دراسات عقائدية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدمة 

هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم. عبارة عن جهد جبّار قام به مركز نون للتأليف والترجمة، حيث تمّ مطالعة ومراقبة الدورة العقائديّة الكاملة للشهيد مرتضى مطهّري قدس سره المؤلّفة من خمسة مجلّدات في اللغة العربيّة، ثمّ مقابلتها باللغة الفارسيّة وعمد إلى تفادي بعض الأخطاء الموجودة في الترجمة، وإلى تصحيح بعض العبارات، ثمّ قام المركز بالتوحيد والتأليف بين المطالب المتفرّقة في أنحاء هذه الدورة، وجمعها بشكل علميّ وموضوعيّ، وحذف الموارد الاستطراديّة التي تُناسب المحاضرات ولا تُناسب الكتب العلميّة الدراسيّة، وترتيب هذه الأبحاث دروساً يسهل على الأستاذ تقديمها، وعلى الطالب الاستفادة منها، وقد راعى المركزُ الأساليبَ العلميّة المتّبعة حديثاً في الدروس، من وضع الأهداف والمختصرات والأسئلة، لتكبر الفائدة من الكتاب.

كما وقام المركز بوضع عناوين للفقرات الطويلة، حتّى يسهل على الطالب حصر الفكرة والموضوع المطروح.
 
 
5
 
 

1

المقدّمة

 فهذا الكتاب هو فكر الشهيد مرتضى مطهّري قدس سره الموجود في الدورة العقائديّة الكاملة، حرّره ولخصه ورتبّه وراقبه وبوَّبه مركز نون.


نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد به أجر الشهيد، وينفع به الأمّة الإسلاميّة ويتقبّل عمل المركز إنّه نِعم المولى ونِعم المجيب.
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
6

2

التوحيد

مبادئ عامّة 
طرق التوحيد طريق الفطرة
الطريق العلميّ
التوحيد ونظريـّة التطوّر
البراهين الفلسفية والعقليـّة
توحيد الذات
الصفات
 
 
7
 

3

التوحيد

 الدرس الأول: مبادئ عامـّة في التوحيد 


أهداف الدرس

1- توضيح الفارق بين طريقة حلّ المسائل وأسلوب العرض.
2- إختيار الأسلوب السليم لعرض مسألة التوحيد.
3- إثبات قدرة العقل الإنساني على إدراك ما وراء المحسوسات.
4- إثبات قدرة العقل على معرفة الله وكيفية تصوره.
5- توضيح عدم التنافي بين إمكانية إثبات وجود الله وتناهي الزمان والمكان.
6- إثبات أن ارتباط المعلول بعلته لا يستلزم كونه حادثاً.
 
 
9

4

التوحيد

 يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾1.


يعرّف القرآن الكريم المؤمنينَ الإلهيّين، بأنّهم الذين يعتقدون بأنّ العالم غير محدود ومحصور في إطار عالم الطبيعة والمادّة المسمّى بعالم الشهادة، فهم يؤمنون بمسائل ترتبط بعالم وراء عالم المحسوسات، وذلك العالم هو عالم ما وراء الطبيعة المسمّى بعالم الغيب2

وعلى رأس هذه المسائل هي مسألة التوحيد، بمعنى الاعتقاد بأصل وجود الله3، وقد صرّح بذلك أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "أوّل الدين معرفته"4.
وقبل الدخول في البحث، لا بدّ من تقديم بعض المقدّمات:
________________________________________
1- البقرة: 3.
2- في المقابل فإنّ الماديّين لا يؤمنون بأكثر من عالم الطبيعة والمادّة التي يشهدونها ويحسّون بها مباشرة بحواسّهم الخارجيّة، وهذا من الفوارق بين الماديّين والإلهيّين. فيما يحاول البعض المغالطة في ذلك، حيث يعتمد التمييز بينهما ـ كما نشاهد في الكتب الفلسفيّة الأوروبيّة ـ بكون الماديّ هو الذي ينكر وجود الروح ويؤمن بوجود المادّة، في مقابل المثاليّ الذي ينكر وجودها ويؤمن بوجود الروح فحسب.
3- سيأتي في البحوث اللاحقة بحث التلازم بين الإيمان بالله والإيمان بوحدانيّته، ونحن هنا ننطلق من منطلق الترادف بينهما.
4- نهج البلاغة / الخطبة الأولى.
 
 
11
 

5

التوحيد

 المقدّمة الأولى: التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:


تنقسم المسائل المشكلة التي يُراد حلُّها إلى قسمين:
القسم الأوّل: هي المسائل التي تكمن صعوبتها في معرفة طريقة حلّها، مع كون عرضها- كمسألة- في غاية السهولة، فيعرضها الجميع بنحو واحد، وذلك من قبيل مسائل الرياضيّات، (وهذا ما يُعبّر عنه في المنطق بأنّ المشكلة في التصديق لا في التصوّر).

القسم الثاني: هي المسائل التي تكمن مشكلتها في فقدان العرض الصحيح والتصوّر السليم لها، ممّا يثير إشكالات في حلّها، وذلك من قبيل المسائل الفلسفيّة، فقد يبحث المفكّر عن حلّ مسألة فترةً طويلةً من الزمن دون جدوى، بينما تكمن مشكلته في أنّه وضع من الأساس تصوّراً خاطئاً لها. فالأساس في مثل هذه المسائل هو التصوّر الذهني السليم، ممّا لا يجعل مشكلة في التصديق، (وهذا ما يصطلح عليه في المنطق بأنّ المشكلة في التصوّر لا في التصديق).

وفي مورد بحثنا، وهو مسألة التوحيد، فإنّ هذه المسألة تعتبر من القسم الثاني، حيث الإشكالات التي تثار حولها هي نتيجة عدم العرض الصحيح لهذه المسألة الجليلة، وسنوضّح ذلك بالمثال.

مثال لإشكالات نشأت عن عدم التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:

يذكر العلماء بأنّ مسألة التوحيد هي مسألة فطريّة، ممّا أثار في الأذهان اعتراضات وإشكالات، بأنّه لو كان كذلك صحيحاً، لما انقسم الناس، في كلّ عصر وعلى مختلف الطبقات- حتى العلماء، إلى معسكرين، أحدهما يؤمن بالتوحيد والآخر ينكره!
 
 
12
 

6

التوحيد

 فعلى الأقلّ، لا تقولوا إنّ مسألة التوحيد فطريّة، بل هي معضلة فكريّة عجز الإنسان عن التوصّل إلى حلّ يقينيّ ضروريّ بشأنها.


والجواب: إنّ الشبهات المثارة حول مسألة التوحيد تعود إلى تصوّرهم وعرضهم غير الصحيح لهذه المسألة، فهم مثلاً يتصوّرون موجوداً ماديّاً يطلقون عليه اسم (الله)، ثم يثيرون الشبهات والشكوك حوله. وأمّا لو عُرضت المسألة بصورتها السليمة، لما وقعت هذه الشبهات، ولذا يمكن أن نعبّر عن مسألة التوحيد بأنّها من (السهل الممتنع).
إذاً، فالأولويّة في مسألة التوحيد هي العرض السليم لها. وهناك عدّة أمور لا بدّ أن يلاحظها الباحث عند التحرّك للبحث في مسألة التوحيد.

كيفيّة العرض السليم لمسألة التوحيد:

إذا أردنا البحث في إثبات وجود الله أو عدمه، فلا بدّ من الالتفات إلى عدّة أمورٍ تؤثّر في تكوين عرضٍ سليمٍ لهذه المسألة:

أوّلاً: الأشياء المراد إثباتها تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: يشمل الأشياء التي يُراد إثبات وجودها كموجود مستقل يضاف إلى بقية الموجودات، كماإذا أريد إثبات وجود كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ نضيفه إلى مجموعة الكواكب السيّارة، حيث نثبت وجودَ شيءٍ إلى جانب الأشياء.

الثاني: يشمل الأشياء التي يُبحث فيها عن موجودٍ، إنّما هو موجودٌ في الموجودات ومعها غير خارجٍ عنها، بل يمثّل امتداداً وجوديّاً لها.

وهذا النوع الثاني من قبيل الزمان5، فلو أراد الباحث إثبات وجود الزمان
________________________________________
5- احتدم الجدل حول مسألة الزمان منذ أمد بعيد بين العلماء والفلاسفة، فنفى كثير وجوده، فيما أثبته كوجود خارجيّ أكثرهم.
 
 
13
 

7

التوحيد

كعنصر إلى جانب العناصر الأخرى في مكانٍ ما من هذا العالم- أي بالطريقة نفسها التي يبحث فيها الفلكيّ عن كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ، فإنّه لن يفلح أبداً في إثبات وجوده أو العثور عليه. ويختلف الحال فيما لو كوّن تصوّراً صحيحاً للزمان، وأنّه يمثّل بعداً للأشياء ومعها يضاف إلى أبعادها الثلاثة- الطول والعرض والعمق.وليس جزءاً من أجزاء عالم الطبيعة يقع إلى جنبها، فيتمحور بحثه عنه في دائرة وجود بُعدٍ وامتدادٍ آخر لموجودات عالم الطبيعة يسمّى (الزمان).

ومسألة التوحيد هي من قبيل النوع الثاني. ومثال الزمان يقرّب الفكرة في نوعيّة التوحيد الذي يُراد إثباته، إلا أنّه لا ينطبق عليه بالكامل، فإنّ الله عزّ وجلّ ليس بعداً وامتداداً في الأشياء، ولكنّه ينبّه إلى أنّنا حينما نبحث في التوحيد، فنحن لا نبحث عن وجودٍ محدودٍ يحتلّ مكاناً معيّناً وسط بقية الموجودات، بل عن موجودٍ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾6، وموجود قد أحاطت ذاته بكل الأشياء: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾7، وموجود صدرت منه الموجودات جميعاً، وإليه تعود، فهو أوّلها وآخرها: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾8.

ثانياً: الالتفات إلى خصوصيّة الوجود الإلهيّ:

من الأمور التي لا بدّ للباحث أن يلاحظها عند وضعه التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد، هو أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة أنّ ما يريد إثباته هو وجودٌ ليس كمثله وجودٌ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾9.
________________________________________
6- الحديد: 4.
7- البقرة: 115.
8- الحديد:3.
9- الشورى: 11.
 
 
14

8

التوحيد

 ثالثاً: الالتفات إلى مفاهيم ترتبط بالوجود الإلهيّ:


وأخيراً فلا بدّ للباحث أن يراجع المفاهيم المرتبطة بالله جلّ وعلا، فإنّ وجوده- المراد إثباته- مرتبط بهذه المفاهيم، وذلك من قبيل: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾10، (سبحان ربّي العظيم)، فوجوده وجودٌ منزّهٌ وقدوسٌ، وكذلك: (الله أكبر) فهو أكبر من أن يوصف ومن أن يعتري وجوده أيّ شكلٍ من أشكال الحدّ والنقص.

المقدّمة الثانية: إمكان إثبات وجوده:

ظهرت في التاريخ الحديث وفي أوروبا فكرةٌ تقول بأنّ الإنسان عاجزٌ عن إثبات وجود الله أو نفيه، ذلك أنّ الوسائل المتاحة للإنسان والأدوات التي يمتلكها تنحصر في دائرة الحواس، وتنتمي إلى اكتشاف عالم المادّة، ولا يمكنها أن تطال عالمَ ما وراء الطبيعة، فلا يمكن إثبات وجود الله، لأنّه ليس من الموجودات المحسوسة، ولذلك، فحريّ بالإنسان أن يتوقّف في هذه المسألة المشكلة.

إلا أنّ أصحاب هذا الرأي قد أخطأوا في حصرهم دائرة علم الإنسان بالأمور المحسوسة، فقد غفلوا عن قدرات أخرى للإنسان، وهي القدرة الفكريّة - العقلية - التي تؤهّله للبحث وإصدار الأحكام بشأن مسائل غير محسوسة، ولذلك نرى أنّنا ندرك وجود كثيرٍ من الأشياء ونثبت وجودها دون أن نحسّ بها، فلا نقتصر على إدراك المحسوسات، فيُنقض على هؤلاء بما نثبته من أمور غير محسوسة، كوجود العليّة- وهي العلاقة والارتباط الوجوديّ القائم بين شيئين، بأن يكون وجود الشيء (أ) سبباً لوجود آخر (ب)11-، وكذلك ما يحكم الإنسان
________________________________________
10- الصافات:180.
11- وليس المراد من العليّة ما يتوهّمه البعض من التوالي الزمانيّ، فإنّ التوالي الزمانيّ ممكن حتى مع عدم وجود عليّة، كما أنّ التوالي الزمانيّ يمكن أن تدركه العين، من غير أن تحكم بارتهان وجود الثاني لوجود الأوّل!
 
 
15
 

9

التوحيد

 بكونه ضروريّاً وما يقابله من المحال، كما يتعاطى الرياضيّ عندما يثبت أنّ مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين، فيعتبر ذلك بعد أن يبرهن عليه ضروريّاً، ويعتبر غيره- بأن يكون مجموع زواياه أكثر أو أقلّ- محالاً. فمسألة كون الشيء محالاً أو ضروريّاً مسألة بديهيّة، مع أنّها تحمل مفهوماً يقع خارج دائرة المحسوسات، كما أقرّ العلم بوجود الزمان، مع أنّ الإنسان لا يمكن أن يدركه بأيّ حاسّة من حواسّه....12 


وهنا يُطرح سؤالٌ آخر، وهو حول تمكّن العقل البشريّ من تصوّر الله.

قدرة العقل على تصوّر الله:

ثمّة ثلاثة أقوال في مسألة تمكّن العقل من تصوّر الله عزّ وجلّ:

1ـ ذهب العرفاء إلى عدم إمكانيّة المعرفة العقليّة لله، لكنّهم في المقابل أيّدوا إمكانيّة المعرفة القلبيّة الشهوديّة، وأسبغوا على هذه المعرفة قيمة فائقة، فاعترضوا على من يريد أن (يتعلّم من كتاب العقل آية العشق)13.

2ـ نفى آخرون كلّ معرفةٍ لله، وادّعوا أنّ تصوّر الله خارج عن قدرة الفكر البشريّ، لأنّ تصوّر أيّ شيءٍ هو لون من الإحاطة العلميّة به، فما يرد إلى الذهن البشريّ محدودٌ، والذات الإلهيّة لا يمكن الإحاطة بها، لأنّ ذاته مطلقةٌ غير محدودة.

من هنا، ذهب المعطّلة إلى أنّ المطلوب هو الاعتقاد المبهم كحال عامة الناس وأنكروا امكان معرفة ذات الباري.
________________________________________
12- كذلك استحالة الدور والتسلسل.
13- يعبّر العرفاء عن الانجذاب الباطنيّ القلبيّ إلى الله، والذي هو طريق الفطرة إلى إثبات وجود الله، بـ: (العشق)، وسيأتي ذلك في بحث طريق الفطرة.
 
 
16
 

10

التوحيد

 ويؤيّد هؤلاء كلامهم ببعض ما ورد من النصوص الدينيّة:


يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن)14، وفي خطبة أخرى: (وأنّك أنت الله الذي لم تتناهَ في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً)15، كما ورد في بعض النصوص: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار)16.

3ـ وهناك جماعة من العلماء يقولون: انّ ما طرحه المعطّلة، من عجز العقل البشريّ عن معرفة الله، غير صحيح، وقد فهم - المعطّلة - النصوص بشكل خاطئ، فإن ما تفيده هذه الروايات هو أنّ للإمكانات العقليّة البشريّة في معرفة الله حدوداً معيّنة لا يمكن تجاوزها وهو الصحيح.

ولذلك، يوجد في روايات المعصومين عليهم السلام توجيهاً للمسيرة العقليّة البشريّة، على خلاف ما يُدّعى من أنّها منعت العقل عن ورود هذا المعين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام كما روي عنه: (لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته)17.

بل نحن نرى أنّ عليّاً عليه السلام قد طرح أبحاثاً عميقة جدّاً وبطريقة استدلاليّة عقليّة وفلسفيّة في مجال الإلهيّات، أبحاثاً ليس لها سابق في تاريخ الفكر الفلسفيّ18، وقد لعبت وصاياه دوراً هامّاً في الاهتمام بالأبحاث الإلهيّة العقليّة وفي تطويرها.
________________________________________
14- نهج البلاغة/ الخطبة الأولى.
15- نهج البلاغة/ الخطبة 89.
16- تحف العقول - ص245.
17- م.ن./ الخطبة 49.
18- يمكن ملاحظة خطب نهج البلاغة الكثيرة التي تتحدّث عن التوحيد، وهي مليئة بمثل الأبحاث المذكورة.
 
 
17
 

11

التوحيد

 فالنتيجة: صحيح أنّ العقول عاجزةٌ عن الوصول إلى كنه الباري عزّ وجلّ، إلا أنّنا نؤمن بأنّها تتمكّن من معرفته ضمن حدود معيّنة، بل ثمّة مقدار واجب من هذه المعرفة. 


كيفيّة تصوّر الله:

ولتتمّة البحث، لا بدّ من التعرّض لكيفيّة تصوّرنا لله عزّ وجلّ عبر عقولنا:

لا يمكن أن يرد تصوّر الله إلى الذهن عن طريق الحواس، ذلك أنّ مدركاتنا الحسيّة محدودة ومقيّدة والله تعالى حقيقة مطلقة، لا تنسجم المحدوديّة مع ذاته19، فهل يمكن تصوّره؟

ثمّ ما السبيل إلى تصوّره مع عدم وجود مصداقٍ حسيٍّ له لنتخيّله ثم نتعقّله؟

إنّ تصوّر الله ليس من نوع الماهيّات التي يلزم أن يكون لها مصداقٌ حسيٌّ ليتسنّى تصوّرها، بل هو تصوّر لسلسلة من المعاني والمفاهيم (المعقولات الفلسفيّة الثانية)، والتي ينتزعها العقل مباشرة من الصور الحسيّة والخياليّة، ويكون تصورّه لها في الذهن كليّاً.

وهذا من قبيل تصوّر مفاهيم: الوجود، الوجوب، العلّيّة، القِدَم، مع فارقِ أنّ تصوّر الله يكون مركّباً من عدّة مفاهيم، وليس من نوع التصوّر لمفهوم واحد، فنتصوّر الله بعنوانٍ انتزاعيٍّ عامٍّ، كـ: واجب الوجود، خالق الكلّ، الكمال المطلق، العلّة الأولى، دون أن نستطيع تصوّر كنه ذاته.

والنتيجة أنّ العقل الفلسفيّ قادر على معرفة الله ضمن إطار المفاهيم العامّة
________________________________________
19- كما أنّ الإدراكات الحسيّة من مقولة لا نعثر فيها على تصوّر الله.
 
 
18
 

12

التوحيد

 بلا حاجة إلى مصداق حسيٍّ خارجيّ، ويستطيع أن يحكم على هذه المفاهيم، ممّا يؤسّس إلى علم معرفيّ برهانيّ20.


المقدّمة الثالثة: إثبات الله خارج دائرتي الزمان والمكان:

عندما نبحث في مسألة التوحيد عن إثبات وجود الله، فلا بدّ أن نبحث عن صفحةٍ خفيّةٍ خارج إطار الزمان والمكان، فلا نبحث عن موجودٍ نريد أن نعرف متى كان، كما لا نبحث عن موجودٍ نسأل عنه أين هو؟، لأنّنا نبحث عن وجودٍ كليٍّ ومحيطٍ بالأشياء، عن حقيقةٍ كاملةٍ مطلقةٍ، وليس عن شيءٍ كسائر الأشياء.

إذاً لا بدّ للباحث عن الله أن لا يُقحم عنصرَي الزمان والمكان في مسألة التوحيد.

المكان ومحدوديّته:

وعلى هذا الأساس نفهم أنّ النقاش الدائر حول النظريتين بشأن أبعاد العالم والفضاء الكوني، وأنّه هل له نهاية محدّدة21 أو أنه غير متناه22، لا يؤثّر على مسألة إثبات وجود الله، خلافاً لما يتوهّمه البعض. وتوضيح ذلك:

يعتقد البعض بأنّه لو ثبت أنّ الكون غير محدودٍ، لأثّر ذلك سلباً على إثبات التوحيد، وذلك لأنّنا لن نجد مكاناً خارج حدود كونِنا يقع فيه هذا الإله وملائكته.وبالتالي اعتقدوا بأنّ من شروط الاعتقاد بالتوحيد أن يكون هذا الكون محدوداً، ليكون وراءه سماءٌ يكون الله فيها.
________________________________________
20- بالنسبة لتفاصيل كيفيّة معرفة الله وصفاته، فإنّها ستأتي أخيراً ضمن البحث عن وحدانيّته وصفاته تعالى، بعد أن نثبت وجوده في البحوث الأولى.
21- كما يعتقد إينشتاين.
22- كما يذهب إليه موريس مترلينغ.
 
 
19
 

13

التوحيد

 والجواب: أنّ الموجود الذي يتّخذ لنفسه مكاناً إلى جوار العالم ليس إلهاً في الواقع، والإله الحقيقيّ لا يحتاج في وجوده إلى مكان خاصّ به، بل هو موجودٌ في الأرض وفي السماء وفي جميع الموجودات على حدّ سواء: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾23، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾24.


تناهي الزمان:

أمّا المسألة الثانية، فهي مسألة تناهي الزمان، حيث يمهّد كثيرٌ من الموحّدين الأوربيين لمسألة الاعتقاد بوجود الله بمحدوديّة الزمان، فيتوهّمون بأنّه لنتمكّن من إثبات وجود الله، فلا بدّ أن تكون للزمان بدايةً، لأنّ الله هو الذي خلق العالم والزمان. وبعبارة أخرى: يتصوّرون وجود تلازمٍ حتميٍّ بين الإيمان بالله والاعتقاد بحدوث العالم (بأن يكون له نقطة بداية).

وفي الواقع إنّ هذه المسألة تشكّل إحدى القضايا المهمّة التي اختلفت بشأنها كلمة الموحّدين منذ القدم، فالمتكلّمون هم الذين يعتقدون بما تقدّم من ضرورة حدوث العالم، ويقع على الطرف النقيض منهم الفلاسفة حيث يرون عكس ذلك، ونبيّن النظريّة التي يعتقد بها الفلاسفة في ما يلي: 

نظريّة الفلاسفة:

يعتقد الفلاسفة الإلهيّون المسلمون- قاطبةً- أنّ الإيمان بالله يستلزم الاعتقاد بعدم وجود بداية للعالم، فإنّ وجود الله بحدّ ذاته دليلٌ على عدم وجود بدايةٍ للعالم الكونيّ، لأنّ وجوده هو الوجود الكامل والتامّ من جميع الجهات، والمنزّه عن جميع أشكال الوجود بالقوّة والاستعداد، فلا يمكن أن يكون فاقداً لشيءٍ ثمّ
________________________________________
23- الأنعام: 3.
24- البقرة: 115.
 
 
20
 

14

التوحيد

 يحصل عليه فيما بعد، فهذا يعني أنّه واجب الوجود من جميع الجهات، فكل ما فيه واجبٌ وضروريّ. 


وهذا يصدق على فيضه وخالقيّته، فلا يمكن أن لا يكون خالقاً منذ الأزل ثمّ يصبح خالقاً فيما بعد، فخالقيّته لا بدّ أن تكون غير محدودةٍ، كما أنّ إلهيّته غير محدودةٍ، لا في ذاتها ولا في أفعالها.

وفي الأدعية المأثورة ما يشير إلى هذا المعنى، مثل تعبير: (يا قديم الإحسان)، فهو يفيد أنّ الإحسان الإلهيّ - الذي يعني الخلق والإيجاد وإيصال الفيض الإلهيّ إلى مخلوقاته - هو إحسانٌ قديمٌ وموجودٌ دائماً.

القرآن والخالقيّة:

أمّا بالنسبة للمنطق القرآنيّ، فهو عندما يشير إلى هذا الموضوع، فإنّ غاية ما يثبته هو كون الله هو الخالق، يقول تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾25، وفي آية أخرى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبــَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِـينَ﴾26 دون أن يكون ثمّة فرقٌ بين أن يكون العالم محدوداً أو غير محدودٍ، فالله خلقه وكانت له بدايةٌ أم لا.

معنى كون العالم مخلوقاً ومعلولاً:

قد يسأل سائل: إذا كان العالم قديماً، فكيف يمكن وصفه بأنّه مخلوقٌ؟! فالمخلوق هو الذي لم يكن ثمّ كان؟!

والجواب: إنّ المخلوقيّة- ومعلوليّة المعلول لعلّته- لا تستلزم كون المعلول
________________________________________
25- الأنعام: 102.
26- الأعراف: 54. 
 
 
21
 

15

التوحيد

 معدوماً في زمانٍ ثمّ يظهر للوجود لاحقاً، بل يكفي أن يكون وجوده مفاضاً عليه من غيره، وأن تكون ذاته قائمةً بغيره- بأن يكون ممكن الوجود، بحيث يكون وجوده بعلّةٍ خارجةٍ عن ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يؤثّر فيه أن يكون مسبوقاً بعدمٍ أو لا. 


إذاً، ليس للعدم الزمانيّ أيّ دورٍ في كون الشيء معلولاً لغيره أو لا، فلو فرضنا وجود شيءٍ من الأزل إلى الأبد، ولكنّ وجوده مرتهنٌ بوجود الله ومفاضٌ منه جلّ وعلا، فإنّ هذا الشيء يكون مخلوقاً ومعلولاً لله، فـ (الحدوث الذاتيّ) للأشياء يكفي لإثبات كونها مخلوقةً لله عزّ وجلّ.

وبعبارة أخرى: إنّ معنى الخالق هو أنّه القيّوم، أي الذي يقوم به عالم الخلق.

إفتقار الكون إلى الله:

وممّا يترتّب على اعتقاد الفلاسفة الإلهيّين، هو أنّ الكون كما هو فقيرٌ إلى الله في أصل وجوده، فهو يفتقر إليه في استمراره أيضاً.

وكذلك فإنّ الروح الإلهيّة لم تُنفخ في الحيّ الأوّل فحسب، بل الحياة دائماً وفي كلّ الأحوال، سواء في البداية أم خلال التكامل، هي فيض إلهيّ.

فكما أنّ آدم أبا البشر مخلوقٌ بفيضٍ إلهيٍّ، كذلك جميع البشر. ولذلك نجد القرآن عندما يسرد قصّة النبيّ آدم عليه السلام، وبالرغم من أنّه يذكر مجموعةً كبيرةً من الدروس والتعليمات، فإنّه لم يستدل بخلقه عليه السلام على التوحيد، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الإفاضة لم تقتصر على آدم عليه السلام ليقتصر استدلال القرآن على التوحيد بقصّته، بل إفاضة الحياة من الله تعمّ جميع المخلوقات، وبذلك يستدلّ على التوحيد، ولا يتمسّك في الاستدلال على التوحيد بموضوع بدء الحياة والخليقة فحسب. 
 
 
22
 

16

التوحيد

 النتيجة:


يعتقد الفلاسفة الإلهيّون بأنّ الله خالق هذا العالم الكونيّ بلا حاجةٍ إلى سؤال: متى خلقه؟، لأنّ الله مستمرٌ في إفاضته وخلقه لهذا العالم، سواء كانت له بدايةٌ أم لا.

خلاصة الدرس 

ـ يمتاز المؤمنون عن الماديّين بأنّهم يعتقدون بعالم الغيب، بالإضافة إلى اعتقادهم بعالم الشهادة.

ـ يؤمن الإلهيّون بسلسلة اعتقاداتٍ، يقع على رأسها مسألة التوحيد.

ـ هناك عدّة مقدّمات لا بدّ منها للوصول إلى نتيجةٍ صحيحةٍ في مسألة التوحيد:

1ـ المقدّمة الأولى: إنّ التوحيد من نوع المسائل التي تكمن مشكلة حلّها في وضع تصوّرٍ صحيحٍ لها، وإذا أردنا أن نضع تصوّراً صحيحاً لمسألة التوحيد، فلا بدّ من الالتفات إلى أمورٍ:

أ- إنّ ما نريد إثباته هو موجود في الأشياء ومعها، وليس إلى جنبها.

ب- وأنّه موجودٌ ليس كمثله شيء.

ج- وأنّ هناك بعض المفاهيم المرتبطة به، فهو وجودٌ منزّهٌ وقدّوسٌ...

2ـ المقدّمة الثانية: ادّعى البعض بأنّ الإنسان بأجهزته- الحواسّ- التي يمتلكها، عاجزٌ عن إدراك وجود الله، على فرض كان موجوداً، وهؤلاء قد غفلوا عن إمتلاك الإنسان للقدرة الفكريّة التي تؤهّله لإصدار الأحكام بشأن المسائل غير المحسوسة.
 
 
23
 

17

التوحيد

3ـ المقدّمة الثالثة: عندما نبحث عن الله، فلا بدّ أن نبحث عن وجودٍ كليٍّ ومطلقٍ، محيطٍ بالأشياء، فنبحث عنه خارج دائرتي الزمان والمكان، ولذا، فلا يؤثّر في إثبات وجوده كون المكان محدوداً أو لا، ولا كون الزمان متناهياً أو لا. 

 
أسئلة الدرس 

1- أين تكمن مشكلة التوحيد، في التصوّر أو التصديق؟
2- ما هي أهمّ المسائل التي ينبغي رعايتها للعرض الصحيح لمسألة التوحيد؟
3- ما هي مشكلة من ادّعى عدم إمكان إثبات وجوده تعالى؟
4- هل يستطيع العقل أن يتصوّر الله؟ وكيف؟
5- هل يقع البحث عن الله في داخل دائرتي الزمان والمكان أو خارجهما؟ 
 
 
24
 

18

طرق التوحيد طريق الفطرة

أهداف الدرس
1 ـ تعداد طرق إثبات وجود الله.
2 ـ إثبات عجز العلم عن الكشف على وجود الله استقلالاً.
3 ـ معرفة دليل الفطرة الدال على وجود الله.
4 ـ النصوص الحاكية عن دليل الفطرة الشرعية والعلمية.
5 ـ فهم موقف الفلاسفة والعرفاء من الطريق الفطري.
6 ـ تحديد أسلوب تنمية التوجه الفطري.
 
 
 
25
 

19

طرق التوحيد طريق الفطرة

  طرق إثبات وجود الله:

يمكن تصنيف طرق إثبات وجود الله بشكلٍ عامٍ إلى ثلاثة طرقٍ رئيسة، يتفرّع عنها طرقٌ أخرى1، وهي كما يلي:

1ـ طريق الفطرة.
2ـ الطريق العلميّ وشبه الفلسفي.
3ـ الطريق الفلسفيّ.

بيان عامّ للطرق:

ونبيّن بإختصار هذه الطرق، حتّى يتّضح الفارق بينها.

1ـ طريق الفطرة:

ويعبّر عنه أيضاً بطريق القلب، وينطلق هذا الطريق من خلال باطن الإنسان و الإحساس الكامن في كيان كلّ إنسان، فقد جُبِل الإنسان في فطرته وخلقته على إحساسٍ وميل ذاتيّ يهديه بصورةٍ طبيعيّةٍ إلى الله ويجذبه إليه.
________________________________________
1- ونحن نعتقد بصحّة هذه الطرق جميعاً.
 
 
27
 

20

طرق التوحيد طريق الفطرة

  فهذا الطريق ينطلق من النفس، ليستكشف تلك الجاذبيّة التي تربطه بحقيقة إسمها (الله)، ليثبت من خلال ذلك وجود هذه الحقيقة، من دون أن يكون له علاقةٌ بالعلم التجريبيّ أو بالفكر والاستدلال.


2ـ الطريق العلميّ:

وهو المعبَّر عنه بطريق الحسّ أو العلوم التجريبيّة، والذي يقوم على أساس التجارب والاختبارات. ونحن نعرف أنّ مهمّة العلم هي التعريف بظواهر العالم. ولذلك فإنّ اكتشافات العلم لا بدّ أن تكون محدودةً، كاكتشاف العناصر والكواكب السيّارة.... فينطلق هذا الطريق من الموجودات والمخلوقات والأمور المحسوسة لإثبات وجود الله. ومن هنا، يستحيل أن يقوم العلم وحده بالكشف عن الله وتعريفه ـ خلافاً لرأي الأكثر- فإنّ الشيء الذي يحيط به العلم ويخضعه لتجاربه لا يمكن أن يكون إلهاً ولا روحاً ولا زماناً ولا غيرها من الأمور التي ليس لها حدود، فهذه الأمور خارجة عن دائرة التجربة وأدواتها.

وبعبارة أخرى، فإنّ طريق العلم التجريبيّ يبحث عن العناصر التي تكون إلى جنب الأشياء. وقد ذكرنا في المقدّمات أنّ من خصوصيّات مسألة التوحيد أنّها من نوع المسائل التي يُبحث فيها عن موجود لا يقع إلى جانب الأشياء، وإنّما هو موجودٌ في الأشياء ومعها.

إذاً، لا يتمكّن العلم بشكلٍ مباشرٍ ومستقلٍّ من الكشف عن الله عزّ وجل، وإنّما يلعب العلم دورَ العامل المساعد في عمليّة الكشف هذه، وذلك بعد أن نضمّ إليه العقل(الفلسفة)، فنستعين بالعلم لمعرفة الله عن طريق مخلوقاته التي نحسّ بها.

ولذا، فالجدير أن يسمّى هذا الطريق بالطريق شبه الفلسفيّ.
 
 
28
 

21

طرق التوحيد طريق الفطرة

  3ـ الطريق الفلسفيّ:

وهو طريق العقل والاستدلال البرهانيّ، ويقوم على سلسلة من المعاني والمفاهيم، وبوسيلة نوع من المحاسبات والتقسيمات الذهنيّة والعقليّة، يمكن إثبات وجود الله. فلا حاجة في هذا الطريق للإستناد إلى معرفة المخلوقات والظواهر الموجودة والمحسوسة. ولذا، فهو طريق فلسفيّ محض.

وخلاصة الكلام: أنّ طرق معرفة الله الثلاثة، بعضها يرتبط بالقلب والأحاسيس الذاتيّة الفطريّة، وبعضها يستند إلى العلم التجريبيّ فيستدلّ بالمخلوق على معرفة الله، والطريق الأخير يعتمد الاستدلال والبرهان العقليّ.

ونشرع في بيان هذه الطرق الواحدة تلو الأخرى، ونفصلها في بحوث.

طريق الفطرة:

ذكرنا أنّ طريق الفطرة هو الطريق الأوّل في إثبات وجود الله، وهو يعتمد على التعلّق الذاتيّ والانجذاب الموجود في كيان كلّ إنسانٍ، بحيث يهديه بالطبع والغريزة إلى المبدأ جلّ وعلا، من غير أن يعتمد على التجربة العلميّة أو الاستدلال والبرهان الفلسفي. وتوضيحه:

أجهزة الإنسان:

يمتلك الإنسان نوعين من الأجهزة:

1ـ جهاز الحسّ والإدراك:

ونقصد به ما يدركه بحواسّه الخمس ـ أو أكثر ـ بالإضافة إلى تعقّله وتفكيره بواسطة العقل والإدراك وتحليله لما أحسّ به، وهو الجهاز الذي يعتمد عليه في
 
 
29
 

22

طرق التوحيد طريق الفطرة

  الإحساس بالموجودات من حوله، ويصل من خلاله إلى اكتشاف العلوم الطبيعيّة، وإلى اكتساب المعارف الفلسفيّة.

2ـ الميول والأحاسيس:

لدى الإنسان جهاز آخر يتمثّل بتلك الميول الكامنة في نفسه والتي ترتبط بقلبه ـ حسب الإصطلاح الشائع ـ، إذ توجد في الإنسان مجموعة من الميول والغرائز، بعضها من الغرائز الحيوانيّة، كغريزة الرغبة في الطعام والجنس، وبعضها يشكّل مجموعةً من الميول والتطلّعات السامية، كالميل إلى الفضائل وإلى البحث والتحقيق(حبّ الاستطلاع والمعرفة).

وهنا نشير إلى أنّ أكثر العلماء يقرّون ويسلّمون بوجود هذه الميول والأحاسيس.

تقرير طريق الفطرة:

إذا تبيّن ذلك نقول: إذا رجع الإنسان إلى نفسه، فإنّه سوف يرى أنّه مرتبطٌ بحقيقةٍ يرغب في التقرّب منها، متحرّراً من سجن (الأنا)، فيندفع إلى التسبيح لها والسير إليها.

إذاً، هناك ميلٌ سامٍ كامنٌ في مركز ميول الإنسان القلبيّة ـ لا العقليّة ـ يدفعه إلى الاعتراف بالله وعبادته والسير إليه.

وبعبارة أخرى: إنّ في قرارة كلّ إنسانٍ نزوعاً وإندفاعاً داخلياً نحو مصدر العالم، ونحو القدرة المطلقة والعلم المطلق والوجود المطلق، فالاعتقاد بالله مخلوقٌ ضمن فطرة كلّ إنسان، ولكن يحجبهم عنه ستار الغفلة الماديّ، فإذا انزاح هذا الستار، يرى الإنسان معبوده الفطريّ. ولذا، فإنّ الإنسان إذا أحسّ بالخطر والضرر وانقطعت عنه الأسباب الماديّة والظاهريّة يحيا هذا الشعور
 
 
30
 

23

طرق التوحيد طريق الفطرة

 الفطريّ من جديد، فيندفع هذا الإنسان إلى الله وينسى العلل والأسباب الظاهريّة، وذلك ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه ذلك الرجل المتحيّر وقال له: (يا ابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني، فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟، قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟، قال: نعم، قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجّي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث)2


القرآن والفطرة

ويعدّ الإسلام أوّل من أماط اللثام عن حقيقة أنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان مفطوراً على الدين: ومن أبرز الآيات وأوضحها قوله تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾3.


تنبيه القرآن إلى طريق الفطرة:


نبّه القرآن في آياتٍ متعدّدةٍ إلى طريق الفطرة. ولذلك، فإنّ القرآن يُعدّ أصل هذا الطريق، ويعبّر القرآن عن هذه الحقيقة بأشكالٍ متعدّدةٍ، فيعتمد أحياناً لغةَ الرمز والإشارة، كما في (آية عالم الذرّ) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾4، فالمقصود من قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾

________________________________________

2- معاني الأخبارـ الشيخ الصدوق ـ ص: 4.

3- الروم:30.

4- الأعراف:172.

 

31

 

24

طرق التوحيد طريق الفطرة

 أنّه جذبهم إليه وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم. ولذلك، فهو لم يعبّر بأنّه أخذ من ظهر آدم الذريّة بل عبّر من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم وسألهم: ﴿ألستُ بِرَبِّكُمْ﴾ فأقرّوا و: ﴿قَالُوا بَلَى﴾.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾5

حيث تبيّن الآية أنّ أي قوّة سوى الله عاجزةٌ عن بعث الطمأنينة والسكينة فيه، وما ذلك إلا للتوجّه والميل الباطني للإنسان بفطرته إلى الله.

والقرآن إذ يبيّن هذه الحقيقة، فهو تارةً يبيّنها بمفهومها الخاصّ (أي يبيّن التوجّه والميل لدى خصوص الإنسان)، وذلك من قبيل الآيات الآنفة الذكر، وأخرى يبيّنها بمفهومها العام القائل بأنّ جميع المخلوقات - بما فيها الإنسان - تتحرّك نحو الله، يقول تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾6.

الأحاديث والفطرة:

وكذلك نجد الإشارة إلى وجود الاعتقاد بالله في فطرة وعمق كلّ إنسان في الأحاديث، كما في الحديث الشريف: (كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)7. وفي الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (...فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته...)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
________________________________________
5- الرعد:28.
6- آل عمران:83.
7- المجلسي-بحار الأنوار-ج3 -الطبعة الثانية المصححة- مؤسسة الوفاء - بيروت.
 
 
32
 

25

طرق التوحيد طريق الفطرة

  وقد أيّد هذا الطريق كلّ من علماء النفس والفلاسفة والعرفاء، إلا أنّ كلّ واحدٍ قام ببيانه على طريقته ووفق أدواته واصطلاحاته، ونتعرّض لذلك على نحو الاختصار8.

موقف علماء النفس والفلاسفة 

المعاصرين تجاه فطريّة التوحيد:

قام علماء النفس المعاصرون بالكشف بواسطة التجربة وأساليب علم النفس عن الإحساس الذاتيّ والانجذاب المعنويّ إلى الله، ولذلك، فإنّ من النظريّات المهمّة والرصينة في أدلّتها التي توصّل إليها المحقّقون من علماء النفس هي النظريّة المؤيّدة لحقيقة فطريّة معرفة الله9، ونتعرّض لأهمّ هؤلاء:

ـ عالم النفس الشهير يونغ: يوافق (يونغ) ما قام بكشفه أستاذه (فرويد) من عدم حصر الشعور الإنساني بمصداقه الظاهر، ويعتقد- بالتالي- بوجود شعورٍ غفلوا عنه هو: الشعور الباطنيّ في الإنسان، ويعتقد أنّ هذا الشعور موجودٌ في فطرة كلّ إنسانٍ وأصل خلقته قبل أن يولد ويأتي إلى الدنيا.

إلى ذلك يعتقد (يونغ) بأنّ الاعتقاد بالله عنصر أصليّ في الشعور الباطنيّ10.

ـ عالم النفس والفيلسوف الأميركي وليم جيمس11: ويعدّ هذا العالم من المدافعين بقوّة عن مسألة وجود الميل والنزوع الغريزيّ للاعتقاد بالله في كيان
________________________________________
8- هذا المقطع من البحث منتقى من كتاب الفطرة، الشهيد مطهري، مؤسسة البعثة، ط1، ص:196 ـ 208.
9- ونحن هنا لا ندّعي أنّه قد اتفقت كلمة علماء العصر الحديث على هذا الرأي!
10- يختلف (يونغ) مع أستاذه (فرويد) في تشكّل الشعور الباطني، ففيما يعتقد (فرويد) أنّ الشعور الباطني إنّما يتشكل من العناصر التي ينبذها الشعور الظاهريّ ولا يرغب بها، يعتبر (يونغ) أنّ هذه العناصر إنّما تشكّل جزءاً من الشعور الباطنيّ فحسب.
11- ويعدّ هذا العالم من العلماء المعاصرين حيث أدرك القرن العشرين وتوفّي في النصف الأول منه.
 
 
33

26

طرق التوحيد طريق الفطرة

  الإنسان، فهو يعتقد بأنّ معظم الرغبات والميول الموجودة فينا هي منبعثة من عالم ما وراء الطبيعة ولا سيّما تلك الميول السامية، ولذلك، فإنّه من غير الممكن تفسير الكثير من هذه الميول على ضوء الحسابات الماديّة والعقلائيّة (أي المنافع والمصالح). وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ تعلّقنا بذلك العالم أشدّ وأقوى من تعلّقنا بهذا العالم المحسوس والمعقول. ويصرّح هذا العالم بما ذكرناه من حقيقة فطريّة الميل نحو الله، وهو يقول: (إنّني مقتنع - وبقوّة- بكون القلب منبع الحياة الدينيّة ومبعث التوجّه الدينيّ (...)، وإنّني مقتنع بأنّ الرؤى والمناهج العمليّة الفلسفيّة والتوحيديّة هي بمثابة ترجمات لحقائق كتبت بلغة أخرى).

ـ ألكسيس كارل: يدافع هذا العالم المشهور في كتابه (الدعاء) بحماس عن نظريّة الحسّ الديني وكونه حسّاً أصيلاً في الإنسان. فمثلاً عندما يتحدّث عن أصالة الدعاء، يقول: (الدعاء عروج روحيّ إلى الله، وهو عروج الروح الحقيقيّ إلى الله). وفي فقرة أخرى يقول: (الدعاء أسمى حالة دينيّة مقدّسة، حيث تحلق روح الإنسان إلى الله... ويوجد في الوجدان الإنسانيّ شعلة تعرّف الإنسان إلى خطاياه وانحرافاته، وهي التي تصدّه عن الوقوع فيها...).

ومن الفلاسفة المعاصرين الذين توصّلوا إلى عين هذه النتائج:

ـ المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي أرنست رينان: ينقل فريد وجدي في دائرة المعارف عن (رينان) قوله: (من الممكن أن يضمحلّ ويتلاشى كلّ شيءٍ نحبّه وكلّ شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها (...)، ولكن يستحيل أن ينمحي التديّن أو يتلاشى، بل سيبقى أبد الآباد حجةً ناطقةً على بطلان المذهب الماديّ الذي يودّ أن يحصر الفكر الإنسانيّ في المضائق الدنيئة للحياة الطينيّة)12
________________________________________
12- دائرة المعارف 4: 111، مادة (دين).
 
 
34
 

27

طرق التوحيد طريق الفطرة

  ومن العلماء الذين صرّحوا بفطريّة الدين والاعتقاد بالله عزّ وجلّ:

ـ إينشتاين: يقول في كتابه (العالم كما أراه أنا): (.. يوجد اعتقاد ودين(...) موجودٌ في الجميع بلا إستثناء، وإن كان لا يوجد بصورةٍ نقيّةٍ وخالصةٍ بالكامل في أيٍّ منهم. وأعتقد أنّ هذا هو إحساسٌ دينيٌّ كامنٌ في خلقة الإنسان أو وجوده)، ويقول لاحقاً: (..إنّ الحديث هنا ليس عن الإله الذي يظهر بصورٍ مختلفةٍ، بل عن إله هو أعظم من أن يكون بالإمكان وصفه)13.

الطريق الفطريّ :
قد يتوهّم البعض بأنّ علماء النفس المعاصرين هم السبّاقون في مجال اكتشاف ذلك الانجذاب الباطني الكامن في كلّ واحدٍ منّا نحو الله، إلا أنّ هذا الأمر كان قد سبق إليه الفلاسفة، وقد بيّنوا هذه الحقيقة وفق طريقتهم في الاستدلال والبرهان الفلسفيّ.

المسلك العرفانيّ :

وممّن سبق العلماءَ المعاصرين في كشف حقيقة الانجذاب الباطني للإنسان إلى الله العرفاءُ، بل يعدّ أصحاب المسلك العرفانيّ من أشدّ المتحمّسين والمهتميّن بحقيقة فطريّة التوجّه إلى الله، إلى درجةٍ جعلت العرفاء ينتقدون الفلاسفة ويهاجمون الحكماء حين أفنوا جهدهم في الاعتماد على العقل والاستدلال، ويتّهمونهم بأنّهم لم يدركوا قيمة هذه القوّة المعنويّة التي أسموها واصطلحوا عليها بمصطلح: (العشق) الذي يكثر في الأدبيّات العرفانيّة14.
________________________________________
13- ويعتبر إينشتاين، وهو ينتمي إلى الديانة اليهوديّة، أنّ الصورة التي يعرضها كتاب اليهود وكذلك الإنجيل عن الله هي بمستوى متدنٍّ، لأنّهما عرّفا الله بصورة إنسان، في حين نجد هذا الإحساس الدينيّ الفطريّ متجليّاً بالكامل في مزامير داود، وكذلك في البوذيّة.
14- وهنا تكمن نقطة الافتراق بين المسلك العرفانيّ والمسلك الفلسفيّ، فالعارف يعتقد بلزوم الاهتمام بتنمية الإحساس الوجدانيّ بالله، أمّا الفيلسوف فيعتقد بأن الأولويّة هي لتنمية العقل والفكر وقوّة الاستدلال.
 
 
35
 

28

طرق التوحيد طريق الفطرة

  بل ذهب العرفاء إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبروا أنّ الإنسان لا يمكن أن يعبد غير الله. فحتى في مثل الوثنيّ، فإنّه يعبد الله من حيث لا يدري، ففطرته تدفعه إلى عبادة الله، ولكنّه يخطئ في تشخيص المصداق15.

تنمية التوجّه الفطريّ :

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن تبليغ أو تقوية هذا التوجّه الفطريّ؟

وفي جواب ذلك نقول: إنّ هذا الحسّ الأصيل الموجود في الإنسان هو من قبيل الحسّ الفنيّ كالإحساس بالجمال، ولذلك، فهو لا يحتاج إلى تعليمٍ وتدريسٍ لإيجاده، بل هو موجود في داخل الإنسان، فهو إنّما يحتاج إلى إثارةٍ فحسب، بحيث يُحفظ حيّاً في وجودنا.

ومن طرق إثارة هذا الحسّ مسألةُ العبادات، فالإنسان بعد أن يقتنع بواسطة الطرق الأخرى ـ كالاقتناع العقليّ ـ بتوحيد الله، لكي يصير موحّداً عمليّاً ولكي ينمّي هذا الإحساس فلا بدّ أن يلجأ إلى العبادات بشروطها المطلوبة16.
وأمّا العوامل التي تضعف هذا الميل والتوجّه، فهي الرغبات التي تسوق الإنسان إلى الحياة الماديّة الدانية والانحطاط.

إشكال وردّ:

يتوهّم بعض الناس أنّ الإنسان بطبعه يرغب في التنوّع ويميل إليه، فهو يطلب
________________________________________
15- وقد أثارت عباراتٌ لهم في هذا المجال الضجّة واعتراضات الفقهاء، كما في تفسير العرفاء لقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (الإسراء: 23)، بكون هذا القضاء تكوينيّاً محتوماً على كلّ إنسان.
16- كالاستيقاظ عند السحر أو عند مطلع الفجر ويتفرّغ في خلوةٍ مناسبةٍ لإقامة ركعتين بتوجّهٍ قلبي ونيّةٍ خالصةٍ، فهذا يهزّ باطنه ويحرّكه في طريق السير إلى الله.
 
 
36
 

29

طرق التوحيد طريق الفطرة

  شيئاً ويميل إليه ثمّ بعد أن يصل إليه يتبدّل شوقه إلى برود وملل، ثم يميل إلى شيءٍ آخر، وهكذا...

 

وبناءً عليه فإنّ الإنسان يطلب التنوّع بحدّ ذاته.

وهذا التوهّم باطلٌ، فإنّ السبب في كون الإنسان يطلب التنوّع هو أنّه يطلب أهدافاً متوهمة ينجذب إليها باعتقاد أنّها معشوقه الحقيقيّ، وعندما يصل إليها ينكشف له زيفها، فيما الإنسان الذي يطلب المعشوق الحقيقيّ والأصيل، الإنسان الذي يطلب الله وحده، فإنّ إنساناً كهذا لن يهدأ شوقه ولن يتبدّل، ولن يطلب شيئاً آخر إذا ما وصل إليه، لأنّه مطلوبه الحقيقيّ الذي طالما بحث عنه.

ونحن نلاحظ إشاراتٍ إلى هذه الحقيقة في الآيات الكريمة التي تتحدث عن المؤمنين الذين يصلون إلى الجنة وهي هدفهم الحقيقي، كما في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾17، والسرّ في ذلك أنّهم قد حصلوا على مطلوبهم الواقعيّ والحقيقيّ، فهم لا يستبدلون به غيره.
________________________________________
17- الكهف:108. 
 
 
37
 

30

طرق التوحيد طريق الفطرة

  خلاصة الدرس 

ـ هناك ثلاثة طرق لإثبات وجود الله: الطريق الفطريّ، الطريق العلميّ (شبه الفلسفيّ)، الطريق الفلسفيّ.

يعتمد طريق الفطرة على الانجذاب الذاتيّ الكامن في نفس كلّ إنسان نحو خالقه.

فلدى الإنسان نوعان من الأجهزة: جهاز الحسّ والإدراك، وجهاز الميول والأحاسيس.

وهناك ميلٌ وتوجّهٌ سامٍ كامنٌ في نفس الإنسان يدفعه نحو الإيمان والاعتقاد بالله.

وقد أشار القرآن الكريم إلى طريق الفطرة وعبّر عنه بتعابير مختلفةٍ. كما أنّ القرآن قد أشار إلى أنّ الميل والتوجّه إلى الله غير مخصوصٍ بالإنسان بل يعمّ المخلوقات جميعاً.

وأيّدت مجموعةٌ من العلماء والفلاسفة المعاصرين فطريّة توحيد الله، من أمثال: يونغ، جيمس، ألكسيس، رينان، إينشتاين...

علماً أنه قد سبق الفلاسفةُ القدماءُ العلماءَ المعاصرين، في الاستدلال على فطريّة التوحيد، واستدلّوا عليه بطريقةٍ فلسفيّةٍ، وعبّروا عنه بقولهم: (النهايات هي الرجوع إلى البدايات).

ويعدّ العرفاء من أشدّ المهتمّين والمتحمّسين للطريق الفطريّ، وقد هاجموا الفلاسفةَ على اعتبار أنّهم لم يهتمّوا بما فيه الكفاية بهذه القوّة المعنويّة التي أسموها: (العشق)، حيث استغرقوا في البراهين العقليّة.
 
 
38
 

31

طرق التوحيد طريق الفطرة

  كما أنّ الميل الفطريّ إلى الله، هو من نوع الحسّ الفنيّ الذي تقوم تنميته على إثارته بمثل العبادات، فيما تضعفه الرغبات الماديّة الدانية.
والإنسان لا يطلب التنوّع بطبعه، ولكنّه يطلب معشوقاً حقيقيّاً لا يرغب عنه حولاً، إلا أنّه يخطئ فيطبّقه على معشوقٍ مجازيٍّ لا يلبث أن يملّه ويبحث عن غيره. 
 
أسئلة الدرس
 
1ـ ما هي الطرق الرئيسة لإثبات وجود الله؟
2ـ كيف يُستدلّ بالفطرة على وجود الله؟
3ـ هل يؤيّد القرآن طريق الفطرة؟ وهل تشير الأحاديث إلى ذلك؟
4ـ ما هو موقف علماء النفس والفلاسفة من هذا الطريق؟
5ـ ما هي ملاحظة العرفاء على الفلاسفة في هذا الطريق؟
 
 
39
 
 

32

الطريق العلميّ

 أهداف الدرس

1 ـ فهم الطريق العلمي لإثبات وجود الله وإعطاء أمثلة على ذلك.
2 ـ إكتساب القدرة على شرح برهانَيْ الحدوث والنِّظَام.
3 ـ تعداد أنواع العلل وشرح معانيها.
4 ـ شرح الخلاف بين الإلهيين والماديين حول علة وجود الكون.
5 ـ القدرة على شرح حساب الاحتمالات.
6 ـ إثبات نسبية الصدفة وعدم تنافيها مع العلة الغائية.
 
 
41
 

33

الطريق العلميّ

الطريق العلميّ أو شبه الفلسفيّ:


مرّ معنا في المقدّمات أنّ النوع الثاني من طرق إثبات وجود الله، هو الطريق العلميّ الذي يعتمد التجارب ويقوم بدراسة ظواهر العالم، وذكرنا أنّه من المستحيل أن يكشف العلم التجريبيّ عن الله بشكل مستقل، لانحصار اكتشافاته بالأمور الخارجيّة المحسوسة والمحدودة. ولكن يمكن للعلم أن يقوم بدور العامل المساعد وغير المباشر في تعريف الإنسان بالله، وذلك بعد أن نضمّ إليه العقل(الفلسفة)، وحينها يكون دور العلم مفيداً جداً حيث يُعرّف الإنسانَ الله عبر مخلوقاته.

