
يقول الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ رحمه الله: "الإمامة في زمن الإمام الصادقعليه السلام كانت بعثاً جديداً للأهداف والمعارف الإسلاميّة"2.
 
 
 

1- النداء الأخير ص 5.
2- الكلمات القصار لآية الله العظمى السيّد عليّ الحسينيّ الخامنئيّ دام ظله، ص 86.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 وإذا كان من علامة الإمام أنّ الناس يحتاجون إليه ولا يحتاج إلى أحد على - ما جاء في بعض الروايات1-، فإنّك ترى في هذا الإمام العظيم بحراً زاخراً يقف على ساحله آلاف الطلّاب والمتعلّمين رجاء أن يرفدهم بشيء من علمه ومعارفه، فاجتمعوا حوله حلقاً حلقاً، حتّى غص مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهم، ثمّ توزعوا في البلدان والأقطار كلٌ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد صلوات الله عليه!!

 
وإنّ تسمية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له قبل ولادته بالصادق لتشير إلى هذه المهمّة التي قام بها الإمام عليه السلام، ليعيد بصدقه في مقاله، التعاليم الدينيّة إلى معدنها الأصيل بعدما دخل فيها الكثير من الغث والسمين، واختلط الحقّ بالباطل..
 
ومن الطبيعيّ أن توكل هذه المهمّة إلى شخصيّة كالصادق عليه السلام، فهو من أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرحمة، وخزّان العلم، ومنتهى الحلم، وأصول الكرم، وقادة الأمم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الإيمان، وأمناء الرحمن، وسلالة النبيّين، وصفوة المرسلين، وعترة خيرة ربّ العالمين..
 
ويا ليت المسلمين في عصرنا هذا يعرفون قيمة هذا الإمام العظيم- وهو ممّن لا يوفى حقّه- ولو بالمقدار الذي نطقت به كلمات أهل عصره التي أثنت عليه، لاتّخذوه عنواناً جامعاً لوحدة المسلمين 
 
 
 

1- النعمانيّ محمّد بن إبراهيم: كتاب الغيبة ص 249.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 في هذا العصر كما كانت شخصيّته عليه السلام في عصره فكان إمام أئمّة أهل زمانه..

 
وإليك نبذة ممّا قيل في حقّه ممّن عاصره من أهل زمانه:
 
فهذا زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام يقول فيه: في كلّ زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمّد، لا يضلّ من تبعه، ولا يهتدي من خالفه1.
 
وقال مالك بن أنس: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً.
 
وعن عمرو بن المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين2.
 
وسيمرّ عليك في هذا الكتاب القول المشهور لأبي حنيفة: لولا السنتان لهلك النعمان، وقوله: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد.
 
حتّى أنّ ابن أبي العوجاء قال مشيراً إلى الصادق عليه السلام: ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا3.
 
إلى غير ذلك من كلمات منثورة وأقوال مشهورة، يجدها الباحث والقارئ في طيات كتب التراجم ومصادر التاريخ.
 
إلّا أنّ هذا الإمام وبالرغم من المكانة العالية والمنزلة الرفيعة 
 
 
 

1- الصدوق: الأمالي ص 637.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 248- 249.
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 75.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 التي تميّز بها على جميع أهل زمانه، لم يُعط حقّه ولم يبيّن فضله، حاله كحال العترة من أهل البيت عليهم السلام الذين ظلموا وقهروا واضطهدوا وكانت خاتمة أمرهم الشهادة إمّا بالسمّ وإمّا بالقتل.


وهنا تأتي مسؤوليّتنا كمسلمين تجاه أئمّتنا وقادتنا من أهل بيت نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة، وهي أن نقوم بنشر فضائلهم والتأكيد على محبّتهم ومودّتهم، وتعريف الناس بسيرتهم ومظلوميتهم.

هذا الكتاب:

وإنّ من حقّ هذا الإمام علينا ونحن من محبّيه وأتباعه أن نستذكر أحواله وتاريخه وما جرى عليه، ونذكّر الناس بذلك، إحياءً لأمره، وإظهاراً لفضله، علّنا نكون بذلك ممن يحيي أمرهم فلا يموت قلبه يوم تموت القلوب.

ولهذا قام معهد سيّد الشهداء للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "صادق العترة"، ليكون واحداً من الإصدارات التي يصدرها ضمن سلسلة مجالس العترة، ليكون معيناً للإِخوة القرّاء، ومساعداً لهم في المجالس التي يقيمونها في ذكرى هذا الإمام العظيم.

وقد راعى هذا الإصدار الأمور التالية:

1- أدرجنا ثلاث قصائد من الشعر القريض، ليتسنّى للقارئ الكريم اختيار ما يشاء منها.

2- أضفنا للكتاب العديد من الأبيات الشعبيّة الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

4

المقدمة

 3- ذكرنا موجزاً عن حياة الإمام عليه السلام، ولم نستقص كلّ شيء عن حياته المباركة، لئلّا يخرج الكتاب عن حدّ الإيجاز، واتّكالاً منّا على جدارة الإِخوة القرّاء من جهة أخرى.


4- قمنا بتخريج المصادر والمراجع لكلّ ما ورد في المتن، لتسهيل الرجوع إليها لمن أحبّ.

وفي الختام، كلّنا رجاء أن يلقى هذا الكتاب القبول والرضا من إمام زماننا عجّل الله تعالى فرجه، وأن يزوّدنا الإِخوة القرّاء بإرشاداتهم وملاحظاتهم الهامّة والبنّاءة لنصل إلى المستوى اللائق والمقبول..

هذا ونسأله تعالى أن يتقبّل منّا ومن الجميع، وأن يرزقنا شفاعة مولانا الإمام جعفر الصادق عليه السلام، إنّه سميع مجيب.

                                         معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

المقدمة

 القصيدة الأولى: للسيّد محسن الأمين: 


تَبْكِي العُيُونُ بِدَمْعِها المُتَوَرِّدِ             حُزْناً لِثَاوٍ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ

تَبْكِي العُيُونُ دَماً لِفَقْدِ مُبَرَّزٍ             مِنْ آلِ أَحْمَدَ مِثْلُهُ لَمْ يُفْقَدِ

أَيُّ النَّواظِرِ لَا تَفِيضُ دُمُوعُهَا           حُزْناً لِمَأْتَمِ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدِ

لِلصَّادِقِ الصِّدِّيقِ بَحْرِ العِلْمِ مِصْـ       ـبَاحِ الهُدَى وَالعَابِدِ المُتَهَجِّدِ

رُزْءٌ لَهُ أَرْكَانُ دِينِ مُحَمَّدٍ               هُدَّتْ ونَابَ الحُزْنُ قَلْبَ مُحَمَّدِ

رُزْءٌ أَصابَ المُسْلِمِينَ بِذِلَّةٍ              وَهَوَى لَهُ بَيْتُ العُلَى والسُّؤْدُدِ

رُزْءٌ لَهُ تَبْكِي شَرِيعَةُ أَحْمَدٍ             وَتَنُوحُ مُعْوِلَةً بِقَلْبٍ مُكْمَدِ

رُزْءٌ بِقَلْبِ الدِّينِ أَثْبَتَ سَهْمَهُ         وَرَمَى حُشَاشَةَ قَلْبِ كُلِّ مُوَحِّدِ

مَاذا جَنَتْ آلُ الطَّلِيقِ وَمَا الَّذِي      جَرَّتْ عَلَى الإِسْلَامِ مِنْ صُنْعٍ رَدِي؟

كَمْ أَنْزَلَتْ مُرَّ البَلَاءِ بِجَعْفَرٍ          نَجْمِ الهُدَى مَأْمُونِ شِرْعَةِ أَحْمَدِ!

كَمْ قَدْ رَأَى المَنْصُورُ مِنْهُ عَجَائِباً    وَرَأَى الهُدَى لَكِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ!

هَيْهَاتَ مَا المَنْصُورُ مَنْصُورٌ بِمَا     يِأْتِي وَلَا هُوَ لِلْهُدَى بِمُسَدَّدِ

لَمْ يَحْفَظُوا المُخْتَارَ في أَوْلادِهِ      وَسِوَاهُمُ مِنْ أَحْمَدٍ لَمْ يُولَدِ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

6

المقدمة

 أبوذيّة:


على المسموم خلي الدمع ينصاب       وعليه مأتم بكل مكان ينصاب
أبو الكاظم أسف بسموم ينصاب      وغدت بعده حزينه الجعفرية 

شعبي:

على المسموم يا قلبي تفطّر        وذوب من الهضم لجله وتحسّر
تفطّر يا قلب لمصاب جعفر        وانت يا جِفِن هِل دمعتك دم
أبد ما عفا المنصور عنّه            لمّن بالسم تقاضى النذل منّه
گعد عنده وليده وجِذَب ونّه      وسالت دمعِته والدمع عندم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

7

المقدمة

 القصيدة الثانية: للسيّد صالح القزوينيّ رحمه الله:


يَا بُدُوراً قَدْ غَالَهَا الخَسْفُ لَكِنْ         لَمْ تَزَلْ في الهُدَى بُدُوراً تَمَامَا

حَاوَلَتْ نَقْصَها العِدَى فَأَبَى الرَّحْـ     ـمَنُ إِلَّا لِنُورِها الإِتْمَامَا

جَهَدَتْ بِالرَّدَى أُمَيَّةُ حَتَّى اسْـ        تَأْصَلَتْكُمْ سِلْماً وَحَرْباً زُؤَامَا

وَعَلَى مَا جَنَتْ تَجَنَّتْ بَنُو العَـ       ـبَّاسِ ظُلْماً تَجَاوَزَ الأَوْهَامَا

لَمْ يَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ إِمَامٍ          مِنْكُمُ عَاشَ بَيْنَهُمْ مُسْتَضَامَا

مَا كَفَاهَا قَتْلُ الوَصِيِّ وَشِبْلَيْـ       ـهِ وَأَبْنَائِهِمْ إِمَاماً إِمَامَا

فَرَمَتْ جَعْفَراً رَزَايَا أَرَتْنَا            بِأَبِيهِ تِلْكَ الرَّزَايَا الجِسَامَا

فَسَقَاهُ كَأْسَ الرَّدَى يَوْمَ أَهْدَى      له عنباً بغياً سماما

بِأَبِي مِنْ بَنِي النَّبِيِّ إِمَاماً           جَرَّعَتْهُ بَنُو الطَّلِيقِ الحِمَامَا

بِأَبِي مَنْ بَكَى المُعَادِي عَلَيْهِ         وَالمُوَالِي لَهُ بُكَاءَ الأَيَامَى

بِأَبِي مَنْ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ حُزْناً          في السَّمَاواتِ مَأْتَماً قَدْ أَقَامَا

يَا حِمَى الدِّينِ يَوْمُ فَقْدِكَ أَوْرَى     في حَشَى الدِّينِ جَذْوَةً وَضِرَامَا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

8

المقدمة

 أبوذيّة:

 
بالصادق يسمونك وتنصاب        أو مآتم شيعتك تبني وتنصاب
او عليك ادموع تتجاره وتنصاب   او بسمك كل بلد نصبوا عزيّه 


شعبي: 

امصيبة الصادق اشلون امصيبة       الظالم ابكل ويلي يجيبه

عقب ذيك الهضيمة او فوق همّه    رده اليثرب او آمر ابسمّه

            قضى مسموم وابنه ينوح يمّه  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

9

المقدمة

 القصيدة الثالثة: للشيخ جمعة الحاوي البحرانيّ:

 
مُهَجٌ تَذُوبُ وَدَمْعُ عَيْنٍ دَافِقُ              مُذْ مَاتَ بِالسُّمِّ الإِمَامُ الصَّادِقُ
 
وَغَدَتْ مَدِينَةُ جَدِّهِ في عَاصِفٍ             فَلَقَدْ عَرَاهَا مِنْ سَعِيرٍ طَارِقُ
 
قَدْ ضَاقَ رَحْبُ الكَوْنِ يَنْدُبُ جَعْفَراً       إِذْ فَارَقَتْهُ لِلْقُبُورِ حَقَائِقُ
 
قَدْ صَوَّبَ المَنْصُورُ شِيعَتَهُ بِهِ               فَعَلَى الجَمِيعِ مِنَ العَدَاوَةِ حَانِقُ
 
فَلِقَتْلِهِ قَدْ كَانَ يَسْعَى عَامِداً              مَا عَاقَهُ عَنْ سُمِّ جَعْفَرَ عَائِقُ
 
حَتَّى سَقَاهُ سُمَّهُ مِنْ غَدْرِهِ               وَالسُّمُّ لِلْقَلْبِ المُسَمَّمِ خَارِقُ
 
لَعِبَتْ سُمُومُ الظَّالِمِينَ بِقَلْبِهِ            وَالسُّمُّ جُرْحٌ في القَُلُوبِ وفَاتِقُ
 
فَنَعَاهُ نَاعِي المَوْتِ في صَرَخَاتِهِ          فَكَأَنَّمَا هِيَ لِلْقُلُوبِ صَوَاعِقُ
 
وَبَكَاهُ دِينُ اللهِ في أَرْكَانِهِ             فَلَقَدْ دَهَتْهُ في الإِمَامِ بَوَارِقُ
 
خَرَجَتْ تُشَيِّعُهُ بِوَجْدٍ شِيعَةٌ            لَمَّا دَهَتْهَا بِالنِّيَاحِ طَوَارِقُ
 
دَفَنُوهُ في اللَّحْدِ الشَّرِيفِ بِوَجْدِهِمْ      وَإْلَيْهِمُ نَارُ المُصَابِ تُلَاحِقُ
 
وَاحَسْرَتَاهُ لَهُ يَمُوتُ بِغُصَّةٍ             وَإِلَيْهِ يَنْتَقِمُ الإِلَهُ الخَالِقُ(1
 
 
 

1-الحاوي البحراني الشيخ جمعة: ديوان دم الشهادة ص 105-106


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

10

المقدمة

 أبو ذيّة:

 
على الصادق لگيم النوح ولْوَن    انسم وصار مثل النيل ولْوَن

يا حمّال نعشه اتريد ولْوَن        ابعزّه انشيله ولطم لابن الزكية 


شعبي:

يجفن العين هل ادموعك ابدم     على الصادق المات اليوم بالسم

ما أدري الرجس كان اشيطلبه    ابسمّه آمر او لاخاف ربه

أويلي وانمرد كبده وقلبه          انحمس لمن گرّب ليه المحتّم

خلص عمره ابحزن وآلام وهموم   او وگع حيله او غدا ما يگدر يگوم

لمّن مات هذا اليوم مسموم       او ركن الدّين لفراگه تهدّم

ارتجّت بالبكا لجله المدينة         ولا ظل واحد الما بِكت عينه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

11

المقدمة

 وابنه الكاظم اينادي ابونينه         الجرح فرگاك أبد ما يصح بلسم


ابلحده وسّده والقلب مكسور        اونيران الحزن كانونها ايفور

بس احسين جدّه بيوم عاشور       بعد القتل عاري على الترب تم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

12

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 هو الإمام جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، سادس أئمّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

ولادته وشهادته:
ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل سنة 83 للهجرة1 ، في اليوم الذي ولد فيه جدّه النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وقبض في المدينة أيضاً في شهر شوال2 سنة 148 للهجرة3 ، وقيل في النصف من رجب 4، شهيداً مسموماً5 ، ودفن في البقيع إلى
 
 
 

1- أنظر: الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 472، ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 279- 280.
2- والمشهور أنّه في الخامس والعشرين من شوّال، وإن لم يوجد شيء يوثق به يدلّ عليه، قال المحدّث القمّي رحمه الله "ولم يعيّن في الكتب المعتبرة اليوم الذي توفّي فيه من شهر شوّال، نعم قال صاحب جنّات الخلود- المتتبّع الماهر- أنّه توفّي في اليوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر" انتهى. (منتهى الآمال ج 2 ص 243).
3- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 180، الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78، ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280، النيسابوريّ: روضة الواعظين ج 1 ص 212.
4- ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12، النيسابوريّ: روضة الواعظين ج 1 ص 212، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح.
5- الطبريّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 246، ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280، عن أبي جعفر القمّي، المجلسيّ: بحار الأنوار 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح، وص 8 عن الإقبال لابن طاووس في أدعية شهر رمضان: وضاعف العذاب على من شرك في دمه وهو المنصور، ونسبه إلى "قيل" المسعوديّ في مروج الذهب ج 3 ص 313، وكذا ابن الصبّاغ المالكيّ في الفصول المهمّة ج 2 ص 928، إلى غير ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

13

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 جنب أبيه وجدّه وعمّه الإمام الحسن عليهم السلام.

 
أمّا كنيته: فأبو عبد الله، ويكنّى أيضاً بأبي إسماعيل، وأبي موسى.
 
وأمّا ألقابه: فالصادق، والفاضل، والطاهر، والقائم، والكافل، والمنجي1.
 
وكان من أهل العلم الذين سمعوا منه، إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم2.
 
وأشهر ألقابه الصادق، سمّاه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
 
فعن ابن حمزة ثابت بن دينار الثماليّ عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السلام قال: "قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق، فإنّه سيكون في ولده سمي له يدّعي الإمامة بغير حقّها ويسمّى كذّاباً"3.
 
فلا يعبأ بما ورد من أنّ المنصور الدوانيقيّ هو الذي أضفى عليه هذا اللقب4.
 
 
 

1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 281.
2- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 381. وانظر: ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12.
3- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 274. وفي بعض الروايات ما يشير إلى توبته، كما في التوقيع الخارج على السفير محمّد بن عثمان العمريّ في جواب أسئلة سألها إسحاق بن يعقوب: "أمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه السلام" (الصدوق: كمال الدّين وتمام النعمة ص 484). والله العالم.
4- القرشيّ الشيخ باقر: حياة الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 22- 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

14

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 والدته المكرمة:

 
والدته الماجدة الجليلة المكرّمة فاطمة، المكنّاة بأمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حقّها: "كانت أمّي ممّن آمنت واتّقت وأحسنت والله يحبّ المحسنين".
 
وقد كانت من أتقى نساء زمانها، وروت عن عليّ بن الحسين عليهما السلام أحاديث، منها قوله لها: "يا أمّ فروة إنّي لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرّة ، لأنّا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر على ما نعلم من الثواب وهم يصبرون على ما لا يعلمون"1.
 
وعن معروف بن خربوذ- أحد أصحاب الصادق عليه السلام- في حديث له يقول: أخبرني ابن المكرّمة- يعني أبا عبد الله2 عليه السلام .
 
مع أبيه الباقر عليه السلام:
 
عن أبي الصبّاح الكنانيّ قال: نظر أبو جعفر عليه السلام إلى أبي عبد الله عليه السلام يمشي فقال: "ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾3.
 



1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 472.
2- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 472.
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 306.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

15

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 وعن سدير الصيرفيّ قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد، يعرف فيه شبه خَلقه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلقي وخُلُقي وشمائلي، يعني أبا عبد الله عليه السلام"1.

 
وعن رجل يقال له طاهر قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فأقبل جعفر عليه السلام فقال أبو جعفر عليه السلام: "هذا خير البريّة أو أخير"2.
 
فضائله ومناقبه وبعض أحواله
 
وفضائله صلوات الله عليه أكثر من أن تحصى وتذكر وفوق أن تعدّ وتحصر:
 
فعن جوده وكرمه وإنفاقه قالوا: كان جعفر بن محمّد يطعم حتّى لا يبقى لعياله شيء3 .
 
وعن هشام بن سالم قال: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا أعتمَ4 وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم فحمله على عنقه ثمّ ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه فلمّا مضى أبو عبد الله عليه السلام فقدوا ذا فعلموا أنّه كان أبا عبد الله عليه السلام5 .
 
وروي عنه عليه السلام أنه قال: "المعروف ابتداء، وأمّا من أعطيته بعد المسألة فإنّما كافيته بما بذل لك من وجهه، يبيت ليلته أرقاً 
 
 


1- الكلينيّ: الكافي ج 17 ص 306.
2- المصدر السابق ص 307.
3- الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 9 ص 89.
4- أعتمَ إذا دخل في عتمة الليل وهي ظلمته. 
5- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

16

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 متململاً، يمثل بين الرجاء واليأس لا يدري أين يتوجّه لحاجته، ثمّ يعزم بالقصد لها فيأتيك وقلبه يرجف، وفرائصه ترعد، قد ترى دمه في وجهه، لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح"1.

 
وكان عليه السلام يتصدّق بالسكّر، فقيل له: أتتصدّق بالسكّر؟ فقال: "نعم إنّه ليس شيء أحبّ إليّ منه، فأنا أحبّ أن أتصدّق بأحبّ الأشياء إليّ"2.
 
وعن أبي الربيع قال: دعا أبو عبد الله عليه السلام بطعام فأُوتي بهريسة فقال لنا: "ادنوا فكلوا"، قال: فأقبل القوم يقصرون، فقال عليه السلام: "كلوا فإنّما يستبين مودّة الرجل لأخيه في أكله (عنده)"، قال: فأقبلنا نغصّ أنفسنا كما تغصّ الإبل3.
 
وكان عليه السلام يربّي عبيده وغلمانه ويعاملهم باللطف والرحمة:
 
فقد روي أنّه عليه السلام بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد الله عليه السلام على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا تنبّه قال له أبو عبد الله عليه السلام: "يا فلان والله ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار"4.
 
وإذا أعتقهم كان لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً سوى الطاعة لله ولرسوله ولأوليائه عليهم السلام، فعن إبراهيم بن أبي البلاد قال: قرأت
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 23.
2- المصدر السابق ج 4 ص 61.
3- المصدر السابق ج 6 ص 279.
4- المصدر السابق ج 2 ص 112.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

17

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

  عتق أبي عبد الله عليه السلام فإذا هو شرحه: "هذا ما أعتق جعفر بن محمّد أعتق فلاناً غلامه لوجه الله لا يريد به جزاءً ولا شكوراً على أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحجّ البيت ويصوم شهر رمضان ويتولّى أولياء الله ويتبرّأ من أعداء الله، شهد فلان وفلان وفلان، ثلاثة"1.

 
وكان يكرم الضيف ويحسن قراه ويكره استخدامه، فعن ابن أبي يعفور قال: رأيت عند أبي عبد الله عليه السلام ضيفاً فقام يوماً في بعض الحوائج فنهاه عن ذلك، وقام بنفسه إلى تلك الحاجة وقال عليه السلام: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يستخدم الضيف"2.
 
وكان يكدّ على رزقه ويعمل بيده، فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتّى أعرق وإن لي من يكفيني ليعلم الله عزَّ وجلَّ أَنِّي أطلب الرزق الحلال".
 
وعن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابّ عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك، فقال لي: "إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة"3.
 
ومن دعائه لبعض أصحابه أنّه كان عليه السلام- يوماً- تحت الميزاب ومعه جماعة إذ جاءه شيخ فسلّم، ثمّ قال: يا ابن رسول الله: إنّي
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 181.
2- المصدر السابق ج 6 ص 283.
3- المصدر السابق ج 5 ص 76- 77.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

18

لمحة عن حياة الامام عليه السلام

 لأحبّكم أهل البيت، وأبرأ من عدوّكم، وإنّي بليت ببلاء شديد وقد أتيت البيت متعوّذاً به ممّا أجد، ثمّ بكى وأكبّ على أبي عبد الله عليه السلام يقبّل رأسه ورجليه، وجعل أبو عبد الله عليه السلام يتنحّى عنه، فرحمه وبكى ثمّ قال: "هذا أخوكم وقد أتاكم متعوّذاً بكم، فارفعوا أيديكم"، فرفع أبو عبد الله عليه السلام يديه ورفعنا أيدينا ثمّ قال: "أللهمّ إنّك خلقت هذه النفس من طينة أخلصتها وجعلت منها أولياءك، وأولياء أوليائك، وإن شئت أن تنحّي عنها الآفات فعلت، أللهمّ وقد تعوّذنا ببيتك الحرام الذي يأمن به كلّ شيء، وقد تعوّذ بنا، وأنا أسألك يا من احتجب بنوره عن خلقه أسألك بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، يا غاية كلّ محزون وملهوف ومكروب ومضطرّ مبتلى، أن تؤمنه بأماننا ممّا يجد، وأن تمحو من طينته ما قدّر عليها من البلاء وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين"، فلمّا فرغ من الدعاء انطلق الرجل فلمّا بلغ باب المسجد رجع وبكى، ثمّ قال: ألله أعلم حيث يجعل رسالته، والله ما بلغت باب المسجد وبي ممّا أجد قليل ولا كثير، ثمّ ولّى1.

 
وأمّا صلاته وحضوره بين يدي ربّه فنكتفي بما ورد أنّه عليه السلامكان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه، فلمّا أفاق سئل ما الذي أوجب ما انتهت حاله إليه؟ فقال- ما معناه-: "ما زلت أكرّر آيات القرآن حتّى بلغت إلى حال كأنّني سمعتها مشافهة ممّن أنزلها"2.
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 122، عن الدعوات للراونديّ.
2- المصدر السابق ج 47 ص 58 عن فلاح السائل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

19

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 كانت المدينة المنوّرة مصدراً للفتيا ترجع إليها الأمّة في مهمّات التشريع الإسلاميّ لأنّها مركز العلم وفيها أصحاب الرسول وأهل بيته والتَّابعون لهم بإحسان، وقد لاحظت الدولة الأمويّة من قبل هذه المهمّة التي يجب أن تلاحظها، وهي اتجاه الأنظار إلى المدينة لأنّها الجامعة الإسلاميّة ويخشى على الدولة خطرها، فكانت تحذّرهم أشدّ الحذر، فاستمالت الفقهاء بالعطاء والرجوع إليهم في المهمّات، لتسدّ بذلك ثغرة الخطر على الدولة.

 
وفي العهد العبّاسيّ نشطت الحركة العلميّة وكان طبيعيّاً أن تنتعش العلوم في ظلّ سلطانهم لأنّهم كانوا يجعلون حقّهم في الإمامة قائماً على أنّهم سلالة النبيّ، وكانوا يقولون: إنّهم سيشيدون على سنّة النبيّ وأحكام الدّين الإلهيّ- حسب زعمهم وادّعائهم-.
 
فنهض أهل البيت عليهم السلام وبقيّة العلماء لنشر العلم إذ وجد المسلمون حريّة الرأي، والتقوا حول آل البيت عليهم السلام لانتهال العلوم من موردهم العذب، وكان الإمام الصادق عليه السلام هو الشخصيّة التي يتطلّع إليها الناس يوم طلع فجر النهضة العلميّة فحملوا عنه إلى سائر الأقطار، وقصده طلّاب العلم من الأنحاء القاصية، وفتحت مدرسته في تلك الفترة..1.
 
 
 

1- حيدر أسد: الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة ج 1 ص 159.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

20

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 وهنا نسجّل للإمام عليه السلام أهمّ ما قام به من أدوار على الصعيد العلميّ والفكريّ:

 
أوّلاً: ازدهار جامعة أهل البيت عليهم السلام:
 
فبعد تأسيس هذه الجامعة على يد الإمام زين العابدين عليه السلام، ونهوض الإمام الباقر عليه السلام بها، أكمل الإمام الصادق عليه السلام مسيرة أبيه وجدّه عليهما السلام لتبلغ هذه الجامعة ذروة المجد وتزدهر أشدّ الازدهار فتكون الجامعة الأولى في تاريخ الإسلام التي تحتضن بين جنبتيها تلامذة وطلّاباً من جميع أقطار المعمورة، ومن مختلف المذاهب والفرق والاتجاهات، وليشكّل الإمام الصادق عليه السلام محور هذه الجامعة بشخصيّته العلميّة الفذّة التي استقت علومها من منبع الوحي والنبوّة، كما روي عن صادق العترة عليه السلام أنه قال: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله عزَّ وجلَّ1.
 
مرسّخاً بذلك مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام العلميّة والفكريّة، ومشكّلاً بذلك الشخصيّة الفريدة التي تصلح أن تكون عنواناً لوحدة المسلمين في الوقت الذي شتّتتهم المذاهب والأهواء والسياسات.. قال الشيخ المفيد رحمه الله: وكان الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه محمّد بن عليّ عليهما السلام ووصيّه والقائم
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 53.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

21

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل، وكان أنبههم ذكراً، وأعظمهم قدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماءُ ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل1.

 
وعن الحسن بن عليّ الوشّاء أنّه قال: أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد2.
 
ويقول الشيخ كمال الدّين بن طلحة الشافعيّ عند ذكره للإمام الصادق عليه السلام: نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن جريح، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابن عيينة، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيّوب السجستانيّ، وغيرهم، وعدّوا أخذهم منه منقبة شرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها، إلى أن قال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه وتروى عنه..3
 
 
 

1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 179.
2- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 40.
3- الشافعيّ كمال الدّين محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ص 110- 111.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

22

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 وفي ذلك يقول الجاحظ: جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوريّ، وحسبك بهما في هذا الباب1.

 
مع أبي حنيفة:
 
وعن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد2. وله كلمته المشهورة: لولا السنتان لهلك النعمان، يقول الآلوسي: هذا أبو حنيفة وهو من أهل السنّة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يعني السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق3.
 
وأُثر عنه قوله: لولا جعفر بن محمّد ما علم الناس مناسك حجّهم، وقوله أيضاً أنّه ما رأى أعلم من جعفر بن محمّد وأنّه أعلم الأمّة4.
 
وعن أبي نجيح قال: سمعت حسن بن زياد يقول: سمعت أبا حنيفة وسئل: من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك الصعاب، قال: فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من
 
 
 

1- الجنديّ عبد الحليم: الإمام جعفر الصادق عليه السلام ص 106.
2- الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 9 ص 89.
3- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 9 ص 380 عن التحفة الإثني عشريّة للآلوسيّ ص 8.
4- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 77.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

23

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلّمت، وأذن لي، فجلست، ثمّ التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثمّ أتبعها: قد أتانا، ثمّ قال: يا أبا حنيفة؟ هات من مسائلك، نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس1.

 
مع مالك بن أنس:
 
وعن مالك بن أنس: جعفر بن محمّد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلّا على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلٍّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علماً وعبادةً وورعاً!2
.
وقال في وصفه عليه السلام: وكان من عظماء العبّاد وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عزَّ وجلَّ، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى، حتّى ينكره من يعرفه. ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن
 
 
 

1- أنظر: المزّي: تهذيب الكمال ج 5 ص 79، الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 6 ص 257، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 217- 218، وغيرهم..
2- حيدر أسد: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 55.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

24

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 يخرّ من راحلته، فقلت: قل يا بن رسول الله ولا بدّ لك من أن تقول، فقال: "يا بن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول لبّيك اللهمّ لبّيك؟ وأخشى أن يقول تعالى لي: لا لبّيك ولا سعديك"1.

 
مع سفيان الثوريّ:
 
عن ابن أبي حازم أنّه قال: كنت عند جعفر بن محمّد عليهما السلام إذ جاء آذنه فقال: سفيان الثوريّ بالباب. فقال: ائذن له، فدخل فقال له جعفر عليه السلام: "يا سفيان، إنّك رجل يطلبك السلطان وأنا أتّقي السلطان، قم فاخرج غير مطرود". فقال سفيان: حدّثني حتّى أسمع وأقوم. فقال جعفر عليه السلام: "حدّثني أبي عن جدّي إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم قال: من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم". فلمّا قام سفيان قال جعفر عليه السلام: "خذها يا سفيان ثلاث وأيّ ثلاث!" 2.
 
ثانياً: بناء المذهب الجعفريّ- بالمعنى الخاصّ - في قُبالة المذاهب الأخرى:
 
ونتيجة للنشاط العلميّ والفكريّ السابق الذي تميّز به الإمام الصادق عليه السلام، فقد صار يعرف المذهب الجعفريّ بآرائه الخاصّة سواء على مستوى العقيدة أو تفسير القرآن أو الفقه أو غيرها من
 
 
 

1- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 275.
2- الشافعيّ الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 111- 112.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

25

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 المعارف والجوانب الدينيّة الأخرى، حتّى بات يعرف فقه الشيعة بالفقه الجعفريّ، فترى هذا الأمر في زمانه قد أصبح واضحاً في جملة من المسائل: كقضيّة المسح على الرجلين، ومتعة النساء والحجّ، وكذلك الأمر في جملة من المسائل العقائديّة كالقول بالإمامة، والأمر بين الأمرين، والقول بالرجعة وغيرها من الأمور..