أنحاء المعرفة العلميّة:

هناك ثلاثة أنحاء لإثبات وجود الله عن طريق المعرفة العلميّة، نذكر لمحةً سريعةً عنها، قبل أن نتعرّض إلى كل ّنحو بشكلٍ مستقلٍّ ومفصّل:

1ـ الاستدلال بالنَظْم: وذلك بالتعرّف إلى النظام الدقيق الذي يحكم الموجودات، وبالتالي إكتشاف منظّم يتّصف بقدرة عالية من التدبير والحكمة.
 
 
43
 

34

الطريق العلميّ

 ومثاله: عندما يرى الإنسان عباراتٍ بليغةً منظّمةً قد كُتبت على ورقة، فإنّه يعتقد بأنّ هذا لا يمكن أن يحدث صدفةً، ويكتشف أنّ وراء ذلك موجداً عاقلاً مدبّراً قد نضّد حروفها ونظّم كلماتها.


2ـ الاستدلال بالخلق: إنّ الإنسان يعتقد بأنّ هذا العالم مخلوقٌ وحادثٌ1، فلا بدّ من وجود خالقٍ له، فينطلق للبحث عن خالقه، هذا بغضّ النظر عن النَظْم الموجود في هذا العالم.

ومثاله: ربما يجد الإنسان كومةً من تراب قد أُلقيت إلى جنب الطريق، فينظر إليها على أنّها أمرٌ حادثٌ ـ لم يكن من قبل ـ ممّا يكشف عن موجدٍ لها، فنفس حدوث هذا الأمر يكشف عن محدثٍ، مع أنّه لا يرى فيه نظماً.

3ـ الاستدلال بالهداية: عندما يتأمّل الإنسان في الأشياء من حوله فإنّه يجدها مرتبطةً بمسير حركتها، فهي تسير على وفق هداية خاصّة، فكلّ مخلوق يتحرّك في مسيرٍ خاصٍّ بحيث تبدو حركته صادرةً عن علمٍ، ممّا يكشف عن وجود قوّةٍ معيّنةٍ مخفيّةٍ فيه تهديه.

ومثاله: ما لو تأمّلت في سلوك الجنين بُعيد ولادته، حيث تراه يبحث تلقائيّاً عن ثدي أمّه، ممّا يكشف عن وجود قوّةٍ كامنةٍ فيه تهديه، وهكذا بقية الموجودات وبالتالي يكشف عن ظاهرةِ الهداية، وهذا يختلف عن كلّ من النظم والخلق.

وبعبارةٍ مختصرةٍ: إنّ العلم يعرّفنا بطبيعة وخصائص الموجودات المحسوسة في عالمنا، فعندما يشاهدها الإنسان يتساءل مرّةً: من خلق هذه الأشياء؟!، وأخرى: كيف وُجد هذا النظام الدقيق في عمل أجهزة هذه المخلوقات؟!، وثالثة: من هدى هذه المخلوقات في حركتها ومسيرها نحو غايتها؟!
________________________________________
1- الحادث في الاصطلاح: هو الموجود المسبوق بالعدم. ويقابله القديم: هو الموجود غير المسبوق بالعدم.
 
 
44
 

35

الطريق العلميّ

 إشارة القرآن إلى هذه الأنحاء:


أشار القرآن في سورة الأعلى إلى الأنحاء العلميّة الثلاثة في معرفة الله، يقول تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾2 

فقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ...﴾ إشارةٌ إلى برهان الخلق.

وقوله: ﴿فَسَوَّى﴾ وكذلك: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ...﴾ إشارةٌ إلى النظام الدقيق الذي يتجلّى في وجود الأشياء.

وأخيراً قوله: ﴿فَهَدَى﴾ يتضمّن ذكر هداية الأشياء إلى غاياتها.

هكذا نكون قد بيّنا الأنحاء الثلاثة للاستدلال بالطريق العلميّ بشكلٍ مختصرٍ، فلا بدّ أن نشرع في بيان كلّ نحوٍ وبرهانٍ منها بشكل مستقلٍّ ومفصّل.

أوّلاً: برهان الخلق:

ويسمّى بـ (حدوث العالم) بحسب تعبير الفلاسفة القدماء.

وينطلق هذا البرهان من حدوث الأشياء وخلقها لإثبات ضرورة وجود موجدٍ لها، فإنّ ذلك ما يثبته الأصل العقليّ البديهيّ، فهذا الدليل يستدلّ بالمخلوقات على ضرورة وجود خالقٍ لها.

وتكمن أهميّة هذا الدليل في أنّه يرتبط بالثوابت الدينيّة، فإنّ كلّ متديّن لا بدّ أن يعتقد بأنّ الله خالق كلّ شيء، بمعنى أنّه الموجد له.

وقد بنى عليه البعضُ عقائدَ تصوّروا أنّها ضروريّةٌ في باب التوحيد، كتصوّرهم التلازم بين الإيمان بأنّ الله خالق هذا العالم، وبين كون هذا العالم متناهياً زماناً ومحدوداً مكانا.
________________________________________
2- الأعلى:1 ـ 3.
3- وقد تعرّضنا إلى هذا البحث في الدرس الأوّل(المقدّمات)، فليُراجَع.
 
 
45
 

36

الطريق العلميّ

 ثانياً: برهان النظم:


معنى النظم:

إذا تأمّل الإنسان من حوله فإنّه سيرى أنّ الكيان الماديّ لهذا العالم وأشكال أجزائه قد أُتقن صنعها ونُظّمت بشكلٍ دقيقٍ فألّف بين أجزاء الافراد، وأوجد الانسجام بين الأفراد والتوازن بين الماهيّات بحيث يؤدي إلى الهدف والغاية من وجودها، ممّا يكشف عن أنّ وراءها موجداً عالماً وصانعاً مدركاً مختاراً. 

إذاً، عندما نرى هذا النظم نوقن أنّ هذا العالم لم يوجد على نحو الصدفة، وبالتالي توجد علّة أوجدته بنظمه المتقن، فالنظم هو ما كان ناشئاً عن علّة مدركةٍ مختارةٍ وهادفةٍ.

ولكن حتّى يتبيّن أيّ نظمٍ وأيّ علّةٍ قادرةٍ على إيجاد هكذا نظمٍ متقنٍ، ويثبت من خلالها وجود الله تعالى، لا بدّ أن نبيّن أنواع العلّة.

أنواع العلل:

هناك أربعة أنواع من العلل، وبعض هذه العلل لا يكفي وحده لإثبات التوحيد ـ بخلاف ما توهّمه بعض الباحثين - ولذلك نتعرّض إلى هذه الأنواع بإختصار، ثمّ نبيّن ما ينفعنا في بحثنا هذا.

ولتوضيح أنواع العلل نذكر مثالاً، وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد من جهة:

عندما يريد الإنسان أن يكتب رسالةً، فرسالته حتّى تُنجز تحتاج إلى عدّة علل:

1ـ العلّة الماديّة: والمقصود منها المواد التي يلزم توفّرها لكتابة الرسالة: الورق، القلم، الحبر... فهذه أمور ماديّة للكتابة.
 
 
46
 

37

الطريق العلميّ

 2ـ العلّة الصوريّة: وتعني الهيئة والشكل الذي يُطلب أن تكون عليه الكتابة والخط حتى تؤدّي المعنى المقصود من الرسالة (أي الشكل الصحيح الذي يجب أن ترسم الحروف عليه لتكوين الكلمة فالعبارة)، وكلّ جملةٍ لها صورةٌ غير الأخرى، وإذا تغيّر مكان حرفٍ من الرسالة فإنه تتغيّر بالتالي صورتها.


3ـ العلّة الفاعليّة: والمراد منها القوّة والفاعل الذي سيقوم بفعل الكتابة (القوّة الموجِدة).

4ـ العلة الغائيّة: وهي الهدف المقصود من وراء هذه الكتابة والرسالة، ومنها يستكشف أنّ القوة الموجدة والفاعل هادفٌ وبالتالي يتمتّع بإدراكٍ وإرادة وإختيار. 

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه العلل مترابطة فيما بينها. والعلّة التامّة التي تؤدّي إلى ظهور معلولها لا بدّ أن تكون مشتملة على الأنواع الأربعة ـ مع فقدان المانع - بينما تكون العلّة ناقصة غير مثمرة إذا ما فُقد أحدها.

اعتقاد الإلهيّين والماديّين بالعلّة الفاعليّة:

يتوهّم بعض الباحثين في مسألة التوحيد بأنّ الخلاف بين الماديّين والإلهيّين هو حول وجود العلّة الفاعليّة ـ أي لزوم وجود فاعل وقوّة ما تتولّى إيجاد الحوادث والظواهر في هذا العالم - فيتصوّرون بأنّ الماديّين، خلاف الإلهيّين، ينفون العلل الفاعلية، ويعتقدون بأنّ العالم وُجد من تلقاء نفسه. 

وعند النقاش معهم يستدلون بأنّ العلم التجريبيّ يُذعن بحقيقة قيام الأشياء على أساس العلّة والمعلول، وبحقيقة علاقات ضروريّة تحكم كلّ عالم الطبيعة،
 
 
47
 

38

الطريق العلميّ

 كما أنّه ينكر الاستقلال الذاتيّ للأشياء وظهورها على نحو الصدفة، وبناءً عليه لا يمكن للماديّ أن ينكر وجود منظم لهذا الكون، نعم أقصى ما يمكن أن يدّعيه هو وجود النظم دون أن يسمّي المنظّم، فيما الموحّد يسمّي هذا المنظم وهو الله، فالماديّ يتحدّث عن فاعل مجهول، والموحّد عن فاعل معلوم4


إذاً يُفهم من نقاش هؤلاء الباحثين مع الماديّين أنّهم يتوهّمون أنّ النظم المقصود في برهان النظم هو النظم الناشئ عن العلة الفاعليّة.

لكنّ هذا التوهّم باطل، فحتى الماديّين يستنكرون القول بأنّ العالم وُجد صدفةً، ويعترفون بعلّةٍ أوجدت العالم دون أدنى شكّ، بل على العكس هم يعتقدون بوجود سلسلةٍ دقيقةٍ ومنظمةٍ من العلل والمعلولات، ويعتقدون بحتميّة وجود علّةٍ لكلّ حادث، بل إنّ الماديّين أكثر تأكيداً على هذا الإرتباط من غيرهم5.

فالخلاف بين الإلهيّين والماديّين ليس في ضرورة وجود العلّة الفاعليّة بما يعني أن يكون كلّ معلول ناشئاً عن علّة، بل لا يوجد عاقل في العالم يدّعي وجود العالم من تلقاء نفسه.

وبرهان النظم لم يقم على أساس النظم الناشئ من العلّة الفاعليّة، لأنّ هذا لا يكفي لإثبات عقيدة الموحّد المؤمن بالله، فإنّ الماديّ يعتقد بأنّ الفاعل المنظّم لهذا الكون هو نفس تلك السلسلة من العلل والمعلولات ـ أي عناصر الطبيعة نفسها ـ بلا حاجة إلى وجود الله أو إلى عالم ما وراء الطبيعة.

لذلك فإنّ هذا البيان يبقى قاصراً، وتبقى فيه حلقةٌ ناقصةٌ وهي إثبات منظمٍ 
________________________________________
4- كما وقع فيه المهندس بازركان في كتابه (الطريق المسلوك) ـ وغيره، إلا أنّ له كتاباً آخر بعنوان: (الذرّة اللامتناهية) اعتمد فيه على مبادئ أخرى. لذلك لا بدّ من الالتفات عند قراءة بعض الكتب حول برهان النظم إلى أنّ الاستدلال فيه لا بدّ أن يكون قائماً على العلّة الغائيّة لا الفاعليّة.
5- الا أن الماديين يعتقدون بأن سلسلة العلل والمعلولات غير متناهية من كلا الطرفين التصاعدي والتنازلي، ويكتفون بهذه السلسلة لتفسير حوادث وظواهر هذا العالم.
 
 
48
 

39

الطريق العلميّ

 وفاعلٍ هادفٍ، مدركٍ ومريدٍ ومختارٍ، يقف وراء تلك السلسلة الطبيعيّة من العلل والمعلولات.


معنى النظم في استدلال الإلهيّين:

إذاً الخلاف بين الماديّين والإلهيّين هو في ضرورة وجود إرادة واختيار لدى هذا الفاعل، وبه يتمّ الاستدلال على وجود الله في برهان النظم. فالنظم المقصود في هذا الدليل هو النظم الناشئ من وجود العلّة الغائيّة في هذا الكون.

ففي حين ينكر الماديّ أصل وجود العلّة الغائيّة6، يعتقد الإلهيّ بأنّه من المحال تفسير النظم الموجود في العالم إذا لم نُدخل أصلَ العلّة الغائيّة.

ولتقريب الفكرة نستعين بمثال كتابة الرسالة المتقدّم:

عندما يجد الإنسان رسالةً تشتمل على مضمونٍ وقضايا واضحةٍ، فهو يعتقد بوجود قوّةٍ وطاقةٍ كتبت هذه الرسالة (العلّة الفاعليّة).

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بأنّ هذه القوّة لا بدّ أن تكون ذات إدراك وإرادةٍ واختيار، بحيث أحسنت إختيار الأحرف والكلمات، وقامت بعمليّة انتخاب واعٍ لأشكالها من بين كمٍّ هائلٍ من الأحرف والكلمات، لتوصل هذا المضمون الواضح بواسطة الكتابة، وبالتالي فلا يمكن أن يكون كاتب هذه الرسالة أمّيّاً أو طفلاً جاهلاً بالكتابة.

فالنتيجة، لا تكفي العلّة الفاعلة وحدها في مثل هذه الموارد بل تحتاج إلى توفّر إرادةٍ وإختيار لكي يتحقّق الهدف والغاية المرجوّة.
________________________________________
6- العلماء التجريبيّون المعاصرون منقسمون بشأن قبول العليّة الغائيّة وعدم قبولها ـ بخلاف تسليمهم بالعليّة الفاعليّة - ولذلك يجب الاستدلال على وجودها وصحّتها.
 
 
49

40

الطريق العلميّ

 دور العلّة الغائيّة في إثبات وجود الله:


ومن هنا ينطلق الإلهي في برهان النظم، بأنّنا إذا نظرنا في هذا الكون، فإنّنا سنجد كثيراً من الظواهر والمخلوقات المنظّمة الهادفة، بحيث لا يمكن أن نقتنع بوجودها من غير فاعلٍ مريدٍ ومدركٍ ومختارٍ. فكما نستكشف سعة إطّلاع كاتب ما من خلال مقالةٍ نقرؤها له، مع أنّ سعة الإطلاع هي من الأمور التي لا يمكن رؤيتها أو إدراكها بالحواسّ7، فإنّنا عندما ندرس عالم خلق الموجودات، ونطّلع على النظام الذي يحكمها، فإنّنا سنؤمن بأنّ قوةً حكيمةً ومدركةً ـ وراء سلسلة العلل الطبيعيّة التي لا تتمتّع بالإختيار والتدبيرـ هي التي تسيّرها بمقتضى إدراكها على وفق إرادتها وإختيارها.

دور العلم في هذا الدليل:

وهنا يأتي دور العلم التجريبيّ حيث يعرّفنا-بتطوّره وتوصّله إلى معارف أعمق وأدقّ- إلى دقّة النظم السائد في موجودات عالم الطبيعة، مما يكشف أكثر وأكثر عن وجود عامل الإدراك والإختيار والإرادة في إيجادها، وهنا يكمن دور العلم كعامل مساعد في إثبات وجود الله ـ كما تقدّم.

والأمثلة على ذلك كثيرة: تبدأ بالتنظيم الهائل لجسم الإنسان(عينيه، أسنانه، معدته...)، إلى التناسب العجيب لدى الحيوانات، إلى غرائب تنسيق المجموعة الشمسيّة وغيرها8...
________________________________________
7- وبهذا الجواب يمكن الردّ على من يدّعي بأنه لا يمكن الاستدلال بالمعلول على صفات العلّة، أو يشكل بأنّنا لا نصدق إلا ما نراه ونحس به. كما أنّ هناك أمثلةً كثيرةً من واقع الحياة والإنسان تؤكّد الاستناد إلى أمر محسوس للتصديق بآخر غير محسوس؛ كنسبة الإدراك أو الرأفة أو الغضب أو غيرها إلى من حولنا من الناس...
8- بالنسبة لمصاديق وشواهد وجود النظم في مختلف أجزاء العالم الكونيّ فهذا أمر يحتاج إلى كتب لبيانه، ويمكن الرجوع إلى كتب مؤلّفة في هذا المجال ككتب (كريستيان موريسن)، و(الكسيس كارل)...
 
 
50
 

41

الطريق العلميّ

 كلّ هذه المظاهر بنظمها الدقيق لا يمكن أن تكون إلا على أساس اختيارٍ واعٍ وحكيمٍ لها.


حساب الإحتمالات:

ويمكن أن يُستدلّ بطريقةٍ رياضيّةٍ حديثةٍ على وجود منظّمٍ حكيمٍ ذي إرادةٍ وشعورٍ لهذا العالم، وذلك عبر ما يُسمّى بحساب الإحتمال.

وتوضيحه عبر مسألتين:
المسألة الأولى: إنّ احتمال وقوع أيّ حادثة يشكّل عدداً كسريّاً، فلو كان في كيسٍ مثلاً ثلاث رصاصاتٍ سوداء. فالوقوع الحتميّ: هو أنّك إذا أدخلت يدك وأخرجت عشوائيّاً رصاصةً واحدةً فإنّ إحتمال أن تكون سوداء هو 1/1 أي واحد، لأنّ جميع الرصاصات سوداء اللون.

الحوادث الممتنعة: إنّ احتمال أن تكون بيضاء هو 0/1 أي صفر، لأنّه لا يوجد أيّ رصاصةٍ بيضاء.

وأمّا إذا أضفنا إلى الكيس 4 رصاصاتٍ حمراء، وصار المجموع 7 رصاصات، فالحوادث المحتملة: إنّ احتمال أن تخرج رصاصةٌ سوداء من المجموع هو: 3/7، واحتمال أن تكون الرصاصة حمراء هو: 4/7.

المسألة الثانية: إنّ وقوع حادثتين على التوالي هو حاصل ضرب عدديهما الإحتماليين، ومثال ذلك:

ما لو وجدنا هذا البيت من الشعر مطبوعاً على ورقة:

أتحسبُ أنّك جرمٌ صغير         وفيك انطوى العالم الأكبر

فهنا لو ادُّعي أنّ الذي طبع هذا البيت شخصٌ أمّيّ لا يعرف إستعمال الآلة
 
 
51
 

42

الطريق العلميّ

 الكاتبة سوى أنّه جلس وأخذ يُحرّك أصابعه بشكلٍ عشوائيّ على الطابعة، لكان الجواب على هذا الادّعاء بحساب الاحتمال على النحو التالي:


1ـ إنّ احتمال إختياره أوّلاً للحرف (أ) من بين الأحرف الأبجديّة نسبته 1/28 (= 0.036)، بناءً على ما مرّ في المسألة الأولى.

2ـ وإحتمال أن يختار (أ) وبعده مباشرة (ت) نسبته: 1/28 * 1/28 أي 1/784 (=0.00127)، بناءً على المسألة الثانية، وهذا إحتمال ضعيفٌ جدّاً.

3ـ واحتمال أن يختار (أ) وبعده (ت) وبعده (ح) نسبته: 1/28 * 1/28 * 1/28 أي 1/21952 (0.00004555393)، وهذا احتمال أضعف بكثير.

4ـ أمّا إحتمال أن يختار الترتيب الكامل لكلمة: (أتحسب) فنسبته: 1/28 * 1/28 *1/28 *1/28 * 1/28 أي 1/ 17210368 (0.00000000581)، وهذا إحتمال لا يمكن تصوّره، فكيف إذا استمرّ الحساب لإحتمال أن يكون قد طبع البيت الكامل المؤلّف من 36 حرفاً بشكل عشوائيٍّ؟! فإنّنا سوف نضرب 1/28 بنفسها 36 مرّة، وهذا ينتج عدداً كسريّاً لا يمكن للذهن البشريّ أن يحتفظ به.

إذا كان ذلك في بيتٍ واحدٍ من الشعر، ولا نتعقّل رجلاً أميّاً قد صفّ هذه الأحرف، بل لا بدّ من وجود كاتبٍ عالمٍ وشاعرٍ، فكيف بنظام العالم؟ 

بل نجد في كلّ جزءٍ من أجزاء العالم النظام المعقّد والدقيق. ألا يشير ذلك إلى وجود منظّمٍ ذي شعورٍ وإرادةٍ وحكمةٍ؟!

ففي كلّ جزءٍ له آيةٌ         تدلّ على أنّه واحد
 
 
52
 

43

الطريق العلميّ

 الصدفة ومبدأ العليّة الغائيّة:


يعترض البعض على العليّة الغائيّة والهدفيّة في طبيعة الأشياء، بما نراه من صدفةٍ تؤدّي إلى بعض الأحداث. فهؤلاء يرفضون أن يكون النظم هو الحاكم في هذا العالم، إذ للصدفة تأثيرٌ في حوادثه وظواهره، ممّا يبطل الاعتقاد بالنظم في طبيعة أشياء هذا العالم، وبالتالي ينفي وجود فاعلٍ كليٍّ ذي حكمةٍ وعلمٍ وإختيارٍ.

في الواقع، نحن نقرّ بوجود الصدفة في هذا العالم، فنحن نشاهد أحياناً سائقاً يتوجّه نحو عمله فإذا به يصدم أحد المارّة الذي ينوي التوجّه إلى منزله، ونشاهد أيضاً نبتة وردٍ صغيرة قد خرجت صدفةً من بين أحجار الجدار، فنحن نؤمن بوقوع هذين الأمرين ولا ننكر ذلك، ولكن السؤال: هل صحيح أنّ مثل هذين الحادثين ـ اللذين يقعان صدفةً ـ ينفي وجود النظام القائم على أساس مبدأ العليّة الغائيّة، وعلى أساس القول بأنّ عالم الطبيعة يتحرّك باتجاه هدفٍ معيّن؟!

لتحقيق هذا الأمر لا بدّ من البحث في دور الصدفة وحقيقتها، وهل أنّ دورها نسبيّ أو مطلق؟

الصدفة أمر نسبيّ:

إنّ الباحث إذا حلّل الصدفة فسيجد أنّ الحوادث التي تقع مصادفة هي عبارة عن أحداث ظهرت بسبب تقاطع مسار علّتين تتحرّك كلّ منهما نحو هدفها مع الغفلة عن مسار حركة العلّة الأخرى، فالسائق تحرّك إلى عمله، وعابر الطريق تحرّك إلى منزله، وكان كلّ واحدٍ منهما غافلاً عن حركة الآخر فوقع الإصطدام، وكذلك النبتة في الجدار، فإنّها قد نمت انطلاقاً من حركتها الطبيعيّة نحو هدفها.
 
53
 

44

الطريق العلميّ

 إلى هنا يتبيّن أنّ هذه الأشياء كانت تسير وفق الهدف والنظام المرسوم والمحدّد لها، فما هو دور الصدفة في هذه الأحداث؟


إنّ دور الصدفة في وقوع الأحداث هو دور نسبيّ، وذلك بمعنى أنّها صدفةٌ في نظرة معيّنة، بينما هي نظمٌ في نظرة أخرى، وتوضيح ذلك:

إذا نظرنا إلى تلك الأحداث بنظرة جزئيّة فإنّنا نقول إنّها قد وقعت صدفةً، وأمّا إذا نظرنا إليها بنظرة أكثر شموليّة فسيتّضح أنّها كانت تسير نحو هدفها وغايتها، فمن زاوية النظام الكليّ للعالم، إن حادث الإصطدام هو جزء من الهدف، لكنّ نظرة كلّ من السائق والعابر الجزئيّة لم تكن ترى هذا الهدف، أمّا الناظر من بعيد فإنّه عندما يرى السيّارة والعابر فإنّه سيرى الإصطدام أمراً يسير وفق طبيعة الأشياء وغاياتها. فنحن عندما نتحدّث عن حالة الهدفيّة في عالم الطبيعة فهذا يعني أن تتجسّد الهدفيّة وفق قانون كليّ، فقوانين الهدفيّة كليّة وليست جزئيّة وشخصيّة، ولذلك لا حاجة لأن نبحث في الموارد الجزئيّة والشخصيّة.

وبعبارة أخرى، إنّ الحكم على أمر بأنّه صدفةٌ ناشئٌ عن جهلنا، فعندما نجهل سرّ وقوع أمرٍ ما ننسبه إلى الصدفة، لذلك عندما يحفر إنسانٌ في أرضٍ لا يعلم أن في أعماقها كنزاً نقول بأنّه وجده صدفةً، أمّا لو حفر نفس الأرض من يعلم بوجود هذا الكنز فلا نحكم على ذلك بأنّه صدفة! فالعثور على الكنز لم يقع صدفةً في نظر العالم بوجوده في بطن الأرض، بينما هو صدفةٌ بنظر الجاهل!
و ظواهر وأحداث العالم هذه تقع ضمن مسارٍ وهدفٍ معيّن، فإذا علم من يطوي هذا المسار بحقيقة هدفه، فإنّه لن يرى تحرّكه فيه صدفةً، بينما ننسب هذا التحرك - بسبب محدوديّة علمنا وعدم شموليّة نظرنا - إلى الصدفة.
 
 
54
 

45

الطريق العلميّ

 ففي النتيجة، إنّ ما نراه من أنظمة في عالم الوجود ليس ناشئاً عن الصدفة، فإنّ من يرى العالم على حقيقته خاضعاً لتأثير وتدبير علمٍ كليّ وإرادةٍ كليّةٍ، يراه يسير وفق غايته وهدفه.


تعابير القرآن في إشارته إلى برهان النظم:

تختلف تعابير القرآن إذ يشير إلى برهان النظم، فتارةً يعبّر بإتقان الصنع، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾9، فيما يعبّر في آيات أخرى بالتقدير، كما مرّ في الآية من سورة الأعلى: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وهو صدور الخلق على أساس الحكمة.

خلاصة الدرس 

ـ يمكن للباحث عن التوحيد أن يعتمد على العلم كعامل مساعد للتوصّل إلى إثبات وجود الله.

ـ هناك ثلاثة أنحاء لمعرفة الله عن طريق العلم:

1ـ برهان النظم. 
2ـ برهان الخلق.
3ـ برهان الهداية.

ـ أشار القرآن الكريم إلى الأنحاء الثلاثة من أنحاء الطريق العلميّ، في آيتي سورة العلق.
________________________________________
9- النمل:88 
 
 
55
 

46

الطريق العلميّ

 1ـ برهان النظم: في مقابل الصدفة، فالنظم يعني الإعتماد على العلّة في وجود الأشياء.


ـ للعلة أربعة أقسام: العلّة الماديّة، العلّة الصوريّة، العلّة الفاعليّة، العلّة الغائيّة.

ـ يؤمن كلّ من الموحدين والماديّين بالنظم الناشئ عن العلة الفاعليّة، بأن يكون لكلّ ظاهرةٍ أو حادثةٍ في هذا العالم فاعلٌ وقوّةٌ سبّبته، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجود الله.

ـ ما ينفع في إثبات وجود الله، والذي كان موضع خلاف الماديّين والإلهيّين، هو النظم الناشئ عن العلّة الغائيّة، بأن يكون من وراء نظم العالم فاعلٌ مدركٌ مختارٌ، حيث يكون وراء هذا النظم الدقيق مدبّر حكيمٌ.

ـ إنّ التأمّل في الموجودات يجعلنا نؤمن بأنّه ليس مطلق قوّةٍ أو فاعلٍ يستطيع إيجاد هذه الأشياء، وإنّما هي موجودة بإرادة وإختيار خالق يتّصف بقدرةٍ عاليةٍ من التدبير والحكمة.

ـ يتحدّث البعض عن الصدفة، ويعتبر أنّها تنافي النظم والهدفيّة في طبيعة الأشياء، إلا أنّ الصحيح أنّ ما يوصف بأنّه وقع صدفةً هو نتيجة نظرةٍ جزئيّةٍ للأحداث ونتيجة جهلٍ بشؤون العالم، وأمّا بالنسبة لمن ينظر إلى العالم بنظرة كليّة شموليّة، فإنّه لا يجد للصدفة مكاناً كي تؤثّر في أحداث العالم. 
 
 
56
 

47

الطريق العلميّ

 أسئلة الدرس 


1ـ ما هي أنحاء المعرفة العلميّة وشبه الفلسفيّة؟
2ـ هل أشار القرآن الكريم إلى هذه الأنحاء؟
3ـ ما هي أنواع العلل؟ وما هي العلّة التي وقعت محلّ نزاع بين الماديّين والإلهيّين؟
4- ما معنى النظم في استدلال الإلهيّين؟
5ـ ما هو دور العلّة الغائيّة في إثبات وجود الله؟ 
 
 
57
 

48

الطريق العلميّ-2-

 أهداف الدرس

1 ـ القدرة على شرح برهان الهداية.
2 ـ التمييز بين برهان الهداية وبرهان النظم من خلال الآيات القرآنية.
3 ـ القدرة على إثبات إستقلالية برهان الهداية عن برهان النظم.
4 ـ الإتيان بأمثلة حول الهداية في الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
5 ـ شرح الإسهامات الإنسانية وأنواعها.
6 ـ إثبات شمول الهداية للجماد من خلال آيات قرآنية.
 
 
59
 

49

الطريق العلميّ-2-

 برهان الهداية:


يتعلّق برهان الهداية بسلوك الموجودات، فهو يتناول الأشياء والموجودات في حركتها وسيرها نحو التكامل، ذلك أنّه حين نتأمّل هذه الحركة، نلاحظ أنّ لها حركةً عجيبةً خارجةً عن تركيبتها الذاتيّة ـ أي غير الحركة الذاتيّة التلقائيّة والإراديّة المترتبة على حسن نظمها وإتقان صنعها - ممّا يكشف ـ وبلا ريب ـ عن وجود قوّةٍ خارجةٍ تهديها في هذه الحركة، وإن كانت حقيقةُ هذه القوّة مجهولةً بالنسبة لنا، ولذلك نطلق عليها أسماء من قبيل: قوّة العشق أو الإرادة، أو التسخير الغيبيّ، أو النور أو الجاذبيّة...

بهذا الشكل يتبيّن أنّ برهان الهداية ـ الذي ينطلق من هداية الأشياء في حركتها ـ يختلف عن برهان النظم الذي كان يهتمّ بمستوى نظم وتكوين الأشياء والموجودات - من حيث شكلها وتركيبها وإتقان صنعها لتصل إلى هدفها ـ حيث يستدلّ بطبيعة نظامها على أنّ لها فاعلاً مدركاً ومختاراً.

تمييز القرآن بين برهان الهداية وبرهان النظم:

يعدّ تصنيف النظم والهداية كدليلين مستقلّين أمراً مبتكراً. ويمكن أن يُستمدّ 
 
 
61
 

50

الطريق العلميّ-2-

 هذا التقسيم من كلمات الفخر الرازيّ في تفسيره لسورة الأعلى، حيث استند في هذا التمييز إلى القرآن الكريم، إذ القرآن الكريم هو أوّل من ذكر برهان النظم وبرهان الهداية كدليلين مستقلّين، وذلك في مجموعة من آياته:


1ـ في قوله تعالى: حكايةً عن النبيّ موسى عليه السلام عند سؤال فرعون: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1.

فقوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ إشارة إلى برهان النظم، حيث أعطى سبحانه كلّ مخلوقٍ شكلَ وصورةَ الخلق وفق ما تقتضيه الحكمة، فيما قوله: ﴿ثُمَّ هَدَى﴾، إشارةٌ إلى برهان الهداية، حيث عطف بـ (ثمّ) ممّا يشير إلى أنّ الهداية مستقلّةٌ وتكون بعد النظم، فهي غير الهداية التلقائيّة الذاتيّة المترتبة على نفس النظم.

2ـ قوله تعالى ـ في سورة الأعلى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىوَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾2، وقد بيّنا أنّ هذه الآية تشير إلى البراهين العلميّة الثلاثة كطرقٍ مستقلّةٍ، فقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ إشارةٌ إلى برهان الخلق، وقوله: ﴿فَسَوَّى﴾، ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ﴾ إشارةٌ إلى برهان النظم، فيما قوله: ﴿فَهَدَى﴾ إشارةٌ إلى برهان الهداية.

3ـ قوله تعالى: حاكياً قول إبراهيم الخليل عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾3، فتبيّن الآية أنّ الله يتولّى هداية الموجودات بعد خلقها.

4ـ ومن الآيات التي تبيّن برهاني النظم والهداية كدليلين مستقلّين، الآياتُ الأولى من سورة العلق، يقول تعالى: ﴿إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ
________________________________________
1- طـه:49ـ 50
2- الأعلى:1 ـ 3.
3- الشعراء:78.
 
 
62
 

51

الطريق العلميّ-2-

  الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾4، فالآيات هذه تشتمل على فصلين مستقلّين، يبتدئ كلّ منهما بكلمة: ﴿اقْرَأْ﴾، ويشير الفصل الأوّل إلى برهان النظم، والفصل الثاني إلى برهان الهداية5.


بين برهان الهداية وبرهان النظم:
قد يقول قائل: إنّ الهداية هي جزءٌ من النظم، وليست أمراً مستقلاً، فإنّ حركة الأشياء ـ الهداية ـ هي لازمة جبريّة لطبيعة صنعها ـ النظم - وليست شيئاً آخر، فإنّ طبيعة صنع السيارة ـ مثلاً ـ بهذا الشكل يستلزم أن تعمل وتتحرّك كوسيلة نقلٍ، وليس في البين شيءٌ جديدٌ غير الكشف عن إدراك وحسن إختيار صانعها.

ولكنّ هذا القائل قد غفل عن أنّ الاستدلال ببرهان الهداية، لا يكون بتلك الحركة العاديّة للمخلوقات، والتي هي نتيجة جبريّة لتركيبتها الماديّة ونظمها، بل الاستدلال هو بأمر يُضاف إلى مبدأ النظم الموجود في التكوين الآليّ للموجودات والذي له أثرٌ حتميٌّ في عمله، وبحركةٍ هادفةٍ وواعيةٍ خارجةٍ تحرّك الأشياء في مساراتها، ولا ترتبط بطبيعة تركيبها، ممّا يكشف عن قوّةٍ خارجةٍ تتحكّم بها فتسيّر الأشياء وفق هدايتها. فالأشياء مخلوقةٌ أوّلاً بنظامٍ خاصّ، ومهديّةٌ ثانياً طبقاً لمبدأ آخر.

فنحن نتحدّث هنا عن نوع من القدرة على الإبداع والإختيار. وليس من شأن التركيب الماديّ القيام بالإبداع والإختيار مهما كان نظمه دقيقاً ومتطوّراً، فجهاز
________________________________________
4- العلق:1ـ5.
5- هناك آيات أخرى كثيرة تشير إلى نظام الهداية ـ وسيأتي التعرّض إلى بعضها، ولكنّ لعلّ هذه الآيات، وحدها، تبيّن استقلال برهان الهداية عن برهان النظم.
 
 
63

52

الطريق العلميّ-2-

 الترجمة يعمل وفق ما نُظّمت عليه تركيبته الماديّة، لأنّ المادّة تعمل ضمن دائرة قوانينها وطبيعة الأنظمة التي تحكمها، لذا فهو يُترجم الكلام الذي أعطي له مسبقاً، وهو لا يستطيع ـ وحده ـ أن يستعمل التورية أو التقية فيترجم كلاماً غير الذي أعطي له مثلاً،كما لو كان في الغرفة من لا تريد أن يطّلع على ما تقوله! إنّ هذا غير ممكن ما دام هذا الجهاز لا يتمتع بالشعور والتفكير والإبداع الموجودة في الكائنات الحيّة. 


إنّ طبيعة ما تقوم به الموجودات الحيّة من أعمال إختياريّة وإبداعيّة، إضافة إلى ما يوفّره لها تكوينها الذاتيّ من مؤهّلات، تكشف عن حتميّة وجود قوّة تجذبها للتحرّك بهذا الإتجاه.

الهداية بلغة المنهج الفلسفيّ:

يعبّر المنهج الفلسفيّ عن الهداية بشكلٍ آخر فيقول: لا بدّ من الإقرار بأنّه لا يمكن تفسير حركة العالم الكونيّ على أساس (مبدأ الميكانيكيّة) ـ بأن يكون كيان العالم أشبه بالآلة المصنوعة بدقّة، يترتّب عليها حركته الميكانيكيّة ـ إذ لا يمكن لهذا المبدأ أن يفسّر جميع الحوادث الكونيّة. من هنا لا بدّ من اللجوء إلى مبدأ آخر يسمّيه الغربيّون بـ (مبدأ الديناميكيّة) الذي يتولّى هداية موجودات العالم، وبصورة ٍتصل أحياناً إلى مرتبة الخلق الذاتيّ.

نتيجة ما تقدّم:

إلى هنا تبيّن أصل فكرة برهان الهداية. وما يهمّنا، حتى يثبت صحة الاستدلال بهذا البرهان، هو أن نبّين وجود هذه الحركة الهادفة الإضافيّة في الموجودات.ولذلك سنبيّن وجود هذه الهداية في الإنسان، ثمّ في الحيوان، فالنبات، فالجماد.
 
 
64
 

53

الطريق العلميّ-2-

 أوّلاً: الهداية في الإنسان:


يكشف العلم الحديث عن ظواهرَ وخصوصيّاتٍ موجودةٍ في جسم الإنسان. من هذه الخصوصيّات أنّه يقوم تلقائيّاً ولا شعوريّاً بترميم ما يتلف من خلاياه ـ ضمن حدود معيّنة. وذلك عند تعرّضه لكسرٍ أو جرحٍ أو ضررٍ، وكذلك يقوم دمه لا إراديّاً بتوليد مقدارٍ يكمل النقص الذي قد يحصل في بعض أجزائه ـ كالكريات البيضاء- ومثل هذه الأمور تعتبر أموراً مستقلّة عن طبيعة نظم تركيبته الماديّة مهما عُدّ بدنه آلةً دقيقةً، ومهما كانت أعضاؤه مرتّبةً ومنظّمةً، لأنّ هذه الأمور تحصل بصورةٍ وكأنّ لتركيبته الماديّة شعوراً ووعياً وإرادةً غير شعوره وإرادته، فيما هذا الأمر غير معهودٍ في أيّ آلة أو تركيبة ماديّة.

ثانياً: الهداية في الحيوان:

من المبادئ الثابتة في علم البيئة: (مبدأ التكيّف مع البيئة)6، ويعتبر هذا المبدأ من أسرار هذا العالم، وتوضيحه:

إذا قمنا بنقل حيوانٍ يعيش في منطقةٍ باردةٍ إلى منطقةٍ حارّةٍ، فهنا سنرقب عدّة تحوّلات في طبيعته وباقي أجهزته، بعضها تأثيره طبيعيّ والآخر خارجيّ:

ـ ستؤثّر على جلده الشمس ممّا يُحدث فيه تغييرات فيزيائيّة أو كيميائيّة، وهذا أمر عاديّ.

ـ ستكون لديه ردود فعلٍ إراديّة تؤثّر في بدنه، كأن يحتاج في البيئة الجديدة إلى مدّ عنقه لإقتطاف أوراق الشجرة العالية، ممّا قد يؤدّي إلى إطالة عنقه، وفق نظريّة (لامارك).
________________________________________
6- وتأتي الإشارة إلى هذا المبدأ عند الحديث عن الإشكالات على التوحيد في مبحث التوحيد ونظريّة التطوّر.
 
 
65

54

الطريق العلميّ-2-

ـ ستحدث فيه تغيراتٌ هادفةٌ تلقائيّةٌ وغير إراديّةٍ ـ لا تنشأ من الآثار البيئيّة المباشرة، ولا من الإرادة الذاتيّة للحيوان- وتكون هذه التغيرات هادفةً تتناسب ومقتضيات البيئة الجديدة، فيتغيّر شعر جلده ولون بدنه حتّى يتمكّن من مقاومة أشعّة الشمس القويّة، إلى تغيرات أخرى في أعضائه وجوارحه.


وذكر (إبن سينا) مثالاً لذلك، وهو ما لو وُضعت دجاجةٌ في مكانٍ لا يوجد فيه ديكٌ يدافع عنها، ففي هذه الحالة سيظهر تدريجيّاً مخلبٌ خلف قدمها ـ كما هو عند الديك، ثمّ يشتدّ لتستخدمه كحربة في العراك.


إنّ محلّ كلامنا هو مثل هذا التغيّر، الذي لا يكون نتيجةً طبيعيّةً لتأثّر ما، ولا يكون إراديّاً من نفس الحيوان، وبالتالي هو ليس مقتضى طبيعة نظمه وتركيبه، وإنّما هو عملٌ وحركةٌ هادفةٌ بنوعٍ من الشعور غير الإراديّ، ممّا يكشف عن هدايةٍ وتدبيرٍ خفيّ يتدخّل في سير وحركة هذا الحيوان يُضاف إلى طبيعة نظمه وإتقان صنعه.

 

66

يتحصّل من ذلك أنّ هذه النشاطات المثيرة للدهشة والتي نراها في سلوكيّات الإنسان وغيره من الكائنات الحيّة ـ مثل ترميم خلايا الإنسان وظهور أعضاءٍ جديدةٍ لدى الحيوان ـ شيء غير النظم الموجود في بدن المخلوقات، وهذا يعطي أن في البناء العامّ للموجودات المنظم(النظم) شيئاً يشبه اللغز خفِيت علينا حقيقته، وهو يكشف عن وجود نوعٍ من الهداية الخفيّة تقود الموجودات الحيّة نحو أهدافها.


ثمّ إنّ هناك مظاهر أخرى يمكن ملاحظتها في كلّ من الإنسان والحيوان، والتي لا يمكن تفسيرها سوى بالاعتقاد بتلك الهداية الخفيّة، كالغريزة في الحيوان والإلهامات لدى الإنسان، وبيانها:

 

55

الطريق العلميّ-2-

 الغريزة عند الحيوان:


ويمكن الإطلال على مجموعة أخرى من هذه الهدايات في الحيوانات، وذلك من قبيل ما يُعرف بـ (الغريزة)، وهي مظهرٌ من مظاهر الهداية المتنوّعة التي يمكن ملاحظتها في سلوكيّات الحيوانات. والغريزة هذه تكون أقوى كلّما كان الحيوان أضعف، ولذلك توجد في الحشرات غرائز وتحرّكاتٌ مدهشةٌ وعجيبةٌ، نظير ما هو موجودٌ في النحل والنمل والعنكبوت...

ويَفترض البعض أنّ مثل عمل النحل عملٌ صادرٌ على نحو التعليم والتعلّم، ونتيجة تجربةٍ إستمرّت آلاف السنين، إلا أنّ هذه الفرضيّة بطلت، لوجود أنواع من الحشرات كـ (الأموفيل)7، وكذلك نوع من الأسماك، تقوم بأعمال عجيبةٍ ودقيقةٍ ومنظمةٍ تناسب حياتها الخاصّة، وتستمرّ في مختلف الأجيال، مع أنّ الجيل اللاحق في هذه الحيوانات لا يرى الجيلَ السابق أصلاً ـ فلا معنى للتعليم - حيث يموت الجيل السابق كليّاً قبل أن يظهر الجيل اللاحق أو تزامناً مع ظهوره.

إنّ وجود هذه الظواهر في الحيوانات، لا يمكن تفسيره إلا بالقول بوجود مخطّط أو هداية لهذه السلوكيّات في الحيوانات، ما دامت الأجهزة الدماغية العصبيّة لأيّ حيوان، عاجزةً عن القيام بمثل هذا التوجيه والهداية.

الإلهامات عند الإنسان:

إنّ في الإنسان من مظاهر الهداية والتوجيه ما هو أسمى من الغريزة التي في الحيوان، وننسبها إلى مجموعةٍ من الإلهامات، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
________________________________________
7- نوع من الحشرات أصغر من النحل وأكبر من الذباب.
 
 
67
 

56

الطريق العلميّ-2-

 الإلهامات الأخلاقيّة، والإلهامات الإشراقيّة، الرؤى والأحلام


1ـ الإلهامات الأخلاقيّة:

وهي الأوامر التي يجب على الإنسان أن يقوم بها، والتي تحقّق مصلحة المجتمع، ويطوي بها الإنسان طريق الكمال، وهي أنواع:

أ- حكم الوجدان الإنسانيّ: وهو مجموعة من الأوامر التي تحكم بها فطرة الإنسان وتدعوه إلى القيام بها مقابل نواهٍ عن أشياء أخرى، كأن يُدرك الإنسان أنّ جزاء الإحسان هو الإحسان، الذي عبّر عنه القرآن: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ﴾8

فالإنسان إذا ما وقع في محنةٍ، وجاءه شخصٌ فأنقذه من هذه المحنة، وبدافعٍ إنسانيٍّ محضٍ - من غير أن يكون هذا الشخص يعرفه أو يطمع في المقابل. فإنّ الإنسان إذا ما وجد صدفةً هذا الشخص في مكان آخر وقد وقع في ورطةٍ فإنّه يستغلّ هذه الفرصة ليقابل إحسانه السابق.

إذاً إنّ النفس الإنسانيّة وفطرتها، بعد أن خُلقت معتدلةً سويّةً، قد أُلهمت وعرفت طبيعة الأعمال القبيحة والأعمال الصالحة فميّزت بينها، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾9.

ب- المعارف القلبيّة:"لا تنحصر معارف الإنسان بما يتعلّمه من الأحكام، بل إنّ وجدان الإنسان الأوّلي أُلهم بعض الأحكام، كعدم جواز إتّباع العالم الذي لا يعمل بما يقول" ـ كما ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام في تفسير الآية: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾10.
________________________________________
8- الرحمن:60.
9- الشمس:7 ـ 8.
10- البقرة:78.
 
 
68
 

57

الطريق العلميّ-2-

 ج ـ النفس اللوّامة: هناك نوعٌ من المحاسبة الذاتيّة تقوم به نفس الإنسان، حيث تلومه على ما يرتكبه من سيئات الأعمال وتحاكمه بعد أن يختلي بنفسه، ممّا يجعل الجاني يدرك أنّه يرتكب الجرائم. ولذلك تكشف كثيرٌ من التجارب أنّ الجناة يصابون في عاقبة أمرهم بأمراضٍ نفسيّةٍ وعصبيّةٍ وأزماتٍ روحيّةٍ، كما ينقل عن (بسر بن أرطأة) الذي كان أحد جلاوزة معاوية حيث كانت عاقبته أن ابتلي بالجنون، وكذلك ينقل عن الطيّار الذي ألقى القنبلة الذريّة على مدينة (هيروشيما).


2ـ الإلهامات الإشراقيّة (الحدس):

هناك عدّة طرقٍ يستطيع الإنسان من خلالها الحصول على المعلومات في الفنون العلميّة المتنوّعة:

ـ الطريق الأوّل: أنّ يعتمد التجربة والإختبارات التي تُثمر كشف الحقائق بصورةٍ تدريجيّة.
ـ الطريق الثاني: أن يعتمد التفكير والاستدلال والبرهان والأقيسة، فيحصل على نتائج كانت مجهولة لديه، إستناداً إلى مقدّمات يعرفها مسبقا11ً.

هذه هي الطرق المعهودة والمعروفة، إلا أنّ هناك طريقاً ثالثاً مؤثّراً في حصول الإنسان على المعارف، وهو ما يُعرف بالإلهام الإشراقيّ، وهو محلّ بحثنا.

فالإلهام الإشراقيّ هو نوعٌ من الإلقاء في الروع حيث تنقدح فكرةٌ في ذهن الإنسان فجأةً بعد أن يكون قد عجز عن حلّ المسألة التي بين يديه، وذلك عبر طريق آخر لم يكن قد فكّر به سابقاً. فهذا النوع من المعرفة لا يكون معلولاً
________________________________________
11- راجع منطق المظفر في تعريف الفكر، وخطوات التفكير. 
 
 
69
 

58

الطريق العلميّ-2-

 لحوادث الماضي ولا نتيجة حتميّةً لها، بل هو ثمرة إستعداد ذهن الإنسان لتلقّي نوعٍ من الإلهام والإيحاء، فهو الذي يتحدّث عنه (إينشتاين) بقوله: (...إنّ النظريّات المهمّة والكبرى في العالم هي التي تنقدح ـ على نحو الإلهام ـ فجأةً وفي حالةٍ معيّنةٍ في أذهان العلماء)12.


3ـ الرؤى والأحلام:

إنّ النظريّة الصحيحة13 والتي تعمّ جميع أنواع الأحلام هي النظريّة التي تعتمد على تقسيم الأحلام إلى عدّة أنواع:

فبعضها يحصل نتيجة الأحوال الجسميّة للإنسان، كالجائع أو الظامئ يرى الطعام أو الماء العذب في المنام، وكذلك من يتناول طعاماً يؤذي معدته يؤدي ذلك إلى إيجاد إضطرابات، تؤدّي بدورها إلى رؤية كوابيس.

وبعضها مرهونٌ بأحواله الروحية، وذلك من قبيل الرؤى التي تعبّر عن الأمور
________________________________________
12- يمكن تأييد وجود الإلهام الإشراقيّ من الكتاب والسنّة، وكلمات العلماء القدامى والمعاصرين.
13- وتوجد نظريّات أخرى في تفسير الرؤى والأحلام:
النظريّة الأولى: يقلّل أصحاب هذه النظريّة من أهميّة الأحلام، ويعتبرون أنّه كما يعمل فكر الإنسان وشعوره حال اليقظة بشكل منظّم، فإنّه يعمل عند نومه بطريقة غير منظّمة، ويؤدّي ذلك إلى توليد مجموعة من التخيّلات غير المنطقيّة وهي الأحلام.
وهذه النظرية باطلة، بعد أن أثبت العلماء أنّ للأحلام ـ بما يشمل أضغاث الأحلام ـ أسساً منطقيّة، وإن اختلفوا في طبيعة هذه الأسس.
النظريّة الثانية: اكتشف العلماء أثناء بحوثهم في بعض الأمراض النفسيّة وجود نوعين من الضمير في الإنسان: ضمير ظاهريّ(الشعور)، وضمير باطنيّ(اللا شعور)، وقالوا بأنّ للضمير الباطنيّ نشاطات متعدّدة منها أنّه يظهر في عالم المنام ويؤثّر في حصول الرؤى والأحلام.
لذا يعتقد هؤلاء بأنّ الأحلام والرؤى ـ كلّها ـ عبارة عن تجليّات للميول المكبوتة والخفيّة التي طردها الشعور الظاهريّ، فتدخل حيّز الشعور الباطنيّ. فالأحلام جميعاً بنظر هؤلاء هي نتيجة مخزون من سوابق الإنسان الجسميّة والروحيّة.
ونحن بدورنا نعتقد بأنّ الأساس الذي انطلقت منه هذه النظريّة صحيح، ولكنّها أخطأت في تعميم تفسير الرؤى والأحلام على أساس هذا المبدأ فمن الملاحظ أن بعض الرؤى المناميّة لا يمكن تفسيرها على هذا الأساس، حيث لا ترتبط بالماضي بأيّ نحو، بل ترتبط أحياناً بأمورٍ مستقبليّةٍ من المحال أن تكون قد حدثت سابقاً، واختُزنت في باطن الإنسان، ومثل هذه الرؤى كثيرٌ ومشهودٌ بين سكان مختلف أرجاء المعمورة، وعلى مدى التاريخ البشريّ، ولذلك فلا بدّ من نظريّة تستوعب الرؤى والأحلام جميعاً، وهي النظريّة التي ذكرناها في المتن.
 
 
70
 

59

الطريق العلميّ-2-

 المكتومة في داخل الإنسان، فتكون أحلامه عبارةً عن تجلياتٍ دقيقةٍ لتلك الأمور المكتومة، كسارق الأكفان الذي رأى في منامه أنّه يقشّر البيض المسلوق فيأكل بياضه ويطرح صفاره.


وثمّة نوعٌ ثالثٌ يعتبر من الإشراق والإلهام، ولا يرتبط بأيٍّ من أحوال الإنسان الروحيّة أو الجسميّة.

وهذا من قبيل رؤيا النبيّ يوسف عليه السلام في طفولته: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾14، ورؤيا الملك التي فسّرها نفس يوسف عليه السلام: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾15، وكذلك رؤيا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي تحقّقت عام الفتح: ﴿لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ...﴾16.

إنّ مثل هذا القسم الأخير من الرؤى لا يمكن تفسيره إلا بعد الإقرار بوجود إلهاماتٍ وإيحاءاتٍ لا نعرف كنهها ولا حقيقتها ولا نعلم سوى أنّها تأتي من أفقٍ آخر.

ثالثاً: الهداية في النبات:

يذكر علم الأحياء أنّ جميع الكائنات الحيّة ـ من حيوان ونبات ـ يرجع في التحليل النهائيّ إلى ما يُعرف بالخليّة الأولى، فترجع النباتات والحيوانات إلى أصلٍ واحدٍ، وهذا هو مبدأ التكامل، ثمّ إنّ هذه الخليّة بلغت مرتبةً من التكامل تحوّلت معها إلى خليّتين: خليّة نباتيّة وأخرى حيوانيّة، بحيث صارت طريقة أداء وإحتياجات كلّ
________________________________________
14- يوسف:4.
15- يوسف: 43.
16- الفتح: 27.
 
 
71
 

60

الطريق العلميّ-2-

 واحدةٍ من هاتين الخليّتين على طرفي النقيض، وبلغ التمايز بينهما درجةً جعلت كلّاً منهما عاجزةً عن مواصلة الحياة لو وضعت في غير بدنها.


وهنا نقول: إنّ الخليّة الأولى بتكوينها الماديّ المنظمّ، مهما بلغت من الدقة، فإنّ غاية ما يمكن أن تقوم به هو أن تتكاثر تدريجيّاً بحيث تشكّل مجموعة من الأعضاء المتناسقة، أمّا أن تنقسم إلى نوعين مختلفين تماماً بل ومتناقضين أحياناً، فهذا ما يعجز عنه تركيبها الماديّ، وهو بحاجةٍ إلى قوّةٍ خارجةٍ عن ذاتها.

رابعاً: الهداية في الجماد:
يصرّح القرآن الكريم بأنّ مبدأ الهداية عامٌّ يشمل جميع الموجودات، يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾17، وفي آيةٍ أخرى: ﴿... وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا...﴾18، أي تمّ إبلاغ كلّ سماءٍ بما تقوم به وهديت إلى مسار حركتها19.

إلا أنّ العلوم الحديثة لم تستطع حتّى الآن إثبات هكذا هداية ـ أي غير اللوازم الذاتيّة ـ في الجماد، بل ظلّ الأمر مجهولاً بالنسبة لها، لكنّها في المقابل لم تستطع أن تنفيها. 

فمثلاً إكتشف نيوتن (قانون الجاذبيّة)، والذي وفقاً له تفسّر حركات الأشياء.إلا أنّ غاية ما اكتشفه هو وجود نوع من الجاذبيّة بين الأجسام والأجرام في الكون ووضع المعادلة الرياضيّة لذلك. فهو عرّف هذا القانون بآثاره لكنّه بقي عاجزاً ـ بإعترافه ـ عن تبيين ماهية هذه الجاذبية، فما هو سرّ هذه الظاهرة؟!
________________________________________
17- طـه:50.
18- فصلت: 12.
19- فليس المراد من الوحي ما قد يُتوهّم من أنّه لا بدّ أن يكون من نوع الهمس في الأذن. 
 