أهل الحديث وأهل الرأي:

ونلاحظ أن الإمام عليه السلام لا يكتفي بإعلان مذهب أهل البيت عليهم السلام بل نجده يتّخذ موقفاً أيضاً من العديد من النظريّات التي تبنّاها بعض من عاصر الإمام عليه السلام، ممّن عُرفوا بأصحاب الرأي والقياس وكان يطلق عليهم مصطلح الاجتهاد آنذاك.

فقد ذكر الشيخ أسد حيدر رحمه الله أنّ الحديث في العراق كان قليلاً ولكن انفتح فيه باب الرأي والقياس، وقد أخذه حمّاد بن إبراهيم النخعيّ (المتوفي سنة 95 هـ 713 م) وأخذه أبو حنيفة عن حمّاد، وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم، والدّين لا يقاس بالرأي، وإنّما سُمّوا أهل الرأي لأنّ عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وربما يقدّمون القياس الجليّ على آحاد الأخبار، وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة من أجلها شرّعت، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلّة إذ لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنّة الصحيحة عندهم، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.

وأمّا أهل الحديث فلم يجعلوا للقياس والرأي في استنباط الأحكام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

26

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 هذا المحلّ، واتّسقت شقّة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين.

 
ثمّ أصبح هذا النزاع مزيجاً بالسياسة والتعصّب وتعدّدت فيه عوامل التفرقة ومن بينها تدخّل السلطات الحاكمة التي كانت تدعم فريقاً على حساب فريق ومذهب على مذهب آخر وتروّج لهذا على حساب ذاك1.
 
موقف الإمام الصادق عليه السلام من القياس
 
وكان الإمام الصادق عليه السلام من المنكرين على القياس والناهين عن العمل به.
 
يحدّثنا أبو نعيم أنّ أبا حنيفة وعبد الله بن شبرمة وابن أبي ليلى، دخلوا على جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام فجرى بين الإمام عليه السلام وبين أبي حنيفة حديث... وممّا قاله الإمام عليه السلام له: "يا نعمان حدّثني أبي عن جدّي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس، قال الله تعالى له:﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ، فقال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ فمن قاس الدّين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس"! قال ابن شبرمة: ثمّ قال جعفر: "أيّهما أعظم قتل النفس أو الزِّنى؟" قال أبو حنيفة: قتل النفس. قال الصادق عليه السلام: "فإنّ الله عزَّ وجلَّ قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزِّنى إلّا أربعة". ثمّ قال: " أيّهما أعظم الصلاة 
 
 

1- حيدر أسد: الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة ج 1 ص 160 بتلخيص وتصرّف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

27

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 الإمام الباقر عليه السلام أبان بن تغلب أن يجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويفتي الناس حيث قال له: "اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك". أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام لسائل سأله عن المسح على مرارة وضعها على ظفره المقطوع: "يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى:رحمه اللهمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍقدس سره، امسح عليه".

 
وهكذا نرى كيف يعلّم الإمام عليه السلام هذا السائل كيفيّة استنباط الحكم الشرعيّ من الكتاب. والموارد من هذا القبيل كثيرة حيث كان علماء الشيعة يستندون في استنباط الأحكام الشرعيّة على كتاب الله وسنّة نبيّه التي تصل إليهم بواسطة الأئمّة عليهم السلام.. .1
 
ثالثاً: مواجهة التيّارات والمذاهب المنحرفة:
 
فقد امتاز عصر الإمام الصادقعليه السلامبأنّه عصر التيّارات الفكريّة والثقافيّة أكثر من كونه عصر الثورات السياسيّة، حيث استلم الإمامة بعد وفاة أبيه الباقرعليه السلام وعاش حتّى سنة 148 هـ، أي بعد أكثر من قرن على ظهور الإسلام، وهي فترة طويلة حصلت فيها الكثير من العوامل التي كانت وراء دخول ثقافات وأفكار أخرى، منها: الفتوحات الإسلاميّة التي حصلت قبل عقود من زمانه، ودخل بسببها إلى المجتمع الإسلاميّ أجيال من المسلمين الجدد من شعوب مختلفة، ومنها: بداية ترجمة الكتب في عصر بني أميّة..
فانتشرت في العالم الإسلاميّ ثقافات أخرى، كان واضحاً منها
 
 
 

1- الطهرانيّ الآغا بزرك: حصر الاجتهاد ص 37- 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

28

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

  ظهور الزنادقة الذين أعطاهم بنو العبّاس الحريّة ضمن خطّة معيّنة وكذلك ظهور التصوّف بشكل مختلف1..

 
وكنموذج على ظهور الزنادقة، نجد في الأخبار ما يتحدّث عن بعض المناظرات التي كانت تحصل بين الإمام وبين بعض هؤلاء الزنادقة، فقد روي عن أحمد بن محسن الميثميّ قال: كنت عند أبي منصور المتطبّب فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام فقال له ابن المقفّع2: ترون هذا الخلق- وأومأ بيده إلى موضع الطواف- ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانيّة إلّا ذلك الشيخ الجالس- يعني أبا عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام- فأمّا الباقون فرعاع وبهائم! فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأنّي رأيت عنده ما لم أره عندهم، فقال له ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه، قال: فقال ابن المقفّع: لا تفعل، فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا إذا توهّمت عليّ هذا فقم إليه وتحفّظ ما استطعت
 
 
 

1- المطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار ص 114.
2- في هامش الكافي: وابن أبي العوجاء هو عبد الكريم كان من تلامذة الحسن البصريّ فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال: إنّ صاحبي كان مخلّطاً كان يقول طوراً بالقدر وطوراً بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه، وابن المقفّع هو عبد الله ابن المقفّع الفارسيّ المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب كان مجوسيّاً أسلم على يد عيسى بن عليّ عمّ المنصور بحسب الظاهر وكان كابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى على طريق الزندقة وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

29

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 من الزلل ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال1، وسِمْه ما لك أو عليك؟ قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفّع جالسين فلمّا رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه فلمّا لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: "إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء- وهو على ما يقولون- ( يعني أهل الطواف) فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون- وليس كما تقولون- فقد استويتم وهُم"، فقلت له: يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلّا واحداً، فقال: "وكيف يكون قولك وقولهم واحداً؟ وهم يقولون: إنّ لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأنّ في السماء إلهاً وأنّها عمران، وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد"، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتّى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟ فقال لي: "ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد 

صغرك، وقوّتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوّتك، وسقمك بعد صحّتك، وصحّتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك، وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد أناتك،
 
 
 

1- العقال: ما يشد به البعير، والمعنى: يعقلك بتلك المقدمات التي تسلمت منه بحيث لا يبقى لك مفر كالبعير المعقول.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

30

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك"، وما زال يعدّد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتّى ظننت أنّه سيظهر فيما بيني وبينه1.

 
رابعاً: تربية النخبة من أصحابه:
 
ويأتي هذا الأمر في سياق مشروع أهل البيت عليهم السلام في مختلف الأزمنة، حيث نجد لكلّ إمامٍ منهم أصحاب وخواص وحواريّين، قام الأئمّة بتربيتهم، ولهذا نرى الإمام الباقر عليه السلام وهو يوصي ولده الإمام الصادق عليه السلام لمّا حضرته الوفاة، وفي آخر لحظات حياته الشريفة، يقول له:
 
"يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً"2.
 
وقد قام الإمام عليه السلام بهذه المهمّة على أكمل وجه حسبما تيسّرت له الظروف التي أحاطت بعصره، ولهذا فإنّ ما عدَّه علماء الرجال من أصحابه عليه السلام، لم يعدّوه بحقّ بقيّة الأئمّة عليهم السلام.
 
وقد ذكرنا في كتابنا "باقر العلوم" بعض أصحاب أبيه الإمام الباقر عليه السلام والذين كانوا من أصحابه أيضاً، ونشير هنا إلى نماذج أخرى مضافاً إلى ما مرَّ هناك: 
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 74.
2- المصدر السابق ج 1 ص 306.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

31

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 1- حمران بن أعين الشيبانيّ:

 
أبو الحسن، الكوفيّ، كان من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام، وهو أخو زرارة، وقد ورد في فضله روايات عديدة:
 
منها: عن حجر بن زايدة، عن حمران بن أعين، قال: قلت: لأبي جعفر عليه السلام إنّي أعطيت الله عهداً، لا أخرج من المدينة حتّى تخبرني عمّا أسألك، قال: فقال لي: " سل"، قال: قلت: أمن شيعتكم أنا؟ قال: "نعم في الدنيا والآخرة".
 
وعن زياد القنديّ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال في حمران: "إنّه رجل من أهل الجنّة".
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه كان يقول: "حمران بن أعين مؤمن لا يرتدّ والله أبداً".
 
عن صفوان، قال: كان يجلس حمران مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن خلطوا في ذلك بغيره ردّهم إليه، فإن صنعوا ذلك عِدل ثلاث مرّات قام عنهم وتركهم 1.
 
وعن هشام بن الحكم، قال: سمعته يقول: "حمران مؤمن لا يرتدّ أبداً"، ثمّ قال: "نِعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتّى ندخل الجنّة جميعاً"2.
 
 
 

1- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشيّ ج 1 ص 412- 415.
2- المصدر السابق ج 2 ص 418.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

32

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 2- عبد الله بن أبي يعفور العبديّ:

 
يكنّى أبا محمّد، قال في حقّه الشيخ النجاشيّ: ثقة ثقة، جليل في أصحابنا، كريم على أبي عبد الله عليه السلام، ومات في أيّامه، وكان قارئاً يقرأ في مسجد الكوفة1.
 
وفي بعض الروايات أنّه من حواريّي أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام2.
 
وعدَّه الشيخ المفيد في رسالته العدديّة من الفقهاء الأعلام، والرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق لذمّ واحد منهم3.
 
وعن زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "ما وجدت أحداً أخذ بقولي وأطاع أمري وحذا حذو أصحاب آبائي غير رجلين رحمهما الله: عبد الله بن أبي يعفور وحمران بن أعين، أما إنّهما مؤمنان خالصان من شيعتنا، أسماؤهم عندنا في كتاب أصحاب اليمين الذي أعطى الله محمّداً" 4.
 
وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: والله لو فلقت رمّانة بنصفين، فقلت: هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنّ الذي قلت: حلال حلال، وأنّ الذي قلت: حرام حرام، فقال: "رحمك الله، رحمك الله" 27.
 
 
 

1- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 213.
2- الحلّي: خلاصة الأقوال ص 195.
3- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 11 ص 103.
4- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشيّ ج 2 ص 418.
5- المصدر السابق ج2، ص 518.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

33

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 3- الفضيل بن يسار:

 
النهديّ أبو القاسم عربيّ، بَصْريّ، صميم، ثقة، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ومات في أيّامه 1.
 
عن إبراهيم بن عبد الله، قال: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا رأى الفضيل بن يسار قال: "بشّر المخبتين، من أحبّ أن ينظر رجلاً من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا".
 
وكان أبو جعفر عليه السلام إذا دخل عليه الفضيل بن يسار يقول : "بخٍ بخٍ بشّر المخبتين، مرحباً بمن تأنس به الأرض".
 
عن فضيل بن عثمان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إنّ الأرض لتسكن إلى الفضيل بن يسار".
 
كان أبو عبد الله عليه السلام إذا نظر إلى الفضيل بن يسار مقبلاً قال: "بشّر المخبتين". وكان يقول: "إنّ فضيلاً من أصحاب أبي، وإنّي لأحبّ الرجل أن يحبّ أصحاب أبيه".
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام: "رحم الله الفضيل بن يسار، وهو منّا أهل البيت"2.
 
4- محمّد بن عليّ بن النعمان الأحول:
 
أبو جعفر الصيرفيّ الكوفيّ، يلقّب بمؤمن الطاق، لأنّ دكّانه كان في طاق المحامل بالكوفة يرجع إليه في النقد، ومخالفوه يسمّونه شيطان
 
 
 

1- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 309.
2- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 473.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

34

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 الطاق، ويقال: إنّ سبب ذلك أنّهم شكّوا في درهم فعرضوه عليه، فقال لهم: ستوق1، فقالوا: ما هو إلّا شيطان الطاق.

 
وقد روى عن الإمام السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام، وكان ثقة متكلّماً حاذقاً حاضر الجواب، وكانت له منزلة عظيمة في العلم، ونسبت إليه أشياء لم تثبت.
 
وله مع خصومه مناظرات كثيرة كان يظهر بها عليهم.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "زرارة، وبريد بن معاوية، ومحمّد بن مسلم، والأحول، أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً".
 
وعن أبي خالد الكابليّ، قال: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه، فقلت: إنّ أبا عبد الله ينهانا عن الكلام، فقال: أمرك أن تقول لي؟ فقلت: لا والله، ولكن أمرني أن لا أكلّم أحداً، قال: فاذهب وأطعه فيما أمرك، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بقصّة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب فأطعه فيما أمرك، فتبسّم أبو عبد الله عليه السلام، وقال: "يا أبا خالد إنّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير وينقضّ، وأنت إن قصّوك لن تطير"2- كناية عن غلبة القوم له-.
 
5- هشام بن الحكم:
 
أبو محمّد الشيبانيّ، كوفيّ، لقي الصادق والكاظم عليهما السلام، وكان
 
 
 

1- ستوق: درهم زيف ملبّس بالفضّة.
2- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 18 ص 34- 37.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

35

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 ممّن فتق الكلام في الإمامة، وهذَّب المذهب بالنظر، ورفعه الصادق عليه السلام في الشيوخ وهو غلام. وقال: "هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده"، وقوله عليه السلام: "هشام بن الحكم رائد حقّنا، وسائق قولنا، المؤيّد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أثره تبعنا، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا".

 
وعدَّه الشيخ المفيد قدس سره، من الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا مطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم.
 
وعن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد اللهعليه السلام بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام، فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا، قال: فيقول لي: "قل كذا". فقلت: هذا الحلال والحرام، والقرآن أعلم أَنِّك صاحبه وأعلم الناس به، فهذا الكلام من أين؟ فقال: "يحتجّ الله على خلقه بحجّة لا يكون عنده كلّما يحتاجون إليه؟!".
 
عن يونس، أنّ هشام بن الحكم، كان يقول: أللهمّ ما عملت وأعمل من خير مفترض وغير مفترض فجميعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الصادقين عليهم السلام حسب منازلهم عندك، فاقبل ذلك كلّه منّي وعنهم، وأعطني من جزيل جزاك به حسب ما أنت أهله1.
 
مميّزات المدرسة الجعفريّة
 
تميّزت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بمميّزات عديدة نشير لبعضها:
 
 
 

1- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 20 ص 297- 311.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

36

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 1- أنّها لم تنغلق على خصوص العناصر الموالية لأهل البيت عليهم السلام، فقد رأينا أنّها ضمّت العديد من الأشخاص من أصحاب المذاهب الأخرى وأتباعه، كما تقدّم عن أبي حنيفة وغيره. 


2- لم تتّخذ طابع الانتماء لسياسة الحاكمين من الدولة الأمويّة أو العبّاسيّة، فلم تكن أداة لهم.

3- تميّزت هذه المدرسة بالمنهج السليم الذي يعتمد العمق الفكريّ في أطروحته العلميّة والارتباط المباشر بالكتاب والسنّة الشريفة.

4- أنتجت هذه المدرسة العديد من الرموز الفكريّة الذين تخرّجوا منها، وكانوا يفخرون بالانتساب إليها، وقد بلغ عددهم- كما تقدّم- أربعة آلاف طالب، وقد كان العديد من هؤلاء امتداداً واعياً ومؤثّراً في المسيرة العامّة للأمّة- فضلاً عن السياسيّة- ممّا يدلّ على أنّ الإمام كان يهدف إلى حركة تغييريّة، كانت حركته العلميّة هذه جزءاً من هذا البرنامج التغييريّ والإصلاحيّ الكبير.

5- اهتمّت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بتدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، كما اهتمّت أيضاً بتدوين العلم بشكل عامّ ومدارسته بهدف إثرائه وإنمائه، وقد كان الإمام عليه السلاميأمر طلّابه بذلك ويحثّهم عليه، فشكّلت الأساس لتأليف ما يعرف بالأصول الأربعمائة، التي أخذ عنها أصحاب الكتب الأربعة عند الشيعة، وهي: كتاب الكافي للشيخ الكلينيّ، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، وكتابي تهذيب الأحكام والاستبصار لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

37

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 6- أنّها انفتحت على مختلف فروع المعرفة الإسلاميّة، في القرآن وتفسيره وعلومه، والسنّة، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتاريخ، وغيرها، بل اهتمّت أيضاً بالعديد من العلوم الأخرى، كعلم الفلك، والطبّ، والكيمياء فكانت ملهمة في العديد من العلوم، وأنمت الفكر الإسلاميّ وطوّرته من خلال التخصّص العلميّ.

 
ونستطيع هنا إبراز نموذجين على ما ذكرناه من هذا التخصّص العلميّ:
 
النموذج الأوّل: ما روي عن هشام بن سالم قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له، فلمّا دخل سلّم فأمره أبو عبد الله عليه السلام بالجلوس. ثمّ قال له: "ما حاجتك أيّها الرجل"؟ قال: بلغني أنّك عالم بكلّ ما تُسأل عنه، فصرت إليك لأناظرك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "في ماذا؟" قال: في القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا حمران دونك الرجل". فقال الرجل: إنّما أريدك أنت لا حمران، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إن غلبت حمران فقد غلبتني"، فأقبل الشاميّ يسأل حمران حتّى ضجر وملَّ وعرض1، وحمران يجيبه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "كيف رأيت يا شامي؟!" قال: رأيته حاذقاً ما سألته عن شيء إلّا أجابني فيه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا حمران سل الشاميّ"، فما تركه يكشر2 فقال الشاميّ: أرأيت يا
 
 
 

1- بكسر الراء، أي تعب ووقف.
2- كشر عن أسنانه يكشر: أبدى، والكشر التبسّم، ويكون في الضحك وغيره، يقال: كشر عن أسنانه إذا أبداها.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

38

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 أبا عبد الله أناظرك في العربيّة؟ فالتفت أبو عبد الله عليه السلام فقال: "يا أبان بن تغلب ناظره"، فناظره فما ترك الشاميّ يكشر، قال: أريد أن أناظرك في الفقه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا زرارة ناظره"، فما ترك الشاميّ يكشر، قال: أريد أن أناظرك في الكلام، فقال: "يا مؤمن الطاق ناظره"، فناظره فسجل الكلام بينهما، ثمّ تكلّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به. فقال: أريد أن أناظرك في الاستطاعة، فقال للطيّار: "كلّمه فيها"، قال: فكلّمه فما ترك يكشر، فقال أريد أناظرك في التوحيد، فقال لهشام بن سالم: "كلِّمه"، فسجل1 الكلام بينهما ثمّ خصمه هشام، فقال: أريد أن أتكلّم في الإمامة، فقال لهشام بن الحكم: "كلِّمه يا أبا الحكم"، فكلَّمه فما تركه يرتم2 ولا يحلي ولا يمرّ3، قال: فبقي يضحك أبو عبد الله عليه السلام حتّى بدت نواجذه. فقال الشاميّ: كأنّك أردت أن تخبرني أنّ في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟ قال: "هو ذلك ..."4

 
والنموذج الثاني: جابر بن حيّان: الطوسيّ، الخراسانيّ، وقيل: الحرّانيّ، الكوفيّ، المعروف بالصوفيّ. من مفاخر علماء الشيعة الإماميّة، ومن مشاهير علماء الفلسفة والحكمة والطبّ والرياضيّات والفلك والمنطق والنجوم، وكان متصوّفاً، أديباً، زاهداً، واعظاً، مؤلّفاً في شتّى صنوف العلم والمعرفة. تتلمذ على الإمام الصادق، وأخذ 
 
 
 

1- أي أخذ الكلام مرّة يكون لهذا وأخرى يكون لذاك.
2- ما رتم فلان بكلمة: ما تكلّم بها.
3- يقال: ما أمرَّ ولا أَحلى، إذا لم يقل شيئاً.
4- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 407- 409.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

39

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 علومه ومعارفه عنه عليه السلام.

 
من تآليفه الكثيرة كتاب الخواص الكبير، والدرّة المكنونة، ورسائل جعفر الصادق عليه السلام، والحدود، والفهرست، والخمسمائة، والشعر وغيرها1. وقال ابن خلكان: ألّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة2.
 
والمؤرّخون- إلّا بعضاً من غير المسلمين - متّفقون على تلمذته للإمام عليه السلام. وعلى صلته أو تأثّره به في العلم والعقيدة. يقول جابر في كتابه الحاصل: ليس في العالم شيء إلّا وفيه من جميع الأشياء. والله لقد وبّخني سيّدي (يقصد الإمام الصادق) على عملي، فقال: "والله يا جابر لولا أنّي أعلم أنّ هذا العلم لا يأخذه عنك إلّا من يستأهله وأعلم علماً يقيناً أنّه مثلك، لأمرتك بإبطال هذه الكتب من العلم"3.
 
قال ابن النديم: والرازي يقول في كتبه المؤلّفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان4.
 
قال جرجي زيدان في مجلّة الهلال- على ما حكي عنه-: إنّه من 
 
 


1- الشبستريّ عبد الحسين: الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 277.
2- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج 1 ص 327.
3- الجنديّ عبد الحليم: الإمام جعفر الصادق عليه السلام ص 223- 224، وقال ص 290- 291: وما الاجتهاد إلّا الحريّة الفكريّة في استخلاص النتائج، والنزاهة العلميّة أو الاعتبار "بالواقع والصحيح". وهاتان العجلتان اللتان تحملان موكب الفكر الإنسانيّ المنجب، هما شعار مجالس الإمام الصادق.. بل هما أساس ما استخلصه تلميذه جابر بن حيّان من تجاربه العلميّة، وعنه انتقل إلى أوربة المنهج التجريبيّ أو منهج "التجربة والاستخلاص" كما يسمّى في العصور الحديثة.
4- البغداديّ ابن النديم: الفهرست ص 547.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

40

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 تلامذة الصادق عليه السلام، وإنّ أعجب شيء عثرت عليه في أمر الرجل أنّ الأوروبيّين اهتمّوا بأمره أكثر من المسلمين والعرب، وكتبوا فيه وفي مصنّفاته تفاصيل، وقالوا: إنّه أوّل من وضع أساس الشيمي(Chimie) الجديد، وكتبه في مكاتبهم كثيرة، وهو حجّة الشرقيّ على الغربيّ إلى أبد الدهر!1.

 
قال الزركليّ: وله تصانيف كثيرة قيل: عددها 232 كتاباً، وقيل: بلغت خمسمائة. ضاع أكثرها، وترجم بعض ما بقي منها إلى اللاتينيّة..ولجابر شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه من كتبه، في بدء يقظتهم العلميّة. قال برتلو (M.Berthelot): لجابر في الكيمياء ما لأرسطوطاليس قبله في المنطق، وهو أوّل من استخرج حامض الكبريتيك وسمّاه زيت الزاج، وأوّل من اكتشف الصودا الكاوية، وأوّل من استحضر ماء الذهب، وينسب إليه استحضار مركّبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم. وقد درس خصائص مركّبات الزئبق واستحضرها). وقال لوبون (G.le Bon) : تتألّف من كتب جابر موسوعة علميّة تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره. وقد اشتملت كتبه على بيان مركّبات كيماويّة كانت مجهولة قبله. وهو أوّل من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل الخ2.
 
وقال الدكتور أحمد فؤاد الأهوانيّ في مقال له: ومع أنّ جابراً كان على 
 
 
 

1- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 4 ص 328.
2- الزركليّ: الأعلام ج 2 ص 103.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

41

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

 سنّة مفكّري العرب وفلاسفتهم مشاركاً في جميع العلوم من فلك ورياضيّات وطبّ ومنطق وفلسفة، إلّا أنّ عنايته الكبرى اتّجهت إلى الكيمياء، وألّف في هذا العلم- أو (الصنعة) كما كانت تسمّى عند العرب- التصانيف الغزيرة، وأجرى التجارب الكثيرة، ورسم له منهجه، وحدَّد موضوعه، وحاول أن يردّه إلى أصول نظريّة، فكان بذلك، وبحقّ، مؤسّس علم الكيمياء. وقامت على أساس مباحثه مدرسة، وظهر بعده تلاميذ، وأصبح علم الكيمياء ينسب إليه، وأضحى جابر عَلَمَاً عليه، كما يقال (أبقراط) عنواناً على الطبّ، أو (بطليموس) عَلَمَاً على الفلك. وحين اتّجهت أوروبا إلى العرب تغترف من بحر علومهم، لم تجد إماماً في الكيمياء سوى جابر، فنقلت اسمه وكتبه وعلمه، واشتهر عندهم باسم( Geber) وباللاتينيّة (Geberus) كما نقلوا عن تلميذه الرازي...1

 
هذا غيض من فيض صادق آل محمّد عليهم السلام، ونختم بما قاله بعض الباحثين:
 
حقّاً إنّ شخصيّة جعفر الصادق لا تزال غامضة تحتاج إلى من يكشف كنهها من المؤرّخين- إلى أن يقول-: وما دام يكتنف مثل هذه الشخصيّة الفذّة الظلام، فكثير من الحقائق ستظلّ في طيّ الخفاء، وستظلّ في جهل مدقع في فهم كثير من تراثنا الفكريّ، لأنّ التعصّب الذميم هو الذي طمس المعالم ووضع أمامنا سدّاً حائلاً دون تفهّم كنه الأساسات العميقة في بناء الحضارة العالميّة2.
 
 
 

1- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 1 ص 31.
2- الهاشميّ الدكتور محمّد يحيى: الإمام الصادق عليه السلام ملهم الكيمياء ص 210.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

42

نظرة في الحياة السياسيّة

 الحياة السياسيّة للإمام الصادق عليه السلام:


يمكننا تلخيص المعالم السياسيّة الهامّة والبارزة في حياة الإمام الصادق عليه السلام ضمن عنوانين:

الأوّل: تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها:

تتلخّص مسألة الإمامة في مدرسة أهل البيتعليهم السلام بما يلي: الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ يجب أن يكون منصوباً بإعلانٍ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويجب أن يكون قائداً فكريّاً ومفسّراً وعالماً بكلّ دقائق الدّين ورموزه، ويجب أن يكون معصوماً مبرّءاً من كلّ عيبٍ خلقيّ وأخلاقيّ، ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقيّة إلى غير ذلك.. ففي عرف أتباع أهل البيت عليهم السلام تعني الإمامة إضافةً إلى القيادة السياسيّة، القيادة الفكريّة والأخلاقيّة أيضاً.

فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون متمتّعاً بخصائص هي إضافة إلى قدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ والتزكية الخلقيّة، وإن لم يتوفّر فيه هذه المقدرة فلا يمكن أن يرقى إلى مستوى "الإمامة الحقّة". وليس بكافٍ - في نظرهم- حسن الإدارة السياسيّة والاقتدار العسكريّ والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

43

نظرة في الحياة السياسيّة

 لدى غيرهم. فمفهوم الإمامة لدى أهل البيت عليهم السلام إذاً، يتّجه إلى إعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعيّة والفرديّة. فالإمام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتيّة، ومن هنا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إماماً أيضاً لأنّه القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبيّ تحتاج الأمّة إلى إمام يخلفه ويتحمّل عبء مسؤوليّاته بما في ذلك المسؤوليّة السياسيّة، ويعتقد الشيعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نصّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ثمّ تنتقل الإمامة بعده إلى الأئمّة المعصومين من ولده عليهم السلام.


ومنذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مسألة إمامة أهل البيت عليهم السلام تشكّل طليعة الدعوة في كلّ أعصار الإمامة.. 

هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الإمام الحسين عليه السلام وفي ثورات أبناء الأئمّة من بعده كزيد بن عليّ رضوان الله عليه.

ودعوة الإمام الصادق عليه السلام لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً..

ولإثبات هذه الحقيقة التاريخيّة أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق عليه السلام ادّعاءه الإمامة. فالإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه وأن يعلن نفسه بأنّه صاحب الحقّ الواقعيّ وصاحب الولاية والإمامة ومثل هذه التصدّي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهاديّة السابقة بنجاح، ولا بدّ أن يكون الوعي السياسيّ والاجتماعيّ قد انتشر في قاعدة واسعة، وأنّ الاستعداد محسوس بالقوّة في كلّ مكان، وأنّ الأرضيّة الإيديولوجيّة قد توفّرت في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

44

نظرة في الحياة السياسيّة

 عدد ملحوظٍ من الأفراد، وأن جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحقّ والعدل، وأن يكون القائد- أخيراً- قد اتّخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة، وبدون هذه المقدّمات فإنّ إعلان إمامة شخص معيّن وقيادته الحقّة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.

 
ومن هنا نجد الإمام عليه السلام حينما يثبت إمامته يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمّة الحقّ من أسلافه في إشارة إلى ارتباط جهاد الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام وتواصله عبر الأزمنة وكون إمامته النتيجة الحتميّة المترتّبة على إمامة أسلافه، مبيّناً جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلاميّة وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم..
 
يروي عمرو بن أبي المقدام قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته: "أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام، ثمّ كان عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ عليهم السلام ثمّ هه"- أي أنا وهي لغة عند العرب يشير الإمام بذلك إلى نفسه- فينادي ثلاث مرّات لمن بين يديه وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه اثنى عشر صوتاً 1.
 
ففي يوم التاسع من ذي الحجّة إذ اجتمع الحجّاج في عرفة لأداء منسك الوقوف وقد توافدوا على هذا الصعيد من كلّ فجٍّ عميق.. الموقف حسّاس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلاميّ، الإمام انضمّ إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة ليوصل إليها كلمته..
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 466.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

45

نظرة في الحياة السياسيّة

 الثاني: إقامة تنظيم سرّي سياسيّ- إيديولوجيّ:


والمقصود بهذا التنظيم وجود جماعة بشريّة ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات متنوّعة تتّجه نحو ذلك الهدف وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكّر واحد وتسود بين أفرادها عاطفة مشتركة.

ولإثبات هذه الحقيقة التاريخيّة أمامنا شواهد عن شبكة منظّمة لدعوة الإمام في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ، والوثائق الكثيرة المتوفّرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتميّاً لا مراء فيه..

ونحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخيّة ثابتة:

1- ثمّة ارتباط منظّم فكريّ وماليّ بين الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم، وكانت الأموال تحمل من أطراف العالم إلى المدينة، وكذلك الأسئلة الدينيّة تتقاطر عليها.

2- اتساع الرقعة الموالية لآل البيت عليهم السلام خاصّة البقاع الحسّاسة من العالم الإسلاميّ.

3- تجمّع عدد غفير من المحدّثين والرواة الخراسانيّين والسيستانيّين والكوفيّين والبصريّين واليمانيّين والمصريّين حول الإمام.

فهل إنّ هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟! خصوصاً وأنّ هذه الظواهر حدثت في ظلّ سيطرة سياسيّة كانت جادّة كلّ الجدّ في إلغاء حتّى اسم عليّ وآل عليّ عليهم السلام، بل وسبّ عليّ عليه السلام على المنابر، وتسليط أنواع البطش والإرهاب على أتباعه،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

46

نظرة في الحياة السياسيّة

  فكيف أمكن في مثل هذا الجوّ خلق قاعدة شعبيّة عريضة موالية لآل البيت عليهم السلام تطوي آلاف الأميال للوصول إلى الحجاز والمدينة لتتلمّذ على أئمّة أهل البيت عليهم السلام وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، وتتحدّث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، أو بعبارة الروايات تتحدّث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!