 
72
 

61

الطريق العلميّ-2-

 إنّ نيوتن نفسه صرّح بتأثير الإرادة الإلهيّة في قانون الجاذبيّة، فقال:(إنّ القانون الذي اكتشفته لا يكفي وحده لإيجاد هذا النظم ولا بدّ من وجود قوّةٍ مؤثّرةٍ إضافة لذلك).


إنّ العلم إذا كان عاجزاً عن إثبات الهداية الإضافيّة في حركة الجماد، فهو عاجزٌ أيضاً عن إنكارها بإثبات أنّ هذه الظاهرة الحركيّة هي من اللوازم الذاتيّة في تركيب الأجرام. 

خلاصة الدرس 

ـ يعتمد برهان الهداية على التأمّل في الهداية التي تظهر كحركة مفاجئة في أثناء مسير الأشياء والموجودات نحو التكامل، فيما يعتمد برهان النظم على التأمّل في نفس تركيب وتكوين الأشياء المتقن بحيث تتحرّك ذاتيّاً على وفق هذا التركيب لتصل إلى هدفها.

ـ الفرق بين برهان النظم والهداية، أنّنا حين نتحدّث عن النظم فنحن نتحدّث عن حركة عاديّة تكون نتيجةً حتميّةً لطبيعة تركيبة الأشياء الماديّة، أمّا عندما نتحدّث عن الهداية، فنحن نتحدّث عن حركةٍ غير متوقّعة ولا تخلو من إبداع ممّا يكشف عن وجود قوّة خارجيّة تضاف إلى طبيعة النظم والتركيب الماديّ.

ـ أوّل من ميّز بين برهاني الهداية والنظم هو القرآن الكريم، حيث ذكرهما كدليلين مستقلّين.

ـ لكي يصح الاستدلال ببرهان الهداية لا بدّ من إثبات وجود هذه الهداية في الموجودات.

ـ تظهر الهداية في الإنسان في عدّة أشكالٍ، منها ترميم جسمه تلقائيّاً للخلايا التالفة، وتعديل دمه للأجزاء التي قد يفقدها.
 
73
 

62

الطريق العلميّ-2-

 ـ تظهر الهداية في الحيوانات عندما نتأمّل مبدأ التكيّف مع البيئة، حيث تظهر للحيوان لا شعوريّاً بعض الأعضاء التي تساعده ليعيش في بيئةٍ جديدةٍ. كما تظهر الهداية في الغريزة التي نجدها في هذا الحيوان.


ـ ومن مظاهر الهداية في الإنسان والحيوان، ما يطلق عليه اسم الغريزة في الحيوان، والإلهامات المتنوعة في الإنسان، حيث نرى آثار هذه الإلهامات، ونبقى عاجزين عن الكشف عن حقيقتها وماهيّتها.

ـ يمكننا أن نستدلّ على وجود قوّةٍ خارجيّةٍ تتدخّل في هذا الكون، عندما نتأمّل ما اكتشفه العلم الحديث، من أنّ الكائنات الحيّة جميعاً ترجع إلى خليّةٍ واحدةٍ، نتج عنها في ما بعد الحيوانات والنباتات، مع ما هنالك من فرقٍ بل تناقضٍ أحياناً بين هذين النوعين.
ـ يعتبر القرآن الكريم مبدأ الهداية شاملاً حتّى للجماد، إلا أنّ العلم الحديث لم يتمكّن من إثبات ذلك، كما أنّه لا يستطيع أن ينفي.

أسئلة الدرس 

1ـ ما هو برهان الهداية؟
2ـ هل ميّز القرآن بين برهاني الهداية والنظم؟
3ـ ما هو الفارق الدقيق بين برهان الهداية وبرهان النظم؟
4ـ في أيّ الموجودات تلاحظ ظاهرة الهداية؟
5ـ ما هي الإلهامات الأخلاقيّة والإلهامات الإشراقيّة عند الإنسان؟
 
 
74
 

63

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 أهداف الدرس

1 ـ شرح نظرية قدم الأنواع ومناقشتها.
2 ـ القدرة على التمييز بين نظريتي قدم الأنواع وثباتها.
3 ـ شرح نظرية التطور بين لامارك وداروين.
4 ـ إكتساب القدرة على دحض نظرية داروين علمياً.
5 ـ شرح نظرية الطفرة.
6 ـ القدرة على مناقشة نظرية التطوّر وعدم قدرتها على نفي الخالق.
 
 
75
 

64

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 تمهيد:


ظهرت في العلوم الحديثة نظريّةٌ اعتبر البعض أنّها تُشكّل نقضاً لبعض براهين التوحيد، وهي نظريّة التطوّر والتكامل المعروفة باسم نظريّة داروين. فلا بدّ أن نطلّ على هذه المسألة، لنبحث هل تؤثّر واقعاً على أدلّة التوحيد أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقاد بالنظريّة المقابلة لنظريّة التطوّر، وهي نظريّة ثبات الأنواع؟

تاريخ المسألة:

جرى البحث منذ القديم عن مسألة ثبات الأنواع الحيّة وتبدّلها. ويُذكر في أغلب الكتب التي تناولت تاريخ هذه المسألة أنّ ثمّة نظريّتين في المقام، تقول الأولى بثبات الأنواع، وأنّ أنواع الكائنات الحيّة جميعاً قد حدثت فجأةً في زمن معيّن، والثانية بتبدّل الأنواع وتطوّرها، وينسبونها إلى داروين، ويدّعون أنّه لا ثالثة لهما. 

ولكن للأسف فإنّ الكاتبين في تاريخ العلوم والأديان تفتقد آراؤهم إلى كثيرٍ
 
 
77
 

65

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 من الصحّة، إمّا للعجز عن الإحاطة بجميع العلوم التي يؤرّخون لها، وإمّا لوجود تحريفات في هذا التاريخ ناتجة عن سوء نيّة.


وفي المقام يمكن أن نلاحظ:

أوّلاً: أن النظريّة المنسوبة لداروين ليست نظريّةً جديدةً بل هي نظريّةٌ قديمةٌ، فقد نقلتها بعض الكتب الفلسفيّة، ككتاب الشفاء لإبن سينا، والأسفار للملا صدرا عن قدماء فلاسفة اليونان، وهي منقولة عن الفيلسوفين اليونانيين: أنكسيمندروس وإنباذقلس، أي أنّها ظهرت قبل 2500 عامٍ، غاية الأمر أنّهم لم يبيّنوا تفصيلاتها التي بيّنها داروين.

ثانياً: أن هناك نظريّةً ثالثةً في المقام، وهي تقول بثبات أنواع الموجودات، ولكنّها لا تؤمن بحدوثها في زمن معيّن بل تقول بأنّها قديمةٌ، فهذه النظريّة تقول بقدم الأنواع بالإضافة إلى ثباتها.

عرض النظريّات:

1ـ نظريّة ثبات الأنواع:

ذكرنا أنّ ثمّة نظريّةً أخرى تقول بثبات الأنواع. ويعتبر أصحاب هذه النظريّة أنّ أنواع الموجودات الحيّة كلّها ظهرت إلى حيّز الوجود في زمن معيّن فجأة ومن العدم(الحدوث الزمانيّ)1، وذلك بصورةٍ غير مألوفةٍ ولا طبيعيّةٍ، فيُقال بذلك بشأن خلق آدم وحوّاء، وكلّ زوجين من أنواع الحيوانات.

وقد أطلق أنصار هذه النظريّة عليها اسم (نظريّة الخلق).
________________________________________
1- الحدوث الزماني يعني: كون وجود الشيء مسبوقاً بالعدم الزماني مثل: مسبوقيّة اليوم بالعدم في الأمس، ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في الأمس.
 
 
78
 

66

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 وفي الواقع فإنّ العامّة من الناس هم الذين كانوا يؤمنون بهذه النظريّة، أمّا العلماء فلم يؤيّدوها، بل كانوا يرونها نظريّةً عاميّةً وليست فلسفيّةً، فبعضهم عارضها وبعضهم سكت عنها. 


وعلى كلّ حال فإنّ الوقائع أثبتت وهن هذه النظريّة).

2ـ نظريّة التطوّر:

تقدّم أنّ جذور هذه النظريّة ترجع إلى ما قبل 2500 سنة، ولكنّها اشتهرت باسمي العالِمَين: لامارك، وداروين اللذين بيّنا تفصيلاتها، وهذه خلاصة كلامهما:

ـ لامارك:

إشتهر عالم الأحياء الفرنسيّ لامارك(القرن التاسع عشر الميلاديّ) بأنّه أوّل من صرّح بهذه النظريّة في العصر الحديث. 

وقد كان يعتقد أن الكائنات الحيّة تطورت على مدى حقب تاريخ الأرض، من أنواعٍ بحريّةٍ بسيطةٍ ذات خليّةٍ واحدةٍ، تكاملت بصورةٍ تدريجيّةٍ إلى أن ظهر الإنسان المعاصر، لذلك فهو يعتقد بأنّ الكائنات الحيّة قد تولّد بعضها من بعض بعد أن كانت نوعاً واحداً، وذلك بفعل مجموعةٍ من القوانين الطبيعيّة التي أحدثت هذه التغييرات والتطوّرات).

3ـ نظريّة قِدَم الأنواع:

ذكرنا بأنّ أصحاب هذه النظريّة يقولون بأنّ أنواع الموجودات الحيّة ثابتة لم تتبدّل، وهي ليست حادثةً ظهرت إلى الوجود في زمن معيّن، بل هي قديمةٌ لا بداية لها، فكلّ الموجودات الحيّة كانت موجودةً دائماً وبالصور التي هي عليها اليوم. 
 
 
79
 

67

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 وقد تبنّى هذه النظريّة بعض الفلاسفة، إنطلاقاً من الأصول الفلسفيّة، كأرسطو وإبن سينا.


ويستند هؤلاء في نظريّتهم إلى:

1ـ أصل فلسفيّ يقول بقدم الفيض2، ولذلك فلا بدّ أن تكون الكائنات الحيّة موجودة منذ القدم.

2ـ أصل طبيعيّ من أصول علم الطبيعيّات والفلكيّات القديم، يقول بأنّ الأرض والأفلاك ثابتةٌ لا يمكن أن تتغيّر أبداً، ولهذا إعتقدوا بثبات الأنواع.

نقد هذه النظريّة:

إنّ الأساس الثاني الذي قامت عليه هذه النظريّة، وهو ثبات الأفلاك، قد إتّضح اليوم وهنه، فقد انهارت أسس النظريّة الفلكيّة القديمة تلك، بعد أن ثبت أنّ وضع الأرض قبل ملايين السنين كان يختلف كثيراً عن وضعها الحالي، وبالتالي فإنّ بيئتها السابقة لم تكن صالحةً لحياة أنواع الموجودات الحيّة الحاليّة، وهذا يُبطل النظريّة القائلة بقدم أنواع الموجودات).

تأثير البيئة وحاجات الكائن الحيّ:

وقد اعتبر لامارك أنّ العامل الوحيد المؤثّر في إحداث هذه التغييرات هو عامل البيئة، من ماء وهواء وشحّ موادٍ غذائيّةٍ وأعداء، لأنّ هذه العوامل توجد ردود فعل في الكائن الحيّ تتناسب مع إحتياجاته الجديدة، فكلّ احتياج يؤدّي مع مرور الزمن إلى ظهور تغييراتٍ تدريجيّةٍ في تكوين أفراد هذا النوع، فالعضو الذي يَكْثُر إستخدامه ينمو ويتطوّر أكثر من غيره، فيما العضو الذي يُهمل يضعف
________________________________________
2- حيث لا يمكن الفصل بين الخالق والخلق، فالخلق أزليّ كالذات الإلهيّة، وقد تقدّم التعرّض إلى هذا الأصل في البحث الأول(المقدّمات).
 
 
80
 

68

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 ويضمر بصورةٍ تدريجيّة.


ويضرب لامارك مثال الزرافة المعروف لتوضيح نظريّته، حيث يُلاحظ أن الجزء الأماميّ من بدنها أعلى من الجزء الخلفيّ، كما أنّ عنقها طويل للغاية، فترجع علّة ذلك إلى أنّها كانت تعيش في بيئة لم تجد فيها علفاً على الأرض، فاضطرها الأمر إلى أن ترفع جسمها الأماميّ وأن تمدّ عنقها، ومع تكرار العمل صار جسم الزرافة ـ شيئاً فشيئاًـ بهذا الشكل.

التغييرات الإيجابيّة والسلبيّة:

وعلى هذا الأساس يفسّر لامارك جميع التغييرات والإختلافات في أنواع الكائنات الحيّة، سواء كانت إيجابيّةً بإستحداث عضوٍ جديدٍ، أو سلبيّةً بإلغاء عضوٍ بصورةٍ تدريجيّة3، وفي المقابل فإنّه لن يحدث أيّ تغييرٍ في أيّ نوعٍ من الموجودات الحيّة ما دامت الأوضاع البيئيّة التي يعيش فيها أفراد هذا النوع ثابتة.

التغييرات تنصبّ في صالح الكائن:
واعتبر لامارك أنّ التغييرات الحاصلة في الكائن الحيّ تنصبّ دائماً في صالحه، فهو دائماً في سير تكامليّ صعوديّ، حيث تؤدّي التغييرات إلى إيجاد حالةٍ من الانسجام بين تكوينه البدنيّ وأوضاع البيئة. فالكائن الحيّ يختلف عن الجماد، فالجمادات منفعلةٌ دائماً بالعوامل البيئيّة، وهي تؤثر عليها سلباً أو إيجاباً، أمّا الكائن الحيّ، فهو بالإضافة إلى إنفعاله فإنّه تظهر منه ردّة فعلٍ تؤدّي إلى تغييراتٍ لصالحه.
________________________________________
3- ويقول لامارك إنّ الأفعى كان لها أرجل في بداية أمرها، لكنّها عاشت في بيئة تضطرها إلى الاختفاء باستمرار والزحف للدخول تحت الأرض، ولم يكن لديها حاجةٌ إلى المشي، ممّا أدّى إلى ضمور رجليها شيئاً فشيئاً إلى أن زالتا.
 
 
81
 

69

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 عامل الوراثة:


تنتقل الصفات الجديدة بالوراثة إلى الأجيال اللاحقة.

ـ داروين4:

بقيت نظريّة لامارك التي تقوم على أساس مبدأ (تأثير البيئة) عاجزةً عن تفسير علّة ما قاله بشأن كون التغييرات تنصب دائماً لصالح الكائن الحيّ، إلى أن أتى داروين(1809م) بأصول إضافيّة في هذا المجال.

فداروين لم ينفِ تأثير البيئة، لكنّه لم يجعل ذلك الأصل الوحيد في هذا المجال، بل اعتبر أنّ العامل المحوريّ في إيجاد التبدّل في الأنواع، هو عامل (الإنتخاب الطبيعيّ)، فيما يُعدّ عامل البيئة عاملاً ثانويّاً.

خطوات داروين:

قابليّة التغيّر النوعيّ:

لاحظ داروين أنّ في الكائنات الحيّة قابليّةً للتغيير النوعيّ عبر أساليب الانتخاب الإصطناعيّ، كما يقوم به مربّو الحيوانات الأليفة، فإنّهم إذا لاحظوا صفةً مميّزةً ومتفوّقةً عند بعض الحيوانات قاموا بعزلها وتزويجها من بعض، ممّا يؤدّي إلى تقوية هذه الصفة في الجيل اللاحق، ممّا يوجد نوعاً جديداً من هذا الكائن الحيّ بعد مدّة من الزمن، وأطلق على ذلك اسم (الإنتخاب الاصطناعيّ).

وإستنتج: قابليّة الكائنات لتغيير أشكالها وهيئاتها وصفاتها، أضف إلى ذلك إمكانيّة تقوية هذه الصفات.
________________________________________
4- تقدّم أنّ هذه النظريّة قد اشتهرت بنظريّة داروين، وعلّة اشتهارها باسمه تعود إلى شدّة معارضة طائفة من علماء الطبيعة والدين لنظريّته، ولثباته على نظريّته وتقديمه مختلف الأدلّة، أضف إلى ذلك الدعم الذي قدّمته له بعض التيارات التي اعتقدت في نظريّته ما يؤيّد أفكارها، مثل التيارات الماركسيّة والماديّة والفاشيّة...
 
 
82
 

70

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 (التنازع لأجل البقاء) وبقاء الأصلح:


وجد داروين أنّ الطبيعة عاجزة عن تلبية إحتياجات تكاثر الكائنات الحيّة، ممّا يجعل الأفراد في حالةٍ مستمرةٍ من التنازع لتلبية إحتياجاتهم. 

ثمّ إلتفت إلى عدم تماثل مواليد الحيوانات، فهي تتمايز بخصائصها الفرديّة، وعند التنازع سيكون الإنتصار والبقاء للأقوى والأصلح بينها، فيما يتعرّض الضعيف للإنقراض. 

هكذا تنبّه داروين إلى عامل (التنازع من أجل البقاء)، الذي أنتج (الانتخاب الطبيعيّ)، والذي يؤدّي بدوره إلى (بقاء الأصلح).

عامل الوراثة:

بعد أن يبقى الأقوياء من كلّ نوعٍ تنتقل خصائصهم بالوراثة إلى أبنائهم، فيكون الجيل التالي من الأولاد أفضل من الجيل السابق، مع ما هنالك من الإختلاف في ما بين أبناء نفس هذا الجيل في الصفات، فتتكرّر العمليّة نفسها ليبقى المتفوّق من بينها وينقرض الباقون، وهكذا... وبهذه الصورة يحصل التكامل عبر الأجيال المتتابعة، ويكون العامل الذي يحفظ التفوّق، هو عامل الوراثة5.

الإشكاليّة المطروحة في نظريّة التطوّر: 

إعتقد البعض أنّ نظريّة التطوّر تضرّ بأدلّة إثبات وجود الله، في حين
________________________________________
5- أصل الإنسان قرد: بعد ذلك نشر داروين أبحاثاً جديدةً سعى فيها إلى نفي جميع أشكال الاختلافات الكبيرة المتصوّرة بين الإنسان والحيوان،معتبراً أن ما في الإنسان لا يعدو كونه صفات أكثر تكاملاً مما هو موجود في الحيوانات. وكان داروين يجري باستمرار مقارناتٍ بين البدائيّين من النوع البشريّ والمتكاملين من فصيلة القرود، وتوصّل إلى أنّ الإنسان والقرد يشتركان في الأصل النوعيّ، ولذلك فهما يشتركان في وحدة الجدود!
 
 
83

71

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 اعتبرها بعض الماديّين إنتصاراً لعقيدتهم في عدم وجود الله، فيما انبرى بعض الإلهيّين إلى مكافحة هذه النظريّة بهدف الدفاع عن عقيدة التوحيد والإيمان بالله، وإعتقد آخرون بأن التوحيد يستلزم الاعتقاد بنظريّة ثبات الأنواع ـ نظريّة الخلق.


والإشكال المتوهّم هو أنّ أساس برهان النظم يقوم على أساس الاستدلال بوجود نظمٍ دقيقٍ ومتقنٍ في أيّ نباتٍ أو حيوانٍ نخضعه للدراسة. ووجود هذا النظم يدلّ بصورةٍ واضحةٍ على وجود قوّةٍ حكيمةٍ ومدبّرةٍ هي التي قامت بإيجاده انطلاقاً من أهداف معيّنة، فإذا قلنا بأنّ القوانين التي ذكرها لامارك وداروين قادرةٌ على إيجاد هذا النظم المتقن والقائم على أساس الحكمة، فيكون النظم الحاليّ نتيجة عوامل التفوّق التي تراكمت بصورةٍ تدريجيّةٍ، دون الحاجة إلى وجود قوةٍ ذات إرادةٍ وحكمةٍ وإختيارٍ، وبالتالي يسقط برهان النظم من أدلّة إثبات وجود الله6.

فالإنسان لم يُخلق بهذه الصورة المنظمة دفعةً واحدةً، حتى نُثبت أنّ قوّةً حكيمةً وعالمةً أوجدته بهذا الشكل، بل إستغرقت كلّ خصوصيّةٍ من خصوصيّاته مئاتُ الملايين من السنين، ليظهر في صورته الحاليّة نتيجة مجموعةٍ من القوانين الماديّة والطبيعيّة.

والسؤال هو: هل صحيحٌ أنّ هذه النظريّة تؤثّر على أدلّة التوحيد؟ وهل يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقادَ بنظريّة ثبات الأنواع؟

الردود على نظرية التطوّر:

هناك مجموعةٌ من الردود على هذه النظريّة، بعضها علميّ تجريبيّ يدحض
________________________________________
6- كما لا يخفى فإنّ هذا الكلام لو تمّ فسيؤثّر على برهان الهداية أيضاً. 
 
 
84

72

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 نفس النظريّة، وهو نتيجة أبحاثٍ معاصرةٍ أثبتت بطلان هذه النظريّة، وبعضها توحيديّ ينطلق من فرض التسليم بهذه النظريّة فيبيّن أنّها لا تؤثّر ـ لا هي ولا غيرها ـ على عقيدة التوحيد، وبالتالي لا يستلزم الإيمان بالتوحيد الاعتقاد بنظريّة أخرى.


1ـ الجواب الأول: بطلان النظرية:

رغم القرائن الكثيرة التي عرضها داروين فإنّ نظريّته بقيت محلّ نقاش العلماء، وبدت فيها إشكالاتٌ كثيرةٌ، جعلت العلماء لا يقتنعون بها. 

أسئلة مثارة حول نظريّة التطوّر:

فقد طرح العلماء مجموعة من الأسئلة تبيّن وهنَ التفسير الذي قام به دارون، نعرض نموذجاً منها: 

ـ إذا كان إستخدام الرأس كوسيلة للعراك يؤدّي إلى ظهور القرون فيها، فلماذا ظهر للثور قرنان ولوحيد القرن قرنٌ واحدٌ، في حين لم يظهر للحصان أيّ قرن؟!

ـ لماذا لم يرجع العضو الطارئ إلى حالته الأولى بعد أن عادت الأوضاع البيئيّة إلى حالتها الأولى؟! فلماذا لم يرجع عنق الزرافة إلى ما كان عليه بعد أن أصبح علفها متوفّراً على سطح الأرض؟!

عامل الوراثة:

مجموعة من مثل هذه الأسئلة جعلت العلماء لا يقتنعون بنظريّة داروين. ولكنّ الذي أجهز على هذه النظريّة هو إكتشافات العلم التجريبيّ اللاحقة. فإنّ من الأصول الأساسيّة التي بنى عليها لامارك وداروين النظريّةَ في تفسير تطوّر
 
 
85
 

73

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 الأنواع، هو مسألة إنتقال الصفات بالوراثة، ولولا هذا الأصل لما تمّ أيٌّ من كلامهما، وقد إكتشف العلماء في ما بعد عدم صحة الإنتقال الوراثيّ للصفات المكتسبة وللتغييرات السطحيّة التابعة لتغيّر البيئة.


فبعد سنة من وفاة داروين، إكتشف العالم البلجيكيّ (وان بندن) كيفيّة التكاثر في الحيوانات، وأثبت أنّ الصفات الوراثيّة لا تنتقل إلا عبر الخليّتين الجنسيّتين، وبعد أن أجروا التجارب والبحوث ثبت لديهم أنّ جميع التغييرات التي تحدث في الكائن الحيّ، سواء أكانت بتأثير البيئة، أم بواسطة الإنتخاب الطبيعيّ، لا تنتقل بالوراثة إلى الأجيال اللاحقة، فالصفات المكتسبة لا يمكن أن تنتقل بالوراثة، وبذلك حطّموا أصلاً أساسيّاً من نظريّة لامارك وداروين، وبالتالي قد أجهزوا عليها.

نظريّة الطفرة:

وظهرت بعد ذلك نظريّة أخرى قدّمها العالم البلجيكيّ (هوغو دوفريس)، وعُرفت بنظريّة الطفرة الوراثيّة أو نظريّة موتاسيون، وتعتمد على ظهور خصوصيّاتٍ بصورةٍ مفاجئةٍ في الكائنات الحيّة، ولا يكون لهذه الخصوصيّات إرتباطٌ بعامل البيئة. وهذه الطفرة تترك آثارها على الجينات بحيث يمكن أن تنتقل وراثيّاً، وبالتالي، فإنّه قد أُسند تبدّل أنواع الكائنات وتطوّرها إلى هذه الطفرة، بعد أن إتضح عدم إمكان تطوّر الكائنات الحيّة وتكاملها إستناداً إلى عامَلي الإنتخاب الطبيعيّ وإنتقال الصفات المكتسبة وراثياً.

النتيجة:

وما وصلت إليه العلوم الطبيعيّة هو حقيقة يعترف بها جميع علماء الأحياء في أرجاء العالم، وهي العجز عن إيجاد تفسيرٍ ماديّ للتناسق المشهود في تكوين
 
 
86
 

74

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 الموجودات الحيّة، والتي لا يمكن أن تكون قد جاءت على نحو الصدفة.


على الرغم من بطلان نظريّة داروين فنحن سنبحث في أنّها لو سُلّمت فهل تضرّ بأدلّة التوحيد 7؟

2 ـ الجواب الثاني: علّة الظاهرة: 

إنّ نظريّةَ التطوّر نظريّةٌ وصفيّةٌ، تفسّر كيفيّة حدوث التطوّر. ولكن في هكذا أبحاث ـ أبحاث العقائد8 ـ لا يكفي أن نلاحظ ظاهرةً مشهودةً، ونبيّن كيفيّتها، بل يبقى السؤال قائماً عن علّتها. فنحن ولو إعتقدنا بوجود قابليّةِ التغيّر والتبدّل النوعيّ في الكائنات الحيّة والتي تؤدّي إلى حدوث تغييراتٍ في أنواعها، فلا بدّ أن نسأل عن الذي أوجد هكذا قابليّاتٍ متقنةً وهادفةً في الكائنات. 

لا شكّ أنّها قوةٌ عالمةٌ ومدركةٌ قد نظّمت الكائنات بهذا الشكل الهادف بحيث تصل إلى تكاملها.


يقول لامارك: هناك حاجة إلى قوّةٍ مدبّرةٍ، جهّزت هذا الكائن بأجهزة تؤدّي إلى إحداث التغيير.

ويقول داروين9: إنّ جميع العوامل التي ذكرتها لا تكفي للكشف عن سرّ الخلق، فالطبيعة تتوجّه نحو الأفضل وفق مبدأ (إنتخاب الأصلح)، وهذا يعني أنّها تتوجّه إلى غاية وإلى هدف معيّن، وبالتالي فلا بدّ من وجود قدرةٍ جعلت الطبيعة تتوجّه كذلك. 

ووجود قوانين قد جعلها الله في الكائنات تحكم تبدّلها وتغيّرها النوعيّ،
________________________________________
7- لا يخفى أنّ هذا النقاش يسحب نفسه على مجموعة من القوانين الماديّة الأخرى التي تظهر بين الفينة والأخرى، والتي يُدّعى أنّها تضرّ بأدلّة التوحيد، أو بوجود عالم الغيب، وهنا تكمن أهميّته.
8- في أبحاث العقائد نبحث عن الوقائع وخفايا الأمور، فيما العلم التجريبيّ قد يكتفي بوصف ما يحدث بغضّ النظر عن سرّ ذلك.
9- داروين نفسه لم يكن ماديّاً بل كان مؤمناً بالله، وقد صرّح بنفسه أنّ نظريّته لا تنفي وجود الخالق عزّ وجلّ.
 
 
87
 

75

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 أمرٌ طبيعيّ قد جرت سنّة الخلق عليه 10، فالله هو الذي خلق ونظّم عالمنا على أساس الأسباب والمسبّبات. 


من هنا، يتّضح أنّ أدلّة الإلهيّين التوحيديّة بقيت على قوّتها بعد ظهور مثل هذه النظريّات، بل ازدادت قوّةً، بمعنى أنّ النظريّات العلميّة الحديثة قد بيّنت بصورةٍ أفضل كون حركة الطبيعة حركةً هادفةً، فسبحان من أودع هذه الطبيعة نظمَها المتقن فيها!

3ـ الجواب الثالث: عدم كفاية النظريّة:

من الخطأ الاعتقاد بأنّ القوانين التي ذكرها كلّ من لامارك وداروين كافيةٌ لإيجاد التنوّع في الموجودات.

ذلك أنّ هناك تغييراتٍ لا تكون إراديّةً أو شعوريّةً في نفس الكائن الحيّ، فهو يرتّب وضعه بصورةٍ لا شعوريّةٍ بحيث ينسجم مع التغييرات البيئيّة، وذلك بخلاف التغييرات الإراديّة من قبيل طول عنق الزرافة. وقد ظهرت نظريّةٌ حديثةٌ تتحدّث عن (التكيّف مع البيئة) تؤيّد هذا الكلام 11

واعترف لامارك نفسه بأنّ ثمّة قوّة داخليّة أو حساً داخلياً يساهم في إيجاد التغييرات المناسبة. 

وكذلك يصرّح داروين بوجود دورٍ لعاملٍ مجهولٍ، وبالتالي لا يمكن معرفة سرّ الخلق وفق القوانين وحدها. 

فلماذا يفقد العضو الذي لا يُستفاد منه التغذية والرعاية اللازمة من البدن؟ 
________________________________________
10- كما عن الصادق عليه السلام : (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً...) (بحار الأنوار: 2/168)
11- وقد تقدّم التعرض لذلك في برهان الهداية.
 
 
88
 

76

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 كيف تظهر أعضاء جديدة تتناسب مع الحاجات الطارئة ـ كظهور القرون للعراك في بعض الذكور من الحيوانات التي تتعرّض للإعتداء ـ وبدقّةٍ متناهية؟


هذا لا يمكن أن يكون مسبّباً عن الإحتياجات الطارئة وحدها، فالإحتياج نفسه لا يخلق شيئاً، فضلاً عن عضوٍ كاملٍ متكامل، وإنّما الإحتياج يوجد الأرضيّة للخلق والإيجاد. الإحتياج ليس سوى الفقر. والذي يوجد هكذا أعضاء متناهية الدقّة هو عبارة عن جهازٍ أو قوّةٍ مدبّرةٍ وذات شعورٍ في وجود الكائن الحيّ، غير إرادة وشعور نفس الكائن 12. وهذا الحسّ بنفسه يعدّ سرّاً كبيراً ومهمّاً في عالم الطبيعة، فالدور المهمّ هو لردود الفعل التي يبديها الكائن الحيّ بهدايةٍ من البُعد الهدفيّ في طبيعته. 

النتيجة: إنّ دور العوامل والقوانين الخارجيّة هو الإعداد (علّة إعداديّة) للتغيير، ولكنّها ليست هي التي توجد التغيير والتبدّل، أمّا العلّة الموجدة فهي قوّةٌ خفيّةٌ مجهولةٌ في الطبيعة، ينتج عنها ردّ الفعل المعيّن ذلك، وبتلك الصورة الهادفة، حيث انتخبت نوعاً معيّناً من الأجهزة التي لا يدركها الحيوان نفسه قبل وجودها. 

4 ـ الجواب الرابع: أجهزةٌ متكاملة:

إنّ ثمّة أجهزةً في تكوين الكائن الحيّ لا يمكن الإستفادة منها ما لم تكن متكاملة، وإلا فإنّها لا تنفعه، وفي مثل هذه الحالات لا يمكن تصوّر التدريج في تكوينها، ومثال ذلك العين: 

فإنّ العين مكوّنةٌ من جهاز معقّدٍ للغاية، لا يمكن للإنسان الاستفادة منه إلا بوجود تمام أجزائه، ففي مثل ذلك كيف يمكن تصوّر التدريج والتكامل في تكوين العين؟ 
________________________________________
12- وهو الذي تحدّثنا عنه في برهان الهداية، وذكرنا أنّه دور اللاشعور. 
 
 
89
 

77

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 فلو لم تكن العين موجودةً بهذا الشكل من التكامل في مراحل تطوّرها الأولى فإنّ الإنسان لم يكن ليستفيد منها، وبالتالي لما كانت محلّاً للتطوّر والتكامل لا وفق قوانين لامارك، إذ وفق قوانينه سيؤدّي عدم الإستفادة منها إلى الإستغناء عنها وفقدانها، ولا وفق قوانين داروين، حيث لا مكان لانتخاب الأفضل ما دامت العين حينها غير قابلةٍ للاستفادة منها حتّى تتطوّر.


ففي مثل هذه الأجهزة التي لا يُستفاد منها إلا وهي متكاملة، وما أكثرها، لا يمكن أن نقول: قد بقي الجزء المفيد منها تلقائيّاً إلى أن ظهر جزءٌ جديدٌ أكمله.

خلاصة الدرس 

ـ يدّعي البعض أنّ نظريّة تطوّر أنواع الكائنات الحيّة التي ظهرت في العلم الحديث تنافي بعض أدلّة التوحيد.

ـ ثمّة ثلاثُ نظريّاتٍ في مجال ثبات الأنواع وتطوّرها:

1ـ نظريّة ثبات الأنواع وقدمها. 2ـ نظريّة ثبات الأنواع. 3ـ نظرية التطوّر.

تقوم نظرية التطور على أساس أنّ التغييرات التي تحدث في الكائنات الحيّة، والتي أدّت إلى ظهور هذا التنوّع فيها، هي نتيجة قوانين وعوامل طبيعية.

ـ والإشكال الذي يُطرح ـ بناءً على هذه النظريّة ـ على أدلّة التوحيد، هو أنّ الإلهيّين إستدلّوا بإتقان النظم في العالم، ليُثبتوا وجود قوّةٍ حكيمةٍ ومدبّرةٍ وراء هذا العالم، والحال أنّ هذه النظريّة تُثبت أن الإتقان في النظم ليس سوى نتيجة قوانينَ ماديّةٍ طبيعيّةٍ، أدّت على مدى قرونٍ متطاولةٍ إلى ظهور هذا النظم، وبالتالي فلا محلّ لقوّة أخرى.
 
 
90
 

78

التوحيد ونظريـّة التطوّر

 ـ أمّا الجواب على الإشكال:


أولاً: بعد أن عجزت نظريّة التطوّر عن الإجابة على مجموعةٍ كبيرةٍ من المشاهدات الخارجية، ثبت علميّاً عدمُ صحّة هذه النظريّة في تفسير التكامل، وبقي العلماء عاجزين عن تفسير التطوّر تفسيراً طبيعيّاً.

ثانياً: تكتفي هذه النظريّة بوصف كيفيّة حدوث التطوّر، وتنسبه إلى قابليّةٍ هادفةٍ في الكائنات تسمح لها بالتبدّل، بينما السؤال في برهان النظم عن القوّة التي أتقنت صنع الكائنات بحيث أودعتها قابليّةً هادفةً تسير بها نحو التكامل.

ثالثاً: تعجز هذه النظريّة عن تفسير مجموعةٍ من التغييرات الناتجة عن ردّات فعل الكائنات غير الإراديّة، وهذه التغييرات تحدث نتيجة حسٍّ وشعورٍ داخليٍّ، يبقى سرّاً من أسرار الخلق.

رابعاً: بعض أجهزة الكائنات الحيّة لا يمكن الإستفادة منها إلا متكاملة، وفي مثلها لا يُتصوّر التدريج في تطوّرها. 
  
 
أسئلة الدرس 

1ـ هل هناك أكثر من نظريّة ترتبط بتنوّع الموجودات؟
2ـ ما هو الأصل الأساس في نظريّة لامارك؟
3ـ كيف أكمل داروين هذه النظريّة وحدّدها؟
4ـ كيف ردّ العلم الحديث على نظريّة داروين؟
5ـ هل تكفي نظريّة داروين لتفسير وقوع تبدّل الأنواع؟ 
 
 
91
 
 

79

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 أهداف الدرس

1- إثبات صلاحية البراهين الفلسفية حول وجود الله.
2- شرح برهان الحركة.
3- فهم برهان الوجوب والإمكان وإثبات وجود الله من خلاله.
4- القدرة على فهم البرهان الوجودي عند صدر المتألهين والفلاسفة الغربيين والفارق بينهما.
5- فهم نظرية صدر المتألهين من أصالة الوجود واعتبارية الماهية إجمالاً وربطه بالدليل الوجودي.
 
 
93
 

80

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 تمهيد:


ذكرنا في ما سبق أنّ البراهين الفلسفيّة تنطلق من محاسباتٍ ذهنيّة وعقليّة معيّنة لبعض المعاني والمفاهيم وتثبت من خلال ذلك وجود الله.

إشكال على البراهين الفلسفيّة:

إلا أنّ البعض- من غربيّين ومصريّين- ينفي صلاحيّة البراهين الفلسفيّة لإثبات وجود الله، ويحصر طرق معرفته بالطرق التي ذكرناها سابقاً، كطريق الفطرة والقلب، وطريق الخلق، وطريق تأمّل النظم الدقيق في المخلوقات، وكذلك معرفة الله من خلال تأمّل ظاهرة الهداية المشهودة في حركة المخلوقات وعملها.

وقالوا: إنّ جميع الطرق الفلسفيّة قديمةٌ لا توصل إلى المطلوب، ولذلك فإنّ القرآن لم يسلكها، وإنّما اعتمد على الطرق آنفة الذكر.

ونحن نفنّد هذا الإعتراض إلى جوابين:

أوّلاً: محدودية معرفة التوحيد في الطرق الأخرى:
لا شكّ في صحّة الطرق المذكورة لإثبات وجود الله جلّ وعلا- كما بيّنّا في
 
 
95
 

81

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 بحوث سابقة- ولكن ما يُلاحظ عليها محدوديّة المعرفة التوحيديّة التي تقدّمها:


ـ فصحيح أنّ الطريق الفطريّ يكفي للإنسان نفسه دليلاً على وجود الله، فإنّ من يجد في قلبه الشعور الوجدانيّ بربّه فهذا من أسمى المعرفة بوجوده تعالى، ولكنّ هذا الطريق يبقى قاصراً عن الاستدلال به للآخرين، لأنّه لا ينطلق من العقل والبراهين الاستدلاليّة1.

ـ وأمّا الطرق العلميّة (الخلق والنظم والهداية)، فهي على تماميّتها في إثبات وجود الله، لكنّها غاية ما تُثبته هو وجود منظّم وخالق لهذا العالم، ولكن هذا غير كافٍ في مسألة إثبات التوحيد ومعارفه، فهذه الطرق لا توصلنا إلى مرتبةٍ أسمى من هذه المرتبة في معرفة الله، أي مرتبة من يعرف وجود المؤثّر والمدبّر إجمالاً وكأمرٍ مجهولٍ في تفصيلاته. وفي المقابل فالأدلّة الحسيّة عاجزةٌ بالكامل عن البتّ بشأن وحدانية أو تعدّد المنظّم والمدبّر لعالم الوجود، ربما إلى ما لا نهاية.

والحال أنّه لا يكفي في معارف التوحيد إثبات مدبّرٍ إجماليّ لهذا العالم، فها هو القرآن يصف الملائكة بمثل هذه الصفة.

ولا تجيب تلك الطرق على أسئلة من قبيل:

كيف وُجد هذا الخالق المنظّم؟ وهل وجوده قائمٌ بذاته أو مخلوقٌ لغيره؟! وهل أنّ وجوده أزليٌّ أبديّ؟.

وهي إذ تشير إلى بعض صفاته، ككونه عالماً وقادراً، فإنّها لا تبيّن هذه الصفات كما يجب أن نعتقد بتوفّرها فيه جلّ وعلا، فهي تذكر أنّه عالمٌ- لطبيعة النظم الموجود في العالم- ولكنّها تثبت علمه بالمخلوق الذي صنعه، دون أن
________________________________________
1- اللّهم إلا تنمية هذا الشعور ومحاولة إحيائه عبر إثارته، كما تقدّم في طريق الفطرة.
 
 
96
 

82

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 تُثبت أنّه:﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2، أي الاعتقاد بخلوّ ذاته من جميع أَشكال الجهل.


وهي تُثبت قدرته، حيث خلق كوناً بهذه العظمة، ولكنّها تعجز عن إثبات كونه:﴿على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾3، وأنّه منزّهٌ عن جميع أَشكال العجز. 

وهكذا تعجز عن إثبات أنّه الموجد والمدبّر لجميع شؤون هذا العالم، وهو معكم أينما كنتم... وأنّه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾4...

وفي النتيجة:

إنّ أدوات العلم الحسيّ يمكنها أن توفّر لنا مستوى معيّناً من المعرفة بالله، لكنّها بأدواتها لا ترقى إلى تقديم الأجوبة اللازمة للأسئلة المثارة حول الخالق عزّ وجلّ.وهذا المستوى من معرفة الله لا يؤسّس لعلم التوحيد، ولا لتشكيل معارفه الجليلة.

ثانياً: القرآن والأدلة الفلسفيّة:

وأمّا ما ذُكر من إهتمام القرآن الكريم بمثل طرق الفطرة والخلق والنظم دون الطرق الفلسفيّة، فالجواب عليه من جهتين:

الأولى: إنّ القرآن قد أشار إلى المعارف التوحيديّة الفلسفيّة، وأشار إليها كما سنتعرّض عند بيان البرهان الفلسفيّ5، بل بيّن من حقائقها ما هو أسمى ممّا توصّلت إليه الفلسفة اليوم.
________________________________________
2- البقرة: 29.
3- الأحزاب: 27.
4- الشورى: 11.
5- سيأتي في البرهان الوجودي التعرض للآيات الدالة عليه؛ وهناك آيات أخرى تشير إلى أدلة عقلية وفلسفية نذكر منها قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء:22)، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾(الاسراء:42)، ﴿مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون:91).
 
 
97
 

83

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 الثانية: إنّ سبيل عامّة الناس في معرفة الله هو سلوك هذه الطرق، فإنّ المهمّ بالنسبة للعوام هو الحصول على أصل الإيمان بالله، لذلك يكفيهم أن يستدلّوا بوجود ما يشاهدونه من آثار القدرة والعلم والتدبير الإلهيّ، دون أن يتقدّموا خطوة إضافيّة إلى الأمام. ويختص بهذه الخطوة من كان لديه معرفةٌ أسمى بالله عزّ وجلّ.


ولذلك فنحن نعتقد بأنّ السبيل الفلسفيّ، وإن لم يكن عامّاً في صدر الإسلام، إلا أنّه قد سلكه بعض الخواصّ من أهل التوحيد.

بيان البراهين الفلسفيّة:

إنّ البرهان الفلسفيّ الكامل الذي يهمّنا في المقام هو البرهان الوجوديّ، ولكن قبل التعرّض له، لا بدّ من سرد تاريخيّ إجماليّ لبعض البراهين الفلسفيّة التي سبقته، لذا نتعرّض إلى ثلاثة براهين فلسفيّة:

1ـ برهان المحرّك الأوّل.
2ـ برهان الوجوب والإمكان الوجوديّ.
3ـ البرهان الوجوديّ.

1- برهان المحرّك الأوّل:

يعتمد هذا البرهان على الحركة الموجودة في هذا العالم. وقد نُقل هذا البرهان عن أرسطو. وقبل أن نشرع في بيانه لا بدّ من توضيح مفهوم الحركة في المصطلح الفلسفيّ:

فالحركة في الفلسفة لا تختصّ بأنواع الحركات المكانيّة، بل تشمل كلّ تغيّر وتحوّل سواء أكان مكانيّاً أم كميّاً أم كيفيّاً أم وضعيّاً أم جوهريّاً، فالحركة عند الفيلسوف تقابل الثبات. 
 
 
98
 

84

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 ونعرض هذا البرهان ضمن مقدّمات:


المقدّمة الأولى: 

الحركة أمرٌ حادثٌ، وكلّ حادثٍ يحتاج إلى محدث(علّة/محرّك)، فالحركة تحتاج إلى محدثٍ(محرّك).

المقدّمة الثانية:

إنّ العلّة تُقارن معلولَها زمانيّاً، فمن المحال وجود فاصلةٍ زمانيّةٍ بينهما6، كذلك المحرّك والحركة.

المقدّمة الثالثة:

الحركة موجودةٌ في العالم، فهي تحتاج إلى محرّكٍ مقارنٍ لها زمانيّاً.

إذا تبيّن ذلك نسأل عن هذا المحرّك نفسه: هل هو ثابتٌ أو متحرّك؟

إذا كان هذا المحرّك ثابتاً فلا بدّ أن يكون وراء عالم الطبيعة، لأنّ في كلّ جزءٍ من أجزاء هذه الطبيعة نوعاً من التغيّر والتحرّك، فلا يوجد في عالم الطبيعة ثباتٌ، وبالتالي يثبت مطلوب أرسطو.

وأمّا إذا كان متحرّكاً فهو بحاجةٍ إلى محرّك، فيتكرّر السؤال عن المحرّك الثاني هل هو ثابتٌ أو متحرّك؟ وهكذا إلى أن تنتهي الحركات إلى محرّكٍ ثابتٍ وهو الذي سمّوه بـ: (المحرّك الأوّل).

إشكال وردّ:

قد يُعترض على برهان أرسطو بأنّ علم الفيزياء يرفض نظريّة احتياج الحركة
________________________________________
6- المقصود من العلّة هنا: العلّة التامّة، أمّا العلّة الإعداديّة فيمكن أن تنفصل عن معلولها زماناً.
 
 
99
 

85

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 بنفسها إلى محرّك، وإنّما تغيير الحركة(كزيادة سرعتها أو تغيير اتجاهها) هو الذي يحتاج إلى محرّك.


إلا أنّ المحرّك الذي يقصده أرسطو غير المحرّك الذي تحدّثت عنه الفيزياء، فالمحرّك الذي يذكره أرسطو هو المحرّك الكامن في داخل الجسم المتحرّك، بينما الذي تتحدّث عنه الفيزياء هو عاملٌ يقع خارج وجود المتحرّك، فلا يصلح هذا الكلام لأن يكون دليلاً على بطلان نظريّة أرسطو.

ملاحظات حول برهان المحرّك الأوّل:

من الملاحظات على برهان أرسطو:

أنّه لم يعتمد البرهان الفلسفيّ المحض، بل استعان بالآثار الطبيعيّة، وذلك في المقدّمة الثالثة(وجود الحركة في العالم)، وهذا ممّا يضعف قيمته الفلسفيّة العقليّة.

كما أنّ هذا البرهان، وإن أثبت وجود محرّكٍ ثابتٍ خارج نطاق عالم الطبيعة، إلا أنّه عاجزٌ عن إثبات وحدانيّته، ولذا لا يمكنه أن يجيب على مسألة أن يكون مخلوقاً لمحرّك آخر، وهذا بدوره إلى محرّكٍ ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية.

وعلى أي حال نحن لا نريد الإستناد إلى هذا البرهان، فنكتفي بهذا المقدار من العرض له والذي يزوّدنا بالمعرفة التاريخيّة اللازمة.

2- برهان الوجوب والإمكان الوجوديّ:

ذكر إبن سينا هذا البرهان، معتمداً على مبدأ (الوجوب والإمكان)- بدلاً من مبدأ الحركة- وهو مبدأ فلسفيّ، ولذلك فإنّ الصبغة العقليّة والمحاسبات
 
 
100
 

86

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 الفلسفيّة في هذا البرهان أوضح من السابق.


وينطلق إبن سينا في هذا البرهان من تقسيم الوجود إلى واجبٍ وممكنٍ، لذلك- وقبل توضيح هذا البرهان- لا بدّ من بيان تقسيمات الوجود.

تقسيمات الوجود:

إذا كنّا أمام موضوعٍ وصفة، فحالاته لا تخلو من إحدى ثلاث:

إمّا أن يكون إتصاف الموضوع بهذه الصفة- أي وجود هذه الصفة في هذا الموضوع- واجباً وضروريّاً بحيث يستحيل عدم الإتصاف، فهذا هو الضرورة أو الوجوب، كضروررة ثبوت الزوجية للأثنين. 

وإمّا أن يكون الاتصاف مستحيلاً وممتنعاً، فذلك الإمتناع أو الاستحالة، كاستحالة ثبوت الفرديّة للاثنين.

وإمّا أن يكون اتصاف الموضوع بصفته ممكناً، وذلك أغلب الحالات الطبيعيّة، كإمكان وجود عشرة أشخاص في القاعة، فهنا لا توجد ضرورة الإتصاف ولا إستحالته، ولذلك نقول إنّه- في حدّ ذاته- متساوي الطرفين بالنسبة للوجود أو العدم.

ولا تخلو حالات الموجودات من إحدى هذه الحالات الثلاث، نعم هناك ما يُعرف بين الماديّين والإلهيّين بـ "نظام الضرورة"، ومعنى ذلك:

أنّ ممكن الوجود، والذي ذكرنا أنّه متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم، لا يمكن أن يوجد إلا بأن يترجّح وجوده فيخرج إلى حيّز الوجود، وبعبارة أخرى إلا بأن ينتقل بسبب هذا العامل الخارجيّ إلى ضرورة الوجود، وإلا بقيَ متساوي الطرفين، غير مرجّح الوجود ولا العدم وهو المعبّر عنه (بأنّ الشيئ ما لم يجِب لم يوجد)، ويسمّى الممكن حينها بـ: "واجب الوجود بالغير".
 
101
 

87

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 تنبيه:


إنّ قولنا إنّ الممكنات ضروريّة الوجود بالغير لا ينافي اعتقادنا بوجود الإختيار- في مقابل الجبر-، وذلك أنّ وجوب وجودها ناتج عن علل خارجة.

تقرير البرهان:

يهدف هذا البرهان إلى إثبات واجب الوجود، وينطلق في محاسبة وجود الموجودات في هذا العالم، فيقول: إنّ وجودها ليس أمراً محالاً، إذ إنّ وجودها هو دليل عدم كونها من المحالات.

وعليه فوجود هذه الموجودات إمّا ممكنٌ وإمّا واجب ضروريّ:

فإذا كان وجودها واجباً فهو المطلوب، أي إثبات وجود واجب الوجود.

وأمّا إذا كان وجودها ممكناً، فهنا نقول:

إنّ ممكن الوجود هو متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم، وهذا يعني أن وجوده هو نتيجة أمرٍ خارجٍ عن ذاته-كما تقدّم- وهذا يستلزم وجود علّة أوجدته، فهنا نسأل هل هذه العلّة واجبةٌ ضروريّةٌ أو ممكنة؟

إذا كانت واجبة الوجود فهو المطلوب- حيث يثبت واجب الوجود- وأمّا إذا كانت هذه العلّة ممكنة الوجود- متساوية الطرفين- فهنا نقول: إنّ هذا يستلزم وجود علّة أوجدتها، وهكذا... فإمّا أن يلزم التسلسل، وهو باطل، وإمّا أن نصل إلى علّةٍ تكون واجبة الوجود وهو المطلوب.

إشكال وجوابه:

يعترض البعض بأنّ الماديّين يعتقدون باستمرار نظام هذه السلسلة من العلل
 
 
102
 

88

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 والمعلولات إلى ما لا نهاية، فيكون نظام الوجود مكوّناً من سلسلةٍ غير متناهيةٍ من ممكنات الوجود.


والجواب عبر بيان استحالة تسلسل الممكنات7:

إنّ تسلسل العلل محالٌ، ويمكن بيان هذه الإستحالة على النحو التالي: 

إنّ ما يذكره الماديّون هو أنّ عالم الوجود بجميع أجزائه ممكن في سلسلة لا متناهية من العلل والمعلولات، وهنا ننظر إلى المجموع وإلى السلسلة ككلّ، ونقول: إنّ هذه السلسلة ستأخذ حكم أفرادها وهو إمكان الوجود، أي تساوي الطرفين بالنسبة إلى الوجود والعدم، وبالتالي فتحتاج إلى عامل خارجيّ يرجّح وجودها ويخرجها إلى حيّز الوجود لتكون واجبة الوجود بالغير، وهذا هو مقتضى نظام الضرورة السابق الذي يعتقد به الماديّ نفسه.

3- البرهان الوجودي:

وهذا الطريق قد سلكه الملا صدرا، وهو أسمى وأدقّ وأقوى من برهان ابن سينا، ويقوم على أساس الاستدلال على وجود الحقّ بذاته المقدّسة، دون الحاجة إلى الاستدلال بغيره عليه، وهذا ما هو مشهود في الآيات القرآنيّة، كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾9، وفي آية أخرى يستشهد بها الملا صدرا نفسه:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
________________________________________
7- يوجود طريق آخر لإثبات بطلان التسلسل، وهو طريق فلسفيّ يعتمد على ما تثبته مقدّمات فلسفيّة من استحالة تسلسل العلل المتقارنة زماناً.
8- يصرّح صدر المتألّهين بأنّ طريقة الاستدلال على الله بالله هي طريق الصدّيقين، ولذا اشتهر برهانه باسم: (برهان الصدّيقين)، وهو جدير بهذا الاسم وإن سمّى ابن سينا برهانه- الإمكان والوجوب- بهذا الاسم أيضاً؛ فإنّ ابن سينا، وإن لم ينطلق من المخلوقات في إثبات وجود الله، لكنّه لم يستدلّ على الله بالله.
9- آل عمران: 18.
 
 
103
 

89

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾10.


كما نجد إشارة إلى ذلك في بعض الأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، كما في دعاء الصباح: (يا مَن دلَّ على ذاتِه بذاتِه)، وفي دعاء أبي حمزة الثماليّ: (بكَ عرفتُكَ وأنت دَلَلتَني عَليكَ)، وفي دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة: (أَيَكونُ لغيركَ مِن الظُهورِ مَا ليس لكَ حتّى يكونَ هُوَ المظهر لكَ)، إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة التي تكرّر هذا المضمون كثيراً.

البرهان الوجوديّ عند الأوروبيين:

قبل بيان الطريق الذي سلكه صدر المتألّهين، لا بدّ من الإشارة إلى ما ذكره الفلاسفة الأوروبيّون من البرهان الوجوديّ، والذي لا يخلو من شَبَهٍ بالبرهان الذي أقامه- قبلهم- صدر المتألّهين، وذلك بهدف المقارنة بين السبيلين في معرفة الله، ومعرفة الخلل الواقع في البرهان كما ذكره الأوروبيّون.

عرض آنسلم للبرهان الوجوديّ:

أوّل من ذكر البرهان الوجوديّ في الفلسفة الأوروبيّة هو القدّيس والفيلسوف المسيحيّ (آنسلم)، وذلك في القرن الحادي عشر الميلاديّ.

وينطلق هذا البرهان من تصوّرات الإنسان، وبيانه: 

المقدّمة الأولى: إنّ لدى كلّ إنسان تصوّراً عن ذات هي الذات الأكمل، وبعبارةٍ أخرى: إنّ الإنسان قادرٌ على تصوّر (الكامل المطلق).

المقدّمة الثانية: الوجود صفة كمال، فالذات التي لا يكون لها وجود لا تكون كاملة.
________________________________________
10- فصلت:53.
 
 
104
 

90

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 النتيجة: فلا بدّ أن تكون هذه الذات- الأكمل تصوّراً- موجودةً، وإلا لما كانت أكمل (يلزم خلف فرض كونها الأكمل). 


إذاً توجد ذات هي في التصوّر والواقع أكبر من كلّ ذات، وهي الله.