 
فلو كان دعاة أهل البيت عليهم السلام يقتصرون في حديثهم على علم الأئمّة وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الأتباع دائماً عن الثورة المسلّحة؟
 
ألا يدلّ كلّ هذا على وجود شبكة منظّمة للدعوة إلى إمامة أهل البيت عليهم السلام بالمعنى الكامل للإمامة أي الفكريّة والسياسيّة؟
 
وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظّمة في دعوة أهل البيت عليهم السلام، لماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟
 
والجواب يكمن في التزام أصحاب الأئمّة بالمبدأ الحركيّ الحكيم المسمّى بالتقيّة1، الذي يحول دون نفوذ أيّ عنصر أجنبيّ في تنظيم الإمام، كما يكمن أيضاً في عدم استطاعة الحركة الجهاديّة الشيعيّة من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.
 
ومع ذلك فإنّ هناك روايات تصرّح إلى حدٍّ ما بوجود دعوة واسعة 
 
 
 

1- وفي الحديث المعروف المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: إنّ التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له. أنظر: البرقيّ أحمد بن محمّد بن خالد: المحاسن ج 1 ص 255.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

47

نظرة في الحياة السياسيّة

 لإمامة أهل البيت عليهم السلام 1..

 
ومن العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقّق في الروايات المرتبطة بحياة الأئمّة أو في كلام مؤلّفي القرون الإسلاميّة الأولى، عبارة "باب" و "وكيل" و "صاحب السرّ".
 
وهذه العناوين الثلاثة التي نجد مصاديقها في وجوه بارزة من رجال الشيعة- خصوصاً لو تأمّلنا حياة هؤلاء وكيفيّة تعامل الإمام معهم بذمّهم تارة والترحّم عليهم أخرى، وتعرّض بعضهم للمطاردة والتنكيل والقتل على أيدي السلطة- تلقي ظلالها على واقع الشيعة وارتباطهم بالإمام والحركة التنظيميّة الشيعيّة.
 
إنّ مسألة التنظيمات السرّيّة في الحياة السياسيّة للإمام الصادق عليه السلام وباقي الأئمّة عليهم السلام من أهمّ المسائل وأكثرها حساسيّة، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدّها إبهاماً، ولا نتوقّع- كما أشرنا- وجود وثائق صريحة في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقّع من الإمام أو أحد أصحابه أن يعترف صراحة - خصوصاً لو تعرّضوا لاستجواب السلطة- بوجود هذه التنظيمات السياسيّة الفكريّة، وإنّما يعتبرون ذلك تهمة وسوء ظنّ، وهذه هي خاصيّة العمل السرّي.
 
ويمكننا بهذه النظرة أن نفهم الشيعة بأنّهم مجموعة من العناصر المنسجمة الهادفة النشطة المتمركزة حول محور مقدّس يشعّ بتعاليمه وأوامره على القاعدة، والقاعدة ترتبط به وتنقل إليه المعلومات
 
 
 

1- أنظر على سبيل المثال: المجلسي: بحار الأنوار ج 47 ص 72 عن بصائر الدرجات.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

48

نظرة في الحياة السياسيّة

  وتضبط مشاعرها وتسيطر على عواطفها بتوصياته الحكيمة، وتلتزم التزاماً دينيّاً بأساليب العمل السرّي مثل حفظ الأسرار، وقلّة الكلام والابتعاد عن الأضواء والتعاون الجماعيّ والزهد الثوريّ 1.

 
 

1- هذا البحث أخذناه بتمامه- بتصرّف قليل في العبارة والتقديم والتأخير- من كتاب قيادة الإمام الصادق لوليّ أمر المسلمين آية الله السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله، ترجمة الدكتور محمّد عليّ آذرشب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

49

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 عاصر الإمام الصادق عليه السلام نهاية العهد الأمويّ وبداية العهد العبّاسيّ، فكان شاهداً على كلا الدولتين.


أمّا حكّام بني أميّة الذين عاصرهم الإمام فهم:

1- هشام بن عبد الملك:

وقد تقدّم في كتاب "باقر العلوم" شيء من الكلام حول بعض ما جرى للإمام وأبيه الإمام الباقر عليه السلام مع هذا الطاغية. 

وفي أيّامه استشهد زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام.. وقد حزن عليه الإمام الصادق عليه السلام أشدّ الحزن، فعن حمزة بن حمران، قال: دخلت إلى الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال لي: "يا حمزة، من أين أقبلت؟" قلت له: من الكوفة. قال: فبكى عليه السلام حتّى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا بن رسول الله، ما لك أكثرت البكاء؟ فقال: "ذكرت عمّي زيداً وما صنع به فبكيت". فقلت له: وما الذي ذكرت منه؟ فقال: "ذكرت مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه، وقال له: أبشر يا أبتاه، فإنّك ترد على رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. قال: أجل يا بني، ثمّ دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها ودفن، وأجرى عليه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

50

مع أهل زمانه وحكّام عصره

  الماء وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف بن عمر1 فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأحرق بالنّار، وذرّي في الرياح، فلعن الله قاتله وخاذله، وإلى الله جلّ اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيّه بعد موته، وبه نستعين على عدوّنا، وهو خير مستعان"2 .

 
وكانت أيّام هشام شديدة الصعوبة على الناس حتّى قيل: لم يُرَ زمان أصعب من زمانه3 .
 
2- الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
 
الخليفة الفاسق- كما يسمّيه السيوطيّ- كان فاسقاً، شرِّيباً للخمر، منتهكاً حرمات الله، أراد الحجّ ليشرب فوق ظهر الكعبة4 ، وكان صاحب لهو وطرب وسماع للغناء، وهو أوّل من حمل المغنّين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي والعزف5 .. فمقته الناس لفسقه، وخرجوا عليه (مع يزيد الناقص كما سيأتي)..ولمّا حوصر قال: ألم أزد في أعطيتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعطِ فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا، لكن ننقم عليك انتهاك ما حرّم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. ولمّا قتل وقطع رأسه وجيء به يزيدَ الناقص نصبه على
 
 

1- والي العراق آنذاك.
2- الصدوق: الأمالي ص 477، والحديث عن زيد وثورته طويل لا يسعه هذا المختصر.
3- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الإثنا عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250.
5- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 237.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

51

مع أهل زمانه وحكّام عصره

  رمح، فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد، فقال: بُعداً له! أشهد أنّه كان شروباً للخمر، ماجناً، فاسقاً، ولقد راودني على نفسي!1.

 
وقرأ ذات يوم: ﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد﴾ٍ فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب، وأقبل يرميه وهو يقول:
 
تَوَعَّدَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ          فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ
إِذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَوْمَ حَشْرٍ    فَقُلْ يَا رَبِّ خَرَّقَنِي الوَلِيدُ 
 
وعن المبرِّد النحويّ أنّ الوليد أَلحد في شِعرٍ له ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ الوحي لم يأته من ربّه، كذب أخزاه الله!! من ذلك الشعر:
 
تَلَعَّبَ بالخلافة هاشميٌّ       بِلَا وَحْيٍ أَتَاهُ وَلَا كِتَابِ
فَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي طَعَامِي    وَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي شَرَابِي! 
 
فلم يمهل بعد قوله هذا إلّا أيّاماً حتّى قتل2.
 
وفي أيّامه ظهر يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عمَّ الناس من الجور، فسار إليه نصرُ بن سيّار في جيش ضخم، والتحم الفريقان، واستشهد يحيى في هذه المعركة سنة 125هـ 3.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين
 
 
 

1 السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250- 251.
2 المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 240- 241.
3 آل ياسين الشيخ محمّد حسن: سيرة الأئمّة الإثني عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

52

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 بن عليّ عليهما السلام فنزع الله ملكهم، وقتل هشام زيد بن عليّ فنزع الله ملكه، وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع الله ملكه على قتله ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.

 
3- يزيد بن الوليد بن عبد الملك:
 
وهو المعروف بيزيد الناقص، لأنّه نقص الجند من أعطيتهم. وكان قد وثب على الخلافة وقتل ابن عمّه الوليد وتملّك، ولم يمتَّع بالخلافة بل مات في عامه، لأشهر مضت من خلافته2.
 
4- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك:
 
وهو أخو يزيد الناقص، قام بالأمر من بعده، فبايعه الناس أربعة أشهر، وقيل: شهران، ثمّ خُلع، وكانت أيّامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط، واختلاف الكلمة، وسقوط الهيبة3
 
خرج عليه مروان بن محمّد بن مروان، فهرب إبراهيم من دمشق، ثمّ ظفر به مروان فقتله وصلبه، وقتل من مالأه ووالاه، وبدأ أمر بني أميّة يؤول إلى ضعف4.
 
5- مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم:
 
آخر خلفاء بني أميّة، أبو عبد الملك، المعروف بمروان الحمار، قيل: لأنّه كان لا يجفّ له لبد13 في محاربة الخارجين عليه، كان يصل
 
 
 

1- الصدوق: ثواب الأعمال ص 261.
2- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 252- 253.
3- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 244.
4- المصدر السابق ج 3 ص 251.
5- اللبد: بساط من صوف أو غيره يجعل على ظهر الفرس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

53

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 السير بالسير، ويصبر على مكاره الحرب، ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار في الحروب، فلذلك لقّب به. وقيل: لأنّ العرب تسمّي كلّ مائة سنة حماراً، فلمّا قارب ملك بني أميّة مائة سنة لقّبوا مروان بالحمار لذلك1.

 
ولم يتهنَّ بالخلافة لكثرة من خرج عليه من كلّ جانب إلى أن خرج عليه بنو العبّاس وعليهم عبد الله بن عليّ عمُّ السفّاح، وسار لحربه فالتقى الجمعان في الموصل، فانكسر مروان، فرجع إلى الشام، فتبعه عبد الله، ففرّ مروان إلى مصر، فتبعه أخوه صالح فالتقيا بقرية بُوصِير، فقتل مروان بها وقطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن عليّ2.
 
بداية العهد العبّاسيّ:
 
وبهذا أسدل الستار على الحكم الأمويّ الذي دام ألف شهر3، لتنتهي بذلك حقبة مظلمة من تاريخ هذه الأمّة، سوّدت وجه التاريخ ظلماً وقتلاً وتشريداً وقهراً، ممّا يطول تعداده وحصره.
 
ليبدأ ثمّة حكم جديد يتزعّمه بنو العبّاس الذين خرجوا يستنهضون الأمّة بشعار الرضا من آل محمّد، يعاونهم العلويّون في شتّى الأقطار والولايات حتّى استتبّ لهم الملك..
 
فما لبثوا أن انقلبوا على العلويّين يوسعونهم قتلاً، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، 
 
 
 

1- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 254- 255.
2- المصدر السابق ص 257.
3- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 259.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

54

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجوّ، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم، أو بالأحرى حتّى لا يبقى مَن مِن شأنه ذلك. حتّى لقد نسي الناس فعال بني أميّة معهم، عندما رأوا فعال بني العبّاس بهم. وحتّى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:

 
تَاللهِ مَا فَعَلَتْ أُمَيَّةُ فِيهِمُ                  مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بَنُو العَبَّاسِ
 
وقال آخر في زمن السفّاح: 
 
يَا لَيْتَ جَوْرَ بَنِي مَرْوَانَ دَامَ لَنَا        وَلَيْتَ عَدْلَ بَنِي العَبَّاسِ في النَّارِ 1
 
وقد كان الإمام الصادقعليه السلامعلى علمٍ بما ستؤول إليه الأمور، وما تستتر خلفه هذه الشعارات واللافتات من نيَّات وأهداف خدعوا بها هذه الأمّة، ومن هنا لم يستدرج الإمام عليه السلام إلى مثل هذه الدعوات، بل كان يحذّر منها أيضاً، لكنّه أعطى ملامح الخطّ السياسيّ الذي كان ينسجم مع تلك المرحلة، دون أن يكون ذلك على حساب الجهاد ضدّ الأمويّين، والإطاحة بملكهم وسلطانهم2.
 
ولهذا نجد أنّ الإمام كان يحذّر بني عمّه الإمام الحسن عليه السلام أن يغترّوا ببعض هذه الدعوات الكاذبة والخادعة، فقد روى الشيخ المفيد رحمه الله: أنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء3، وفيهم إبراهيم بن 
 
 


1- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 95- 96.
2- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية، الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، ج 8 ص 84.
3- منطقة بين مكّة والمدينة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

55

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن عليّ، وعبد الله بن الحسن، وابناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال صالح بن عليّ: قد علمتم أنّكم الذين يمدّ الناس إليهم أعينهم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتّى يفتح الله وهو خير الفاتحين. فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثمّ قال: قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهديّ، فهلمّ فلنبايعه. قال أبو جعفر: لأيّ شيء تخدعون أنفسكم؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور1 أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى- يريد به محمّد بن عبد الله-.

 
قالوا: قد- والله- صدقت، إنّ هذا الذي نعلم. فبايعوا محمّداً جميعاً ومسحوا على يده. قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى أبي: أن ائتنا فإنّا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام. وقال غير عيسى: إنّ عبد الله بن الحسن قال لمن حضر: لا تريدوا جعفراً، فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم. قال عيسى بن عبد الله بن محمّد: (فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له، فجئتهم) ومحمّد بن عبد الله يصلّي على طنفسة رحل مثنيّة فقلت لهم: أرسلني أبي إليكم أسألكم لأيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهديّ محمّد بن عبد الله.
 
قال: وجاء جعفر بن محمّد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلّم بمثل كلامه.
 
 
 

1- الصَّوَر: الميل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

56

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 فقال جعفر: "لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، إن كنت ترى- يعني عبد الله- أنّ ابنك هذا هو المهديّ، فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنّا والله لا ندعك - وأنت شيخنا - ونبايع ابنك في هذا الأمر". فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكنّه يحملك على هذا الحسد لابني. فقال: "والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم"، وضرب بيده على ظهر (أبي العبّاس) ثمّ ضرب بيده على كتف عبد الله بن حسن وقال: "إنّها - والله - ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم، وإنّ ابنيك لمقتولان"، ثمّ نهض وتوكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ فقال: " أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟" يعني (أبا جعفر) فقال له: نعم، فقال: "إنّا والله نجده يقتله"، قال له عبد العزيز: أيقتل محمّداً؟ قال: "نعم".


فقلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة! قال: ثمّ والله ما خرجت من الدنيا حتّى رأيته قتلهما. قال: فلمّا قال جعفر ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟ قال: "نعم، أقوله- والله- وأعلمه"..

وكان جعفر بن محمّد عليهما السلام إذا رأى محمّد بن عبد الله بن حسن تغرغرت عيناه، ثمّ يقول: "بنفسي هو، إنّ الناس ليقولون فيه، وإنّه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

57

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 لمقتول، ليس هو في كتاب عليّ من خلفاء هذه الأمّة"1.

 
كما أنّ الإمام الصادق عليه السلام رفض العروض الكثيرة التي كانت تعرض عليه، من ذلك عرض أبي سلمة الخلّال2 الذي أرسل إليه كتاباً، فقرأه الإمام عليه السلام ثمّ وضعه على المصباح فحرقه، فقال له الرسول- وظنّ أن حرقه له تغطية وستر وصيانة للأمر- : هل من جواب؟ فقال عليه السلام: "الجواب ما قد رأيت"3.
 
وفيه يقول أبو هريرة الآبار صاحب الصادق عليه السلام: 
 
وَلَمَّا دَعَا الدَّاعُونَ مَوْلَايَ لَمْ يَكُنْ       لِيَثْنِي عَلَيْهِ عَزْمَهُ بِصَوَابِ
 
وَلَمَّا دَعَوْهُ بِالكِتَابِ أَجَابَهُمْ            بِحَرْقِ كِتَابٍ دُونَ رَدِّ جَوَابِ
 
وَمَا كَانَ مَوْلَايَ كَمُشْرِي ضَلَالَةٍ        وَلَا مُلْبِساً مِنْهَا الرَّدَى بِثَوَابِ
 
وََلكِنَّهُ لِلَّهِ في الأَرْضِ حُجَّةٌ              دَلِيلٌ إِلَى خَيْرٍ وَحُسْنِ مَآبِ  
 
 
وقد كان أبو سلمة لمّا قتل إبراهيم (المعروف بالإمام) خاف انتقاض الأمر وفساده عليه، فبعث بمحمّد بن عبد الرحمن بن أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي
 
 


1- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 190- 193. ولاحظ: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 184 وما بعدها.
2- وهو حفص بن سليمان، أوّل من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العبّاس، فكان يدعى وزير آل محمّد، وهو غير أبو مسلم الخراسانيّ الذي كان يدعى بأمين آل محمّد، وكان في نفس أبي العبّاس منه شء، لأنّه كان قد حاول في ردّ الأمر إلى غيرهم، فقتل غيلة في ليلة من الليالي عند منصرفه من مجلس أبي العبّاس. (أنظر: المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 298- 299). ولعلّ هذه الرسالة وغيرها كانت من أسباب قتل العبّاسيّين له، وهو صاحب دعوتهم.
3- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 229-230، وفيه مسلم بدل سلمة وهو سهو، فإنّ المعروف بالخلال هو أبو سلمة، وإنّما سمّي بذلك لأنه يسكن درب الخلالين بالكوفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

58

مع أهل زمانه وحكّام عصره

  عبد الله جعفر الصادق وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ يدعو كلّ واحد منهما إلى الشخوص إليه، فأمّا الصادق عليه السلام فلقيه الرسول ليلاً فأعلمه أنّه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله: "وما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري؟!" فقال له: إنّي رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت، فوضع كتاب أبي سلمة على السراج حتّى احترق، وقال: "عرّف صاحبك بما رأيت"، وتمثّل بقول الكميت: 


فَيَا مُوقِداً نَاراً لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا         وَيَا حَاطِباً في غَيْرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ 

فخرج الرسول من عنده وأتى عبد الله بن الحسن فقرأ الكتاب وابتهج، وجاء في غد ذلك اليوم إلى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق وكان أبو عبد الله أسنّ من عبد الله، فقال: "يا أبا محمّد أمرٌ ما أتى بك"، قال: نعم وهو أجلّ من أن يوصف، هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما قبله، وقد تقدّمت عليه شيعتنا من أهل خراسان، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا محمّد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا العراق، أنت كنت سبب قدومهم أو وجَّهت فيهم؟ وهل تعرف أحداً منهم؟" فنازعه عبد الله الكلام إلى أن قال: إنّما يريد القوم ابني محمّداً لأنّه مهديّ هذه الأمّة، فقال أبو عبد الله: "والله ما هو مهديّ هذه الأمّة، ولئن شهر نفسه ليقتلن"، فنازعه عبد الله القول حتّى قال له: والله ما يمنعك من ذلك إلّا الحسد، فقال أبو عبد الله: "والله ما هذا إلّا نصح منّي لك، ولقد كتبإليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك فلم يجد عندي رسوله ما وجد عندك، ولقد أحرقت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

59

مع أهل زمانه وحكّام عصره

  كتابه من قبل أن أقرأه". وفي نصٍ آخر عن الصادق عليه السلام: أنّه قال له: "قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكلّ مسلم، فكيف أدّخره عنك، فلا تمنّ نفسك بالأباطيل، فإنّ الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك"1، فانصرف عبد الله مغضباً ولم يصل رسول أبي سلمة إليه حتّى بويع السفّاح بالخلافة.. .2

 
مع بني العبّاس:
 
1- أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس:
 
المعروف بالسفّاح- لكثرة ما سفك من الدماء- وهو أوّل خلفاء بني العبّاس وملوكهم، وكان أصغر من أخيه المنصور. وإنّما آلت إليه الخلافة، لأنّ أباه محمّد بن عليّ كان قد بدأ دعوة بني العبّاس من خراسان عندما أرسل رجلاً إليها وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمّي أحداً باسمه، ثمّ وجّه أبا مسلم الخراسانيّ وغيره وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه، ثمّ لم ينشب أن مات محمّد، فعهد إلى ابنه إبراهيم، فبلغ خبره مروان (الحمار) فسجنه، ثمّ قتله، فعهد إلى أخيه عبد الله وهو السفّاح، ثمّ كان من أمره وقتله لمروان ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً3.
 
وقتل في مبايعة السفّاح من بني أميّة وجندهم ما لا يحصى من الخلائق، وتوطَّدت له الممالك إلى أقصى المغرب. قالوا: وكان السفّاح سريعاً 
 
 
 

1- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية، الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام، ج 8 ص 183.
2- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 6 ص 202- 203، عن المسعوديّ في مروج الذهب ج 3 ص 280- 281 بتصرّف.
3- السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 257.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

60

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 إلى سفك الدماء، فأتبعه عمّاله في المشرق والمغرب1.

 
وكانت أيّام السفّاح أربع سنين، ولم يشغله تطهير الأرض من بني أميّة عن الإمام الصادق عليه السلام، لعلمه بما له من المنزلة والمقام، وحذراً من أن يتّجه الناس إليه فأرسل عليه من المدينة إلى الحيرة ليفتك به، لكنّ الله تعالى حفظه وأنجاه2.
 
2- أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس:
 
المعروف بالمنصور، والدوانيقيّ، وكان في غاية الحرص والبخل فلقّب "أبو الدوانيق" لمحاسبته العمّال والصنّاع على الدوانيق والحبّات. 
 
تولّى الخلافة في أوّل سنة 137 للهجرة، فأوّل ما فعله أن قتل أبا مسلم الخراسانيّ صاحب دعوتهم وممهِّد دولتهم3. قتل خلقاً كثيراً حتّى استقام ملكه، وهو الذي ضرب أبا حنيفة على القضاء ثمّ سجنه فمات بعد أيّام، وقيل: إنّه قتله بالسمّ لكونه أفتى بالخروج عليه، وآذى خلقاً كثيراً من العلماء قتلاً وضرباً، وأخذ يتتبّع آل أبي طالب ويقتلهم شرَّ قتلة4، بما لا يسع المجال لذكره.
 
وقد كان للإمام الصادق عليه السلام مع المنصور وولاته مواقف عديدة نشير لبعضها:
 
روي أنّ المنصور كتب إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام: لم لا تغشانا 
 
 

1- المصدر السابق ص 257- 259.
2- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 93.
3- المصدر السابق ص 260.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 259.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

61

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟!"، قال: فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا فأجابه: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك"، فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا 1.

 
وعن الربيع صاحب المنصور قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد الله عليه السلام وقد وقع على المنصور ذباب فذبّه عنه ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله لأيّ شيء خلق الله تعالى الذباب؟ قال: "ليذلّ به الجبّارين"2.
 
وعن عبد الله بن سليمان التميميّ، قال: لمّا قتل محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن صار إلى المدينة رجل يقال له "شبّة بن عقال" ولّاه المنصور على أهلها، فلمّا قدمها وحضرت الجمعة صار إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، إنّ عليّ بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين، وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه من أهله، فحرمه الله أمنيته وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتّبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له، فهم في نواحي الأرض مقتّلون وبالدماء مضرّجون. قال: فعظم هذا 
 
 
 

1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 184.
2- الصدوق: علل الشرائع ج2 ص 209.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

62

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف، فقام إليه رجل عليه إزار قومسيّ سحق1 فقال: "فنحن نحمد الله ونصلّي على محمّد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى وأحرى، يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده ارجع مأزوراً، ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبّئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً، وأبينهم خسراناً؟ من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق". فأسكت الناس، وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم 2.

 
محنة الإمام عليه السلام مع المنصور:
 
وكان بين ولاية المنصور وشهادة الإمام الصادق عليه السلام اثنتا عشرة سنة، لم يجد فيها الإمام راحة ولا هدوءاً على ما بينهما من البُعد الشاسع، فالإمام في الحجاز والمنصور في العراق، ومع ذلك فقد كان يتعاهده بالأذى. يقول السيّد ابن طاووس رحمه الله: إنّ المنصور دعا الصادق عليه السلام سبع مرّات، كان بعضها في المدينة والربذة حين حجَّ المنصور، وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة، وبعضها إلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّة إلّا ويريد فيها قتله! هذا فوق ما
 
 
 

1- القومسيّ لعلّه نسبة إلى موضع، والسحق من الثياب البالي.
2- الطوسيّ: الأمالي ص 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

63

مع أهل زمانه وحكّام عصره

  يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول1

 
ونحن لا يسعنا ذكر هذه الأمور بالتفصيل لكن نشير إلى بعض ما لاقاه الإمام من هذه المحن والمصائب:
 
فعن المفضّل بن عمر قال: وجّه أبو جعفر المنصور إلى الحسن بن زيد وهو واليه على الحرمين أن أحرق على جعفر بن محمّد داره، فألقى النّار في دار أبي عبد الله فأخذت النّار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله عليه السلام يتخطّى النّار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى2 أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام3.
 
وروي عن الرضا، عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام فقال: انج بنفسك، فهذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور وذكر أنّك تأخذ البيعة لنفسك على الناس، لتخرج عليهم. فتبسّم وقال: "يا عبد الله لا تُرَعْ، فإنّ الله إذا أراد إظهار فضيلة كتمت أو جحدت أثار عليها حاسداً باغياً يحرّكها حتّى يبيّنها، اقعد معي حتّى يأتي الطلب فتمضي معي إلى هناك، حتّى تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معدل لها عن مؤمن". فجاء الرسول وقال: أجب أمير المؤمنين. فخرج الصادق عليه السلام
 
 

1- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 94. وكان من آثار مجيء الصادق عليه السلام إلى العراق إشادته لموضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه، وهناك آثار كثيرة له عليه السلام في العراق، راجع ص 123 تحت عنوان "الصادق في العراق".
2- في الحاشية على أصول الكافي للسيّد بدر الدّين بن أحمد الحسينيّ العامليّ ص 274: "الأعراق" جمع عرق، وهو الأصل، و "الثرى": الشراب النديّ الذي يخمد النّار لنداوته، فقوله: "أنا ابن أعراق الثرى" معناه أنا ابن من لا تؤثّر فيهم النّار، كما لا تؤثّر في الثرى، على الاستعارة المصرّحة ثمّ أردف ذلك بما لا سبيل إلى إنكاره وهو قوله: "أنا ابن إبراهيم خليل الله".
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 473.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

64

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 ودخل، وقد امتلأ المنصور غيظاً وغضباً، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين تريد أن تفرّق جماعتهم، وتسعى في هلكتهم، وتفسد ذات بينهم؟ 


فقال الصادق عليه السلام: "ما فعلت شيئاً من هذا"، قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنّك فعلت كذا، وأنّه أحد من دعوته إليك. فقال: "إنّه لكاذب". قال المنصور: إنّي أحلفه، فإن حلف كفيت نفسي مؤنتك. فقال الصادق عليه السلام: "إنّه إذا حلف كاذباً باء بإثم". فقال المنصور لحاجبه: حلّف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا- يعني الصادق عليه السلام-. فقال له الحاجب: قل: والله الذي لا إله إلّا هو، وجعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصادق عليه السلام: "لا تحلّفه هكذا، فإنّي سمعت أبي يذكر عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنّ من الناس من يحلف كاذباً فيعظِّم الله في يمينه، ويصفه بصفاته الحسنى، فيأتي تعظيمه لله على إثمّ كذبه ويمينه (فيؤخّر عنه البلاء)، ولكن دعني أحلّفه باليمين التي حدّثني بها أبي، عن جدّي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا يحلف بها حالف إلّا باء بإثمه". فقال المنصور: فحلّفه إذاً يا جعفر! 

فقال الصادق عليه السلام للرجل: "قل إن كنت كاذباً عليك فقد برئت من حول الله وقوّته ولجأت إلى حولي وقوّتي". فقالها الرجل. فقال الصادق عليه السلام: "أللهمّ إن كان كاذباً فأمته". فما استتمّ كلامه حتّى سقط الرجل ميّتاً، واحتمل، ومضي به، وسري عن المنصور، وسأله عن حوائجه. فقال عليه السلام: "ليس لي حاجة إلّا إلى الله، والإسراع إلى أهلي، فإنّ قلوبهم بي متعلّقة". فقال المنصور: ذلك إليك، فافعل منه ما بدا لك. فخرج 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

65

مع أهل زمانه وحكّام عصره

 من عنده مكرّماً، قد تحيّر فيه المنصور ومن يليه.. .1

 
وعن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السلام قال: "أرسل أبو جعفر الدوانيقيّ إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام ليقتله وطرح له سيفاً ونطعا  ً 2 وقال للربيع: إذا أنا كلّمته ثمّ ضربت بإحدى يديّ على الأخرى فاضرب عنقه، فلمّا دخل جعفر بن محمّد عليه السلام ونظر إليه من بعيد يحرّك شفتيه وأبو جعفر على فراشه وقال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا إليك إلّا رجاء أن نقضي دينك ونقضي ذمامك ثمّ ساءله مساءلة لطيفة عن أهل بيته، وقال: قد قضى الله دينك وأخرج جائزتك يا ربيع لا تمضينَّ ثالثة حتّى يرجع جعفر إلى أهله فلمّا خرج قال له الربيع: يا أبا عبد الله أرأيت السيف إنّما كان وضع لك والنطع فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك؟ قال جعفر عليه السلام: نعم يا ربيع لمّا رأيت الشرّ في وجهه قلت: حسبي الربّ من المربوبين وحسبي الخالق من المخلوقين وحسبي الرازق من المرزوقين وحسبي الله ربّ العالمين حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم"3.
 
 
 

1- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 763، عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 172- 173.
2- النطع: بساط من الأدم وهو الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.
3- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 273، عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 162- 163.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

66

الشهادة

 وهكذا كان دأبه صلوات الله عليه مع المنصور في جميع الأوقات والشهور، حتّى دسّ إليه سمّاً نقيعاً في عنب، فأكله سلام الله عليه فجعل يجود بنفسه وقد اخضرّ لونه وصار يتقيّأ ما في جوفه قطعاً قطعاً، ومرض مرضاً شديداً ووقع في فراشه.

 
عن أبي بصير، قال: دخلت على أمّ حميدة1 أعزّيها بأبي عبد الله الصادق عليه السلام، فبكت وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد، لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: "اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة". قالت: فلم نترك أحداً إلّا جمعناه. قالت: فنظر إليهم ثمّ قال: "إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة"2 .
 
ودخل بعض أصحابه عليه السلام- في مرضه الذي توفّي فيه- إليه وقد ذبل فلم يبق إلّا رأسه - أي من شدّة الضعف والمرض- فبكى، فقال: "لأيّ شيء تبكي؟" فقال: كيف لا أبكي وأنا أراك على هذه الحال؟ قال: "لا تفعل فإنّ المؤمن تعرض (عليه) كلّ خير إن قطّع أعضاؤه كان خيراً له، وإن ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له"3 .
 
 
 

1- زوجة الإمام الصادق عليه السلام.
2- الصدوق: الأمالي ص 572.
3- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 68 ص 159.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

67

الشهادة

 وأغمي عليه فلمّا أفاق قال: "أعطوا الحسن بن عليّ بن الحسين (وهو الأفطس) سبعين ديناراً وأعطوا فلاناً كذا وكذا وفلاناً كذا وكذا .."1، وقد نصّ على ابنه موسى بن جعفر وأسرّ إليه تلك الوصيّة وأظهرها وأشهد عليها جملة من الأوصياء والأعداء..

 
وأوصى عليه السلام أن يناح عليه سبعة مواسم، فأوقف لكلّ موسم مالاً ينفق2.
 
وقال لولده الكاظم عليه السلام: "يا بنيّ، إذا أنا متّ فلا يغسّلني أحد غيرك، فإنّ الإمام لا يغسّله إلّا إمام.."3 ثمّ عرق جبينه، وسكن أنينه، وقضى نحبه مسموماً شهيداً صابراً محتسباً، أي وا إماماه وا سيّداه وا صادقاه..
 