عرض ديكارت للبرهان الوجوديّ:

عرض الفيلسوف الفرنسي ديكارت البرهان الوجوديّ بطريقة أخرى، فقد بدأ ديكارت تفكيره بالشك المنهجيّ، أي بالشك في كلّ شيء للوصول إلى نقطة يقينيّة يَعبُرُ من خلالها إلى الحقيقة11. ونقطة اليقين التي وصل إليها هي اليقين بأنّه يشكّ، فقال: يمكن أن أشكّ في كلّ شيء ولكن لا يمكن أن أشكّ في كوني أشكّ فعلاً!

وبعد أن أيقن بأنّه يشكّ، أدرك وجوده، لأنّه هو الشاكّ فهو موجود أيضاً12، وهذا معنى عبارته الشهيرة: (أنا أفكّر إذاً أنا موجود).

بعدها توجّه ديكارت إلى ما لديه من تصوّراتٍ وتساؤلٍ عن كيفيّة تكوّنها في ذهنه، ليبحث في أنّه هل هو الذي أوجدها أو غيره، وتابع بحثه بهذه الطريقة إلى أن وصل إلى تصوّره عن المطلق غير المتناهي، وحينها قال بأنّه لا يستطيع أن ينسب إيجاد هذا التصوّر اللامتناهي إلى نفسه، لأنّ وجودَه محدودٌ ومتناهٍ فيعجزُ عن إيجاد تصوّرٍ عن ذاتٍ مطلقةٍ غير محدودةٍ ولا متناهيةٍ، فلا مفرّ من القول بأنّ الذي أودع في ذهنه هذا التصوّر غير المتناهي هو موجودٌ لا متناهٍ. وبذلك يثبت وجود الله.
________________________________________
11- وهذا على خلاف طريقة الشكاكين، الذي يشكّكون في كلّ شيء لنفي الحقيقة لا للوصول إليها!
12- لقد أنكر ابن سينا هكذا طريقة في الاستدلال وأثبت بطلانها قبل ظهورها، حيث قال بأنّه إذا ادّعي بأنّ الإنسان يمكن أن يدرك وجوده من خلال أحد الآثار كالعمل أو التفكير، فالجواب أنّه إنّما يُثبت وجود مطلق المفكّر أو العامل، ولا يستطيع أن يُثبت وجود المفكّر الشخصيّ(نفسه)، ولذلك يقول ابن سينا إنّ الصحيح أن يُدرك الإنسان حقيقة وجوده عن طريق علم النفس الحضوريّ بذاتها، وعليه فإنّه يُدرك وجوده قبل أيّ شيء آخر(قبل آثار هذا الوجود من تفكيرٍ وشكٍّ وعملٍ).
 
 
105
 

91

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 الجواب على طريقة الاستدلال:


من الملاحظ أنّ الأوروبيين إنطلقوا في استدلالهم بالبرهان الوجوديّ من مسألة التصوّر، وهذا هو ما أوقعهم في المغالطة، لأنّ تصوّر الشيء غير حقيقة هذا الشيء وواقعه، فتصوّر النار مثلاً غير واقع وحقيقة النار، ولذلك نجد الإنسان يتصوّر النار من غير أن يحترق ذهنه، فتصوّر الموجودات في الذهن لا تترتّب عليه آثارها الخارجيّة. 

وهكذا فإنّ تصوّر الذات اللامتناهية لا يكون شيئاً غير متناهٍ بحيث لا يمكن أن يصدر عن المحدود المتناهي.

ولذا فإنّ بين الفلاسفة الأوروبيين أنفسهم من نقض هذا البرهان ورفضه، كالفيلسوف الألماني (كانت)، حيث ذكر بأنّ وجوب وجود الذات الكاملة هو فرع تحقّق وجودها، لا مجرّد وجود تصوّر عنها، وعلّق على كلامهم بالقول: إنّ استدلالهم هو بمثابة من يتصوّر وجود مائة قطعة ذهبيّة لديه، ويبني عليه وجودها في خزنته!.

وهكذا الحال في الذات المقدّسة، فإنّ مجرّد تصوّر وجودها لا يستلزم وجودها واقعاً.

البرهان الوجوديّ عند صدر المتألّهين:

هكذا يتبيّن أنّ الأوروبيين إنطلقوا من التصوّر الذهنيّ في البرهان الوجوديّ، وبالتالي لم يكن استدلالهم تامّاً ولم يخلُ من إشكالٍ، أمّا صدر المتألهين فقد سلك طريقاً آخر يسلم من الإشكال، حيث سلك طريق الوجود نفسه، معتبراً أنّ جميع ما في الأذهان من معانٍ ومفاهيم هي في الحقيقة تعيّنات يدركها الذهن للوجودات المتحقّقة في الخارج.
 
 
106
 

92

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 أصالة الوجود:


والنظريّة التي شكّلت نقطة إرتكاز لصدر المتألّهين هي مسألة (أصالة الوجود وإعتباريّة الماهيّة)13، ومعنى ذلك أنّ المتحقّق في الواقع الخارجيّ هو الوجود نفسه، وكلّ شيء غير الوجود فهو مظاهر وتجليّات له وأمور إعتباريّة لا حقيقة لها في الواقع الخارجيّ. فواقع ما نراه في الخارج من أشياء(إنسان، شجر، حجر...) ليست أموراً محقّقة بحيث يكون الوجود أحد صفاتها، وإنّما المتحقّق واقعاً هو الوجود ذاته، وهو هنا إنسان وهناك شجرة وهنالك حجر، فالمتحقّق هو الوجود وله مظاهر وتجليّات متنوّعة، فيظهر هنا بشكل وهناك بشكل آخر.
وبكلمة واحدة: إنّ الأصالة في العالم هي للوجود ذاته، فهو وحده الحقيقة وما عداه أمور إعتباريّة.

بيان برهان صدر المتألهين:

بعد أن أثبت صدر المتألّهين أنّ المتحقّق والأصيل في الخارج هو الوجود بنفسه وذاته، توجّه إلى هذا الوجود ليتعرّف إليه، فقال:

إنّ الوجود يمكن أن يكون على نوعين هما:

وجودٌ ناقصٌ ومحدودٌ، ووجودٌ كاملٌ ومطلقٌ.

ولكنّ طبيعة الوجود تقتضي أن يكون وجوداً مطلقاً وأبديّاً وخالداً. فإنّنا لو تعمّقنا في الوجود بذاته لوجدناه مساوياً لوجوب الوجود وعدم التناهي والكمال المطلق، فما لا بدّ من بحثه هو في الوجودات الناقصة لنرى سرّ النقص والاحتياج فيها، والصحيح أنّ مصدر النقص والإحتياج هو كونها معلولةً لوجودٍ
________________________________________
13- وهي من ابتكارات صدر المتألّهين. 
 
 
107
 

93

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 غيرها، لأنّ من لوازم المعلوليّة التأخّر والنقص والعدم، وليس ذلك من لوازم الوجود.


بذلك يتّضح أنّ الوجود في مرتبته الأولى هو الله، ثمّ من ناحية المعلوليّة تتحقّق وجوداتٌ ممكنةٌ هي أضعف وأنقص.

خلاصة الدرس 

ـ يتميّز البرهان الفلسفيّ بأنّه:

ـ برهان عقليّ يعتمد الاستدلال والبرهان، فيمكن الإستفادة منه لإقناع الآخرين.

ـ ويمكن أن يدحض جميع الإشكالات المثارة حول مسألة التوحيد، وذلك عن طريق العقل أيضاً. 

ـ يبيّن تفاصيل الصفات الإلهيّة فلا تبقى عامّةً أو مجهولةً لدينا.

ـ ويؤسّس إلى معارف توحيديّة تفصيليّة جديرة بأن تُسمّى بعلم التوحيد.

ـ إنّ القرآن إعتمد كثيراً على طرق الفطرة وباقي الطرق العلميّة بما يتوافق والعوامّ من الناس، إلا أنّه بيّن معارفَ ساميةً في التوحيد، تلك المعارف هي التي يبيّنها البرهان الفلسفيّ، ويختصّ بها الخواصّ من أهل التوحيد.

ـ هناك مجموعة من البراهين الفلسفيّة نعرض بعضها:

ـ برهان المحرّك الأوّل: وقد ذكره أرسطو، ويعتمد على أنّ كلّ ما في عالم الطبيعة متحرّك، والمتحرّك يحتاج إلى محرّك، ولا بدّ أن يكون هذا المحرّك
 
 
108
 

94

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 ثابتاً، وإلا لزم أن يكون له محرّك آخر وهكذا، وما يكون ثابتاً فهو وراء عالم الطبيعة.


ـ يلاحظ على برهان أرسطو أنّه يعتمد على مقدّمة طبيعيّة غير فلسفيّة، وأنّه عاجز عن إثبات الوحدانيّة.

ـ برهان الوجوب والإمكان: وهو البرهان الذي ذكره إبن سينا، ويعتمد على تقسيمات الوجود الثلاثة: الوجوب، الإمكان، الإستحالة، وعلى مبدأ نظام الضرورة، فيبيّن أنّ موجودات العالم لا يمكن أن تكون مستحيلةً، فهي إمّا واجبةٌ وإمّا ممكنةٌ، إذا كانت واجبةً ثبت المطلوب، وأمّا إذا كانت ممكنةً، فلا بدّ من واجب يرجّح ويوجب وجودها، وفق مبدأ الضرورة.

ـ البرهان الوجوديّ: وهو البرهان الذي ذكره الملا صدرا، ويشبهه ما يذكره الفلاسفة الأوروبيّون. إلا أنّ الأوروبيين وقعوا في مشكلةٍ حيث إنطلقوا من التصوّرات الذهنية إلى التحقّق الخارجيّ، فيما إنطلق صدر المتألّهين من نفس الوجود، لأنّه هو المتحقّق والأصيل في الخارج، وطبيعة هذا الوجود تقتضي الكمال والإطلاق ممّا يثبت وجود الذات الكاملة المطلقة وهي ذات الله عزّ وجلّ، والتي كانت علّةً لوجوداتٍ ناقصةٍ ومحدودةٍ.
 
 
109
 

95

البراهين الفلسفية والعقليـّة

 أسئلة الدرس 


1ـ ما هي ميزات البرهان الفلسفيّ؟
2ـ ما هي البراهين الفلسفيّة المذكورة لإثبات وجود الله؟
3ـ ما هو برهان المحرّك الأوّل؟
4ـ ما هو البرهان الوجوديّ؟
5ـ بماذا يفترق برهان الملا صدرا عن البرهان الوجوديّ عند الأوروبيين؟ 
 
 
110
 

96

توحيد الذات

 أهداف الدرس

1- إثبات وجود الله من خلال برهان أن المطلق والصرف لا يتثنّى.
2- اثبات وحدانية الله من خلال برهان التمانع.
3- إكتساب القدرة على شرح برهان التمايز.
4- القدرة على شرح برهان النبوّة ورد الإشكال الوارد عليه.
 
 
111
 

97

توحيد الذات

 تمهيد:


تمّ في البحوث السابقة إثبات وجود الله من خلال طرق متعدّدة (طريق الفطرة، الطريق العلميّ، والطريق الفلسفيّ).

ومن الفوارق بين هذه الطرق في مجال إثبات وجود الله1، أنّ الطريق الوحيد الذي يستمرّ في البحث ليصل إلى معرفة صفات الله وكمالاته، والذي يقدّم المعارف التوحيديّة السامية، هو الطريق الفلسفيّ:

ـ أمّا طريق الفطرة فإنّ سبيل البحث فيه، هو أن نبحث منذ البدء عن موجودٍ واحدٍ جامعٍ للكمالات، ولذا ينتهي البحث حيث يبتدئ، حيث تثبت الكمالات بشكل عامّ منذ البداية، وبطريقة قلبيّة باطنيّة.

ـ وأمّا الطريق العلميّ فقد لاحظنا أنّه ينطلق من آثار الله وآياته في الكون، ليُثبت قوّةً عالمةً ومدركةً وراء الطبيعة قد دبّرت هذا العالم.
________________________________________
1- مرّت بعض الفوارق بين الطرق في البحوث المتقدّمة.
 
113
 

98

توحيد الذات

 فالإنسان الذي يسلك هذا الطريق يدرك صفاتٍ من قبيل العلم والإدراك والإرادة بشكل عامّ لله تعالى ليُثبت من خلالها وجوده، دون أن يتقدّم في هذا الطريق خطوةً إضافيّةً في بيان حقيقة هذه الصفات، فلا يبيّن معارف ومفاهيم أساسيّة في مجال التوحيد، كحقيقة علمه تعالى أو قدرته، وأنّه: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2، و﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾3، و﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾4...- كما تقدّم5


ـ ويبقى المنهج الفلسفيّ المنهج الوحيد الذي يستطيع أن يُقدّم المعارف الإلهيّة السامية، فهو ينطلق أوّلاً من إثبات وجود واجب الوجود6، ثمّ يتقدّم خطوات إلى الأمام ليُثبت أوّلاً وحدانيّته، لينطلق في ما بعد ليبيّن حقيقة وصفات هذا الوجود، وفق نظام خاصّ ومراحل تُطوى بالتدريج، وهذا ما نقوم بدراسته في هذا البحث.

أ- إثبات وحدانيّة الله:

أثبتنا في البحث السابق- ومن خلال البراهين الفلسفيّة- أنّ ثمّة وجوداً مستقلاً قائماً بذاته هو الأصل في طبيعة الوجود، وهو وجودٌ مطلقٌ غير محدودٍ. وما نريد أن نثبته هنا هو أنّ هذا الوجود واحدٌ لا يمكن أن يكون متعدّداً.
________________________________________
2- البقرة: 29.
3- البقرة: 20.
4- فصّلت: 54.
5- تقدّم ذلك في بحث البراهين الفلسفيّة.
6- وقد تقدّم ذلك في البحث السابق، ولا سيما من خلال البرهان الوجوديّ.
 
 
114
 

99

توحيد الذات

 إثبات ذلك من خلال عدّة براهين:


البرهان الأوّل7: المطلق والصرف لا يتثنّى ولا يتكرّر:

أقام هذا البرهان صدر المتألّهين، بناءً على برهانه الوجوديّ في إثبات وجود الله، ووفق أصول ومبادئ فلسفيّة، وخلاصة هذا البرهان في مقدّمتين:

أـ واجب الوجود وجودٌ مطلقٌ غير متناهٍ:

تقدّم في البرهان الوجوديّ أنّ حقيقة الوجود بذاتها لا تقبل الحدّ والقيد، وأنّ المحدوديّة والنقص اللذين نراهما في بعض الموجودات ناشئان عن جهةٍ خارجةٍ عن ذات الوجود، وهما في الواقع نتيجة معلوليّة هذا الوجود لوجود غيره، أمّا حقيقة الوجود فتساوي عدم المحدوديّة والإطلاق، وهكذا فإنّ وجود واجب الوجود وجودٌ مطلقٌ ولا متناهٍ.
________________________________________
7- يُذكر هذا البرهان في الكتب الفلسفيّة، ولكن ثمّة برهان آخر في هذا المجال، ولكنّه يعتمد على مقدّمات فلسفيّة أُثبتت في محلّها، ونحن نعرض هذا البرهان هنا بإختصار، ويمكن التعمّق فيه من خلال دراسة البحوث الفلسفيّة، وهو برهان: دلالة وحدة العالم على وحدة مبدئه:
ويتألّف هذا البرهان من أربع مقدّمات:
أـ وحدة العالم وحدة واقعيّة: ففي مجال ارتباط أجزاء العالم هناك ثلاثة اتجاهات:
1ـ القول بعدم الارتباط، وإنّ أجزاء العالم متفرّقة لا تؤثّر على بعضها، وبالتالي فلو إنعدم بعضها لا يؤدّي ذلك إلى حدوث أيّ إختلال.
2ـ القول بالارتباط الصناعيّ، فتكون أجزاء العالم بمثابة أجزاء المصنع، حيث يؤدّي كلّ جزء من أجزائه دوراً يؤثّر على فعاليّة المجموع، وبالتالي فإنّ تغيير أو نقص أيّ جزء يؤدّي إلى إختلالٍ ما على وضع المجموع.
3ـ وأمّا الذي ثبت في الفلسفة، فهو أنّ ارتباط أجزاء العالم أعمق من إرتباط أجزاء آلة من الآلات، بل الإرتباط بين أجزائه بمثابة ارتباط أعضاء بدنٍ واحدٍ، وتُبحث هذه المقدّمة في مقالة العلّة والمعلول وفي مقالة القوّة والفعل.
ب- ليس هناك عالم سوى هذا العالم، ويُبحث ذلك في أبحاث الإلهيّات.
ج- المعلول الواحد لا يصدر إلا عن علّة واحدة، ويُبحث ذلك في مقالة العلّة والمعلول.
د- واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات، ويُبحث ذلك في أبحاث الإلهيّات.
ملاحظة: يُعرف هذا البرهان أيضاً ببرهان وحدة النظم، إلا أنّه لا يرتبط ببرهان النظم في الطريق العلميّ، فإنّ من الواضح أنّ هذا البرهان يعتمد في مقدّماته على الأصول الفلسفيّة، وليس على نتائج العلوم التجريبيّة.
 
 
115
 

100

توحيد الذات

 ب- التعدّد والتكثّر لا يتصوّران في الوجود المطلق وغير المتناهي:


إنّ الكثرة فرع المحدوديّة. فلو أخذنا الإنسان مثلاً، فإنّه يقبل التكرار والتعدّد إذا لاحظنا فيه بعض القيود، من قيود المادّة والزمان والمكان. فهناك إنسان في هذا المكان وآخر في مكان آخر، وثمّة إنسان هذه حدوده وآخر يتمتّع بحدودٍ أخرى.هنا وبواسطة هذه القيود يمكن أن يُفرض التعدّد والكثرة. وأمّا ما يكون مطلقاً وغير متناهٍ فيكون خالياً من هذه القيود، وبالتالي لا يمكن أن يتكرّر أو يتعدّد، فلو فرضنا أنّ العالَم الماديَّ غير متناهي الأبعاد، أي ليس له أيّ حدّ، فكيف يمكن أن نفرض عالَماً ماديّاً آخر؟! إنّ أيّ عالمٍ ماديٍّ ثانٍ سنفرضه سوف يكون عين العالَم الأوّل حيث فرضناه غير متناهٍ ولا محدود.

وهكذا الأمر في الوجود المطلق غير المتناهي، حيث لا يمكن أن نفرض وجوداً مطلقاً غيره، وما نفرضه غيره ليس إلا ظهوره وتجلّيه.

هذا ويمكن الإنطلاق في المقدّمة الأولى من هذا البرهان من حقيقة أنّ وجود الله وجودٌ محضٌ وصرفٌ وخالصٌ- بدل الإستفادة من الإطلاق- فهو ذات الوجود دون ضمّ أيّ شيءٍ إليه.

وتكون المقدّمة الثانية أنّه لا يتصوّر التعدّد والتكثّر في الوجود الصرف. فلو أخذنا الإنسان مثلاً ونظرنا إليه كصرف كونه إنساناً، من دون الأخذ بعين الإعتبار أيّ لحاظٍ أو نظرٍ آخر، فلا يمكن أن يكون له ثانٍ يكون أيضاً صرف الإنسان، بل يعود ما فُرض ثانياً عين صرف الإنسان الأوّل.

ومن هنا يمكن تقرير هذا البرهان بنحوين، وهذا في الواقع برهانان لا برهان واحد.
 
 
116
 

101

توحيد الذات

 البرهان الثاني: برهان التمانع:


ومصدر هذا البرهان هو الآية القرآنيّة: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾8.

وقد جرت العادة على بيان هذا البرهان بشكلٍ سطحيٍّ، حيث يقال:

إنّ المبدأ والخالق لو كان متعدّداً- اثنين مثلا- فسوف تتعارض وتتزاحم ميول وإرادات كلّ واحدٍ من الخالقين، فإذا أراد أحدهما شيئاً أراد الآخر شيئاً ثانياً، وحينها: 

إمّا أن تغلب إرادة وقدرة أحدهما، وهذا يعني أن الذي غُلِبت إرادته ليس إلهاً، فإنّ ضعف القدرة يتنافى مع صفات الكمال للإله.

وإمّا أن لا تغلب أيّ إرادة منهما، بناءً على أنّه يستحيل تغلّب قدرة أحدهما على الآخر لما يتمتّعان به من صفات الكمال. ولكن إذا لم تجرِ في الكون قدرة وإرادة أيٍّ منهما، فهذا معناه عدم وقوع أيّ حادثةٍ وعدم وجود أيّ موجود، وهذا هو معنى الفساد: ﴿لَفَسَدَتَا﴾9.

هذا هو التقرير السطحيّ للبرهان، إلا أنّ هذا التقرير ربما تعرّض لبعض الإشكالات من ناحية فرض تعارض وتزاحم الإرادات، ولذا يمكن إحكامه وتقريره عبر مقدّمات وعرضٍ فلسفيٍّ يؤسّس لبرهان تامٍّ حتّى على فرض انسجام إرادة كلٍّ من الإلهين المفترضين.
________________________________________
8- الأنبياء:22.
9- ويُقرّب ذلك بما لو كان مديران يتمتّعان بكامل الإرادة والقدرة في مصنعٍ واحد، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى فساد المصنع أو تحكّم مدير واحد.
 
 
117
 

102

توحيد الذات

 يقوم هذا البرهان على أساس ثلاث مقدّمات:


أـ واجب الوجود بالذات: واجب من جميع الجهات، فواجب الوجود ليس فيه أيّ حيثيّةٍ إمكانيّة، بأن يكون فيه مجرّد قوّةِ واستعداد جهة ما.

فعلمه واجبٌ ليس فيه إمكانٌ ومجرّد استعداد، وقدرته بالوجوب لا بالإمكان، وهكذا فإنّه خالقٌ وفيّاضٌ بالوجوب لا بالإمكان وبمحض استعداد، وبما أنّ فيضه واجبٌ لا إمكان فيه فكلّ ممكنٍ قد وُجِد فهو منه لا محالة، ولو فُرض وجود ممكنٍ لم يكن وجودُه مفاضاً منه، يكون ذلك خلاف فرض أنّه واجبٌ من جميع الجهات. 

فالنتيجة: إنّ كلّ الممكنات مفاضة منه.

ب- إنّ وجود المعلول ووجود العلّة: الموجِدة له- أمرٌ واحدٌ لا أكثر، فوجود المعلول هو عين الربط، أو قُل إنّ الوجود والإيجاد أمرٌ واحدٌ لا أمران (كسرت الإبريق فانكسر).

ج- يستحيل الترجيح بلا مرجّح: فلو كانت نسبة شيئين إلى الفاعل- بالقوّة- متساوية، فلا يمكن أن يفعل أيّاً منهما إلا إذا تدخّل عاملٌ خارجيٌّ ورجّح أحدهما.

كذلك الأمر في مثل الهارب الذي يجد نفسه أمام طريقين متساويين بالنسبة إليه، فإنّه لا يمكن أن يتحرّك إلى أحدهما إلا بتأثير عاملٍ خارجيّ، نعم قد يكون هذا العامل خفيّاً لا شعوريّاً وغير عقلائيّ.

إذا إتّضحت هذه المقدّمات نقول:

إذا عينّا أحد الوجودات الممكنة (صفته أنّه ممكن الوجود وقد أُفيض عليه الوجود لاحقاً)، فلا بدّ أن يكون قد أُفيض عليه الوجود من كلا الواجبين، وفق
 
 
118
 

103

توحيد الذات

 المقدّمة الأولى. ولكن، بحكم المقدّمة الثانية، فإنّ إيجاد كلّ واحدٍ من الواجبين يستلزم حصول وجودين، فيما الذي عيّناه هو وجودٌ واحدٌ، وبعبارةٍ أخرى إنّ انتساب هذا المعلول الواحد إلى كلا الواجبين يعني تعدّد وجوده. وأمّا أن ينتسب إلى أحد الواجبين بعينه، فهذا يكون ترجيحاً بلا مرجّح، وقد ثبت بطلانه، كما بينّا في المقدّمة الثالثة.


اللّهمّ إلا أن يفرض قائلٌ أنّ هذا الوجود ينتسب إلى كلا الواجبين، وقد تعدّد إمكان الوجود الذي فيه، فهنا نسأل عن كلّ واحدٍ من هذين الإمكانين إلى من ينتسبان، والجواب لا بدّ أن يكون أنّ في كلّ إمكان إمكانين حتى ينتسب كلّ إمكانٍ إلى كلا الواجبين فيتعدّد كلّ إمكانٍ بعدد الواجب، ونعود إلى السؤال عن هذه الإمكانات. وهكذا يلزم من هذا الفرض أن لا نقف على آحادٍ ووجوداتٍ شخصيّةٍ أبداً، وبالتالي لن يتوفّر أيّ ممكنٍ على الوجود، وحينها يصحّ أن يُقال: إذا تعدّد واجب الوجود يجعل العالمَ عدماً لا وجود له، وهو قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا﴾.

البرهان الثالث: برهان الفرجة(التمايز): 

وبيان هذا البرهان: 

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود فلا بدّ من امتياز أحدهما عن الآخر بشيئ غير ذلك الأمر المشترك - وهو مقتضى الاثنية، إذ بدون الامتياز يكون واحداً - وذلك يستلزم تركّب كلاً منهما من شيئين احدهما الأمر المشترك وثانيهما الأمر المتميّز وهذا باطل من جهتين.

ـ الأولى: أنّه يلزم منه التركيب، وهو باطل لاستلزامه الحاجة للاجزاء
 
 
119
 

104

توحيد الذات

 المنافي لوجوب الوجود، فيكون ممكناً وهو خلاف الغرض.


ـ الثانية: لزوم التسلسل لأن ما به الامتياز على فرض وجوب وجوده يحتاج أيضاً إلى جهة امتياز، فيصبح الاثنان خمسة وهكذا.... إلى ما لا نهاية له - وهو باطل.

فالنتيجة: أنّ وجود واجبَيْ وجود يستلزم عدم تناهي واجِبِي الوجود، أي يستلزم أن يتركّب واجبٌ واحدٌ من ما لا نهاية له من واجبي الوجود، وهذا باطل من جهتين:

1ـ التركيب يُعارض الوجوب. 

2ـ إنّ هذا النوع من التركيب، وهو أن يتركّب شيء من أجزاء تكون بحيث يستلزم كلّ جزء منها جزءاً جديداً بإضافة الأجزاء المفروضة أوّلاً، مستحيلٌ.

البرهان الرابع: النبوّة:

يعتمد هذا البرهان على تعريف الله بنفسه أنّه واحدٌ، وأساس هذا البرهان هو النبوّة.

وقبل بيان هذا البرهان، قد يخطر في الأذهان إشكال وهو: أنّ النبوّة لاحقةٌ للتوحيد، فكيف نتّخذها دليلاً عليه؟!

والجواب: إنّه إنّما لا يصحّ أن تكون النبوّة منطلقاً لإثبات أصل وجود الله، حيث يلزم الدور10، وأمّا إثبات وحدانيّة الله عن طريق النبوّة بعد إثبات وجوده عن طريقٍ آخر فليس في ذلك أيّ إشكال. 

ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى أنّه ليس المقصود بالبرهان هنا هو الاستناد إلى
________________________________________
10- بيان الدور: نريد أن نُثبت وجود الله عن طريق النبوّة، والحال أنّ النبوّة لا تثبت إلا إذا كانت من قِبل الله، فلا بدّ أن نكون مذعنين بوجود الله قبل ذلك، فتكون متقدّمة ومتأخّرة في آن واحد. 
 
 
120
 

105

توحيد الذات

 نصّ النبيّ لإثبات وحدانيّة الله، وإنّما أساس هذا البرهان يعتمد على النبوّة بوصفها ظاهرةً من ظواهر العالم، حيث تشكّل بنفسها برهاناً على وحدانيّته تعالى، كما ذكر أميرُ المؤمنين عليه السلام في خطابه لولده الحسن عليه السلام، يقول: (يا بنيّ إنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، (...)، ولكنّه إلهٌ واحدٌ كما وصف نفسه لا يضادّه في ملكه أحد). وخلاصة الاستدلال: أنّ الوحي وإرسال الأنبياء لهداية البشر لازم لوجود الله، فلو كان هناك إلهٌ آخر لكانت له رسل.


بيان هذا البرهان:

أـ إنّ واجب الوجود واجبٌ من جميع الجهات، ومنها الفيض.

ب- الوحي- إلى من هو مؤهّل لتلقّيه(النبيّ)- من أنواع الفيض الواجب.

النتيجة: لا يمكن أن يوجد مؤهّلٌ لتلقّي الوحي ولا يوحى إليه من قِبل الواجب.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر ليس من قبيل الواجب الكفائيّ، لأنّنا بيّنا أنّ الفيض على واجب الوجود واجبٌ، ولذلك لو كان هناك (واجبا وجود) للزم أن يوحي كلّ واحدٍ منهما إلى النبيّ، فيما لم يوحَ إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من قبل إلهٍ واحدٍ، فلا إله غيره.
 
 
121
 

106

توحيد الذات

 خلاصة الدرس 


ـ يتميّز البحث الفلسفيّ بأنّه بعد أن يثبت وجود الله، يتقدّم في البحث ليُقدّم معارف إلهيّة سامية من قبيل إثبات وحدانيّة الله وصفاته، وهذا بخلاف طريق الفطرة والطريق العلميّ.

ـ هناك عدّة براهين لإثبات وحدانيّة الله:

الأول: إنّ واجب الوجود وجود مطلق وصرف، والمطلق والصرف لا يتثنّى ولا يتكرّر. 

الثاني: برهان التمانع: ويعتمد على ثلاث مقدّمات:

أ- واجب الوجود واجبٌ من جميع الجهات، ففيضه على الممكن واجبٌ.

ب- وجود العلّة عين وجود المعلول، أو الإيجاد عين الوجود.

ج- الترجيح بلا مرجّح مستحيل.

الثالث: برهان الفرجة (التمايز): ويقوم على أساس أنّ لازم تعدّد واجب الوجود هو وجود واجبٍ ثالثٍ يميّز بينهما، ووجود الثلاثة يستلزم الخمسة، وهكذا.... وهذا التركيب محالٌ، ويتناقض مع الواجب.

الرابع: برهان النبوّة: فإنّ ظاهرة النبوّة والوحي من فيضه الواجب، فلا يمكن أن يكون هناك مؤهّلٌ لتلقّي الوحي ولا يوحي إليه الواجب، وحيث لم يوحَ من غيره جلّ وعلا فهو واحد.
 
 
122
 

107

توحيد الذات

 أسئلة الدرس 


1ـ ما هي البراهين التي تثبت وحدانيته تعالى؟
2ـ ما هو البرهان الذي أقامه صدر المتألّهين على التوحيد؟
3- كيف يصاغ برهان التمانع؟
4- كيف يثبت برهان الفرجة التوحيد؟
5- هل يمكن الاستدلال ببرهان النبوّة على التوحيد؟ 
 
 
123
 

108

الصفات

 أهداف الدرس


1- التفرقة بين الصفات الثبوتية والصفات السلبية وإعطاء مصاديق لكل منها.
2- القدرة على شرح الآراء حول معرفة صفات الله بالعقل.
3- القدرة على عرض الإشكالات الواردة على معرفة الله بالعقل والرد عليها.
4- فهم آراء المناهج المختلفة في التعرف إلى صفات الله.
5- إثبات أن صفات الله مطلقة.
 
 
125
 

109

الصفات

 تمهيد:


قد ذكروا لله عزّ وجلّ صفات، بعضها يُثبت جمالاً له جلّ وعلا، ولذا سمّيت صفاتٍ ثبوتيّةً، كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق، وبعضها يهدف إلى نفي النقص والحاجة عن ساحته، كنفي الجسميّة والتحيّز والحركة والتغيّر ونفي الولد والشريك له تعالى، ولذا سمّيت صفاتٍ سلبية1.

1ـ قدرة العقل البشريّ على معرفة صفات الله:

جرى البحث بين مختلف أطياف علماء الكلام (والفلسفة)حول مسألة قدرة العقل على ورود ميدان التعرّف إلى صفات الله، وأنّه هل مُنع شرعاً عن الخوض في مسألة الصفات الإلهيّة أو لا؟

وتمخّض البحث عن عدّة أقوال:

1ـ عجز الفكر البشريّ عن إدراك صفات الله عزّ وجلّ، لأنّ الله: ﴿لَيْسَ
________________________________________
1- للاطلاع على تفصيل تقسيمات صفات الله يمكن مراجعة كتاب الإلهيّات للشيخ جعفر السبحاني.
 
 
127
 

110

الصفات

 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾2، بينما الصفات التي يُدركها العقل البشريّ صفاتٌ سلكت طريقها إليه بواسطة مشاهدتها في المخلوقات. وإذا نسبنا هكذا صفاتٍ إلى الله عزّ وجلّ نكون قد أثبتنا صفةً مشتركةً بينه وبين خلقه، لذا لا بدّ أن نقتفي سبيل (التنزيه) حتّى لا نقع في (التشبيه).


وأمّا الصفات التي وردت في القرآن الكريم، كالعلم والقدرة، فهي صفاتٌ مغايرةٌ تماماً للصفات التي نعرفها، ولا نعلم معانيها الواقعيّة، فيجب أن نجرّد ذهننا من معانيها عندما نطلقها، وتكون ذات الله تعالى مجهولةَ الصفات بالنسبة للبشر. 

وقد ورد في الحديث: (كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم، مردودٌ إليكم، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله زبانتين!)3.

2ـ الاعتقاد بإمكانيّة معرفة صفات الله السلبيّة، دون الإيجابيّة. وهذا إتّجاهٌ أكثر إعتدالاً في مجال معرفة صفات الله.

فالتشبيه بحسب هذا الإتجاه يقع حينما نُثبت للخالق صفة، لأنّها ستكون مشتركة بينه وبين خلقه، أمّا نفي الصفة فلا يستلزم ذلك4.

من هنا يمكن أن نطلق على الله تعالى صفاته الإيجابيّة، كالعلم والقدرة، ونعني بها معانيها السلبيّة لا الإيجابيّة، فالعليم يعني غير الجاهل، والقدير غير العاجز، وهكذا...

3ـ ثمّة فريق ثالث لم يمانع معرفةَ صفات الله من جهة التنزيه والتشبيه،
________________________________________
2- الشورى: 11.
3- البهائي العاملي، مشرق الشمسين، ص398، منشورات مكتبة بصيرتي- قم.
4- لا سيّما بعد الالتفات إلى أنّ هذا النفي نفيٌ مطلقٌ، فلا يوجد من يصدق عليه هكذا نفي سوى الله عزّ وجلّ.
 
 
128
 

111

الصفات

 للفرق بين صفات الله وصفات المخلوق، فعلم زيد حادث وعلم الله قديم، وعلم زيد مقيّد فيما علم الله مطلق...


إلا أنّ أصحاب هذا الرأي يقفون عند مسألةٍ أخرى، وهي أنّنا لا نستطيع أن نحدّد بعقولنا صفة الكمال التي تتّصف الذات الإلهيّة بها، ولا نستطيع أن نحدّد صفة النقص التي تتنزّه الذات عن الإتّصاف بها، وغاية ما نفهمه أنّه جامعٌ للصفات الكماليّة، ومنزّه عن كلّ نقص.

فالمسألة توقيفيّة، فما ثبت في الكتاب أو السنّة نثبته، وما لم يُشر إليه نسكت عنه.

ويؤيّد هؤلاء ما ذهبوا إليه بالنصوص التي تُنزّه الله تعالى عمّا وصفه به البشر:

فقد ورد في القرآن الكريم: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾5، وفي آيةٍ أخرى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً﴾6...

كما ورد في الأخبار والأحاديث النهي عن توصيف الله تعالى بصفةٍ ما لم يكن الله تعالى وصف نفسه بها7.

هذه بعض الأقوال في مسألة معرفة صفات الله، ولكنّ الصحيحَ إمكانيّةُ معرفة صفات الله عزّ وجلّ، وما أثاروه من إشكالات مردود:

الإشكال الأول: إنّ كلّ صفةٍ نطلقها على الله تعالى هي صفة مشتركة بين الله ومخلوقاته، ويلزم من هذا التشبيه.
________________________________________
5- الصافات:180.
6- الاسراء:43.
7- يمكن مراجعة كتاب الكافي: كتاب التوحيد/ باب النهي عن الصفة بغير ما وصف الله به نفسه جلّ وعلا، وباب النسبة، وباب النهي عن الكيفيّة، وباب إبطال الرؤية.
 
 
129
 

112

الصفات

 والجواب: 


أولاً: لا شكّ- شرعاً وعقلاً- أنّ الله تعالى ليس كمثله شيءٌ، ولكن هذا لا يعني أنّ كلّ صفةٍ تصدق بشأن المخلوق لا تصدق بشأن الخالق، بل يمكن أن يتّصف الخالق بهذه الصفة مع التمايز بأنّه يتّصف بها على نحو الوجوب، والقدم، والإطلاق، وفي كونها بالذات، وذلك تماماً بخلاف المخلوق.

فالله عالمٌ والإنسان عالم، والعلم ليس سوى الكشف والإحاطة، لكنّ علمَ الله ذاتيّ، واجبٌ، قديمٌ، مطلقٌ لا متناهٍ8، فيما علم الإنسان بالغير، ممكنٌ، حادثٌ، محدودٌ.

إذاً عندما ننفي التشبيه، ونقول إنّ المخلوق لا يشبه الخالق، فالمقصود أنّ مصداق المخلوق لا يشبه الخالق، لا أنّ كلّ مفهوم يصدق على المخلوق ينبغي أن لا يصدق على الخالق، والإشتباه بهما يُسمّى بإختلاط المفهوم والمصداق.

ثانياً: كما أنّ القول بأنّ كلّ ما في المخلوق مباين مع ما في الخالق يثبتُ لوناً من الضدّيّة بين الخالق والمخلوق، والصحيح أنّه ليس لله ضدٌّ كما ليس له ندٌّ.

ثالثاً: ثمّ إنّ هناك إشكالاً نقضيّاً يرد على هذا القول، فإنّه إذا قيل إنّ مقتضى التشبيه أن لا يصدق على الخالق أيّ معنىً يصدق على المخلوق، فهذا يسري أيضاً إلى وجوده ووحدانيّته تعالى، وهذا يؤدّي إلى نوعٍ من إنكار وجود الله تعالى ووحدانيّته، وهذا ما لا يلتزم به أحد.

الإشكال الثاني: يرتبط هذا الإشكال بحدود قدرة العقل، ويُبتنى على
________________________________________
8- فيعلم الكليّات والجزئيّات، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾(سـبأ: 3).
 
 
130

113

الصفات

 أساس أنّ العقل غيرُ قادرٍ على اكتشاف صفات الحقّ تعالى، ولذا فليس لنا سوى إتّباع الشريعة في ذلك، فنصفه تعالى بما وصفته به الشريعة دون ما سوى ذلك.


الجواب:

قد تقدّم في بحث المقدّمات أنّ قدرة العقل لا تنحصر في تعميم وتجريد وتركيب ما تدركه حواسّه، بل العقل يدرك المعاني العامّة، ويستطيع أن يحكم بشأنها، ممّا يؤسّس لعلمٍ برهانيّ.

وبناءً عليه فإنّ العقل الفلسفيّ المتدرّب قادرٌ على درس الصفات اللائقة بذات الله تعالى، والصفات التي تتنزّه ذاته عنها، دون أن يعني ذلك أنّه يستوعب كنه ذات الله أو كنه صفاته جلّ وعلا.

الإشكال الثالث: النصوص الواردة بشأن النهي عن الخوض في هذه المسائل.

الجواب:

لا شكّ أنّ التعليمات والإيضاحات التي قدّمها القرآن ومن بعده أئمّة الدين هي أرقى وأكمل المعارف الإلهيّة التي يمكن أن ينالها بشر، ولا بدّ عند الخوض في هكذا مباحث من اتّباع هذه التعاليم لأنّها أعظم ملهمٍ لهذه الحقائق، فليس كلامنا في هذا المجال، وإنّما ينصبّ حديثنا في مفاد هذه الروايات. 

حتّى نتحقّق من مفاد الروايات الناهية عن الخوض في الصفات، لا بدّ أن نطّلع على ظروفها الموضوعيّة حين صدرت:

فقد ظهر في المجتمع الإسلاميّ عصرَ النصّ أفرادٌ طرحوا بشأن الألوهيّة أفكاراً دون أن يتوفّروا على الصلاحيّة العلميّة، ودون أن يأخذوا تعاليم القرآن
 
 
131
 

114

الصفات

 بعين الإعتبار، فجاءت أفكارهم مخالفةً للمقاييس العقليّة والعلميّة، ومخالفةً للقرآن أيضاً.


ولذا لا يكون مفاد هذه الروايات لزوم التقليد والتعبّد في هذا المجال، وإنّما مفادها: 

ـ منع الأفراد غير المؤهّلين من ورود هذا الميدان، فقبل الخوض في مباحث الحكمة المتعالية لا بدّ من طيّ المقدّمات الضروريّة، فضلاً عن توفّر الإستعداد الملائم والذوق السليم لإدراك هذه المفاهيم الرفيعة9، لتُبحَث هذه القضايا وفق الأصول والموازين العلميّة والعمليّة.

ـ متابعة القرآن عند الخوض في هذه الأبحاث، بحيث يكون الإستلهام والإستنباط من خلاله10

ـ على أن تكون الروايات هي الموجّه والمحرّك للعقول بغية إدراك الأمور ومعرفتها بشكل حقيقيّ. 

ولذلك فنحن نجد في كثيرٍ من النصوص نوعاً من الاستدلالات العقليّة والتحليل الفكريّ، ولم يكن لها معنى لو كنّا ملزمين بالتعبّد والتقليد!

2ـ كيفيّة التعرّف إلى صفات الله:

هناك عدّة طرقٍ لمعرفة صفات الله:

الطريق الأول: إتّخاذ الذات برهاناً على الصفات:

بما أنّ الذات الإلهيّة وجودٌ محضٌ ومطلقٌ، من دون أن يكون فيها أيّ حدّ- 
________________________________________
9- وقليلٌ ما هم، وكما قال ابن سينا: (جلّ جناب الحقّ عن أن يكون شريعةً لكلّ وارد، أو يطّلع عليه إلا واحد بعد واحد، ولذلك فإنّ ما يشتمل عليه هذا الفنّ ضحكةٌ للمغفّل وعبرةٌ للمحصّل)(الإشارات/ النمط التاسع).
10- وليست المتابعة بمعنى التقليد.
 
 
132
 

115

الصفات

 كما ثبت وفق البرهان الوجوديّ- فلا بدّ أن تصدق على ذاته تعالى جميع شؤون الوجود وكمالاته بحدّها المطلق واللامتناهي.


الطريق الثاني: إتّخاذ المخلوقات مرآة للصفات:

ويمكن طرح هذا الطريق من خلال منهجين:

1ـ المنهج الفلسفيّ: ويقوم على أساس ما ثبت لديه من قاعدة: (فاقد الشيء لا يعطيه). وحيث إنّ هناك مجموعة من الكمالات المشهودة في المخلوقات نظير العلم والحياة والقدرة والإرادة، فهذا يدلّ على أنّ مبدأ ومنشأ الموجودات واجدٌ لتلك الكمالات.

2ـ المنهج الكلاميّ: ينطلق المنهج الكلاميّ من خلال التأمّل في النظم الدقيق لعالم المخلوقات، ممّا يدلّ على عدم حصول ذلك صدفةً، بل صدرت عن قوّةٍ ذات علمٍ وقدرةٍ وإرادةٍ، فيُثبت مثل هذه الصفات إلى هذه القوّة11.

ملاحظة: يتميّز الطريق الأوّل عن الطريق الثاني، بمنهجيه الفلسفيّ والكلاميّ، بأنّه يعرّفنا إلى الله بأنّه كمالٌ مطلقٌ ليس للنقص إليه طريق، بخلاف الطريق الثاني الذي يكتفي بإثبات توفّر الذات الإلهيّة على كمالات المخلوقات بحدّها الأعلى.

3ـ الإطلاق في صفات الله:

تبيّن أنّه وفق الطريق الأوّل- وهو الطريق الأسلم- في التعرّف إلى الصفات، أنّ صفات الباري مطلقةٌ غير مقيّدةٍ، فعلمه وقدرته وحكمته وكلّ صفاته مطلقةٌ، فهل الذهن قادرٌ على تصوّر هذه الصفات المطلقة أو لمحدوديّته لا يتصوّر إلا
________________________________________
11- قد أشرنا إلى هذا المعنى عندما تحدّثنا عن برهان النظم. 
 
 
133
 

116

الصفات

 الصفات المقيّدة المحدودة؟


في الواقع إنّ الذهن عندما يتصوّر المقيّد إنّما يتصوّر بضمّ مجموعة من المفاهيم المطلقة (الإنسان العالم المؤمن)، فما لم يتصوّر المطلق لا يمكن أن يتصوّر المقيّد.

ونحن عندما نريد أن نتصوّر الباري وصفاته في ذهننا فليس المطلوب أن يتّحد ذهنُنا مع ما هو موجود في الخارج، وإنّما نكتفي بأن نتصوّر الصفة المشتركة بينه وبين مخلوقاته، ثم نستعين بالنفي لننفي عنها أيّ شكل من أشكال المحدوديّة والقيديّة والنقص، كما نفعل عندما نتصوّر الفضاء اللامتناهي.

ولكن ما لا بدّ من الإشارة إليه هو أنّ الإطلاق في الباري هو إطلاق من جميع الجهات لا يعتوِره أيّ قيد، وليس كالإطلاقات التي نطرحها عادةً والتي يكون الإطلاق فيها نسبيّاً!

كما أنّنا عندما نقول إنّ ذات الباري مطلقة، فالمقصود أنّ له تحقّقاً ووجوداً خارجيّاً مطلقاً، لا أنّ مفهومَه أعمّ المفاهيم. فالإطلاق في ذات الباري وجوديٌّ وليس كبقية الإطلاقات التي يكون الإطلاق فيها مفهوميّاً (الإنسان، الأبيض)!

خلاصة الدرس 

 ذهب فريقٌ إلى عجز العقل البشريّ عن إدراك صفات الله، ولذا قالوا بالتنزيه خوفاً من التشبيه، وقال آخرون بإمكانيّة معرفة الصفات السلبيّة دون الإيجابيّة، وقال فريقٌ ثالثٌ بأنّنا قادرون على معرفة الصفات، لكنّنا عاجزون عن معرفة أيّ الصفات يتّصف بها، فنكتفي بما ورد في النصوص الشرعيّة.

والصحيح تمكّن العقل، عبر إدراكه المفاهيم والمعاني الكليّة، من معرفة
 
 
134

117

الصفات

  الصفات، وذلك لتمايز الصفات التي ننسبها للذات الإلهيّة عن الصفات التي نعرفها في المخلوق، وإلا لزم إنكار نفس وجوده ووحدانيّته. وأمّا الروايات الواردة في النهي عن وصفه تعالى، فقد وردت في جماعةٍ خاضت في المسألة دون أن يكون لديها الكفاءة العلميّة، ولم تعتمد على توجيه القرآن وأئمّة الدين في إستنباط الصفات.


ـ يمكن التعرّف إلى صفات الباري عبر أحد طريقين: إمّا بإتّخاذ الذات برهاناً على الصفات، وإمّا بإتّخاذ المخلوقات مرآةً للصفات.

ـ إنّ ذات الباري وصفاته مطلقة، وإطلاقها وجوديٌّ من جميع الجهات، ويمكن للذهن أن يتصوّرها بمعونة النفي لأي شكل من أشكال المحدودية والنقص.
 
أسئلة الدرس 

1ـ هل يتاح للعقل البشري معرفة الصفات الإلهية ؟
2ـ ما المقصود من الروايات الواردة في النهي عن وصفه تعالى؟
3- ما هي طرق التعرف على صفات الله تعالى؟
4- هل يمكن للذهن معرفة الصفات المطلقة؟
5- ما المقصود من الإطلاق في الصفات الإلهية؟ 
 
 
135
 

118

العدل، اتجاهاته وآثاره

 اتجاهاته وآثاره

شبهة الاختلاف والترجيح
شبهة الشرور
شبهة الموت والفناء
الشفاعة
 
 
137
 

119

العدل، اتجاهاته وآثاره

 أهداف الدرس


1 ـ القدرة على تعريف العدل الإلهي.
2 ـ حفظ بعض الآيات الدالة على العدل.
3 ـ القدرة على عرض الآراء المختلفة حول العدل.
4 ـ تقسيم معاني كلمة العدل وإستعمالاتها.
5 ـ القدرة على التفريق بين العدل والحكمة.
 
 
139
 

120

العدل، اتجاهاته وآثاره

 تمهيد: 


العادل كما يراه معظم الناس، هو من لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز حقوقهم، وهو الذي يتساوى عنده الناس، فإذا كان في موقع المسؤولية، قام بنصرة المظلوم على الظالم. والظالم هو الذي يتجاوز حقوق الناس ويرجح بعضهم على بعض....

العدل الإلهيّ:

إنّ البحث حول العدل الإلهي تارةً يكون من جهة أنّ العدالة هي صفة كمال في الخالق، حيث إنّ الله عزّ وجل هو الجامع لجميع الصفات الكمالية والجمالية.

وأخرى من جهة أنّ العدل عبارة عن رعاية حقّ الغير. وهذا المعنى يمكن أن يتحقّق في العلاقة بين المخلوقات في ما بينها، ولا يتحقق في العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنّ كلّ ما لدى المخلوق فمن الخالق، وملكية المخلوق في طول ملكية الخالق، فإنّ ملكيّة الإنسان هي كملكيّة الطفل بالنسبة لملكيّة أبيه، حيث يعتبر نفسه مالكاً لألعابه، ولا ينافي ذلك ملكيّة الأب لها.
 
 
141
 

121

العدل، اتجاهاته وآثاره

  إذاً فالله عزّ وجل مالك الملك على الإطلاق، وأيّ تصرّف منه في الكون إنّما هو تصرّف في ملكه، ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾1 ﴿وإليهِ يرجِعُ الأمرُ كلُّهُ﴾2، لذا لا يمكن أن نعثرَ على مصداقٍ للظلم في حقّه تعالى، ومن هنا يقال إنّ الله ليس بعادلٍ ولا ظالمٍ، لأنّه لا يمكن إفتراض غيره مالكاً لحقٍّ ما، حتى تكون رعايته عدلاً وعدمها ظلماً.


العدل في القرآن: 

إنّ العدل بمفهومه الإجتماعي هدفٌ للنبوّة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط...﴾3.

والعدل بمفهومه الفلسفي أساسٌ للمعاد: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾4

كما أن القرآن الكريم أثبَتَ لله صفة العدالة فقال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾5، ونزّهه عن الظلم: ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾6.

العدل واتجاهاته المتعدّدة:

توجد عدة إتجاهات بين المسلمين في مسألة العدل: 

1ـ إتجاه أهل الحديث: يؤمن أصحابه بإتصاف الله عزّ وجل بصفة العدل،

________________________________________
1- التغابن: 1.
2- هود:123.
3- الحديد:25.
4- الأنبياء:47.
5- آل عمران:18.
6- التوبة: 70.
 
 
142
 

122

العدل، اتجاهاته وآثاره

 لورود ذلك في الكتاب والسنّة، ولا يرون حاجةً للبحث في معنى العدل والدليل عليه، ولا يعتبرون أنفسهم ملزمين بالإجابة7 عن الشبهات الواردة على العدل الإلهي. 


2 ـ إتجاه المتكلّمين من الأشاعرة: يقول أتباع هذا الاتجاه إنّ العدل منتزعٌ من فعل الله سبحانه، وكلّ فعلٍ لله فهو عدلٌ، فقد يعاقب الله فاعلَ الخير ويثيبُ فاعلَ الشرّ، ويكون ذلك عدلاً منه تعالى.

وهذه الفئة وإن لم تنكر صفةَ العدل، لكنّهم بالتفسير الذي تبنَّوه أنكروا العدل عمليّاً. ولا يضطرّ هؤلاء أيضاً إلى تقديم إجاباتٍ على الأسئلة المثارة حول العدل الإلهي.

وقد قام حُكّام الجور كالمتوكّل العبّاسي بالدفاع عن هذا التفسير، لأنه يبرّر ما يقومون به من ظلم، فإنّ كلّ الأفعال التي تحدث في هذا الكون هي من الله، وكلّ فعل يصدر منه تعالى فهو عدلٌ، إذاً لا وجود للظلم في قاموس الوجود.

3ـ إتجاه المتكلّمين من المعتزلة والشيعة: وقد ذهبوا إلى أنّ العدل حقيقةٌ واقعيّةٌ في العالم8، وإلى أنّ الحسن والقبح ذاتيّان في بعض الأفعال، وأنّهما معيارُ الفعل الإنساني والفعل الإلهي، فالعدل بذاته حسنٌ والظلم بذاته قبيحٌ، والله لا يترك الحسنَ ولا يفعل القبيحَ.

4ـ إتجاه الحكماء الإلهيين: فقد أثبت الحكماء صفةَ العدل لله عزّ وجل لا من جهة أنّ العدالةَ حسنةٌ وأنّ الله لا يترك فعلَ الحسن، لأنه لا معنى

________________________________________
7- وهم بشكل عام يؤمنون بالتعبّد والتسليم في أصول الدين وفروعه، ويخالفون أيّ نوع من أنواع التفكير والمنطق والاستدلال في هذه الأمور. 
8- ولذلك عرفوا بالعدليّة.
 
 
143
 

123

العدل، اتجاهاته وآثاره

  للحسن والقبح وغيرهما من المفاهيم في ساحة القدس الإلهية، حيث إنّ هذه المعايير كلّها معاييرٌ إنسانيةٌ، وتبنّي ذلك بحقّ الله تعالى يعتبر نوعاً من تعيين الوظيفة له عزّ وجل، بل يثبت الحكماء له سبحانه صفةَ العدل من جهةٍ أعمق يأتي الحديث عنها في المعنى الرابع من معاني العدل. 


ويتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإشكالات المطروحة9 حول مسألة العدل الإلهي إنّما تطرح لدى الإتجاهين الأخيرين، أي العدلية والحكماء.

معاني العدل:

تستعمل كلمة العدل في أربعة موارد:

1ـ العدل بمعنى التناسب ويقابله عدم التناسب لا الظلم، كما يوصف المجتمع بأنه مجتمعٌ عادل،ً فيكون المراد أنّ كلّ شيءٍ موجودٌ فيه بالقدر اللازم والمناسب، وما ورد في الحديث النبوي: (بالعدل قامتِ السماواتُ والأرضُ)10، والآية الشريفة ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾11، معناهما أنّ العالَم كلّه متعادلٌ ومتوازنٌ، وهذا من لوازم كون الله سبحانه حكيماً وعليماً، إلا أنّ هذا المعنى خارج عن محلّ البحث.

2ـ العدل بمعنى التساوي وترك الترجيح، وهذا المعنى إن كان المراد منه عدم مراعاة الأنواع المختلفة للإستحقاق، فهذا هو عين الظلم، لأنّه لا يمكن إعتبار من يستحق ومن لا يستحق على حدّ سواء.

3ـ العدل بمعنى مراعاة الحقوق وهو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، ويقابله الظلم وهو التجاوز عن حقوق الآخرين، ويعتمد العدل بهذا المعنى على أساسين:
________________________________________
9- والتي سيأتي الإشارة إليها في هذا البحث، والإجابة عليها بشكل مفصل في أبحاث لاحقة.
10- تفسير الصافي ج2 ص 638 في ذيل الآية المذكورة.
11- الرحمن: 7.
 