فلمّا مات عليه السلام تزعزعت المدينة بسكّانها وخرجت المخدّرات من أوطانها لاطمات للخدود خادشات للنواصي والعيون كلّ تنادي: وا إماماه وا جعفراه وا سيّداه، وخرجت المساكين والأيتام ينادون: وا ضيعتاه وا محنتاه وا قلّة ناصراه.
 
صرخت فرد صرخة الهاشميّات         صاحن حيف أبو الكاظم قضى ومات
فِزعت كل اهل طيبه على الاصوات   تصيح تقول مات ابن الميامين 
 
 
وبكاه ابنه موسى الكاظم عليه السلام قائلاً: "يا أبتاه مِن بعدك واطول حزناه واحسرتاه من بعدك يا أبتاه وا انقطاع ظهراه".
 
 
 

1- الكلينيّ: الكافي ج 7 ص 55.
2- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 9 ص 144.
3- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 224.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

68

الشهادة

 گام او غسله الكاظم او شك لحده    او بيده نزّله او ظل ينتحب عنده

بس احسين محّد غسله وحده          ثلث تيام مطروح ابشهر عاشور 
 
 
فقام موسى عليه السلام في جهاز أبيه عليه السلام فغسّله وحنّطه وكفّنه وعيناه تهملان دموعاً وحمل جنازته عليه السلام إلى البقيع ودفنه جوار أبيه وعمّه عليهما السلام 1.
 
عن يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: سمعته يقول: "أنا كفّنت أبي في ثوبين شطويين2 كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعليّ بن الحسين عليهما السلام، وفي برد اشتراه بأربعين ديناراً" 3.
 
لكن الحسين عليه السلام بقي ثلاثة أيّام بلا غسل ولا كفن، عاري اللباس قطيع الرأس منخمد الأنفاس، ملقىً على الثرى، تسفي عليه الرياح، وتزوره وحوش الفلا..
 
 
لاكن أگول اتخف الأحزان    ما مات مثل حسين عطشان
ولا لعبت عليه الخيل ميدان    ولا ظل ثلث تيام عريان
              ولا نسبت للشام نسوان 
 
 
 

1- مراجع من العلماء الأعلام: كتاب الوفَيَات ج 2 ص 248- 249.
2- "شطا" اسم قرية بناحية مصر تنسب إليها الثياب.
3- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 476.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

69

الشهادة

 عن عيسى بن دأب قال: لمّا حمل أبو عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام على سريره وأخرج إلى البقيع ليدفن، قال أبو هريرة1

 
أَقُولُ وَقَدْ رَاحُوا بِهِ يَحْمِلُونَهُ           عَلَى كَاهِلٍ مِنْ حَامِلِيهِ وَعَاتِقِ
 
أَتَدْرُونَ مَاذَا تَحْمِلُونَ إِلَى الثَّرَى        ثَبِيراً ثَوَى مِنْ رَأْسِ عَلْيَاءَ شَاهِقِ
 
غَدَاةَ حَثَا الحَاثُونَ فَوْقَ ضَرِيحِهِ         تُرَاباً وَأَوْلَى كَانَ فَوْقَ المَفَارِقِ
 
أَيَا صَادِقُ بْنُ الصَّادِقِينَ أَلِيَّةً 2        بِآبائِكَ الأَطْهَارِ حِلْفَةَ صَادِقِ
 
لَحَقّاً بِكُمْ ذوُ العَرْشِ أَقْسَمَ في الوَرَى   فَقَالَ تَعَالَى اللهُ رَبُّ المَشَارِقِ
 
نُجُومٌ هِيَ اثْنَا عَشْرةً كُنَّ سُبَّقاً        إِلَى اللهِ في عِلْمٍ مِنَ اللهِ سَابِقِ 3
 
 
 
ولمّا قبض أبو عبد الله عليه السلام أمر أبو الحسن موسى عليه السلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه.. 4
 
مَاتَ بِالسُّمِّ جَعْفَرٌ لَيْتَ نَفْسِي   آذَنَتْ قَبْلَ نَفْسِهِ بِالذَّهَابِ
 
فَلْتَنُحْ بَعْدَهُ الشَّرِيعَةُ حُزْناً        دُرِسَتْ بَعْدَهُ رُسُومُ الكِتَابِ 
 
 

1- هو أبو هريرة الآبار (العجليّ) من شعراء أهل البيت عليهم السلام.
2- الألية: القَسَم وجمعها ألايا.
3- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 332- 333، عن كتاب مقتضب الأثر.
4- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 1 ص 289.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

70

الشهادة

 الإمام الصادق عليه السلام مع جدِّه الحسين عليه السلام:


لقد ربط الإمام الصادق عليه السلام الناس بجدّه الحسين عليه السلام من خلال أساليب متعدّدة، كزيارة قبره الشريف والحثّ عليها وبيان فضلها، وحثّه الشعراء على رثائه وإنشاد الشعر فيه، وإقامة المجالس الحسينيّة، والحثّ على البكاء والإبكاء عليه، وتحديثه الناس بما جرى من المصائب عليه، وربط الناس به عليه السلام حتّى في بعض المفردات الصغيرة كذكره عند شرب الماء ولعن قاتله.

ونشير هاهنا إلى بعض الروايات الواردة عنه عليه السلام بهذا الشأن:

- دعاؤه عليه السلام لزوار قبر الحسين عليه السلام:

عن معاوية بن وهب، قال: استأذنت على أبي عبد الله عليه السلام فقيل لي: أدخل، فدخلت، فوجدته في مصلّاه في بيته، فجلست حتّى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه وهو يقول:

"أللهمّ يا من خصّنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصيّة، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني، وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

71

الشهادة

 على نبيّك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنّهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلَّفوا بأحسن الخلف، واصحبهم، واكفهم شرَّ كلّ جبّار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجنّ، وأعطهم أفضل ما أمَّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم".

 
"أللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيَّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حفرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا. أللهمّ إنّي أستودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس، حتّى توافيهم من الحوض يوم العطش".
 
فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء، فلمّا انصرف قلت: جعلت فداك لو أنّ هذا الدعاء الذي سمعت منك كان لمن لا يعرف الله عزَّ وجلَّ لظننت أنّ النّار لا تطعم منه شيئاً أبداً، والله لقد تمنّيت أنّي كنت زرته ولم أحجّ، فقال لي: "ما أقربك منه فما الذي يمنعك من زيارته". ثمّ قال: "يا معاوية ولم تدع ذلك"، قلت: جعلت فداك لم أدر أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه، فقال: "يا معاوية من يدعو لزوّاره في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض"1.
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 228.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

72

الشهادة

 - ذكر الحسين عليه السلام عند شرب الماء:

 
عن داود الرقّي، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: "يا داود لعن الله قاتل الحسين عليه السلام، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين عليه السلام ولعن قاتله إلّا كتب الله له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنّما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثلج الفؤاد"1.
 
- بكاؤه على الحسين عليه السلام وحثّه عليه:
 
عن أبي عمارة المنشد، قال: ما ذكر الحسين عليه السلام عند أبي عبد الله عليه السلام في يوم قطّ فرئي أبو عبد الله عليه السلام متبسّماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان عليه السلام يقول: "الحسين عليه السلام عبرة كلّ مؤمن"2.
 
وروى عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت: يا ابن رسول الله! ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك، فقال لي: "أَوَ في غفلة أنت؟ أما علمت أنّ الحسين بن عليّ أصيب في مثل هذا اليوم؟" فقلت: يا سيّدي! فما قولك في صومه؟ فقال لي: "صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 212.
2- المصدر السابق ص 214.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

73

الشهادة

  اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم يعزّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصرعهم ولو كان في الدنيا يومئذٍ حيّاً لكان صلوات الله عليه هو المعزَّى بهم"، قال: وبكى أبو عبد الله عليه السلام حتّى اخضلَّت لحيته بدموعه..1

 
وعن مسمع كردين أنّه قال له: "أفما تذكر ما صنع به؟" (يعني الحسين عليه السلام)، قال: قلت: نعم، قال: "فتجزع"، قلت: إي والله، وأستعبِر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي، قال: "رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيّتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأمّ الشفيقة على ولدها".
 
قال: ثمّ استعبر واستعبرت معه، فقال: "الحمد لله الذي فضّلنا على خلقه بالرحمة وخصّنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع إنّ الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين عليه السلام رحمة لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلّا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خدّه فلو أن قطرة من دموعه سقطت
 
 
 

1- الطوسيّ: مصباح المتهجِّد ص 782.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

74

الشهادة

  في جهنّم لأطفأت حرَّها حتّى لا يوجد لها حرّ، وإنّ الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتّى أنّه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. يا مسمع من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً.."1.

 
- استنشاده الشعراء رثاء الحسين عليه السلام:
 
عن عليّ بن إسماعيل التميميّ عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه السلام إذ استأذن آذنه السيّد (الحميريّ) فأمره بإيصاله، وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلّم وجلس فاستنشده فأنشد قوله:
 
 
أُمْرُرْ عَلَى جَدَثِ الحُسَيْـ    نِ فَقُلْ لِأَعْظُمِهِ الزَّكِيَّهْ
 
يَا أَعْظُماً لَا زِلْتِ مِنْ        وَطْفَاءَ سَاكِبَةٍ رَوِيَّهْ
 
فَإِذَا مَرَرْتِ بِقَبْرِهِ           فَأَطِلْ بِهِ وَقْفَ المَطِيَّهْ
 
وَابْكِ المُطَهَّرَ لِلْمُطَـ        ـهَّرِ وَالمُطَهَّرَةِ النَّقِيَّهْ
 
كَبُكَاءِ مُعْوِلَةٍ أَتَتْ          يَوْماً لِوَاحِدِهَا المَنِيَّهْ 
 
الصراخ والبكاء من داره، حتّى أمره بالإمساك فأمسك..2
 
وعن أبي هارون المكفوف، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 203- 204.
2- الأمينيّ الشيخ عبد الحسين: الغدير ج 2 ص 235.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

75

الشهادة

  فقال لي: "أنشدني"، فأنشدته، فقال: "لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره"، قال: فأنشدته:

 
أُمْرُرْ عَلَى جَدَثِ الحُسَيْـ              ـنِ فَقُلْ لِأَعْظُمِهِ الزَّكِيَّهْ
 
 قال: فلمّا بكى أمسكت أنا، فقال: "مرّ"، فمررت، قال: ثمّ قال: "زدني زدني"، قال: فأنشدته:
 
يَا مَرْيَمُ قُومِي فَانْدُبِي مَوْلَاكِ         وَعَلَى الحُسَيْنِ فَأَسْعِدِي بِبُكَاكِ
 
قال: فبكى وتهايج النساء، قال: فلمّا أن سكتن قال لي: "يا أبا هارون من أنشد في الحسين عليه السلام فأبكى عشرة فله الجنّة"، ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد فقال: "من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة"، ثمّ قال: "من ذكره فبكى فله الجنّة"1.
 
 
 

1- ابن قولويه: كامل الزيارات ص 210.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

76

الشهادة

 في زيارته عليه السلام:

 
روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: "من زارني غفرت له ذنوبه ولم يمت فقيراً".
 
وروي عن أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام أنّه قال: "من زار جعفراً وأباه لم يشتك عينه ولم يصبه سقم ولم يمت مبتلى".
 
وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما لمن زار أحداً منكم؟ قال: "كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.
 
ويزار عليه السلام بما ورد في زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام:
 
"السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل التقوى، السلام عليكم الحجّة على أهل الدنيا، السلام عليكم القوام في البريّة بالقسط، السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم أهل النجوى، أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات الله، وكُذّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا، وأنّكم دعائم الدّين وأركان الأرض، ولم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم
 
 
 

1- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78- 79.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

77

الشهادة

  تدنّسكم الجاهليّة الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منشأكم، منَّ بكم علينا ديان الدّين، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم رحمة لنا، وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم لنا، وطيّب خلقتنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، فكنّا عنده مسمّين بعلمكم وبفضلكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم، وهذا مقام من أسرف وأخطأ، واستكان وأقرّ بما جنى، ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكى من الردى. فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدنيا، واتخذوا آيات الله هزواً، واستكبروا عنها، يا من هو ذاكر لا يسهو، ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شيء، لك المنّ بما وفقتني، وعرّفتني بما ثبّتني عليه، إذ صدّ عنه عبادك، وجحدوا معرفتهم، واستخفّوا بحقّهم، ومالوا إلى سواهم، فكانت المنّة لك ومنك عليّ، مع أقوامٍ خصصتهم بما خصصتني به، فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي مذكوراً مكتوباً، ولا تحرمني ما رجوت ولا تخيّبني فيما دعوت".

 
وادع لنفسك بما أحببت ثمّ تصلّي ثمان ركعات إن شاء الله.
 
فإذا أردت الانصراف فقف على قبورهم وقل: "السلام عليكم أئمّة الهدى ورحمة الله وبركاته، أستودعكم الله. وأقرأ عليكم السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئتم به ودللتم عليه، أللهمّ فاكتبنا مع الشاهدين".
 
ثمّ ادع الله كثيراً واسأله أن لا يجعله آخر العهد من زيارتهم1.
 
 
 

1- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 79- 80.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

78

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد صالح النجفي المعروف بالقزويني رحمه الله:

 
يَا بُدُوراً قَدْ غَالَهَا الخَسْفُ لَكِنْ           لَمْ تَزَلْ في الهُدَى بُدُوراً تَمَامَا

حَاوَلَتْ نَقْصَهَا العِدَى فَأَبَى الرَّحْـ        ـمَنُ إِلَّا لِنُورِهَا الإِتْمَامَا

حَرَّ قَلْبِي لِسَادَةٍ أَزْكِيَاءٍ                  فِي الطَّوَامِيرِ خُلِّدُوا أَعْوَامَا

أَرْهَقُوا الطِّفْلَ وَالمُرَاهِقَ مِنْهُمْ            بِالمُلِمَّاتِ يَقْظَةً وَمَنَامَا

أَرْضَعُوا طِفْلَهُمْ لُبَانَ الرَّزَايَا             وَأَعَدُّوا لَهُ الحُسَامَ فِطَامَا

قَتَلُوهُمْ وَمَا رَعَوْا لِرَسُولِ اللَّـ          ـهِ إلَّا في آلِهِ وَذِمَامَا

يَا جِبَالًا حِلْماً تَفُوقُ الرَّوَاسِي         وَسِجَالًا نُعْمَى تَعُمُّ الأَنَامَا

وَلُيُوثاً غُلْباً إِذَا طَاشَتِ الأَحْـ       ـلَامُ في الرَّوْعِ لَمْ تَطِشْ أَحْلَامَا

لَمْ يَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ إِمَامٍ         مِنْكُمُ عَاشَ بَيْنَهُمْ مُسْتَضَامَا

مَا كَفَاهَا قَتْلُ الوَصِيِّ وَشِبْلَيْـ      ـهِ وَأَبْنَائِهِمْ إِمَاماً إِمَامَا

وَالتَّعَدِّي عَلَى المَيَامِينِ حَتَّى        لَمْ تُغَادِرْ مِنْ تابِعِيهِمْ هُمَامَا

وَرَمَتْ جَعْفَراً رَزَايَا أَرَتْنَا         بِأَبِيهِ تِلْكَ الرَّزَايَا الجِسَامَا

بِأَبِي مِنْ بَنِي النَّبِيِّ إِمَاماً         جَرَّعَتْهُ بَنُو الطَّلِيقِ الحِمَامَا

بِأَبِي مَنْ أَقَامَهُ اللهُ لِلْعِلْـ       ـمِ وَلِلْحِلْمِ غَارِباً وَسِنَامَا

بِأَبِي مَنْ بَكَى عَلَيْهِ المُعَادِي    وَالمُوَالِي لَهُ بُكَاءَ الأَيَامَى 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

79

خاتمة في المراثي

 بِأَبِي مَنْ أَقَامَ حَيّاً وَمَيْتاً                  عَمَدَ الدِّينِ وَالهُدَى فَاسْتَقَامَا