 
144

124

العدل، اتجاهاته وآثاره

 أ ـ ثبوت الحقوق والأولويات: فمن يقوم بعملٍ أو إختراعٍ ما فهو أولى به من غيره.


ب ـ خصوصية الإنسان الذاتية: فإنه مخلوق على نحو إذا أراد الوصول إلى أهدافه فعليه مراعاة مجموعةٍ من الأفكار الإعتبارية كالحقوق والأولويّات، والتي يحكيها الإنسان بعباراتٍ إنشائيّةٍ من قبيل (ينبغي ويجب ولا بدّ). والعدل بهذا المعنى لا يمكن تصوّره في حقّ الله عزّ وجل، لأنّ الله هو المالك على الإطلاق ولا يوجد مستحقٌّ في قباله تعالى أو من له أولوية عليه، وكذلك الظلم المقابل حيث لا يمكن تصوّر تجاوزه سبحانه عن حقوق الآخرين على فرض ثبوتها أو إعطائها لهم.

4- العدل بمعنى رعاية الإستحقاق في إفاضة الوجود والكمال، فإنّ كلّ موجود يملك إستحقاقاً خاصاً من جهة قابليته لإكتساب الفيض الإلهي، فالعدل هو أن يأخذ كلّ موجود ما هو ممكنٌ له من وجودٍ وكمالٍ، والظلم هو منعُ وإمساكُ هذا الفيض. وهذا المعنى هو الذي يتبنّاه الحكماء الإلهيون. ولا يراد بالإستحقاق للفيض أنّ هذا الموجود يملك حقّاً على الله، بل بمعنى أنّ عدلَ الله هو عين الفضل والجود، وهذا ما حكاه أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: (فالحقّ أوسعُ الأشياءِ في التواصفِ، وأضيقها في التناصفِ، لا يجري لأحدٍ إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحدٍ أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله)12.
________________________________________
12- نهج البلاغة، الخطبة، 214.
 
 
145
 

125

العدل، اتجاهاته وآثاره

 والدليل على ثبوت صفة العدل بهذا المعنى لله عزّ وجل، هو أنّ الذات الإلهية خيرٌ وكمالٌ مطلق تعطي ولا تمسك، لكنّها تعطي كلّ موجودٍ بحسب قابليته.


العدل من أصول الدين: 

يعتبر العدل من أصول الدين عند الشيعة والمعتزلة، دون سائر الصفات الإلهية كالعلم والقدرة والإرادة... لأنّه لا خلاف فيها بين جميع الفرق الإسلامية، وذلك لأنّ مسألة العدل الإلهي قد استولت على إهتمام عامة الناس حتى القروي الأمّي منهم، ولأنّها كانت محلّ نزاعٍ شديدٍ بين الشيعة والمعتزلة من جهة وبين مختلف المذاهب والفرق الإسلاميّة من جهةٍ أخرى، بخلاف سائر الصفات الإلهية التي لم تستولِ على إهتمام عامةِ الناس، ولم يقع فيها ذلك النزاع. 

بين العدل والحكمة:

إن كان المقصود من العدل هو إعطاء كلّ موجودٍ ما يستحقّه، فإنّ الحكمةَ تعني كون النظام الذي خلَقَه الله سبحانه هو أحسن وأفضل نظامٍ ممكنٍ، وهو ما يصطلح عليه بالنظام الأصلح13، والدليل على حكمته كونه عادلاً ومريداً.

والفرق بين العدل والحكمة: أنّ الحكمةَ من صفاتِ الذات، فيما العدل يعتبر من صفاتِ الفعل.
________________________________________
13- وهو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأيّ شيء فيه إما أن يكون خيراً بنفسه، وإما أن يكون وسيلة للوصول إلى الخير. 
 
 
146
 

126

العدل، اتجاهاته وآثاره

 خلاصة الدرس

 
1ـ العادل عند معظم الناس هو من لا يضمر السوء للآخرين، ولا يتجاوز حقوقهم.

2ـ لا يمكننا أن نعثر على مصداق للظلم بهذا المعنى بحقّ الله، لأنّ أيّ تصرّفٍ في الكون هو تصرفٌ في ملكه.

3ـ يذكر القرآن العدل بمفهومه الاجتماعي كهدفٍ للنبوة، وبمفهومه الفلسفي كأساسٍ للمعاد، كما يثبت العدل صفة لله تعالى وينزهه عن الظلم.

4ـ هناك إتجاهات متعدّدة في مسألة العدل:

أ- إتجاه أهل الحديث الذين يتعبدون بصفة العدل لورودها في تعاليم الإسلام. 
ب- الأشاعرة الذين يقولون بأنّ العدل منتزعٌ من الفعل الإلهي، ففعل الله هو العدل، لذا لو عاقب المطيعَ وأثاب العاصيَ كان ذلك عدلاً منه. 
ج- العدليّة من المعتزلة والشيعة الذين ذهبوا إلى إتصاف الله بالعدل، لأنّه حسنٌ ذاتاً والظلم قبيحٌ ذاتاً.
د- الحكماء الإلهيون الذين يتبنّون معنى أعمق للعدل، ويعتبرون أنّ الحسن والقبح لا مكان لهما في ساحة القدس الإلهيّة، لأنّ هذه المعايير كلّها معاييرٌ إنسانيّةٌ.

5ـ ليس المراد من العدل الإلهي التناسب ولا المساواة ولا مراعاة الحقوق، بل هو إفاضة الوجود والكمال بقدر القابليّات.
 
 
147
 

127

العدل، اتجاهاته وآثاره

 أسئلة الدرس 


1- ما هي معاني العدل؟
2- ما المقصود من العدل الإلهي؟
3ـ كيف فسّر أمير المؤمنين عليه السلام العدل؟
4ـ ما السرّ في إختلاف الفرق الإسلاميّة فيه؟
5ـ ما الفرق بين العدل والحكمة؟
 
 
148
 

128

الاختلاف والترجيح

أهداف الدرس
 
1- فهم شبهة الإختلاف والترجيح.
2- القدرة على حل الشبهات الواردة حول العدل الإلهي بشكل عام.
3- تمييز الفارق بين الإختلاف والترجيح.
4- القدرة على رد شبهة الإختلاف والترجيح من خلال الآيات القرآنية بأسلوب فلسفي.
5- إثبات أن المعجزة والدعاء ليسا خرقاً لقانون العلية.
 
 
149
 

129

الاختلاف والترجيح

 تمهيد:


بعدما انتهى الكلام عن معنى العدل والحكمة، يجدر التعرّض للشبهات التي أثيرت في هذا المجال، وقد طرحت بصُوَر متعدّدةٍ، وسوف نذكر الشبهة ونلحقها الإجابة عليها تاركين بقية الشبهات إلى الأبحاث الآتية:

شبهة الاختلاف والترجيح:

لماذا هذا الترجيح والإختلاف في العالم؟ لماذا تكون بشرة أحدنا بيضاء والآخر سوداء؟! لماذا أحدنا قبيحٌ والآخر جميلٌ؟! لماذا أحدنا معافى والآخر عليلٌ؟! فلماذا لا يكون الجميع متساوين؟ وإذا كان لا بدّ من الإختلاف، فلماذا لا يحصل العكس بأن يكون الأبيض أسودَ والأسود أبيضَ، والجميل قبيحاً والقبيح جميلاً؟ 

تعتبر الشبهات المطروحة حول مسألة العدل الإلهي من أهمّ وأعقد الإشكالات التي شغلت البشرية بجميع أديانها وفلسفاتها، وتجدر بنا الإشارة إلى بعض المدارس والفلسفات الناجمة عن النظر في هذه الشبهات.
 
 
151
 

130

الاختلاف والترجيح

 لقد قسَّم الإنسانُ منذ القدم الكونَ إلى قطبين أساسيّين، الخير والشر، ثمّ جعل من نفسه المقياس والمحور للتشخيص1، فاعتبر أنّ النور والمطر والشمس والأرض مصاديق للخير، وأنّ القحط والسيول والزلازل والأمراض في قائمة الشر، ثمّ بدأ بالتساؤل عن مبدأ الخير ومبدأ الشر، هل هو واحدٌ؟ أو أنّ لهما مبدأين مختلفين؟ 


ذهبت الثنوية إلى أنّ للكون مبدأين (خالقين)، إله للخير يخلق الخير دون الشر، وإله للشر لا يخلق إلا الشر.

واعتقد الإيرانيون القدامى بذلك، وسموا إله الخير: (يزدان) وإله الشر: (أهريمن)، إلى أن ظهر زرادشت بشريعة المجوسيّة، التي يبدو من خلال اعتقاد بعض علماء المسلمين بأنّ المجوسَ من أهل الكتاب2، أنها عقيدة توحيديّة. إلا أنّ هذه الشريعة لم تستطع أن تقاوم الثنويّة وتقلع الشرك من قلوب الإيرانيين القدامى، فتحوّل الزرادشتيون أنفسُهم إلى الثنوية من جديدٍ، حتى جاء الإسلام العظيم الذي استطاع أن يجعلهم موحّدين، وأن يجتثّ جذور الثنوية والشرك من أفكارهم.

حلّ الشبهات المطروحة حول العدل الإلهيّ: 

سوف ننهج في حلّ الشبهة بذكر جوابٍ عامٍ مشتركٍ عن جميع الشبهات المطروحة3، ثم نتعرّض لحلّ كل شبهة بجواب خاص بها. 
________________________________________
1- بمعنى أنّ كلّ ما يؤذي الإنسان فهو شرّ، وما يفرحه وينفعه يعتبره خيراً.
2- الأوستا كتاب زرادشت المقدس، يحتوي على عدّة أقسام: التكاليف الدينية، الأناشيد، القوانين ضد الأشرار، والأدعية الخاصة.
3- وقد ذكرنا شبهة واحدة وسوف نتعرض في الأبحاث التالية للشبهات الأخرى، ويكون هذا الجواب العام صالحاً للرد عليها جميعاً.
 
 
152
 

131

الاختلاف والترجيح

 الجواب العام على جميع الشبهات:


إنّ الجواب الإجمالي المشترك عن كل الشبهات شائعٌ عند أهل الإيمان، نابعٌ من إيمانهم- من خلال الأدلة القاطعة- بأنّ الخالق سبحانه وتعالى قادرٌ عليمٌ حكيمٌ، وهو إذ يتّصف بهذه الصفات فلا يُعقل ولا يتصوّر في حقّه الظلم والعدوان، لأنّ الذي يبعث على الظلم أحد أمرين مستحيلين في حقّه تعالى وهما:

1- إما عقدة نفسيّة وحبّ الإعتداء، وهذا يرجع إلى الضعف النفسيّ ووجود أعداء. 

2- وإما حاجة معيّنة مهما كان نوعها سواء كان سببها الفقر، أم العجز.

والأمران مستحيلان في حقّ الله عزّ وجل، لأنّه الكمال المطلق فلا يتصف بالضعف، والغنيّ عن العالمين لا يتصوّر في حقّه الحاجة.

والعالم بالنظام الأصلح والأمثل قادر على إيجاد أفضل وأصلح نظام ممكن.وكلّ ما هو شرّ محض وضدّ النظام الأصلح لا يخلقه الله سبحانه. وأمّا ما يحدث في الكون من ظواهر أو في حياة الإنسان، سواء كان بإرادة الإنسان أو دون إرادته، ممّا لا يمكن إيجاد تفسير له وتوجيهه، فذلك لا يوجب نسبة الظلم إلى الله، بل نقول إنّ لتلك الأشياء لوناً من المصلحة المجهولة بالنسبة للإنسان، ولذا يطلق الناس عليها اسم (سرّ القدر)، فهم يُرجعون ما لا يجدون تفسيراً له إلى قصور فهم الإنسان عن الوصول إلى أسرار الكون.

وعلى سبيل المثال لو كنّا نثق بشخص وبخبرته في إدارة الأمور، وقد اتخذ هذا الشخص قراراً أو قام بعمل لا نفهمه أو لا نعرف مغزاه، فإنّنا لا نعتبر ذلك
 
 
153
 

132

الاختلاف والترجيح

 دليلاً على عدم أهليّته وموجباً لفقدان الثقة به، لما لدينا من صورةٍ مسبقةٍ عنه، بل نقول إنّ هناك سرّاً ومصلحةً ما في عمله نحن لا ندركها.


ولعلّ أهل الحديث نحَوا هذا المنحى في الإجابة على مسألة الشرور، لأنهم كما ذكرنا يتعبّدون بما ورد في الأخبار ولا يبدون آراءهم.

تحليل البرهان: 

وقد أضفى الفلاسفة على هذا الاستدلال التعبدي صبغةً برهانية، وقالوا إنّه كلامٌ يعتمد على التمسك بالعلّة وكمالها ليثبت كمال المعلول، حيث نستدل بصفات الخالق وكماله على كمال ما خلق. وهذا الاستدلال ينطلق من العلّة إلى المعلول ومن السبب إلى المسبب، وهو المعبّر عنه في الفلسفة بـ (البرهان اللميّ)، وبهذا الاستدلال من الأعلى إلى الأسفل تنحلّ المشكلة وتنمحي كلّ الأخطاء المتوهمة والشبهات المطروحة. 

وأمّا مَن يسير إلى الله عبرَ النظام الكوني، ومن المعلول إلى العلّة (البرهان الإنّي)، ويرى الله عبرَ الكون، وكذلك أتباع الأسلوب الحسيّ في الإلهيات، فسوف توجِب هذه الإشكالات المطروحة والأمور غير المفهومة في الكون تشويشاً في الرؤية لديهم.

الجواب على شبهة الترجيحات:

أمّا الإشكال القائل: لماذا هذا الترجيح والإختلاف في العالم؟ لماذا تكون بشرة أحدنا بيضاء والآخر سوداء؟ لماذا لا يكون الجميع متساوين؟ وإذا كان لا بدّ من الإختلاف، فلماذا لا يحصل العكس؟ فالجواب عليه يتمّ من خلال التعرّف إلى الفرق بين كلمتي الإختلاف والترجيح: 
 
 
154
 

133

الاختلاف والترجيح

 بين الاختلاف والترجيح:


فالإختلاف: هو التفرقة بين الأشياء غير المتساوية في الإستحقاق.

والترجيح: هو التفرقة بين الأشياء المتساوية في الإستحقاق.

والمثال الذي يوضح الفرق بين الأمرين هو أننا لو أخذنا إناءين يسع كلّ واحدٍ منهما عشرة ليترات، وملأنا أحدهما عشرة ليترات ماءً والآخر خمسة فهذا هو الترجيح، لأنّ سعة كلّ واحد منهما واحدةٌ، لأنّنا متى وضعنا في الأول ماءً أزيد فقد رجحناه على الثاني. وكذلك الحال في معلّم المدرسة إذا كان لديه تلميذان متفوقان فأعطى أحدهما مكافأةً دون الآخر فإنه قد رجّحه عليه. وأما لو كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة ليترات والآخر خمسة، وملأنا العشرة عشرة والخمسة خمسة فهذا هو الإختلاف، ولا يوجد أي ترجيح فيه، لأنّ قابلية وإستعداد أحدهما غير قابلية وإستعداد الآخر، وكذلك لو كافأ معلم المدرسة المتفوّقَ دون الضعيف فهو لم يرجح بينهما.

والله عزّ وجل تصرّف مع الخلق على أساس إختلافهم فأعطى كلّ واحد ما يستحقه، ولم يرجّح أحداً على أحدٍ. فالله عزّ وجل لم يحرم أحداً من خلقه أمراًَ كان يستحقّه وأعطاه للآخرين، وإذا منع إنساناً ما من بعض الفيوضات الإلهية فإنّما هو نتيجة عدم إستحقاقه وعدم قابليّته وإستعداده لهذه الرحمة.

تحليل النظام الكونيّ:

إن الباحث في مجال الرد على هذا الإعتراض في مسألة العدل الإلهي يجد نفسه لا محالة واقعاً في أحضان بحث فلسفي عميق مهما حاول الإبتعاد عنه، ويرى عبارة عميقة للفلاسفة (إنّ إختلاف الموجودات ذاتيٌّ من ذاتياتها ولازمٌ لنظام العلّة والمعلول). وهذه العبارة تصلح جواباً لكنها معقدة بحاجة إلى شرح 
 
 
155
 

134

الاختلاف والترجيح

 وتوضيح ضمن مقدمات ترتبط بتحليل النظام الكوني، والإرادة الإلهية في بداية خلقة الكون، وبالنظام الذي اقتضته هذه الإرادة، وهل تعرّض القرآن الكريم لهذا النظام أم لا. 


1- الإرادة الإلهية واحدة: 

إن الإرادة الإلهية لم تتعلّق بكلّ موجود على حدة، فلم تتعدّد إرادته بتعدّد الموجودات، فهو سبحانه لم يخلق الموجود الأول، ثم تعلّقت إرادته بالموجود الثاني فخلقه، ثم بالثالث وهكذا، وإنما الكون بأسره من بدايته إلى نهايته تعلّقت به إرادة إلهية بسيطة واحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر وَمَا أَمْرُنا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بالبَصَرِ﴾4، وإرادته لوجود الأشياء عين إرادته لوجود نظامها.

2- النظام الطولي: 
 

يوجد في الكون نظامٌ يسمى بالنظام الطولي بين العلّة والمعلول، أي إنّ إرادة الله إقتضت أن تكون الأشياء رتبةً بعد أخرى، وأن تكون كلُّ سابقةٍ علّةً للاحقةٍ، والترتيب هنا ليس بحسب الزمان- لأن الزمان أحد المخلوقات- بل ترتيب الأسبق رتبةً وأنّ وجود الأولى هو علّةٌ لوجود الثانية. 

فالله عزّ وجل له صدرُ قائمة الوجود، والملائكة هم المنفذون للأوامر الإلهية، وبين الملائكة أيضاً توجد سلسلةٌ من المراتب، فبعضٌ له مقام الرئاسة والأمر، وبعضٌ يعدّ من الأعوان وآخر من الأنصار كملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه الموكّلين بقبض الأرواح، ولكلٍّ منصب معيّن ووظيفة خاصة ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾5.
________________________________________
4- القمر:49، 50.
5- الصافات: 164.
 
 
156
 

135

الاختلاف والترجيح

 ولذا ينسب القرآن الكريم تدبير الكون تارةً إلى الله، قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض﴾6، وأخرى إلى الملائكة، قال تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾7.


وعليه إذا كانت (الف) علّةً لـ (باء) فلأجل خصوصيةٍ موجودةٍ فيها، لا أنها أمرٌ إعتباريٌّ، ولا يمكن أن تنعكس المسألة بأن تصبح (باء) علّةً لـ(ألف)، فوجود كلّ رتبةٍ هو عين حقيقتها، فلم يوكّل ملك الموت بقبض الأرواح إعتباراً بل لخصوصيةٍ فيه، ولقابلية عنده، وكذلك جبرائيل فيه خصوصيةٌ غير موجودةٍ في غيره وهكذا، لا يمكن أن يقوم ملك بوظيفة الآخر، ولا أن يحلّ أحدٌ مكان الآخر. والإنسان لأنه لا يدرك الخصائص الذاتية للأشياء ولا يعرف مراتبها الوجودية ولا علاقتها الواقعية في ما بينها، يسأل لماذا لا يكون الإنسان بدل الحيوان أو العكس؟ وليس هذا إلا قياساً للنظام الذاتي للعالم على النظام الإعتباري الجعلي للإنسان، وبتعبير آخر إنّ هذه الأسئلة تنشأ من قياس الحقائق الذاتية على الإعتبارية الإجتماعية8

3- النظام العرضي: 

يوجد في الكون نظامٌ آخر وهو النظام العرضي، وهو يعني أنّ وجود أيّ ظاهرةٍ معينةٍ خاضعٌ لمجموعةٍ من الشروط المادية9، وليست هي منفردةً ومستقلةً عن بقيّة الحوادث. والحكمة الإلهية إنمّا تظهر إذا نظر الإنسان إلى الأشياء مع
________________________________________
6- السجدة: 5.
7- النازعـات: 5.
8- ففي عالم الإعتبار يرى أنه لا مانع من أن يصبح الرئيس مرؤوساً والمرؤوس رئيساً، بينما في عالم الذاتيات لا بد من تقدم الرئيس مثلاً على المرؤوس لخصوصية في الرئيس جعلته رئيساً مقدَّماً، ولو تغيّرت لما كان كذلك.
9- العلل المادية والزمانية مثل عليّة الأب والأم للولد، فهما بنظر الفلاسفة عِلل إعدادية لا إيجادية، لأنّ هذه العِلل لا توجد المعلول وإنما تشكل الأرضية والشروط الإمكانية للوجود من قِبل الفاعل الإيجادي، ولذلك قد يطلق عليها العِلل العرضية بخلاف العِلل الإيجادية الفاعلية، فلكونها أعلى رتبة ومحيطة ومسلطة على هذا العالم تسمى بالعلل الطولية.
 
 
157
 

136

الاختلاف والترجيح

 ما ترتبط به، لا إذا ما نظر إليها منفردةً ومستقلةً.


فلو نظرنا إلى رفّاء يرفو سجاّدةً، ثمّ لاحظنا طبيباً يعالج حروق مريضٍ، فسوف لن نجد- لأول وهلةٍ- أي ارتباط بين هذين العملين، ولكننا لو فحصنا جيداً لوجدنا مثلاً أنّ حريقاً كان السبب في إحراق السجادة والمريض معاً، فعملهما إذاً منبعث من مصدر واحد. والنظرة الدقيقة إلى الكون تقنع المرء بأن النظام العرضي هو المسيطر في الكون، لأن كل الحوادث تعود إلى علّة أساسية، ولمّا كانت الضرورة حاكمة بين العلة والمعلول لا بدّ أن تكون الضرورة حاكمة بين جميع الحوادث، وهذا الإرتباط الضروري العام نشأ من أصول أربعة:

أ- إنّ قانون العليّة والمعلولية هو الحاكم، والدليل عليه البداهة، وهو الأساس لكلّ العلوم.

ب- وهذا القانون ضروري، فإذا وجد المعلول فلا يعني أن العلة موجودةٌ فقط، بل إنما اكتسب المعلول ضرورته من ناحية وجود العلة، فوجود العلة ضروري.

ج- ولا بدّ من وجود تناسب وإنسجام تام (سنخية) بين العلّة والمعلول، فلا يصدر المعلول من أيّ علّةٍ، ولا أيّ علّةٍ يمكن أن يصدر منها أيّ معلول، وإلا لصدر أيّ شيءٍ من أيّ شيء. 

د- لا بدّ أن ينتهي الكون إلى علّة العلل، وهذا هو أصل التوحيد في مبدأ الوجود.

ومن الأصول الثلاثة الأولى نصل إلى أنّ في الكون نظاماً قطعياً ولا يقبل التبديل، وبضمّ الأصل الرابع نستنتج أنه لا يمكن أن نفصل أيّ ظاهرة تجري في الكون عن سائر الظواهر المحيطة بها، بل جميعها مرتبطةٌ بشكل يقيني في ما بينها.
 
 
 
158

137

الاختلاف والترجيح

 نظام الكون في القرآن: 


إنّ ما يُطلق عليه في الفلسفة إسم (نظام الكون) و (قانون الأسباب) يتحدث القرآن الكريم عنه ويطلق عليه إسم سنّة الله، وهي ثابتةٌ لا تتبدّل، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾10

ومثال السُنَن الإلهية التي لا تتبدّل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾11، فأيّ تغيير لا بدّ وأن يبدأ بنفس الإنسان.

ومن السنن الإلهية كون الفساد مقدّمة للهزيمة، قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾12.

نتيجة المقدّمات:

إذاً، إن القانون الحاكم في هذا الكون هو نظام العلية. وليس لهذا النظام وجودٌ مستقلٌّ ولم تتعلق به عملية الخلق بشكلٍ منفصلٍ في الخارج، وإنما هو مفهومٌ كليٌّ ينتزعه الذهن من وجود الأشياء في الخارج، حيث يجد نظام العلّة والمعلول. وليس القانون أمراً إعتبارياً يخترعه الإنسان، ولذا فهو لا يقبل التغيير ولا التبديل، وكذلك لا يقبل قانون الكون الإستثناء ولا خرق القانون، لأن كلّ موجود له درجته ورتبته، ولا يمكن أن تتخلّى علةٌ عن موقعها لعلّةٍ أخرى. وأيّ 
________________________________________
10- الأحزاب:62
11- الرعد:11.
12- الاسراء: 4- 8.
 
 
159
 

138

الاختلاف والترجيح

 تغيير في الكون يبدو للوهلة الأولى أنه خرق أو إستثناء من القانون, بينما هو في الواقع خاضع لتغيير في الشروط والظروف. وأي تغيير في الشروط يؤدي إلى زوال القانون ويحل مكانه قانون آخر. فالقانون يتغير بحكم القانون لا أنه ينسخ القانون الأول, وبهذا يفترق عن القانون الوضعي الذي يضعه الإنسان, فهو قد يخترق وفيه إستثناءات دائما.


أمّا المعجزة: 

فقد يتصور الإنسان أن في بعض الأشياء خرقاً للقانون ولنظام العلة والمعلول وما ذلك إلا نتيجة جهله بالقوانين الحاكمة، فمثلاً قد يعتبر الإنسان المعجزة خرقاً للقانون، مع أنها ليست كذلك، بل هي ضمن القانون وتحكمها قوانين الكون. ولكن ذلك ضمن شروط وظروف جديدة لا نحيط بها نحن. وبفضل إتصال روح النبي الطاهر بقدرة الله اللامتناهية تدخل عوامل أخرى وتتغير الظروف والشروط وتحصل المعجزة. فمثلاً ولادة النبي عيسى عليه السلام لا تعدّ خرقاً للقانون، بل نحن نتصور أنّ الموجود الحيّ يأتي دائماً من أب وأم. ولكن هذا ما يظهر لنا هو قشرة القانون والسنّة الإلهية، وليس هو حقيقة القانون الواقع الموجود. وما يعرفه الإنسان من قوانين للكون هل هي واقع القانون أم قشور القانون؟ فالقشر قد يتخلّف، بينما واقع القانون لا يمكن أن يتخلّف أبداً.

أمّا الدعاء: 

ومثل ذلك يقال في الدعاء والصدقة. فقد ورد في العديد من النصوص الحثّ على الدعاء والصدقة وأنّه بهما يُدفع البلاء، كما ورد في رواية عن الأصبغ بن نباتة، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عَدَل من عند حائطٍ مائلٍ إلى حائطٍ آخر، فقيل له، يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ فقال: أفرّ من قضاء الله إلى 
 
 
160
 

 


139

الاختلاف والترجيح

 قدر الله عزّ وجل13. والمستفاد من الرواية أنّ الإنسان إذا عرّض نفسه للخطر وتضرر من ذلك فهذا قانون الله وقضاؤه، وإذا فرّ من الخطر ونجا، فذلك أيضاً من قانون الله وتقديره، ﴿... وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾14.


النتيجة:

إنّ ما نصل إليه كنتيجةٍ لما تقدّم، هو أنّ الإختلاف ليس هو الترجيح لأنّه إعطاء كلّ شخصٍ ما يستحقه، وحيث كان الكون يُدار بسلسلةٍ من الأنظمة والقوانين التي لا تتغيّر، وهذا النظام الواحد يقتضي تعدد مراتب الوجود وهو السبب في ظهور الإختلافات والنقص والعدم، وهذه الإختلافات ليست مخلوقة بل هي من اللوازم الذاتية للمخلوقات، ولذا لا يصحّ أن ننسب ما يوجد في هذا الكون مما نراه من شرورٍ وترجيحات إلى الله، بل هو من خصوصيات وذاتيات هذا الكون. ولو أردنا أن نرفع هذه الأشياء من شرورٍ وترجيحات لانتفى النظام الكوني من الأساس.
________________________________________
13- التوحيد للصدوق /369. 
14- الطلاق: 2 و3. 
 
 
161
 

140

الاختلاف والترجيح

 خلاصة الدرس 


1ـ من الآثار المترتبة على عدم حلّ الشبهات المثارة حول مسألة العدل، فكرة الثنويّة والإيمان بإله الخير وإله الشر، والتشاؤم في الحياة لدى أتباع الفلسفة الماديّة.

2- الجواب المشترك والعام على الإشكاليات المثارة حول مسألة العدل الإلهي هو: إنّ الله لما كان عليماً حكيماً غنياً، فما خلقه من الكون هو النظام الأفضل والأكمل. وعليه فالإيمان بهذا الخالق بهذه الصفات يحلّ لنا المشكلة، لأنّ كلّ ما في هذا الكون إنمّا هو لمصلحة، وإن كانت مجهولة بالنسبة لنا.

3- إنّ الجواب الصحيح حول مسألة الترجيحات الموجودة في هذا الكون هو بالتفرقة بين الترجيح والإختلاف. والموجود في هذا الكون إنمّا هو الإختلاف، وهو عبارةٌ عن إعطاء كلّ موجود ما يستحقه لا الإعطاء بالتساوي، وأما الإعطاء بحسب السعة والقابلية فهو عين العدل.

4- إذا جاء السؤال بأنّه لماذا خلق الله الأشياء مختلفة من حيث الإستعداد ولماذا لم تكن متساوية في القابليات من الأساس؟ كان الجواب إنّ الاختلاف من ذاتيات النظام الحاكم في الكون. ووجود كلّ شيء محكوم لمجموعة من الشروط والأسباب التي لو تبدّلت لكان ذلك الشيء غيره لا نفسه.

5- قد يتصوّر الإنسان في الكون بعض الأشياء المخالفة للقانون، وذلك نتيجة جهله وعدم معرفته بواقع السنن الحاكمة، ومن ذلك المعجزة وخرق العادة والدعاء، مع أنها كلها طبق النظام الكوني العام الذي لا يتبدل ولا يخرق ولا يجري عليه الإستثناء، وإنما تتدخل قدرة الله اللامتناهية بتغيير الظروف والشروط المحيطة التي لا يدركها الإنسان، إلا أنها كلها بقضاء الله وقدره.
 
 
162
 

141

الاختلاف والترجيح

 أسئلة الدرس

 
1- كيف نشأت الفلسفة الثنوية؟
2- ما معنى المصلحة في حقّ الله تعالى؟
3- ما الفرق بين الإختلاف والترجيح؟
4- ما هو الجواب العام على الشبهات في العدل الإلهي؟
5- لماذا لم يخلق الله القابليات على حدّ سواء؟
 
 
163
 

142

شبهة الشرور

 أهداف الدرس


1- إكتساب القدرة على إثبات عدمية الشرور.
2- القدرة على الإجابة على عدم خرق المسماة شروراً لمسألة العدل.
3- القدرة على شرح أن الشرور نسبية.
4- تعليل سبب خلق الله لبعض الآفات.
5- إثبات بعض فوائد المصائب.
 
 
165
 

143

شبهة الشرور

 تمهيد:


تقدّم في البحث السابق تقسيم البحث إلى محورين، وقد ذكرنا الجواب على المحور الأول وهو الترجيحات الموجودة في العالم، ووصل الدور للحديث عن المحور الثاني: 

لماذا الشرور في العَالم؟

لماذا وجدت الآفات والبلايا والمصائب؟ لماذا الشيطان والأمراض والسيول والزلازل...؟ إنّ هذه الأمور تجعل وجود الإنسان مقروناً بالعذاب والمعاناة، حيث تعترضه في منتصف الطريق، وتذهب به إلى دار الفناء، فلماذا وُجدت؟

لقد أدّت الحيرة حول مسألة الشرور ببعض الناس إلى القول بالثنوية1، حيث لاحظوا أنّ في الكون خيراً وشراً، وأنّ الشرور من الآلام والمآسي لا تنفكّ تحدث في الكون، ولا يمكن نسبتها إلى الإله الجامع للصفات الكمالية، الإله المحبّ لخلقه والذي لا يريد لهم إلا الخير والسعادة. ولم يجد هؤلاء مفرّاً إلا
________________________________________
1- وقد تقدم الكلام حول الثنوية في البحث الأول.
 
 
167
 

144

شبهة الشرور

 القول بوجود مبدأين للوجود، أحدهما تصدر منه الموجودات الخيّرة، والآخر تصدر منه الشرور.وهؤلاء عندما عجزوا عن حلّ مشكلة الشرور حاولوا تبرئة الله من الشرّ فقالوا بوجود شريك له، وألقوا على هذا الشريك مسؤولية كلّ شرّ موجودٍ في هذا العالم. 


فما هي حقيقة الشروروهل تتنافى مع العدل الإلهيّ؟ 

ونستعرض في المقام الأجوبة المذكورة حول مسألة الشرور في هذا العالم.

الشرور أمور عدميّة لا وجوديّة:

إنّ الجواب الأول عن مسألة الشرور يكمن في فهم حقيقة الشرور، فالشرور ليست موجوداتٍ واقعيةٍ أصيلةٍ حتى تحتاج إلى خالقٍ ومبدأ مستقلٍ- كما ذهب الثنويّة- بل الشرور أمورٌ عدميّة. 

وهذا الجواب قد يَشعر البعض بأنّه شديد الغرابة ولا يمكن تصوّره، إذ كيف يمكننا أن ننكر أمراً بديهياً، حيث إنّ الشرور موجودةٌ نحسّ بها ونشعر بها ونعاني منها، فكيف يقال إنها أمور عدميّة؟!

إلا أنّ هذه الغرابة سوف تزول عندما يتبيّن أنّ إلتزامنا بكونها أموراً عدميةً لا يعني أبداً إنكارها، وإنّما قمنا بتحليلها وبيان حقيقتها بعد التسليم بها. وسيتّضح المراد من الأمور العدمية في تفصيل الجواب.

تفصيل الجواب:

إنّ الشرور الموجودة ترجع إلى أحد نوعين:

1- إمّا أن تكون بنفسها عدماً ونقصاً وفراغاً: حيث إنّ هناك أنواعاً من 
 
 
168
 

145

شبهة الشرور

  الشرور ترجع بذاتها إلى كونها عدماً ونقصاً، فالعمى- مثلاً- ليس أمراً وجوديّاً بل هو عدم البصر، والفقر عبارة عن عدم تملّك المال لا أنّ الفقر شيء موجود، والجهل كذلك هو عدم العلم، ولذا فالإنسان عندما يتعلّم يكسب أشياء لا أنه يخسر شيئاً كان موجوداً لديه إسمه الجهل. 


2- وإمّا أن تكون أموراً موجودة تسبِّب العدم والنقص والفراغ: وهذا النوع نعتبره من الشرور لكونه السببَ والمنشأ للعدم، كالزواحف السامة والمكروبات والسيول والآفات، فهذه الأشياء ليست شراً بنفسها وإنّما نسميها شرّاً لأنّها تؤدّي إليه، فالحيوان المفترس إنّما يكون شراً إذا أدّى إلى سلب الحياة من مخلوق آخر، ولولا ذلك لم نطلق عليه أنه شرّ، بل لعلّنا نُعجب بجماله أو نستفيد منه بعض الفوائد الحياتية المهمّة فنراه خيراً لنا.

الجواب على النوع الأول:

إن النوع الأول غالباً ما يكون هو المنشأ للأمور الواردة في النوع الثاني من الشرور، فالفقر والجهل هما السبب في الأمراض والحروب والمكروبات وغيرها، ومتى تمكّن الإنسان من محاربة النوع الأول منها أمكنه نفي النوع الثاني، فالإنسان عندما تطوّرت خبراته في الحياة تمكّن من محاربة الكثير من الأمراض، وعندما إنتفت عنه صفة الجهل إنتفى عنه المرض الذي كان يجهل سببه. وما زال الإنسان يسعى حثيثاً لكي يعالج جميع الأمراض الموجودة في الكون، ولكنه نتيجة جهله بأسباب تولّدها أو بطرق علاجها تبقى هذه الأمراض في دائرة الشرور وينسبها إلى الله.

وبهذا يتضح الجواب عن المشكلة وهي أنّه لا يوجد في الكون سوى نوعٍ واحدٍ فقط وهو الخير، وأما الشرور فهي أعدام لم تخلق، وبالتالي فلا تحتاج إلى خالق فلا يصل الأمر إلى الإيمان بوجود خالقين كما ذهبت إليه الثنوية. 
 
 
169
 

146

شبهة الشرور

 والوجود والعدم هما كالشمس والظلّ، فعندما نضع شيئاً في الشمس فالقسم الذي يبقى مظلماً ومحروماً من الشمس يقال له الظلّ، فما هو الظلّ؟ إنّ الظلّ هو الظلمة وهو عدم النور، وعندما نقول إنّ النور قد شعّ من الشمس فإنه لا يصحّ أن نسأل: ومن أين تشعّ الظلمة وما هو مبدؤها؟ وهذا ما يقصده الحكماء من قولهم: (إنّ الشرور ليست مجعولةً بالذات وإنما هي مجعولةٌ بالعرَض).


الجواب على النوع الثاني: 

إنّ الصفات التي نصف بها الأشياء على نوعين:

1ـ الصفات الحقيقية: وهي الصفات التي تَثبُتُ للشيء بقطع النظر عن أيّ شيءٍ آخر، كصفة الحياة التي يتّصف بها الموجود بغض النظر عن ملاحظة أيّ شيءٍ آخر، وكذلك البياض والسواد2، فهي تعتبر من الصفات الحقيقية، فالشيء الأبيض مثلاً مع غضّ النظر عن قياسه بأيّ شيءٍ آخر هو أبيض.

2ـ الصفات الإضافية (النسبية): وهي الصفة التي لا بدّ لتصوّرها من تصوّر شيءٍ آخر معها، مثل الصغر والكبر، فإنّنا إذا قلنا إنّ الشيء الفلاني صغير فلا بد أن نلاحظه بالنسبة لشيءٍ آخر أكبر منه. 

وهكذا عندما نقول إنّ القانون الفلاني هو أفضل أو أحسن، فإن ذلك يكون عندما نقيسه إلى قانونٍ آخر لا يؤمّن مصلحة الإنسان كالقانون الأول.

فالفارق بين هذين النوعين من الصفات كالفارق بين قولك فلان كريم وفلان أكرم، فإنّك عندما تصفه بصفة أنه كريم لم تلاحظ معه أحداً آخر، وأمّا عندما تقول فلانٌ أكرم فإنّ مرادك لا بدّ وأن يكون أنه أكرم بالقياس إلى غيره.
________________________________________
2- على فرض كون الألوان أموراً واقعية.
 
 
170
 

147

شبهة الشرور

 وهذه أشياءٌ إعتباريّة لأنّ وجودها بهذه الصفة جاء تابعاً لوجودها الحقيقي، فالله منح الوجود لهذه الأشياء بذاتها ولزم منها هذه الصفات، وهذه الصفات لم تخلق إبتداءً. إنّ هذه الصفات نشأت من مقايسة الإنسان المخلوقات مع بعضها البعض وإلا لو نظر الإنسان إلى هذه الأشياء مجرّدة عن غيرها فلن يأتي إلى ذهنه السؤال عن المفاضلة بينها وبين غيرها. 


ومتى أوضحنا هذين الإصطلاحين نسأل: هل الشرور قبيحةٌ ذاتاً أو أنّ قبحها نسبيٌّ؟ وبتعبير آخر هل الشرور من الصفات الحقيقية أو من الصفات الإضافية؟ فهل يتصف الشيء بأنه شرّ إذا لوحظ منفرداً أيضاً أو أن هذه الصفة تنشأ نتيجة مقارنته بغيره؟.

فالشرور التي هي أمورٌ وجوديةٌ تسبّب أموراً عدميةً، كالسيول والزلازل والحيوانات المفترسة. لا شكّ بأنّ هذه الأشياء إنما تكون صفة الشر فيها من الصفات النسبية، فهي شر إذا قيست إلى أشياء أخرى، فمثلاً سمّ الحية هو شرّ بالنسبة إلى الإنسان والموجودات الأخرى التي تتضرر منه، ولكنه ليس شراً بالنسبة للحية نفسها، وإلا إذا أردنا أن نعتبرها شراً لمجرد ذلك لكان علينا أن نعتبرَ الكثيرَ من الأمور التي نحكم عليها بأنها خيرات شروراً، فمثلاً الأغنام شرٌّ بالنسبة إلى النبات الذي تعبث به وتفسده ولكنها ليست شراً بالنسبة للإنسان.

إذاً هناك أشياءٌ هي شرور بالنسبة لغيرها ولكنها ليست شرّاً بالنسبة لنفسها.

فالجواب على النوع الثاني: إنّ الوجود الحقيقي للشيء هو بصفاته الحقيقية، وأما الوجود الإضافي الإعتباري فهو لم يخلق مستقلاً بل هو من لوازم الوجود الحقيقي. وعليه لا يصحّ أن نسأل لماذا خلق الله هذه الأمور الإعتبارية الإضافيّة، وإنما لا يصح هذا السؤال لأنها لا تملك وجوداً مستقلاً،
فلا يقال
 
171
 

148

شبهة الشرور

 لماذا كانت الحيّة شراً للإنسان؟ نعم يصح أن نسأل لماذا خلق الله الحيّة؟ وهذا ما يأتي الجواب عليه في بحث فوائد الشرور.


فوائد الشرور: 

إنّ للشرور فوائد في الكون، فالإنسان إذا لاحظ هذه الشرور دون أن يلاحظ الفوائد المترتبة عليها فسوف يتساءل ألا تنافي الشرور العدل الإلهي؟!، ولكن لو لاحظ فوائدها فلن يعود لهذا التساؤل أي معنى، لذلك يجب البحث عن الفوائد المترتبة على وجود هذه الأشياء.

الأول: دور الشرور في تكميل المجموعة الكونية:

هل يمكن أن يوجد الكون بدون الشرور أو أنّ إلغاء الشرور من الكون غير ممكن، فيكون عدم وجود المصائب مساوياً لعدم وجود الكون نفسه؟

إنّ شرور الكون لا تنفك عن خيراته، فالكون كلٌّ واحدٌ يرفض التجزئة، وأجزاء الكون ليست بنحو يمكن فرض حذف قسم منها والإبقاء على القسم الآخر، بل حذف بعضها يستلزم حذف جميع الأجزاء، وهذا ما يُعبّر عنه الناس بأنه لا يوجد ورد بلا شوك. 

فإذاً، الأشياء إذا لاحظناها مستقلةً منفردةً عن البقية فسوف يكون لها حكمٌ، وأمّا إذا لاحظناها كجزءٍ من نظامٍ متكامل فحكمها سوف يكون مختلفاً، هكذا الشرور إذا لوحظت مستقلةً فسيحكم عليها الإنسان بأنها شرورٌ، لكن لو لوحظت كجزءٍ من هذا الكون بزوالها تزول الخيرات فالحكم عليها يتغيّر.

الثاني: القبح يظهر الحسن: 

إنّ الشرور ضروريّةٌ لأنها تُظهر الأشياء الجميلة، فلو تمتّع الناس جميعهم
 
 
 
172
 

149

شبهة الشرور

 بالجمال لما كان أحدٌ منهم جميلاً، ولو كانوا جميعاً قبيحين لم يكن هناك قبيحٌ واحدٌ. إنّ إحساس الإنسان بالجمال وإدراكه له لا يوجدان إلا ضمن شروطٍ وهي أن يكون في مقابل الجمال قبح. إن كثيراً من الأشياء لا يدركها الإنسان إلا بمقايستها إلى الأشياء الأخرى، ولذا كلما ازدادت معرفة الإنسان إزدادت ملاحظاته وإستنتاجاته حول هذا الكون وإزداد إيمانه بخالق الكون.


ولكن من الطبيعي أن يأتي إلى ذهننا السؤال التالي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كان زيدٌ قبيحاً لإظهار جمال خالد؟ لماذا لم يكن الأمر بالعكس؟ ألا يكون ذلك من الظلم لزيدٍ أن يخلقه الله قبيحاً ليظهر جمال غيره؟

والجواب: إن الصانع الحكيم لا نتصور أنّه من أجل أن يكون النظام الموجود هو النظام الأحسن خلق الموجودات بهذا الشكل، بل إنه أعطى كلّ موجود ما لديه من القابليات، وبتعبيرٍ آخر إنّ ما أعطاه الله لكلّ مخلوقٍ هو ذاتيات ذلك المخلوق التي لولاها لم يكن، ونتيجة اختلاف هذه القابليات كان الإختلاف بين هذه المخلوقات.

وتوضيح ذلك عبر مثال الأشكال الهندسية: إنّ ما يميّز المثلّث هو أنّ مجموع زواياه يساوي مجموع زاويتين قائمتين، وما يميّز المربّع هو أن مجموع زواياه يساوي أربعة زوايا قائمة، وهنا لا يمكن أن يسأل أحدٌ لماذا كان المثلّث هكذا وكان المربّع هكذا؟ فالمثلّث منذ أن وُجِدَ وُجد هكذا لا أنه وُجِدَ ثم اتصف بهذه الصفة. وهذا الأمر نلاحظه في الكون، فالجمادات لا تنمو ولا تدرك، والنباتات تنمو ولا تدرك، والحيوان ينمو ويدرك. إن هذا الإختلاف يرجع إلى خصوصيات موجودة في ذوات هذه الأشياء، ولم تخلق هذه الأشياء أولاً ثم تعطى هذه الخصوصيات لها، بل هذه هي خصوصياتها المرافقة لها منذ وجودها. 

ولابن سينا عبارةٌ مختصرةٌ جداً يشرح فيها هذه الفكرة، يقول: (ما جعل
 
 
173
 

150

شبهة الشرور

 الله المشمشةَ مشمشةً بل أوجدها) أي إنّ الله خلق المشمش وغيره من الفواكه والثمار وهي من البداية هكذا، لا أنه أوجدها ثم أعطاها هذه الصفة. 


يعبر القرآن الكريم عن هذه الفكرة في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون حيث سألَ فرعونُ: من ربك يا موسى؟ فقال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾3أي إنّ الله خلق الأشياء على ما تقبله هي من لون الوجود.

الثالث: في المصائب تكمن السعادة:

إنّ في أعماق الشدائد والمصائب تكمن السعادة والرفاه، يقول الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾. وعندما ندقّق في الآية الكريمة نجدها لا تقول إنّ بعد الشدة يأتي اليسر بل تقول إن اليسر مترافق مع العسر، وهذه الآية هي خطاب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الإنشراح حيث يقول تعالى:

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾4.

فالسورة تخاطب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بنغمةٍ مليئة بالعطف والحنان لتطيّب خاطره إزاء الشدائد التي تمرّ بها دعوته، فتذكّره بالحمل الثقيل الذي رفع عن كاهله وحلّ محلّه اليسر، ثم يستنتج بطريقةٍ علميةٍ من الواقع المشهود هذا القانون العام: فإن مع العسر يسراً، ثم يخاطب النبي بقوله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾5، إنّ اليسر كامنٌ في أعماق التعب والعذاب، وفي أيّ وقتٍ تجد في نفسك فراغاً فألقِها من جديدٍ في خضمّ التعب لتعتصر منه اليسر.

إن المخلوقات الحيّة لا سيما الإنسان تمتاز بهذه الخصوصية، وهي أنها
________________________________________
3- طـه:50.
4- الشرح:1 /6.
5- الشرح:7.
 
 
174
 

151

شبهة الشرور

 تتكامل وتتقدّم عبر الشدائد والمشاكل، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾6 بمعنى أننا خلقناه وسط الآلام والشدائد، ولذا كان الإستغراق في الدلال والنعمة والبُعد عن الشدائد موجباً للضعف وعدم القدرة على التقدم. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام التعبير عن هذه الحقيقة بقوله: (ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً والروائع الخضراء أرقّ جلوداً والنباتات البدويّة أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)7


البلاء وآثاره:

وبعد أن تمّت الأجوبة على مسألة الشرور، لا بأس بأنّ نتحدث قليلاً عن البلاء، فقد ورد ذكر البلاء في العديد من النصوص: 

قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾8...

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: (إنّ الله عزّ وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة)9.

وفي رواية أخرى: (إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّا)10.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: (إن أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل)11.
________________________________________
6- البلد:4.
7- نهج البلاغة، من كتاب الإمام إلى عامله عثمان بن حنيف.
8- البقرة:155.
9- الكليني، أصول الكافي، ج 2 ص 255، الحديث 17، ط. دار الكتب الإسلامية.
10- م. ن الكليني، أصول الكافي، ج 2 ص 253، الحديث 6، ط دار الكتب الإسلامية.
11- م. ن ج 2 ص 253، الحديث 4. 
 
 
175
 

152

شبهة الشرور

 إنّ للبلاء آثاراً تربويةً مهمةً، فهو ينمي النفس على الرضى بالقضاء ويصقل النفس ويجعلها أكثر قوةً وطاقةً.


البلاء والنعمة نسبيّان:

إنّ المصائب والشدائد التي يواجهها الإنسان قد تتبدّل إلى نِعَمٍ يستفيد منها الإنسان، كما أنّ النِعَم الدنيوية العظيمة قد تتبدّل إلى بلاء وبؤسٍ. 

إننا نستطيع أن نصل إلى السعادة عن طريق الفقر وعن طريق الثراء أيضاً، كما أننا نستطيع أن نصل إلى البؤس عن طريق الفقر وعن طريق الثراء أيضاً، إنّ الشيء الواحد قد يعتبر بالنسبة إلى شخص ما نعمةً، وهو بنفسه بالنسبة إلى شخصٍ آخر يكون بلاءً ونقمةً، وبيد الإنسان أن يبدّل النقمة إلى نعمةٍ.

خلاصة الدرس 

إنّ الأجوبة المطروحة لحلّ مشكلةِ تَنافي الشرور مع العدل الإلهي ثلاثة: 

1ـ إن الشرورَ أمورٌ عدمية وليست مخلوقة، فإنّ الجهل والفقر والعمى وأمثالها ليست أموراً موجودةً في الخارج بل هي أعدام لم تخلق، وهذا جواب عن النوع الأول من الشرور.

2ـ إن الشرورَ أمور نسبية، لأنّ الشرور التي تكون شراً بالنسبة لغيرها هي خيرات بالنسبة لنفسها، فسمّ الحيّة شرٌ بالنسبة للإنسان ولكنه خيرٌ بالنسبة لنفس الحيّة، كما أنّ هذه الشرور لم تخلق استقلالاً بل هي من لوازم خلق هذه الأشياء، وهذا يصلح جواباً عن النوع الثاني من الشرور. 

3ـ وتعميق الجواب عن النوع الثاني في تحليل لماذا خلق الله بعض الآفات
 
 
176
 

153

شبهة الشرور

 مثلاً أن للشرور فوائدَ متعددةً وخيراتٍ جمّة منها: 


أ- تكميل المجموعة الكونية إذ لا يمكننا تصوّر الخيرات دون الشرور، ولو أردنا أن نحذف الشرور من قائمة الوجود لانمحت الخيرات معها.

ب- إنّ الحُسن لا يظهر إلا مع ملاحظة القبيح، والخيرات لا تعرف إلا بملاحظة الشرور.

ج- إنّ في المصائب تكمن سعادة الإنسان لأنّ بها يسعى الإنسان إلى التكامل.  
 
 
أسئلة الدرس
 
1- ما المراد من كون الشرّ أمراً عدميّاً؟
2ـ هل يتمكّن الإنسان من إزالة الشرور؟
3ـ كيف تكون الشرور أموراً نسبيةً؟
4ـ ما هي فوائد الشرور؟
5ـ هل حصل أن تصوّرتَ شرّاً وكان في الواقع مفيداً؟
 
 
177
 
 

154

شبهة الموت والفناء

 أهداف الدرس


1- شرح شبهة الموت والفناء.
2- إثبات أن الموت عدم نسبي.
3- شرح دور الدين وهدف وجود الإنسان.
4- القدرة على الدفاع عن إشكال عدم تناسب العقاب مع الذنب.
5- القدرة على التفرقة بين أنواع الجزاء.
 
 
179
 

155

شبهة الموت والفناء

 هناك مجموعة من الشبهات التي تطرح حول العدل الإلهي ينبغي الإجابة عنها: 


الشبهة الأولى: لماذا فناء الأشياء؟

لماذا تعدم الأشياء ولماذا الموت؟ لماذا بعد أن يذوقَ الإنسان لذّة الوجود يعاد إلى العدم؟ أليس من الجليّ أنّ العدم المحض خيرٌ من الوجود الناقص؟

الجواب:

إنّ فكرة الموت هي من الأفكار التي عذّبت الإنسانية، فمنذ وجود الإنسان بدأ يتساءل عن السبب في مجيئه إلى هذه الدنيا، وكان هذا السؤال النابع من خوف الإنسان من الموت من الأسباب الموجبة لنشأة الفلسفة المتشائمة، حيث تصوّر الفلاسفة المتشائمون هذه الحياة بلا هدفٍ ولا فائدةٍ، وخاليةً عن الحكمة.

إنّ النفور من الموت هو من الميزات الخاصة بالإنسان، وأما الحيوانات فلا تفكّر في الموت، وإنّ ما يوجد لديها ليس إلا غريزة الفرار من الخطر. ولعلّ الأساس في اختصاص الإنسان بهذا الأمر هو رغبته في الخلود. ولذا يعتبر
 
 
181
 

156

شبهة الموت والفناء

  المتكلّمون هذه الرغبة الموجودة في الإنسان هي الدليل على بقاء الإنسان بعد الموت. 


كما أن وجود هذه الرغبة في الإنسان دليل على وجود كمال يسعى إليه، ومن هنا ينشأ السؤال لماذا كان الموت؟ أليس هو من الشرور التي يواجهها الإنسان؟

والجواب على فكرة الموت ممكن عبر طرقٍ متعددةٍ وأجوبةٍ مختلفةٍ نستعرضها واحداً تلو الآخر.

الأول: الموت عدمٌ نسبي:

إنّ نفور الإنسان من الموت جاء نتيجة تصوّره للموت على أنّه عدم. والحال أنّه ليس كذلك، وإنّما هو تطوّرٌ وتحوّلٌ، غروبٌ عن نشأةٍ وشروق بنشأةٍ أخرى، وبعبارةٍ ثانيةٍ: الموت عدمٌ ولكنه ليس عدماً مطلقاً بل هو عدمٌ نسبيٌّ، عدمٌ لنشأةٍ. والإنسان لا يتجرّع الموت المطلق، وإنما يعاني فقدان حالةٍ خاصةٍ والتحوّلَ إلى حالةٍ أخرى1.

الثاني: الدنيا رحمٌ للروح:

إنّ أهم صورةٍ يمكن أن يقدّمها الإنسان للإنتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، أي لفكرة الموت، هي عملية الولادة. نعم، هذا التشبيه يبعّد الصورةَ من جهةٍ ولكنه يقرّبها من جهةٍٍ أخرى، فهو يبعّد لأنّ عالم الآخرة أعمق بكثيرٍ من عالمِ خارجِ الرحم بالنسبة للطفل، لأنّ عالمَ داخلِ الرحم وخارجه هما من نفس الدنيا. ومن هنا فهو بعيدٌ عن حقيقة عالم الآخرة الذي هو نشأةٌ أخرى وعالمٌ 
________________________________________
1- ومن أمثلة ذلك تحوّل الماء إلى بخار، فإن الماء لم يصبح عدماً وانما تحوّل من حالة إلى حالة وصار في حالة البخاريّة بعد أن كان في حالة المائية.
 
 
182
 

157

شبهة الموت والفناء

 مختلفٌ. ولكن هذا التشبيه يوضّح لنا الصورةَ وأنّ ظروف الطفل داخلَ الرحم تختلف إختلافاً واضحاً عمّا سيعيشه خارج الرحم، فهو يتغذى من الحبل السري ولا يتنفس من رئتيه إلا بعد أن يخرج من الرحم، مع أنّ جهازه الهضمي والرئتين تتكون داخل الرحم ولكنه لا يتمكن من استخدامها. إنّ جميع أعضاء البدن التي تتكوّن في الرحم لم تُجعل ليستفيد منها الطفل داخل الرحم وإنما جُعلت لتتم الإستفادة منها خارج الرحم. وعالم الدنيا أيضاً كذلك، فهو كالرحم حيث يتمّ فيه صنع وإعداد الأجهزة الروحية للإنسان كي يستفيد منها في عالم آخر هو عالم ما بعد الموت. 


إنّ الآمال العريضة التي يعيشها الإنسان والقابليّات الموجودة لديه قد خُلقت بنحو يتناسب مع حياةٍ أطول وأوسع، خالدةٍ أبديةٍ. ويبيّن القرآن الكريم هذا الأمر حيث يقول: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾2، فهل تتصور أيّها الإنسان أنّك بكلّ هذه الأجهزة التي زوّدت بها قد خُلقت عبثاً، وأن هذه الأجهزة لا هدف منها ولا غاية؟ إنّ الإنسان لو كان بكلّ ما جُهّز به لا عودةَ له إلى الله ونحو عالمٍ أوسع لكان كعالمِ الرحمِ حيث لا يكون بعده عالمُ الدنيا، حيث تموت الأجنّة بمجرّد إتمام تكوينها وخروجها من الرحم، أليس ذلك من العبث؟ 

إذاً، الموت ليس سوى بدايةٍ لمرحلةٍ جديدةٍ، وهو كولادةٍ جديدةٍ في ذلك العالم. 

الثالث: الدنيا مدرسةٌ للإنسان: 

تعتبر الدنيا مرحلةَ إعدادٍ للإنسان إلى عالم أوسع وهو عالم الآخرة، فقد
________________________________________
2- المؤمنون:115 
 
 
183
 

158

شبهة الموت والفناء

 ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾3، فالدنيا دار اختبارٍ للإنسان. إننا نتحدث عن الجهة الروحيّة والنفسية، أي عن الأفعال الإختيارية للإنسان، ولا نتحدث عن الأمور التكوينية، أي لا نتحدث عن خلق الإنسان كما ذكرنا في الجواب السابق.

إذاً، الدنيا دار إخراج هذه القوى الإنسانية الكامنة في داخله إلى عالم الوجود، فهو إختبارٌ لزيادة الوزن لا لمعرفة ما عليه الأمر وواقع الحال. 

الرابع: الموت توسيعٌ للحياة:

إنّ ظاهرة الموت والحياة تحققان في الكون نظاماً متعاقباً، فإنّ موت فئة من الناس يهيّئ أرضيّةً صالحةً لتعيش فئةٌ أخرى، حتى أن جثث الأموات تفيد الأرض وتمدها بالطاقة، فلو أنّ الناس الذين عاشوا قبل ألف عامٍ لم يموتوا لما وصل الدور إلى الذين يعيشون الآن، وهكذا إذا امتدت حياة من يعيش الآن فإنه سيمنع غيره من الوجود. ولنلاحظ ذلك في عالم الطبيعة، فلو لم تمت أزهار العام الماضي لما وجدت أزهار العام الحالي الفرصة لنمائها. 
 
النتيجة: 

إنّ الإنسان قد خُلق بنحو غُرس فيه الأمل بالخلود. وحيث كانت الإستعدادات التي يملكها أكبر من هذه الحياة التي يعيشها فلا بدّ من وجود عالمٍ آخر، ولذا فإن من لا يؤمن بالآخرة سوف يعيش التناقض بين تكوينه الواقعي وبين ما سيصير إليه بحسب تصوره، فإنه سوف يحدّث نفسه بأنّ نهاية الوجود هي العدم، وتكون حياته عبثاً، وأما الإنسان الذي يؤمن بالآخرة فإنه سوف يعتبر الدنيا ممرّاً ومدرسة ليعبر منها إلى عالم أوسع. 
________________________________________
3- الملك:2 
 
 
184
 

159

شبهة الموت والفناء

 الشبهة الثانية، الجزاء الأخروي: 


من المسائل التي تطرح عادة في موضوع العدل الإلهي مسألة المجازاة الأخروية، فيُتساءل عن أنّه لابدّ من رعاية التناسب بين الذنب والعقوبة.

ففي القوانين الجزائية، إذا رمى شخص ما النفايات على قارعة الطريق- مثلاً- فالعدالة تقتضي معاقبته، ولكن لا شك في أنّ عقوبته ينبغي أن تتناسب مع ذنبه، فلا يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبّد، وإلا تنافى ذلك مع العدل ولم ينسجم معه، فالتناسب بين الذنب والعقوبة ضروريّ وإلا كان من الظلم الواضح.

إن الذنوب كالغيبة والكذب والزنا وقتل النفس هي جرائم يستحق مرتكبها العقوبة، ولكن أليست العقوبة التي خُصّصت لها في الآخرة تتجاوز الحدود؟! بمعنى أنّ العقوبات المقرّرة في القرآن الكريم قاسيةٌ ولا تقبل التحمّل؟! ألا يتناقض عدم التناسب هذا بين الذنب والعقوبة مع العدل الإلهي؟! 

والإجابة على هذا السؤال تتوقف على بيان أمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: إختلاف عالم الدنيا عن الآخرة:

إنّ بين عالم الدنيا وعالم الآخرة إختلافاً كبيراً، فهما نشأتان مختلفتان، إنهما لونان من الحياة. وقد تقدّم منّا أنّ عالم الدنيا بالنسبة لعالم الآخرة كعالم الرحم لدى الجنين بالنسبة لعالم الدنيا. إنّ عالم الرحم يختلف عن الدنيا، فالطفل لا يتنفس برئتيه ولا يأكل بفمه، ومتى ما ولد وخرج إلى هذه الدنيا فإنه لن يتمكن من أن يعيش لحظةً واحدةً كما كان يعيش في عالم الرحم، والعكس صحيحٌ، أي إن الطفل لو دخل الهواء إلى رئتيه وهو في عالم الرحم، أو
 
 
185
 

160

شبهة الموت والفناء

 دخل الطعام عبر فمه، فإنه سوف يموت كما أنّه لو لم يتنفس برئتيه متى خرج إلى الدنيا سوف يموت أيضاً! 


إن هذا المثال يوضح لنا أنّ بين العالمين اختلافاً، فكذلك إنّ لكلّ واحد من عالمي الدنيا والآخرة قوانينه ونظمه، فما هي النقاط التي يختلف فيها العالمان؟

أ- الثبات والتغيّر: 

عالم الدنيا هو عالم المتغيّرات، فالطفل يكتمل ليصبح شاباً ثمّ يصل إلى الشيخوخة ثمّ الموت، فهنا الجديد يصبح قديماً والقديم يفنى.

أمّا في العالم الآخر فلا شيخوخة ولا قدم ولا موت، ولذا كان عالمنا هذا عالم الفناء وكان ذلك العالم عالم البقاء. 

ب- الحياة الخالصة والحياة المشوبة:

تقترن الحياة في هذه الدنيا بالموت، وأما في عالم الآخرة فهناك حياة بلا موت، قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾4، فالحياة الحقيقية هي في ذلك العالم حيث تسيطر الحياة على جميع أجزائه، حتى جلد البدن والظفر اللذين لا شعور لهما ولا إدراك في هذا العالم يصبحان ذَوِِيَ فهم وإدراك ونطق في ذلك العالم، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾5، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾6.
________________________________________
4- العنكبوت:64.
5- يّـس:65.
6- فصلت:21.
 
 
186
 

161

شبهة الموت والفناء

 ج- البذر والحصاد:


الدنيا هي دار عمل، أمّا الآخرة فدار حساب لا عمل فيها ينفع الإنسان أو ينجيه من العقاب، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اليوم عمل بلا حساب وغداً حساب بلا عمل)7.

وما أجمل عبارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تبين ذلك إذ قال: (الدنيا مزرعة الآخرة)8.

د- المصير الخاصّ والمصير المشترك:

الحياة الدنيا حياة إجتماعيّة يرتبط المصير فيها ويشترك بين أفراد المجتمع إلى حدٍّ ما، وأمّا في الآخرة فمصير كل إنسان يرتبط به وحده.

ففي هذه الدنيا تؤثر الأعمال الصالحة في سعادة الآخرين، كما أن الأعمال الباطلة لها تأثيرها السلبيّ على حياة الآخرين، ولذا كان أفراد المجتمع في هذه الدار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. 

وأما في الآخرة فيستحيل أن يكون لشخص سهم في عمل الآخر، فلا يعذّب إنسان بسبب ذنوبٍ لم يشارك في حدوثها، ولذا قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾9، ويقول تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾10.

عندما نقول بأنّ الحياة في عالم الآخرة ليست إجتماعيّة فنحن لا نقصد أنّ كلّ شخصٍ هناك يعيش بمفرده ولا يرى أحداً، بل إنّ ما نريده هو أن الترابط،
________________________________________
7- نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام رقم 43.
8- غوالي اللآلي، الإحسائي ص 267.
9- يـس:59.
10- الإسراء: 15.
 
 
187
 

162

شبهة الموت والفناء

 التأثير والتأثر، التعاون والتضاد وغير ذلك مما هو موجود في هذه الدنيا، لا وجود له في ذلك العالم، وإلا ففي الجنة توجد حياة إجتماعية، فالصالحون مجتمعون تسودهم الألفة والمحبة ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾11، والفاسقون تفرقهم الأحقاد والضغائن ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾12


الأمر الثاني: الإرتباط بين عالم الدنيا وعالم الآخرة:

إن بين عالم الدنيا وعالم الآخرة- رغم الإختلاف الذي تقدّم ذكره- إرتباطاً وثيقاً، ذلك أنّنا نحصد غداً في الآخرة ما نزرعه في هذه الدنيا، وهذا ما تحدثت عنه الروايات: فقد ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة: (إنّ الجنة قيعان13 وإنّ غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)14.

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعاناً ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنةً من ذهبٍ ولبنةً من فضةٍ وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم قد أمسكتم؟ قالوا: حتى تجيئنا النفقة، قلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا وإذا سكت أمسكنا)15.
________________________________________
11- الحجر:47.
12- ص:64.
13- قيعان جمع قيعة والقيعة والقاع بمعنى واحد وهو المستوي من الأرض (مجمع البحرين ، ج4، ص385 مادة- قوع) دار ومكتبة الهلال لبنان (معجم مقاييس اللغة مادة- قوع)
14- بحار الأنوار، المجلسي، ج 7 ص 229.
15- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي ج 7 ص 188.
 
 
188
 

163

شبهة الموت والفناء

 الأمر الثالث: أنواع الجزاء:


إن معرفة أنواع الجزاء له الدور الأساس في حلّ مشكلة التناسب في الجزاء الأخرويّ، فأنواع الجزاء ثلاثة:

1ـ الجزاء الإعتباريّ. 
2ـ الجزاء التكوينيّ الطبيعيّ. 
3ـ الجزاء الذي هو تجسّد للذنب. 

1ـ الجزاء الإعتباريّ: 

وإنما أسميناه إعتباريّاً لأنّه عبارة عن مقررات جزائيّة، إمّا إلهيّة وإما بشريّة.

فالحياة الإجتماعيّة للبشريّة متقوّمة بأمرين: 

أحدهما: عامل التربية، لأنّ التربية السليمة تخفض نسبة الجريمة. 

وثانيهما: العقوبة العادلة للمتخلّف.

ولا يكفي أحد هذين الأمرين بمفرده لبناء الحياة الإجتماعية العادلة، فالتربية مع عدم عقاب المجرم لا تكفي لمنع وقوع وتكرّر الفعل المخالف للقانون، ولذلك فإنّ الهدف من الجزاء الإعتباريّ أمران: 

أولاً: الحيلولة دون تكرر الذنب من قِبَل المجرم أو غيره في عقوبة منبّهة وبها يحفظ المجتمع.

ثانياً: تسلية المظلوم وإدخال شيءٍ من الطمأنينة إلى نفسه، لأن الطبيعة الإنسانية تقتضي التشفّي للمظلوم بعقاب الظالم. 

ولكنّ هذا النوع من الجزاء لا يمكن تصوره في عالم الآخرة، لأنه ليس في
 
 
189
 

164

شبهة الموت والفناء

 ذلك العالم مجال لتكرّر الذنب حتى يكون الغرض من العقوبة الحيلولة دون تكرّر الذنب، كما أنّه لا مجال للتشفّي في حقّ الله تعالى لا سيما في العقوبات التي ترجع إلى الحقوق الإلهيّة التي لا ترتبط بحقوق الناس.


2ـ الجزاء الوضعيّ الطبيعيّ:

إن من أنواع الجزاء ما يرتبط بالذنب إرتباط المعلول بعلّته، أي إنّه نتيجة طبيعيّة للذنب، وهو ما يسمى بالأثر الوضعي للذنب.

إن لبعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان آثاراً ذاتية لا يمكن فكّ الارتباط بينها وبين العمل، فمثلا شرب السم لا بدّ أن يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن أن يقال: إن هذا المسكين قد قام بإرتكاب عملٍ صغيرٍ لم يستمر سوى لدقائق فكيف يعاقب بهذا العقاب؟‍! وكذا لو نُبِّه شخصٌ إلى عدم إلقاء نفسه من قمّةِ الجبل بأنّه سوف يموت، فلا يحقّ له أن يعترض متسائلاً عن التناسب بين معاندته وهذا الجزاء الشاقّ.

هكذا الذنوب فإنّ لبعضها آثاراً وضعيّةً ذاتيّةً لا يمكن التفكيك بينها وبين العمل، فالإساءة للوالدين- مثلاً- لها عقوبة لا تنفكّ عنها. وينقل لنا التاريخ في هذا المجال أنّ المنتصر- الخليفة العباسي- سمع أباه المتوكّل يشتم السيدة الزهراء عليها السلام فسأل رجلاً يثق به عن جزاء من يفعل ذلك، فقال له: إن جزاءه القتل، ولكنه نبّهه على أنّ كلّ من يقتل أباه لا يعمّر طويلاً بعده، ولكنّ المنتصر صمّم على قتل والده، فقتله ولم يبقَ حيّاً بعده سوى عدّة أشهر. 

3ـ الجزاء عين العمل (العذاب الأخروي):

إن الإرتباط بين العمل والجزاء الأخرويّ هو إرتباط تكوينيّ، ولكنه أقوى من الإرتباط المتقدم، وهو أعلى من إرتباط العلّة والمعلول والأثر والمؤثر، إذ هو
 
 
190
 

165

شبهة الموت والفناء

 إرتباط الاتّحاد والعينيّة، أي إنّ الجزاء الأخرويّ هو عبارة عن تجسّم الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا، وإلى هذا يشير القرآن في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾16، وقال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾17، وفي آية أخرى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾18، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾19.


فجزاء الآخرة هو تجسّم لأعمال الدنيا، والنعيم والعذاب في ذلك العالم هما نفس العمل الصالح والسيّئ اللذين أداهما الإنسان هنا وقد كُشف عنهما الغطاء فظهرا للعيان.

خلاصة الدرس 
 
1- إنّ رغبة الإنسان في الخلود هي السبب في نفوره من الموت.

2- إنّ حلّ مشكلة النفور من الموت هي بأمور:

أ- الالتفات إلى حقيقة الموت، وأنّه ليس عدماً بل هو إنتقال من عالم إلى عالم آخر.

ب- إنّ الجهاز الذي زوّد به الإنسان دليل على أنّ الموت لا يعني نهاية الإنسان.

________________________________________
16- آل عمران:30.
17- الكهف: 49.
18- الزلزلة:8.
19- النساء:10. 
 
 
191
 

166

شبهة الموت والفناء

 ج- إنّ الدنيا هي دار إمتحان وإختبار إلى عالم أوسع وأرحب.


د- إنّ في الموت توسعة للحياة الإنسانية لأنّ موت فئة من الناس يهيّئ الظروف المناسبة لحياة من سيأتي.

3ـ يتساءل بعض الناس عن العذاب الأخرويّ: ألا يشكل عذاب جهنّم نوعاً من الظلم حيث لا تناسب بين نوع الذنب ونوع العقوبة؟!

والجواب: هو أنّ عالم الدنيا يختلف عن عالم الآخرة بجهات، فعالم الدنيا عالم التغيّر وعالم الآخرة عالم الثبات، وعالم الدنيا عالم مشوب بالموت وأما الآخرة فهي الحياة الأبدية، المصير الدنيوي مشترك وأما في الآخرة فلكلّ إنسان نتيجة عمله. ومن الإختلافات أنّ الجزاء الأخروي هو عبارة عن نفس عمل الإنسان أي إنّ جزاء الآخرة هو تجسّم لأعمال الدنيا، والنعيم والعذاب هناك هما نفس العمل الصالح والسيئ اللذين أداهما الإنسان هنا وقد كُشف عنهما الغطاء فظهرا للعيان. 

أسئلة الدرس 
 
 
1- ما سبب نفور الإنسان من الموت ؟
2- ما هي حقيقة الموت ؟ وما الدليل على أنه ليس النهاية ؟
3- ما هي حقيقة الحياة ؟
4- ما هي فوائد الموت بالنسبة للحياة الدنيا ؟
5- ما هو جواب الإشكال حول عدم التناسب بين الذنب والعقاب الأخروي ؟ 
 
 
192
 

167

الشفاعة

 أهداف الدرس


1- حفظ بعض الآيات الدالة على الشفاعة.
2- القدرة على شرح أقسام الشفاعة وأنواعها.
3- القدرة على بيان الأصول الحاكمة في نظام الكون.
4- بيان علاقة المغفرة بالشفاعة.
5- توضيح ميزان الشفاعة المتناسب مع التوحيد.
6- القدرة على رد الإشكالات الواردة على الشفاعة.
 
 
193
 

168

الشفاعة

 تمهيد: 


من الأبحاث المهمّة التي وقع فيها الخلاف الشديد، والتي لا بدّ من تحقيقها في أبحاث العدل الإلهي، بحث الشفاعة، وهو بحث يتمسك به أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بشدّة، ويستشهدون له ويدافعون عنه بأدلة عقلية، وأخرى قرآنية كقوله تعالى ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾1،﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾2 ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾3 ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾4، وآيات أخرى تفيد هذا المضمون. 

ويقف على طرف النقيض المذهبُ الوهابيّ، الذي يحمل على فكرة الشفاعة بكلّ شراسة، ويعيب على مذهب أهل البيت فكرتهم هذه، ويطرح كلَّ ما يملك من إعتراضات وإشكالات. 
________________________________________
1- مريم: 87.
2- طه:109.
3- سبأ: 23.
4- الزخرف: 86.
 
 
195
 

169

الشفاعة

 ونحن في هذا البحث سوف نتناول مسألة الشفاعة بشكل موضوعي، متعرّضين لما يُقبل ولما يُنكر منها، ثم نختم بالإعتراضات الموجَّهة إليها، مجيبين بما يقتضيه المنطق الصحيح، وما يكون شافياً للقارئ الكريم.


أقسام الشفاعة:

هناك قسمان يمكن تصورهما للشفاعة: 

القسم الأول: الشفاعة المرفوضة:

عندما يضعف القانون في المجتمع نجده لا يطبّق إلا على الضعيف، أمّا القويّ فإنّه يمتلك من القوة ما يجعله أقوى من القانون وفوقه. وعادة ينفذ القويّ من تطبيق القانون من خلال نقاط ضعفٍ أهمّها ثلاثة:1- المال، 2- الوساطة، 3- القوة. والشفاعة إذا كانت بمعنى أن يجد المجرم وسيلةً من هذه الوسائل بحيث يحول من خلالها دون تطبيق الحكم الإلهي- كما يظنّ كثير من الناس أنّ شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام هي من هذا النوع، وكما هو الفهم البدوي البسيط- فهي مرفوضة5 بلا أدنى شك. 

وقد نفى القرآن الكريم أن يتأثر القانون الإلهي بشيء من هذه الثلاثة، فلا مال يمكن أن يفدي من عذاب، ولا تجزي نفس عن نفس، أو تكون شفيعة لها، ولا قوة ولا نصرة لأحد على القانون يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾6، والمراد بالعدل في هذه الآية هو المال.

ويشهد تاريخ الإسلام على مدى قوة القانون وعدم ضعفه أمام هذه العوامل
________________________________________
5- وسيأتي توضيح كيفية شفاعة الأئمة.
6- البقرة: 48.
 
 
196
 

170

الشفاعة

 الثلاثة، وأنه كان يطبَّق حتى على أقارب الحكّام، وذلك بمراجعة بسيطة لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.


فقد ورد عن علي عليه السلام التأكيد على أن العقوبة لا تستثني أحداً: (والله لو أنّ الحسن والحسين قد ارتكبا هذا الخلاف لم أرفق بهما)7.

من هنا فالذي يظنّ بأن الظفر برضا الله يمكن تحصيله عبر البكاء على الإمام الحسين عليه السلام بدون فعل الواجبات وترك المحرمات- بحيث يأتي الحسين عليه السلام يوم القيامة فيشفع له كي تُمحى ذنوبه، إن صاحب هذا الظنّ يمتلك تصوراً باطلاً للشفاعة، بل إنّ هذا التصور هو إهانة لشخصية الإمام الحسين عليه السلام، لأن الحسين عليه السلام لم يستشهد لأجل إضعاف القوانين الإلهية، وتكون إرادته في مقابل إرادة الله، ولا شريعته في مقابل شريعة جدّه، وإنما لأجل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإحياء الفرائض والسنن. 

وهكذا فمن يظنّ أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء والأئمة عليهم السلام لهم نفوذ في الساحة الإلهية، وهم يستغلّون نفوذهم لتغيير إرادة الله ونقض ومعارضة قوانينه، واهمٌ ومخطئٌ، وهو مثل الجاهليين من العرب الذين كانوا يظنون أن للأصنام قدرةً على الشفاعة، وتقرّبهم إلى الله زلفى، وقد وصفهم الله بالمشركين رغم أنّهم لم ينسبوا إليها خلق العالم، إذ يكفي أنّهم يقولون بأنها تشارك الله في إدارة الكون، والتدخل في معارضة القوانين الإلهية. 

إن هذا القسم من الشفاعة المنحرفة مرفوض لا يقول به أحد، وهو يؤدي إلى الشرك في الربوبية والتدبير الإلهي، وهذا القسم يتنافى مع القانون ولا يمكن تعقّله في حقّ القانون الإلهي.

________________________________________
7- نهج البلاغة: الرسالة 41.
 
 
197

171

الشفاعة

 القسم الثاني: الشفاعة المقبولة:


وهي الشفاعة التي لا تتنافى مع القانون، بل تحفظه، وتقيم حدوده. وهناك الكثير من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام ومن طريق أهل السنة تثبت هذه الشفاعة الصحيحة، وهي على نوعين: 

1ـ شفاعة (العمل) أو شفاعة (القيادة). 

2ـ شفاعة (المغفرة) أو شفاعة (الفضل).

النوع الأول: شفاعة القيادة:

فهو الموجب للنجاة من العذاب ونيل الحسنات وعلوّ الدرجات، وتوضيح هذا النوع:

قد تقدّم في بحث سابق- عند الحديث عن العذاب الأخروي- أنّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان تتجسد في الآخرة، أي أنّ حقيقة العمل تظهر للعيان، ونضيف هنا أنّ التجسّم لا يقتصر على العمل، بل العلاقة المعنوية بين الناس في هذه الدنيا تتحوّل في الآخرة إلى صورةٍ واقعيةٍ أيضاً.

وعليه فإذا كان إنسانٌ ما سبباً لهداية شخصٍ آخر، فإنّ رابطة الهداية هذه تتحوّل يوم القيامة إلى صورةٍ يكون فيها الهادي بصورة القدوة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾8، أي أنّ كلّ إنسان يحشر مع قدوته الذي كان سبب هدايته في العمل، ومن هنا تسمية هذه الشفاعة بشفاعة العمل، لأن العمل هو العامل الأساس الذي يوجب النجاح أو الخيبة، ويمكن تسميتها بشفاعة القيادة، لأن كلّ أمة تأتي ويقدمها قائدها وإمامها الذي تتبعه.
________________________________________
8- الإسراء: 71 
 
 
198
 

172

الشفاعة

 كما ويحدث هذا الأمر أيضاً في الجهة الأخرى، أي في حالة الضلال والإضلال، كما يقول تعالى في شأن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾9، هكذا يظهر فرعون بصورة شفيع وواسطة لقومه الذين اتبعوه خطوةً خطوة ليدخلهم إلى جهنم. 


فالشفاعة في معناها الأول تعني القيادة، ويكون الرسول حينها شفيعاً لأمير المؤمنين عليه السلام ولفاطمة عليها السلام، وهما شفيعين للحسنين عليهما السلام وكل إمام شفيعاً للإمام الآخر، وكذلك العلماء هم شفعاء لمن يهتدي بهم.

بناءً عليه، فإنّ ما ورد من روايات أن الإمام الحسين عليه السلام سيشفع لكثير من الناس يكون تفسيره أنّ المدرسة الفكرية للإمام الحسين عليه السلام هي السبب في إحياء الدين وهداية كثير من الناس في هذه الدنيا للعمل على نهجه وخطه، فيكون شفيعاً بهذا المعنى وقائداً لهم يوم القيامة، نعم للحسين عليه السلام شفاعة أخرى وهي:

النوع الثاني: شفاعة المغفرة: 

ويقصد منها الشفاعة لأجل غفران الذنوب. والشفاعة بهذا المعنى هي التي أصبحت هدفاً للمنتقدين، وهي محلّ النزاع والخلاف بين مذهب أهل البيت عليهم السلام ومنكري الشفاعة.

ويتوقّف ردّ الإنتقادات المطروحة حول النوع الثاني من الشفاعة، أي شفاعة المغفرة، على بيان أمور: 
________________________________________
9- هود:98
 
 
199

173

الشفاعة

 غلبة الرحمة في نظام الكون: 


إنّ لصفة الرحمانية السبق في الصفات الإلهية، فقد ورد في بعض الأدعية: (يا من سبقت رحمته غضبه)، فالرحمة والسعادة هما الواقع الحقيقي في نظام الوجود، وما عداهما من كفرٍ وفسقٍ وفجورٍ أمورٌ عارضةٌ غير أصيلة، ولذا فهذه الأمور سوف تنزوي بسبب جاذبيّةِ الرحمة. وليس الإمداد الغيبي والتأييدات الرحمانية إلا شواهد قاطعة على أسبقية الرحمة وغلبتها على الغضب الإلهي، وتتجلّى هذه الصفة العامة من خلال عدّة أصول حاكمة في نظام الكون: 

أصل التطهير:

من مظاهر رحمة الله وجود التطهير في نظام الوجود، والتطهير في الكون يشمل عالمين:

1ـ عالم الطبيعة والمادة: ومن مظاهر ذلك إمتصاص النباتات والبحار لغاز ثاني أكسيد الكربون من الجوّ لتصفيته، ولو تلوّث الجوّ ولم يكن ثمّة مصفاة أو مطهّر لفقدت الأرض صلاحيتها للحياة قاطبةً.

2ـ عالم المعنويات: والمغفرة هي عبارة عن تطهير القلوب والأرواح من آثار الذنوب، طالما هي تقدر على إزالة وغسل درن الذنوب، وإلا فإن بعض القلوب قد صدىء ولا تقدر المغفرة على أن تؤثر فيه لانعدام قابليته للتطهير وللتأثُّر، ولذا يعبر القرآن عن بعض الحالات بالختم، قال تعالى: ﴿خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾10
________________________________________
10- البقرة: 7.
 
 
200
 

174

الشفاعة

 أصل السلامة: 


إنّ من شواهد غلبة الرحمة على الغضب في نظام الكون، هو أن السلامة والصحة هي الأصل دائماً في الكون، وهذا الأمر نلاحظه في العالمين أيضاً:

1- في عالم المادة: فنجد أن المرض هو الحالة الطارئة والتي تأتي ثم تزول، وكذلك نلاحظ خصوصيةً في جسم الإنسان وهي قابليّته لترميم العظام فيما لو حصل كسرٌ ما، ووجود جهاز المناعة في الجسم من أي عنصر أو عامل غريب يدخل إلى الجسم. 

2- وأمّا في عالم المعنويات: فتنصّ الروايات على كون الأصل في الإنسان هو السير في طريق الخير والهدى، ففي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)11.

أصل شموليّة الرحمة:

إن المغفرة ليست ظاهرة إستثنائية، وإنما هي قانون كليّ مستنتج من غلبة الرحمة في نظام الوجود. فالرحمة الإلهية تشمل جميع الموجودات في الكون في حدود قابلياتها. ونحن نشاهد أن أقرب الناس إلى الله، أي الأنبياء والأئمة عليهم السلام، يطلبون من الله أن يرحمهم برحمته، وهذا يشهد على شمول أصل الرحمة وعموميته، كلّما كان الإنسان أقرب إليه تعالى كانت قابليته وقدرته على الاستفادة من أصل الرحمة أكبر وأكثر، ويستضيء بنور الرحمة وأسماء الله الحسنى وصفاته الكمالية بشكل أفضل. 
________________________________________
11- بحار الأنوار، ج 2 ص 88.
 
 
201
 

175

الشفاعة

 علاقة المغفرة بالشفاعة:


من خلال ما تقدّم يمكن أن نستنتج التالي: إن الرحمة والمغفرة هي من القوانين الإلهية في هذا الكون، وهنا نقول إن هذه الرحمة الإلهية لا بدّ أن تصل إلى المخطئين والمذنبين، لكن ينبغي أن يكون للرحمة قانون وسبيل تسير عليه.وبضمّ ما تقدم منا في أبحاث سابقة 12من أن التفاوت والإختلاف في هذا العالم ذاتي لا اعتباري، وأنه لا بدّ منه في هذا الكون، نفهم قانون هذه الرحمة، وأنها تشمل المذنبين والمخطئين لكن ليس مباشرةً، وإنما بعد أن تمرّ بالأنبياء والأولياء وأصحاب الأرواح الكبيرة، وهذا أمر من لوازم وجودِ نظامٍ في هذا الكون.

ويمكن توضيحه بملاحظة مسألة الوحي والنبوّة، فإنّ إرسال الله للرسل هو من مظاهر الرحمة الإلهية، ولكن لا يمكن أن يكون الناس كلّهم أنبياء، فلا بد من وجود خاصة من الناس يكونون هم الواسطة في نزول الرحمة الإلهية بالوحي، فكذلك الرحمة والمغفرة الإلهية لا بدّ وأن تتمّ عبر واسطة، لأن هذا ما يفرضه نظام الكون، فالشفاعة إذاً هي إحدى مظاهر الرحمة الإلهية، وهي رحمة إلهية تتمّ بواسطة شفعاء هيّأهم الله لما لهم من صفات الكمال، وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

فالمغفرة هي الشفاعة مع فارقٍ في التسمية لجهة النسبة فقط، فإنها إذا نُسبت إلى منبع الخير والرحمة سمّيت (بالمغفرة)، وإذا نسبت إلى وسائط الرحمة سمّيت (بالشفاعة).
________________________________________
12- عند البحث في الفصل الثاني من كتاب العدل الإلهي، (وقد أدرجناه في موضوع مستقلّ من هذه السلسلة تحت عنوان: (الاختلاف والترجيح)).
 
 
202
 

176

الشفاعة

 النتيجة:


يظهر مما تقدّم الفرق بين الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة، فالشفاعة المقبولة تبدأ من الله لتصل إلى المذنب، وأما الشفاعة المرفوضة فهي على العكس، ذلك أن المجرم هو الذي يدفع الشفيع للشفاعة، وهذا ما نجده في القوانين الضعيفة في هذه الدنيا، حيث يقع الشفيع تحت تأثير المشفوع له (المذنب) لسبب من الأسباب التي ذكرناها. 

من هو الشفيع والوسيلة؟

التوسّل لا بدّ أن يكون بمن جعله الله وسيلة لذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾13.

لقد جعل الله في هذا العالم لكل شيء سبباً، ولا بد للتوصل إلى المسبَّب من المرور عبر السبب الخاص به. وفي حياتنا المادية نتوسّل بالأسباب الظاهرية لتوصلنا إلى مطلوبنا، وكذلك الحال بالنسبة للأمور الأخروية والمعنوية، فإنه لا بدّ أن نتوسّل بأسبابها لكي توصلنا لنيل الرحمة الإلهية. وهذه الأسباب إنما نعرفها بالرجوع إلى الكتاب والسنّة، وهذا عين التوحيد، ولا يعدّ شركاً أبداً، لأن الله هو الذي جعل هذه الأمور أسباباً، وهو الذي أمرنا بالرجوع إليها، والرجوع إليها ليس إلا إنصياعاً لأوامره تعالى وليست من الشرك في شيء.

ولذا ينبغي الالتفات إلى أن لا يكون التوجّه الأساسيّ إلى نفس هذه الوسائل بل إلى الله حتى لا نقع في الشرك في العبادة.

وينبّه القرآن الكريم إلى هذا الأمر فيطلب من المسلمين أن يسألوا المغفرة من الله ثم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله
________________________________________
13- المائدة: 35.
 
 
203
 

177

الشفاعة

 وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً﴾14.


فالشفاعة من الله، وبإذن الله، ومن الأسباب التي جعلها الله في عالم المعنويات، فالتمسك بها لا يكون إبطالاً للقوانين الإلهية وإنما هو عمل بها، ولا يكون رداً على الله وإنما هو إطاعة له، ولا تكون نافية لإرادته لأن إرادته بالرجوع إلى الشفيع الذي هو جعله وأبرز مقامه لسعة وعلوّ روحه.

إعتراضات على الشفاعة:

وبعد أن أنهينا البحث عن الشفاعة لا بأس بالتعرّض للشبهات التي تطرح هنا وهناك وتوجّه إلى القائلين بالشفاعة، لنرى أنّ بعض هذه الاعتراضات ناشئ من عدم فهم حقيقة الشفاعة، والبعض الآخر أصبح الردّ عليه واضحاً ممّا تقدم:

الأول: إنّ الشفاعة تتنافى مع التوحيد في العبادة، والاعتقاد بها نوع من أنواع الشرك.

الثاني: إن القول بالشفاعة يتنافى مع التوحيد الذاتي لأنه يلزم منه أن يكون الشفيع أكثر رحمةً ورأفةً من الله، إذ لولا الشفيع لعذّب الله المذنب.

وجوابهما: إن الشفاعة لا تتنافى مع التوحيد في العبادة ولا التوحيد الذاتي أبداً، لأنّها بإذن الله ولمن ارتضى الله قولَه، لا أنها مستقلّة عنها أو في عرضها وجانبها، كما أنّ رحمة الشفيع أشعة من الرحمة الإلهيّة، فهي منبعثة منها فلا تكون أكبر من رحمة الله.

الثالث: إن الاعتقاد بالشفاعة يدفع النفوس المريضة إلى التجرّي وإرتكاب الذنوب. 
________________________________________
14- النساء: 64.
 
 
204
 

178

الشفاعة

 والجواب: إنّ هذه النتيجة لا يصحّ إستنباطها وفهمها من الاعتقاد بالشفاعة، فهي لا تدفع الإنسان نحو التجرّي، لأنّ بعض شروطها بقي طيّ الكتمان، فلا يعلم الإنسان المذنب هل حقق شروط الشفاعة أم لا؟


نعم هي تحيي الأمل لديه في نيل الرحمة الإلهية، ويكون أثر الشفاعة إنقاذ النفوس من اليأس، فيحيا متأرجحاً بين الخوف والرجاء، وهذا هو المطلوب من الشفاعة ومن الإنسان المؤمن. إضافة إلى أن حال الشفاعة حال التوبة فكما أن التوبة في الحياة الدنيا ولو آخر العمر لا تستلزم الجرأة على الذنوب فكذلك الشفاعة.

الرابع: لقد نفى القرآن الشفاعة يوم القيامة إذ يقول: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾15

والجواب: إن الآيات التي وردت في الشفاعة على نوعين، مثبتة ونافية. وقد ذكرنا- تحت عنوان العقل والقرآن والروايات- آياتٍ قرآنيةً تثبت الشفاعة لبعض الناس الذين يتحلّون بصفات معيّنة ذكرتها الآيات. وهذه الشفاعة لله سبحانه أعطاها لبعض عباده. وأما الآيات النافية فقد أرادت أن تنفي الشفاعة الباطلة لا الشفاعة الحقّة.

الخامس: تتنافى الشفاعة مع ما أسّسه القرآن من أن سعادة كلّ امرئ مرهونة بعمله، إذ يقول سبحانه: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾16

والجواب: هذه الآية وإن كان ظاهرها الحصر إلا أنه توجد في مقابلها آيات الشفاعة بحيث لا بد من الجمع بينهما، وتكون النتيجة أن العمل جزء العلة، وبذلك يتبين أنه (لا تتنافى الشفاعة مع العمل، لأن العمل هو جزء العلّة المنفعلة
________________________________________
15- البقرة: 48.
16- النجم: 39.
 
 
205
 

179

الشفاعة

 القابلة، ورحمة الله جزء العلّة الفاعلة)، وبتعبير آخر: إنّ الإنسان مرهون بعمله، لكن ليس العمل علة تامة لدخول الجنة، وإنما العمل جزء العلة التي تؤثر في دخول الجنة، فهو بحاجة أيضاً إلى الرحمة الإلهية فهي العلة المؤثرة والأساس، ومن مظاهر رحمة الله وممّا يصدر عنها الشفاعة التي تحدّثنا عنها.


كما أن الشفاعة لا بد لها من سعي كما تقدم في شروط الشفاعة فتندرج ضمن السعي المذكور في الآية17

السادس: إن لازم الاعتقاد بالشفاعة وقوع الله تحت تأثير الشفيع، فيحوّل غضبه سبحانه إلى رحمة، مع أن الله لا ينفعل ولا يتغيّر حاله، ولا يؤثر فيه شيء. 

والجواب: لا يقع الله تحت تأثير أحد في الشفاعة، بل الشفاعة تبدأ من الله لتصل إلى الإنسان، والله هو الذي جعل الشفيع شفيعاً، وهو لا يثبت الشفاعة إلا لمن يرتضي قوله، أو يقول صدقاً، أو حقاً. 

السابع: إن الشفاعة لون من ألوان إقرار الترجيح والإستثناء واللاعدالة، فممّا لا شك فيه أنّ الشفاعة لا تشمل جميع المذنبين، وإلا فقدت معناها، فكيف يمكن تقسيم المجرمين إلى قسمين: فئة تنجو من العقاب لأنها تملك الواسطة والوسيلة، وأخرى تقع تحت طائلة العقاب لأنها لا واسطة لديها تشفع لها؟! وكيف يمكننا تصور هذا مع العدل الإلهي؟! ويمكن صياغة هذا الإعتراض بطريقة علميّة: إن سنّة الله كلية لا تبديل فيها، والقوانين الكلية ترفض الإستثناء، وليست الشفاعة إلا إستثناء من قوانين الله.

والجواب: لا إستثناء في الرحمة الإلهية، وإنّما الشفاعة لا تنال بعض الناس
________________________________________
17- إن عبارة الشهيد في الجواب على هذه الشبهة مختصرة وغامضة، وقد وضعناها بين مزدوجين، وأما توضيحها فهو تصرّف من المحرّر.
 
 
206

180

الشفاعة

 لأنه لا قابلية له لنيل الشفاعة الإلهية، فيما تنال آخرين لأنهم حققوا شروطها، ولا سيما الشرط الأساس وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. فالشفاعة تسير ضمن القوانين الإلهية ومعها، بل هي من قوانين الرحمة الإلهية العامة والشاملة، ولكن لها شروطها وضوابطها، فمن يحقق الشروط ينالها ومن لا يحققها يحرم منها لقصور فيه لا لضعف في القانون أو لإستثناء في القانون.


الثامن: لماذا جعل الله بعض الناس شفعاء، وآخرين مشفوعاً لهم؟ أليس هذا ترجيحاً في نظام الكون؟!

والجواب: نعم هذا ترجيح في نظام الكون، ولكنه ضروري وذاتي، إذ لا بد من هذا الترجيح18، وبما أنه كذلك فالذي يتحلى بصفات سامية وروح عالية يستحق أن يكون شفيعاً، ومن لا يحمل هذه الروح وتلك الصفات إما أن يحقق شروط الشفاعة فيشفع له، وإما أن لا يحققها فلا يستحق الشفاعة وليس عنده القابلية لها.

خلاصة الدرس 
الشفاعة على نحوين:

أ- الشفاعة المرفوضة: والتي تعني أن يجد المجرم وسيلة يحول من خلالها دون تطبيق الحكم الإلهي. 

ب- الشفاعة المقبولة وهي:

1ـ إما شفاعة العمل والتي تعني أن الهداية التي تتحقق من قبل الإمام تظهر
________________________________________
18- وقد بيّنّا ذلك عند البحث في الفصل الثاني من كتاب العدل الإلهي، (وقد أدرجناه في موضوع مستقلّ من هذه السلسلة تحت عنوان: (الاختلاف والترجيح)). 
 
 
207
 

181

الشفاعة

 يوم القيامة، كما أن الضلال الذي يتحقق من أهل الباطل يتجسّم يوم القيامة.


2ـ وإما شفاعة المغفرة من الذنوب، وتبتنى على أساس الرحمة الإلهية التي هي من القوانين الحاكمة في هذا الكون، فهذه الرحمة إن نُسبت إلى الله سميت مغفرة وإن نُسبت إلى أهل الشفاعة سميت شفاعة.

3ـ إن السبب في حرمان بعض الناس من المغفرة الإلهية هو عدم وجود قابلية لهم لذلك.

4ـ إن التوسل لا بد وأن يكون بمن جعله الله وسيلة لذلك، ولذا لا يكون التوسل شركاً لأنه من التمسك بالأسباب الإلهية.
 
 
 
أسئلة الدرس 
 
1- ما هي الشفاعة المقبولة؟ 
2ـ هل تتنافى الشفاعة مع التوحيد؟
3ـ ما هي الشفاعة المرفوضة؟
4ـ لماذا يحرم بعض الناس من الشفاعة الإلهية؟ 
5- كيف لا يكون التوسل شركاً؟
 
 
 
208

182

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

الوحي
المعجزة والنظريـّات التعليليـّة
المعجزة الخاصّة
 
 
 
209

183

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 أهداف الدرس


1- إثبات وجود حاجة إلى الرسالة.
2- القدرة على برهان عدم كفاية العقل لهداية الإنسان.
3- القدرة على شرح المناهج المختلفة في إثبات النبوّة والفرق بينها.
4- القدرةعلى نقد المنهج الإنّي في اثبات النبوّة.
5- اكتساب القدرة على عرض الشبهات في إختيار الأنبياء وردها.
 
 
211
 

184

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 تمهيد


النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة عند المسلمين، والأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ويفهم العرفُ النبوّة بأنَّ أفراداً من البشر يشكلون واسطةً بين الله وسائر الناس، يتلقون الأوامر من الله ويبلِّغونها لهم. ومن هذا الفهم والتصور تنشأ عدة تساؤلات تعتبر مفتاح أبحاث النبوّة:

- هل الإنسانيّة بحاجةٍ إلى مثل هذه العمليّة (التوسطية)؟ 
- على فرض أنها ضرورة، فهل هي الأسلوب الوحيد أم أنه توجد سُبُلٌ أخرى لتلقّي تعاليم السماء؟
- ما هي علة هذه الضرورة؟ فهل أنه بدونها تختلّ الحياة الإجتماعية الدنيوية فقط، أم الأخروية فقط، أم أنه من دون الاقتداء بتعاليم السماء والإلتزام بأحكام الله ستختل كلا الحياتين معاً؟

وهكذا نجد أنفسنا في خضمّ البحث عن الحاجة إلى الأنبياء والرسل، ومنشأ هذه الحاجة.
 
 
213
 

185

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 الحاجة إلى الرسالة 


إنّ الإيمان بالآخرة، وأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت وإنما هناك نشأةٌ وحياة أخرى، ونحو آخر من الرزق والسعادة والشقاء، يدفع الإنسان للبحث عن تحديد الأشياء النافعة والضارّة للسعادة الأخرويّة.

ولا يزال العلم والعقل الإنسانيّ- مع كلّ التقدُّم الذي أحرزه- عاجزاً عن الوصول بنفسه إلى عالم ما بعد الموت، ولا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحوٍ قاطعٍ، فجاء الأنبياء عليهم السلام أنفسهم وأخبروا عن أصل وجودها، وأوضحوا نهج السعادة ونهج الشقاء فيها، وبذلك تصبح الحاجة إلى النبوّات ثابتةً، قطعيّةً، لا مجال للنقاش فيها.

ولم يقتصر إهتمام القرآن على الآخرة وحدها، بل كانت الحياة الدنيا من أهداف الأنبياء عليهم السلام أيضاً. فقد أكّد القرآن الكريم على أنَّ العدالة من ضرورات الحياة البشريّة، وأنّ وجود الأنبياء عليهم السلام ضروريّ لازِمٌ لبسط العدالة، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾1

إن الحياة الإجتماعيّة للإنسان تتعلَّق بشرط يتمثّل بوجود الإيمان. فالإنسان لا يستطيع أن يدير حياته الاجتماعيّة إذا بقي في إطار حالته الطبيعيّة والغريزيّة، التي تملي على كلّ فرد من أبناء البشر أن يفكّر في منفعته الشخصيّة فقط، وأن يقدّم منفعته الخاصّة على المصلحة الاجتماعيّة. 

إذاً هو بحاجة إلى الإيمان الذي يهيمن على وجوده، ويستطيع من خلاله أن يحترم القوانين والأخلاق، التي تعدّ ضرورية من أجل المصالح الاجتماعيّة
________________________________________
1- الحديد / 25.
 
 
214
 

186

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 وإدارة الحياة الإنسانيّة، سواءً كانت من قِبَل الله أو من قِبَل الناس، ولكن بشرط أن تكون أصولها من عند الله.


وقد بُعث الأنبياء عليهم السلام لينهضوا بالمهمّتين معاً، فهم يهدون الإنسان ويرشدونه نحو المصالح الإجتماعيّة، وفي الوقت ذاته يجعلونه- وربما كانت هذه هي الوظيفة الأهمّ- مسؤولاً عن أن يمكّن قوّة معيّنة بإسم "الإيمان" للهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع- بحكم هذه القوّة أو القدرة- أن ينفّذ المصالح الإجتماعيّة، وأن يسعى وراء كلّ ما يشخّص أنَّه مصلحةٌ اجتماعيّة، أو مصلحة روحيّة ومصلحة أخرويّة من خلال معرفة الهدف من وجود الإنسان وتحديد الطريق الموصل إلى الهدف سواء كان هذا التشخيص للمصالح الاجتماعيّة بحكم الوحي، أم العقل، أم العلم.

ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنَّه لولا وجود هذه السلطة للدين والأنبياء عليهم السلام لإندثرت البشريّة، إذ كانت ستأكل نفسها، وتدمّر وجودها بذاتها.

العقل والأنبياء عليهم السلام

وإن قيل إنه لا يصح فرض أن الإنسان ينطلق وراء مصالحه الشخصيّة على حساب مصالحه الإجتماعيّة، لأنه كما هو مزوَّد بغريزة حبّ الحياة وإرادة العيش، فإنَّه مزوَّدٌ أيضاً بالعقل الذي يصحّح له مسيره كلّما إتَّجه نحو الإنحراف عن المسار الصحيح والسليم، وبه يستغني عن العامل الإضافي- النبوات- الذي يمارس دور الهداية والتحذير.

قلنا في مقام الجواب: إنَّنا لا ننكر وجود هذا العقل في الإنسان، ولكن نحن نشاهد بالحسّ والوجدان أنَّ الكثيرين من البشر قد إنساقوا وراء غرائزهم، وأهملوا تعليمات وإرشادات عقولهم. ولا أظنّ أنَّ أحداً يمكنه أن يتنكّر لهذا
 
 
 
215
 

187

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

  الأمر.ومن ثَمّ يبقى الإنسان بحاجةٍ إلى مَنْ يهديه إلى مصالحه الإجتماعيّة فيما لو تركها سعياً وراء منافعه الفرديّة الضيّقة. وهذا لا يعني أن الأنبياء عليهم السلام قد بعثوا من أجل تعطيل العقل الإنسانيّ ودفعه إلى الركود، ولم يكونوا بديلاً للعقل، بل على العكس تماماً، فقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها. 


المناهج في إثبات النبوّة

قد يقال: إنَّه لا وجود لما ذكرتموه من حاجة البشريّة إلى النبوّة والأنبياء، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى الدين الذي يأتي به هؤلاء من عند الله.

وقد يرى البعض أنّه ليس من الصحيح أن نستدلّ على ضرورة النبوّة بحاجة البشريّة، وبعبارة أخرى: من غير الصحيح أن نقول: لمّا كانت البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة فلا بدّ أن يكون هناك أنبياء في العالم، إذ ليس من الضروريّ أن يوجد في العالم كلّ ما تحتاج إليه البشريّة، وإنْ كانت الحاجة واقعيّة.

وهنا يتحتّم علينا أن نستعرض مناهج البحث في مقولة الحاجة.

وقد ذُكر في ذلك منهجان: المنهج الكلاميّ، والمنهج الفلسفِيّ.

1- المنهج الكلاميّ في إثبات النبوّة 

أ- إنكار نظام العليّة: يذهب المتكلِّمون2 إلى وجوب نسبة كلّ شيءٍ إلى الله مباشرةً وبلا واسطةٍ، ويظنون أنَّ الإلتزام بنظام العلّيّة هو ضربٌ من التحديد لله، فلذا نجدهم يرفضون نظام العلّية- وأما ما يحفل به الوجود من نظام فهو تقريباً أمرٌ شكلِيٌّ تشريفِيٌّ.
ب- مقتضى الحكمة فعل المصلحة: ويقول من يؤمن بالحسن والقبح منهم:
________________________________________
2- المعروف نسبة هذا القول إلى جهم بن صفوان، والأشاعرة، والنجاريّة- راجع ارشاد الطالبين- المقداد السيوري- ص263 (منشورات المرعشي، قم) راجع الملل والنحل للسبحاني، ج2- ص113.
 
 
216
 

188

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 ما دام الله حكيماً فلا يصدر منه فعلٌ إلاّ طبق المصلحة، فما هو حسن يجب عليه فعله، بمقتضى حكمته، وإلاّ أضرّ ذلك بحكمته، وما هو قبيحٌ ينبغي له أن لا يفعله، وإلاّ كان ذلك طعناً في حكمته.


ولكن هذا النهج من الاستدلال ليس صحيحاً، سواء لجهة إنكار نظام العلّيّة، أو لجهة وضع قاعدة وقانون يتحكّمان بالله، ويضبطان فعله، إذ معنى أن نقول: "ينبغي له أن يفعل"، أو "ينبغي له أن لا يفعل"، تحديدُ دافعٍ للفعل الإلهِيّ، وهذا ما يتنافى مع واجب الوجود، الذي لا يخضع لتأثير أيّ علّةٍ مهما كانت، مضافاً إلى أنّ الحسن والقبح اللذين ندركهما، ما هما إلا أمور إعتبارية بمعنى أنها تصدق في نطاق الحياة البشرية فقط لا غيرها.

2- المنهج الفلسفيّ اللمّي في إثبات النبوّة 3

يعتمد الفلاسفة على مقولة الاحتياج التي تعد قانوناً طبيعياً، فيذهبون إلى أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم قابليّته للوجود، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة للوجود فلا بُدّ أن يوجَد.

ويطبق هذا المنهج ضمن مقدمتين على مسألة النبوّة:

أ- إنّ النبوّة ممكنةٌ، بمعنى إمكان إتّصال الإنسان بالعالم الآخر، حيث يُلقى إليه من هناك الإلهام والغيب، وهذا ما يذكر برهانه في طيّات الحديث عن حقيقة الوحي.
ب- إنّ البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة، والنبوّة ضربٌ من الخير والسعادة والكمال، ويؤدّي عدم وجودها إلى ظهور فراغٍ وجوديّ لدى البشر يفضي إلى اضطراب 

________________________________________
3- وهو المنهج الذي نتبنّاه، وعبَّرنا عنه من خلال طرح مقولة الحاجة، التي تُعدّ في ذاتها قانوناً، بل قانوناً طبيعيّاً، وهذا برهان لمّي ينطلق من الله وصفاته إلى ضرورة وجود النبوّة، أي من العلة إلى المعلول.
 
 
217

189

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 عامّ في الحياة الإنسانيّة.

 


ومن هاتين المقدّمتين نصل إلى ضرورة وجود النبوّة في نظام العالم.

ونلاحظ أن هذا المنهج لا يتحدّث عن تكليف الله، بل يقول الفلاسفة (حكماء الإسلام): إنّ الله فاعلٌ تامٌّ، ولا يمكن أن يمتنع الفيض من ناحيته، فلا مجال للبخل في ذاته كي يمنع الفيض، لذلك إذا ما كان لشيءٍ في نظام الوجود إمكان الوجود، وإمكان الديمومة، فسيُفاض عليه الوجود من قِبَل الله.

ولهذا المنهج أصول قرآنيّة، فقد قال تعالى، في معرض إنتقاد منكري النبوّة والوحي: ﴿وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾4.

فهو يقول: إنّ مَن عرف الله حقّ قدره لا يمكنه أن ينكر أنّ الله قد أنزل الوحي على أشخاص معيّنين، وهم الأنبياء عليهم السلام.

وهذا استدلال بالله على وجود النبوّة والوحي.

3- المنهج الإنّي في إثبات النبوّة5

قد يُدعى أنّه إذا لم نستطع إثبات حاجة الخلق إلى النبوّة بالبرهان اللمّيّ- أي عن طريق الاستدلال بالعلّة على المعلول- فإنَّنا نستطيع ذلك عن طريق الاستدلال بالبرهان الإنّي، أي بالمعلول على العلّة.

وبيان ذلك: أننا نرى في الخارج أموراً لا نشكّ في وجودها وتحقُّقها، وعندما نبحث عن مصدر هذه الأمور نجد أنَّه لا يمكن أن يكون مادّيّاً وعاديّاً، إذ لهذه الأمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرها إلهيّاً، وبحسب تعبيرنا ما وراء الطبيعة.
ومثال ذلك: غرائزُ الحيوانات، وأمثلتها كثيرة جداً، فالهدايةُ الموجودة في
________________________________________
4- الأنعام / 91.
5- وهي نظرية المهندس بازركان، ذكرها في كتابه (الطريق المطوي).
 
 
218
 

190

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

  الحيوانات لا يمكن أن يكون لها منشأ غير الإلهام الإلهيّ.


وقد أكّد القرآن هذه الفكرة بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾6.

وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم، والاكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي لا بُدّ وأن نذعن بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.

وكذا نرى لتعاليمهم التطابق الكامل مع مصالح العباد، ومع شؤون البشريّة كافّةً، بخِلاف تعاليم العلماء والفلاسفة، الذين كانوا يظهرون بين فترةٍ وأخرى، حيث كانت ناقصةً. وهذا الكمال لا يُعقل أن يكون نتاجاً لفردٍ عاديٍّ، كما لا يمكن أن يكون ناتجاً عن التعليم، أو التجربة، أو عن طريق النبوغ وما يحظى به إنسانٌ ما من تفوُّقٍ على الآخرين.

إذاً فهذه التعاليم التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام خارجةٌ عن مقدّرات العقل الإنسانيّ ومعطيات الفكر الإنسانيّ، فيجب عندئذٍ الإيمان بوجود الإلهام.

وهذا السبيل هو نفسُه النهج الذي سلكته الآيات.

مقوّمات النظريّة ونقدها

إن هذه النظريّة تعتمد على جملةٍ من المقدِّمات7، وهي:

1- لقد نهض الأنبياء عليهم السلام على الدوام ضدّ الإتّجاه الحاكم في مجتمعاتهم.

وهذه الفكرة صحيحةٌ، غير أنَّ هذا لا يختصُّ بالأنبياء عليهم السلام وحدهم، بل إنَّ 
________________________________________
6- النحل / 68.
7- ذكر المهندس بازركان هذه المقدِّمات في كتابَيْه: "درس التديُّن" و"الطريق المطويّ".
 
 
219
 

191

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 جميع الثائرين وأصحاب الحركات كانوا أساساً على هذه السيرة.


2- جاهد الأنبياء عليهم السلام وضحّوا في الطريق إلى تحقيق أهدافهم.

وهذه الفكرة صحيحةٌ أيضاً، ولكنَّ هذا لا يختصّ بالأنبياء عليهم السلام وحدهم، فكم هم المضحّون في سبيل أهدافهم وما يعتقدون به؟ فهل يكون هؤلاء أنبياء؟! 

3- لقد نهض الأنبياء عليهم السلام بمفردهم، ولم يحظَوْا بحماية سلطةٍ، أو سياسةٍ، أو طبقةٍ معيَّنةٍ، فقد كانوا وحيدين على الدوام.

وهذا صحيحٌ أيضاً، ولكنْ يُشاركهم فيه غيرُهم.

4- لم يكن الأنبياء نفعيّين، يندفعون وراء جمع المال وكسب السلطة.

وهذه نقطةٌ نؤمن بها، ولكنْ لا نستطيع أن نحتجّ بها لإثبات النبوّة لمَنْ يُنكرها ولا يؤمن بها، إذ يرى هؤلاء أنَّ كلّ شخصٍ يسعى وراء هدفٍ معيَّنٍ يقنع به في هذا العالم، بل إنّهم يرَوْن أنّ الأنبياء عليهم السلام هم أشخاص يتملّكهم هياج التمكّن من السلطة المعنويّة على الناس، وهذه الحالة تعبِّر بذاتها عن ضربٍ من المنفعة.

وعليه فالاستدلالُ بأنّه ما دام الأنبياء لا يرغبون بالمال فهم لا يرغبون بالسلطة أيضاً مخدوشٌ من قِبَل المنكرين للنبوّة.

نعم، الكُلّ يُسلِّم بأنَّ الأنبياء لم يكونوا يرغبون في سلطةٍ تشبه سلطة الملوك والسلاطين، ولا سلطة العلماء والفلاسفة، فهم فريقٌ آخر، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّهم مبعوثون من عند الله.

5- حظي الأنبياء عليهم السلام بتوفيقٍ عظيمٍ لا نظير له.

وهذا أمرٌ صحيحٌ.
 
 
220
 

192

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 6- تختلف تعاليم الأنبياء عن تعاليم الآخرين (الفلاسفة والعلماء) في النهج.


فنهجُ العلماء والفلاسفة نهجٌ منظَّمٌ، يقوم على أساس الحركة من المقدِّمة إلى النتيجة، فهو نهجٌ فكرِيٌّ واستدلالِيٌّ، ينطلق من عدد من المقدِّمات، ويتحرَّك إلى الأمام، حتّى يبلغ النتيجة.

أمّا الأنبياء فليس نهجهم بالأساس نهجاً استدلاليّاً، ومنطقيّاً، وما شابه.

ويستثني صاحب النظرية القرآن الكريم، فقد جاء عن طريق العقل والمنطق، واقترن بهما. ففي القرآن أنماطٌ من الاستدلالات العقلِيّة والفلسفيّة بالكامل، وليس فقط العقل التجريبيّ.

وهذا الكلام صحيحٌ إلى حدٍّ ما، ولكنَّه ليس صحيحاً بشكلٍ تامٍّ.

7- إنّ الأمم التي إتَّبَعَت تعاليم الأنبياء عليهم السلام حظيت بالرقيّ والتقدُّم.

ونحن نؤمن بهذا، وينبغي علينا إثباته، ولكنْ هل يؤمن به الذين ينكرون النبوّة؟ 

إنّهم يعدّون أغلب ما جاءت به تعاليم الأنبياء من مظاهر الرجعيّة والتخلُّف. 

والنتيجة التي يتوصل إليها هي أنّ الأنبياء لم يكونوا نفعيّين، وكانوا مؤمنين بأنفسهم.

وهذه النتيجة مثارٌ للجَدَل والنقاش أيضاً، إذ يُنكر البعض، وهم الذين يرَوْن أنّ الأنبياء عليهم السلام جماعة من النفعيّين الذين يسعَوْن وراء الجاه والسلطة، أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يعتقدون بصدق أنفسهم.

ولكنَّ الإنصاف أنّ تضحيات الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم تدلّ بوضوح على أنّهم
 
 
221
 

193

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 كانوا مؤمنين بما يقولونه.


ولكنْ يبقى السؤال: هل أنَّ إيمان هؤلاء بصدق أنفسهم كافٍ لإثبات نبوّتهم؟

الجواب: كلاّ، فصحيحٌ أنّ الكثير ممَّن أنكر النبوّة في الماضي والحاضر لا يرى أنَّ الأنبياء هم محتالون من ذوي المكر والخداع، ولكنَّه يرى أنّ هناك حالةً تنتابهم بحيث تلقي عليهم ظلالاً من التخيُّلات تجعلهم يتوهَّمون أنَّه قد أُوحي إليهم. 

فنحن نؤمن بأنّ الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا مستبدّين قصّار نظر، كما لم يتأثّروا ببيئتهم ولم يتعلَّموا من محيطهم، ولم يكونوا مصابين بإنفصام الشخصيّة، كما أنّهم لم يكونوا سذّجاً، ولكنَّ الآخرين ينكرون ذلك كلّه. 

محصَّل النظريّة في ثلاث مقدّمات: 

أوّلاً: ما دامت تعاليم الأنبياء عليهم السلام منبثقة من وجودهم، وليس من المحيط، أو بتأثير معلِّمٍ.
ثانياً: ما دامت تعاليمهم منبثقة من منشأ فكريّ، ومنتهية إلى مقصد هو الله.
ثالثاً: لمّا كانت مهمّتهم وخدماتهم قد إقترنت بالصدق والنبوغ والنضج.

إذاً، ما جاؤوا به إمّا أن يكون إبداعاً ذاتيّاً، نتيجة خيالات وتصوّرات شخصيّة، أو أنّ له منشأً واقعيّاً وحقيقيّاً، وهو غير بشريّ في الوقت ذاته.

والإحتمالُ الأوّل باطِلٌ، إذ مهما بلغت إبداعات الشخص من الكمال فسيبقى للنقص فيها نصيبٌ كبيرٌ، وهذا النقصُ غيرُ موجودٍ في تعاليم الأنبياء عليهم السلام.

فتعيّن الاحتمال الثاني. 
 
 
222
 

194

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 مع الإشارة إلى أنَّ هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لمّا كانوا يؤمنون بعمق تديّنهم، وقد ثبت أنّهم منزّهون عن الكذب والحيلة، فيكون كلّ ما قالوه صدقاً، ومنه أنَّ هذه التعاليم ليست من عند أنفسهم، ولا من تداعيات عقولهم، بل إنّهم أخذوها من إله مفترض.


ثمّ أشار صاحب النظرية8 إلى أنّ نهج الأنبياء عليهم السلام نهج داخليّ، فهم يستمدّون الإلهام من داخلهم، تماماً كما يتأثّر الفنّانون بداخلهم.

وهذا الوجه المشترك يعدّ عند هذه الحدود صحيحاً إلى حدٍّ ما.

مع فارق وهو أنّ الفنّانين لا يخرجون أبداً من أطرهم النفسيّة، وأمّا الأنبياء عليهم السلام فقد فتحوا نافذةً صوب العقل، وبإتّجاه الخارج وتربية المجتمع.

وهنا نسأل: ما هو الدليل على أنّ ما يدخل في عداد إلهام الأنبياء عليهم السلام، الذي هو إلهام داخليّ أيضاً، هو إلهامٌ إلهيّ؟

إذاً، إن كل ما ذكر من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ (طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة) غير تامٍّ. نعم هو يصلح في مقام الإفحام بنسبة ما، وإنْ كان الطريق في حد ذاته أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة9، وسيأتي التعرض له في بحث المعجزة، الذي هو استدلال بالإنّ على النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام فلن نستطيع إثبات النبوّة. 
________________________________________
8- في كتابه "الطريق المطويّ".
9- إذ إن أصل هذا الطريق وكليّه صحيح، وسوف يذكر تحت عنوان الآيات والبيّنات، ونثبت النبوّة بالطريق الإنيّ من خلال الآية والمعجزة.
 
 
223
 

195

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 شبهات وحلول


بعد أن إتضحت الحاجة إلى النبوّة، قد تخطر على البال بعض الأسئلة التي لا بد لها من إجابة مقنعة، وبذلك يتم البحث عن ضرورة النبوّة، وعن المناهج المذكورة في إثباتها. 

المرتبة الوجوديّة للموجودات

قد يُقال: لماذا خُلق الإنسان على هذه الشاكلة؟ ولماذا لم يُخلَق على بنية أخرى؟ لماذا لم توهب النبوّة للجميع؟

هذه أسئلة لا محلّ لها في صميم الخلقة، وغير صائبة من الأساس.

فالخلقة تتحرّك في إطار نظامٍ محدَّد لا يتخلَّف، ولا يمكن تغييره. ونحن عندما نقول بحاجة البشر إلى النبوّة فليس معناه أنَّ الله مكلَّفٌ، وأنَّ من الواجب عليه أن يخلق الأنبياء لكي يتدارك هذا النقص في نظام الخلقة، بل إنَّ مشروع الخلقة مشروع متكامِل يحتلّ فيه كلّ شيء مكانه، فإذا ما كان ثَمّ حاجة في نظام الخلقة، وكان هناك إستعدادٌ وإمكان لتلقّيها، فسيحصل الفيض قطعاً، لأنّ فيض الله مطلَقٌ.

ومن هنا لا معنى للقول: لماذا لم يكن كلّ أفراد البشر على هذه الشاكلة؟ لأنَّ للخلقة نظاماً متّسقاً ومنسجماً، يحتلّ فيه كل موجود مكانه الطبيعي الذي لو حاد عنه لاختل النظام، وليس بمقدور أيّ موجودٍ أن يوجَد إلاّ في إطار مرتبته الوجوديّة الموجود فيها فعلاً.

مثال العدد

وأفضلُ مثال في مجال نظام الخلقة والتكوين هو الأعداد، فهي تصوِّر
 
 
224
 

196

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

  لماذا لا يمكن أن نفترض الإنسان موجوداً في مرتبة موجودٍ آخر، ولماذا لم يَصِر الإنسان فرساً والفرس إنساناً، ولماذا لم يصبح أبو جهل نبيّاً والنبيّ أبا جهلٍ؟


فهل يتساءل أحدٌ: لماذا لم تصبح الأربعة خمسةً، والخمسة أربعةً؟

كلا، لأنَّ الأربعة إنَّما صارت أربعةً لأنَّها موجودةٌ أساساً في المكان الذي هي موجودةٌ فيه الآن، فلو نقلناها إلى مكان السبعة فستصير سبعةً، ولن تبقى أربعةً، وهكذا بقيّة الأعداد.

والموجوداتُ في هذا العالم متقوِّمةٌ بمراتبها، كما يُعبِّر عن ذلك الفلاسفة، فكلّ موجودٍ في أيِّ رتبةٍ وُجد فإنّ تلك المرتبة هي جزء من ذاته، وبالتالي فمن المحال أن تتغيَّر مرتبته ويبقى الموجود هو الموجود نفسه.

الله يصطفي رسلا

وقد يعترض بأنه هل لمن يختاره الله للنبوّة خاصّيّة تميّزه عن غيره أم يأتي الإختيار جزافاً، وبشكلٍ عشوائيّ؟

الجواب: كلا، لا يتمّ إختيار النبي من دون ضابطة. وإستعداد وقابلية الشخص لها دخلٌ في هذا الإختيار، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا العنصر:﴿إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾10، والآية الأصرح في ذلك: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾11.

إذاً، ليس لجميع الأفراد أهليّة النبوّة، وإنَّما يستند الإختيار إلى إستعداد خاصّ.
________________________________________
10- البقرة / 247.
11- الأنعام / 124.
 
 
225
 

197

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 لماذا نلحظ كثرة الأنبياء في أرض معيّنة؟


إنّ لذلك علاقة بالعنصر ذاته الذي تشير إليه الآية: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾12، فإذا كان الإصطفاء للرسالة له صلة بالإستعدادات الخاصّة التي ينطوي عليها الأفراد، فمن الثابت أنّ لجغرافية الأرض تأثيراتها المتنوّعة في تربية الإستعدادات.

مثلاً يقولون عن أرض الشرق: إنَّها أرض العرفان والإشراق، وعليه فليس جزافاً أن يميل الغربيّون- مثلاً- إلى المحسوسات أكثر، في حين يميل الشرقيّون إلى ما وراء الحسّ أكثر.

كما ومن الثابت أنّ للمحيط الجغرافيّ، والظروف المناخيّة، وحرارة الشمس، تأثيراً مفيداً في نموّ جسم الإنسان، وللوضع الجسميّ تأثيره في تربية الروح وإعدادها إعداداً خاصّاً.

وعلى ضوء هذا ليس هناك ما يمنع أن يكون لبعض الأقاليم استعداد أكبر لتنمية الأفراد الذين يحظون- بشكلٍ عامٍ- بقابليّات على الإشراق والإلهام.

هل حُرِم بعض الأقوام من وجود نبِيٍّ بينهم؟ 

إن لم يمكن تاريخيّاً إثبات أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا منتشرين في جميع الأصقاع، إلا أن الدليل التاريخيّ لم يُثبت لنا خلوّ بعض الأصقاع والأقاليم من الأنبياء عليهم السلام تماماً. وبعبارة أخرى، إن لم يكن هناك دليل على الإثبات فلا دليل أيضاً على النفي.

والمنطق القرآنيّ في هذه المسألة هو أنَّ الله تعالى بعث لكلِّ أمّةٍ نذيراً، قال 
________________________________________
12- الأنعام / 124.
 
 
226
 

198

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

 تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾13، وهذا يعني وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام. وهذا المنطقُ هو المرجع والأصل لنا مع فقد الدليل التاريخيّ على الإثبات والنفي.


خلاصة الدرس

ذُكرت ثلاثة مناهج في إثبات النبوّة:
1- المنهج الكلامي: الذي ينكر قانون العلية لأنه يؤدي إلى تحديد الله سبحانه، ويؤمن بالحكمة الإلهية وأن الله لا يفعل إلا الحسن وطبق المصلحة.
2- المنهج الفلسفي: الذي يرى أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم قابليّته للوجود، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة للوجود فلا بُدّ أن يوجَد.
3- المنهج الإني: يرى صاحب هذا المنهج أن في الخارج أموراً لا نشكّ في وجودها وتحقُّقها، وعندما نبحث عن مصدر هذه الأمور نجد أنَّه لا يمكن أن يكون مادّيّاً وعاديّاً، إذ لهذه الأمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرها إلهيّاً.

وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء عليهم السلام آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم والإكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي لا بُدّ وأن نذعن بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.

والحق هو أن كل ما ذكر من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ غير تامٍّ، نعم هو يصلح في مقام الإفحام بنسبة ما، وإنْ كان الطريق في حد ذاته
________________________________________
13- فاطر / 24.
 
 
227
 

199

النبوة ضرورتها ومناهج الإثبات

  أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة14، الذي هو استدلال بالإنّ على النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام فلن نستطيع إثبات النبوّة.


وما ذكر عن إختيار الأنبياء عليهم السلام فإنه لا يتمّ من دون أي ضابطة، بل للإستعداد دخلٌ في الإختيار، والقرآن الكريم يُبرز هذا العنصر، في قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.

ولا دليل من التاريخ على أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا في جميع الأصقاع، كما لا دليل على أنّ بعض الأصقاع قد خلا منهم.

ومنطق القرآن الكريم هو وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام.
 
أسئلة الدرس
 
1- هل الإنسانية بحاجة إلى العملية التوسطية بين الله والبشر؟
2- ما هي الحاجة الدنيوية والإجتماعية للرسالة؟
3- هل يمكن للإنسان أن يستغني بنور العقل عن النبوّة؟
4- ما هي المناهج المذكورة في إثبات النبوّة؟
5- لماذا لم توهب النبوّة للجميع، وكان هناك إصطفاء للأنبياء؟
 
 ________________________________________
14- إذ إن أصل هذا الطريق وكليّه صحيح، وسوف يذكر تحت عنوان الآيات والبينات، ونثبت النبوّة بالطريق الإني من خلال الآية والمعجزة.
 
 
228
 

200

الوحي

أهداف الدرس

 

1- معرفة الوحي لغة واصطلاحاً.

2- القدرة على شرح النظرية العامية حول الوحي.

3- فهم النظرية التنويرية حول الوحي.

4- القدرة على شرح نظرية حكماء المسلمين حول الوحي.

5- القدرة على شرح رأي الفلاسفة وعلماء النفس حول نظرية حكماء المسلمين.

 

6- تعدُّد استعمالات القرآن لكلمة الوحي بالإستناد إلى الآيات القرآنية.

 

 

229

 

201

الوحي

 تمهيد:


بعد أن اتضحت ضرورة الحاجة إلى وجود الأنبياء، وضرورة الإتصال بأحكام السماء وتعاليمها، يأتي دور البحث عن الوحي، فإن الأنبياء قد استعملوا إصطلاح الوحي وقالوا إنه يوحى إليهم من قبل الله سبحانه، وإنهم على إتصال بالله إما مباشرة أو عبر الإتصال بالملاك الذي يشكل واسطة في تلقّي الوحي، فما هو الوحي؟ وكيف تتمّ هذه العملية؟ وما هو الدليل على صحة هذا المدّعى ؟1 هذه أسئلة تعتبر مفتاح وأساس البحث عن مسألة الوحي، مع الإشارة في مقدمة هذا البحث إلى أنه لا أحد يدعي بأنه يستطيع أن يشرح ويبيّن حقيقة هذه العملية وكنهها مع كل ما لهذه الكلمة من خصائص وميزات، وذلك لأنها نحو علاقة وإرتباط خاص بين إنسان خاص مع الله، وليست من نوع الإرتباطات بين البشر أنفسهم، أو بين البشر وسائر الموجودات. والذي بمقدوره أن يوضح هذه العلاقة وهذا النحو من الارتباط هم الأنبياء عليهم السلام أنفسهم، لأنهم أصحاب العلاقة لا غير.
________________________________________
1- والجواب على هذا السؤال يرتبط ببحث المعجزة الآتي.
 
 
231
 

202

الوحي

 لكن مع ذلك يمكن البحث عن الوحي ويمكن نفي بعض الأمور من خلال حكم العقل أو من خلال القرائن، أو من خلال الآيات القرآنية وما ذكره لنا الأنبياء عليهم السلام أنفسهم.


ما هو الوحي؟

يعرّف الوحي لغةً بأنّه "إلقاء علم (باعلام) في إخفاء أو غيره إلى غيرك"2، وكلّ ما يتّسم بالغموض والخفاء على الآخرين يُسمّى وحياً بحسب العرف، فمن الوحي أن يتحدّث شخصٌ إلى آخر ويناجيه سرّاً، أو يتحدّث إليه بالإيماء والإشارة.

ولكنّ المعنى اللغويّ والعرفيّ يحمل في طياته عادةً مفهوماً أعمّ وأوسع من المعنى المصطلح الذي إستعمله الأنبياء عليهم السلام، فهو وإن كان قريباً من المعنى اللغوي من حيث المفهوم، إلا أنّه يختزن معانيَ وحقائق أخرى، والهدف هو البحث عن المعنى المصطلح محاولين رسم صورة عنه، لنرى دائرته، وخصائصه، وتفسيره.

وقد طرحت ثلاث نظريّات لتفسير هذه الظاهرة، سنعرضها ثمّ نرى أيّ النظريّات هي التي تتناسب مع ما ذكره القرآن من موارد الوحي، وتنسجم مع الخصائص التي وردت على لسان أولياء الوحي من الأنبياء عليهم السلام.

1- النظريّة العاميّة:

يتصوّر عوامّ الناس أنّ الله قد إستقرّ في نقطة مرتفعة بعيدة جداً من السماء، بينما النبي يعيش على الأرض، وعليه فإنّ هناك فاصلة شاسعة بين الله والرسول.وبما أنّ النبيّ بشر لا يمكنه أن يحلّق في السماء لتلقّي التعاليم الإلهيّة،
________________________________________
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج6، ص92، طبع إيران (مادة وحي).
 
 
232
 

203

الوحي

 فلا بدّ من موجود آخر يتمكّن من قطع هذه المسافة الشاسعة، يهبط إلى الأرض ويتحدّث إلى النبيّ، ويكون حلقة الوصل بينه وبين الله.


ولا بدّ أن يتمتّع هذا الموجود بصفات تنسجم مع طبيعة مهمّته، فيتصورون أنه لقطع المسافة المذكورة لا بدّ أن يكون له أجنحة يطير بها وينقل تعاليم السماء ويبلغها النبيّ ويتحدّث معه، ولا بدّ أن يكون على قدر من العقل والإدراك والقدرة على النطق، فهو من الجهة الأولى له بُعدُ طائرٍ، ومن الجهة الثانية له بعد إنسانيّ3.

في النتيجة يكون الوحي وفق هذه النظريّة عبارة عن كلام من الله يتلقّاه النبيّ كما يتلقّى كلامنا، ولكن من خلال واسطة، هو ذلك الملَك العاقل الطائر.

وفي الواقع لا تتعدّى هذه النظريّة كونها تصوّراً يخطر على بال عوامّ الناس، فهي لا تعتمد على أيّ دليل أو تفسير علميّ، وإنّما هي محض تبادر ذهنيّ ساذج، كان حصيلة بعض المفردات المرتبطة بالله وبالوحي، والتي توحي للوهلة الأولى بهكذا خطرات. فهي لا تنسجم أبداً مع موارد الوحي التي ذكرها القرآن، ولا مع المعطيات التي قدّمهاالأنبياء عليهم السلام4، ولذا لا تستحقّ التوقّف عندها، وإنّما الجدير بنا تنبيه العوامّ على بعض أخطائهم في تصوّر الحقائق المرتبطة بعالم الغيب.

2- النظريّة التنويريّة:

وتقوم هذه النظرية على تبنّي نمط خاصّ من التفسير، يقوم على تأويل كلّ ما جاء بشأن علاقة النبيّ بالله، فتعتبرها من الأمور العاديّة الجارية بين أفراد البشر5، غاية ما هناك أنها أمور خاصة بالنوابغ والإستثنائيين من البشر،
________________________________________
3- والناس حينما سمعوا أنّ الملائكة كائنات مجرّدة، فإنّهم صوّروها من غير أن ترتدي أيّ لباس!!
4- كما سيأتي إن شاء الله.
5- مع أنّ أصحاب هذه النظريّة لا يتوخّون إنكار النبوّة، وإنّما يحاولون تفسيرها ضمن نمط خاصّ.
 
 
233
 

204

الوحي

 فترى أن كلّ ما ورد بالنسبة للوحي ونزول الملائكة، نوع من التعبيرات المجازيّة، حيث لا يمكن التحدث مع عوام الناس إلا بهذه اللغة. 
وفحوى هذه النظريّة أنّ النبيّ نابغة إجتماعيّ محبّ للخير، تأمّل في ما آلت إليه أوضاع المجتمع، ورصد ما يحيط الناس من أوجاع وضروب الفساد، ثمّ سعى بما آتاه الله من نبوغٍ إلى تغيير أوضاعهم، مستلهماً من داخله، من روحه ونفسه، أفكاراً ترسم طريقاً صحيحاً يحلّ المشكلات، ثمّ قام ببثّ هذه الأفكار بين الناس.

فالوحي وفق هذه النظريّة، هو عبارة عن إنبثاقٍ من عمق فكر النبيّ إلى ظاهر فكره، وهو عملٌ إبداعيٌّ إقتضته بنية النابغة الخاصّة. 

في المقابل يرفض أصحاب هذه النظريّة الإذعان إلى وجود حقيقةٍ وراء فكر الإنسان وروحه وعقله بحيث يرتبط بها باطن النبيّ، ويتنكّرون للإيمان بأيّ بُعد غير عاديّ في مسألة النبوّة والوحي.

وأمّا بالنسبة لبعض التعابير الواردة المتعلقة بالوحي فيقومون بتأويلها:

فمثلاً "الروح الأمين وروح القدس" ليس شيئاً غير روح النبيّ، فمعنى أن يأتي الروح الأمين بالأفكار وتعاليم الدين، هو نفس إنبثاق هذه الأفكار من أعماق روح النبي النابغة.

وأما الملائكة فهي عندهم عبارة عن قوى الطبيعة ذاتها، ولما كان الله يستخدم القوى الطبيعيّة فستكون الملائكة تحت إختياره.

وأما "الدين" فهو عندهم لا يتعدّى كونه مجموعة القوانين التي وضعها النابغة، وهي قوانين صالحة ومفيدة لسعادة المجتمع، وهذا ما ينشده الناس،
ولذلك يمكننا أن نعتبر هذا الدين من عند الله.
 
 
234
 

 


205

الوحي

 ولكنّ هذه النظريّة لا تتناسب مع ما ورد من إستعمال القرآن للوحي في مختلف الموجودات، ولذا فهي عاجزة عن تفسير ذلك، كما أنّها تُعبّر عن تفسير بعيد عن الوقائع التي طرحها الأنبياء بالنسبة لخصائص الوحي المُلقى إليهم، كوجود حالة التعليم والأخذ من مصدر خارج ذواتهم، وشعورهم بمصدر الوحي العلويّ، وإدراكهم للواسطة فيه...


فهي إذاً تتجاوز كثيراً من المفاهيم والحقائق الدينيّة التي أتى بها الأنبياء عليهم السلام أنفسهم، وتحاول تبسيط الأمور وجعلها أموراً عاديّة، من خلال اللجوء إلى التأويل، فيما نعتقد أنّ هكذا مسائل تُعدّ مسائل عميقة ومهمّة، فهي جديرة بأن يتأمّل فيها الإنسان أكثر، ويدخل إلى أعماق نفسه ويُراقب العوالم المحيطة به، ليقوم بتفسير الوحي تفسيراً صحيحاً.

3- نظريّة حكماء الإسلام:

وهي أهم نظريّة في هذا المجال، فإنّها تفسّر موارد إستعمال القرآن، وتجمع جميع الخصائص التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام في وحي النبوّة، وتبتنى على رؤية معمّقة في معرفة الإنسان والعوالم المحيطة به، والتي بيّنت عدّة حقائق وأُسس:

أوّلاً: وجود عالميْن
تنطلق هذه النظريّة من الإيمان بوجود واقعيّ لعالَمَين إثنين:

1- عالم الطبيعة، وهو عالم المادّة والجسميّة والتغيّر، وهو هذا العالم الذي نعيش فيه.
2- عالم ما وراء الطبيعة، أو ما يُسمّى بعالم الغيب أو الملكوت، وهو عالم القوى الروحيّة، التي تُعتبر قوى مستقلّة بحدّ ذاتها.

فما حولنا يقع تحت تأثير مجموعتين من القوى: القوى الماديّة للعالم، والقوى
 
 
235
 

206

الوحي

  الروحيّة، وتوجد الأولى في العالم الماديّ الطبيعي، والأخرى في عالم ما وراء الطبيعة.


من جهة أخرى يمثّل عالم الغيب والملكوت عالم القدرة، لأن له الهيمنة والسيطرة الحقيقيّة، وبالتالي تكون له فوقيّة واقعيّة على عالم الطبيعة الذي لا يُعدّ أكثر من رشح وفيض لذلك العالم، أو ظلّ ومعلول له. وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ كلّ ما هو موجود في هذه الدنيا إنّما يُنزّل من ذلك العالم: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾6، وهذا معنى السيطرة والهيمنة والفوقيّة.

ثانياً: قدرة الإنسان على الاتصال بعالم ما وراء الطبيعة

ثمّ ينطلق أصحاب هذه النظريّة إلى التأمّل في نفس الإنسان، فيتحقّق لديهم أنّ وجوده لا يقتصر على بدنه الماديّ، وإنّما له إستعدادات روحيّة ذات وجهين:

الأوّل: وجهٌ طبيعيّ، يسمح له بالتواصل والإرتباط مع الطبيعة عن طريق الحواسّ، فيتلقّى العلوم الطبيعيّة، حيث يستجمع ما يأخذه من خلال حواسّه- في خزانة الخيال والذاكرة، ثمّ يُسبِغُ الكليّةَ والتعميم والتجريد على تلك المعلومات.
الثاني: وجهٌ تتسانخ فيه الروح مع عالم ما وراء الطبيعة- أي عالم القوى الروحيّة، حيث يتمكن، بقواه وإستعداداته الروحيّة- من إكتساب علومِ ذلك العالم، فيغرف من حقائقه المؤثّرة في عالم الطبيعة.

إذاً، لجميع أفراد البشر، بالإضافة إلى العقل والحسّ العاديين، إدراك وشعور باطنيّ، يسمح بالإرتباط بعالم ما وراء الطبيعة ينهلون منه علوماً وحقائق ترتبط
________________________________________
6- الحجر/21.
 
 
236
 

207

الوحي

  بعالمنا، وهذا ما نسمّيه بالوحي. غاية الأمر أنّ هذا الشعور والإستعداد الباطنيّ يتفاوت بين الأفراد تفاوتاً كبيراً، فهو نور في أقوى مراتبه عند الأنبياء، يؤهّلهم للإرتباط الحقيقيّ الواقعيّ مع عالم الغيب فيطرقون مختلف أبوابه، فيما يضعف في بقيّة أنواع البشر ليكون شعاعاً خافتاً وومضة طفيفة من عين ذلك النور.


وأدنى تجلّيات حالة الإتّصال بعالم ما وراء الطبيعة يتمثّل في الرؤى والأحلام الصادقة، فقد نصّت الروايات على أنّ الرؤيا الصادقة هي جزء من سبعين جزءاً من النبوّة. 

كذلك تعدّ الإلهامات التي تحصل لبعض الناس ضرباً من ضروب الإتّصال بذلك العالم، ولكنّه في مرتبة متدنيّة منه، حيث لا يشعر المُلهَم بعلّة الإلهام ولا بمصدره، كما ربما يختلط بغيره.

تأييد الفلاسفة وعلماء النفس لوجود هذه القدرة:

إنّ من يراجِع كلمات قدامى الفلاسفة عند حديثهم عن النفس، يجد أنّهم آمنوا بوجود هذه القدرة الروحيّة والإستعداد الباطنيّ فيها، واستدلّوا عليه.

كذلك فإنّ عدداً كبيراً من كبار علماء النفس أيّدوا هذا المعنى، ك- "وليام جيمس"، الذي أرسى علم النفس على أساس التجربة، حيث توصّل إلى أنّ لدى الإنسان حسّاً باطنيّاً يستطيع من خلاله أن يتواصل مع أرواح وأماكن أخرى، فكأنّ هناك آباراً محفورة في الباطن متّصلة في ما بينها، وإن بدت في ظاهرها منفصلة ومستقلّة عن بعضها البعض، لذا يعتقد "جيمس" بأنّ هناك طريقاً باطنيّاً يمكّن الروح من الاتصال بعالم الأرواح الأخرى7.
________________________________________
7- وهذه الحقيقة مؤيَّدة بالوقائع الكثيرة التي تُنقل في هذا المجال، وقد أورد الشهيد مطهّري شيئاً منها، رواها عن ثُقات، في كتاب النبوّة.
 
 
237
 

 


208

الوحي

 ثالثاً: ارتقاء النفس


وهو الأساس الثالث التي تقوم عليه هذه النظريّة، وهو إثبات أنّ نفس الإنسان وروحه، عندما تريد أن تطلّ على عالم الغيب، فإنّها ترتقي من مرتبة الطبيعة نحو الأعلى إلى أن تصل إلى عالَم ما وراء الطبيعة، على أنّها تكتسب في كلّ مرتبة تصل إليها شكلاً ووضعاً خاصّاً يتناسب مع طبيعة المرتبة. 

وفي الجهة المقابلة فإنّ الحقائق التي تتنزّل من عالم ما وراء الطبيعة تتّخذ الأشكال المناسبة للعوالم التي تتنزّل إليها.

وتوضيح ذلك:

إنّ الحقائق المدرَكة تتناسب مع ظرف ووعاء وجودها، فكما أنّ الأمر الخارجيّ في الطبيعة له نحو من الوجود الماديّ والجسميّ، ثمّ عندما يُدرَك بحواسّ الإنسان يتّخذ شكلاً آخر- صورة حسيّة- يتناسب مع الإدراك الحسّي، فإذا انتقل إلى عالم الخيال إتّخذ وضعاً جديداً، قبل أن يقوم العقل في مرتبته بتجريده وتعميمه بما يتناسب ومرتبة العقل، كذلك الموجود في عالم ما وراء الطبيعة والمادّة، إذا ما تنزّل إلى مرتبة الحسّ والمادّة، فإنّه لا بدّ أن يتّخذ الشكل المناسب لهذا العالم.

الوحي، النزول، المَلك:

إذاً تقوم هذه النظريّة على أنّه يوجد في كلّ إنسان، وبدرجات متفاوتة، استعدادٌ روحيّ باطنيّ للإطّلاع على عالمٍ من القوى الروحيّة، وهو عالم وراء عالمنا، مهيمنٌ ومسيطرٌ عليه، كما تبيّن في الأساسين الأوّل والثاني، وليس الوحي سوى نافذةٍ تنفتح للإنسان- الذي يملك هذا الحسّ والإستعداد- على
 
 
238
 

209

الوحي

 ذلك العالم ترفده بالعلوم والحقائق المرتبطة بعالمنا.


فالوحي، حالة من الإتّصال الباطنيّ مع عالم الغيب، وهو لا يتفاوت أساساً مع بقية الرؤى والإلهامات- التي تطرأ على البشر- من حيث الحقيقة والماهيّة، وإنّما يتفاوت من حيث الدرجة والمرتبة، فتختلف حالة الوحي بإختلاف الوعاء الباطنيّ المتلقّي له، وهي موجودة بأقوى مراتبها في وحي النبوّة.

وهذا يفسّر ما ورد في آيات القرآن من أنّ حالة الوحي ليست مختصّة بالأنبياء بل تعمّ جميع الموجودات، غاية الأمر أنّ النبيّ يمتلك الاستعداد بدرجته العليا، بحيث يستطيع عقد إرتباطٍ حقيقيٍّ وواقعيٍّ مع ذلك العالم المهيمن، فيتمكّن من أخذ الحقائق وتعاليم الدين منه، وهو في تمام إدراكه وشعوره.

بعدها تتنزّل حقائق ذلك العالم، التي كانت واقعاً مجرّداً لا يُدرك إلا بالقوّة الباطنيّة المتناسبة مع ظرف وجودها، تتنزّل إلى عالم المادّة والطبيعة لتظهر بصورة أمرٍ حسيّ مبصر أو مسموع، فيراه النبيّ كواقع مجسّد في أمرٍ محسوس، كما ذكر في الأساس الثالث، وهذا ما يعبّر عنه بنزول الوحي.

والنزول هنا هو نزول واقعيّ، لأنّ ما يأتي من حقائق في عمليّة الوحي، إنّما يأتي من عالم له فوقيّة حقيقيّة وهيمنة واقعيّة على عالمنا، ولذا صحّ أن نقول عنه بأنّه نزول، غايته أنّه نزول معنويّ وليس نزولاً مكانيّا8.

وأمّا الملَك، فهو الحقيقة التي يلمسها النبيُّ. ويتناسب وضع الملَك مع العالَم الذي يتمثّل فيه، فلجبرائيل، الذي هو الروح الأمين وروح القدس، شكل ووضع خاصّ في ذلك العالم، وإذا ما تنزّل إلى عالم الطبيعة فإنّه يتمثّل في
________________________________________
8- كالفوقيّة المعنويّة التي يذكرها القرآن لله عزّ وجلّ: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾(الأنعام/18)، وليس الوحي وحده هو الذي عُبّر عنه بأنّه ينزل من ذلك العالم، بل كلّ ما في الدنيا على هذا المنوال، وذلك قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم﴾(الحجر/21).
 
 
239
 

210

الوحي

 صورة إنسان ضمن نقطة محدّدة، لذا كان النبيّ تارة يرى جبرائيل على صورته الحقيقيّة الواقعيّة، حيث كان يراه بباطنه وقد ملأ الأفق أمامه، وأخرى يراه متمثّلاً بصورة إنسان.


النظريّة ومعطيات القرآن والأنبياء:

ويمكن بناءً على هذه النظريّة أن نفهم معنى الوحي الملقى على مختلف الكائنات، كما ورد في القرآن، فما هو إلا حالة خاصّة من الهداية الموجودة في الأشياء، وضرب من الإلهام والنور المعنويّ الذي يمكن أن يُصاحب الموجودات ولو بدرجات متفاوتة، وما هذه الهداية والإلهام إلا نوع ارتباطٍ بعالم الغيب.

كما أنّ هذه النظريّة تتطابق مع ما ذكره الأنبياء من خصائص لوحي النبوّة، فمن جهة يعبّر الوحي عن حالة داخليّة وقوّة باطنيّة خفيّة ولا يتمّ عن طريق الحواسّ العاديّة، كما أنّ عنصر التعليم يتمثّل بالحقائق التي يُقاربها النبيّ في ذلك العالم، فالإتّصال والتماسّ الواقعيّ مع حقائق العالم الآخر الذي هو عبارة عن مصدر خارجيّ يتلقّى منه النبيّ، والنبيّ- وفق هذه النظريّة- بما يتمتّع به من إستعداد في أعلى مراتبه، يشعر تماماً بالمصدر الذي يتلقّى منه، وإذا تمّ الوحي عن طريق واسطة تجسّمت بما يتوافق وعالم الطبيعة، فيدركها النبيّ تمام الإدراك.

إثبات دعوى وحي النبوّة:

إذا تمّ التفسير المعقول لحالة الوحي، وتبيّن أنّه حاصل وواقع بدرجات متفاوتة- وربما حصل معنا بعضها- وأعلى درجاته هي درجة وحي النبوّة التي يتمّ بواسطتها نقل تعاليم الدين للناس، يبقى البحث عن كيفية إمكان إثبات أنّ
 
 
240
 

211

الوحي

  ما ينقله شخصٌ معيّن هو من وحي النبوّة، إذا ما ادّعى ذلك.


ففي الواقع، هناك مشخّصات لا بدّ أن يأتي بها صاحب هذا الإدّعاء. فقد صرّح القرآن بأنّ النبيّ الذي يُبعث لا بدّ له من آيات وبيّنة، تمثّل العلامة والقرينة على صدق دعواه. إذاً، تتوقّف صحّة دعوى وحي النبوّة، على إتيان مدّعيها بمعجزة يتلقّاها من ذلك العالم، تمثّل الإثبات على صحّة كلامه.

وبحث المعجزة بحث مستقلّ نبحثه في مقام خاصّ به.

إستعمالات القرآن:

ورد الوحي ضمن آيات القرآن في موارد متعدّدة، ولم يقتصر على وحي النبوّة، وهذا يعني عدم إختصاص الوحي بالأنبياء، فالقرآن كما ذكر إلقاء الوحي إلى الأنبياء، فإنّه حدّثنا عن أشخاص أوحي إليهم مع أنّهم لم يكونوا في عدادهم، وذلك من قبيل الوحي الذي تلقّته أمّ موسى عليه السلام، كما تُشير الآيات الكريمة: ﴿إذ أوحينا إلى أمّك ما يوحى﴾9.

والأمر نفسه تكرّر مع السيّدة مريم، التي ظهرت لها الملائكة وتحدّثت إليها: ﴿يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّركِ واصطفاك على نساء العالمين﴾10، بل كان غذاؤها يأتيها من وراء حجب الغيب، ممّا إستدعى إستغراب النبيّ زكريّا عليه السلام، كما ينصّ القرآن الكريم: ﴿يا مريم أنّى لك هذا؟، قالت: هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾11.

وقد أطلقت روايات أهل البيت عليهم السلام على الشخص الذي يوحى إليه، من غير
________________________________________
9- طه/20.
10- آل عمران/42ـ 43.
11- آل عمران/37.
 
 
241
 

212

الوحي

  أن يكون نبيّاً ولا رسولاً، لقب "المحدَّث"12.


ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد بيّن في نهج البلاغة وجود أفراد على طول الخطّ يتلقون مسائل من الغيب، كحالة أهل الذكر، والتي يصفها لنا في قوله: "إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب ﴿فتتفتّح آذان قلوبهم﴾، تسمع به بعد الوقرة، وترى فيه بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم"13.

فالإمام عليه السلام يريد في هذا النصّ أن ينبّه على حقيقة كانت في الدهور الماضية، وستمضي باطّراد، وهي أنّه ثمة أشخاص من غير الأنبياء، قد لقّنوا أنفسهم ذكر الله، ممّا جعلهم يسمعون كلام الحقّ ويتلقّون الإلهام عنه.

الوحي لغير الإنسان:

بل الذي يتّضح من الآيات الكريمة أنّ الوحي ليس مختصّاً بنوع الإنسان، بل هو واقع له وجوده في جميع الأشياء، حتّى في الحيوانات والجمادات:

فقد ورد في سورة النحل: ﴿وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، وممّا يعرشون﴾14.


________________________________________
12- لاحظ أصول الكافي/ المجلّد الأوّل/ كتاب الحجّة/ باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث. وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يتلقّى حقائق من عالم الغيب بدون واسطة النبيّP، فقد قال له الرسول: "يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنّك لست بنبيّ"(نهج البلاغة/ الخطبة190).
13- نهج البلاغة/ الخطبة220.
14- النحل/68.
 
 
242
 

213

الوحي

 كما ورد هذا المعنى تارة بالنسبة للأرض: ﴿يومئذ تُحدّث أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها﴾15، وأخرى بالنسبة للسماء: ﴿وأوحى في كلّ سماء أمرها﴾16.


وخلاصة القول: إنّ القرآن لم يعتبر الوحي أمراً مختصّاً بالأنبياء ولم يحصره بهم، بل إعتبره حالةً تُصاحب جميع الموجودات بلا إستثناء. 

وينبغي التنبيه إلى أنّ الوحي، وإن كانت ماهيّته وحقيقته واحدة، إلا أنّه يتّخذ أشكالاً وأنماطاً متعدّدة، متناسبةً مع طبيعة كلّ واحد من الموجودات التي مرّ ذكرها فلكل موجود وحي بحسبه.

والبحث المهمّ هو في خصوص الوحي المرتبط بالأنبياء، الذين يتلقّون بواسطته تعاليم الدين من الله. 

نعم ربما نستعين بحالات الوحي الأخرى لنحاول مقاربة النظريّة الصحيحة في تفسيره.


________________________________________
15- الزلزلة/4ـ 5.
16- فصّلت/12.
 
 
243
 

214

الوحي

 خلاصة الدرس

 
- يُعرّف الوحي في اللغة على أنّه مطلق الإشارة الخفيّة، وهو معنى أعمّ من المعنى المصطلح عليه في القرآن، وما ورد على لسان الأنبياء عليهم السلام.

- لا يعتبر القرآن مسألة الوحي مسألة خاصّة بالأنبياء، بل يجد المتابع للآيات القرآنيّة أنّ الوحي حالة تشمل غيرهم كأم موسى وأم عيسى عليهما السلام وتعمّ جميع الموجودات أيضاً.

- هناك عدّة نظريّات في مسألة تفسير الوحي:

1- النظريّة العاميّة: السائدة بين عوامّ الناس، والتي تقوم على أساس تفسير وجود مسافة شاسعة بين الله والنبيّ، لكون الله في السماء والنبيّ موجود على الأرض، فيُوسّط الله ملاكاً، له بعدُ طائرٍ وبعدٌ عاقل ناطق، يتولّى عمليّة نقل التعاليم إلى النبيّ.
وهذا تصوّر ساذج لا يقوم على أيّ دليل أو برهان، وينافي ما ذكره الأنبياء عليهم السلام والقرآن الكريم.

2- النظريّة التنويريّة: وهي ترجع مسألة النبوّة والوحي إلى الأمور العادية التي تجري بين الناس، فتعد النبيّ نابغة يرغب في إصلاح ما فسد من أمر المجتمع، من خلال الإعتماد على نبوغه الشخصيّ، وما تجود به نفسه وروحه من أفكار تغييريّة، من غير أن يكون له إرتباط مع أيّ عالم آخر.

ثمّ تقوم هذه النظريّة بتأويل جميع المفردات والحقائق التي وردت بشأن النبوّة والوحي وتحملها على المعنى المجازيّ.
 
 
244
 

215

الوحي

 وهذه النظريّة بعيدة كلّ البعد عن الحقائق والمعطيات التي أتى بها الأنبياء عليهم السلام، وذكرها القرآن الكريم.


3- نظريّة حكماء الإسلام: وهي أمتن النظريّات وأنسبها، وهي تبتنى على وجود عالم وراء عالم الطبيعة، له خصائص تختلف عن خصائص عالمنا، كما أنّه مسيطر ومهيمن عليه، ويستطيع الإنسان- وغيره من الموجودات- بما يملك من إستعداد باطنيّ، بدرجات متفاوتة، من الإتّصال بذلك العالم، والحصول على حقائق واقعيّة مرتبطة بعالمنا. والأنبياء عليهم السلام هم الأشخاص الذين يملكون أعلى درجات ذلك الاستعداد، ولذلك فبإمكانهم عقد إرتباط حقيقيّ مع ذلك العالم، فيغرفون من حقائقه، وهم على تمام الإدراك والإحساس بهذه العمليّة، وهذا ما يُسمّى بالوحي.

وهذه النظريّة توافق الآيات التي ورد فيها إستعمال الوحي في مختلف الموجودات، كما تتناسب والخصائصَ التي ذُكرت لوحي النبوّة.

أسئلة الدرس
 
1- هل هناك عالمٌ وراء عالم المادّة والطبيعة؟
2- كيف يتمّ الإرتباط بعالم الغيب؟
3- ما هي النظريات المطروحة في تفسير ظاهرة الوحي؟
4- كيف تبيّن النظرية المنسجمة مع القرآن في تفسير الوحي؟
5- هل الوحي والإرتباط بعالم الغيب مخصوصٌ بالأنبياء عليهم السلام ؟
 
 
245
 

216

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 أهداف الدرس

1- معرفة المعجزة.
2- فهم نظرية المنكرين للمعجزة.
3- القدرة على شرح نظرية التأويل في المعجزة والآيات المستفادة وردها.
4- فهم النظرية القائلة بكون المعجزة فعل الله.
5- فهم نظرية "للمعجزة سر".
 
 
247
 

217

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 تمهيد 


النبوّة في القرآن قرينة المعجزة، فليس من نبيّ دعا الناس إلى قبول دعوته والإيمان بها إلاّ وتواءمت دعوته مع آيةٍ أو بيِّنةٍ، بحَسَب تعبير القرآن. وسيأتي بيان الفرق بين الآية والبيِّنة من جهةٍ ومصطلح المعجزة من جهةٍ أخرى.

كما أن البحث عن المعجزة ينبغي تناوله من حيثيتين، عامة وخاصة، فأما العامة فهي البحث عن المعجزة بشكل عام، من حيث إمكانها ووقوعها، وماهيتها والهدف منها، وتفسيرها، وهذا ما سنتناوله في هذا البحث إن شاء الله، وأما البحث عن المعجزة من الناحية الخاصة، فهي البحث عن معجزة كل نبي بالخصوص، ولذا تعدّ معجزة القرآن هي المعجزة الخاصة بالنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ما سنتناوله في البحث القادم إن شاء الله تعالى.

وحديثُنا حول المعجزة العامة يتركَّز في أمورٍ عدّةٍ، وهي: 
 
 
249
 

218

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

تعريف المعجزة

يُعرِّف بعضٌ المعجزة بصيغةٍ يجعلُها أمراً غير ممكنٍ1، ولكنَّ هذا تعريفٌ خاطِئٌ.

والحق أن لفظ المعجزة لم يرِدْ في القرآن، وإنّما هو مصطلح إستخدمه المتكلّمون، وأرادوا به ما ذكره القرآن بكلمة "آية"، وهي العلامة التي تكون دليلاً على صدق دعوى النبيّ.


فالنبيّ يدّعي علاقةً وإتّصالاً بالعالم الآخر- عالم الغيب- والمعجزةُ هي الدليل على صدقه في دعواه تلك. وقد عبّروا عن الآية بالمعجزة لأنّ من لوازم كون الشيء آيةً أن يعجز بقيّة الناس عن الإتيان بمثله. وقد تحدّى الأنبياء عليهم السلام أممهم أن يأتوا بمثل ما يأتون به فلم يستطيعوا ذلك، فتكون المعجزة أو الآية قد أبرزت عجزهم عن الإتيان بمثلها.


إبداعات الماهرين


إنّ مَنْ يبلغ مرتبةً لا يبلغها غيرُه في أيّ مجالٍ من المجالات الأدبيّة، أو الصناعيّة، أو العلميّة، ويأتي بما لا يأتي به غيره، وأمثلةُ ذلك كثيرةٌ، لا يعدّ عمله هذا معجزةً من وجهة نظر المتكلِّمين وبالمعنى المصطلح عندهم، وإن كانت تشمله الكلمة بالمعنى اللغوي. ومن هنا كان لا بد للأمر المعجز من تضمّن بُعد غيبي واعتباره أمراً غير بشري، وخارجاً عن قدرة البشر، وهذا ما يقصده المتكلمون من المعجزة.

________________________________________

 

1- هذا هو السائد عادةً في كتب المادّيّين، فقد استخدم بعضُهم المعجزة بمعنى يُرادِف الصدفة، التي تعني وقوع حادثةٍ في العالم من دون محدِثٍ، ومن دون عِلّةٍ، بالأساس. وهذا أمرٌ محالٌ، ويرفضه الإلهيون؛ لأنَّ إذعانهم له يمثّل نقضاً لأحد الطُرُق التي استخدموها منذ القديم في الاستدلال على وجود الله، كما أنَّه لا يصلح لأن يكون آيةً لإثبات نبوّة أيِّ نبي؛ إذ ما علاقة حادثة وُجدت بذاتها بأنَّ هذا نبيّ أو لا؟

 

 

250

 

219

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 فمن شروط كون الشيء معجزةً أن يكون عملاً غير بشرِيٍّ. فالمعجِز هو خارجٌ عن سنخ العمل البشريّ، وفوق حدود القدرة الإنسانيّة، وهذا ما نراه واضحاً في معجزات الأنبياء عليهم السلام السابقين على نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. وسنتعرَّض لمعجزته صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ مستقِلٍّ. فمن طبيعة الماء أن يسيل، فإيقاف الماء كالجدار حتّى يمرّ موسى ومَنْ معه ليس عملاً بشريّاً من الدرجة الأولى، بل هو عمل خارجٌ عن قدرة وطاقة البشر، وهكذا سائر المعجزات.


فالمعجزة هي فعلٌ وأثرٌ يأتي به النبيّ للتحدّي، أي لإثبات مدّعاه، ليكون علامةً على وجود قدرةٍ ما وراء البشريّة في إيجاده، تفوق حدود الطاقة الإنسانيّة بشكلٍ عام.

الإيمان بالمعجزة ضرورة

لا شك ولا ريب بأنّ الإيمان بالمعجزة من ضروريات الدين الإسلامي، وما ذكرته الآيات القرآنية في موضوع معجزات الأنبياء عليهم السلام هو ممّا لا يمكن تأويله بأيّ وجه من الوجوه. 

نعم قد يحصل نقاشٌ في بعض التفاصيل التي لم يذكرها القرآن، وإنْ ذُكرت في الروايات، أو في بعض النقول التاريخيّة، إلاّ أنَّ هذا لا يضرّ بالإيمان بأصل المعجزة، وأنَّها أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، وفوق مستوى البشر2.

نظريّات حول المعجزة

بعد أن كانت ظاهرة المعجزة على يد الأنبياء من الضروريات في الدين الإسلامي، وكان من المسلّم أمر وقوعها وحصولها بنقل القرآن الكريم والروايات
________________________________________
2- مثلاً: ناقةُ صالح عليه السلام آيةٌ من الآيات، وهذا ممّا لا يقبل الشكّ والترديد، وإنْ كانت بعضُ التفاصيل ـ كخروجها من الجبل والصخور ـ غيرَ مذكورةٍ في القرآن الكريم.
 
 
251

220

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

  والمصادر التاريخية، وقع الكلام في تفسير هذه الظاهرة وبيانها، وقد ذكر في هذا المجال أربعُ نظريّاتٍ3


1- المعجزة سحرٌ:

وهذه نظريّة المنكرين للمعجزة أساساً، وهم ينكرون النبوّة بالضرورة، فهي- أي المعجزة- عندهم إمّا كذب محضٌ، أو شيءٌ من قبيل الممارسات السحريّة، التي يتصوّرها الناس شيئاً وهي ليست بشيء4.

2- نظريّة التأويل:

وقد قَبِل أصحابُ هذه النظريّة5 بالمعجزة، إلاّ أنّهم تأوّلوها، وفسّروا جميع ما ذكره القرآن من معجزاتٍ بشكلٍ طبيعِيٍّ وعاديٍّ. وهذا في الواقع ضرب من الإنكار للمعجزة إلا أنه إنكار بشكل مؤدب.

ولكن ذلك كلّه لم يعْدُ كونه تأويلاتٍ وتفسيراتٍ بعيدةً جدّاً، إعتَمَدَتْ على نَمَط خاصٍّ من الفكر فلا يتسنّى لمَنْ يتبنّى نَمَطاً آخر أن يتقبّلها.

وقد استَنَد هؤلاء في مذهبهم إلى دليلَيْن من القرآن نفسه:

الأوّل: الآيات التي يردّ فيها الأنبياء صراحةً بالرفض على مَنْ يطالبهم بخارِقٍ للعادة، حيث يذكرون أنّهم بشرٌ مثل الآخرين، ﴿قلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾6.
الثاني: الآيات التي تطلق على نظام الخلقة والتكوين عنوان السنن الإلهيّة، 
________________________________________
3- مع ضم قول المنكرين للمعجزة، فإن إنكارها قول في مقابل تلك النظريات المذكورة.
4- والجواب- باختصار- هو أن السحر ونحوه خاضع لمناهج تعليمية مع ممارسة دؤوبة بخلاف الاعجاز ولأن السحر خاضع للتعلّم والتعليم فيكون قابلاً للمعارضة دون المعجزة، إضافة إلى أن السحر متشابه في نوعه، متحدٌ في جنسه دون المعجزة، ويختلف السحر عن المعجزة من حيث الأهداف والغايات ... وللتفصيل يراجع الالهيات للشيخ جعفر السبحاني ج3، ص 108.
5- من أركان هذه النظريّة السيّد أحمد خان الهندِيّ.
6- الإسراء: 93.
 
 
252
 

221

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 وتذكر بصراحة أنّ السنن الإلهيّة لا تتغيّر، وهي آياتٌ كثيرةٌ7، والمعجزة بمعنى خرق العادة هي تبديل للسنّة الإلهِيّة، وهذا لا يكون أبداً بنصّ القرآن.


الإيراد على النظريّة الثانية:

بَيْد أنّ هذه النظرِيّة مساوِقةٌ لإنكار ما ذكره القرآن الكريم حول المعجِزات.

ويرِدُ على الدليل الأوّل لأصحابها أنّ المفسِّرين فسَّروا هذه الآيات بحيث لا تكون متنافِيةً مع المعجزات، وذلك في ثلاث نقاط: 

النقطة الأولى: المعجزة تكون للشاكّين في صدق النبوّة، فيُباح للنبيّ أن يظهر المعجزة، وليس النبيّ ملزَماً من قِبَل الله، وبمنطِق العقل أيضاً، أن يستجيب لمشتهيات كُلّ إنسانٍ، وما يقترحه.

النقطة الثانية: ما جاء في طَلَبات القوم لا يدخل في عِداد المعجزة، لأنّ بعضه مَحالٌ أساساً، كإحضار الله والملائكة، وبعضُه لا معنى له، كرقِيّ النبيّ في السماء، وبعضه يدخل في نطاق المصلحة والمقايضة، كطلبهم تفجير ينبوعٍ من الأرض، والدليل على منطقهم النفعِيّ قولهم: "لن نؤمن لك"، ولم يقولوا: "لن نؤمن بك"، وشتّان بين التعبيرَيْن.

النقطة الثالثة: المعجزة آيةُ الخالِق، والأنبياء لا يأتون بفعلٍ يُخالف السنّة الإلهِيّة- والمقصودُ السنّة الإلهِيّة المألوفة، وإلاّ فسيأتي أنّ المعجزة ليست مخالِفةً للقوانين الطبيعِيّة- إلاّ إذا كانت هناك ضرورةٌ تستوجِب ذلك، بحيث إذا لم يفعلوا ضَلَّ الناس. 
________________________________________
7- منها: ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ الأحزاب / 62. ومنها: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً﴾ فاطر / 43. 
 
 
253
 

222

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 وأورَدَ بعضهم8 على الدليل الثاني لأصحاب هذه النظريّة أنَّ السنن في القرآن تختصّ بالمسائل التي ترتبط بتكليف العباد، فسنّة الله في إنزال العقوبة بالمسيء وإثابة المحسِن لن تتغيَّر أبداً، ويؤكِّد هذا الأمر السياق القرآنِيّ للآيات التي تحدَّثت عن عدم تغيّر السنن الإلهِيّة. وبعبارةٍ موجَزةٍ: قانون الثواب والعقاب هو الذي لا يتغيّر بحَسَب منطق القرآن، وأمّا قانون الخلقة ونظام التكوين فلا دليل في القرآن على أنّه لا يتغيَّر. 


3- المعجزة فعل الله:

وتعود جذورها إلى علماء الأشاعرة، ويؤمن بها أيضاً بعض فضلائنا وأجلاّئنا9.

ومفاد هذه النظريّة أنّ المعجزة آية من قِبَل الله تظهر على يد النبيّ صاحب المعجزة. فما يقوم به النبيّ ليس فعله، بل هو فعل الله، وهو لا يختلف عن كلّ ما في الوجود، إذ هو من فعل الله أيضاً، وعليه فكلّ ما في الوجود هو معجزةٌ وآيةٌ لله، بيد أنّ ما يأتي به النبيّ هو لإثبات صدقه، وما لا يأتي به النبيّ هو للإشارة إلى قدرة الخالِق وحكمته.

وبما أنَّ المعجزة من فعل الله فلا يصحّ لنا أن نتساءل: هل هذا الأمر محالٌ أم غيرُ محال؟ لأنّ كون الأمر محالاً أو غيرَ محالٍ مرتبطٌ بمخالفته للقوانين التي وضعها الله تعالى، وهذا القانون اكتسب صبغته القانونِيّة المُلزِمة بمشيئته وإرادته تعالى، ونحن محكومون لقانون الله، وعليه فالأمر مخالِفٌ لقانون العالم بالنسبة لنا نحن البشر، أمّا بالنسبة لله فلا شيء عنده يُخالِف القانون، إذ بيده
________________________________________
8- وهو الأستاذ شريعتي.
9- أمثال الأستاذ محمّد تقي شريعتي، حيث تناول هذه النظريّة باختصارٍ في مقدِّمة كتابه "التفسير الجديد"، وبالتفصيل في المجلّد الثاني من كتابه "محمّد خاتم الأنبياء" في مقالةٍ تحت عنوان "الوحي والنبوّة"، وأصرّ في كتابه الثاني إصراراً كبيراً على هذه الفكرة، مؤكِّداً أنَّ الأساس في المعجزة هو هذه النظرِيّة، لا غيرُها.
 
 
254
 

223

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

  تغيير القانون متى شاء، وكيف شاء.


ومن هنا ذهب أصحاب هذه النظريّة إلى أنّه لا ينبغي البحث في المعجزة، ولا يصحّ الحديث عن سرّ المعجزة، إذ ليس هناك سرٌّ في المعجزة أصلاً، بل هي إرادة الله. 

فإنْ قيل: وماذا نفعل بالعلم، والعلوم تشير إلى وجود سنّةٍ في العالم تفيد أنّ كلّ حادثةٍ تقع عقب حادثةٍ أخرى بحَسَب نظامٍ معيَّنٍ؟

كان الجوابِ: إن العلوم لا تشير إلى أكثر من توالي القضايا، وبعبارةٍ أخرى هي تشير إلى وجود القوانين بالكيفِيّة التي هي عليها، ولا تكشف عن ضرورة هذه القوانين، وذلك بخِلاف القوانين العقلِيّة الرياضِيّة10، أو الفلسفِيّة11.

ومعجزاتُ الأنبياء هي على خِلاف القوانين الطبيعيّة، التي كشف الإنسان عن وجودها، والتي قد لا تكون ضروريّةً، وليست بخِلاف القوانين العقلِيّة الضرورِيّة.

وبعبارةٍ أخرى: القوانين الرياضيّة، أو المنطقيّة، أو الفلسفيّة، تختلف عن القوانين العلميّة والطبيعيّة في أنّ الأولى قوانين يكشف الذهن عن ضرورتها وحتميّتها، بينما لا يكشف ذهننا عن ضرورة وحتميّة القوانين العلميّة والطبيعيّة.

وعليه، فإذا آمنّا بوجود الله القادر، المتعال، الفعّال لما يشاء، فحينها نقول: سيرافق مدّعي النبوّة والوحي فعلٌ هو على خِلاف السنّة المألوفة في العالم، وقد فعل الله هذا خِلافاً للسنّة المألوفة لكي يكون هذا الفعل علامةً، فهو سبحانه
________________________________________
10- ومثاله: الشيئان المساويان لشيءٍ ثالثٍ متساويان، هذا قانونٌ رياضِيٌّ يفترضه الذهن، ويدرك ضرورته.
11- ومثاله: الكلّ أكبر من الجزء، هذا قانونٌ عقلِيٌّ فلسفِيٌّ يُدرك العقل ضرورته.
 
 
255
 

224

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 وتعالى يقوم فجأةً بتغيير تلك السنّة وذلك القانون، ويخرجه عن نطاقه المألوف، ليرينا علامةً على أنّ مدّعي النبوّة مبعوثٌ من عنده.


ولو قلنا بأنّ من المحال وقوع ما يخالف قانوناً معيَّناً فمعناه أنّ الله مجبَرٌ، وبالتالي نصير إلى القول بغلّ يد الله، وهو منطق اليهود، لا منطق الإسلام والمسلمين.

إذاً، القوانين الطبيعيّة قوانين موضوعةٌ بشكلٍ كاملٍ، ونحن مجبَرون على اتّباعها، وأمّا الله تعالى فهو الذي وضعها، وهو الذي ينقضها.

وعليه فلا معنى للسؤال: كيف تظهر المعجزة؟ بل هي مشيئة الله.

الإيراد على النظريّة الثالثة:

إنّ القول بأنّ القوانين الطبيعيّة هي قوانين موضوعة أمرٌ غيرُ صحيحٍ، وذلك أنّنا نسأل: لماذا أوجد الله هذا الوضع الطبيعِيّ؟

وسيُجيب أصحاب هذه النظريّة بأنّ المصلحة تستوجب ذلك، وإلاّ للزم الهرج والمرج، ولاختلّ كلّ شيءٍ، ومتى ما استوجبت المصلحة خِلاف ذلك في موضعٍ إستثنائيٍّ فإنّ الوضع يتغيّر مباشرةً.

ولكن نقول: إنّ القبول بهذا المنطق سيُفقِد هذه المصلحةَ ذاتَها مفهومَها، وكذلك ستفقد مسألة عدم لزوم الهرج والمرج مفهومها، وذلك لأنّ معنى وجود مصلحةٍ وراء فعلٍ ما هو أنّ هناك علاقةً ورابطةً ذاتيّةً بين الفعل والنتيجة المؤدّي إليها، وإلا فلا معنى للمصلحة في العالم، بل سيصير بالإمكان جعل كلّ نتيجةٍ مصلحةً ما دام الأمر تعاقدِيّاً، وهكذا لن يلزم الهرج والمرج ما دام الله يوجد أيَّ نتيجةٍ يبتغيها من أيِّ وسيلةٍ شاء.
 
 
256
 

225

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 إشكالٌ وجوابٌ:


ويقول أصحابُ هذه النظريّة: إنّ الإذعان بأنّ لهذا العالم قانوناً قطعِيّاً يعني التسليم بمحدوديّة قدرة الله وإرادته.

ويُجاب على ذلك نقضاً وحلاًّ.

أمّا النقض فهو: يسلّم أصحاب هذه النظريّة، وينبغي لهم التسليم، بأنّ من المحال على الله أن يذهب بالمطيع إلى جهنّم، وبالعاصي إلى الجنّة، فهل هذا تحديدٌ لقدرته ومشيئته؟!

وأمّا الحلّ فهو: إنّ قطعيّة القوانين لا تعني محدوديّة قدرة الله وإرادته أبداً. ولتقريب الفكرة نقول: الإنسان الذي أدرك الخطر والمفسدة الناجمَيْن عن الإحتراق بالنار لا يضع يده في النار أبداً، وكذلك الله تعالى المحيط بنتائج ومفاسد تغيُّر القوانين- بعد أن وضعها على أفضل حالٍ من النظم والتناسق- لا يغيّرها، بمحض إرادته وكمال قدرته.

هذا الكلامُ كُلُّه وفق مرتَكَزات أصحاب هذه النظرِيّة.

القانون الظاهري والقانون الواقعي

وأمّا مَنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العامّ، وقانون ضرورة العِلّة والمعلول- كالعلاّمة الطباطبائيّ مثلاً، الذي ذكر بأنّ القرآن قد آمن بقانون العلّيّة العامّ، وعليه فلكلّ شيءٍ في الطبيعة قانونٌ لا يتخلَّف عنه، ودليلُه قولُه تعالى: ﴿قد جعل الله لكُلّ شيءٍ قَدْراً﴾12، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين العِلّة التي نألفها عن طريق العادة، والعِلّة الواقعيّة، إذ قد لا تكون العلّة التي عدّها العلم البشريّ علّةً هي العلّة الواقعيّة،
________________________________________
12- الطلاق / 3.
 
 
257
 

226

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 بل هي غطاءٌ فوق العلّة الواقعيّة- فقد ذكروا أنّه ليست هناك معجزةٌ خارجةٌ عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ، لا القانون الذي يعرفه البشر، فالقانون الذي يعرفه الإنسان قد يكون هو نفسُه قانون الطبيعة، وقد لا يكون.


نعم التوسُّل بالقانون الواقعيّ، أي كشفه، والهيمنة عليه، والإستفادة منه، يكون بنوعٍ من القدرة الغيبِيّة ما وراء الطبيعة.

هيمنة قانون لا نقض قانون

وبعبارةٍ أخرى: ليست المعجزةُ نقضَ قانونٍ ما، بل المعجزةُ هي هيمنةُ قانونٍ على قانونٍ آخر، مع كون كِليهما طبيعيّاً، إلاّ أنّ المهيمِن هو القانون الواقعِيّ، والمهيمَن عليه هو القانون المألوف. 

ولهذا نظيرٌ في القوانين الإجتماعِيّة، والإعتبارِيّة، وحتّى الطبيعِيّة، فمثلاً الدواء في القوانين الطبّيّة العاديّة لا بدّ وأن يترك تأثيراً صحّيّاً على البدن، ولكنْ إذا ما إعترى الإنسان حالةُ يأسٍ روحِيٍّ فإنّها ستفضي إلى بطء حالة الجسد، وبالتالي ستمنع الدواء من التأثير، وبهذا يكون قانون تأثير الحالة الروحيّة مهيمِناً على قانون تأثير الدواء، مع أنّ كِلَيْهما طبيعيٌّ، إلاّ أنّ قانون تأثير الدواء هو المألوف والشائع والمعتاد. 

4- سرّ المعجزة

وهذه هي النظرية الرابعة في تفسير المعجزة، ويسعى أصحابُها13 بعكس أصحاب نظريّة التأويل للبحث عن سرّ المعجزات، في حين لا يؤمِن أولئك بوقوع المعجزة أساساً، فلا يسعَوْن وراءَ الكشف عن سرّها.
________________________________________
13- وهم حكماء الإسلام، مثل ابن سينا.
 
 
258
 

227

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 وهم يختلفون مع أصحاب نظريّة الأشاعرة، فإنّ أولئك لا يؤمنون بوجود سرٍّ للمعجزة أساساً.


وملخَّصُ هذه النظريّة أنّ هناك سنناً واقعيّةً غيرَ قابلةٍ للتغيير، وأنّ للمعجزة سرّاً، فالمعجزة أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، خارجٌ عن حدود الطاقة البشرِيّة، ولكنّ هذا لا يتنافى مع كون القوانين التي تحكم في العالم هي سلسلةٌ من القوانين القطعيّة والضروريّة. فالسرّ الكامِن وراء المعجزة لا يتعارض مع جزمِيّة القوانين الطبيعِيّة.

والذي تريد أن تثبته هذه النظرِيّة أنّ المعجزة أمرٌ ما فوق بشريّ وبشريّ في آنٍ معاً، وذلك أنّ ما حصل عليه الأنبياء عليهم السلام من قدرات ليس يوجد عند الآخرين، ولكنّ هذه القدرات هي من سنخ القدرة الموجودة عند كلّ الناس، إلاّ أنّها عند الناس بدرجةٍ ضعيفةٍ جدّاً، وعند الأنبياء عليهم السلام بدرجةٍ عاليةٍ.

خلاصة الدرس
 
المعجزة فعلٌ وأثرٌ يأتي به النبيّ ليكون علامةً على وجود قدرةٍ ما وراء بشريّة في إيجاده، تفوق حدود الطاقة الإنسانيّة بشكلٍ عامٍّ.

وهناك أربعُ نظريّاتٍ حول المعجزة:

النظريّة الأولى: نظريّة المنكرين للمعجزة أساساً، والمعجزة عندهم إمّا كذب محضٌ، أو شيءٌ من قبيل الممارسات السحريّة.
النظريّة الثانية: نظريّة التأويل، وقد قَبِل أصحابها المعجزة ولكنْ فسَّروها بشكلٍ طبيعِيٍّ وعاديٍّ. 
النظريّة الثالثة: إن المعجزة آية من قِبَل الله تظهر على يد النبيّ صاحب
 
 
259
 

228

المعجزة والنظريـّات التعليليـّة

 المعجزة، فما يقوم به النبيّ ليس فعله، بل هو فعل الله، الذي بيده تغيير قانون العالم متى شاء، وكيف شاء.


هذا الكلامُ كُلُّه وفق مرتَكَزات أصحاب هذه النظرِيّة.

وأمّا مَنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العامّ، وقانون ضرورة العِلّة والمعلول- كالعلاّمة الطباطبائيّ- فقد ذكروا أنّه ليست هناك معجزةٌ خارجةٌ عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ، إذ ليست المعجزةُ نقضَ قانونٍ ما، بل المعجزةُ هي هيمنةُ قانونٍ على قانونٍ آخر، مع كون كِليهما طبيعيّاً، إلاّ أنّ المهيمِن هو القانون الواقعِيّ، والمهيمَن عليه هو القانون المألوف.

النظرِيّة الرابعة: المعجزة أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، خارجٌ عن حدود الطاقة البشرِيّة، دون تنافٍ مع كون القوانين التي تحكم في العالم هي سلسلةٌ من القوانين القطعيّة والضروريّة، بل تكون المعجزة من قبيل حكومة قانونٍ على قانونٍ.

 
أسئلة الدرس
 
1- ما هي المعجزة؟
2- هل يمكن أن توجد المعجزة؟
3- هل يتوافق العلم والمعجزة أم بينهما تنافرٌ وتضادّ؟
4- ما هي النظريّات التعليليّة في تفسير المعجزة؟
5- ما هي أبرز الإشكالات المثارة حول المعجزة؟ 
 
 
260
 

229

المعجزة الخاصّة

 أهداف الدرس


1- إيضاح الفارق بين معجزة القرآن ومعاجز الأنبياء الآخرين.
2- القدرة على شرح الفصاحة والبلاغة وإعجاز القرآن من خلالهما.
3- إعطاء بعض الأمثلة حول الإعجاز العلمي.
4- القدرة على شرح الإعجاز اللفظي.
5- فهم الإعجاز المنطقي في القرآن.
6- القدرة على تعداد مناشئ الخطأ الذهني بحسب القرآن الكريم.
 
 
261
 

230

المعجزة الخاصّة

 إعجاز القرآن الكريم


تحدَّثنا في ما سبق عن المعجزة بشكلٍ عامّ، ونتحدَّث في هذا البحث عن المعجزة بشكلٍ خاصٍّ، أي عن معجزة نبِيٍّ من الأنبياء عليهم السلام بعينِه، وسنجعل الكلام حول معجزة النبِيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الخالِدة، ألا وهي القرآن الكريم، الذي تحدّى بنفسه، ومنذ أوّل نزوله، البشر جميعاً أن يأتوا بمثله، فقال: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾1.

ولم يكتفِ بذلك، بل تحدّاهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله، بل بسورةٍ مثله، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾2، وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾3
________________________________________
1- الإسراء / 88.
2- هود / 13.
3- يونس / 38.
 
 
263
 

231

المعجزة الخاصّة

 ميزة القرآن


ويتميَّز القرآن عن غيره من معجزات الأنبياء بأنَّه كلامٌ، وطبيعة الكلام تختلف عن طبيعة غيرِه بأمرَيْن: 

أوّلاً: أنَّه يدلُّ على المتكلِّم أكثر من أيِّ فعلٍ آخر.
ثانياً: أنَّه قابِلٌ للبقاء دون غيرِه.

ومن هنا نرى أنَّ معجزات الأنبياء كانت وقائع حدثت في زمنٍ ما، وشاهدها عددٌ محدودٌ من الناس، وأمّا الآخرون فينبغي لهم الإطّلاع عليها بالنقل. 

في حين أنَّ القرآن الكريم، الذي هو عبارة عن كلام الله تعالى، بقي خالِداً، تتناقله الأجيال في ما بينها، كمعجزةٍ حاضرةٍ لكُلِّ الناس، وفي كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.

بعض جهات إعجاز القرآن

1- الفصاحة والبلاغة

الفصاحة من مقولة الجمال، وهو يرتبط بالقلب والمشاعر، لا بالعقل والفكر.

والقرآن في ما يرتبط بإعجازه من جهة الجمال هو نصٌّ جذّابٌ، ويتعاطى مع الإحساس المعنويّ للإنسان، أي مع تلك الأحاسيس التي تحرّك الإنسان، وتدفعه صوب العالم العلوِيّ.

القرآن والتعبير الشعرِي

لم يعتمد القرآن في تعابيره على ما شاع عند الفصحاء والبلغاء من أنَّ
 
 
264
 

232

المعجزة الخاصّة

 الجمال قد يكون في الكذب، بحيث ترى الشعراء يتفنّنون في تضمين أشعارهم بعض الصور الفاقعة الكذب، وذلك كنوعٍ من إضفاء مسحة من الجمال على قصائدهم، وقد قيل في الشعر: أعذبه أكذبه.


ولكنَّ القرآن الكريم رفض هذا المنطق، ولم يستخدمه بتاتاً، فهو من هذه الناحية يختلف مع الشعر تماماً، وإنْ كان يتفق معه من نواحٍ أخرى، كقابليّته للنغم، وستأتي الإشارة لهذا في ما بعد إنْ شاء الله تعالى. 

القرآن والتشبيهات 

لم يستخدم القرآن التشبيه كثيراً، بل التشبيهُ فيه قليلٌ جدّاً. 

ولعلّ السرّ في ذلك أنَّ القرآن كتابُ هدايةٍ، ومن هنا لم يكن تركيزه على الجمال، بل ذكر المسائل التي يذعن لها عقلُ الإنسان بعيداً عن الخيال.

ومع ذلك فهو جميلٌ وإستثنائيٌّ، حيث كانت كلماتُه وتعابيرُه وتصويراتُه فائقة الجمال.

ومن هنا نخلص إلى القول بأنَّ القرآن معجزةٌ، بمحتوياته، وبلفظه، وجماله وشكله معاً4.
________________________________________
4- ولا بُدَّ هُنا من الإشارة إلى أنَّ القرآن الكريم لا يضاهيه في فصاحته وبلاغته وجاذبيّته أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام رسول الله، وحتّى نهج البلاغة للإمام علِيّ عليه السلام ، الذي يُعتَبَر في مرتبة عالية جدّاً من الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك فإنَّك لو كنت تقرأ إحدى خطبه، ثمّ اعترضتك فيها آيةٌ من القرآن، لشعرتَ بسعة الفرق بين كلام أمير المؤمنين عليه السلام وكلام القرآن، فلاحظ الخطبة رقم 225 من نهج البلاغة، وهي في التنفير من الدنيا، حيث يقول عليه السلام : دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا. ثمّ يذكر ما فعلته هذه الدنيا بمَنْ مضى من الناس، ولا سيما الأغنياء والملوك. ثمّ يقول: وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَاروا إِلَيْهِ، وَارْتَهَنَكُمْ ذلِكَ الْمَضْجَعُ، وَضَمَّكُمْ ذلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الأُمُورُ، وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ؟! ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يفْتَرُون﴾. فلاحظ كم أنَّ التعبير عن الله في الآية بـ "مولاهم الحقّ" هو أمرٌ مدهشٌ يعجز عنه الوصف، فالإنسان يرجع إلى مولاه الحقيقِيّ، لا إلى ما يعبد في هذه الدنيا، ويتّخذه مولىً يطيعه. فهذه الصياغة التعبيرِيّة لا يمكن أن تكون من صياغة وإنشاء رجلٍ أمِّيٍّ لا اطِّلاع له، كان ينبغي أن يغرق ـ وفق المقاسات المألوفة ـ في الأوهام والخرافات.
 
 
265
 

233

المعجزة الخاصّة

 وبعبارةٍ أخرى: لقد كان القرآن الكريم الوسيلة الوحيدة التي اتَّخذها النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الناس إلى دعوته، ومواجهة المناوئين، وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداء الرسالة آنذاك، إلاّ أنَّهم عزوه إلى السحر، وإلى أنَّ فيه طلسماً هو الذي يضفي عليه قوّة الجذب.


2- الإعجاز العلميّ والفكريّ للقرآن

وهو يرتبط بمحتويات القرآن، ولا علاقة له بلفظه وظاهره.

ونحن لو أخذنا بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن، كالتوحيد مثلاً، فسنرى أنَّ مقاربة القرآن لها كانت بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته، حتّى ما كان سائداً عند اليونان والرومان. 

وهذا خيرُ دليلٍ على إعجازه، ولا سيّما أنَّه صدر عن رجلٍ عربيٍّ أُمِّيٍّ.

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه، حتّى إنَّه يُلحظ أنَّ ما جاء في القرآن حول هذه المواضيع أرقى وأسمى ممّا جاء في الروايات والفقه الإسلامِيّ حولها، وذلك لتواتر القرآن وبقائه محفوظاً من التحريف، بينما تدخلت الأيدي البشرِيَّة في الروايات والفقه.

فكيف تكون مقاربةُ هذه الموضوعات بهذا الرقيّ وهي صادِرةٌ من رجلٍ أُمِّيٍّ؟! 

هذا ولا شكَّ يثبت لنا أنَّ القرآن من عند الله وحده لا شريك له.

وقد ذكر القرآن الكريم مسائل عديدة في مجال الطبيعة، كالذي ذكره حول الريح، والمطر، والأرض، والسماء، والحيوانات. ولا يزال العلم يصل بين فترةٍ وأخرى إلى حقائق قد أثبتها القرآن منذ 1400 سنة، ولكنَّها لم تكن مفهومةً
 
 
266
 

234

المعجزة الخاصّة

  آنذاك، وكانت تُعتَبَر من الموارِد المتشابِهات.


وقابلِيّةُ الكشف هذه في القرآن الكريم قد وردت في كلام النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، الذين ذكروا أنَّ القرآن معجِزٌ بلفظه ومعناه، وأنَّه جديدٌ على الدوام لا يبلى، وأنَّه لا يختصُّ بزمان دون زمان5.

3- الإعجاز اللفظِيّ 

صيغة البيان القرآني

يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام عليّ عليه السلام. فمع ما عليه نهج البلاغة من بلاغةٍ وفصاحةٍ إلاّ أنَّه لو ضُمِّنت بعض خطبه خطباً أخرى لالتبس الأمر على القارئ، ولم يميِّز كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن كلام غيره، بينما لا يحصل هذا الأمر في القرآن أبداً، فهو عصِيٌّ على التقليد، ممتنِعٌ على المعارَضة، رغم أنَّ كثيرين حاولوا معارضته، لكنَّهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حتّى قيل فيهم بالصّرْفة، بمعنى أنَّ الله عاقبهم لمعارضتهم القرآن، بأن جعل كلامهم منحطّاً حتّى عن مستوى الكلام العاديّ.

قابليّة القرآن للنغم 

من الواضح أنَّه ليس كلّ النصوص الأدبيّة قابلةً للّحن والنغم، فقد تسالموا على قابليّة الشعر وحده لذلك. ومعنى القابلِيّة للّحن هو أن يكون أداؤه بنغمٍ ولحنٍ موسيقِيٍّ أفضل في بيانه وتأثيره من أن يؤدّى بغير نغمٍ ولحنٍ.
________________________________________
5- راجع الخطبة 18 من نهج البلاغة، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام : وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ،....
 
 
267
 

235

المعجزة الخاصّة

 ويمتاز القرآن الكريم عن غيره من النصوص النثريّة بقابليّته للنغم، فمع أنَّه ليس شعراً، إذ لا وزن فيه، ولا قافية، ولا يعتمد الخيال والتشبيهات الشعرِيّة، نراه يقبل اللحن والنغم، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما، ومن هنا كانت الوصيّة منهم (بتلاوة القرآن بالصوت الحَسَن)6، وفي بعض الأخبار: "تغنَّوْا بالقرآن" وبطبيعة الحال ليس المراد التغنّي المحرّم وهو المثير للشهوة بحيث يخرج العقل عن طبيعته بل المحرّك للأحاسيس الفطرية والمشاعر التي تفتح قلب الإنسان على الله تعالى.


وقد أولى النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنايةً خاصّةً لتلاوة القرآن بالصوت الحسن، فرغم أنَّ القرآن قد نزل عليه هو، فقد كان يستدعي ذوي الصوت الحسن من أصحابه، ويطلب منهم أن يقرأوا القرآن في محضره، ويتأثَّر بقراءتهم، وما ذلك إلاّ لإلتذاذه صلى الله عليه وآله وسلم بسماع تلاوة القرآن، الأمر الذي يُعَدُّ مظهراً من مظاهر إعجازه اللفظِيّ.

ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى بإختلاف موضوعاتها.

ففي الوقت الذي نرى فيه الآيات الداعية إلى التدبُّر، والتأمُّل، والتفكير، والتذكُّر، والموعظة، طويلةً هادئةً، كقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾7، إذ لا بدَّ وأن تُلقَّن هذه الكلمات للقلب بهدوءٍ وتأنٍّ، نرى آيات العذاب، والإنذار، والتخويف، قصيرةً شديدةً، كقوله تعالى: ﴿وَالطُّور وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ
________________________________________
6- راجع: وسائل الشيعة 6: 210 ـ 211 ـ 212، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، وهو بعنوان باب تحريم الغناء في القرآن واستحباب تحسين الصوت به بما دون الغناء والتوسُّط في رفع الصوت، الأحاديث 2 ـ 3 ـ 4 ـ 5 ـ 6، وفي الحديث الخامس منها:" ورجِّعْ بالقرآن صوتك، فإنَّ الله تعالى يحبّ الصوت الحسن يرجَّع فيه ترجيعاً".
7- المائدة / 16.
 
 
268
 

236

المعجزة الخاصّة

  مَنْشُور وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾8.


والهدف من هذا السجع القصير، والضغط الشديد، التأثير في الروح بشكلٍ متَّصِلٍ، لا انفصال له، بحيث تنقلب بعد هذا الكلام من حالٍ إلى حالٍ.

ومن الطبيعيّ أنَّ هذا الكلام إنَّما يصدق في القرآن الكريم باللغة العربيّة، دون ما لو تُرجِم إلى لغاتٍ أخرى، ومن هنا ينبغي التركيز في ربط الناس، ولا سيّما الأجانب منهم، بالقرآن على أن يقرأوه باللغة العربيّة، فيتعلَّمونها ولو لأجل أن يقرأوا القرآن بها، وأمّا أن نقلِّل من أهمّيّة ذلك فهذا ما سيجعل اطّلاعهم على القرآن وإعجازه ناقصاً ومشوَّهاً.

4- الإعجاز المنطقيّ في القرآن 

إنَّ بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن الكريم لم تكن مطروقةً من قبلُ في تاريخ الفكر الإنسانيّ، وهذه علامةٌ على أنَّ هذا الكتاب قد أطلّ على البشر من أفقٍ أعلى، ولعلّ هذا ما تشير إليه الآية: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾9، بناءً على أنَّ الهاء في قوله: "من مثله" راجعةٌ للنبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ صدور هذا القرآن بهذا الجمال، وهذه الموضوعات الجديدة، من رجلٍ أُمِّيٍّ، يفتقر إلى القراءة والكتابة، وقد عاش في مجتمعٍ وبيئةٍ لا يعرفان شيئاً عن هذه الموضوعات، لهو شيءٌ مدهشٌ للغاية، ودليلٌ على أنَّ هذه الكلمات قد صدرت من أفقٍ أعلى من أفق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هذه الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن المنطق.
________________________________________
8- الطور / 1 إلى 8.
9- البقرة / 23.
 
 
269
 

237

المعجزة الخاصّة

 وهنا نذكر مقدّمة، وهي: 


عرف العالم نوعَيْن من المنطق: 

أحدهما: المنطق الأرسطيّ: ويُسمّى أيضاً منطق الصورة، لسعيه وراء شكل تصميم الصورة، فهو يركِّز على كيفيّة ترتيب المقدّمات ترتيباً صحيحاً لنصل إلى النتيجة الصحيحة، ولكنَّه لم يُعِرْ أيَّ أهمِّيَّةٍ للتأكُّد من صحّة هذه المقدّمات، الأمر الذي أوصل الكثير من أصحاب هذا المنطق إلى أفكار خاطئة.

وثانيهما: منطق المادّة، ولا نعني به المنطق الماديّ، وفرقٌ كبيرٌ بينهما.

وقد سعى أصحاب هذا المنطق وراء شرط سلامة الموادّ الفكرِيّة وصحّتها.

وبعبارةٍ أخرى: صبّوا إهتمامهم على كون الفكرة- المقدّمة صحيحةً للوصول إلى نتائج صحيحةٍ، وإستخفّوا بالمنطق الأرسطيّ، معتبرين أنَّ كُلَّ إنسانٍ بفطرته يدرك الكيفيّة الصحيحة لترتيب المقدِّمات، فالمهمّ إذاً هو صحّة هذه المقدّمات، وإلاّ فستكون النتيجة خاطئةً.

ومن أركان هذا المنطق: "بيكون"، و"ديكارت"، حيث حاولا إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة. 

فذهب "بيكون" إلى أنَّ من أسباب خطأ المادّة الفكريّة وجود الأصنام الفِرقِيّة (الطائفيّة)، والشخصِيّة، والإجتماعِيّة، والإقتصاديّة، وغيرها من الأصنام الشكلِيَّة، مثالُ ذلك: إنَّ للأهواء النفسيّة تأثيراً في الفكر والعقيدة، فبعضُ ما تقوله أحياناً هو تعبير عن الهوى النفسيّ، وليس عن لغة الفكر والعقل.

وذهب "ديكارت" إلى أنَّ خطأ العلماء والفلاسفة يرجع في الأكثر إلى تعجُّلهم في الفصل في الأمور، وبعبارةٍ أخرى: إلى إعتمادهم على ما يحصل لهم من ظنٍّ في فكرةٍ ما، وقبل أن يصل الأمر إلى حدّ القطع واليقين.
 
 
270
 

238

المعجزة الخاصّة

 مناشئ الخطأ الذهني


ونأتي الآن لذكر مناشئ الخطأ الذهنِيّ بحَسَب القرآن الكريم.

1- إتباع الظن: فيعتبر القرآن الكريم أنَّ من سبل الخطأ في الفكر اتّباع الظنّ. 

ومن هنا كان تشديده على النهي عن إتباع الظنّ، فقال: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾10.

وإستنكر قول الذين قالوا: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾، فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾11 .

وقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾12.

ونسأل: أليس هذا هو ما وصل إليه "ديكارت" بعد مئاتٍ من السنين، فكيف عرفه نبيّ الرحمة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت؟! 

2- تقليد الآخرين: وكذلك يركِّز القرآن على تقليد الماضين كسبيلٍ من سُبُل الخطأ في الفكر، وهو عينُه ما سمّاه "بيكون" الصنم الفِرقيّ والإجتماعيّ، وقد حذَّر جميع الأنبياء عليهم السلام أممَهم من هذه السبيل المهلِكة، وهي: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾13.

3- سرعة الحكم: وممّا عدَّه القرآن الكريم من سبل الخطأ في الفكر السرعة في القضاء، فنراه يُحذِّر الإنسان من الوقوع في هذه الآفة الخطيرة، عبر
________________________________________
10- الإسراء / 36.
11- الجاثية / 24.
12- الأنعام / 116.
13- الزخرف / 23.
 
 
271
 

239

المعجزة الخاصّة

تذكيره إيّاه بأنَّه فُطِر على حبّ العَجَلة، فيقول: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾14، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾15.


ويُؤكِّد له في أكثر من آيةٍ أنَّ ما أوتِيَه من العلم ليس إلاّ القليل، الذي لا يخوِّله معرفة الحقّ بشكلٍ سريعٍ، فيقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾16، ويقول: ﴿...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾17.


وهذا هو عين ما ذهب إليه "ديكارت".


4- هوى النفس: ومن سُبُل الخطأ في الفكر، بحَسَب القرآن أيضاً، هوى النفس، حيث قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ﴾18


وهذا هو بعينه ما يُعبِّر عنه "بيكون" بالصنم الشخصيّ.


5- إتباع الكبراء: بحَسَب القرآن أيضاً اتّباع الكُبَراء، أصحاب المدارس والمذاهب، فقد بيَّن تعالى أنَّ اتِّباع الكُبَراء والسادات هو من المُهلكات، فقال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾19


وهذا هو ما عبَّر عنه "بيكون" بالأصنام الشكلِيَّة.


أفَلا يُعَدُّ هذا كلّه إعجازاً منطقِيّاً للقرآن، وهو يصدر من رجلٍ أُمِّيٍّ؟! 

________________________________________

14- الأنبياء / 37.

15- الإسراء / 11.

16- الإسراء / 85.

17- الروم / 6 ـ 7.

18- النجم / 23.

19- الأحزاب / 66 ـ 67.

 

272

 

240

المعجزة الخاصّة

 خلاصة الدرس

 
القرآن الكريم هو معجزة النبِيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الخالِدة.

ومن جهات إعجاز القرآن الكريم:

1- الفصاحة والبلاغة: غير أنَّ القرآن الكريم رفض المنطق السائد في الشعر، وهو "أعذبُه أكذبُه"، ولم يستخدمه بتاتاً، كما أنَّه لم يستخدم التشبيه كثيراً. ومع ذلك فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، حيث كانت كلماتُه، وتعابيرُه، وتصويراتُه، فائقة الجمال.

وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداءُ الرسالة أنفسهم، وما ذلك إلاّ لفصاحته وبلاغته وجماله الساحر. 

2- الإعجاز العلميّ والفكريّ: فقد تطرَّق القرآن الكريم للتوحيد بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته.

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه.

3- الإعجاز اللفظِيّ: يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، ويمتاز بقابليّته للنغم واللحن، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما. ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى باختلاف موضوعاتها.

4- الإعجاز المنطقيّ: فقد ذكر القرآن الكريم بعض مناشئ الخطأ الذهنِيّ، أو سبل الخطأ في الفكر، ومنها: اتّباع الظنّ، تقليد الماضين، السرعة في
 
 
273
 

241

المعجزة الخاصّة

  القضاء، هوى النفس، واتّباع الكُبَراء.


وهذه الأمور هي بعينها التي ذكرها "بيكون" و"ديكارت"، حين حاولا إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.
 
أسئلة الدرس
 
1- ما هي معجزة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأساسيّة؟
2- كيف عرفنا بإعجاز القرآن الكريم؟
3- ما هي وجوه الإعجاز القرآنيّ؟
4- ما المقصود من الإعجاز المنطقي؟
5- لماذا كان مضمون القرآن الكريم إعجازياً؟
 
 
274
 

242

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

العصمة

الدليل العقليّ على الإمامة والعصمة

مبادئ عامّة في الإمامة

الإمامة في القرآن

 

الإمامة في السنـّة

 

275

 

243

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 أهداف الدرس


1- حفظ بعض الأحاديث حول ضرورة الإمامة.
2- فهم تعريف الإمامة لغة واصطلاحاً.
3- تعداد وظائف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
4- القدرة على شرح مراتب الإمامة.
5- القدرة على مناقشة طرق اختيار الإمام.
6- فهم نظرية مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت حول الإمامة والفارق بينهما.
 
 
277
 

244

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 أهميّة مسألة الإمامة


إنّ مسألة الإمامة- سواء اعتبرناها من الأصول أم من الفروع- لها أهميتها الخاصة عند كل من مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت عليهم السلام. وإننا لنجد حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تتفق عليه المدرستان1، وإن اختلفت فيه العبائر ولكنّ مضمونه واحدٌ، فترويه مدرسة أهل البيت عليهم السلام بصيغة: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً الجاهلية)2، وفي مصادر مدرسة الخلفاء بصيغة (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية)3، وفي صياغة أخرى (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)4 وثالثة (من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية)5.

والملاحظ في هذه الرواية هو اللغة الشديدة التي تعكس مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسألة الإمامة. والجميع متّفق على أن الحديث يبرز أهميّة الإمامة. نعم قد اختلفت التفاسير باختلاف النظر6 في الإمامة.
________________________________________
1- وهذا أمرٌ مهمٌ جداً؛ لأن ذلك يعطي الحديث قوّة في إثبات صدوره عن النبيP.
2- وسائل الشيعة، ج 16 ص 246، باب 33 من أبواب الأمر بالمعروف، ط مؤسسة آل البيت.
3- كنز العمال، ج 1 ص 103، مؤسسة الرسالة.
4- صحيح مسلم، ج6 ص 22، دار الفكر.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ج 13 ص 242، دار إحياء الكتب العربية.
6- وسوف تتضح هذه الفروقات من خلال فهم مراتب الإمامة في هذا البحث.3
 
 
279
 

245

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 الإمامة لغة


إن كلمة الإمام بمدلولها اللغوي لا تحمل أيّ مفهوم مقدّس، لأن الإمام في اللغة هو الشخص المتَّبَع والمقتدى به، سواء أكان قدوة الناس في طريق الخير أم في طريق الشر، وسواء أقاد الناس نحو الهدى أم باتجاه الضلال. ولذا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة الإمام على كلا النحوين، فقال تعالى في أئمة الهدى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾7 وفي شأن أئمة الضلال قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾8.

الإختلاف في مفهوم الإمامة9

وما يهمّنا هنا هو البحث عن مفهوم الإمامة اصطلاح، وهو الذي تختلف في تفسيره مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن الفرق الأخرى، فالخلاف القائم إنما هو في تحديد المصطلح لمفهوم الإمامة. لذا لا يصح أن نصوّر الإختلاف بين مدرسة أهل البيت عليهم السلام والمدارس الأخرى في خصوص شخص الإمام، لأن الإختلاف في مفهوم الإمامة وما يتضمنه هذا المفهوم، رغم وجود جهات إشتراك تتضمنها الإمامة، كالإيمان بأنها رئاسة المجتمع أو الرئاسة العامة. ولتوضيح هذا الإختلاف لا بدّ من تحديد وظائف النبوّة وخصوصيات النبي لننتقل منها إلى تعريف مفهوم الإمامة، لأن الإمام هو القائد الذي يحمل مسؤولية الدين بعد النبي، فهل له كل أو بعض ما كان للنبي من شؤون ووظائف؟
________________________________________
7- الأنبياء: 73.
8- القصص: 41.
 
 
280
 

246

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 شؤون ووظائف النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:


لقد كان للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بما حكاه القرآن وبما حكته السيرة شؤون ووظائف متعددة، فقد كان ينهض بأعباء متعددة في وقتٍ واحدٍ، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث وظائف:

أول، النبوّة: قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾10. وهنا يكون كلام النبيّ وحياً إلهي، ووظيفة النبيّ فيه التبليغ. 

ثاني، القضاء: قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾11. وهنا يمارس النبيّ عمليّة تطبيق للموازين الإسلامية في القضاء دون تدخّل إلهيّ، أي إنّ النبيّ عندما يقضي بين إثنين إنما يقضي بينهما بما لديهما من حجة واثبات للحقّ كالبيّنة ونحوها. 

ثالث، الرئاسة العامة: فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائد المسلمين ورئيسهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾12. وهنا تكون الأوامر النبوية غير الوحي الإلهي. وفي هذه الدائرة كان النبي يشاور أصحابه، فيسألهم عمّا يرونه ثم يأمرهم بما هو يراه. وهنا لا يكون ما يصدره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله مباشرة، بل تصدر هذه الأوامر طبق الصلاحية التي أعطاها الله للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كحاكمٍ وقائدٍ للأمة الإسلامية، لذلك تكون واجبة الطاعة.
________________________________________
9- سيأتي تعريف الإمامة في مبحث الإمامة عند العقل.
10- الحشر: 7.
11- النساء: 65.
12- النساء: 59.
 
 
281
 

247

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 وإذا شوهد في تاريخ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض أنواع التدخل الغيبّي، ولكن ذلك لا يشكّل قاعدةً عامةً وإنما هو استثناء.


مراتب الإمامة

بعد أن اتضحت وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ننقل الكلام إلى الإمامة لنشرح مراتبها بالنظر إلى كونها استمراراً لوظائف النبوّة، وبالتالي يكون للإمامة أيضاً مراتب ثلاث، وقع الإختلاف في بعضه، ومن خلال توضيحها يظهر محل النزاع بين الفرق الإسلامية.

الأولى: الرئاسة العامة:

فكما أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد والحاكم في المجتمع الإسلامي، كذلك تنتقل القيادة إلى من يأتي بعده صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المسألة محلّ اتفاق بين الفريقين (مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدرسة الخلفاء)، فالفريقان يتفقان على أصل الإمامة بهذه المرتبة، ولكن الإختلاف في شكل هذه المرتبة، وأنها بالتعيين والنص أو لا.

لو كان يقتصر مفهوم الإمامة عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام على هذه المرتبة، ولم يكن لديهم إيمان بالمراتب الأخرى للإمامة، لكانت الإمامة عندهم من فروع الدين لا من أصوله، إلا أنّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام تعتقد بأن للإمام مرتبتين أخريين، لذلك لا ترى هذه المدرسة أنّ علياً هو المتقدم أو الأفضل من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل ترى له مرتبتين لا يشاركه فيهما أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
282
 

248

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 الثانية: المرجعيّة الدينيّة:


إنّ من وظائف النبيّ التي تقدّم ذكرها وظيفة بيان الأحكام الإلهية (النبوّة). ولكنّ حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المحدودة بزمن معيّن، والظروف المحيطة به، قد منعت من أن يكون ما بلّغه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعامة المسلمين شاملاً لجميع أحكام الإسلام، ولذا كان الأسلوب الأمثل هو قيام النبيّ بتعليم شخصٍ وتلقينه هذه الأحكام، ليقوم بعد وفاته بإكمال وظيفة تبليغ الأحكام الإلهية.

وتعتقد مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنّ عليّاً عليه السلام كان هو ذلك الشخص الذي قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتعليمه أحكام الإسلام، وأصبح هو العالِم الإستثنائي المتقدِّم على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان علمه هو العلم المعصوم، أي أنه لا يشتبه في قولٍ ولا حكم. وهذا التعليم لم يكن بالطريقة المتعارفة، بل لذلك طريق غيبي إلهي. وهذه المعرفة انتقلت من الإمام عليه السلام إلى الأئمة من بعده. 

الثالثة: الإمامة بمعنى الولاية:

تشكّل هذه المرتبة الذروة في مفهوم الإمامة، وتشمل كل ما قبلها من مراتب وتزيد عليه، أي إنّ الاعتقاد بأنّ الإمام عليه السلام هو الإنسان الكامل وهو حجة العصر، هذا الإنسان لا بدّ من وجوده في كلّ عصر، ولولاه لساخت الأرض بأهله، ولهذا الإنسان مقاماتٌ ودرجاتٌ عالية. وقد اعتبرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنّ هذه المرتبة ثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمة عليهم السلام من بعده، وأنه لا بد في كلّ عصر من وليٍّ كاملٍ وله مقاماتٌ بعيدةٌ عن تصوّرنا. وأما سائر المسلمين- عدا الوهابية- فلا يعتقدون بثبوت هذه المرتبة سوى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وسنذكر بعض فروع هذه المرتبة في آخر البحث إن شاء الله تعالى.

هذه هي المراتب الثلاث للإمامة. وقد انقسم الشيعة في هذه المراتب إلى
 
 
283
 

249

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 ثلاثة أقوال، فبعضٌ يعتقد بأن الإمامة هي بمعنى القيادة والرئاسة العامة فقط أي المرتبة الأولى، وبعضٌ آخر يعتقد بأنها مرجعية دينية أيضاً أي بالمرتبة الثانية للإمامة، ولكنّ أكثر الشيعة يعتقدون بأنّها ولاية كاملة، أي المرتبة الثالثة التي تشمل كلّ مراتب الإمامة.


الطرح البسيط لمسألة الإمامة

إننا إذا اختزلنا الإمامة وقدّمناها بمرتبة الحكومة والرئاسة العامة، فسوف يتفرّع على ذلك أسئلة مختلفة منها:

- هل ينبغي أن يكون الشخص الذي يتولى الحكومة هو الأفضل من جميع الجهات واقعاً؟ أو أنه تكفي الأفضلية النسبية؟
- هل من الضروري أن يكون معصوماً؟
- هل ينبغي أن يكون هو المرجع في الفقه والأحكام، أم يكفي أن يرجع إلى الآخرين في المسائل التي يبتلى بها؟

نتائج الطرح البسيط:

إنّ بناء البحث في مسألة الإمامة بهذا النحو سوف يسير بالبحث بإتجاه آخر، وتترتب على ذلك نتائج، منها:

أولاً: إنّنا إن اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكومة والرئاسة العامة فقط، وتبنّينا نظرية النصّ، فهذا يعني أنه لا ضرورة لأن يكون تعيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام من قِبَلِ السماء، وعن طريق الوحي، بل يمكنه أن يقوم بتعيينه بما يراه هو وبما يؤدي إليه نظره، وكذلك الأئمة عليهم السلام من بعده، فيقوم كلّ إمام بتعيين من يليه، فلا ضرورة لأن يكون التعيين وحياً من السماء.
 
 
284
 

250

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 وبعبارة أخرى إننا لن نعود بحاجةٍ إلى النصب الإلهي، بل يكفينا النصب النبوي أو من قِبَل الولي. إذ، يكفي أن يبلّغ الوحيُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة تعيين خليفةٍ من بعده كي يقوم النبيّ بهذه المهمّة، دون أن ينصّ الوحي على شخصٍ معيّن. 


ثانياً: وسوف لن يكون الأمر مختصاً بالأئمة الإثني عشر عليهم السلام، بل سيعمّ كلّ عصرٍ ومصرٍ، لأنّ القاعدة العامة أو قل إن الرؤية الإسلامية العامة لن تختصّ بصورة كون الدولة الإسلامية صغيرة الحجم، بل حتى لو اتسعت الدولة الإسلامية فأصبحت تشمل ملايين المسلمين، سوف يقوم كلّ إمامٍ بتعيين من بعده بما يراه مناسباً.

ثالثاً: إنّ قضية تعيين عليٍّ عليه السلام من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسألة الخلافة والإمامة سوف تنزل إلى مستوى إداري خاص، يتمّ تعيينه كتعيين أيّ والٍ على مكة أو غيره، ويكون ذلك شأناً من شؤون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفته الحاكم بين المسلمين، ولا ترقى الإمامة إلى أي مستوى رفيع تقول به مدرسة أهل البيت عليهم السلام. 

رابعاً: إنّ مسألة الخلافة والإمامة إذا طرحت بهذا الشكل فسوف تكون نظرية مدرسة الخلفاء- التي ترى أنّ أمر تعيين الحاكم هو بيد الأمة أو بيد أهل الحلّ والعقد، وليس من حق الحاكم تعيين الذي يليه- أكثرَ جاذبيّةً من نظريّةِ النصّ عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لأنها سوف تعطي الأمة دوراً في شأن إداري يهمّها وهو انتخاب الإمام الحاكم الذي يسوس أمورها.

هذه هي الأسئلة والنتائج التي سوف تتفرّع وتترتب على الطرح البسيط للمسألة وحصرها بالحكومة13، وبالتالي جعلها أمراً إدارياً هامشياً ضيق، كما وقع في هذا الخطأ بعض القدماء من المتكلمين.
________________________________________
13- وواضح أن الحكومة من الفروع لا من أصول الدين، ولا تعدو في وجهة نظر مدرسة أهل البيت أن تكون شأناً من شؤون الإمامة.
 
 
285
 

251

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

 الطرح الصحيح لمسألة الإمامة


هل تقع مهمّة بيان الأحكام الإلهية وتعاليم السماء بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على شخصٍ واحد، بنحو يكون ما يجيب به هو الصواب والحقيقة، دون أيّ احتمال للخطأ والهوى، ويكون مثل هذا الشخص مرجعاً لأحكام الدين كما كان النبيّ مرجعاً لذلك؟ أو أن الأمر ليس كذلك وليس لدينا مثل هذا الشخص؟ ونلاحظ أن السؤال قد انصبّ على المرتبة الثانية للإمامة، وهي المرجعية الدينية، فهل نقول بها للإمام من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنّ الوصاية كانت إدارية صرفة؟

فهذه المرتبة هي محلّ النزاع، وبها تختلف مدرسة الخلفاء عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فلا تعتقد بمثل هذا المنصب لأيّ شخصٍ على الإطلاق، ولا تراها لا لعلي عليه السلام ولا لغيره.

فالخلاف ليس في أيّ شخصٍ له مثل هذا الأمر، وإنما في أصل وجود مثل هذا الشخص. والذي يشهد لهذا الأمر نقلهم للأخطاء عن مثل أبي بكرٍ وعمر، والعبائر الصادرة عن كلٍّ منهما14، ممّا يدل بوضوح على عدم عصمتهم، وبالتالي على عدم كونهما مرجعية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 

الحاجة إلى المرجعيّة الدينيّة

لقد نزل الإسلامُ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كاملاً تاماً. وقد تلقى صلى الله عليه وآله وسلم جميع ما يحتاج إليه الناس من تعاليم دينهم وأحكام شرعهم. ولكن السؤال هو أنّ ما بلّغه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين هل هو كلّ ما نزل إليه، أو أن قسماً كبيراً منه لم يبيّنه
________________________________________
14- كقول أبي بكر: (أيّها الناس، إنّي ولّيتكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أخطأتُ فقوّموني، إنّ لي شيطانا يعتريني...) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج 1 ص 2. وقول عمر بعد أن أظهرت امرأةٌ خطأه في مسألة صداق النساء: (كلّ الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال، ألا تعجبون من إمام أخطأ ومن امرأة أصابت، فاضلتْ إمامكم ففضلته؟) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 3 ص 113.
 
 
286
 

 


252

الإمامة مبادئ عامّة في الإمامة

  للناس، لأنه متوقف على حلول أوانه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلّغها لعلي عليه السلام ليقوم ببيانها للناس متى دعت الحاجة إلى ذلك؟ 


ولعلّ الجواب يظهر بعد ملاحظة النقاط التالية:

الأولى: ملاحظة ما يتضمنه القرآن الكريم من أحكام، حيث نجد أنّ ما ورد فيه ليس سوى أحكامٍ مختصرةٍ جد، مضافاً إلى كونها كليّات مثل فريضة الصلاة والحج اللذين لم يرد في القرآن تفاصيل إقامتهما وكيفية أدائهما.

الثانية: ملاحظة سنّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما ورد خلالها من أحكام، فإنّها مختصرةٌ مجملةٌ أيض، لا سيما بملاحظة الفترة التي عاشها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والمشكلات التي عاشها سواء في مكة، والتي استمرت ثلاثة عشر عاماً في ظلّ ضغطٍ وحصارٍ، أم في المدينة وفي ظلّ حروب ومعارك.

الثالثة: حتى إن غضضنا النظر عن ظروف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفرضنا أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان كالمعلّم الذي يذهب إلى المدرسة كلّ يوم لتعليم الناس، فإنّ هذا الوقت لن يكون كافياً لبيان جميع ما وصله من رسالة الإسلام، لا سيما بملاحظة أنّ الإسلام دين يبسط حاكميّته على جميع شؤون البشر.