 
بِأَبِي مَنْ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ حُزْناً               في السَّمَاوَاتِ مَأْتَماً قَدْ أَقَامَا
 
يَا حِمَى الدِّينِ إِنَّ فَقْدَكَ أَوْرَى           في حَشَى الدِّينِ جَذْوَةً وَضِرَامَا
 
وَمِنَ المُؤْمِنِينَ أَسْهَرَ طَرْفاً                 وَمِنَ الكَاشِحِينَ طَرْفاً أَنَامَا
 
كُنْتَ لِلدِّينِ مَظْهَراً وَمَناراً               وَلِأَهْلِيهِ جَنَّةً وَعِصَامَا
 
كَانَ بَيْتُ الهُدَى بِهَدْيِكَ مَعْمُو           راً وَقَدْ سَامَهُ الضَّلَالُ انْهِدَامَا
 
لَا مُقَامٌ لِأَهْلِ يَثْرِبَ فِيهَا                  يَوْمَ أَبْكَيْتَ يَثْرِباً وَالمَقَامَا
 
أَيُّهَا البَدْءُ وَالخِتَامُ لِهَذَا الـ               ـكَوْنِ طِبْتُمْ بِدَايَةً وَخِتَامَا
 
إِنْ تُسَامُوا ضَيْماً فَعَمَّا قَلِيلٍ                يُدْرِكُ الثَّأْرَ ثَائِرٌ لَنْ يُضَامَا
 
مَلِكٌ تَخْضَعُ المُلُوكُ لَدَيْهِ                   وَإِلَيْهِ يِلْقَى الزَّمَانُ الزِّمَامَا
 
عَلَمٌ لِلْهُدَى بِهِ اللهُ يَمْحُو                  كُلَّ غَيٍّ وَيَمْحَقُ الآثَامَا
 
وَبِهِ اللهُ يَمْلأُ الأَرْضَ عَدْلاً                وَبِهِ يَكْشِفُ الكُرُوبَ العِظَامَا
 
مُحْيِياً دِينَ جَدِّهِ مُحْكِماً بِالـ              ـبِيضِ وَالسُّمْرِ شَرْعَهُ أَحْكَامَا
 
حَيِّ مَوْلَى جِبْرِيلَ جَهْراً يُنَادِي              في السَّمَاوَاتِ بِاسْمِهِ إِعْظَامَا
 
بِكَ يَا كَافِيَ المُهِمَّاتِ لُذْنَا                  فَرَقاً فَاكْفِنَا الطُّغَاةَ الطَّغَامَا
 
نَشْتَكِيهِمْ إِلَيْكَ في كُلِّ يِوْم                ٍ إِلَامَا نَشْكُو إِلَيْكَ إِلَامَا
 
 
 

1- الأمين السيد محسن: المجالس السنية ج5 ص 514-516.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

80

خاتمة في المراثي

 رثاء الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ قدس سره:

 
وَيْلَ الدَّوَانِيقِيِّ مَا أَشْقَاهُ        قَدْ بَلَغَ الغَايَةَ في شَقَاهُ
 
مِمَّا جَرَى مِنْهُ عَلَى إِمَامِهْ       مِمَّا يُزِيلُ القَلْبَ عَنْ مُقَامِهْ
 
أَيُسْحَبُ الإِمَامُ وَهْوَ حَافِ      أَهَكَذَا شَرِيعَةُ الإِنْصَافِ
 
وَهْوَ ابْنُ مَنْ عَلَا عَلَى البُرَاقِ      إِلَى مَقَامٍ مَا ارْتَقَاهُ رَاقِ
 
أَيُوقَفُ المَوْلَى أَمَامَ عَبْدِهِ          وَالعَرْشُ عَرْشُهُ أَباً عَنْ جَدِّهِ
 
أَيُوقَفُ الإِمَامُ وَهْوَ حَاسِرُ         يَا وَيْلَهُ مَا ذَلِكَ التَّجَاسُرُ
 
إِذْ هُوَ تَاجُ المَجْدِ والكَرَامهْ         فَلَا أَحَقُّ مِنْهُ بِالعِمَامَهْ
 
يَا وَيْلَهُ مِنْ شَتْمِهِ وَسَبِّهِ            ظُلْماً فَمَا أَكْفَرَهُ بِرَبِّهِ
 
أَمِثْلُهُ يُشْتَمُ أَوَ يُسَبُّ              وَهْوَ لِأَرْبَابِ المَعَالِي رَبُّ
 
وَحَرْقِهِ لِبَابِ بَيْتِ الشَّرَفْ         تُرَاثُهُ مِنْ أُمَرَاءِ السَّلَفْ
 
وَالبَابُ ذَاكَ البَابُ بَابُ العَظَمَهْ    وَالنَّارُ تِلْكَ النَّارُ نَارُ الظَّلَمَهْ
 
وَالبَابُ بَابُ كَعْبَةِ التَّوْحِيدِ         وَالنَّارُ نَارُ الكُفْرِ وَالجُحُودِ
 
وَكَمْ وَكَمْ بَنَى عَلَى الفَتْكِ بِهِ     لَوْ لَمْ تَكُنْ عِنَايَةً مِنْ رَبِّهِ!
 
أَتَى بِظُلْمِهِ عَلَى أَتمِّه                حَتَّى أَتَمَّ ظُلْمَهُ بِسُمِّهِ
 
جَنَى عَلَى ذُرِّيَّةِ الرَّسُولِ          جِنَايَةً تَذْهَبُ بِالعُقُولِ
 
وَمَا جَنَى بِهِ عَلَى بَنِي الحَسَنْ    لَمْ يَسْمَعِ الدَّهْرُ بِمِثْلِهِ وَلَنْ 1 
 
 
 

1- الأصفهاني الشيخ محمد حسين: الأنوار القدسية ص 85.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

81

خاتمة في المراثي

 رثاء السيّد مهديّ الأعرجيّ رحمه الله:

 
يَا لَرُزْءٍ هَدَّ أَرْكَانَ الهُدَى                  وَبِنَا قَدْ أَشْمَتَ اليَوْمَ العِدَى
 
يَا لَرُزْءٍ جَلَّ في الكَوْنِ فَجِيعْ             كُلُّ قَلْبٍ مِنْهُ قَدْ أَمْسَى وَجِيعْ
 
أَقْبُرٌ قَدْ هَدَمُوهَا بِالبَقِيعْ                 مَنْ بِها الأَمْلاكُ تَهْوِي سُجَّدا
 
يَا لَرُزْءٍ دَكَّ أَطْوَادَ الرَّشَادْ               وَلِفُسْطَاطِ التُّقَى دَقَّ عِمَادْ
 
يَا نُجُومٌ أُنْثُرِي فَوْقَ الوِهَادْ             فَضِيَا أَقْمَارِ طَهَ خُمِّدَا
 
طَيْبَةٌ لَا طَابَ فِيكِ المَطْعَمُ              لِقُبُورٍ فِيكِ ظُلْماً تُهْدَمُ
 
فَوَقَتْ مِنْهُمْ لِطَهَ أَسْهُمُ                فَأَصَابَتْ قَلْبَهُ وَالكَبِدَا
 
وَيْكَ يَا شَوَّالُ أَخْزَيْتَ الشُّهُورْ       وَبِفَرْطِ الحُزْنِ أَوْغَرْتَ الصُّدُورْ
 
بِكَ هُدَّتْ لِبَنِي الهَادِي قُبُورْ        وَبِكَ الصَّادِقُ قَدْ ذَاقَ الرَّدَى
 
خَصْمُهُ أَوْقَفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ              بَاغِياً مُفْتَرِياً كِذْباً عَلَيْهِ
 
وَهْوَ يُبْدِي العُذْرَ مِنْ خَوْفٍ إِلَيْهِ    قَائِلاً ذَلِكَ مِنِّي مَا بَدَا
 
وَهْوَ شَيْخٌ قَدْ عَرَاهُ الكِبَرُ          قَارَبَ السَّبْعِينَ مِنْهُ العُمُرُ
 
فَغَدَا شَزْراً إِلَيْهِ يَنْظُرُ              قَائِلاً دَعْ عَنْكَ هَذَا الحَسَدَا
 
أَحْرَقَ الدَّارَ عَلَيْهِ الحَطَبْ          فَغَدَتْ أَطْفَالُهُ تَشْكُو العَطَبْ
 
وَإِلَيْهِ دَسَّ سُمّاً في العِنَبْ           فَقَضَى لَهْفِي لَهُ مُضْطَهَدَا
 
وَقْفَةُ الصَّادِقِ فَرْعٌ في الوُقُوفْ    كَانَ قِدْماً لِأَسِيرٍ بِالطُّفُوفْ
 
فِيهِ بِالأَمْصَارِ أَعْدَاهُ تَطُوفْ        مُسْتَضَاماً لَيْسَ يُلْفِي مُسْعِدَا 1 
 
 
 

1- السيد حسن داخل: من لا يحضره الخطيب ج1 ص 361- 362. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

82

المصادر والمراجع

 1- ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار الثقافة، بيروت - لبنان.

2- ابن الصبّاغ المالكي المكّي، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، تحقيق سامي الغريريّ، دار الحديث للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، قمّ - إيران.
3- ابن قولويه القمّي أبو القاسم جعفر بن محمّد، كامل الزيارات، تحقيق نشر الفقاهة، دار السرور، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
4- الأصفهانيّ أبو الفرج، مقاتل الطالبيّين، منشورات مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان.
5- الأصفهانيّ محمّد حسين: الأنوار القدسيّة، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، الطبعة الثانية، قمّ - إيران.
6- آل ياسين الشيخ محمّد حسن، الأئمّة الاثنا عشر سيرة وتاريخ، منشورات الاجتهاد، الطبعة الأولى.
7- الأمين، محسن، أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، بيروت - لبنان.
8- الأمين السيّد محسن: المجالس السنيّة، منشورات الشريف الرضيّ، قمّ- إيران، الطبعة الثالثة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

83

المصادر والمراجع

 9- الأمينيّ النجفيّ الشيخ عبد الحسين، الغدير، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، الطبعة الأولى المميّزة، بيروت- لبنان. 

10- البرقيّ أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، دار الكتب الإسلاميّة، طهران- إيران. 
11- ابن أبي يعقوب إسحاق النديم أبو الفرج محمد، الفهرست، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، بيروت- لبنان.
12- جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، الكلمات القصار لآية الله العظمى السيّد عليّ الحسينيّ الخامنئيّ، نشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
13- الجنديّ المستشار عبد الحليم، الإمام جعفر الصادق عليه السلام، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، القاهرة- مصر.
14- الحاوي البحرانيّ الشيخ جمعة، ديوان دم الشهادة، دار الأنصار، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
15- الحسينيّ العامليّ السيّد بدر الدّين بن أحمد، الحاشية على أصول الكافي، دار الحديث، الطبعة الثانية، قم- إيران.
16- الحكيميّ الخطيب الشيخ محمّد رضا، لولا السنتان، الطبعة الأولى، بدون اسم ولا مكان.
17- الحلّي أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، نشر الفقاهة، الطبعة الأولى، قم- إيران.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

84

المصادر والمراجع

 18- حيدر أسد، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة، بيروت- لبنان.

19- الخوئيّ السيّد أبو القاسم الموسوي، معجم رجال الحديث، الطبعة الخامسة، قم- إيران.
20- الذهبيّ شمس الدّين أبو عبد الله، تاريخ الإسلام، دار الكتاب العربيّ، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
21- الراونديّ قطب الدّين، الخرائج والجرائح، تحقيق ونشر مؤسّسة الإمام المهديّ |، الطبعة الأولى، قمّ- إيران. 
22- الزركليّ خير الدّين، الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، بيروت- لبنان.
23- السرويّ المازندرانيّ محمّد بن عليّ بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، دار الأضواء، بيروت- لبنان. 
24- السيّد حسن داخل، من لا يحضره الخطيب، انتشارات كاشف، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
25- السيوطيّ الإمام الحافظ جلال الدّين، تاريخ السيوطيّ، منشورات الشريف الرضيّ، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
26- الشافعيّ كمال الدّين محمّد بن طلحة، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
27- الشاكريّ حسين، موسوعة المصطفى والعترة، نشر الهادي، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

85

المصادر والمراجع

 الطبعة الأولى، قمّ- إيران.

28- الشبستريّ عبد الحسين، الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، الطبعة الأولى، قمّ- إيران. 
29- الشهيد الأوّل شمس الدّين محمّد بن مكّي العامليّ، الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، الطبعة الأولى، قمّ- إيران. 
30- الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، الأمالي، مؤسّسة البعثة، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
31- الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، منشورات طليعة النور، الطبعة الرابعة، قم- إيران.
32- الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي: علل الشرائع، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
33- الطبريّ ابن رستم، دلائل الإمامة، مؤسّسة البعثة، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
34- الطهرانيّ الآقا بزرك، حصر الاجتهاد، مطبعة الخيّام، قمّ- إيران.
35- الطوسيّ أبو جعفر محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

86

المصادر والمراجع

 المعروف برجال الكشّي، تصحيح وتعليق المعلّم الثالث ميرداماد الإسترآباديّ، تحقيق السيّد مهديّ الرجائيّ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قمّ- إيران.

36- الطوسيّ أبو جعفر محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الرابعة، طهران- إيران. 
37- الطوسيّ أبو جعفر محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد، مؤسّسة الأعلميّ، الطبعة الأولى المصحّحة، بيروت- لبنان.
38- القرشيّ الشيخ باقر شريف، حياة الإمام الصادق عليه السلام، دار الأضواء، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان. 
39- القمّي، أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه: كامل الزيارات، دار السرور، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
40- القمّي الشيخ عبّاس، منتهى الآمال في تواريخ النبيّ والآل، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، الطبعة السادسة، قمّ- إيران.
41- الكلينيّ الرازيّ ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب، الأصول من الكافيّ، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلاميّة، طهران- إيران. 
42- المجلسيّ الشيخ محمّد باقر: بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربيّ، مؤسّسة التاريخ العربّي، الطبعة الثالثة، بيروت- لبنان.
43- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام جعفر 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

87

المصادر والمراجع

 بن محمّد الصادق عليه السلام، نشر المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، الطبعة الثانية، إيران.

44- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، مجلّة رسالة الثقلين، قيادة الإمام الصادق عليه السلام، وليّ أمر المسلمين آية الله السيّد عليّ الخامنئيّ رحمه الله، ترجمة الدكتور محمّد عليّ آذرشب، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
45- مراجع من العلماء الأعلام، كتاب الوفيات، المكتبة الحيدريّة، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
46- مرتضى العامليّ السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة، الطبعة الثانية، قمّ- إيران.
47- المزّي الحافظ جمال الدّين، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الرابعة، بيروت- لبنان. 
48- المسعوديّ عليّ بن الحسين بن عليّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، الطبعة الأولى المحقّقة، بيروت- لبنان.
49- مطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار، ترجمة مالك وهبي، دار الهادي، الطبعة الثانية، بيروت- لبنان.
50- المظفّر الشيخ محمّد الحسين، الإمام الصادق عليه السلام، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، الطبعة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

88

المصادر والمراجع

 الثانية، قمّ- إيران. 

51- المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغداديّ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة أهل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، قمّ- إيران.
52- مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره، النداء الأخير، الوصيّة السياسيّة الإلهيّة لقائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّ، الطبعة السادسة، طهران- إيران.
53- النجاشيّ أبو العبّاس أحمد بن عليّ، رجال النجاشيّ، مؤسّسة النشر التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، قمّ- إيران.
54- النعماني ابن أبي زينب، الغيبة، أنوار الهدى، الطبعة الأولى، قم- إيران.
55- النيسابوريّ محمّد بن الفتّال، روضة الواعظين، منشورات الشريف الرضيّ، الطبعة الثانية، قمّ- إيران.
56- الهاشميّ الدكتور محمّد يحيى، الإمام الصادق ملهم الكيمياء، دار الأضواء، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.
57- اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، دار صادر، بيروت- لبنان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

89
صادق العترة شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام